الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الناشر: المحبين للطباعة والنشر

المطبعة: قلم

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 2007 م

ISBN (ردمك): 964-91029-3-0

 المكتبة الإسلامية

الحلقة الثالثة في اسلوبها الثاني

الجزء الأول

بقلم: باقر الايرواني

ص: 1

المجلد 1

اشارة

سرشناسه : ایروانی، باقر، 1328 -

عنوان قراردادی : دروس فی علم الاصول . برگزیده . شرح

عنوان و نام پديدآور : الحلقه الثالثه فی اسلوبهاالثانی/ بقلم باقر الایروانی.

مشخصات نشر : قم: محبین، 14ق. = 20م .= 13 -

مشخصات ظاهری : ج.

شابك : دوره 964-8991-29-4 : ؛ ج.4 964-91029-6-5 :

وضعیت فهرست نویسی : برون سپاری

يادداشت : كتاب حاضر شرح، برگزیده " دروس فی علم الاصول "، محمدباقر صدر می باشد.

يادداشت : فهرستنویسی بر اساس جلد چهارم، 2007م = 1386).

يادداشت : عربی.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : صدر،محمدباقر،1931-1979م . دروس فی علم الاصول -- نقد و تفسیر

موضوع : تعارض ادله

اصول فقه شیعه

ادله و شواهد (فقه)

شناسه افزوده : صدر،محمدباقر،1931-1979م .دروس فی علم الاصول برگزیده

رده بندی كنگره : BP159/8/ص 4د40214 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 1298423

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

ص: 2

المقدمة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى اللّه على محمّد وآله الطاهرين.

اذا كان قسم من الكتب بحاجة الى تعريف فحلقات السيد الشهيد قدس سره غنية عن ذاك ، والقاء نظرة سريعة خصوصا على القسم الثالث منها شاهد صدق على المدعى ، فالى جانب المنهجة الفنيّة التي يتذوق حلاوتها اصحاب الفن والخبرة تعيش عذوبة الالفاظ فلا هي بالفاظ الصحف والمجلات التي تضجر قارئها لا طنابها الممل والفاظها الفارغة من المعاني ولا هي بعبائر الكفاية والغازها بل جاءت امرا بين أمرين تحمل الالفاظ العذبة بقدر ما تشبع به حاجة المعنى.

والى جانب المنهجة وعذوبة الالفاظ لا تعدم وجودها الافكار الجديدة التي هي احدث ما وصل اليه علم الاصول على يد الاعلام الثلاثة « النائيني والعراقي والاصفهاني ».

او ليس من الخسارة والتبذير في الوقت الاستمرار على قراءة افكار القوانين والبدايع والفصول التي اكل الدهر عليها وشرب ولا نفكر في الاطلاع على الاتجاهات الحديثة في علم الاصول التي يشعر الطالب بالطفرة حينما يواجهها في مرحلة الخارج ، فبينما كان يعيش مع افكار الفصول والبدايع والكفاية اذا به فجأة يقفز الى افكار جديدة - افكار الاعلام الثلاثة ومن بعدهم فانها الافكار المطروحة على بساط البحث الخارج عادة - لم يمر بها سابقا اطلاقا ، بينما حالة التدرج الطبيعي واضحة لمن يقرأ الحلقات فانها مليئة بالافكار الجديدة التي

ص: 3

ستواجهه في المستقبل القريب.

واذا قيل : بان تلك الكتب مباركة تخرج عليها الفطاحل من علمائنا ولا تسمح نفوسنا بهجرها والتعويض عنها بالجديد فلما ذا لا نعود اذن الى دراسة كتاب العدة في الاصول للشيخ الطوسي وامثاله حيث تخرج عليها الفطاحل من علمائنا ، واذا قيل : بان الطالب بحاجة الى ألغاز الآخوند ليرتاض ذهنه بذلك ويتّسع افقه فلماذا اذن تناسي المعاني الاصولية؟ فهل هي في دقتها فقيرة لتحتاج الى الاستعانة بالالفاظ المعقّدة؟!!!

ونحن بهذا لا نريد التهجّم على الكفاية والرسائل فحاشا ذلك ثم حاشا ، فهي يوسف عصرها وانما نتهجّم على المقالة الداعية لبقائها على مرّ العصور.

ويبقى الفائز بعد هذا من منح قدرة السيطرة على دقة المعاني بسلاسة الاسلوب والالفاظ ، اما ان تبقى الالفاظ بحاجة الى تدقيق اوسع من المعاني فهذا ما يجعل الطالب يفكّر في حل تعقيد الالفاظ وينسى هضم المعاني.

ومن راجع الحلقات يجد مائزا بين القسمين الاولين منها والقسم الثالث ، فبينما الاولان يتميّزان بسلاسة الالفاظ الى حدّ قد يشعر المدّرس احيانا بعدم احتفاظ السيّد الشهيد له بشيء يمكنه تقديمه للطالب نجد القسم الاخير يحمل الدقة الفائقة في المعاني والالفاظ الامر الذي يحوج التلاميذ بل الاساتذة الى معين ييسّر لهم بعض ما تعسّر.

وكان غرض هذا الكتاب التصدي لجزء من هذه المهمّة ، ولئن تعذّر عليه حمل اعبائها كاملة فذلك لا يسقط الميسور.

ولعل الطريقة المتبعة في هذا الشرح جاءت الاولى في بابها ، فهو لا يتبع طريقة الشرح المزجي ولا الشرح المقطعي بل يأخذ الموضوع كاملا ويشرحه

ص: 4

بشكل متسلسل متكامل ، واذا بقي في بعض الجمل غموض قام بحلّها آخر البحث.

ولئن لمس القارىء تكرارا في بعض العبائر او ركاكة في الالفاظ فذاك مقصود للشارح لتطلّب لغة العرض العلمي اياه.

واذا وفّق هذا الشرح فيما رامه فهو غاية المقصود ، والاّ فكل صاحبه رجاء في تصدي بعض الاخوان للقيام بالمهمّة بشكلها الكامل فانه العامل المساعد على شق هذا الكتاب الجليل طريقه في الدراسات الحوزوية بشكل سريع واللّه الموفّق.

باقر الايرواني

16 / رمضان المبارك / 1412 هجرى

ص: 5

ص: 6

تعريف علم الأصول

اشارة

ص: 7

ص: 8

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تعريف علم الاصول والاعتراضات الواردة عليه :

اشارة

قوله ص 9 : عرف علم الاصول بانّه ... الخ :

قوله ص 9 : عرف علم الاصول بانّه ... الخ : (1)

اعتاد الاصوليون قبل دخولهم في صميم البحث عن المسائل الاصوليّة ذكر بعض المقدّمات التي يحتاج الطالب اليها وان كان اكثرها بل جميعها ليس من الاصول في شيء ، وقد جرى السيّد الشهيد قدس سره على هذا المنوال مع تغييره لبعض تلك المقدّمات ، فبعضها الذي يذكره علماء الاصول ذكره هو قدس سره ايضا نظير تعريف علم الاصول وموضوعه ، وبعضها الآخر اشار له قدس سره ولم يشر له غيره كالبحث عن حقيقة الحكم الشرعي وتقسيماته والفارق بين الامارات والاصول وغير ذلك.

ولقد اجاد قدس سره بذكره لهذا القسم الاخير الذي لم يعقد له الاصوليّون بحثا مستقلا مع شدة حاجة الطالب اليه.

ويمكننا ان نعدّ ذلك احد حسنات هذا الكتاب الجليل.

والتعريف الذي ذكره قدس سره هو التعريف المتداول بين الاصوليّين وقد اوضحه في الحلقة الثانية ص 7 ، وعلى سبيل الاختصار نقول : اذا اراد الفقيه ان

ص: 9


1- لوحظ في ارقام الصفحات والاسطر الطبعة الاولى للحلقات

يعرف ان رّدّ السلام هل هو واجب أو لا؟ امكنه مراجعة الآية الكريمة : ( وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها ) وبعد المراجعة يقول : كلمة « فحيّوا باحسن منها » امر ، وظاهر الامر الوجوب : وحيث ان كل ظاهر حجة ، اذن يجب؟؟؟ التحيّة.

من خلال هذا نفهم ان الفقيه استعان بقاعدتين :

أ - الامر ظاهر في الوجوب.

ب - كل ظهور حجة.

مثل هاتين القاعدتين تعدّان من علم الاصول لانهما من القواعد الواقعة في طريق الاستنباط ، وكل قاعدة وقعت في طريق الاستنباط فهي اصوليّة.

الاعتراضات على التعريف :

وبعد هذا العرض الموجز للتعريف المشهور نذكر الاعتراضات التي وجهت اليه وهي ثلاثة - اشار في الحلقة الثالثة الى الثالث منها فقط - واذا ضممنا اليها اشكالا آخر اشار اليه في الحلقة الثانية صار المجموع اربعة وهي :

1 - ان هذا التعريف لا يختصّ بالمسائل الاصوليّة بل يشمل القواعد الفقهيّة ، وعلى سبيل المثال نذكر القاعدة المعروفة « كل معاملة اذا كان في صحيحها ضمان ففي فاسدها ضمان ايضا » (1) ، ان مثل هذه القاعدة تقع في طريق الاستنباط

ص: 10


1- المقصود من هذه القاعدة انك لو اشتريت كتابا لتدرس فيه مثلا وفي الطريق تلف لسبب وآخر فعلى من تكون خسارته؟ فهل خسارته على البائع أو على المشتري؟ الصحيح انها على المشتري. اذن في البيع الصحيح خسارة الكتاب لو تلف وضمانه _ لا بدّ من الالتفات الى ان المقصود من الضمان في القاعدة هو الخسارة والتلف من كيسه _ على المشترى. ونطرح سؤالا جديدا : لو فرض ان البيع كان فاسدا _ كما اذا كان قد اجري بالفارسيّه بناء على اشتراط العربيّة في العقد _ وكان المتبايعان يتخيّلان انه صحيح واتضح لديهما بعد ذلك انه فاسد ، ولكن قبل اتضاح فساده لهما نفرض ان الكتاب تلف فعلى من تكون خسارته؟ انها على المشترى ايضا فهو الذي ينقص من كيسه مقدار قيمة الكتاب ولا يحق له الرجوع على البائع ومطالبته بالثمن لان البيع ما دامت خسارة الكتاب فيه على المشتري لو كان صحيحا فكذلك خسارته عليه لو كان فاسدا ، ومن هنا قيل : كل معاملة اذا كان في صحيحها ضمان ففي فاسدها ضمان ايضا. واذا فرض الامر بالعكس بان لم يكن في المعاملة الصحيحة ضمان ففي الفاسدة ايضا لا ضمان فمثلا لو استأجرت بيتا وبعد مدة تهدّمت بعض جدرانه من دون تفريط منك فهل تخسر هذا النقصان الطارىء او لا؟ الصحيح لا تخسره. هذا لو كانت الاجارة صحيحة اما لو كانت فاسدة وفرض تهدّم بعض الجدران قبل اطلاعك على فساد الاجارة فهل تضمن هذا النقصان؟ كلا لا تضمن ، لأن الاجارة لو كان صحيحة فليس فيها ضمان فكذلك لو كانت فاسدة ، ومن هنا قيل : كل ما يضمن بصحيحه _ الباء بمعنى « في » _ يضمن بفاسده وكل ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده ، وقد بحث الشيخ الانصاري قدس سره هذه القاعدة مفصّلا في كتاب المكاسب

حيث نستنبط منها ان البيع الفاسد فيه ضمان باعتبار ان البيع الصحيح فيه ضمان ، ونستنبط منها ايضا ان الاجارة الفاسدة ليس فيها ضمان باعتبار ان الاجارة الصحيحة ليس فيها ضمان وهكذا ، اذن يلزم عدّ مثل هذه القاعدة من علم الاصول والحال انها فقهيّة.

2 - ان هذا التعريف لا يشمل الاصول العمليّة مع انها من امّهات المسائل الاصوليّة ، والوجه في عدم شموله لها ان الادلّة التي يستعين بها الفقيه في مقام

ص: 11

الاستنباط قسمان : امارات واصول عمليّة.

فاذا شكّ الفقيه ان التدخين حرام او لا فان كانت لديه امارة - كخبر الثقة - تدل على الحرمة مثلا ثبت عنده حينذاك الحكم الشرعي وهو ان التدخين حرام ، اما اذا لم تتوفّر لديه امارة يثبت من خلالها الحرمة او غيرها من الاحكام وقع في الحيرة حيث لا يمكنه تحديد الحكم الشرعي ، وهذه الحيرة حيرة على مستوى العمل اي هو في مقام العمل لا يدري هل بالتالي يدخّن أو لا ، ولاجل دفع هذه الحيرة نصب الشارع المقدّس الاصول العمليّة لتقول له : يحق لك التدخين او لا.

اذن الاصول العمليّة يأتي دورها بعد العجز عن تحديد الحكم الشرعي فهي لا تحدده بل بلسان حالها كانها تقول اذا كنت عاجزا عن تحديد الحكم الشرعي ولم تعرفه فوظيفتك العمليّة اباحة التدخين مثلا او الاحتياط ، وما دامت لا تحدّد الحكم الشرعي ولا تقع في طريق استنباطه - بل الذي يقع في طريق استنباطه هي الامارات فقط - فهي ليست من المسائل الاصوليّة في شيء بمقتضى هذا التعريف.

3 - ان التعريف المذكور يشمل بعض المسائل اللغويّة فمثلا حينما نريد استنباط حكم التيمم من قوله تعالى : ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) نكون بحاجة الى الاستعانة باللغة لمعرفة معنى الصعيد ، فاذا عرفنا انه عبارة عن مطلق وجه الارض وان لم يكن ترابا كان الحكم هو وجوب التيمم بكل ما يصدق عليه عنوان الأرض وان لم يكن ترابا. اذن ظهور كلمة الصعيد في مطلق وجه الأرض الذي نحصل عليه من خلال مراجعة اللغة استعنّا به في مقام الاستنباط فيلزم ان يكون من علم الاصول (1).

ص: 12


1- قد يشكل بان ظهور كلمة الصعيد ليس مشمولا للتعريف حتى نحتاج الى اخراجه باعتبار انه ليس قاعدة وانما هو مختصّ بمادة الصعيد وليس له شموليّة. والجواب : انه قاعدة اذ تقول هكذا : كلمة الصعيد ظاهرة في مطلق وجه الأرض ، نظير قولك : صيغة افعل ظاهرة في الوجوب ، فاذا سلمت ان الثانية قاعدة فلا بدّ وأن تسلّم ان الاولى قاعدة ايضا. وحلّ الاشكال ان يقال : ان القاعدة لا تكون قاعدة الا اذا كان لها شموليّة واستيعاب ، ومن الواضح ان قولنا كلمة الصعيد ظاهرة في مطلق وجه الأرض له شموليّة ايضا لأنه يشمل كلمة الصعيد في اي حكم وردت فيه ، فهي تشمل كلمة الصعيد الواردة في دليل التيمم وتشمل كلمة الصعيد الواردة في دليل جواز السجود على الصعيد لو كان عندنا مثل هذا الدليل وتشمل كلمة الصعيد الواردة في الاحكام الاخرى لو فرضت

4 - ما اشار له قدس سره في الحلقة الثانية ص 7 من ان التعريف المذكور يفهم منه ان القاعدة تكون اصوليّة فيما اذا مهّدت اي دوّنت وكتبت لغرض الاستنباط ، فلو لم تدون لم تكن اصوليّة ، مع ان هذا باطل ، اذ الأمر بالعكس تماما فالمسألة لا بدّ وان تكون اصوليّة منذ البداية ثم تدون بعد ذلك في كتاب الاصول لا انها تصير اصولية بعد تدوينها فيه.

وهذا الاشكال الرابع مبني على قرائة الممهدة بفتح الهاء ، لكن لماذا لا نقرأها بكسر الهاء والمعنى حينذاك يصير : ان القواعد الاصوليّة هي التي تهيأ وتساعد على استنباط الحكم الشرعي ، فالمهم اذن هي الاشكالات الثلاثة السابقة.

الجواب عن الاشكال الأوّل :

اما الاشكال الأول فقد اجاب عنه غير واحد من الاصوليّين بان القاعدة لا تكون اصوليّة الا اذا توفّر فيها ركنان :

ص: 13

أ - ان يستنبط منها حكم شرعي.

ب - ان يكون ذلك الحكم حكما كليا.

وكلا هذين الركنين مفقود في القواعد الفقهيّة ، اما الرّكن الأول فلأن مثل قاعدة « كل معاملة يضمن في صحيحها يضمن في فاسدها » هي بنفسها حكم شرعي لا انه يستنبط منها حكم شرعي ، نعم هذه القاعدة قاعدة كلية قد تطبق على هذه المعاملة او تلك ويثبت من خلال التطبيق الضمان في بعض المعاملات وعدمه في بعض آخر ، بيد ان هذا تطبيق وليس استنباطا ، وفرق واضح بين التطبيق والاستنباط ، ففي الاستنباط يكون لدينا شيئان متغايران احدهما يثبت الآخر وينجزه من دون ان يكون مصداقا وفردا له نظير حجيّة خبر الثقة ، فانه اذا كان حجة فقد يستفاد منه حرمة العصير العنبي او وجوب قراءة السورة ومعلوم ان حجية خبر الثقة ليست هي نفس حرمة العصير بل هما حكمان متغايران غاية الامر احدهما يثبت الآخر وينجزه ، هذا في الاستنباط. اما في التطبيق فأحد المطلبين يكون مصداقا وفردا للاخر دون ان يغايره - وهذا كما في قاعدة « كل ما يضمن في صحيحه يضمن في فاسده » حيث نقول : ان البيع ما دام في صحيحه ضمان ففي فاسده ضمان ايضا ، فان البيع مصداق من مصاديق تلك القاعدة لا انه شيء مباين لها - وبواسطة تطبيقه على افراده نستفيد احكاما جزئية احدها مختص بالبيع والآخر بالاجارة وثالث بمعاملة اخرى.

ومن خلال هذا يتضح اختلال الركن الثاني ايضا حيث ان المستحصل عليه من خلال تطبيق القاعدة الفقهية احكام جزئية في موارد خاصة لا احكام كلية والحال ان المقصود من الحكم الشرعي في التعريف هو الحكم الشرعي الكلي - وبكلمة اخرى الجعل الكلي - لا الحكم الجزئي.

ص: 14

الجواب عن الاشكال الثاني :

واما الاشكال الثاني فقد ذكر له قدس سره اجابتين :

أ - ما اثبته صاحب الكفاية في الجواب عن هذا الاشكال حيث اضاف الى هذا التعريف جملة جديدة وهي : « او التي ينتهى اليها في مقام العمل » وبذلك يصبح التعريف هكذا : علم الاصول هو العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الحكم الشرعي او التي ينتهى اليها في مقام العمل ، فعلم الاصول ليس خصوص القواعد التي يستنبط منها الحكم الشرعي بل هو اما القواعد المذكورة الواقعة في طريق الاستنباط او القواعد التي ينتهى اليها في مقام العمل التي هي عبارة اخرى عن الاصول العملية حيث ان الفقيه بعد فقدان الامارات ينتهي اليها في مقام العمل لتحديد وظيفته العملية عند جهله بالحكم الشرعي.

ب - ما هو مذكور في كلمات السيّد الخوئي دام ظله واستصوبه السيد الشهيد قدس سره في تقريرات درسه ، وهو تفسير الاستنباط بتفسير جديد فسابقا كان يفسّر بتحصيل الحكم واستخراجه من الادلة الشرعية ، وبناء على هذا يكون الاشكال تاما حيث ان الادلة التي يستحصل منها الحكم هي خصوص الامارات دون الاصول ، والآن يفسر الاستنباط بالتنجيز والتعذير ، فكل قاعدة تنجز الحكم الشرعي او تكون عذرا عند مخالفته فهي اصولية ، وواضح كما ان الامارات تنجّز وتعذر كذلك الاصول العملية ، فالتدخين اذا كنا لا نعرف انه حرام واقعا او لا فمتى ما دلت امارة - كخبر الثقة مثلا - على انه حرام واقعا كانت منجزة للحرمة ، واذا دلت على اباحته كانت عذرا في مخالفة الحرمة على تقدير

ص: 15

ثبوتها واقعا (1).

هذا في الامارة ، وهكذا في الاصل فانه منجّز ومعذر ايضا ، فالاصل الذي نتمسّك به اذا كان اصل البراءة افادنا العذر من مخالفة الحرمة لو كانت ثابتة واقعا ، واذا كان اصل الاحتياط فهو منجز للحرمة لو كانت ثابتة واقعا.

الجواب على الاشكال الثالث :

واما الاشكال الثالث فقد ذكر له قدس سره اجابتين :

1 - ما ذكره الشيخ النائيني قدس سره من ان القاعدة لا تكون اصوليّة الا اذا توفر فيها ركنان :

أ - ان تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي.

ب - ان تقع كبرى في الدليل ، فمثلا نقول : كلمة « الصعيد » ظاهرة في مطلق وجه الارض وكل ظهور حجة ، اذن يجب التيمم بمطلق وجه الأرض.

مثل هذا الدليل يسمى بقياس الاستنباط حيث بواسطته يستنبط الحكم الشرعي للتيمم. وفي هذا الدليل نرى ان الصغرى هي « كلمة الصعيد ظاهرة في مطلق وجه الأرض » وهي ليست اصوليّة لانها وقعت صغرى في الدليل بخلاف قاعدة « كل ظهور حجّة » فانها حيث وقعت كبرى في الدليل كانت قاعدة اصوليّة.

ص: 16


1- مصطلح التنجيز يستعمل عند ما تدل الامارة او الاصل على حكم الزامي وهو الوجوب او الحرمة فيتنجّز كل واحد منهما على تقدير ثبوته واقعا ، بينما مصطلح التعذير يستعمل عند ما يدلان على الاباحة حيث يكونان عذرا من مخالفة الحرمة او الوجوب لو كانا ثابتين واقعاً.

هذا ما ذكره قدس سره في مقام الجواب على الاشكال المذكور.

ويمكن مناقشة ذلك بانا نجد في موارد متعددة وقوع بعض القواعد الاصوليّة صغرى للدليل لا كبرى ، ومعه فلا معنى لمقالة الميرزا ان كل قاعدة وقعت صغرى في الدليل فهي ليست اصوليّة ، وللتدليل على صدق ما نقول نذكر ثلاثة امثلة :

أ - في باب التيمم نقول مثلا هكذا : صيغة « تيمّموا » التي هي مصداق لصيغة « افعل » ظاهرة في الوجوب ، وكل ظهور حجّة. في هذا المثال نلاحظ ان الصغرى هي « صيغة افعل ظاهرة في الوجوب » وهي مسألة اصوليّة.

ب - في كلمة العقود نقول مثلا هكذا : كلمة « العقود » الواردة في قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) التي هي جمع محلى بالالف واللام ظاهرة في العموم وكل ظهور حجّة. في هذا المثال نرى ان الصغرى هي قاعدة اصوليّة ايضا حيث ان من جملة القواعد الاصوليّة ان الجمع المحلى بالالف واللام ظاهر في العموم.

ج - من جملة المسائل الاصولية مسألة ان الأمر والنهي هل يمكن اجتماعهما في مورد واحد أو لا؟ فاذا دخل انسان دارا مغصوبة وحان وقت الصلاة كان امر ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) يأمره بالصلاة ، بينما نهي لا تغصب ينهاه عن الغصب ، فاذا قلنا باستحالة هذا الاجتماع في نظر العقل كانت بين « صلّ » و « لا تغصب » معارضة وتكاذب لامتناع اجتماعهما ، ومعه فاللازم تطبيق قواعد الدليلين المتعارضين التي هي تقديم الاقوى سندا او الموافق للكتاب او المخالف للعامّة وهكذا ، فاذا قدمنا دليل « صلّ » كان الشخص المصلي في الدار المغصوبة ممتثلا بلا عصيان ، ولو قدّمنا « لا تغصب » كان عاصيا بلا امتثال. اما اذا قلنا بجواز الاجتماع بتقريب ان الأمر متعلق بعنوان الصلاة والنهي بعنوان الغصب وعند تعدد

ص: 17

العنوان لا استحالة في توجيه التكليفين الى المكلّف ، اذا قلنا بهذا لم يتحقق تعارض بينهما بل صح ان نقول ان مقتضى اطلاق « صلّ » ان الصلاة مطلوبة ولو في الدار المغصوبة ، ومقتضى اطلاق « لا تغصب » حرمة الغصب ولو كان متمثلا بالصلاة فيكون المكلّف عاصيا وممتثلا في آن واحد.

وبهذا نعرف ان مسألة اجتماع الأمر والنهي مع انها من امهات المسائل الاصوليّة لم تقع كبرى في الدليل بل صغرى ، حيث نقول هكذا : يمتنع اجتماع « صلّ » و « لا تغصب » وكلما امتنع اجتماعهما تحقق بينهما تعارض ، ف- « صلّ » و « لا تغصب » بينهما تعارض ولا بد من تقديم احدهما ، او نقول يجوز اجتماع « صلّ » و « لا تغصب » ، واذا جاز اجتماعهما لم يكن بينهما تعارض بل امكن صدقهما والتمسّك باطلاق كل منهما. ومن خلال هذا يتجلى ان القول بامتناع الاجتماع يحقق التعارض بين الدليلين بينما القول بالجواز يرفع التعارض ويجعلنا قادرين على التمسّك باطلاق كل من الدليلين.

2 - ما ذكره السيّد الخوئي دام ظله من ان القاعدة لا تكون اصوليّة الا اذا توفر فيها ركنان :

أ - ان تقع في طريق الاستنباط.

ب - ان لا تحتاج حين استنباط الحكم منها الى ضم قاعدة اخرى او تحتاج ولكن لا تكون تلك القاعدة التي نضمها اصولية ، في مثل هاتين الحالتين تكون القاعدة اصوليّة ، اما اذا احتاجت عند استنباط الحكم منها الى ضم قاعدة اخرى وكانت تلك القاعدة الاخرى اصوليّة فلا تكون اصوليّه ، ثم قال : وبناء على هذا لا يكون ظهور كلمة « الصعيد » في مطلق وجه الارض من المسائل الاصولية لأنّا حين استنباط حكم التيمم لا يكفينا ظهور كلمة « الصعيد » وحده في تحصيل

ص: 18

الحكم بوجوب التيمم بمطلق وجه الأرض بل نحتاج الى قاعدة اخرى وهي ان صيغة « افعل » - التي تنطبق على صيغة « تيمموا » - ظاهرة في الوجوب ، وهذه القاعدة الاخرى اصولية.

وقد تقول بناء على هذا الضابط الذي ذكره دام ظله يلزم خروج كثير من المسائل الاصوليّة من علم الاصول ، مثل ان صيغة « افعل » ظاهرة في الوجوب ، وصيغة « لا تفعل » ظاهرة في الحرمة ، والجملة الشرطية ظاهرة في المفهوم ، والجمع المحلى بالالف واللام ظاهر في العموم وهكذا ، لان جميع هذه المسائل تحتاج عند استنباط الحكم منها الى ضم قاعدة اصوليّة اخرى اليها ، وهي قاعدة حجيّة الظهور.

واجاب دام ظله عن ذلك بأنا وان كنا نحتاج في هذه المسائل الى ضم قاعدة حجيّة الظهور الا ان هذه القاعدة ليست اصوليّة فانها من الامور البديهيّة الواضحة التي لا خلاف فيها ويعرفها الصغير والكبير والعالم والجاهل والرجل والمرأة ، فالكل يعرف ان كل كلام يؤخذ بظاهره اذا كان ظاهرا في معنى معين ، والتفاهم بيننا مبني على الاخذ بالظواهر ، فالطفل الصغير اذا سمع من امه كلاما ظاهرا في معنى معين اخذ به بلا توقف وتردد.

مناقشة السيد الخوئي دام ظله

والاجابة المذكورة للسيّد الخوئي دام ظله اشكل عليها السيد الشهيد قدس سره باشكالين :

1 - انه دام ظله ادعى ان شرط القاعدة الاصولية عدم احتياجها الى ضم قاعدة اصوليّة اخرى ، ونحن نسأل عن المقصود من عدم الاحتياج فهل يراد به

ص: 19

عدم الاحتياج دائما وفي جميع الموارد او عدم الاحتياج ولو في مورد واحد؟ فان كان المقصود هو الأوّل لزم منه خروج كثير من المسائل الاصوليّة عن علم الاصول مثل مسألة ان صيغة « افعل » ظاهرة في الوجوب وصيغة « لا تفعل » ظاهرة في الحرمة والجملة الشرطيّة ظاهرة في المفهوم وهكذا فيما لو فرض ان صيغة « افعل » او « لا تفعل » او الجملة الشرطيّة وردت في روايات ظنيّة الصدور يرويها الثقات ، فان تحصيل الحكم من مثل الروايات المذكورة بحاجة الى ضم قاعدة أخرى اصولية وهي ان خبر الثقة حجّة ، اذ من دون ضم هذه القاعدة لا يمكن الاخذ بالرواية واستنباط الحكم منها.

وان كان المقصود هو الثاني - اي ان المراد من عدم الاحتياج هو عدم الاحتياج ولو في مورد واحد - فاللازم من ذلك دخول مسألة ظهور الصعيد في علم الاصول فيما اذا وردت كلمة « الصعيد » في رواية قطعيّة من حيث السند والدلالة وبقيّة الجهات بحيث لا يكون تحصيل الحكم منها بحاجة لشيء سوى معرفة معنى كلمة « الصعيد » بنحو لو عرفنا ان معناها مطلق وجه الأرض مثلا كان الحكم بوجوب التيمم بذلك - اي بمطلق وجه الأرض - ثابتا بلا حاجة الى شيء آخر.

2 - انه دام ظله ذكر ان مسألة حجيّة الظهور ليست اصوليّة لانها واضحة لدى الجميع ولا خلاف فيها.

ويرد عليه : ان وضوح المسألة وعدم الخلاف فيها لا يصير سببا لعدم كونها اصولية ، فان صيرورة المسألة اصوليّة ليس مسببا عن وقوع الخلاف والغموض فيها حتى اذا زالا - الخلاف والغموض - زالت اصوليتها بل الأمر بالعكس تماما فان الخلاف والغموض وعدمهما ينصّبان على المسألة الاصولية لا ان الاصولية

ص: 20

تنصب على المسألة التي فيها خلاف وغموض.

ومن خلال هذا اتضح ان كلتا الاجابتين عن الاشكال الثالث ليست تامة ، ومعه يكون تاما وواردا على التعريف ، ومن هنا تنشأ الحاجة الى التفكير في تعريف جديد ليسلم من ورود الاشكال الثالث عليه وهو ما يقترحه السيد الشهيد قدس سره من ان علم الاصول عبارة عن العلم بالعناصر المشتركة في استنباط الحكم الشرعي ، وهذا التعريف بحاجة الى الايضاح اولا ثم بيان كيفيّة سلامته عن ورود الاشكال الثالث عليه.

اما ايضاحه فهو مذكور بصورة كافية في الحلقة الاولى ص 38.

واما سلامته عن ورود الاشكال الثالث عليه فبأعتبار ان ظهور كلمة « الصعيد » وان كان له تأثير فعال في استنباط الحكم بوجوب التيمم بمطلق وجه الأرض الا انها فعالية تختص بمادة الصعيد فقط ، اي ان ظهور كلمة « الصعيد » نستفيد منه فقط في مجال الحكم بوجوب التيمم بمطلق وجه الأرض وغير ذلك من الاحكام التي ترتبط بكلمة « الصعيد » ولا نستفيد منه في مجالات اخرى فهو على هذا ليس عنصرا مشتركا بل عنصر مختصّ بمجال واحد ، ومعه فلا يكون التعريف شاملا له (1).

وهناك شيء جانبي لا بأس بالالتفات اليه وان لم يتعرّض اليه قدس سره وهو ان التعريف المذكور وان كان جميلا للغاية بيد انه قد يورد عليه بانه شامل لبعض المسائل الرجالية مثل وثاقة زرارة ، فانه نحتاج اليها في جميع الاحكام التي يكون لزرارة فيها رواية فيلزم ان تكون اصوليّة.

ص: 21


1- لا يخفى ان المائز المهم بين تعريف السيّد الشهيد وتعريف المشهور هو اشتمال تعريفه قدس سره على كلمة مشتركة والاّ فكلمة عناصر نفس كلمة القواعد.

وهذا الاشكال وان لم يتعرّض قدس سره له في هذا الكتاب ولكن تعرّض له في كتاب مباحث الدليل اللفظي ج 1 / ص 34 (1).

قوله ص 9 س 6 : وليست ادلة محرزة : اي وليست ادلة محرزة للحكم الشرعي كما هو الحال في الامارات كخبر الثقة.

قوله ص 12 س 8 : في غيرها : اي في غير صيغة الأمر.

قوله ص 13 س 4 : بهذه المادة : اي بمادة الصعيد. والحكم المرتبط بهذه المادة هو وجوب التيمم مثلا حيث يجب التيمم بالصعيد.

ص: 22


1- وحاصل ما افاده في الجواب : انه ليس كل ما يكون عنصرا مشتركا هو من علم الاصول بل يلزم توفر خصوصية ثانية ، وهي ان يكون العنصر المشترك مما يستعمله الفقيه كدليل على الحكم الشرعي ، فمسألة حجيّة الظهور مثلا مسألة اصولية حيث انها مضافا الى كونها من العناصر المشتركة تشتمل على الخصوصيّة الثانية فان الفقيه يستعمل الظهور كدليل على الحكم الشرعي ، وهذا بخلافه في وثاقة زرارة فانه يجعل الخبر الذي في سنده زرارة دليلا على الحكم الشرعي ولا يجعل نفس الوثاقة دليلا عليه وانما هي تثبت كون الرواية حجة وصالحة لان تكون دليلا على الحكم الشرعي. ومن هنا اضاف قدس سره في مباحث الدليل اللفظي الى التعريف الخصوصية الثانية فقال : ان علم الاصول هو العلم بالعناصر المشتركة في الاستدلال الفقهي خاصة التي يستعملها الفقيه كدليل على الجعل الشرعي الكلي.

موضوع علم الأصول

اشارة

ص: 23

ص: 24

موضوع علم الأصول :

قوله ص 14 : موضوع علم الأصول كما تقدّم في الحلقة السابقة ... الخ.

في بداية البحث نطرح السؤال التالي ما هو الميزان الذي على ضوئه يمكن تحديد الموضوع لأي علم من العلوم؟ فموضوع علم الفقه كيف نحدده؟ وموضوع علم الطب كيف نحدده؟ وهكذا. وبعد اطلاعنا على الميزان الكلي لتحديد الموضوع لكل علم من العلوم نأخذ بتطبيقه على علم الاصول لتحديد موضوعه.

اما تحديد الموضوع بشكل عام فقد ذكر له بيانان؟

1 - ان نفتش عن مسائل العلم لنرى انها تبحث عن احوال وشؤون اي شيء ، فاذا تشخص عندنا ذلك الشيء وحددناه كان ذلك هو الموضوع للعلم ، ففي علم النحو مثلا اذا فتشنا مسائله نرى انها تبحث عن الكلمة فيقال : الكلمة ترفع اذا كانت فاعلا وتنصب اذا كان مفعولا وتجر اذا كانت مضافا اليه وهكذا.

اذن مسائل علم النحو تبحث عن احوال الكلمة ، فتكون الكلمة هي الموضوع لعلم النحو.

2 - ان الموضوع لكل علم هو الجامع بين موضوعات المسائل ففي علم النحو مثلا نجد المسائل هي مثلا : الفاعل مرفوع والمفعول به منصوب والمضاف اليه مجرور وهكذا. وفي هذه المسائل نرى ان الموضوع هو الفاعل والمفعول به والمضاف به ، واذا فتشنا عن الجامع بين هذه الموضوعات رأيناه الكلمة ، فالكلمة هي الموضوع.

ص: 25

وباختصار الموضوع لأي علم من العلوم اما عبارة عن ذلك الشيء الذي يبحث عن عوارضه واما الجامع بين موضوعات المسائل.

على ضوء هذا نعرّج على علم الاصول لنفتش عن موضوعه ، وموضوع علم الاصول كما مر في الحلقة الثانية ص 10 عبارة عن العناصر المشتركة لان الاصولي يبحث عن الحجيّة وعدمها الثابتين لها - العناصر المشتركة - فالظهور وخبر الثقة والشهرة والاجماع والسيرة واشباه ذلك عناصر مشتركة ، والاصولي يبحث عن حجيّتها وعدمها فهي واشباهها الموضوع لعلم الاصول.

هذا ما قرأناه في الحلقة السابقة وقرأنا ايضا رأيا قديما في تحديد موضوع علم الاصول يقول انه - موضوع علم الاصول - الادلة الاربعة اي الكتاب ، والسنة ، والاجماع ، والعقل حيث يبحث فيه عن شؤونها ، الاّ ان الرأي المذكور تقدمت مناقشته في الحلقة الثانية ص 9 فراجع.

ولبطلان التحديد القديم المذكور اضطر بعض علماء الاصول الى ان يدعي عدم الضرورة لوجود الموضوع للعلم اذ لا دليل على ان وجود الموضوع لكل علم ضروري ، بل ادعى بعض آخر من الاصوليّين كما سيأتي اكثر من ذلك فادعى استحالة وجود الموضوع في بعض العلوم ، وفي قبال هذا وجد اتجاه يدعى ضرورة وجود الموضوع لكل علم. اذن يوجد في المقام اتجاهان احدهما يقول بعدم ضرورة وجود الموضوع لكل علم ، وثانيهما يقول بضرورة ذلك.

واستدل اصحاب الاتجاه الاخير بدليلين :

الدليل الاول : ان هناك كلاما مشهورا يقول : ان العلوم يمتاز بعضها عن لبعض الآخر بواسطة الموضوعات ، فعلم النحو يمتاز عن علم الطب بان ذلك

ص: 26

يبحث عن الكلمة والكلام وهذا يبحث عن بدن الانسان ، واختصاص كل منهما بموضوعه الخاص سبّب استقلالية وامتياز ذاك عن هذا ، ولو لا هذا الامتياز في الموضوع لما كان علم النحو والطب علمين بل كانا علما واحدا واذا صح هذا الكلام كان اللازم منه ثبوت الموضوع لكل علم ليتم من خلاله امتياز علم عن علم.

ويرد هذا الدليل : ان جعل الامتياز في الموضوع سببا لامتياز العلوم بعضها عن بعض موقوف على التسليم باشتمال كل علم على موضوع خاص به ، اما اذا انكرنا ذلك فلا بد وان يكون الامتياز بواسطه طريق آخر غير الموضوع كأن يقال مثلا : ان الامتياز بواسطة الغرض ، فالغرض من علم النحو بما انه صون اللسان عن الخطأ صار ذلك سببا لامتيازه عن علم المنطق الذي له غرض آخر وهو صون التفكير عن الخطأ ، اذن هذا الدليل يشتمل على المصادرة اي انه استدل بشيء يحتاج الى التسليم بالمدعى المتنازع فيه.

الدليل الثاني : انا نسأل ونقول بم يمتاز بعض العلوم عن البعض الآخر؟ فان اجيب بانه يحصل عن طريق التمايز بين الموضوعات - كما ذكر ذلك في الدليل الاوّل - فهذا معناه التسليم بوجود موضوع لكل علم حتى يحصل عن طريق التمايز فيه التمايز بين العلوم ، وان انكر ذلك وقيل ان التمايز بين العلوم يحصل عن طريق التمايز بين الاغراض - كما ذكر ذلك في الاجابة عن الدليل الاوّل - فهذا ايضا يستلزم الاعتراف بوجود الموضوع لكل علم لأن كل علم وان كان له غرض غير الغرض الثابت في العلم الآخر الاّ انه - الغرض - في كل علم شيء واحد ، فالغرض من علم النحو مثلا شيء واحد ، وهو صون اللسان عن الخطأ وحين ذاك نسأل عن هذا الغرض الواحد بم يحصل؟ لا بدّ وان يكون الجواب

ص: 27

بحصوله بواسطة المسائل ، فإن لعلم النحو مسائل متعددة مثل « الفاعل مرفوع » و « المفعول به منصوب » و « المضاف اليه مجرور » وهكذا ، وهذه المسائل هي التي تحصّل الغرض وتوجب صون اللسان لمن اطلع عليها ، ولكن هذه المسائل هي اشياء متعددة ، والاشياء المتعددة كيف تحصّل غرضا واحدا؟ ان هذا غير ممكن اذ لازمه صدور الواحد من الكثير ، وهو مستحيل ، فان الواحد لا يصدر الاّ من شيء واحد (1).

اذن لا بدّ وان نفترض ان مجموع تلك المسائل المتعددة يرجع الى قضية واحدة كيما تكون تلك القضيّة الواحدة هي المحصّلة لذلك الغرض الواحد ، وتلك القضيّة الواحدة لكي تكون جامعة بين تلك المسائل المتعددة لا بد وان تكون ذات موضوع واحد كلي يسع جميع موضوعات تلك المسائل وذات محمول واحد كلي يسع جميع محمولات تلك المسائل. وتلك القضيّة الواحدة يمكن فرضها هكذا : الكلمة لها حكم اعرابي ، ان الموضوع في هذه القضية هو الكلمة التي هي شاملة

ص: 28


1- المستند لقاعدة « ان الواحد لا يصدر الاّ من واحد » هو اعتبار السنخيّة والمشابهة بين العلة والمعلول ، فان العلة لا بدّ وان تسانخ المعلول وتشابهه والاّ يلزم صدور كل شيء من كل شيء كصدور البرودة من النار ، ومعه فالواحد لا يمكن صدوره من الاثنين فان الواحد بما هو واحد لا يسانخ الاثنين بما هي اثنان. ان قلت : بناء على هذه القاعدة كيف نفسّر صدور الخلق الكثير من اللّه سبحانه الذي هو واحد؟ قلت : ان اصحاب هذه القاعدة يلتزمون بان الصادر منه سبحانه شيء واحد وهو العقل الاول ، والاول خلق العقل الثاني ، والثاني خلق الثالث ، وهكذا حتى العقل العاشر. ومن هنا يتّضح ان فكرة العقول العشرة هي في الحقيقة وليدة قاعدة « الواحد لا يصدر الا من واحد ».

للفاعل والمفعول به والمضاف اليه ، والمحمول هو الحكم الاعرابي الذي هو جامع بين مرفوع ومنصوب ومجرور. واذا سلّمت هذه القضيّة الواحدة فلازم ذلك التسليم بضرورة وجود الموضوع لعلم النحو وهو الأمر الجامع بين موضوعات المسائل. هذه حصيلة الدليل الثاني.

واجاب علماء الاصول عنه بأن قولكم ان لكل علم غرضا واحدا وقولكم ان الغرض الواحد يحصل بسبب المسائل المتعددة امر مقبول ، وانما نناقش في قولكم ( ان المسائل المتعددة لا يمكن ان تكون هي الموجدة لذلك الغرض الواحد ) حيث نقول : ان عدم صدور الواحد من الاشياء المتعددة يتم في بعض أقسام الواحد دون بعض فهو يتم في الواحد الشخصي دون الواحد بالنوع او بالعنوان.

وتوضيح ذلك : ان الواحد على ثلاثة اقسام :

أ - ان يكون الشيء شخصا واحدا حقيقة كزيد وعمرو : فان زيدا مثلا يقال له واحد بالشخص.

ب - ان يكون الشيء واحدا بالنوع كما ذا لا حظنا مجموع زيد وعمرو فانهما شيء واحد حيث انه بالرغم من تعددهما وتغايرهما يجمعهما الانسان فهما واحد من حيث الانسانيّة التي هي نوع.

وبهذا تجلّى ان الواحد بالنوع هو شيئان حقيقة كمجموع زيد وعمرو ويجمعهما نوع واحد ، وهذا بخلافه في الواحد بالشخص فانه واحد حقيقة.

ج - ان يكون الشيء واحدا بالعنوان مثل الثلج والقطن فانهما شيئان حقيقة ولكنهما باعتبار آخر شيء واحد حيث يجمعهما عنوان واحد وهو عنوان الابيض مثلا الذي هو عنوان منتزع منهما.

وبهذا اتضح الفارق بين القسم الاول والقسمين الآخرين ، فالواحد في

ص: 29

القسم الاول واحد حقيقة بينما هو متعدد في القسمين الاخيرين ، وهكذا اتضح الفارق بين القسم الثاني والثالث ، فالجامع بين المتغايرين في القسم الثالث عنوان واحد وليس حقيقة نوعية واحدة بخلافه في القسم الثاني فان الجامع حقيقة نوعية واحدة لا عنوان واحد.

واذا اتضحت الأقسام الثلاثة للواحد نقول : ان قاعدة الواحد لا يصدر الاّ من واحد تتم في الواحد بالشخص دون الواحد بالنوع او بالعنوان ، اذ الواحد بالنوع او بالعنوان ليس شيئا واحدا حقيقة حتى لا يمكن صدوره من الاشياء المتعددة بل هو في نفسه متعدد.

واذا اردنا تطبيق هذا المطلب على مقامنا نقول : ان الغرض من علم النحو وان كان واحدا وهو صون اللسان الاّ انه ليس واحدا بالشخص - فانه ليس امرا جزئيا وشخصا واحدا بل هو كلي - حتى يستحيل صدوره من الكثير بل هو واحد بالنوع او بالعنوان ، ومعه فيمكن صدوره من الكثير فان صون اللسان له حصص متعددة يجمعها عنوان صون اللسان ، وحصة من الصون تحصل من مسألة « الفاعل مرفوع » وحصة ثانية من الصون تحصل من مسألة « المفعول منصوب » وثالثة تحصل من مسألة « المضاف اليه مجرور » وهكذا فلا يلزم صدور الواحد من الكثير.

استحالة ثبوت الموضوع لبعض العلوم :

ومن خلال هذا تجلى انه لم يثبت بدليل صحيح ضرورة ثبوت الموضوع لكل علم ، بل ترقى بعض المحقّقين (1) الى اكثر من ذلك فقال : ان بعض العلوم

ص: 30


1- كالشيخ العراقي في نهاية الافكار ج 1 / ص 9 ، ومقالات الاصول ص 4 والسيّد الخوئي في المحاضرات ج ١ / ص ٢٠ ، والسيّد البجنوردي في منتهى الاصول ص ٩.

يستحيل ثبوت موضوع له ، وذلك لوجهين :

أ - ان كل علم له مسائل مختلفة ، وتلك المسائل قد يكون موضوع بعضها امرا وجوديا وموضوع بعضها الآخر امرا عدميا ، وهذا كما في علم الفقه ، فان موضوع بعض مسائله وجودي مثل الوضوء واجب والسرقة حرام وو ...

وموضوع بعضها عدمي مثل عدم الأكل والشرب في الصوم واجب ، وترك الاصطياد في الحج واجب وو ... ومعه فلا يمكن ان يكون لعلم الفقه موضوع واحد يجمع بين موضوعات مسائله فان الوجود والعدم نقيضان ، والنقيضان لا يجمعهما شيء واحد كي يكون هو الموضوع.

ب - ان موضوع مسائل علم الفقه قد يكون من مقولة الجوهر مثل « الدم نجس » فان الدم جوهر من الجواهر ، وقد يكون من مقولة الوضع (1) مثل « الركوع واجب » ، وقد يكون من مقولة الكيف (2) مثل « قراءة الحمد واجبة في الصلاة » فان القراءة كيف مسموع ، ولربما يكون الموضوع داخلا تحت مقولة اخرى من المقولات العشر (3) ، وقد قالوا ان المقولات اجناس عالية بمعنى انه لا

ص: 31


1- الوضع عبارة عن النسبة الحاصلة بين اجزاء الجسم الواحد ، فأنت اذا جلست حصلت نسبة خاصة بين اجزاء جسمك ، واذا وقفت حصلت نسبة اخرى ، واذا ركعت حصلت نسبة ثالثة وهكذا ، فالركوع اذن نسبة تدخل تحت مقوله الوضع.
2- للكيف اقسام متعددة ، فقد يكون نفسانيا كالحب والبغض ، وقد يكون مسموعا كالقراءة ، وقد يكون مذوقا كالحلاوة والمرارة ، وقد يكون ملموسا كالخشونة والليونة وهكذا.
3- المقصود من المقولات العشر : ان كل موجود في العالم ما سوى اللّه تعالى لا بد وان يدخل اما تحت الجوهر او تحت العرض ولا يمكن ان يكون الموجود لا جوهرا ولا عرضا ، وذكروا ان للعرض اقساما تسعة : الكم ، الكيف ، الأين ، متى ، ان يفعل ، ان ينفعل ، الاضافة ، الوضع ، الملك. واذا ضممنا هذه الاقسام التسعة للعرض الى الجوهر صار كل موجود في العالم لا يخلو من احد هذه الاقسام العشرة المسماة بالمقولات العشر

يوجود شيء اعلى منها يكون جنسا شاملا لها ، وقالوا هي ماهيات متباينة تباينا تاما (1) ، فالجوهر يباين الكيف او الوضع مباينة تامة ، وما دام تباينها تاما فلا يمكن وجود شيء واحد جامع لها والاّ يلزم عدم تباينها تباينا تاما.

هذا ما ذكره اصحاب هذا الاتجاه ، وقد عرفت فيما سبق ان رأي السيد الشهيد قدس سره وجود موضوع واحد لعلم الاصول وهو العناصر المشتركة.

قوله ص 15 س 17 وهو الجامع الذاتي لافراده : لعل المناسب ان يقال : وهو الاشياء المتعددة التي يجمعها جامع ذاتي واحد. ثم انه ليس المقصود من لفظ النوع هنا المصطلح المنطقي بل يراد به كل امر ذاتي سواء كان نوعا او جنسا او فصلا.

قوله ص 16 س 1 وهو الجامع الانتزاعي : لعل المناسب ان يقال : وهو الاشياء المتعددة التي يجمعها عنوان واحد.

قوله ص 16 ص 10 : مقولات ماهوية : فان لكل مقولة ماهية غير ماهية المقولة الاخرى.

ص: 32


1- اذا لو لم تكن متباينة تباينا تاما لكانت مشتركة في شيء واحد ، وهذا المشترك يلزم ان يكون جنسا لها ، والمفروض انها اجناس عالية لا يوجد جنس اعلى منها.

الحكم الشرعي وتقسيماته

اشارة

ص: 33

ص: 34

الحكم الشرعي وتقسيماته :

قوله ص 17 ص 1 قد تقدم في الحلقة السابقة :

البحث في الحكم بالشكل المذكور هنا هو من خصائص هذا الكتاب الجليل ولا يوجد في الكتب الاصولية المتداولة.

وهنا سؤال يقول : ما هو معنى الحكم وكيف نفسره؟ والاجابة عن هذا السؤال مرت في الحلقة الاولى ص 65 حيث ذكر قدس سره تفسيرين للحكم :

احدهما : التفسير المشهور القائل ان الحكم هو الخطاب المتعلق بفعل المكلّف. واشكل عليه باشكالين.

ثانيهما : تفسير طرحه هو قدس سره يقول : ان الحكم هو الخطاب الصادر من اللّه سبحانه لتنظيم حياة الانسان ، ولاستيضاح كل ذلك لا بدّ من مراجعة الحلقة الاولى.

وسؤال آخر يقول : الى كم قسم ينقسم الحكم الشرعي؟ والجواب مرّ في الحلقتين الاولى والثانية حيث عرفنا ان الحكم الشرعي ينقسم الى قسمين : حكم تكليفي ، وحكم وضعي.

والفرق بينهما : ان الحكم اذا كان مرتبطا بعمل المكلّف مباشرة فهو تكليفي ، كما هو الحال في الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والاباحة حيث نقول تجب الصلاة وتحرم السرقة ، فان الوجوب والحرمة متعلّقان بالصلاة والسرقة

ص: 35

اللتين هما فعل للمكلّف.

اما اذا لم يرتبط الحكم بفعل المكلّف مباشرة فهو وضعي كالنجاسة والزوجية وغيرهما فحينما نقول الثوب نجس نجد النجاسة مرتبطة مباشرة بالثوب ، وارتباطها بفعل المكلّف ارتباط غير مباشر ، فان الثوب اذا كان نجسا فبالتالي يجب على المكلّف اجتنابه في الصلاة.

وباختصار يمكننا ان نقول : الحكم التكليفي عبارة عن الاحكام الخمسة اي الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والاباحة (1) والحكم الوضعي هو كل حكم مما عدا الاحكام الخمسة كالزوجية والحرية والنجاسة وو ...

ثم ان الحديث عن الحكم التكليفي مرّ بصورة موجزة في الحلقة الثانية ص 13 فما بقي هنا الا التحدث عن الحكم الوضعي فنقول :

ان الحكم الوضعي له شكلان ، ففي شكله الاول يكون موضوعا لحكم تكليفي كالزوجية فانها حكم وضعي وتقع موضوعا لحكم تكليفي كوجوب الانفاق فيقال مثلا : يجب الانفاق على الزوجة ، وكالملكية فانها موضوع لحرمة التصرف فيقال : يحرم التصرف في ملك المالك بدون اذنه.

وفي الشكل الثاني يكون الحكم الوضعي منتزعا من الحكم التكليفي كما في الجزئية والشرطية ، فان المولى اذا قال : يجب في الصلاة الركوع والسجود وو ... عند الزوال انتزعنا الجزئية للركوع والسجود والشرطية للزوال.

وبعد ان عرفنا هذين الشكلين للحكم الوضعي نتناول بالحديث اولا

ص: 36


1- هناك كلام بين الاصوليّين في ان الاباحة هل هي واحد من الاحكام التكليفية او لا؟ ووجه التشكيك ان الاباحة ترجع الى انتفاء الاحكام الاربعة الاخرى ولا تحتاج الى جعل خاص بها بل يكفي في تحققها عدم جعل الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة.

الشكل الثاني.

الشكل الثاني :

وفي هذا الشكل نطرح السؤال التالي : هل جزئية السورة يمكن ان تحصل من طريق الجعل الاستقلالي - بان يقول المولى : جعلت السورة جزءا للصلاة - بعد وضوح امكان حصولها عن طريق الانتزاع؟ ولأول وهلة قد يقال وما المانع من حصول الجزئية بالجعل الاستقلالي؟ فانا نرى بالوجدان امكان ان يقول المولى جعلت السورة جزءا للصلاة ، هذا ولكن الصحيح عدم امكان ذلك لوجهين :

أ - ان المولى اذا اراد ان يجعل الجزئية للسورة فنحن نسأل هل قبل جعله للجزئية يغير الحكم التكليفي المتعلّق بالصلاة؟ فان كان يغيره - بمعنى ان الامر اذا كان قبلا يقول يجب الركوع والسجود والتشهد فالآن يغير المولى هذا الامر ويقول يجب الركوع والسجود والتشهد والسورة فيضيف السورة ويجعلها متعلقة للامر الجديد - فيكفي ذلك لحصول الجزئية للسورة بلا حاجة الى جعل استقلالي بل يكون لغوا الاّ اذا فرض ان المقصود منه الاخبار دون الانشاء ، بمعنى ان المولى بقوله جعلت السورة جزءا يخبر عن حصولها قبلا بسبب تغيير الامر ، الاّ ان هذا خارج عن محل البحث اذ هو في الجعل والانشاء دون الاخبار ، هذا كله اذا فرض ان المولى يغير الامر السابق.

وان فرض انه لا يغيره قبلا لزم من ذلك التهافت ، اذ كيف تجعل السورة جزءا وفي نفس الوقت يبقى الامر السابق على حاله دون ان يشمل السورة.

ب - ان الجزئية من الامور الواقعية الحقيقية كالحب والبغض فكما انهما

ص: 37

امران حقيقيان قائمان بالنفس ولا يمكن ايجادهما بالانشاء - فان الانشاء ولو حصل مرارا لا يمكن ان يحصّل الحب فلو قلت مرارا اني احبك اني احبك ... فلا يحصل بذلك الحب وانما يحصل باسبابه الخاصة كتقديم هدية مثلا - فكذلك الجزئية لا يمكن ان تحصل بالانشاء.

ولماذا نذهب بعيدا فانه يكفينا الالتفات الى الجزئية في الاجزاء الخارجية ، فاذا كانت لدينا ورقة واردنا جعلها جزءا من الكتاب فلا يمكن ان تحصل جزئيتها بقولك جعلت الورقة جزءا من الكتاب وانما تحصل بلصقها داخل الكتاب بمادة لاصقة ، وهكذا الحال في جزئية السورة للصلاة فانها امر حقيقي واقعي - من الطبيعي ان واقعها الذي تنزع منه هو عالم الجعل والتشريع فان واقع كل شيء بحسبه - لا يمكن ان يحصل بالانشاء بل بسببه الخاص وهو الانتزاع من الوجوب الموجّه الى جميع الاجزاء التي منها السورة (1).

الشكل الاول :

وفي هذا الشكل الذي هو كالزوجية الواقعة موضوعا لوجوب الانفاق نطرح نفس السؤال السابق : هل الزوجية يمكن ايجادها بالجعل الاستقلالي او لا توجد الاّ بانتزاعها من الحكم بوجوب الانفاق على هذه المرأة او تلك؟ الصحيح انها تحصل بالجعل الاستقلالي ولا يمكن ان تكون منتزعة ، اذ وجوب الانفاق منصبّ على عنوان الزوجة ، فلا بد وان تكون الزوجية مجعولة في المرحلة الاولى حتى ينصب عليها وجوب الانفاق بعد ذلك ، فلو كانت منتزعة من وجوب

ص: 38


1- لا يخفى ان عبارة الكتاب لم تسق الوجهين اللذين ذكرناهما كوجهين متمايزين بل ساقتهما كوجه واحد وصاغت الوجه الثاني كعبارة اخرى للوجه الأول ، والمناسب ما فعلناه.

الانفاق كان ذلك دورا واضحا لتوقف الزوجية على وجوب الانفاق ووجوب الانفاق على الزوجية.

وقد يوجّه انتزاع الزوجية من وجوب الانفاق وعدم جعلها بالجعل الاستقلالي بلزوم محذور اللغوية بتقريب ان المولى اذا لم يشرع وجوب الانفاق فلا معنى لجعل الزوجية بالجعل الاستقلالي ، اذ ما الفائدة من جعلها بعد ما لم يشرع لها وجوب الانفاق ولا غيره من الاحكام؟ وان فرض ان المولى شرّع وجوب الانفاق فايضا لا معنى لجعل الزوجية بالجعل الاستقلالي لإمكان توجيه وجوب الانفاق الى كل امرأة امرأة اجري معها العقد بلا حاجة الى جعل الزوجية مسبقا فيقال مثلا : هذه المرأة يجب الانفاق عليها وتلك المرأة يجب الانفاق عليها وهكذا.

ويمكن ردّ هذا التوجيه ببيانين :

أ - ان الزوجية وامثالها لها جذور عقلائية ، بمعنى انها متداولة بين العقلاء بقطع النظر عن التشريع الاسلامي ، والاسلام ليس هو المشرّع لها كي يقال بلزوم اللغوية من تشريعه لها ، ولئن كان هناك اشكال فهو موجّه الى العقلاء دون الشارع.

ب - ان وجوب الانفاق وان امكن توجيهه الى كل امرأة وامرأة بعد عقد الزواج معها الاّ ان ذاك عمل شاق فلا معنى لأن ينتظر المولى كلّ امرأة يجري معها العقد ليوجّه لها وجوب الانفاق ، ان هذا عمل يفقد الانتظام ، بخلاف ما لو جعلت الزوجية في مرحلة اسبق حيث يكون حينئذ تشريع قانون وجوب الانفاق امرا سهلا ومنتظما فيقول المولى مرة واحدة : يجب الانفاق على الزوجة.

قوله ص 17 س 9 بالمركب منها : اي المركب من السورة وغيرها ، وانما

ص: 39

خصصت السورة بالذكر لدوران الحديث عنها.

قوله ص 18 س 4 للواجب من السورة : اي للواجب من السورة وغيرها ، ويحتمل ان المقصود : يكفي هذا الامر التكليفي في انتزاع عنوان جزئية السورة للواجب.

قوله ص 18 س 6 وبكلمة اخرى : الانسب جعل هذا وجها مستقلا كما فعلنا.

قوله ص 18 س 10 ومنشأ الانتزاع : عطف تفسير على سابقة لأن وعاء الواقع هو الوعاء الذي تنتزع منه الجزئية.

قوله ص 18 ص 14 عقلائيا وشرعا : قيدان للاحكام التكليفية ، فان الاحكام الثابتة للزوجية بعضها شرعي كوجوب الانفاق وبعضها عقلائي كوجوب العمل في المنزل ، ويحتمل كونهما قيدين لقوله « وقوعه ».

قوله ص 19 س 6 والجواب : سياق العبارة يستفاد منه ذكر جواب واحد الاّ ان الاولى التفكيك وجعله جوابين لا واحدا.

ص: 40

شموليّة الحكم للعالم والجاهل

اشارة

ص: 41

ص: 42

شمول الحكم للعالم والجاهل :

قوله ص 19 س 10 واحكام الشريعة تكليفية ... الخ :

وقع تساؤل يقول : هل الاحكام التي شرعها سبحانه كوجوب الصلاة والصوم تختص بخصوص العالم بها او تعمّ جميع الناس بما فيهم الجاهل؟ وقد تبدو الغرابة على هذا التساؤل حيث تقول من المحتم اختصاص الاحكام بالعالم ، اذ كيف يعاقب الانسان على شيء لم يعلم به.

ولدفع الغرابة نقول : ان التساؤل عن اختصاص الاحكام وشمولها تارة يطرح بالنسبة الى العقاب فيقال : هل الجاهل بالحكم يستحق العقاب او لا؟ وجوابه واضح ، فالعقاب مختص بالعالم ولا يتنجز (1) الحكم الاّ في حق من اطّلع عليه. واخرى يطرح بلحاظ عالم التشريع ، فالحكم عند تشريعه هل خصص بالعالم او لا ، بعد الفراغ عن اختصاصه في مرحلة العقاب بالعالم؟ وقد تقول : ان البحث بهذه الصيغة لغو ، اذ ما لفائدة في ثبوت الحكم في عالم الواقع بحق الجاهل ما دام لا يعاقب عليه؟ وهذا الكلام وجيه يأتي التعرّض له بعد قليل.

ولنعد الى صلب الموضوع ، اتفقت كلمة الامامية حتى صار ذلك من القضايا الواضحة لديهم على شمول الاحكام للجميع للوجوه التالية :

أ - الاخبار المستفيضة (2) الدالة على اشتراك الاحكام ، وقد ورد في بعض

ص: 43


1- التنجّز عبارة اخرى عن استحقاق العقاب.
2- الاستفاضة مرتبة دون التواتر بقليل.

الاحاديث ما مضمونه : يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له هلاّ عملت فيقول لم اعلم ، فيقال هلاّ تعلّمت (1). ان هذا الحديث يدل بصراحة على ثبوت الاحكام في حق الجاهل ايضا والاّ لم يكن للتوبيخ والعقاب معنى.

ب - ان نفس الادلة الاولية - كدليل وجوب الصوم والصلاة وو ... - تكفي لاثبات التعميم فانها مطلقة ولم تقيد بالعالم.

ومقتضى هذين الوجهين ثبوت الاشتراك الاّ اذا قام دليل خاص على الاختصاص كما في الجهر بدل الاخفات وبالعكس او الاتمام بدل القصر.

ج - تقدم في الحلقة الثانية ص 261 ان من المستحيل اختصاص الحكم بالعالم للزوم محذور الدور ، فان الحكم اذا كان ثابتا لخصوص العالم كان معنى ذلك توقف الحكم على العلم بالحكم مع ان من الواضح توقف العلم بالحكم على ثبوت نفس الحكم - فان العلم بالشيء موقوف على ثبوت ذلك الشيء - ونتيجة هذا توقف ثبوت الحكم على ثبوت الحكم. وقد مرّ في الحلقة السابقة اشكال وجواب على هذا الدور.

كيف نخالف الوجدان؟

قد يقال : ان محذور الدور وان كان وجيها الاّ انا نشعر بالوجدان ان تقييد الحكم بالعلم امر ممكن فمن الوجيه ان يقول المولى لعبده ان اطّلعت على تشريع الوجوب للحج وجب عليك حينذاك الحج. وكيف التوفيق بين هذا الوجدان وبين الدور؟

والجواب : لا بد من التمييز بين صورتين في احداهما يقيّد الحكم الفعلي بالعلم بنفس الحكم الفعلي ، وهذا ما كنا نبحث عنه وقلنا انه غير ممكن لمحذور

ص: 44


1- راجع نص الحديث في البحار : 1 / 177 ح 58.

الدور. وفي الصورة الثانية يقيد الحكم الفعلي بالعلم بالتشريع ، فيقول المولى : اذا علمت بتشريع الحكم كان ثابتا عليك بالفعل ، وهذه الصورة ممكنة ولا يلزم فيها محذور الدور ، وهي ما يعبّر عنها بتقييد المجعول (1) بالعلم بالجعل (2) ، بخلافه في الصورة السابقة حيث يقيد المجعول بالعلم بنفس المجعول. وما نشعر بامكانه بالوجدان هو الصورة الثانية ، وما قلنا بلزوم محذور الدور فيه هو الصورة الاولى.

ثمرة البحث :

وبعد ان عرفنا استحالة اختصاص الحكم بالعالم نعرج على ثمرة البحث المذكور.

ان الاحكام اذا كانت عامة لجميع الناس فلازم ذلك ان الامارة والاصل اللذين يتمسك بهما المكلف حالة جهله بالحكم الواقعي قد تصيبان وقد تخطئان ، فان الاحكام الواقعية ما دامت ثابتة حالة الجهل فالامارة وهكذا الاصل قد تصيبها وقد لا تصيبها ، غاية الامر في حالة عدم الاصابة يكون المكلف معذورا وغير مستحق للعقاب لانه اتبع ما جعله الشارع حجة عليه. وتسمى هذه الحالة - أي حالة كون الامارة مصيبة تارة ومخطئة اخرى - بمسلك التخطئة ، وهو كما اتضح لا يعني كون الامارة مخطئة دائما ، بل يعني انها قد لا تصيب الواقع احيانا.

وهناك مسلك آخر معاكس تماما لمسلك التخطئة يسمى بمسلك التصويب ، وهذا المسلك له شكلان :

ص: 45


1- المجعول : عبارة اخرى عن الحكم الفعلي.
2- الجعل : عبارة اخرى عن التشريع أو الحكم الانشائي.

أ - ان يفرض ان اللّه سبحانه لم يسجل في حق الجاهل شيئا من الاحكام وانما ينتظر اخذ المكلف بالامارة ، فان اخذ بها وقالت ان صلاة الجمعة واجبة مثلا سجل في حق الانسان المذكور وجوب صلاة الجمعة ، وان قالت بحرمتها سجلت الحرمة. وبناء على هذا لا يتصور خطأ الامارة للواقع ، اذ ليس للواقع وجود بقطع النظر عنها حتى تصيبه مرة وتخطئه اخرى ، بل هي المولّدة له (1).

وهذا الشكل واضح البطلان ، فان الواقع ما دام لا يشتمل على حكم فالامارة تكون امارة ومرشدة الى ماذا؟

ب - ان يفرض اشتمال الواقع على احكام مشتركة بين الجميع ، بيد ان الامارة بعد الاخذ بها اذا كانت مطابقة للواقع بقي الواقع على ما هو على ، وان لم تطابقه زال وتسجّل بدله الحكم الذي ادت اليه الامارة ، وبناء على هذا الشكل لا يمكن خطأ الامارة ايضا لان المفروض تبدل الواقع وتسجيل مضمون الامارة عند عدم اصابتها.

والتصويب بهذا الشكل وان كان في نفسه معقولا ولا يسجّل عليه ما سجّل على الشكل السابق لكنه غير مقبول ، اذ بناء عليه لا يوجد حكم واحد مشترك بين الجميع ، فمن كانت امارته مخطئة يكون الحكم في حقه مغايرا لمن لم تكن امارته مخطئة. وعدم الاشتراك في حكم واحد باطل لوجهين سبق وان اشرنا لهما :

1 - ان عدم الاشتراك مخالف لظاهر ادلة الاحكام حيث انها تقتضي بمقتضى اطلاقها اشتراك الاحكام بين جميع الناس.

ص: 46


1- ولوضوح بطلانه ينقل صاحب المعالم في كتابه ان كل واحدة من فرقتي الاشاعرة والمعتزلة تبرأت منه ونسبته الى الفرقة الاخرى.

2 - ان عدم الاشتراك مخالف للادلة المستفيضة (1) الدالة على الاشتراك.

قوله ص 19 س 11 واحكام الشريعة تكليفيّة ووضعيّة : فحرمة الخمر التي هى حكم تكليفي تعم الجميع كما وان نجاسته التي هي حكم وضعي تعم الجميع ايضا.

قوله ص 19 س 11 في الغالب : التعبير بالغالب اشارة الى ان بعض الاحكام لا تعم الجاهل كوجوب القصر والاتمام والجهر والاخفات ، ومن هنا وقع بحث بين الاصوليين في توجيه اختصاص الحكمين المذكورين بالعالم بعد ما تقدم من استحالة الاختصاص لمحذور الدور.

قوله ص 20 س 4 وفقا لطبيعة العلاقة بين الحكم وموضوعه : العلاقة بين الحكم وموضوعه هي علاقة العلية والمعلولية ، فالحكم معلول والموضوع علة ، ولازم ذلك تقدم الموضوع على الحكم وتوقف الحكم على الموضوع ، لان العلة متقدمة على المعلول والمعلول متوقف على العلة. وقد تقدم في الحلقة الاولى ص 127 س 13 الاشارة الى طبيعة العلاقة هذه.

قوله ص 20 س 7 المجعول فيه : الانسب حذف كلمة فيه.

قوله ص 20 س 9 في الشبهة الحكمية او الموضوعية : اذا كان الحكم المشكوك كليا فالشبهة حكمية ، كالشك في حكم التدخين ، فان الشك فيه شك في الحكم الكلي للتدخين الكلي ، واذا كان المشكوك حكما جزئيا فالشبهة موضوعية كالشك في ان هذا الحيوان المعين ذكّي اولا.

قوله ص 20 س 11 والادلة : اي الامارات.

ص: 47


1- دعوى استفاضة الاخبار باشتراك الاحكام ذكرها الشيخ الاعظم في رسائله وعهدة ذلك عليه.

قوله 20 س 14 وفي مقابلة : الصواب وفي مقابله. اي في مقابل مسلك التخطئة مسلك آخر يسمى مسلك التصويب.

قوله ص 20 س 16 له : اي لله سبحانه.

قوله ص 20 س 16 من حيث الاساس : اي ابتداءا وبقطع النظر عن الامارة.

قوله ص 20 س 17 عنها : اي عن الادلة والاصول.

قوله ص 21 س 1 مخفّفة : اي اقل محذورا.

قوله ص 21 س 2 من حيث الاساس : اي بقطع النظر عن الامارة.

ص: 48

الحكم الواقعي والظاهري

ص: 49

ص: 50

الحكم الواقعي والظاهري :

قوله ص 21 س 12 ينقسم الحكم الشرعي ... الخ : تقدم في الحلقة الثانية ص 18 ان الحكم الشرعي ينقسم الى قسمين واقعي وظاهري ، فان الحكم اذا كان ثابتا للشيء من دون تقييد بالشك او بالاحرى بعدم العلم فهو واقعي ، وان كان مقيدا بذلك فهو ظاهري.

مثال الأول : وجوب الصلاة ، فانه ثابت للصلاة من دون اي قيد ، وهكذا مثل وجوب الحج وحرمة السرقة وو ...

ومثال الثاني : الاصول العملية والامارات ، فان اصالة الاباحة مثلا تثبت الاباحة عند عدم العلم بالحكم الواقعي ، وهكذا الامارة فانها حجة عند عدم العلم بالواقع.

والابحاث عن الحكم التي تقدمت منا سابقا كنا نقصد منها التحدث عن خصوص الحكم الواقعي ، وبقي علينا التحدث عن الحكم الظاهري ، ولكن قبل ختم الحديث عن الحكم الواقعي نشير الى قضية ترتبط به وهي : ان للحكم الواقعي - على ما تقدم في الحلقة الثانية - مرحلتين :

أ - مرحلة الواقع المعبر عنها بمرحلة الثبوت.

ب - مرحلة الابراز والاظهار المعبر عنها بمرحلة الاثبات.

وفي مرحلة الثبوت يمر الحكم بادوار ثلاثة فانه لا بد من فرض المصلحة

ص: 51

اولا ثم الارادة ثانيا (1) وفي الدور الثالث يحكم المولى ويعتبر الحكم في ذمة المكلّف.

واذا اردنا استيضاح هذه الادوار اكثر امكننا مراجعة القوانين المدينة ، فان الدولة اذا ارادت اصدار قانون فاولا تلحظ المصلحة في تشريع القانون ، وبعد احرازها لذلك يحصل لديها ارادة نحوه ثم في الدور الثالث تأخذ بالحكم وجعل القانون ، وبتمامية هذه الادوار تعلن عن القانون في الصحف والجرائد ، ان الادوار الثلاثة الاولى هي التي تمثل ادوار مرحلة الثبوت ، والدور الرابع (2) هو الذي يمثّل مرحلة الاثبات.

والذي نريد التحدث عنه الآن هو الدور الثالث ، وهو دور جعل الحكم المعبر عنه بالاعتبار ، ان جعل الحكم واعتبار الفعل في ذمة المكلف تعبيران مترادفان. وللاعتبار ثلاث خصائص هي :

أ - ان الحكم في عالم الثبوت وان كان بحاجة الى الادوار الثلاثة السابقة الاّ ان المهم منها هو الاولان ، فبدون المصلحة والارادة لا يكون للحكم حقيقة وروح ، فان روح الحكم وحقيقته تكمن في المصلحة والارادة ، واما الاعتبار فهو اجنبي عن ذلك ، ودوره دور العامل المنظّم والصياغي للحكم ، فالاعتبار صياغة للحكم ومنظم له وليس وجوده ضروريا في حقيقته.

ومن نتائج هذا الفرق بين الدورين الاولين والثالث ان العبد لو اطّلع على

ص: 52


1- حذفنا كلمتي المفسدة والكراهية خوف التشويش ، ويعبر عن المصلحة والمفسدة بملاك الحكم ، كما ويعبر عن مجموع الدورين الاولين بمبادىء الحكم ، فاذا قيل مبادىء الحكم فالمراد المصلحة والمفسدة والارادة والكراهة.
2- اي الاعلان عن ذلك في الصحف والجرائد.

ارادة المولى لشيء يشتمل على مصلحة من دون ان يجعل الحكم ويعتبره في ذمته كما لو صرّح وقال : « اني اريد منك الاتيان بالماء » كفى ذلك في وجوب الامتثال ، فان العبارة المذكورة وان كانت لا تبرز الاعتبار بل الارادة فقط بيد انها كافية في وجوب الامتثال.

ب - ان الاعتبار قد لا يستعمله المولى - وان كانت الاستعانة به هي الطابع العام - كما هو الحال في الاحكام الموجهة الى افراد معيّنة مثل قول المولى لعبده اريد منك الماء ، فان الحكم المذكور موجه لفرد معين ، وهذا بخلاف الاحكام التي لها طابع العمومية والشمول فانه يستعان عادة فيها بالاعتبار كقوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ... ) فان الآية الكريمة واضحة في جعل الحكم واعتباره في ذمة كل مستطيع ، ومثل : كل من بلغ السن القانوني فعليه خدمة العلم او كل من بلغ السن الشرعي وجب عليه الصوم والصلاة وو ...

ج - ان المصلحة اذا اقتضت شيئا معينا واراده المولى ففي مقام جعل الحكم قد يحكم بوجوب نفس ذلك الشيء الذي تمركزت فيه المصلحة والارادة - وهذه الصورة هي الغالبة - وقد لا يحكم بوجوب ذلك الشيء وانما يحكم بوجوب مقدمته التي تؤدي اليه. اذن ليس من اللازم تعلق الوجوب والاعتبار بنفس ما فيه المصلحة والارادة بل قد يتعلقان بمقدمته ، كما هو الحال في الزواج ، فان العلقة الزوجية هي التي يريدها الشارع وفيها المصلحة ولكنه في مقام جعل الحكم قد يقول المولى يجب العقد الذي هو كما نعلم سبب مؤد الى العلقة الزوجية وليس نفسها.

ومثال آخر يأتي من السيد الشهيد نفسه الاشارة اليه ص 372 ، فان المشهور حينما عرّفوا الواجب الغيري بانه عبارة عن الواجب الذي وجب لاجل

ص: 53

واجب آخر اشكل عليهم بان لازم التعريف المذكور صيرورة جميع الواجبات واجبات غيرية ، فان الصلاة مثلا وجبت لاجل فائدة معينة ، وهي الانتهاء عن الفحشاء والمنكر ، وهذه الفائدة واجبة التحصيل - والاّ فكيف وجبت الصلاة - ولازم ذلك ان تكون الصلاة قد وجبت لاجل واجب آخر وهو الفائدة.

ان هذا الاشكال اجيب عنه بان الانتهاء عن الفحشاء وان كان محبوبا ومرادا للشارع المقدس الاّ ان الوجوب لم يتعلق به وانما تعلق بالصلاة ، فالشارع لم يقل يجب الانتهاء عن الفحشاء بل قال : اقيموا الصلاة ، وما دام الوجوب والاعتبار لم يتعلق بالفائدة فلا يصدق على الصلاة انها وجبت لاجل واجب آخر.

وباختصار : ان الوجوب والاعتبار قد يتعلق بشيء آخر غير ما تمركزت فيه الارادة والمصلحة ، اذ المولى بعد ان كان له حق الطاعة علينا فله الحق في تحديد المركز الذي تجب اطاعته فيه ، فلربما يجعل المركز نفس ما فيه المصلحة والارادة ولربما يجعله المقدمة الى ذلك التي هي ليست مراده بالاصالة ، والى هنا ينتهي الحديث عن الاحكام الواقعية ويقع بعد ذلك عن الاحكام الظاهرية.

قوله ص 21 س 13 حكم شرعي مسبق : المراد من الحكم المسبق هو الحكم الواقعي فان الحكم الظاهري مجعول عند الشك في الحكم الواقعي.

قوله ص 21 س 14 الاحكام الواقعيّة : مفعول به لكلمة نقصد.

قوله ص 22 س 2 ليس عنصرا ضروريا : يوجد كلام في عدد مراحل الحكم فالشيخ العراقي في بدائع الافكار ص 325 ذهب الى ان حقيقة الحكم هي الارادة المسبوقة بالمصلحة فوجوب الصلاة مثلا عبارة عن ارادة الصلاة ، والاعتبار ليس واحدا من مراحل الحكم ، وعبارة الكتاب لا تنفي كون الاعتبار

ص: 54

واحداً من مراحله وانما تنفي ضرورته ، فالحكم اعتبار شرعي بيد ان روحه المقومة له هي المصلحة والارادة دون الاعتبار ، وانما يستعين الحاكم به لتعيين مصب حق الطاعة.

قوله ص 22 س 3 بل يستخدم غالبا : كلمة غالبا المستعملة هنا وبعد سطر يشير بها قدس سره الى الخصوصية الثانية من الخصوصيات الثلاث للاعتبار.

قوله ص 22 س 4 الذي يقوم الاعتبار : في العبارة شيء من التأمل ، والمناسب ان يقال : ونريد ان نشير الآن الى حقيقة العنصر الثالث الذي هو الاعتبار ، والتعبير بكلمة غالبا في غير محله ، فان كون العنصر الثالث هو الاعتبار دائمي وليس غالبيا وانما الغالب الاستعانة بالاعتبار.

ص: 55

ص: 56

الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية

اشارة

ص: 57

ص: 58

الجمع بين الاحكام الظاهرية والواقعية :

قوله ص 23 س 1 واما الاحكام الظاهرية ... الخ : وقع كلام بين الاصوليين في ان الشارع هل يمكنه جعل الامارة والاصل العملي حجة (1) او لا؟ نسب الى ابن قبة - الذي هو احد علمائنا المتقدمين - استحالة ذلك ، فخبر الثقة مثلا لا يمكن جعله حجة لما يأتي من محاذير.

والمحاذير وان سجلها ابن قبة بلغته القديمة ، بيد انها بمرور الزمن هذّبت ومنهجت بما نراه اليوم.

كما وان المحاذير التي سننقلها لم يذكرها ابن قبة جميعا ، وانما ذكر بعضها واضيف اليه بعد ذلك بعض آخر.

وترجع حصيلة المحاذير الى ان الحكم الظاهري يتنافى والحكم الواقعي ولا يجتمع معه ، ومن هنا فاللازم لدفع هذه المحاذير التوفيق الكامل بين الحكم الظاهري والواقعي بحيث يمكن اجتماع هذا مع ذاك ، ولهذا يطلق الاصوليون على هذا المبحث اسم مبحث الجمع بين الاحكام الظاهرية والواقعية (2).

وقد تفنن الاصوليون في كيفية الاجابة عن المحاذير المذكورة ، وقد تركت

ص: 59


1- والمراد بالحكم الظاهري هنا هو هذه الحجيّة الثابتة للامارة والاصل ، وقد يطلق الحكم الظاهري على الحكم المستفاد من الامارة والاصل.
2- كان من الراجح للسيد الشهيد قبل ذكره لشبهات ابن قبة تسجيل عنوان باسم الجمع بين الاحكام الظاهري والواقعية.

بعض الاجوبة تأثيرها على بعض المسائل الاصولية الاخرى الامر الذي يعطي لهذا المبحث اهميته حتى عبّر السيد الشهيد قدس سره عن هذه المحاذير في مجلس درسه الشريف بأنها حرّكت عجلة علم الاصول.

وتلك المحاذير او الشبهات ثلاث :

1 - تقدم في البحث السابق ان الاحكام الواقعية مشتركة بين الجميع ، ولازم ذلك اجتماع المثلين او الضدّين ، فان الحكم الواقعي لصلاة الجمعة اذا كان هو الوجوب مثلا وادّت الامارة التي اخذ بها المكلّف الى الوجوب ايضا لزم اجتماع المثلين على صلاة الجمعة : الوجوب الواقعي والوجوب الظاهري. وان ادّت الامارة الى الحرمة لزم اجتماع الضدين : الوجوب الواقعي والحرمة الظاهرية.

وهذه الشبهة تسمى بشبهة التضاد وهي مبنية على القول باشتراك الاحكام الواقعية ، اما على القول بالتصويب - بمعنى خلو الواقع عن الحكم في الجاهل - فلا تتم كما هو واضح.

وقد تقول ما المحذور في اجتماع الحكمين المتضادين او المتماثلين ما دام احدهما واقعيا والآخر ظاهريا وانما المحذور - كما تقدم في الحلقة الثانية ص 20 - يختص بما اذا كان الحكمان واقعيين او ظاهريين؟

والجواب : ان ما تقدم في الحلقة الثانية كان جوابا مؤقتا والاّ فمجرد كون احد الحكمين ظاهريا والآخر واقعيا لا يزعزع من المشكلة شيئا ، فان كل واحد من الحكمين ما دام ناشئا عن مبادىء خاصة به فيلزم من اجتماع الحكمين اجتماع المصلحتين او المفسدتين او المصلحة والمفسدة ، وهذا المحذور يعمّ حالة ما اذا كان

ص: 60

احد الحكمين ظاهريا او واقعيا كما هو واضح.

اجل اذا كان يقصد من دعوى نفي المحذور في اجتماع الحكمين ما دام احدهما واقعيا والآخر ظاهريا معنى ادق - بأن يكون المقصود ان الحكم الواقعي ناشىء عن مصلحة ثابتة في صلاة الجمعة والحكم الظاهري لم ينشأ من مصلحة اخرى مغايرة للاولى كما يأتي توضيحه في الجواب الثالث - كان ما ذكر وجيها.

2 - ان صلاة الجمعة اذا كانت محرمة واقعا وادّت الامارة الى اباحتها لزم ترخيص المكلف في اداء الجمعة وبالتالي في ارتكاب المفسدة وهو قبيح ، وان كانت الجمعة واجبة واقعا وادّت الامارة الى عدم وجوبها لزم الترخيص في ترك المصلحة وهو قبيح ايضا ، وتسمى هذه الشبهة بشبة نقض الغرض.

3 - ان صلاة الجمعة اذا كانت واجبة واقعا وفرض ان المكلّف لم يكن عالما بذلك ولم تقم امارة عليه فلا اشكال في عدم صحة عقابه على تركها لقاعدة « قبح العقاب بلا بيان » بناء على المسلك المشهور. وهذا واضح ، ولكن لو فرض ان المكلّف لم يحصل له العلم بالوجوب وانما قامت لديه الامارة التي جعلها الشارع حجة فهل في مثل هذه الحالة يستحق العقاب لو ترك الجمعة؟

المشهور بين الاعلام هو الاستحقاق ، ولكن المناسب عدم ذلك اذ اقصى ما تفيده الامارة هو الظن بوجوب الجمعة دون العلم كما يستحق العقاب على مخالفته (1). ومع عدم استحقاقه يكون جعل الحجيّة للامارة لغوا ، اذ قبل جعلها حجة لا استحقاق للعقوبة عند المخالفة ، وبعد جعلها حجة كذلك.

وقد تقول : لماذا لا نلتزم بالتخصيص وان المكلّف يقبح عقابه بلا بيان الاّ اذا قامت الامارة؟

ص: 61


1- من الواضح ان المقصود من البيان في قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو خصوص العلم.

والجواب : ان قاعدة قبح العقاب قاعدة عقلية ، والقاعدة العقلية لا تقبل التخصيص لأنّ العقل لا يحكم بحكم عام الا بعد عموم العلّة ، ومع عموم العلّة كيف يمكن التخصيص.

وتسمى هذه الشبهة الثالثة بشبهة تنجّز الواقع المشكوك.

شبهة التضاد :

اشارة

وقد سجّل قدس سره ثلاثة اجوبة عن الشبهة الاولى وهي :

الجواب الأوّل :

ما ذكره الشيخ النائيني قدس سره وقبل بيانه لا بدّ من تقديم مقدمة حاصلها انه وقع تساؤل في المقصود من الحجيّة فماذا يقصد من كلمة حجة في قولنا جعل الشارع خبر الثقة حجة؟ ان في ذلك مسالك ثلاثة :

أ - ان خبر الثقة لا يفيد الاّ الظنّ ، والشارع بجعله الحجيّة له يرفعه الى درجة العلم والطريق التامّ بعد ان كان طريقا ناقصا.

وبكلمة اخرى : اذا كان احتمال عدم اصابة الخبر للواقع بدرجة 30% فالشارع بجعله الحجيّة له يلغي هذا الاحتمال ويرفعه الى درجة 100% ، ويسمى هذا المسلك بمسلك جعل العلمية او الطريقية او تتميم الكشف ، وهو يلوح من كلمات الشيخ الاعظم في رسائله واختاره صريحا الشيخ النائيني والسيّد الخوئي.

ب - ان الوجوب الواقعي لصلاة الجمعة مثلا بما انه مجهول لا يكون منجزا ولكن اذا دلّ خبر الثقة عليه وجعله الشارع حجة صار منجّزا ، فحجيّة الامارة اذن عبارة عن جعلها منجّزة للواقع بمعنى استحقاق العقوبة على المخالفة ، واختار

ص: 62

هذا المسلك الآخوند في بعض عبائر الكفاية (1).

ج - ان الامارة اذا قالت : صلاة الجمعة واجبة مثلا جعل الشارع وجوبا ظاهريا لصلاة الجمعة فكل ما تقوله الامارة يجعل الشارع مماثله ، ويسمى هذا المسلك بمسلك جعل الحكم المماثل.

وهناك فارق مهم بين المسلكين الاولين والمسلك الثالث ، فالاخير يتضمن جعل حكم بينما المسلكان الاولان لا يتضمّنان ذلك وانما يتضمّنان جعل العلمية او المنجّزيّة لا اكثر.

وبعد الفراغ من المقدمة المذكورة نعرج على جواب الميرزا.

انه يقول : انّ اشكال اجتماع المثلين او الضدّين ينشأ من تفسير الحجيّة بالاحتمال الثالث ، اذ بناء عليه اذا قامت الامارة على وجوب الجمعة او حرمتها نشأ حكم مماثل لما تقوله ويلزم اجتماعه مع الحكم الواقعي.

هذا ولكن الصحيح تفسيرها بالاحتمال الاول : اي جعلها علما وطريقا من دون ان يثبت على طبقها حكم جديد ليلزم عند اجتماعه مع الحكم الواقعي محذور اجتماع المثلين او الضدّين (2) - هذا جواب النائيني -.

وقريب منه جواب الآخوند في الكفاية حيث قال : ان معنى جعل الحجيّة هو جعل المنجزيّة من دون جعل حكم على طبقها حتى يلزم محذور اجتماع المثلين ، اذن جواب النائيني لا يختلف عن جواب الآخوند من حيث الروح سوى ان الأول فسّر الحجيّة بالمسلك الاوّل ، بينما الثاني فسّرها بالمسلك الثاني.

ص: 63


1- لكن يظهر من بعضها الآخر المسلك الثالث.
2- وقد استفاد الميرزا من مسلك جعل العملية فوائد كثيرة في مسائل اصولية اخرى كما سيتّضح انشاء اللّه.

وقد تسأل : لماذا فسّر النائيني الحجيّة بجعل العلمية دون المنجزيّة كما اختاره الآخوند مع ان تفسيرها بذلك لعله اقرب الى الصواب ، فان المولى حينما يجعل شيئا معيّنا حجّة فلا يقصد من ذلك الا جعله موجبا لاستحقاق العقوبة على تقدير المخالفة؟

والجواب : ان النكتة تكمن في ان الامارة لا تفيد الاّ الظن فكيف يجعلها المولى منجّزة وموجبة لاستحقاق العقوبة والحال ان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ترفض ذلك ، ان الامارة ما دامت لا تفيد العلم فلا يمكن ان يجعلها المولى موجبة لاستحقاق العقوبة ، فلا بد اوّلا من جعل الامارة علما لتصير مخالفتها بعد ذلك موجبة لاستحقاق العقوبة ، فانه مع العلم تصح العقوبة سواء كان العلم علما حقيقيا ام كان ظنا رفع الى درجة العلم.

واورد السيد الشهيد قدس سره على هذا الجواب الاول بأن الميرزا يتصوّر ان المشكلة تنشأ من اجتماع حكمين ولذا حاول تفسير الحجيّة بالعلمية لكي لا يلزم ذلك ، بيد ان الصحيح انها لم تنشأ من ذلك ، اذ مجرد اجتماع حكمين لا محذور فيه فان الحكم مجرد اعتبار ، واجتماع الاعتبارين امر معقول حتى في صورة تنافي متعلقهما ، فيمكن ان يعتبر وقت واحد ليلا ونهارا ، وهكذا في مقامنا يمكن اعتبار صلاة الجمعة واجبة ومحرمة في وقت واحد ، وانما المشكلة تنشأ من اجتماع المصلحتين والمفسدتين او المصلحة والمفسدة ، فان الحكم الواقعي بوجوب الجمعة ناشىء عن مصلحة فيها وحجيّة الامارة ناشئة عن مصلحة اخرى فيها ايضا فيلزم اجتماع المصلحتين ، ان المشكلة تكمن هنا لا في اجتماع الحكمين بما هما اعتباران حتى يحاول تغيير الحجيّة من جعل الحكم المماثل الى جعل الطريقية ، ونحن نقول للميرزا ان حجيّة الامارة اذا كانت ناشئة من مصلحة اخرى في صلاة

ص: 64

الجمعة فيلزم اجتماع المصلحتين سواء فسرنا الحجيّة بجعل الحكم الظاهري المماثل ام بجعل الطريقية ، وان لم تكن ناشئة من ذلك - بان فرض مثلا نشوؤها عن مصلحة في نفس الجعل اي في نفس جعل الحجيّة للامارة لا من مصلحة في صلاة الجمعة - فلا مشكلة حتى وان فسرنا الحجية بجعل الحكم المماثل اذ لا يلزم اجتماع مصلحتين في صلاة الجمعة بل تكون احداهما ثابتة فيها والاخرى في جعل الحجيّة للامارة.

قوله ص 23 س 2 وجّهت فيه عدة اعتراضات للحكم الظاهري : المقصود من الحكم الظاهري هو حجيّة الامارة والاصل ، فان نفس الحجيّة هي الحكم الظاهري.

قوله ص 23 ص 6 فان الحكم الظاهري المجعول على الشاك : المقصود من الحكم الظاهري هنا الحكم الذي تؤدي اليه الامارة.

قوله ص 23 س 11 اذا لم يعط مضمونا محددا : المقصود من المضمون المحدد هو تفسير الحكم الظاهري بشكل لا تكون له مصلحة مستقلة مغايرة لمصلحة الحكم الواقعي كما يأتي ايضاح ذلك في الجواب الثالث.

قوله ص 24 س 5 ومصحّحا للعقاب ... الخ : عطف تفسير.

قوله ص 24 س 11 اشكال التضاد : اي والتماثل ، وحذف اختصارا.

قوله ص 25 ص 6 بالاعتبار : متعلّق بجعله : اي جعله بسبب الاعتبار علما وكاشفا تاما.

قوله ص 25 س 8 وذلك لأن المقصود : تعليل لقوله لان الصحيح ان معنى جعل ... الخ ، اي انما فسرنا حجيّة الامارة بجعل العلمية دون المنجزيّة لان ... الخ.

قوله ص 26 س 4 مهما كانت الصيغة الاعتبارية لجعل الحكم الظاهري : اي

ص: 65

ولو كانت هي جعل الحكم المماثل لمضمون الامارة.

قوله ص 26 س 5 ولو بافتراض ... الخ : اي اما يفرض انّه لم ينشأ من مصلحة مستقلة خاصة به او يفرض نشوؤه من مصلحة خاصة به ولكنها غير قائمة بالمتعلق بل بنفس الجعل كما يختار ذلك - قيام المصلحة باصل الجعل - السيد الخوئي دام ظله.

قوله ص 26 س 7 سواء جعل هذا : اي الحكم الظاهري وهو حجيّة الامارة.

الجواب الثاني :

ما ذكره السيّد الخوئي دام ظله من ان صلاة الجمعة إن كانت حراما واقعا مثلا ودلت الامارة على وجوبها فسوف يجتمع حكمان : الحرمة الواقعيّة والوجوب الظاهري ، وهذان الحكمان ليس بينهما تناف بل كمال الألفة ، اذ سبب التنافي لا يخلو من احد امور ثلاثة كلها لا تصلح لذلك :

أ - ان ينشأ التنافي من نفس كون احد الحكمين وجوبا والآخر حرمة ، حيث ان الوجوب والحرمة بما هما وجوب وحرمة متنافيان.

ويرده : ان الوجوب ليس الاّ اعتبار الفعل في ذمة المكلّف والحرمة ليست الاّ اعتبار عدم الفعل ، وواضح ان اعتبار الامرين المتنافيين معقول فان الاعتبار سهل المؤونة ، فيمكن ان نعتبر انسانا معينا رجلا وامرأة في وقت واحد ، او نعتبر وقتا واحدا ليلا ونهارا وهكذا.

ب - ان يكون التنافي من حيث المبادىء فالوجوب بما انه ناشىء عن مصلحة والحرمة عن مفسدة يحصل التنافي بينهما حيث يلزم اجتماع المصلحة

ص: 66

والمفسدة في شيء واحد.

ويرده : ان الحرمة الواقعية وان كانت ناشئة عن مفسدة في صلاة الجمعة الا ان الوجوب الظاهري ليس ناشئا عن مصلحة فيها بل عن مصلحة في نفس الجعل فلا يلزم اجتماع المصلحة والمفسدة في شيء واحد. والنكتة المهمّة في هذا الجواب تتمركز هنا اي في افتراض ان مصلحة الحكم الظاهري قائمة في جعله وانشائه دون متعلقه.

ج - ان يكون التنافي ناشئا من اقتضاء كل منهما امتثالا يتنافى وما يقتضيه الآخر ، فالوجوب يقتضي الاندفاع الى فعل الجمعة بينما الحرمة تستدعي الانسحاب عنه ، فيلزم ان يكون المكلّف في آن واحد مدفوعا الى الفعل ومسحوبا عنه وهو غير ممكن.

ويرده : ان لازم الاخذ بالحكم الظاهري كون الحكم الواقعي مجهولا - اذ مع معلوميّته لا تصل النوبة الى الحكم الظاهري - ومع جهالته فلا يستدعي امتثالا (1) وينحصر الامتثال بالحكم الظاهري.

وببطلان الاسباب الثلاثة للتنافي يصبح اجتماع الحكمين الواقعي والظاهري وجيها.

ويرد الجواب الثاني : اولا : ان الحكم الذي لا مصلحة في متعلقه ليس حكما بحسب الحقيقة ، وكيف يكون حكما والمولى لا يهتم بامتثاله ، اذ غرضه يحصل بمجرد صدور الالفاظ وتحريك لسانه باصدار الحكم ، فان هذا هو معنى ثبوت المصلحة في اصل الجعل ، ان حكما من هذا القبيل لا نعرف له مثيلا في الحياة العقلائية ولا يمكن صدوره من العاقل ، ومن نقض بالاوامر الامتحانية كان جوابه

ص: 67


1- اذ امتثال الحكم فرع العلم به.

ان الغرض في الاوامر الامتحانية لا يحصل بمجرد انشاء الحكم ، بل امتثال الحكم وعدمه ذو دور فعال اذ بذلك يتم التعرف على حال الشخص.

وثانيا : لو فرض ان عاقلا امكن صدور الحكم المذكور منه - كما لو فرض ان شخصا قال له آخر : متى ما اصدرت الحكم المذكور وحرّكت لسانك به فلك جائزة - فمثله لا يجب امتثاله اذ بعد عدم المصلحة في صدوره وعدم اهتمام المولى بذلك فلا يلزم العقل بامتثاله.

وباختصار : ان لازم قيام المصلحة في جعل الحكم الظاهري محذوران : سلخ حقيقة الحكم عن الحكم الظاهري وعدم وجوب امتثاله ، وذلك مما لا يمكن الالتزام به ، فان الحكم الظاهري حكم حقيقة ولذا احتجنا الى التوفيق بينه وبين الحكم الواقعي كما ويلزم امتثاله عقلا.

ومع كل هذا فالجواب المذكور جيد من ناحية وان كان قابلا للتأمل من اخرى ، فهو جيد حيث لم يفرض نشوء الحكم الظاهري من مصلحة في صلاة الجمعة ، وقابل للتأمل حيث فرض تمركز المصلحة في اصل الجعل ، اذن نحن بحاجة الى تصوير الحكم الظاهري بشكل لا تكون مصلحته متمركزة في صلاة الجمعة كما ولا تكون قائمة بأصل الجعل ، وهذا ما سوف نقوم به في الجواب الثالث.

قوله ص 27 س 2 ولا متطلبات عملية : عطف تفسير على سابقه.

قوله ص 27 س 13 يعني تفريغها ... الخ : هذا اشارة الى الايراد الاول ، وقوله ومن اثره عقلا : اشارة الى الايراد الثاني.

قوله ص 27 س 13 ومن اثره عقلا : وهو وجوب الامتثال واستحقاق العقوبة على مخالفته.

ص: 68

الجواب الثالث :
اشارة

وهو الجواب المطروح من قبل السيد الشهيد (1).

وحاصله : انا نعلم ان الشارع المقدّس شرّع شكلين من الاحكام الواقعيّة : المحرمات والمباحات : فحكم على الخمر بالحرمة وعلى الخل بالحليّة. والمكلّف تارة يحصل له العلم بان هذا المسائل خمر فيحكم بحرمته واخرى يحصل له العلم بخليته فيحكم بأباحته ، ولكن ما هو الموقف حالة الشك؟ فاذا واجه المكلّف سائلا يشك في انه خل او خمر فالشارع لا بدّ وان يحدد موقفه اتجاه حالة الشك هذه ، ولاجل ان يتجلى المطلب اكثر افرض نفسك المشرع وافرض انك حكمت بحرمة الخمر وحلية الخل وسألك عبدك عن حكم السائل المشكوك فجوابك لا يخلو من احد شقّين :

أ - ان تقول له : ضع السائل المشكوك امامي لا شخّص انه خمر او خل ، او يفرض ان اللّه سبحانه يلهم العبد بالواقع ، وهذا الطريق ليس عمليا وميسرا فلا بدّ من التفتيش عن طريق آخر.

ب - ان تجرى عملية موازنة بين مصلحة الخل ومفسدة الخمر فان رأيت المفسدة اقوى اصدرت قرارا عاما بلزوم الاجتناب عن كل مشكوك تخفّظا منك على التجنّب عن المفسدة التي هي اهم وان لزم من ذلك التضحية بمصلحة الخل فيما لو كان المشكوك خلا واقعا ، وان فرض العكس بان فرض اهميّة مصلحة الخل اصدرت قرارا عاما باباحة كل مشكوك تحفّظا على مصلحة الخل وان لزم من

ص: 69


1- والجواب المذكور شكّل خطا له تأثيره في المسائل الاخرى وسوف نرى فيما بعد يذكر قدس سره انه بناء على مختارنا في الجواب عن شبهة التضاد يلزم ان تكون النتيجة كذا وبناء على مسلك غيرنا تكون النتيجة شيئا آخر ، ومن هنا كان لهذا الجواب اهميّته الكبرى.

ذلك الوقوع في المفسدة فيما لو كان المشكوك خمرا واقعا.

وذاك القانون بحرمة كل مشكوك الذي هو عبارة اخرى عن جعل اصالة الاحتياط او ذاك القانون باباحة كل مشكوك الذي هو عبارة اخرى عن جعل اصل البراءة هو ما يصطلح عليه بالحكم الظاهري ، فاذا سئلنا عن حقيقة الحكم الظاهري كان الجواب انه الحكم الثابت حالة الشك الناشىء بسبب تقديم الملاك الاهم.

ولو فتّشنا عن ملاك الحكم الظاهري باباحة المشكوك او حرمته وجدنا ان ملاكه نفس ملاك الحكم الواقعي بمعنى ان مفسدة الخمر التي هي الملاك لتشريع الحرمة الواقعية هي بنفسها الموجب لتشريع الحكم الظاهري بحرمة كل مشكوك ، فهي على هذا سبب لنشوء حكمين ، فانها سبب للحكم الواقعي بحرمة الخمر وسبب للحكم الظاهري بحرمة كل مشكوك.

ومن هنا اتضح توجيه المقالة السابقة وهي ان ملاك الحكم الظاهري لا يغاير ملاك الحكم الواقعي بل هو هو.

وبهذا البيان يندفع الاشكال الاول لابن قبة حيث كان يقول : ان تشريع حجيّة الامارة والاصل يلزم منه اجتماع حكمين : الواقعي والظاهري ، ووجه الاندفاع : ان الاجتماع المذكور لا محذور فيه ، فان الحكمين بما هما اعتباران لا تنافي بينهما لسهولة مؤونة الاعتبار ، وان لا حظنا مبادىء الحكمين فلا اجتماع لها ، حيث ان الحكم الظاهري ليس له مبادىء مستقلّة ليلزم اجتماع المبدأين المتماثلين او المتضادين ، كما ولا يلزم صيرورة الشيء الواحد محبوبا ومبغوضا ، فان الخل الواقعي محبوب واقعا ولا يلزم بجعل الحرمة على السائل المشكوك صيرورته - الخل الواقعي - مبغوضا ، فان الحكم المذكور لم ينشأ عن مبغوضية الخل بل هو

ص: 70

وليد الملاك الاهم وهو مفسدة الخمر.

وينبغي الالتفات الى ان الحكم الواقعي باباحة الخل تارة ينشأ من وجود مصلحة في شرب الخل - كمصلحة التسهيل - تقتضي تشريع الاباحة ، وتسمى مثل هذه الاباحة بالاباحة الاقتضائية ، واخرى ينشأ من عدم وجود مفسدة في تناول الخل وعدمه ، ومثل هذه الاباحة تسمى بالاباحة غير الاقتضائية.

وحديثنا السابق كنا نفترض فيه الاباحة اباحة اقتضائية ، ففي حالة تردد الشيء بين كونه مباحا اباحة اقتضائية وبين كونه محرما (1) يقدّم الملاك الاهم ويشرّع الحكم الظاهري على طبقه ، اما اذا كانت الاباحة غير اقتضائية (2) فالقانون الذي يشرّعه المولى لا بد وان يكون هو الحكم بحرمة كل مشكوك ، اذ الاباحة غير الاقتضائية ليس لها ملاك حتى ينشأ المولى الحكم الظاهري على طبقها بل لا بدّ من تشريع حرمة المشكوك لانحصار الملاك بذلك.

وباختصار ان الاباحة اذا لم تكن اقتضائية تعيّن كون الحكم الظاهري هو حرمة المشكوك ، واذا كانت اقتضائية ففيه احتمالان : حرمة كل مشكوك فيما لو كانت المفسدة هي الاهم ، واباحة كل مشكوك فيما لو كانت الاباحة هي الاهم.

هذا حصيلة ما افاده قدس سره ، وهو يصور لنا فيه حقيقة الحكم الظاهري وانه حكم وليد الملاك الاهم ويصور لنا ان مبادىء الحكم الظاهري هي عين مبادىء الحكم الواقعي الامر الذي يضفي على الحكم الواقعي والظاهري كمال الالفة ، والى كل هذا نلمس في الجواب المذكور تطابقه والذوق العقلائي ، فكثيرا

ص: 71


1- من الطبيعي الحرمة لا تكون الاّ اقتضائية ناشئة عن المفسدة ، وهكذا الوجوب لا يكون الاّ اقتضائيّا ناشئا عن المصلحة.
2- هذه الصورة هي التي تعرض لها قدس سره في كلامه اولا.

ما نتداوله في حياتنا الاعتيادية ، وعلى سبيل المثال قد ترغب احيانا في دخول بعض الاصدقاء عليك وتكره دخول بعضهم الآخر ، فاذا دقّ الباب وشككت في الطارق ولم تعلم انه الصديق الاول حتى تفتح له الباب ، او الثاني حتى تبقيها مغلقة ، في مثل هذه الحالة تأخذ بالموازنة بين المصلحة في دخول الاول والمفسدة في دخول الثاني ، فاذا رأيت ان الاولى اهم فتحت الباب او اصدرت امرا بفتحه حالة الشك لكل طارق ، واذا كانت الثانية اعظم اصدرت امرا على العكس. ان الامر الصادر المذكور حكم ظاهري مجعول حالة الشك ولم يتولّد من مصلحة مغايرة للمصلحة الواقعية ، وكم وكم امثلة من هذا القبيل نعاصرها في حياتنا العادية تقوم على اساس الفكرة المذكورة.

قوله ص 28 س 12 فاذا اختلطت المباحات بالمحرمات : ذكر هذا من باب المثال والاّ فالفكرة نفسها تجري حالة اختلاط المباحات بالواجبات او اختلاط الواجبات بالمحرمات.

قوله ص 28 س 14 فلا المباح بعدم تمييز المكلّف ... الخ : يؤكد قدس سره على هذا المطلب اكثر من مرة للاشارة الى ان المباح الواقعي لا يلزم فيه اجتماع المحبوبية والمبغوضية ، وهكذا الحرام الواقعي لا يلزم فيه ذلك ، وباختصار لا يلزم اجتماع المبادىء المتضادة.

قوله ص 29 س 10 وفي مقابل ذلك ان كانت الاباحة ... الخ : هذا يرتبط بقوله : « وواضح ان اهتمامه بالاجتناب عن المحرمات الواقعية يدعوه ... » اي ان الاهتمام بملاك الحرمة يقتضي الحكم بلزوم ترك كل مشكوك ولكن هل يوجد احتمال بديل باباحة كل مشكوك؟ ان الاباحة اذا كانت غير اقتضائية فلا بديل وان كانت اقتضائية كان الاحتمال البديل ثابتا وذلك ما يتعرض له في صدر

ص: 72

صفحة 30 س 1.

الجواب عن الشبهة الثانية لابن قبة :

قوله ص 31 س 3 وبهذا اتضح الجواب ... الخ : ومن خلال ما سبق بتجلى الجواب عن الشبهة الثانية لابن قبة - وهي شبهة نقض الغرض القائلة بان تشريع الحكم الظاهري يستلزم فوات مصلحة الواقع في بعض الحالات - فان فوات مصلحة الواقع لا محذور فيه ما دام ذلك للحفاظ على الملاك الاهم.

الجواب عن الشبهة الثالثة :

والشبهة الثالثة المصطلح عليها بشبهة تنجّز الواقع المشكوك - وهي ان تشريع حجيّة الامارة والاصل لغو وبلا فائدة فان وجوب الجمعة مثلا اذا كان مجهولا قبل دلالة الامارة عليه فبعد دلالتها عليه لا يصح العقاب على ترك امتثاله لانه عقاب بلا بيان اذ بالامارة لا يصبح الواقع معلوما بل مظنونا - تتم على مسلك المشهور القائل بقاعدة قبح العقاب بلان بيان كما هو واضح ولا تتم على مسلك السيد الشهيد الذي يرى ان التكليف المحتمل منجّز ايضا وان لم يكن معلوما.

هذا وقد استفاد الميرزا من مسلكه السابق - وهو تفسير جعل الحجيّة بجعل العلمية - في الرد على هذه الشبهة فانه بقيام الامارة على الواقع المجهول يصبح معلوما ويكون العقاب على مخالفته عقابا مع البيان.

ويرده :

أ - ان الجواب المذكور لو تم - وسيأتي عدم تماميته - فهو انما يتم في

ص: 73

موردين : الامارات والاصول المحرزة ، ولا يتم في الاصول غير المحرزة (1).

اما انه يتم في الامارات فلان المجعول فيها هو العلمية ، وبعد حصول العلم يكون ثبوت العقاب والتنجّز وجيها.

واما انه يتم في الاصول المحرزة كالاستصحاب فلانه فيها ينزل الاحتمال منزلة اليقين فاحتمال بقاء الحالة السابقة ينزل منزلة اليقين ببقائها ويصير المستصحب عالما بالبقاء ، وبعد علمه يكون استحقاقه للعقاب على المخالفة مناسبا.

واما انه لا يتم في الاصول غير المحرزة كاصالة الاحتياط فلانه لم ينزل الاحتمال فيها منزلة اليقين حتى يكون المكلّف عالما ومستحقا للعقاب على المخالفة (2).

ب - ان المحاولة المذكورة في نفسها غير تامة كما سيأتي ذلك من السيد الشهيد ص 81 - 82 من الحلقة.

ص: 74


1- سيأتي في البحث التالي تقسيم الاصل الى المحرز وغير المحرز.
2- ظاهر عبارة الكتاب ان جواب الميرزا يتم في الاصل المحرز كالاستصحاب مثلا مع انه يمكن ان يقال انه لا يتم في مطلق الاصول العملية ، حيث ان الاصول لم تجعل فيها العلمية الا كانت من الامارات ، ومع عدم جعل العلمية لا يصير الواقع معلوما حتى تصح العقوبة على مخالفته. لا يقال : ان الاصل المحرز ينزل فيه الاحتمال منزلة اليقين ، وبذك يصبح مفيدا للعلم. فانه يقال : ان الاحتمال في الاصل المحرز ينزل منزلة اليقين في جانبه العملي دون الاحرازي والا لم يحصل الفرق بين الامارة والاصل المحرز.

الفارق بين الامارات والاصول

اشارة

ص: 75

ص: 76

الامارات والاصول :

اشارة

هناك تساؤل لم يطرح في الكتب الاصوليّة بعنوان مستقل وهو : ما الفارق الاساسي بين الامارات والاصول؟ فانا نعلم ان الامارات والاصول نوعان من الحكم الظاهري - اذ الحكم الظاهري تارة في الامارات واخرى في الاصول ، والثابت في الامارات له خاصية النظر الى الواقع ويحاول احرازه فخبر الثقة اذا قال : صلاة الجمعة واجبة ينظر الى الواقع لاحرازه بينما الحكم الظاهرى في الاصول ليس له نظر الى الواقع لاحرازه ، ومن هنا كان اللازم في الامارة وجود شيء له حيثية النظر الى الواقع والكشف عنه ولو بدرجة ضعيفه حتى يتمم الشارع كشفه ويجعله تاما ، فخبر الثقة اذا كانت له كاشفية في نفسه بدرجة 70% مثلا فالشارع يجعله كاشفا بدرجة 100% بينما في الاصول حيث لا يراد احراز الواقع فلا يلزم وجود ما له نظر وكشف عنه - ولكن بماذا تختلف حقيقة الحكم الظاهري في احدهما عنها في الآخر؟ وقد سجل قدس سره جوابين عن ذلك (1).

ص: 77


1- وقد ذكر قدس سره البحث المذكور مرة ثانية في بداية الجزء الثاني ص 11 وذكر له جوابين آخرين فمجموع الاجوبة على هذا اربعة. وقد تعرض الشيخ الاعظم في الرسائل لهذا المبحث ص ٤٠٨ س ١٦ من الطبعة الحجريّة ، وحاصل ما ذكره ان الشيء اذا كان له كاشفية والشارع جعله حجة لاجل كاشفيته فهو امارة ، وان لم تكن له كاشفية او كانت ولم يجعله حجة لاجلها فهو اصل.
تفرقة الميرزا :

والجواب الاول للميرزا يقول : ان المولى اذا جعل الشيء علما فهو امارة وان لم يجعله علما بل مقررا للوظيفة العملية فهو اصل عملي ، فالفارق يكمن في المجعول فانه في الامارة هو العلمية بينما في الاصول هو الوظيفة العملية.

وقام الميرزا بعد ذلك بتقسيم الاصل الى ثلاثة اقسام :

أ - الاصل التنزيلي.

ب - الاصل المحرز.

ج - الاصل العملي البحت.

والفارق الذي ذكره بين الثلاثة : ان الاصل اذا جعل الوظيفة العملية بلسان تنزيل المشكوك منزلة الواقع فهو اصل تنزيلي كاصالة الطهارة والحلية فان الاولى تقول : « كل شيء لك طاهر حتى تعلم انه قذر » ويستفيد منها الميرزا ان ما يشك في طهارته فهو بمثابة الطاهر الواقعي ، وهكذا الحال في اصالة الحلية.

واذا جعل الاصل الوظيفة العملية بلسان تنزيل الاحتمال منزلة اليقين فهو اصل محرز كما في الاستصحاب ، حيث قد يستفاد من حديث « لا تنقض اليقين بالشك » ان كل من احتمل بقاء الشيء حالة الشك فهو كالمتيقن ببقائه ، فاحتمال البقاء اذن منزّل منزلة اليقين بالبقاء او انّ نفس الاستصحاب منزّل منزلة اليقين.

واذا فرض ان الاصل جعل الوظيفة العملية من دون تنزيل للمشكوك منزلة الواقع ولا تنزيل الاحتمال منزلة اليقين فهو اصل عملي بحت اي لا تنزيلي ولا محرز (1).

ص: 78


1- قد يقال ما الفائدة في هذا التقسيم الثلاثي الميرزائي؟ فهل تترتب ثمرة خاصة بالاصل المحرز لا تترتب على الآخرين؟ ان الفائدة تتجلى في استنباط بعض الاحكام كما يأتي الاشارة الى ذلك في الجزء الثاني من الحلقة ص16- 17.
سؤال وجواب :

ان الاصل المحرز فرض فيه تنزيل احتمال البقاء منزلة اليقين وقد تقول بناء على هذا اي فرق اذن بين الامارة والاصل المحرز ، ففي الامارة جعلت العلمية وفي الاصل المحرز جعلت العلمية ايضا؟

وقد اجاب الميرزا عن ذلك بان كل قطع له خصوصيتان :

أ - كونه كاشفا عن الواقع ومحرزا له.

ب - اقتضاؤه السير في مقام العمل على طبقه ، فمن قطع بوجود سبع في مكان معين فكأنه يرى بعينه وجود السبع في ذلك المكان ، وهذه هي الخصوصية الاولى ، وبسبب ذاك يأخذ بالفرار من ذلك المكان ، وهذه هي الخصوصية الثانية ، فللقطع اذن خصوصيتان (1) : الكاشفية والجري العملي.

وباتضاح هذا يقال : ان الامارة والاصل المحرز وان اشتركا في جعل العلمية الاّ ان الامارة جعلت علما من حيث الخصوصية الاولى فهي تكشف عن الواقع وتحرزه تعبدا بيما الاصل المحرز جعل علما من حيث الخصوصية الثانية فيلزم الجري العملي على وفقه ، ولم يجعل علما من حيث الاحراز.

وعبارة الكتاب لمّحت الى ذلك حينما قالت : « في جانبه العملي لا الاحرازي ».

ص: 79


1- الخصوصيات التي ذكرها الميرزا للقطع اربع ، وانما اقتصرنا على اثنتين منها لعدم الحاجة في المقام لسواهما.
مناقشة الميرزا.

ان تفرقة الميرزا بين الامارات والاصول تبتني على ملاحظة الفاظ الدليل وكيفية الصياغة فان كان التعبير بلسان جعل العملية كان المورد امارة وان كان بلسان جعل الوظيفة العملية فهو الاصل ، وواضح ان الفارق اعمق من ذاك ، انه اعمق من العبائر والالفاظ ، انه فارق جوهري ، فجوهر الامارة غير جوهر الاصل ، ولأن كان هناك فارق بينهما على مستوى الانشاء والصياغة فهو نابع من الفارق الجوهري بينهما بالشكل الذي سنوضحه.

الفارق بنظر السيد الشهيد.

والفارق الجوهري الذي يبرزه قدس سره يبتني على فهم حقيقة الحكم الظاهري ، فقد مرّ انه حكم شرّع على طبق الملاك الاهم حين الاشتباه ، واهمية الملاك التي ينشأ على طبقها الحكم الظاهري لها اشكال ثلاثة :

أ - ان تكون ناشئة بسبب قوة الاحتمال والكشف بقطع النظر عن المحتمل ، والحكم الظاهري في هذا الشكل هو الامارة ، ومثاله : خبر الثقة ، فان الثقة اذا اخبرنا بشيء فالنكتة في الاخذ به هي الكاشفية الثابتة فيه فهو يكشف بدرجة 70% مثلا عما يخبر عنه ، ولاجل ذلك ناخذ به مهما كانت القضية المخبر عنها.

ب - ان تكون ناشئة بسبب قوة المحتمل بقطع النظر عن درجة الاحتمال ، والحكم الظاهري في هذا الشكل هو الاصل العملي البحت ، ومثاله : اصل الحل فمن شك في شيء انه حلال او حرام فالشارع حكم عليه بالحلية سواء كانت

ص: 80

درجة احتمال الحلية اقوى من احتمال الحرمة او اضعف او مساويه ، فالمدار ليس على قوة الاحتمال بل على المحتمل ، فالحلية بما هي حلية ترجّح وان كان احتمالها ضعيفا.

ج - ان تكون ناشئة بسبب قوة الاحتمال والمحتمل معا ، والحكم الظاهري في هذا الشكل هو الاصل العملي التنزيلي وان شئت فعبر عنه بالمحرز (1) ، ومثاله قاعدة الفراغ من الوضوء فمن توضأ وشك بعد فراغه في غسل اليد اليمنى فلا يعتني لشكه ويبني على صحة وضوئه لقوة احتمال غسل اليمنى بشكل صحيح ، فان الانسان عادة لا يفرغ من عمل الاّ بعد اتيانه بجميع اجزائه وشرائطه ، فالفراغ له كاشفية عن غسل اليد اليمنى ، ولكن هل تمام النكتة في الحكم بصحة الوضوء هي الكاشفية المذكورة؟ كلا ، اذ لو كانت هي تمام النكتة فاللازم الحكم بصحة الوضوء حتى لو حصل الشك قبل الفراغ منه فيلزم الشاك في غسل اليمنى عند حصول شكه قبل الفراغ عدم الاعتناء بشكه والبناء على غسل اليمنى فيما اذا كان احتمال غسلها قويا مع انه لم يقل احد بذلك بل يقول الفقهاء بلزوم العود الى اليمنى وغسلها ما دام الشك مفروضا اثناء الوضوء ، ومن هذا نفهم ان قوة الاحتمال وحدها لا تكفي الاّ اذا انضم اليها الفراغ (2).

ومن خلال هذا اتضح ان حقيقة الامارة تتقوم بقوة الاحتمال لا بجعلها علما وطريقا وان كان المناسب للمولى في مقام الانشاء التعبير بقوله : « جعلت الامارة علما » الاّ ان ذلك مجرد مناسبة في مقام التعبير - اذ المناسب لقوة كاشفية الشيء التعبير بجملة جعلته كاشفا وعلما - لا انها هي الاساس الذي تتقوّم به

ص: 81


1- فانه لا فرق في نظر السيد الشهيد بين الاصل التنزيلي والاصل المحرز.
2- اي الاّ اذا انضم اليها قوة المحتمل.

حقيقة الامارة.

كما واتضح ان حقيقة الاصل العملي تكمن في قوة المحتمل لا بجعل الوظيفة العملية وان كان المناسب في مقام التعبير ان يقال « جعلت الحلية وظيفتك العملية » اذ المناسب لملاحظة الحلية بخصوصها التعبير بجملة « جعلت الحلية وظيفتك العملية » الاّ ان هذا ليس هو الاساس المقوم للاصل.

هذه هي التفرقة الاساسية بين الاصل الامارة لا ما ذكره الميرزا (1).

قوله ص 36 س 11 المبني :

الصواب المبنى.

قوله ص 36 س 12 والتوفيق بينه ... الخ :

عطف تفسير على قوله تصوير الحكم الظاهري.

ص: 82


1- ويأتي في اوائل الجزء الثاني من الحلقة انشاء اللّه اعتراض آخر على الميرزا حاصله : ان من اراد التفرقة لا بد وان يفرق بشكل يتناسب والخصوصيات الثابتة لكل من الامارة والاصل لا كيفما شاء. والخصوصية الثابتة للامارة هي حجيتها في اللوازم غير الشرعية بخلاف الاصل فهو ليس حجة في ذلك ، فلو اخبر الثقة بحياة زيد وكان لازم حياته الى حين الاخبار نبات لحيته عادة فانه يثبت بذلك ، بخلاف ما اذا كان اثبات بقاء حياته بالاستصحاب فانه لا يثبت نبات اللحية وبالتالي لا تثبت اللوازم الشرعية المترتبة على ذلك كوجوب التصدق ، فالفارق لا بد من تقديمه بشكل يتناسب وتفسير الخصوصية المذكورة ، وما ذكره الميرزا لا يفي بذلك كما يأتي ايضاحه.

التنافي بين الأحكام الظاهرية

ص: 83

ص: 84

التنافي بين الأحكام الظاهرية :

قوله ص 36 س 5 : عرفنا سابقا ان الاحكام الواقعية ... الخ :

يقصد بهذا البحث طرح التساؤل التالي : هل يمكن للمولى ان يشرّع للشيء المشكوك حكمين ظاهريين اولا؟ فالتدخين الذي يشك في حكمه الواقعي هل يمكن الحكم عليه ظاهرا بالاباحة والحرمة معا؟ والمقصود من التساؤل المذكور البحث عن اصل امكان تشريع الحكمين الظاهريين بقطع النظر عن وصولهما (1) لوضوح ان تشريعهما مع افتراض وصولهما الى المكلّف امر غير ممكن لعدم امكان امتثالهما ، ولذا لا بد من فرض وصول احد الحكمين او عدم وصول شيء منهما.

والجواب عن هذا التساؤل يختلف باختلاف تفسير حقيقة الحكم الظاهري ، اذ تقدم ان السيد الخوئي دام ظله يفسّره بالحكم الناشىء من مصلحة في اصل الجعل بينما السيد الشهيد يفسّره بالحكم الناشىء من نفس مصلحة الحكم الواقعي ، وعلى التفسير الاول يمكن تشريع الحكمين الظاهريين المتنافيين ، اذ المانع من تشريعهما اما :

أ - نفس كونهما حكمين متنافيين ، وجوابه ما تقدم من ان الحكم مجرّد اعتبار ولا محذور في اعتبار امرين متنافيين.

ب - واما اجتماع المبادىء في شيء واحد ، وجوابه ان مبادىء كل حكم ظاهري تقوم بجعله فهذا الحكم الظاهري تقوم مصلحته بجعله وذاك تقوم مصلحته

ص: 85


1- المراد من الوصول العلم.

بجعله ايضا فلا يلزم اجتماع المصلحتين في شيء واحد.

ج - واما عدم امكان امتثالهما ، وجوابه ان المفروض عدم وصول كليهما فلا يحتاجان الى الامتثال معا.

واما على التفسير الثاني فذاك غير ممكن ، لأن الحكم الظاهري هو الحكم الناشىء على طبق الملاك الاهم ، فاذا اريد تشريع كلا الحكمين فلازم ذلك كون الملاك الاهم هو المصلحة والمفسدة معا وهو غير ممكن ، هذا كله بالنسبة للحكم الظاهري.

واما الحكم الواقعي فلا اشكال في عدم امكان تشريع حكمين منه ، فلا يمكن ان يقال : التدخين مباح وحرام واقعا ، لأن ثبوت الاباحة الواقعية يعني وجود المصلحة في التدخين بينما ثبوت الحرمة الواقعية يعني وجود المفسدة فيه فيلزم اجتماع المصلحة والمفسدة في شيء واحد ، ولا يمكن ان يقال هنا بان المصلحة قائمة في هذا الجعل والمفسدة في ذاك الجعل ، فان هذا الكلام يتم في الحكم (1) الظاهري فقط.

ص: 86


1- لهذا المبحث ثمرات تأتي الاشارة لواحدة منها ص 69 من الحلقة.

وظيفة الأحكام الظاهرية

ص: 87

ص: 88

وظيفة الأحكام الظاهرية :

قوله ص 37 س 16 وبعد ان اتضح ان الاحكام الظاهرية ... الخ :

لتوضيح هذا المبحث نطرح التساؤل التالي : اذا فرض ان الحكم الواقعي للتدخين هو الحرمة ودلت الامارة على الحرمة ايضا فلو خالف المكلّف ودخّن فهل يستحق عقابين احدهما على الحرمة الواقعية والآخر على الحرمة الظاهرية او لا يستحق الاّ عقابا واحدا على مخالفة الحرمة الواقعية؟

الصحيح انه لا يستحق الاّ العقاب على الحرمة الواقعية ، لان الحكم الظاهري لم ينشأ عن مصلحة خاصة به مغايرة لمصلحة الواقع حتى توجب مخالفته استحقاق العقاب وانما هو ناشىء عن اهمية مفسدة الحرمة الواقعية وقد شرّع لتنجيزها - الحرمة الواقعية - او للتعذير عنها (1).

وباختصار : وظيفة الاحكام الظاهرية ليست الاّ تنجيز الاحكام الواقعية او التعذير عنها من دون ان تكون موضوعا مستقلا لحكم العقل باستحقاق العقاب ، ومن هنا جاءت العبارة المشهورة : الاحكام الظاهرية احكام طريقية وليست حقيقية بمعنى انها لم تنشأ عن مصلحة خاصة بها كي توجب مخالفتها استحقاق العقاب ، وانما هي مجرد طرق لتنجيز الواقع او للتعذير عنه بخلاف الاحكام الواقعية فانها حقيقية اي هي ناشئة عن مصلحة مستقلة ثابتة فيها.

ص: 89


1- التنجيز مصطلح يطلق عند دلالة الامارة على ثبوت التكليف بينما التعذير يطلق عند دلالتها على الاباحة ونفي التكليف.

وهناك منبّه وجداني يرشد الى ان الاحكام الظاهرية هي احكام طريقية لا توجب مخالفتها استحقاق العقاب ، وهو انها لو كانت موجبة لذلك - اي لاستحقاق العقاب - يلزم في حالة قطع المكلّف بحرمة التدخين مثلا ان تكون حاله فيما اذا خالف ودخن احسن من غير العالم بحرمة التدخين ، اذ العالم لا يوجد في حقه حكم ظاهري بخلاف الجاهل فانه يوجد في حقه فلا بد من عقاب العالم بعقاب واحد وعقاب الجاهل بعقابين وهذا ما يرفضه الوجدان.

قوله ص 38 س 6 وراء مبادىء الاحكام الواقعية :

اي غير مبادىء الاحكام الواقعية. وكلما استعملت كلمة وراء فهي بمعنى غير.

قوله ص 38 س 8 يستقل العقل بلزوم التحفظ ... الخ :

فاذا كنا نعلم بوجوب احدى الصلاتين اما الظهر او الجمعة وحكم الشارع بوجوب الاحتياط ولزوم الاتيان بهما معا فالعقل لا يحكم بلزوم التحفظ على حكم الشارع بوجوب الاحتياط بما هو حكم ظاهري وانما يحكم بلزوم التحفظ على الواجب الواقعي المردد بين الظهر والجمعة ، والمكلّف اذا خالف الاحتياط وترك احدى الصلاتين حكم العقل باستحقاقه العقاب على ترك الواجب الواقعي لا على ترك الاحتياط بما هو حكم ظاهري.

قوله ص 39 س 2 واما الاحكام الواقعية فهي احكام حقيقية ... الخ :

هذا عدل لقوله في الصفحة السابقة « ان الاحكام الظاهرية طريقية لا حقيقية فهي مجرد وسائل ... الخ ».

ص: 90

التصويب بالنسبة الى بعض الأحكام الظاهرية

ص: 91

ص: 92

التصويب بالنسبة الى بعض الاحكام الظاهرية :

قوله ص 39 س 8 تقدم ان الاحكام الواقعية محفوظة ... الخ :

في هذا المبحث يراد التعرض لرأي خاص بالشيخ الآخوند وتلميذه الاصفهاني.

وقبل التعرض له نشير الى مطلب ، وهو انه بناء على الطريقة التي اختارها السيد الشهيد لرد شبهة ابن قبة (1) لا توجد اي منافاة بين الحكمين الواقعي والظاهري بل بينهما كمال الالفة ، وبعد الالفة المذكورة لا يلزم من تشريع الحكم الظاهري في مورد معين التبدل في الحكم الواقعي ، وهذا معناه بتعبير آخر نفي التصويب ، اي لا يلزم من تشريع الحكم الظاهري تبدل الحكم الواقعي.

وبعد معرفة هذا تعرف الجواب عما لو سألك سائل عن وجوب الاعادة لو امتثل المكلّف الحكم الظاهري وانكشف بعد ذاك مخالفته للواقع ، ان الصحيح هو عدم الاجزاء ، فان الحكم الواقعي ما دام باقيا ولم يتغير فمن اللازم امتثاله الاّ اذا قلنا بتبدل الحكم الواقعي الى ما يوافق الظاهري فلا تلزم حينذاك الاعادة لعدم ثبوت الحكم الواقعي حتى يلزم امتثاله.

وبهذا نعرف وجود ملازمة بين القول بالتصويب والقول بالاجزاء ، فكلما

ص: 93


1- وحاصلها ان الاحكام الظاهرية لم تنشأ عن مبادىء خاصة بها بل عن مبادىء الحكم الواقعي ، فالمصلحة الواقعية لحلية الماء مثلا سبب لحكمين : الحكم الواقعي بالحلية والحكم الظاهري بحلية كل سائل مردد بين الماء والخمر.

قيل بالتصويب لا بد من القول بالاجزاء ، وكلما قيل بعدمه فلا بد من القول بعدمه.

وبعد هذه المقدمة نعود الى رأي العلمين الخراساني والاصفهاني ، انهما فصّلا بين الاصل والامارة فالاصل يقتضي امتثاله الاجزاء بخلاف الامارة ، فاذا كنت شاكا في طهارة ثوبك وتمسكت بقاعدة الطهارة وصلّيت فيه وبعد ذلك انكشفت نجاسته واقعا فلا تلزم الاعادة ، اما اذا دلت الامارة على طهارته وانكشف بعد ذاك نجاسته فلا بد من الاعادة.

والوجه في ذاك ان قاعدة الطهارة تثبت طهارة ظاهرية في مقابل الطهارة الواقعية ، فهي تقول ان الشيء عند عدم العلم بنجاسته واقعا فهو طاهر ظاهرا ، ومع ثبوت هذه الطهارة الظاهرية يلزم توسع دائرة الشرطية في دليل « صل في الطاهر » ، فان هذا الدليل قبل تشريع قاعدة الطهارة يدل على ان شرط صحة الصلاة هو خصوص الطهارة الواقعية فقط ، ولكن بعد تشريع القاعدة يتوسع مفاده الى : « صلّ في الطاهر الواقعي والظاهري » وهذه التوسعة يعبر عنها بالحكومة ، فقاعدة الطهارة حاكمة على دليل « صلّ في الطاهر » بمعنى انها ناظرة له وموسعة لدائرته (1) ، وبعد التوسعة لا بد من الحكم بصحة الصلاة لاشتمالها على الشرط ، اجل بعد الفراغ من الصلاة واتضاح نجاسة الثوب ترتفع الطهارة الظاهرية بسبب زوال موضوعها - وهو الشك - ويلزم تحصيل الطهارة من جديد للصلوات الآتية ، هذا في صورة الاستناد لقاعدة الطهارة.

واما لو اخبر الثقة - الذي هو امارة - بالطهارة وانكشفت بعد ذلك نجاسته

ص: 94


1- وقد تسأل عن الملزم لحكومة قاعدة الطهارة وتوسعتها لدليل « صلّ في الطاهر ». والجواب : ان قاعدة الطاهرة اذا لم توسع دليل « صلّ في الطاهر » كان تشريعها لغوا وبلا فائدة ، اذ ما فائدة تشريع الطهارة الظاهرية ما دام لا يستفاد منها في الصلاة وبقية الموارد.

فحيث ان الامارة لا تثبت طهارة مقابل الطهارة الواقعية وانما هي ترشد اليها غاية الامر قد تصيبها وقد تخطأها - فلا تتوسع دائرة الشرطية حتى تقع الصلاة صحيحة ، بل يكون الشرط منحصرا بالطهارة الواقعية فيلزم البطلان (1).

قوله ص 39 س 12 الجارية في الشبهات الموضوعية :

اختار العلمان الاجزاء في خصوص الاصول العملية المثبتة للموضوع او بتعبير آخر المثبتة للشرط (2) ، اما اذا كان الاصل جاريا في الحكم او بتعبير آخر في الشبهة الحكمية فلا يحكم بالاجزاء ، فلو شكّ في بقاء وجوب الجمعة في زماننا هذا فاستصحب الوجوب وادّيت الجمعة ثم انكشف وجوب الظهر واقعا فلا اجزاء بل يلزم الاتيان بالظهر.

قوله ص 40 س 7 ليس جعل الحكم المماثل :

اي المماثل لما تقوله الامارة فاذا كانت تخبر عن طهارة الثوب فلا تثبت طهارة ظاهرية مماثلة للطهارة التي تخبر عنها.

قوله ص 40 س 10 هذا محرز :

اي بل يقول هذا طاهر واقعا وان طهارته الواقعية ثابتة.

قوله ص 40 س 15 وسيأتي بعض الحديث عنه :

وذلك ص 395 ، ولكن سيتضح هناك انه قدس سره يحيل الجواب على مبحث التعارض ، واذا رجعنا الى مبحث التعارض لم نجد من اوله الى آخره

ص: 95


1- يأتي توضيح هذا التفصيل ثانية عند شرح ص 395 تحت عنوان الامر الظاهري يجزي في بعض الصور عند علمين.
2- ويعبر عن الاصول المذكورة بالاصول الموضوعية او الجارية في الشبهة الموضوعية لانها تجري عند الشك في الموضوع وهو الشرط كالطهارة.

تعرضا للجواب عن التفصيل المذكور ، وعليه فالسيد الشهيد لم يذكر في كتابه الجليل هذا جوابا عن ذلك ولكن اشرنا نحن الى ذلك عند شرح ص 395.

ص: 96

القضيّة الحقيقة والخارجية

اشارة

ص: 97

ص: 98

القضية الحقيقية والخارجية للاحكام :

قوله ص 41 س 1 مرّ بنا في الحلقة السابقة ... الخ :

حصيلة هذا المبحث ان المولى الحاكم تارة يصب حكمه على افراد معينة ومحصورة في الخارج كأن يقول مثلا « اكرم الشيخ الطوسي والانصاري والمفيد » ، وتسمى مثل القضية المذكورة بالخارجية لأن الحكم فيها منصب على الافراد الخارجية ، واخرى يصب حكمه على عنوان كلي فرضي كأن يقول « اكرم كل عالم » فان الحكم فيها منصب على كل من صدق عليه عنوان العالم ولو بعد سنين من دون اختصاص بالافراد الموجودة في الخارج بالفعل ، وتسمى مثل القضية المذكورة بالحقيقية.

ويمكن القول بان القضية الحقيقية ترجع دائما في روحها الى قضية شرطية وان كانت من حيث الشكل قضية حملية ، فالقضية السابقة - اكرم كل عالم - وان كانت من حيث الشكل حملية ولكنها روحا شرطية ، اذ المقصود منها إن فرض شخص ما عالما فاكرمه بينما القضية الخارجية لا ترجع روحها الى قضية شرطية.

ويمكن تسجيل ثلاثة فوارق بين القضية الحقيقية والخارجية - الاولان منهما نظريّان والثالث عملي - هي :

1 - في القضية الحقيقية مثل اكرم كل عالم يمكن الاشارة الى الشخص الجاهل والحكم عليه بانه لو فرض عالما وجب اكرامه ، بينما في القضية الخارجية مثل « اكرم الشيخ الطوسي والانصاري والمفيد » لا يمكن الاشارة الى الجاهل

ص: 99

والحكم عليه بانه لو كان عالما وجب اكرامه ، اذ المفروض ان الحكم لم يوجّه لعنوان العالم بل لافراد معينة.

2 - ان الحكم في القضية الحقيقية ينصب دائما على عنوان كليّ كعنوان العالم بينما في القضية الخارجية لا ينصب على العنوان الكلي بل على الذوات الخارجية كذات الشيخ الطوسي وو ... ، ومن هنا لا يمكن الافتراض والتقدير في القضية الخارجية فان الذوات لا يمكن فيها ذلك وانما يمكن في العناوين الكلية ، فعنوان العالم الكلي يمكن فيه ذلك فيقال : كل من فرض عالما فاكرمه بخلاف ذات الشيخ الطوسي فلا يمكن فيها القول كل من فرض ذات الشيخ الطوسي فاكرمه.

وقد تقول : اذا فرض اعتبار بعض القيود في القضية الخارجية فماذا يفعل المولى؟ فمثلا لو وجّه الحكم بوجوب الاكرام الى ثلاثة من اولاد العم وكان لتقواهم وتديّنهم مدخلية في وجوب اكرامهم فماذا يفعل؟ والجواب : انه اما ان يتصدى المولى بنفسه لاحراز تدينهم فاذا فحص واحرز تدينهم جميعا يقول حينذاك اكرم اولاد عمك بلا حاجة الى التقييد بالتديّن ، واما ان لا يتصدى بنفسه لذلك ويوكل الامر الى المكلّف فيقول اكرم اولاد العم ان كانوا متديّنين ، وعلى النحو الثاني تصير القضية مركبة من الحقيقية والخارجية ، فهي خارجية بلحاظ الموضوع وحقيقية بلحاظ الشرط.

3 - ان التدين الذي له مدخلية في وجوب الاكرام اذا فرض انتفاؤه بعد فترة عن اولاد العم فهل يزول الحكم بوجوب الاكرام أو لا؟ والجواب : ان القضية اذا كانت حقيقية زال الحكم بالوجوب لانه مشروط بالتدين وعند انتفاء الشرط ينتفي المشروط ، واذا كانت القضية خارجية فلا يزول لان التديّن لم يؤخذ شرطا حتى يزول الحكم بزواله وانما المولى تصدى بنفسه لاحراز التدين ،

ص: 100

وبعد احرازه لذلك يكون العبد ملزما باكرامهم وان زال - التدين - بنظره بل وان لم يكونوا متديّنين بنظره من الاول لان مسؤولية احراز التدين لم يلق على عاتق العبد حتى اذا زال زال الحكم ، ومن هنا قيل ان مسؤولية تطبيق الشروط في القضية الحقيقية على عاتق المكلّف وفي الخارجية على عاتق المولى (1).

ص: 101


1- هذا الفارق الثالث والذي قبله اشار لهما الميرزا في فوائد الاصول ج 1 ص 276 - 277.

ص: 102

تعلق الأحكام بالصور الذهنية

اشارة

ص: 103

ص: 104

تعلق الأحكام بالصور الذهنية :

هناك حديث دار بين علماء الاصول يقول : ان الاحكام هل تتعلّق بالموضوع الخارجي او بالصورة الذهنية ، فوجوب الصلاة مثلا هل يتعلق بالصلاة الخارجية التي يأتي المكلّف بها في الخارج او هو منصب على الصورة الذهنية للصلاة؟ وهكذا الحكم بالحرارة في قولنا « النار حارّة » هل هو منصب على النار الخارجية او على النار الذهنية؟ ولاول وهلة قد تقول بتوجه الحكم الى الصلاة والنار الخارجية لانها محط الآثار فهي الناهية عن الفحشاء والحارة دون الصورة الذهنية ، وقد اختار هذا الجواب جماعة منهم صاحب الكفاية في مبحث اجتماع الامر والنهي حيث ذكر ان الامر بالصلاة متعلق بالصلاة الخارجية - لانها محط الآثار - دون الصورة الذهنية والنهي عن الغصب يتعلق بالغصب الخارجي دون الذهني ، وبما ان الصلاة في الدار المغصوبة خارجا شيء واحد هو صلاة وهو غصب فيلزم تعلق الامر والنهي بشيء واحد خارجي وهو مستحيل ، ومن هنا اختار - الآخوند - القول باستحالة اجتماع الامر والنهي في مقابل من قال بالامكان بدعوى ان الامر يتعلق بالصورة الذهنية للصلاة والنهي بالصورة الذهنية للغصب ، وحيث ان الصورتين متعددتان فلا يلزم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد.

وبهذا اتضح ان القول باستحالة اجتماع الأمر والنهي وامكانه يبتنيان على مسألتنا هذه ، فمن قال بتعلق الاحكام بالصور الذهنية لا يلزم عنده اجتماع الأمر

ص: 105

والنهي في شيء واحد ، فلذا يقول بامكان الاجتماع ، ومن قال بتعلقها بالاشياء الخارجية يلزم عنده اجتماعهما في شيء واحد ولذا يقول باستحالة الاجتماع.

هذا والصحيح تعلق الاحكام بالصور الذهنية ، والوجه في ذلك ان الحكم عملية ذهنية فلا بد من تعلقه بامر ذهني ولا يمكن تعلقه بامر خارجى والا يلزم وجود الامر الذهني في الخارج (1).

وقد تقول : كيف تتعلق الاحكام بالصور الذهنية مع انها ليست مركزا للآثار والخواص المطلوبة؟ والجواب : ان الصورة الذهنية للنار مثلا لها حالتان ، فبنظرة اولية غير فاحصة - وسماها قدس سره بالحمل الاولي - هي نفس النار الخارجية ، وبنظرة تدقيقية ثانية هي غير النار الخارجية (2). وهذا شيء وجداني وليس مجرد دعوى ، والمنبّه على ذلك انّا احيانا نتصور بعض الاحداث والقضايا السابقة ويسيطر علينا الحزن ويستولي الاسى الشديد فنتصوّر مصاب الامام الحسين علیه السلام واهل بيته ونأخذ بالبكاء فلو لم نر بتصورنا وتذكرنا لمصابه علیه السلام واقعة الطف الخارجية والقتل الخارجي له علیه السلام فلماذا البكاء والألم؟

وما دامت الصورة الذهنية بنظر هي عين الخارج فيمكن صب الحكم

ص: 106


1- ويمكن الاستدلال على ذلك ايضا بان الوجوب لو كان يتعلق بالصلاة الخارجية فهل يتعلق بها قبل وجودها او بعد وجودها؟ وكلاهما باطل اذ قبل وجودها لا شيء حتى يتعلق به الحكم وبعد وجودها تكون حاصلة فلا معنى لتعلقه بها والاّ يلزم طلب الحاصل ، هذا مضافا الى انه يلزم عدم وجوب الصلاة على المكلّف قبل ادائها لعدم وجود الحكم بسبب عدم متعلّقه.
2- وسماها قدس سره بالحمل الشايع ، واستعمال الحمل الاولي والشايع هنا ليس بالمعنى المصطلح ، فان المعنى المصطلح هو ما يأتي عند التعليق على ص 96 س 10.

عليها (1).

قوله ص 43 س 4 ابناء عمك :

جعل مصب الحكم عنوان ابناء العم قابل للتأمل لأن لازمه صيرورة مصب الحكم عنوانا كليا وذلك يستدعي صيرورة القضية حقيقية.

قوله ص 44 س 8 لا على الموضوع الحقيقي للحكم :

في التعبير مسامحة واضحة ، فان الصورة الذهنية هي الموضوع الحقيقي للحكم. والمناسب التعبير هكذا ، لا على الموضوع الخارجي للحكم.

تنسيق البحوث المقبلة.

ان الاصولي يبحث عن العناصر المشتركة ، وحيث انها هي : القطع ، الامارات ، الاصول العملية ، تعارض الادلة كان من المناسب البحث عن هذه العناصر الاربعة على التوالي ، فاولا يبحث عن القطع ثم الامارات ثم الاصول العملية وفي الخاتمة عن تعارض الادلة.

يبقي سؤال : لماذا يبحث على الترتيب المذكور ولا يبحث عن الاصول العملية اولا او عن الامارات؟ والجواب : ان الفقيه اذا واجه مسألة وأراد استنباط حكمها لاحظ اولا هل له قطع بحكمها اولا؟ فان كان سار على هداه والاّ فحص عن وجود امارة تدل على حكمها فان لم تكن اخذ بالاصل العملي ، اذن التسلسل الطبيعي الذي يسير عليه الفقيه في مقام الاستنباط هو الاخذ بالقطع

ص: 107


1- مسألة تعلق الاحكام بالصورة الذهنية تبناها جماعة منهم الشيخ الاصفهاني والشيخ عبد الكريم الحائري في درره ج 1 ص 123 وادعى ان ذلك من الامور الواضحة التي لا تحتاج الى برهان ، وهكذا تبناها الشيخ العراقي في نهاية الافكار ج 3 ص 60.

اولا ثم الامارات ثم الاصول ، ومن هنا كان على الاصولي منهجة بحثه في علم الاصول بالكلام عن القطع اولا ثم الامارات ثم الاصول.

ص: 108

حجّية القطع

اشارة

ص: 109

ص: 110

حجيّة القطع :

قوله ص 49 س 1 تقدم في الحلقة السابقة ... الخ :

المراجع للكتب الاصولية القديمة في مبحث القطع يجد فرقا بين طريقة العرض لهذا المبحث هنا عنها هناك ، وينطلق السيد الشهيد في بحثه قائلا : من الواضح للجميع ان اللّه سبحانه مولانا وخالقنا والمنعم علينا ، وبسبب ذلك صار له علينا حق اطاعته في التكاليف التي شرعها وبتعبير اكثر دقة ان له سبحانه حق المولوية ، ولا معنى للمولوية الاّ وجوب الاطاعة ، فكل من وجبت اطاعته فهو مولى ، والمولى هو من وجبت اطاعته ، وبعد اتضاح هذا نطرح ثلاثة اسئلة :

1 - اذا قطعنا بان التدخين حرام مثلا فهل له سبحانه حق الطاعة علينا بتركه؟ نعم له ذلك ، بل هذا المورد هو المورد الواضح والمتيقن لحق الطاعة ، ويصطلح في علم الاصول على ذلك بالمنجزية ، فيقال ان القطع منجز للحرمة المقطوعة.

2 - اذا قطعنا بعدم كون التدخين حراما فهل له سبحانه حق الاطاعة بالترك؟ كلا ليس له ذلك ، واذا دخّن المكلّف وكان في الواقع حراما فهو معذور ، ويصطلح على ذلك بالمعذرية ، فيقال القطع معذّر ، اي من دخّن وكان التدخين حراما واقعا فهو معذور ما دام قد قطع بعدم حرمته ، اذن مصطلح المنجّزية يستعمل حينما يقطع بالتكليف بينما مصطلح المعذرية يستعمل حينما يقطع بعدم التكليف ، وليس مورد استعمالهما واحدا.

ص: 111

ويصطلح على مجموع المنجزية والمعذرية بالحجيّة ، فالقطع حجة بمعنى انه منجّز ومعذّر.

3 - اذا لم يقطع بحرمة التدخين بل كانت محتملة او مظنونة ، فهل له سبحانه حق الاطاعة بالترك ويكون الاحتمال والظن منجّزا كالقطع؟ اجاب المشهور عن ذلك بان الاحتمال والظن ليس منجّزا ، ومن هنا جاءت عبارتهم المشهورة : يقبح العقاب بلا بيان اي بلا علم ، واجاب السيد الشهيد عن ذلك بالايجاب اي ان الاحتمال والظن منجّز ، فان عقلنا يحكم بان له سبحانه حق الاطاعة علينا في كل تكليف مقطوع او مظنون او محتمل ولا يخصه بالتكليف المقطوع (1) ، بيد ان احتمال التكليف او الظن او القطع به انما يكون منجّزا فيما اذا لم يرخص المولى نفسه بمخالفة ذلك التكليف ، فانه مع الترخيص لا يحكم العقل بلزوم الاطاعة كما هو واضح.

وقد تسأل : متى يمكن للمولى الترخيص بالمخالفة؟ يمكنه ذلك في صورة

ص: 112


1- ويمكن تقريب ذلك بان الانسان وكلّ ما في الكون ملك له تعالى بالملكية الحقيقية ، فاليد ملك له تعالى والعين ملك له سبحانه والشفّة ملك له والتتن وو ... والعقل يحكم بعدم جواز التصرف في ملك الغير الاّ مع احراز رضاه ، والشفة والتتن حيث انهما ملك لله تعالى فلا يجوز استخدامهما بوضع السيگارة على الشفة الاّ مع اليقين برضاه. هذا مضافا الى ان شخصا لو قدّم لغيره مساعدات كبيرة بأن اهدى له دارا او سيارة وزوّجه وقرر له راتبا شهريا وو ... فاذا احتمل المهدى له ان المهدي يريد حاجة معينة كدواء او طعام او ... فهلاّ يحركه العقل والعقلاء لتنجيز تلك الحاجة المعيّنة التي لا تتجاوز حدّ الاحتمال؟ نعم ان الاحتمال يكفي في مثل الحالة المذكورة ، واذا قبلنا تنجيز الاحتمال في الحالة المذكورة فكيف به تعالى الذي انعم علينا بنعم لا تعد ولا تحصى ، كيف لا يكون احتمال تحريمه او ايجابه لشيء منجّزا. إن هذين البيانين يمكن الاستعانة بهما لتوضيح سعة حق الطاعة لموارد احتمال التكليف.

احتمال الحرمة او الظن ، ولا يمكنه في صورة القطع بها ، اذن لنا دعويان :

1 - ان الترخيص في المخالفة ممكن في صورة احتمال التكليف او الظن.

2 - ان الترخيص في المخالفة لا يمكن في صورة القطع بالتكليف.

ولتوضيح الدعوى الاولى نقول : لو كان لدينا سائل نحتمل خمريته فلا محذور في ترخيص الشارع في تناوله والحكم عليه بالحلية لقاعدة « كل شيء لك حلال حتى تعلم انه حرام » ولئن كان هناك محذور فهو محذور ابن قبة المشار له سابقا حيث ذكر ان السائل لو كان في علمه سبحانه خمرا واقعا ورخص الشارع في تناوله لقاعدة « كل شيء لك حلال » لزم اجتماع الحرمة والاباحة وهو مستحيل.

وجوابه : ان الاباحة حيث انها ظاهرية فلا محذور في اجتماعها مع الحرمة الواقعية لما تقدم من عدم نشوء الحكم الظاهري من مبادىء خاصة به غير مبادىء الحكم الواقعي.

ولتوضيح الدعوى الثانية نقول : انا اذا قطعنا بان السائل خمر فلا يمكن للشارع الترخيص في تناوله لا ترخيصا واقعيا ولا ترخيصا ظاهريا.

اما انه لا يمكن الترخيص الواقعي فلأنه يلزم منه اجتماع المتناقضين اي الحرمة الواقعية والاباحة الواقعية وهو مستحيل ، فان الممكن اجتماع الحكم الواقعي والظاهري دون الواقعيين.

وقد تقول : ان المحذور المذكور يتم في صورة مطابقة القطع للواقع ، اي لو كانت الحرمة ثابتة في الواقع ، اما اذا كان مخطئا بان لم تكن الحرمة ثابتة في الواقع فلا يلزم ما ذكر.

والجواب : انه في صورة خطأ القطع وان لم يلزم اجتماع المتناقضين واقعا

ص: 113

ولكنه يلزم اجتماعهما في نظر القاطع ، فان القطع في نظر القاطع مصيب دائما والاّ لم يكن قاطعا ، وعليه فاجتماع المتناقضين في نظر القاطع امر لازم سواء كان القطع مصيبا واقعا او لا ، وان كان اجتماعهما في عالم الواقع مختصا بصورة الاصابة.

واما انه لا يمكن الترخيص الظاهري فذلك لان الحكم الظاهري حكم مجعول حالة الشك في الحكم الواقعي ، فعند الشك في ان هذا السائل محرم أو لا يكون الحكم المجعول بالاباحة حكما ظاهريا ، اما مع القطع بحرمة السائل كما هو المفروض في حديثنا فلا يكون الحكم المجعول حكما ظاهريا.

وقد تقول : لو فرض ان اللّه سبحانه اطلع بعلمه الغيبي على ان اكثر الناس الذين يقطعون بالحرمة مخطئون ، وعلى سبيل المثال اطّلع على ان 99% من القاطعين بالحرمة مخطئون وان الثابت في تلك الموارد هو الاباحة دون الحرمة ، فاذا تمت هاتان الفرضيتان ، فلماذا لا يمكن صدور خطاب من الشارع يقول فيه : يا ايها القاطعون بالحرمة انتم مرخصون في مخالفة قطعكم. ان مثل هذا الخطاب وان لم يمكن تسميته بالحكم الظاهري حسب المصطلحات الاصولية - لأن الحكم الظاهري يختص بحالة الشك - الاّ انه حكم يحمل روح الحكم الظاهري ، فان الحكم الظاهري يرجع في روحه الى الحكم المجعول لغرض التحفظ على الملاك الواقعي الاهم ، والحكم المفروض في المقام كذلك ، وعدم تسميته بالحكم الظاهري غير مهم ، فان علينا الاخذ باللب دون القشور.

والجواب : ان تشريع مثل هذا الحكم لغو لأن اي قاطع بالحرمة حينما يسمع الحكم المذكور يقول : انه ليس موجها اليّ ، بل موجّه الى القاطع المخطىء وانا لست مخطئا في قطعي ، اذ القاطع لا يحتمل لحظة من اللحظات ان قطعه مخطىء والاّ لم يكن قاطعا ، فيبقى التشريع المذكور مرفوضا لدى الجميع فيكون لغواً.

ص: 114

والنتيجة باختصار ان المكلّف اذا قطع بان السائل خمر فلا يمكن الترخيص في مخالفة لا ترخيصا واقعيا ولا ظاهريا ، وهذا معناه بتعبير آخر ان القطع منجّز ولا يمكن سلب المنجّزية عنه ، لان سلب المنجّزية يكون بتشريع الحكم بجواز المخالفة تجويزا واقعيا او ظاهريا والمفروض عدم امكانه.

تلخيص لما سبق.

اتضح مما تقدم ما يلي :

1 - ان انكشاف التكليف ولو على مستوى الاحتمال منجّز.

2 - ان انكشاف التكليف منجّز اذا لم يرخص المولى في مخالفته.

3 - ان الترخيص بالمخالفة معقول في صورة الاحتمال والظن دون صورة القطع.

الفرق بين استدلال السيد الشهيد والمشهور :

قوله ص 52 س 16 هذا هو التصوّر الصحيح ... الخ :

من خلال ما تقدم اتضحت نقطتان :

1 - ان القطع بالتكليف منجّز.

2 - ان سلب المنجّزية عن القطع مستحيل.

وقد تقدم ايضا الاستدلال على النقطتين المذكورتين ، ففيما يخص الاولى ذكر قدس سره ان له سبحانه علينا حق الطاعة ، والحق المذكور ثابت في حالة حصول القطع بثبوت التكليف فان ذلك هو القدر المتيقّن من حق الطاعة.

وفيما يخص النقطة الثانية ذكر بان سلب المنجّزية عن القطع يحصل بتشريع

ص: 115

الترخيص بالمخالفة وهو غير ممكن لا ترخيصا ظاهريا ولا واقعيا.

هذا مختصر استدلاله قدس سره على ذلك.

واما المشهور فاستدلوا على النقطة الاولى بان المنجّزية من لوازم ماهية القطع ، فكلما حصل القطع كان من لوازمه ذلك نظير الزوجية بالنسبة الى الاربعة ، فكما ان الزوجية من لوازم ذات الاربعة كذلك المنجّزية من لوازم ذات القطع ، حيث ان القطع طريق وكاشف عن الواقع بذاته : فكلما حصل كشف عن الواقع ونجّزه ، ومن هنا قالوا : ان التكليف لا يتنجّز الا بالعلم وغيره لا يكون منجّزا ، وعبّروا عن ذلك بالقاعدة المعروفة « يقبح العقاب بلا بيان » اي بلا علم.

واستدلوا على النقطة الثانية بان المكلّف بعد قطعه بحرمة التدخين مثلا لا يمكن الحكم عليه باباحته لان ذلك ترخيص في ارتكاب المعصية وهو قبيح عقلا (1).

وعلّق السيد الشهيد على الاستدلال الاول (2) بانه استدلال مطوّل وغير صحيح ، فان هناك طريقة اخصر واضبط ، فيقال للمشهور : انكم حينما تقولون بان القطع بالتكليف حجّة فماذا تريدون من ذلك؟ فهل تريدون ان تكليف اي انسان لو قطع به - التكليف - فهو حجّة او تريدون تكليف خصوص الانسان الذي له مقام المولوية؟ لا اشكال في ان المقصود هو الثاني اي المقصود ان تكليف المولى حجّة لا تكليف اي انسان وان لم يكن مولى كالابن او الاخ الصغير ، وعليه فلا بد في المرحلة السابقة من افتراض مولى. وبعد هذا نسأل ما معنى المولى؟ ان المراد به ذلك الانسان الذي له حق الاطاعة فمن له حق الطاعة هو المولى ، والمولى

ص: 116


1- هذا الاستدلال مذكور في كلمات الشيخ الاعظم والميرزا.
2- سبق التعليق المذكور في الحلقة الثانية.

هو من له حق الطاعة ، فاللازم اذن في المرحلة الاولى افتراض وجود حق الطاعة لانه معنى المولى ، وبعد افتراض وجود الحق المذكور ننقل حديثنا اليه لنرى انه يختص بخصوص صورة القطع بالتكليف او يعم حالتي الظن والاحتمال؟ ولا اشكال في حكم العقل بدون تأمل (1) بسعة الحق وشموله لحالتي الظن والاحتمال ، فاحتمال التكليف منجّز ايضا كالقطع خلافا للمشهور حيث حصروا المنجّز في القطع.

وطريقة الاستدلال هذه طريقة مختصرة لا تحتاج الى ادخال فرضية ان الحجية من لوازم ماهية القطع ، واضافة لاختصارها هي طريقة صحيحة مطابقة للذوق العقلائي ، وعلى اساسها يلزم هدم قاعدة « قبح العقاب بلا بيان » التي شيد بناؤها منذ سنين بل قرون متعددة ، ونظن ان المشهور لو قاموا بتشريح المسألة بالشكل الذي قمنا به لآمنوا بسعة حق الطاعة وبالتالي انكروا قاعدة « قبح العقاب بلا بيان » وحكموا بمنجّزية الاحتمال (2).

واما الاستدلال الثاني للمشهور فعلق عليه قدس سره بان الحكم باباحة التدخين الذي قطع بحرمته انما يكون قبيحا لو كان حق اطاعة المولى ثابتا حتى مع ترخيصه في المخالفة ، اما اذا لم يكن له الحق مع الترخيص - كما هو الصحيح اذ بعد ترخيصه في المخالفة لا يبقى له حق الاطاعة جزما - فلا يلزم محذور الترخيص في المعصية.

ص: 117


1- تقدم فيما سبق بيانان لاثبات سعة حكم العقل.
2- القول بحكم العقل بمنجّزية الاحتمال يظهر تبنّيه من بعض علمائنا المتقدّمين كالشيخ والمفيد وابن زهرة واستدلّ له الشيخ في العدّة بان الاقدام على ما يحتمل فيه المفسدة كالاقدام على ما يعلم فيه المفسدة. راجع الطبعة القديمة من الرسائل ص 214 س2. 5.

اجل يمكن المناقشة بعد حصول القطع بحرمة التدخين في صحة الترخيص في المخالفة ، واذا كان هناك بحث فلا بد من صبّه على ذلك ، فيبحث هل يمكن الترخيص في المخالفة بعد حصول القطع او لا؟ وقد ذكرنا سابقا انه غير ممكن لا بنحو الترخيص الواقعي ولا الظاهري.

استحالة سلب المعذّرية عن القطع.

قوله ص 54 س 8 وكما ان منجّزية القطع ... الخ :

بعد ان اوضحنا سابقا ثبوت المنجّزية للقطع نريد الآن توضيح ثبوت المعذّرية له وعدم امكان سلبها عنه ، فلو قطع باباحة التدخين (1) وارتكبه المكلّف فهو معذور وان كان في الواقع محرما ، وهذه المعذّرية لا يمكن سلبها ولا يصح للمولى ان يقول : ان التدخين الذي قطعت باباحته محرم ولا يحق لك ارتكابه.

والنكتة في ذلك تشابه تماما النكتة السابقة في توجيه استحالة سلب المنجّزية ونكرر ذكرها بالبيان التالي : ان الحكم بالحرمة على التدخين المقطوع بحليته لا يمكن ان يكون تحريما واقعيا والاّ يلزم اجتماع الحكمين المتناقضين واقعا ولا اقل في نظر القاطع ، كما ولا يمكن ان يكون تحريما ظاهريا ، اذ الحكم الظاهري بالحرمة يختص بحالة احتمال الحرمة واقعا ليكون منجّزا لها ووسيلة لاثباتها فاذا فرضنا القطع بالاباحة وعدم احتمال الحرمة فالحكم الظاهري يكون منجّزا لاي شيء؟ انه لا توجد حرمة محتمله حتى ينجزها (2).

ص: 118


1- تقدم اختصاص مصطلح المعذرية بحالة القطع بالاباحة بخلاف مصطلح المنجّزية فانه يختص بحالة القطع بالتكليف الوجوبي او التحريمي.
2- بهذا اتضح ان روح ما افاده قدس سره في توجيه استحالة سلب المعذّرية يتطابق وما افاده في توجيه سلب المنجّزية.

قوله ص 50 س 8 كاصالة البراءة والاباحة :

مصطلح اصالة الاباحة يستعمل عند احتمال الحرمة ولا يستعمل عند احتمال الوجوب ، بخلاف مصطلح اصالة البراءة فانه يستعمل في كلتا الحالتين.

قوله ص 50 س 15 واقعي حقيقي :

تقدم ان الحكم اذا كان ناشئا من ملاكات قائمة به فهو حقيقي ، وان كان ناشئا للتحفظ على ملاكات الحكم الواقعي فهو طريقي ، وكل حكم واقعي هو حقيقي وكل حكم ظاهري فهو طريقي.

قوله ص 51 س 15 والاباحة الاقتضائية :

تقدم ان الاباحة اذا نشأت عن مصلحة في الترخيص فهي اقتضائية ، وان نشأت من عدم المصلحة في الالزام بالفعل والترك فهي غير اقتضائية.

ص: 119

ص: 120

حجّية العلم الاجمالي

اشارة

ص: 121

ص: 122

حجّية العلم الاجمالي :

قوله ص 54 س 17 كما يكون القطع التفصيلي حجّة ... الخ :

تارة يكون العلم تفصيليا واخرى اجماليا ، فلو قطع بثبوت الوجوب لصلاة الجمعة فهو علم تفصيلي ، اما لو قطع بثبوته اما للظهر او للجمعة فهو اجمالي.

والحديث السابق كان يدور عن العلم التفصيلي ، واتضح فيه ثبوت المنجّزية له والمعذّرية واستحالة سلبهما عنه ، والآن نريد التحدث وباختصار عن العلم الاجمالي.

وفي البداية نطرح التساؤل التالي : هل العلم الاجمالي حجّة او لا؟

والجواب : ان هذا التساؤل يمكن تشقيقه الى شقّين :

1 - اذا قطع بتعلّق الوجوب اما بالظهر او الجمعة فهل يحرم ترك كلتا الصلاتين او لا؟ وبتعبير آخر هل تحرم المخالفة القطعية او لا؟

2 - اذا قلنا بعدم جواز ترك كلتا الصلاتين فهل يحرم ترك الواحدة منهما ايضا او لا؟ وبتعبير آخر هل تجوز المخالفة الاحتمالية بترك احدى الصلاتين او تجب الموافقة القطعية بالاتيان بكلتيهما؟

اذن البحث في العلم الاجمالي يقع مرة في حرمة المخالفة القطعية واخرى في وجوب الموافقة القطعية.

والحديث عن حرمة المخالفة القطعية يقع في امرين (1) :

ص: 123


1- واما الحديث عن وجوب الموافقة القطعية فقد ارجأه قدس سره كعادة باقي الاصوليّين الى مباحث الاشتغال من الاصول العملية ، وبهذا يتّضح ان الاصوليّين يبحثون عن العلم الاجمالي مرتين ، مرة هنا اي في مباحث القطع واخرى في مباحث الاشتغال ، وفي مباحث القطع يبحثون عن اقتضائه لحرمة المخالفة القطعية وفي مباحث الاشتغال يبحثون عن اقتضائه لوجوب الموافقة القطعية وللتفكيك المذكور اسبابه المبررة التي لا يناسب المقام التعرض لها.

أ - هل العلم بوجوب اما الظهر او الجمعة يقتضي لزوم الاتيان بواحدة على الأقل او لا؟ وبتعبير آخر هل يقتضي تنجّز الجامع (1) او لا؟ وبتعبير ثالث هل يقتضي حرمة المخالفة القطعيّة او لا؟

ب - اذا قلنا باقتضاء العلم الاجمالي لحرمة المخالفة القطعية فهل يمكن للشارع الترخيص بخلاف ذلك والحكم بجواز ترك كلتا الصلاتين؟

اما بالنسبة الى الامر الاول فالصحيح ان العلم الاجمالي يقتضي لزوم الاتيان باحدى الصلاتين لانا اذا اخذنا بمسلك السيد الشهيد القائل بمنجّزية الاحتمال فالامر واضح ، حيث نحتمل ان الظهر واجبة ونحتمل ان الجمعة واجبة ، فاللازم الاتيان بكلتا الصلاتين فضلا عن احداهما ، واما لو اخذنا بمسلك المشهور القائل بان المنجّز هو القطع فقط ويقبح العقاب عند فقدانه فايضا يلزم الاتيان بالواحدة ، فان وجوب احدى الصلاتين نعلم به تفصيلا ولا تردد فيه حيث ان العلم الاجمالي يقتضي دائما العلم التفصيلي بالجامع ، والمسالك في حقيقة العلم الاجمالي وان كانت متعددة (2) الا انها تشترك جميعا في اقتضائها العلم

ص: 124


1- وهو وجوب احدى الصلاتين.
2- يأتي في الجزء الثاني من الحلقة الثالثة ان في حقيقة العلم الاجمالى ثلاثة اتجاهات : ١ _ اتجاه الميرزا والاصفهاني القائل بانا حينما نعلم بوجوب اما الظهر او الجمعة مثلا فهذا _ في الحقيقة يرجع الى امرين : علم تفصيلي بالجامع ، وشكوك بعدد الاطراف. ٢ _ اتجا الآخوند في بعض كلمات الكفاية القائل بان العلم بوجوب اما الظهر او الجمعة يرجع الى امر واحد وهو العلم بالفرد المردد بين الوجوبين. ٣ _ اتجاه الشيخ العراقي القائل بتعلّق العلم الاجمالي بالواقع ، فاذا كان الوجوب في علمه تعالى متعلّقا بالظهر فالعلم الاجمالي يكون متعلّقا بالظهر ايضا لا بالجامع ولا بالفرد المردد. والسيّد الشهيد يقول : انا مهما تصورنا العلم الاجمالي فهو لا ينفك عن العلم بالجامع ، فالمكلّف على جميع الاتجاهات المذكورة يعلم حتما بوجوب احدى الصلاتين ، اما على الاتجاه الاول فواضح حيث ان المفروض بناء عليه العلم التفصيلي بالجامع ، واما بناء على الاتجاه الثاني فلأن من علم بالفرد المردد من وجوب الظهر او الجمعة فهو عالم بالتالي بوجوب احدى الصلاتين ، واما على الاتجاه الثالث ، فلأن من علم بوجوب الظهر التي هي الواجب واقعا فهو عالم ايضا بوجوب احدى الصلاتين.

التفصيلي بالجامع ، فمن علم بوجوب اما الظهر او الجمعة فهو عالم تفصيلا بوجوب احداهما ، وما دام الجامع معلوما بالعلم التفصيلي فهو منجّز ولا تشمله قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

واما بالنسبة الى الامر الثاني فقد ذكر المشهور ان الشارع لا يمكنه الترخيص في ترك كلتا الصلاتين لانه ترخيص في المعصية وهو قبيح (1).

ويرده كما تقدم عن قريب ان الترخيص في ترك الصلاتين انما يكون قبيحا ومعصية باعتبار ان فيه انتها كالحق المولى ، فاذا فرض تنازله بنفسه عن حقه وترخيصه في تركهما معا فلا يبقى له حق كي يلزم انتهاكه وبالتالي كي تلزم المعصية القبيحة.

اجل ان كان هناك محذور فهو محذور اجتماع الحكمين المتنافيين فان

ص: 125


1- بيان المشهور هذا لعدم جواز الترخيص في المخالفة القطعيّة للعلم الاجمالي هو نفس بيانهم المتقدّم لعدم جواز الترخيص في المخالفة للعلم التفصيلي ، والجواب عنه نفس الجواب.

الترخيص في ترك الصلاتين يلزم منه الحكم باباحة الترك على الواجب الواقعي ، فان الواجب واقعا من الصلاتين اذا كان الظهر مثلا فالحكم بالترخيص في تركهما حكم باباحة ترك الظهر التي هي واجبة.

وجوابه : ان الترخيص في المخالفة القطعيّة للعلم التفصيلي وان لم تكن معقولة لما تقدم الاّ انه معقول في موارد العلم الاجمالي ، فانه فيها - موارد العلم الاجمالي - يوجد طرفان احدهما مباح واقعا والآخر واجب ، ومن الممكن ان تكون مصلحة المباح اهم في نظر المولى من مصلحة الواجب ، ومن الوجيه لاجل الحفاظ عليها - مصلحة المباح - الترخيص في تركهما معا ، اذ لو رخّص في ترك احدهما دون الآخر فلعل الذي سوف يتركه المكلّف هو المباح الذي فرض ان مصلحته اهم وبذلك تفوت المصلحة الاهم ، فلاجل ان يطمئن المولى من حصول المباح الواقعي الذي فرض ان مصلحته اهم لا بأس ان يرخص في ترك كلتا الصلاتين ويكون هذا الترخيص حكما ظاهريا بروحه وجوهره - لانه شرّع بقصد الحفاظ على الملاك الواقعي الاهم - وان لم يسمّ حسب الاصطلاح الاصولي بذلك حيث انه يختص بحالة الشك ولا يشمل حالة العلم ، ويرتفع بذلك التنافي بين الترخيص والوجوب الواقعي ، فان الترخيص ما دام ظاهريا طريقيا فهو غير ناشىء من مبادىء مستقلة قائمة به حتى يلزم اجتماع المبادىء المتضادة ، وانما نشأ للتحفظ على المبادىء الواقعية.

وقد يقول قائل : انكم اذا قبلتم امكان الترخيص في المخالفة القطعية حالة العلم الاجمالي فيلزمكم الحكم بامكانه حالة العلم التفصيلي ايضا لان العلم الاجمالي يستبطن علما تفصيلا بالجامع مع انكم لم تقبلوا فيما سبق امكان الترخيص في المخالفة القطعية في العلم التفصيلي.

ص: 126

والجواب عن ذلك : انه في حالة العلم الاجمالي بوجوب احدى الصلاتين يوجد طرفان احدهما مباح والآخر واجب وحيث ان ملاك المباح يحتمل كونه اهم من ملاك الواجب فمن الوجيه الترخيص في تركهما معا حفاظا على ملاك المباح ، وهذا بخلافه في حالة العلم التفصيلي بوجوب صلاة الظهر مثلا فان الطرف واحد وهو الظهر ويجزم بوجوبه ولا يحتمل القاطع انه مباح حتى يتقبل من المولى الترخيص فيه حفاظا على ملاك الاباحة. واحتمال ان تكون الظهر مباحة واقعا - وذلك في حالة خطأ القطع - وان كان موجودا الا ان القاطع بما انه لا يحتمل خطأ قطعه وبالتالي لا يحتمل ثبوت الاباحة واقعا فلا يتقبل الترخيص ويرى ان الترخيص في الترك متوجه الى غيره من القاطعين المخطئين في قطعهم اما هو فليس بمخطىء في قطعه - حسب نظره - حتى يكون الترخيص موجها اليه.

وهل وقع الترخيص بالفعل.

قوله ص 58 س 6 ويبقى بعد ذلك سؤال اثباتي ... الخ :

وبعد ان اتضح ان العقل يحكم في حالات العلم الاجمالي بامكان الترخيص في ترك كلتا الصلاتين نطرح التساؤل التالي : هل الترخيص يمكن استفادته من الادلة او لا؟ ان مجرد امكان الشيء كما نعرف لا يلازم وقوعه خارجا ، فامكان الترخيص في ترك كلتا الصلاتين لا يلازم وقوعه بالفعل ، ومن هنا يقع البحث عن امكان استفادة وقوعه بالفعل من رواية « رفع عن امتي ما لا يعلمون » وامثالها.

وهذا البحث يصطلح عليه بالبحث الاثباتي لانه بحث عما يستفاد من الادلة في مقابل البحث عن امكان الترخيص واقعا بقطع النظر عن الادلة حيث

ص: 127

يسمى بالبحث الثبوتي.

وفي مقام الجواب قد يقال : نعم ان الرواية المذكورة تدل على الترخيص الشرعي في ترك الصلاتين لأن كل واحدة منهما ما دمنا لا نعلم بوجوبها فتركها جائز.

وهذا الكلام وان كان جيدا في نفسه الا انه توجد قرينة تدل على ان مقصود الرواية المذكورة اثبات الترخيص في خصوص الشبهات البدوية دون حالات العلم الاجمالي ، فالشك في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال شك في شبهة بدويّة فيشمله الحديث ولا يشمل مثل الصلاتين اللتين يعلم اجمالا بوجوب احداهما ، وتلك القرينة هي الارتكاز العقلائي ، فان الاغراض العقلائية اذا كان بعضها غرضا لحكم الزامي وبعضها الآخر غرضا للاباحة ، فغرض الاباحة يكون اضعف من غرض الالزامي عند اجتماعهما والعلم بتحققهما معا ، ولم نجد مثالا ولو واحدا في الحياة العقلائية يكون فيه غرض الاباحة اهم او مساويا للغرض الالزامي ، فمن كان عنده صديقان احدهما عزيز عليه جدا دعاه الى مجلس ينحصر بليلة واحدة ودعاه الآخر الى مجلس في نفس تلك الليلة بدون ان تقتضي الضرورة الحضور فيه فانه لا اشكال في تقديم الحضور في الاول على الثاني لان الغرض في الاول الزامي بخلافه في الثاني.

وفي حالات العلم يكون الامر من هذا القبيل ، فاحدى الصلاتين واجبة قطعا وغرضها الزامي ، بينما الثانية غير واجبة وغرضها غير الزامي ، ولا بد في مثل ذلك من تقديم الغرض الالزامي ولا يمكن التمسك بالرواية لاثبات الترخيص في ترك كل منهما فان الارتكاز العقلائي بتقديم الغرض الالزامي قرينة على ان

ص: 128

المقصود من الرواية السابقة النظر الى حالات الشك البدوي (1) دون العلم الاجمالي اذ لو كانت عامة لحالات العلم الاجمالي فلازمه تقدم الغرض الترخيصي على الالزامي وهو على خلاف الارتكاز العقلائي.

ومن خلال هذا كله اتضح ان الترخيص في المخالفة القطعية للعلم الاجمالي وان كانت ممكنة عقلا - حيث ان من الممكن كون مصلحة المباح اهم من مصلحة الواجب فيرخص المولى في ترك كلا الطرفين تحفظا على مصلحة المباح - الا انه ليس مقبولا عقلائيا.

توضيح مصطلح.

ان العلم الاجمالي اذا اقتضى حرمة المخالفة بحيث لم يمكن الترخيص فيها اما عقلا - كما يعتقده المشهور - واما عقلائيا - كما يعتقده السيد الشهيد - عبّر عن ذلك بان العلم الاجمالي علة لحرمة المخالفة القطعية ، واما اذا امكن الترخيص فيها من كلتا الناحيتين فجاز الترخيص عقلا كما وجاز عقلائيا عبّر عن ذلك بان العلم الاجمالي مقتض لحرمة المخالفة القطعية.

قوله ص 55 س 7 اما المرحلة الاولى :

سيشير قدس سره ص 59 ان الحديث عن المرحلة الثانية يأتي في مبحث

ص: 129


1- في حالات الشك البدوي لا يكون الغرضان الالزامي والترخيصي مجتمعين معا ، وانما يحتمل ثبوت احدهما فقط فعند الشك في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال يحتمل ثبوت الغرض الالزامي دون الترخيصي ويحتمل العكس ، ولا يحتمل ثبوتهما معا ، وفي مثل ذلك لا ارتكاز عقلائي على ترجيح الغرض الالزامي فانه مختص بحالة تحققهما معا التي هي حالة العلم الاجمالي.

الاشتغال من الاصول العملية في الجزء الثاني.

قوله ص 57 س 2 : ويكون ترخيصها ظاهريا بروحه : اي وان لم يسمّ في المصطلح الاصولي بالحكم الظاهري لاختصاصه بحالة الشك.

قوله ص 58 س 2 قد يعني الزامه :

التعبير ب- « قد » من جهة ان ترك المخالفة القطعية يتحقق بالاتيان باحدى الصلاتين وترك الاخرى ، ومن المحتمل ان الصلاة المأتي بها هي الصلاة المباح تركها.

قوله ص 58 س 15 وبذلك نثبت حرمة المخالفة القطعية للعلم الاجمالي عقلا :

اي لما ثبت ان الترخيص في المخالفة القطعية غير ممكن عقلائيا فالعلم الاجمالي يكون منجزا لحرمة المخالفة القطعية عقلا لانه تقدم في الامر الاول ان العلم الاجمالي ينجز حرمة المخالفة القطعية لو لم يثبت الترخيص فيها من الشارع ،.

ص: 130

المتجرّي والقطّاع

اشارة

ص: 131

ص: 132

حجيّة القطع غير المصيب وحكم التجرّي :

قوله ص 59 س 9 هناك معنيان للاصابة :

في هذا البحث يراد طرح سؤالين والاجابة عنهما :

1 - اذا شاهد الانسان سائلا وقطع بخمريّته فلا اشكال في لزوم تركه ، ولكن لو فرض انه تناوله وكان في الواقع ماء ولم يكن خمرا فهل يستحق مثل هذا الانسان العقاب اولا ، وبتعبير آخر هل يستحق المتجرّي العقاب أو لا؟ (1)

وقد اختلف جواب الشيخ الاعظم عن جواب الآخوند ، فالاول اختار عدم استحقاقه للعقاب بخلاف الثاني فانه اختار - وفاقا للمشهور - استحقاقه له (2).

2 - اذا كان الانسان يحصل له القطع كثيرا من اسباب غير عقلائية -

ص: 133


1- اذا قطع المكلّف بخمريّة السائل وكان قطعه مخطئا فان تناوله سمي بالمتجرّي وان لم يتناوله سمي بالمنقاد ، اما اذا كان قطعه بالخمرية مصيبا للواقع فان تناوله سمي بالعاصي والاّ سمي بالمطيع ، بهذا يتّضح ان المتجري والمنقاد يشتركان في نقطة ويفترقان في اخرى ، فهما يشتركان في كون القطع الحاصل لكل منهما مخطئا ويفترقان في مخالفة المتجرّي لقطعه في مقام العمل وموافقة المنقاد له ، وهكذا الحال في مصطلحي المطيع والعاصي فهما يشتركان في كون قطع كل منهما مصيبا للواقع ويفترقان في عدم موافقة العاصي لقطعه بخلاف المطيع.
2- ان الشيخ الاعظم وان اختار عدم استحقاق المتجرّي للعقاب على شربه الماء الذي قطع خطئا بكونه خمرا ولكنه اختار استحقاقه للذم على نفسه الشريرة ، ومن هنا يمكن القول بان الشيخ الاعظم فصّل فاختار قبح الفاعل ونفى القبح الفعلي.

ويسمى الانسان المذكور بالقطاع اي يحصل له القطع كثيرا وبلا مبرر عقلائي - فهل قطعه حجّة او لا؟ وبتعبير آخر هل قطع القطاع حجّة او لا؟ نسب الى الشيخ الكبير كاشف الغطاء قدس سره عدم حجّيته قياسا على الشكّاك ، فكما انه لا عبرة بشك كثير

الشك لا عبرة ايضا بقطع كثير القطع ، واختار المشهور عكس ذلك وقالوا ان قطعه حجّة.

وطرح التساؤلين المذكورين بهذا الشكل طرحة قديمة ، والسيد الشهيد طرحهما بشكل اكثر فنية ، حيث ذكر اولا انا حينما نقول : ان القطع مصيب فماذا نريد من الاصابة؟ ان في ذلك احتمالين :

أ - ما هو المرتكز في الاذهان حيث يقصد ان الامر المقطوع به ثابت في الواقع.

ب - حصول القطع من اسباب ومبررات عقلائية.

ثم اضاف ثانيا انه قد يكون القطع مصيبا بالمعنى الاول وليس بمصيب بالمعنى الثاني ، فلو فرض ان شخصا اخبر بموت زيد وكان الشخص المذكور صادقا في مجموع اخباره بدرجه 70% (1) فاذا حصل القطع بموته وكان في الواقع ميتا ايضا فهو مصيب بالمعنى الاول وليس مصيبا بالمعنى الثاني.

اما انه مصيب بالمعنى الاول فلفرض تحقق الموت واقعا ، واما انه غير مصيب بالمعنى الثاني فلأن درجة تصديق المخبر لا بد وان تتناسب مع درجة صدقه في مجموع اخباره ، فاذا كانت درجة صدقه 70% حسب الفرض فلا بد وان يكون تصديقه بدرجة 70% ايضا اي لا بد وان يكون تصديقه بنحو الظن دون القطع.

ص: 134


1- اي انه في كل مائة خبر يكون صادقا في سبعين منها وكاذبا في ثلاثين.

ثم ذكر قدس سره ثالثا ان الاصابة بهذين المعنيين لا تختص بالقطع بل تعم الظن ايضا فالظن قد يكون مصيبا بمعنى ثبوت الشيء المظنون في الواقع وقد يكون مصيبا ايضا بمعنى نشوئه من مبررات عقلائية ، فلو اخبر شخص بموت زيد وكان المخبر صادقا في مجموع اخباره بدرجة 70% فاذا حصل الظن بموته ولكنه لم يكن ميتا في الواقع فالظن المذكور مصيب بالمعنى الثاني حيث انه ناشىء من مبررات عقلائية وغير مصيب بالمعنى الاول حيث انه ليس مطابقا للواقع.

وذكر رابعا ان القطع اذا كان ناشئا من مبررات عقلائية نطلق عليه القطع الموضوعي او التصديق الموضوعي ، واذا كان ناشئا لا من مبررات عقلائية بل من عوامل نفسانية او عاطفية نطلق عليه القطع الذاتي او التصديق الذاتي.

وذكر خامسا انه في اليقين الذاتي يكون القطع ناشئا من اسباب غير عقلائية ، بيد ان عدم عقلائية السبب تارة تكون بدرجة ضعيفة يحصل لكثير من الناس القطع منها ، واخرى بدرجة قوية لا يحصل القطع منها الاّ لشاذ من الناس ، ويسمى الانسان الذي يحصل له القطع كثيرا ومن اسباب قوية في انحرافها وعدم عقلائيتها بالقطاع.

وبعد ذلك يعود قدس سره الى صلب الموضوع ليوضح :

أ - هل يشترط في حجيّة القطع ان يكون مصيبا بالمعنى الاول - الذي لازمه عدم استحقاق المتجري للعقاب - او لا؟ وبتعبير آخر هل المتجري يستحق العقاب او لا؟

ب - وهل يشترط في حجّية القطع ان يكون مصيبا بالمعنى الثاني او لا؟ وبتعبير آخر هل قطع القطاع حجّة او لا؟

وفي الاجابة عن الاول ذكر قدس سره ان المتجري كالعاصي يستحق

ص: 135

العقاب لانتهاكه حرمة المولى وحق اطاعته ، وهذا معناه بعبارة اخرى ان الموضوع لحق الطاعة ليس هو القطع بقيد ان يكون مصيبا للواقع بل هو ذات القطع سواء كان مصيبا ام لا ، فقطع المتجري حجّة ويستحق على مخالفته العقاب ، بل ولا يمكن سلب الحجيّة عنه فانه مع القطع بأن السائل خمر محرم لو سلب المولى الحجّية عنه وحكم باباحة شربه لزم في نظر القاطع اجتماع المتنافيين الحرمة والاباحة.

وعلى العكس من ذلك المنقاد فانه كالمطيع يستحق الثواب حيث قدّس المولى واحترمه ولم ينتهك حرمته.

وفي مقام الاجابة عن الثاني ذكر قدس سره ان قطع القطاع حجّة فلو قطع - اي القطاع - بان سائلا معينا خمر فلم يتركه كان منتهكا لحق المولى ومستحقا للعقاب.

التفصيل بين المنجّزية والمعذّرية.

وقد يقترح التفصيل في قطع القطاع فيقال بمنجّزيته دون معذّريته (1) ، فلو قطع بخمرية السائل كان القطع منجزا للنكتة السابقة وهي انتهاك حرمة المولى عند عدم ترك السائل ، اما اذا تعلق القطع باباحة السائل وعدم حرمته وشربه وكان في الواقع خمرا فلا يكون معذورا خلافا لغير القطاع حيث يعذر ، والوجه في عدم عذريته امران :

الأوّل : ان القطاع انسان يعيش الوسوسة ، وقد نهى الشارع المقدّس عن

ص: 136


1- مصطلح التنجيز يستعمل كما تقدم عند تعلّق القطع بثبوت التكليف كالقطع بكون السائل خمرا بينما مصطلح التعذير يستعمل عند تعلّق القطع بنفي التكليف كالقطع بان السائل ماء

الوساوس ولكن لا بمعنى ان الوسواسي بعد حصول القطع له يسلب الشارع الحجّية عن قطعه فان ذلك ليس ممكنا - للزوم اجتماع المتناقضين في نظره كما هو الحال تماما في سلب الحجّية عن قطع غير القطاع ، فلو قطع القطاع بان السائل المعين ماء مباح ونهاه الشارع عن اتباع قطعه وقال انه خمر محرم لزم اجتماع الحرمة والاباحة في نظره - بل بمعنى نهيه عن الولوج في الاسباب غير العقلائية التي يسلكها القطاع فكأنه قال له : لا تسلك الاسباب غير العقلائية وان سلكتها وحصل لك القطع باباحة سائل معين وكان في الواقع خمرا وشربته لم تكن معذورا ، وليس المقصود من هذا النهي ايضا تحريم سلوك الاسباب غير العقلائية تحريما تكليفيا وانما يقصد من ورائه تنجيز الحرمة على تقدير ثبوتها واقعا نظير ما اذا نهى الوالد ولده عن اجتياز شارع معين خوفا عليه من السرّاق الموجودين فيه ، فاذا عصى وسلك ذلك الشارع وسرقت امواله لم يكن معذورا.

وهذا الوجه وان كان جيدا الاّ ان اقصى ما يثبت به ان الشارع لو نهى القطاع عن سلوك الاسباب غير العقلائية فلا يكون معذورا ، اما انه هل صدر هذا النهي بالفعل فهذا لم يثبته بل لا دليل عليه.

الثاني : ان القطاع قبل ان تحصل له القطوع بالاباحة (1) لو فكر بينه وبين نفسه والتفت الى كونه انسانا شاذا وذا وساوس فقد يحصل له العلم بأن بعض القطوع بالاباحة التي سوف تحصل له في المستقبل باطله وغير مطابقه للواقع فلو كان عدد القضايا التي يبتلي بها في المستقبل مائة فسوف يعلم بان واحدا من القطوع على الاقل باطل ، ومعنى بطلانه ثبوت الحرمة في ذلك المورد - اذ ليس

ص: 137


1- انما قيدنا القطوع بكونها قطوعا بالاباحة باعتبار ان المعذرية تختص بموارد القطع بالاباحة ونفي التكليف.

خطأ القطع بالاباحة في مورد الاّ عبارة عن ثبوت الحرمة مثلا فيه - ويكون حال الشخص المذكور حال من عنده مائة اناء يعلم بنجاسة واحد منها فكما يلزمه التجنب عن الجميع كذا القطاع في المقام يلزمه التجنب عن القضايا المائة جميعا ، ولا يكون معذورا لو ارتكب بعضها.

وقد تقول : ان العلم الاجمالي بخطأ بعض القطوع وإن كان قد يحصل للقطاع احيانا قبل ابتلائه بالقطوع الاّ انه بعد ابتلائه بها يزول علمه الاجمالي ، فحينما يقطع في القضية الاولى بعدم ثبوت الحرمة فسوف يزول احتمال كون تلك القضية هي القضية التي علم اجمالا بثبوت الحرمة فيها اذ احتمال ثبوت الحرمة فيها لا يجتمع مع القطع بالاباحة ، وهكذا حينما يصل الى القضية الثانية تزول طرفيتها للعلم الاجمالي ، وهكذا الحال في جميع القضايا المائة.

وهذا الكلام جيد بيد ان صاحب هذا الوجه الثاني يدعي ان حال العلم الاجمالي حال القدرة فكما ان الانسان اذا كان قادرا في اول الوقت على اداء الواجب وازال القدرة عنه بعد ذلك بسوء اختياره لم يكن معذورا عند تركه للواجب كذلك القطاع في المقام فانه ما دام قد حصل له العلم في اول امره بثبوت الحرمة في مورد واحد من الموارد المائة فلا يكون معذورا لو خالفها في المستقبل وان زال علمه بها ما دام زوال ذلك بسبب وسوسته وسلوكه الاسباب غير العقلائية فانه زوال بسوء الاختيار فلا يكون معذورا.

قوله ص 59 س 8 حجّية القطع غير المصيب وحكم التجري :

لعل المناسب حذف القوسين من قوله وحكم التجري.

قوله ص 59 س 12 ولم يكن متأثرا بحالة نفسية :

هذا عطف تفسير على سابقه ومثاله حسن الظن السريع او سوء الظن

ص: 138

السريع بالآخرين فانهما حالتان نفسيتان كثيرا ما تسببان حصول القطع.

قوله ص 61 س 3 وبما هي معبّرة ... الخ :

عطف تفسير على سابقه فان الحجّية بالنظر الاصولي عبارة اخرى عن المنجّزية والمعذّرية.

قوله ص 61 س 6 تمام الموضوع ... الخ :

اي وان لم يكن مطابقا للواقع.

قوله ص 61 س 12 او الردع عن العمل ... الخ :

المناسب والردع بالواو ليكون عطف تفسير على سابقه.

قوله ص 61 س 14 لانه يرى نفسه مصيبا :

اي وما دام يرى نفسه مصيبا ويعتقد ان الحرمة التي قطع بها ثابتة فاذا نهاه الشارع عن قطعه وقال ان هذا الشيء مباح فسوف يحصل بنظره اجتماع المتناقضين.

قوله ص 62 س 3 فكذلك ايضا :

اي واضح ايضا.

قوله ص 63 س 3 في بداية امره :

اي قبل حصول القطوع له.

قوله ص 63 س 5 من قطوع نافية :

تقييد القطوع بالنافية للتكليف باعتبار ان محل البحث عن المعذّرية وهي تختص بحالة القطع بعدم التكليف.

قوله ص 63 س 6 غير مطابقة للواقع :

ولازم عدم مطابقتها ان الحرمة ثابتة في بعض تلك القضايا المائة.

ص: 139

قوله ص 63 س 11 كان الجواب ان هذا ... الخ :

اي ان هذا الوجه الثاني ، والمقصود من الوصول هو العلم الاجمالي ، فان وصول التكليف عبارة اخرى عن العلم به.

ص: 140

الاصل الاولي عند الشك في الحجّية

اشارة

ص: 141

ص: 142

تأسيس الاصل عند الشك في الحجّية :

قوله ص 67 س 1 الدليل اذا كان قطعيا ... الخ :

بعد ان انهى قدس سره البحث عن القطع شرع في الحديث عن الامارات (1) ليوضح ان اي امارة حجّة وأيّها ليس حجّة ، فهل خبر الثقة حجّة او لا؟ وهل الظواهر حجّة او لا؟ ...

وقبل البحث عن ذلك لا بد من معرفة انه لو استطعنا اقامة الدليل القطعي على حجّية الخبر مثلا او على عدم حجّيته فالامر واضح ، وان لم يتيسر لنا هذا وذاك فهل الاصل يقتضي الحجّية او عدمها؟ اننا نعرف جيدا ان كل شيء مشكوك الطهارة كالثوب ونحوه اذا اخبر الثقة بطهارته حكمنا بذلك ولو اخبر بنجاسته حكمنا بذلك ايضا وعند فقدان الامرين نرجع الى الاصل وهو يقتضي الطهارة ، وفي مقامنا نريد التعرف عما يقتضيه الاصل عند الشك في الحجّية لنرجع اليه عند تعذر اقامة الدليل على احد الامرين فان الاصل عند الشك في الطهارة والنجاسة يقتضى الطهارة ولكن عند الشك في الحجّية ماذا يقتضي؟

وفي هذا المجال ذكر قدس سره ان الدليل اذا كان مفيدا للقطع - كالخبر المتواتر - فهو حجّة جزما لما تقدم من حجّية القطع ، وان لم يكن مفيدا لذلك - كخبر الثقة - فان قام دليل قطعي على حجّيته حكمنا بها والاّ رجعنا الى الاصل وهو يقتضي عدم الحجّية.

ص: 143


1- وتسمى الامارة بالدليل المحرز ، فان خبر الثقة مثلا ناظر الى الواقع ويريد احرازه.

ولتوضيح ذلك نذكر نقطتين :

أ - ماذا يقصد من قولنا : الاصل يقتضي عدم الحجّية؟

ب - ما الدليل على ان الاصل يقتضي عدم الحجّية؟

وفي بيان النقطة الاولى ذكر قدس سره ان المقصود من قولنا الاصل يقتضي عدم الحجّية هو ان الموقف الذي نتخذه لو كنا نقطع بعدم حجّية الخبر مثلا يلزم اتخاذه عند الشك في حجّيته ايضا ، فاحتمال الحجّية يساوي في مقام العمل القطع بعدمها من حيث وحدة الموقف.

وفي مقام توضيح النقطة الثانية - وهو بنفسه توضيح اكثر للنقطة الاولى - ذكر المثال التالي : لو كان بايدينا خبر يدل على ان الدعاء عند رؤية الهلال واجب ، وكنا نشك في اصل حجّية الخبر فالمواقف التي نأخذ بها عند فرض عدم وجود الخبر المذكور لا تخلو من احد امور اربعة :

1 - التمسك بالبراءة العقلية - وهي ما تسمى بقاعدة قبح العقاب بلا بيان - بناء على رأي المشهور او التمسك بالاحتياط العقلي على مختارنا من منجّزية الاحتمال.

2 - التمسك بالبراءة الشرعية اي بمثل حديث « رفع عن امتي ما لا يعلمون » (1).

3 - التمسك بالاستصحاب بتقريب ان الدعاء لم يكن واجبا قبل بزوغ الهلال فاذا بزغ وشك في وجوبه استصحب عدم الوجوب الثابت سابقا.

4 - التمسك باطلاق الدليل الاجتهادي لو كان ، فمثلا لو فرض دلالة آية

ص: 144


1- والتمسك بالبراءة الشرعية لا اختلاف فيه بين المشهور والسيد الشهيد وانما اختلافهما فقط في حكم العقل بالبراءة او الاحتياط عند احتمال التكليف.

على ان الدعاء - بنحو مطلق ومن دون تقييد بحالة دون اخرى - ليس بواجب فمقتضى اطلاقها نفي وجوبه حتى في حالة رؤية الهلال.

هذه مواقف اربعة نأخذ بها لو لم يكن لدينا خبر دال على الوجوب او كنا نقطع بعدم حجّيته ، ونفس هذه المواقف يجب الاخذ بها عند الشك في الحجّية.

اما الموقف الاول - وهو التمسك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان - فلأن المقصود من البيان هو العلم اي يقبح العقاب عند عدم العلم بالوجوب الواقعي ، ومن الواضح عند الشك في حجّية الخبر لا علم بوجوب الدعاء واقعا فيلزم التمسك بقاعدة قبح العقاب ، ولو كان مجرد احتمال حجّية الخبر كافيا في تبرير ترك القاعدة المذكورة لكفى مجرد احتمال ثبوت وجوب الدعاء واقعا لترك القاعدة سواء كان هناك خبر يشك في حجّيته ام لا ، وبتعبير آخر يلزم القول بمنجّزية احتمال التكليف وبطلان قاعدة « قبح العقاب بلا بيان » كما هو المختار خلافا للمشهور.

واما الموقف الثاني - وهو التمسك بالبراءة الشرعية - فلأن موضوعها هو « ما لا يعلمون » اي عدم العلم بوجوب الدعاء واقعا ، ومن الواضح ان عدم العلم ثابت حتى مع وجود الخبر الذي يشك في حجّيته فيلزم الرجوع الى البراءة ، بل نقول اكثر من هذا ، ان عدم العلم ثابت حتى مع القطع بحجّية الخبر ، فان وجود خبر مقطوع الحجّية لا يصيّرنا عالمين بالوجوب الواقعي.

وقد تقول : اذا كان عدم العلم ثابتا حتى مع وجود خبر مقطوع الحجّية فلماذا يقدم الخبر وتهجر البراءة الشرعية مع ثبوت موضوعها؟

والجواب : ان الخبر يقدم من باب انه حاكم على البراءة الشرعية اي رافع لموضوعها - وهو عدم العلم - رفعا تعبديا وان لم يرفعه حقيقة.

ص: 145

واما الموقف الثالث : وهو الاستصحاب - فلأن موضوعه هو الشك في بقاء الحالة السابقة ، ومن الواضح ان وجود الخبر الذي نشك في حجّيته لا يصيرنا عالمين بارتفاع الحالة السابقة - وهي عدم وجوب الدعاء قبل بزوغ الهلال - حتى يمتنع جريان الاستصحاب.

واما الموقف الرابع - وهو اطلاق الدليل الاجتهادي - فلأن الاطلاق حجّة فيلزم التمسك به الاّ مع قيام حجّة اخرى مقيدة له ، والمفروض ان الخبر الذي بايدينا نشك في حجّيته ولا نجزم بها.

وبهذا اتضح انه عند الشك في حجّية الخبر مثلا لا يتغير الموقف العملي.

اقامة الدليل على نفي الحجّية :

انّا فيما سبق لم نقم دليلا على سلب الحجّية عن الخبر عند الشك في حجّيته بل اقصى ما ذكرنا انه لا موجب لتغيّر الموقف العملي لمجرّد الشك في الحجّية ، والآن نحاول اقامة الدليل على سلب الحجّية.

وتقريبه : ان لدينا حكمين ظاهريين :

أ - حجّية الخبر الدال على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال.

ب - البراءة من وجوب الدعاء عند رؤية الهلال.

وكل واحد من هذين الحكمين ينافي الآخر ، فان البراءة تدل على اهمية المصلحة في نفي الوجوب بينما حجّية الخبر تدل على اهميّة مصلحة الوجوب ، وحيث لا يمكن ان تكون كلتا المصلحتين اهم فاللازم من ذلك ان يكون الدليل الدال على ثبوت احد هذين الحكمين دالا بالالتزام على نفي الحكم الآخر ، وبما ان البراءة قد دل الدليل عليها جزما وهو مثل حديث « رفع عن امتي ما لا يعلمون »

ص: 146

- بينما الخبر لم يقم دليل على حجّيته حسب الفرض - فهذا الدليل يكون دليلا بالالتزام على نفي حجّية الخبر المشكوكة التي هي الحكم الآخر.

وباختصار ان ادلة الاصول العملية تدل بالمطابقة على ثبوت مضمونها في مورد الحجّية المشكوكة وبالالتزام على نفي نفس الحجّية المشكوكة.

وهذا التقريب يتم بناء على رأي السيد الشهيد في الاحكام الظاهرية ، اذ تقدم ص 36 من الحلقة انه يرى تنافي الاحكام الظاهرية بوجوداتها الواقعية ، فكل حكم ظاهري يتنافى والحكم الظاهري الآخر حتى وان لم يعلم بهما فان ثبوت الحكم الظاهري الاول يدل على اهمية هذا الملاك بينما الحكم الظاهري الثاني يدل على اهمية الملاك الآخر ، وحيث لا يمكن اهمية كلا الملاكين كان الحكمان متنافيين بوجودهما الواقعي ، انه بناء على هذا الرأي يكون الدليل على البراءة دالا بالالتزام على نفي حجّية الخبر ، اذ التنافي بينهما ما دام ثابتا وان لم نعلم بحجّية الخبر فالدليل على البراءة دليل على نفي ثبوت الحجّية للخبر واقعا (1).

وهذا بخلافه على رأي السيد الخوئي دام ظله القائل بان تنافي الاحكام الظاهرية يختص بحالة وصولها والعلم بها فانه بناء عليه لا يمكن نفي الحجية المشكوكة ، اذ ما دامت الحجّية غير معلومة فلا يثبت التنافي بينها وبين البراءة ليتمسك بدليل البراءة لنفيها.

ص: 147


1- قد يقال : ان التمسك بالبراءة لنفي الحجية المشكوكة هو من قبيل الاصل المثبت فلا يكون حجة ، اذ البراءة اصل عملي وهو لا يكون حجة في لوازمه غير الشرعية. والجواب : انا لا نتمسك بلازم نفس البراءة الشرعية ، وانما نريد التمسك بلازم الدليل الدال على تشريع البراءة فنقول هكذا : ان حديث « رفع عن امتي ما لا يعلمون » يدل على تشريع البراءة ولازم الاخبار عن تشريع البراءة الاخبار عن نفي الحجّية المشكوكة.

توجيه ثالث لاصالة عدم الحجّية :

فيما سبق ذكرنا بيانين لتوجيه اصالة عدم الحجّية :

أ - عدم المقتضي لتغير الموقف العملي.

ب - دلالة دليل البراءة بالالتزام على نفي الحجّية المشكوكة.

والآن نستعرض بيانا ثالثا لذلك وهو التمسك بالآيات الناهية عن اتباع الظن فانها شاملة لكل ظن من الظنون بما في ذلك خبر الثقة مشكوك الحجّية فكل ظن يشك في حجّيته فهو بمقتضى الآيات المذكورة ليس بحجّة.

وقد اعترض الميرزا على هذا البيان بان الآيات حيث انها تنهى عن الظن فلا بد وان يثبت في المرحلة الاولى ان الخبر ظن حتى نتمسك بالآيات للنهي عنه ، اذ التمسك بعموم الحكم فرع ثبوت موضوعه ، وبعد هذا اضاف قدس سره انه بناء على مختارنا في باب الحجّية - وهو ان معنى جعلت الخبر حجّة : جعلته علما وطريقا - يكون شكنا في حجّية الخبر شكا بالتالي في كون الخبر علما وليس بظن ، ومع احتمال كونه علما فلا يصح التمسك بالآيات لاثبات النهي عنه ويكون التمسك بها تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية نظير اكرم العلماء فانه عند الشك في رجل معيّن انه عالم او لا لا يصح التمسك بعموم اكرم العلماء لاثبات عالميته ووجوب اكرامه ، اذ عموم اكرم يقول : ان من كان عالما يجب اكرامه ولا يشخص ان هذا عالم او لا.

واجاب السيد الشهيد عن ذلك بان النهي في الآيات المذكورة لو كان نهيا مولويا تكليفيا لصح ما ذكره الميرزا قدس سره ، ولكن الصحيح انه نهي ارشادي اي يرشد الى ان الظن ليس بحجّة ، واذا قبلنا هذا نضيف اليه ان معنى الحجّية اذا

ص: 148

كان هو العلمية فعدم الحجّية يكون معناه نفي العلمية ، وعلى هذا يصير معنى الآيات التي تقول ان كل ظن ليس بحجّة : ان كل ظن ليس بعلم ، ومثل هذا العموم يجب التمسك به ولا يجوز رفع اليد عنه الاّ بحجّة اقوى مخصصة له ، ومن الواضح ان مجرد احتمال حجّية الخبر ليس حجّة اقوى.

وان شئت قلت : كما ان دليل اكرم كل عالم يجب التمسك به لاثبات وجوب اكرام زيد العالم عند الشك في وجوب اكرامه كذا في المقام فان الآيات التي تقول كل ظن ليس بحجّة عام يجب التمسك به عند الشك في كون الظن الخبري علما فان الايات تقول بعمومها : الظن الخبري ليس بعلم والشك في حجّية الخبر يقول : يحتمل ان الظن الخبري علم ، ومن الواضح ان عموم العام حجّة في الفرد المشكوك ما دام لم يعلم بخروجه منه ، نعم لو فرض قيام الدليل على ان الظن الخبري حجّة وجزم بذلك كان الدليل المذكور مخصصا لعموم الآيات لكن المفروض عدم الدليل على خروج الظن الخبري من الآيات وكونه علما فيجب التمسك بعموم الآيات.

لا يقال : انا ما دمنا نحتمل ان الظن الخبري حجة فلازمه احتمال كونه علما فلا يجوز التمسك بعموم الآيات لكونه تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية.

فانه يقال : ان كون الخبر ظنا من الظنون مما لا اشكال فيه وانما الاشكال في انه هل اعتبره الشارع علما او لا فالآيات تقول : ان كل ظن ومنه الخبر لم يعتبره الشارع علما بينما الشك في حجّية الخبر يقول : ان الخبر الذي هو ظن جزما يحتمل اعتباره علما ، وفي مثل ذلك يجب التمسك بالعموم ولا يكفي احتمال خروج فرد منه بالتخصيص. هذا كله بناء على ان النهي في الآيات ارشادي ، واما بناء على كونه مولويا تكليفيا فما افاده الميرزا من كون التمسك بالآيات تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية تام لان الآيات بناء على ذلك تقول : ان كل ظن يحرم العمل به ،

ص: 149

وما دمنا نحتمل ان الخبر حجّة فلازمه عدم الجزم بكونه ظنا.

وقد تسأل عن الدليل على كون النهي ارشاديا لا مولويا تكليفيا ، وجواب ذلك واضح فانه لو كان مولويا كان العمل بالظن محرما كحرمة شرب الخمر فكما يعاقب شارب الخمر في الدنيا بالتعزير وفي الآخرة بالنار يلزم عقاب العامل بالظن ايضا والحال ان ذلك غير محتمل بل اقصى ما يترتب على العمل بالظن عدم إجزائه عن الواقع ومن اخذ به لا تكون اعماله مجزية ، ولئن كانت هناك عقوبة فهي على عدم الاتيان بالواقع لا على نفس العمل بالظن.

قوله ص 67 س 9 مقابلة :

الصواب : مقابله.

قوله ص 68 ص 14 المخصص :

اي المقيد ، وانما عبّر عنه بذلك لان كل واحد من التخصيص والتقييد قد يطلق ويراد به الآخر.

قوله ص 68 س 17 عمليا :

الانسب عملا.

قوله ص 69 س 3 انه :

اي تصورنا المتقدم.

قوله ص 69 س 3 بينها :

اي بين الاحكام الظاهرية.

قوله ص 69 س 3 بوجوداتها الواقعية :

اي وان لم تكن واصلة ومعلومة خلافا لمسلك السيد الخوئي.

قوله ص 69 س 7 بذلك :

ص: 150

اي بدليل البراءة.

قوله ص 69 س 13 بني :

الصواب : بنى.

قوله ص 69 س 16 غير محرز :

اي ومعه يكون التمسك بالعام تمسكا به في الشبهة المصداقية.

قوله ص 70 س 7 فيكون مفادها في رتبة مفاد حجّية الامارة :

اي لا أنّ احتمال حجّية الخبر يرفع موضوع الآيات - كما هو الحال بناء على النهي التكليفي - بل ان كليهما ينظر الى موضوع واحد وهو الظن الخبري واحدهما يقول انه علم والآخر يقول انه ليس علما ، فهما اذن في رتبة واحدة ، والآيات يصح التمسك بها لنفي العلمية عن الظن الخبري فان الدليل العام لا ترفع اليد عنه الا بمخصص واحتمال حجّية الظن الخبري لا يصلح مخصصاً.

ص: 151

ص: 152

الأصول والامارات المثبتة

اشارة

ص: 153

ص: 154

مقدار ما يثبت بدليل الحجّية :

قوله ص 70 س 9 وكلما كان الطريق ... الخ :

في هذا المبحث يراد التعرّض للأصل المثبت الذي قال المشهور بعدم حجّيته خلافا للامارة المثبتة حيث قيل بحجّيتها.

وقبل توضيح ما افاده السيد الشهيد قدس سره نوضح عن طريق المثال المقصود من المصطلحين المذكورين.

لو فرض ان لانسان ولدا صغيرا سافر عنه وانقطعت عنه اخباره وكان قد نذر التصدق على الفقير متى ما نبتت لحيته ، فاذا مضت فترة عشرين سنة مثلا وشك في بقاء حياته وبالتالي في نبات لحيته فهل يوجد طريق لاثبات نبات لحيته وبالتالي اثبات وجود التصدق؟

قد يجاب بالايجاب وان الطريق لذلك هو استصحاب حياته فانه بذلك تثبت الحياة ، وببقائها يثبت نبات اللحية لعدم انفكاك بقاء الحياة الى عشرين سنة عن نبات اللحية ، ان مثل هذا الاستصحاب يعبّر عنه بالاستصحاب او الاصل المثبت اي اريد به اثبات اللوازم غير الشرعية للحياة ، فان نبات اللحية ليس اثرا شرعيا للحياة وانما الاثر الشرعي لها هو استحقاقه الارث لو مات بعض اقاربه.

والمعروف بين الاصوليين عدم حجّيته (1). اي لا يمكن باستصحاب الحياة اثبات

ص: 155


1- قد يبدو للطالب التنافي بين عدم حجّية الاصل المثبت وبين كونه مثبتا ، فان المناسب التعبير عنه - ما دام ليس حجّة - بغير المثبت الاّ انه عبّر بذلك بمعنى انه يراد به اثبات اللوازم غير الشرعية.

لوازمها غير الشرعية وانما يثبت به خصوص اللوازم الشرعية.

اما لو اخبر الثقة ببقاء الحياة ثبتت بذلك الحياة ولوازمها غير الشرعية فضلا عن الشرعية ، فان خبر الثقة امارة وهي حجّة في لوازمها غير الشرعية.

وبعد هذا نأتي الى ما افاده السيد الشهيد قدس سره ، ذكر اولا ان كل دليل هو حجّة بلا اشكال في مدلوله المطابقي ، فالامارة او الاصل المخبران عن حياة الولد هما حجّتان فيه ، واما بالنسبة الى المدلول الالتزامي فهناك صورتان لا اشكال في حجّية الدليل فيهما :

1 - اذا ثبتت حياة الولد بدليل قطعي - كالخبر المتواتر - فان لوازمها تثبت ايضا بما في ذلك اللوازم غير الشرعية ، اذ القطع بالحياة يستلزم القطع بجميع لوازمها ، والقطع كما تقدم حجّة.

2 - اذا دل الدليل على ثبوت الحجّية لعنوان وفرض صدق ذلك العنوان على المدلول المطابقي والالتزامي معا كما اذا دلّ الدليل على حجّية خبر الثقة وفرض ان عنوان خبر الثقة كما يصدق بالنسبة الى الحياة يصدق على لوازمها كما اختار ذلك الآخوند حيث ذكر ان من اخبر عن قضية معيّنة لها عشرة لوازم فهو مخبر باحد عشر خبرا (1) ويكون جميعها حجّة لصدق عنوان خبر الثقة على كل واحد منها.

ص: 156


1- خلافا للميرزا والسيد الخوئي حيث اختارا عدم صدق عنوان الخبر على المداليل الالتزامية فمن اخبر عن حياة الولد لا يصدق انه اخبر عن اكله ونومه ومشيه في الاسواق ونمو لحيته وو ... لأن شرط صدق الخبر قصد المخبر الاخبار عن مضمون الخبر ، ومن يخبر عن شيء قد لا يكون قاصدا بل غافلا عن المداليل الالتزامية.

وباختصار : لا اشكال في ثبوت اللوازم بما في ذلك غير الشرعية بدون اختلاف بين الفقهاء في الصورتين المذكورتين ، وانما الاشكال في صورة ثالثة وهي ما لو فرض عدم افادة الدليل للقطع وعدم صدق العنوان الذي ثبتت له الحجّية على المدلول الالتزامي كما لو دل الدليل على حجيّة الظهور وحدثنا الثقة بحديث له ظهور في معنى معيّن وكان لذلك الظهور لازم خاص فان الظهور لا يفيد القطع كما ولا يصدق على المدلول الالتزامي انه ظهور ، وفي مثل ذلك وقع الخلاف في ان تلك اللوازم بعد عدم صدق عنوان الظهور عليها هل تثبت او لا؟ والمشهور بين الاصوليين هو التفصيل بين الاصول العملية فلا تكون حجّة في لوازمها غير الشرعية وبين الامارات حيث تكون حجّة في ذلك.

واذا طالبنا المشهور بدليلهم على هذه التفرقة اجابنا الميرزا بان المجعول في الامارة حيث انه العلمية فاللازم من ذلك حصول العلم باللوازم ، فان العلم بالشيء يستلزم العلم بلوازمه ، فاذا اخبر الثقة بحياة الولد وفرض ان معنى الحجّية هو العلمية صار الشخص المخبر عالما بالحياة وبالتالي عالما بلوازمها كنبات اللحية وهذا بخلاف ما اذا ثبتت الحياة بالاستصحاب فان المجعول فيه ليس هو العلمية حتى تطبق قاعدة من علم بشيء علم بلوازمه وانما المجعول فيه هو التعبّد بالوظيفة العملية اي انه في مقام العمل لا بدّ من التعامل مع الولد معاملة الحي ، وواضح انّه في باب التعبد يقتصر على مقدار التعبد ولا يتعدى الى الزائد عنه ، فمثلا لو قلنا للشخص الشجاع انا نعتبرك اسدا فلا يحق له الهجوم علينا وافتراسنا بحجّة انا اعتبرناه اسدا والاسد من لوازمه الافتراس ، لا يحق له ذلك لانا وان اعتبرناه اسدا الاّ ان هذا الاعتبار هو من زاوية خاصة وهي الشجاعة ولا يلزم من اعتبار الشخص اسدا من زاوية اعتباره اسدا بلحاظ باقي الزوايا ، فان

ص: 157

التكليف بين الآثار في باب الاعتبار امر وجيه ، وهكذا في المقام فانه لا بد من الاقتصار فيه على مقدار التعبد فاذا كان المستفاد من حديث « لا تنقض اليقين بالشك » التعبد ببقاء الحياة بلحاظ الآثار الشرعية (1) فلا يلزم من ذلك التعبّد ببقائها بلحاظ الآثار غير الشرعية.

ايراد السيّد الخوئي :

واورد السيّد الخوئي دام ظله على الميرزا بانا نسلم كون المجعول في الامارات هو العلمية الاّ انا لا نسلّم بقاعدة ان من علم بشيء فقد علم بلوازمه فانها تتم في العلم الحقيقي الوجداني دون العلم التعبدي الاعتباري ، فمن علم بحياة الولد علما وجدانيا فقد علم بانه يأكل ويشرب وينام ، اما من علم علما اعتباريا بالحياة فلا يلزم علمه اعتبارا باللوازم ، فالثقة اذا اخبر بحياة الولد اعتبر المولى الشخص المخبر عالما بالحياة من دون ان يحصل له العلم حقيقة ، ومن الواضح ان اعتبار الشخص عالما بالحياة لا يستلزم اعتباره عالما بلوازمها نظير اعتبار الشخص الشجاع اسدا من حيث الشجاعة فانه لا يستلزم اعتباره اسدا من حيث الافتراس ، ومن هنا اختار دام ظله ان دليل حجّية الامارة لا يقتضي حجّيتها في لوازمها غير الشرعية كما هو الحال في الاصل.

ص: 158


1- الوجه في ثبوت الاثار الشرعية لزوم محذور اللغوية على تقدير عدم ثبوتها فلا يمكن ان يعبدنا الشارع باستصحاب حياة الولد والحكم بها بدون ان يعبدنا باستحقاقه الارث وبقاء زوجته على زوجيتها وو ... اذ ما الفائدة في الحكم بالحياة بدون الحكم بآثارها الشرعية؟

رأي السيّد الشهيد :

والسيد الشهيد وافق المشهور في تفصيلهم بين الامارة والاصل ، فالامارة حجّة في لوازمها غير الشرعيّة دون الاصل ، ولكن الوجه في ذلك ليس هو ما افاده الميرزا فانه مبني على رأيه في كون المجعول في الامارة هو العلمية والرأي المذكور مرفوض فان الفارق المذكور فارق على مستوى الصياغة والالفاظ فتعبير الدليل اذا كان بمثل قوله الخبر علم وكاشف كان امارة وان عبّر بالوظيفة العملية كان اصلا ، والصحيح ان الفارق جوهري واعمق من الالفاظ ، ولئن كان هناك فارق لفظي فهو نابع من الفارق الجوهري.

وحاصل الفارق : ان الحكم الظاهري يرجع في روحه الى الحكم الناشىء عن الملاك الاهم ، فالمولى شرّع الاباحة للماء والحرمة للخمر فاذا عرف المكلّف ان السائل ماء كان حكمه واضحا وهو الاباحة واذا عرف انه خمر كان حكمه واضحا ايضا وهو الحرمة ، اما اذا تردد ولم يعلم انه ماء او خمر فعلى المولى تشريع حكم له. ولكن ماذا يشرّع له؟ لا بد له من الموازنة بين مصلحة الاباحة ومفسدة الحرمة فان كانت الاولى اهم في نظره شرّع الاباحة لكل سائل مشكوك وقال : « كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام » وان كانت الثانية هي الاهم شرّع الاحتياط. اذن الاباحة والاحتياط حكمان ظاهريان ناشئان من الملاك الاهم.

وبعد معرفة حقيقة الحكم الظاهري لا بد من معرفة الفارق بين الامارة والاصل. ان الامارة والاصل يشتركان في كونهما حكمين ظاهريين ناشئين من الملاك الاهم بيد ان اهمية الملاك في الامارة ناشئة من قوة الكشف وفي الاصل ناشئة من قوة المحتمل في نفسه.

مثال الامارة : خبر الثقة فان المولى اعتبره حجّة بما انه يكشف عن

ص: 159

المضمون بدرجة 70% (1) بقطع النظر عن نوعية المنكشف.

ومثال الاصل : الحكم بالاباحة عند الشك في حرمة شيء فانه لم ينشأ من قوة في الكشف لعدم وجود كاشف عن الاباحة بل حتى لو فرضنا ان احتمال الاباحة كان ضعيفا بدرجة 30% مثلا فمع ذلك يلزم الحكم بالاباحة ، وما ذلك الا لأن الاباحة في نفسها اقوى من الحرمة عند احتمالهما معا.

وبعد ان كانت حجّية الامارة ناشئة من قوة الكشف فمن المناسب حجّيتها في لوازمها غير الشرعية ، فان الثقة اذا اخبر عن حياة الولد فكاشفيّته عن الحياة لو كانت بدرجة 70% فلا بد ان يكون كاشفا عن اكله ونومه وبقية اللوازم بنفس الدرجة فان كاشفية الخبر عن المدلول الالتزامي تتساوى وجدانا مع كاشفيته عن مدلوله المطابقي ، واذا كانت الكاشفية بدرجة 70% موجبة لحجّية الخبر في مدلوله المطابقي فمن المناسب ان تكون موجبة لحجّيته في مدلوله الالتزامي ايضا.

قوله ص 71 س 12 مثبتاته :

مصطلح المثبتات يراد به خصوص اللوازم غير الشرعيّة.

ص: 160


1- من الواضح ان هذه الكاشفية كاشفية تكوينيّة حقيقية وليست اعتبارية ناشئة من جعل المولى اياها.

تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة

اشارة

ص: 161

ص: 162

تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة :

قوله ص 74 س 10 اذا كان اللازم المدلول عليه ... الخ :

تقدم في الحلقة السابقة ان لازم الشيء تارة يكون مساويا له واخرى اعم منه.

مثال اللازم المساوي : وجود النهار فانه لازم مساو لطلوع الشمس.

ومثال اللازم الاعم : دخول الشخص في النار فان لازمه الموت وهو لازم اعم من دخول النار ، اذ قد يتحقق الموت بغير دخول النار.

اما اللازم المساوي فلا اشكال في بطلانه عند بطلان المدلول المطابقي ، فاذا اخبر الثقة بطلوع الشمس واتضح بعد ذلك بطلان اخباره وان الشمس ليست طالعة فلا اشكال في بطلان المدلول الالتزامي وعدم الحكم بوجود النهار لاقتضاء المساواة ذلك فان لازم مساواة وجود النهار لطلوع الشمس بطلان هذا عند بطلان ذاك والاّ لم يكن وجود النهار لازما مساويا بل اعم وهذا واضح وقد تقدم في الحلقة السابقة ص 62.

اما اذا كان اللازم اعم فقد وقع الكلام بين الاصوليّين في انه اذا ثبت بطلان المدلول المطابقي فهل يلزم من ذلك بطلان المدلول الالتزامي او لا؟ فالثقة اذا اخبرنا بدخول زيد في النار فلازم ذلك موته ولكن اذا فرض انه ثبت لدينا بطلان المدلول المطابقي وان دخول زيد في النار ليس ثابتا - اما لاعتراف المخبر بخطئه او لاخبار ثقة ثان بعدم دخوله النار - فهل يثبت بذلك بطلان المدلول الالتزامي

ص: 163

ويحكم بعدم تحقق الموت او لا؟ فان قيل بالاول فمعنى ذلك تبعية الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة في مقام الحجّية فان سقطت الثانية عن الحجّية سقطت الاولى ايضا ، وان قيل بالثانية فمعناه عدم التبعيّة في مقام الحجّية.

وقد يقال : ان الصحيح هو التبعيّة فبسقوط المطابقيّة عن الحجّية تسقط الالتزامية ايضا لأنا قرأنا في المنطق ان الالتزامية فرع المطابقيّة (1) ، ومقتضى الفرعية بطلان هذه ببطلان تلك.

ويرده : ان تفرع الالتزامية على المطابقية انما هو في مقام الوجود دون مقام الحجّية ، فالالتزامية لا توجد الا بعد وجود المطابقيّة ، وهذا اجنبي عن المقام فان الدلالة المطابقيّة موجودة لكنها ليست حجّة فالثقة اذا اخبر عن دخول زيد في النار ثبتت الدلالة المطابقيّة وكان كلامه دالا على الدخول في النار الاّ انها ليست حجّة ، وما دامت المطابقيّة ثابتة فالالتزاميّة ثابتة ايضا ، اذن كلتا الدلالتين ثابتة وانما الكلام في ان تلك عند سقوطها عن الحجّية هل يلزم سقوط هذه عن الحجّية ايضا او لا؟

وقد يقال في مقام الجواب بنفي الملازمة في مقام الحجّية ، فسقوط المطابقيّة عن الحجّية لا يلزم منه سقوط الالتزامية عنها فان التبعية في اصل الوجود لا تستلزم التبعيّة في الحجّية فيمكن بعد ثبوت كلتا الدلالتين سقوط المطابقيّة عن الحجّية وبقاء الالتزامية عليها.

وفي مقابل ذلك قد يقال بالتبعيّة في مقام الحجّية ، ويمكن تقريب ذلك بوجهين :

ص: 164


1- فان دلالة اللفظ على لازم المعنى فرع دلالته على اصل المعنى ، فدلالة اسم الحجاج على الجرائم فرع دلالته على ذات الحجاج.

1 - ما ذكره السيد الخوئي دام ظله من ان المدلول الالتزامي مساو دائما للمطابقي وليس اعم منه فيلزم سقوطه عن الحجّية لما تقدم من ان سقوط الخبر في مدلوله المطابقي يستلزم سقوطه في مدلوله الالتزامي المساوي لكون ذلك لازم فرض المساواة.

اما لماذا يكون المدلول الالتزامي مساويا وليس بأعم فالوجه فيه ان الثقة اذا اخبر بدخول زيد النار فهو لا يخبر عن موته الحاصل باي سبب كان وانما يخبر عن موته المقيّد بدخول النار ، فالموت وان كان في نفسه اعم من دخول النار الا ان المخبر لا يخبر عن اصل الموت بل عن الموت الخاص الحاصل بسبب النار.

والجواب عن هذا التقريب ان اللازم لا يكون مساويا دائما بل قد يكون مساويا وقد يكون اعم.

مثال اللازم المساوي الاخبار عن دخول النار فان لازم دخول النار ليس هو مطلق الموت بل الموت المقيد بالنار.

ومثال اللازم الاعم الصفرة الثابتة على الورقة فان لازمها عدم السواد ، ولكن اي عدم السواد فهل عدم السواد الكلي هو اللازم او عدم السواد المقيد بالصفرة؟ الصحيح ان اللازم هو عدم السواد الكلي ، اذ مع وجود الصفرة على الورقة يمتنع وجود جميع افراد السواد لا فرد دون فرد ، وهذا معناه ان مطلق عدم السواد هو اللازم للصفرة لا عدم السواد المقيّد بالصفرة (1).

وعليه فالملازمة منصبة على طرفين : الصفرة وعدم السواد الكلي ، والطرف الذي انصبت عليه الملازمة هو عدم السواد الكلي ، اجل بعد ان تنصب الملازمة

ص: 165


1- هذا مضافا الى ان عدم السواد امر عدمي والامر العدمي لا يقبل التحصيص ، فانه لا شيء واللاشيء كيف يتحصص وانما الذي يتحصص هو الشيء فتأمل.

على الطرفين يكون عدم السواد مقارنا للصفرة ومقيدا بها الاّ ان هذا التقييد نشأ بعد الملازمة وفي مرحلة متأخرة عنها والاّ ففي مرحلة صب الملازمة تنصب على الصفرة وذات عدم السواد الكلي.

واذا ثبت ان الطرف الذي تنصب عليه الملازمة هو عدم السواد الكلي فالمدلول الالتزامي لوجود الصفرة يكون عاما لان المقصود من المدلول الالتزامي هو طرف الملازمة الذي تنصب عليه لا طرفها ملحوظا بعد انصاب الملازمة عليه.

2 - ان الثقة اذا اخبر عن دخول زيد النار فالنكتة التي لاجلها يصدّق العقلاء بمضمون الخبر هي استبعاد ان المخبر قد اخطأ في رؤيته فمن البعيد ان يشتبه الشخص ويرى دخول النار بدلا عن دخول الدار فيخبر اشتباها بدخول النار ، واذا ثبت اشتباه المخبر في المدلول المطابقي واتضح عدم دخول زيد النار فلا يلزم من عدم الحكم بالمدلول الالتزامي وانه لم يمت اشتباه ثان ، وما دام لا يحصل اشتباه ثان فلا يحكم بصدق المخبر في المدلول الالتزامي لان النكتة في التصديق هي استبعاد الاشتباه والمفروض تحققه - الاشتباه -.

اجل لو فرض ان شخصين اخبر كل منهما عن دخول زيد النار وفرض تراجع الاول واشتباهه في اخباره فلا ترفع بذلك اليد عن الخبر الثاني لان لازم رفع اليد عنه حصول اشتباه آخر للمخبر الثاني غير الاشتباه الذي حصل للمخبر الاول (1).

وباختصار انه في الخبرين العرضيّين حيث يلزم من رفع اليد عن الخبر الثاني حصول اشتباه آخر فلا يجوز ذلك بخلافه في الخبرين الطوليين اللذين

ص: 166


1- ويسمى مثل هذين الخبرين بالخبرين العرضيّين.

احدهما مطابقي والآخر التزامي فانه حيث لا يلزم اشتباه آخر فمن الوجيه رفع اليد عن كلا الخبرين.

ولاجل هذه النكتة بنى السيد الشهيد على سقوط الدلالة الالتزامية عن الحجيّة عند سقوط المطابقيّة.

هل تسقط الدلالة التضمّنيّة عند سقوط المطابقيّة؟

كان الكلام السابق في سقوط الدلالة الالتزامية عن الحجّية عند سقوط المطابقية والآن نريد التعرّف على الدلالة التضمّنيّة وانها تسقط عن الحجّية عند سقوط المطابقيّة او لا؟

مثال ذلك : لو قال المولى : اكرم العلماء ، وكان عددهم مائة فالمدلول المطابقي هو وجوب اكرام المائة والمدلول التضمّني هو وجوب اكرام العالم الاول ووجوب اكرام العالم الثاني ووجوب اكرام الثالث وهكذا الى تمام المائة ، فكل عالم من افراد المائة توجد في حقّه دلالة تضمّنيّة بوجوب اكرامه. واذا فرض ورود مخصص يقول : لا تكرم الفساق من العلماء ، فهذا معناه سقوط المدلول المطابقي عن الحجّية فاكرام مجموع المائة غير واجب ولكن هل تسقط بذلك الدلالات التضمّنيّة بالنسبة الى العلماء العدول؟ فلو كان عدد العدول تسعين فهل تسقط الدلالات التضمّنيّة التسعون عن الحجّية بعد عدم وجوب اكرام المائة؟

وهذا هو البحث المعروف بين الاصوليّين : هل العام بعد التخصيص حجّة في الباقي او لا؟ والمعروف بينهم حجيّته في الباقي ، ويأتي تحقيق ذلك في الحلقة ص 292.

ص: 167

قوله ص 76 س 6 ومثال الثاني الملازم ... الخ :

عبّر قدس سره في المثال الأوّل باللازم والملزوم ، وفي المثال الثاني بالملازم ، ووجه ذلك ان اللازم هو المعلول والملزوم هو العلّة ، وبما ان دخول النار علّة والموت معلول ان يعبّر باللازم بالملزوم ، هذا في المثال الاوّل ، واما في المثال الثاني فالصفرة ضد للسواد وحيث انه بيّن الضدّين لا توجد عليّة ومعلوليّة - لما سيأتي في مبحث الضد من ان وجود الصفرة مثلا ليس موقوفا على عدم السواد وانما هما متلازمان ومعلولان لعلّة ثالثة - لم يصح التعبير باللازم والملزوم والمناسب التعبير بالمتلازمين.

ص: 168

القطع الطريقي والموضوعي

اشارة

ص: 169

ص: 170

وفاء الدليل بدور القطع الطريقي والموضوعي :

قوله ص 77 س 13 اذا كان الدليل قطعيّا ... الخ :

تقدّم في الحلقة السابقة ص 38 ان القطع على قسمين طريقي وموضوعي.

ولتوضيح ذلك نذكر المثال التالي : لو قال المولى : الخمر حرام كانت الحرمة في المثال ثابتة لذات الخمر الواقعي ، فاذا كان السائل خمرا واقعا فهو حرام وان لم يقطع المكلّف بكونه خمرا ، غاية الأمر لا تكون الحرمة منجّزة عليه - اي لا يستحق العقاب - ما دام لا يقطع بها ، ويسمى مثل هذا القطع - الذي لم يؤخذ في الموضوع وليس له دور سوى التنجيز - بالقطع الطريقي.

اما اذا قال المولى : الخمر المقطوع بخمريّته حرام فالقطع موضوعي لانه اخذ جزء في الموضوع وبدونه لا تكون الحرمة ثابتة واقعا فضلا عن تنجزها.

وبعد هذا نطرح تساؤلين :

1 - اذا كانت الحرمة ثابتة لذات الخمر وكان دور القطع دور المنجّز والمعذّر فقط فان قطع المكلّف بكون السائل خمرا فلا اشكال في تنجّزها عليه بمعنى استحقاقه العقوبة على مخالفتها غير انه لو فرض عدم حصول القطع له وانما شهد الثقة بكون السائل خمرا فهل تتنجّز الحرمة بذلك او لا؟ وبعبارة اخرى هل الامارة تقوم مقام القطع الطريقي في وظيفته وهي التنجيز والتعذير او لا؟

2 - اذا كان الحكم ثابتا للشيء المقطوع - كما اذا قال المولى ان قطعت بالشيء جازت لك الشهادة به - فالقطع موضوعي فان حصل القطع بكون الدار

ص: 171

لزيد مثلا جازت الشهادة عند الحاكم اما اذا لم يحصل القطع وانما شهد الثقة بكونها لزيد فهل يجوز الاستناد لاخبار الثقة في اداء الشهادة؟ وبعبارة اخرى هل الامارة تقوم مقام القطع الموضوعي او لا؟

ولا اشكال في قيام الامارة مقام كلا القطعين لو دل دليل خاص على ذلك وانما الكلام فيما لو خلينا نحن ودليل حجّية الامارة - كمفهوم آية البناء الذي يقول وان لم يجىء الفاسق فلا تتبيّنوا - فهل نستفيد منه قيامها مقام القطعين؟

ذكر قدس سره : ان الامارة (1) لو افادت القطع كما في الخبر المتواتر فلا اشكال في تنجّز الحكم بها وجواز الاستناد اليها في الشهادة بل ان السؤال عن قيامها مقام القطعين فيه مسامحة واضحة لانها بنفسها قطع وليست ظنا حتى يسأل عن قيامها مقام القطع.

واما اذا كانت مفيدة للظن فهناك بحثان :

أ - بحث في قيام الامارة مقام القطع الطريقي في وظيفته وهي التنجيز والتعذير.

ب - بحث في قيام الامارة مقام القطع الموضوعي.

البحث الأوّل :

اما فيما يخص البحث الاول فقد يقال ان قيام الامارة مقام القطع الطريقي في التنجيز والتعذير من الامور المسلمة - اذ لو لم تكن منجّزة ومعذّرة كالقطع الطريقي فلا معنى لحجّيتها - ومعه ما الغرض من البحث المذكور؟

والجواب : انه لا اشكال بين الاصوليّين في كون الامارات منجّزة ومعذّرة

ص: 172


1- لعل تعبيرنا بالامارة فيه شيء من المسامحة لاختصاصها بحالة افادة الظن.

والتزامهم في مقام الفتوى والعمل بذلك وانما وقعوا في اشكال فني ونظري من ناحيتين :

الاولى : ان استحقاق العقوبة الذي هو معنى التنجيز هو من خصائص القطع طبقا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان فغير القطع لا يصح معه العقاب ، وعليه فكيف تكون الامارة منجّزة وموجبة لاستحقاق العقاب مع انها لا توجب القطع.

ولا يمكن ردّ ذلك بان دليل حجّية الامارة يكون مخصّصا لقاعدة « قبح العقاب بلا بيان » اذ يجاب عن ذلك بان الاحكام العقلية التي منها القاعدة المذكورة لا تقبل التخصيص.

الثانية : ان المولى كيف ينزل الامارة منزلة القطع مع ان شرط التنزيل وجود اثر شرعي للمنزل عليه ، فمثلا حينما يقول المولى : الطواف بالبيت صلاة يوجد اثر شرعي للصلاة وهو اشتراط الطهارة فيها مثلا وبالتنزيل يراد تعميم هذا الاثر للطواف ، وفي المقام اذا قال المولى الامارة كالقطع لا يوجد اثر شرعي للقطع حتى يسرّى للامارة فان اثر القطع الطريقي - وهو المنجّزية والمعذّرية - اثر عقلي وليس شرعيا اذ العقل هو الذي يحكم باستحقاق العقوبة على مخالفة القطع ، ومع كون الاثر عقليا فلا يمكن التنزيل فان المولى انما يمكنه تسرية احكامه الشرعيّة الى المنزّل والاحكام العقلية ليست راجعة له ولا تحت يده حتى يمكنه سحبها للامارة.

اما بالنسبة الى الاشكال من الناحية الاولى فقد أجاب قدس سره عنه بجوابين :

1 - اننا ننكر قاعدة « قبح العقاب عند عدم العلم » كما تقدم مرارا وانما يرد الاشكال على المشهور القائلين بها.

ص: 173

2 - ان عقلنا لو حكم بقاعدة « قبح العقاب بلا بيان » فهو لا يحكم بها الاّ في خصوص الاحكام التي لا يعلم باهتمام المولى بها على تقدير ثبوتها واقعا ، اما اذا كان الحكم الذي يشك في ثبوته واقعا مما يهتم به المولى على تقدير ثبوته فلا يحكم عقلنا منذ البداية بقبح العقاب عليه وان كان مشكوكا ، فمثلا لو شك المكلّف في امرأة معيّنة انها اخته او لا فلا يمكنه التزوج بها تطبيقا لقاعدة « قبح العقاب » ، فانها لو كانت اختا في الواقع فالشارع يحرّم العقد عليها ، والحرمة المذكورة على تقدير ثبوتها واقعا مما يهتم بها الشارع اهتماما بالغا.

وبعد هذا نقول : ان المولى اذا حكم بحجّية خبر الثقة فهذا معناه اهتمامه بالاحكام التي يدل عليها - فان الحجّية حكم ظاهري والحكم الظاهري يدل على الملاك الاهم - ومع اهتمامه بها تكون منجّزة ويستحق العقاب على مخالفتها وان لم يحصل العلم بها عن طريق الامارة ، ولا يلزم من ذلك تخصيص قاعدة « قبح العقاب » فان القاعدة المذكورة كما قلنا تختص منذ البداية بالاحكام المشكوكة التي لا يعلم باهتمام المولى بها على تقدير ثبوتها.

واما الاشكال من الناحية الثانية فهناك محاولتان للتخلّص منه :

الاولى : ان يلتزم بمسلك جعل الحكم المماثل فيقال : ان جعل خبر الثقة حجّة ليس معناه تنزيله منزلة القطع حتى يرد الاشكال السابق بل معناه جعل حكم ظاهري مماثل لما يقوله ، فاذا كان الثقة يقول : صلاة الجمعة واجبة فالشارع يجعل وجوبا ظاهريا لصلاة الجمعة ، واذا كان يقول العصير العنبي المغلي حرام فالشارع يجعل حرمة ظاهرية له وهلم جرّا.

وبناء على المسلك المذكور لا يحتاج الى وجود اثر شرعي فان ذلك مختص بباب التنزيل.

ص: 174

الثانية : ما ذكره الميرزا بناء على مسلك جعل العلمية حيث ذكر ان معنى جعل خبر الثقة حجّة هو اعتباره علما وفردا من افراده كما يعتبر السكاكي الرجل الشجاع فردا من معنى الاسد (1) ومع الاعتبار المذكور يصير الخبر منجّزا كالعلم - فان المنجّزية

ثابتة لمطلق العلم الاعم من الحقيقي والاعتباري - ولا حاجة الى وجود اثر شرعي فان ذلك يختص بباب التنزيل.

وبعد ان استعرض قدس سره المحاولتين المذكورتين تصدى لردهما وحل الاشكال من اساسه ، وحاصل ما ذكره : ان تنجّز التكليف وخروجه من قاعدة « قبح العقاب » يحصل بابراز المولى اهتمامه به فانه بالابراز المذكور يصير الحكم منجّزا ولا تشمله قاعدة « قبح العقاب » اذ تقدم قبل قليل ان القاعدة المذكور لو سلّمت فهي تسلّم في خصوص الاحكام التي لا يعلم باهتمام المولى بها على تقدير ثبوتها واقعا ، ومن الواضح انه بعد دلالة الدليل على حجّية الامارة يكون المولى قد ابرز اهتمامه بالاحكام التي تؤدي اليها ولا تعود قاعدة القبح شاملة لمورد الامارة فيصبح منجّزا وان كان مشكوكا في نفسه ، وبعد ابراز المولى اهتمامه بالحكم لا تعود الصياغة اللفظية مهمة فان الصياغة اللفظية مجرّد تعبير والتعبير لا يؤثر نوعه بعد ان كان مبرزا لاهتمام المولى بالحكم.

وبعبارة اخرى ان اصحاب مسلك التنزيل والحكم المماثل والطريقية صبّوا

ص: 175


1- ان للسكاكي رأيا يقول : لا يوجد عندنا في باب الاستعمال مجاز ابدا ، فحينما يقال في حق الشجاع جاء الاسد يوسّع من دائرة الاسد للشجاع ويعتبر فردا من افراده ، وبعد التوسعة المذكورة يكون استعمال الاسد في الشجاع استعمالا حقيقيا فلا يكون في اللفظ اية مجازية ، اجل ان كانت هناك مجازية فهي في امر عقلي حيث يوسّع العقل من دائرة معنى الاسد ويعممها للشجاع ، ومن هنا يعبّر عن النحو المذكور بالمجاز العقلي لان التصرف في امر عقلي في قبال المجاز اللفظي الذي تكون فيه المجازية في اللفظ.

جهودهم في البحث عن كيفية صياغة الحجّية مع ان ذلك ليس بمهم فان المهم ان يتنجّز الحكم من خلال الامارة ويخرج عن قاعدة « قبح العقاب » وذلك انما يحصل بابراز المولى اهتمامه بالحكم المدلول للامارة ، اما طريقة الابراز وانها بالتنزيل او بالحكم المماثل او بالطريقيّة فهي غير مهمّة ولا مقتضى لصرف الوقت في تحقيقها.

البحث الثاني :

واما بالنسبة الى البحث الثاني - وهو في امكان قيام خبر الثقة مقام القطع الموضوعي - فتحقيق الحال فيه ان القطع المأخوذ في موضوع الحكم له شكلان :

أ - ان يؤخذ في الموضوع بما هو طريق ومنجّز للواقع لا بما هو صفة نفسانية يعبر عنها بحالة 100%. ومثال ذلك قولك : ان قطعت بكون زيد مريضا فزره ، فان القطع في المثال المذكور وان اخذ في الموضوع الا انه اخذ بما هو طريق لاحراز المرض ، ويعبر عنه في الحالة المذكورة بالقطع الموضوعي الطريقي.

ب - ان يؤخذ في الموضوع بما هو صفة نفسانية يعبر عنها بحالة 100%.

ومثال ذلك قول الشارع مثلا : ان قطعت بكون الحق لزيد فاشهد له فان القطع المأخوذ في موضوع جواز الشهادة اخذ بما هو صفة نفسانية اي ان كنت قاطعا في نفسك 100% بكون الحق لزيد فاشهد له ، ويسمى القطع في الحالة المذكورة بالقطع الموضوعي الصفتي.

اما في الشكل الاول فلا اشكال في قيام خبر الثقة مقام القطع فان المفروض ان القطع بالمرض اخذ بما هو طريق لاحراز المرض ومنجّز للواقع ، ومن الواضح ان دليل حجّية الامارة بجعله الحجّية لها يصيرها منجّزة للواقع وتصير بذلك فرداً

ص: 176

حقيقا للموضوع ، فان الموضوع حسب الفرض هو كل منجّز للواقع والامارة فرد منه ، ويمكننا ان نعبر عن دليل حجّية الامارة بانه وارد على دليل الحكم الذي اخذ فيه القطع بما هو منجّز ، والمراد من كونه واردا انه يحقق فردا حقيقيا من المنجّز - اي من الموضوع - في مقابل الدليل الحاكم الذي يحقق فردا منه تعبدا.

واما في الشكل الثاني فلا يقوم خبر الثقة مقام القطع ولا يجوز الاستناد اليه في مقام الشهادة اذ بدليل الحجّية وان صار طريقا ومنجّزا للواقع الا ان المفروض عدم اخذ القطع في الموضوع بما هو طريق للواقع حتى يقوم خبر الثقة مقامه وانما اخذ بما هو صفة نفسية يعبر عنها بحالة 100% ومن الواضح ان خبر الثقة بعد حجّيته لا يصير مفيدا للقطع 100%.

محاولة الميرزا :

هذا ولكن حاول الميرزا ان يستفيد من دليل حجّية خبر الثقة قيام خبر الثقة مقام هذا الشكل من القطع ايضا مستفيدا من مسلكه - جعل العلمية - فان الخبر اذا كان حجة فمعنى ذلك ان الشارع جعله كأنه قطع 100% ومعه يلزم ترتيب جميع آثار القطع الموضوعي الصفتي عليه كجواز الاستناد اليه في اداء الشهادة (1).

ويمكن الايراد على الميرزا بما يتضح بعد الالتفات الى ثلاث نقاط :

أ - ان حكومة احد الدليلين على الآخر تعني نظر الدليل الحاكم الى الدليل

ص: 177


1- ويصطلح على دليل حجّية خبر الثقة بناء على مسلك جعل العلمية بالدليل الحاكم اي انه يحقق فردا تعبّديا لموضوع الحكم المرتب على القطع الصفتي في مقابل الدليل الوارد الذي يحقق فردا حقيقيا من الموضوع.

المحكوم لتوسعة او تضييق موضوعه من قبيل دليل اكرم عالم ودليل الفاسق ليس بعالم فان الدليل الثاني ناظر الى العالم الذي هو موضوع الدليل الاول لتضييقه واخراج العالم الفاسق من عنوان العالم ، واذا قيل في الدليل الثاني المتقي عالم كان ناظرا الى الاول للتوسعة من موضوعه.

ب - ان الدليل المهم على حجّية خبر الثقة هو السيرة العقلائية دون الآيات والروايات حيث انها قابلة للمناقشة.

ج - انه لا يوجد في الحياة العقلائية احكام مترتبة على القطع بما هو صفة نفسية تتمثل في حالة 100% واذا كان موجودا فهو في غاية الندرة ، وانما المتداول بينهم ترتيب الاحكام على القطع بما هو طريق نظير ان قطعت بمرض اخيك المؤمن فزره ، وان قطعت بعداوة شخص فقاطعه ونظائر ذلك ، فان القطع فيها وان اخذ جزءا من الموضوع الا انه لوحظ بما هو طريق لاحراز المرض والعداوة ولا خصوصية لحالة 100%.

وباتضاح هذه النقاط يتّضح عدم امكان حكومة دليل حجّية خبر الثقة على دليل احكام القطع الموضوعي الصفتي ، فان الدليل المهم على حجّية الخبر هو السيرة العقلائية ، وهي لا يمكن ان تكون حاكمة لان الحكومة تتوقف على النظر وحيث ان الحياة العقلائية لا يتداول فيها احكام مترتبة على القطع الموضوعي الصفتي فلا معنى لان يقال : ان السيرة العقلائية الجازية على حجّية خبر الثقة ناظرة الى تنزيل خبر الثقة منزلة القطع الموضوعي الصفتي بعد افتراض عدم تداول القطع الموضوعي الصفتي بينهم.

ان قلت : ان القطع الموضوعي الصفتي وان لم يكن متداولا عند العقلاء ولكنّه متداول في الاحكام الشرعية فلماذا لا تكون السيرة العقلائية ناظرة الى

ص: 178

تنزيل خبر الثقة منزلة القطع الموضوعي الصفتي المتداول عند الشارع.

قلت : لا معنى لان ينظر العقلاء الى احكام الشارع ويضيقوا من موضوعها او يوسعوا ، فان كل حاكم ليس له الحق الا في النظر لاحكام نفسه وتوسيع موضوعها وتضييقه دون احكام غيره فانها خارجة عن حوزته.

قوله ص 77 س 14 بدور القطع الطريقي والموضوعي :

تقدم ايضاح المصطلحين المذكورين في ص 38 من الحلقة الثانية.

قوله ص 78 س 2 مع الاتفاق عمليا ... الخ :

اي لا اشكال بينهم في القول بقيام الامارة مقام القطع الطريقي في المنجّزية والمعذّرية والالتزام بذلك في مقام العمل الاّ ان هناك اشكالا نظريا يقول كيف تقوم الامارة مقام القطع الطريقي في وظيفته وهي التنجيز والتعذير والحال ان ذلك مخالف عند المشهور لقاعدة « قبح العقاب ».

قوله ص 78 س 12 من اول الامر :

التقييد بقوله من اول الامر للاشارة الى ان هذه الدعوى لا يلزم منها تخصيص قاعدة « قبح العقاب ».

قوله ص 80 س 3 بل في اعتبار الظن علما :

لعل الفارق بين الاعتبار والتنزيل انه في التنزيل يكون الملحوظ ابتداء تسرية الاثر للمنزل فاذا لم يكن شرعيا فلا يمكن تسريته واما في الاعتبار فليس الملحوظ ابتداء هو الاثر بل توسعة العلم الى الظن.

قوله ص 80 س 4 على طريقة المجاز العقلي :

اي على طريقة الحقيقة الادعائية التي يقول بها السكاكي ، وقد تقّدمت الاشارة اليها في الحلقة الثانية ص 88 تحت عنوان تحويل المجاز الى حقيقة.

ص: 179

قوله ص 80 س 5 الجامع :

اي الاعم من القطع الوجداني والاعتباري.

قوله ص 80 س 11 كما تقدم :

اي ص 78 في الجواب الثاني على الاشكال الأول.

قوله ص 81 س 7 ويعتبر دليل الحجّية في هذه الحالة واردا :

الفرق بين الورود والحكومة ان التوسعة والتضييق في الدليل الوارد حقيقية وفي الدليل الحاكم تعبّدية.

قوله ص 82 س 8 اذا كان دليل الحجّية للامارة هو السيرة العقلائية :

واما اذا كان دليل الحجّية هو الآيات او الروايات فما افاده الميرزا تام.

ص: 180

جواز الاسناد

اشارة

ص: 181

ص: 182

اثبات الامارة لجواز الاسناد :

قوله ص 82 س 12 يحرم اسناد ما لم يصدر ... الخ :

اذا دل خبر الثقة على ان العصير العنبي يحرم ان غلا فهل يجوز اسناد الحكم المذكور الى اللّه سبحانه فنقول : حكم عزّ وجلّ بحرمة العصير المغلي بعد وضوح ان الخبر لا يفيد القطع بمضمونه بل الظن ، وهكذا هل يجوز اسناد حجّية الخبر اليه تعالى فنقول : حكم عزّ وجلّ بان الخبر حجّة.

وللجواب عن ذلك نقول : انه يوجد لدينا حرمتان :

أ - حرمة الكذب اي حرمة اسناد حكم لم يصدر من الشارع المقدس واقعا اليه.

ب - حرمة الافتراء والتشريع اي حرمة اسناد حكم لا يعلم بصدوره من الشارع اليه.

واذا دققنا النظر في الحرمتين المذكورتين وجدنا الحرمة الاولى منصبة على الحكم الذي لم يصدر واقعا ، فكل حكم لم يصدر واقعا من الشارع تكون نسبته اليه كذبا من دون مدخلية للقطع في ذلك وانما دور القطع دور الطريق والمنجّز لا اكثر بينما الحرمة الثانية منصبة على الحكم الذي لا يعلم بصدوره فكل حكم لا يعلم بصدوره تكون نسبته للشارع تشريعا وافتراء حتى وان كان صادرا منه واقعا ، وعلى هذا فالقطع موضوعي بالنسبة الى هذه الحرمة بينما هو طريقي بالنسبة الى الاولى.

ص: 183

وباتضاح هذا نقول : ان الدليل الدال على حرمة العصير تارة يفرض كونه مفيدا للقطع بالحكم كما هو الحال في الخبر المتواتر واخرى يفرض افادته للظن كما هو الحال في خبر الثقة.

فان فرض افادته للقطع جاز نسبة الحكم الى اللّه سبحانه من دون لزوم محذور حرمة الكذب ولا محذور حرمة التشريع لان المفروض حصول القطع بالحكم.

اما اذا فرض افادته الظن فلا اشكال في جواز نسبة الحجّية الى الشارع فنقول : حكم الشارع بحجّية خبر الثقة لان الحجّية - التي هي حكم ظاهري - لا تثبت الا بالقطع فما لم نقطع بحجّية الخبر فلا يكون حجّة لما تقدم من ان الظن لا يكون حجّة الا مع القطع بحجّيته ، وهذا مما لا اشكال فيه وانما الاشكال في جواز نسبة حرمة العصير الى الشارع بعد فرض عدم القطع بها.

والصحيح هو التفصيل بين الحرمتين فحرمة الكذب منتفية بينما حرمة التشريع ثابتة.

اما ان حرمة الكذب منتفية فلأن القطع بالنسبة اليها طريقي اي لوحظ بما هو منجّز ومعذّر ، ومن الواضح ان الامارة منجّزة ومعذّرة كالقطع الطريقي فكما انه لو قطع المكلّف بثبوت حرمة العصير جازت نسبتها الى الشارع وكان معذورا على تقدير عدم ثبوتها واقعا كذلك لو قامت الامارة على الحرمة جازت نسبتها الى الشارع وكانت الامارة عذرا على تقدير عدم ثبوتها واقعا.

ولرب قائل يقول : ان الحرمة الاولى ثابتة لعنوان الكذب فلا بد من احراز انتفاء الكذب لتنتفي بذلك الحرمة ، ومجرّد كون الامارة منجّزة ومعذّرة لا يجدي لنفي عنوان الكذب.

ص: 184

والجواب : ان خبر الثقة اذا دل على حرمة العصير المغلي فهو دال بالمطابقة على حرمة العصير وبالالتزام على ان من اخبر عن الحرمة فهو ليس بكاذب ، ودليل حجّية خبر الثقة كما يدل على حجّيته في مدلوله المطابقي يدل على حجّيته في مدلوله الالتزامي وبذلك يحرز انتفاء عنوان الكذب (1). هذا كله بالنسبة الى الحرمة الاولى.

واما بالنسبة الى الحرمة الثانية فقد قلنا هي ثابتة لانها منصبة على الحكم الذي لا يعلم بصدوره ، ومن الواضح ان حرمة العصير لا تصير معلومة بمجرد دلالة خبر الثقة عليها ، اجل يمكن التخلص من ذلك باحد طريقين :

1 - ان نأخذ بمسلك الميرزا القائل بقيام الامارة مقام القطع الموضوعي الصفتي ، فاذا اخبر الثقة بحرمة العصير صار المكلّف كانه عالم 100% بذلك ومعه يجوز نسبة الحرمة الى الشارع.

2 - ان يقال ان حرمة الافتراء لا تعم صورة دلالة الامارة على حرمة العصير من جهة قيام اجماع الفقهاء وسيرة المسلمين على اسناد مضمون الخبر الى الشارع بدون توقف من ناحية حرمة التشريع ، فالخطباء على المنابر والفقهاء كثيرا ما يقولون : قال اللّه ... ولا مستند لهم سوى اخبار الثقات.

قوله ص 82 س 12 اسناد ما لا يعلم ... الخ :

وبالأولى يتحقق الافتراء في صورة العلم بعدم الصدور فتخصيص صوره

ص: 185


1- ان قلت : ان اللازم المذكور لازم غير شرعي اذ لا توجد اية او رواية تقول ان الامارة اذا دلت على الحرمة فالاخبار عنها لا يكون كذبا وانما العقل هو الحاكم بذلك. قلت : ان اللازم المذكور وان لم يكن شرعيا الا انه تقدم خلافا للسيد الخوئي حجّية الامارة في لوازمها غير الشرعية.

عدم العلم بالصدور بالذكر من باب التنبيه على الفرد الخفي.

قوله ص 83 س 2 وهو طريق الى احد النفيين :

اي ان القطع طريق لنفي الحرمة الاولى وموضوع لنفي الحرمة الثانية.

قوله ص 83 س 4 نفس الحكم الظاهري :

وهو الحجّية كما تقدمت الاشارة الى ذلك ص 32 س 12 من الحلقة.

قوله ص 83 س 8 غير ان انتفاء الحرمة الاولى كذلك :

اي بدليل حجّية الامارة.

ص: 186

ابطال طريقية الدليل

اشارة

ص: 187

ص: 188

ابطال طريقية الدليل :

قوله ص 84 س 1 كل نوع من انواع الدليل ... الخ :

نسب الى الاخباريين القول بان القطع الحاصل من مقدمات عقلية ليس حجّة وانما الحجّة هو القطع الحاصل من الكتاب والسنة ، فالقطع بوجوب المقدمة مثلا اذا حصل من حكم العقل بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته فهو ليس حجّة ، اما اذا حصل من دلالة آية او رواية فهو حجّة ، واستندوا في ذلك الى روايات كثيرة تنهى عن الاخذ بالعقل.

واورد عليهم اعلام الاصوليّين بان القطع حجّة ومنجّز ولا يمكن سلب ذلك عنه مهما كان السبب لحصوله والاّ يلزم اجتماع المتناقضين في نظر القاطع كما تقدم ص 51 من الحلقة ، فاذا حكم العقل بالملازمة وحصل القطع بوجوب المقدمة فلا يمكن للشارع سلب الحجّية عنه والحكم بعدم وجوب المقدمة للزوم اجتماع الوجوب وعدمه في نظر القاطع.

اجل هناك طريقة يمكن بواسطتها سلب المنجّزية عن القطع الحاصل من العقل وهي تحويل القطع من كونه طريقا الى كونه موضوعا بان يقول المولى هكذا : اذا قطعت بتشريع وجوب المقدمة من طريق الكتاب والسنة - او من غير طريق العقل - فحينئذ يصير وجوب المقدمة عليك فعليا (1) ، فيؤخذ حصول القطع بالتشريع من غير طريق العقل في موضوع الوجوب الفعلي فمتى ما تحقق القطع

ص: 189


1- تشريع الحكم هو ما يصطلح عليه بالجعل ، والحكم الفعلي هو ما يصطلح عليه بالمجعول.

بالتشريع من طريق العقل لم يصر الوجوب فعليا ومتى ما تحقق من طريق الشرع صار فعليا ، انه بناء على هذه الطريقة لم تسلب المنجّزية عن القطع بعد حصوله وانما حيل دون حصوله فالقطع بالحكم الفعلي لا يحصل متى ما كان القطع بالتشريع حاصلا من العقل.

لا يقال : ان القطع بالحكم الفعلي وان لم يحصل الاّ ان القطع بالتشريع والجعل حاصل.

فانه يقال : ان القطع المنجّز هو القطع بالحكم الفعلي دون القطع بالجعل ، فما اكثر حصول القطع بالجعل ومع ذلك لا يتنجّز كالقطع بتشريع وجوب الحج على المستطيع فانه لا يكون منجّزا ما دامت الاستطاعة لم تحصل بالفعل ولم يصر وجوب الحج فعليا.

ان هذه الطريقة لسلب المنجّزية عن القطع بتحويله من طريقي الى موضوعي رغم انها طريقة معقولة بيد انها لا تنفع الاخباري شيئا اذ نقول له انك حينما تقول بعدم حجّية القطع العقلي فهل تقصد انه ليس حجّة بدون تحويله من الطريقية الى الموضوعية او تقصد ذلك بعد التحويل المذكور؟ فان كنت تقصد الاول فهو غير ممكن لان سلب المنجّزية عن القطع بعد حصوله يلزم منه اجتماع المتناقضين في نظر القاطع كما تقدم ، وان كنت تقصد الثاني فهو ممكن الا ان وقوعه غير ثابت اذ لم يثبت من الشارع تحويل القطع العقلي من الطريقية الى الموضوعية لعدم دلالة آية او رواية على ذلك ، ومن الواضح ان مجرد امكان الشيء لا يثبت به وقوعه بل يحتاج وقوعه الى الدليل وهو مفقود في المقام.

قوله ص 84 س 4 بان يؤخذ عدم قيام الدليل الخاص :

اي عدم قيام الدليل العقلي على الجعل والتشريع في موضوع الحكم الفعلي.

ص: 190

قوله ص 84 س 5 في ذلك الجعل :

متعلق بالمجعول.

قوله ص 85 س 1 علم مخصوص بالجعل :

اي العلم بالجعل من طريق الشرع.

قوله ص 85 س 1 او أخذ عدمه :

اي اخذ عدم علم مخصوص قيدا في الحكم الفعلي بان يؤخذ عدم القطع العقلي بالجعل في موضوع الوجوب المجعول.

قوله ص 85 س 2 ولا يلزم من كل ذلك دور :

فانه انما يلزم لو اخذ عدم القطع العقلي بالحكم الفعلي في موضوع نفس الحكم الفعلي ، اما اذا اخذ عدم القطع العقلي بالجعل في موضوع الحكم المجعول - اي الحكم الفعلي - فهو معقول كما مرّ في الحلقة الثانية ص 262 اذ ثبوت الحكم الفعلي وان كان موقوفا على القطع بالجعل من الشرع الاّ ان القطع بالجعل من الشرع لا يتوقف على ثبوت الحكم الفعلي.

قوله ص 85 س 4 فقط :

واما المستند الى الشرع والعقل معا فهو حجّة.

قوله ص 85 س 7 فهو ممكن ثبوتا :

اي واقعا.

تقسيم البحوث في الادلة المحرزة :

قوله ص 85 س 14 وسنقسّم البحث في الادلة المحرزة :

تقدم ص 45 تقسيم الابحاث الاصولية بشكل عام الى اربعة اقسام :

ص: 191

الاول : البحث عن القطع.

الثاني : البحث عن الامارات.

الثالث : البحث عن الاصول العملية.

الرابع : البحث عن التعارض.

وكان الكلام فيما سبق يدور عن البحث الاول ، ومن الآن يقع عن الامارات التي قد يعبر عنها بالادلة المحرزة او الادلة الاجتهادية ، وفي البداية لا بد من معرفة منهجة الحديث عن الامارات كي نكون على اطلاع مسبق وبصورة اجمالية على ما يتعرض له فيما بعد.

ان الدليل ينقسم الى دليل شرعي ودليل عقلي ، اما الدليل العقلي فيأتي البحث عنه ص 268 ، والدليل الشرعي تارة يكون لفظيا كالآيات والروايات واخرى غير لفظي كسيرة المتشرعة وتقرير المعصوم علیه السلام او فعله.

والابحاث التي تطرح في الدليل الشرعي بكلا قسميه - اللفظى وغير اللفظي - ثلاثة :

أ - البحث عن دلالات كلية يشخص بها معنى الدليل والمقصود منه ، فيقال مثلا : هل الامر ظاهر في الوجوب او لا؟ وهل الجملة الشرطية ظاهرة في المفهوم او لا؟ وفعل المعصوم علیه السلام هل يدل على الوجوب او لا؟ وهكذا.

ب - البحث عن كيفية اثبات صدور الدليل كقول المعصوم علیه السلام او فعله او تقريره ، وهذا هو البحث المعروف بمباحث الحجج فانه لو قلنا بحجّية خبر الثقة مثلا وجب الحكم بصدور الخبر من الامام علیه السلام وان لم نجزم بذلك.

ج - البحث عن حجّية الظواهر فانه اذا ثبت في البحث الاول ظهور الامر في الوجوب مثلا يبحث هنا عن حجّية ذلك الظهور وعدمها.

ص: 192

والمنهجة بهذا الشكل تقدمت في الحلقة السابقة ويراد الجري على منوالها هنا ايضا.

قوله ص 86 س 5 ضوابط عامة :

واما الضوابط الخاصة مثل ان كلمة الصعيد ظاهرة في مطلق وجه الارض فالبحث عنها ليس اصوليا كما سيأتي ص 87.

قوله ص 86 س 6 لدلالته وظهوره :

العطف هنا تفسيري.

قوله ص 86 س 6 في ثبوت صغراه :

اي صغرى الدليل ومصداقه.

ص: 193

ص: 194

الدلالات الخاصّة والمشتركة

اشارة

ص: 195

ص: 196

الدلالات الخاصّة والمشتركة :

ظواهر الالفاظ التي يعبر عنها بالدلالات على قسمين فبعضها يختص بمجال واحد مثل ظهور كلمة الصعيد في مطلق وجه الارض ، وبعضها لا يختص بمجال واحد مثل ان الامر ظاهر في الوجوب وان اسم الجنس - كلفظ رقبة - المجرّد عن التقييد بالمؤمنة ظاهر في ارادة مطلق الرقبة ، وهلم جرّا.

والقسم الاول لا يبحث عنه الاصولي لانه ليس عنصرا مشتركا في مقام الاستنباط فظهور كلمة الصعيد في مطلق وجه الأرض مثلا ينتفع به في خصوص الحكم المترتب على كلمة الصعيد لا اكثر ، وهذا بخلافه في القسم الثاني فانه عنصر مشترك ، فقضية الامر ظاهر في الوجوب ينتفع منها الاصولي من اول الفقه الى آخره.

اذن الاصولي يبحث عن الدلالات المشتركة التي تشكّل عنصرا مشتركا في مقام الاستنباط دون الدلالات الخاصة فان البحث عنها وظيفة اللغوي.

ولرب قائل يقول : ان الاصولي لا يليق به البحث عن الدلالات بما في ذلك الدلالات المشتركة فان علم الاصول علم مبتن على الدقة والتفكير والعمق ، ومن الواضح ان اثبات دلالة اللفظ على معنى معين لا يحتاج الى دقة وعمق ، بل يثبت بطرق واساليب بسيطة مثل التبادر والرجوع الى قول اهل اللغة ، فصيغة الامر متى ما تبادر منها الوجوب او نصّ اهل اللغة على وضعها له ثبتت بذلك دلالتها عليه بلا حاجة الى بحث من الاصولي.

ص: 197

والجواب : ان بعض مباحث الدلالات تستحق الدقة والعمق ، والاصولي يبحث عنها من هذا الجانب ، ولتوضيح ذلك تقول : ان الابحاث اللفظية - الابحاث عن الدلالات - على قسمين :

1 - بحوث لغوية. وهي بحوث عن تحديد المعاني اللغوية للالفاظ مثل ان الامر ظاهر في الوجوب او لا؟ والجملة الشرطية ظاهرة في المفهوم او لا؟ وهكذا ، ومثل هذه الابحاث قد يشتمل على الدقة والعمق في بعض الحالات كما سنوضح ذلك بعد قليل.

2 - بحوث تحليليّة. مثل قولنا زيد في الدار ، فان معنى هذه الجملة واضح لكل انسان له ادنى المام باللغة العربية ولا جهل فيها من حيث المعنى اللغوي بيد انه لو دققنا فيها قليلا وجدنا ان المعنى المقابل لكلمة زيد واضح وهو ذات زيد وهكذا المعنى المقابل لكلمة الدار ولكن ما هو المعنى المقابل لكلمة في؟ ان هذا فيه شيء من الخفاء ، ولم ينشأ هذا الخفاء من عدم وضوح المعنى اللغوي لكلمة في ، فان معناها ضمن الجملة المذكورة واضح ويستغرب الانسان العربي لو سئل عن معناها ، وما ذاك الاّ لوضوحه ، غير انه لو اردنا معرفة المعنى المقابل لكلمة ( في ) في الجملة المذكورة بالدقة عسر علينا ذلك ، وجاءت ارآء اصولية متعددة في تحديده ، فقيل انها موضوعة لتحصيص المعاني الاسمية كما اختاره السيد الخوئي ، وقيل بان معناها نفس معنى الاسم كما اختاره الآخوند ، وقيل : ان معناها هو النسبة والربط كما اختاره المشهور.

وباختصار ان الابحاث اللفظية على قسمين فبعضها لغوى وبعضها الآخر تحليلي يحلل فيه معنى الجملة ليتجلى بالدقة المعنى المقابل للحرف.

ص: 198

الابحاث اللغوية :

والبحوث اللغوية تعني - كما تقدم - البحث عن المعاني اللغوية للالفاظ ، وهناك حالات تتضمن الدقة والعمق يقوم ببحثها الاصولي ، وعلى سبيل المثال دون الحصر نذكر ثلاث حالات :

1 - احيانا يوجد قانون عرفي مقبول لدى الجميع غير انه يحتاج تطبيقه على بعض المصاديق لاعمال الدقة.

وعلى سبيل المثال مقدمات الحكمة فانها قانون عرفي فالكل يعرف ان لفظ رقبة متى ما استعمل من دون تقييده بقيد معين دل على الاطلاق ، والاصولي لا يحتاج الى بحث القانون المذكور بعد عرفيته الواضحة بيد ان تطبيقه على صيغة الامر لاستفادة الوجوب النفسي في مقابل الغيري والتعييني في مقابل التخييري قد يحتاج الى تدقيق الاصولي ، فلو قال المولى اكنس الغرفة وشك في كون الكنس واجبا غيريا كمقدمة للدرس او واجبا نفسيا (1) فقد يتمسك باطلاق الصيغة لاستفادة الوجوب النفسي بتقريب انه لو كان غيريا فاللازم تقييد وجوب الكنس بما اذا كان هناك درس لان الوجوب الغيري وجوب مقيّد وحيث ان الطلب لم يقيد فاطلاقه كاشف عن كون الوجوب نفسيا.

وهكذا الحال لو شكّ في كون وجوب الكنس وجوبا مخيرا بينه وبين قراءة القرآن او وجوبا تعيينا لا يسقط حتى مع قراءة القرآن فانه قد يقال باستفادة الوجوب التعييني من الصيغة اذ لو كان الكنس واجبا تخييريا لقيّد وجوبه بما اذا لم يقرأ القرآن وحيث لم يقيّد كشف ذلك عن كونه تعيينيا.

ص: 199


1- والثمرة تظهر فيما لو كان الدرس معطّلا في يوم فان وجوب الكنس يسقط لو كان غيريا بخلافه لو كان نفسيا.

انا لو لا حظنا هذا المثال لوجدنا ان قانون مقدمات الحكمة وان كان عرفيا لا يحتاج الى دقة الاصولي الا ان تطبيقه في المثال يحتاج الى ذلك فانه موقوف على التعرّف على حقيقة الوجوب التخييري والغيري وانه وجوب مقيد بما اذا لم يؤت بالعدل وبما اذا كان وجوب ذي المقدمة ثابتا بخلاف الوجوب التعييني والنفسي فانه مطلق ، ان التعرف على حقيقة الوجوب الغيري والتخييري لا يمكن بدون الاستعانة بتدقيقات الاصولي.

2 - ان يفرض ان لفظا معينا ظاهر في معنى معيّن ولا يشك في ظهوره فيه وانما يشك في منشأ الظهور اهو الوضع او مقدمات الحكمة؟ فقد يحتاج احد الاحتمالين الى اعمال الاصولي دقته ، مثال ذلك اسم الجنس كلفظ رقبة فانه ظاهر في الاطلاق جزما ولكن وقع النزاع في منشأ الظهور الاطلاقي فهل هو الوضع بمعنى ان كلمة رقبة موضوعة لطبيعة الرقبة مع قيد الاطلاق بحيث يكون الاطلاق مدلولا وضعيا كما هو رأي الاعلام قبل سلطان العلماء (1) او هو ناشىء من مقدمات الحكمة بمعنى ان كلمة رقبة موضوعة لذات الرقبة من دون قيد الاطلاق وانما يثبت بواسطة مقدمات الحكمة كما هو الرأي السائد من زمان سلطان العلماء الى يومنا هذا ، وبناء عليه يكون الاطلاق مدلولا حكميا (2).

ويأتي دور الاصولي لاثبات احد الاحتمالين عن طريق تجميع بعض

ص: 200


1- وبناء على ذلك لا يحتاج اثبات الاطلاق الى اعمال مقدمات الحكمة اذ الاطلاق يثبت بنفس الوضع ويترتب على ذلك ايضا كون الاستعمال في مواضع التقييد مجازا ، فكلمة رقبة في قولنا اعتق رقبة مؤمنة يكون مجازا لانها لم تستعمل في تمام المعنى الموضوع له وهو الطبيعة بقيد الاطلاق.
2- وبناء عليه يكون الاستعمال في موارد التقييد حقيقة اذ تبقى كلمة الرقبة مستعملة في ذات الرقبة وقيد الايمان مستفاد من دال آخر وهو لفظ مؤمنة.

القرائن والدلائل فيقول مثلا : ان منشأ الظهور في الاطلاق لو كان هو الوضع فاللازم صيرورة الاستعمال مجازا في موارد التقييد مع انه لا نشعر بالمجازية في مثل قولنا اعتق رقبة مؤمنة ، ومثل هذا يحتاج الى اعمال الدقة كما هو واضح.

3 - ان يفرض ظهور جملة معينة في معنى معين ولكن يقف امامها امر وجداني يتنافى وذلك الظهور ويأتي الاصولي ليوفق بين الظهور والوجدان ، ومثال ذلك الجملة الشرطية كجملة « ان جاءك زيد فاكرمه » فانها ظاهرة في المفهوم وانه إن لم يجىء فلا تكرمه ، وهذا الظهور مسلم لدى الجميع بيد ان هناك مطلبا آخر واضحا لدى الجميع ايضا وهو ان ثبوت المفهوم للشرطية يتوقف على كون الشرط علة منحصرة للجزاء اذ لو لم يكن المجىء هو العلة الوحيدة لوجوب الاكرام وكانت هناك علة اخرى له كالمرض مثلا فلا يلزم من انتفاء المجىء انتفاء وجوب الاكرام لقيام المرض مقام المجىء في عليته لوجوب الاكرام ، ومعه فلا بد من اثبات كون المجىء هو العلة الوحيدة ، وهو مشكل لان الوجدان قاض بان استعمال الشرطية استعمال حقيقي سواء فرض وجود علة بديلة ثانية ام لا ، فانا نشعر بالوجدان ان الاستعمال في جملة « ان جاءك زيد فاكرمه » حقيقي سواء فرض ان المجىء علة منحصرة ام لا كما يأتي التعرض لذلك في مبحث الشرطية ان شاء اللّه.

وعليه يقع التعارض بين الوجدان القاضي بظهور الشرطية في المفهوم وبين الوجدان الثاني القاضي بعدم المجازية في موارد عدم الانحصار.

ولربما يؤدي هذا التعارض الى التنازل عن الوجدان الاول والتشكيك في ثبوت المفهوم للشرطية كما حصل ذلك للآخوند حيث انكر دلالة الشرطية على المفهوم باعتبار ان ثبوت المفهوم موقوف على كون الشرط علة منحصرة وهو مما

ص: 201

لا يمكن اثباته ، ولكن سيأتي ان شاء اللّه في مبحث الجملة الشرطية ص 173 كيفية التوفيق بين الوجدانين بدون حاجة الى التنازل عن الوجدان الاول.

والخلاصة من كل هذا ان تدّخل الاصولي في مثل هذه الحالة ضروري فان ثبوت المفهوم للشرطية وان كان وجدانيا ولا يحتاج الى تدخل الاصولي الا ان التوفيق بين الوجدانين يفرض الحاجة لتدخّله.

قوله ص 87 س 13 وقد يقال ان غرض الاصولي انما هو تعيين ما يدل عليه اللفظ من معنى او ما هو المعنى الظاهري ... الخ :

اي مرة يفرض ان معنى اللفظ واحد ويراد بالتبادر او قول اللغوي تعيينه واخرى يفرض ان معنى اللفظ متعدد ومشترك بينها ويراد تعيين واحد من تلك المعاني.

قوله ص 88 س 3 الذي هو عملية عفوية :

اي تحصل بلا حاجة الى تفكير واعمال دقة.

قوله ص 88 س 4 ومزيد عناية :

عطف تفسيري فان التعمّل هو بمعنى اعمال العناية الزائدة.

قوله ص 88 س 11 اما البحوث اللغوية :

وسيأتي في بداية ص 90 س 1 من الحلقة ايضاح كيف انها تشتمل على اعمال الدقة والتأمل.

قوله ص 88 س 16 على طريقة تعدد الدال والمدلول :

اي ان الجملة تشتمل على عدة دوال وعدة مدلولات وكل واحد من الدوال يدل على واحد من المدلولات كقولنا « زيد في الدار » فان الدّوال فيه ثلاثة : زيد ، في ، الدار. والمدلولات ايضا ثلاثة : ذات زيد ، ما يقابل في ، ذات

ص: 202

الدار. والدال الاول يدل على المدلول الاول ، والثاني على الثاني ، والثالث على الثالث. اذن مجموع المعنى الواحد استفدناه من دوال متعددة حيث ان كل واحد من الدوال يدل على جزء من المعنى الواحد.

قوله ص 89 س 12 بالمعنى الذي ذكرناه :

اي تحديد المعنى المقابل لكلمة « في » بشكل دقيق.

قوله ص 89 س 16 في حدود ما يترتب عليه اثر في عملية الاستنباط :

اي ان الاصولي يبحث عن تحديد معنى الحرف بالمقدار الذي ينتفع به في عملية الاستنباط واما الزائد فلا ، وسيأتي ص 107 من الحلقة ايضاح ثمرة تحقيق المعنى الحرفي في عملية الاستنباط.

قوله ص 90 س 4 ظهور الكلام في معنى :

كاثبات ظهور صيغة افعل في الوجوب النفسي التعييني.

قوله ص 91 س 5 بل لا بد من جمع ظواهر عديدة :

مثل عدم الشعور بالمجازية عند الاستعمال في المقيد وكعدم انعقاد الظهور في الاطلاق عند عدم كون المتكلّم في مقام البيان.

قوله ص 91 س 16 الى تفسير يوفق :

يأتي التفسير المذكور منه قدس سره ص 173.

قوله ص 92 س 3 وبما ذكرنا من المنهجة والاسلوب :

اي اسلوب البحث بدقة وعمق بالشكل الذي اشرنا الى بعضه في الحالات السابقة الثلاث وعند بيان المقصود من الابحاث التحليلية.

ص: 203

ص: 204

ابحاث مستلّة من التقرير

اشارة

ص: 205

ص: 206

الحقيقة الشرعيّة

اشارة

ص: 207

ص: 208

الحقيقة الشرعيّة (1) :

قوله 447 ويعنى بذلك صيرورة بعض الاسماء ... الخ :

ان لفظ الصلاة والزكاة والحج وو ... لها في لغة العرب معان معينة ، فالصلاة تعني الدعاء ، والحج يعني القصد ، والزكاة تعني النمو وهكذا ، وبعد ان جاء الاسلام اعطى لهذه الالفاظ معاني شرعية جديدة لم تكن ثابتة لها سابقا.

وقد وقع الكلام بين الاصوليّين في ان وضع هذه الالفاظ للمعاني الشرعية الجديدة هل تم في زمن النبي صلی اللّه علیه و آله او حصل في زمن الائمة علیهم السلام ؟ فان فرض حصول الوضع في زمنه صلی اللّه علیه و آله فمعنى هذا ثبوت الحقيقة الشرعية ، وان تم في عهد الائمة علیهم السلام فمعنى ذلك عدم ثبوتها بل ثبوت الحقيقة المتشرعية (2) ، فالحقيقة الشرعية اذن تعني وضع الالفاظ للمعاني الجديدة في خصوص عهد النبي صلی اللّه علیه و آله ، فاذا قيل لفظ الصلاة حقيقة شرعية في العبادة الخاصة فالمقصود وضعه في عهده صلی اللّه علیه و آله للمعنى الشرعي.

والفرق بين الحقيقة الشرعية والحقيقة المتشرعية ان الوضع في الاولى يكون

ص: 209


1- هذه الابحاث الثلاثة - الحقيقة الشرعية ، الصحيح والاعم ، المشتق - مستلّة من تقريرات السيد الشهيد وقد نسى قلمه قدس سره تسجيلها.
2- نسبة الى المتشرعة وهم جميع المسلمين ما عدا النبي صلی اللّه علیه و آله بينما الحقيقة الشرعية نسبة الى الشارع وهو النبي صلی اللّه علیه و آله .

حاصلا في عهده صلی اللّه علیه و آله بخلافه في الثانية فانه يكون حاصلا بعد عهده صلی اللّه علیه و آله .

وتظهر فائدة هذا البحث فيما اذا ورد مثل لفظ الصلاة في آية او رواية وشك في المقصود منه اهو المعنى الشرعي او المعنى اللغوي فبناء على ثبوت الحقيقة الشرعية لا بد من الحمل على المعنى الشرعي وبناء على عدم ثبوتها لا بد من الحمل على المعنى اللغوي.

ثم ان وضع لفظ الصلاة للمعنى الشرعي يمكن ان يحصل في عهد النبي صلی اللّه علیه و آله باحد طرق ثلاثة :

أ - ان يقول صلی اللّه علیه و آله لاصحابه : وضعت كلمة الصلاة للمعنى الشرعي ، وهذا ما يسمى بالوضع التعييني المباشر.

ب - ان يحصل الوضع بسبب كثرة استعمال لفظ الصلاة في المعنى الشرعي وهذا ما يسمى بالوضع التعيني.

ج - ان يحصل الوضع بالاستعمال الواحد بحيث يتقارن الاستعمال والوضع من دون ان يتقدم احدهما على الآخر - كما اذا خاطب الاب مولوده الجديد : لم تبكي يا علي قاصدا بالاستعمال المذكور وضع لفظ علي له - بان يقول صلی اللّه علیه و آله مثلا تجب الصلاة عند الزوال قاصدا بهذا الاستعمال الوضع للعبادة الخاصة.

ثم ان الحديث عن الحقيقة الشرعية يقع في نقطتين :

1 - هل هي ثابتة باحد الطرق الثلاث السابقة او لا؟

2 - ثمرة البحث المذكور.

ص: 210

1 - ثبوت الحقيقة الشرعيّة :
اشارة

ان التعرف على ثبوت الحقيقة الشرعية مرهون بثبوت احد الطرق الثلاث السابقة فاذا كان واحد منها ثابتا فلازم ذلك ثبوتها ، ومن هنا يقع الكلام عن ثبوت الطرق المذكورة.

اما الطريق الاول - وهو تصريح النبي صلی اللّه علیه و آله - فهو باطل لأمرين :

الأوّل : انا لا نسلم اصل تفسير الوضع بتخصيص اللفظ للمعنى بل هو القرن التكويني (1) بينهما ، وعليه فاحتمال حصول الوضع بقول النبي صلی اللّه علیه و آله خصصت لفظ الصلاة بالعبادة الخاصة باطل.

الثاني : ان تخصيص النبي صلی اللّه علیه و آله كلمة الصلاة بالعبادة الخاصة لو كان صادرا حقا لنقله التاريخ الينا ، فانه يسجل بعض القضايا الجزئية الواهية

ص: 211


1- مرّ في الحلقة الاولى والثانية ان في تفسير حقيقة الوضع عدة اتجاهات منها : ١ _ ان الوضع عملية انشائية يقوم بها الواضع ، فهو يقول : وضعت هذا اللفظ وخصصته لهذا المعنى ، ويرده : ان عملية الوضع بعد حصولها يصير اللفظ سببا حقيقيا للانتقال الى المعنى فكما ان سببية النار للاحتراق سببية حقيقية وليست اعتبارية كذلك سببية سماع اللفظ للانتقال الى المعنى سببية حقيقية ، وما دامت السببية حقيقية فلا يمكن حصولها بالانشاء والاعتبار فان الذي يمكن حصوله بالانشاء هو الامور الاعتبارية دون الحقيقية ، ومن هنا لا يمكن حصول البرودة من النار وان اعتبر شخص او اشخاص ذلك الف مرة. ٢ _ ان الوضع عبارة عن الاقتران بين اللفظ والمعنى ، فانه متى ما اقترن شيء بآخر مرارا صار ذلك سببا تكوينيا للانتقال من احدهما الى الآخر ، ولكن بم يحصل الاقتران الذي هو حقيقة الوضع؟ انه يحصل تارة بكثرة الاستعمال واخرى بسبب قضية مهمة مثل قول الأب للناس الحضور سمّيت ولدي عليا ، فالاقتران _ الذي هو الوضع _ قضية تكوينيّة تحصل بقضية سابقة وهي قول الاب سميت ولدي عليا.

فكيف بمثل هذه القضية المهمة.

واما الطريق الثاني - وهو الوضع التعيني بكثرة الاستعمال - فهو بحاجة الى اقتران امرين :

أ - ان لا يكون المعنى الشرعي لكلمة الصلاة ثابتا قبل الاسلام والاّ كان حقيقة لغوية لا شرعية ، وتحقق ذلك - عدم ثبوت المعنى الشرعي قبل الاسلام - قابل للمناقشة فان من القريب جدا ثبوت المعاني الشرعية قبل الاسلام ، اذ الجزيرة العربية كانت تضم مختلف اصحاب الديانات كاليهود والنصارى وغيرهم وكانت الصلاة والصوم والحج وو ... بمعانيها الشرعية ثابتة عندهم ، ومما يؤيد ذلك جملة من الآيات كقوله تعالى ( وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا ) و ( أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ ... ) و ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) فان الآيات المذكورة تدل على ان المعاني الشرعية المذكورة كانت ثابتة قبل الاسلام ، وسيأتي فيما بعد التعليق على هذه المناقشة (1).

ب - ان يفرض تكرر استعمال كلمة الصلاة ونظائرها في المعنى الشرعي في عهده صلی اللّه علیه و آله وعلى لسانه بالخصوص حتى يحصل بذلك الوضع التعيني في عهده صلی اللّه علیه و آله مع ان ثبوت ذلك قابل للتأمل من ناحيتين :

الاولى : انا لا نجزم بتكرر استعمال كلمة الصلاة مثلا في المعنى الشرعي في لسانه صلی اللّه علیه و آله بالخصوص وانما كثر استعمالها في مجموع لسانه صلی اللّه علیه و آله ولسان اصحابه.

الثانية : وعلى تقدير التسليم بتكرر الاستعمال في لسانه صلی اللّه علیه و آله فيمكن القول بان استعمالها كان مجازا ومع القرينة ، وواضح ان كثرة الاستعمال انما

ص: 212


1- ص 450 س 7 - 8 من الحلقة

تجدي في حصول الوضع التعيني فيما لو كان استعمال اللفظ من دون قرينة اما اذا كان مع القرينة فالانس والقرن يحصل بين اللفظ المقيد بالقرينة وبين المعنى الشرعي لا بين اللفظ المجرد عن القرينة والمعنى الشرعي ، والمهم هو الثاني.

بل يمكن ان يدعى ان لفظ الصلاة لم يستعمل في المعنى الشرعي حتى على نحو المجاز وانما هو مستعمل في المعنى اللغوي وهو الدعاء واستفادة الاجزاء والشرائط تتم من خلال دوال اخرى عليها ، كما لو قيل هكذا « الصلاة واجبة مع الركوع والسجود وو ... » فكلمة الصلاة مستعملة في الدعاء الذي هو احد اجزاء الصلاة لا في المعنى الشرعي ، ومن الواضح ان هذا لا ينفع اذ القرن حينئذ يتحقق بين لفظ الصلاة والدعاء لا بين لفظ الصلاة والمعنى الشرعي ، والمهم هو الثاني.

والمناقشة من كلتا الناحيتين قابلة للدفع.

اما الاولى فلأن اللازم حصول الاستعمال المتكثر في عهده صلی اللّه علیه و آله سواء كان في لسانه بالخصوص ام في مجموع لسانه ولسان اصحابه ، فان الحقيقة الشرعية يقصد بها ثبوت الوضع في عهده صلی اللّه علیه و آله لا بلسانه بالخصوص.

واما الثانية فلأن لفظ الصلاة متى ما قرن كثيرا بالمعنى الشرعي - ولو كان مع القرينة او الدوال الأخر - حصل الوضع وكانت كلمة الصلاة المجردة عن القرينة والدوال الأخر مختصة بالمعنى الشرعي ، فان الاستعمال المتكثر في البداية وان كان مع القرينة الاّ انه بعد ذلك يصير اللفظ المجرد موضوعا للمعنى.

ان قلت : ان الاستعمال المتكثر اذا كان مع القرينة او الدوال الأخر فالانس يحصل بين اللفظ المقيد بالقرينة او الدوال وبين المعنى لا بين اللفظ المجرد والمعنى.

قلت : ان القرينة والدوال بما انها ليست واحدة في جميع الاستعمالات بل

ص: 213

هي تختلف في استعمال عنه في استعمال آخر فلا يحصل الانس بين المعنى وبين القرينة والدوال ، وهذا بخلاف لفظ الصلاة فانه لما كان في جميع الاستعمالات واحدا فالانس يحصل بينه وبين المعنى (1).

واما الطريق الثالث - وهو ثبوت الوضع بالاستعمال الواحد - فقد يقرّب بان كل عاقل اذا اخترع معنى معينا فانه يضع لفظا له ، فمن اخترع قرص الاسپرين وضع له لفظ الاسپرين ، والنبي صلی اللّه علیه و آله حيث انه احد العقلاء بل سيدهم فلا بد وان يضع لفظا للمعنى الشرعي المخترع ، والوضع منه صلی اللّه علیه و آله يحصل باحد شكلين فاما ان يقول وضعت لفظ الصلاة للمعنى الشرعي واما ان يستعمل بقصد الوضع ، ولما كان الاول بعيدا - حيث لم ينعكس في كتب التاريخ - تعيّن الثاني وهو المطلوب.

هذا ويمكن المناقشة في التقريب المذكور بان اتباع النبي صلی اللّه علیه و آله لطريقة العقلاء المذكورة وان كان امرا وجيها الاّ انه لما لا يلزم من عدم اتباعه لها محذور باطل فلا يمكن حصول القطع بذلك بل اقصى ما يحصل الظن وهو لا يغني من الحق شيئا.

وقد يقال انه يمكن اجراء تعديل على التقريب المذكور فيقال : ان ظاهر كل عاقل عند اختراعه معنى معينا وضع لفظ له وعدم تركه بلا وضع ، والنبي صلی اللّه علیه و آله حيث اخترع معنى الصلاة فظاهر حاله وضع لفظ له ، وعليه فنحن لا ندعي فقط حصول الظن بوضع اللفظ للمعنى الشرعي حتى يقال انه لا يغني من الحق شيئا وانما ندعي ظهور الحال في ذلك ، ومن الواضح ان الظهور كما سيأتي

ص: 214


1- من خلال هذا اتضح ان ثبوت الحقيقة الشرعيّة بواسطة الطريق الثاني وهو الوضع التعيني امر وجيه.

حجة بكلا قسميه اللفظي والحالي.

ويرد على التعديل المذكور : ان دعوى ظهور الحال في وضع اللفظ للمعنى الشرعي المخترع انما تتم لو فرض ان النبي صلی اللّه علیه و آله قد اخترع المعاني الشرعية حتى يكون ظاهر حاله وضع الالفاظ لها ، بيد انه يمكن القول بعدم اختراعه لها وكونها موجودة سابقا بالتقريب المتقدم.

الاستغناء بالحقيقة اللغوية عن الحقيقة الشرعية :

وقد يقال : ان هذه المعاني الشرعية اذا كانت ثابتة سابقا فلازم ذلك كون لفظ الصلاة مثلا موضوعا للمعنى الشرعي غاية الامر في لغة العرب لا بعد الاسلام ، وهذا المقدار يكفينا ، فان الغرض من البحث عن ثبوت الحقيقة الشرعية حمل لفظ الصلاة على المعنى الشرعي اذا استعمل بلا قرينة ، وهذه الفائدة تحصل بالوضع الثابت قبل الاسلام ايضا.

ويرده :

أ - ان اقصى ما نعترف به هو وجود المعاني الشرعية قبل الاسلام بدون الالتزام بوضع الالفاظ الخاصة لها ، فلعل الصلاة العيسوية كانت مغايرة للصلاة الاسلامية ولم تكونا صنفين من مركب واحد وكان استعمال كلمة الصلاة الموضوعة للمعنى الشرعي القديم - وهو الصلاة العيسوية مثلا - في الصلاة الاسلامية مجازا.

ب - وعلى تقدير التسليم بوضع لفظ الصلاة قبل الاسلام للصلاة الاسلامية فلا نسلم بان المعنى الاول - وهو الدعاء - قد هجر بل من المحتمل وضع اللفظ على سبيل الاشتراك اللفظي للدعاء والصلاة الاسلامية ، وهذا المقدار لا ينفعنا

ص: 215

لانا نريد حمل لفظ الصلاة على المعنى الشرعي عند عدم القرينة ، ومع تعدد المعنى لا يمكن حمل اللفظ على احد المعاني بلا قرينة ، وهذا بخلاف ما لو كان معنى الصلاة قد اخترعه النبي صلی اللّه علیه و آله ووضع اللفظ له فان طريقة العقلاء بعد اختراع المعنى الجديد تقتضي هجر المعنى السابق ووضع اللفظ للمعنى المخترع بخصوصه.

وبعد كل هذا هل الحقيقة الشرعية ثابتة.

وبعد هذا الحديث الطويل هل الصحيح ثبوت الحقيقة الشرعية او لا؟ الصحيح ثبوتها فان الاحتمالات الموجودة ثلاثة ، وعلى تقدير جميعها يلزم ثبوتها.

1 - ان لا تكون المعاني الشرعية ثابتة قبل الاسلام وانما النبي صلی اللّه علیه و آله اخترعها ، ولازم هذا الاحتمال وضعه صلی اللّه علیه و آله الالفاظ لها ، اذ تقدم ان ظاهر كل عاقل عند اختراعه لمعنى وضع اللفظ له ، وبذلك تكون الحقيقة الشرعية ثابتة.

2 - ان تكون المعاني الشرعية ثابتة قبل الاسلام بهذه الالفاظ المتداولة اليوم ، فلفظ الصلاة مثلا كان موضوعا للمعنى الشرعي قبل الاسلام ، وهذا المقدار يكفي لتحقق الحقيقة غاية الامر اللغوية دون الشرعية ، ومما يقوّي هذا الاحتمال القرينتان المتقدمتان وهما :

أ - ان اصحاب الديانات كانوا موجودين في شبه الجزيرة قبل الاسلام وكانت العبادات المذكور متداولة بينهم ولو بشكل آخر غير ما هو المعهود اليوم.

ب - ان الآيات القرآنية السابقة تشهد بوجود المعاني الشرعية قبل الاسلام بالفاظها المتداولة اليوم ، بل انه بالنسبة للحج يمكن القطع بتداوله بلفظ

ص: 216

الحج ، ومن هنا سمّيت السّنة بالحجّة باعتبار ان كل سنة واحدة تشتمل على حج واحد.

3 - ان تكون المعاني الشرعية ثابتة قبل الاسلام بالفاظ آخر غير ما هو المتداول اليوم ، وبناء عليه تكون الحقيقة الشرعية ثابتة ايضا ، اذ من المحتم كثرة استعمال الالفاظ في المعاني الشرعية بعد الاسلام بدرجة يحصل الوضع التعيني زمن النبي صلی اللّه علیه و آله (1).

2 - ثمرة القول بالحقيقة الشرعية :

والنقطة الثانية التي يراد بحثها هي ثمرة ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه ، وحاصلها على ما تقدم : انه لو ورد نص فيه كلمة الصلاة بدون قرينة تشخّص ارادة المعنى اللغوي او الشرعي فانه بناء على ثبوت الحقيقة الشرعية لا بد من حملها على المعنى الشرعي والا فعلى المعنى اللغوي.

والميرزا قدس سره انكر هذه الثمرة وقال : ان الاحاديث التي تشتمل على كلمة الصلاة مثلا ان وردت من الائمة علیهم السلام فلا اشكال في حملها على المعنى الشرعي لتمامية الوضع لذلك - المعنى الشرعي - في عهدهم علیهم السلام ، وان وردت من النبي صلی اللّه علیه و آله فبما ان احاديثه الشريفة ترد عادة من

ص: 217


1- قد يقال بوجود احتمال رابع ، وهو ان تكون المعاني الشرعية ثابتة قبل الاسلام مع افتراض ان لفظ الصلاة ونحوها كان موضوعا لها وللمعنى اللغوي على سبيل الاشتراك اللفظي. وهذا الاحتمال صحيح ولكن على تقديره تكون الحقيقة الشرعية ثابتة ايضا ، اذ كثرة استعمال كلمة الصلاة في المعنى الشرعي بعد الاسلام تستدعي هجر المعنى اللغوي والاختصاص بالشرعي.

طريق الائمة علیهم السلام لا مباشرة منه صلی اللّه علیه و آله دون توسطهم علیهم السلام فاللازم الحمل على المعنى الشرعي ايضا لما تقدم من حصول الوضع في عهدهم علیهم السلام جزما ، اذن على كلا التقديرين لا بد من الحمل على المعنى الشرعي ولا احتمال لارادة المعنى اللغوي حتى يحتاج الى البحث عن الحقيقة الشرعية.

ويرده :

أ - ان احاديثه صلی اللّه علیه و آله قد ينقلها الامام علیه السلام بنصها والفاظها بدون اي تصرف تيمنا وتبركا ومعه تتم ثمرة البحث عن الحقيقة الشرعية ، وانما تنعدم لو كان علیه السلام ينقل مضمون حديثه صلی اللّه علیه و آله ومعناه.

ب - قد ترد كلمة الصلاة مثلا في نص قرآني ، وفي مثله تظهر الثمرة فانه بناء على ثبوت الحقيقة الشرعية لا بد من الحمل على المعنى الشرعي والاّ فعلى اللغوي (1).

قوله ص 447 س 1 حقائق :

اي موضوعة.

قوله ص 447 س 2 من قبل الشارع :

متعلق بالحقائق ، وكان المناسب وصله بها ، اي : حقائق من قبل الشارع في المعاني الخاصة المخترعة.

قوله ص 447 س 3 يحمل عليه :

ص: 218


1- هذا ويمكن انكار الثمرة بتقريب انه لم ترد كلمة الصلاة في حديث وهي مرددة بين المعنى الشرعي واللغوي ، بل سياق الحديث يشهد دائما بتعيين المراد.

المناسب : تحمل عليها.

قوله ص 448 س 9 في الجملة :

اي وان لم تكن بهذه التفاصيل والخصوصيات التي عليها صلاتنا اليوم.

قوله ص 448 س 10 ومما يعزز :

اي يدل عليه.

قوله ص 448 س 13 وسوف يأتي التعليق :

وذلك ص 450 بقوله : الاّ انه غير تام فانه بناء على سبق تلك المعاني الشرعية ... الخ.

قوله ص 448 س 15 والمتشرعة :

اي اصحاب النبي صلی اللّه علیه و آله الموجودين في عصره.

قوله ص 448 س 19 الجامعة :

فان المعنى اللغوي للصلاة مثلا هو الدعاء ، وهو معنى كلي جامع يصدق على الصلاة وغيرها ، كما ويصدق على جميع اجزاء الصلاة فالقراءة دعاء والقنوت دعاء وو ....

قوله ص 448 س 22 في عصر التشريع :

الذي هو عصر النبي صلی اللّه علیه و آله .

قوله ص 449 س 1 وهذا محرز بحسب الفرض :

اذ سلّم فيما سبق ان الاستعمالات في مجموع لسان النبي صلی اللّه علیه و آله واصحابه تبلغ درجة الوضع التعيني.

قوله ص 449 س 5 لكونه العنصر غير المتغير :

اي لكون لفظ الصلاة ... الخ ، وكان المناسب ان يقال : وهو حاصل لكونه

ص: 219

العنصر ... الخ.

قوله ص 449 س 12 واما من خلال الاستعمال :

اي قصد حصول الوضع بالاستعمال الواحد.

قوله ص 450 س 4 حقائق لغوية او عرفية :

فان المعاني الشرعية ان كانت ثابتة قبل الاسلام في لغة العرب فالحقيقة لغوية ، وان كانت ثابتة بين الناس ولو من غير العرب كاليهود والنصارى فالحقيقة عرفية.

قوله ص 450 س 9 مشتركة بينهما :

اي بين الدعاء والصلاة الاسلامية.

قوله ص 450 س 11 ولو في عرف المخترع :

اي ان المخترع بعد اختراعه المعنى لا بد له من هجر المعنى السابق ووضع اللفظ للمعنى المخترع الجديد ولا يلزم في الهجر ان يكون بين جميع الناس بل يكفي حصوله ولو عند النبي صلی اللّه علیه و آله فقط فان الاثر يترتب على هجره صلی اللّه علیه و آله للمعنى السابق والوضع للمعنى الجديد.

قوله ص 450 س 16 بشكل وآخر :

اي ان ثبوت الصلاة قبل الاسلام اما ان يكون بهذا الشكل المتداول بيننا اليوم او بشكل آخر.

قوله ص 450 س 22 المتعينة :

اي يتعيّن كون اللفظ حقيقة لغوية في المعنى الشرعي ولا يحتمل غير ذلك.

قوله ص 451 س 1 في الجملة :

اي ولو بغير التفاصيل التي عليها صلاتنا اليوم.

ص: 220

الصحيح والأعم

اشارة

ص: 221

ص: 222

الصحيح والأعم :

بناء على وضع لفظ الصلاة للعبادة الشرعية فهل هو موضوع لخصوص العبادة الصحيحة او للاعم منها والفاسدة؟ ويترتب على ذلك ان شخصا لو نذر التصدق على من يصلي مثلا وكان هناك انسان يصلي صلاة فاسدة فبالتصدق عليه يحصل الوفاء بالنذر بناء على الوضع للاعم ولا يحصل الوفاء بناء على الوضع لخصوص الصحيح ، وقد وقع الاختلاف بين الاصوليّين في ذلك فمن قائل بالوضع لخصوص الصحيح ومن قائل بالوضع للاعم.

والبحث تارة يقع في العبادات واخرى في المعاملات.

(1) اسماء العبادات.
اشارة

والبحث في العبادات يقع في جهات :

الجهة الاولى : انه في البحث السابق ان قلنا بثبوت الحقيقة الشرعية فلا اشكال في امكان البحث عن الصحيح والاعم ، فيقال : انه صلی اللّه علیه و آله حينما وضع لفظ الصلاة للعبادة الشرعية هل وضعها لخصوص العبادة الصحيحة او للعبادة الاعم ، وان انكرنا ثبوت الحقيقة الشرعية فالامر مشكل اذ لم يضع صلی اللّه علیه و آله لفظ الصلاة للعبادة الشرعية حتى يقال هل وضعه لخصوص العبادة الصحيحة او للاعم؟

ومن هنا برزت عدة محاولات لتصوير النزاع بناء على انكار الحقيقة

ص: 223

الشرعية نذكر منها محاولتين :

1 - ما ذكره الآخوند قدس سره ، حيث قال : بناء على انكار الحقيقة الشرعية يكون استعمال لفظ الصلاة في المعنى الشرعي مجازا وبحاجة الى ملاحظة العلاقة بين الدعاء والمعنى الشرعي ، والقائل بالصحيح يدعي ان النبي صلی اللّه علیه و آله جرت عادته على لحاظ العلاقة بين الدعاء والمعنى الشرعي الصحيح ، واذا اراد يوما من الايام الاستعمال في الاعم فسوف يلاحظ علاقة جديدة بين المعنى الشرعي الصحيح والمعنى الشرعي الاعم اي بين المعنى المجازي الاول والمعنى المجازي الثاني ، بينما القائل بالاعم يدعي انه صلی اللّه علیه و آله يلاحظ بحسب عادته العلاقة بين الدعاء والمعنى الشرعي الاعم ، واذا اراد يوما الاستعمال في الصحيح فسوف يلاحظ علاقة جديدة بين المعنى الشرعي الاعم والمعنى الشرعي الصحيح ويكون المعنى المجازي الثاني ملحوظا في طول المعنى المجازي الاول وهذا ما يسمى بسبك المجاز في المجاز.

وان شئت قلت : ان النزاع على تصوير الآخوند يقع في تحديد المجاز الاقرب ، فالقائل بالصحيح يقول : ان المجاز الاقرب الى الدعاء هو المعنى الشرعي الصحيح بينما القائل بالاعم يقول ان المجاز الاقرب هو المعنى الشرعي الاعم.

ويرده : ان ملاحظة العلاقة بين مجاز ومجاز وان كانت امرا وجيها كأن تلحظ العلاقة بين الحيوان المفترس والرجل الشجاع وتستعمل كلمة الاسد في الرجل الشجاع ثم تلحظ علاقة جديدة بين الرجل الشجاع ومعنى مجازي آخر وتستعمل كلمة الاسد في المجاز الآخر ويكون المجاز الثاني في طول المجاز الاول ، ان هذا وان كان وجيها الاّ انه يتم فيما لو كان المجاز الاول اقوى ارتباطا

ص: 224

ومشابهة بالمعنى الحقيقي من المجاز الثاني ، اما اذا كانت مشابهة كلا المجازين للمعنى الحقيقي بدرجة واحدة كما هو الحال في المقام - فان ارتباط العبادة الصحيحة بالدعاء ليس باقوى من ارتباط العبادة الاعم به بل كلاهما من حيثية الدعاء واحد - فلا وجه لملاحظة الارتباط اولا بين احد المجازين والمعنى الحقيقي ثم ملاحظة العلاقة بين المجاز الاول والمجاز الثاني ، ان هذه الطولية لا وجه لها بعد ما كان ارتباط المجازين بالمعنى الحقيقي بدرجة واحدة.

2 - ان تلحظ القرينة التي كان يعتمدها النبي صلی اللّه علیه و آله لتفهيم المعنى الشرعي - الذي هو معنى مجازي بناء على انكار الحقيقة الشرعية - فالقائل بالصحيح يدعي ان عادته صلی اللّه علیه و آله جرت على ان تكون القرينة قرينة على تفهيم المعنى الشرعي الصحيح ، واذا اراد يوما الاستعمال في الاعم نصب قرينة جديدة على تغيير عادته وارادة الاعم ، بينما القائل بالاعم يقول ان عادته صلی اللّه علیه و آله جرت على ان تكون القرينة قرينة على ارادة الاعم ، واذا اراد يوما تغيير عادته واستعمال اللفظ في المعنى الصحيح نصب قرينة اخرى على ذلك.

المقصود من الصحة والفساد :

الجهة الثانية : ذكر الآخوند والسيد الخوئي دام ظله ان المقصود من الصحة هو تمامية الاجزاء والشرائط ، فالعمل متى ما تمت اجزاؤه وشرائطه فهو صحيح والاّ فهو فاسد.

ويرده : انه بناء على التفسير المذكور يلزم اختصاص الصحة والفساد بالعمل المركب وعدم صدقهما على العمل البسيط ، اذ البسيط ليس له اجزاء حتى تتم او لا تتم ، والحال ان البسائط تتصف بذلك ايضا ، حيث يقال : فكرة صحيحة

ص: 225

وفكرة فاسدة.

والتحقيق : ان معنى الصحة هو حصول الاثر المطلوب من العمل ، فان كل عمل لا بد وان يكون له اثر خاص يترقب منه ، فان كان ذاك الاثر مترتبا عليه فهو صحيح والاّ فهو فاسد ، اجل حيث ان الاثر المترقب من العبادات هو ان تكون مجزية وتامة فقد يتسامح ويقال : ان معنى الصحة هو الاجزاء والتمامية.

هذا هو المناسب في تفسير الصحة ، بيد ان المنسوب الى المتكلمين تفسيرها بموافقة العمل للامر الشرعي المتعلق به ، والمنسوب الى الفقهاء تفسيرها بكون العمل مسقطا للاداء والقضاء ، فمتى ما كان مسقطا لهما فهو صحيح والاّ فهو فاسد ، والمنسوب الى ثالث تفسيرها بكون العمل محصّلا للغرض المطلوب منه (1). وقد تقدم تفسيرها عن الآخوند والسيد الخوئي بتمامية الاجزاء والشرائط.

وظاهر هذه التفاسير الاربعة ان الصحة هي نفس موافقة الامر او سقوط الاعادة والقضاء او حصول الغرض او التمامية ، وهو باطل ، ولتصحيح كلامهم لا بد وان يكون مقصودهم ان الصحة هي حصول الاثر المطلوب لكن بما ان الاثر المهم في نظر المتكلمين هو موافقة الامر فسروها بموافقة الامر ، وهكذا بالنسبة الى الفقهاء لا بد وان يكون مقصودهم ان الصحة هي حصول الاثر ولكن بما ان الاثر المهم في نظرهم هو سقوط الاعادة والقضاء فسروها بسقوط الاعادة والقضاء ، وهكذا بالنسبة الى باقي التفاسير.

ص: 226


1- لا يبعد ان تفسيرها بتحصيل الغرض هو نفس ما اختاره السيد الشهيد قدس سره من كونها بمعنى ترتب الحيثية المطلوبة.
الوضع لمفهوم الصحيح او واقعه.

ثم ان ههنا شيئا وهو انه لو قلنا بوضع لفظ الصلاة للصحيح فهل المقصود وضعها لمفهوم الصحيح ومفهوم التام ومفهوم الموافق للامر (1) او ان المقصود وضعها لواقع الصحيح ومصداقه؟ الصحيح هو الثاني لوجهين :

أ - ان كلمة الصلاة لو كانت موضعة لمفهوم الصحيح او التام او الموافق للامر لزم ان نفهم من كلمة الصلاة حين سماعها مفهوم الصحيح او التام او الموافق للامر بحيث يكون هناك ترادف بين كلمة الصلاة وكلمة الصحيح او التام او الموافق للامر ، والحال انه لا ترادف بينهما جزما.

ب - ان الوضع لمفهوم موافقة الامر مستحيل عقلا ، فان المولى اذا قال : آمركم بالصلاة وكان معنى الصلاة موافقة الامر صار المعنى آمركم بموافقه الامر ، وهذا مستحيل لاستلزامه تعلق الامر بنفس الامر ، وبالتالي يلزم خلف غرض الصحيحي ، فانه يريد تصوير معنى الصلاة بشكل يقبل تعلق الامر به فلو كان المعنى للصلاة هو موافقة الامر الذي يستحيل تعلق الامر به يلزم خلف غرضه.

تفصيل الشيخ الاعظم بين الاجزاء والشرائط.

نسب للشيخ الانصارى (2) قدس سره تفصيل في المسألة يتوقف استيضاحه على بيان مقدمة هي : ان العلة التامة مركبة من ثلاثة اشياء : مقتضي وشرط وعدم المانع ، والمقصود من المقتضي هو ما يحصل منه الاثر كالنار بالنسبة الى الاحراق حيث انها تؤثر في ايجاده ، واما الشرط فهو العامل المساعد على

ص: 227


1- مفهوم الصحيح هو كلمة صحيح ، ومفهوم التام هو كلمة تام ، وهكذا.
2- كما في مطارح الانظار الذي هو تقرير درس الشيخ الأعظم.

التأثير فقرب الورقة من النار الذي هو شرط حصول الاحراق لا يوجد الاحراق ولذا لا نقول القرب محرق وانما دوره دور المساعد للنار على تأثيرها في الاحراق ، وكعدم رطوبة الورقة فانه شرط ايضا ودوره دور العامل المساعد على تقبّل الورقة للاحتراق ، فالشرط اذن هو ما يساعد الفاعل - وهو النار - في تأثيره او ما يساعد القابل - وهو الورقة - في تأثّره (1).

ثم ان رتبة الشرط متأخّرة عن رتبة المقتضي لان الشرط كما عرفنا هو ما يساعد المقتضي في تأثيره فلا بد من فرض وجود المقتضي في الرتبة السابقة ليأتي دور الشرط في المرتبة الثانية كمساعد له في تأثيره ، ومن هنا قيل ان الشرط في طول المقتضي اي متأخر عنه.

وبعد المقدمة المذكورة نعود لتفصيل الشيخ الاعظم وحاصله : انه بناء على وضع الصلاة للعبادة الصحيحة فليس المقصود الوضع للعبادة التامة من حيث الاجزاء والشرائط بل من حيث الاجزاء فقط ولا يمكن الوضع للاجزاء والشرائط معا فان رتبة الشرط متأخرة عن رتبة المقتضي (2) ، فلو وضع لفظ الصلاة لمجموع الاجزاء والشرائط فلازمه وحدة رتبة الشرائط والاجزاء ، ومن هنا صح ان يقال : ان لفظ الصلاة بناء على وضعه للصحيح موضوع للصحيح من حيث الاجزاء فقط دون الشرائط.

وقد ذكر في الكتاب لردّ التفصيل المذكور جوابان :

1 - ما ذكره السيد الخوئي دام ظله من ان تأخر الشرط عن المقتضي انما هو

ص: 228


1- وبهذا يتضح معنى العبارة المشهور : ان دور الشرط تصحيح فاعلية الفاعل او قابلية القابل.
2- والمقتضي في المقام هو مجموع الاجزاء ، فانه عين الكل.

في عالم الوجود لا في عالم التسمية والالفاظ ، فالشرط في الخارج متأخر عن المقتضي دون عالم التسمية ، فيمكن وضع لفظ واحد لكليهما ، فآدم علیه السلام مع تقدمه علينا يمكن ان يوضع لفظ واحد له ولنا معا.

2 - ان تأخر الشرط عن المقتضي يمكن انكاره حتى في عالم الخارج وانما المسلّم هو التأخر في مقام التأثير ، فالنار بما هي مؤثرة في الاحراق متقدمة على الشرط وهو قرب الورقة ، اما اذا نظرنا الى ذات النار بقطع النظر عن تأثيرها فلا تقدم لها على ذات قرب الورقة.

وكلمة الصلاة ليست موضوعة للمقتضي - بما هو مؤثر - والشرط حتى يقال ان الشرط متأخر عن المقتضي في مقام التأثير فلا يمكن وضع لفظ واحد لهما بل ان لفظ الصلاة موضوع لذات المقتضي وذات الشرط ، وليس بينهما طولية.

اجل لو فرض ان حيثية التاثير ملحوظة في مقام الوضع كما لو قلنا بان لفظ الصلاة موضوع للصحيح بمعنى المؤثر في حصول الغرض فلا يمكن وضع لفظ الصلاة لمجموع الاجزاء والشرائط ، ولكن ذكرنا فيما سبق ان لفظ الصلاة ليس موضوعا لمفهوم المحصّل للغرض والا يلزم الترادف بينهما.

وبهذا تجلى امكان وضع لفظ الصلاة للصحيح من حيث الاجزاء والشرائط معا.

بقي شيء : وهو انه بناء على امكان وضع لفظ الصلاة لتام الاجزاء والشرائط هل يراد من الشرائط جميع الشرائط بما في ذلك قصد الامتثال او المراد ما عداه من الشرائط؟ والجواب عن هذا السؤال يرتبط بقضية اخرى وهي انه هل يمكن تعلق الامر بقصد الامتثال بأن يقول المولى هكذا : تجب الصلاة مع قصد الامتثال؟ اختار صاحب الكفاية عدم امكان ذلك كما يأتي في مبحث التعبدي

ص: 229

والتوصلي (1) ، وبناء عليه لا يمكن وضع لفظ الصلاة لتام الاجزاء والشرائط بما فيها قصد الامتثال ، اذ لو كان قصد الامتثال مأخوذا في المعنى الموضوع له يلزم ان يكون امر « اقيموا الصلاة » متعلّقا بقصد الامتثال وقد فرضنا استحالته على رأي الآخوند.

قوله ص 454 س 16 بالقياس الى هذه الحيثيات :

اي كانت الصحة بمعنى حصول تمام الاجزاء وكون العمل مجزيا ، لان الاثر المطلوب في العبادات هو ذلك اي التمامية والاجزاء.

قوله ص 454 س 18 وان يحمل على هذا المنظور :

اي لا بد وان يكون المقصود من هذه التفاسير تفسير الصحة بما هو الاثر المطلوب الذي هو موافقة الامر عند المتكلمين وسقوط الاعادة والقضاء في نظر الفقهاء وهلمّ جرّا ، وليس المقصود تفسير الصحة لغة بنفس الموافقة للامر او سقوط الاعادة والقضاء او حصول الغرض او التمامية فانه باطل اذ معنى الصحة ليس ذلك بل هو حصول الاثر كما اوضحناه.

قوله ص 454 س 23 كما ان بعضها :

وهو مفهوم موافقة الامر.

قوله ص 455 س 1 وهو خلف غرض الصحيحي :

ص: 230


1- بتقريب ان قصد امتثال الامر متوقف على الامر ومتأخر عنه ، فلو اخذ في متعلق الامر يلزم ان يكون متقدما على الامر فان متعلق الامر متقدم عليه - اذ الامر عارض على متعلقه فيلزم فرض المتعلق اولا حتى يعرض عليه الامر - وبالتالي يلزم ان يكون الامر متقدما ومتأخرا في وقت واحد فهو متأخر بما انه متوقف على الامر ومتقدم بما انه مأخوذ في متعلق الامر.

فان غرضه تصوير معنى الصلاة بشكل يقبل تعلق الامر به كما يأتي الاشارة لذلك في السطر الثالث ما قبل اخر هذه الصفحة.

قوله ص 455 س 4 في طول المشروط :

والمشروط هو مجموع الصلاة الذي هو عبارة عن الاجزاء فان الكل المركب عين اجزائه ، ومن هنا قال : فيكون في طول اجزاء المشروط.

قوله ص 455 س 6 لو سلّم :

اي ان اصل الطولية غير مسلّمة كما سيأتي في الجواب الثاني.

قوله ص 455 س 11 مصحّح :

اي مساعد ، والفاعل هو مثل النار والقابل هو مثل الورقة ، والقرب يساعد النار في تأثيرها ، وعدم الرطوبة يساعد الورقة في قبولها التأثر.

قوله ص 455 س 18 قصد القربة :

المقصود من قصد القربة قصد الامتثال ، والمراد من قصد الوجه قصد الوجوب والاستحباب ، فان الوجوب والاستحباب فرع الامر ، فالشيء بعد تعلق الامر به يمكن قصد وجوبه او استحبابه ، اما قبل ذاك فلا.

قوله ص 455 س 18 من القيود الثانوية :

ان مثل قصد الامتثال يسمى قيدا ثانويا ، لانه يأتي في مرتبة ثانية متأخرة عن الامر فلا بد من فرض وجود الامر كي يمكن قصد امتثاله ، بخلاف مثل الركوع والسجود والقيام وو ... فانها قيود اولية حيث يمكن الاتيان بمثل الركوع والسجود قبل الامر ايضا.

قوله ص 455 س 20 شرعا او عقلا :

اي ان مثل قصد الامتثال وان كان لا تصح الصلاة بدونه ولكن لا يمكن ان

ص: 231

يكون مأخوذا في المسمى وجزء منه ، اذ القائل بالصحيح يريد تصوير مسمى الصلاة بشكل يمكن تعلق الامر به ، وواضح ان قصد الامتثال لو كان مأخوذا في المسمى فلا يمكن تعلق الامر به.

ثم ان المناسب حذف كلمة « شرعا » والاقتصار على قوله « عقلا ».

قوله ص 455 س 21 به :

الاولى حذفه.

قوله ص 455 س 21 كما تقدم :

اي في السطر الاول من هذه الصفحة.

لا بد من وجود جامع.

قوله ص 455 س 22 الجهة الثالثة : لا اشكال في لزوم تصوير جامع بين الافراد ... الخ.

ههنا تساؤل : هل كلمة الصلاة موضوعة لكل فرد من افراد الصلاة بحيث ان الواضع تصور مفهوم الصلاة الكلي ووضع اللفظ لأفراده وهي هذه الصلاة وتلك وو ... الذي لازمه صيرورة معاني الصلاة كثيرة جدا وغير متناهية اذ افراد الصلاة الموجودة خارجا لا تعد ولا تحصى او انه - لفظ الصلاة - موضوع لمفهوم الصلاة الكلي بمعنى ان الواضع تصور المعنى الكلي للصلاة ووضع اللفظ له لا لأفراده؟

وعلى الاحتمال الاول يكون الوضع عاما والموضوع له خاصا. اما ان الوضع عام فباعتبار ان المعنى المتصور عام وهو المفهوم الكلي للصلاة (1). واما ان

ص: 232


1- وكلما كان المعنى المتصور عاما كان الوضع عاما ايضا بخلاف ما لو كان خاصا فانه يكون خاصا ايضا.

الموضوع له خاص فباعتبار ان اللفظ لم يوضع لنفس المعنى الكلي المتصور بل لافراده (1).

بينما على الاحتمال الثاني يكون الوضع عاما والموضوع له عاما ايضا ، فالوضع عام لكون المعنى المتصور عاما والموضوع له عام باعتبار وضع اللفظ لنفس المعنى الكلي المتصور (2).

والصحيح في الجواب : ان لفظ الصلاة لم يوضع لكل فرد فرد والاّ لزم ان تكون معاني لفظ الصلاة غير متناهية وهو باطل جزما ، فان معناه واحد نظير لفظ كتاب ودفتر وقلم وغير ذلك من اسماء الاجناس ، فكما ان لفظ الكتاب ذو معنى واحد وهو طبيعي الكتاب كذلك الحال في لفظ الصلاة فانا نحس بالوجدان انه ذو معنى واحد.

وبعد اتضاح ان معنى لفظ الصلاة واحد وهو الجامع بين الافراد قد يسأل عن ذلك الجامع وكيف يصوّر بين الافراد الصحيحة - بناء على الوضع الصحيح -؟ وكيف يصوّر بين الافراد الاعم من الصحيحة والفاسدة بناء على الوضع للاعم؟

وباختصار نحن بحاجة الى تصوير الجامع مرتين مرة بين الافراد الصحيحة وثانية بين الافراد الاعم من الصحيحة والفاسدة.

ص: 233


1- كما وان لازم الاحتمال الاول صيرورة لفظ الصلاة مشتركا لفظيا بين المعاني التي وضع لكل واحد منها.
2- وبناء على هذا الاحتمال يكون لفظ الصلاة مشتركا معنويا لانه موضوع للمعنى الكلي الجامع بين افراد الصلاة الذي هو مشترك معنوي.
الجامع على الصحيح.

ان تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة ليس بسيطا كما يبدو لأول وهلة ، بل هو مشكل حيث ان الصلاة تكون مرة ذات اربع ركعات واخرى ذات ثلاث ركعات وثالثة ذات ركعتين ورابعة ذات ركعة ، كما وانها تكون مرة من قيام واخرى من جلوس وثالثة حالة اضطجاع ، وهي ايضا تارة تكون صلاة آيات واخرى صلاة على الميت وثالثة صلاة جمعة وو ... ومع هذا التعدد كيف يمكن تصوير جامع واحد يجمع هذه الصور المختلفة ، فانه لو اعتبر فيه اربع ركعات فلازم ذلك ان تكون ذات الركعتين او الثلاث ليست بصلاة ، ولو اعتبر فيه ركعتان يلزم ان يكون ما عدا ذلك ليس بصلاة وهلمّ جرّا بالنسبة الى بقية القيود ايضا.

هذا ويمكن صياغة الاشكال في الجامع بنحو آخر تفصيلي بان يقال : ان الجامع لا يخلو من احد شقوق اربعة كلها باطلة (1) :

1 - ان يكون مركبا من مجموعة اجزاء وشرائط ، فاذا كانت اجزاء الصلاة

ص: 234


1- وقبل استعراض الشقوق لا بد من استعراض مقدمة قرأناها في المنطق ، وهي : ان مصطلح الذاتي له معنيان : ١ _ الذاتي في مبحث الكليات الخمسة : فان ثلاثة من الكليات _ النوع ، الجنس ، الفصل _ ذاتية ، واثنين منها عرضية ، وحينما يطلق الذاتي في هذا الباب يراد به احد الثلاثة ، ويسمى بذاتي باب الكليات الخمسة او بذاتي باب ايساغوجي ، فان ايساغوجي مصطلح يوناني بمعنى الكليات الخمسة. ٢ _ ما هو المذكور في باب تقسيم العرض ، حيث قسّم الى ذاتي وغريب ، وليس المراد بالذاتي هنا النوع وأخويه ، بل لازم الماهية كالزوجية لماهية الاربعة والامكان لماهية الانسان ، ويصطلح على هذا القسم بذاتي باب البرهان.

وشرائطها عشرة كان لفظ الصلاة موضوعا للعشرة. وهذا الاحتمال باطل فان لازمه عدم صدق لفظ الصلاة على صلاة المضطر التي تقل عن العشرة ، واذا كان - لفظ الصلاة - موضوعا للاقل من العشرة فلازم ذلك ان لا يصدق على الصلاة التامة الاختيارية ذات الاجزاء العشرة ، اذن المحذور لازم على كلا التقديرين.

2 - ان يكون بسيطا ، ولهذا الشق انحاء ثلاثة :

أ - ان يكون الجامع البسيط ذاتيا بمعنى الذاتي في باب الكليات الخمسة ، فكما ان الانسان نوع جامع بين افراده فكذا لفظ الصلاة موضوع للنوع الجامع بين افراد الصلاة. وهذا النحو باطل ، فان الصلاة مركبة من مقولات مختلفة ، فالركوع والسجود هما من مقولة الوضع بينما القرائة من مقولة الكيف ، ومن الواضح ان لا جامع بين المقولات العشر ولذا قيل انها اجناس عالية اي لا يوجد جنس اعلى يجمعها (1). وهكذا الصلاة مركبة من الوجود والعدم ، فالركوع والسجود مثلا هما من الموجودات بينما عدم القهقهة من العدميات ، وواضح ان الوجود والعدم لا يمكن وجود جامع يجمعهما.

ب - ان يكون الجامع البسيط ذاتيا بمعنى الذاتي في باب البرهان ، فان لماهية الصلاة لازما واحدا ، وهو وان كنا لا نعرفه الا ان ذلك لا يمنع من وضع كلمة الصلاة له. وهذا الاحتمال باطل ، فان لازم الشيء معلول له ، فالحرارة لازمة للنار بمعنى انها معلولة لها ، وماهية الصلاة بما انها مركبة من مقولات متعددة فلا يمكن ان يكون لها لازم واحد وضع له لفظ الصلاة اذ الاشياء المختلفة لا يمكن ان يكون لها معلول واحد والاّ يلزم ان يكون المتعدد علة للواحد.

ج - ان يكون الجامع البسيط عرضيا انتزاعيا بمعنى ان كلمة الصلاة

ص: 235


1- تقدم ايضاح هذه المصطلحات عند توضيح موضوع علم الاصول.

موضوعة لكل فعل ينهى عن الفحشاء مثلا ، فان النهي عن الفحشاء عنوان عرضي منتزع من افراد الصلاة وليس امرا ذاتيا. وهذا الاحتمال وان كان ممكنا ثبوتا - اي واقعا - الاّ انه غير واقع اثباتا ، اذ لازمه عدم امكان تصور معنى الصلاة الاّ بعد تصور عنوان النهي عن الفحشاء وعدم امكان تطبيق عنوان الصلاة على افرادها الاّ بعد تصور النهي عن الفحشاء ، وهو واضح البطلان فانا نقول : هذه صلاة وتلك صلاة بلا تصور النهي عن الفحشاء.

وعليه فالجامع بين الافراد الصحيحة مشكل للبيان المذكور.

قوله ص 456 س 1 بخصوصه :

اي ان خصوص الصحيح لو نظرنا اليه لوجدنا ان افراده مختلفة اختلافا شديدا فضلا عما اذا نظرنا الى الافراد الفاسدة ايضا.

قوله ص 456 س 1 الموضوع له :

الواو ساقطة ، والصواب : والموضوع له.

قوله ص 456 س 4 فيما بينهما :

الصواب : فيما بينها ، اي فيما بين الافراد.

قوله ص 456 س 8 باعتبار شدة :

هذا بيان للمشكلة بشكل مجمل ، واما المفصل فقد اشار له بقوله : وملخص الاشكال ... الخ.

قوله ص 456 س 14 سنخا ومقولة :

العطف تفسيري.

ص: 236

الجواب عن الاشكال.

قوله ص 456 س 23 وقد اجيب عن هذا الاشكال ... الخ :

وهناك عدة محاولات لتصوير الجامع على القول بالوضع للصحيح نقل منها في الكتاب ثلاث محاولات ، الاولى للآخوند والثانية للشيخ الاصفهاني ، والثالثة للسيد الشهيد ، وهي كما يلي :

محاولة الآخوند.

1 - وحاصل ما ذكره قدس سره : انا نقطع بوجود جامع بين افراد الصلاة الصحيحة وقد وضعت له كلمة الصلاة ، وذلك الجامع الذي نقطع به لو سئلنا عن حقيقته وماهيته اجبنا بانّا لا نعرف حقيقته ولكنا نعرفه ببعض آثاره ، ولا غرابة في ان يكون الشيء مجهولا من حيث حقيقته معلوما من ناحية اثاره ، وفي المقام الامر كذلك ، فالجامع بين الافراد الصحيحة مجهول من حيث الحقيقة ولكنه معلوم ببعض آثاره مثل النهي عن الفحشاء ، فكلمة الصلاة موضوعة لكل فعل ينهى عن الفحشاء.

وقد تقول : كيف جزم الآخوند بوجود جامع بين الافراد الصحيحة ومن اين علم بذلك؟

والجواب : انه استكشف ذلك من مجموع مقدمتين :

أ - ان جميع افراد الصلاة الصحيحة تشترك في اثر واحد وهو مثل النهي عن الفحشاء مثلا.

ب - ان الافراد المتعددة اذا اشتركت في اثر واحد فلا بد من وجود جامع ذاتي (1) واحد بينها يكون هو الموجد للاثر الواحد ، اذ يستحيل ان تكون الافراد

ص: 237


1- المراد بالجامع الذاتي ما يكون نوعا للافراد.

المتكثرة علة لشيء واحد فان الواحد لا يصدر من الكثير.

هذه حصية محاولة الآخوند قدس سره .

وقد ردّت بعدة ردود منها ما ذكره غير واحد من الاعلام ، وحاصله : ان الاثر الواحد تارة يكون ذاتيا اي ما يسمى باللازم الذاتي كالحرارة فانها لازمة لذات النار ، واخرى يكون عرضيا انتزاعيا كالبياض بالنسبة للقطن.

فان كان لازما ذاتيا فوحدته تدل حتما على وجود مؤثر واحد له ، فان لازم الذات عبارة اخرى عن معلول الذات ، فالحرارة اللازمة لذات النار معلولة لها ، وواضح ان المعلول اذا كان واحدا فيلزم ان يكون المؤثر فيه واحدا.

وان كان الاثر امرا عرضيا فوحدته لا تدل على وحدة المؤثر ، فالابيض مثلا اثر عرضي يمكن انتزاعه من الاشياء المختلفة كالانسان والحيوان والجدار ، بلا حاجة الى تصوير جامع بينها يكون هو المؤثر ، اذ الاثر العرضي ليس معلولا حتى تكون وحدته دليلا على وحدة الموجد له ، بل هو امر منتزع ، ولا محذور في انتزاع الشيء الواحد من الاشياء المختلفة كمثال الابيض.

وباتضاح هذا نقول : ان مثل النهي عن الفحشاء اثر عرضي انتزاعي فوحدته لا تدل على وجود جامع واحد ، بل نقول اكثر من هذا ، انه يستحيل وجود جامع ذاتي بين افراد الصلاة فان الجامع الذاتي عبارة عن النوع ، وواضح ان اجزاء الصلاة بما انها من مقولات مختلفة وبعضها وجودي وآخر عدمي فيستحيل وجود جامع ذاتي بينها ، فان المتضادات كيف يجمعها جامع واحد. اجل الجامع الذي يمكن افتراضه هو الجامع العرضي الانتزاعي مثل عنوان « الناهي عن الفحشاء » ، فانه يمكن وجوده ويمكن ان يكون لفظ الصلاة موضوعا له ، الاّ انه كما تقدم غير واقع اي لم توضع كلمة الصلاة له ، والاّ يلزم عند سماعنا لكلمة

ص: 238

الصلاة انتقال ذهننا الى مفهوم « الناهي عن الفحشاء » وان لا ينطبق مفهوم الصلاة على افراده الاّ بعد التوجه لعنوان « الناهي عن الفحشاء » ، وهو باطل جزما.

محاولة الشيخ الاصفهاني.

2 - وحاصل ما ذكره الشيخ الاصفهاني ان الصلاة تختلف اجزاؤها من حيث المقدار فتارة تكون اجزاؤها عشرة واخرى تسعة وثالثة ثمانية وهلمّ جرّا ، كما وتختلف الاجزاء من حيث الكيفية ، فالركوع مرة يكون من قيام واخرى من جلوس وثالثة بشكل آخر ، وباختصار اجزاء الصلاة تختلف من حيث الكيف والكم معا ، والواضع لا بد وان يتصور جميع هذه الاختلافات ويضع لفظ الصلاة لها ، ولكن كيف يمكن له تصور جميع هذه الاختلافات ووضع اللفظ لها بعد ذلك؟ ان الطريق هو ان يستعين بمفهوم - ولو كان عرضيا مثل مفهوم « الناهي عن الفحشاء » - ويلحظ بواسطته جميع تلك الاختلافات على سبيل الاجمال والابهام ثم يضع اللفظ لجميع تلك الاختلافات على اجمالها وابهامها ، وذلك نظير كلمة الخمر ، فان للخمر اختلافات واسعة ، فقد تكون متخذة من العنب وقد تكون متخذة من غيرها ، كما وان درجة اسكارها مختلفة فقد يكون اسكارها شديدا ولربما يكون ضعيفا ، كما وان لونها وطعمها مختلف ، وكلمة الخمر موضوعة لجميع هذه الاختلافات والواضع يتصورها بشكل مجمل مبهم ثم يضع لفظ الخمر لها.

والجواب عن هذه المحاولة : ان في مقصود الشيخ الاصفهاني احتمالين :

أ - ان يكون نفس المعنى الذي وضعت له كلمة الصلاة مجملا ومبهما ، وهذا الاحتمال باطل فان كل كلمة لا بد وان تكون موضوعة لمعنى محدد بدون ترديد ولا

ص: 239

ابهام.

وقد تقول : ان الوضع للمعنى المبهم ممكن نظير اسماء الاشارة ، فان معناها مبهم ولذا تعد من المبهمات.

والجواب : ان معنى اسماء الاشارة ليس مرددا ، فكلمة هذا مثلا موضوعة للمشار اليه المفرد المذكر ، اجل المقصود من المشار اليه قد يكون مرددا فحينما يقال جاء هذا فمن المحتمل ان يكون المقصود من « هذا » فلانا او فلانا او فلانا ، وبهذا الاعتبار يقال : ان اسماء الاشارة مبهمة ، فهي مبهمة في مقام الانطباق والتطبيق لا في اصل المعنى الموضوع له.

كما ويحتمل ان يكون ابهامها باعتبار احتياجها الى الصلة والمفسر ، فحينما نقول جاء هذا نحتاج الى مفسر فنقول جاء هذا العالم ، فكلمة « العالم » تفسر المقصود من اسم الاشارة.

ب - ان تكون كلمة الصلاة موضوعة لنفس الجامع الانتزاعي مثل ما ينهى عن الفحشاء ، وهذا قد بينا مرارا بطلانه.

يبقى شيء وهو ان الشيخ الاصفهاني ذكر ان كلمة الخمر موضوعة لمعنى مبهم وهذا ما لا نوافقه عليه ، فان كلمة الخمر موضوعة لمعنى محدد وهو السائل المسكر ، اجل لم يقيد الاسكار بدرجة معينة بل اخذ لا بشرط من هذه الناحية ، كما ولم يقيد بلون معين بل اخذ لا بشرط من هذه الناحية ايضا ، وواضح ان اخذ المعنى - لا بشرط - شيء وكون المعنى مبهما شيء آخر وليس احدهما عين الآخر.

محاولة السيد الشهيد.

3 - وقد اجاب السيد الشهيد بما حاصله : انا نختار كون الجامع تركيبا

ص: 240

وليس بسيطا ، ولكن لا نقصد من كون الجامع تركيبيا انه مركب من عشرة اجزاء مثلا ليرد عليه ما تقدم بل ندعي انه مركب بشكل خاص.

وتوضيحه : ان اجزاء الصلاة وشرائطها لها اشكال متعددة نكتفي باستعراض اربعة منها :

1 - ان قصد القربة جزء من الصلاة ، وهذا الجزء معتبر مهما كان شكلها فصلاة المختار وصلاة المضطر والغريق واي صلاة اخرى يلزم فيها قصد القربة.

2 - ان التسبيحات الثلاث جزء من الصلاة في الركعة الثالثة والرابعة ، ولكن يتخير المصلى بينها وبين قراءة الفاتحة ولو في حالة الاختيار فهي جزء معتبر بنحو التخيير.

3 - ان الوضوء او الغسل شرط في صحة الصلاة الاّ انه في حالة الاضطرار يجب التيمم فالمكلف اذن مخير بين ان يتوضأ او يغتسل حالة الاختيار وبين ان يتيمم حالة الاضطرار فاحدهما لازم في صحة الصلاة ولكن واحدا منهما معتبر في حالة الاختيار والآخر معتبر حالة الاضطرار.

4 - ان البسملة معتبرة قبل قراءة الحمد والسورة ولكن بشرط عدم التقية اما حالة التقية فلا يلزم الاتيان بها.

وباتضاح هذه الاشكال الاربعة نقول : ان الصلاة موضوعة للجامع وقد اعتبر في ذلك الجامع قصد القربة في جميع الحالات كما واعتبر فيه الحمد او التسبيحات على سبيل التخيير واعتبر فيه ايضا احد الامرين من الوضوء والغسل حالة الاختيار او التيمم حالة الاضطرار كما واعتبر فيه البسملة عند عدم التقية.

فالصلاة اذن موضوعة لكل فعل فيه. أ - قصد القربة. ب - واحد الامرين

ص: 241

من الفاتحة او التسبيحات. ج - واحد الامرين من الوضوء والغسل او التيمم. د - والبسملة ان لم تكن تقية.

وبهذا تجلى ان الجامع تركيبي ولكن لا بمعنى انه مركب من عشرة اجزاء بل بالشكل الذي ذكرناه.

ولربما يقال انه بناء على هذا تكون الصلاة موضوعة لمعنى معقد والحال ان المعنى المفهوم من الصلاة لدى العرف اوضح من هذا بكثير.

والجواب : نحن لا نسلم ان معنى الصلاة - لو كان مخترعا من قبل النبي صلی اللّه علیه و آله - واضح بل هو غير واضح الاجزاء والشرائط ويحتاج الى دراسة وتعلّم ، اجل معنى الصلاة على سبيل الاجمال واضح لدى العرف ولكنه من حيث التفاصيل والخصوصيات معقد ، وهذا نظير اسماء كثير من المركبات ، فمعنى كلمة السكنجبين مثلا على سبيل الاجمال واضح لدى كثير من الناس فهم يعرفون انه شراب خاص لذيذ ولكنهم لا يعرفون على سبيل التفصيل مقوماته واجزائه ، فاللفظ اذن قد يكون معناه على سبيل الاجمال واضحا ومن حيث التفاصيل والخصوصيات غامضا.

ولعل الشيخ الاصفهاني يقصد هذا المعنى حينما قال : ان الصلاة موضوعة لمعنى مبهم مردد ، فهو لا يقصد ان اصل المعنى الموضوع له مبهم ومجمل فان ذلك غير معقول كما تقدم وانما يقصد الابهام والاجمال في تفاصيله وخصوصياته ، فالعرف يفهم ان لكلمة الصلاة معنى معينا ولكنه لا يعرف خصوصياته على سبيل التفصيل ، لعل هذا مقصوده قدس سره وان كانت عبارته لا تساعد عليه.

قوله ص 457 س 2 خاصة :

اي ان النهي عن الفحشاء ما دام اثرا لخصوص الافراد الصحيحة فيدل

ص: 242

ذلك على وجود جامع واحد.

قوله ص 457 س 5 لوازم الوجود او الماهية الذاتية :

كلمة الذاتية صفة للوازم ، اي اللوازم الذاتية للوجود او الماهية ، ومثال لازم الماهية : الزوجية بالنسبة للاربعة فان ماهية الاربعة تقتضي الزوجية سواء وجدت في الذهن او في الخارج ولا يختص اقتضاؤها لذلك بما اذا كانت موجودة في الخارج ، ومثال لازم الوجود : الاحراق بالنسبة للنار ، فان النار لا تكون محرقة الا اذا كانت موجودة في الخارج.

قوله ص 458 س 8 جمعا :

لعل المناسب : جميعا.

قوله ص 458 س 9 بعض القيود تعيينا ومطلقا :

هذا اشارة الى الشكل الاول ، فقصد القربة متعين ويلزم الاتيان به ، واعتباره ثابت مطلقا وفي جميع حالات الصلاة بلا استثناء.

قوله ص 458 س 9 وبعض القيود تخييرا :

هذا اشارة الى الشكل الثاني والثالث ، فانه في الشكل الثالث اعتبر التخيير ايضا ولكنه تخيير بين الوضوء والغسل حالة الاختيار وبين التيمم حالة الاضطرار.

قوله ص 458 س 9 او مقيدا بحال خاص :

اشارة الى الشكل الرابع فان البسملة معتبرة حالة عدم التقية.

قوله ص 458 س 13 او ببدلها العرضي التخييري :

فان الفاتحة بدل تخييري عن التسبيحات ، والمقصود من كلمة « العرضي » انه في عرض التسبيحات فان كل بدل هو في عرض مبدله.

ص: 243

قوله ص 458 س 15 المقيد بحالته :

اي المقيد بحالته الخاصة مثل حالة الاضطرار ، فان التيمم مقيد بحالته الخاصة وهي الاضطرار.

قوله ص 458 س 17 بحالتي الاختيار والاضطرار :

فالوضوء والغسل مقيد بحالة الاختيار بينما التيمم مقيد بحالة الاضطرار.

قوله ص 458 س 18 يمكن اخذ الجامع بينها :

اي ان مثل البسملة يمكن اخذها في الجامع باحد نحوين :

أ - ان يؤخذ في الجامع التخيير بين البسملة وبين ان يعيش المصلي حالة التقية.

ب - ان يؤخذ في الجامع الاتيان بالبسملة عند عدم التقية.

قوله ص 459 س 5 المعاجين والمركبات :

العطف تفسيري.

قوله ص 459 س 8 فيكون مراده الابهام في تشخيص المعنى :

المناسب بدل تشخيص المعنى : مشخصات المعنى. والمراد تفاصيله واجزاؤه.

الجامع على القول بالاعم.

ذكرنا فيما سبق ان الآخوند قدس سره صوّر الجامع بناء على الصحيح حيث قال : ان الافراد الصحيحة تشترك في اثر واحد وهو النهي عن الفحشاء ، والاشتراك في اثر واحد يستلزم وجود جامع واحد يكون هو المؤثر ، ولكنه حينما وصل الى تصوير الجامع بناء على الاعم قال : انه لا يمكن وجوده لان ذلك الجامع

ص: 244

اما ان يكون بسيطا او مركبا ، وكلاهما باطل.

اما الجامع البسيط - وهو مثل الناهي عن الفحشاء - فلأن النهي عن الفحشاء ليس اثرا لكل صلاة حتى الفاسدة كيما يقال ان الصلاة موضوعة لكل ما ينهى ان الفحشاء فان هذا الاثر مختص بالافراد الصحيحة ولا يعم الافراد الفاسدة.

واما الجامع المركب فلأن كلمة الصلاة اذا فرضنا انها موضوعة للاركان الخمسة مثلا فنسأل هل هي موضوعة للاركان الخمسة بشرط انضمام بقية الاجزاء اليها كالتشهد والقراءة وغيرهما او هي موضوعة لها لا بشرط انضمام الباقي؟ فان كانت موضوعة لها بشرط انضمام الباقي لزم عدم صدق اسم الصلاة عند ترك المصلي لواحد من الاجزاء عمدا - لان الصلاة موضوعة لجميع الاجزاء والمفروض عدم تحقق الجميع - وهذا خلف المفروض لان المفروض ان كلمة الصلاة موضوعة للفاسد ايضا.

وان كانت موضوعة للاركان لا بشرط انضمام الباقي لزم عند فعل المصلي لصلاة تامة الاجزاء والشرائط عدم صدق اسم الصلاة على مجموع صلاته بل على قسم منها وهو خصوص الاركان ويكون اطلاقه على المجموع باعتبار ان ربع المجموع مثلا - وهو الاركان - صلاة ، وبالتالي يكون اطلاق الصلاة على المجموع مجازا والعلاقة المصححة لذلك كون البعض صلاة ، وذلك باطل جزما ، فان من اتى بجميع اجزاء الصلاة فلا شك في صدق كلمة الصلاة حقيقة على المجموع بما هو مجموع لا على البعض. هذا حصيلة ما افاده الآخوند قدس سره .

ويمكن مناقشته بأن بالامكان تصوير الجامع بسيطا تارة ومركبا اخرى.

اما الجامع البسيط فيمكن تصويره بالشكل الذي صوّره هو قدس سره

ص: 245

على الصحيح ، حيث ذكر ان الجامع هو الفعل الناهي عن الفحشاء ، وهنا ايضا يمكن تصوير الجامع بهذا الشكل بان يقال : ان الجامع الذي وضعت له كلمة الصلاة بناء على الاعم هو الفعل الناهي عن الفحشاء.

وقد تقول : ان النهي عن الفحشاء يختص بالصلاة الصحيحة واما الفاسدة فهي لا تنهى.

والجواب : انا لا نأخذ الجامع الذي وضعت كلمة الصلاة له هو ما ينهى عن الفحشاء بالفعل فانه لو اخذناه كذلك فهو يختص بالصلاة الصحيحة وانما نأخذ الجامع ما يصلح ان يكون ناهيا عن الفحشاء وله شأنية ذلك وان لم يكن ناهيا بالفعل ، والجامع بهذا الشكل يعم الصلاة الفاسدة ايضا فان اجزاء الصلاة الكاملة لو فرض انها عشرة وحذف المصلي منها جزئين عمدا فصلاته ذات الاجزاء الثمانية فاسدة ولا تنهى عن الفحشاء بالفعل ولكن لو فرض انه مرض وتعذر عليه جزآن فالاجزاء الثمانية حينئذاك تكون صحيحة وناهية عن الفحشاء ، اذن الاجزاء الثمانية التي هي فاسده حالة عدم العذر لها شأنية النهي عن الفحشاء في يوم من الايام وذلك عند وجود العذر المسوغ لترك الجزئين ، وهكذا كل صلاة فاسدة بما انه يمكن في يوم من الايام ان تقع صحيحة وناهية عن الفحشاء فلها شأنية النهي عن الفحشاء ، هذا تصوير الجامع البسيط.

ويمكننا تصوير الجامع مركبا بأن نقول : ان كلمة الصلاة موضوعة للاركان الخمسة من دون اشتراط وجود الاجزاء الباقية ، وبتعبير آخر موضوعة للاركان الخمسة فما زاد ، وبناء عليه لو اتى المصلي بالاركان الخمسة فقط بلا ضم الاجزاء الاخرى اليها كانت الصلاة صادقة على الاركان الخمسة فقط ولا يكون الباقي اجزاء ، واذا اتى ببقية الاجزاء وضمها الى الاركان الخمسة كانت الصلاة صادقة

ص: 246

على المجموع : الاركان وغيرها.

ومن هنا يتضح ان الاجزاء الباقية ان لم يؤت بها لم تكن اجزاء وان اتي بها كانت اجزاء ، ولا محذور في ان يكون الشيء على تقدير وجوده جزء وعلى تقدير عدمه ليس بجزء كما هو الحال في الكلمة فانها موضوعة للحرفين فصاعدا ، فاذا فرض ان المتكلم تلفظ بحرفين كانت الكلمة مركبة من حرفين ولا يكون الحرف الثالث جزء ، واذا تلفظ بالحرف الثالث كانت مركبة من ثلاثة حروف والحرف الثالث جزء منها ، فالحرف الثالث جزء على تقدير وجوده وليس جزء على تقدير عدمه.

قوله ص 459 س 10 بخصوصه :

اي يكون اطلاق الصلاة على خصوص الواجد لتمام الاجزاء مجازا ، واما اطلاقه على البعض - اي الاركان - فليس مجازا.

قوله ص 459 س 20 وفي بعض الحالات :

العطف تفسيري.

ثمرة البحث.

قوله ص 460 س 4 الجهة الرابعة : يذكر عادة لهذا البحث ثمرتان :

قد يسأل سائل : انا لفترة كنا نبحث عن وضع اسم الصلاة مثلا للصحيح او للاعم ولكن ما هي ثمرة هذا البحث؟

والجواب : ان الاعلام ذكروا ثمرتين :

الثمرة الاولى :

ولاجل ان تتضح هذه الثمرة نذكر مقدمة حاصلها ان التمسك باطلاق اللفظ

ص: 247

لا يصح الاّ اذا احرز صدق اللفظ المطلق على المشكوك ، فلو فرض ان المولى قال : اعتق رقبة وشك هل يلزم كون الرقبة المعتقة مؤمنة او لا كان التمسك بالاطلاق وجيها ، اذ يمكن الاشارة الى العبد الكافر والقول انه رقبة والمولى قال اعتق رقبة ولم يقل اعتق رقبة مؤمنة فعتقها مجزء ، اما اذا شك ان الجنين في بطن امه هل يجزء عتقه او لا فلا يصح التمسك بالاطلاق اذ لا يمكن الاشارة الى الجنين والقول انه رقبة - لاحتمال عدم صدق الرقبة على العبد الاّ بعد ولادته - ومع عدم احراز صدقه عليه فلا يصح التمسك بالاطلاق.

وبعد الفراغ من المقدمة نذكر الثمرة وحاصلها : انا لو شككنا في جلسة الاستراحة مثلا هل هي جزء من الصلاة او لا؟ فبناء على الوضع للصحيح لا يصح التمسك باطلاق ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) لنفي جزئيتها ، اذ لا يمكن الاشارة الى الصلاة الفاقدة لجلسة الاستراحة والقول انها صلاة والمولى قال : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) ولم يقل : اقيموها مع جلسة الاستراحة ، كلا لا يمكننا ذلك ، اذ بناء على الوضع للصحيح تكون كلمة الصلاة موضوعة للصلاة الواجدة لجميع الاجزاء والشرائط وحيث نحتمل ان جلسة الاستراحة جزء فنحتمل اذن ان الصلاة لا تصدق بدونها ، ومع عدم احراز صدق اسم الصلاة على الفاقد فلا يصح التمسك بالاطلاق لانه فرع احراز صدق اللفظ على المشكوك.

وهذا كله بخلافه على الوضع للاعم فانه يصح التمسك بالاطلاق اذ الصلاة من دون جلسة الاستراحة يجزم بانها صلاة ، ومع هذا الجزم يصح الاشارة لها والقول ان هذه صلاة والمولى قال : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) ولم يقل : اقيموها مع جلسه الاستراحة.

اذن على القول بالوضع للصحيح لا يمكن التمسك بالاطلاق لنفي جزئية

ص: 248

الجزء المشكوك بخلافه على الاعم.

ولرب قائل يقول : انه يوجد شكل جديد للاطلاق يصح التمسك به حتى على القول بالوضع لخصوص الصحيح ، انه الاطلاق المقامي ، ولتوضيحه نقول : ان الاطلاق على قسمين :

أ - اطلاق لفظي وهو ان يكون عندنا لفظ نتمسك باطلاقه مثل لفظ الرقبة فان اطلاقه الذي نتمسك به يسمى بالاطلاق اللفظي.

ب - اطلاق مقامي ومثاله حكاية زرارة عن الامام الصادق علیه السلام انه قال لاصحابه مرة الا احكي لكم وضوء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقالوا : نعم ، فدعا علیه السلام بماء وصب قسما منه على وجهه وغسله كاملا ثم اراق قسما منه على يده اليمنى وغسلها كاملا وهكذا في اليسرى ، ثم مسح رأسه وقدميه (1) ، ان هذه الرواية نستفيد منها عدم جزئية المضمضة للوضوء والاّ لفعلها علیه السلام ، وهذا تمسك بالاطلاق ولكنه ليس تمسكا باطلاق اللفظ ، اذ لا يوجد لفظ معين نتمسك باطلاقه وانما هو تمسك باطلاق المقام حيث انه علیه السلام في مقام بيان افعال الوضوء ومع ذلك لم يأت بالمضمضة فيدل ذلك على عدم كونها جزء.

وهذا الاطلاق المقامي يصح التمسك به حتى بناء على الوضع للصحيح ، اذ سواء قيل بالوضع للصحيح او للاعم يمكن القول ان الامام علیه السلام حيث لم يفعل المضمضة دل ذلك على عدم كونها جزء.

وما دام الاطلاق المقامي يصح التمسك به حتى بناء على الوضع للصحيح فالثمرة الاولى اذن باطلة ، لان الثمرة كانت تقول انه بناء على الصحيح لا يصح التمسك بالاطلاق وعلى الاعم يصح ، والآن عرفنا صحة التمسك بالاطلاق

ص: 249


1- الوسائل 1 : 272.

المقامي على كلا التقديرين.

والجواب : ان الاطلاق المقامي وان صح التمسك به حتى بناء على الوضع للصحيح الا ان توفّره نادر جدا ، اذ هو موقوف على كون المولى في مقام بيان تمام الاجزاء والشرائط ، ومن الواضح ان احراز ذلك مشكل بل لا يكاد يتفق الا في مثل الحكاية التي نقلناها ونظائرها النادرة ، اما في الحالات الاعتيادية - كما في قوله تعالى ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) و ( آتُوا الزَّكاةَ ) ، ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ) وو ... فلا يمكن احراز ذلك.

وباختصار : ان الاطلاق المقامي لو كان متوفرا لصح التمسك به حتى بناء على الوضع للصحيح الاّ انه نادر.

الثمرة الثانية :

وهذه الثمرة تظهر لو قلنا بوضع كلمة الصلاة لجامع بسيط على القول بالصحيح - كما كان الآخوند يقول بذلك حيث كان يرى ان كلمة الصلاة على الصحيح موضوعة لجامع بسيط وهو الفعل الناهي عن الفحشاء - وبوضعها للجامع المركب بناء على القول بالاعم ، ان الثمرة تظهر في هذه الحالة فقط ، اما اذا قلنا بناء على الصحيح بالوضع للجامع التركيبي - كما هو مختار السيد الشهيد - او قلنا بناء على الاعم بالوضع للجامع البسيط فلا تظهر.

وبعد هذا نقول في ايضاح هذه الثمرة : انه بناء على الوضع للصحيح لو شككنا في وجوب جلسة الاستراحة مثلا لم يصح التمسك بالاصل العملي لنفي وجوبها اذ الوجوب متعلق بالصلاة ، والصلاة لا تصدق على المركب الخارجي الذي نأتي به - والاّ لكانت الصلاة موضوعة للمركب وهو خلف الفرض لأنا فرضنا وضعها للجامع البسيط بناء على القول بالصحيح - بل هي تصدق على

ص: 250

الجامع البسيط الذي يحصل بسبب المركب الخارجي ليس هو الواجب بل سبب لحصول الواجب (1) فان الواجب هو ذلك الجامع البسيط ولكنا نشك هل يحصل بعشرة اجزاء التي احدها جلسة الاستراحة او بتسعة من دون الجلسة فيكون المقام من الشك في المحصل اي نشك ان المحصّل للواجب هو الاجزاء العشرة او التسعة ، ومع كون الشك في المحصل يحكم العقل بوجوب الاحتياط وذلك بالاتيان بالعشرة. هذا لو قلنا بالوضع للصحيح.

اما لو قلنا بالوضع للاعم فيصح التمسك باصل البراءة لنفي وجوب جلسة الاستراحة ، اذ الوجوب متعلق بالصلاة ، وبما ان الصلاة - بناء على القول بالوضع للاعم الذي نتكلم على تقديره - اسم للمركب الخارجي فبالتالي نشك ان الوجوب هل هو متعلق بالاجزاء العشرة التي احدها جلسة الاستراحة او بالاجزاء التسعة ، وحيث ان تعلق الوجوب بالتسعة معلوم ونشك في تعلقه بالجزء العاشر وهو جلسة الاستراحة فنجري البراءة عن تعلقه به لانا نشك في اصل تعلق التكليف به ، والشك في اصل التكليف مجرى للبراءة.

والخلاصة : ان الوجوب متعلق بالصلاة ولكن بناء على القول بالصحيح تكون الصلاة عبارة عن الجامع المسبب عن المركب الخارجي ، فالشك يكون شكا في ان الواجب هل يحصل بالاجزاء العشرة او بالتسعة فيجب الاحتياط ، واما بناء على الاعم فحيث ان الوجوب منصب على الصلاة والصلاة اسم للمركب الخارجي فيحصل الشك في ان الوجوب هل متعلق بالمركب الخارجي ذي الاجزاء العشرة او ذي الاجزاء التسعة ويكون الشك شكا في وجوب الجزء

ص: 251


1- ومن امثلة ذلك القتل فانه اسم لزهاق الروح وليس هو نفس قبض السكين باليد وامرارها على رقبة الحيوان وانما هو سبب لزهاق الروح.

العاشر فتجري البراءة عنه.

وقد سجل في الكتاب على هذه الثمرة ثلاثة ردود :

1 - ان هذه الثمرة مبنية على ان كلمة الصلاة - بناء على الوضع للصحيح - موضوعة لجامع بسيط ونحن ننكر ذلك ونقول انها موضوعة للجامع المركب كما اوضحنا ذلك سابقا.

2 - ان هذه الثمرة انما تتم لو فرض ان الجامع - الذي وضعت كلمة الصلاة له - له وجود مغاير لوجود المركب الخارجي فانه في هذه الفرضية تتم الثمرة حيث يكون عندنا وجودان متغايران : وجود للجامع ووجود للمركب ، ويكون وجود المركب سببا محصّلا للجامع ، اما اذا فرضنا ان وجود الجامع متحد مع وجود المركب واحدهما عين الآخر خارجا - كما هو ليس ببعيد حيث انه لا يوجد عندنا في الخارج المركب والجامع بل الاجزاء الخارجية التي نأتي بها هي الفعل الناهي عن الفحشاء لا ان الناهي الذي هو الجامع شيء مغاير للمركب الخارجي - فلا يكون المقام من قبيل السبب والمسبب لان السببية تستدعي وجود شيئين متغايرين احدهما يكون سببا والآخر مسببا ، والمفروض انه لا يوجد شيئان خارجا ، بل يكون المقام من قبيل الشك في اصل التكليف لان المفروض ان التكليف متعلق بالجامع وبما ان الجامع عين الاجزاء خارجا فالتكليف اذن منصب على الاجزاء وحيث انا لا نعلم بتعلقه بالجزء العاشر - وهو جلسة الاستراحة - وان كنا نجزم بتعلقه بالاجزاء التسعة فيكون الشك في تعلقه بالجزء العاشر من قبيل الشك في اصل التكليف فتجري البراءة عنه.

3 - انه لو تنزلنا وفرضنا ان الجامع ليس متحدا مع المركب الخارجي بل احدهما مغاير للآخر فمع ذلك يمكن ان تجري البراءة عن جلسة الاستراحة اذ من

ص: 252

الممكن ان يكون للجامع مرتبتان : مرتبة شديدة ومرتبة ضعيفة ، بان يكون النهي عن الفحشاء مرة قويا لا يحصل الاّ بعشرة اجزاء واخرى ضعيفا يحصل بتسعة (1) ، ففي مثل ذل يكون الشك من قبيل الشك في اصل التكليف ، اذ يجزم بتعلق التكليف بالجامع بمرتبته الضعيفة التي تحصل بتسعة اجزاء ويشك في تعلقه بالمرتبة الشديدة التي تحتاج الى ضم الجزء العاشر فتجري البراءة عن تعلقه بالمرتبة الشديدة ويثبت بذلك عدم وجوب الجزء العاشر وهو المطلوب.

قوله ص 460 س 6 عبارة :

الصواب عبادة.

قوله ص 460 س 15 لا يلزم عدم جريان :

المناسب لا يلزم منه عدم جريان ....

قوله ص 460 س 16 خارجا ووجودا :

العطف تفسيري.

قوله ص 460 س 17 سواء كان جامعا حقيقيا ام انتزاعيا ام اعتباريا :

اما اذا كان الجامع حقيقيا فلأن الجامع الحقيقي ليس هو الا النوع الجامع بين افراده ، ومن الواضح ان النوع متحد مع افراده خارجا.

واما اذا كان الجامع انتزاعيا فهو ينتزع من الافراد وليس له وجود مستقل مقابل افراده ، فعنوان الطويل مثلا المنتزع من الافراد المتعددة ليس له وجود

ص: 253


1- كانارة الدار ، فان المولى لو اوجب تنوير الدار وكان التنوير الذي هو امر بسيط يحصل بعشر شمعات وبتسع فيمكن للعبد ان يقول : ان الانارة بالمرتبة الضعيفة التي تحصل بتسع شمعات معلومة الوجوب وبالمرتبة الشديدة التي تحصل بعشر غير معلومة الوجوب فتجري البراءة عنها.

مقابل افراده.

واما اذا كان الجامع اعتباريا فلأن الامر الاعتباري - كالقيمة التي هي جامع بين جميع الاشياء ذوات القيمة - وان لم يكن متحدا مع الافراد لانه امر اعتباري ولا معنى لاتحاد الاعتبار مع الموجودات الحقيقية الخارجية الا ان الامر الاعتباري حينما يؤخذ في متعلق الحكم يؤخذ باعتبار انه مرآة لافراده من دون ان يتعلق به الحكم حقيقة ، ومعه يكون الحكم متعلقا بالافراد.

اذن الجامع الذي يجمع افراد الصلاة سواء كان حقيقيا ام انتزاعيا ام اعتباريا هو عين الاجزاء ويكون الحكم منصبا على الاجزاء.

قوله ص 460 س 22 ايضا جرت ... الخ :

المناسب : جرت البراءة ايضا ... الخ.

ادلة الوضع للصحيح.
اشارة

قوله ص 461 س 1 الجهة الخامسة : استدلّ على ... الخ :

وفي هذه الجهة يراد التعرض الى ادلة القولين : الوضع للصحيح والوضع للاعم.

اما القول بالوضع للصحيح فقد استدل له بعدة ادلة ذكر منها في الكتاب ثلاثة :

الدليل الأوّل :

1 - وقبل التعرض الى هذا الدليل نذكر مقدمة حاصلها : ان اصالة الحقيقة تستعمل في مجالين :

ص: 254

أ - ان يعلم بان المعنى الحقيقي للاسد مثلا هو الحيوان المفترس والمجازي هو الرجل الشجاع ولكن يشك ان المتكلم حينما قال : جئني باسد اراد المعنى الحقيقي او المجازي ، وفي مثل هذه الحالة تجري اصالة الحقيقة لاثبات ان المعنى المراد هو المعنى الحقيقي.

ب - ان يجزم بالمعنى المراد - خلافا للحالة السابقة حيث كان يشك في اصل المعنى المراد - ولكن يشك في كيفية استعماله فلا يعلم انه استعمال حقيقي او مجازي.

وفي مثل ذلك لا يصح اجراء اصالة الحقيقة لاثبات ان المعنى المراد معنى حقيقي قد وضع له اللفظ.

ومثال ذلك ما لو قال المولى : اغتسل يوم الجمعة ، فانه يعلم ان المقصود من الامر هنا هو الاستحباب ولكن يشك ان الاستعمال فيه هل هو حقيقي او مجازي ، والعقلاء في مثل ذلك لا يجرون اصالة الحقيقة ، فانهم يجرونها فيما اذا فرض الشك في اصل المعنى المراد ، اما مع العلم به والشك في كيفية استعماله فلم يثبت منهم بناء على اجرائها خلافا للسيد المرتضى قدس سره حيث يرى جريان اصالة الحقيقة في كلتا الحالتين.

وبعد هذه المقدمة نرجع الى الدليل الأول وحاصله : ان كثيرا من النصوص اثبتت للصلاة بعض الآثار - مثل الصلاة قربان كل تقي ، الصلاة معراج المؤمن ، الصلاة تنهى عن الفحشاء ... - وبما ان الآثار مختصة بالصلاة الصحيحة فيثبت ان كلمة الصلاة موضوعة لخصوص الصلاة الصحيحة.

ويمكن الجواب :

أ - ان كلمة الصلاة في هذه النصوص وان استعملت في خصوص الصلاة الصحيحة ولكن بهذا الاستعمال لا يثبت كونها موضوعة لذلك ، اذ من الممكن انها

ص: 255

موضوعة للاعم ومع ذلك استعملت في خصوص الصحيحة مجازا.

لا يقال : انا نشك ان استعمال كلمة الصلاة في هذه النصوص هل هو حقيقي او مجازي وباصالة الحقيقة في الاستعمال يثبت ان الاستعمال حقيقي وبالتالي يثبت ان كلمة الصلاة موضوعة لخصوص الصحيح.

فانه يقال : ان اصالة الحقيقة لا يجريها العقلاء اذا علم بالمراد وشك في كيفية الاستعمال ، وفي المقام يعلم بان المراد خصوص الصلاة الصحيحة ويشك في كيفية الاستعمال وانه حقيقي او مجازي.

ب - انه من الممكن ان نقول : ان استعمال كلمة الصلاة في هذه النصوص استعمال حقيقي حتى على تقدير الوضع للاعم ومعه فلا تجري اصالة الحقيقة لانها انما تجري فيما لو احتمل ان الاستعمال مجازي ، اما مع كونه حقيقيا على كلا التقديرين فلا معنى لاجرائها.

اما كيف يكون استعمال كلمة الصلاة في هذه النصوص حقيقيا حتى على تقدير الوضع للاعم؟ ان الوجه فيه احتمال استعمال كلمة الصلاة في طبيعي الصلاة الجامع بين الصحيح والفاسد وتكون كلمة قربان مستعملة في القربان ، وبعد ضم احدى الكلمتين للاخرى يستنتج السامع ان مراد المتكلم واقعا هو الصلاة الصحيحة من دون ان تكون كلمة الصلاة مستعملة في ذلك بل هي مستعملة في طبيعي الصلاة ، وهذا نظير كلمة « ماء الرمان » فان كلمة ماء يراد بها طبيعي الماء وكلمة رمان يراد بها طبيعي الرمان ، وبعد الضم يفهم ان مراد المتكلم واقعا هو السائل المعروف من دون ان تستعمل كلمة الماء بخصوصها او الرمان بخصوصها في ذلك. وهذا ما يسمى بطريقة تعدد الدال والمدلول ، اي ان كلمة الصلاة هي الدال الاول ومدلولها الطبيعي وكلمة قربان هي الدال الثاني ومدلولها الطبيعي

ص: 256

ايضا وبعد الاجتماع يفهم ان المراد الواقعي هي الصلاة الصحيحة.

الدليل الثاني :

التمسك بالروايات التي تنفي الصلاة عند عدم الاتيان ببعض الاجزاء مثل « لا صلاة الاّ بفاتحة الكتاب ، لا صلاة الا بطهور ، لا صلاة الا بركوع ، وو ... » فان الصلاة لو كانت موضوعة للاعم فلا وجه لنفيها عند انتفاء بعض الاجزاء.

ويمكن رد ذلك بان الروايات المذكورة ليست ناظرة الى عالم التسمية والوضع اي ليس مقصودها انه من دون الفاتحة مثلا لا يسمى الفعل صلاة ولم توضع له كلمة الصلاة بل هي ناظرة الى عالم التشريع والجعل فكانها تريد ان تقول : من دون الفاتحة لا يكون الفعل صلاة في عالم التشريع ، والمقصود من نفي الصلاة في عالم التشريع نفي الوجوب فالوجوب لم يتعلق بالصلاة الفاقدة للفاتحة ولكن لم يبين هذا بشكل صريح بل بشكل غير مباشر ، فنفيت الصلاة بقصد نفي الوجوب ، وهذا ما يصطلح عليه بنفي الحكم بلسان نفي الموضوع (1).

اذن مقصود الحديث بحسب الحقيقة نفي تعلق الوجوب بالصلاة عند عدم الفاتحة ، وبما انه لا وجه لنفي الوجوب عند انتفاء الفاتحة الا كون الفاتحة جزء فيثبت ان الفاتحة جزء ، ومعه تكون الرواية اجنبية عن الموضوع ، فانها لم تنظر الى عالم التسمية حتى يثبت ان الفعل من دون الفاتحة لا يسمى صلاة بل ناظرة الى اثبات الجزئية للفاتحة. ولنا قرينتان على عدم نظر الاحاديث المذكورة الى عالم التسمية :

أ - ان الاحاديث المذكورة تفقد بلاغتها لو كانت ناظرة الى عالم التسمية اذ

ص: 257


1- كقوله علیه السلام : لا ربا بين الوالد وولده ، فانه نفي للربا بقصد نفي الحرمة.

يصير المعنى انه بدون الفاتحة لا يسمى الفعل صلاة ، وهذا ليس فيه اي بلاغة بخلاف ما لو كان النظر الى عالم التشريع حيث يكون المقصود نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، وفي ذلك من البلاغة ما لا يخفى.

ب - ان هذه الاحاديث لا تكون دالة على كون الفاتحة جزء لو كانت ناظرة الى عالم التسمية اذ يصير المعنى انه بدون الفاتحة لا يكون الفعل صلاة ، وهذا المقدار اقصى ما يثبت ان الفاتحة جزء من الاسم ، ومن الواضح ان الجزئية التي يراد اثباتها ليست هي الجزئية للاسم بل الجزئية للمأمور به اي كون الفاتحة جزء من الفعل الذي تعلق به الامر وهذا لا يثبت الا اذا كانت الاحاديث ناظرة الى عالم التشريع والجعل.

الدليل الثالث :

ان المتبادر من كلمة الصلاة حينما يقال : فلان صلى او يصلي هو الصلاة الصحيحة لا الاعم منها ومن الفاسدة ، وهذا يدل على ان كلمة الصلاة موضوعة لخصوص الصحيح.

والجواب : ان هذا التبادر ليس من نفس لفظ الصلاة حتى يكون دليلا على وضعه لخصوص الصحيح بل هو لالتزام كل مكلّف باداء خصوص الصلاة الصحيحة.

قوله ص 460 س 9 بتوفر ذلك المقام الخاص :

اي كون المتكلّم في مقام بيان الاجزاء.

قوله ص 461 س 7 والشك في الاستناد :

اي في كيفية الاستعمال وانه مستند للقرينة حتى يكون مجازا او الى حاق اللفظ حتى يكون حقيقة.

ص: 258

ادلة الوضع للاعم.

قوله ص 461 س 20 واما القول بالوضع للاعم ... :

استدل للقول بالاعم بعدة ادلة نذكر منها :

الاول : ان المتبادر من كلمة الصلاة هو الاعم من الصحيح والفاسد لا خصوص الصحيح كما يدّعيه القائل بالصحيح.

ويرد عليه :

أ - انا لا نسلم تبادر الاعم بل المتبادر خصوص الصحيح.

ب - من المحتمل قويا ان كلمة الصلاة كانت موضوعة زمن النبي صلی اللّه علیه و آله لخصوص الصحيح ولكن بعد ذلك وبسبب حاجة الناس في الازمنة المتأخرة الى التعبير عن الصلاة الفاسدة اخذوا يستعملون كلمة الصلاة كثيرا في الصلاة الفاسدة الى حد نقلت من ذلك المعنى السابق - وهو وضعها للصحيح - ووضعت للاعم ، فتبادر الاعم لو سلّم فهو ناشىء من هذا الوضع المتأخر لا من جهة كونها موضوعة للاعم زمنه صلی اللّه علیه و آله .

ان قلت : اذا سلمنا ان المتبادر في زماننا المعاصر هو الاعم فنقول : انا نشك هل هذا المعنى كان ثابتا من الاول او ان الثابت منذ البداية هو الصحيح ثم حصل النقل الى الاعم ، وعند الشك في النقل نتمسك باصالة عدم النقل فيثبت ان هذا المعنى - وهو الاعم - كان ثابتا من الاول ، اذ لو كان الثابت سابقا هو الصحيح يلزم حصول النقل وهو خلف اصالة عدم النقل.

قلت : ان احتمال حصول النقل قوي بسبب شدة الدواعي اليه لكثرة حاجة الناس الى التعبير عن الصلاة الفاسدة ، ومع شدة الداعي الى النقل وقوة احتماله لا

ص: 259

يجري العقلاء اصالة عدم النقل ، فان القدر المتيقن من اجزائهم لها موارد عدم توفر دواعي النقل.

الثاني : يسأل الامام علیه السلام في بعض الروايات عمن ترك بعض اجزاء صلاته فيجيب : يعيد صلاته. ان هذا التعبير يدل على ان اسم الصلاة لا يختص بالصحيحة والاّ كيف يطلق علیه السلام كلمة الصلاة على الفاسدة بقوله يعيد صلاته ، بل ان التعبير بكلمة « يعيد » وبقطع النظر عن كلمة « صلاته » يدل على ان الماتي به اولا هو صلاة والا فلا يصح التعبير بكلمة « يعيد » اذ لا وجود للصلاة حتى يصدق على تكرارها عنوان الاعادة.

ويرد عليه :

أ - انه وردت رواية تقول « لا تعاد الصلاة الاّ من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود » (1). وهي تدل على وجوب اعادة الصلاة عند فقدان واحد من هذه الخمسة. ولازم ذلك صحة اطلاق كلمة الصلاة على الفاقد للاركان والحال ان الفاقد للاركان لا يصح اطلاق الصلاة عليه حتى عند الاعمى. اذن مثل هذا الاشكال يرد حتى بناء على الاعم ، ويسمى مثل هذا الجواب بالجواب النقضي.

ب - ان غاية ما يستفاد من هذا الدليل صحة اطلاق الصلاة على الفاسدة ، وواضح ان الاستعمال اعم من الحقيقة ، ولا يمكن التمسك باصالة الحقيقة لاثبات كون الاستعمال حقيقيا عند العلم بالمراد - وهو الصلاة الفاسدة - والشك في كيفية الاستعمال خلافا للسيد المرتضى كما تقدم ، ويسمى مثل هذا الجواب بالجواب الحلي.

ص: 260


1- الوسائل 4 : 683.

الثالث : ما ذكره الشيخ الاصفهاني من ان عادة العقلاء جرت على انهم متى ما اخترعوا معنى جديدا وضعوا اللفظ لمجموع اجزائه دون شرائطه ، فاذا اجتمعت الاجزاء كان اللفظ موضوعا لها وان لم تكن الشرائط متوفرة معها ، فالطبيب اذا اخترع دواء الاسپرين مركبا من خمسة اجزاء وكان هذا الدواء لا يؤثر اثره الاّ اذا حصل تناوله قبل الطعام فهو يضع اللفظ لمجموع الاجزاء الخمسة وان حصل التناول بعد الطعام ، هذه سيرة العقلاء ، والنبي صلی اللّه علیه و آله بما انه واحد منهم بل رئيسهم فلا بد وان تكون طريقته ذلك ايضا فهو صلی اللّه علیه و آله قد وضع لفظ الصلاة لمجموع الاجزاء دون الشرائط ، وهذا معناه ان لفظ الصلاة موضوع للصحيح من حيث الاجزاء وللاعم من حيث الشرائط.

ويرد عليه :

أ - انا لا نجزم بمثل هذه السيرة.

ب - وعلى تقدير تسليمها لا نجزم بمتابعته صلی اللّه علیه و آله لها ، اذ لا يلزم من عدم متابعته لها محذور قبيح.

ج - ان الاصفهاني ذكر ان العقلاء لا يضعون اللفظ للشرائط التي يكون معها الدواء مؤثرا ونافعا ، وهذا وان كان تاما لكنه خارج عن محل الكلام ، اذ الكلام في شرائط نفس المعنى لا في شرائط تأثيره ، فمن قال ان الدواء لو كان له شرائط راجعة الى نفسه - ككونه ذا لون او طعم خاص - لا الى تأثيره فلا يضع الواضع اللفظ لها ، وهكذا في الصلاة فان القبلة والطهارة والستر وو ... شرائط لنفسها لا لتأثيرها فيلزم ان يكون اللفظ موضوعا لها ايضا. وباختصار حصل خلط بين شرائط التأثير وشرائط المعنى والكلام في الثاني دون الاول.

الرابع : واستدل على الوضع للاعم بالحديث الوارد « دعي الصلاة ايام

ص: 261

اقرائك » (1) فان الصلاة ايام القرء - اي الحيض - فاسدة ومع ذلك اطلق الحديث عليها كلمة الصلاة وقال : دعي الصلاة.

والجواب : ان النهي الوارد في هذا الحديث ليس مولويا حتى يقال : ان النهي عن الصلاة ايام الحيض دليل على صحة اطلاق كلمة الصلاة على الفاسدة ، بل هو ارشاد الى ان الصلاة ايام الحيض لم يؤمر بها وان الامر متعلق بالصلاة ايام الطهر فقط.

وقد تقول : ان الصلاة ايام الحيض وان كانت فاقدة للامر ولكنها بالتالي فاسدة ، فاطلاق الحديث كلمة الصلاة عليها مع انها فاسدة - لفقدان الامر - دليل على الوضع للاعم.

والجواب : من الممكن ان تكون كلمة الصلاة موضوعة لخصوص الصحيح ومع ذلك تطلق على الفاقدة للامر باعتبار انها - بناء على الوضع للصحيح - لم توضع للصلاة المقيدة بواجدية الامر ، فان واجدية الصلاة للامر هو من القيود الثانوية (2) ، وهي لا يمكن اخذها في المسمى حتى عند الصحيحي فضلا عن الاعمي (3).

الخامس : وقد يستدل على الوضع للاعم بان الصلاة يمكن تقسيمها الى

ص: 262


1- الوسائل 2 : باب 7 من ابواب الحيض حديث 2.
2- القيد الثانوي ، هو القيد الذي يأتي في المرتبة الثانية بعد تعلق الامر مثل قصد امتثال الامر وواجدية الصلاة للامر ، وفي مقابل ذلك القيد الاوّلي وهو القيد الذي لا يتوقف حصوله على تعلق الامر مثل الركوع والسجود والقيام وو ... فان المصلي يمكنه الركوع وان لم يكن هناك امر بالصلاة بخلاف قصد امتثال الامر فانه لا يمكن حقيقة عند عدم الامر.
3- وكان من المناسب الجواب اضافة الى ذلك بان غاية ما يستفاد من هذا الحديث صحة استعمال كلمة الصلاة في الفاسدة ، وواضح ان الاستعمال اعم من الحقيقة.

الصحيحة والفاسدة فيقال : الصلاة اما صحيحة او فاسدة ، وصحة التقسيم دليل على وضع المقسم للاعم والاّ يلزم تقسيم الشيء الى نفسه وغيره.

والجواب : ان اقصى ما تقتضيه صحة التقسيم استعمال كلمة الصلاة حالة التقسيم في الاعم ، والاستعمال اعم من الحقيقة ، فمن المحتمل ان كلمة الصلاة لم توضع للاعم ومع ذلك استعملت في الاعم حين التقسيم مجازا.

السادس : وذهب السيد الخوئي دام ظله الى ان كلمة الصلاة (1) وضعت في التشريع الاسلامي لاربعة اجزاء - التكبير والركوع والسجود والطهارة من الحدث - دون بقية الاجزاء والشرائط ، فمتى ما اجتمعت هذه الاربعة كان استعمال كلمة الصلاة حقيقيا وفي المعنى الموضوع له سواء كانت بقية الاجزاء والشرائط ثابتة ام لا. فله دام ظله اذن دعويان :

أ - ان كلمة الصلاة موضوعة للاجزاء الاربعة : ولنسمّ هذه الدعوى بالجانب الايجابي.

ب - ان كلمة الصلاة لم توضع لبقية الاجزاء ، ولنسمّ هذه الدعوى بالجانب السلبي.

واستدل دام ظله على الدعوى الاولى بانه ورد في حديث الحلبي « ان الصلاة ثلاثة اثلاث : ثلث طهور وثلث ركوع وثلث سجود » (2). وورد ايضا في حديث آخر ان افتتاح الصلاة يحصل بالتكبير (3). واذا ضمنا الحديث الثاني الى

ص: 263


1- هذه الدعوى تختص بكلمة الصلاة دون غيرها.
2- الوسائل 4 : 931.
3- ففي حديث ناصح المؤذن عن ابي عبد اللّه علیه السلام « ... مفتاح الصلاة التكبير » ، الوسائل 4 : 714.

الاول كانت النتيجة ان الصلاة موضوعة لاربعة : التكبير والركوع والسجود والطهور.

واضاف دام ظله قائلا : ومن اجل ان كلمة الصلاة موضوعة لهذه الاربعة كان فقدان اي واحد منها ولو نسيانا موجبا لبطلان الصلاة ، بينما لمّا لم تكن بقية الاجزاء مأخوذة في المسمى لم يكن فقدانها نسيانا موجبا للبطلان.

يبقي شيء وهو ان الصلاة اذا كانت ثلاثة اثلاث ثلثها الركوع وثلثها السجود وثلثها الطهور فكيف يكون التكبير جزء والحال ان لازم ذلك صيرورة الصلاة اربعة اثلاث.

ويمكن توجيه ذلك بان المقصود من كون الصلاة ثلاثة اثلاث انها ثلاثة اثلاث بعد حصول افتتاحها بالتكبير ، فالتكبير بما انه يحصل الافتتاح به لم يعد واحدا من الاثلاث اذ المقصود من الاثلاث الاثلاث بعد افتتاح الصلاة. هذا حصيلة ما افاده دام ظله. ويرده : ان كلتا الدعويين قابلة للمناقشة :

اما الدعوى الاولى : فلانه استدلّ عليها بالحديثين السابقين - اي بحديث الصلاة ثلاثة اثلاث وبحديث افتتاح الصلاة بالتكبير - ومن الواضح ان هذين الحديثين ناظران الى عالم الامتثال ، اي ان هذه الاجزاء الاربعة اجزاء مهمة في مقام الامتثال فمن دونها لا يحصل الامتثال وليسا ناظرين الى عالم التسمية وانه هل يصدق اسم الصلاة بدونها اولا. ولئن سلّمنا نظرها الى عالم التسمية فيلزم ان تكون الفاتحة والقيام مأخوذين في المسمى ايضا اذ ورد في احاديث اخرى - لها لسان يشابه لسان الحديثين السابقين - انه « لا صلاة الا بفاتحة الكتاب » (1) و « لا

ص: 264


1- ففي حديث محمّد بن مسلم عن أبي جعفر علیه السلام قال : سألته عن الذي لا يقرأ بفاتحة الكتاب في صلاته قال : لا صلاة له الا ان يقرأ بها. الوسائل4- 732.

صلاة لمن لم يقم صلبه » (1) ، فلو كان لسان الحديثين السابقين يستفاد منه مدخلية الاجزاء الاربعة في المسمى فيلزم ان يستفاد من هذه الاحاديث مدخلية الفاتحة والقيام في المسمى ايضا.

وباختصار ان الحديثين السابقين ان كانا ناظرين الى عالم الامتثال فهما اجنبيان عن بيان مدخلية الاجزاء الاربعة في المسمى ، وان كانا ناظرين الى عالم التسمية فيلزم مدخلية مثل الفاتحة والقيام في المسمى ايضا.

واما الدعوى الثانية : فالدليل عليها اما ما اشار اليه قدس سره في آخر كلامه - حيث ذكر ان عدم بطلان الصلاة بترك بقية الاجزاء نسيانا يدل على عدم مدخليتها في المسمى - واما باعتبار ان المستفاد من الحديثين السابقين ان الاجزاء الاربعة هي التي لها المدخلية في المسمى دون غيرها.

فان كان الدليل هو الاول فيرده : ان عدم بطلان الصلاة بترك بقية الاجزاء نسيانا لا يدل على عدم مدخليتها في المسمى اذ الاجزاء حينما تؤخذ في المسمى تؤخذ بشكلها الخاص في مقام التأثير فان كان فقدانها العمدي والنسياني يستوجب بطلان الصلاة فيلزم اخذها في المسمى اجزاء حالة التذكر والنسيان معا ، وان كان فقدانها العمدي فقط يوجب البطلان فيلزم اخذها في المسمى حالة التذكر فقط وتكون النتيجة وضع كلمة الصلاة للاجزاء الاربعة مطلقا ولبقية الاجزاء في خصوص حالة التذكر.

وان كان الدليل هو الثاني فيرده ما تقدم من ان الحديثين ليسا ناظرين الى عالم التسمية حتى يدلاّ على عدم مدخلية بقية الاجزاء في المسمى بل هما ناظران لبيان ركنية الاجزاء الاربعة بلحاظ عالم الامتثال وتفريغ الذمة.

ص: 265


1- ورد ذلك في حديث ابي بصير. الوسائل 4 : 939.

قوله ص 463 س 10 والاجزاء :

بكسر الهمزة عطف تفسير على الامتثال.

قوله ص 463 س 15 والذي هو المهم ... الخ :

اذ الاعمي يدعي ان اسم الصلاة يصدق حتى عند فقدان بعض الاجزاء ، وواضح ان المناسب لهذه الدعوى هو الجانب السلبي الذي يقول ان اسم الصلاة يصدق وان لم يتوفر باقي الاجزاء غير الاربعة ، ولا تناسب له مع الجانب الايجابي.

قوله ص 463 س 20 حالة الاختيار او الذكر :

الاختيار يقابل الاضطرار ، والذكر يقابل النسيان.

قوله ص 463 س 32 بلحاظ الوجوب :

المناسب : بلحاظ الامتثال كما عبّر بذلك قبل أسطر.

مختار السيد الشهيد.

قوله ص 464 س 2 والتحقيق ان يقال ... الخ :

وبعد الاطلاع على ادلة القولين نشير الى الرأي المختار وهو ان الفاظ العبادات موضوعة للاعم.

والدليل عليه : ان الاحتمالات في المسألة ثلاثة ، وعلى تقدير جميعها يلزم الوضع للاعم ، والاحتمالات هي :

1 - ان يكون معنى كلمة الصلاة مثلا ثابتا قبل الاسلام وتكون - كلمة الصلاة - موضوعة له.

2 - ان يكون معنى كلمة الصلاة حادثا بعد الاسلام ويفرض انها - كلمة

ص: 266

الصلاة - وضعت له وضعا تعينيا ناشئا بسبب كثرة الاستعمال.

3 - ان يكون المعنى حادثا بعد الاسلام ويفرض ان كلمة الصلاة وضعها صلی اللّه علیه و آله بالوضع التعييني له.

اما بناء على الاحتمال الاول فيلزم ان تكون كلمة الصلاة موضوعة للاعم لان الصلاة الصحيحة هي الفعل الواجد لجميع الاجزاء والشرائط ، ومن الواضح ان جميع اجزاء الصلاة وشرائطها لم يكن ثابتا قبل الاسلام ليكون لفظ الصلاة موضوعا للمجموع ، بل كثير منها جاء به الاسلام بعد ما لم يكن ثابتا قبلا.

واما على الاحتمال الثاني - وهو كون كلمة الصلاة موضوعة للمعنى الشرعي بالوضع التعيّني - فيلزم الوضع للاعم ايضا لان الوضع التعيّني يحصل بواسطة كثرة الاستعمال ، ومن الواضح ان الذي يمكن الجزم به هو كثرة استعمال كلمة الصلاة في الاعم واما استعمالها في خصوص الصحيح فلا يجزم بكثرته ، بل يمكن ان يدّعى ان كلمة الصلاة لا يجزم باستعمالها حتى مرة واحدة في خصوص الصلاة الصحيحة ، فانا وان جزمنا في كثير من الاستعمالات بارادة خصوص الصلاة الصحيحة ولكن لا يلزم استعمال كلمة الصلاة في ذلك بل من المحتمل ارادة خصوص الصحيح منها من دون ان تستعمل فيه كما هو الحال في كلمة « ماء رمان » فان المقصود من هذه الكلمة هو السائل المعروف بدون ان تستعمل كلمة ماء ولا كلمة رمان في ذلك بل كلمة ماء مستعملة في طبيعي الماء وكلمة رمان مستعملة في طبيعي الرمان ، وبعد اجتماعهما يفهم ان مقصود المتكلّم هو السائل المعروف. وكلمة الصلاة لعلها من هذا القبيل ، فحينما يقال مثلا : تجب الصلاة مع الركوع والسجود فالمراد واقعا وان كان هو الصلاة الصحيحة ولكن لا يلزم ان تكون كلمة الصلاة مستعملة في ذلك ، فلعلها مستعملة في طبيعي الصلاة الاعم ،

ص: 267

وكلمة الركوع والسجود مستعملة في طبيعي الركوع والسجود ايضا ، وبعد اجتماعهما يفهم ان المقصود واقعا هو خصوص الصلاة الصحيحة.

واما على الاحتمال الثالث - اي وضع كلمة الصلاة للمعنى الشرعي بالوضع التعييني - فقد يقال : لا يمكن الجزم باحد الاحتمالين ، فكما يحتمل وضع النبي صلی اللّه علیه و آله الصلاة للاعم يحتمل وضعها لخصوص الصحيحة. هذا ولكن المناسب هو الوضع للاعم لوجهين :

أ - ان اصل احتمال الوضع التعييني ضعيف للغاية ، اذ لو كان صلی اللّه علیه و آله قد قال : وضعت كلمة الصلاة للمعنى الشرعي الصحيح او الاعم لنقل التأريخ ذلك كما مرّ سابقا.

ب - لو سلمنا وضعه صلی اللّه علیه و آله كلمة الصلاة للمعنى الشرعي تعيينا فيمكن الجزم بعدم وضعها للمعنى الشرعي الصحيح ، اذ الصلاة الصحيحة هي الجامعة لجميع الاجزاء والشرائط ، ومن الواضح ان كلمة الصلاة قد استعملها النبي صلی اللّه علیه و آله منذ اليوم الاول من بعثته المباركة ، ومجموع الاجزاء والشرائط بيّن بعد ذلك خلال خمس وعشرين سنة ، ومعه فكيف تكون كلمة الصلاة قد وضعها صلی اللّه علیه و آله منذ بداية بعثته لمجموع الاجزاء والشرائط ، ان هذا احتمال بعيد جدا.

هذا مضافا الى ان الوضع لجميع الاجزاء والشرائط وضع لمعنى مجهول وغير محدد وهو بعيد ايضا ، اذ المقصود من الوضع تفهيم المعنى للناس ، فلو كان المعنى الموضوع له مجهولا يلزم نقض الغرض من الوضع.

ان قلت : لماذا لا نقول ان كلمة الصلاة قد وضعها النبي صلی اللّه علیه و آله في بداية بعثته للصحيح لكن لا بمعنى واقع الصحيح الذي هو عبارة عن مجموع

ص: 268

الاجزاء والشرائط حتى يقال انه مجهول بل بمعنى مفهوم الصحيح ، وواضح ان مفهوم الصحيح ليس فيه اي اجمال.

قلت : ان الوضع لمفهوم الصحيح بعيد جدا كما مر سابقا اذ لازمه الترادف بين كلمة الصلاة ومفهوم الصحيح بحيث اذا قيل : الصلاة واجبة كان المعنى : الصحيح واجب.

وباختصار : وضع الصلاة للصحيح بعيد جدا اذ الوضع لمفهوم الصحيح غير محتمل كما ان الوضع لواقعه - بمعنى جميع الاجزاء والشرائط - غير محتمل ايضا لما تقدم.

قوله ص 464 س 2 كحقائق عرفية :

اي لفظ الصلاة موضوع للمعنى العبادي لدى العرف - وهم الناس - قبل الاسلام.

قوله ص 464 س 9 بخلاف الصحيح بالخصوص :

اي ان كلمة الصلاة وان استعملت في الصحيح حين استعمالها في الاعم باعتبار ان الصحيح فرد من الاعم الاّ ان استعمالها في الصحيح بخصوصه غير معلوم.

قوله ص 464 س 16 فان بيان تلك الاجزاء ... الخ :

هذا ليس تعليلا لقوله : « مستبعد جدا » بل لقوله : « غير معروفة للمخاطبين ومجهولة لديهم » ، اي ان الوضع للاجزاء بعيد لكونها مجهولة ، والوجه في جهالتها ان بيانها كان متأخرا وبنحو التدريج خلال خمس وعشرين سنة عن طريق استعمال كلمة الصلاة مقرونة بتلك الاجزاء والحال ان استعمال كلمة الصلاة كان ثابتا قبل تشريع تمام هذه الاجزاء وبيانها.

ص: 269

ومن خلال هذا اتضح ان المقصود من كلمة الشارع في عبارة الكتاب ليس معناها المصطلح بل بمعنى التشريع ، اي تشريع الاجزاء وبيانها.

ومع كل هذا لا تخلو العبارة من غموض وابهام على عكس عبارة التقرير حيث جاءت واضحة ، ونصها : « وعلى الثالث يشكل احراز اي من الوضعين التعيينين من قبل الشارع الاّ ان هذا المبنى كان بلا مأخذ في المسألة السابقة سيّما اذا لاحظنا ان تداول الاسامي في استعمالات الشارع كان سابقا على تبيان الاجزاء والشرائط والتي اقتضت المصلحة ان يتدرج في بيانها ، فلو كان هناك وضع تعييني من قبل الشارع فالارجح انه كان في الاعم لان الوضع للصحيح بما هو صحيح غير محتمل ولواقع الاجزاء والشرائط التي هي مبهمة لم تعرف بعد لا يناسب غرض الوضع » (1).

(2) اسماء المعاملات.
اشارة

قوله ص 464 س 21 والبحث عن وضعها ... الخ :

والحديث السابق كان ناظرا لاسماء العبادات ومن الآن يقع في اسماء المعاملات مثل كلمة البيع والاجارة وو ....

والبحث عن ذلك يقع في جهات :

الجهة الاولى :

ذهب السيد الخوئي دام ظله الى ان كلمة البيع لو قيل بانها موضوعة للبيع الصحيح فلا يمكن ان يكون المقصود من الصحيح البيع الصحيح شرعا بل لا بد

ص: 270


1- مباحث الدليل اللفظي 1 : 209.

وان يكون المقصود الصحيح عند العقلاء ، اذ لو كان المقصود الصحيح شرعا تلزم اللغوية في دليل الامضاء اي مثل قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ، ) لصيرورة المعنى هكذا : البيع الصحيح شرعا محكوم بالصحة شرعا (1) ، ومثل هذه القضية واضحة لا يحتاج بيانها الى نزول آية قرآنية في شأنها بل ذاك لغو نظير ان يقال : زيد الكاتب كاتب وزيد الشاعر شاعر وغير ذلك من القضايا التي يصطلح عليها بالضرورية بشرط المحمول ، ومن هنا اختار دام ظله ان المقصود من الصحيح الصحيح العقلائي ، ومعنى الآية حينئذ : البيع الصحيح بنظر العقلاء صحيح شرعا.

ويرده :

أ - ان غاية ما يثبته هذا البيان ان كلمة البيع في خصوص الآية الكريمة مستعملة في الصحيح العقلائي ولا يثبت انها مستعملة في جميع الموارد في ذلك.

ب - ان البيان المذكور يتم لو فرض ان كلمة البيع موضوعة لمفهوم الصحيح الشرعي اذ يصير المعنى : البيع الصحيح الشرعي صحيح شرعا ، اما لو كان المقصود من الصحيح مصداق الصحيح وواقعة ، فلا يلزم محذور اللغوية اذ يصير المعنى هكذا : التمليك بعوض معلوم مع بلوغ المتعاقدين والقدرة على التسليم صحيح شرعا ، وهذا كما هو الحال في العبادات ، فكما ان كلمة الصلاة يعقل ان تكون موضوعة للصحيح الشرعي ويكون تعلق الوجوب بها - اي بالصلاة الصحيحة شرعا - معقولا ولم يستشكل دام ظله هناك كذلك يعقل في باب المعاملات وضع كلمة البيع للصحيح الشرعي.

قوله ص 465 س 1 والذي قد يكون اوسع :

ص: 271


1- فان معنى « احلّ » : حكم الشارع بالصحة ، والبيع حسب الفرض موضوع للصحيح شرعا ، وبضم هذا لذاك تكون النتيجة ما ذكرناه.

اذ الشارع يعتبر في البيع الصحيح اجزاء وشرائط اكثر مما يعتبره العقلاء ، فمثلا العقلاء لا يعتبرون القدرة على التسليم او البلوغ مع ان الشارع يعتبرهما ، وبذلك تصير دائرة الصحيح الشرعي اضيق ، فانه بكثرة قيود الشيء تضيق دائرته.

قوله ص 465 س 6 وهي قضية ضرورية بشرط المحمول :

المحمول هو قولنا صحيح شرعا ، وهذا المحمول اخذ قيدا في الموضوع فصارت القضية ضرورية بسبب اخذ المحمول شرطا في الموضوع.

قوله ص 465 س 8 اريد به الاعم :

اي الاعم من النظر الشرعي.

قوله ص 465 س 8 ولو باعتبار وروده :

اي ان ورود هذا الاستعمال في مقام الامضاء يصير قرينة على ان المقصود من الصحيح الصحيح العقلائي والاّ يلزم ان تصير القضية ضرورية بشرط المحمول.

قوله ص 465 س 9 مدّعي الصحيحي :

الصحيح : مدّعي الصحيحي.

قوله ص 465 س 10 ومنشأ انتزاعه :

عطف تفسير لواقعه.

قوله ص 465 س 12 ان الاول :

اي الوضع لمفهوم الصحيح غير محتمل لانه يلزم تبادر مفهوم الصحيح من كلمتي الصلاة والبيع.

ص: 272

الجهة الثانية :

قوله ص 465 س 16 المعروف ان النزاع ... الخ :

من الواضح ان كل معاملة تتركب من امرين : سبب ومسبّب ، والسبب عبارة عن المجموع من الايجاب والقبول والعربية والماضوية وو ... ، وبتحقيق هذا المجموع تتحقق الملكية ، وتسمى بالمسبب.

والسؤال المطروح في هذه الجهة هو : هل كلمة البيع موضوعة للسبب او للمسبّب؟ فحينما نقول « احل اللّه البيع » هل المراد احل اللّه الايجاب والقبول اللذين هما سبب للملكية او المراد احل اللّه الملكية التي هي مسببة عن الايجاب والقبول؟ وكلا الاحتمالين وجيه.

وقد ذكر المشهور انها لو كانت موضوعة للسبب فالنزاع في وضعها للصحيح او للاعم وجيه ، اذ قد يكون السبب واجدا لجميع الشرائط فيكون صحيحا وقد يكون فاقدا لبعضها فيكون فاسدا ، اما اذا قلنا انها موضوعة للمسبب - اي للملكية - فالنزاع في الوضع للصحيح او للاعم غير وجيه ، اذ الملكية يدور امرها بين الوجود والعدم فهي اما موجودة او معدومة ولا يمكن ان توجد بشكل فاسد لعدم المعنى للملكية الفاسدة (1).

هذا ما ذكره المشهور ، ولكن السيد الخوئي دام ظله ذكر ان النزاع في الوضع للصحيح او للاعم يجري ولو كان لفظ البيع موضوعا للمسبب. ولتوضيح ذلك ذكر ان في المسبب في باب البيع ثلاثة احتمالات :

ص: 273


1- والنكتة في ذلك ان الملكية امر بسيط فإما ان تتحقق او لا تتحقق ، وهذا بخلاف السبب فانه مركب من عدة اشياء فلعلها تجتمع فيكون صحيحا ولعلها لا تجتمع فيكون فاسداً.

أ - ان يكون المسبب عبارة عن الملكية التي يحكم بها الشارع ويعتبرها ، ولنسمها بالملكية الشرعية.

ب - ان يكون المسبب عبارة عن الملكية التي يحكم بها العقلاء ويعتبرونها ، ولنسمها بالملكية العقلائية.

ج - ان يكون المسبب عبارة عن اعتبار البائع والمشتري للملكية والتزامهما بها في نفسهما.

والمسبب في الاحتمالين الاولين لا يتصف بالصحة والفساد بل بالوجود والعدم فان الملكية الشرعية والعقلائية اما ان توجد او لا توجد ، ووجودها بشكل فاسد لا معنى له ، واما المسبب في الاحتمال الثالث فهو قابل للاتصاف بالصحة والفساد ، اذ المتعاملان اذا اعتبرا الملكية والتزما بها فمع فرض ان الشارع والعقلاء يرتبون الاثر على ذلك الاعتبار - بمعنى انهم يحكمون بالملكية ايضا - فالمسبب صحيح وان لم يرتبوا الاثر على ذلك فالمسبب فاسد (1).

وبعد هذا اضاف دام ظله : ان كلمة البيع لو قلنا بوضعها للمسبب فهي ليست موضوعة للمسبب الشرعي او العقلائي اذ الملكية الشرعية او العقلائية فعل الشارع او العقلاء وليست فعلا للمتعاقدين والحال ان عملية البيع ننسبها الى المتعاقدين حيث نقول : باع زيد او اشترى ولا نقول باع الشارع واشترى او باع العقلاء واشتروا ، ومن هنا يتعين ان تكون كلمة البيع موضوعة للمسبب باحتماله الثالث الذي هو فعل للمتعاملين ، ومعه يكون النزاع في الوضع للصحيح او الاعم

ص: 274


1- ولا يتوهمنّ متوهم ان هذا البيان يأتي في الملكية الشرعية ايضا فلماذا اذن لا تتصف بالصحة والفساد؟ والجواب : ان الشارع حينما يحكم بالملكية فمن الذي يكون اعلى منه حتى يحكم بترتب الاثر وعدمه وبالتالي حتى يتصور الصحة والفساد.

وجيها ، اذ المسبب بالاحتمال الثالث يمكن اتصافه بالصحة والفساد كما تقدم. هذا حصيلة ما افاده دام ظله.

ويرده : ان المسبب ليس فيه ثلاثة احتمالات بل فيه احتمالان فقط وهما الاول والثاني - اذ المسبب بالمعنى الثالث ليس مسببا بحسب الحقيقة بل هو جزء من السبب فانه سيأتي ص 467 من الحلقة ان السبب يتركب من ثلاثة عناصر والثاني منها هو التزام المتعاملين بالملكية - والمفروض انهما لا يتصفان بالصحة والفساد بل بالوجود والعدم فقط فلا يتم ما ذكره دام ظله.

يبقى ان نوضح ان المسبب في الاحتمالين الاولين هو فعل للشارع او العقلاء فكيف يكون الايجاب والقبول سببا له؟ والجواب : ان فعل الشارع هو الجعل الكلي اي الحكم الكلي بتحقق الملكية الكلية على تقدير تحقق السبب التام - كما هو الحال في وجوب الحج ، فان الجعل هو الحكم بالوجوب على تقدير حصول الاستطاعة - والايجاب والقبول ليسا سببا لايجاد هذا الجعل الكلي بل هما سبب لايجاد صغرى هذا الجعل الكلي اي لايجاد الملكية الشرعية الخاصة بين هذا العوض الخاص والعوض الخاص الآخر او بين هذا البايع الخاص وذاك المشتري الخاص ، فالمتعاملان يريدان بالايجاب والقبول ايجاد الملكية الشرعية الجزئية وهو امر معقول نظير الاستطاعة الفعلية التي هي سبب للوجوب الشرعي الفعلي الخاص ، وبما ان الملكية الشرعية يدور امرها بين الوجود والعدم فلا يتصور اذن النزاع في الصحيح والاعم بناء على وضع كلمة البيع للمسبب كما ذكر المشهور.

قوله ص 466 س 1 المعنى الثاني :

اي المسبب بالاحتمال الثالث ، فان المسبب بالاحتمال الاول والثاني قد جعلا في العبارة السابقة احتمالا واحدا.

ص: 275

قوله ص 466 س 2 على كلا التقديرين :

اي سواء قلنا بوضع كلمة البيع للسبب او للمسبب.

الجهة الثالثة :

قوله ص 466 س 10 ثمرة هذا البحث نفس ما تقدم ... الخ :

تعرضنا فيما سبق لثمرة البحث في الصحيح والاعم في باب العبادات ، والآن نتعرض لبيانها في باب المعاملات.

وتشبه الثمرة هنا الثمرة المتقدمة في باب العبادات.

وتوضيحها : لو شككنا في اشتراط العربية او الماضوية او غير ذلك في البيع فهل يمكن التمسك باطلاق « احل اللّه البيع » لنفي الشرطية باعتبار ان الآية الكريمة قالت احل اللّه البيع ولم تقل احل اللّه البيع بشرط العربية او الماضوية او لا يصح ذلك؟ ان الثمرة تظهر في هذا المجال.

ولنتكلم مرة بناء على ان كلمة البيع اسم للسبب اي للايجاب والقبول واخرى بناء على انها اسم للمسبب اي الملكية.

اما اذا قلنا بانها اسم للسبب - ويصير معنى الآية : احل اللّه الايجاب والقبول - فتظهر الثمرة بين الصحيح والاعم فانه بناء على وضع كلمة البيع للبيع الصحيح شرعا لا يصح التمسك بالاطلاق ، اذ الايجاب والقبول من دون العربية او الماضوية لا يمكن الاشارة لهما والقول انهما سبب صحيح شرعا فيصدق عليهما البيع وبالتالي يشملهما اطلاق الآية الكريمة ، كلا انه غير تام ، اذ كلمة البيع ما دامت موضوعة للسبب الصحيح فمن دون العربية او الماضوية لا يجزم بصدق كلمة البيع وبالتالي فلا يصح التمسك باطلاق الآية الكريمة ، فان التمسك بالاطلاق

ص: 276

فرع احراز صدق اللفظ المطلق على المشكوك.

واما اذا قلنا بان كلمة البيع موضوعة للسبب ولكن لا للسبب الصحيح شرعا بل للسبب الصحيح عند العقلاء او قلنا هي موضوعة للسبب الاعم من الصحيح والفاسد فيصح التمسك بالاطلاق لان الايجاب والقبول الفاقدين للعربية او الماضوية غاية ما فيهما انهما سبب فاسد والمفروض صدق كلمة البيع على الفاسد ايضا.

اجل هنا شيء وهو ان القيد المشكوك اذا فرض احتمال لزوم تواجده في البيع في نظر العقلاء فلا يصح التمسك بالاطلاق حتى بناء على الاعم او الوضع للصحيح العقلائي ، فمثلا لو شككنا هل يعتبر في صحة البيع شرعا وجود الثمن او لا فلا يصح التمسك بالاطلاق ، اذ المعاملة الفاقدة للثمن لا يجزم بصدق البيع عليها عند العقلاء ، وشرط التمسك بالاطلاق احراز صدق اللفظ المطلق على المشكوك كما تقدم.

هذا كله بناء على ان كلمة البيع اسم للسبب.

واما بناء على انها اسم للمسبب - اي للملكية - فلا يصح التمسك بالاطلاق لنفي العربية او الماضوية بلا فرق بين ان يبنى على ان كلمة البيع اسم للصحيح الشرعي او للصحيح العقلائي.

والوجه في ذلك على ما ذكره الميرزا النائيني قدس سره ان معنى الآية بناء على كون كلمة البيع اسما للمسبب هكذا : احل اللّه الملكية ، ومن الواضح ان تحليل الملكية لا يستلزم تحليل جميع اسبابها فلعل بعض اسبابها ممضى وبعضها الآخر غير ممضى ، وهذا نظير ما لو قيل السفر الى مكة المكرمة والتواجد فيها مباح بل مستحب فانه لا يستفاد منه ان جميع اسباب الوصول الى مكة بما فيها ركوب

ص: 277

الطائرة المغصوبة حلال ، اذ يكفي في اباحة التواجد في مكة اباحة بعض اسبابه ولا يلزم اباحة جميعها ، وهكذا لو قيل اشباع الانسان بطنه مباح فانه لا يستفاد منه اباحة جميع اسباب اشباع البطن بما في ذلك تناول المسروق.

قوله ص 466 س 12 الاّ انه ... الخ :

هذا بناء على وضع كلمة البيع للسبب كما سيأتي بعد ثلاثة أسطر التصريح بذلك.

قوله ص 466 س 13 مطلقا :

اي حتى اذا كان القيد المشكوك مما نجزم بعدم اعتباره في الصحة العقلائية.

قوله ص 466 س 13 وعلى القول بالوضع للصحيح العقلائي :

وهكذا بناء على الوضع للاعم من الصحيح والفاسد ، فان احتمال الوضع للاعم احتمال وجيه بل هو الرأي المختار كما سيأتي ص 468 س 6.

قوله ص 466 س 15 مع احراز عدم دخله فيها عقلائيا :

واما مع احتمال دخل القيد بنظرهم - كما مثلنا بالبيع بلا ثمن - فلا يجزم حينئذ بصدق كلمة البيع حتى يتمسك بالاطلاق.

قوله ص 466 س 18 على كل حال :

اي لا يصح التمسك بالاطلاق ولا تظهر الثمرة سواء قلنا ان كلمة البيع اسم للمسبب الصحيح الشرعي او للمسبب الصحيح العقلائي.

قوله ص 466 س 23 وحلّيته :

اي حلّية المسبب ، والمناسب : وحلّيتها ، اي حلّية المعاملة.

قوله ص 467 س 1 المحققة له وشرائطها :

اي المحققة للمسبب وشرائط الاسباب.

ص: 278

الجهة الرابعة :

قوله ص 467 س 2 لا اشكال في ان المعاملة ... الخ :

ذكرنا فيما سبق ان المعاملة تتركب من سبب ومسبب كما وذكرنا تفسير السيد الخوئي دام ظله للمسبب وانه اعتبار المتعاملين الملكية الخاصة في نفسهما واشرنا الى بطلانه وان الصحيح تفسيره بالملكية الشرعية او العقلائية ولكن لا الملكية الكلية المسماة بالجعل الكلي بل الملكية الشرعية او العقلائية الخاصة.

وبعد معرفة المراد من المسبب يبقى علينا في هذه الجهة تبيان المراد من السبب.

ان السبب عبارة من مجموع ثلاثة عناصر هي :

1 - الايجاب والقبول ، سواء كانا باللفظ كما في المعاملة اللفظية ام بالفعل والتعاطي كما في المعاطاة.

2 - التزام البائع والمشتري بالملكية في نفسهما عن جد وقصد حقيقي لا عن هزل ، ويعبّر عن ذلك بالمدلول التصديقي للانشاء.

3 - ان يقصد المتعاملان باعتبار الملكية في نفسهما الوصول الى الملكية الشرعية ، فالبايع مثلا يعتبر الملكية في نفسه ليحكم الشارع بالملكية ، وهذا ما يسمى بقصد التسبب اي يقصد البايع او المشتري من التزامه بالملكية الوصول الى حكم الشارع او العقلاء بالملكية.

هذه هي العناصر الثلاثة التي يتركب منها السبب ، ومتى ما اجتمعت كان السبب صحيحا واذا فقد واحد منها كان فاسدا ، وعليه فبناء على وضع كلمة البيع للسبب يصح النزاع في وضعها للسبب الصحيح او الاعم لانا قلنا ان السبب

ص: 279

يتصور ان يكون صحيحا مرة وفاسدا اخرى ، واما بناء على وضعها للمسبب فقد تقدم ان النزاع في الصحيح والاعم لا يتصور.

وبهذا نكون قد عرفنا في هذه الجهة الرابعة لحد الآن شيئين : تركب السبب من عناصر ثلاثة وان كلمة البيع لو كانت موضوعة للسبب فالنزاع في وضعها للصحيح او الاعم وجيه بخلاف ما لو كانت موضوعة للمسبب.

ثم ان عبارة الكتاب تعرضت في ثنايا هذا البحث الى مطلب جابني حاصله : انه بعد تركب السبب من ثلاثة عناصر فمن اللازم عند تحققها تحقق المسبب وهو الملكية الشرعية او العقلائية لو فرض ان الشارع او العقلاء يحكمان بالملكية عند تحقق السبب.

وبكلمة اخرى عند اعتبار المتعاملين الملكية في قلبهما يلزم حكم الشارع او العقلاء بالملكية ، فما في قلب المتعاملين - وهو الملكية التي اعتبراها - يلزم ان يصير خارجيا ويتحقق في الخارج بسبب حكم الشارع او العقلاء.

ثم انه اتضح ان الملكية على قسمين : ملكية يعتبرها المتعاملان في قلبهما وملكية يحكم بها الشارع او العقلاء ، والملكية الاولى طريق لتحقيق الملكية الثانية ، فالمتعاملان يعتبران الملكية في قلبهما لكي يحكم الشارع او العقلاء بالملكية.

ثم انا وان قسمنا الملكية الى القسمين المذكورين لكنا نعترف ان هذا التقسيم ليس عرفيا ، فالعرف لا يرى ان الملكية على قسمين بل يرى انه بعد الايجاب والقبول تتحقق ملكية واحدة وهي الملكية القلبية التي يعتبرها العقلاء ، ولكن هذه الملكية الواحدة يمكن ان تنحل بالتحليل العقلي الى ملكيّتين بالشكل الذي ذكرنا.

ص: 280

المختار في المسألة

قوله ص 467 س 19 والظاهر انه لا ينبغي الشك ... الخ :

وهل الصواب ان لفظ البيع مثلا موضوع للبيع الصحيح شرعا او للبيع الصحيح عند العقلاء او للاعم من الصحيح والفاسد؟ والاحتمالات ثلاثة :

أ - الوضع لخصوص ما هو صحيح في نظر الشارع.

ب - الوضع لخصوص ما هو صحيح في نظر العقلاء.

ج - الوضع للاعم من الصحيح والفاسد.

وحيث ان الاحتمالين الاولين باطلان فالمتعين هو الاحتمال الثالث.

اما ان الاحتمال الاول باطل فبأعتبار ان كلمة البيع ونظائرها كانت ثابتة عند العرب قبل الاسلام وكانت موضوعة في الجاهلية لمعانيها المتداولة اليوم ، ومعه فكيف تكون موضوعة للمعاملة الصحيحة في نظر الاسلام بعد ما كانت المعاملة الصحيحة في نظر الاسلام جاءت بعد الاسلام ولم تكن قبله.

واما ان الاحتمال الثاني باطل فباعتبار ان كلمة البيع اذا كانت موضوعة للصحيح العقلائي فهي اما موضوعة لمفهوم الصحيح العقلائي - الذي هو عبارة اخرى عن كلمة الصحيح العقلائي - وهو باطل والا يلزم الترادف بين كلمة البيع وكلمة الصحيح العقلائي كالترادف بين اسد وغضنفر ، واما موضوعة لا لمفهوم الصحيح العقلائي بل لواقعه الذي هو عبارة عن مجموع الاجزاء والشرائط المعتبرة في المعاملة الصحيحة عند العقلاء وهو باطل ايضا ، اذ واقع البيع الصحيح عند العقلاء قد يكون عشرة اجزاء في زمان من الازمنة وقد يكون تسعة اجزاء

ص: 281

في زمان آخر وفي نظر عقلاء آخرين ، كما ان الامكنة قد تؤثر ، فلرب الاجزاء في نظر العقلاء في مكان تكون بمقدار معين بينما بنظر عقلاء آخرين في مكان آخر تكون بمقدار آخر ، ومعه يلزم تغير معنى كلمة البيع باختلاف الازمنة والامكنة وهو باطل جزما فان معناها واحد في جميع الازمنة والامكنة.

وعلى هذا فالصواب ان كلمة البيع ونظائرها موضوعة لصورة المعاملة - وصورة المعاملة تتقوم بامرين : الانشاء بالقول او الفعل ، والملكية التي هي المنشأ - الشاملة للصحيحة والفاسدة.

قوله ص 467 س 6 المسبب القانوني :

وهو الملكية الشرعية او العقلائية ، وكلمة القانوني مشوّشة ، والاولى حذفها ، وانما اطلق على الملكية الشرعية والعقلائية كلمة القانون باعتبار ان الشارع يحكم بالملكية عند تحقق السبب بنحو القانون الكلي العام من دون ان يحكم بالملكيات الخاصة التي هي ليست قانونا عاما ، وهكذا الحال في الملكية العقلائية.

قوله ص 467 س 9 وهو تحقق :

اي تحقق المسبب القانوني معناه تحقق الملكية القلبية وصيرورتها ملكية خارجية بسبب حكم الشارع او العقلاء.

قوله ص 467 س 10 اما من قبل ... الخ :

هذا متصل بقوله « وهو تحقق » ، اي تحقق الملكية القلبية في الخارج اما بسبب حكم الشارع والعقلاء بالملكية او بسبب حكم العقلاء فقط.

قوله ص 467 س 12 الشخصي :

صفة للتمليك لا للعوض. والمراد من الشخصي التمليك القلبي الخاص الذي

ص: 282

يعتبره المتعاملان في قلبهما.

قوله ص 467 س 12 والتمليك اليه :

اي التمليك للطرف الآخر ، وكلمة « القانوني » صفة للتمليك لا للعوض اي التمليك الشرعي الذي يتسبب له المتعاقدان ويريدان الوصول اليه بواسطة الملكية التي اعتبراها في قلبهما.

قوله ص 467 س 14 ويكون تحليله الى انشاء معاملي ونتيجة قانونية :

المقصود من الانشاء المعاملي الملكية القلبية التي ينشأها المتعاملان ، ومن النتيجة القانونية الملكية الشرعية او العقلائية ، وقوله « تحليلا » مفعول مطلق لقوله « تحليله ».

قوله ص 467 س 15 وعلى كل حال :

اي سواء كان التمليك متعددا حقيقة ام كان متعددا بحسب التحليل العقلي فقط.

قوله ص 467 س 16 وهو المنشأ المعاملي :

اي الملكية القلبية التي يعتبرها المتعاقدان ، وقوله « حقيقة » يرتبط بقوله « صحة اطلاق » اي ان الاطلاق المذكور حقيقي ، وقوله « وعلى هذا الاساس » اي ما دامت المعاملة اسما للملكية التي يعتبرها المتعاقدان صح النزاع في وضعها للصحيح والاعم اذ قد تطابق ما يعتبره الشارع في الملكية الشرعية فتكون صحيحة وقد لا تطابقه فتكون فاسدة.

قوله ص 467 س 21 وبعدها :

الصواب : وبعده.

قوله ص 467 س 21 جدية :

ص: 283

الصواب : جديدة.

قوله ص 468 س 2 ووقع :

الصواب : وواقع ، وقوله « ومنشأ انتزاعها » عطف تفسير على « واقع الصحة » ، وقوله « ثبوتا » اي واقعا ، وقوله « اثباتا » اي بحسب ما تقتضيه الادلة.

قوله ص 468 س 4 وتأرجحها :

عطف تفسير على « تغيّر معانيها ».

قوله ص 468 س 4 او ابهامها :

الابهام هو التغير والتأرجح. ويحتمل ان يراد به الاشارة الى شيء آخر اذ قد يقال ان كلمة البيع موضوعة لواقع الصحيح من دون تحديده بعشرة اجزاء او تسعة او اقل او اكثر حتى يلزم محذور التغير بل هي موضوعة للاجزاء من دون تحديد لها بحد معين ، قد يقال هكذا ، وجوابه : ان لازم هذا ان يكون المعنى الموضوع له مبهما وغير معين وهو باطل ايضا.

قوله ص 468 س 6 وقوامها :

عطف تفسير لصورة المعاملة.

قوله ص 468 س 7 وهو اصل الانشاء والمعنى المنشأ به :

اصل الانشاء هو الايجاب والقبول ، والمعنى المنشأ بالانشاء هو الملكية.

ص: 284

المشتق

اشارة

ص: 285

ص: 286

المشتق :

قوله ص 469 س 1 ويقصد به في هذا البحث الاصولي ... الخ :

لتوضيح المقصود من هذا المبحث نذكر المثال التالي : ورد في جملة الآداب الاسلامية كراهة قضاء الحاجة - التغوط - تحت الاشجار المثمرة ، فاذا فرض ان شجرة قد انقضى عنها الاثمار ولم تكن متلبسة به بالفعل بعد ما كانت متلبسة به قبل فترة فهل يكره قضاء الحاجة تحتها ايضا او يختص الحكم بالكراهة بالشجرة المثمرة بالفعل؟ ان بحث المشتق تظهر ثمرته في هذا المثال ونظائره ، فان كلمة « المثمرة » مشتق ، فاذا قيل بوضعه لخصوص المتلبس بالفعل فلا كراهة ، اما اذا قيل بوضعه للاعم من المتلبس والمنقضي عنه التلبس فالكراهة مستمرة.

ان هذه الثمرة وامثالها هي السبب في تولد فكرة بحث المشتق في اذهان الاصوليين.

وفي البداية لا بد من التعرف على المقصود من المشتق الاصولي فهل هو يساوى المشتق النحوي او لا؟ الصحيح انه غيره ، فان المشتق النحوي عبارة عن الكلمة القابلة للتصرف مثل كلمة « ضرب » حيث نقول : ضرب - يضرب - اضرب - مضروب - ضارب ، بخلاف مثل كلمة « ليس » فانها جامدة حيث لا تقبل التصرف والتغيّر المذكور.

اما المشتق الاصولي فهو يعني كل كلمة توفر فيها عنصران :

1 - ان تكون قابلة للحمل على الذات ، مثل كلمة ضارب حيث يصح

ص: 287

حملها على الذات فتقول زيد ضارب ، اي زيد هو الضارب والضارب هو زيد ، ويعبر عن هذا الحمل بحمل هو هو.

2 - ان تبقى الذات عند انتفاء المبدأ ولا تزول بانتفائه ، فالمبدأ في كلمة ضارب هو الضرب (1) ، ومن الواضح عند انتفاء الضرب يبقى زيد ولا يزول ، وهذا بخلافه في كلمة الناطق فانه بانتفاء الناطقية التي هي امر ذاتي - اي جزء من الذات - لا تبقى الذات بل تزول وتتبدل الى ذات اخرى ، اذن يلزم في المبدأ ان لا يكون ذاتيا اي لا يكون جنسا ولا فصلا ولا نوعا والا لزم بانتفائه انتفاء الذات.

وبالعنصر الاول تخرج بعض المشتقات النحوية عن المشتق الاصولي ، فيضرب واضرب وضرب وكل فعل او مصدر ليس من المشتق الاصولي - وان كان مشتقا نحويا - اذ لا يصح حملها على الذات فلا تقول بنحو حمل هو هو زيد ضرب او اضرب او يضرب او ضرب ، اذ ليس زيد هو نفس ضرب ولا ضرب نفس زيد ، اجل ضرب مسند لزيد وزيد مسند اليه ولكن ذلك شيء وحمل هو هو شيء آخر.

كما انه بالعنصر الاول يدخل في المشتق الاصولي بعض الجوامد النحوية مثل كلمة « زوج » فانها جامد في علم النحو حيث لا تقبل التصرف ولكنها مشتق في الاصول حيث تحمل بحمل هو هو على الذات فتقول : زيد زوج اي هو زوج والزوج هو زيد.

وعليه فبالعنصر الاول تخرج بعض المشتقات النحوية من المشتق الاصولي وتدخل بعض الجوامد النحوية فيه.

واما العنصر الثاني فتخرج به بعض المشتقات النحوية مثل كلمة « ناطق »

ص: 288


1- المبدأ لكل مشتق عبارة عن المصدر.

فانها مشتق نحوي وليس مشتقا اصوليا ، اذ بزوال الناطقية - اي الفصل وهو النفس الناطقة - تزول الذات وتتبدل الى ذات اخرى.

النسبة بين المشتق النحوي والاصولي.

ومن خلال هذا كله نعرف ان النسبة بين المشتق النحوي والاصولي هي العموم والخصوص من وجه ، فليس كل مشتق اصولي مشتقا نحويا كما انه ليس كل مشتق نحوي مشتقا اصوليا بل بعض المشتق الاصولي مشتق نحوي وبعض المشتق النحوي مشتق اصولي.

الابحاث في المشتق.

وبعد التعرّف على المقصود من المشتق الاصولي نسأل : ما هي ابحاث الاصوليّين في مسألة المشتق؟ والجواب : ان لهم بحثين :

1 - وهو البحث المشهور بينهم ، وحاصله ان المشتق هل هو موضوع لخصوص المتلبس بالمبدأ او للاعم منه ومن المنقضي عنه التلبس ، ففي مثال قضاء الحاجة تحت الشجرة المثمرة هل كلمة « مثمرة » موضوعة لخصوص الشجرة المتلبسة بالاثمار بالفعل او للاعم. وهذا البحث بحث لغوي لانه بحث في المعنى اللغوي للمشتق.

2 - بحث جانبي في تحليل معنى المشتق ، فكلمة ضارب مثلا هل تنحل الى ثلاثة اشياء : مبدأ - وهو الضرب - وذات ونسبة بينهما - وبناء عليه يكون معنى المشتق مركبا - او لا تنحل الى ذلك بل الذات ليست جزء من المعنى فيكون بسيطا.

ص: 289

وقد قدّم في الكتاب البحث الثاني على الاول.

الاحتمالات في البساطة والتركب.

وقبل ان ندخل في البحث التحليلي لا بد من الاشارة الى المقصود من البساطة والتركب ، وفي ذلك احتمالان :

1 - البساطة والتركب في مقام التصور ، فكلمة « ضارب » عند سماعنا لها هل نتصور منها مفهومين - كما هو الحال في قولنا زيد قائم حيث نتصور مفهومين مفهوم زيد ومفهوم قائم - او مفهوما واحدا؟ والقائل بالتركب يقول نتصور مفهومين بينما القائل بالبساطة يقول نتصور مفهوما واحدا.

2 - البساطة والتركب في مقام التحليل ، اي ان كلمة « ضارب » نتصور عند سماعنا لها مفهوما واحدا ولكن هذا المفهوم الواحد يدعي القائل بالتركب انه ينحل الى ذات ومبدأ ونسبة ، بينما القائل بالبساطة يدعي عدم انحلاله الى ذلك.

وصاحب الكفاية قدس سره اختار ان المقصود هو الاحتمال الاول ، ولكن الاعلام المتأخرين عنه قالوا ان الاحتمال الاول باطل جزما ، اذ من الواضح انا لا نتصور عند سماعنا لكلمة « ضارب » الاّ مفهوما واحدا لا مفهومين ، وهذا من القضايا الواضحة ولا يحتمل ان القائل بالتركب يدعي تصور مفهومين فانه مخالف للوجدان ، بل لا بد وان يكون المقصود هو البساطة والتركب في مقام التحليل ، بمعنى ان الذي نتصوره من كلمة « ضارب » مثلا مفهوم واحد جزما ولكن هذا المفهوم الواحد يدعي القائل بالتركب انحلاله الى اجزاء ثلاثة بينما القائل بالبساطة يدعي عدم انحلاله الى ذلك.

وبعد ان عرفنا ان المراد من البساطة والتركب هو البساطة والتركب

ص: 290

التحليليان لا التصوريان قد يسأل سائل عن المنشأ لطرح احتمال بساطة المشتق والحال ان المتبادر لذهن كل انسان عرفي التركب فنفهم من كلمة « ضارب » مثلا ذاتا لها الضرب ، ان المنشأ لذلك شبهات ترد على القول بالتركب من اجلها وجد اتجاه البساطة ، وقبل التعرض لتلك الشبهات نلفت النظر الى الاقوال في مسألة البساطة والتركب.

الاقوال في البساطة والتركب.

وهي اربعة واحد منها يقول بالتركب والثلاثة الاخرى تقول بالبساطة على اختلاف في كيفية تصوير البساطة :

1 - ما ذكره الشيخ الاصفهاني (1) قدس سره من دخول الذات في معنى المشتق فهو عبارة عن الذات المتلبسة بالمبدأ ، ومعناه مركب من ثلاثة اشياء : ذات ومبدأ ونسبة بينهما ، وهذا القول قول بالتركب ، بخلاف الثلاثة الآتية فهي تشترك في القول بالبساطة.

2 - ما اختاره الميرزا قدس سره وفاقا للمحقق الدواني (2) من ان المشتق مركب من مادة وهيئة ، فكلمة « ضارب » مثلا مركبة من مادة وهي الضرب وهيئة وهي هيئة فاعل ، اما المادة فهي تدل على حدث الضرب فقط من دون

ص: 291


1- واختاره السيد الخوئي دام ظله.
2- الدواني بالتخفيف نسبة الى دوان - على وزن هوان - التي هي قرية من قرى كازرون ، وهو لقب لجلال الدين ، وقيل انه من ذرية الخليفة الاول وتشيع في اواخر عمره والّف رسالة في ذلك باسم « نور الهداية » ، راجع تفصيل ترجمته في روضات الجنات في احوال العلماء والسادات 2 : 239.

دلالة على الذات ، واما الهيئة فهي لا تدل على الذات بل على ان حدث الضرب لوحظ بنحو قابل للحمل ، فان حدث الضرب تارة يلحظ بنحو لا يقبل الحمل كما هو الحال في المصدر ، فان كلمة « ضرب » مثلا لوحظ حدث الضرب فيها غير قابل للحمل - ويعبر عن اباء الحمل بكلمة « بشرط لا » اي بشرط عدم الحمل وإبائه - ولذا لا تقول زيد ضرب ، وهذا بخلاف المشتق مثل ضارب ، فان حدث الضرب فيه لوحظ بنحو يقبل الحمل ولذا تقول زيد ضارب ، ويعبر عن قبول الحمل بكلمة « لا بشرط » اي لا بشرط الاباء عن الحمل.

3 - ما اختاره الآخوند قدس سره من ان كلمة « ضارب » مثلا تدل على عنوان بسيط وجودي ، وهذا العنوان البسيط الوجودي منتزع من الذات بلحاظ تلبسها بالمبدأ من دون ان تؤخذ الذات جزء في ذلك العنوان - وانما نسبة ذلك العنوان الى تلك الذات نسبة العنوان الانتزاعي الى منشأ الانتزاع ، فالذات منشأ لانتزاع ذلك العنوان من دون اخذها فيه - كما وانه لم يؤخذ المبدأ جزء فيه بل دور المبدأ دور المصحح لانتزاع ذلك العنوان من دون اخذه جزء (1).

4 - ما اختاره الشيخ العراقي قدس سره من ان المشتق مركب من مادة وهيئة ، والمادة تدل على الحدث فقط كما ذكر الميرزا في القول الثاني ، واما الهيئة فهي تدل على النسبة - اي نسبة ذلك المبدأ الى الذات - من دون اخذ طرفها وهو الذات جزء في مدلولها.

قوله ص 469 س 1 يصح جريه :

ص: 292


1- اتضح من خلال ما سبق ان الآخوند قدس سره من القائلين بالتركب دون البساطة ، حيث قلنا ان الصحيح في المراد من التركب هو التركب بحسب التحليل والمفروض انه يقول بذلك.

الجري والحمل مترادفان فالعطف تفسيري.

قوله ص 469 س 2 ذاتيا له :

المناسب : ذاتيا لها ، اي بشرط ان لا يكون ذلك الاسم ذاتيا للذات.

قوله ص 469 س 2 فتخرج اسماء الاجناس والانواع :

كان من المناسب اضافة الفصول ايضا ، فان الذاتي اما جنس او نوع او فصل. مثال الجنس : الحيوان ، فان الركن الاول وان كان متوفرا فيه ولذا تقول زيد حيوان بيد ان الركن الثاني مفقود فيه. ومثال النوع : الانسان. ومثال الفصل : الناطق.

قوله ص 469 س 3 الذاتية :

قيد توضيحي.

قوله ص 469 س 4 في مصطلح آخر :

اي في المصطلح النحوي.

قوله ص 469 س 10 بمادته وهيئته :

بان يقال : ان كلمة « ضارب » مثلا تدل من حيث المادة على المبدأ ومن حيث الهيئة على الذات مع النسبة.

قوله ص 469 س 11 او بساطته :

عطف على تركّب.

قوله ص 469 س 13 ادراكا :

اي تصورا.

قوله ص 469 س 14 على نحو تركب مفاد الجملة الناقصة :

اي كما ان الجملة الناقصة - كقولنا باب الدار - تدل على معنى واحد ينحل

ص: 293

الى ثلاثة اشياء : باب ، دار ، النسبة كذلك الحال في المشتق مثل كلمة « ضارب » فانه يدل على معنى واحد ينحل الى ثلاثة اشياء : ذات ، ضرب ، النسبة.

قوله ص 469 س 15 وليس المقصود وجود مفهومين ذهنيين مستقلين :

اي كما هو الحال في الجملة التامة مثل زيد اب ، فانه يدل على مفهومين مستقلين فيحصل في الذهن عند سماعنا الجملة المذكورة مفهومان : مفهوم زيد ومفهوم اب ، وهذا بخلاف قولنا « ابو زيد » فانه جملة ناقصة لا يحصل في الذهن عند سماعها مفهومان بل مفهوم واحد ينحل الى اشياء ثلاثة.

قوله ص 470 س 4 فوجدت :

اي بعد ضم القول بالتركب اليها.

قوله ص 470 س 6 ما تقدمت الاشارة اليه :

اي ص 369 س 13 بقوله « ولكنه بالتحليل مركب من حدث وذات ونسبة بينهما ».

قوله ص 470 س 6 على نحو النسبة الناقصة التحليلية :

اي لا على نحو النسبة التامة فانه في النسبة التامة مثل « زيد اب » يحصل في الذهن مفهومان مستقلان : مفهوم زيد ومفهوم اب ، بخلافه في النسبة الناقصة مثل « ابو زيد » فانه يحصل مفهوم واحد ينحل الى ثلاثة اشياء : اب وزيد ونسبة.

الادلة على بساطة المشتق.
اشارة

قوله ص 470 س 19 ومهم الشبهات التي دعت هؤلاء ... الخ :

استدل القائلون ببساطة المشتق بعدة ادلة نذكر منها ثلاثة هي :

ص: 294

الدليل الاول :
اشارة

ما تمسك به المحقق الشريف (1) في حاشيته على كتاب شرح المطالع (2) ، وحاصله : ان المشتق لو كان مركبا فهل هو مركب من مفهوم الشيء - مفهوم الشيء عبارة عن كلمة « شيء » - والمبدأ أو هو مركب من مصداق الشيء والمبدأ؟ وكلاهما باطل.

اما الاول فباعتبار ان من جملة المشتقات كلمة ناطق ، فلو كان مفهوم الشيء مأخوذا في المشتق يلزم كون الناطق مركبا من مفهوم الشيء والنطق ، وهو مستحيل ، اذ مفهوم الشيء عرض عام - فانه صادق على جميع الموجودات في العالم فما من موجود الاّ وهو شيء - فلو كان مأخوذا في مفهوم الناطق الذي هو امر ذاتي يلزم تقوّم الامر الذاتي بالعرض والحال ان الذاتي امر داخل في الذات بينما العرض خارج عنها فيلزم ان يكون الخارج عن الذات داخلا فيها (3) ، هذا لو

ص: 295


1- هو مير علي بن محمد الجرجاني المشتهر بالمحقق الشريف او السيد الشريف ، وهو معروف بالتحقيق والتدقيق ، وله مؤلفات معروفة وحواش مشهورة منها كتاب « صرف مير » المتداول دراسته بين المبتدئين غير العرب ورسالتان في المنطق تعرفان بالصغرى والكبرى وحاشية على كتاب شرح المطالع ، قيل انه تشيع اواخر عمره واظهر الحيرة من امره ، وكان يقول بالفارسية « معلوم شد آن كه هيچ معلوم نشد » توجد ترجمة له في روضات الجنات 5 : 300 ، والكنى والالقاب 2 : 329.
2- « مطالع الانوار » كتاب كبير في المنطق مؤلفه القاضي سراج الدين محمود بن ابي بكر الارموي ، وقد شرحه شرحا مزجيا قطب الدين الرازي الاّ انه مفصل وعليه هوامش متعددة بعضها للسيد الشريف.
3- قد يقال : ان ما ذكره الشريف في هذا الشق باطل من اساسه لان كلمة « ناطق » وغيرها من الفصول خارجة عن المشتق الاصولي كما تقدم ، والجواب : ان هذا البحث لا يخص المشتق الاصولي بل يعم النحوي ايضاً.

كان مفهوم الشيء مأخوذا في معنى المشتق.

واما الثاني - وهو اخذ مصداق الشيء في مفهوم المشتق ، والمصداق في قولنا « الانسان كاتب » هو الانسان وفي قولنا « زيد كاتب » هو زيد - فباعتبار لزوم انقلاب القضية الممكنة الى ضرورية بحيث لا تبقى قضية ممكنة في العالم ، فقولنا « الانسان كاتب » قضية ممكنة ، فلو كانت كلمة « كاتب » مركبة من مصداق الشيء والكتابة يلزم ان يكون تقدير القضية المذكورة هكذا : الانسان انسان له الكتابة ، ومن الواضح ان هذه القضية ضرورية ، اذ ثبوت الانسان للانسان ضروري باعتبار ضرورة ثبوت كل شيء لنفسه.

هذا ما افاده المحقق الشريف لاثبات بساطة معنى المشتق ، وملخصه : ان المشتق لو كان مركبا من مفهوم الشيء والمبدأ يلزم دخول العرض العام في الفصل ، ولو كان مركبا من مصداق الشيء والمبدأ يلزم انقلاب كل قضية ممكنة الى ضرورية.

مناقشة الدليل الاول.

ويرده : ان بالامكان اختيار كلا الشقين المذكورين في الدليل بدون ان يرد المحذور المذكور فيهما.

فبالامكان اختيار الشق الاول - وهو تركب المشتق من مفهوم الشيء والمبدأ - بدون لزوم محذور دخول العرض العام في الفصل ، فانه انما يلزم ذلك لو فرض ان الناطق مثلا اخذه المناطقة من لغة العرب بما له من معنى وبدون اي تصرف وجعلوه فصلا للانسان ، انه بناء على هذا يلزم دخول العرض العام في

ص: 296

الفصل ، اما اذا فرضنا ان كلمة « الناطق » حينما وضعت في لغة العرب وضعت للشيء الذي له النطق ولكن بعد ذلك حينما اخذها المناطقة وجعلوها فصلا جردوها من مفهوم الشيء اولا ثم جعلوها فصلا ، انه بناء على هذا لا يلزم دخول العرض العام في الفصل ، وما دام هذا الاحتمال وجيها فلا يمكن ان يستكشف من جعل الناطق فصلا للانسان ان كلمة « الناطق » حينما وضعها العرب وضعوها مجردة من مفهوم الشيء.

بل يمكننا ان نقول ان المناطقة قد اعملوا التغيير جزما في كلمة « الناطق » حينما جعلوها فصلا وليس ذلك مجرد احتمال.

وتوضيح ذلك : ان كلمة الناطق مأخوذة من النطق الذي هو اما بمعنى التكلم او بمعنى الادراك والتعقل ، والمناطقة حينما اخذوا كلمة الناطق وجعلوها فصلا لا بد انهم غيّروا النطق الى معنى آخر غير التكلم والادراك ، اذ التكلم والادراك من مقولة الكيف - فان التكلم كيف مسموع والادراك كيف نفساني - والكيف من اقسام العرض اذ العرض تسع مقولات احداها الكيف (1) ، فلو كان المقصود من النطق هو التكلم او الادراك يلزم ان يكون الفصل من الاعراض وهو باطل ، فان الفصل امر ذاتي وليس عرضا. هذا مضافا الى انه لو كان المقصود من النطق هو التكلم يلزم ان يكون الاخرس ليس بانسان ، ولو كان المقصود منه الادراك يلزم ان يكون المجنون ليس بانسان.

ومن هذا كله نستنتج ان المناطقة حينما جعلوا الناطق فصلا غيّروا معنى النطق من التكلم او الادراك الى معنى آخر يكون امرا ذاتيا ويتناسب وكونه

ص: 297


1- تقدمت الاشارة باختصار للمقولات العشر عند البحث عن موضوع علم الاصول في اوائل الحلقة.

فصلا للانسان ، وذلك المعنى الآخر هو النفس الناطقة ، فالمناطقة غيّروا من معنى النطق وجعلوه بمعنى النفس الناطقة ، واذا صح للمناطقة هذا التغيير لمعنى النطق فيحتمل قويا انهم اعملوا تغييرا آخر وذلك بان حذفوا مفهوم الشيء من كلمة الناطق ، فهم كما غيروا المادة الى النفس الناطقة يحتمل انهم غيروا هيئة الناطق الموضوعة للنسبة ومفهوم الشيء الى النسبة فقط بحذف مفهوم الشيء. هذا كله في اختيار الشق الاول.

وبالامكان اختيار الشق الثاني - وهو تركب المشتق من مصداق الشيء والمبدأ - دون ان يرد المحذور المذكور عليه وهو انقلاب الممكنة الى ضرورية.

والوجه في ذلك : ان في المقصود من الشق الثاني احتمالين :

1 - ان يكون المقصود انقلاب الممكنة الى ضرورية ، فقضية « الانسان كاتب » التي هي ممكنة يصير معناها الانسان انسان له الكتابة وهي ضرورية ، اذ ثبوت الانسان الثاني للانسان الاول ضروري باعتبار ضرورة ثبوت الشيء لنفسه.

2 - ان يكون المقصود صيرورة القضية الواحدة قضيتين ، فان قولنا « الانسان كاتب » قضية واحدة فلو كانت كلمة « كاتب » بمعنى انسان له الكتابة يلزم صيرورة تلك القضية الواحدة قضيتين هما : الانسان انسان وهي ضرورية والانسان له الكتابة وهي ممكنة ، فكما ان قضية « زيد عالم شاعر » تنحل الى قضيتين : زيد عالم وزيد شاعر كذلك قولنا « الانسان كاتب » - بعد رجوعه الى قضية الانسان انسان له الكتابة - يلزم انحلاله الى قضيتين هما الانسان انسان ، الانسان له الكتابة ، مع انا نشعر بالوجدان ان قضية « الانسان كاتب » قضية واحدة وليست ثنتين.

ص: 298

لا تقل : ان الانحلال الى قضيتين وان كان مقبولا في مثل « زيد عالم شاعر » لان « عالم شاعر » خبران حملا على زيد فكأنه قيل زيد عالم ، زيد شاعر ، وهذا بخلافه في قضية الانسان انسان له الكتابة فان جملة « له الكتابة » وصف وليست خبرا حتى يحصل بتوسطها قضية ثانية.

فانه يقال : انّ جملة « له الكتابة » وان كانت وصفا الاّ ان كل وصف قبل ان يحصل العلم به هو في حكم الخبر ، ومن هنا قيل : الاوصاف قبل العلم بها اخبار (1) ، واذا كان خبرا فيلزم حصول قضية ثانية بواسطته.

والخلاصة : ان في المقصود من الشق الثاني احتمالين كما تقدم.

فان كان المقصود هو الاحتمال الاول - وهو انقلاب الممكنة الى ضرورية - فجوابه : انه لا يلزم ذلك ، لان قولنا « الانسان انسان له الكتابة » ليس قضية ضرورية ، اذ ثبوت الانسان الثاني للانسان الاول انما يكون ضروريا فيما اذا لم يقيد الانسان الثاني بقيد ممكن كالكتابة والاّ فلا يكون ثبوته للانسان الاول ضروريا كما هو واضح.

وان كان المقصود هو الاحتمال الثاني - وهو صيرورة القضية الواحدة ثنتين - فجوابه : ان اقصى ما يلزم هو انحلال قضية « الانسان انسان له الكتابة » الى قضيتين احداهما مستفادة بالدلالة المطابقية والثانية بالالتزامية ، فان قضية « الانسان انسان له الكتابة » تدل بالمطابقة على ثبوت الانسان المقيد بالكتابة للانسان الاول ولازم ذلك ثبوت الانسان المطلق للانسان الاول ، فان الوصف

ص: 299


1- فجملة « زيد العالم » و « زيد عالم » ذات مضمون واحد ، بيد ان السامع اذا كان مطلعا على اتصاف زيد بالعالمية قيل له مثلا زيد العالم جاء ، واذا لم يكن مطلعا قيل له زيد عالم ، فكل خبر بعد العلم به يكون وصفا كما ان كل وصف قبل العلم به يكون خبرا.

المقيد اذا ثبت لشيء فلازمه ثبوت الوصف المطلق لذلك الشيء ايضا ، فحينما نقول زيد انسان عالم نستفيد بالدلالة المطابقية ثبوت الانسان العالم لزيد وبالالتزامية ثبوت الانسان المطلق لزيد ايضا ، فان الوصف المقيد مركب من المطلق والقيد ، فاذا ثبت الوصف المقيد لشيء ثبت المطلق الذي في ضمنه لذلك الشيء ايضا.

وباختصار : انحلال قضية « الانسان كاتب » الى قضيتين مسلّم الاّ انه انحلال الى قضيتين احداهما مطابقية والاخرى التزامية ، وهو امر مقبول فان المرفوض هو انحلال القضية الواحدة الى قضيتين عرضيتين دونما اذا كانتا طوليتين بالشكل الذي ذكرناه.

قوله ص 470 س 7 من الكيف المسموع ... الخ :

هذا راجع للتكلم وقوله « او النفساني » راجع الى الادراك.

قوله ص 470 س 21 او الذات :

عطف تفسير على « الشيء » ، والمناسب الواو بدل « او ».

قوله ص 471 س 8 مادة هذه الامثلة :

المقصود من المادة النطق مثلا ، فان كلمة الناطق مركبة من مادة وهي النطق وهيئة وهي هيئة فاعل.

قوله ص 471 س 8 بحملها على ما يوازي ... الخ :

الجهة الموازية لعرض النطق - بمعنى التكلم او الادراك - هو النفس الناطقة ، فانها امر ذاتي لكونها فصلا ، فلا بد من حمل النطق الظاهر في التكلم او الادراك اللذين هما من الاعراض على النفس الناطقة التي هي امر ذاتي.

قوله ص 471 س 10 بان لا يراد جعل تمام مدلولها فصلا :

اي لا يراد جعل تمام مدلول الهيئة - الذي هو النسبة ومفهوم الشيء - فصلا

ص: 300

بل خصوص النسبة.

قوله ص 471 س 11 جهة نفس القضية :

الجهة هي اللفظ الموضح لكيفية نسبة القضية كلفظ الامكان في قضية « الانسان كاتب بالامكان ».

قوله ص 471 س 16 وبقانون ان الاوصاف :

المناسب ذكر هذه العبارة بعد قوله « الى قضيتين » ، اى هكذا : وان اريد رجوعها الى قضيتين - بقانون ان الاوصاف والقيود قبل العلم بها اخبار - احداهما الانسان انسان وهي ضرورية والاخرى الانسان له الكتابة وهي امكانية ، ويؤيد ما ذكرنا عبارة التقرير 1 : 333.

قوله ص 471 س 18 ولا ضير ... الخ :

اي لا يقال ان لكل قضية واحدة جهة واحدة وفي المقام يلزم وجود جهتين احداهما امكانية والاخرى ضرورية فانه يقال لا محذور في وجود جهتين للقضية ما دامت احداهما جهة مطابقية والاخرى جهة التزامية.

عدم اخذ مصداق الشيء في معنى المشتق.

قوله ص 471 س 20 نعم الصحيح عدم اخذ واقع الشيء ... الخ :

وفيما سبق وان قلنا ان بالامكان اختيار الشق الثاني اي اخذ مصداق الشيء في معنى المشتق غير انه ليس المقصود ان الشق المذكور صحيح ، كلا انه ليس بصحيح ولكن لا لما ذكره المحقق الشريف - فانه باطل على ما اوضحنا - بل لوجه آخر حاصله : انه ما المقصود من مصداق الشيء؟ ان فيه احتمالين :

1 - ان يكون المقصود منه ما يقع موضوعا للمشتق كالانسان في قولنا

ص: 301

« الانسان كاتب » او زيد في قولنا « زيد كاتب » او القطة في قولنا « القطة نائمة » وهكذا ، وهذا الاحتمال باطل ، اذ احيانا لا يكون للمشتق موضوع بل يكون هو الموضوع كما في قولنا « اكرم الكاتب » فان الكاتب هو الموضوع لوجوب الاكرام لا ان وجوب الاكرام هو الموضوع للكاتب.

2 - ان يكون المقصود منه كل ذات تصلح للاتصاف بالمبدأ ، ففي المثال السابق - اي اكرم الكاتب - مصداق الشيء هو الذات الصالحة للاتصاف بالكتابة وهي الانسان فانه الصالح للاتصاف بذلك ، فيكون هو مصداق الشيء المأخوذ في المشتق وان لم يقع - الانسان - موضوعا للكاتب.

وهذا الاحتمال باطل ايضا ، اذ احيانا نستعمل كلمة « الكاتب » في مجالات لا يوجد فيها ذات صالحة للاتصاف بالكتابة كقولنا « الفرس كاتب » فان هذا الاستعمال وان كان كاذبا ولكنه صحيح جزما مع انه لا توجد ذات صالحة للاتصاف بالكتابة ، اذ الذات الصالحة لذلك هي الانسان وهو مما لا يمكن اخذه في الكاتب والا صار المعنى : الفرس انسان له الكتابة.

الدليل الثاني على البساطة.

وهو ما ذكره الدواني ، وحاصله : ان المشتق لو كان موضوعا للذات المتلبسة بالمبدأ - كما يذهب اليه القائل بالتركب - فلازم ذلك عدم صحة اطلاق المشتق في الموارد التي ليس فيها ذات متلبسة بالمبدأ ، والحال انا نجد الامر على العكس تماما فالمشتق يصح اطلاقه على الاشياء التي ليس فيها ذات متلبسة بالمبدأ كما نقول البياض ابيض او اللّه عالم مع ان البياض ليس ذاتا متلبسة بالبياض بل هو نفس البياض وليس فيه تركب من ذات وبياض ، وهكذا بالنسبة

ص: 302

الى اللّه سبحانه ، فانه ليس ذاتا متلبسة بالعلم بل هو نفس العلم ، اذ ذاته عزّ وجل عين صفاته.

ويرده : انه ليس مقصودنا من تلبس الذات بالمبدأ خصوص تلبسها به تلبسا خارجيا حتى يلزم وجود شيئين خارجا : ذات ومبدأ ، بل المقصود التلبس الاعم من الخارجي والذاتي ، وبناء على هذا لا يتم ما ذكره الدواني ، لكون البياض فيه تلبس ذاتي فانه في ذاته شيء له البياض اذ كونه شيئا مما لا يمكن انكاره ، وكونه في ذاته بياضا مما لا يمكن انكاره ايضا فان البياض في ذاته بياض والا يلزم سلب الشيء عنه نفسه ، وهكذا بالنسبة الى اللّه سبحانه فانه في ذاته متصف بالعالمية وان لم يكن هناك تعدد خارجي وتلبس خارجي.

الدليل الثالث.

ما ذكره الميرزا من ان المشتق لو كان دالا على ذات ونسبة ومبدأ فلازمه ان يكون مبينا ، فان الاسم متى ما شابه معنى الحرف - ومعنى الحرف هو النسبة - صار مبنيا ، فالمشتق اذا كان يدل على النسبة التي هي معنى الحرف فلازم ذلك بناؤه مع انه لم يقل احد بان كون الاسم مشتقا احد موجبات بنائه.

ويرده :

1 - ان الاسم يكون مبنيا فيما لو كان مادته تدل على النسبة ، فالضرب في كلمة ضارب مثلا اذا كان دالا على النسبة لزم بناء كلمة « ضارب » ، اما اذا لم تدل مادته على النسبة بل كانت هيئته دالة على ذلك - كما هو الحال في المقام فان هيئة ضارب هي الدالة على النسبة دون المادة - فلا يلزم بناؤه.

2 - ان الاسم يكون مبنيا فيما لو كان تمام معناه هو النسبة ، اما اذا دلّ على

ص: 303

معنى كامل - لا يتوقف تصوره على تصور غيره - يتضمن في ثناياه النسبة فلا يلزم بناؤه ومقامنا من هذا القبيل ، فان كلمة « ضارب » مثلا تدل على معنى تام - وهو الذات المتلبسة بالمبدأ - ولا يتوقف تصوره على تصور غيره ، غايته ان هذا المعنى التام يتضمن النسبة.

الصحيح هو التركب.

ومن خلال كل ما تقدم تجلى ان الصحيح هو تركب المشتق من مفهوم الشيء والمبدأ حيث ان الادلة على البساطة كلها باطلة مضافا الى :

1 - ان القول بالبساطة بجميع انحائه الثلاثة المتقدمة مخالف للوجدان ، فانه قاض بان المتبادر من كلمة « ضارب » مثلا هو الذات المتلبسة بالضرب دون الضرب فقط كما يدعيه القائل بالبساطة.

2 - ان لازم القول بالبساطة صحة قولنا « الضرب هو الضارب » لان المشتق عين المبدأ على القول بالبساطة مع انه باطل جزما.

3 - يصح قولنا « زيد ضارب » ولا يصح « زيد ضرب » ، وهذا دليل واضح على ان معنى « ضارب » غير معنى كلمة « ضرب » والاّ فلماذا صح حمل كلمة « ضارب » دون كلمة « ضرب » ، وبالتالي هذا يكشف عن ان معنى « ضارب » مركب من ذات متلبسة بالمبدأ ولذا صح حمله على الذات بخلاف الضرب فانه نفس المبدأ ولذا لم يصح حمله على الذات.

قوله ص 472 س 2 مما يعني عدم اخذه فيه :

اي وذلك مما يدلل على عدم اخذ مصداق الشيء في المشتق. والتعبير بكلمة « يعني » ركيك ، والمناسب : مما يكشف عن عدم اخذه فيه.

ص: 304

قوله ص 472 س 17 واما اذا دل على معنى نسبي ضمن اطرافه :

المراد من المعنى النسبي هو النسبة ، اي واما اذا دل على النسبة ضمن دلالته على طرفها - كما هو الحال في المقام فان المشتق يدل على طرف النسبة وهو الذات والمبدأ ، وضمن دلالته على الذات والمبدأ يدل على النسبة بينهما - فلا يكون مبنيا.

قوله ص 472 س 17 محتاج :

الظاهر ان الصواب : محتاجا.

قوله ص 472 س 18 بحيث كان المجموع :

اي مجموع اطرافه.

قوله ص 472 س 21 بالنسبة التحليلية :

اي هو يدل على النسبة بالتحليل لا ابتداء ومباشرة.

قوله ص 473 س 2 بالمعنى المتقدم شرحه :

وهو التركب في مقام التحليل لا في مقام التصور والادراك.

وقوله ص 473 س 4 محاذير ثبوتية :

مثل ما ذكرنا في رقم (2).

قوله ص 473 س 4 او اثباتية :

اشارة الى ما ذكرنا في رقم (1).

قوله ص 473 س 5 والتغاير بينهما مفهوما :

اي بين مفهوم المشتق ومفهوم المبدأ.

قوله ص 473 س 6 اذ المفهوم الواحد :

اي لو كان مفهوم المشتق ومفهوم المبدأ واحدا لصح حمل كل منهما على الذات ، اذ المعنى الواحد لا يعقل ان يكون محمولا على الذات وغير محمول عليها

ص: 305

في آن واحد.

قوله ص 473 س 6 ولا يعقل التغاير بينهما :

اي بين المشتق والمبدأ.

قوله ص 473 س 7 مفهوم الذات المبهمة :

اي الاّ على اساس اخذ مفهوم الشيء - الذات - الذي هو مفهوم مبهم في المشتق.

قوله ص 473 س 7 بنحو المقيد :

اي بان يكون المشتق موضوعا للذات المقيدة بالمبدأ.

قوله ص 473 س 7 لا القيد :

اي المشتق ليس موضوعا للمبدأ المقيد بالذات بحيث تكون الذات قيدا للمبدأ ، انه باطل اذ لازمه عدم صحة الحمل في قولنا « زيد ضارب » لان زيدا ليس هو الضرب المقيد بالذات ، بل هو ذات مقيدة بالضرب.

قوله ص 473 س 8 من دون ذلك :

اي من دون اخذ الذات مقيدة لا قيدا.

البحث الجانبي في المشتق.

قوله ص 473 س 9 واما البحث الثاني اللغوي :

ذكرنا فيما سبق ان الاصوليين لهم بحثان في المشتق :

احدهما : البحث في بساطته وتركبه ، وهذا البحث - الذي فرغنا منه الآن - اجنبي عن علم الاصول وانما تسرب اليه نتيجة لاحتكاك علم الاصول بغيره من العلوم.

ص: 306

ثانيهما : وهو البحث عن معنى المشتق لغة وانه هل وضع لغة لخصوص المتلبس او للاعم ، وهذا البحث هو الذي يرتبط بعلم الاصول وله الاثر في مقام الاستنباط ، فبقاء الحكم بكراهة قضاء الحاجة تحت الشجرة مثلا - فيما اذا انقطع اثمارها - وعدمه يرتبط بهذا البحث ، فانه لو قلنا بوضع المشتق لخصوص المتلبس فلا يبقى الحكم بالكراهة ، وان قلنا بوضعه للاعم استمر.

والبحث الاول كان بحثا تحليليا اي بحث في انه هل ينحل معنى المشتق الى مبدأ وذات ونسبة او لا يدل الاّ على المبدأ ، وقد اتضح انه مركب ، واما هذا البحث فهو لغوي يتكلم فيه عن وضع المشتق لغة لخصوص المتلبس او الاعم.

وقبل الاشارة الى الاتجاه الصحيح نذكر مطلبين :

1 - قد يتصور ان هذا البحث يرتبط باخذ الزمان الماضي والحال في معنى المشتق ، فكلمة « ضارب » مثلا ان كانت موضوعة للمتلبس بالضرب الآن - اي في زمان الحال - فالصحيح اختيار الوضع لخصوص المتلبس ، ولو كانت موضوعة للمتلبس ولو في الزمان الماضي فالصحيح اختيار الوضع للاعم ، اذن وضع المشتق لخصوص المتلبس موقوف على اخذ زمان الحال فيه بينما وضعه للاعم موقوف على اخذ الزمان الاعم من الحال والماضي فيه.

والصحيح عدم ارتباط هذا البحث باخذ الزمان في مدلول المشتق ، فانا نجزم بعدم اخذه في المشتق ، وحال الاسماء المشتقة من هذه الناحية حال الاسماء الجامدة فكما ان الجامدة مثل زيد ودفتر وقلم لم يؤخذ الزمان في مدلولها كذلك الحال في الاسماء المشتقة ، فهذا البحث لا يرتبط باخذ الزمان في مدلول المشتق وانما يرتبط بنقطة اخرى هي ان المشتق هل هو موضوع لحالة التلبس فقط - وعلى هذا الاحتمال يكون المصداق الحقيقي للمشتق خصوص المتلبس - او هو موضوع

ص: 307

للاعم ، وعلى هذا الاحتمال يكون معنى المشتق سنخ معنى صادق على كل ذات متلبسة بالمبدأ ولو فيما سبق ، وعلى كلا هذين التقديرين لا يكون زمان الحال او الماضي مأخوذا في معنى المشتق.

اجل ان الزمان وان لم يؤخذ في مدلول المشتق الاّ ان الحمل لا بد من وقوعه في الزمان فحينما يقال زيد ضارب يكون الضرب محمولا على زيد الآن اي في زمان الحال بيد انه ظرف للحمل وليس جزء من معنى المشتق ، كما هو الحال في نوم زيد واكله بل ونفس وجوده فانها واقعة في زمان من دون ان يكون جزء منها فليس الزمان جزء من النوم او الاكل او من وجود زيد وانما هو ظرف لها.

2 - ان اللفظ متى ما كان لمعناه افراد متعددة فلا بد وان يكون موضوعا للجامع بين تلك الافراد ، فكلمة « انسان » لما كان لمعناها افراد متعددة كزيد وعمرو وبكر كانت موضوعة للجامع بينها وهو الحيوان الناطق ، اما اذا كان لمعنى اللفظ فرد واحد فلا يلزم وجود الجامع ، فكلمة « زيد » لما كان لمعناها فرد واحد لم يلزم وجود الجامع.

وباتضاح هذا يتجلى ان الاسم المشتق بما ان لمعناه افرادا متعددة فلا بد وان يكون موضوعا للجامع بينها فلمعنى « ضارب » افراد متعددة كهذا الضارب وذاك فيلزم ان يكون موضوعا للجامع بينها وهكذا الحال في كل كلمة مشتقة من دون فرق بين وضع المشتق لخصوص المتلبس او الاعم فانه على كلا التقديرين لا بد من وجود الجامع ، غاية الامر بناء على الوضع لخصوص المتلبس لا بد من وجود الجامع بين الافراد المتلبسة فقط ، وعلى الاعم لا بد من وجوده بين الافراد المتلبسة والمنقضي عنها التلبس ، ومن هنا يكون البحث عن تصوير الجامع ضروريا.

ص: 308

والكلام في تصوير الجامع يقع تارة بناء على الوضع لخصوص المتلبس واخرى بناء على الاعم.

ومن الطبيعي اذا لم نتمكن من تصوير الجامع بناء على الوضع للاعم مثلا كان هذا بنفسه دليلا على بطلان الوضع للاعم وبالتالي دليلا على الوضع لخصوص المتلبس.

تصوير الجامع بناء على الوضع لخصوص المتلبس.

ثم ان الجامع بناء على الوضع لخصوص المتلبس واضح ، فكلمة « ضارب » مثلا موضوعة لكل متلبس بالضرب وكلمة « نائم » موضوعة لكل متلبس بالنوم ، وهذا من دون فرق بين القول ببساطة معنى المشتق والقول بتركبه ، غاية الامر بناء على البساطة تكون كلمة « ضارب » مثلا موضوعة للمتلبس بالضرب مع خروج الذات عن المعنى الموضوع له بينما على التركب تكون جزء من المعنى.

ولرب قائل يقول : انه بناء على تركب معنى المشتق يكون تصوير الجامع مواجها لبعض الصعوبات ، اذ بناء على التركب تكون النسبة جزء من معنى المشتق ، وبما ان النسبة جزئية دائما لتقومها بالطرفين فيلزم ان يكون معنى المشتق جزئيا وبالتالي لا يكون موضوعا للجامع ، اذ لازم الوضع للجامع كون المعنى كليا.

والجواب : ليس المقصود من جزئية النسبة الجزئية بالمعنى المنطقي اي عدم الصدق على كثيرين فانه باطل ، فقولنا « سرت من الكوفة » يصدق على السير من اي نقطة من نقاط الكوفة ولا يختص بالسير من نقطة معينة ، بل المقصود من جزئية النسبة تقومها بطرفين ، فالنسبة في قولنا « سرت من الكوفة » جزئية بمعنى

ص: 309

تقومها بالسير والكوفة ، والنسبة في قولنا « سرت من البصرة » جزئية ايضا بمعنى تقومها بالسير والبصرة وتلك تغاير هذه باعتبار اختصاص كل واحدة بطرفيها ، وهكذا كل نسبة هي جزئية بهذا المعنى.

هذا كله في الجامع بناء على الوضع لخصوص المتلبس ، واما بناء على الاعم فسيأتي الحديث عنه.

قوله ص 474 س 1 معنى نسبيا حرفيا :

لو كان يعبّر بدل هذه الكلمات الثلاث بكلمة « النسبة » لكان اوضح واخصر.

قوله ص 474 س 3 من ان نسبية المعنى ... الخ :

المناسب : من ان جزئية المعنى الحرفي لا تعني ... الخ ، وكان من المناسب ايضا اضافة هذه الجملة : بل تعني جزئيته بلحاظ تقومه بالطرفين.

قوله ص 474 س 4 ما لم تتغير اطرافها :

اي اطراف النسبة ، اي ليس المقصود من جزئية النسبة ان الطرفين ما دام لم يتغيرا فلا تصدق الاّ على مصداق واحد فاذا تغيرا صدقت على مصداق ثاني ولكنه واحد ايضا ، وهكذا بتغير الاطراف تصدق على مصاديق جديدة ولكنها واحدة ، كلا ان هذا باطل فان قولنا « سرت من الكوفة » يصدق على مصاديق كثيرة كما تقدم واذا تغيرت الاطراف وقيل سرت من البصرة صدقت النسبة على مصاديق اخرى كثيرة ايضا.

تصوير الجامع على الاعم.
اشارة

تحدثنا فيما سبق عن تصوير الجامع بناء على الوضع لخصوص المتلبس ،

ص: 310

واما بناء على وضعه للاعم فتارة يقع الكلام في تصويره بناء على بساطة معنى المشتق واخرى بناء على تركبه.

اما بناء على البساطة - كما هو رأي الميرزا القائل بان المشتق موضوع للمبدأ ملحوظا بنحو لا يأبى عن الحمل - فالوضع للاعم غير ممكن ، اذ على البساطة يكون « ضارب » مثلا بمعنى الضرب ، ومن الواضح ان الضرب لا يمكن صدقه في صورة انقضائه - الضرب - بل يختص بحالة التلبس حتى ولو لوحظ - الضرب - غير آب عن الحمل فان لحاظه كذلك لا يجعله قابلا للصدق حالة الانقضاء.

واما بناء على التركب فقد يتخيل ان تصوير الجامع في غاية السهولة بان يقال ان كلمة ضارب مثلا موضوعة للذات الاعم من المتلبسة بالضرب والمنقضي عنها ذلك ، ولكنه باطل اذ الوضع للذات الاعم اما ان يراد به الوضع لكلتا الحالتين معا - اي لحالة التلبس والانقضاء - او الوضع لاحداهما.

فان كانت موضوعة لكلتيهما فيلزم ان نفهم من مثل جملة « جاء الضارب » : جاء من هو متلبس بالضرب وغير متلبس به فنفهم المتناقضين وهو باطل جزما.

وان كان موضوعة لاحداهما فنسأل : هل هي موضوعة لاحدى الحالتين المعينة - ولازمه عدم الوضع للاعم وهو خلف الفرض - او هي موضوعة لاحدى الحالتين غير المعينة ولازمه ان نفهم من جملة « جاء الضارب » : جاء من هو اما متلبس بالضرب بالفعل او قد انقضى عنه وهو باطل ايضا.

ومن هنا كان تصوير الجامع بناء على الاعم وتركب المشتق محلا لحيرة الاصوليّين ، وقد اشير في الكتاب الى ثلاثة تصويرات :

ص: 311

الأوّل :

ان « ضارب » مثلا موضوع للذات التي حصل منها الضرب في الزمن الماضي مع قطع النظر عن انتهائه عنها بالفعل وعدمه ، اذ لو قيد بالانتهاء يلزم الاختصاص بالمنقضي ، ولو قيد بعدم الانتهاء يلزم الاختصاص بالمتلبس ، فلاجل ان يعم المشتق المنقضي والمتلبس يقطع النظر عن الانتهاء وعدمه بعد اخذ مفاد الفعل الماضي - وهو الوقوع والحصول فيما مضى - في معناه.

ويرده :

أ - ان لازم هذا التصوير عدم صحة اطلاق الضارب على من صدر منه الضرب في اول وهلة من ضربه ، اذ في اول وهلة لا يكون الشخص ممن صدر منه الضرب وحصل في الزمن الماضي وانما يكون كذلك فيما لو مضت لحظة او لحظتان على صدور ضربه مع انا نجد بالوجدان ان عنوان الضارب يصدق في الوهلة الاولى.

ونضيف : ان لازم ذلك ان لا يصدق على الشخص - فيما اذا كان يضرب غيره لمدة ساعة - في اخريات الساعة عنوان « ضارب » باعتبار الضرب الصادر منه في اخريات الساعة وانما يصدق عليه باعتبار الضرب الصادر منه اول الساعة ، وهو خلاف الوجدان ايضا ، فانا نطلق الضارب على الممارس للضرب باعتبار حالة الممارسة الفعلية لا باعتبار الضرب الصادر منه قبل لحظات.

ب - ان الفعل الماضي له خصوصيتان : الدلالة على الزمن الماضي ، الدلالة على الصدور والحركة - فضرب زيد بمعنى صدر منه الضرب وتحرك - فلو فرض ان قولنا « ضارب » موضوع لمن ضرب في الزمن الماضي يلزم دلالة المشتق على

ص: 312

كلتا الخصوصيتين : الزمن الماضي والصدور ، وهو باطل بالوجدان ، فان قولنا « جاء الضارب » يفهم منه : جاء المتصف بالضرب ولا يفهم منه الزمن الماضي ولا الصدور والحصول ، اي لا يفهم منه جاء الذي صدر وحصل منه الضرب بل يفهم منه جاء المتصف او المنتسب اليه الضرب ، ومن الواضح ان الاتصاف والانتساب الى الضرب لا يصدق الاّ مع التلبس الفعلي بالضرب ، فالمهم هو التلبس الفعلي دون الصدور والحصول فيما مضى.

الثاني :

ما ذكره السيد الخوئي دام ظله من ان كلمة « ضارب » مثلا موضوعة للذات التي تبدل عدم الضرب فيها الى الضرب ، اي انتقض عدم المبدأ - اي عدم الضرب - فيها الى الوجود ، ومن الواضح ان الذات بهذا الشكل تصدق على المتلبس والمنقضي فكلاهما قد تبدل عدم الضرب فيهما الى وجود الضرب.

ويرده :

أ - انا نفهم من « جاء الضارب » : جاء الثابت له الضرب ، لا جاء من تبدل عدم ضربه الى الضرب ، اي انا نفهم معنى الضارب من خلال وجود المبدأ للذات لا من خلال تبدل عدم المبدأ الى الوجود.

ب - ان الضارب لو كان موضوعا للذات التي انتقض عدم الضرب فيها الى الضرب فنسأل :

1 - هل المأخوذ في كلمة الضارب مفهوم المنتقض الذي هو إسم من الاسماء فيكون معنى الضارب : الذات المنتقض فيها عدم الضرب الى الضرب.

2 - او ان المأخوذ فيها كلمة « إنتقض » التي هي فعل ماض فيصير معنى

ص: 313

« ضارب » : الذات التي إنتقض فيها عدم الضرب الى الضرب.

3 - او ان المأخوذ فيها كلمة « النقض » مع النسبة فيصير معنى الضارب : الذات المنتسب لها النقض.

اما الاحتمال الاول فيرده : ان كلمة « منتقض » هي من الاسماء المشتقة ايضا فيلزم ان تكون موضوعة للاعم ولا بد من تصوير جامع ، اذ لو لم تكن موضوعة للجامع وكانت موضوعة لخصوص المتلبس يلزم الاختصاص بالمتلبس بالانتقاض بالفعل وهو خلف الوضع للاعم ، ومن الواضح ان الجامع الذي يوضع له كلمة « المنتقض » هو عين المتنازع في كيفية تصويره.

واما الاحتمال الثاني فيرده : ان اخذ مفاد الفعل الماضي في معنى المشتق قد تقدم الاشكال عليه في التصوير السابق.

واما الاحتمال الثالث فيرده : ان لا بد وان يكون المقصود من الذات المنتسب لها النقض هو الانتساب الاعم من الانتساب الفعلي والانتساب المنقضي ، وهذا معناه الوضع للجامع الذي هو محل كلامنا.

الثالث :

ما ذكره السيد الخوئي دام ظله ايضا ، وحاصله : انه لان عجزنا عن تصوير جامع حقيقي بين المتلبس والمنقضي - ومراده من الجامع الحقيقي الجامع الذي نقلناه عنه في التصوير الثاني - فيمكننا تصوير جامع انتزاعي بين المتلبس والمنقضي بان نقول : ان كلمة « ضارب » مثلا موضوعة لاحدهما اي اما للمتلبس او للمنقضي.

ص: 314

ويرده :

1 - انا نسأل : هل المراد وضع المشتق لمفهوم « احدهما » - مفهوم احدهما عبارة عن كلمة « احدهما » - فهذا باطل بالوجدان ، اذ لا يتبادر الى ذهننا مفهوم « احدهما » حينما نسمع كلمة « ضارب » ، او ان المراد وضعه لواقع احدهما ومصداقه ، وهذا باطل ايضا ، فان واقع احدهما المعين لا يمكن ان يكون هو المقصود والا يلزم الاختصاص بالمتلبس او المنقضي ، بل لا بد وان يكون المقصود وضعه للجامع بين واقع المتلبس وواقع المنقضي ومعه يعود المحذور لان كلامنا الآن في تصوير الجامع.

2 - انا نسأل : هل المراد وضعه لاحد الزمانين - الزمان الماضي والحاضر - او وضعه لاحدى الحالتين : حالة التلبس وحالة الانقضاء ، والاول باطل لانه يلزم منه اخذ الزمان في مدلول المشتق وقد تقدم بطلانه ، والثاني باطل ايضا لانه يلزم ان يكون مفهوم الضارب مثلا مترددا ، فحينما يقال « جاء الضارب » يكون المقصود جاء الذي هو اما متلبس بالضرب او غير متلبس به ، فيكون مفهوم الضارب مرددا وبدليا كما هو الحال في مفهوم احدهما ، وهو باطل بالوجدان فان المفهوم من كلمة « ضارب » معنى غير مردد وشامل لكل من صدر منه الضرب.

والنتيجة من كل هذا عدم امكان تصوير الجامع بناء على الوضع للاعم ، هذا كله في المطلبين اللذين اردنا بيانهما قبل الاشارة الى الرأي المختار.

الرأي المختار في البحث الثاني.

قوله ص 475 س 22 وهكذا يتضح ... الخ :

والرأي المختار في البحث الثاني هو وضع المشتق لخصوص المتلبس لوجوه

ص: 315

ثلاثة :

1 - ان الوضع للاعم يستدعي وجود جامع يكون المشتق موضوعا له ، وقد اتضح عدم امكان وجود الجامع.

2 - ان المفهوم عرفا من كلمة « ضارب » مثلا الذات المتلبسة بالضرب بالفعل ولا يفهم الاعم ، وبكلمة اخرى : ان كلمة « ضارب » مركبة من مادة وهيئة ، والمادة - وهي الضرب - لا تدل الاّ على الحدث ، والهيئة تدل على التلبس والاتصاف بالضرب ، وواضح ان التلبس والاتصاف لا يصدقان حالة الانقضاء بل يختصان بحالة التلبس الفعلي.

3 - انه لا اشكال في وجود التضاد بين وصف « نائم » ووصف « مستيقظ » مثلا ، فلو فرض ان المشتق موضوع للاعم يلزم صحة صدقهما على شخص واحد في وقت واحد - وبالتالي يلزم عدم التضاد بينهما - فانه لا اشكال في كونك مستيقظا حينما تقرأ هذا الكتاب ، وبما انك كنت نائما ليلا فيلزم ان يصدق عليك الآن عنوان النائم ايضا.

التفصيل بين المشتقات.

قوله ص 476 س 9 وقد يقال بالتفصيل ... الخ :

ولرب قائل يقول : ان المناسب التفصيل بين الاسماء المشتقة بان نقول ان كلمة نجار وشاعر وطبيب ومجتهد وغير ذلك من اسماء الحرف والصناعات موضوعة للاعم ، اذ لا اشكال في ان النّجار يصدق على النّجار وان لم يمارس النجارة بالفعل بل كان نائما في بيته ، وهكذا الحال في الطبيب والشاعر والمجتهد ، ان مثل هذه موضوعة للاعم ، فمادة نجّار - وهي النجارة - وان كانت موضوعة

ص: 316

لحدث النجارة بلا توسعة لمعناها الاّ ان الهيئة موضوعة للاعم ، وهذا بخلافه في غير اسماء الحرف والصناعات مثل كلمة نائم وآكل وو ... فانها موضوعة لخصوص المتلبس.

ويرده :

1 - ان الوضع للاعم يستدعي وجود جامع يوضع له لفظ المشتق ، وقد اتضح مما سبق عدم وجوده.

2 - انا ندعي ان كلمة « نجّار » مثلا موضوعة لخصوص المتلبس بالنجارة لكن نقول : ليس المقصود من النجارة - التي هي المبدأ - النجارة الفعلية بل حرفة النجارة ، فالمبدأ اخذ بنحو الحرفة ، ومن الواضح ان حرفة النجارة صادقة على النجّار وان كان نائما ولا يكون ممن انقضى عنه التلبس الا اذا فرضنا هجره وانصرافه عن حرفة النجارة.

وبهذا يتضح انه لا توسعة في الهيئة بل هي موضوعة لخصوص المتلبس وانما التوسعة في المادة حيث لوحظت بنحو الحرفة.

قوله ص 474 س 6 وانه موضوع بازاء المبدأ :

عطف تفسير للقول ببساطة المشتق.

قوله ص 474 س 6 ملحوظا لا بشرط :

اي ملحوظا غير آب عن الحمل.

قوله ص 474 س 7 ولوحظ :

الصواب : ولو لوحظ.

قوله ص 474 س 7 بداهة :

تعليل لقوله : « لعدم صدق المبدأ على الفاقد له » ، اي ان المبدأ لا يصدق

ص: 317

على الفاقد له - المبدأ - اذ وجود المبدأ ركن حينئذ - اي حين وضع المشتق للمبدأ كما هو رأي الميرزا - في صدق المشتق.

قوله ص 474 س 11 بان يكون مفاد الفعل الماضي بنحو النسبة الناقصة :

مفاد الفعل الماضي هو الوقوع في الماضي او بتعبير آخر نسبة المضي ، والمراد من النسبة الناقصة النسبة الناقصة التحليلية ، اي انه بتحليل معنى المشتق نحصل على نسبة المضي لا انه يدل عليها المشتق استقلالا ومباشرة.

قوله ص 474 س 15 قبل زمان الجري :

زمان الجري هو زمان الحمل ، اي ان الفعل الماضي لا يصدق الاّ حينما يكون الضرب حادثا قبل حمل « الضارب » على الذات.

قوله ص 474 س 18 وصدوره من ذات :

عطف تفسير على « حركة المبدأ ».

قوله ص 475 س 8 بنحو النسبة الناقصة :

اي التحليلية الحاصلة بالتحليل لا انها مأخوذة فيه استقلالا ومباشرة.

قوله ص 475 س 15 فيها :

اي في المشتقات.

قوله ص 475 س 20 شموليا :

فالمستفاد من ضارب كل ذات متلبسة بالضرب كما يستفاد من كلمة « باب » - التي هي جامدة - كل ذات متصفة بانها باب.

قوله ص 475 س 22 وهو يكفي دليلا :

هذا شروع في اختيار القول بالوضع لخصوص المتلبس والاستدلال عليه بثلاثة وجوه.

ص: 318

قوله ص 475 س 23 والواقع ان قليلا :

هذا تمسك بالوجدان العرفي.

قوله ص 476 س 3 على اختلاف انحاء التلبس :

فقد يكون المبدأ ملحوظا بنحو الفعلية - كما في نائم - وقد يكون ملحوظا بنحو الحرفة - كما في « نجّار » - وقد يكون بنحو الملكة كما في شاعر.

قوله ص 476 س 6 المتقابلة :

فان كلمة « عالم وجاهل » من المشتقات وهي من الاوصاف المتقابلة ، فان العالم يقابل الجاهل وهو ضد له.

قوله ص 476 س 9 اسماء الحرف والصناعات :

مثال الحرفة والصناعة : نجّار ، ومثال الملكة : شاعر ، ومثال اسم الآلة : مفتاح ، فان كلمة « مفتاح » تصدق على المفتاح ولو كان موضوعا في الجيب ولم يكن متلبسا بالفتح فعلا.

قوله ص 476 س 12 فيقال : « زيد كاتب » :

كان من المناسب ان يقول : زيد نجّار ، اذ قد يتوهّم ان المقصود من الكتابة الكتابة الفعلية.

قوله ص 476 س 12 وان يرجع الى توسعة ... الخ :

اي ان صدق الكاتب او النجّار على النائم ليس باعتبار كون المادة وهي الكتابة والنجارة قد اريد بها معنى واسعا يشمل حالة النوم وانما هو باعتبار وضع الهيئة للاعم فيثبت المطلوب.

اقول : ولكن قد اتضح من خلال الرد الثاني على هذا التفصيل ان التوسعة حاصلة في المادة دون الهيئة ، حيث ان المادة اخذت بمعنى الحرفة والصناعة

ص: 319

الصادقة على النائم.

قوله ص 476 س 13 لكونها موضوعة :

اي ان المادة - كالكتابة - موضوعة لحدث الكتابة بالوضع النوعي ، والمقصود من الوضع النوعي ان الكتابة وضعت لحدث الكتابة ضمن اي مشتق من المشتقات مثل كاتب ، مكتوب ، اكتب وو ....

ثم انه لا حاجة لقوله « بوضع نوعي عام في تمام المشتقات » لعدم مدخليته في المطلب.

قوله ص 476 س 15 من هذا النوع ايضا :

اي موضوعة لخصوص المتلبس.

قوله ص 476 س 16 بالنحو الملحوظ فيها :

هذا اشارة الى ان المادة لو حظت بشكل آخر حيث لو حظت بنحو الحرفة او الملكة.

قوله ص 476 س 17 في الزمن السابق :

اي مع تركه وهجره لحرفة الكتابة الآن.

قوله ص 476 س 20 منها :

اي من المادة.

الاصل عند الشك.

قوله ص 476 س 21 ثم لو فرض الشك فيما هو المعنى الموضوع له ... الخ :

ذكرنا فيما سبق ان الصحيح وضع المشتق لخصوص المتلبس للادلة الثلاثة السابقة ، والآن عندنا بحث فرضي يقول : لو فرض انه لم يقم دليل على وضع

ص: 320

المشتق لخصوص المتلبس ولا على وضعه للاعم فالاصل ماذا يقتضي؟ فهل يقتضي الوضع لخصوص المتلبس او للاعم؟ قد يقال انه يقتضي الوضع للاعم لوجهين :

1 - انا نشك ان الواضع للمشتقات هل لاحظ خصوصية التلبس او لا؟ والاصل يقتضي عدم ملاحظته لها فيثبت بذلك الوضع للاعم.

ويرده :

أ - ان استصحاب عدم لحاظ خصوصية التلبس (1) اقصى ما يثبت عدم ملاحظة خصوصية التلبس ولا يثبت ان المشتق موضوع للاعم الاّ بالاصل المثبت ، فان لازم عدم ملاحظة خصوصية التلبس ان المشتق موضوع للاعم ، وهذا اللازم ليس لازما شرعيا - اذ لا توجد آية ولا رواية تقول اذا لم تلحظ خصوصية التلبس فالمشتق موضوع للاعم - وانما هو لازم عقلي ، وقد مر عند شرح س 9 من ص 70 ان الاصل متى لم يرد به اثبات نفس مجراه او لازمه الشرعي فهو ليس بحجة ويسمى بالاصل المثبت نظير استصحاب حياة الولد لاثبات نبات لحيته.

ب - ان اصالة عدم ملاحظة الخصوصية اقصى ما تثبت عدم ملاحظة الخصوصية ، ومن الواضح ان هذا ليس بمهم ولا بحجة ، فان الحجة في نظر العقلاء هو الظهور ، فالعقلاء يقولون ان ظهور المشتق في الاعم هو الحجة ، ومن الجلي ان استصحاب عدم ملاحظة الخصوصية لا يثبت ان المشتق ظاهر في الاعم ، اذ الظهور لا ينشأ من عدم ملاحظة الخصوصية وانما ينشأ من وضع المشتق للاعم ، ونحن عرفنا من خلال ما تقدم ان اصالة عدم ملاحظة الواضع للخصوصية لا

ص: 321


1- الاستصحاب والاصل شيء واحد ، ولذا قد يعبر بهذا تارة وبذاك اخرى.

يثبت وضع المشتق للاعم حتى يثبت له ظهور في الاعم بل اقصى ما يثبت عدم ملاحظة الخصوصية.

2 - ان يقال : ان الشجرة اذا جفّت وشككنا في صدق عنوان المثمرة عليها بعد ذلك فنستصحب صدق عنوان المثمرة عليها ونقول : ان هذه الشجرة قبل ان تجف كان يصدق عليها عنوان المثمرة ، فاذا شككنا الآن في صدقه عليها استصحب بقاؤه فيثبت بذلك بقاء الكراهة.

وقد يشكل على الاستصحاب المذكور بكونه اصلا مثبتا ، اذ باستصحاب بقاء عنوان المثمرة يراد اثبات اللازم العقلي لذلك وهو ان كلمة « المثمرة » موضوعة للاعم.

ويرده : ان الاستصحاب المذكور ليس مثبتا ، اذ نحن لا نريد باستصحاب بقاء صدق عنوان المثمرة اثبات ان كلمة « مثمرة » موضوعة للاعم حتى يقال بانه مثبت ، بل نريد اثبات بقاء كراهة قضاء الحاجة تحتها ، ومن الواضح ان بقاء الكراهة يكفي فيه بقاء صدق عنوان المثمرة من دون حاجة الى اثبات الوضع للاعم.

اذن من هذه الناحية لا اشكال ، وانما الاشكال يرد من ناحية اخرى وهي ان الاستصحاب المذكور استصحاب في الشبهة المفهومية وهو لا يجري كما يأتي انشاء اللّه تعالى في مبحث الاستصحاب.

وتوضيحه باختصار : ان الشبهة المفهومية هي الشبهة الناشئة من الشك في سعة المفهوم وضيقه كالشك في ان الصعيد يراد به مطلق وجه الارض او خصوص التراب. وكالشك في مقامنا في مفهوم كلمة « مثمرة » هل هو وسيع يشمل حالة ما بعد الجفاف او ضيق لا يشمل ذلك ، واستصحاب بقاء صدق عنوان المثمرة في

ص: 322

الحالة المذكورة استصحاب في الشبهة المفهومية وهو لا يجري (1).

ومن خلال كل هذا اتضح ان الاستصحاب بكلا شكليه السابقين لا يجري.

اجل يمكن اجراء الاستصحاب في نفس الحكم - اي الكراهة - فنقول : انه كان يكره قضاء الحاجة سابقا تحت هذه الشجرة فاذا شككنا الآن في بقاء الكراهة استصحبنا بقاءها ، ومثل هذا الاستصحاب يسمى بالاستصحاب الحكمي لانه استصحاب في نفس الحكم ، وهذا بخلافه في الشكلين السابقين فانه استصحاب موضوعي ، اذ يراد باجرائه احراز الموضوع وهو الوضع للاعم او صدق عنوان المثمرة بعد الجفاف.

والخلاصة : ان الاستصحاب الموضوعي بكلا شكليه لا يمكن جريانه بخلاف الاستصحاب الحكمي فانه يجري بلا محذور.

قوله ص 477 س 2 وهو مسبب تكويني :

اي حقيقي وخارجي.

قوله ص 477 س 3 باجراء الاستصحاب فيما هو المعنى المتصور :

اي وان الواضع حين الوضع لم يلحظ خصوصية التلبس الفعلي قيدا في

ص: 323


1- والوجه في ذلك انه يشترط في جريان الاستصحاب وجود يقين سابق وشك لاحق ، وفي الشبهات المفهومية لا يوجد يقين سابق وشك لاحق ليجري الاستصحاب اذ انت حينما تقول عندي يقين بصدق عنوان المثمرة قبل ان تجف الشجرة هل تريد ان عنوان المثمرة بمعنى المتلبسة بالاثمار فعلا كنت على يقين منه او تريد ان عنوان المثمرة بالمعنى الاعم من المتلبس والمنقضي كنت على يقين منه؟ فان كنت تريد الاول فاليقين بصدق عنوان المثمرة وان كان ثابتا الا ان الشك في البقاء غير ثابت ، اذ المثمرة بمعنى الاثمار الفعلي منتف جزما بعد الجفاف ، وان كنت تريد الثاني فاليقين بصدق عنوان المثمرة غير ثابت منذ البداية حتى يجري استصحابه.

المعنى الذي تصوره ووضع اللفظ له.

قوله ص 477 س 5 نتيجة الوضع للاعم :

اي الكراهة ، فان المقصود من ثبوت الوضع للاعم اثبات الكراهة ، وما دام المقصود اثبات نتيجة الوضع للاعم لا نفس الوضع للاعم فلا يلزم كون الاصل مثبتا.

قوله ص 477 س 6 لترتيب اثره الشرعي :

وهو بقاء الكراهة في المثال السابق.

قوله ص 477 س 8 والاثر الشرعي :

عطف تفسير على « الحكم ».

قوله 477 س 9 ابتداء :

اي من دون اجراء الاستصحاب الموضوعي ، بل يجري الاستصحاب في الكراهة مباشرة.

ص: 324

المعاني الحرفيّة

اشارة

ص: 325

ص: 326

المعاني الحرفيّة :

قوله ص 93 س 1 المعنى الحرفي مصطلح اصولي ... الخ :

ليس المقصود من المعنى الحرفي خصوص النسبة المدلول عليها بالحروف بل يراد به في المصطلح الاصولي كل نسبة سواء كانت مدلولة للحرف ام للهيئة كهيئة المشتق الدالة على نسبة المبدأ الى الذات.

ثم ان الوجدان العرفي قاض بوجود فرق بين معنى كلمة « من » ومعنى كلمة « ابتداء » فمعنى كلمة « من » لا يمكن لحاظه مستقلا بخلاف معنى كلمة « ابتداء ».

ومن هنا اتجه الاصوليّون الى بيان الفارق الاساسي بين معاني الحروف ومعاني الاسماء ، وقد وجد في هذا الصدد اتجاهان :

1 - ما ذهب اليه الآخوند قدس سره من عدم الفرق بين ذات المعنى الحرفي وذات المعنى الإسمي بل ذاتهما واحدة والاختلاف ليس الاّ من ناحية اللحاظ كما سيتّضح.

2 - ما ذهب اليه من تأخر عن الآخوند وهو ان معنى الحرف يباين من حيث ذاته معنى الاسم ، فالاختلاف بينهما ليس من حيث اللحاظ فقط بل من حيث الذات واللحاظ معا كما سيتجلى.

ص: 327

توضيح الاتجاه الأوّل.

وفي البداية نأخذ بتوضيح اتجاه الآخوند ، وحاصله ان كلمة « من » وكلمة « ابتداء » كلتيهما تدلان على معنى واحد وهو مفهوم الابتداء ، وهذا المعنى الواحد وضع له لفظان : من وابتداء. اجل كلمة « من » وضعت لمفهوم الابتداء فيما اذا لوحظ باللحاظ الآلي بخلاف كلمة « ابتداء » فانها موضوعة لمفهوم الابتداء فيما اذا لوحظ باللحاظ الاستقلالي.

بيان ذلك : ان الابتداء الثابت في الخارج وان كان متقوما دائما بطرفين ولا يمكن ان يوجد مستقلا فالابتداء من البصرة يوجد خارجا متقوما بالسير والبصرة ولا يمكن وجوده مستقلا عن السير والبصرة الاّ انه في الذهن يمكن ان يوجد بشكلين ، فيوجد مرة متقوما بطرفين - كما لو تصورنا السير من البصرة ، فانه ضمن تصورنا لهذا المجموع نتصور الابتداء المتقوم بالسير والبصرة - ويوجد اخرى مستقلا وغير متقوم بطرفين ، وذلك كما لو تصورنا مفهوم كلمة « ابتداء » بقطع النظر عن كلمة السير والبصرة ، ويسمى الابتداء المتقوم بالطرفين بالابتداء الملحوظ باللحاظ الآلي (1) بينما الابتداء الملحوظ مستقلا يسمى بالابتداء الملحوظ باللحاظ الاستقلالي.

والآخوند يدعي ان كلمة « من » موضوعة لمفهوم الابتداء الملحوظ بالشكل الاول ، اي الملحوظ متقوما بطرفين ، بينما كلمة « ابتداء » موضوعة لمفهوم الابتداء الملحوظ بالشكل الثاني اي الملحوظ مستقلا.

ثم اضاف قدس سره قائلا : ولا يتوهمن متوهم ان مقصودنا وضع كلمة « من » لمفهوم الابتداء المقيد باللحاظ الآلي او وضع كلمة « ابتداء » لمفهوم الابتداء

ص: 328


1- اللحاظ الآلي لحاظ المعنى متقوما بغيره.

المقيد باللحاظ الاستقلالي ، ان هذا باطل ، اذ لو كان اللحاظ الآلي او الاستقلالي جزء من المعنى يلزم صيرورة معنى كلمة « من » و « ابتداء » امرا ذهنيا فان اللحاظ (1) امر ذهني ، والمقيد بالامر الذهني ذهني ، وبالتالي يلزم عدم امكان الامتثال لو قيل : سر من البصرة ، لان الابتداء الذي يحصل من الشخص المأمور ابتداء خارجي وليس ذهنيا والحال انه لا اشكال في حصول الامتثال بالابتداء الخارجي ، وهذا يكشف عن عدم كون معنى كلمة « من » ذهنيا.

يبقى شيء وهو انه اذا لم يكن اللحاظ الآلي او الاستقلالي قيدا في المعنى الموضوع له فلأي شيء يكون قيدا اذن؟ اجاب الآخوند عن هذا السؤال بان اللحاظ قيد في نفس الوضع او بالاحرى في العلاقة الوضعية الحاصلة بسبب الوضع وليس قيدا في المعنى الموضوع له ، بل المعنى الموضوع له هو مفهوم الابتداء لا غير ، واللحاظ الآلي والاستقلالي قيد في الوضع ، وهذا نظير ان يكون للانسان ولد عزيز ، ولحبه الشديد وضع له اسمين فقال : اني وضعت لولدي في الليل كلمة « زيد » وفي النهار كلمة « عمرو » ، فانه في هذا المثال يكون المعنى الموضوع له في كلمة « زيد » و « عمرو » واحدا وهو ذات الولد من دون اخذ الليل والنهار قيدين في المعنى ، وانما هما قيدان في الوضع ، اي ان وضع كلمة زيد مقيد بالليل لا انها وضعت لزيد المقيد بالليل ، وهكذا بالنسبة الى وضع كلمة « عمرو ».

وفي نهاية كلامه ذكر قدس سره : يتجلى ان المتكلم لو استعمل كلمة « من » بدل كلمة « ابتداء » بان قال هكذا : سرت ابتداء البصرة ولم يقل : سرت من البصرة كان استعماله هذا استعمالا حقيقيا وفي المعنى الموضوع له ، اذ المعنى الموضوع له في كلمتي « من » و « ابتداء » واحد وهو مفهوم الابتداء وانما

ص: 329


1- يقال : لاحظ هذا الشيء اي تصوره في ذهنك واوجده فيه.

الاختلاف في كيفية اللحاظ الذي هو قيد في الوضع ، وما دام الاستعمال استعمالا في المعنى الموضوع له فيكون حقيقيا وان كان ذلك بلا وضع نظير استعمال كلمة « زيد » بدل كلمة « عمرو » في المثال السابق فانه استعمال حقيقي وفي المعنى الموضوع له - وهو ذات الولد - غايته بلا وضع.

هذا حصيلة ما ذكره الآخوند ، ويمكننا تلخيصه في النقاط التالية :

أ - ان معنى كلمة « من » و « ابتداء » واحد وهو مفهوم الابتداء ، وليس الاختلاف الاّ في اللحاظ الآلي والاستقلالي.

ب - ان اللحاظ ليس جزء من المعنى بل هو قيد في الوضع.

ج - ان استعمال كلمة « من » بدل كلمة « ابتداء » او بالعكس استعمال حقيقي وفي المعنى الموضوع له غايته بلا وضع.

الاتجاه الثاني.

والاتجاه الثاني يقول : ان المعنى الحرفي يختلف عن المعنى الاسمي من حيث الذات وليس من حيث اللحاظ فقط ، فالاختلاف باللحاظ وان كان موجودا ولكنه ليس هو الفارق الجوهري ، وانما الفارق الجوهري هو الاختلاف من حيث الذات ، فذات المعنى الحرفي تباين ذات المعنى الاسمى ، واختلافهما من حيث اللحاظ ناشىء من الاختلاف الذاتي بينهما. هذا مجمل الاتجاه الثاني ، ويأتي توضيح معالمه بعد قليل.

مناقشة الاتجاه الاول.

ويمكن ان يقال في رد الاتجاه الاول : ان بالامكان اقامة البرهان على

ص: 330

التباين بين ذاتي المعنى الحرفي والمعنى الاسمي ، وليست الذات واحدة والاختلاف في مجرد اللحاظ. وتوضيحه يتم ضمن اربع نقاط :

1 - انا حينما نسمع جملة « سار زيد من البصرة الى الكوفة » مثلا نجد ان المعنى المستفاد منها معنى مترابط يرتبط بعضه ببعض وليس فيه تفكيك كالتفكيك الذي نشعر به حينما نسمع هذه الكلمات - سير ، بصرة كوفة - بدون ضم كلمتي « من والى ».

2 - ما دمنا نشعر بالترابط بين اجزاء الجملة المذكورة فلا بد من اشتمالها على معاني وظيفتها الربط والنسبة بين السير والبصرة والكوفة.

3 - ان المعاني الرابطة بين السير والبصرة والكوفة لا بد وان يكون الربط لها ذاتيا لا عارضيا ، اي لا بد وان تكون تلك المعاني عين الربط ونفسه لا شيئا لها الربط ، اذ لو كانت اشياء اخرى غير الربط وكان الربط عارضا عليها - كما في الغرفة المنيرة فانها ليست عين النور وانما هي شيء له النور - لكان من اللازم الانتهاء في النهاية الى معان يكون الربط لها ذاتيا اي تكون عين الربط ، اذ لو لم ننته الى ذلك يلزم التسلسل كما في الغرفة المنيرة فان نورها لما كان عارضا عليها احتيج الى شيء آخر تكتسب منه النور ، وذلك الشيء ان لم يكن نوره ذاتيا احتيج الى شيء ثالث وهكذا حتى ينتهى الى شىء يكون النور له ذاتيا - اي يكون عين النور - كى لا يلزم التسلسل ، ومن هنا قيل : كل ما بالعرض لا بد من انتهائه الى ما بالذات.

والخلاصة : ان جملة « سرت من البصرة الى الكوفة » لا بد وان تحتوى على معان تكون عين الربط دفعا للتسلسل وحفاظا على قاعدة « كل ما بالعرض لا بد من انتهائه الى ما بالذات ».

ص: 331

4 - ان تلك المعاني التي يكون تمام حقيقتها الربط ليست هي الا معاني الحروف ، فان جملة « سرت من البصرة الى الكوفة » تحتوي على اسماء وحروف ، وحيث ان الاسماء لا يمكن ان تكون هي الدالة على تلك المعاني التي تكون عين الربط - والاّ يلزم عدم امكان تصور معاني الاسماء مستقلا ومن دون الطرفين لان ما يكون الربط له ذاتيا لا يمكن تصوره في حال من الحالات بدون تصور الطرفين - فبعد عزلها واستثنائها لا تبقى لدينا الا الحروف فتكون هي الدالة على الربط بين الاطراف المتفككة.

وبهذا يثبت بطلان ما اختاره الآخوند ، فانا اثبتنا من خلال هذا البيان ان معاني الحروف تختلف في ذاتها عن معاني الاسماء ، فمعاني الحروف ليست هي الا الربط بينما معاني الاسماء ليست هي الربط بل معاني اخرى مستقلّة تحتاج الى الربط الذي هو معنى الحرف.

وليس مقصودنا حينما نقول ان معاني الحروف هو الربط والنسبة ان الحروف تدل على مفهوم النسبة والربط وانما هو واقع الربط والنسبة ، فان مفهوم النسبة والربط ليس نسبة ولا ربطا في الحقيقة بل هو معنى اسمي يحتاج الى الربط.

ولئن كان مفهوم النسبة والربط يصدق على النسبة والربط فهو يصدق عليه بالحمل الاولي وليس بالحمل الشائع ، كما هو الحال في مفهوم الجزئي حيث يصدق عليه انه جزئي بالحمل الاولي ولا يصدق عليه ذلك بالحمل الشائع ، فان مفهوم الجزئي بنظرة اولى غير فاحصة وان كان جزئيا ولكنه بنظرة ثانية فاحصة كلي جيث انه يصدق على كل جزئي ، وهكذا الحال في مفهوم النسبة فانه بالنظرة الاولى وان كان نسبة الا انه بالنظرة الثانية الفاحصة ليس نسبة بل مفهوما اسميا.

ثم انه قدس سره اشار الى النقطة الاولى بقوله فى س 5 : انه لا اشكال في ان

ص: 332

الصورة الذهنية ... الخ.

واشار الى النقطة الثانية في س 7 بقوله : فلا بد من افتراض معان رابطة ...

الخ.

واشار الى الثالثة في س 9 بقوله : وهذه المعاني الرابطة ... الخ.

واشار الى الرابعة في س 13 بقوله : وليس شيء من المعاني الاسمية ... الخ.

قوله ص 93 س 13 بما هو :

اي بما هو مستقل وغير متقوم بالطرفين.

قوله ص 94 س 5 المعنى الملحوظ فيها :

الصواب : فيهما ، اي في اللحاظين.

قوله ص 94 س 7 للمعنى الموضوع له او المستعمل فيه :

المعنى الذي يضع الواضع له كلمتي « من او ابتداء » يسمى بالمعنى الموضوع له ، والمعنى الذي يستعمل فيه اللفظ بعد تمامية الوضع يسمى بالمعنى المستعمل فيه ، والآخوند يرى ان اللحاظ كما انه ليس قيدا في المعنى الموضوع له كذلك ليس هو قيدا في المعنى المستعمل فيه.

قوله ص 94 س 7 وقيد فيه :

عطف تفسير على قوله « مقوم ».

قوله ص 95 س 4 والذاتي :

عطف تفسير لكلمة « السنخي ».

قوله ص 95 س 10 وطارئة :

عطف تفسير لكلمة « عرضية ».

قوله ص 95 س 14 ومقوما له :

ص: 333

عطف تفسير لكلمة « ذاتيا ».

قوله ص 96 س 8 وهذا يعني أنهما :

المناسب عدم وضع هذا رأس السطر بل متّصلا بسابقه.

قوله ص 96 س 10 وقد مر عليك في المنطق ... الخ :

قرأنا في المنطق ان الحمل على شكلين : اولي ذاتي وشايع صناعي. والفرق بينهما انه :

أ - تارة يكون المقصود اثبات الاتحاد بين الموضوع والمحمول في عالم المفهوم فكأنه يراد ان يقال : ان الموضوع والمحمول هما مفهوم واحد ، وهذا متداول في باب التعريفات ، فانه حينما يعرّف الانسان ويقال : هو حيوان ناطق يراد اثبات الاتحاد بينهما في عالم المفهوم ، اي يراد ان يقال : ان مفهوم الانسان ومفهوم الحيوان الناطق واحد ، ومثل هذا الحمل يسمى بالحمل الاولي الذاتي.

ب - واخرى يكون المقصود اثبات الاتحاد في عالم الخارج دون المفهوم ، ويسمى الحمل في هذه الحالة بالحمل الشايع الصناعي.

وعلى هذا الاساس يتضح انه بلحاظ الحمل بشكله الاول يمكننا ان نقول الجزئي جزئي اذ لا اشكال في ان مفهوم الجزئي في عالم المفهوم هو عين مفهوم الجزئي فانّ كل مفهوم في عالم المفاهيم يصدق على نفسه والا يلزم سلب الشيء عن نفسه ، ففي عالم المفاهيم الجزئي جزئي والكلي كلي والانسان انسان والنسبة نسبة والكتاب كتاب وهكذا كل شيء هو هو في عالم المفهوم.

واما بلحاظ الحمل بشكله الثاني فلا يصح ان نقول الجزئي جزئي فانه في عالم الخارج ليس مفهوم الجزئي جزئيا بل هو كلي يصدق على كثيرين ، فان كل مفهوم في عالم الخارج ليس هو ذلك المفهوم ، فمفهوم الانسان في عالم الخارج ليس

ص: 334

انسانا ومفهوم الفرس في عالم الخارج ليس فرسا ، ومفهوم الكتاب في عالم الخارج ليس كتابا ، وهكذا.

ومن هنا يتّضح انه يمكننا ان نعبر عن الحمل الاولي بالحمل المفهومي وعن الحمل الشايع بالحمل الخارجي.

وتجلى ايضا ان الجزئي جزئي في عالم المفهوم اي بالحمل الاولي ، وليس جزئيا بل كليا في عالم الخارج اي بالحمل الشايع.

كما واتضح ان مفهوم النسبة والربط نسبة بالحمل الاولي وليس نسبة بالحمل الشايع.

ثم ان الحمل الاولي والحمل الشايع وصفان للحمل ، فالحمل تارة يكون اوليا واخرى شايعا صناعيا.

وهناك مصطلح آخر في الحمل الاولي والشايع قرأناه في المنطق ايضا ، وهو غير ناظر الى الحمل بل الى الموضوع ، فالموضوع مرة يلحظ بالحمل الاولي واخرى بالحمل الشايع ، فمثلا حينما يقال : الفعل لا يخبر عنه قد يشكل ويقال : كيف لا يخبر عنه مع انا اخبرنا عنه الآن بانه لا يخبر عنه؟ والجواب : ان المقصود من الفعل في هذه الجملة هو واقع الفعل ومصداقه - اي الفعل بالحمل الشايع - لا مفهوم الفعل الذي هو مفهوم اسمي ويعبر عنه الفعل بالحمل الاولي.

والحمل الاولي والشايع في هذا المصطلح وصف للموضوع لا للحمل بخلافه في المصطلح الاول فانه وصف للحمل لا للموضوع.

وهناك مصطلح ثالث في الحمل الاولي والشايع يظهر من كلمات السيد الشهيد ص 44 وايضا ص 97 من الحلقة - وقد يرجع الى المصطلح الاول - حيث ذكر ان الصور الذهنية للاشياء هي عين الخارج بنظرة اولى غير فاحصة وهي غير

ص: 335

الخارج بنظرة ثانية فاحصة ، فصورة النار في الذهن هي عين النار الخارجية بنظرة اولى وهي غيرها بنظرة ثانية ، واصطلح على النظرة الاولى بالحمل الاولي ، وعلى النظرة الثانية بالحمل الشايع.

وعبارة الكتاب ناظرة الى المصطلح الاول بقرينة قوله قدس سره « وقد مر عليك في المنطق » حيث انه هو المصطلح الشايع في المنطق ، ولعلها ناظرة الى المصطلح الثالث ايضا بناء على اتحاده مع الاول.

وتكميلا للفائدة نذكر ان المراجع لمنطق المظفر قد يتوهم وجود تناقض في عبارته ، فهو في مبحث العنوان والمعنون يقول : « مفهوم الجزئي اي الجزئي بالحمل الاولي كلي لا جزئي » بينما في مبحث التناقض يقول : « الجزئي جزئي بالحمل الاولي » ، فمرة يقول الجزئي جزئي بالحمل الاولي واخرى يقول الجزئي ليس جزئيا بالحمل الاولي.

وعلى ضوء ما ذكرنا تجلى عدم التناقض ، فالعبارة الاولى ناظرة الى المصطلح الثاني للحمل الاولي : اي الحمل الاولي بلحاظ الموضوع ، ولذا نلاحظ اضافة الحمل الاولي الى الموضوع والاتيان بكلمة « الحمل الاولى » بعد الموضوع مباشرة لا بعد تمام القضية بينما العبارة الثانية ناظرة الى المصطلح الاول ولذا نلاحظ ذكر كلمة « الحمل الاولى » بعد تمام القضية.

البرهنة تفصيلا.
اشارة

قوله ص 96 س 14 وهذا البيان كما يبطل ... الخ :

اتضح من خلال البرهان السابق المركب من النقاط الاربع بطلان اتجاه الآخوند ، واتضح ايضا - وعلى سبيل الاجمال - ان الاتجاه الصحيح هو الاتجاه

ص: 336

الثاني ، ومن اجل ان يتجلى - الاتجاه الثاني - اكثر وتكون خطوطه وتفاصيله اشد وضوحا قام السيد الشهيد بايضاح هذا الاتجاه في مراحل ثلاث :

المرحلة الاولى :
اشارة

وفي هذه المرحلة قام قدس سره باثبات ان الحروف موضوعة لواقع النسبة والربط لا لمفهوم النسبة والربط ، وحاصل ما افاده انا لو وجدنا نارا في الموقد وقلنا : النار في الموقد حصلنا من خلال الجملة المذكورة على مفاهيم ثلاثة هي :

أ - مفهوم النار.

ب - مفهوم الموقد.

ج - مفهوم ثالث يقوم بالربط بين مفهومي النار والموقد.

واذا تأملنا قليلا وجدنا فارقا بين المفهومين الاولين من جهة والمفهوم الثالث من جهة اخرى ، فالمفهومان الاولان نذكرها في الجملة السابقة لكي يحضرا في ذهننا النار والموقد ، ولكن كيف هذا؟ كيف يمكن للمفهوم ان يحضر الشيء الخارجي؟ ان مفهوم النار امر ذهني وصورة ذهنية فكيف يمكنها احضار النار الخارجية؟ ان الجواب عن ذلك تقدم عند شرح ص 44 حيث قلنا : ان الصورة الذهنية للنار هي عين النار الخارجية بنظرة اولى غير فاحصة واستشهدنا على ذلك بمنبه وجداني وهو انا عند تذكر صور مصاب الامام الحسين علیه السلام نأخذ بالحزن والبكاء ، وما ذاك الا من اجل ان تلك الصور نرى بها المصائب التي وقعت في الخارج على الامام علیه السلام .

وما دامت الصورة الذهنية عين الخارج بنظرة اولى غير فاحصة امكن ان نستعملها كوسيلة لاحضار النار الخارجية لنحكم عليها بانها في الموقد.

ص: 337

ومن هذا يتجلى ان لكلمتي « النار والموقد » سنخ مفهوم يحصل الغرض منه - والغرض منه جعله وسيلة لاحضار النار الخارجية والموقد الخارجي ليحكم على النار بانها في الموقد - بكونه عين الخارج بنظرة اولى غير فاحصة اصطلح عليها قدس سره بالحمل الاولي ، هذا كله بالنسبة الى المفهومين الاولين.

واما المفهوم الثالث - اي الذي يقوم بالربط بين النار والموقد - فليس هو مفهوم النسبة والربط ، فان الغرض من احضار هذا المفهوم الثالث هو الربط بين مفهوم النار ومفهوم الموقد ، ومن الواضح ان الربط لا يحصل بواسطة مفهوم الربط والنسبة اذ هذا المفهوم كسائر المفاهيم الاسمية يحتاج هو الى رابط يربط بغيره ، اذن المفهوم الثالث لا بد وان تكون حقيقته عين الربط الخارجي بنظرة حقيقية فاحصة ليمكن بواسطته حصول الربط.

ومن خلال كل ما تقدم تجلى الفرق الاول والجذري بين معنى الاسم ومعنى الحرف ، فالاسم يدل على معنى هو عين الخارج بنظرة اولى غير فاحصة وان كان غير الخارج بنظرة فاحصة ، بينما الحرف يدل على معنى هو عين الربط الخارجي بنظرة فاحصة.

ايجادية الميرزا.

ولعل الميرزا حينما قال بان معاني الحروف ايجادية كان يقصد هذا المعنى فانه نسب له القول بان معاني الاسماء اخطارية وان معاني الحروف ايجادية ، وفسّر هذا في التقرير المطبوع لدرس الميرزا (1) بان معنى النار مثلا ثابت في الذهن قبل التلفظ بلفظ النار ، واللفظ يقوم باخطار ذلك المعنى الثابت في الذهن ، وهذا

ص: 338


1- وهو فوائد الاصول للشيخ محمد علي الكاظمي واجود التقريرات للسيد الخوئي.

بخلافه في الحرف فان معناه ليس ثابتا في الذهن قبل التلفظ به وانما يقوم الحرف بايجاد الربط بين لفظي النار والموقد حين التلفظ به.

وعلى ضوء هذا التفسير للايجادية اشكل على الميرزا بان معنى النار كما انه ثابت في الذهن قبل التلفظ بلفظ النار كذلك النسبة ثابتة قبل التلفظ بكلمة « في » ، وتقوم كلمة « في » باخطارها ، فكلاهما من هذه الناحية اخطاري لا ان معاني الاسماء اخطارية ومعاني الحروف ايجادية.

والسيد الشهيد قدس سره يقول : لعل المقصود من كون معاني الحروف ايجادية ليس هذا المعنى السطحي المذكور في تقرير الميرزا بل لعل المقصود المعنى الذي ذكرناه ، اي ان الحرف يدل على معنى هو عين الحقيقة الخارجية حقيقة وبالنظرة الفاحصة لا انه عين الخارج بالنظرة التصورية الاولى فقط.

المرحلة الثانية :

وفي هذه المرحلة يثبت قدس سره ان كل فرد من النسبة لو قسناه الى فرد ثان من النسبة كانت ذات كل منهما مباينة لذات الآخر ولا يوجد بين الذاتين ماهية واحدة مشتركة لتكون جامعا ذاتيا لهما ، فزيد وعمرو لا يوجد تباين ذاتي بينهما لوجود ماهية مشتركة بينهما تشكل الجامع الذاتي لهما وهي ماهية الانسان بخلاف ذلك في الحجر والانسان فان بينهما مباينة حيث لا يوجد جامع مشترك بينهما ، والمدعى في باب النسبة هو ذلك ، فبين الفردين من النسبة تباين تام ، وعلى سبيل المثال : النسبة في قولنا « النار في الموقد » مع النسبة في قولنا « الكتاب في المحفظة » يتباينان نباينا تاما وليسا فردين من حقيقة واحدة.

اذن المقصود في هذه المرحلة اثبات التباين التام بين الفردين من النسبة

ص: 339

الواحدة ، وبتعبير آخر : اثبات عدم وجود جامع ذاتي بين الفردين من النسبة ، اذ لو لم يكن تباين تام بين النسبتين لكانت بينهما ماهية واحدة مشتركة تشكل الجامع الذاتي المشترك بينهما.

وقبل ان نقيم الدليل على هذه الدعوى نطرح السؤال التالي : متى تتعدد النسبتان بحيث نحصل على فردين من النسبة؟ والجواب : ان النسبة تتكثر باختلاف اطرافها ، فالنار والموقد طرفان للنسبة ، والكتاب والمحفظة طرفان للنسبة ايضا ، وحيث ان ذينك الطرفين غير هذين الطرفين تتعدد النسبة فنحصل على فردين منها ، فتكثر النسبة اذن بتكثر اطرافها ، ولكن بم تتكثر الاطراف؟ ان تكثر الاطراف يحصل مرة باختلافها اختلافا حقيقيا كما في مثل « الموقد والنار » و « الكتاب والمحفظة » ، ويحصل اخرى باختلافها موطنا وان لم تختلف حقيقة كما في قولنا « النار في الموقد » ، فان هذه النسبة في الخارج تختلف عن النسبة في ذهن المتكلم ، والنسبة في ذهن المتكلم تختلف عن النسبة في ذهن السامع ، وهذا الاختلاف لم ينشأ من الاختلاف في الاطراف حقيقة بل عن اختلاف موطن الاطراف.

وبعد تجلي هذا نرجع الى صلب الموضوع : وهو اقامة الدليل على التباين الذاتي بين افراد النسبة وعدم وجود جامع ذاتي بينها ، ان الدليل على ذلك يتركب من خطوات ثلاث هي :

1 - ان الجامع بين الافراد على قسمين ، فتارة يكون جامعا ذاتيا واخرى يكون جامعا عرضيا ، والجامع الذاتي عبارة عن المقومات الذاتية ، فالجامع الذاتي بين زيد وعمرو هو الحيوان الناطق حيث انه المقوم الذاتي لهما ، اما الجامع العرضي فهو الامر الخارج الذي يجمع بين الفردين كالابيض الذي هو شيء

ص: 340

خارج عن حقيقة زيد وعمرو ولكنه جامع يجمعهما ، وحديثنا في هذا المقام يرتبط.

بالجامع الذاتي الذي هو عبارة عن المقومات الذاتية.

2 - لو اردنا الحصول على الجامع الذاتي بين الشيئين فاللازم الغاء الفوارق وما به يمتاز احدهما عن الآخر ، وما يتبقى بعد طرح ما به الامتياز يكون هو الجامع الذاتي بين الشيئين ، فاذا اردنا الحصول على الجامع الذاتي بين زيد وعمرو طرحنا المشخصات الفردية التي بها يمتاز احدهما عن الآخر ، وما يتبقى - وهو المقومات الذاتية التي هي الحيوان والناطق - هو الجامع الذاتي.

3 - واذا اردنا في المقام الحصول على الجامع الذاتي بين النسبتين فلا بد من طرح ما به تمتاز احداهما عن الاخرى ، ومن الواضح ان ما به امتياز النسبتين ليس الاّ الطرفين اللذين هما بنفسهما المقوم الذاتي لكل نسبة ، فاذا اردنا طرحهما فمعنى ذلك انا طرحنا المقومات الذاتية وبالتالي لا يبقى عندنا شيء ليكون الجامع الذاتي.

وبهذا يثبت ان الجامع الذاتي بين النسب - او قل الاشتراك في ماهية واحدة - غير موجود (1). ويثبت ايضا ان كل نسبة تباين النسبة الاخرى من حيث ذاتها ، وهو المطلوب ، اجل الجامع الذاتي بين النسب وان كان متعذرا الا ان الجامع العرضي ممكن وثابت وهو مفهوم النسبة ، فان مفهوم النسبة جامع عرضي بين افراد النسبة.

ص: 341


1- وممن اختار ذلك الشيخ الاصفهاني في كتابه « الاصول على النهج الحديث » ص 25 خلافا للشيخ العراقي في بدايع الافكار س 57 حيث ذهب الى وجود الجامع الذاتي.
المرحلة الثالثة :
اشارة

وفي هذه المرحلة يثبت قدس سره ان الوضع في باب الحروف هو من قبيل الوضع العام والموضوع له الخاص وليس من قبيل الوضع العام والموضوع له العام كما اختاره الآخوند.

والوجه في ذلك ان الوضع العام والموضوع له العام لا يمكن الا اذا كان هناك جامع ذاتي بين الافراد ليوضع اللفظ لذلك الجامع الذاتي ، كما هو الحال في افراد الانسان ، فانه يوجد جامع ذاتي بينها وهو الحيوان الناطق ، فاذا تصورنا هذا الجامع الذاتي ووضعنا اللفظ له كان الوضع عاما حيث تصورنا معنى عاما وكان الموضوع له عاما ايضا حيث وضعنا اللفظ لذلك المعنى العام الذي تصورناه ، وفي مقامنا حيث لا يوجد جامع ذاتي بين افراد النسبة فالحروف لا تكون موضوعة له بل هي موضوعة للافراد الخاصة من النسبة ، ولكن حيث لا يمكننا تصور جميع افراد النسبة الابتدائية مثلا لنضع لها كلمة « من » فلا بد وان نتصور مفهوما عاما - يحكي عن تلك الافراد ليمكننا بواسطته تصور تلك الافراد اجمالا وبنحو ما - كمفهوم النسبة الابتدائية ونضع كلمة « من » بازاء افرادها فيكون الوضع عاما حيث تصورنا معنى عاما وهو مفهوم النسبة الابتدائية والموضوع له خاصا حيث وضعنا كلمة « من » بازاء الافراد الخاصه.

خصوصية الموضوع له.

اذن الوضع في الحروف عام والموضوع له خاص ، ولكنا نستدرك ونقول : قد يتوهم ان المقصود من كون معاني الحروف خاصة وجزئية انها جزئية بالمعنى المنطقي ، اي هي لا تقبل الصدق على كثيرين ، بيد انه توهم فاسد ، حيث نرى

ص: 342

بالوجدان ان معاني الحروف تنطبق على كثيرين ، فلو قلت « سر من البصرة » حصل الامتثال بالسير من اي نقطة من نقاط البصرة ، وهذا دليل واضح على ان معنى كلمة « من » ليس جزئيا والاّ فكيف يصدق الامتثال بالسير من اي نقطة من نقاط البصرة.

اذن ليس المراد من كون معاني الحروف جزئية انها جزئية بمعنى عدم الصدق على كثيرين بل هو بمعنى تقوّم كل نسبة بطرفيها ، فالنسبة في قولنا « النار في الموقد » جزئية بمعنى انها غير النسبة في قولنا « الكتاب في المحفظة » باعتبار تقوّم تلك بطرفين يغايران طرفي هذه.

خصائص ثلاث للمعنى الحرفي.

والخلاصة من كل ما تقدم ان للمعنى الحرفي خصائص ثلاث ، فهو اولا سنخ معنى يكون عين الربط الخارجي بالنظر التدقيقي على خلاف المعاني الاسمية فانها عين الخارج بالنظر غير التدقيقي ، وقد تكلفت المرحلة الاولى الاشارة الى هذه الخصوصية.

وهو ثانيا تتباين افراده من حيث الذات والحقيقة ولا يوجد بينها جامع ذاتي ، وقد تكلفت المرحلة الثانية الاشارة الى هذه الخصوصية.

وهو ثالثا موضوع بالوضع العام والموضوع له الخاص ، وقد تكلفت المرحلة الثالثة الاشارة الى هذه الخصوصية.

هذه هي المعالم الاساسية للاتجاه الثاني في المعنى الحرفي ، ولاجل ايضاحها تعرض السيد الشهيد قدس سره الى المراحل الثلاث.

ص: 343

قوله ص 97 س 12 لما تقدم :

اي ص 44.

قوله ص 98 س 12 يري الحقيقة :

اي الربط الخارجي.

قوله ص 98 س 12 تصوّرها :

الصواب : تصورا.

قوله ص 99 س 13 على بعض :

الصواب : عن بعض.

قوله ص 100 س 3 فما يحفظ من حيثية بعد الغاء ... الخ :

في العبارة شيء من الابهام حيث توهم انه بعد الغاء الطرفين يبقى شيء ولكنه لا يصلح لان يكون جامعا ذاتيا ، وهذا غير مقصود جزما بل المقصود انه بعد الغاء الطرفين لا يبقى شيء ليكون جامعا ذاتيا.

قوله ص 100 س 5 النسب :

الصواب : النسبة.

قوله س 100 س 8 اثبت المحققون :

كالشيخ الاصفهاني في نهاية الدراية ج 1 ص 18 والاصول على النهج الحديث ص 25.

هيئات الجمل.

قوله ص 101 س 3 كما ان الحروف موضوعة للنسبة ... الخ :

استيضاح هذا البحث يتوقف على استذكار مقدمات ثلاث هي :

ص: 344

1 - ان لكل كلام صادر من اي متكلم ثلاث دلالات ، فلو سمعنا شخصا يقول « الاسلام حق » خطر لذهننا معنى الاسلام ومعنى الحق ، وهذا الخطور يحصل حتى لو كان المتكلم نائما بل ولو حصلت الجملة المذكورة من اصطكاك حجرين ، ويسمى الخطور المذكور بالدلالة التصورية ، فالدلالة التصورية اذن هي خطور المعنى وتصوره عند سماع اللفظ.

ولو فرض ان الجملة السابقة صدرت من متكلم غير نائم كانت دالة على ان المتكلم قد قصد اخطار معناها للذهن ، ودلالة الكلام على قصد الاخطار يسمى بالدلالة التصديقية الاولى ، وهذه الدلالة لا تحصل فيما اذا صدرت الجملة المذكورة من نائم او من اصطكاك حجرين - بخلافه في الدلالة التصورية - اذ النائم لا يدل الكلام الصادر منه على قصده اخطار المعنى.

وبعد ان ثبت كون الجملة الصادرة من غير النائم تدل على قصده اخطار معناها لذهن السامع يبقى ان نعرف ما هو الغرض من قصد المتكلم لاخطار المعنى فهل هو يقصد اخطار المعنى لا لغرض سوى اخطار المعنى او له غرض آخر؟ والجواب : ان المتكلم يقصد اخطار المعنى لاجل الاخبار والحكاية عن ذلك المعنى ، ودلالة الكلام على ان المتكلم قد قصد من اخطاره المعنى الاخبار والحكاية ولم يكن هازلا تسمى بالدلالة التصديقية الثانية ، وهذه الدلالة لا تحصل الا اذا كان المتكلم جادا غير هازل بخلافه في الدلالة التصديقية الاولى فانها تثبت في حق الهازل ايضا ، اذ الهازل قاصد لاخطار معنى الجملة ولكن لا لغرض الحكاية والاخبار عن جد.

واذا اتضحت هذه الدلالات الثلاث يبقى ان نعرف المنشأ لحصول هذه الدلالات.

ص: 345

اما بالنسبة للدلالة التصورية فسببها الوضع ، فان اللفظ لما كان موضوعا للمعنى صار سماعه موجبا لخطور المعنى وان صدر من اصطكاك حجرين ، ومن هنا قيل ان الدلالة الناشئة من الوضع هي الدلالة التصورية.

واما بالنسبة الى الدلالتين الاخيرتين فقد ذكر السيد الخوئي دام ظله ان سببهما هو الوضع - ببيان يأتي - بينما المشهور والسيد الشهيد قالوا ان السبب ليس هو الوضع بل الظهور الحالي السياقي ، فان كل متكلم اذا تكلم بكلام فظاهر حاله انه يقصد اخطار معناه ، كما وان ظاهر حاله ايضا كونه قاصدا اخطار المعنى لغرض الاخبار عن جد ، ولاجل هذا الظهور تنشأ الدلالتان التصديقيتان.

2 - اختلف في تفسير حقيقة الوضع ، فالمشهور قالوا بانه عبارة عن تخصيص اللفظ بالمعنى وعلى تعبير السيد الشهيد عبارة عن القرن بين اللفظ والمعنى ، وفي مقابل ذلك اختار السيد الخوئي دام ظله ان الوضع عبارة عن التعهد فلو سميت ولدي عليا فانا متعهد باني لا اتلفظ بكلمة « علي » الا اذا كنت قاصدا ولدي.

ولازم الوضع بتفسيره الاول ان يكون سماع اللفظ موجبا لخطور المعنى وان صدر من نائم ، اذ ذاك مقتضى تخصيص اللفظ بالمعنى وقرنه به ، بينما لازم الوضع بتفسير السيد الخوئي ان يكون اللفظ دالا على قصد المتكلم اما للاخطار او للاخبار ، وبتعبير آخر تكون الدلالة الناشئة من الوضع هي الدلالة التصديقية الاولى او الثانية.

3 - ان الجملة على قسمين ، فمرة تكون تامة واخرى ناقصة ، والتامة هي المشتملة على نسبة تامة يصح السكوت عليها كجملة « زيد قائم » ، بينما الناقصة هي الجملة المشتملة على نسبة ناقصة لا يصح السكوت عليها كجملة « قيام

ص: 346

زيد » (1).

وقد يطرح هذا السؤال ويقال كيف صارت النسبة في قولنا « زيد قائم » تامة بينما اصبحت في قولنا « قيام زيد » ناقصة مع انه في عالم الخارج لا يختلف حال نسبة القيام لزيد بين ان نقول « زيد قائم » او « قيام زيد » ، اذ اتصاف زيد بالقيام في الخارج هو بشكل واحد لا يختلف في الحالتين؟ والجواب : انه في جملة « زيد قائم » تأتي نفس النسبة الى الذهن ، اي يأتي الطرفان - وهما زيد والقيام - وبتبع مجيئهما الى الذهن تاتي النسبة اليه ايضا ، وهذا بخلافه في جملة « قيام زيد » فان نفس النسبة لا تأتي الى الذهن ، اذ القيام وزيد لم يلحظا طرفين حتى تحصل نسبة بينهما بل لو حظا شيئا واحدا ، وواضح ان الشيء الواحد ليس فيه نسبة لانها فرع وجود شيئين ، اجل ان قيام زيد وان لوحظ شيئا واحدا اندمج فيه القيام بزيد ولكنه بالتحليل ينحل الى القيام وزيد والنسبة ، فالنسبة اذن ثابتة في جملة « قيام زيد » ولكنه ثبوت تحليلي ومستتر بخلافه في جملة « زيد قائم » فان النسبة ثابتة فيها ثبوتا صريحا.

وعلى هذا تكون تمامية النسبة ناشئة من لحاظ زيد وقائم طرفين غير مندمجين ، ولازمه مجيء النسبة الى الذهن مجيئا صريحا ، واما نقصان النسبة فهو ناشىء من ملاحظة الطرفين مندمجين وكانهما شيء واحد ، ولازمه كون النسبة غير ثابتة ثبوتا صريحا.

وبعد هذه المقدمات الثلاث - التي مرت في الحلقة الاولى والثانية - نعود لا يضاح البحث ، وحاصله : مرّ ان الحروف تدل على النسبة ، والآن نقول كما ان

ص: 347


1- سيأتي في المبحث التالي اي ص 102 من الحلقة التعرض للفرق بين الجملة التامة والناقصة.

الحروف تدل على النسبة كذلك هيئات الجمل تدل على النسبة ، فهيئة جملة « زيد قائم » تدل على نسبة القيام لزيد ، بيد انه اذا كانت الجملة تامة مثل « زيد قائم » فهيئتها تدل على نسبة تامة بينما اذا كانت ناقصة مثل « قيام زيد » فهي تدل على نسبة ناقصة.

هذا ولكن السيد الخوئي دام ظله اختار ان هيئة الجملة التامة تدل على قصد الاخبار الذي هو المدلول التصديقي الثاني ، وهيئة الجملة الناقصة تدل على قصد الاخطار الذي هو المدلول التصديقي الاول ، والسبب فيما ذكره ناشىء من تفسيره للوضع ، حيث يرى انه عبارة عند التعهد ، ولازم التعهد كما مر ان يكون اللفظ دالا على القصد.

والصحيح ان الوضع لا يدل على القصد - اي لا يدل على المدلول التصديقي الاول او الثاني - بل هو يدل على المدلول التصوري ، اي يوجب الاخطار فقط ، واما الدلالتان التصديقيتان فهما لا ينشئان من الوضع بل من الظهور الحالي السياقي كما تقدم.

قوله ص 101 س 10 او الطلب :

عطف على « الحكاية » ، اي وهو قصد الحكاية فيما اذا كانت الجملة خبرية ، او قصد الطلب - وجعل الحكم - فيما اذا كانت الجملة انشائية ، وقوله « وجعل الحكم » عطف تفسير على « الطلب ».

قوله ص 101 س 11 وهكذا :

اي مثل قصد التمني او الترجي او الاستفهام او غير ذلك من اقسام الانشاء ، فان للانشاء اقساما متعددة احدها الطلب.

قوله ص 101 س 13 الذي يقتضي ان تكون الدلالة الوضعية تصديقية :

ص: 348

لان التعهد معناه قصد المعنى عند الاتيان باللفظ ، فقصد المعنى مأخوذ ضمن الوضع والوضع يفيدنا قصد المعنى.

قوله ص 101 س 13 والمدلول الوضعي تصديقيا :

عطف تفسير على « الدلالة الوضعية تصديقية ».

الجملة التامة والجملة الناقصة.

قوله ص 102 س 4 ولا شك في الفرق بين الجملة التامة ... الخ :

كلنا يشعر بالوجدان بوجود فرق بين الجملة التامة مثل « زيد قائم » والجملة الناقصة مثل « قيام زيد » ، ولكن ما هو هذا الفرق الذي نشعر به بالوجدان؟ والسيد الخوئي قدس سره الذي يرى ان الوضع عبارة عن التعهد - اي التعهد بارادة تفهيم المعنى عند الاتيان باللفظ - تكون الدلالة الناشئة من الوضع على رأيه هي قصد اخطار المعنى او قصد الحكاية (1) ، وعلى ضوء ذلك فرّق دام ظله بين الجملة التامة والناقصة ، فالجملة التامة موضوعة عنده لقصد الاخبار بينما الجملة الناقصة موضوعة لقصد الاخطار ، فزيد قائم موضوع لقصد الاخبار عن ثبوت القيام لزيد بينما قيام زيد موضوع لقصد اخطار قيام زيد.

واما بناء على رأي المشهور القائل بان الوضع عبارة عن تخصيص اللفظ بالمعنى او القرن بينهما فهو لا يفيد الاّ خطور المعنى عند سماع اللفظ - ويعبر عن الخطور بالدلالة التصورية - ولا يفيد القصد فكيف اذن نفسر الفرق بين الجملة

ص: 349


1- ويسمى اصل القصد بالمدلول التصديقي ، ويسمى قصد الاخطار بالمدلول التصديقي الاول بينما قصد الحكاية يسمى بالمدلول التصديقي الثاني ، اذن المدلول التصديقي يساوي القصد ، ويمكنك بدل كلمة « المدلول التصديقي » ان تعبر بالقصد.

التامة والناقصة؟ ان في الفرق احتمالين :

1 - ان تكون كلتا الجملتين - كجملة « زيد قائم » وجملة « قيام زيد » موضوعة لنسبة القيام لزيد ، ولا فرق بينهما من هذه الناحية ، اي من ناحية المعنى الموضوع له ، وانما الفرق بينهما من ناحية القصد ، اي المدلول التصديقي ، فنحن نقصد بجملة « زيد قائم » الاخبار عن ثبوت القيام لزيد بينما في جملة « قيام زيد » نقصد اخطار قيام زيد.

وباختصار : لا فرق بينهما من ناحية المدلول التصوري - اي المعنى الموضوع له وهو النسبة - بل من ناحية المدلول التصديقي وهو القصد.

وهذا الاحتمال باطل ، اذ لو كانت كلتا الجملتين موضوعة لنسبة واحدة وهي نسبة القيام لزيد فلماذا لا يصح ان نقصد الاخبار بجملة « قيام زيد » بينما يصح قصده بجملة « زيد قائم »؟ ان صحة قصد الاخبار بهذه الجملة وعدم صحته بتلك دليل على ان المعنى الموضوع له في كلتا الجملتين ليس واحدا.

2 - ان تكون كلتا الجملتين موضوعة للنسبة ولكن جملة « زيد قائم » موضوعة للنسبة التامة وجملة « قيام زيد » موضوعة للجملة الناقصة فالاختلاف على هذا الاساس يكون في المعنى الموضوع له ، اي في المدلول التصوري ، لكن يبقى السؤال عن الفرق بين النسبة التامة والنسبة الناقصة؟

ان الفرق بينهما قد تجلى خلال البحث السابق ، فتمامية النسبة - في قولنا « زيد قائم » - تنشأ من مجيئها الى الذهن وهي ظاهرة وبارزة ، وما ذاك الاّ من اجل ان طرفيها يأتيان الى الذهن وهما طرفان ، ومع توجه الطرفين الى الذهن وهما طرفان فمن اللازم ثبوت النسبة في الذهن وهي بارزة ، وهذا بخلافه في النسبة الناقصة - كقولنا « قيام زيد » - فان نقصانها ينشأ من مجيئها الى الذهن

ص: 350

وهي مستترة غير بارزة لان طرفيها لا يأتيان الى الذهن وهما طرفان بل بما هما طرف واحد ، فقيام زيد مثلا مفهوم واحد في الذهن ، ومع كونه مفهوما واحدا كيف تظهر النسبة بين القيام وزيد ، اجل بعد تحليل هذا المفهوم الواحد الى القيام وزيد تحصل النسبة بينهما والاّ فهي قبل ذلك مستترة وتحليلية.

وان شئت قلت : ان تمامية النسبة ونقصانها من شؤون عالم الذهن لا الخارج ، اذ النسبة تصير تامة حينما تصاغ الجملة من مبتدأ وخبر مثل « زيد قائم » ، وتصير ناقصة حينما تصاغ من صفة وموصوف او من مضاف ومضاف اليه مثل « زيد القائم » او « قيام زيد » ، ومن الواضح ان كون الشيء مبتدأ وخبرا او مضافا ومضاف اليه ليس امرا خارجيا فان ثبوت القيام لزيد في الخارج لا يكون مرة مبتدأ وخبرا واخرى مضافا ومضافا اليه بل هو بشكل واحد لا يختلف وانما الاختلاف هو في عالم الذهن ، ففي الذهن تارة يكون الشيء مبتدأ وخبرا واخرى مضافا ومضافا اليه ، وطبيعي مع كون الجملة مبتدأ وخبرا في الذهن تصير النسبة في الذهن ظاهر وبارزة فتكون تامة بينما لو كانت الجملة في الذهن مضافا ومضافا اليه لا تكون النسبة ظاهرة وبارزة فتصير ناقصة.

قوله ص 102 س 5 في المعنى الموضوع له :

الأنسب حذف هذه العبارة لانه سيأتي منه قدس سره ابراز احتمال عدم الفرق في المعنى الموضوع له ، ومعه فيكون قوله هنا « لا شك في الفرق بين الجملة التامة والناقصة في المعنى الموضوع له » فيه شيء من التهافت.

قوله ص 102 س 7 ميز بينها :

المناسب ميز بينهما.

ص: 351

قوله ص 102 س 7 كما تقدم في الحلقة السابقة :

بل وفي البحث السابق ايضا.

قوله ص 102 س 11 والمدلول التصوري :

المدلول التصوري والمعنى الموضوع له شيء واحد وهكذا المدلول التصديقي والقصد.

قوله ص 102 س 15 هي بنفسها :

اي من دون تقسيمها الى ناقصة وتامة كما هو الحال على الاحتمال الثاني.

قوله ص 103 س 3 في المدلول التصوري :

اي في المعنى الموضوع له.

وله ص 103 س 11 وتكون النسبة في الذهن تامة :

اي اذن النسبة تكون تامة في عالم الذهن لا في الخارج ، ولكن متى تكون في الذهن تامة؟ انها تكون في الذهن تامة فيما اذا جاءت الى الذهن ووجدت فيه بما هي نسبة.

قوله ص 103 س 12 واما اذا جاءت :

الصواب : حذف كلمة « واما » ، والمناسب ان لا توضع هذه الجملة رأس السطر بل توضع متصلة بالسطر السابق ، اي الصواب في العبارة هكذا : وتكون النسبة في الذهن تامة اذا جاءت الى الذهن ... الخ.

قوله ص 103 س 14 وتكون النسبة ناقصة :

هذا عدل لقوله « وتكون النسبة في الذهن تامة ».

قوله ص 103 س 15 تدمج :

اي النسبة تدمج المضاف بالمضاف اليه وتجعلهما شيئا واحدا.

ص: 352

قوله ص 103 س 15 وتكون :

بضم التاء وتشديد وكسر الواو.

قوله ص 104 س 1 صقع :

اي مكان.

قوله ص 104 س 1 الظاهر :

التعبير بالظاهر اشارة الى انه في الظاهر ليس لها وجود في الذهن ، ولكن بعد التحليل لها وجود.

قوله ص 104 س 1 وانما هي مستمرة وتحليلية :

الصواب : وانما هي مستترة وتحليلية.

قوله ص 104 س 2 ومن هنا قلنا سابقا :

اي في الحلقة الاولى ص 102.

الجملة الخبرية والانشائية.

قوله ص 104 س 5 وتنقسم الجملة التامة ... الخ :

تحدثنا فيما سبق عن الفرق بين الجملة التامة والناقصة ، والآن نتحدث عن الفرق بين الجملة الانشائية والخبرية فمثلا جملة « بعت داري » قد تستعمل في مقام الانشاء وقد تستعمل في مقام الاخبار.

والسؤال المطروح : ما الفرق بين « بعت » الانشائية و « بعت » الخبرية؟ ان اصل وجود الفرق بينهما مسلّم ولكن ما هو؟ وفي الجواب ذكر قدس سره ثلاثة فروق :

1 - ما ذهب اليه الآخوند قدس سره من ان « بعت » الخبرية والانشائية

ص: 353

موضوعتان لمعنى واحد وهو البيع - او فقل نسبة البيع الى البايع - ولكن في مقام الاستعمال تارة يقصد ايجاد البيع واخرى يقصد الاخبار عنه ، وعليه فالفرق هو من ناحية القصد - الذي يعبر عنه بالمدلول التصديقي - والاّ فمن ناحية المعنى الموضوع له - الذي يسمى بالمدلول التصوري وهو البيع او نسبة البيع الى البايع - لا فرق.

ويرد عليه ما تقدم في الحلقة الاولى ص 109 من ان هذه التفرقة لو تمت فهي تتم فيما لو كان لفظ الجملة الانشائية والخبرية واحدا مثل كلمة « بعت » ، اما اذا كان مختلفا مثل « أعد » و « اعاد » فلا يمكن ان يكون الفرق من ناحية القصد فقط ، اذ نشعر بالوجدان بوجود الفارق بينهما حتى لو قطعنا النظر عن القصد.

2 - ان يقال بان « بعت » الانشائية موضوعة لايجاد التمليك بينما « بعت » الخبرية موضوعة للاخبار عن التمليك ، فكلتاهما موضوعة للتمليك ولكن تلك وضعت للدلالة على ايجاده وهذه وضعت للدلالة على الاخبار عنه ، فالاختلاف بينهما ليس في اصل الوضع للتمليك - فان كليتهما موضوعة للتمليك - بل في كيفية الدلالة عليه.

وبكلمة اخرى : انهما يختلفان في المدلول التصوري - اي المدلول الوضعي - ولكن لا في اصله بل في الدلالة عليه ، فذات المدلول التصوري واحدة وهي التمليك الاّ ان احدهما موضوع للدلالة على ايجاده والآخر للدلالة على الاخبار عنه.

وبكلمة ثالثة : ان المعنى الموضوع له على الرأي الاول هو التمليك فقط بينما على هذا الرأي هو الاخبار عن التمليك او ايجاد التمليك ، فالتمليك على الراي الاول هو تمام المعنى الموضوع له بينما على الثاني هو جزءه والجزء الثاني هو الايجاد

ص: 354

او الاخبار.

وبهذا يتضح : كما ان الحروف لها معاني ايجادية اي توجد الربط بين « سرت » و « البصرة » مثلا كذلك كلمة « بعت » الانشائية لها معنى ايجادي ، فهي توجد التمليك ، اجل الحروف توجد الربط في مرحلة الكلام بينما « بعت » الانشائية توجد اعتبار التمليك الذي هو امر قائم في نفس المتعاقدين.

ويرده : ان حصيلة هذا الوجه للفرق يرجع الى ان كلمة « بعت » الانشائية موضوعة لايجاد التمليك بخلاف « بعت » الخبرية فانها موضوعة للاخبار عنه ، ونحن في مقام الجواب نسأل عن المراد من التمليك الذي وضعت كلمة « بعت » الانشائية لايجاده ، فان فيه ثلاثة احتمالات :

أ - ان يراد به اعتبار البايع والمشتري للملكية في قلبهما ، فان البايع حينما يقول « بعت » يعتبر الملكية في قلبه وهكذا المشتري حينما يقول « اشتريت » يعتبر الملكية في قلبه ، والمراد من التمليك في هذا الاحتمال الاعتبار النفساني القائم في قلب المتعاقدين.

ب - ان يراد به اعتبار الشارع للملكية ، فانه حينما يقول البايع « بعت » والمشتري « اشتريت » يعتبر الشارع ملكية البايع للثمن وملكية المشتري للمثمن ، وعليه فالمراد من التمليك في هذا الاحتمال اعتبار الشارع للملكية بعد صدور كلمتي « بعت » و « اشتريت ».

ج - ان يراد به اعتبار العقلاء للملكية ، فبعد « بعت » و « اشتريت » يعتبر العقلاء الملكية ، وعليه فالمراد من التمليك الاعتبار العقلائي للملكية.

وعلى تقدير جميع هذه الاحتمالات الثلاثة في المراد من التمليك - الاعتبار النفساني في نفس المتعاقدين ، الاعتبار الشرعي ، الاعتبار العقلائي - لا يصح ما

ص: 355

ذكر من وضع كلمة « بعت » الانشائية لايجاد التمليك.

اما اذا كان المقصود وضع كلمة « بعت » لايجاد التمليك النفساني القائم في نفس المتعاقدين فلأن من الواضح لدى كل انسان حينما يقول البايع « بعت » لا تكون كلمة « بعت » هي الموجدة لاعتبار الملكية في قلبه بل هو اعتبر الملكية اولا ثم يقول « بعت » فكلمة « بعت » مبرزة لاعتبار التمليك القائم في قلبه وليست هي الموجدة له.

واما اذا كان المقصود احد الاحتمالين الاخيرين - اي وضع كلمة « بعت » لايجاد اعتبار التمليك الشرعي او العقلائي - فلأن الشارع او العقلاء وان كانوا يعتبرون الملكية بعد صدور « بعت » و « اشتريت » ولكن من الواضح انهم يعتبرونها فيما اذا استعملت كلمة « بعت » في معناها الموضوع له وكان البايع والمشتري قاصدين لمعناها ، فالشارع او العقلاء لا يعتبرون الملكية الاّ بشرطين : استعمال كلمة « بعت » في معناها وقصد ذلك المعنى على نحو الجد لا الهزل ، وعليه فلا بد وان يكون لكلمة « بعت » معنى متى ما استعملت فيه اعتبر الشارع او العقلاء الملكية لا ان نفس اعتبار العقلاء والشارع للملكية هو معنى كلمة « بعت » فان الاعتبار المذكور اثر لاستعمال كلمة « بعت » في معناها وليس هو نفس معناها ، ومن هنا فنحن نسأل عن ذلك المعنى لكلمة « بعت ».

3 - وهذا الفرق هو الصحيح وهو ما اشير له في الحلقة الاولى ص 108 - 109 ، وحاصله ان كلمة « بعت » الانشائية موضوعة للبيع - وان شئت فقل لنسبة البيع الى البايع - وهكذا كلمة « بعت » الخبرية موضوعة للبيع ايضا الاّ ان « بعت » الانشائية موضوعة للبيع منظورا له بما انه شيء يراد ايجاده وتحقيقه بينما « بعت » الخبرية موضوعة للبيع منظورا له بما انه شيء متحقق ومفروغ عنه.

ص: 356

والفرق بين هذا الوجه وسابقه انه في السابق كان ذات المدلول الوضعي واحدا والاختلاف ليس الاّ في كيفية الدلالة عليه بخلافه في هذا الوجه ، فان الاختلاف في ذات المدلول الوضعي - وليس في كيفية الدلالة عليه - فهو في احدى الجملتين البيع بما هو متحقق وفي الاخرى البيع بما هو يراد تحقيقه.

توجيه كلام مشهور.

وهناك كلام مشهور يقول ان الجمل الانشائية ايجادية بخلاف الجمل الخبرية فانها خبرية ، وقد يتخيل ان ايجادية الجمل الانشائية تعني وضع كلمة « بعت » مثلا لايجاد التمليك فهي توجد التمليك ، وهذا التخيل باطل على ما ذكرنا سابقا (1) ، بل المناسب ان يراد من كونها ايجادية انها تدل على البيع منظورا له بما انه شيء يراد ايجاده.

قوله ص 104 س 13 فقد يكون المدلول التصوري واحدا :

وهو البيع او قل نسبة البيع الى البايع ، والمراد من المدلول التصوري هو المدلول الوضعي.

قوله ص 105 س 5 مع فارق الايجاديتين :

المناسب : مع فارق بين الايجاديتين.

قوله ص 105 س 7 بالكلام :

اي بسبب الكلام.

ص: 357


1- من ان التمليك اما اعتبار نفساني او شرعي او عقلائي ، وعلى تقدير الجميع لا يمكن وضع كلمة « بعت » لايجاده.

قوله ص 105 س 11 اعتبار تشريعي :

ليس المراد من تشريعي : شرعي ، الذي هو الاحتمال الثاني في المقصود من التمليك ، بل المراد : قانوني.

قوله ص 105 س 13 الاول :

بالرفع : نائب فاعل لقوله « اريد ».

قوله ص 106 س 1 وكشفه عن مدلوله التصديقي :

المدلول التصديقي هو القصد ، اي بعد استعمال كلمة « بعت » في معناها وبعد كشف الاستعمال المذكور عن قصد المتعاقدين لمعنى « بعت » و « اشتريت ».

الثمرة :

قوله ص 107 س 1 قد يقال ان من ثمرات ... الخ :

كثيرا ما يقع التساؤل : ما هي ثمرة هذا المبحث - المعنى الحرفي - الجاف المعقد؟ قيل ان الثمرة تظهر فيما لو قلنا بان معاني الحروف جزئية خلافا لاتجاه صاحب الكفاية القائل بان معاني الحروف كلية ، فالحروف اذا كانت معانيها جزئية وخاصة بحيث كانت موضوعة بالوضع العام والموضوع له الخاص فلا تكون قابلة للتقييد ولا الاطلاق ، فان القابل للاطلاق والتقييد هو الكلي واما الجزئي فهو ضيّق في نفسه فلا يقبل التضييق من جديد ، واذا لم يكن الجزئي قابلا للتقييد فلو قال المولى مثلا : صل ان زالت الشمس لم يكن قيد الزوال - اي ان زالت الشمس - راجعا الى الوجوب الذي هو مفاد الهيئة ، اذ مفاد هيئة « صل » وهو الوجوب جزئي حسب الفرض (1) ، والجزئي لا يقبل التقييد فيلزم رجوع قيد

ص: 358


1- لا تقل : ان الهيئة ليست حرفا ، والمفروض ان كلامنا في معاني الحروف ، فانه يقال : ان مقصودنا من المعنى الحرفي في المصطلح الاصولي كل نسبة سواء كانت مفادا للحرف او الهيئة كما تقدم.

الزوال الى مفاد المادة وهو الصلاة فيصير المعنى هكذا : الصلاة المقيدة بالزوال واجبة ، فالوجوب يكون مطلقا وفعليا قبل الزوال ايضا ، ويكون الواجب وهو الصلاة معلقا على الزوال ، فانت الآن تجب عليك صلاة الظهر ليوم غد وما بعد غد لان الزوال ليوم غد وان لم يأت بعد الا انه ليس شرطا للوجوب حتى لا يثبت الوجوب قبل حلوله ، اذ الفرض ان الوجوب مفاد للهيئة ومفاد الهيئة جزئي والجزئي لا يقبل التقييد ، وهكذا يقال في جميع الواجبات الاخرى ، فالشرط فيها لا يرجع الى الوجوب بل الى الواجب ، ويعبر عن مثل هذا الواجب - الذي يكون الوجوب فيه فعليا والواجب معلقا - بالواجب المعلق.

والشيخ الاعظم ذهب الى هذا الرأي وقال : ان القيود لا ترجع الى مفاد الهيئة لانه جزئي والجزئي لا يقبل التقييد ، ومن هنا انكر الوجوب المشروط وقال : انه لا يوجد وجوب مشروط ابدا بل الوجوب في جميع الواجبات مطلق والواجب هو المعلق على الشرط.

وباختصار : بناء على كون المعنى الحرفي جزئيا يلزم انكار الوجوب المشروط وصيرورة الوجوب في جميع الواجبات مطلقا والواجب معلقا.

هذه هي ثمرة البحث عن المعنى الحرفي.

ويرد عليها : ليس المقصود من كون المعاني الحرفية جزئية انها جزئية بالمعنى المنطقي اي بمعنى « ما لا يصدق على كثيرين » بل هي جزئية بمعنى ان النسبة في قولنا « سرت من البصرة » هي نسبة متقومة بالسير والبصرة ، وهي مغايرة للنسبة في قولنا « سرت من الكوفة » ، فهذه النسبة المتقومة بهذين الطرفين مغايرة

ص: 359

للنسبة المتقومة بذينك الطرفين ، فجزئية المعنى الحرفي اذن هي جزئيه بهذا المعنى ، وهذا لا ينافي كونها كلية تقبل التقييد بمثل الزوال وغيره من القيود.

قوله ص 107 س 2 الشامل للهيئات :

بما ان الثمرة المطروحة ناظرة الى مفاد الهيئة احتيج الى بيان ان مفاد الهيئة معنى حرفي ، اذ المقصود من المعنى الحرفي في المصطلح الاصولي ما يشمل كل نسبة وان كانت مفادا للهيئة لا للحرف.

قوله ص 107 س 6 القابل للتخصيص :

اي للتقييد وجعله ذا حصص.

قوله ص 107 س 8 كما في الجملة الشرطية :

كقولنا « صل ان زالت الشمس » ، فانها جملة شرطية ظاهرها رجوع القيد - الزوال - الى مفاد الهيئة وهو الوجوب ، ولكن الشيخ الاعظم يقول : بما ان مفاد الهيئة جزئي فيستحيل رجوع القيد اليه.

ثم ان ما ذكرناه كمثال للجملة الشرطية اولى من المثال الذي ذكره قدس سره « اذا جاءك زيد فاكرمه » ، فان ما ذكرناه مثال شرعي بخلاف ما ذكره.

قوله ص 107 س 9 لمدلول هيئة الجزاء :

الجزاء في المثال الذي ذكره قدس سره « فاكرمه » ، والهيئة فيه هي هيئة « افعل ».

قوله ص 107 س 14 والوجوب الملحوظ بنحو المعنى الحرفي :

هذا عطف تفسير على سابقه ، فان مفاد الهيئة هو الوجوب ولكن لا مفهوم الوجوب فانه مفهوم اسمي فلا يصلح ان يكون مفادا للهيئة بل هو النسبة الوجوبية.

ص: 360

قوله ص 107 س 16 الى متعلق الوجوب :

وهو الواجب اي الصلاة في مثالنا ، والاكرام في مثال الكتاب.

قوله ص 108 س 6 تبعا لقابلية طرفيه :

فاذا كان الطرفان قابلين للصدق على كثيرين كالسير والبصرة كان معنى كلمة « من » قابلا للصدق على كثيرين ايضا.

ص: 361

ص: 362

أدوات الطّلب

اشارة

ص: 363

ص: 364

الأمر أو أدوات الطّلب :
اشارة

قوله ص 109 س 1 ينقسم ما يدل على الطلب ... الخ :

هناك وسيلتان لحصول الطلب هما :

1 - الامر : مثل صم ، صلّ ، حجّ ، وهلم جرّا. وللامر مادة وهيئة ، والمقصود من المادة كلمة الامر ومشتقاتها مثل آمرك بالصلاة او انت مأمور بها وهكذا ، والمقصود من الهيئة مثل صلّ وصم وهكذا ، وكما ان هيئة الامر تدل على الطلب كذلك مادة الامر تدل عليه.

2 - الجملة الخبرية المستعملة في مقام الطلب مثل قول الامام علیه السلام : « يعيد » حينما يسأله السائل عمّن شك في صلاته بين الركعة الاولى والثانية ، فان جملة « يعيد » جملة خبرية استعملت بداعي الطلب فتكون دالة عليه.

وهناك فارق بين الوسيلتين في كيفية الدلالة على الطلب ، فالثانية تدلّ عليه مع العناية ، فان الجملة الخبرية تدل مباشرة على الاخبار ولا تدل على الطلب وانما الطلب يستفاد منها بعد اعمال عناية يأتي ايضاحها عند شرح ص 119 ، وهذا بخلافه في الوسيلة الاولى ، فانها تدل على الطلب مباشرة ومن دون حاجة الى اعمال عناية.

القسم الاول.
اشارة

ويمكن ان نمنهج الحديث في هذا القسم ضمن النقاط التالية :

ص: 365

1 - ما هي حقيقة الطلب لغة؟ لو رجعنا الى القواميس اللغوية لرأيناها تعرفه بالسعي وراء المقصود ، فمن فقد شيئا معينا واخذ بالتفتيش عنه والسعي للعثور عليه سمّي سعيه بالطلب.

والسعي وراء المقصود له شكلان ، فتارة يسعى الانسان بنفسه للبحث عنه واخرى يأمر غير بالبحث عنه ، فان الآمر باصداره للامر يكون ساعيا بشكل ما وراء المقصود ، والشكل الاول يسمى بالطلب التكويني بينما الثاني يسمى بالطلب التشريعي.

2 - لا شك في دلالة كلمة « الامر » - المعبر عنها بمادة الامر - ومشتقاتها على الطلب ، وهذا لعله من الواضحات ، فان كل انسان عرفي يفهم من قولك « آمرك بالجد والاجتهاد » : اطلب منك الجد والاجتهاد ، ونستدرك لنقول : ان كلمة « الامر » وان كانت دالة على الطلب ولكن لا كل طلب بل خصوص الطلب من العالي الى الداني ، اما من المساوي الى المساوي او من الداني الى العالي فلا يسمى بالامر بل يسمى بالطلب من دون التعبير عنه بكلمة « الامر ».

3 - في النقطة السابقة ذكرنا ان مادة الامر تدل على الطلب ، والآن نأتي الى صيغة الامر مثل صل وصم ونحوهما لنرى هل تدل على الطلب ايضا او لا؟ والصحيح انها تدل على الطلب كما كانت كلمة « الامر » تدل عليه ولكن مع فارقين :

أ - ان كلمة « الامر » تدل على الطلب مباشرة ومن دون توسيط واسطة فان قولك : « آمرك بالاجتهاد » معناه اطلب منك الاجتهاد ، وهذا بخلافه في صيغة الامر مثل صلّ وصم فانها ابتداء لا تدل على الطلب بل على النسبة الارسالية ، اي ارسال المكلف الى الصلاة ، وبما ان ارسال المرسل نحو سعى منه الى

ص: 366

مقصوده (1) فيصدق على ارساله وينتزع منه عنوان الطلب ، فصيغة صلّ اذن لا تدل ابتداء على الطلب بل على الارسال وبتبع دلالتها على الارسال تدل على الطلب ، فان الدال على منشأ الانتزاع دال على العنوان الانتزاعي.

ب - ان كلمة « الامر » تدل على الطلب بمفهومه الاسمي ، فان المفهوم الاسمي للطلب هو كلمة « الطلب » ، وواضح ان كلمة « الامر » تدل على الطلب بحيث يمكننا ابدالها بكلمة « الطلب » وهذا بخلافه في صيغة الامر ، فان مثل كلمة « صل » وان كانت دالة على الطلب الاّ ان الدال على ذلك هو هيئتها ، وواضح ان الهيئة تدل على النسبة ولا تدل على مفهوم الطلب الذي هو مفهوم اسمي بل تدل على الارسال والطلب بنحو النسبة.

4 - ان صيغة صلّ يصدق على مجموعها - مادة وهيئة - عنوان الطلب ، فنحن عرفا نقول ان قوله تعالى « أَقِمِ الصَّلاةَ » طلب فنطلق على نفس كلمة « اقم » عنوان الطلب ، وما ذاك الاّ من جهة ان صدور الصيغة من قبل المولى فيما اذا كان بداعي تحصيل المقصود هو نحو سعي منه الى المقصود ، وكل سعي الى المقصود يصدق عليه عنوان الطلب كما تقدم.

5 - ذكرنا فيما سبق ان مادة الامر وصيغته تدلان على الطلب ، والآن نريد التعرف على انه هل تدلان على خصوص الطلب الوجوبي او على مطلق الطلب؟ والصحيح انهما تدلان على خصوص الطلب الوجوبي ، فان المتبادر من كلمة « صل » وكلمة « الامر » خصوص الطلب الوجوبي لا مطلق الطلب ، وهذا لعله شيء واضح ولا اختلاف فيه ، وانما الاختلاف في منشأ هذا التبادر وسببه ،

ص: 367


1- نظير من يرسل كلبه لاصطياد الفريسة ، فانه يصدق على ارساله الكلب انه طلب الفرسية ، اذ هو نحو من السعي وراء المقصود.

والاتجاهات في تفسيره ثلاثة :

الاول : ان يقال ان سبب الدلالة هو الوضع ، فكلمة « صل » وكلمة « الامر » تدلان على الطلب الوجوبي من جهة انهما وضعتا لذلك ، فالوضع للطلب الوجوبي هو السبب لتبادر الوجوب. ولكن من الواضح عدم امكان الجزم بكون الوضع هو السبب لتبادر الوجوب الاّ بعد ابطال الاتجاهين الاخيرين ، اذن التبادر بعد ابطال الاتجاهين الاخيرين دليل على ان منشأ التبادر هو الوضع.

الثاني : ما ذهب اليه الميرزا (1) من ان سبب الدلالة ليس هو الوضع بل حكم العقل ، فكلمة « الامر » وصيغته تدلان على الطلب فقط من دون دلالة على الوجوب ولكن الطلب بعد صدوره من المولى وعدم اقترانه بالترخيص يحكم العقل عليه بالوجوب ، فالوجوب اذن على هذا الاساس حكم عقلي وليس مدلولا وضعيا.

ويرده :

1 - انه بمجرد صدور الطلب بدون اقترانه بالترخيص في الترك لا يحكم العقل بالوجوب ، فقد يصدر الطلب غير مقترن بالترخيص ومع ذلك لا يحكم العقل بالوجوب كما لو اطّلع على ان ملاك الطلب - الذي فرض عدم اقترانه بالترخيص في الترك - ضعيف ، فالوجوب اذن مسبب عن قوة الملاك ، وما هو الكاشف عن قوة الملاك؟ انه الامر ، فان امر صل وصم وغيرهما يفهم منه العرف حينما يسمعه ان الملاك في الصلاة والصوم قوي فيحكم العقل حينذاك بالوجوب.

والخلاصة : ان صدور الطلب من دون ترخيص ليس هو السبب لحكم العقل بالوجوب كما يدعيه الميرزا بل السبب لذلك قوة الملاك التي يكشف عنها

ص: 368


1- واختاره السيد الخوئي ايضاً.

الامر ، فلفظ الامر اذن له المدخلية الكاملة لاستفادة الوجوب وليس الطلب بضميمة عدم صدور الترخيص كافيا في حكم العقل بالوجوب.

2 - لو صدر دليلان احدهما يقول « اكرم العالم » والاخر يقول « لا يجب اكرام احد » فما هو الموقف اتجاه هذين الدليلين؟ ان الموقف حسب ما يقوله الاصوليون وحسب ما هو المرتكز في الاذهان العرفية ايضا تخصيص الدليل الثاني بالاول فتكون النتيجة : لا يجب اكرام احد الا العالم فانه يجب اكرامه ، هذه هي النتيجة التي يبني عليها الاصوليون والحال ان لازم هذا الاتجاه الثاني عدم وجوب اكرام احد حتى العالم لان الدليل الاول انما يصير مخصصا للثاني فيما لو كان الاول دالا على الوجوب ، اذ بدلالته على وجوب اكرام العالم ترفع اليد عن عموم لا يجب اكرام احد ، وواضح انه بناء على الاتجاه الثاني لا يكون الدليل الاول دالا على الوجوب لاقترانه بما يدل على الترخيص في الترك فانه مقترن بالدليل الثاني الدال بواسطة عمومه على جواز ترك اكرام كل شخص حتى العالم ، ومع عدم دلالة الدليل الاول على الوجوب لا يكون مخصصا للدليل الثاني بل يحكم بجواز ترك اكرام كل شخص حتى العالم ، وهذا مما لا يلتزم به احد حتى الميرزا قدس سره .

3 - ما المراد من عدم الترخيص في الترك الذي لا بد من افتراض اقترانه بالطلب حتى يحكم العقل بالوجوب؟ ان فيه ثلاثة احتمالات :

أ - ان يراد : لو صدر الطلب ولم يتصل به الترخيص فالعقل يحكم بالوجوب. وهذا الاحتمال باطل لان لازمه ان الطلب بمجرد صدوره يحكم العقل بالوجوب ما دام لم يتصل به الترخيص بحيث لو صدر الترخيص بعد يوم او يومين رفض من جهة منافاته لحكم العقل بالوجوب ، مع انه من الامور الواضحة

ص: 369

ان الترخيص يقبل ولا يرفض حتى لو صدر بعد يوم او يومين ويحكم بعدم الوجوب.

ب - ان يراد : لو صدر الطلب ولم يصدر الترخيص المتصل ولا المنفصل فالعقل يحكم بالوجوب. وهذا الاحتمال باطل ايضا اذ لازمه ان لا يحكم العقل بالوجوب ابدا فانه في كل آن يحتمل العقل صدور الترخيص الآن او فيما بعد.

ج - ان يراد : لو صدر الطلب ولم يعلم المكلف بالترخيص فالعقل يحكم بالوجوب ، وعلى اساس هذا الاحتمال يحكم العقل بالوجوب وان احتمل صدور الترخيص بعد مدة لانه بالتالي لا يعلم بالترخيص ومع عدم العلم بالترخيص يحكم بالوجوب. وهذا الاحتمال باطل ايضا اذ كلامنا في الوجوب الواقعي وانه ما هي النكتة لفهم الوجوب الواقعي هل هي الوضع او العقل او شيء آخر ، وواضح ان الوجوب الواقعي لا يناط بالعلم ولا بعدم العلم وانما الذي يناط بذلك تنجز الوجوب ، فالوجوب يتنجز عند عدم العلم بالترخيص ولا يتنجز عند العلم بالترخيص ، والمفروض ان كلامنا ليس في تنجز الوجوب بل في الوجوب الواقعي.

والخلاصة : ان في المراد من عدم الترخيص ثلاثة احتمالات كلها باطلة فيثبت ان اصل هذا الاتجاه باطل.

الثالث : ان السبب لدلالة الامر على الوجوب هو الاطلاق ومقدمات الحكمة ، ويمكن توضيح ذلك باحد بيانات ثلاثه :

البيان الاول (1) : ويمكن منهجة هذا البيان ضمن النقاط التالية :

ان الوجوب عبارة عن ارادة الشيء ارادة شديدة بينما الاستحباب عبارة

ص: 370


1- وهو للشيخ العراقي في بدايع الافكار ص 214.

عن ارادة الشيء ارادة ضعيفة.

ب - ان شدة الارادة ليست الاّ نفس الارادة نظير شدة السواد فانها بمعنى وجود سواد اكثر ، واما ضعف الارادة فهو عبارة عن عدم الارادة نظير ضعف السواد ، فانه بمعنى عدم السواد الزائد ، وبكلمة اخرى : الارادة الشديدة مركبة من جزئين : ارادة وشدة ، وحيث ان الشدة عبارة اخرى عن نفس الارادة فالارادة الشديدة اذن كلها ارادة وما به الامتياز عين ما به الاشتراك ، وهذا بخلاف الارادة الضعيفة فانها مركبة من جزئين : ارادة وضعف ، وحيث ان الضعف عبارة عن عدم الارادة فالارادة الضعيفة اذن مركبة من ارادة وعدم ارادة وليست كلها ارادة ، اذ ما به الامتياز مغاير لما به الاشتراك ، فما به الاشتراك هو الارادة بينما ما به الامتياز هو عدم الارادة.

ج - ان الذي يحتاج الى بيان اكثر هو الارادة الضعيفة حيث تحتاج الى دالين : دال على الارادة ودال آخر على عدم الارادة بينما الارادة الشديدة لا تحتاج الى دالين بل تكتفي بدال واحد يدل على اصل الارادة ، لان المفروض انها ارادة لا غير.

والنتيجة من خلال هذه النقاط الثلاث ان الامر يدل على الوجوب اذ الامر يدل على الارادة فقط وحيث ان الوجوب هو ارادة خالصة فيكون هو المدلول للامر. هذه حصيلة البيان الاول.

ويرده : ما ذكره جماعة من ان مقدمات الحكمة مقدمات عرفية ، والعرف لا يطبقها في المجالات التي تستدعي افتراضات دقيقة غير عرفية كما هو الحال في هذا البيان فانه يشتمل على افتراضات غير عرفية مثل ما ذكر في النقطة الثانية من ان شدة الارادة ارادة بخلاف ضعف الارادة فانه عدم ارادة فيكون ما به

ص: 371

الامتياز عين ما به الاشتراك في الارادة الشديدة دون الارادة الضعيفة.

البيان الثاني :

البيان الثاني (1) : وهو مركب من مقدمتين :

1 - ان حقيقة الوجوب عبارة عن طلب الفعل ولكن ليس هو فقط اذ طلب الفعل ثابت في المستحبات ايضا فلا بد من فرض ضميمة ، وفي الضميمة احتمالان :

أ - ان تكون عبارة عن النهي بمعنى ان الوجوب عبارة عن طلب الفعل مع اضافة قيد آخر وهو النهي ، فهو - الوجوب - طلب الفعل مع النهي عن الترك.

وهذا الاحتمال باطل فان النهي كما هو ثابت في الوجوب ثابت في الكراهة ايضا فان الكراهة تشتمل على النهي ايضا ، ومع ثبوته في الكراهة يكون النهي جنسا شاملا للوجوب والكراهة ، واذا كان جنسا فلا يمكن ان يكون هو الضميمة المنضمة الى طلب الفعل والاّ يلزم تركب حقيقة الوجوب من جنسين هما طلب الفعل والنهي ، وواضح ان حقيقة الشيء لا تتركب من جنسين بل من جنس وفصل (2).

ص: 372


1- لم نعرف قائله بعد المراجعة الطويلة
2- لعل قائلا يقول : ان الضميمة لو جعلناها عبارة عن اصل النهي فالبيان المذكور تام لان النهي جنس صادق على الوجوب والكراهة معا ، وحقيقة الشيء لا تتركب من جنسين ، ولكن لم لا نفرض الضميمة هي النهي عن الترك فان النهي المضاف الى الترك يختص بالوجوب ولا يشمل الكراهة. والجواب : ان اصل النهي لو كان جنسا فباضافته الى الترك لا يصير فصلا بل يصير جنسا مقيدا ، ومن الواضح ان حقيقة الشيء لا تتركب من جنس وجنس مقيد بل من جنس وفصل. هذا ويبقى لنا الحق في ان نقول ان هذا التطويل لا داعي له فبالامكان ان يقال : ان النهي عن الترك ليس هو الضميمة لانه ثابت في المستحبات ايضا ، وهذا اوضح واخصر وامتن.

ب - ان تكون الضميمة عبارة عن عدم الترخيص في الترك ، فالوجوب عبارة عن طلب الفعل مع عدم الترخيص في الترك بخلاف الاستحباب فانه طلب الفعل مع الترخيص في الترك. وهذا الاحتمال هو الصحيح.

اذن الوجوب مركب من جزئين احدهما وجودي وهو طلب الفعل وثانيهما عدمي وهو عدم الترخيص في الترك بينما الاستحباب مركب من جزئين كلاهما وجودي.

2 - وبعد هذا نسأل ايهما يحتاج الى بيان اكثر فهل الوجوب يحتاج الى بيان اكثر او الاستحباب؟ الصحيح ان الاستحباب يحتاج الى بيان اكثر اذ هو مركب من جزئين كلاهما وجودي ، وكل امر وجودي يحتاج الى بيان يدل عليه ، فالاستحباب اذن يحتاج الى بيانين : بيان للجزء المشترك وهو طلب الفعل وبيان للجزء الثاني وهو الترخيص في الترك ، وهذا بخلاف الوجوب فانه يحتاج الى بيان واحد يبين الجزء المشترك ولا يحتاج الى بيان آخر للجزء الثاني فان الجزء الثاني وهو عدم الترخيص في الترك امر عدمي والامر العدمي ليس شيئا حتى يحتاج الى بيان بل هو عدم شيء. وبكلمة اخرى : الامر العدمي ليس شيئا زائدا على الجزء الاول المشترك - اذ لو كان زيادة لما كان عدما بل وجودا - فلا يحتاج الى بيان زائد.

ويمكن صياغة المقدمة الثانية بعبارة اخرى بان نقول : اذا كان عندنا كلام - مثل امر اغتسل - يدل على حيثية مشتركة هي طلب الفعل ودار امرها بين ان يكون المقصود منها الطلب الاستحبابي الذي هو حقيقة مائزها امر وجودي تعين الحمل على الطلب الوجوبي ، لان الحيثية الاولى للطلب الوجوبي وهي اصل

ص: 373

طلب الفعل يفي بها امر اغتسل مثلا ، والحيثية الثانية لا تحتاج الى بيان زائد لكونها امرا عدميا. هذه حصيلة البيان الثاني.

ويرده : ان عدم الترخيص في الترك الذي هو الحيثية الثانية في الوجوب وان كان امرا عدميا الاّ انه ليس كل امر عدمي لا يراه العرف زيادة بل بعض الاعدام يراها العرف زيادة تحتاج الى بيان كما هو الحال في عدم الترخيص في المقام فان العرف يراه شيئا آخر زائدا على طلب الفعل وبحاجة الى بيان زائد بشهادة ان العرف حينما نساله عن حقيقة الوجوب يجيبنا انه عبارة عن جزئين : طلب الفعل وعدم الترخيص في الترك ، فلو كان عدم الترخيص ليس شيئا زائدا على طلب الفعل فمن المناسب تفسير الوجوب بطلب الفعل فقط.

هذا مضافا الى ان عدم الترخيص لو لم يكن شيئا زائدا ومغايرا لطلب الفعل يلزم كون النسبة بين الوجوب والاستحباب كنسبة المركب من جزء واحد الى المركب من جزئين اي كنسبة الاقل الى الاكثر - كالحيوان الى الانسان فانه يعد عرفا اقل والانسان اكثر لتركبه من حيوانية وناطقية - والحال ان ذلك مخالف للوجدان العرفي فانه يرى النسبة بين الوجوب والاستحباب نسبة المباين الى المباين لا الاقل الى الاكثر.

البيان الثالث : ان صيغة الامر تدل على الارسال ، فصيغة ادرس مثلا تدل على الارسال للدرس والدفع اليه نظير ارسال الكرة للهدف ، فكلاهما ارسال الاّ ان هذا ارسال الى الدرس وذاك ارسال الى الهدف.

ثم ان الارسال يلازم سدّ باب العودة والمخالفة ، فكما ان مرسل الكرة بارساله لها يكون قد سد عليها باب الرجوع والعودة والاّ لما كان ارساله ارسالا فكذلك الارسال الى الدرس يلازم سدّ باب المخالفة وعدم التحرك الى الدرس.

ص: 374

وبعد هذا نقول : ان الارسال الملازم لسد باب المخالفة يتناسب مع اي حكم فهل يتناسب مع الوجوب او يتناسب مع الاستحباب؟ لا اشكال في تناسبه مع الوجوب ، اذ في الوجوب يكون باب المخالفة مسدودا بخلافه في الاستحباب فانه ليس مسدودا.

ويبقى علينا بعد هذا ان نتعرف على الطريق لاثبات ان الحكم المقصود للمولى هو الوجوب دون الاستحباب ، فهل ان مناسبة الارسال للوجوب تكفي وحدها لتعيّن الوجوب او لا؟ والجواب : ان الاطلاق هو الذي يعين كون المقصود للمولى هو الوجوب دون الاستحباب ، اذ لو كان مراد المولى الحكم الذي لا يتناسب مع الارسال لزمه بيان ذلك فسكوته عن بيانه دليل على ان مقصوده هو الحكم المناسب للارسال. هذه هي حصيلة البيان الثالث.

وهو وجيه فان تم فبها والاّ فالمتعين في وجه الدلالة على الوجوب هو الوضع.

قوله ص 109 س 9 بل الطلب التشريعي :

اما الطلب التكويني فواضح انه ليس مدلولا لكلمة « الامر ».

قوله ص 110 س 3 دلالة :

الصواب : دالة.

قوله ص 110 س 3 بالدلالة التصورية :

اي بالدلالة الوضعية ، فان الدلالة الوضعية هي الدلالة التصورية على غير مسلك التعهد.

قوله ص 112 س 7 ولو بنحو غير مستقر :

التعارض غير المستقر هو كتعارض العام والخاص حيث ان التعارض

ص: 375

بينهما يزول بسبب الجمع العرفي بينهما بالتخصيص.

قوله ص 112 س 7 بين الامر العام :

الصواب : بين الامر والعام.

قوله ص 112 س 13 والالتزام بالوجود :

الصواب : بالوجوب.

قوله ص 113 س 2 ويقين المكلف به :

عطف على « احراز ».

قوله ص 113 س 9 بحسب الغرض :

الصواب : بحسب الفرض.

قوله ص 114 س 5 لانها بحدها :

حد الارادة الشديدة : الشدة. وحد الارادة الضعيفة : الضعف. والمراد من المحدود نفس الارادة.

قوله ص 114 س 8 فلو كانت هي :

اي لو كانت الارادة الضعيفة هي المقصودة من الامر.

قوله ص 115 س 2 والمنع :

عطف تفسير للنهي.

قوله ص 115 س 3 لان النهي عن شيء :

انما قال عن شيء ولم يقل عن الترك لان الثابت في المكروه ليس هو النهي عن الترك بل النهي عن الفعل.

يبقى شيء وهو ان اصل النهي وان كان ثابتا في المكروه ايضا بيد ان النهي عن الترك يختص بالوجوب فلم لا تجعل الضميمة هي النهي عن الترك لا اصل

ص: 376

النهي؟ والجواب عن هذا ذكرناه سابقا وهو ان اصل النهي اذا كان جنسا شاملا للمكروه ايضا فبتقييده بالترك لا يصير فصلا بل يصير جنسا مقيدا ، والشيء كما لا يتركب من جنسين مطلقين كذا لا يتركب من جنس مطلق وجنس مقيد وانما يتركب من جنس وفصل.

قوله ص 116 س 10 بنحو المعنى الحرفي :

اذ ان هيئة « ادرس » ككل هيئة تدل على النسبة ولا تدل على الارسال بمفهومه الاسمي ، فان الارسال بمفهومه الاسمي عبارة عن كلمة « الارسال » ولا اشكال في ان هيئة « ادرس » لا ترادف كلمة « الارسال ».

قوله ص 116 س 11 لسد تمام ابواب العدم للتحرك والاندفاع :

لعل العبارة الواضحة ان يقال : لسد باب عدم التحرك والاندفاع.

قوله ص 116 س 12 فمقتضى اصالة التطابق ... الخ :

المدلول التصوري هو المعنى المستعمل فيه وهو الارسال ، والمدلول التصديقي عبارة عن القصد والارادة ، والمعنى : ان الاصل ان يكون المقصود الواقعي مطابقا ومشابها للارسال الذي استعملت فيه صيغة « ادرس » ، ومعه يثبت كون المقصود الواقعي هو الوجوب اذ ارادته لا تحتاج الى بيان زائد بخلاف ما لو كان الاستحباب هو المقصود ، فان ارادته تحتاج الى بيان زائد.

ثم لا يخفى ان اصالة التطابق المذكورة هنا تختلف قليلا عن اصالة التطابق في سائر الموارد ، ففي سائر الموارد تطبق اصالة التطابق لاثبات ان المدلول التصوري هو المراد واقعا ، فحينما يقال « اعتق رقبة » فالمدلول التصوري هو مطلق الرقبة ، وباصالة التطابق يثبت ان هذا الاطلاق مراد واقعا ، واما هنا فالمدلول التصوري هو الارسال وباصالة التطابق لا يراد اثبات ان الارسال مراد

ص: 377

واقعا بل اثبات ان المراد واقعا معنى يناسب الارسال وهو الوجوب.

الثمرة بين الاتجاهات.

قوله ص 117 س 1 وتترتب فوارق عملية ... الخ :

بعد اتضاح الاتجاهات الثلاثة في تفسير نكتة استفادة الوجوب وهي : الوضع ، حكم العقل ، مقدمات الحكمة قد تسأل عن الفارق العملي بينها رغم انها جميعا تثبت الوجوب ، ان الفارق يظهر في موردين :

1 - اذا استعملت صيغة الامر في الاستحباب فقيل مثلا « اغتسل للجمعة » ، فهذا الاستعمال في الاستحباب بناء على الاتجاه الاول القائل بالوضع يكون مجازا لان الصيغة موضوعة للوجوب فاستعمالها في الاستحباب مجاز ، بينما على الاتجاه الثاني يكون استعمالها حقيقيا ، اذ صاحب الاتجاه الثاني يقول ان الصيغة موضوعة لاصل الطلب واستفادة الوجوب منها يكون بحكم العقل ، ومن الواضح انه في حالة ارادة الاستحباب تكون الصيغة مستعملة في اصل الطلب ايضا غاية الامر لا يحكم العقل بالوجوب لاجل الترخيص في ترك الغسل.

واما على الاتجاه الثالث فالاستعمال حقيقي ايضا ، اذ عليه تكون الصيغة موضوعة للطلب واستفادة الوجوب منها يكون بالاطلاق فاذا لم يرد الوجوب فاقصى ما يلزم تقييد الاطلاق لا استعمال الصيغة في غير معناها - وهو الطلب - وواضح ان تقييد الاطلاق - مثل اعتق رقبة مؤمنة - لا يلزم منه المجازية لان ارادة المقيد تكون بدال آخر - مثل قيد مؤمنة - من دون استعمال المطلق في غير معناه.

2 - وهذه الثمرة مترتبة على الاولى وحاصلها : ان يقال انه لو وردت اوامر

ص: 378

متعددة في سياق واحد - مثل اغتسل للجمعة وصل صلاة الليل وادع عند رؤية الهلال - فاذا فرض العلم من الخارج بان المقصود من الجملة الاولى والثانية هو الاستحباب وشككنا في الجملة الثالثة فلم ندر ان المقصود منها هو الاستحباب ايضا او الوجوب ففي مثل هذه الحالة هل يمكن ان نجعل الجملة الاولى والثانية قرينة على ان المراد من الثالثة هو الاستحباب ايضا - تمسكا بقرينة وحدة السياق - او لا؟ هنا تظهر الثمرة الثانية ، فعلى الاتجاه الاول اي القول بالوضع يصح التمسك بقرينة وحدة السياق حيث ان صيغة اغتسل وصلّ لم يرد منهما المعنى الموضوع له وهو الوجوب بل اريد منهما المعنى المجازي وهو الاستحباب واستعملتا في هذا المعنى المجازي ، وما دامتا قد استعملتا في الاستحباب فيلزم ان تكون الجملة الثالثة مستعملة في الاستحباب ايضا لئلا يلزم التفكيك في السياق الواحد ، واما بناء على الاتجاه الثاني - وهو استفادة الوجوب من حكم العقل - فلا يمكن التمسك بقرينة وحدة السياق ، اذ على هذا الاتجاه تكون الصيغة مستعملة في اصل الطلب واستفادة الوجوب والاستحباب تحصل بواسطة اقتران الترخيص في الترك وعدمه ، وما دامت مستعملة في اصل الطلب في جميع الجمل الثلاث فلا يلزم محذور التفكيك في السياق الواحد ، بل كلها مستعمل في اصل الطلب غاية الامر اقترن الطلب في الجملة الاولى والثانية بالترخيص في الترك المستفاد من دليل خارجي كالاجماع وغيره فحكم العقل بالاستحباب ، بينما لم يقترن بالجملة الثالثة فحكم بالوجوب ، فالتفكيك اللازم تفكيك في حكم العقل لا في المعنى المستعمل فيه.

واما على الاتجاه الثالث - وهو استفادة الوجوب من الاطلاق ومقدمات الحكمة - فايضا لا يلزم من ارادة الوجوب تفكيك السياق الواحد لاستعمال

ص: 379

الصيغة في جميع الجمل الثلاث في اصل الطلب ايضا ، والوجوب يستفاد من اطلاق الصيغة والاستحباب من تقييدها.

قوله ص 117 س 3 ومن جملتها :

لا حاجة الى الواو.

قوله ص 117 س 4 واستعمال اللفظ :

عطف تفسير على التجوز.

قوله ص 117 س 5 الى تقييد الاطلاق :

اي وحيث ان تقييد الاطلاق يحصل بدال آخر فلا تلزم المجازية نظير قولنا اعتق رقبة مؤمنة ، فان الرقبة وان قيدت بالايمان ولكن لا يلزم من ذلك مجازيتها لاستعمالها في طبيعي الرقبة والتقييد يستفاد من دال آخر وهو كلمة « مؤمنة ».

قوله ص 117 س 8 وعليه فاذا جاءت :

اي وعلى اساس الثمرة السابقة تترتب هذه الثمرة الثانية ، وهذا شروع في الثمرة الثانية.

قوله ص 118 س 1 بل كلها ذات معنى واحد :

وهو اصل الطلب.

قوله ص 118 س 2 ولكنه اريد في بعضها مطلقا :

المراد من هذا البعض هو الجملة الثالثة ، ومن البعض الثاني هو الجملة الاولى والثانية.

قوله ص 118 س 2 مقيدا :

اي ولكن هذا التقييد بدال آخر.

ص: 380

الاوامر الارشادية.

قوله ص 118 س 3 ومهما يكن فالاصل ... الخ :

تنقسم الاوامر الى قسمين : اوامر مولوية واوامر ارشادية. والفرق بينها هو انه تارة يترتب على مخالفة الامر استحقاق العقوبة واخرى لا يترتب ، فان ترتب سمي الامر بالامر المولوي او التكليفي مثل امر صلّ ، صم ... فانه يترتب على مخالفته استحقاق العقوبة ، وان لم يترتب سمي بالامر الارشادي.

وقد ذكر في الكتاب للامر الارشادي ثلاثة امثلة ، الاولان منها شرعيان والثالث عرفي.

المثال الاول : استقبل بذبيحتك القبلة ، وهذا الامر لا يترتب على مخالفته استحقاق العقوبة ، فلو فرض ان المكلف لم يستقبل القبلة عند الذبح فلا يعاقب على ذلك وان صارت الذبيحة محرمة الاكل ، فالامر المذكور يراد به الارشاد الى شرطية الاستقبال في حلية الذبيحة ، وقد يعبر عن الاستقبال بانه واجب شرطي باعتبار انه شرط لازم لحصول الحلية.

المثال الثاني : اغسل ثوبك من البول ، فلو فرض ان انسانا اصاب البول ثوبه ولم يغسله لم يكن آثما ، فالامر المذكور اذن يراد به الارشاد الى نجاسة البول وان الغسل بالماء هو المطهر من النجاسة.

المثال الثالث : قول الطبيب للمريض استعمل الدواء ، وهذا الامر - الذي هو امر عرفي - لا يترتب على مخالفته عقوبة بل يراد به الارشاد الى نفع الدواء وانه الوسيلة للشفاء.

ثم انه لا بد من الالتفات الى نكتة وهي ان الاوامر الارشادية كالمولوية

ص: 381

مستعملة في المعنى الموضوع له وهو النسبة الارسالية ، فكما ان امر صلّ مستعمل في الارسال او بتعبير ادق في النسبة الارسالية كذلك امر اغسل ثوبك من البول مستعمل في الارسال غير ان الغرض الواقعي هناك يختلف عنه هنا ، فالغرض الواقعي في الاوامر المولوية هو التحريك بينما في الاوامر الارشادية هو الارشاد.

وان شئت قلت : ان المدلول التصوري - وهو المعنى الموضوع له - واحد في كلتا الجملتين وانما الاختلاف في المدلول التصديقي - اي في المقصود الواقعي.

قوله ص 118 س 3 ومهما يكن :

اي سواء كان يلزم التفكيك في السياق الواحد من ارادة الوجوب في الجملة الثالثة او لا. والمراد من الاصل : مقتضى الظهور.

قوله ص 118 س 4 طلب المادة وايجابها :

عطف الايجاب على الطلب تفسيري. والمراد من المادة : مثل الصلاة في امر صلّ.

قوله ص 118 س 9 عن ذلك :

اي عن شرطية الاستقبال.

قوله ص 118 س 9 باعتبار ان الشرط واجب في المشروط :

الشرط هو مثل الاستقبال ، والمشروط هو مثل حلية الذبيحة.

القسم الثاني.

قوله ص 119 س 3 ونقصد به الجملة الخبرية ... الخ :

تقدم ان الوسيلة لحصول الطلب تارة تدل عليه بلا عناية واخرى مع العناية ، والحديث سابقا كان عن الوسيلة الاولى ، ومن الآن يقع عن الوسيلة

ص: 382

الثانية ، اي عما يدل على الطلب مع العناية ، وهو الجملة الخبرية المستعملة في مقام الطلب مثل قول الامام علیه السلام « اعاد صلاته » حينما يسأله السائل عن المصلي الذي يشك في عدد ركعات صلاة الصبح.

والكلام عن الجملة الخبرية يقع في مرحلتين :

1 - ما هي العناية في الجملة الخبرية التي بتوسطها تدل على الطلب؟

2 - هل الطلب الذي تدل عليه الجملة الخبرية هو خصوص الطلب الوجوبي او الاعم من الوجوبي والاستحبابي؟

اما المرحلة الاولى فالسؤال المطروح فيها هو : كيف تدل الجملة الخبرية على الطلب مع ان المقصود منها الاخبار دون الطلب ، وبتعبير آخر : ان الجملة الخبرية ما دامت موضوعة للنسبة الصدورية - كنسبة صدور الاعادة من المصلي - لا للنسبة الارسالية ، والمفروض ان المقصود منها الاخبار دون الطلب فكيف تدل عليه؟ ومن هنا كانت دلالتها على الطلب بحاجة الى عناية ، والعناية يمكن تصويرها بثلاثة اشكال :

أ - ان يفرض ان جملة « اعاد » مستعملة في معناها الموضوع له وهو النسبة الصدورية ، ويفرض انه علیه السلام يقصد منها الاخبار دون الطلب ، فكانه علیه السلام قال : اخبركم بان الشاك في صلاة الصبح قد صدرت منه الاعادة غير انا نفترض ان المصلي الذي يخبر علیه السلام بحصول الاعادة منه انسان يسير على خط الشريعة ويطبق عمله على الموازين الشرعية ، وبعد هذا الافتراض تكون جملة « اعاد » دالة على الطلب ، فان الاعادة اذا لم تكن مطلوبة شرعا فلا يصدق على الفاعل لها انه ممن يطبق عمله على الموازين الشرعية ، وما دمنا قد افترضنا انه يطبق عمله على الموازين الشرعية فمن اللازم كون الاعادة مطلوبة ولو على

ص: 383

الاقل طلبا استحبابياً.

يبقى السؤال عن القرينة على تقييد الشخص المخبر عنه بالقيد المتقدم.

والجواب : ان القرينة هي انه اذا لم نفترض التقييد المذكور فلازمه ان الامام علیه السلام يريد الاخبار عما يفعله الناس وانهم يعيدون صلاتهم عند الشك ويصير ذلك نظير الاخبار عنهم بانهم يأكلون الطعام حين يجوعون ، وواضح ان ذلك لا يليق بمقامه علیه السلام فانه ليس قصّاصا.

ب - ان يفرض انه علیه السلام حينما قال « اعاد صلاته » استعمل الجملة في النسبة الصدورية اي في صدور الاعادة وحصولها من المصلي ، ويفرض ايضا ان غرضه علیه السلام هو الاخبار كما كنا نفترض ذلك في العناية الاولى ، بيد انا نفرض الآن ان الامام علیه السلام حينما اخبر عن حصول الاعادة كان غرضه الواقعي الاخبار عن علة الاعادة وسببها ، فالانسان قد يخبر عن شيء وغرضه الاخبار عن علته كما هو الحال في باب الكناية ، ففي قولنا « زيد كثير الرماد » ليس الغرض الاخبار عن كثرة الرماد حقيقة بل عن الكرم الذي هو العلة لكثرة الرماد فكانه يراد ان يقال زيد كريم ولكنه قد اخبر عن حصول المعلول مع ان الغرض الواقعي الاخبار عن العلة ، وهنا يقال كذلك اي ان الاعادة مسببة عن الطلب والطلب سبب لها والامام علیه السلام اخبر عن الاعادة بداعي الاخبار عن سببها وهو الطلب.

ج - ان يفرض انه علیه السلام حينما قال : « اعاد صلاته » لم يستعمل الجملة في معناها الموضوع له وهو النسبة الصدورية بل في الارسال والطلب فكأنه قال « اعد ». وبناء على هذه العناية يكون استعمال الجملة مجازا بينما على الاولين يكون حقيقة.

ص: 384

وبعد اتضاح هذه الاشكال الثلاثة للعناية قد تسأل عن الاقرب منها ، والاقرب هو الشكل الاول لانه لا يتضمن اي عناية ، اذ المفروض استعمال الجملة في معناها الموضوع له وهو الجملة الصدورية والمفروض ايضا ارادة الاخبار منها ، غاية الامر يقيد المخبر عنه بكونه ممن يطبق عمله على الموازين ، وهذا التقييد ليس فيه عناية بعد ما فرضنا ان الامام علیه السلام ليس قصّاصا ، فكونه علیه السلام ذا منصب بيان الاحكام قرينة بنفسه على التقييد المذكور ، وهذا بخلافه في الشكلين الاخيرين فان العناية واضحة ، ففي الشكل الثاني نحتاج الى افتراض الكناية وهي مخالفة للظاهر وفي الشكل الثالث يحتاج الى افتراض المجازية في الاستعمال.

دلالة الجملة الخبرية على الوجوب

قوله ص 120 س 2 الثانية : في دلالتها ... الخ : كان الحديث فيما سبق عن العناية المبذولة لاستفادة الطلب ، والآن وفي المرحلة الثانية يقع الكلام عن مدى امكان استفادة الطلب الوجوبي من الجملة الخبرية وعدمه.

وللتعرف على ذلك لا بد من مراجعة العنايات السابقة التى استفيد الطلب بتوسطها.

اما العناية بشكلها الاول فهي تقتضي الطلب الوجوبي لان اصل دلالة الجملة الخبرية على الطلب بحاجة الى افتراض تقييد المخبر عنه بكونه ممن يطبق عمله على الموازين الشرعية ، فاذا اردنا ان نستفيد منها مطلق الطلب الشامل للاستحباب فلا بد من افتراض تقييد ثاني في المخبر عنه ، فان من يطبق عمله على الموازين الشرعية لا يلزم صدور الاعادة منه فيما اذا كانت مستحبة الا اذا فرضنا

ص: 385

انه يطبق عمله على افضل الموازين الشرعية واكملها ، اما من يطبق عمله على الموازين الشرعية بدون التقيد بافضلها فهو يأتي بالواجبات واما المستحبات فقد لا يأتي بها. اذن استفاده الاستحباب بحاجة الى افتراض تقييدين : تقييد المخبر عنه بكونه ممن يطبق عمله على الموازين الشرعية ، وتقييده بكونه يطبق عمله على افضلها ، وهذا بخلاف استفادة الوجوب فانها بحاجة الى التقييد الاول فقط.

واما العناية بشكلها الثاني فهي تقتضي الوجوب ايضا ، لان الذي سوّغ للامام علیه السلام ان يخبر عن صدور الاعادة ويقصد بذلك الكناية عن الطلب هو الملازمة بين طلب الاعادة وصدورها ، ومن الواضح ان الملازمة ثابته بين خصوص الطلب الوجوبي والاعادة لا بين مطلق الطلب - ولو كان استحبابيا - والاعادة ، فان استحباب الاعادة لا يلازم صدورها او يلازمها ولكن بشكل ضعيف ، وهذا بخلاف وجوب الاعادة فانه يلازم صدورها.

واما العناية بشكلها الثالث فهي لا تقتضي كون الطلب وجوبيا ، فان استعمال صيغة « اعاد » في غير النسبة الصدورية مجاز سواء كان ذلك الغير هو الوجوب ام الاستحباب ، ولا مرجح لاحد المجازين على الآخر حتى يتعين فكلاهما اذن محتمل.

قوله ص 119 س 6 مدلولها التصوري : اي معناها الموضوع له ، فان صيغة « اعاد » موضوعة لافادة صدور الاعادة من المعيد.

قوله ص 119 س 7 ومدلولها التصديقي : اي المقصود الواقعي منها هو الحكاية والاخبار.

قوله ص 120 س 3 المدلولة تصورا : اي المدلولة وضعا.

قوله ص 120 س 3 بل امر ملزوم لها : الملزوم هو العلة. اي ان الذى

ص: 386

يقصد الاخبار عنه هو علة الصدور وهو الطلب فان الطلب هو العلة الموجبة للاعادة.

قوله ص 121 س 2 المصححة : صفة للملازمة.

قوله ص 121 س 3 للاخبار عن الملزوم ببيان اللازم : اي الاخبار عن الطلب بواسطة بيان اللازم وهو الصدور.

مادة النهي وصيغته

قوله ص 121 س 11 وكل ما قلناه في جانب ... الخ : ذكرنا سابقا ان للطلب وسيلتين :

ا - ما يدل عليه بالمباشرة وهو مادة الامر وصيغته.

ب - ما يدل عليه لا بالمباشرة وهو الجملة الخبرية المستعملة في مقام الطلب.

وذكرنا ايضا ان الاوامر على قسمين : مولوية وارشادية. وهذا الحديث كله يأتي في النهي ايضا ، فللنهي وسيلتان :

ا - ما يدل عليه بالمباشرة وهو مادة النهي - اي كلمة النهي ومشتقاتها - وصيغته. مثال المادة : انت منهي او انهاك او اني نهيتك عن الكذب. ومثال الصيغة : لا تكذب او لا تشرب واشباه ذلك.

ب - ما يدل عليه لا بالمباشرة وهو الجملة الخبرية المستعملة بداعي النهي ، كما اذا سئل الامام علیه السلام عن الشك بين الركعة الثالثة والرابعة فقال : لا يعيد ، فانه جملة خبرية مستعملة بداعي النهي.

وايضا النهي تارة يكون مولويا واخرى ارشاديا ، فالمولوي هو النهي

ص: 387

الذي تترتب على مخالفته العقوبة مثل : لا تكذب ، لا تسرق ، و ... ، والارشادي هو النهي الذي لا تترتب على مخالفته العقوبة بل يكون ارشادا الى مطلب من المطالب. وذكر في الكتاب للنهي الارشادي ثلاثة امثلة :

1 - ان يكون ارشادا الى ثبوت حكم شرعي مثل : لا تصل في جلد الحيوان الذي لا يحل اكل لحمه كجلد النمر والاسد وغيرهما ، فان مثل هذا النهي لا يعاقب المكلف عليه لو خالفه وصلى في جلد الاسد مثلا بل اقصى ما يترتب عليه فساد الصلاة ، فالنهي المذكور اذن ارشاد الى المانعية اي مانعية مصاحبة اجزاء الحيوان المذكور من صحة الصلاة ، وواضح ان المانعية حكم شرعي وضعي.

2 - ان يكون ارشادا الى عدم ثبوت حكم شرعي كالنهي عن قبول خبر الفاسق ، فانه ارشاد الى عدم حكم الشارع بحجيته وليس مولويا اذ لا يترتب على مخالفته عقوبة.

3 - ان يكون ارشادا الى امر تكويني كنهي الطبيب المريض عن تناول الماء البارد فانه ارشاد الى اشتداد المرض عند تناول ذلك ولا يترتب على مخالفته عقوبه.

والخلاصة انه لا توجد ابحاث جديدة في النهي تختلف عن الابحاث المتقدمة في الامر. اجل هناك فرق واحد - ولكنه ليس مهما - وهو ان الامر يدل على طلب الفعل بخلاف النهي فانه يدل على الزجر عن الفعل.

الامر يدل على الفور او التراخي؟

قوله ص 122 س 7 ثم ان الامر لا يدل على الفور او التراخي ... الخ : هناك بحث تعرض له الاصوليون وهو ان المولى لو قال تصدق على الفقير فهل هذا

ص: 388

الامر يدل على طلب التصدق فورا بحيث لو تراخى المكلف فلا يحصل الامتثال او يدل على التراخي بحيث لو تصدق فورا فلا يحصل الامتثال او لا يدل لا على هذا ولا على ذاك؟ الصحيح هو الاحتمال الاخير ، فان الامر بالتصدق يدل على طلب طبيعة التصدق لا اكثر ، فمن اتى بالتصدق فورا صدق عليه الاتيان بطبيعة التصدق فيكون ممتثلا ، ومن اتى به متراخيا صدق عليه ذلك ايضا ويكون ممتثلا.

الامر يدل على المرة او التكرار

قوله ص 122 س 11 كما ان الامر لا يدل على المرة ولا على التكرار ... الخ :

وهناك بحث آخر وقع بين الاصوليين وهو انه لو قال المولى تصدق على الفقير مثلا فهل يلزم الاتيان بالتصدق مرة واحدة او يجب الاتيان به مرات متعددة او لا يدل لا على هذا ولا على ذاك؟ الصحيح هو الاحتمال الثالث ، فان الامر بالتصدق يدل على طلب طبيعة التصدق لا اكثر ، فمن أتى به مرة واحدة صدق عليه الاتيان بالطبيعة فيكون ممتثلا ومن اتى به مرات متعددة كان كذلك.

اجل نستثني حالة ما اذا تصدق المكلف مرات متعددة مع تخلل الفاصل ، بان تصدق في الساعة الاولى بدرهم وفي الساعة الثانية بدرهم آخر على فقير ثاني وهكذا ، فان الامتثال يحصل بالمرة الاولى فقط اذ بحصولها يصدق الاتيان بالطبيعة فيحصل الامتثال ويسقط الامر ، ومع سقوطه فلا يمكن حصول الامتثال بالتصدق الثاني. ومن هنا قيل : يستحيل الامتثال بعد الامتثال اذ بالامتثال الاول يسقط الامر فلا يمكن الامتثال ثانيا. اجل مع الاتيان بالتصدق مرات متعددة في آن واحد وبلا تخلل فاصل يحصل الامتثال بالمجموع اذ لا معنى لحصوله بواحد دون آخر.

ص: 389

قوله ص 122 س 11 هو مدلول المادة : اي مدلول مادة الامر بالتصدق ، وهو طبيعة التصدق.

قوله ص 122 س 15 يثبت اطلاقها البدلي : اي يقتضي لزوم الاتيان بالتصدق اما مرة واحدة او مرات متعددة لا انه يقتضي كليهما ولا احدهما بالخصوص.

ص: 390

الاحتراز في القيود ومقدمات الحكمة

اشارة

ص: 391

ص: 392

الاطلاق واسم الجنس

قوله ص 124 س 1 الاطلاق يقابل التقييد ... الخ : من الابحاث التي تعرض لها الاصوليون مبحث الاطلاق ومقدمات الحكمة. والمراد من الاطلاق واضح ، فانا اذا تصورنا مفهوم الانسان من دون ضم ضميمة اليه سمي المفهوم المذكور بالمطلق. واذا تصورناه مع الضميمة - كمفهوم الانسان العالم - سمي بالمقيد. وهذا مطلب واضح.

وقد وقع الحديث بين الاصوليين في السبب لاستفادة الاطلاق ، فكلمة انسان في قولنا « اكرم انسانا » نستفيد منها الاطلاق ولكن ما هي نكتة ذلك؟ وقد وجد في هذا المجال اتجاهان :

1 - الاتجاه السائد قبل سلطان العلماء - الذي هو احد اكابر علمائنا - القائل بان مثل كلمة انسان ، سكر ، ماء ، رقبة وغير ذلك من الاسماء التى تدل على اجناس وطبائع معينة هي موضوعة للماهية بقيد الاطلاق ، فكلمة انسان مثلا موضوعة لماهية الانسان المقيدة بالاطلاق. وبناء على هذا يكون الاطلاق مدلولا وضعيا اي مستفادا من الوضع حيث اخذ جزء فى المعنى الموضوع له.

2 - الاتجاه السائد من زمان سلطان العلماء والى يومنا هذا القائل بان مثل كلمة « انسان » لم توضع لماهية الانسان بقيد الاطلاق بل لذات الماهية من دون قيد الاطلاق ، وانما هو مستفاد من مقدمات الحكمة.

وقد اعتاد الاصوليون ذكر مقدمة لتوضيح الاتجاه الثاني وتبيان الفرق بينه

ص: 393

وبين الاتجاه الاول. وتبعا لهم نذكر تلك المقدمة وبعدها نأخذ بالاستدلال على الاتجاه الثاني.

ونمنهج تلك المقدمة ضمن نقاط اربع ليسهل استيعابها.

1 - انا لو نظرنا الى الانسان وقيد العلم امكننا ان نحصل في عالم الخارج على حصتين احداهما الانسان العالم والاخرى غير العالم ولا توجد حصة ثالثة ، فان ماهية الانسان بقطع النظر عن العلم وعدمه ليست حصة ثالثة ذات وجود خارجي مقابل الحصتين السابقتين. هذا في عالم الخارج.

واما اذا نظرنا الى عالم الذهن فيمكن الحصول على حصص ثلاث :

ا - لحاظ ماهية الانسان مع لحاظ العلم. وتسمى بالماهية بشرط شيء او بالمقيد.

ب - لحاظ ماهية الانسان مع لحاظ عدم العلم. وتسمى بالماهية بشرط لا.

ج - لحاظ ماهية الانسان من دون لحاظ العلم ولا لحاظ عدم العلم.

وتسمى بالماهية لا بشرط او بالمطلق (1).

2 - لو نظرنا الى الحصص الثلاث الذهنية لوجدنا انه يوجد في الحصة الاولى لحاظ العلم وفي الثانية لحاظ عدم العلم وفي الثالثة عدم لحاظ العلم وعدم العلم ، فالحصة الاولى والثانية تقترن بوجود اللحاظ - اي لحاظ العلم ولحاظ عدم العلم - واما الحصة الثالثة فتمتاز بعدم اللحاظ. اذن الحصص الثلاث الذهنية تمتاز بخصوصيات ذهنية وهي وجود اللحاظ كما في الحصة الاولى والثانية او عدم وجود اللحاظ كما في الحصة الثالثة. وواضح ان اللحاظ امر ذهني وخصوصية

ص: 394


1- وهذه النقطه تبتدا بقوله : « وحاصلها مع اخذ ماهية الانسان وصفه العلم كمثال ... » الى قوله ص 125 س 16 : في وعاء الذهن.

ذهنية. هذا في الحصص الذهنية ، واما الحصتان الخارجيتان فلو نظرنا اليهما لرأينا انهما تمتازان بوجود صفة خارجية - وهي وجود صفة العلم - او بعدم وجودها.

فالحصة الخارجية الاولى تمتاز بوجود صفة العلم بينما الثانية تمتاز بعدم وجود صفة العلم. وباختصار الحصص الخارجية تمتاز بخصوصية خارجية بخلاف الحصص الذهنية فانها تمتاز بخصوصية ذهنية.

ثم ان الخصوصيات الذهنية التي بها يحصل الامتياز بين الحصص الذهنية تسمى بالقيود الثانوية بينما الخصوصيات الخارجية التي بها يحصل امتياز الحصتين الخارجيتين تسمى بالقيود الاوليه.

وعلى هذا الاساس يمكننا ان نقول : ان عدد القيود الثانوية ثلاثة :

ا - القيد الثانوي رقم (1) وهو عبارة عن لحاظ وجود العلم الذي به تتقوم الحصة الذهنية الاولى.

ب - القيد الثانوي رقم (2) ، وهو عبارة عن لحاظ عدم العلم الذي به تتقوم الحصة الذهنية الثانية.

ج - القيد الثانوي رقم (3) وهو عبارة عن عدم اللحاظين السابقين الذي به تتقوم الحصة الذهنية الثالثة. هذا بالنسبة الى القيود الثانوية.

واما القيود الاولية فهي :

ا - القيد الاولي رقم (1) وهو عبارة عن وجود صفة العلم خارجا الذي به تتقوم الحصة الخارجية الاولى.

ب - القيد الاولي رقم (2) وهو عبارة عن عدم وجود صفة العلم خارجا الذي به تتقوم الحصة الخارجية الثانية (1).

ص: 395


1- وتبتدا هذه النقطة من قوله « واذا دققنا النظر ... » الى قوله ص 126 س 9 : بالقيود الاوليه.

3 - لو تأملنا في القيد الثانوي رقم (1) لرأينا انه يحكي في الخارج عن قيد اولي ، حيث يحكي عن القيد الاولى رقم (1) ، فان لحاظ صفة العلم في الذهن يطابقه في الخارج وجود صفة العلم ، ومن اجل هذا كانت الحصة الذهنية الاولى - المتقومة بالقيد الثانوى رقم (1) - عين الحصة الخارجية الاولى المتقومة بالقيد الاولي رقم (1).

ولو تأملنا في القيد الثانوي رقم (2) لرأينا انه يحكي في الخارج عن القيد الاولي رقم (2) ، فان لحاظ عدم صفة العلم في الذهن يطابقه في الخارج عدم وجود صفة العلم ، ومن اجل هذا كانت الحصة الذهنية الثانية المتقومة بالقيد الثانوي رقم (2) عين الحصة الخارجية الثانية المتقومة بالقيد الاولي رقم (2).

ولو تأملنا في القيد الثانوي رقم (3) فهل نراه يحكى عن شيء في عالم الخارج؟ كلا ، فان الموجود في الخارج اما الانسان العالم الذي يحكي عنه القيد الثانوي رقم (1) او الانسان غير العالم الذي يحكي عنه القيد الثانوي رقم (2) ولا توجد حصة ثالثة لكي يمكن ان يحكى عنها القيد الثانوي رقم (3).

وان شئت قلت : ان القيد الثانوي رقم (3) هو عدم اللحاظين ، وواضح ان عدم اللحاظ امر عدمي ، والامر العدمي لا يمكن ان يحكي عن شيء وجودي. اجل ان القيد الثانوي رقم (3) يمكن ان يكون حاكيا عن شيء ولكنه ليس شيئا خارجيا ذا وجود مستقل مغاير لوجود الحصتين الاوليتين ، انه يحكي عن طبيعة الانسان التي لم تقيد بالعلم ولا عدم العلم ، وهذه الطبيعة المهملة كما تعلم لا وجود لها في الخارج مغايرا لوجود الحصتين الاوليتين وانما هي جامع ومقسم لهما ، والمقسم لا وجود له مستقلا عن اقسامه. ومن اجل عدم الوجود المستقل للطبيعة

ص: 396

المهملة كانت ثابتة في جميع افراد الانسان ، فهي موجودة ضمن الانسان المطلق - اي غير المقيد بصفة العلم والجهل - وضمن الانسان المقيد بالعلم او بالجهل ، كما انه يمكننا ان نقول انها جامعة بين المحكيين بالقيد الثانوي رقم (1) ورقم (2) فان المحكي بهما هو الانسان العالم والانسان غير العالم ، ومن الواضح ان طبيعة الانسان ثابتة في كلا هذين الانسانين ، فهي جامعة وشاملة لهما.

ثم انه حينما قلنا ان المحكي بالقيد الثانوي رقم (3) امر جامع بين المحكي بالقيد الثانوي رقم (1) ورقم (2) فمقصودنا ان نفس المحكي امر جامع بقطع النظر عن نفس القيد الثانوي رقم (3) ، اذ القيد المذكور عبارة عن عدم اللحاظين ، وعدم اللحاظين ليس امرا جامعا للقيد الثانوي رقم (1) ورقم (2) اي للحاظ وجود العلم ولحاظ عدم وجود العلم ، فان عدم اللحاظين امر مباين للحاظ العلم ولحاظ عدمه. اذن نفس اللحاظات الذهنية هي امور متنافية وليس بعضها جامعا للبعض الآخر وانما الجامع هو المحكي (1).

4 - لو رجعنا الى الحصص الذهنية الثلاث لرأينا اشتراكها في شيء واحد وهو لحاظ الماهية فانه في جميعها يوجد لحاظ ماهية الانسان ، غاية الامر في الاولى يوجد شيء اضافي - غير لحاظ ماهية الانسان - هو الفصل للحصة الاولى وهو لحاظ وجود العلم ، وفي الثانية يوجد شيء اضافي ايضا هو الفصل للحصة الثانية وهو لحاظ عدم العلم. وفي الحصة الثالثة يوجد ذلك ايضا وهو عدم اللحاظين. اذن لحاظ الماهية هو الامر المشترك والجامع بين الحصص الذهنية الثلاث. وهذا الجامع يصطلح عليه باللابشرط المقسمي. وانما سمي باللابشرط

ص: 397


1- تبتدا هذه النقطة من قوله : « ونلاحظ ان القيد الثانوي ... » الى قوله في نهاية ص 127 : في القسم المقابل له.

المقسمي لانه مقسم وجامع للحصص الثلاث الذهنية خلافا للابشرط القسمي - لحاظ ماهية الانسان من دون لحاظ العلم وعدمه معها - الذي هو الحصة الذهنية الثالثة فانه قسم من لحاظ الماهية الذي هو اللابشرط المقسمي (1).

عودة لصلب الموضوع.

وباتضاح المقدمة السابقة بنقاطها الاربع نعود لاسماء الاجناس - انسان ، قلم ، دفتر ، كتاب ، سكر ، و ... - لنرى انها لأي شيء موضوعة (2)؟ والاحتمالات في ذلك ثلاثة :

ا - ان تكون كلمة « انسان » مثلا موضوعة للماهية على نحو اللابشرط المقسمي ، اي موضوعة للحاظ ماهية الانسان. وهذا الاحتمال باطل ، فان لحاظ الماهية امر جامع بين الحصص الذهنية الثلاث ، وواضح ان الالفاظ ليست موضوعة للامر الذهني وانما هي موضوعة لحصص الانسان الخارجية او للجامع بينها.

ب - ان تكون كلمة « انسان » مثلا موضوعة للماهية بشرط شيء او للماهية بشرط لا ، اي لماهية الانسان المقيدة بالعلم او بعدم العلم. وهذا باطل ايضا لمخالفته الوجدان فانا لا نفهم من كلمة انسان التقيد بالعلم او بعدمه ، بل طبيعة الانسان لا اكثر.

ج - ان تكون كلمة « انسان » مثلا موضوعة لماهية الانسان بنحو

ص: 398


1- تبتدا هذه النقطة من قوله : « ثم اذا تجاوزنا ... » وتنتهي بقوله : اذا اتضحت هذه ...
2- التقييد باسماء الاجناس باعتبار ان مثل اسماء الاعلام ليست موضوعه للطبيعه حتى يقال هي موضوعه للطبيعة مع قيد الاطلاق او لذات الطبيعة.

اللابشرط القسمي ، اي لماهية الانسان بقطع النظر عن العلم والجهل. وهذا هو الصحيح وقد اتفقت عليه كلمة الاعلام بدون مخالف. اجل بعد هذا الاتفاق اختلفوا في ان كلمة « انسان » مثلا الموضوعة للطبيعة هل هي موضوعة لطبيعة الانسان مع التقيد بلحاظ اللابشرط او للطبيعة بقطع النظر عن ذلك؟ فان قلنا بالاول فمعناه ان الالفاظ موضوعة للمعاني مع قيد الاطلاق - اذ اللابشرط عبارة اخرى عن الاطلاق - وبذلك يكون الاطلاق مدلولا وضعيا وجزء من المعنى الموضوع له ، وان قلنا بالثاني فمعناه ان الاطلاق ليس مدلولا وضعيا فنحتاج في اثباته الى اجراء مقدمات الحكمة وبذلك يكون مدلولا حكميا (1).

وتقدم ان الاعلام قبل سلطان العلماء كانوا يقولون بالاول بينما هو ومن بعده والى يومنا هذا يقولون بالثاني ، والصحيح هو الاتجاه الثاني لوجهين :

1 - ان الوجدان اللغوي والعرفي قاض بذلك ، فاذا رجعنا الى اللغة لم نجد لغويا يفسر الانسان بطبيعة الانسان المقيدة بالاطلاق بل بالطبيعة فقط. وهكذا لو رجعنا الى العرف.

هذا مضافا الى ان كلمة « انسان » مثلا لو كانت موضوعة للطبيعة مع قيد الاطلاق لزم كون استعمالها في حالات التقييد - مثل رأيت انسانا عالما - مجازا لانه استعمال في غير المعنى الموضوع له مع انا لا نشعر بالوجدان بذلك.

2 - ان قيد اللابشرط امر ذهني - لانه نحو من انحاء لحاظ الماهية في الذهن ، اذ تقدم ان انحاء لحاظ الماهية في الذهن ثلاثة احدها لحاظها على نحو اللابشرط - فلو كان قيدا في المعنى الموضوع له يلزم صيرورة معاني الالفاظ ذهنية ، اذ المقيد بالامر الذهني ذهني ، ويترتب على ذلك عدم امكان حصول الامتثال لو قال

ص: 399


1- بكسر الحاء وسكون الكاف نسبة الى الحكمة.

المولى جئني بانسان لان الانسان الذهني لا يمكن المجيء به في الخارج.

وبهذا نستنتج ان معنى كلمة « انسان » هو طبيعة الانسان المعرّاة من اي قيد حتى قيد اللابشرط. وتسمى مثل هذه الطبيعة بالماهية المهملة او بالماهية « ليسدة » فالماهية المهملة او لسدة هي التي وضعت لها الالفاظ ، ومعه نكون بحاجة في استفادة الاطلاق من كلمة « انسان » مثلا الى قرينة تدل عليه ، وتسمى تلك القرينة بمقدمات الحكمة. وهي قرينة عامة يتمسك بها لاثبات الاطلاق في كل مورد لم تقم فيه قرينة خاصة على التقييد. وسوف يأتي في صفحة (134) من الحلقة التعرض الى هذه القرينة العامة المسماة بقرينة الحكمة (1).

قوله ص 124 س 9 واعتبار الماهية في الذهن : عطف تفسير لقوله « انحاء لحاظ المعنى ».

قوله ص 124 س 9 لكي تحدد : الصواب لكي يحدّد. وقوله على اساس ذلك : اي على اساس تلك المقدمة.

قوله ص 124 س 11 كمثال : وضع الفارزة قبل قوله « كمثال » من خطأ

ص: 400


1- لرب قائل يقول : ان النتيجة التي انتهى اليها هذا البحث تتنافى مع ما تقدم سابقا ، فان ما انتهي اليه الآن ان اسماء الاجناس موضوعة للطبيعة المهملة بينما تقدم صفحة (15) س (4) من الحلقة عدم وجود حصة ثالثة في الخارج غير الانسان العالم والانسان غير العالم ، واذا لم يكن للحصة الثالثة وجود في الخارج فالوضع لها غير ممكن. والجواب : ان كلمة « انسان » موضوعة للطبيعة المهملة ، وهي وان لم تكن حصة ثالثة في الخارج في مقابل الحصتين الاوليتين لكنها موجودة في الخارج بوجود غير مستقل ، فانها الجامع والمقسم للانسان العالم وغير العالم ، والجامع موجود في الخارج لكن ضمن افراده لا مستقلا ، والسيد الشهيد قدس سره نفى فيما سبق الوجود المستقل لمفهوم الانسان الجامع لا اصل الوجود.

الطبع ، والصحيح وضعها بعد ذلك.

قوله ص 125 س 6 في معقولاته الاولية : اذا كان للشيء وجود في الخارج حقيقة وانتزع الذهن له مفهوما فهذا المفهوم في عالم الذهن يسمى بالمعقول الاولي ، كمفهوم الانسان فان له وجودا في الخارج حقيقة فمفهومه في الذهن يسمى بالمعقول الاولي ، فالمعقول الاولي هو المفهوم الذي ينتزع من الخارج وله ما بازاء في عالم الخارج ، وهذا بخلاف المعقول الثاني فانه ليس له ما بازاء في عالم الخارج كمفهوم الممكن ، فانه ليس له وجود خارجا.

ومن خصائص المعقول الثانوي كونه منتزعا من المعقول الاولي ووصفا له ، فمفهوم الممكن وصف منتزع من مفهوم الانسان الذي هو معقول اولي.

قوله ص 126 س 1 بخصوصيات ذهنية وجودا وعدما : اي خصوصيات ذهنية وجودية - وهي لحاظ وجود العلم ولحاظ عدم وجود العلم - او عدمية ، وهي عدم كلا اللحاظين.

قوله ص 126 س 4 وجودا وعدما : اي بخصوصية خارجية وجودية - وهي وجود العلم خارجا - او عدمية وهي عدم وجود العلم خارجا.

قوله ص 126 س 5 كذلك : اي خارجا.

قوله ص 126 س 14 الاولى : وضع الفارزة قبل كلمة « الاولى » من خطأ الطبع.

قوله ص 127 س 6 ومن هنا : اي لما لم يكن القيد الثانوي رقم (3) مرآة لشيء خارجي تعين ان يكون مرآة وحاكيا عن طبيعة الانسان المهملة التي هي امر ذهني.

قوله ص 128 س 1 ثم اذا تجاوزنا وعاء المعقولات الاولية ... الخ : اي لو

ص: 401

تركنا مفهوم الانسان الذي هو معقول اولي ونظرنا الى لحاظ الانسان الذي هو معقول ثانوي ، فان نفس اللحاظ معقول ثانوي لعدم الوجود له خارجا. وقد تقدم ان المعقولات الثانوية اوصاف منتزعة من المعقولات الاولية.

قوله ص 128 س 8 اللابشرط المقسمي : الصواب : اللابشرط القسمي.

التقابل بين الاطلاق والتقييد.

قوله ص 130 س 5 عرفنا ان الماهية عند ملاحظتها ... الخ : واضح ان الاطلاق يقابل التقييد وينافيه غير انه وقع الحديث بين الاصوليين في ان التقابل الواقع بينهما هل هو تقابل الضدين او العدم والملكة او النقيضين؟ والاقوال في ذلك ثلاثة :

1 - ان التقابل بينهما تقابل الضدين. وحيث ان الضدين عبارة عن الامرين الوجوديين اللذين بينهما غاية التنافي فصاحب هذا القول لا يفسر الاطلاق بعدم التقييد والا صار امرا عدميا بل بلحاظ رفض القيود - كلحاظ رفض قيد الايمان عن الرقبة - وواضح ان اللحاظ امر وجودي وليس عدميا لانه عبارة عن الوجود الذهني (1). وهذا القول اختاره السيد الخوئى « دام ظله ».

2 - ان التقابل بينهما تقابل العدم والملكة باعتبار ان الاطلاق ليس امرا وجوديا بل عدمي ، اي عدم التقييد ولكن لا مطلق عدم التقييد وانما عدم التقييد في المورد القابل له ، اما عدم التقييد في المورد غير القابل فليس اطلاقا ، فمثلا تقييد الحكم بالعلم امر مستحيل (2) ، فاذا لم يقيد فلا يكون عدم التقييد اطلاقا ، فالحكم

ص: 402


1- فمعنى لاحظت هذا الشيء تصورته في ذهني.
2- فلا يمكن ان يقال تجب الصلاة ان كنت عالما بوجوب الصلاة ، اذ العلم بالوجوب موقوف على ثبوت الوجوب ، فلو كان ثبوت الوجوب موقوفا على العلم بالوجوب ايضا لزم الدور.

بوجوب الصلاة مثلا بالنسبة الى قيد العلم ليس مقيدا ولا مطلقا بل مهمل. اما انه ليس مقيدا فلاستحاله التقييد ، واما انه ليس مطلقا فلان الاطلاق هو عدم التقييد في المورد القابل له ، والمفروض عدم قبول المورد التقييد. وهذا الرأي اختاره الميرزا قدس سره .

3 - ان التقابل بينهما تقابل النقيضين باعتبار ان الاطلاق هو عدم لحاظ التقييد سواء كان المورد قابلا للتقييد ام لا. وهذا الرأي اختاره السيد الشهيد قدس سره .

اذن الاقوال في المسألة ثلاثة. والسبب في تعددها هو الاختلاف في تفسير معنى الاطلاق ، فمن فسره بلحاظ رفض القيود اختار الرأي الاول ، ومن فسره بعدم التقييد في المورد القابل للتقييد اختار الرأي الثاني ، ومن فسره بمطلق عدم التقييد اختار الرأي الثالث.

الفارق بين الاقوال.

وقد تسأل عن الفارق بين هذه الاقوال. والجواب : انه يظهر في موردين :

1 - على القول الثالث لا يمكن تصور شق ثالث للحكم لا يكون مطلقا ولا مقيدا بل لا بد وان يكون اما مطلقا او مقيدا ، اذ النقيضان لا يوجد لهما شق ثالث لا يصدقان عليه ، وهذا بخلافه على القول الاول والثاني فانه يمكن ان يكون الحكم لا مطلقا ولا مقيدا كما لو لم يمكن للمولى تقييد الحكم فانه لا يكون مطلقا ولا مقيدا بناء على القول الثاني ، واذا كان المولى في مقام الاهمال او الاجمال لم يكن الحكم مطلقا ولا مقيدا بناء على القول الاول ايضا. وتسمى هذه الحالة التي لا يكون

ص: 403

الحكم فيها مطلقا ولا مقيدا بحالة الاهمال.

2 - في حالات استحالة التقييد - كتقييد الحكم بالعلم - هل يكون الاطلاق مستحيلا ايضا او واجبا او ممكنا؟ بناء على القول الثالث يكون الاطلاق واجبا لانه اذا استحال احد النقيضين كان ثبوت النقيض الآخر واجبا ، وبناء على القول الثاني يكون الاطلاق مستحيلا لانه في باب العدم والملكة اذا استحالت الملكة استحال مقابلها ايضا ، وبناء على القول الاول يكون الاطلاق ممكنا لانه في باب الضدين اذا استحال احدهما لم يكن وجود الآخر واجبا ولا مستحيلا بل ممكنا فيما اذا كان لهما ثالث كما في البياض فانه اذا استحال وجوده لم يكن وجود السواد واجبا لامكان ثبوت لون ثالث. وفي المقام كذلك ، فان الاطلاق والتقييد بما انهما ضدان لهما ثالث - وهي حالة الاهمال - فاستحالة التقييد لا تجعل ثبوت الاطلاق واجبا ولا مستحيلا.

اختيار القول الثالث.

والصحيح من بين الاقوال الثلاثة السابقة هو القول الثالث اي كون التقابل تقابل التناقض ، لان المقصود من الاطلاق قابلية المفهوم لشمول جميع الافراد التي يصلح ان يشملها ، فمفهوم الانسان مثلا مطلق بمعنى ان له قابلية شمول جميع افراده ، ومن الواضح مادمنا لم نلحظ التقييد فمقتضى هذه القابلية شمول الحكم لجميع افراد الانسان - في مثل قولنا اكرم كل انسان - فان القابلية المذكورة لازم لا ينفك عن مفهوم الانسان وبالتالي يكون الاطلاق لازما غير منفك عن مفهوم الانسان ما دام لم يلحظ التقييد. وعليه فلا حاجة الى لحاظ عدم التقييد كما يعتقده السيد الخوئي حيث انه يرى ان الاطلاق يحتاج الى لحاظ عدم التقييد - ومن هنا

ص: 404

كان الاطلاق عنده امرا وجوديا - كلا لا نحتاج لذلك بل يكفي عدم لحاظ التقييد لما ذكرنا من ان قابلية الشمول ذاتية وبمجرد عدم لحاظ التقييد تكون تلك القابلية مقتضية لسريان الحكم وشمول المفهوم لجميع الافراد.

لا يقال : ان القابلية اذا كانت ذاتية للمفهوم ولا يمكن انفكاكها عنه فكيف انفكت عنه في موارد التقييد كقولنا « اكرم انسانا عالما » فان مفهوم الانسان لا يصلح في هذا المورد لشمول جميع الافراد بما في ذلك غير العالم بل يختص بالعالم.

فانه يقال : ان التقييد لا يسلب القابلية ، فمفهوم الانسان بعد تقييده صالح ايضا لشمول جميع الافراد ، غاية الامر بعد التقييد ينعدم مفهوم الانسان ويحدث بدله مفهوم جديد وهو مفهوم الانسان العالم الذي هو اضيق من مفهوم الانسان ، فلاجل انعدام المفهوم الاول وتبدله الى مفهوم جديد نحس بعدم قابلية انطباق مفهوم الانسان على غير العالم.

لا يقال : ان مفهوم الانسان بعد التقييد لم ينعدم وانما ضيّق بالتقييد.

فانه يقال : ان المفهوم بعد تقييده يصبح مغايرا له قبل تقييده ، اذ المفاهيم في عالم الذهن متغايره وليس بعضها اخص او اعم او مساويا للبعض الآخر ، فان الاخصية والاعمية والمساواة من خصائص عالم الخارج واما في عالم الذهن فجميع المفاهيم متباينة بما في ذلك المفاهيم المتساوية ، فمفهوم الانسان والناطق وان كان بينهما في عالم الخارج مساواة الا انه في عالم الذهن توجد بينهما مباينة ، فان صورة الناطق غير صورة الانسان وليست احداهما عين الاخرى. وهكذا في المقام نقول : ان مفهوم الانسان ومفهوم الانسان العالم وان كان بينهما في عالم الخارج نسبة العموم والخصوص المطلق الا انهما في عالم الذهن متباينان اذ صورة

ص: 405

هذا غير صورة ذاك (1).

الاطلاق والتقييد الثبوتيان والاثباتيان.

قوله ص 132 س 15 وبهذا الصدد يجب ان نميز ... الخ : الاطلاق والتقييد تارة يكونان ثبوتيين واخرى اثباتيين. والفرق بينهما انه تارة ينظر الى الحكم المشرّع بقطع النظر عن الدليل الدال عليه ، واخرى يلتفت الى الدليل ويجعل اطلاقه كاشفا عن اطلاق الحكم واقعا وتقييده كاشفا عن تقييد الحكم واقعا.

ويسمى الاطلاق والتقييد في الحالة الاولى بالاطلاق والتقييد الثبوتيين وفي الحالة الثانية بالاطلاق والتقييد الاثباتيين.

والاقوال الثلاثة السابقة كانت ناظرة الى الاطلاق والتقييد الثبوتيين كاطلاق وتقييد الحكم الثابت في قلب المشرع بقطع النظر عن الدليل الدال عليه فانهما يتقابلان تقابل التضاد على رأي او العدم والملكة على رأي ثاني او التناقض على رأي ثالث ، واما الاطلاق والتقييد الاثباتيان فقد اتفقت الكلمة ومن دون خلاف في كون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، فاطلاق الدليل لا يمكن ان يكشف عن كون الحكم مطلقا واقعا الا اذا كان بامكان المولى تقييد الدليل ولم يقيده ، اما اذا لم يمكن تقييده لبعض الاسباب - كما اذا كان يخاف من عدو - فعدم تقييده لا يكون دالا على اطلاق الحكم واقعا. وقد مرت الاشارة الى هذا في الحلقة الثانية ص 122.

ص: 406


1- ويمكن استيضاح ذلك اكثر بما لو اخذنا بآلة التصوير صورتين احداهما للانسان والاخرى للانسان العالم فكما ان بين الصورتين تغايرا خارجيا كذلك الصورتان اللتان يأخذهما الذهن لمفهوم الانسان ومفهوم الانسان العالم متغايرتان.

قوله ص 132 س 5 تجعله صالحا لاسراء الحكم : اي ان تلك القابلية تجعل المفهوم صالحا لان يسرّي - بتشديد الراء - الحكم الى جميع افراده ، فحينما يقال اكرم كل انسان يسري الحكم الى جميع افراد الانسان سريانا شموليا بسبب تلك القابلية ، وحينما يقال اكرم انسانا ما يسري الحكم الى فرد واحد من افراد الانسان سريانا بدليا. والسريان الشمولي يعني ثبوت الحكم لجميع الافراد.

والسريان البدلي يعني ثبوت الحكم لفرد واحد من الافراد.

قوله ص 132 س 7 لازمة له : خبر لقوله « وهذه القابلية ».

قوله ص 132 س 9 اللازم وملزومه : المراد من اللازم القابلية ، ومن الملزوم ذات المفهوم.

قوله ص 132 س 17 عن التقابل ... الخ : متعلق بقوله « متميز ».

قوله ص 132 س 17 اي عدم ذكر ... الخ : هذه الجمله من قوله « اي عدم » الى قوله « بقرينة الحكمة » جملة معترضة يقصد بها تفسير الاطلاق الاثباتي.

قوله ص 133 س 1 والتقييد المقابل له : عطف على « الاطلاق الاثباتي ».

احترازية القيود وقرينة الحكمة.

قوله ص 134 س 1 قد يقول المولى اكرم الفقير العادل ... الخ : في هذا البحث يراد توضيح قاعدتين هما :

1 - قاعدة احترازية القيود.

2 - قاعدة مقدمات الحكمة.

وقد ذكر في الكتاب مثالين احدهما - وهو اكرم الفقير العادل - مثال

ص: 407

للقاعدة الاولى ، والثاني - وهو اكرم الفقير - مثال للقاعدة الثانية.

وقبل توضيح مطالب الكتاب نذكر ثلاث مقدمات تساعد على فهمها وهي :

1 - قرأنا في الحلقة الثانية ان المفهوم في الجملة الشرطية مثلا هو انتفاء طبيعي الحكم عند انتفاء الشرط لا انتفاء شخص الحكم ، فمثلا حينما نقول « اذا جاءك زيد فاكرمه » فشخص الحكم هو وجوب الاكرام المسبب عن مجىء زيد والمقيد به ، وطبيعى الحكم هو اصل وجوب الاكرام من اي سبب كان. ولا اشكال عند انتفاء مجيء زيد ينتفي وجوب الاكرام المقيد بالمجىء ولم يخالف في ذلك احد فانه ما دام الوجوب مقيدا بالمجىء فيلزم انتفاؤه عند انتفائه. وانتفاء مثل هذا الحكم ليس هو المفهوم بل المفهوم هو انتفاء اصل وجوب الاكرام وطبيعيّه عند انتفاء المجيء ، فاذا دلت الجملة السابقة على ان زيدا اذا لم يجيء فلا يجب اكرامه حتى اذا رجع من سفر الحج او مرض او صار فقيرا او ... كان ذلك هو المفهوم.

2 - المقصود من قاعدة احترازية القيود ان المتكلم اذا اخذ في كلامه قيد العدالة مثلا وقال « اكرم الفقير العادل » كان ذلك دخيلا في مراده واقعا بحيث اذا لم يكن الفقير عادلا فلا وجوب ، فالوجوب مقيد بالعدالة ويزول بزوالها ، وبقيد العدالة احترز عن اكرام الفقير الفاسق. ومضمون القاعدة بالشكل الذي ذكرنا واضح ومرتكز في ذهن كل انسان عرفي ولا يحتاج الى اقامة دليل عليه. والسيد الشهيد قدس سره في كلامه لم يقصد الاستدلال على القاعدة المذكورة بل قصد توضيح نكاتها وتحليلها تحليلا عرفيا وان استعمل بعض المصطلحات التي قد يظن السامع لها انه يريد بيان مطلب غير عرفي.

3 - ذكرنا سابقا ان لكل كلام ثلاث دلالات هي :

ص: 408

أ - الدلالة التصورية. وهي عبارة عن خطور المعنى الى الذهن ، فاذا قيل زيد قائم خطر للذهن قيام زيد وان صدرت الجملة من اصطكاك حجرين.

ب - الدلالة التصديقية الاولى. وهي دلالة الكلام على ان المتكلم قد قصد اخطار المعنى واراد ذلك. ولا تحصل الدلالة المذكورة اذا صدر الكلام من اصطكاك حجرين بل تختص بحالة كون المتكلم ممن يمكنه القصد.

ج - الدلالة التصديقية الثانية. وهي دلالة الكلام على ان المتكلم قد قصد اخطار المعنى عن جد لا عن هزل.

وبعد هذه المقدمات الثلاث نعود لتوضيح مطالب الكتاب ونمنهجها في عدة نقاط ترتبط الخمس الاولى منها بقاعدة احترازية القيود والبقية بمقدمات الحكمة.

1 - ان المولى اذا قال « اكرم الفقير العادل » فالذى يخطر للذهن - وخطور المعنى عبارة اخرى عن الدلالة التصورية - اكرام خصوص الفقير العادل لا كل فقير. وبتعبير آخر ان قيد العدالة يخطر الى الذهن. ونفهم من الجملة المذكورة ايضا ان المتكلم قصد اخطار قيد العدالة. وهذا ما يسمى بالدلالة التصديقية الاولى. كما ونفهم ان قصد اخطار قيد العدالة وليد الجد دون الهزل اي هو دخيل في المراد واقعا. وهذا ما يسمى بالدلالة التصديقية الثانية.

وهذه النقطة تعرض لها قدس سره من قوله « ففي الحالة الاولى » الى قوله س 8 « وليس هازلا ».

2 - قلنا ان الجملة المذكورة تدل بالدلالة التصديقية الثانية على ان قيد العدالة دخيل في مراد المتكلم واقعا. وهنا نسأل عن السبب في حصول هذه الدلالة. والسبب هو : ان ظاهر حال كل متكلم تطابق المدلول التصديقي الثاني لكلامه مع المدلول التصديقى الاول ، اي ان ظاهر كلامه ان كل ما قصد اخطاره

ص: 409

فهو مراد له واقعا. وبسبب هذا الظهور يثبت ان قيد العدالة دخيل في مراد المتكلم واقعا. وهذا هو ما يسمى بقاعدة احترازية القيود.

وهذه النقطة تعرض لها قدس سره من قوله س 9 « وبحكم ظهور الحال » الى قوله ص 135 س 3 و « مرجع ظهور التطابق ».

3 - وقد تسأل عن المنشأ لظهور التطابق بين المدلول التصديقي الاول والمدلول التصديقي الثاني. والمنشأ هو الظهور في ان كل ما يقوله المتكلم هو مراد له واقعا. وقيد العدالة بما انه قد قاله المتكلم فهو مراد له واقعا.

وهذه النقطة اشار لها قدس سره من قوله ص 135 س 3 « ومرجع ظهور التطابق » الى قوله س 5 « يريده جدا ».

4 - ان هذا الظهور الجديد - وهو ان كل ما قاله يريده واقعا - له موضوع وهو « ما قاله ». وفي هذه النقطة نريد توضيح كيف يمكن اثبات ان قيد العدالة مثلا قد قاله المولى؟ ان الطريق لذلك هو الدلالة التصورية والدلالة التصديقية الاولى ، اذ بهما يثبت ان المولى قد قال وقصد اخطار قيد العدالة.

وهذا النقطة تعرض لها قدس سره من قوله س 6 : والدلالة التصورية الى قوله س 9 : المذكور.

5 - بقاعدة احترازية القيود يثبت ان قيد العدالة دخيل في وجوب الاكرام بحيث اذا لم تكن العدالة ثابتة فلا يكون وجوب الاكرام ثابتا.

ولرب قائل يقول : ان قاعدة احترازية القيود اذا كانت تثبت دخالة قيد العدالة في وجوب الاكرام بحيث ينتفي الوجوب عند عدم العدالة فلازم ذلك ثبوت المفهوم للجملة الوصفية ويكون مثل قولنا اكرم الفقير العادل دالا على المفهوم وانه لا يجب اكرام الفقير غير العادل مع ان الاعلام قد اطبقت كلمتهم تقريبا على عدم ثبوت

ص: 410

المفهوم للوصف فكيف التوفيق؟ والجواب : ان قاعدة الاحتراز في القيود تثبت انعدام وجوب الاكرام المقيد بالعدالة عند انتفاء العدالة ، اي تثبت ان شخص الحكم منتف عند انتفاء العدالة ، وهذا ليس مفهوما ، فان المفهوم هو انتفاء طبيعى الحكم لا شخصه.

وان شئت قلت : ان قاعدة الاحتراز لو كانت تدل على انتفاء اصل وجوب الاكرام عند انتفاء العدالة حتى ولو فرض المرض او المجيء من السفر او غير ذلك كان المفهوم ثابتا ولكن المفروض انها لا تثبت ذلك وانما تثبت ان شخص الحكم المقيد بالعدالة منتف عند انتفاء العدالة.

وهذه النقطة تعرض لها قدس سره من قوله س 10 : « وقاعدة الاحترازيه » الى قوله س 15 : « في الحلقة السابقة ».

مقدمات الحكمة.

6 - والكلام فيما سبق كان راجعا الى قاعدة الاحتراز في القيود ومن الآن يقع عن مقدمات الحكمة.

توضيح ذلك : ان المولى لو قال : « اكرم الفقير » دل ذلك بالدلالة التصورية على وجوب اكرام ذات الفقير. ومدلول كلمة الفقير بما انه الطبيعة المهملة فالذي يخطر الى الذهن هو ذات الفقير ولا يخطر الاطلاق ، كما ويثبت بمقتضى الدلالة التصديقية الاولى ان المولى قد قصد اخطار اكرام ذات الفقير ولا يصح القول انه قصد اخطار الاطلاق ، اذ الاطلاق ليس مدلولا وضعيا لكلمة الفقير على ما تقدم سابقا.

وهذه النقطة اشار لها قدس سره من قوله س 16 : « واما في الحالة الثانية » الى

ص: 411

قوله ص 136 س 8 : « ولم يقله ».

7 - واذا ثبت ان المولى لم يذكر قيد العدالة ولم يقله وانما ذكر وجوب اكرام ذات الفقير نطبق ظهورا جديدا وهو ان ظاهر حال كل متكلم بيان تمام مراده الواقعى ، ولازم ذلك ان قيد العدالة ليس جزء من المراد الواقعي والاّ لبيّن. وعليه فكل قيد لم يبينه المولى فهو لا يريده واقعا. وهذا ما يسمى بالاطلاق او بمقدمات الحكمة.

وقد تعرض قدس سره لهذه النقطه من قوله س 8 : « وهذا يحقق » الى قوله س 15 « او مقدمات الحكمة ».

8 - انا لو قارنا بين الظهور الذي تعتمد عليه قاعدة الاحتراز في القيود والظهور الذى تعتمد عليه مقدمات الحكمة لوجدنا ان الظهور الاول هو ظهور حال المتكلم في ان كل ما قاله يريده بينما الظهور الثاني هو ظهور حال المتكلم في ان ما لا يقوله لا يريده. ويمكننا ان نسمي الظهور الاول بالظهور الايجابي في التطابق والظهور الثاني بالظهور السلبي في التطابق ، ونكتة التسمية واضحة ، فان الاول ظهور ايجابي في التطابق بين ما قاله وما اراده من دون اشتمال على حرف سلب بينما الظهور

الثاني ظهور سلبي يشتمل على اداة السلب.

وقد اشار قدس سره لهذه النقطة من قوله س 17 : « وبالمقارنة نجد » الى قوله ص 137 س 9 : « ويلاحظ ان ظهور ».

9 - لو قارنا بين الظهور الاول والظهور الثاني لوجدنا ان الاول اقوى من الثاني ، فظهور حال المتكلم في ان ما قاله يريده اقوى ، فالمتكلم اذا قال اعتق رقبة مؤمنة يكون ظهور حاله في ان قيد الايمان الذي قاله يريده اقوى لان احتمال الاشتباه في ذكره لقيد الايمان ضعيف جدا بخلاف ما لو قال اعتق رقبة من دون

ص: 412

ذكر قيد الايمان فان ظاهر حاله في ان القيد الذي لم يقله لم يرده اضعف اذ احتمال الاشتباه في عدم ذكر القيد اقوى بالنسبة الى احتمال الاشتباه في ذكره.

ومن هنا صح القول : متى ما اجتمع المطلق والمقيد - مثل اعتق رقبة واعتق رقبة مؤمنة - اخذ بالمقيد وطرح اطلاق المطلق لان احتمال الاشتباه فى ذكر قيد الايمان في جملة اعتق رقبة مؤمنة ضعيف جدا بخلاف احتمال الاشتباه في عدم ذكر قيد الايمان في جملة اعتق رقبة فانه ليس ضعيفا جدا.

وهذه النقطة اشار لها قدس سره بقوله س 9 : « ويلاحط ان ظهور حال » الى قوله س 14 : « لقواعد الجمع العرفي ».

10 - من خلال ما تقدم اتضح ان قرينة الحكمة تتركب من مقدمتين هما :

ا - عدم ذكر المتكلم لقيد الايمان مثلا.

ب - ظهور حال المتكلم في ان كل قيد لم يذكره فهو لا يريده واقعا ، والمقدمة الاولى بمثابة الصغرى والمقدمة الثانية بمثابة الكبرى.

وهذه النقطة اشار لها قدس سره بقوله ص 137 س 15 : « ويتضح مما ذكرناه » الى قوله ص 138 س 9 : « لم يذكر في الكلام ».

11 - ان الدلالة على الاطلاق تزول عند ذكر المتكلم القيد حيث تختل بذلك المقدمة الاولى من المقدمتين اللتين تعتمد عليهما قرينة الحكمة. وهذا شيء واضح ولكن وقع البحث بين الاصوليين في حالتين :

الاولى : لا اشكال في زوال الظهور الاطلاقي عند ذكر القيد متصلا بالمطلق ولكن هل يزول ايضا عند ذكر القيد منفصلا او لا؟ فاذا قال المتكلم اعتق رقبة وبعد يوم او يومين ذكر قيدا منفصلا وقال اعتق رقبة مؤمنة فهل هذا القيد المنفصل يزيل الظهور الاطلاقي من اساسه كما يزيله القيد المتصل او انه يبقى ولا يزول

ص: 413

غاية الامر يقدم المقيد المنفصل عليه من باب تقديم اقوى الحجتين ، فالظهور الاطلاقي حجة والمقيد حجة والثاني حيث انه اقوى من الاول يقدم عليه؟ نسب الى الشيخ الانصاري قدس سره الاحتمال الاول اي ان المقيد المنفصل يزيل الظهور الاطلاقي من اساسه ، بينما المشهور ذهبوا الى الاحتمال الثاني. والاحتمالان يرتبطان بمعرفة الظهور الذي يستند اليه الاطلاق ، فانا عرفنا ان الاطلاق يستند الى ظهور حال المتكلم في ان كل ما لا يقوله لا يريده ، اذ ان كل ما يريده لا بد وان يبينه ، ونحن نسأل هل ان كل ما يريده المتكلم لا بد وان يبينه بشخص كلامه الواحد او ان ظاهر حاله تبيانه كل ما يريده بمجموع كلماته الصادرة منه خلال مجموع عمره؟ فعلى الاول يلزم المتكلم ان يبين القيد متصلا بكلامه ، فاذا ذكره متصلا لم ينعقد الظهور الاطلاقي وان لم يذكره متصلا انعقد بينما على الاحتمال الثاني لا يلزم المتكلم ذكر القيد متصلا ، ولو ذكره منفصلا بعد سنة او سنتين زال الظهور الاطلاقي منذ البداية.

والصحيح ان ظاهر حال المتكلم تبيان كل ما يريده بشخص كلامه الواحد. والدليل على ذلك امران :

أ - الوجدان العرفي ، فانه قاض بان المتكلم لا بد وان يبين كل ما هو دخيل في مرامه بشخص كلامه الواحد لا بمجموع كلماته الى يوم القيامة.

ب - ان انعقاد الظهور الاطلاقي لو كان موقوفا على عدم ذكر القيد المنفصل ايضا لزم ان لا ينعقد اطلاق في الدنيا ابدا - اذ كل مطلق يطرحه المتكلم نحتمل بعد مدة قصيرة او طويلة ذكر قيد منفصل له - وهو خلاف الوجدان.

الثانية : وقع بحث بين الاصوليين في ان انعقاد الاطلاق هل يتوقف على عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب. وتوضيح ذلك ان : للمطلق حالات

ص: 414

ثلاث :

أ - ان لا تكون ارادة المتكلم لبعض الافراد اولى من ارادته للبعض الآخر كما لو قال المتكلم اشتر لي دفترا ولم يكن لبعض الدفاتر اولوية على بعض آخر.

وفي هذه الحالة لا قدر متيقن في البين وينعقد الاطلاق جزما.

ب - ان تكون ارادة المتكلم لبعض افراد المطلق متيقنة ولكن سبب تيقنها ليس هو الخطاب بل شيء آخر ، كما لو قال المتكلم اعتق رقبة ، فان ارادة المؤمنة متيقنة ، وهذا التيقن ثابت بقطع النظر عن الخطاب باعتبار ان المؤمنة افضل افراد الرقبة والعاقل عادة يريد الافضل ولا يرغب عنه. ومثل هذا القدر المتيقن لا يمنع من التمسك باطلاق المطلق والا يلزم عدم امكان التمسك بغالب الاطلاقات ، اذ غالبا ما يوجد قدر متيقن من خارج الخطاب.

ج - ان تكون ارادة المتكلم لبعض الافراد متيقنة ويكون سبب التيقن هو الخطاب. ومثال ذلك ما ورد في حديث زرارة انه سأل الامام الصادق علیه السلام عن المصلي يشك في التكبير بعد ما دخل في قراءة الحمد ، فاجاب علیه السلام يمضي في صلاته ولا يعتني للشك ثم سأله عمن شك في القراءة بعد ما دخل في الركوع فاجابه علیه السلام بالمضيّ وعدم الاعتناء ، ثم سأله ثالثا عمن شك في الركوع بعد ما دخل في السجود فاجابه علیه السلام بالمضي ايضا ثم قدّم له الامام علیه السلام قاعدة عامة وقال له « اذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشيء » (1). ومثل هذه القاعدة تسمى بقاعدة التجاوز. وقد وقع الحديث بين الفقهاء في ان القاعدة المذكورة هل يمكن تطبيقها في باب الحج ايضا او لا ، فمن شك في صحة طوافه بعد ان دخل في السعي هل يمكن تطبيق القاعدة عليه او لا؟ ذهب بعض الفقهاء الى عدم

ص: 415


1- الوسائل ج 5 باب 23 من ابواب الخلل الواقع في الصلاة حديث 1.

عموميتها ، اذ القدر المتيقن من تلك القاعدة هو الصلاة وهو قدر متيقن من نفس الخطاب والمحاورة ، فان الخطاب والمحاورة كانا يدوران حول الصلاة وليس هذا التيقن من الخارج ، اذ بقطع النظر عن الخطاب لا اولوية للصلاة على الحج.

والى هذا الرأي ذهب الآخوند قدس سره فانه ذكر ان وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب يمنع من التمسك بالاطلاق واستدل على ذلك بان من المحتمل ان يكون مراد المتكلم خصوص الصلاة اي خصوص القدر المتيقن فان كلامه يفي ببيان هذا القدر المتيقن ، ومع وفائه به لا يصدق ان المتكلم قد اخل بمراده لو كان مراده واقعا خصوص القدر المتيقن اي خصوص الصلاة.

ومثال ثان لتوضيح القدر المتيقن في مقام التخاطب : ما لو سأل سائل الامام علیه السلام عن الفقير العادل هل يجب اكرامه او لا فاجاب بانه يجب اكرام الفقير من دون ان يذكر قيد العدالة ، فانه في هذا المثال وان كان الجواب مطلقا الا ان القدر المتيقن منه هو وجوب اكرام الفقير العادل لاكل فقير ، وهذا القدر المتيقن قدر متيقن في مقام التخاطب فان السؤال كان مرتبطا بالفقير العادل لا مطلق الفقير.

وهنا يقول صاحب الكفاية ايضا ان هذا القدر المتيقن يمنع من التمسك باطلاق الخطاب لاحتمال ان يكون المراد اكرام خصوص الفقير العادل وهو قد حصل بيانه.

هذا ولكن المناقشة في رأي الآخوند هذا بان كل ما هو دخيل في مراد المتكلم لا بد من بيانه ، فقيد الايمان مثلا لو كان دخيلا في المراد لا بد من بيانه في الكلام بان يقال اعتق رقبة مؤمنة ، فاذا لم يبين بالكلام استنتج عدم دخالته في المراد الواقعي. وهنا ايضا يقال : لو كان قيد العدالة دخيلا في وجوب اكرام الفقير لبيّن بالكلام وحيث لم يبين كان ذلك دليلا على عدم مدخليته في المراد.

ص: 416

لا يقال : ان نفس كون العدالة قدرا متيقنا من الخطاب بيان لمدخليتها في المراد الواقعي.

فانه يقال : لا نسلم ذلك ، فان كون العدالة هي القدر المتيقن ليس معناه ان المتكلم قد بين دخالة العدالة في مراده.

تنبيهات ترتبط بمقدمات الحكمة ...
اشارة

قوله ص 142 س 4 هذا هو البحث في اصل الاطلاق ... الخ : وبعد التعرف على حقيقة قرينة الحكمة يقع الكلام عن تنبيهات ترتبط بذلك :

التنبيه الاول :

ان الدلالة الاطلاقية هل هي ناظرة الى تحديد المدلول التصديقي اي المراد الجدي او الى المدلول التصوري اي المدلول الوضعي؟ والصحيح هو الاول ، فان الدلالة الاطلاقية ترتكز على ظهور حال المتكلم في ان ما لا يقوله لا يريده ، وبما ان هذا الظهور ناظر الى تحديد المراد الجدي - حيث يحدد ان القيد ما دام لم يقله المتكلم فهو لا يريده واقعا - فاللازم ان تكون الدلالة الاطلاقية التي ترتكز على هذا الظهور ناظرة الى تحديد المراد الجدي ايضا. اجل اذا بنينا على الرأي الثابت قبل سلطان العلماء القائل بان الاطلاق جزء من المعنى الموضوع له فاللازم ان تكون الدلالة الاطلاقية ناظرة الى تحديد المدلول التصوري.

التنبيه الثاني :

ان قرينة الحكمة تارة تقتضي الاطلاق الشمولي واخرى الاطلاق البدلي ، فمثلا اذا قال المتكلم اكرم العالم كانت قرينة الحكمة في كلمة العالم مقتضية للاطلاق الشمولي اي لوجوب اكرام جميع افراد العلماء ولكن بالنسبة الى الاكرام الذي هو

ص: 417

متعلق الوجوب لا تقتضي شموليته بل تقتضي بدليته ، اي انها تقتضي وجوب ايجاد فرد واحد من افراد الاكرام لا جميعها ، فان للاكرام افرادا متعددة كاهداء الهدية او الزيارة عند المرض او القيام عند الدخول في المجلس وغير ذلك ، وهذه الافراد لا يجب جميعها لان ايجاد جميعها في حق كل فرد امر صعب بل لعله غير مقدور.

اذن قرينة الحكمة تقتضي بالنسبة الى الموضوع - وهو العالم - الشمولية بينما بالنسبة الى المتعلق تقتضي البدلية.

واذا تجلى هذا فقد يشكل ويقال : ان قرينه الحكمة شيء واحد فكيف اقتضت مرة الشمولية واخرى البدلية والحال ان الشيء الواحد لا ينتج حالتين مختلفتين؟ وقد اجيب بالاجوبه الثلاثة التالية :

1 - ما ذكره السيد الخوئي : « دام ظله » من ان مقدمات الحكمة لا تقتضي الا شيئا واحدا وهو عدم التقييد ولا تقتضي بنفسها الشمولية ولا البدلية حتى يقال انها شيء واحد فكيف اقتضت شيئين مختلفين ، وانما الشمولية والبدلية تثبتان بقرينة اخرى غير قرينة الحكمة ، فمثلا الاكرام لو وقع متعلقا للامر وقيل اكرم العالم كانت القرينة الخارجية مقتضية للبدلية حيث ان الشمولية يلزم منها التكليف بغير المقدور كما ذكرنا سابقا ، واما اذا وقع الاكرام متعلقا للنهي بان قيل لا تكرم الفاسق كانت القرينة الخارجية مقتضية للشمولية في الاكرام ، اذ لو كان المقصود لا تكرم الفاسق باكرام واحد من افراد الاكرام لزم محذور اللغوية لانا قلنا ان الانسان لا يمكنه عادة ان يأتي بجميع افراد الاكرام بل لا بد وان يكون واحد منها على الاقل متروكا ومعه يكون النهي عن الفرد الواحد من افراد الاكرام لغوا لتحقق تركه بلا حاجة للنهي عنه ويكون النهي عنه طلبا لتحصيل الحاصل.

ويرده : النقض بالحالات التي يكون فيها كل من الشمولية والبدلية امرا

ص: 418

معقولا كما هو الحال بالنسبة الى كلمة « العالم » في قولنا « اكرم العالم » ، فان كلا من الشمولية والبدلية في كلمة « العالم » معقولة ولا تقتضي القرينة الخارجية خصوص احدهما ، ومعه لا بد وان يكون السبب في استفادة الشمولية قرينة الحكمة لا القرينة الخارجية.

2 - ما ذكره الشيخ العراقي قدس سره من ان قرينة الحكمة تقتضي شيئا واحدا وهو البدلية واما الشمولية فتستفاد من القرينة الخارجية. اما لما ذا كانت قرينة الحكمة مقتضية للبدلية فالجواب عنه ان قرينة الحكمة تقتضي تعلق الحكم بالطبيعة من دون مدخلية التقييد ، وواضح ان الطبيعة تصدق على الفرد الواحد فيكون الاتيان بالفرد الواحد كافيا ، واذا كان مراد المتكلم الشمولية فلا بد له من اقامة القرينة الخاصة على ان الطبيعة قد لا حظها سارية في جميع الافراد.

3 - نفس الجواب السابق مع تغيير يسير بان نقول : ان قرينة الحكمة تقتضي شيئا واحدا وهو الشمولية - خلافا للجواب السابق حيث كان يقول انها تقتضي البدلية - باعتبار ان قرينة الحكمة تدل على تعلق الحكم بالطبيعة من دون اي قيد معها وبما ان الطبيعة غير المقيدة عامة وسارية في جميع الافراد فيلزم ان يكون الحكم المتعلق بها ساريا الى جميع الافراد. اذن قرينة الحكمة تقتضي الشمولية ولا يحكم بالبدلية الا اذا دلت قرينة خاصة عليها كما اذا دلت على لحاظ متعلق الامر - كالصلاة مثلا في امر « صل » مقيدا بوجوده الاول اي بفرده الاول بان يكون المقصود إإت بفرد واحد من الصلاة (1).

ص: 419


1- يرد على هذا الوجه ما تقدم ص 122 س 14 من الحلقة من ان الطبيعة بعد اجراء قرينة الحكمة تقتضي البدلية - اي الاتيان بفرد واحد - دون الشمولية فهذا الوجه الثالث ان كان يتبناه السيد الشهيد قدس سره فهو يتنا فى مع ما تقدم.
التنبيه الثالث :

هناك اختلاف واضح بين الامر والنهي ، ففي النهي تتعدد الحرمة بعدد افراد المتعلق ، فاذا قيل لا تكذب وكان عدد الكذبات 100 انحل النهي الى 100 حرمة ، فاذا كذب المكلف كذبة واحدة كان عاصيا لحرمه واحدة وممتثلا ل- (99) حرمة ، هذا في النهي. واما الامر فلا يحصل فيه هذا الانحلال ، فالوجوب في خطاب « صل » وجوب واحد متعلق بصلاة واحدة واذا خالف المكلف ولم يصل فلا يستحق الا عقابا واحدا.

وسبب هذا التعدد هناك وعدمة هنا هو الشمولية هناك والبدلية هنا ، فان متعلق النهي في مثل لا تكذب حيث انه شمولي - فان قرينة الحكمة تقتضي كون المقصود من الكذب جميع افراده لا كذبة واحدة - فاللازم تعدد الحرمة بعدد افراد المتعلق ، وهذا بخلافه في متعلق الامر ، فان قرينة الحكمة حيث انها تقتضي البدلية فيه وان المقصود صلاة واحدة من بين افراد الصلاة فاللازم ان يكون الحكم المستفاد حكما واحدا متعلقا بصلاة واحدة لا اكثر.

وباختصار : ان الحكم في النهي يتعدد بعدد افراد المتعلق بخلافه في الامر فانه لا يتعدد.

اجل بعض النواهي لا يتعدد فيها الحكم وذلك فيما اذا كان المتعلق غير قابل للتكرار كما في مثل « لا تحدث » فان الحدث لا يقبل التكرار ، فمن بال صار محدثا واذا بال ثانية او نام لا يصير محدثا ثانيا او ثالثا. ولكن رغم ان الحكم لا يتعدد في مثل النهي المذكور يبقى الفارق بين الامر والنهي ثابتا ، فاذا قيل « لا تحدث » فالحرمة وان كانت واحدة الا ان امتثالها لا يحصل الا بترك الحدث بجميع افراده واسبابه بان يترك البول والنوم والجنابة وغير ذلك بينما اذا قيل « احدث » كفى

ص: 420

ايجاد الحدث مرة واحدة. وما هذا الفرق الا من جهة ان الامر يقتضي ايجاد الطبيعة ، ووجودها يحصل بوجود فرد واحد منها ، بينما النهي يقتضي عدم الطبيعة ، وعدمها لا يتحقق الا بعدم جميع افرادها ، والفارق المذكور تكوينى وليس شرعيا ، فانه تكوينا وعقلا تحصل الطبيعة بالفرد الواحد ولا تنعدم الا بعدم جميع الافراد.

التنبيه الرابع :

وقبل توضيح التنبيه المذكور لا بد من استذكار نقطتين تقدمتا في الحلقة الاولى هما :

1 - ان الحكم له مرتبتان : مرتبة الجعل ومرتبة المجعول ، ومرتبة الجعل تعني انشاء الحكم وتشريعه ، فان جعل الحكم عبارة اخرى عن انشائه وتشريعه كقوله تعالى « وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ ... » فانه يستفاد منه تشريع وجوب الحج على المستطيع ، وهذا التشريع هو الجعل. واما اذا صار الحكم فعليا - وذلك عند تحقق الاستطاعة بالفعل للمكلف - سمي بالمجعول. فالحكم الانشائي هو الجعل والحكم الفعلي هو المجعول ، وقد تقدم ذلك في الحلقة الاولى صفحة (156).

2 - بعد ان عرفنا ان المجعول عبارة عن الحكم الفعلي قد يسأل : متى يصير الحكم فعليا؟ انه يصير فعليا عند صيرورة موضوعه فعليا ، فقبل تحقق الاستطاعة بالفعل لا يكون الحكم الثابت الا انشاء وجوب الحج على تقدير الاستطاعة ، وبعد تحقق الاستطاعه بالفعل وصيرورة الموضوع فعليا يتحول الحكم من كونه انشائيا الى الفعلية ، ففعلية الحكم اذن بفعلية موضوعه. وقد تقدم هذا في الحلقة الاولى صفحة (158).

ص: 421

وبعد هذا نعود الى التنبيه وحاصله يرجع الى مطلبين :

1 - تقدم ان قرينة الحكمة تنتج احيانا الشمولية كما في مثل اكرم العالم حيث تقتضي وجوب اكرام كل فرد من افراد العالم وبالتالي تقتضي انحلال الحكم بعدد افراد العالم ، فاذا كان عدد الافراد (100) انحل الحكم بوجوب الاكرام الى (100) حكم ولكل فرد حكم يخصه ، فهذا العالم يجب اكرامه وذلك العالم يجب اكرامه ايضا و ....

وقد يسأل : ان هذا الانحلال هل يحصل في مرتبة الجعل اي الانشاء او في مرتبة المجعول اي مرحلة الفعلية؟ والجواب : انه في مرتبة الجعل لا يوجد انحلال اذ لم يصدر من الحاكم الا حكم واحد بوجوب اكرام طبيعي العالم وانما الانحلال يحصل في مرتبة الفعلية والمجعول فان الحكم يصير فعليا بفعلية موضوعه ، فكلما تحقق فرد من افراد الموضوع بالفعل ثبت له وجوب فعلي بالاكرام ، فاذا درس (50) انسانا وصاروا علماء ثبت (50) حكما بوجوب الاكرام.

2 - ان مفاد كل خطاب حيث انه الجعل والانشاء وليس هو المجعول والفعلية - اذ مفاد اكرم العالم مثلا هو انشاء الوجوب وتشريعه - صح القول بان انحلال الحكم وتعدده ليس هو في مرحلة مفاد الخطاب التي هي الجعل وانما هو في مرحلة المجعول التي هي مرحلة مغايرة لمرحلة مفاد الخطاب.

قوله ص 134 س 1 اكرم الفقير العادل : هذا مثال لقاعدة الاحتراز في القيود. والمثال الثاني مثال لمقدمات الحكمة.

قوله ص 134 س 9 وبحكم ظهور الحال ... الخ : هذا بيان لسبب الدلالة التصديقية الثانية على مدخلية العدالة فى المراد الجدي.

ص: 422

قوله ص 134 س 12 وبهذا الطريق ... الخ : اي بسبب ظهور التطابق نستكشف مدخلية العدالة في المراد الجدي.

قوله ص 139 س 3 وقد يقدم عليه : اي ان المقيد يقدم على المطلق - مع ان ظهور المطلق ثابت ولم ينعدم بورود المقيد المنفصل - من جهة قواعد الجمع العرفي التي تقتضي تقدم المقيد على المطلق من باب تقديم احدى الحجتين على الاخرى.

قوله ص 142 س 8 وهذا الظهور دلالته تصديقية : اي ناظر الى المدلول التصديقي وهو المراد الجدي.

قوله ص 142 س 13 فانها تدخل : اي الدلالة الاطلاقية.

قوله ص 143 س 9 بمعنى تقييد القيد : الصواب : بمعنى عدم القيد.

قوله ص 144 س 13 بديلا : الصواب : بدليا.

قوله ص 145 س 15 ولا يستحق : الصواب : ويستحق.

قوله ص 147 س 7 شموليا : اي المطلقة اطلاقا شموليا ، وقوله « موضوعا » خبر ليكون.

ص: 423

ص: 424

مبحث العموم

اشارة

ص: 425

ص: 426

ادوات العموم

قوله ص 149 س 1 العموم هو الاستيعاب ... الخ : يمكن منهجة البحث المذكور ضمن النقاط التالية :

1 - ما هو معنى العموم؟ العموم هو الاستيعاب الذي يدل عليه اللفظ ، ولتوضيحه نذكر المثالين التاليين : اكرم كل عالم ، اكرم العالم. انا نشعر بالوجدان بوجود فرق بين المثالين. ففي المثال الاول تكون نفس كلمة « كل » دالة على العموم ، والعموم مدلولا للفظ « كل » بخلافه في المثال الثاني فان كلمة العالم لا تدل على الاستيعاب بل على طبيعي العالم لا اكثر والاستيعاب يستفاد من قرينة الحكمة. وباتضاح هذا نقول : ان العموم هو الاستيعاب الاول اي الاستيعاب الذي دل عليه اللفظ واما الاستيعاب الثاني الذي تدل عليه قرينة الحكمة فهو ليس عموما وانما هو اطلاق ، فالفرق اذن بين العموم والاطلاق الشمولي هو ان العموم يدل على الاستيعاب بنفس اللفظ بينما الاطلاق الشمولي لا يدل على الاستيعاب بنفس اللفظ بل الدال عليه شيء آخر وهو قرينة الحكمة ، فانها تدل على التكثر والاستيعاب في عالم الفعلية.

2 - ان الاستيعاب يحتاج الى وجود دالين :

ا - ما يدل على نفس العموم مثل كلمة « كل ». ويسمى ذلك باداة العموم.

ب - ما يدل على المفهوم الذي يستوعب الافراد مثل كلمة « عالم » في قولنا اكرم كل عالم فانها دالة على مفهوم العالم الذي قصد به استيعاب الافراد. ويسمى

ص: 427

ذلك بمدخول الاداة.

3 - ان اداة العموم قد تكون اسما مثل كلمة « كل ، جميع » ، وقد تكون حرفا مثل الالف واللام الداخلة على « علماء » في قولنا « اكرم العلماء ».

واذا كانت الاداة اسما فهي تدل على العموم بمفهومه الاسمي اي على كلمة « عموم واستيعاب » ، فان العموم بمفهومه الاسمي عبارة اخرى عن كلمة عموم واستيعاب. ونحن ندعي ان كلمة « كل » تدل على كلمة استيعاب وعموم ، فقولنا اكرم كل عالم يمكن ابداله بقولنا اكرم عموم العلماء ومستوعبا للعلماء.

اما اذا كانت الاداة حرفا فهي وان دلت على الاستيعاب ايضا الا انها لا تدل عليه بمفهومه الاسمي اذ اللام حرف والحرف يدل على معنى حرفي اي النسبة ، وعليه فالمدلول لللام هو الاستيعاب بنحو المعنى الحرفي اي النسبة الاستيعابية. ويأتي توضيح ذلك صفحة (156) من الحلقة.

4 - ان العموم على ثلاثة اقسام : استغراقي ، ومجموعي ، وبدلي ، فاذا قيل اكرم اي عالم كان المستفاد وجوب اكرام عالم واحد غير معين. ويسمى ذلك بالعموم البدلي.

واذا قيل يجب اكرام مجموع العلماء بحيث كان عدم اكرام واحد منهم بمثابة عدم الاكرام رأسا فالعموم مجموعي.

واذا قيل يجب اكرام كل عالم بحيث كان كل فرد من العلماء موضوعا لوجوب اكرام مستقل فالعموم استغراقي.

اذن في العموم البدلي يكون الحكم واحدا منصبا على فرد واحد ، بينما في العموم المجموعي يكون الحكم واحدا ايضا ولكنه منصب على مجموع الافراد الذين لو حظوا بما هم واحد. واما في العموم الاستغراقي فالحكم يكون متعددا

ص: 428

بتعدد الافراد بحيث لو اكرم المكلف بعض الافراد دون بعض كان مطيعا من جهة وعاصيا من جهة اخرى. وان شئت قلت : ان العموم يعني تطبيق المفهوم على افراده ولكن تارة يلحظ تطبيقه على كل فرد مستقلا عن تطبيقه على البعض الآخر بحيث تلحظ تطبيقات متعددة مستقلة ، واخرى تلحظ التطبيقات المتعددة بمثابة تطبيق واحد ، وثالثة يطبق المفهوم على فرد واحد غير معين. والاول هو العموم الاستغراقي والثاني هو العموم المجموعي والثالث هو العموم البدلي.

5 - وهناك سؤال يقول : هل الاختلاف بين الانحاء الثلاثة للعموم ناتج عن الاختلاف في كيفية تعلق الحكم بالافراد بحيث لو قطعنا النظر عن الحكم فلا تحصل الانحاء الثلاثة للعموم او هو ثابت بقطع النظر عن تعلق الحكم؟ اختار الآخوند الاحتمال الاول وقال انه لا اختلاف بين الانحاء الثلاثة بقطع النظر عن تعلق الحكم وانما هو ينشأ من كيفية تعلقه ، فالحكم ان كان متعددا بعدد افراد الموضوع فالعموم استغراقي ، وان كان واحدا والموضوع مجموع الافراد بما هي واحدة فالعموم مجموعي ، وان كان واحدا والموضوع فردا واحدا غير معين فالعموم بدلي.

هذا ولكن الصحيح هو الاحتمال الثاني اي ان الانحاء الثلاثة ثابتة بقطع النظر عن تعلق الحكم فانا نشعر بالوجدان بوجود فرق بين هذه المفاهيم الثلاثة - احد العلماء ، جميع العلماء ، مجموع العلماء - بقطع النظر عن تعلق الحكم ، فان المفهوم الاول يدل على فرد واحد بينما المفهوم الثانى يدل على مجموع العلماء بما هم افراد متعددة والمفهوم الثالث يدل على مجموع العلماء بما هم فرد واحد. اذن الاستغراقية والمجموعية والبدلية مفاهيم ثلاثة يخترعها الذهن قبل الحكم ليصب الحكم عليها بالشكل الذي يريده الحاكم ولا تحصل بعد صبّ الحكم كما يقوله

ص: 429

اصحاب الاحتمال الاول.

قوله ص 150 س 5 كما في لام الجمع : اي الالف واللام. والتعبير باللام من باب الاختصار.

قوله ص 150 س 8 وسيأتي تصوير ... الخ : اي ص 156.

قوله ص 150 س 12 تلحظ عرضية : اي يلحظ جميعها.

قوله ص 151 س 9 وبدون افتراض : العطف تفسيري.

قوله ص 151 س 11 توطئة لجعل الحكم : اي فهي ثابتة قبل الحكم تمهيدا وتوطئة له لا انها تثبت بعده.

نحو دلالة ادوات العموم.

قوله ص 151 س 12 لا شك في وجود ... الخ : حصيلة هذا البحث انا نعرف ان كلمة « كل » وما شابهها موضوعة للعموم واستيعاب المدخول. وهذا مطلب لا ينبغي التأمل فيه وانما ينبغي التأمل في ان استفادة العموم من كلمة « كل » مثلا هل يحتاج الى اجراء قرينة الحكمة في المدخول او لا؟ ربما يقال بلزوم اجراء قرينة الحكمة اولا في المدخول وبعد ذلك تدل كلمة « كل » على العموم. ووجه ذلك ان كلمة « كل » وان كانت موضوعة للعموم الا انها موضوعة لعموم ما يراد من المدخول فاذا كان المراد من المدخول - اي من كلمة عالم مثلا في قولنا اكرم كل عالم - مطلق العالم كانت كلمة « كل » دالة على استيعاب جميع افراد العالم ، اما اذا كان المراد خصوص - العالم العادل فلا تكون كلمة كل دالة على استيعاب جميع افراد العالم بل على استيعاب افراد خصوص العالم العادل ، ومن هنا فنحن بحاجة الى اجراء قرينة الحكمة اولا في كلمة « العالم » ليثبت ان المراد

ص: 430

منها مطلق العالم وبعد ذلك تثبت دلالة كلمة « كل » على العموم. اذن يمكننا بناء على هذا الاحتمال ان نعبر بهذه العبارة المتداولة بين الاصوليين : ان استفادة العموم من كلمة « كل » الذي هو مدلول وضعي لها هو في طول اجراء مقدمات الحكمة في المدخول.

هذا كله لو قلنا ان كلمة « كل » موضوعة لاستيعاب ما يراد من المدخول ، اما اذا قلنا بانها موضوعة لاستيعاب ما يصلح ان ينطبق عليه المدخول فلا حاجة الى اجراء قرينة الحكمة فيه لانه - المدخول - صالح في ذاته وبقطع النظر عن اجراء قرينة الحكمة لشمول كل فرد من افراد العالم ، ومع صلاحيته المذكورة تثبت دلالة كلمة « كل » على العموم بلا حاجة الى اجراء قرينة الحكمة بل تكون نفس دلالة كلمة « كل » على الاستيعاب مثبتة لاطلاق المدخول بلا حاجة الى اجراء قرينة الحكمة فيه لاثبات اطلاقه.

والخلاصة : انه يوجد في هذه المسألة احتمالان هما :

ا - ان استفادة العموم من كلمة « كل » بحاجة الى اجراء قرينة الحكمة في المدخول.

ب - عدم الحاجة لذلك.

والآخوند قدس سره ذكر هذين الاحتمالين في الكفاية ثم استظهر الاحتمال الثاني وهو استظهار صحيح وحق.

ولربما يقال : ان الاحتمال الثاني مضافا الى مساعدة الظهور له يمكن اقامة برهانين عليه هما :

1 - ان كلمة « كل » لو كانت موضوعة لاستيعاب ما يراد من المدخول بحيث يحتاج الى اجراء قرينة الحكمة اولا لزم منه لغوية وضع كلمة « كل » للعموم

ص: 431

من قبل الواضع كما وتلزم اللغوية من المستعمل لكلمة « كل » ، اذ قرينة الحكمة بعد اجرائها في المدخول يثبت ان المراد من كلمة « العالم » مطلق العالم بلا حاجة الى الاستعانة بكلمة « كل » ، فيكون وضع كلمة « كل » واستعمالها فى العموم لغوا (1).

وقد تقدم هذا البرهان في الحلقة السابقة.

ويمكن الجواب عنه بان قرينة الحكمة بعد اجرائها وان كانت تفيد العموم ولكن لا ترينا من خلال اللفظ وبواسطته الاستيعاب وجميع الافراد ، فان لفظ « عالم » لا يدل الاعلى طبيعة العالم ولا يدل على الاستيعاب وباجراء قرينة الحكمة يثبت ان المراد الجدي هو الطبيعة من دون قيد ، وهذا بخلاف كلمة « كل » فانها تدل على الاستيعاب بنفسها وتري جميع الافراد ، فالعموم مستفاد فيها من نفس اللفظ.

وبكلمة اخرى انه يوجد اسلوبان للدلالة على العموم احدهما تدل عليه كلمة « كل » والآخر تدل عليه قرينة الحكمة ، ومعه فلا يكون وضع كلمة « كل » للعموم من قبل الواضع لغوا اذ المقصود من الوضع افادة المعنى الواحد بالاساليب المختلفة وان لم يترتب على ذلك ثمرة عملية ، كما ولا يكون استعمالها من قبل المستعمل لغوا اذ لعل غرض المستعمل متعلق بافادة العموم بالدلالة اللفظية بان يري العموم والاستيعاب باللفظ لا بقرينة الحكمة حيث ان الدلالة باللفظ اقوى وآكد.

2 - ان كلمة « كل » تدل على العموم دلالة وضعية - وتسمى بالدلالة التصورية ايضا - بينما قرينة الحكمة تنظر الى المدلول التصديقي - اي المراد الجدي -

ص: 432


1- البرهان المذكور للسيد الخوئي في هامش اجود التقريرات 1 / 441.

وتعيّنه كما مر ص 142 من الحلقة. وباتضاح هذا نقول : لو كانت دلالة كلمة « كل » على العموم موقوفة على اجراء قرينة الحكمة في المدخول فهذا معناه ان دلالة الكلام بالدلالة التصورية على معناه موقوفة على تحديد المراد الجدي بواسطة قرينة الحكمة ، وهو باطل وجدانا ، فان دلالة كل كلام على معناه بالدلالة التصورية ثابتة بقطع النظر عن مراده الجدي فالنائم مثلا اذا قال حالة نومه : اكرم كل عالم كان كلامه هذا دالا على المعنى الموضوع له - المعبر عنه بالمدلول التصوري - بالرغم من ان قرينة الحكمة لا يمكن اجراؤها فى حقه لتشخيص المراد الجدي لفرض انه نائم.

قوله ص 151 س 14 بالبحث فيها : اي في كلمة « كل ».

قوله ص 152 س 3 ينفيها : الصواب : يغنيها.

قوله ص 152 س 12 فيتم تطبيقه عليها : اي تطبيق المدخول على الافراد.

قوله ص 152 س 12 مباشرة : اي بلا حاجة الى اجراء قرينة الحكمة.

قوله ص 153 س 3 وتصورا : عطف تفسير.

قوله ص 153 س 4 شيء واحد : الصواب : شيئا واحدا.

قوله ص 153 س 13 بافادة التكثر : لما في ذلك من التأكيد.

قوله ص 153 س 15 كما تقدم : اي ص 142 في التنبيه الاول.

قوله ص 154 س 5 لان المدلول التصوري لكل جزء : فاذا كانت عندنا جملة مركبة من كلمات ثلاث فدلالة كل كلمة على معناها الموضوع له تتوقف على دلالة الكلمات الاخرى على معناها الموضوع له ولا تتوقف على تشخيص المراد الجدي.

ص: 433

العموم بلحاظ الاجزاء والافراد.

قوله ص 154 س 12 يلحظ ان كلمة ... الخ : حاصل البحث المذكور انه تارة يقال : اقرأ كل كتاب ، واخرى يقال : اقرأ كل الكتاب ، وكلنا يحس بالوجدان بوجود فرق بينهما ، فالجملة الاولى يستفاد منها العموم الافرادي اي اقرأ جميع افراد الكتاب ، بينما الجملة الثانية تدل على العموم الاجزائي اي اقرأ جميع اجزاء الكتاب وصفحاته ولا تترك بعضه بلا قراءة.

والسؤال المطروح هنا : كيف دلت كلمة « كل » على هذين المعنيين المختلفين؟ فهل وضعت بوضعين احدهما للعموم الافرادي والاخر للعموم الاجزائي او هناك نكتة اخرى للاختلاف المذكور؟ اجاب الشيخ العراقي قدس سره بان كلمة « كل » وضعت للعموم الافرادي فقط ، غاية الامر قد تقوم قرينة خاصة على ارادة العموم الاجزائي وهي دخول الالف واللام على المدخول ، فان اللام بما انها تدل على العهد - اذا الاصل في اللام ان تكون عهدية - والعهد يلازم التشخص والفردية فاللازم ان يكون مدخول اللام فردا واحدا وحيث ان الفرد الواحد ليس له افراد متعددة حتى يتصور العموم الافرادي بلحاظها كان من المحتم ان يكون العموم اجزائيا.

دلالة الجمع المعرف باللام على العموم.

قوله ص 155 س 14 قد عدّ الجمع المعرف ... الخ : ذكر الاصوليون ان من جملة ما يدل على العموم الجمع المشتمل على الالف واللام مثل كلمة « العلماء » في قولنا « اكرم العلماء ». ويوجد حول ذلك تساؤلان :

ص: 434

1 - كيف تدل كلمة « العلماء » على العموم؟ وقد تعددت الاجوبة عن هذا السؤال نذكر منها واحدا وهو : ان كلمة « العلماء » تتركب من ثلاثة دوال :

ا - مادة الجمع. وهي عبارة عن مفرد الجمع مثل كلمة « عالم » - التي هي مفرد العلماء - الدالة على طبيعي العالم.

ب - هيئة الجمع. وهي تدل على ثلاثة فما فوق ولا تدل على خصوص المرتبة العالية للجمع.

ج - اللام. وهي تدل على استغراق هيئة الجمع لجميع المراتب. اذن هيئة الجمع لا تدل على استغراق جميع مراتب الجمع بل على ثلاثة فما فوق ، وانما الدال على ذلك هو اللام.

وطبيعى حينما نقول ان اللام تدل على الاستغراق فلا نقصد انها تدل على الاستغراق بمفهومه الاسمي - الذي هو عبارة عن كلمة « استغراق » - اذ اللام حرف والحرف لا يدل على المعاني الاسمية بل على المعاني الحرفية التي هي عبارة عن النسب ، فاللام اذن تدل على النسبة الاستيعابية. هذا كله في السؤال الاول.

وقد اتضح ان الدال على العموم هو اللام.

2 - بعد ان عرفنا ان الدال على الاستغراق هو اللام نسأل : ما هو السبب في دلالة اللام على الاستغراق والعموم؟ وفي الجواب نذكر احتمالين :

ا - ان السبب هو الوضع ، فاللام وضعت لافادة الاستغراق. وطبيعي ليس المقصود ان كل لام وضعت للاستغراق - اذ قد تكون اللام داخلة على المفرد مثل « العالم » وهي لم توضع للعموم فانه لم يقل احد بان المفرد المحلى باللام موضوع للعموم بل ان دلالته على العموم ان ثبتت فهي بسبب قرينة الحكمة لا الوضع - وانّما المقصود ان اللام الداخلة على الجمع وضعت للدلالة على العموم.

ص: 435

ب - ان يقال : ان اللام لم توضع لافادة العموم بل لافادة التعيين ، ومن هنا كانت مفيدة للتعريف ، فان المعارف ست احدها المعرف باللام. والسبب في صيرورة المعرف باللام من اقسام المعرفة هو ان اللام تدل على التعيين الذى هو ملازم للتعريف والتشخص.

واذا كانت اللام دالة على التعيين فحينئذ نقول : اذا كانت اللام داخلة على اسم الجنس فالتعين الذي تتطلبه حاصل لأن كل طبيعة في عالم الذهن متعينة ومتميزة عن غيرها من الطبائع ، فانا نتصور في ذهننا النار والماء والهواء والتراب وغير ذلك وكل واحد منها ثابت متميزا عن غيره ، فالنار طبيعة ثابتة فى الذهن غير طبيعة الماء ، فتلك طبيعة لها خصائصها المعينة وهذه طبيعة اخرى لها خصائصها الخاصة بها.

واما اذا كانت اللام داخلة على الجمع فهي تدل على التعين ايضا ولكن ما هو التعين الذي تدل عليه؟ لعلك تقول نجيب كما اجبنا فيما سبق ونقول : ان طبيعة العالم بما انها متعينة في الذهن وتمتاز عن الطبائع الاخرى فتعينها الذهني هذا يكفي لحصول التعين الذي تتطلبه اللام. ولكن هذا الجواب غير صحيح هنا اذ المفروض ان اللام داخلة على الجمع لا على اسم الجنس ، ومادات داخلة على الجمع فلا بد من افتراض التعين في الجمع ولا يكفي التعين في الطبيعة المدلوله لاسم الجنس ، فعلينا اذن ان نصور التعين في الجمع.

وقد ذكر الآخوند ان كل مرتبة من مراتب الجمع هي متعينة في نفسها ، فالثلاثة متعينة لانها ثلاثة ، والاربعة متعينة لانها اربعة ، وهكذا في بقية المراتب.

ويرده : انا لا نقصد من التعين تعين مرتبة العدد حتى يقال بان جميع مراتب العدد متعينة بل المقصود تعين مرتبة الجمع بشكل تعرف الافراد الداخلة فيها

ص: 436

وتميز من الخارجة عنها ، وواضح انه لا توجد مرتبة من هذا القبيل الا مرتبة واحدة وهي المرتبة العالية الشاملة لجميع المراتب ، فانها المرتبة الحاوية لجميع الافراد ، واما بقية المراتب فالافراد الداخلة فيها غير متميزة عن الخارجة ، فمرتبة الثلاثة مثلا لا تحوي الا ثلاثة ولكن اي ثلاثة؟ فهل هذا العالم وذاك وذاك هي الداخلة في الثلاثة او ان ذاك وذاك وذاك هو الداخل؟

والخلاصة : ان اللام تدل على الاستغراق لا بسبب وضعها له - الاستغراق - مباشرة بل بسبب وضعها للتعين ، وحيث لا توجد مرتبة تتميز فيها الافراد الداخلة الا المرتبة العالية فيثبت بذلك دلالة اللام على الاستغراق.

ثم ان السيد الشهيد قدس سره اطلق على التساؤل الاول عنوان البحث الثبوتي وعلى التساؤل الثاني عنوان البحث الاثباتي.

قوله ص 156 س 2 ثلاث : الصواب : ثلاثة.

قوله ص 156 س 7 هذه المرتبة : اي مرتبة العدد او مرتبة الجمع.

قوله ص 156 س 14 ابتداء : اي بلا توسيط التعين.

قوله ص 157 س 1 في موارد دخولها على المفرد وعلى الجمع : بخلافه على الدعوى الاولى ، فان اللام الداخلة على المفرد لا تدل على الجمع ، وانما الدالة عليه هي الداخلة على الجمع دون المفرد.

قوله ص 157 س 9 انما يكون بتحدد الافراد الداخلة فيه : خلافا للآخوند فانه تخيل ان المراد من التعين هو تعين العدد وماهية المرتبة وعدد وحداتها ، ولاجل ذلك اشكل قدس سره بان التعين كما هو محفوظ في المرتبة الاخيرة محفوظ فى المراتب الاخرى ايضا. ولكن الصحيح ان المراد من التعين هو تعين الافراد الداخلة في دائرة الجمع وهذا لا يوجد الا في المرتبة العالية. وقد اشير الى ذلك في

ص: 437

الحلقة الثانية ص 134.

النكرة في سياق النهي او النفي

قوله ص 157 س 14 ذكر بعض ان وقوع ... الخ : قيل بان النكرة اذا وقعت في سياق النفي مثل : لا رجل في الدار ، او في سياق النهي مثل لا تكرم فاسقا تدل على العموم. وهنا سؤال قد يطرح وهو انه لما ذا لم يقولوا ان نفس النكرة تدل على العموم والتجاؤا الى القول بان النفي او النهي الداخل على النكرة هو الدال على العموم.

والجواب : لعل السبب في ذلك هو ان النكرة لا يمكن ان تدل على العموم لكونها موضوعة لاسم الجنس مقيدا بقيد الوحدة ، فكلمة « رجلا » في قولنا « اكرم رجلا » تدل على رجل واحد ، ومع اخذ قيد الوحدة في معنى النكرة كيف تدل على الاستغراق؟ اذن انما لم يقل بدلالة النكرة على العموم لاخذ قيد الوحدة فيها الذي يتنافى والعموم. ومن هنا اضطروا الى القول بان الدال على العموم ليس هو نفس النكرة وانما هو وقوعها في سياق النفي او النهي.

ولكن يرد عليهم : انا قرأنا فيما سبق ان الدلالة على العموم تحتاج الى دالين احدهما وجود مفهوم يستوعب الافراد ، ونحن نسأل عن ذلك المفهوم الذي يستوعب الافراد ، انه لا يمكن ان يكون هو نفس النكرة لفرض اخذ قيد الوحدة في معناها الذي يتنافى ودلالتها على العموم ، ومن هنا نكون بحاجة - لاجل ان نفسر الشمولية - الى نكتة اخرى غير الوقوع في سياق النفي او النهي. وتلك النكتة يمكن بيانها بوجهين :

1 - ان النكرة هي التي تدل على استيعاب الافراد بتقريب انها اذا كانت

ص: 438

مثبتة - اي لم يدخل عليها نفي او نهي مثل « اكرم رجلا » - فهي مستبطنة لقيد الوحدة ولكنها اذا وقعت في سياق النفي او النهي فقيل مثلا « لا تكرم رجلا » فهي تتجرد من قيد الوحدة وتخرج عن كونها نكرة وتكون دالة على الطبيعة فقط ، وبعد دلالتها على الطبيعة من دون قيد الوحدة تصير صالحة لشمول جميع الافراد.

ويبقى بعد ذلك ان تسأل وتقول انكم لحد الآن اثبتم صلاحية النكرة لاستيعاب جميع الافراد ولكن كيف تثبتون انها شاملة بالفعل لجميع الافراد ، اي انه قصد بها بالفعل جميع الافراد؟ والجواب : ان الدال على العموم هو قرينة الحكمة فانها تثبت الاطلاق الشمولي.

وباختصار : ان النفي او النهي ليساهما الدالين على العموم وانما هما يمنحان الصلاحية للنكرة للدلالة على العموم ويكون الدال الفعلي على العموم هو قرينة الحكمة.

2 - ما ذكره الآخوند قدس سره من ان الدال على العموم ليس هو النفي او النهي وانما هو العقل فانه يحكم بان النكرة حيث انها تدل على الطبيعة ، فاذا دخل النفي او النهي عليها كان اللازم في مقام امتثال الطبيعة ترك جميع الافراد لان العقل يحكم بان الطبيعة لا تنعدم الا بترك جميع الافراد.

ويرد هذا البيان : انا لا نريد اثبات الشمولية في مقام الامتثال وانما نريد اثبات الشمولية بمعنى تعدد الحكم بعدد الافراد ، وواضح ان ما ذكره الآخوند يثبت الشمولية في مقام الامتثال حيث يقول : ان الامتثال لا يحصل الا بالشمولية بمعنى ترك جميع الافراد ولا يثبت الشمولية بمعنى تعدد الحكم بعدد الافراد.

قوله ص 158 س 1 ان النكرة كما تقدم ... الخ : فانه ذكر قدس سره في الحلقة الثانية ص 122 ان النكرة هي اسم الجنس المنون بتنوين التنكير مثل « اكرم عالما » ،

ص: 439

وهي موضوعة للطبيعة المقيدة بقيد الوحدة ، ومع تقيدها المذكور لا يمكن انطباقها على اكثر من فرد واحد.

قوله ص 158 س 3 يأتي : الصواب : يأبى.

قوله ص 158 س 9 سواء كانت على نحو شمولية العام او على نحو شمولية المطلق : اي سواء كانت دلالة النكرة الواقعة بعد النفي او النهي على الشمولية من باب الوضع او من باب قرينة الحكمة فانه على كلا التقديرين يلزم وجود مفهوم يصلح لشمول جميع الافراد.

قوله ص 158 س 11 بصورة عرضية : اي قابل لان يشمل جميع الافراد في آن واحد على نحو البدلية.

قوله ص 158 س 13 والنكرة لا تقبل ... الخ : اي بل هي قابلة لشمول جميع الافراد على سبيل البدلية.

قوله ص 159 س 3 ان يدعى كون السياق : اي الوقوع عقيب النفي او النهي.

ص: 440

مبحث المفاهيم

اشارة

ص: 441

ص: 442

المفهوم

قوله ص 160 س 1 لا شك في ان المفهوم مدلول التزامي ... الخ : المفاهيم متعددة فمنها مفهوم الشرط ومنها مفهوم الوصف و .... وقبل التحدث عن كل واحد منها بخصوصه نتحدث عن المفهوم بشكل عام وبقطع النظر عن كونه مفهوم شرط او وصف او غير ذلك ، فالمفهوم بشكل عام ما هو معناه؟ والجواب : ان المفهوم هو كل حكم لازم للمنطوق ، فكل لازم للكلام الذي نطقنا به هو مفهوم. ولكن من الواضح ليس كل لازم للكلام يسمى مفهوما ، فلربما يكون عندنا احيانا حكم لازم للمنطوق ولا يكون مفهوما ، فوجوب المقدمة لازم لوجوب ذيها ولكنه ليس مفهوما ، وحرمة الضد مدلول التزامي للامر بالواجب ولكنه ليس مفهوما ، فالمفهوم اذن هو مدلول التزامي خاص ، ولكن كيف نحدده؟

ذكر الميرزا : ان الحكم اللازم للكلام تارة يكون لزومه واضحا بحيث لا يحتاج اثباته الى اقامة دليل ، واخرى لا يكون كذلك ، والمفهوم هو الاول اي هو الحكم اللازم للكلام بدرجة واضحة لا يحتاج معها الى اقامة دليل. ويسمى في علم المنطق مثل هذا اللازم الذي يكون لزومه واضحا باللازم البين او البين بالمعنى الاخص. اذن المفهوم في نظر الميرزا هو اللازم البين او اللازم البين بالمعنى الاخص وهو الذي لا يحتاج الى اقامة دليل (1).

ص: 443


1- قرأنا في المنطق ان تصور الشيء اذا كان مستلزما لتصور شيء سمّي اللزوم باللزوم البيّن بالمعنى الاخص مثل تصور العمى فانه يستلزم تصور البصر ، اذ العمى هو عدم البصر ، فكلما تصورنا العمى فلا بد وان نتصور البصر. اما اذا كان تصور الشيء لا يستلزم تصور شيء ثاني غير ان تصور الشيئن مع النسبة بينهما يوجب الجزم بالنسبة بلا حاجة الى دليل فاللزوم بيّن بالمعنى الاعم كتصور الكل والجزء والنسبة بينهما فانه يوجب الجزم بان الكل اكبر من الجزء بلا حاجة الى اقامة دليل على ذلك. واذا كان اللزوم بحاجة الى اقامة دليل كاثبات الحدوث للعالم فاللزوم غير بيّن.

ويرده : ان بعض الادلة التي يستدل بها على المفهوم تثبت ان جملة « اذا جاءك زيد فاكرمه » مثلا تدل على المفهوم وانه اذا لم يجيء فلا تكرمه ولكن لا تدعي ان هذه الدلالة واضحة وبشكل لا تحتاج الى دليل بل هي تثبت اللزوم والدلالة بادلة دقيقة تاتي الاشاره لها ، وهذا مما يكشف عن ان المفهوم لا يلزم فيه ان يكون لزومه للمنطوق واضحا بل المفهوم هو الحكم اللازم وان لم يكن لزومه واضحا.

والصحيح ان يقال : ان المفهوم هو الحكم اللازم للكلام شريطه استفادته من الربط الخاص بين المحمول والموضوع لا من نفس خصوصية الموضوع والمحمول. فمثلا اذا قال المتكلم « اذا جاءك ابن الكريم وجب عليك اكرامه » استفدنا من ذلك ثلاثة احكام التزامية هي :

ا - اذا جاءك نفس الكريم فيجب اكرامه. وهذا الحكم يستفاد من خصوصية الموضوع وهي عنوان ابن الكريم ، فلو فرض ان المذكور في الموضوع عنوان اليتيم دون ابن الكريم فهل نستفيد ان ام اليتيم لو جاءت وجب اكرامها؟ كلا لا نستفيد ذلك.

ب - يجب تهيئة مقدمات وجوب الاكرام من باب ان مقدمة الواجب واجبة. وهذا الحكم مستفاد من خصوصية المحمول التي هي الوجوب ، فلو

ص: 444

فرض ان الحكم كان هو استحباب الاكرام او اباحته لما استفدنا من ذلك وجوب المقدمات.

ج - انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط ، ومثل هذا الحكم ثابت مهما تغير الشرط والجزاء ، فانه في جميع الحالات نستفيد انه متى ما انتفى الشرط انتفى الجزاء ، اي ان روح هذا الحكم تبقى ثابتة غاية الامر يختلف مصداق الشرط والجزاء من قضية الى اخرى ، فمثل هذا الحكم ليس متفرعا على خصوصية الموضوع ولا على خصوصية المحمول حتى يختلف باختلافهما بل على الربط الخاص بينهما.

وباتضاح هذا نقول : ان المفهوم هو خصوص الحكم الالتزامي الثالث ، فان الاحكام الثلاثة وان كانت جميعا احكاما التزامية الا ان المفهوم منها هو خصوص الحكم الثالث المتفرع على الربط الخاص بين الموضوع والمحمول والذي قد يعبر عنه بالانتفاء عند الانتفاء.

ومن الطبيعي ان المفهوم وان كان هو الانتفاء عند الانتفاء لكن شريطة ان يكون الحكم المنتفي هو طبيعي الحكم لا شخصه : فمثلا لا اشكال في ان قولنا « اذا جاء زيد فاكرمه » يدل على ان وجوب الاكرام المقيد بالمجيء ينتفي بانتفاء المجيء ، ولكن ليس هذا مفهوما لانه انتفاء للحكم الشخصي المقيد بالمجىء والذي هو ثابت بمقتضى قاعدة الاحتراز في القيود لا بمقتضى المفهوم ، فان المفهوم هو انتفاء طبيعى الوجوب ، اي انه اذا لم يجىء فلا يجب اكرامه حتى اذا كان مريضا او فقيرا او ... ، ان انتفاء مثل هذا الحكم غير المقيد بسبب معين يسمى بانتفاء طبيعي الحكم وهو المفهوم. وعلى هذا فالمفهوم يشتمل على خصوصيتين : احداهما : كونه حكما التزاميا متفرعا على الربط الخاص بين الموضوع والمحمول.

ص: 445

ثانيتهما : كون المنتفي عند الانتفاء طبيعي الحكم وكليّه لا شخصه.

قوله ص 160 س 7 هو اللازم البين مطلقا : اي سواء كان بينا بالمعنى الاخص ام بينا بالمعنى الاعم.

قوله ص 160 س 11 دون ان يكون مبينا : اي دون ان يكون بينا لا بالمعنى الاخص ولا بالمعنى الاعم.

قوله ص 161 س 3 بهذا النحو : اي بنحو يزول باستبداله بمحمول آخر.

ضابط المفهوم.

قوله ص 162 س 7 ونريد الآن ان نعرف الربط ... الخ : ذكرنا فيما سبق ان المفهوم يستحصل عليه من الربط الخاص ، والآن نريد ان نعرف ماذا يلزم ان بتوفر في ذلك الربط الخاص لكي يستلزم المفهوم؟ ولهذا السؤال اجابتان احداهما للمشهور والاخرى للسيد الشهيد قدس سره .

اما المشهور فذكروا ان الجملة الشرطية مثلا لا يثبت لها المفهوم الا اذا كان الشرط علة منحصرة للحكم ، فلو كان لوجوب الاكرام علة اخرى غير المجيء كالمرض والفقر ونحو ذلك فلا يثبت المفهوم اي لا يلزم من انتفاء المجيء انتفاء وجوب الاكرام لجواز قيام العلة الاخرى مقام المجيء. اذن ثبوت المفهوم في نظر المشهور يتوقف على ان يكون ذلك الربط الخاص الذي تدل عليه القضية هو الربط على مستوى العلة المنحصرة. ولكن كيف يمكن اثبات ان الشرط علة منحصرة؟ هناك عدة وسائل لاثبات ذلك اهمها قرينة الحكمة ، بان يقال : ان ظاهر قول المتكلم « اذا جاءك زيد فاكرمه » ان المجيء هو الذي يوجب الاكرام سواء سبقه شيء آخر ام لا ، فان مقتضى هذا الظهور ان مرض زيد مثلا ليس علة

ص: 446

لوجوب الاكرام والا يلزم في صورة سبق المرض على المجيء ان لا يحصل وجوب الاكرام بسبب المجيء بل بسبب المرض - فانه لو كان للمعلول علتان وسبقت احداهما الاخرى حصل وجود المعلول بالعلة السابقة دون اللاحقة - والحال انا قلنا ان ظاهر الشرطية باطلاقها الاحوالي ان المجيء هو الذي يوجب الاكرام حتى وان سبقه المرض ، ولازم ذلك عدم كون المرض علة.

وباختصار : ان المشهور قال ان ثبوت المفهوم يتوقف على ان يكون الربط ربطا بالعلة المنحصرة (1) ، وقال ايضا ان الوسيلة لاثبات كون الشرط علة منحصرة هو قرينة الحكمة.

واما السيد الشهيد فقد ذكر انه يوجد طريق آخر لتحصيل المفهوم غير طريق المشهور ، وذلك ان نثبت ان الشرطية موضوعة للتوقف دون الاستلزام ، فاذا ثبت ان واضع لغة العرب قد وضع جملة « اذا جاءك زيد فاكرمه » للتوقف - اي لأفادة انّ : وجوب الاكرام موقوف على المجيء - ثبت المفهوم وانه اذا لم يجيء فلا تكرمه بلا حاجة لاثبات ان المجيء علة منحصرة ، فحتى اذا لم يمكن لقرينة الحكمة اثبات ان المجيء علة منحصرة فبالامكان ثبوت المفهوم عن طريق نكتة التوقف. فمثلا سوف يأتي ان الاخوند ذكر ان قرينة الحكمة لا يمكنها اثبات ان الشرط علة منحصرة للجزاء (2) ولذلك ذهب الى ان الشرطية لا مفهوم لها ، ولكن مع ذلك نقول له ان قرينة الحكمة وان لم يمكنها اثبات كون الشرط علة منحصرة بيد ان هذا لا يستدعي انكار المفهوم للشرطية لامكان ثبوته من طريق آخر وهو

ص: 447


1- مع كون الوجوب المعلق على المجيء طبيعى الحكم لا شخصه ، وهذا واضح ولذا لم نركز عليه.
2- بل والسيد الشهيد يرى ذلك ايضا لكنه يثبت المفهوم عن طريق نكتة التوقف.

اثبات ان الواضع وضع الشرطية للتوقف (1).

اجل اذا فرض ان الواضع لم يضع الشرطية للتوقف بل للاستلزام - اي لافادة ان المجيء يستلزم وجوب الاكرام - لم يثبت لها المفهوم ، فان استلزام المجيء لوجوب الاكرام لا يقتضي نفي استلزام المرض لوجوبه ، بل من المحتمل ان كليهما يستلزم وجوب الاكرام نظير قولنا النار تستلزم الحرارة فانه لا يقتضي عدم استلزام الشمس للحرارة.

وباختصار : ان المشهور ذكر ان الطريق لاثبات المفهوم طريق واحد لا غير وهو اثبات كون الشرط علة منحصرة ، والسيد الشهيد يقول ان الطريق المذكور صحيح ولكن يوجد طريق ثاني لاثبات المفهوم وهو اثبات ان الشرطية موضوعة لافادة التوقف دون الاستلزام ، فاذا لم يمكن اثباته بالطريق الاول امكن التمسك بالطريق الثاني فيقال : ان المتبادر من الشرطية هو التوقف دون الاستلزام وبذلك يثبت المفهوم.

ثم ان الطريق الاول - وهو اثبات ان الشرط علة منحصرة - حيث يحتاج الى التمسك بقرينة الحكمة والمفروض ان قرينة الحكمة ناظرة الى تعيين المقصود الجدي المعبر عنه بالمدلول التصديقي اصطلح قدس سره على الطريق المذكور بالطريق لاستفادة المفهوم على مستوى المدلول التصديقي.

وحيث ان الطريق الثاني - وهو التمسك بنكتة التوقف - يحتاج الى اثبات

ص: 448


1- من الواضح عدم كون المقصود من التوقف هو التوقف بمفهومه الاسمي الذي هو كلمة « توقف » بل المقصود النسبة التوقفية ، فان كلمة « ان » الشرطية حرف ، والحرف يدل على النسبة.

وضع الشرطية للتوقف اصطلح عليه بالطريق لاستفادة المفهوم على مستوى المدلول التصوري فان المدلول التصوري هو المدلول الوضعي.

اذن على ضوء تعبيرات السيد الشهيد يمكننا ان نقول هكذا : ان الطريق لاثبات المفهوم تارة يكون على مستوى المدلول التصوري واخرى على مستوى المدلول التصديقي. اما على مستوى المدلول التصوري فبالامكان الحصول على المفهوم فيما اذا ثبت ان نكتة التوقف قد اخذت في المدلول التصوري المعبر عنه بالمدلول الوضعي. واما على مستوى المدلول التصديقي فبالامكان الحصول على المفهوم فيما اذا ثبت بقرينة الحكمة ان خصوصية العلية الانحصارية قد اخذت في المراد الواقعي المعبر

عنه بالمدلول التصديقي (1).

قوله ص 164 س 12 ولو لم يثبت كون الشرط علة ... الخ : اعتبر المشهور وجود ملازمة بين الشرط والجزاء كما واعتبر ان يكون اللزوم بنحو العلية الانحصارية. وقد تقدم في الحلقة السابقة عدم لزوم كون الشرط علة تامة بل يكفي كونه جزء علة منحصرة. وسواء اعتبر المشهور في الشرط كونه علة منحصرة او جزء علة منحصرة يشكل السيد الشهيد على المشهور بان الشرطية اذا كانت موضوعة للتوقف فذلك يكفي في الحصول على المفهوم وان لم يكن الشرط علة او جزء علة منحصرة.

قوله ص 164 س 13 لمجرد صدقه : الصواب لمجرد صدفة.

قوله ص 164 س 15 عن معنى : وذلك المعنى هو ان ظاهر الشرطية كون المجيء هو الذي يقتضي وجوب الاكرام حتى في حالة سبق المرض عليه.

قوله ص 165 س 1 المحاولة الهادفة : تأتي هذه المحاولة في الوجه الثالث

ص: 449


1- يعسر استفادة المقصود من عبائر الكتاب في هذا المبحث. وكلمات الحلقة الثانية اوضح.

المذكور ص 168 من الحلقة.

قوله ص 165 س 3 ثم الاستنتاج : عطف على قوله « لاثبات كونه ... الخ ». ولعل العبارة الواضحة هكذا : لاثبات كونه مؤثرا على اي حال سواء سبقه شيء آخر ام لا الذي لازمه استنتاج انحصار ... الخ.

قوله ص 165 س 7 وقد تقدم سابقا : اي ص 142 في التنبيه الاول.

مورد الخلاف في ضابط المفهوم

قوله ص 166 س 1 ثم ان المحقق العراقي ... الخ : تقدم ان المشهور اعتبر لحصول المفهوم ركنين هما :

1 - ان يكون الشرط في الشرطية مثلا علة منحصرة للحكم او يفرض على رأي السيد الشهيد وضع الجملة الشرطية للتوقف.

2 - ان يكون الحكم المعلق على المجيء هو مطلق وجوب الاكرام لا شخصه ، والا لكان اللازم من انتفاء الشرط انتفاء شخص الحكم دون الطبيعي ، ومن الواضح ان انتفاء شخص الحكم ليس مفهوما ، اذ المفهوم هو انتفاء الطبيعي دون الشخص.

وبعد هذا نسأل : هل هذان الركنان ثابتان وحصولهما مسلم او هو محل للتأمل؟ اجاب الشيخ العراقي بان النزاع لا بد وان ينصب على الركن الثاني فقط ، واما الاول فالكل متفق على ثبوته وتوفره ، فالكل يقول ان الشرط علة منحصرة للجزاء ، اذ لو لم يكن المجيء علة منحصرة لوجوب الاكرام فمن اللازم ان لا ينتفي شخص الحكم ايضا بانتفاء المجيء ، فانه اذا كانت هناك علة اخرى غير المجيء فكما يلزم عدم انتفاء طبيعي الحكم بانتفاء المجيء كذلك يلزم عدم انتفاء شخص

ص: 450

الحكم لقيام العلة الثانية مقام العلة الاولى فيلزم بقاء شخص الحكم ، والحال ان الكل متفق على انتفائه بانتفاء الشرط ، وهذا لازمه الاتفاق على ان الشرط علة منحصرة ، فالنزاع لا بد وان ينصب على الركن الثاني فيقال : ان قرينة الحكمة هل يمكن ان تثبت الركن الثاني وان الجزاء هو طبيعي الوجوب او لا؟ هكذا ذكر الشيخ العراقي. وسوف نصطلح فيما بعد على هذا الرأي بمسلك المحقق العراقي.

قوله ص 166 س 3 على الربط الخاص : وهو التوقف على رأى السيد الشهيد او العلية الانحصارية على رأي المشهور.

قوله ص 166 س 5 او وضعا : الصواب : او وصفا.

ص: 451

مفهوم الشرط
اشارة

قوله ص 167 س 5 ذهب المشهور الى دلالة الجملة ... الخ : ذكرنا في بداية البحث عن المفاهيم ان السيد الشهيد يتحدث اولا عن المفهوم بشكل عام ثم يأخذ بعد ذلك بالتحدث عن كل واحد من المفاهيم بخصوصه. والآن وبعد الفراغ عن المفهوم بشكل عام يقع الحديث عن اول المفاهيم وهو مفهوم الشرط.

ذكر المشهور انه لا بد لاجل اثبات المفهوم للشرط من اثبات كون الشرط علة منحصرة لوجوب الاكرام مثلا. ولكن المشكلة كيف يمكن اثبات ان الشرط علة منحصرة؟ والجواب : ان هناك طرقا ثلاثة هي :

1 - التمسك بالوضع.

2 - التمسك بالانصراف.

3 - التمسك بقرينة الحكمة والاطلاق. وقد ذكر المشهور لهذا الطريق الثالث عدة بيانات.

الطريق الاول.

والطريق الاول هو التمسك بالوضع بان يقال : ان جملة « اذا جاءك زيد فاكرمه » موضوعة للانحصار ، والكاشف عن ذلك هو التبادر ، فان المتبادر كون المجيء علة منحصرة لوجوب الاكرام ، والتبادر علامة الوضع. والاحساس بهذا التبادر امر وجداني ، ولكن الذي يقف امامه هو ان الشرطية لو كانت

ص: 452

موضوعة للانحصار لزم ان يكون استعمالها في مورد عدم الانحصار مجازا ، والحال انا لا نشعر بذلك ابدا ، فانه لو قيل « اذا جاءك زيد فاكرمه » لا نشعر بالمجازية حتى ولو كانت هناك علة اخرى غير المجيء كالمرض والفقر ونحوها. وعلى هذا يقع التصادم بين هذين الوجدانين : وجدان تبادر الانحصار ووجدان عدم المجازية في حالات عدم الانحصار ، والآخوند قدس سره رحج الوجدان الثاني وطرح الاول ولذا انكر ثبوت المفهوم للشرطية. ونحن اذا اردنا اثبات المفهوم للشرطية فلا بد وان نوفق بين الوجدانين ونرفع التنافي بينهما. وستأتي طريقة التوفيق ص 173 من الحلقه.

الطريق الثاني.

والطريق الاخر لاثبات المفهوم هو التمسك بالانصراف بان يقال : ان ثبوت المفهوم للشرطية بحاجة الى اثبات امرين هما :

ا - اثبات ان الشرطية تدل على وجود ملازمة بين الشرط والجزاء

ب - اثبات ان الملازمة التي تدل عليها الشرطية هي ملازمة على نحو العلية الانحصارية وليست مطلق الملازمة.

اما الامر الاول - اي اصل الملازمة - فيمكن اثباته عن طريق الوضع بان نقول : ان الشرطية موضوعة لحالة الملازمة ، والكاشف عن ذلك هو التبادر ، فان المتبادر من كل شرطية هو وجود ملازمة بين الشرط والجزاء بحيث لا ينفك احدهما عن الآخر.

واما الامر الثاني - اي كون اللزوم بنحو العلية الانحصارية - فيمكن اثباته عن طريق الانصراف ، بان يقال : ان الملازمة بين العلة والمعلول حالة كون العلة

ص: 453

منحصرة اقوى واكمل من الملازمة بين العلة والمعلول حالة وجود علة ثانية بديلة. وهده الاكملية توجب الانصراف الى الفرد الاكمل وهو الملازمة على نحو العلية الانحصارية.

وقد نوقش البيان المذكور بمناقشتين :

ا - انكم قلتم : بان الانصراف يحصل بسبب الاكملية ، ونحن نقول : لا نسلم كون الاكملية من اسباب الانصراف ، فان الانصراف يحصل بسبب كثرة استعمال اللفظ في بعض الافراد ولا يحصل بسبب الاكملية ، والا يلزم فيما لو قال المتكلم « اعتق رقبة » اعتاق خصوص الرقبة العالمة الفاضلة المجاهدة التقية التي هي اكمل افراد الرقبة ، والحال عدم احتمال ذلك.

ب - لو سلّم ان الاكملية سبب للانصراف فلا نسلم ان الملازمة حالة انحصار العلة اكمل من الملازمة حالة عدم الانحصار ، فلو كانت بين ايدينا نار تسخن الماء فالنار مستلزمة لسخونة الماء ولكن هل هذه الملازمة بين النار والسخونة تضعف فيما لو فرض وجود نار ثانية تصلح للقيام مقام النار الاولى؟ كلا انها لا تضعف كما ولا تقوى ولا تصير اكمل فيما لو فرض عدم وجود نار اخرى بديلة ، بل الملازمة هي هي دون ان تقوى او تضعف بافتراض وجود او عدم وجود نار اخرى.

الطريق الثالث.
اشارة

وثالث الطرق لاثبات المفهوم هو التمسك بالاطلاق. وللطريق المذكور بيانات ثلاثة :

ص: 454

البيان الاول :

ان ثبوت المفهوم للشرطية بحاجة الى اثبات امور ثلاثة هي :

1 - دلالة الشرطية على اصل اللزوم بين الشرط والجزاء.

2 - دلالة الشرطية على ان الشرط علة تامة وليس جزء علة. وبكلمة ثانية لا بد وان يثبت ان اللزوم لزوم بين العلة التامة ومعلولها.

3 - دلالة الشرطية على ان العلة التامة - المتمثلة بالشرط - علة منحصرة وليس لها بديل ، اذ ربما يكون للعلة التامة بديل يقوم مقامها ، والمفهوم كما يتوقف على كون الشرط علة تامة - اي لا جزء علة - كذلك يتوقف على ان تكون تلك العلة التامة منحصرة ، وليست ذات بديل.

هذه امور ثلاثة لا بد من اثباتها حتى يثبت المفهوم. ولكن كيف نثبت الامور المذكورة؟ يمكن اثبات الامر الاول عن طريق الوضع ، فيقال : ان الشرطية موضوعة لحالة الملازمة بين الشرط والجزاء بقرينة التبادر كما اشرنا الى ذلك في الطريق الثاني.

واما الامر الثاني - وهو كون الشرط علة تامة لا جزء علة - فيمكن اثباته عن طريق التفريع بان يقال : ان الشرطية تدل على تفرع وجوب الاكرام على المجيء حيث اتي بالفاء في الجزاء وقيل « ان جاءك فاكرمه » والفاء الداخلة على الجزاء تدل على تفرع وجوب الاكرام على المجيء. وبعد دلالة الشرطية على التفرع نضم الى ذلك مقدمة اخرى هي انه اذا ثبت التفريع في عالم الكلام يثبت بذلك التفرع في عالم المراد والواقع اي يثبت ان وجوب الاكرام متفرع واقعا على المجيء وذلك من جهة ان الاصل مطابقة الكلام للمراد. واذا ثبت ببركة اصالة التطابق التفرع الواقعي نقول حينذاك : انه لا معنى لثبوت التفرع بين شيئين الاكون

ص: 455

احدهما علة تامة والاخر معلولا ، فوجوب الاكرام مادام متفرعا واقعا على المجيء يثبت ان المجيء علة تامة لوجوب الاكرام.

واما الامر الثالث - وهو كون الشرط علة منحصرة لا بديل لها - فيمكن اثباته بواسطة التمسك بالاطلاق الاحوالي فيقال : بعد ان اثبتنا كون المجيء علة تامة نقول ان مقتضى الاطلاق كون المجيء علة تامة في جميع الحالات التي منها حالة اجتماع المجيء مع شيء آخر كالمرض ، واذا كان المجيء علة تامة حتى في حالة المرض يثبت بذلك ان المرض ليس علة بديلة للمجيء والا لزم في حالة اجتماعه مع المجيء تحول المجيء الى علة ناقصة - اي صيرورته جزء علة - لان العلتين التامتين اذا اجتمعتا تحولت كل واحدة منهما الى جزء علة ، فالمرض لو كان علة بديلة للمجيء لزم تحول المجيء الى جزء علة حالة اجتماعه مع المرض والحال ان مقتضى الاطلاق الاحوالي كون المجيء علة تامة حالة اجتماعه مع المرض ايضا. وعليه يثبت ببركة الاطلاق الاحوالي كون المجيء علة منحصرة لا بديل لها. هذا كله في البيان الاول.

مناقشة البيان الاول.

ويرد عليه ثلاث مناقشات :

الاولى : انكم قلتم انه يمكن بواسطة الاطلاق الاحوالي اثبات كون الشرط علة منحصرة ، ونحن نقول انه توجد حالتان لا يمكن للاطلاق الاحوالي نفي احتمال العلة البديلة فيهما وهما :

ا - اذا كانت العلة الاخرى التي نحتمل قيامها مقام المجيء مما لا يمكن اجتماعها مع المجيء مثل انكسار الرجل ، فلو كنا نحتمل ان انكسار رجل زيد علة

ص: 456

ثانية لوجوب اكرامه غير مجيئه ففي مثل ذلك لا يمكن نفي مثل هذه العلة البديلة بالاطلاق الاحوالي اذ لا يمكن ان نقول : ان مقتضى الاطلاق الاحوالي كون المجيء علة تامة حتى في حالة اجتماعه مع انكسار الرجل ، انه باطل ، اذ انكسار الرجل لا يمكن اجتماعه مع المجيء حتى ينفى احتمال عليته بالاطلاق.

ب - اذا كانت العلة الاخرى مما يمكن اجتماعها مع المجيء ولكن كنا نحتمل انها لا تكون علة بديلة الا في حالة عدم حصول المجيء بحيث لو كان المجيء حاصلا فلا تكون علة وانما تكون علة عند عدمه - كما لو فرضنا ان المرض علة اخرى ولكنه لا يكون علة الا في حالة عدم المجيء - فمثل هذه العلة البديلة لا يمكن نفيها بالاطلاق الاحوالى ، فان قولنا مقتضى الاطلاق الاحوالى ان المجيء علة تامة في جميع الحالات بما فيها حالة الاجتماع مع المرض وان كان صحيحا الا انه ينفي علة المرض حالة اجتماعه مع المجيء ولا ينفي عليته حالة عدم اجتماعه مع المجيء فان الاطلاق الاحوالي ناظر الى حالة الاجتماع وينفي احتمال العلة الاخرى حالة الاجتماع ولا ينظر الى حالة انفراد المرض وحده لينفي احتمال عليته فيها.

الثانية : نسلم ان التفرع الاثباتى يدل على التفرع الثبوتى بيد انا ننكر اختصاص التفرع الثبوتي بخصوص العلة ومعلولها ، بل من الممكن ان يكون عندنا شيئان احداهما متفرع على الاخر واقعا ومع ذلك لا يكون احدهما علة والآخر معلولا كما هو الحال بين الكل والجزء ، فان الكل متفرع واقعا على الجزء ، اذ بدون حصول الجزء لا يمكن حصول الكل - ولذا يصح ان نأتي في مقام التعبير عن الكل والجزء بفاء التفريع ونقول : ان حصل الناطق فقد حصل الانسان او ان حصل الخل فيمكن حصول السكنجبين - ولكن مع ذلك ليس احدهما علة للآخر.

ص: 457

ومثال آخر على ذلك : المتقدم والمتأخر زمانا فان المتأخر زمانا متفرع واقعا على المتقدم زمانا ولذا يصح التعبير بفاء التفريع فيقال ان حصل السبت فقد حصل الاحد مع عدم كون احدهما بالنسبة للآخر من باب العلة والمعلول.

وباختصار : ان التفريع الاثباتي وان دل على التفريع الثبوتي ولكن التفريع الثبوتي لا ينحصر بباب العلية والمعلولية بل له مصاديق اخرى مثل الكل والجزء والمتقدم والمتأخر زمانا ، ومعه فلا يمكن ان يستنتج من مجرد تفرع الجزاء على الشرط ان الشرط علة واقعا للجزاء وان كنا في خصوص مثال « ان جاءك زيد فاكرمه » لا نحتمل غير العلية والمعلولية.

الثالثة : لو تنزلنا وسلمنا ان التفرع الواقعي ينحصر بباب العلية والمعلولية وليس له مصاديق اخرى مثل الكل والجزء والمتقدم والمتأخر زمانا ولكن نقول ان التفرع الواقعي لا ينحصر بحالة كون الشرط علة تامة بل من الممكن ان يكون الشرط جزء علة اذ كما ان المعلول متفرع واقعا على علته التامة كذلك هو متفرع واقعا على علته الناقصة.

اجل هناك طريق آخر يمكن بواسطته اثبات ان الشرط علة تامة « لا جزء علة » - غير طريق تفرع الجزاء على الشرط - وهو التمسك بالاطلاق الاحوالي بأن يقال : ان مقتضى تفرع الجزاء على الشرط انه كلما حصل المجيء حصل وجوب الاكرام حتى في حالة عدم انضمام شيء آخر - كالمرض مثلا - الى المجيء ، ان هذا الاطلاق الاحوالي يدل على ان المجيء علة تامة. هذا هو الطريق لاثبات ان الشرط علة تامه لا جزء علة. ولكن هذا الطريق قد يتأمل فيه من ناحية انه وان اثبت كون الشرط علة تامة وليس جزء علة الا انه ينفي الجزئية باحد معنيين لا بكلا المعنيين ، فان كون المجيء جزء العلة فيه احتمالان :

ص: 458

ا - ان يكون جزء العلة بمعنى انه وحده ومنفردا لا يمكن ان يؤثر في وجوب الاكرام بل لا بد وان ينضم اليه شيء آخر كالمرض. وبناء على هذا الاحتمال يكون المجيء قاصرا في ذاته عن التأثير وحده في وجوب الاكرام.

ب - ان يكون المجيء صالحا في ذاته للتأثير وحده في وجوب الاكرام وليس فى ذاته قصور ولكنه بسبب اجتماعه مع علة اخرى يتحول ويصير جزء العلة ، فصيرورة المجيء جزء علة ليس بسبب قصوره الذاتي وانما هو بسبب عارضي وهو الاجتماع مع علة اخرى ، فان كل علة تامة حينما تجتمع مع علة تامة اخرى تتحول كل واحدة منهما الى جزء علة.

وباتضاح هذين الاحتمالين نقول : ان الاطلاق الاحوالي السابق الذي اردنا به اثبات كون المجيء علة تامة « لا جزء علة » هو مما ينفي الجزئية باحتمالها الاول حيث يقول - اي الاطلاق الاحوالي - انه كلما حصل المجيء حصل وجوب الاكرام وان لم ينضم اليه المرض ، وهذا لازمه ان المجيء يمكنه لوحده ايجاد وجوب الاكرام بلا حاجة الى انضمام شيء آخر اليه وليس فيه اي قصور ذاتي ، ولكنه لا ينفي الجزئية باحتمالها الثاني اي لا يقول انه في حالة اجتماع المرض مع المجيء لا يتحول المجيء الى جزء علة بل لعله يتحول ويصير جزء العلة حالة اجتماعه مع المرض ، اذ الاطلاق الاحوالي يقول ان المجيء وحده وبلا حاجة الى انضمام المرض يمكنه ايجاد وجوب الاكرام وليس فيه قصور ذاتي ولا يقول انه لا توجد علة تامة اخرى بحيث عند اجتماعها مع المجيء يتحول المجيء الى جزء علة ، ان الجزئية بهذا المعنى مما لا ينفيها الاطلاق الاحوالي المذكور.

البيان الثاني.

والبيان الآخر للتمسك بالاطلاق ان يقال ان اثبات المفهوم بحاجة الى

ص: 459

اثبات امرين.

أ - اثبات ان الشرطية تدل على اللزوم العلي ، اي ان الجزاء لازم للشرط ومعلول له.

ب - اثبات ان الشرط علة منحصرة.

ولاثبات الامر الاول نكتفي بما سبق ، بان نفترض ان اللزوم العلي ثابت بسبب الوضع او تفرع الجزاء على الشرط ، فبأحد هذين الطريقين نثبت ان الشرط علة للجزاء. والمهم الذي نريد التركيز عليه هو اثبات الامر الثاني اي الانحصار. ولاثباته نقول : انه لو كان لوجوب الاكرام علة اخرى كالمرض مثلا فاما ان يكون كل من المجيء بعنوانه الخاص والمرض بعنوانه الخاص مؤثرا في وجوب الاكرام او يكون كل منهما مؤثرا لا بعنوانه الخاص بل بجامعه ، بان يكون الجامع بينهما - وهو عنوان احدهما - مؤثرا ، فالمجيء بما انه مصداق لعنوان احدهما وهكذا المرض بما انه مصداق لعنوان احدهما يؤثر في وجوب الاكرام بلا مدخلية لعنوانهما الخاص. وكلا الاحتمالين باطل. اما الاول : فلأنّ لازمه ايجاد الشيئين لشيء واحد ، وهو باطل لعدم صدور الواحد من المتعدد. واما الثاني : فلانه وان كان ممكنا الا انه خلاف الظاهر فان ظاهر قول المتكلم « اذا جاءك زيد فاكرمه » ان المجيء بعنوان كونه مجيئا مؤثر في وجوب الاكرام لا بما انه مصداق لعنوان احدهما ، اذ لم يقل المتكلم اذا حصل احدهما - اي المجيء والمرض - يجب الاكرام.

والنتيجة من كل هذا عدم وجود علة اخرى لوجوب الاكرام والا يلزم احد هذين المحذورين الباطلين.

ويرده : ان بالامكان اختيار كون كل من المجيء والمرض علة بعنوانه

ص: 460

الخاص دون ان يلزم تأثير المتعدد في الواحد بان نفترض وجود فردين من وجوب الاكرام والعلة لاحدهما المجيء وللآخر المرض فالمجيء علة لفرد خاص من وجوب الاكرام ، والمرض علة لفرد آخر من وجوب الاكرام ، ومثل هذا الافتراض معقول ولا يلزم منه محذور. وبناء عليه لا يلزم من انتفاء المجيء انتفاء اصل وجوب الاكرام وانما يلزم منه انتفاء الفرد الاول فقط مع امكان ثبوت الفرد الثاني فيما اذا تحققت علته.

البيان الثالث.

وهو للميرزا. وحاصله : ان ثبوت المفهوم للشرطية بحاجة الى اثبات امرين هما :

ا - دلالة الشرطية على اللزوم العليّ.

ب - كون الشرط علة منحصرة.

اما الامر الاول فنفترض ثبوته من طريق الوضع او غيره ، والمهم هو الامر الثاني ، ولاثباته يقال : من الواضح ان الجزاء متعلق ومتقيد بالشرط ، فوجوب الاكرام مقيد بالمجيء بيد انه تارة يكون متقيدا بعلة واحدة معينة واخرى بواحدة غير معينة من علتين. والتقيد بواحدة من علتين ذو مؤونة اكبر في عالم الثبوت ، فان وجوب الاكرام لو كانت له علة واحدة فهو لا يحتاج الى التقييد بكلمة « او » بينما لو كانت له علة ثانية بديلة احتاج الى التقييد ب- « او » بان يقال هكذا : ان جاءك زيد او مرض فاكرمه. وبعد هذا نقول : اذا كانت عندنا علّيتان واقعا احداهما تحتاج الى مؤونة اكبر والاخرى لا تحتاج الى تلك المؤونة فاطلاق الكلام - اي عدم تقييده بكلمة « او » - يدل على عدم ارادة العليّة ذات المؤونة الاكبر.

ص: 461

اذن اطلاق الشرط وعدم تقييده بكلمة « او » يدل على عدم وجود علة اخرى بديلة. وهذا اطلاق نقصد به عدم التقييد ب- « او ». وهناك اطلاق ثاني بمعنى عدم التقييد بالواو ، فان المجيء تارة يقيد ب- « او » واخرى بالواو ، فان قيد ب- « او » وقيل « اذا جاءك زيد او كان مريضا فاكرمه » فلازم ذلك وجود علة اخرى بديلة اي ان الشرط ليس علة منحصرة ، بينما اذا قيد بالواو فقيل « اذا جاءك زيد وكان مريضا فاكرمه » فلازمه كون المجيء جزء العلة وليس علة تامة بل العلة التامة هي مجموع المجيء والمرض. ومن هنا يتجلى ان اطلاق الشرط بمعنى عدم التقييد ب- « او » يدل على ان الشرط علة منحصرة بينما اطلاق الشرط بمعنى عدم التقييد بالواو يدل على ان الشرط علة تامة وليس جزء علة. والميرزا يقول اني اتمسك لاثبات ان الشرط علة منحصرة باطلاق الشرط بمعنى عدم تقييده ب- « او » وليس باطلاقه بمعنى عدم تقييده بالواو فان الاطلاق الثاني لا يثبت كون الشرط علة منحصرة وانما يثبت كونه علة تامة وانا اريد اثبات كونه علة منحصرة.

الحاجة الى اثبات الركن الثاني.

ثم انه بتمامية بيان الميرزا هذا تكون مجموع البيانات التي ذكرناها خمسة. ولا بد وأن نتوجه الى ان هذا البيانات تحاول فقط اثبات الركن الاول من ركني المفهوم دون الركن الثاني ، فانا ذكرنا فيما سبق ان تحقق المفهوم بحاجة في رأي المشهور الى اثبات ركنين هما : العلية الانحصارية وكون الحكم المعلق على الشرط طبيعي الحكم لا شخصه ، وهذه البيانات كلها تصب جهدها لاثبات الركن الاول واما الركن الثاني فلم تثبته بل لا بد من اثباته بقرينة الحكمة بان يقال : ان مفاد

ص: 462

هيئة « فاكرمه » هو اصل الوجوب وطبيعيّه لا فرد خاص من الوجوب ، فلو لم يكن مراد المتكلم طبيعي الوجوب كان عليه البيان ، فعدم بيانه يدل على ان مراده طبيعي الوجوب لا شخصه.

الرد على الميرزا.

ثم ان الرد على الميرزا ان يقال : انت حينما ذكرت البيان الخامس هل تعترف ان الشرطية موضوعة للتوقف او لا؟ فان كنت تعترف بذلك فهذا وحده كاف لاثبات المفهوم بلا حاجة الى اثبات ان الشرط علة منحصرة فان وجوب الاكرام اذا كان متوقفا على المجيء فلازمه انتفاؤه عند انتفاء المجيء بلا حاجة لاثبات كون الشرط علة منحصرة. وان كنت لا تعترف بوضعها للتوقف بل للاستلزام فما ذكرته من البيان ليس بتام لانه يفترض ان وجوب الاكرام لو كانت له علة اخرى غير المجيء يلزم منه حصول التضييق في عليّة المجيء ، وهذا ما لا نسلمه ، فانا وان كنا نسلم ان وجود علة ثانية بديلة يستلزم التقييد ب- « او » ولكننا ننكر كون هذا التقييد موجبا للتضييق ، فهو تقييد ولكنه لا يوجب التضييق في عليّة المجيء ، وهذا شيء وجداني ، فانه لو كان عندنا نار يمكنها ان تسخن الماء مدة ساعة فالنار المذكوره تستلزم السخونة واذا فرضنا وجود نار اخرى يمكن ان تقع بديلا عن هذه النار فهل ترى ان النار الاولى يتضيق استلزامها للسخونة وتصير عليتها مضيقه؟ كلا لا تتضيق عليّة النار الاولى. اجل بافتراض وجود نار اخرى بديلة يلزم وجود عليّة ثانية جديدة غير العلية الاولى من دون ان تتضيق العليه الاولى (1). واذا لم يكن وجود العلة الثانية موجبا لتضييق العليّة الاولى فلا

ص: 463


1- ونظير ذلك ايضا ما اذا قيل جاء زيد او عمرو فهل ان مجيء عمرو يقيد ويضيق مجيء زيد او انه مجيء ثان مضاف الى المجيء الاول؟ طبيعي انه مجيء ثاني ولا يقيد.

يمكن التمسك بالاطلاق لنفي العلة الثانية ، فان الاطلاق لا يصح التمسك به لنفي التقييد الا اذا فرض كون التقييد موجبا للتضييق ، اما اذا لم يكن موجبا لذلك - كما هو الحال في المقام - فلا يصح التمسك به.

ولعل قائلا يقول : صحيح ان وجود علة ثانية لا يستلزم تضييقا في عليّة العلة الاولى وانما يوجب ثبوت علة ثانية جديدة ، ولكنا نقول انه لو كانت هناك علة ثانية يلزم على المولى بيانها ، فسكوته يدل على عدمها.

والجواب : لا يلزم على المولى بيان كل شيء اضافي ولا يكون سكوته عنه دالا على عدمه ، فلو فرض ان المتكلم قال جاء زيد ولم يقل وعمرو فهل يفهم من السكوت عن ذكر اسم عمرو انه لم يجيء؟ كلا لا يفهم ذلك. اجل اذا فرض ان المولى كان في مقام بيان من جاء ومن لم يجىء فسكوته عن ذكر اسم عمرو يدل على عدم مجيئه. وهكذا في مقامنا لو فرض ان المولى كان بصدد بيان ان اى شيء علة لوجوب الاكرام واي شيء ليس علة فسكوته عن ذكر العلة الثانية الاضافية دليل على عدمها. ويسمى مثل هذا الاطلاق بالاطلاق المقامي. ومثل هذا الاطلاق لا يكون متوفرا غالبا ، فمن النادر ان يكون المولى في مقام بيان ان اي شيء علة واي شيء ليس علة ، بل عادة يكون بصدد بيان ان المجيء علة ولا يكون بصدد بيان انه لو سرقت اموال زيد ولم يبق عنده ما يشتري به طعاما مثلا فهل ذلك علة لوجوب اكرامه او لا؟

وباختصار : نحن نعترف ان المولى لو كان في مقام البيان بهذا الشكل صح التمسك بالاطلاق ، ولكنا ندعي انه قضية نادرة.

ص: 464

رأي السيد الشهيد في المسألة.

والاولى في نظر السيد الشهيد في كيفية اثبات المفهوم ان يدعى وضع الشرطية للتوقف ، فان المتبادر من جملة « اذا جاءك زيد فاكرمه » ان وجوب الاكرام موقوف على المجيء ، وطبيعي ان المولى لو كان يصرح هكذا : وجوب الاكرام موقوف على المجيء افلا كنّا نستفيد انتفاء الوجوب عند انتفاء المجيء؟ نعم لا شك في ذلك ، ومعه فلا بد من استفادة ذلك ايضا لو قال المتكلم اذا جاءك زيد فاكرمه.

وقد تقول : لو كانت الشرطية موضوعة للتوقف فلازم ذلك ان يكون استعمالها في موارد وجود العلة البديلة مجازا لعدم استعمالها في التوقف في الموارد المذكورة مع انا ذكرنا فيما سبق - اي في البيان الاول من البيانات الخمسة - ان استعمال الشرطية في موارد عدم الانحصار لا مجازية فيه بالوجدان.

والجواب عن ذلك : ان بالامكان القول باستعمال الشرطية في موارد وجود العلة البديلة في التوقف ايضا غاية الامر نفترض ان الركن الثاني للمفهوم غير متوفر فانا ذكرنا فيما سبق ان ثبوت المفهوم بحاجة الى اثبات امرين : التوقف - او العلية الانحصارية - وكون المعلق على الشرط طبيعي الحكم. وفي موارد العلة البديلة نفترض ان الجملة مستعملة في التوقف ايضا بيد انها لا تدل على المفهوم من جهة اختلال الركن الثاني وكون الجزاء هو شخص الحكم ، فالشرطية تكون مستعملة في التوقف ولكن المتوقف على الشرط شخص الحكم وتكون العلة الثانيه علة لشخص ثان من الحكم. وبناء على هذا تكون الشرطية مستعملة في معناها الحقيقي وهو التوقف غاية الامر هي مستعملة الافادة شخص الحكم وبذلك يكون استعمالها حقيقيا ولا موجب لصيرورته مجازيا سوى عدم استعمال هيئة اكرمه في

ص: 465

طبيعي الحكم ، ومن الواضح ان هذا لا يستوجب المجازية اذ اقصى ما يستوجبه استعمال الهيئة في شخص الحكم هو تقييد اطلاق مفاد الهيئة. وواضح ان تقييد الاطلاق لا يلزم منه المجازية.

اذن السيد الشهيد وفّق بين الوجدانين ، اي بين وجدان تبادر التوقف من الشرطية ووجدان عدم المجازية في موارد العلة البديلة خلافا للآخوند حيث انكر الوجدان الاول لاجل الوجدان الثاني ولم يمكنه التوفيق بينهما بالشكل الذي ذكرناه ، فانكر لاجل ذلك ثبوت المفهوم للشرطية.

قوله ص 167 س 10 اصطدمت الدعوى ... الخ : هذا متصل بالسطر السابق. ووضعه اول السطر خطأ مطبعي.

قوله ص 167 س 14 المدعي : الصواب : المدّعى.

قوله ص 168 س 3 افراد اللزوم : لعل الانسب التعبير ب- « فردي اللزوم ».

قوله ص 168 س 8 وكون الشرط علة تامة : اى لا جزء علة. ثم ان هذه الجملة عطف تفسير لقوله « تفرعه عنه ثبوتا ».

قوله ص 168 س 9 والكلام : عطف تفسير على « الاثبات ». وهكذا عطف « الواقع » على « الثبوت » تفسيري.

قوله ص 168 س 17 او دخالة : عطف على « كونه ».

قوله ص 169 س 2 اذ ليس من الاحوال ... الخ : هذا يصلح تعليلا لنفي الاحتمال الاول اي وجود علة مضادة بطبيعتها للشرط ، ولا يصلح تعليلا لنفي الاحتمال الثاني اي وجود علة ثانية يكون عدم الشرط دخيلا في عليتها ، بل المناسب تعليله بالشكل الذي ذكرناه سابقا.

ص: 466

قوله ص 169 س 5 الجزء : الصواب : الجزاء.

قوله ص 169 س 9 كذلك : اي زمانا. والفارزة قبل كلمة « كذلك » في غير محلها.

قوله ص 170 س 5 على معلوم : الصواب : على معلول.

قوله ص 170 س 17 والجواب بامكان : لعل المناسب : والجواب انه بالامكان .. الخ.

قوله ص 172 س 7 والتحقيق : اي في رد الميرزا.

قوله ص 173 س 3 المطلوب السكوت : المناسب : المطلب المسكوت عنه.

قوله ص 173 س 5 فالاولى من ذلك كله : اي من البيانات الخمسة السابقة. وهذا رأي السيد الشهيد في المسألة.

الشرط المسوق لتحقق الموضوع.

قوله ص 173 س 14 يلاحظ في كل جملة شرطية ... الخ : بعد ان ثبتت دلالة الشرطية على المفهوم نستدرك ونقول : ان الشرطية قد لا تدل على المفهوم وذلك فيما اذا كانت مسوقة لبيان تحقق الموضوع كقولك « اذا رزقت ولدا فاختنه » فانها تدل على انه متى ما تحقق هذا الموضوع - اي رزق الولد - وجب الختان ، ولا تدل على انه اذا لم ترزق الولد فلا تختنه.

ولا بد من ايضاح مطلبين :

1 - متى تكون الشرطية مسوقة لبيان تحقق الموضوع؟

2 - لماذا لا تدل الشرطية المسوقة لبيان تحقق الموضوع على المفهوم؟

ص: 467

اما بالنسبة الى المطلب الاول فنقول : ان كل شرطية تحتوي على اركان ثلاثة هي :

ا - الشرط مثل المجيء.

ب - الموضوع مثل زيد.

ح - الحكم مثل وجوب الاكرام.

وباتضاح هذا نقول : تارة يكون الشرط مغايرا للموضوع وغير محقق له - كقولك « اذا جاء زيد فاكرمه » ، فان مجىء زيد غير زيد - واخرى يكون هو الاسلوب والطريق لتحققه كقولك ، « ان رزقت ولدا فاختنه » فان الموضوع هو الولد والشرط هو رزقه ، وواضح ان رزق الولد ليس شيئا مباينا للولد ، بل رزقه سبحانه الولد هو الطريق لوجوده ، ولا يوجد في الخارج شيئان : الولد ورزق الولد.

وبعد هذا نقول : ان الشرط اذا كان مغايرا للموضوع فلا شك في ثبوت المفهوم ، واما اذا لم يكن مغايرا له فهناك صورتان :

ا - ان يكون الشرط هو الطريق الوحيد لتحقق الموضوع ، وهذا مثل قولك « ان رزقت ولدا فاختنه » فان رزقه سبحانه الولد هو الطريق الوحيد لوجود الولد ، ولا يوجد طريق غيره.

ب - ان يكون تحقق الموضوع ممكنا بطريقين ويكون الشرط احد الطريقين ، وهذا كقوله تعالى : « إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا » ، فان الشرط هو مجىء الفاسق ، والموضوع هو النبأ ، وواضح ان مجيء الفاسق بالنبأ يحقق النبأ ولكن ليس هو الطريق الوحيد له ، بل يوجد طريق آخر لحصوله وهو مجىء العادل به.

ص: 468

والنتيجة باختصار : ان الشرطية تكون مسوقة لبيان تحقق الموضوع فيما اذا كان الشرط هو الطريق لتحقق الموضوع سواء كان هو الاسلوب الوحيد ام لا.

اما اذا كان الشرط مغايرا للموضوع فليست الشرطية مسوقة لبيان تحقق الموضوع. وقد تسمى بانها مسوقة لبيان تحقق المحمول. هذا كله بالنسبة الى المطلب الاول.

واما المطلب الثاني ففيه دعويان :

ا - ان الشرطية التي يكون الشرط فيها هو الاسلوب الوحيد لتحقق الموضوع ليس لها مفهوم

ب - ان الشرطية التي لا يكون الشرط فيها هو الاسلوب الوحيد لتحقق الموضوع لها مفهوم.

اما بالنسبة الى الدعوى الاولى فالدليل عليها ان النكتة في ثبوت المفهوم للشرطية هو ارتباط الحكم وتقيده بالشرط ، ففي قولك « اذا جاءك زيد فاكرمه » يثبت المفهوم لكون وجوب الاكرام قد قيد بالمجيء ، اما اذا لم يكن وجوب الاكرام متقيدا بالمجىء وانما كان متقيدا بزيد - الذي هو الموضوع - فقط فلا يثبت المفهوم. وبكلمة اخرى ان ثبوت المفهوم للشرطية هو من نتائج ارتباط الحكم بالشرط وليس من نتائج ارتباط الحكم بموضوعه والا كان لكل حكم مفهوم.

وباتضاح هذا نأتي الى جملة « ان رزقت ولدا فاختنه » لنلاحظ ان وجوب الختان هل هو متقيد بالشرط حتى يثبت له المفهوم او ليس له تقيد به بل بالموضوع فلا يثبت له مفهوم؟ والصحيح عدم كونه متقيدا بالشرط وانما هو متقيد بالموضوع فقط ، والسبب في ذلك ان الشرط ليس له وجود مغاير لوجود الموضوع - فان رزق الولد ليس شيئا مغايرا لوجود الولد بل هو نفسه - حتى يكون وجوب

ص: 469

الختان مقيدا به وبالتالي حتى يثبت بسبب ذلك المفهوم. اذن وجوب الختان متقيد بالموضوع فقط ، فكانه قيل : أختن الولد ، وواضح ان مثل ذلك ليس له مفهوم.

واما بالنسبة للدعوى الثانية فالدليل عليها ان الموضوع حيث يمكن ان يتحقق بدون الشرط فالحكم يكون مرتبطا بالشرط اضافة الى ارتباطه بالموضوع ، ومعه فيثبت المفهوم ، ففي قوله تعالى « إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا » يستفاد ارتباطان : ارتباط وجوب التبين بالنبأ الذي هو الموضوع وارتباط وجوب التبين بمجيء الفاسق الذي هو الشرط ، ومادام وجوب التبين مرتبطا بمجىء الفاسق يثبت المفهوم.

وقد تسأل كيف يمكن اثبات ان الاية الكريمة تدل على وجود ارتباطين وليست بصدد بيان ارتباط واحد وهو ارتباط الحكم بالموضوع؟

والجواب : ان الاية الكريمة لو كانت تدل على ارتباط الحكم بالموضوع فقط لكان مفادها هكذا : يجب التبين عن النبأ ، مع انه لا اشكال في عدم كون مفادها ذلك ، وانما مفادها وجوب التبين عن النبأ اذا كان المخبر فاسقا ، وواضح ان السبب لهذه الاستفادة لا بد وان يكون هو ارتباط الحكم بالشرط ، ولا بد وان يكون هذا الارتباط مغايرا لارتباط الحكم بالموضوع.

قوله ص 174 س 12 فهي قسمين : في العبارة سقط والصحيح : فهي على قسمين.

قوله ص 175 س 6 على وجه مخصوص : اي على وجه العلية الانحصارية ، وعلى رأي السيد الشهيد : على وجه التوقف.

ص: 470

مفهوم الوصف

قوله ص 176 س 1 اذا تعلق حكم بموضوع ... الخ : وقع الكلام في ان الوصف له مفهوم أو لا؟ قلو قيل « اكرم الفقير العادل » فهل يدل تقييد الفقير بوصف العادل على انتفاء وجوب الاكرام عن غير العادل او لا؟ وقبل التحدث عن ذلك لا بد من الالتفات الى المقصود من الوصف ، فقد يتخيل انه الوصف النحوي ولكنه باطل بل المقصود كل وصف معنوي اعم من كونه وصفا نحويا اولا ، فمثلا قيد العدالة في قولنا « اكرم الفقير عادلا » حال وليس بنعت ، ولكنه مع ذلك داخل في محل الكلام لكونه وصفا معنويا.

كما وينبغي الالتفات الى ان المقصود هو ان التقييد بالعدالة هل يدل على انتفاء طبيعي الحكم عند انتفاء العدالة - وان الوجوب منتف بجميع اسبابه وملاكاته كوجوب الاكرام من ناحية المرض او كونه هاشميا وغير ذلك - او لا؟ وليس المقصود دلالته على انتفاء شخص الحكم ، فان شخص الحكم - اي الوجوب الخاص الذي ملاكه العدالة - لا اشكال في انتفائه عند انتفاء العدالة لقاعدة الاحتراز في القيود وليس ذلك من المفهوم في شيء.

وبعد هذا نعود الى صلب الموضوع وهو ان التقييد بالوصف هل يدل على المفهوم او لا؟ والجواب : انه اذا اخترنا مسلك الشيخ العراقي - المتقدم ص 167 من الحلقة والقائل بان الركن الاول من ركني المفهوم وهو التوقف لا اشكال في ثبوته وانما الخلاف في الركن الثاني - فلا بد من توجيه النظر الى الركن الثاني وهو

ص: 471

كون المعلق طبيعي الحكم لا شخصه ليرى انه ثابت او لا. والصحيح عدم امكان اثباته لان هيئة « اكرم » تدل على الوجوب المرتبط بالاكرام المتقيد بالفقير العادل ، فالحكم المنشأ بهيئة « اكرم » اذن ليس هو اصل وجوب الاكرام وطبيعيه بل فرد من وجوب الاكرام وهو وجوب الاكرام المتقيد بالفقير العادل ، واذا كان المنشأ هو الوجوب الخاص فغاية ما يلزم من انتفاء العدالة انتفاء هذا الوجوب الخاص لا طبيعي الوجوب. هذا لو اخترنا مسلك الشيخ العراقي.

وان لم نختره فنحن بحاجة الى اثبات كلا الركنين لا خصوص الثاني ، وكلاهما لا يمكن اثباته.

اما عدم امكان اثبات الركن الثاني فلما تقدم قبل قليل.

واما عدم امكان اثبات الركن الاول - وهو التوقف - فلأن مثل جملة « اكرم الفقير العادل » لا يوجد فيها ما يمكن ان يدل على التوقف ، فانه لو تأملنا لوجدنا فيها ثلاثة امور :

ا - تقيد الوجوب بالاكرام. وهذا التقيد والارتباط ذاتي ، اي ان الوجوب بذاته مرتبط بغيره ولا يمكن ان يوجد وحده. ولا يوجد دال على هذا التقيد لكونه ذاتيا غنيا عن الدال عليه.

ب - تقيد الاكرام بالفقير ، اي نسبة الاكرام الى الفقير التي هي نسبة ناقصة تقييدية (1). والدال على هذه النسبة هي هيئة المفعولية ، فان كلمة « الفقير » مفعول به ل- « اكرم » فهيئة المفعولية هذه هي التي تدل على النسبة الناقصة التقييدية.

ج - نسبة العدالة الى الفقير نسبة ناقصة تقييدية. والدال على هذه النسبة

ص: 472


1- انما كانت النسبة المذكورة ناقصة لانه لا يصح السكوت عليها. وكانت تقييدية لان مفادها تقيد الاكرام بالفقير.

هي هيئة الوصف والموصوف.

اذن الدوال الموجودة في الجملة الوصفية ثلاثة ولا شيء منها يدل على التوقف. وعليه فالتقييد بالوصف لا مفهوم له لاختلال كلا الركنين.

وقد تقول اذا لم يكن للوصف مفهوم فالتقييد به يكون لغوا. والجواب : ان محذور اللغوية لا يتوقف دفعه على ثبوت المفهوم ، اي على انتفاء وجوب الاكرام عن جميع افراد الفقير غير العادل ، بل يندفع فيما اذا فرض ان قسما من افراد الفقير غير العادل لا يجب اكرامه - كالفقير الفاسق من اهل الكوفة - والقسم الآخر يجب اكرامه كالفقير الفاسق من اهل البصرة - فانه بناء على هذا الافتراض يندفع محذور اللغوية ، اذ التقييد بوصف العدالة يكون الداعي له دفع توهم شمول الحكم بوجوب الاكرام للقسم الذي لا يجب اكرامه وهو الفقير الكوفي ، فانه لو قيل اكرم الفقير من دون ذكر قيد العدالة لتوهم شمول الحكم بوجوب الاكرام لكل فقير حتى الفقير الكوفي. اذن اقصى ما يدل عليه التقييد بالوصف هو السلب الجزئي اي عدم ثبوت وجوب الاكرام لبعض افراد الفقير غير العادل ، ولا يدل على السلب الكلي - اي انتفاء الوجوب عن جميع افراد الفقير غير العادل - الذي هو المفهوم. وقد مر هذا في الحلقة الثانية ص 144.

قوله ص 176 س 11 والذي ينتفي بانتفائه : اي ينتفي المربوط - اي الحكم المربوط - بانتفاء الوصف.

قوله ص 176 س 13 لان مفاد هيئة « اكرم » : وهو الوجوب ، فانه مفاد الهيئة. ومدلول المادة - المقصود من المادة : المصدر - هو الاكرام. ثم ان المناسب : « مقيد » بدل « مقيدة ».

قوله ص 176 س 14 طرفا لها : لعل المناسب : طرفا له ، اي طرفا لمفاد

ص: 473

الهيئة ، فان الاكرام طرف للوجوب الذي هو مفاد الهيئة.

قوله ص 176 س 15 اكرم : الصواب : اكرام.

قوله ص 177 س 7 ان نضيف الى ذلك : اي الى منع دلالة الجزاء على الطبيعي الذي هو الركن الثاني.

قوله ص 177 س 13 لا بنحو المعنى الاسمي ولا بنحو المعنى الحرفي : اي لا توجد كلمة توقف حتى تدل على التوقف ، كما ولا توجد هيئة لتدل على النسبة التوقفية التي هي معنى حرفي.

ص: 474

مفهوم الغاية

قوله ص 178 س 1 ومن الجمل التي وقع الكلام ... الخ : وقع الحديث في ان التقييد بالغاية هل يدل على المفهوم او لا؟ فلو قيل « صم الى الليل » فهل يستفاد منه انتفاء الوجوب عما بعد الليل او لا؟ ومن الطبيعي المقصود هل يستفاد انتفاء طبيعي الحكم او لا؟ وبكلمة اخرى هل يستفاد ان الوجوب بجميع ملاكاته واسبابه منتف بعد الليل او لا؟ وليس المقصود هل يستفاد انتفاء شخص الحكم ، فان الوجوب الخاص المقيد بكونه الى الليل لا اشكال في انتفائه عند دخول الليل طبقا لقاعدة الاحتراز في القيود.

ولاجل ان يتضح ما هو الصحيح لا بد وان نرجع الى الركنين السابقين لنلاحظ هل هما متوفران او لا؟

والركن الاول - وهو التوقف - ثابت جزما ، فان افتراض الغاية يلازم افتراض التوقف ، فحينما يقال صم الى الليل فمرجع ذلك الى ان نهاية الصوم دخول الليل ، ومن الواضح ان النهاية عبارة اخرى عن الغاية ، فمعنى كون نهاية الصوم الليل هو ان وجوب الصوم موقوف على عدم دخول الليل.

واما بالنسبة الى الركن الثاني - وهو كون المعلق الطبيعي لا الشخص - فلأجل ان يتضح حاله يمكننا ان نحول الغاية من حالة الحرفية الى حالة الاسمية ، اي نحوّلها من كلمة « الى » مثلا الى كلمة غاية. وعند التحويل نجد ان جملة « صم الى الليل » يمكن تحويلها الى احد شكلين :

ص: 475

ا - وجوب الصوم مغيى بالليل.

ب - جعلت وجوبا للصوم مغيى بالليل.

فان كانت الجملة الغائية السابقة ترجع الى الشكل الاول امكن ان نستفيد ببركة قرينة الحكمة كون الحكم المغيى بدخول الليل هو الطبيعي دون الخاص ، فكما انه لو قال المتكلم « الربا حرام » امكن التمسك بقرينة الحكمة لاثبات ان مطلق الربا محرم لا بعض افراده ، فكذلك في الشكل الاول يمكن التمسك بقرينة الحكمة لاثبات ان المقصود من الوجوب هو مطلق الوجوب وطبيعيه لا بعض افراده الخاصة.

واما اذا كانت الجملة الغائية ترجع الى الشكل الثاني فلا يمكن التمسك بقرينة الحكمة لاثبات ان الحكم المغيى هو الطبيعي ، اذ لا يستفاد من جملة « جعلت وجوبا للصوم مغيى بالليل » انه جعل طبيعي الوجوب ، بل اقصى ما يستفاد انه جعل وجوبا مغيى بالليل ، وهذا لا ينافي انه جعل وجوبا ثانيا غير مغيى بالليل.

وحيث ان الجملة الغائية السابقة لا يستفاد منها اكثر من الشكل الثاني فلا يمكن ان تكون دالة على المفهوم حيث ان الركن الثاني لا يمكن اثباته.

ولرب قائل يقول : اذا كان التقييد بالغاية لا يدل على المفهوم فذكر الغاية يكون لغوا ، اذ يمكن للمولى ان يقول « صم » بدون حاجة للتقييد بكونه الى الليل مادام الوجوب ثابتا لما بعد الليل.

والجواب : انه يكفي لدفع اللغوية افتراض ان قسما مما بعد الليل - كمقدار ساعتين - يجب صومه وقسما آخر - كثلاث ساعات - لا يجب صومه ، فانه حينئذ يكون التقييد بالليل لدفع توهم ثبوت وجوب الصوم للساعات الثلاث التي لا

ص: 476

يجب صومها ، اذ لو قيل « صم » من دون التقييد بكونه الى الليل فهم السامع من ذلك ان الصوم واجب لما بعد الليل بما في ذلك الساعات الثلاث ، فلأجل دفع هذا التوهم يذكر التقييد بالليل. وعلى هذا يكون للتقييد بالغاية مفهوم ولكن على مستوى السالبة الجزئية دفعا لمحذور اللغوية ، اي يفهم ان قسما من ساعات ما بعد الليل لا يجب صومها ولا يفهم ثبوت المفهوم على مستوى السالبة الكلية وانه لا يجب صوم ما بعد الليل ابدا.

قوله ص 178 س 4 بالنحو اللذي يستدعي ... الخ : وهو التوقف.

قوله ص 178 س 6 فمسلك المحقق العراقي : القائل بان الركن الاول ثابت جزما. وقد تقدم هذا ص 167 من الحلقة.

قوله ص 178 س 8 والمدلول لذلك الخطاب : عطف تفسير على شخص الحكم المجعول. ثم ان المدلول للخطاب هو شخص الحكم واما الطبيعي فهو مدلول للاطلاق وقرينة الحكمة.

قوله ص 178 س 13 جعل الشارع وجوب الصوم المغيى : المناسب :

جعل الشارع وجوبا للصوم ... الخ كما سيأتي منه قدس سره ص 179 س 13 من الحلقة.

ص: 477

مفهوم الاستثناء

قوله ص 180 س 3 ونفس ما تقدم ... الخ : اذا قال المتكلم « اكرم الفقراء الا الفساق » فلا شك في استفادة ان وجوب الاكرام - الذي هو حكم المستثنى منه - غير ثابت للفساق الذي هو المستثنى ، اي لا اشكال في انه يدل على الركن الاول وهو التوقف ، فان عدم ثبوت الوجوب للفساق معناه ان وجوب الاكرام موقوف على عدم الفسق ، وانما الاشكال في الركن الثاني - وهو انتفاء طبيعي الحكم عن الفساق - فهل هو ثابت حتى يكون المفهوم ثابتا او لا؟ وبتعبير آخر هل يستفاد ان وجوب الاكرام بجميع الملاكات منتف عن الفساق - فلا يجب اكرامهم حتى لو كانوا مرضى او هاشميين او غير ذلك - او يستفاد فقط وفقط انتفاء شخص الحكم ، اي ان الفساق لا يجب اكرامهم بملاك الفقر واما بالملاكات الاخرى فذاك مسكوت عنه. فلو كانت الجملة المذكورة تدل على انتفاء وجوب الاكرام عن الفساق بجميع الملاكات فلازم ذلك ثبوت المفهوم ، اما اذا لم تدل على ذلك بل كانت تدل على عدم وجوب اكرام الفساق بملاك الفقر فقط - اي كانت تدل على انتفاء شخص الحكم دون طبيعيّه - فلا يكون المفهوم ثابتا.

ولاجل التعرف على ان جملة الاستثناء هل تدل على نفي طبيعي الوجوب عن الفساق او لا يمكننا تحويل اداة الاستثناء من حالة الحرفية الى حالة الاسمية كما ذكرنا ذلك في الجملة الغائية. وعند التحويل نجد ان بالامكان الحصول على شكلين :

ص: 478

ا - وجوب الاكرام يستثنى منه الفساق.

ب - جعل الشارع وجوبا لاكرام الفقراء مستثنى منه الفساق.

فعلى الشكل الاول يمكن ان يستفاد ان الوجوب المستثنى عن الفساق هو الطبيعي بخلافه في الشكل الثاني تماما كما ذكرنا في الجملة الغائية. وحيث ان غاية ما يستفاد من جملة الاستثناء هو الشكل الثاني فلا يثبت اذن المفهوم للاستثناء.

اجل دفعا لمحذور اللغوية لا بد من الالتزام بثبوت المفهوم على نحو السالبة الجزئية ، فمن استثناء الفساق لا يتحتم ان نفهم ان كل فرد من افراد الفقير الفاسق لا يجب اكرامه بل لدفع محذور اللغوية لا بد من فرض ان بعض افراد الفقير الفاسق لا يجب اكرامه كالفقير الفاسق الكوفي - ففى مثل هذه الفرضية لا يكون استثناء الفساق لغوا ، اذ لو لم يستثن وقيل اكرم الفقراء لتوهم شمول الحكم بوجوب الاكرام لجميع الافراد بما فيهم الفقير الفاسق الكوفي ، فقيد « الفساق » ذكر لا لأفادة انتفاء الوجوب عن جميع افراد الفساق بل لدفع توهم شمول الحكم لكل فقير حتى الفاسق الكوفي.

قوله ص 180 س 4 لا شك في دلالته على نفي حكم ... الخ : اي لا شك في دلالته على التوقف وان وجوب الاكرام منفي عن الفساق وموقوف على عدم كون الفقير فاسقا ، وهذا معناه ان الاستثناء يدل على الركن الاول جزما.

قوله ص 180 س 15 لم يكن لها مفهوم : اي على نحو السالبة الكلية والا فالمفهوم على نحو السالبة الجزئية - دفعا لمحذور اللغوية - ثابت كما اشار لذلك في الحلقة الثانية.

ص: 479

مفهوم الحصر

قوله ص 181 س 1 لا شك في ان كل جملة تدل على حصر ... الخ : اذا قال المتكلم « انما العالم زيد » فهم منه حصر العالمية في زيد. ولكن هل يفهم من ذلك ان غير زيد ليس بعالم؟ والجواب يرتبط بملاحظة الركنين السابقين ، فان كانا متوفرين ثبت المفهوم والا فلا. والصحيح توفر هما.

اما الركن الاول - وهو دلالة الجملة على التوقف - فلأن الحصر يستبطن التوقف ، فان مرجع حصر العالمية في زيد الى ان العالمية يتوقف تحققها على زيد.

واما الركن الثاني - وهو كون المحصور طبيعي الحكم لا شخصه - فلأنه بعد ان سلمنا دلالة الجملة المذكورة على الحصر فلا بد وان يكون المحصور هو الطبيعي ، اذ شخص الحكم محصور بموضوعه دائما وابدا بلا حاجة الى حصر ، فان شخص الحكم عبارة عن عالمية زيد ، ومن الواضح ان عالمية زيد منحصرة بزيد ولا يمكن ان تتعداه حتى ولو لم تستعمل اداة الحصر ، فاستعمال اداة الحصر اذن لا بدّ وان يكون الغرض منه حصر طبيعي العالمية في زيد ، ومادام مطلق العالمية وطبيعيّها منحصرا في زيد فلا بد وان لا يكون غير زيد متصفا بالعالمية وهو معنى المفهوم.

ولعله من هذه الناحية لم يقع نزاع بين الاصوليين. اجل هناك نزاع جانبي في تحديد بعض ادوات الحصر. ونذكر لادوات الحصر مثالين :

ا - كلمة « انما ». وقد وقع النزاع في انها تدل على الحصر او لا؟ فالشيخ

ص: 480

الانصاري قدس سره ذهب الى عدم دلالتها على ذلك لانه لم يكن عربيا حتى يتمسك بما يتبادر الى ذهنه منها ، فان التبادر من لفظ عربي يتوقف على كون الشخص عربيا. واذا اريد الرجوع الى الاستعمالات العربية وجدنا انها مختلفة ، ففي بعضها استعملت كلمة « انما » للحصر وفي بعضها الآخر لم تستعمل لذلك ، فالاستعمالات مختلفة ولا يمكن الركون اليها. واذا اردنا الرجوع الى مرادف كلمة « انما » في الفارسية ليلحظ هل يتبادر منه الحصر او لا لم نعثر على مرادف. وعليه فجميع الطرق لاثبات الوضع للحصر - التبادر والاستعمالات العربيه والمرادف في غير اللغة العربية - منسدة ، ومن هنا انكر قدس سره دلالة كلمة « انما » على الحصر.

ويرده : ما اشار اليه الآخوند من وجود طريق رابع وهو التبادر عند العرب ، فان المتبادر الى اذهانهم من كلمة « انما » الحصر ، وهو يكفي لاثبات الوضع.

ب - كون موضوع القضية عاما ومن المعارف كقولك « ابنك هو محمد » ، فان كلمة « ابن » اعم من محمد ، وهي معرفة لانها مضافة للكاف. وفي هذه الحالة نستفيد الحصر ، اي نستفيد ان البنوة منحصرة بمحمد.

ولعل نكتة استفادة الحصر ان المحمول لا بد وان يكون صادقا على جميع افراد الموضوع - والا فلا يصدق عليه انه محمول - وحيث ان الموضوع اعم فلا بد من فرض ان جميع افراد الابن منحصرة في محمد ، والا فلا يكون صادقا على جميع افراد الموضوع.

ص: 481

ص: 482

محتويات الكتاب

الموضوع / الصفحة

المقدمة... 3

تعريف علم الأصول... 7

تعريف علم الأصول والاعتراضات الواردة عليه... 9

الاعتراضات على التعريف... 10

الجواب عن الإشكال الأوّل... 13

الجواب عن الإشكال الثاني... 15

الجواب عن الإشكال الثالث... 16

مناقشة السيد الخوئى... 19

موضوع علم الأصول... 23

تحديد الموضوع لكل علم... 25

استدلال اصحاب الإتجاه الأخير... 26

استحالة ثبوت الموضوع لبعض العلوم... 30

الحكم الشرعي وتقسيماته... 33

تحديد المقصود من الحكم الشرعي... 35

ص: 483

شمولية الحكم للعالم والجاهل... 41

تحديد المقصود من الإشتراك... 43

كيف نخالف الوجدان... 44

ثمرة البحث... 45

الحكم الواقعي والظاهري... 49

تقسيم الحكم الشرعي وبيان مراحله... 51

الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية... 57

استحالة التعبد بالحكم الظاهري... 59

الشبهات الثلاث لابن قبه... 60

شبهة التضاد والجواب الأوّل عنها... 62

الجواب الثاني عن شبهة التضاد... 66

الجواب الثالث عن شبهة التضاد... 69

الجواب عن الشبهة الثانية والثالثة... 73

الفارق بين الامارات والأصول... 75

الامارات والأصول... 77

تفرقة الميرزا... 78

سؤال وجواب... 79

مناقشة الميرزا... 80

الفارق بنظر السيد الشهيد... 80

التنافي بين الاحكام الظاهرية... 83

ص: 484

تحديد المقصود من التنافي بين الأحكام الظاهرية... 85

وظيفة الأحكام الظاهرية... 87

تحديد المقصود من وظيفة الأحكام الظاهرية... 89

التصويب بالنسبة الى بعض الأحكام الظاهرية... 91

تحديد المقصود من التصويب في الأحكام الظاهرية... 93

القضية الحقيقية والخارجيّة للأحكام... 97

توضيح المقصود... 99

تعلق الأحكام بالصور الذهنية... 103

توضيح المقصود... 105

تنسيق البحوث المقبلة... 107

حجية القطع... 109

تحديد المقصود... 111

تلخيص لما سبق... 115

الفرق بين استدلال السيد الشهيد والمشهور... 115

استحالة سلب المعذرية عن القطع... 115

حجية العلم الإجمالي... 121

تحديد المقصود... 123

وهل وقع الترخيص بالفعل؟... 127

توضيح مصطلح... 129

المتجري والقطاع... 131

ص: 485

حجية القطع غير المصيب وحكم التجري... 133

التفصيل بين المنجزية والمعذرية... 136

الأصل العملي عند الشك... 141

تأسيس الأصل عند الشك في الحجية... 143

اقامة الدليل على نفي الحجية... 146

توجيه ثالث لإصالة عدم الحجية... 148

الأصول والامارات المثبتة... 153

مقدار ما يثبت بدليل الحجية... 155

إيراد السيد الخوئي... 158

رأي السيد الشهيد... 159

تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية... 161

تحديد المقصود... 163

هل تسقط الدلالة التضمينة عند سقوط المطابقية... 167

القطع الطريقي والموضوعي... 169

وفاء الدليل بدور القطع الطريقي والموضوعي... 171

محاولة الميرزا... 177

جواز الأسناد... 181

اثبات الإمارة لجواز الأسناد... 183

ابطال طريقية الدليل... 187

تحديد المقصود... 189

ص: 486

تقسيم البحوث في الأدلة المحرزة... 191

الدلالات الخاصة والمشتركة... 195

تقسيم الدلالة... 197

الإبحاث اللغوية... 199

إبحاث مستلة من التقرير... 205

الحقيقة الشرعية... 207

تحديد المقصود من الحقيقة الشرعية... 209

ثبوت الحقيقة الشرعية... 211

الإستغناء بالحقيقة اللغوية عن الحقيقة الشرعية... 215

هل الحقيقة الشرعية ثابته؟... 216

ثمرة القول بالحقيقة الشرعية... 217

الصحيح والأعم... 221

تحديد المقصود... 223

أسماء العبادات... 223

المقصود من الصحة والفساد... 225

الوضع لمفهوم الصحيح أو واقعه... 227

تفصيل الشيخ الأعظم بين الأجزاء والشرائط... 227

لا بدّ من وجود جامع... 232

الجامع على الصحيح... 234

الجواب عن الإشكال... 237

ص: 487

محاولة الآخوند... 237

محاولة الشيخ الإصفهاني... 239

محاولة السيد الشهيد... 240

الجامع على القول بالأعم... 244

ثمرة البحث... 247

ادلة الوضع للصحيح... 254

الدليل الأوّل... 254

الدليل الثاني... 257

الدليل الثالث... 258

ادلة الوضع للأعم... 259

مختار السيد الشهيد... 266

أسماء المعاملات... 270

الجهة الأولى... 270

الجهة الثانية... 273

الجهة الثالثة... 276

الجهة الرابعة... 279

المختار في المسألة... 281

المشتق... 285

النسبة بين المشتق النحوي والأصولي... 289

الإبحاث في المشتق... 289

ص: 488

الإحتمالات في البساطة والتركب... 290

الأقوال في البساطة والتركب... 291

الأدلة على بساطة المشتق... 294

الدليل الأوّل... 295

مناقشة الدليل الأوّل... 296

عدم أخذ مصداق الشيء في معنى المشتق... 301

الدليل الثاني على البساطة... 302

الدليل الثالث... 303

الصحيح هو التركب... 304

البحث الجانبي في المشتق... 306

تصوير الجامع بناء على الوضع لخصوص المتلبس... 309

تصوير الجامع على الأعم... 310

الرأي المختار في البحث الثاني... 315

التفصيل بين المشتقات... 316

الأصل عند الشك... 320

المعاني الحرفية... 325

المقصود من المعنى الحرفي... 327

توضيح الإتجاه الأوّل... 328

الإتجاه الثاني... 330

مناقشة الإتجاه الأوّل... 330

ص: 489

البرهنه تفصيلا... 336

إيجادية الميرزا... 338

خصوصية الموضوع له... 342

خصائص ثلاث للمعنى الحرفي... 343

هيئات الجمل... 344

الجملة التامة والجملة الناقصة... 349

الجملة الخبرية والإنشائية... 353

توجيه كلام مشهور... 357

الثمرة... 358

ادوات الطلب... 363

الأمر أو أدوات الطلب... 365

الثمرة بين الإتجاهات... 378

الأوامر الإرشادية... 381

القسم الثاني... 382

دلالة الجملة الخبرية على الوجوب... 385

مادة النهي وصيغته... 387

الأمر يدل على الفور أو التراخي... 388

الأمر يدل على المرة أو التكرار... 389

الإحتراز في القيود ومقدمات الحكمة... 391

الإطلاق وإسم الجنس... 393

ص: 490

عودة لصلب الموضوع... 398

التقابل بين الإطلاق والتقييد... 402

الفارق بين الأقوال... 403

إختيار القول الثالث... 404

الإطلاق والتقييد الثبوتيان والاثباتيان... 406

احترازية القيود وقرينة الحكمة... 407

مقدمات الحكمة... 114

تنبيهات ترتبط بمقدمات الحكمة... 417

التنبيه الأوّل... 417

التنبيه الثاني... 417

التنبيه الثالث... 420

التنبيه الرابع... 421

مبحث العموم... 425

ادوات العموم... 427

نحو دلالة العموم... 430

العموم بلحاظ الأجزاء والأفراد... 434

دلالة الجمع المعرف باللام على العموم... 434

النكرة في سياق النهي أو النفي... 438

مبحث المفاهيم... 441

المفهوم... 443

ص: 491

ضابط المفهوم... 446

مورد الخلاف في ضابط المفهوم... 450

مفهوم الشرط... 452

الطريق الأوّل... 452

الطريق الثاني... 453

الطريق الثالث... 454

البيان الأوّل... 455

مناقشة البيان الأوّل... 456

البيان الثاني... 459

البيان الثالث... 461

الحاجة الى اثبات الركن الثاني... 462

الرد على الميرزا... 463

رأي السيد الشهيد في المسألة... 456

الشرط المسوق لتحقق الموضوع... 467

مفهوم الوصف... 471

مفهوم الغاية... 475

مفهوم الاستثناء... 478

مفهوم الحصر... 480

ص: 492

المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الناشر: المحبين للطباعة والنشر

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 2007 م

ISBN (ردمك): 964-8991-19-7

المكتبة الإسلامية

الحلقة الثالثة في اسلوبها الثاني

الجزء الثاني

بقلم: باقر الايرواني

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمدلله رب العالمين وسلام علی عباده الذين اصطفی محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين.

ص: 2

المؤلف: الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الناشر: المحبين للطباعة والنشر

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 2007 م

ISBN (ردمك): 964-8991-19-7

المكتبة الإسلامية

الحلقة الثالثة في اسلوبها الثاني

الجزء الثاني

بقلم: باقر الايرواني

ص: 1

ص: 2

سرشناسه : ایروانی، باقر، 1328 -

عنوان قراردادی : دروس فی علم الاصول . برگزیده . شرح

عنوان و نام پديدآور : الحلقه الثالثه فی اسلوبهاالثانی/ بقلم باقر الایروانی.

مشخصات نشر : قم: محبین، 14ق. = 20م .= 13 -

مشخصات ظاهری : ج.

شابك : دوره 964-8991-29-4 : ؛ ج.4 964-91029-6-5 :

وضعیت فهرست نویسی : برون سپاری

يادداشت : كتاب حاضر شرح، برگزیده " دروس فی علم الاصول "، محمدباقر صدر می باشد.

يادداشت : فهرستنویسی بر اساس جلد چهارم، 2007م = 1386).

يادداشت : عربی.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : صدر،محمدباقر،1931-1979م . دروس فی علم الاصول -- نقد و تفسیر

موضوع : تعارض ادله

اصول فقه شیعه

ادله و شواهد (فقه)

شناسه افزوده : صدر،محمدباقر،1931-1979م .دروس فی علم الاصول برگزیده

رده بندی كنگره : BP159/8/ص 4د40214 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 1298423

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

ص: 3

ص: 4

الدليل غير اللفظي أو فعل المعصوم وتقريره

اشارة

ص: 5

ص: 6

الدليل الشرعي غير اللفظي

قوله ص 183 س 1 الدليل الشرعي غير اللفظي ... الخ : تقدم ص 85 من الحلقة ان الدليل على قسمين شرعي وعقلي. والشرعي على قسمين لفظي وغير لفظي. وفيما مضى كان الحديث يدور عن الدليل الشرعي اللفظي ، ومن الآن نتكلم عن الدليل الشرعي غير اللفظي. وللدليل الشرعي غير اللفظي مصداقان :

ا - فعل المعصوم علیه السلام .

ب - تقريره علیه السلام للفعل الصادر امامه. وواضح ان الفعل والتقرير ليسا من قبيل اللفظ ، ولذا يقع الحديث عنهما تحت عنوان الدليل الشرعي غير اللفظي.

والحديث عن فعل المعصوم تقدم في الحلقة الثانية ص 155 ولا يوجد هنا حديث جديد سوى بعض التكرار بنحو مختصر. ونذكر ذلك كما يلي :

1 - اذا فعل المعصوم علیه السلام فعلا معينا كما اذا شرب الماء وهو واقف فهل يدل ذلك على وجوبه او لا؟ وهكذا لو ترك فعلا معينا فهل يدل ذلك على حرمته او لا؟

والجواب : اذا كانت قرينة خاصة تدل على الوجوب او الاستحباب حكم على طبقها والا فالفعل بمجرده لا يدل على الوجوب ولا الاستحباب ، بل على عدم الحرمة فقط. وهكذا ترك الفعل لا يدل على الحرمة او الكراهة بل على عدم الوجوب فقط.

2 - واذا صدر من المعصوم علیه السلام فعل عبادي - كما اذا رأيناه يصلي ركعتين

ص: 7

عند دخوله المسجد - فهل يمكن الحكم عليه بالوجوب؟ كلا بل يحكم عليه بالرجحان الاعم من الوجوب والاستحباب.

3 - اذا صدر من المعصوم علیه السلام فعل خاص وعلمنا صدوره منه بنحو الوجوب مثلا حكمنا بوجوبه في حقنا ايضا فيما اذا كانت الصفات والخصائص التي تواجد عليها المعصوم علیه السلام حين صدور الفعل منه ثابتة فينا ايضا ، فاذا رأيناه يفعل فعلا معينا حالة السفر فلا يمكن ان نعمم حكم ذلك الفعل في حقنا الا اذا كنّا في حالة السفر ايضا فيما اذا احتمل ان لحالة السفر مدخلية في ثبوت ذلك الحكم.

ولربما يقال : ان نفس صفة الامامة او النبوة الثابتة للمعصوم علیه السلام يحتمل مدخليتها في ثبوت الحكم في حقه بالخصوص ومعه فلا يمكن تعميم الحكم للغير.

والجواب : ان هذا الاحتمال منفي بقوله تعالى « ولكم في رسول اللّه اسوة حسنة » حيث يدل على ان التأسي بالنبى 9 امر مطلوب ، واذا ثبتت مطلوبية التأسي به 9 ثبتت مطلوبية التأسي بالامام 7 ايضا للقطع بعدم الفارق بين النبي 9 والامام 7. وقد تقدمت الاشارة الى ذلك في الحلقة الثانية.

قوله ص 183 س 8 لعدم الى غير ذلك : من دلالات مثل انّ ترك فعل معين هل يدل على انه مكروه او لا كما اشير الى ذلك في الحلقة الثانية.

قوله ص 183 ص 9 لعدم الاطلاق في دلالة الفعل : لان الفعل لالفظ فيه حتى يتمسك باطلاقه ، ومعه فاللازم الاخذ بالقدر المتيقن وهو صورة الاتحاد في جميع الخصائص التي يحتمل مدخليتها في ثبوت الحكم.

دلالات التقرير

قوله ص 184 س 1 سكوت المعصوم عن موقف ... الخ : اذا صدر فعل

ص: 8

خاص بمرأى من المعصوم علیه السلام - كما اذا توضا شخص امام الامام علیه السلام منكوسا - وسكت عنه كان سكوته امضاء له.

وقد تسأل عن نكتة دلالة السكوت على الامضاء. والجواب : انه يمكن ابراز النكات التالية :

1 - ان المعصوم علیه السلام له غرض معين وهو تبليغ الاحكام ، فاذا لم ينه عن الوضوء منكوسا دل ذلك على جواز النكس في الوضوء والاكان سكوته نقضا لغرضه وهو ايصال الاحكام بشكلها الصحيح ، ونقض الغرض قبيح عقلا.

2 - ان المعصوم علیه السلام يجب عليه ارشاد الجاهل الى الاحكام كما ويجب عليه الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فاذا سكت ولم ينه دل ذلك على جواز النكس في الوضوء والاّ لنهى من باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر او من باب ارشاد الجاهل.

3 - ان ظاهر حال المعصوم علیه السلام كونه في صدد تبليغ الاحكام والحفاظ عليها ، فاذا سكت كان سكوته دالا على جواز الفعل.

والفرق بين هذه النكات الثلاث ان الثالثة ناظرة الى التمسك بالظهور اي بظاهر الحال وذلك كالتمسك بظاهر اللفظ ، فكما ان ظاهر اللفظ يدل على ارادة المتكلم للمعنى كذلك ظاهر الحال يدل على ثبوت الحكم الموافق لظاهر الحال. واما النكتتان الاوليتان فالتمسك فيهما ليس بالظهور بل بدليل عقلي ، فان نقض الغرض قبيح عقلا وهكذا وجوب ارشاد الجاهل والنهي عن المنكر واجبان عقلا ، فكلتا النكتتين اذن عقلية ، غاية الامر يلزم في النكتة الثانية توفر شرائط وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بخلافه في الاولى فانه لا يلزم توفر ذلك.

وبعد هذا تعرض السيد الشهيد قدس سره الى مطلب ثان وهو ان امضاء

ص: 9

المعصوم علیه السلام للفعل الصادر له شكلان فتارة يقوم شخص بعمل معين - كالوضوء منكوسا - ويسكت المعصوم ، واخرى يقوم مجموع العقلاء بعمل معين - كسيرتهم على ان كل من حاز شيئا ملكه - ويسكت علیه السلام . ويسمى عمل العقلاء في الشكل الثاني بالسيرة العقلائية. وهي حجة ودليل على الحكم الشرعي لامضاء المعصوم علیه السلام لها والا فهي بقطع النظر عن الامضاء لا اعتبار لها.

وهناك مطلب وهو ان السيرة العقلائية ذات نوعين (1) :

1 - ان تكون جارية على حكم واقعي معين كالسيرة على ان الحيازة سبب للملكية وكالسيرة على جواز التصرف في مال الغير عند احراز رضاه القلبي بلاحاجة الى صدور تصريح بالاذن. والسيرة الاولى سيرة على حكم واقعي - غير انه وضعي فان الملكية الحاصلة بالحيازة حكم وضعي - بينما السيرة الثانية سيرة على حكم واقعي ايضا ولكنه تكليفي ، فان جواز التصرف حكم تكليفي.

2 - ان تكون السيرة جارية على حكم ظاهري كالسيرة على حجية قول اللغوي والظواهر وخبر الثقة وغير ذلك ، فان الحجية حكم ظاهري (2) ، والسيرة الجارية عليها سيرة على الحكم الظاهري.

ثم ان السيرة على الحكم الظاهري لها مجالان :

ا - ان يرجع العقلاء الى قول اللغوي مثلا في قضاياهم واغراضهم

ص: 10


1- التعرض لتفاصيل السيرة في هذه الحلقة والحلقة الثانية من خصائص هذا الكتاب الجليل
2- حيث اخذ في موضوعها الشك ، فالحجية مجعولة للخبر مثلا عند الشك في مطابقته الواقع والا فعند العلم بمطابقته للواقع لا معنى لجعل الحجية له ، وهذا بخلافه فى الحكم بكون الحيازه سببا للملكية ، فانه لم يؤخذ الشك في الموضوع.

الشخصية - ويعبر عن الاغراض الشخصية بالاغراض التكوينية - كرجوع من يطالع كتابا قصصيا معينا الى اللغوي لتحديد معنى كلمة غريبة واردة فيه او يفرض ان شخصا قصد تأليف كتاب واستعمال بعض الكلمات فيه فيرجع الى اللغوي لتحديد معناها ليستعملها بعد ذلك.

ب - ان يرجع العقلاء الى قول اللغوي لتحصيل المؤمّن او المعذّر ، كما اذا قال المولى لعبده « اكرم العالم » وشك العبد في ان العالم الذي نسى علمه هل يصدق عليه عنوان « العالم » ليجب اكرامه او لا ، فاذا رجع الى اللغوي وقال انه صادق عليه تنجز عليه وجوب اكرامه ، واذا قال له انه لا يصدق عليه كان معذورا فيما اذا لم يكرمه حتى ولو كان اكرامه واجبا واقعا ، فقول اللغوي اذن تارة يكون حجة منجزة للمولى على العبد ، واخرى يكون عذرا للعبد امام المولى. وهذه المنجزية والمعذرية تسمى في المصطلح الاصولي بالحجية. ويطلق على السيرة في هذا المجال بالسيرة في مجال الاغراض التشريعيه فان « اكرم العالم » الصادر من المولى حكم تشريعي من قبل العقلاء.

وبهذا كله اتضح ان السيرة العقلائية على ثلاثة اقسام :

1 - سيرة عقلائية لاثبات حكم واقعي.

2 - سيرة عقلائية لاثبات حكم ظاهري في مجال الاغراض التكوينية الشخصية.

3 - سيرة عقلائية لاثبات حكم ظاهري في مجال الاغراض التشريعية.

اما السيرة الاولى فهي مقبولة ولا اشكال عليها وبواسطتها يمكن ان نحكم بان من حاز شيئا ملكه وان جواز التصرف في ملك الغير يكفي فيه الرضا القلبي ، فان السيرة المذكورة اذا لم تكن مقبولة لدى الشارع لنهى عنها. وهي حجة

ص: 11

بالمصطلح الاصولي اي منجزة ومعذرة.

واما السيرة الثانية فلا يمكن التمسك بها لاثبات الحجية بالمصطلح الاصولي لأنها سيرة من العقلاء في قضاياهم الخاصة ولا معنى لان تكون منجزه او معذرة.

واما السيرة الثالثة - وهي المهمة اذ بها تثبت حجية قول اللغوي والاطمئنان وخبر الثقة وقول صاحب اليد وغير ذلك - فتواجه اشكالا مهما.

وقبل الاشارة له نذكر مقدمة وهي : ان كل عاقل اذا اصدر احكاما فالحجة المنجزة لها لا بد وان يجعلها نفس العاقل المشرع لها لا غيره ، فكل اب اذا شرع لولده احكاما معينة كان من حق هذا الاب ان يجعل حجة خاصة على احكامه التي شرعها ولا يحق لاب آخر غيره ذلك.

وبعد هذا نشير الى الاشكال وهو : ان العقلاء حينما يتمسكون بقول اللغوي ويجعلونه حجة على الاحكام فحيث انه لا يحق للعقلاء ان ينصبوا من انفسهم حجة على احكام الشارع - فانها احكام لغيرهم وليست احكاما مجعولة من قبلهم - فلا بد وان تكون سيرتهم راجعة الى انه لو قدّر في يوم من الايام ان يصيروا موالي فكل منهم يجعل قول اللغوي حجة على احكامه الخاصة به ، ومن الواضح ان سيرة العقلاء بهذا المعنى المعقول لا ترتبط بالشارع لانها سيرة من قبل العقلاء على جعل قول اللغوي حجة في احكام انفسهم لا في احكام الشارع حتى يلزمه النهي عنها اذا لم تكن مقبولة لديه.

وباختصار : ان السيرة بالمعنى الذى يضر الشارع - وهو جعل قول اللغوي حجة حتى في احكام الشارع - مما لا يقدم عليه العقلاء ، وبالمعنى الذي يقدم عليه العقلاء هي مما لا تضر الشارع حتى يكون سكوته عنها امضاء لها.

ص: 12

الجواب عن الشبهة.

والجواب : ان العقلاء وان لم يكن لهم الحق في جعل قول اللغوي حجة في احكام الشارع وانما لهم الحق في خصوص احكام انفسهم ولكنهم يتخيلون ان سيرتهم الجارية على حجية قول اللغوي في احكام انفسهم سيرة يرضى الشارع بتطبيقها حتى في احكام نفسه. وهذا التخيل وان كان باطلا الا انه بعد حصوله فمن اللازم على الشارع - فيما اذا لم يكن قول اللغوى حجة لديه في احكام نفسه - الردع عنه حفاظا منه على احكامه ويقول : ان ما ارتكز في اذهانكم من صحة الرجوع الى اللغوي في احكامي باطل.

بل يمكن القول اكثر من هذا وهو ان السيرة الجارية في مجال الاغراض الشخصية - كالسيرة على الرجوع الى اللغوي عند قراءة الكتاب القصصي - يمكن الاستعانة بها لاثبات حجية قول اللغوي في الاحكام الشرعية ايضا ، اذ هذه السيرة وان كانت مختصة بالكتاب القصصي ولكن من المحتمل ان تستحكم في يوم من الايام ويتولد عند العقلاء بسببها ارتكاز خاطىء برضا الشارع على الرجوع لقول اللغوي حتى في الاحكام الشرعية فلاجل الحفاظ المسبق من الشارع على احكامه يلزمه النهي عن الاخذ بقول اللغوي في الاحكام الشرعية وان لم يكن هذا الارتكاز في مجال الاحكام الشرعية حاصلا بعد.

اشتراط المعاصرة

والسيرة لا يمكن التمسك بها لاثبات حجية قول اللغوي او لكون الحيازة سببا للملكية وغير ذلك الا اذا كانت ثابتة في زمان المعصوم علیه السلام حتى يكون سكوته عنها دليلا على امضائها ، اما اذا كانت حادثة في عصر الغيبة فلا تكون

ص: 13

حجة لعدم حصولها بمراى ومسمع من المعصوم حتى يكون سكوته عنها دليلا على امضائه.

وقد تسأل : كيف يمكن اثبات التعاصر؟ ان الجواب عن ذلك تقدم في الحلقة الثانية ص 178 حيث ذكر فيها خمسة طرق لاثبات ذلك.

لا يلزم التعاصر في بعض السير.

ثم ان معاصرة السيرة لزمن المعصوم علیه السلام وان كانت لازمه ولكن لا في كل سيرة بل في خصوص السيرة التي يقصد منها اثبات حكم شرعي ، فان السيرة على قسمين :

1 - سيرة يقصد بها اثبات حكم شرعي كالسيرة على كون الحيازة سببا للملكية ، فان سببية الحيازة للملكية حكم شرعي يراد اثباته بالسيرة. ومثل هذه السيرة يلزم ان تكون معاصرة كما تقدم.

2 - سيرة يقصد بها اثبات شرط من الشروط. مثال ذلك : ان من اشترى شيئا وكان مغبونا فيه غبنا فاحشا فلا اشكال في ثبوت خيار الغبن له ويحق له فسخ العقد بسببه بيد انه وقع بحث بين الفقهاء فى مدرك ثبوت هذا الخيار ، فقد يتصور ان هناك رواية تدل عليه ولكنه باطل لعدم وجودها. ومن هنا برزت محاولة لاثبات الخيار المذكور عن طريق التمسك بالسيرة بتقريب ان سيرة العقلاء جرت على ان من اشترى شيئا فهو يشتريه بشرط ان لا يكون مغبونا ، وهذا الاشتراط وان لم يذكر صريحا وباللفظ ولكنه ضمني ومضمر في النفس. واذا ثبت هذا الشرط ثبت وجوب الوفاء به بدليل « المؤمنون عند شروطهم ».

وفي هذه السيرة كما نلاحظ لم يرد اثبات حكم شرعي ، فان الحكم

ص: 14

الشرعي وهو صحة الشرط ووجوب الوفاء به ثبت بدليل « المؤمنون عند شروطهم » لا بالسيرة ، وانما السيرة تثبت فقط تحقق اشتراط عدم الغبن في نفس المتعاقدين.

وباتضاح هذا نقول : ان اشتراط معاصرة السيرة لزمن المعصوم علیه السلام يلزم في السيرة الاولى فقط دون الثانية ، اذ في الثانية لا يراد اثبات حكم شرعي بل تحقق شرط عدم الغبن في نفس المتعاقدين ، ومن الواضح ان ثبوت مثل هذا الشرط في نفس المتعاقدين لا يتوقف على ثبوت السيرة زمن المعصوم علیه السلام .

فارق ثان بين السيرتين.

وبعد اتضاح ان اشتراط معاصرة السيرة لزمنه علیه السلام يلزم في السيرة الاولى دون الثانية نذكر فارقا ثانيا بين السيرتين وهو ان السيرة الاولى اذا تمت ثبت مضمونها في حق جميع الناس بما فيهم الانسان الذي لا يعتقد بذلك المضمون. ومثاله السيرة على الاكتفاء بالرضا القلبي في جواز التصرف ، فان هذه السيرة اذا تمت ثبت مضمونها - وهو الحكم بكفاية الرضا في جواز التصرف - حتى في حق من يعتقد ان الرضا الباطني لا يكفي في جواز التصرف ، فان الحكم الشرعي اذا ثبت يكون عاما لجميع الناس ويكون اجتهاد الشخص الذي يعتقد عدم كفاية الرضا الباطني كأنه اجتهاد في مقابل النص. هذا في السيرة الاولى.

واما السيرة الثانية فهي بعد حصولها لا يكون مضمونها ثابتا في حق من لا يلتزم بها ، فلو فرض ان انسانا اشترى شيئا معينا من دون ان يكون ملتزما في قلبه بأن لا يكون مغبونا بل كان عازما على الشراء حتى على تقدير كونه مغبونا - كمن يقدم على شراء دواء معين باي سعر كان لشدة حاجته اليه - فمثل هذا

ص: 15

الشخص لا يثبت له خيار الغبن لان الخيار يثبت من باب اشتراطه لعدم الغبن في نفسه ، فاذا فرض عدم اشتراطه لذلك في نفسه فلا يثبت له الخيار.

قوله ص 184 س 3 او باعتبار انه : لم يذكر قدس سره كلمة « اما » هنا لان هذا داخل تحت الاساس العقلي وليس اساسا جديدا في مقابله ، وهذا بخلافه في النكتة الثالثة ، فانها حيث تعتمد على التمسك بالظهور كرر كلمة « اما » معها.

قوله ص 184 س 7 وكثيرا ما ... الخ : اي وقد لا يكون فرديا ، بل يكون متمثلا في سلوك عام يسمى ... الخ.

قوله ص 185 س 6 اكتفاء بالظن : ذكر الظن من باب المثال ، والا فقد تكون السيرة منعقدة على الاكتفاء بالاحتمال ، ومن هنا عبّر بكلمة « مثلا ». ثم انه انما قيد الشك بكونه في امر واقعي من جهة ان الحجية للظن او الاحتمال لا تثبت الا في حالة الشك في الواقع ، اذ موضوع الحكم الظاهري هو الشك في الحكم الوقعي.

قوله ص 185 س 11 ولا ريب في انطباق ما ذكرناه عليه : وهو ان سكوت المعصوم علیه السلام يدل على الامضاء.

قوله ص 186 س 6 ما ذكرناه : عليه : وهو كون السكوت دالا على الامضاء.

قوله ص 187 س 2 وشهادته : عطف على « شهادته ».

قوله ص 187 س 12 فمرد بناء ... الخ : اي ومادام جعل الحجه على الاحكام يختص بجاعل تلك الاحكام ولا يحق ذلك لغيره فلا بد وان يكون مردّ بناء العقلاء على حجية قول اللغوي الى امر معقول وهو انه يجعل ...

قوله ص 189 س 5 المتباني : الصواب : المتبانى.

قوله ص 189 س 6 انفسهم : الصواب : انفسهم.

ص: 16

قوله ص 189 س 8 بانها تمس الشارع : اي تضر الشارع.

قوله ص 189 س 10 لمولى : وهو الشارع المقدس.

قوله ص 189 س 13 ارتكازا : اي خطأ.

قوله ص 190 س 9 ومهما يكن الحال : اي سواء قلنا بان السيرة حجة في المقام الاول ايضا ام لا.

قوله ص 191 س 9 يراد بها تحليل مرتكزات المتعاملين ومقاصدهما النوعية : اي يراد بالسيرة اثبات ان شرط عدم الغبن مقصود وثابت في مرتكزهما.

ص: 17

ص: 18

وسائل اثبات الدليل الشرعي

اشارة

ص: 19

ص: 20

اثبات صغرى الدليل الشرعي

قوله ص 194 س 1 بعد ان تكلمنا عن الدلالات ... الخ : تقدم صفحة 85 ، 86 من الحلقة عند منهجة ابحاث الكتاب ان البحث تارة يقع في الدليل الشرعي واخرى في الدليل العقلي ، وان البحث عن الدليل الشرعي يقع في ثلاث نقاط : البحث عن الدلالات العامة ، والبحث عن اثبات صدور الدليل ، والبحث عن حجية الظهور. وكان البحث فيما مضى ناظرا الى النقطة الاولى وهي الدلالات العامة. ومن الآن يراد التحدث عن النقطة الثانية ، وهي البحث عن الوسائل والطرق التي يمكن بها اثبات صدور الدليل.

وفى هذا المجال توجد وسيلتان لاثبات صدور الدليل من المعصوم علیه السلام هما :

1 - وسيلة يمكن بواسطتها حصول اليقين بصدور الدليل. ومثالها الخبر المتواتر ، فانه بواسطته يحصل القطع بصدور الدليل من المعصوم علیه السلام .

2 - وسيلة تحصّل اليقين التعبدي بصدور الدليل من دون حصول اليقين الوجداني بذلك. ومثلها خبر الثقة ، فانه بناء على حجيته لا يحصّل اليقين الوجداني بصدور الدليل منه علیه السلام وانما علينا ان نحكم تعبدا بصدوره ولو من دون حصول يقين وجداني بذلك. ونتحدث اولا عن الوسيلة الاولى التي هي مثل الخبر المتواتر.

وقبل كل شيء نطرح السؤال التالي : كيف يحصل اليقين بواسطة الخبر

ص: 21

المتواتر؟ توجد لهذا السؤال اجابتان احداهما للمشهور يأتي بيانها ص 198 من الحلقة ، وثانيتهما للسيد الشهيد. والاجابة الثانية مبنية على تطبيق حساب الاحتمال ، فكل من الخبر المتواتر او الاجماع او السيرة او الشهرة يحصّل اليقين بصدور الدليل من المعصوم علیه السلام عن طريق تطبيق حساب الاحتمال (1).

ولتوضيح ذلك نمنهج ما ذكره قدس سره ضمن النقاط التالية :

1 - تقدم ص 62 من الحلقة ان القطع (2) على قسمين : موضوعي وذاتي. واليقين الموضوعي هو الحاصل من مناشىء عقلائية ، والذاتي هو الحاصل من مناشىء غير عقلائية. وتقدم ايضا ان كلا اليقينين حجة بما في ذلك اليقين الذاتي حيث انه لو نهى الشارع عنه يلزم التناقض في نظر القاطع.

وقد تقول : ما دام كلا القطعين حجة فما الفائدة في تقسيم اليقين اليهما والبحث عن اسباب حصول اليقين ما دام هو حجة من اي سبب كان؟ والجواب : انا نريد بالبحث عن اسباب حصول اليقين الاطلاع على اسباب اليقين الموضوعي لنأخذ بها ونحذر من اسباب اليقين الذاتي. وبكلمة اخرى : عند البحث عن حجية القطع لا وجه للتفرقة بين القسمين لأن كليهما حجة ولكن عند البحث عن اسباب حصول اليقين لا بأس بالتفرقة بين القسمين لنقترب من اسباب حصول اليقين الموضوعي ونبتعد عن اسباب اليقين الذاتي.

2 - ان اليقين الموضوعي تارة يكون ثابتا من دون ان يكون مستنتجا من

ص: 22


1- وهذا يعدّ من الافكار الجديدة والجميلة للسيد الشهيد قدس سره فانه كما استفاد من حساب الاحتمال في كتابه « الاسس المنطقية للاستقراء » لاثبات وجود اللّه سبحانه استفاد منه ايضا في علم الاصول في المجالات المذكورة.
2- كلمة القطع واليقين مترادفتان.

قضية اخرى وثانية يكون مستنتجا من قضية اخرى.

مثال الاول : اليقين بان الكل اكبر من الجزء ، فان هذه القضية ثابتة في الذهن البشري بدون استعانة بقضية اخرى ، وتسمى مثل هذه القضية بالقضية الاولية.

ومثال الثاني : اليقين بان العالم حادث ، فانه مستنتج من قضية اخرى وهي ان العالم متغير وكل متغير حادث.

3 - ان اليقين المستنتج من قضية اخرى على قسمين :

ا - ان يكون بين القضيتين ملازمة عقلية ، وهذا كما في المثال الثاني ، فان اليقين بكون العالم حادثا يلازم اليقين بان العالم متغير وكل متغير حادث ، اذ قولنا العالم متغير وكل متغير حادث قياس منطقي ، والقياس المنطقي يستلزم عقلا اليقين بالنتيجة.

ب - ان لا يكون بين القضيتين ملازمة عقلية. ومثال ذلك : تناول قرص الاسبرين مرات متعددة عند صداع الرأس مع افتراض زوال الصداع في كل مرة ، فان التقارن بين هاتين الحادثتين - تناول القرص وزوال الصداع - في المرة الاولى وان كان لا يستلزم اليقين بكون تناول القرص هو العلة لزوال الصداع ، اذ من المحتمل وجود علة اخرى لم نطلع عليها ولكن هذا التقارن يوجب احتمال كون العلة هي قرص الاسبرين بدرجه معينة ولنفرضها 5% ، وعندما يحصل هذا التقارن في المرة الثانية يأخذ الاحتمال بالارتفاع قليلا فيصبح بدرجة 10% مثلا. وبحصول التقارن المذكور مرات متوالية يأخذ الاحتمال بالارتفاع اكثر فاكثر الى ان يصبح الاحتمال المقابل - اي احتمال كون العلة شيئا آخر غير قرص الاسبرين - ضعيفا جدا الى حد لا يحتفظ به الذهن البشري ويحصل عند ذلك القطع بكون

ص: 23

العلة هي الاسبرين ، فان احتمال وجود العلة الاخرى وان كان لا يزول بالكلية بل يبقى حتى النهاية بدرجة ضعيفة ولكن لشدة ضعفه يشعر الانسان بحصول اليقين له لعدم تمكن الذهن البشري من الاحتفاظ بالاحتمال بعد ضآلته الشديدة.

وبهذا تجلى كيف يتولد اليقين من حساب الاحتمال.

4 - يصطلح على اليقين الحاصل من القياس (1) باليقين الموضوعي الاستنباطي ، وعلى الحاصل من مجموعة قضايا باليقين الموضوعي الاستقرائي. وسبب التسمية واضح ، فان اليقين في الحالتين المذكورتين حيث انه حاصل من مناشىء عقلائية فهو موضوعي ، والاول بما انه مستنبط من القياس فهو استنباطي ، والثاني بما انه حاصل من الاستقراء فهو استقرائي.

5 - ان القضية المستنتجة من القياس ثابتة في المقدمتين - فقولنا « العالم حادث » الذي هو النتيجة ثابت في الكبرى التي تقول « كل متغير حادث » اذ احد مصاديق الكبرى هو العالم حادث - فان النتيجة في باب القياس اصغر من المقدمتين ، لكون السير فيه من الكلي الى الجزئي ، وهذا بخلافه في القضية المستنتجة من الاستقراء ، فانها غير ثابتة في القضايا المستقرءة ، اذ النتيجة في باب الاستقراء اكبر من المقدمات لكون السير فيه من الجزئيات الى الكلي.

6 - ان الوسائل التى تحصّل اليقين بصدور الدليل هي : التواتر ، الاجماع ، سيرة المتشرعة ، الشهرة. واليقين في كل هذه يحصل في نظر السيد الشهيد بواسطة حساب الاحتمال بخلافه على رأي المشهور ، فانه يحصل بطريق آخر. ومن هنا لا بد من البحث عن التواتر والاجماع والشهرة (2) لنوضح كيف يحصل اليقين فيها

ص: 24


1- المراد من القياس القياس المنطقي وهو عبارة عن الصغرى والكبرى.
2- واما سيرة المتشرعة فقد تقدم الحديث عنها في الحلقة الثانية.

عن طريق حساب الاحتمال.

قوله ص 195 س 2 ونحوهما : كالشهرة وسيرة المتشرعة.

اي انه بعد افتراض تحقق اليقين فهو حجة من دون فرق بين القسمين.

قوله ص 195 س 15 على اساس قياس من الاقيسة المنطقية : المراد من الاقيسة المنطقية الاشكال الاربعة للقياس.

قوله ص 196 س 10 اذ قد يكون اقترانهما صدفة : ليس المقصود من الصدفة زوال الصداع بلاعلة بل زواله بعلة اخرى غير ملتفت لها ، وعلى هذا يكون قوله 1 « ويكون للحادثة الاخرى علة غير منظورة » عطف تفسير للصدفة.

قوله ص 197 س 8 والسيرة : كان من المناسب ذكر الشهرة بدل السيرة لانها - الشهرة - المبحوث عنها فيما بعد ، واما السيرة - اي سيرة المتشرعة - فقد تقدم الكلام في الحلقة الثانية عن كيفية افادتها اليقين عن طريق حساب الاحتمال.

ص: 25

مبحث التواتر

اشارة

قوله 197 س 10 الخبر المتواتر من وسائل ... الخ : الوسائل المحصّلة لليقين الوجداني متعددة منها : التواتر ، الاجماع ، الشهرة.

ونبحث اولا عن الخبر المتواتر وكيفية افادته اليقين في نظر المشهور ثم عن كيفية افادته لذلك في نظر السيد الشهيد. وعند بيان طريقة المشهور نبيّن بالمناسبة وبالتبع طريقة المشهور في كيفية تولد اليقين في القضية التجريبية وأنّ تناول قرص الاسبرين عدة مرات كيف يولد اليقين بان الاسبرين هو العلة للشفاء.

لو رجعنا الى الكتب المنطقية (1) للتعرف على رأي المشهور في كيفية حصول اليقين في الخبر المتواتر نجد ان المنطق الارسطي (2) يعرّف الخبر المتواتر بالخبر الذي نقله جماعة كثيره يستحيل تواطؤهم على الكذب. ومن خلال هذا التعريف نفهم ان الخبر المتواتر يتركب من مقدمتين :

أ - اخبار جماعة كثيرة.

ب - ان الجماعة الكثيرة يستحيل اجتماعها على الكذب.

اما المقدمة الاولى فهي ثابتة بالحس والوجدان ، اذ سمعنا بالاذن اخبار

ص: 26


1- كحاشية ملا عبد اللّه ومنطق المظفر.
2- المنطق المتداول اليوم هو المنطق الارسطي نسبة الى واضعه ارسطو. وقد استمر هذا المنطق من زمن ارسطو والى يومنا هذا. وحينما نعبر برأي المشهور فالمقصود رأي المنطق الارسطي الذي هو السائد الى اليوم.

الجماعة الكثيرة.

واما المقدمة الثانية فمن حقنا ان نسأل المنطق الارسطي ونقول كيف يمكن اثبات ان الجماعة الكثيرة يستحيل اجتماعها على الكذب؟ ويجيبنا عن ذلك بان هذه القضية هي من القضايا البديهية التي يحكم بها العقل بمجرد تصورها ، فهي مثل قضية « الكل اكبر من الجزء » فكما ان هذه القضية بديهية ويحكم بها العقل بمجرد تصورها كذلك قضية ان الجماعة الكثيرة يستحيل اجتماعها على الكذب هي مما يحكم بها العقل بمجرد تصورها. ومن هنا عدّ المنطق الارسطي الخبر المتواتر واحدا من القضايا الضرورية الست ، فانا قرأنا فى المنطق ان القضايا الضرورية ست احداها المتواترات.

وشبيه هذا البيان ذكره المنطق الارسطي في القضية التجريبية ، فان اليقين بكون الاسبرين علة للشفاء حاصل من مقدمتين هما :

ا - اقتران الشفاء بتناول القرص مرات عديدة.

ب - ان الصدفة لا تتكرر دائما ولا غالبا. ومع عدم تكرر الصدفة فلا يمكن ان يكون الشفاء حاصلا صدفة وليس لأجل تناول القرص.

واذا سألنا المنطق الارسطي عن هذه القضية - التي هي بمثابة الكبرى - وقلنا له ما هو المدرك لها لأجابنا ان هذه القضية بديهية مثل قضية الكل اكبر من الجزء. ومن هنا عدّ المنطق الارسطي القضية التجريبية واحدة من القضايا الست الضرورية. واضاف قائلا ان هذه القضية ليست ثابتة بسبب التجربة لانها هي المدرك لا ثبات القضية التجريبية - اي كون القرص علة للشفاء - فلو كانت ثابتة بالتجربة يلزم الدور (1).

ص: 27


1- وستأتي مناقشة ذلك وان قضية الصدفة لا تتكرر ثابتة بسبب التجربة وليست من القضايا الاولية الضرورية.

ومن خلال هذا العرض يتضح ان الكبرى في الخبر المتواتر هي ان الجماعة الكثيرة يستحيل اجتماعها على الكذب بينما الكبرى في باب التجربة هي ان الصدفة لا تتكرر.

وبعد التأمل يمكننا القول بان كلتا الكبريين واحدة وهي ان الصدفة لا تتكرر ، فان الجماعة الكثيرة انما يستحيل اجتماعها على الكذب من جهة استحالة تكرر الصدفة ، فان لازم اجتماع جميع المخبرين على الكذب افتراض ان مصالح جميع المخبرين قد اتفقت صدفة واقتضت الكذب ، وهذا معناه تكرر الصدفة.

وباختصار : ان المنطق الارسطي يرى أن السبب في افادة القضية التجريبية والمتواترة لليقين هو القياس المنطقي المركب من مقدمتين كبراهما قضية « الصدفة لا تتكرر » التي قال انها ضرورية لا تحتاج الى استدلال.

رأي السيد الشهيد

واما السيد الشهيد فهو يرى ان السبب لتولد اليقين في القضية المتواترة والتجريبية هو حساب الاحتمال - لا ما ذكره المنطق الارسطي - فان المخبر الاول حينما يخبر عن قصة « غدير خم » مثلا فاحتمال صدقه ثابت ولنفرضه 1% فاذا اخبر الثاني فاحتمال الصدق يقوى الى 2% مثلا. وهكذا بكل اخبار جديد يقوى احتمال الصدق ويضعف من ذلك الجانب احتمال الكذب الى درجة الصفر او قريب منه. هذا هو منشأ حصول اليقين في القضية المتواترة وليس هو تلك القضية التي افترضها المنطق الارسطي وهي « الصدفة لا تتكرر ».

ص: 28

ونفس الشى يقال في القضية التجريبية ، فان احتمال كون العلة للشفاء تناول القرص وان كان ضعيفا في المرة الاولى الا انه يقوى في المرة الثانية والثالثة وهكذا الى ان يحصل اليقين او ما يقرب منه.

يبقى علينا ان نوضح كيف نحصر السبب لحصول اليقين في حساب الاحتمال والحال ان كون السبب هو تلك القضية التي افترضها المنطق الارسطي امر محتمل ايضا.

وفي هذا المجال يمكن ذكر نكتتين للحصر :

ا - ان القضية التي افترضها المنطق الارسطي هي مبنية بنفسها على التجربة ، فانه حيث لا حظنا في وقائع كثيرة ومتعددة ان لكل شيء علة منظورة - اي مشخصة - ولم يقع صدفة حكمنا بان الصدفة لا تتكرر. فمنشأ هذه القضية اذن هو التجربة وليست هي قضية اولية ثابتة في عقل الانسان. وما دامت ثابتة بالتجربة فلا يمكن ان تكون هي السبب لحصول اليقين بالقضية التجريبية.

ب - ان حصول اليقين في القضية المتواترة والتجريبية لو كان ناشئا من تلك القضية التي افترضها المنطق الارسطي فاللازم ان يحصل اليقين بشكل واحد في جميع الحالات مع انا نلاحظ ان حصول اليقين يكون اسرع لو كان المخبرون في درجة عالية من الوثاقة او كانت الظروف تساعد على صدق تلك القضية وهكذا بالنسبة الى بقية العوامل المؤثرة. وهذا منبه وجداني على ان السبب في حصول اليقين ليس هو تلك القضية التي ادعى المنطق الارسطي ثبوتها في العقل وانها من القضايا الضرورية الواضحة والالزم ان يكون حصول اليقين على منوال واحد في جميع الحالات.

وملخص الحديث : ان المنطق الارسطي يرى ان السبب لحصول اليقين في

ص: 29

القضية المتواترة والتجريبية هو القياس المنطقي المركب من مقدمتين كبراهما عقلية بديهية بينما السيد الشهيد يرى السبب هو الاستقراء وتطبيق حساب الاحتمال.

قوله ص 198 س 6 في القضايا الضرورية الست : ورد في منطق المظفر ج 3 مبحث اليقينيات مانصه : « فالبديهيات اذن هي اصول اليقينيات وهي على ستة انواع بحكم الاستقراء : اوليات ، ومشاهدات ، وتجريبيات ، ومتواترات ، وحدسيات ، وفطريات ». والمنطق الارسطي يدعي ان قضية « الصدفة لا تتكرر » من القسم الاول اي من القضايا الاولية ، وهي قضايا يحكم بها العقل بمجرد تصور الطرفين والنسبة مثل الكل اكبر من الجزء.

قوله 198 س 10 عليّة الحادثة الاولى للحادثة الثانية : اي عليّة تناول القرص للشفاء ، فتناول القرص هو الحادثة الاولى والشفاء هو الحادثة الثانية.

قوله ص 199 س 3 ولا يمكن في رأيه ان تكون ثابتة بالتجربة : ولكن سيأتى منه ص 200 س 16 انها ثابتة بالتجربة ومعه فلا يمكن ان تكون هي السبب لحصول اليقين بالقضية التجريبية.

قوله ص 200 س 5 وان الاعتقاد بها : عطف تفسير.

قوله ص 200 س 10 بامكان افتراض وجود علة اخرى غير منظورة : ويعبّر عن العلة غير المنظورة بالصدفة ، فالصدفة هي وجود علة اخرى غير ملتفت اليها.

قوله ص 200 س 16 ونفس الكبرى : هذا هو الرد الاول على المذهب الارسطي.

قوله ص 200 س 17 ومن هنا ... الخ : هذا هو الرد الثاني. اي ومن اجل ان المنشأ حساب الاحتمال لا تلك القضية التي افترضها المنطق الارسطي نجد ان

ص: 30

حصول اليقين ... الخ.

قوله 201 س 2 بكل ماله دخل ... الخ : سيأتي في البحث التالي اي ص 202 من الحلقة الامور الموجبة لتقوية الاحتمال وبالتالي لسرعة حصول اليقين.

قوله ص 201 س 6 مفردات التواتر : وهي كل خبر من الاخبار.

قوله 201 س 9 وكذلك الحال في لاقترانات : هذا راجع الى القضية التجريبية ، وما قبل ذلك كان ناظرا الى القضية المتواترة.

قوله ص 201 س 15 وليس مشتقا : اي ليس ناشئا.

الضابط للتواتر

قوله ص 202 س 1 والضابط في التواتر ... الخ : قد يسأل : متى يصل الخبر الى درجة التواتر ويعد خبرا متواترا؟ والجواب : يحصل ذلك فيما اذا اخبر جماعة كثيرة عن مضمونه ، فكثرة المخبرين - كما اذا كانوا عشرين او ثلاثين - هي الملاك في صيرورة الخبر متواترا وافادته اليقين ، فكل خبر اخبر به جماعة كثيرة وحصل بسبب ذلك اليقين فهو متواتر.

وقد يسأل ثانيا : ما هو عدد المخبرين الذي يحصل بسببه اليقين؟ والجواب : لا يمكن الحصر في عدد معين ، اذ هناك عوامل تؤثر في سرعة حصول اليقين وبطئه ، فاذا حصلت فلربما العشرة او الاقل يحصل بها اليقين واذا لم تحصل فلربما لا يحصل بالعشرين. وتلك العوامل يمكن تقسيمها الى قسمين :

ا - عوامل موضوعية ، وهي العوامل التي لا تختص بشخص دون اخر ، بل هي لو حصلت في حق اي شخص اثرت في سرعة حصول اليقين او بطئه.

ص: 31

ب - عوامل ذاتية ، وهي العوامل التي تختص ببعض الاشخاص ولا تعم الجميع.

اما العوامل الموضوعية فنذكر لها خمسة امثلة :

1 - وثاقة المخبرين ونباهتهم ، فانه كلما كان كل واحد من المخبرين شديد الوثاقة والنباهة كان حصول اليقين اسرع كما هو واضح.

2 - اختلاف ظروف المخبرين ومسالكهم ، فانه كلما اختلفت ظروف المخبرين من حيث الزمان والمكان والخصوصيات الاخرى وهكذا كلما اختلفت مسالك المخبرين وآراؤهم ومذاهبهم كان حصول اليقين اسرع بخلاف ما اذا تقاربت الظروف والمسالك ، فان حصول اليقين يكون ابطء ، حيث ان احتمال وجود مصلحة شخصية واحدة تدعو الى كذب الجميع قوى.

3 - غرابة القضية المخبر عنها ومألوفيتها ، فان القضية المخبر عنها اذا كانت غريبة وغير مألوفة - كما اذا اخبر عن حصول المطر بنزول الحصى بدل الماء - فحصول اليقين يكون ابطء بخلاف ما اذا كانت مألوفة.

4 - الأطلاع على الظروف الخاصة لكل مخبر ، فان العدو اذا اخبر عن قضية هي في صالح عدوه كان حصول اليقين اسرع لضعف احتمال وجود المصلحة في الاخبار كذبا ، بخلاف ما اذا كان الاخبار من المحب ، فان حصول اليقين يكون ابطء لقوة احتمال وجود المصلحة في الاخبار كذبا.

5 - وضوح المدرك للشهود وعدمه ، فان المدرك للشهود اذا كان هو الحس - كالاخبار عن نزول المطر ، فانه قضية محسوسة تشاهد بالبصر - فحصول اليقين اسرع بخلاف ما اذا كان المستند ليس هو الحس كالاخبار عن العدالة - فانها لا تحس بالعين او السمع ، بل تعرف بآثارها ولوازمها - فيكون حصول اليقين

ص: 32

ابطء.

واما العوامل الذاتية فنذكر لها ثلاثة امثلة :

1 - طباع الناس المختلفة ، فان بعض الاحتمالات ضيئلة جدا لا يمكن لأي ذهن بشري الاحتفاظ بها كما اذا كان الاحتمال 1000000 / 1 ، وهناك بعض الاحتمالات يمكن لبعض الاذهان الاحتفاظ بها دون بعض الاذهان الاخرى كاحتمال 5% ، فانه لا يمكن للعجائز الاحتفاظ به ، ولذا يحصل اليقين لهن بسرعة حيث يزول هذا الاحتمال الضعيف من اذهانهن ولا يحتفظن به بخلافه في الشاب المثقف فانه يبقى محتفظا به ولا يسرع حصول اليقين له.

2 - المباني السابقة الثابتة في الذهن ، فان الانسان اذا كان يبني على افضلية الامام امير المؤمنين علیه السلام فالروايات الواردة لاثبات افضلية غيره عليه لا يحصل منها اليقين له ، وهذا بخلافه لو كانت موافقة للمبنى السابق ودالة على افضلية الامام علیه السلام فانه يسرع حصول اليقين له.

ثم ان المبنى القبلي يؤثر على سرعة وبطء حصول اليقين وان كان وهما غير مطابق للواقع ، فانه ما دام مطابقا للواقع في نظر صاحبه يكفي ذلك لتأثيره اثره.

3 - المشاعر العاطفية ، فان الناس يختلفون من حيث حسن الظن بالآخرين وصفاء نفوسهم ، فمن كان له حسن الظن وصفاء النفس يسرع لديه حصول اليقين لو وصلته اخبار تثني على انسان معين بخلاف من لا صفاء لنفسه وله سوء الظن فانه لا يسرع لديه حصول اليقين.

قوله ص 202 س 3 لان ذلك يتأثر : اي لان حصول اليقين من الكثرة يتأثر ... الخ.

قوله ص 202 س 12 عاملا عكسيا : اي معاكسا لسرعة حصول اليقين.

ص: 33

قوله ص 203 س 4 ايجابا : اي تؤثر في سرعة حصول اليقين. وقوله « او سلبا » يعني يؤثر في بطء حصول اليقين.

قوله ص 203 س 14 او من قدرته على : اي ان حسن الظن بالآخرين تارة يجعل احتمال صدق المخبر في اخباره قويا واخرى يكون سببا لعدم الاحتفاظ بالاحتمال الضئيل بالكذب وتحوّل احتمال الصدق الى اليقين نتيجة لعدم الاحتفاظ بالاحتمال الضئيل بالكذب.

قوله ص 203 س 15 ايجابا او سلبا : فان من له سوء الظن يتفاعل مع الاحتمال الضئيل ويكون ذلك سببا لعدم حصول اليقين له - وهذا تفاعل ايجابي - بينما من له حسن الظن لا يتفاعل مع الاحتمال الضئيل ويكون ذلك سببا لحصول اليقين ، وهذا تفاعل سلبي.

تعدد الوسائط في التواتر

قوله ص 204 س 1 اذا كانت القضية الاصلية ... الخ : اذا تعدد المخبرون عن قضية الغدير مثلا وكثر اخبارهم عنها الى حد التواتر ، فهنالك حالتان :

1 - ان يقول المخبرون : انا نشهد بسماع النبي صلی اللّه علیه و آله يقول : « من كنت مولاه فهذا علي مولاه ».

2 - ان يقول المخبرون : لم نسمع النبي صلی اللّه علیه و آله يقول : من كنت ... الخ وانما سمعنا اشخاصا آخرين يشهدون بانهم سمعوا النبي صلی اللّه علیه و آله يقول من كنت ... فزرارة مثلا يقول : سمعت ابا ذر يقول : سمعت النبي صلی اللّه علیه و آله قائلا من كنت ... ويصطلح على زرارة اسم المخبر غير المباشري وعلى ابي ذر اسم المخبر المباشري عن النبي صلی اللّه علیه و آله .

وباتضاح هاتين الحالتين نقول : اما الحالة الاولى فلا كلام فيها ، اذ متى ما

ص: 34

كثر المخبرون بدرجة يحصل من اخبارهم اليقين كان خبرهم متواترا.

واما الحالة الثانية - وهي الحالة المتداولة فان الروايات المتداولة بيننا اليوم تخبر عن اهل بيت العصمة علیهم السلام مع الوسائط - فيمكن طرح السؤال التالي فيها : متى يكون الخبر مع الوسائط متواترا؟ والجواب : ان التواتر يتحقق حالة الوسائط فيما اذا تحقق احد الامرين التاليين :

1 - ان يكون عدد المخبرين في كل طبقة من الطبقات قد بلغ حد التواتر ، فلو كان التواتر يتحقق بخمسين مخبر مثلا فيلزم ان يكون عدد المخبرين عن النبي صلی اللّه علیه و آله بالمباشرة خمسين شخصا كما ويلزم ان يكون الاخبار عن كل واحد من هؤلاء الخمسين بمقدار خمسين ايضا ، فابوذر الذي يخبر عن النبي صلی اللّه علیه و آله بالمباشرة يلزم ان يخبر عنه خمسون شخصا ، وسلمان الذي يخبر عنه صلی اللّه علیه و آله مباشرة يلزم ان يخبر عنه خمسون شخصا ايضا وهكذا الى تمام الخمسين. اجل يكفي وجود خمسين واحدة تخبر عن كل واحد من الخمسين السابقة ولا يلزم وجود خمسينات متعددة بعدد كل واحد من الخمسينات السابقة.

2 - ان لا يكون كل واحدة من الطبقات بالغا حد التواتر ولكن نأخذ بتجميع القيم الاحتمالية لقضية الغدير التي يخبر عنها مخبرون غير مباشريين فنقول : ان قيمة احتمال صحة قضية الغدير التي يخبر زرارة باخبار سلمان عنها 100 / 1 مثلا - وانما كان الاحتمال ضعيفا لان كثرة الوسائط تقلل من قوة الاحتمال - وهكذا قيمة احتمال صحة قضية الغدير التي يخبر محمد بن مسلم باخبار عمار عنها 100 / 1 ، وبذلك يرتفع احتمال حقانية قضية الغدير الى 100 / 2. وبهذا الشكل نأخذ بتحميع القيم الاحتمالية بعضها الى بعض الى ان يحصل اليقين. ومن الطبيعي ان هذا يحتاج الى وجود اخبارات غير مباشرية كثيرة ، فان قيمة احتمال صحة قضية الغدير مادام

ص: 35

المخبر عنها غير مباشري ضعيفه فيحتاج الى تجميع اكثر.

قوله ص 204 س 1 المطلوبة اثباتها : لعل حذف التاء من كلمة « المطلوبة » اولى.

قوله ص 204 س 5 من الشهادات الاخرى : اي الشهادة في كل طبقة من الطبقات.

قوله ص 204 س 9 للخبر غير المباشر : وهو اخبار كل مخبر من الطبقة المتأخرة عن الطبقة المتقدمة.

قوله ص 204 س 14 لان مفردات الجمع ... الخ : المقصود من مفردات الجمع كل فرد من افراد الاخبار. وضمير « منها » يرجع الى القيمة ، اي ان قيمة الأخبار لو لم يكن مباشريا اصغر منها لو كان مباشريا.

اقسام التواتر

قوله 205 س 1 اذا واجهنا عددا كبيرا ... الخ : حاصل المبحث المذكور ان التواتر على ثلاثة اقسام :

1 - ان يخبر الجميع عن مدلول مطابقي واحد ، كما هو الحال في حديث الغدير ، حيث يخبر الجميع عن جملة واحدة هي : « من كنت مولاه فهذا على مولاه ». ويسمى هذا بالتواتر اللفظي.

2 - ان يخبر الجميع عن مدلول تضمني او التزامي واحد ، كما لو اخبر اشخاص متعددون عن قضايا متعددة ترتبط بكرم حاتم ، فقال احدهم كان حاتم يوقد النار ليرى الضيوف بيته فيأتوا اليه ، وقال الآخر كان حاتم يقول لعبده لو اتيتني بضيف فأنت حر ، وشبيه بذلك نقل الآخرون. ان مثل هذه القصص

ص: 36

تشترك جميعها في معنى واحد وهو كرم حاتم الذي هو مدلول تضمني او التزامي لها. ويسمى هذا بالتواتر المعنوي.

3 - ان يخبر الجميع عن قضايا متعددة بلا اشتراك في مدلول مطابقي او تضمني او التزامي. ويسمى ذلك بالتواتر الاجمالي. ونتحدث ابتداء عن هذا القسم. ومثاله : كتاب الوسائل ، فان من فتحه ورأى فيه آلاف الاحاديث امكنه ان يقطع بان مقدارا منها كاذب اذ ما اكثر ما كذب على اهل البيت علیهم السلام ولنفترض عدد الكاذب (100) حديث ، وبذلك يتشكل علم اجمالي بكذب (100) حديث من احاديث الوسائل.

وبعد هذا نفترض انتخاب (100) رواية بشكل عشوائي بمعنى جمع روايات متعددة من مختلف الابواب ومن دون قصد مسبق لها ، فواحدة من كتاب الصلاة تدل على حكم يرتبط بالصلاة واخرى من الصوم تدل على حكم يرتبط به وثالثة من الحج تدل على حكم مرتبط به وهكذا ، ثمّ جمعت الروايات المذكورة بدون ان تشترك في مدلول تضمني او التزامي او مطابقي واحد.

وبعد جمع الروايات المذكورة التي هي بقدر (100) رواية نسأل : هل يمكن الجزم بان جميع هذه الروايات المائة ليس كاذبا بل واحد منها على الاقل صادق حتما؟ والجواب : نعم يمكن الجزم بذلك لان احتمال كذب مجموع المائة ضعيف جدا بحساب الاحتمال ، اذ قيمة احتمال كذب الرواية الاولى اذا كان 2 / 1 وقيمة احتمال كذب الرواية الثانية 2 / 1 ايضا وهكذا قيمة احتمال كذب كل رواية من الروايات الاخرى فاذا اردنا التعرف على قيمة احتمال كذب محموع المائة كان من اللازم ضرب 2 / 1* 2 / 1* 2 / 1* 2 / 1* 2 / 1 وهكذا الى مائة نصف (1) ، ومن الواضح ان الاحتمال

ص: 37


1- ولمعرفة النتيجة يضرب كل بسط في البسط الآخر وكل مقام في المقام الآخر ، وبضرب 1* 1* 1* 1* ... تكون نتيجة البسط 1. وبضرب المقام بعضه ببعض 2* 2* 2* ... تكون نتيجة المقام بالآلاف ، اي تكون قيمة احتمال كذب الجميع واحدا من آلاف الاحتمالات.

الناتج بعد عملية الضرب يكون ضعيفا جدا وبالعكس من ذلك يصبح احتمال صدق واحدة من الروايات قويا جدا وبالغا الى حد الاطمئنان (1). وسبب حصول هذا الاطمئنان كما عرفت كثرة عدد الاخبار ، فان نفس الكثرة تولّد اطمئنانا بصدق واحد منها. ويمكن ان نصطلح على مثل هذه الكثرة المولدة للاطمئنان بالمضعف الكمي ، اي يضعف احتمال كذب الجميع بسبب الكم وهو

ص: 38


1- اجل صدق جميع الروايات المائه العشوائية ضعيف جدا ايضا ، لان قيمة احتمال ذلك يحصل بضرب 2 / 1* 2 / 1* 2 / 1* 2 / 1 ... ، ولكنا ندعي ان احتمال صدق رواية واحدة يصبح قويا دون الجميز. وللتعرف على قيمة احتمال صدق رواية واحدة لا يضرب 2 / 1* 2 / 1 ... فان عملية الضرب تتبع فيما لو اريد التعرف على قيمة احتمال صدق جميع الروايات. وبهذا تتضح نكتة الفرق بين ما اذا اريد التعرف على قيمة احتمال كذب الجميع وما اذا اريد التعرف على قيمة احتمال صدق رواية واحدة من بين آلاف روايات الوسائل ، ففي الحالة الاولى حيث يراد التعرف على قيمه احتمال كذب الجميع فلا بد من اتباع عملية الضرب بينما في الحالة الثانية حيث لا يراد التعرف على قيمة احتمال صدق الجميع بل على قيمة احتمال صدق رواية واحدة فلا معنى لاتباع عملية الضرب. وقد يقال : لماذا لا نتبع عملية الجمع للتعرف على قيمة احتمال الصدق كما كنا نتبعها في مثال الاسبرين ، حيث كنا نقول : ان احتمال عليّه الاسبرين في المرة الاولى اذا كان بقدر 100 / 1 ففي المرة الثانية يرتقي الى 100 / 2. والجواب : ان عملية الجمع تتبع فيما اذا كان كل احتمال يؤثر على قيمة الاحتمال الآخر بان كانت الاحتمالات مترابطة كما في مثال الاسبرين ، فان حصول الشفاء في المرة الاولى يقوّي من احتمال كون القرص هو العلة في المرة الثانية ، وهذا بخلافه في المقام فان الاحتمالات مستقلة ولا يؤثر صدق الرواية الاولى على قوة احتمال صدق الرواية الثانية لتغاير موضوع كل رواية مع موضوع الاخرى ، ومعه فلا معنى لاتباع عمليه الجمع.

الكثرة. وفي مقابل المضعف الكمّي يوجد مضعّف آخر يأتي في الصورة الثانية والثالثة يمكن ان يصطلح عليه بالمضعّف الكيفي.

والتواتر في هذه الحالة يسمى بالتواتر الاجمالي حيث يطمئن بصدور واحد من الاخبار على سبيل الاجمال دون تعيين.

وقد تسأل : ما فائدة الجزم بصدور خبر واحد من بين الاخبار المائة بعد ما لم يكن متميزا؟ والجواب : انه بعد العلم بصدور واحد من الاخبار المائة يجب الاحتياط وذلك بالاتيان بالصلاة التي دل واحد من الاخبار على وجوبها وبالصوم الذي دل خبر آخر على وجوبه وبالحج الذي دل خبر ثالث على وجوبه ، وهكذا يلزم الاتيان بجميع الافعال التي دلت الاخبار المئة على وجوبها. وهذا نظير ما لو كان لدينا (100) اناء وعلمنا بنجاسة اناء واحد منها فانه كما يجب الاجتناب عن الجميع كذلك في مقامنا يجب الاحتياط بالاتيان بالجميع.

مطلب ظريف

ثم ان السيد الشهيد ذكر مطلبا ظريفا وهو ان واحدا من الاخبار المائة وان كنّا نطمئن بصدوره ولكن لا يمكن ان يتحول هذا الاطمئنان الى اليقين ، اذ لو تحول وجزم بان جميع هذه المائة العشوائية ليس كاذبا بل واحد منها صادق جزما فيلزم ان يحصل الجزم المذكور في بقية المئات العشوائية ايضا لعدم الفرق بينها ، وبالتالي يلزم ان تبقى تلك المائة التي افترضنا اول البحث كونها كاذبة - حيث افترضنا في اول حديثنا عن القسم الثالث العلم بكذب مئة رواية من بين آلاف روايات الوسائل - بلا مصداق فلا بد على هذا الاساس من احتمال كذب جميع كل واحدة من المئات العشوائية ، ومع وجود هذا الاحتمال فلا يمكن تحول الاطمئنان الى

ص: 39

يقين.

نعم يبقى شيء وهو انه بعد حصول الاطمئنان بصدق واحد من الاخبار المائة العشوائية فهل يكون هذا الاطمئنان حجة حتى يجب بسببه الاحتياط او لا؟ والجواب : ان مدرك حجية الاطمئنان هو السيرة العقلائية ، فان العقلاء جرت سيرتهم على الاخذ بالاطمئنان ، واذا رجعنا الى العقلاء فلا نجزم بجريان سيرتهم على الاخذ بالاطمئنان الاجمالي - اي الاطمئنان بصدور واحد غير معين من الاخبار - بل القدر المتيقن جريان سيرتهم على التمسك بالاطمئنان التفصيلي اي الاطمئنان بصدور خبر معين خاص. ومعه فلا يكون التواتر الاجمالى مجديا.

القسم الثاني من اقسام التواتر

قوله ص 206 س 15 الحالة الثانية ... الخ : ذكرنا فيما سبق ان للتواتر اقساما ثلاثة ، وتحدثنا عن القسم الثالث ، والآن نتحدث عن القسم الثاني وهو ان تشترك جميع الاخبار في مدلول التزامي او تضمني واحد كما اذا نقل احد المخبرين قصة تدل على كرم حاتم ونقل الثاني قصة اخرى تدل على كرمه ايضا وهكذا ، فجميع هذه الاخبار يدل على مدلول التزامي او تضمني واحد وهو كرم حاتم (1).

وقد تسأل : هل هذا التواتر يحصّل الاطمئنان بصدور واحدة على الاقل من تلك القصص المنقولة؟ نعم يحصّل ذلك ، وبالتالي يدل على ثبوت الكرم لحاتم ، لان واحدة من تلك القضايا المنقولة اذا كانت صادرة حتما فيثبت بذلك كرم حاتم.

ولكن كيف يمكن لهذا القسم من التواتر تحصيل الاطمئنان بصدور واحدة

ص: 40


1- وليس من المهم تحقيق ان كرم حاتم مدلول تضمني او التزامي

من تلك القضايا؟ ان توجيه ذلك يتم بامرين :

ا - الكثرة العددية للمخبرين ، فانها تستوجب ان يكون احتمال كذب الجميع ضعيفا جدا اذ احتمال كذب كل شخص في القصة التي ينقلها هو 2 / 1 ، فاذا اردنا ان نعرف قيمة احتمال كذب الجميع لزم ضرب 2 / 1* 2 / 1* 2 / 1* ... الى ان يبلغ عدد الانصاف مقدار مائة ، ونتيجة الاحتمال ضعيفة جدا كما تقدم ذلك في القسم الثالث. ويسمى هذا الامر الاول بالمضعّف الكمّي كما سبق ذلك.

ب - ان لازم احتمال كذب الجميع افتراض ان مصالح جميع المخبرين اما انها قد تماثلت او تقاربت صدفة وذلك بعيد. ووجه لزوم ذلك : انه اما ان يفرض كون المصلحة الشخصية لكل مخبر اقتضت صدفة الكذب في مركز واحد وهو اثبات الكرم لحاتم او يفرض اقتضاء المصلحة لكل واحد صدفة اختلاق كامل القضية التي ينقلها. وعلى الاول يلزم تماثل جميع المصالح صدفة حيث اجتمعت جميعا في مركز واحد وهو الكذب في اثبات الكرم لحاتم ، وعلى الثاني فالمصالح الشخصية وان لم تجتمع في مركز واحد بل في مراكز متعددة وبالتالي لا يلزم تماثلها واتحادها الا انه يلزم تقاربها صدفة ، وكلا الفرضين بعيد بحساب الاحتمال. ويسمى هذا الامر الثاني بالمضعّف الكيفي.

اذن المضعف في القسم الثالث لاحتمال كذب الجميع هو المضعف الكمي فقط ، لان المضعف الكيفي يحتاج الى افتراض امر مشترك بين الاخبار والمفروض عدم وجوده في القسم الثالث ، وهذا بخلافة في القسم الثاني ، فان الموجب لضعف احتمال كذب الجميع شيئان هما المضعف الكمي والكيفي.

وبهذا يتضح ان احتمال كذب الجميع في القسم الثاني اشد ضعفا منه في القسم الثالث لوجود مضعفين في القسم الثاني ووجود مضعف واحد في القسم الثالث.

ص: 41

وقد تسأل : هل يمكن في القسم الثاني تحوّل الاطمئنان بصدور واحدة من القضايا الى يقين او لا يمكن ذلك كما لم يمكن في القسم الثالث؟ قد يقال بعدم الامكان بتقريب : ان الاخبار المنقولة في الدنيا كثيرة جدا ، ونحن نعلم بان (100) من تلك الاخبار كاذب جزما - اذ ما اكثر الاخبار الكاذبة ولا اقل من الاخبار المنقولة في قصة الف ليلة وليلة - ومعه يلزم ان لا يحصل يقين بعدم كذب جميع القضايا المائة التي ترتبط بحاتم ، اذ هذه المائة لو جزمنا بعدم كذب جميعها فيلزم ان نجزم بعدم كذب كل مائة من المئات الاخرى ايضا لعدم الفرق بين هذه المائة وبقية المئات ، وبالتالي يلزم ان يبقى ذلك المعلوم بالاجمال - وهو كذب (100) خبر في الدنيا - بلا مصداق ، لانه لا توجد مئة يحتمل كذب جميعها. هكذا قد يقرر عدم امكان تحوّل الاطمئنان الى يقين ، ولكنه باطل لانا وان كنا نجزم بكذب (100) خبر في الدنيا ولكن لا نجزم بان تلك المائة هي من المئات المشتركة في مدلول التزامي او تضمني واحد ، فيمكن ان تكون تلك المئة من المئات العشوائية اي التي لا تشترك في مدلول التزامي او تضمني واحد ، ومن الواضح ان الاطمئنان الذي ندعي تحوله الى يقين انما ندعي تحوله فيما اذا كان بين الاخبار المائة امر مشترك دونما اذا لم يكن.

وباختصار : ان المائة التي تشترك في امر واحد - ككرم حاتم - يتحول الاطمئنان فيها الى يقين وتبقى بقية المئات الاخرى مجالا لاحتمال انطباق تلك المائة الكاذبة عليها.

القسم الاول من اقسام التواتر.

قوله ص 208 س 4 الحالة الثالثة ... الخ : وفي هذا القسم الذي ذكره في

ص: 42

الكتاب تحت عنوان « الحالة الثالثة » - يفرض ان جميع المخبرين ينقلون مدلولا مطابقيا واحدا مشتركا بين الجميع كما لو فرض ان الجميع ينقلون قضية واحدة معينة ترتبط بكرم حاتم او جملة « من كنت مولاه ... الخ » في قصة الغدير. ويسمى مثل هذا بالتواتر اللفظي.

وهنا احتمال كذب الجميع اضعف منه في القسم الثاني ، ووجه ذلك : ان مضمون الاخبار في هذا القسم اضيق منه في القسم الثاني ، اذ كلها ينقل قضية واحدة ترتبط بكرم حاتم مثلا ، ومن الواضح ان مضمون الاخبار كلما تضيق ازداد احتمال الكذب وهنا. هذا بالنسبة الى احتمال الكذب ، واما بالنسبة الى احتمال الخطأ - لو فرض احتمال خطأ المخبرين من دون احتمال كذبهم - فهو ضعيف ايضا في هذا القسم ، لان القضية المنقولة اذا كانت واحدة فكما ان احتمال كذب الجميع ضعيف جدا كذلك احتمال خطأ الجميع هو اضعف بكثير من احتمال الخطأ في القسم الثاني الذي لا تكون القضية المنقولة فيه واحدة.

وباختصار : ان كلا المضعّفين - الكمي والكيفي - يأتيان في هذا القسم بل المضعّف الكيفي فيه اقوى لان احتمال كذب او خطأ الجميع اضعف من احتمال الكذب والخطأ في القسم السابق.

بل بالامكان ان نضيف هنا ونقول : ان خصوصيات الاخبار في هذا القسم كلما كانت اشد تشابها - خصوصا اذا كان الجميع ينقل لفظا واحدا كحديث « من كنت مولاه ... الخ » - فاحتمال صدق القضية المنقولة يكون اقوى ، لأنّ القضية اذا لم تكن صادقة واقعا فنقل الجميع لالفاظ متشابهة واحده اما ان يكون من باب اقتضاء مصالح الجميع صدفة للتزوير واصدار لفظ واحد كذبا في الوقت الذي كان يمكنهم نقل المعنى الواحد بالفاظ مختلفة ، وهو ضعيف جدا كما هو واضح ، او يكون

ص: 43

ذلك من باب سبق لسان كل واحد صدفة الى التلفظ بحديث « من كنت مولاه ... الخ » وهو ضعيف جدا ايضا. ومن خلال هذا نستكشف ان تطابق الجميع على نقل لفظ واحد ناتج عن حقانية قضية الغدير مثلا وصدور حديث « من كنت مولاه ... الخ » من النبي صلی اللّه علیه و آله .

ويتجلى من خلال هذا العرض ان اقوى اقسام التواتر الثلاثة هو التواتر اللفظي ثم المعنوي ثم الاجمالي لان التواتر الاجمالي لا يوجد فيه الا المضعف الكمي بينما ذانك القسمان يوجد فيهما المضعف الكيفي ايضا. وحيث ان المضعّف الكيفي في التواتر اللفظي يتواجد بدرجة اقوى كان - التواتر اللفظي - اقوى من التواتر المعنوي.

قوله ص 205 س 4 بطريقة عشوائية : اي بلا لحاظ وجود امر واحد مشترك بين الاخبار.

قوله ص 205 س 8 آثار العلم الاجمالي : وهو الاحتياط بامتثال جميع التكاليف الدالة عليها الاخبار. وهذه العبارة تشير الى فائدة العلم بصدور واحد غير معين من الاخبار.

قوله ص 205 س 12 وكلما كانت عوامل الضرب كسورا تضاءلت : بخلاف ما اذا كانت اعدادا صحيحة فان النتيجة ترتفع ولا تتضاءل ، فلو ضربنا 2* 2 ارتفعت النتيجة بخلاف ما اذا ضربنا 2 / 1* 2 / 1 فان النتيجة تنخفض وتصير 4 / 1.

قوله ص 206 س 3 طرفا من اطراف ذلك العلم الاجمالي : اي العلم الاجمالي بوجود مائة خبر كاذب في مجموع الاخبار.

قوله ص 206 س 5 تجمع بشكل آخر : اي عشوائي.

قوله ص 206 س 12 نتيجة جمع احتمالات اطرافه : اي اطراف الاطمئنان

ص: 44

الاجمالي وهي كل فرد من افراد الاخبار المائة التي نطمئن بصدق واحد منها.

قوله ص 206 س 16 مدلولا تحليليا : وهو المدلول التضمنى او الالتزامي.

قوله ص 207 س 12 يعني انها متقاربة : اي ان المصالح متقاربة.

قوله ص 207 س 17 ولا يلزم من ذلك : اي ولا يلزم من تحوّل الاحتمال الى يقين انطباق التحول المذكور على كل مائة تجمع ولو بشكل عشوائي بل لا ينطبق الا على خصوص المائة التي تشترك في امر واحد اذ المضعف الكيفي يختص بالمائة التي تشترك في امر واحد ، ومعه تبقى المئات الاخرى التي لا تشترك في امر واحد لا يتحول فيها الاطمئنان الى يقين ويكون من المحتمل انطباق تلك المائة - التي يعلم بكذبها - عليها.

قوله ص 208 س 4 الأخيارات : الصواب : الاخبارات.

قوله 208 س 14 بالشخص : اي ينقلون واقعة واحدة شخصية معينة.

ص: 45

مبحث الاجماع

اشارة

قوله ص 210 س 1 الاجماع يبحث عن حجيته ... الخ : نمنهج البحث عن الاجماع ضمن النقاط التالية :

1 - ما هي النكتة في حجية الاجماع؟ في ذلك وجوه متعددة نذكر اربعة منها :

ا - ما ذكره الشيخ الطوسي قدس سره من ان العلماء اذا اتفقوا على حكم معين كشف ذلك عن موافقة المعصوم علیه السلام والا كان اللازم عليه من باب اللطف (1) ان يحول دون تحقق ذلك الاتفاق ويمنع من حصوله. وحيث ان الحاكم بوجوب اللطف هو العقل امكن عدّ هذه النكتة نكتة عقلية واساسا عقليا.

ب - ان الوجه في حجية الاجماع هو نفس ادلة حجية الخبر فان خبر الثقة قام الدليل الخاص على حجيتة - كمفهوم آية النبأ - وبعد قيامه على حجيته نقول : ان مثل الشيخ الطوسي او المرتضى اذا نقل الاجماع صدق ان الثقة اخبرنا بخبر فيشمله حينذاك دليل حجية الخبر ويثبت بذلك الاجماع. وبما ان احد الاشخاص المجمعين الذين ينقل عنهم الاجماع هو الامام علیه السلام فيثبت بذلك قوله علیه السلام . وهذا الثبوت ثبوت تعبدي ، اي بسبب الدليل الشرعي الخاص الدال على حجية

ص: 46


1- المقصود من اللطف كل فعل يقرب الى الطاعة ويبعّد عن المعصية ، ولا شك في انّ حيلولة المعصوم عليه السلام من تحقق الاتفاق على الحكم الباطل يقرب الى الطاعة ويبعّد عن المعصية .

الخبر (1).

ج - ما ذهب اليه العامة من التمسك بالحديث الذي ينسبونه الي النبي صلی اللّه علیه و آله « لا تجتمع امتى على خطأ ».

د - ما ذهب اليه السيد الشهيد من التمسك بحساب الاحتمال ، حيث يقال ان حساب الاحتمال يقضي بوجود دليل شرعي معتبر على الحكم بتقريب : ان فتوى كل فقيه وان كان من المحتمل خطؤها الا ان من المحتمل في نفس الوقت استنادها الي دليل شرعي معتبر ، وهذا الاحتمال وان لم يكن قويا الا انه بعد انضمام فتوى كل فقيه الى اختها يقوى ويصل الى درجة الاطمئنان او اليقين (2).

2 - يوجد فارق بين هذه المستندات الاربعة ، ففي المستند الرابع نحاول ان نحصّل بواسطة الاجماع دليلا شرعيا معتبرا على الحكم - حيث نقول : فتوى كل فقيه تكشف بدرجة ضعيفة عن وجود دليل معتبر وبانضمام الفتاوى بعضها الى بعض يحصل الاطمئنان بوجود دليل معتبر - واما في المستندات الثلاثة الاولى فيراد اثبات صحة نفس الحكم المجمع عليه وانه حكم موافق لرأيه علیه السلام حيث نقول في المستند الاول ان مقتضى قاعدة اللطف صحة الحكم المجمع عليه والا لألقى علیه السلام الخلاف بين المجمعين ، وفي المستند الثاني نقول ان ناقل الاجماع ينقل رأيه علیه السلام ضمن نقله لآراء المجمعين وبواسطة دليل حجية الخبر يثبت رأيه علیه السلام ضمن نقله لآراء المجمعين وفي المستند الثالث نقول : ان مقتضى حديث لا تجتمع امتي على خطأ صحة الحكم المتفق عليه.

ص: 47


1- وعبارة الكتاب في بيان هذا الوجه لعلها لا تتطابق تطابقا تاما مع ما ذكرناه.
2- اشار قدس سره الى هذه النقطة من اول كلامه الى قوله ص 210 س 10 « على الحكم الشرعي »

وباختصار : انه في المستند الرابع نحاول تحصيل الدليل على الحكم الشرعي بخلافه في المستندات الاخرى فانا نحاول تحصيل صحة الحكم الشرعي بلا التفات الى دليله. ويترتب على هذا الفارق فارق ثان وهو : انا ذكرنا سابقا الاجماع تحت عنوان « وسائل الاثبات الوجداني للدليل الشرعي » فهو وسيلة من وسائل اثبات الدليل الشرعي ولكن متى يكون وسيلة لاثبات الدليل الشرعي؟ انه على المستند الرابع يكون وسيلة لاثبات الدليل الشرعي حيث ذكرنا انه على المستند الرابع نريد بالاجماع استكشاف الدليل الشرعي ، واما على المستندات الثلاثة الاولى فالاجماع ليس كاشفا عن الدليل الشرعي بل هو دليل غير شرعي - فان الدليل الشرعي هو الكتاب والسنة واما الاجماع والعقل فهما دليلان غير شرعيين - يراد به اثبات نفس الحكم الشرعي لا اثبات الدليل الشرعي. اذن الاجماع عندما نعده من وسائل اثبات الدليل الشرعي فذاك يتم على المستند الرابع فقط (1).

3 - ان الاصوليين - ومنهم الآخوند - قسموا الملازمة الى ثلاثة اقسام :

ا - الملازمة العقلية ، كالملازمة بين ثبوت التواتر وحصول العلم بصدق مضمون الخبر.

ب - الملازمة العادية ، كالملازمة بين آراء اتباع الرئيس ورأي نفس الرئيس ، فان اتفاق آراء الاتباع يلازم عادة رأي الرئيس.

ج - الملازمة الاتفاقية ، كالملازمة بين الخبر المستفيض وحصول العلم بصدقه ، فان الخبر المستفيض الذي هو اقل درجة من المتواتر لا يلازم العلم

ص: 48


1- وقد اشير الى هذه النقطة من قوله ص 210 س 11 والفارق بين الاساس الرابع الى قوله ص 211 س 5 وهذا ما تناوله في المقام

بصدقه الا انه قد يتفق حصول العلم بذلك.

وبعد التعرف على هذه الاقسام الثلاثة نقول : ان غرض الاصوليين من هذا التقسيم الاطلاع على حال الملازمة بين الاجماع وثبوت الدليل الشرعي ، فهل هي ملازمة عقلية او عادية او اتفاقية؟

والسيد الشهيد يعلق على هذا التقسيم بتعليقين :

الاول : ان الملازمة عقلية دائما ولا تكون اتفاقية ولا عادية وانما تنقسم الى الاقسام الثلاثة باعتبار طرفيها ، فان الملازمة قد تتحقق بين ذات الشيئين وفي جميع ظروفهما كالنار والحرارة ، فذات النار تلازم ذات الحرارة في اي حالة من الحالات ، وهذه الملازمة عقلية ، وقد تتحقق بين شيئيين لا في جميع ظروفهما بل في ظروف معينة - وتلك الظروف المعينة موجودة غالبا - وهذه الملازمة عادية ، وقد لا تكون تلك الظروف متواجدة غالبا بل نادرا ، والملازمة حينذاك اتفاقية.

وباختصار : ان الملازمة لا تكون الا عقلية وتقسيمها الى الاقسام الثلاثة هو باعتبار طرفيها لا باعتبار نفسها.

الثاني : ان الاصوليين ذكروا الملازمة بين الخبر المتواتر وصدقه مثالا للملازمة العقلية. وهذا المثال قابل للمناقشة ، فانا نسلم ان الخبر المتواتر متى ما تحقق ثبت صدقه ولكن لا يستحيل انفكاك صدقه عنه - والملازمة العقلية تعني استحالة الانفكاك دون مجرد الثبوت عند الثبوت - والوجه في ذلك ان السبب لحصول العلم بالصدق في الخبر المتواتر هو حساب الاحتمال كما ذكرنا سابقا ، ومن الواضح ان غاية ما يحصله حساب الاحتمال هو العلم بصدق مضمون الخبر دون استحالة الانفكاك.

وقد تسأل عن محل الكلام - الذي ذكر هذا التقسيم لاجله وهو الاجماع -

ص: 49

فهل توجد ملازمة بينه وبين ثبوت صدقه او لا؟ والجواب : ان حال الاجماع حال التواتر فلا توجد ملازمة عقلية بينه وبين صدقه وان كان كلما تحقق حصل العلم بصدق مضمونه ولكن ذلك غير استحالة الانفكاك ، اجل تحصيل التواتر للعلم بصدق مضمون الخبر بحساب الاحتمال اقوى واسرع من تحصيل حساب الاحتمال للعلم في الاجماع وذلك لعدة اسباب تقدمت في الحلقة الثانية ص 172 نذكر واحدا منها وهو : ان الاخبار في باب التواتر اخبار حسية ، فكل مخبر يخبر عن قضية الغدير مثلا اخبارا حسيا بينما اخبار كل فقيه في باب الاجماع اخبار حدسي ، وواضح ان القيمة الاحتمالية للاخبار الحسي اقوى منها في الاخبار الحدسي (1)

4 - وقد تقدم مضمون هذه النقطة سابقا حيث ذكرنا ان الاجماع في نظر السيد الشهيد يكشف عن الدليل الشرعي بتوسط حساب الاحتمال بتقريب : ان فتوى الفقيه وان كان من المحتمل خطؤها الا انه مع ذلك يحتمل استنادها الى دليل شرعي معتبر ، وهذا الاحتمال وان كان ضعيفا لكنه يقوى عند ضم اختها اليها الى درجة قد يحصل الاطمئنان او اليقين (2).

5 - ذكر الشيخ الاصفهاني قدس سره ان الاجماع لا يكشف عن وجود دليل معتبر ، وذلك لوجهين :

ا - انه لو سلم استناد الفقهاء الى رواية معتبرة فبالامكان ان نقول ان تلك الرواية لعلها غير تامة دلالة فى نظرنا لو اطلعنا عليها كما ولعلها بنظرنا غير تامه

ص: 50


1- وقد اشير الى هذه النقطة من قوله ص 211 س 6 وقد قسم الاصوليون الى قوله ص 212 س 14 في الحلقة السابقة.
2- وقد اشير الى هذه النقطة ص 212 س 15 وتقوم الفكرة الى قوله ص 213 س 5 احتمال الخلاف.

سندا ، وعليه فالجزم بتماميتها دلالة وسندا غير ممكن.

ب - يمكن الجزم بعدم استناد الفقهاء لرواية معتبرة والا لذكروها في كتبهم مع انهم لم يذكروها ، وهذا دليل على عدم استنادهم اليها.

وان شئت قلت : ان الفقهاء لو كانوا قد استندوا لرواية فتلك الرواية ان كانت مذكورة في الكتب رجعنا بانفسنا الى تلك الرواية فاذا كانت تامة دلالة وسندا افتينا على طبقها والا طرحناها ، وان لم تكن مذكورة في كتبهم دلّ ذلك على عدم استنادهم اليها ولا لذكروها.

ونجيب اولا عن هذا الوجه الثاني - ثم ننتقل الى الاول - ونقول : لا نقصد من الدليل الشرعي الذي يكشف عنه الاجماع رواية مكتوبة كسائر الروايات المتداولة حتى نرجع اليها مباشرة ونقوم بتقييمها دلالة وسندا بل نقصد من ذلك رواية غير مكتوبة ، فان الفقهاء حينما اتفقوا على حكم معين كحرمة تنجيس المسجد مثلا ولم يكن لذلك مدرك من النصوص دل ذلك على ان الحرمة كانت امرا مركوزا في ذهن اصحاب الائمة علیهم السلام وشيئا واضحا بينهم ، والفقهاء حينما شاهدوا هذا الارتكاز والوضوح افتوا بحرمة تنجيس المسجد واستندوا اليه لان الارتكاز يكشف عن تلقي الحرمة من المعصوم علیه السلام . اذن الاجماع يكشف عن الارتكاز لدى اصحابهم علیهم السلام والارتكاز يكشف عن تلقي الحكم من المعصوم علیه السلام ، فكاشفية الاجماع عن راي المعصوم تحصل بتوسط هذا الارتكاز الذي نعبر عنه بالرواية غير المكتوبة.

وبهذا تزول غرابة عدم تسجيل الرواية - لو كانت هي المستند - في الكتب فانها تتم لو كان المقصود من الرواية الرواية المكتوبة دونما لو كان المقصود هذا الارتكاز.

ص: 51

وبهذا يتضح اندفاع الوجه الاول حيث يقال : ان الذي نريد اكتشافه بالاجماع ليس رواية مكتوبة حتى يشكك في تماميتها دلالة وسندا ، بل المراد اكتشافه هو الارتكاز الوسيط بين الاجماع والسنة التي يراد اكتشافها وهي قول المعصوم علیه السلام او فعله او تقريره.

ثم ان هذا الارتكاز هو المهم. وكل شيء امكننا بواسطته اكتشاف هذا الارتكاز كان حجة وان لم يكن اجماعا. وقد تقدم فى الحلقة الثانية ص 178 خمسة طرق تقوم مقام الاجماع يمكن الاستعانة بها لاكتشاف سيرة اصحاب الائمة علیهم السلام والارتكازات العالقة في اذهانهم.

قوله س 211 س 14 الملزوم : وهو طرف الملازمة.

قوله ص 213 س 15 كذلك : اي سندا.

قوله ص 213 س 17 الموثق : الفرق بين حجية خبر الثقة والخبر الموثق ان الاول يعني حجية خبر الثقة سواء افاد خبره الوثوق والاطمئنان (1) ام لا بينما الثاني يعني حجية الخبر المفيد للوثوق والاطمئنان سواء كان الرواي ثقة ام لا. واما الخبر الحسن فهو الخبر الذي يكون احد رواته او كلهم اماميا ممدوحا بدون ثبوت عدالته.

قوله ص 214 س 12 من فقهاء عصر الغيبة المتقدمين : التقييد بالمتقدمين لما سيأتي من كون الاجماع الكاشف عن الارتكاز هو اجماع الفقهاء المتقدمين دون المتأخرين.

قوله س 214 س 17 الفهقاء والمتقدمين : الصواب : الفقهاء المتقدمين.

قوله ص 215 س 9 وعدم اشارتهم : الواو بمعنى مع.

ص: 52


1- الوثوق والاطمئنان هما بمعنى واحد.

قوله ص 215 س 17 والدليل الشرعي المباشر من المعصوم : وهو قوله علیه السلام او فعله او تقريره.

قوله ص 216 س 8 هذا الحكم : اي الحكم المعين.

الشروط المساعدة على كشف الاجماع.

قوله ص 216 س 12 وعلى اساس ما عرفنا ... الخ : عرفنا ان الوجه في حجية الاجماع كاشفيته عن الارتكاز. وهذه الكاشفية لا تحصل الا اذا تمت الشرائط التالية :

1 - ان يكون الاجماع ثابتا بين الفقهاء المتقدمين ، ولا يكفي حصوله بين المتأخرين مع مخالفة المتقدمين ، اذا الكاشف هو الاجماع بين المتقدمين ، فانهم المقاربون لعصر اصحاب الائمة علیهم السلام وهم الذين يمكن ان يواجهوا ذلك الارتكاز ويكشف اتفاقهم عنه ، واما اتفاق المتأخرين مع مخالفة المتقدمين فلا يكشف عن الارتكاز.

2 - ان لا توجد آية او رواية او اي مدرك آخر يحتمل استناد المجمعين اليه - ويسمى الاجماع مع وجود المدرك بالاجماع المدركي - اذ مع وجوده لا يكون الاجماع كاشفا عن الارتكاز حتى يكون حجة. وهذا مما يلزم التنبه اليه ، اذ قد يتخيل الذهن ان الاجماع لو كان له مدرك فهو اولى بالحجية ولكنه مردود بانه مع وجود المدرك لا يكون الاجماع مسببا عن ذلك الارتكاز وكاشفا عنه ليكون حجة بل هو ناشئ عن المدرك ويلزم الرجوع اليه - المدرك - ليلاحظ اهو تام او لا ، فان كان المدرك مثلا رواية معينة لزم الرجوع اليها ، فاذا كانت تامة السند والدلالة اخذنا بها وان لم يعتمد عليها المجمعون ، واذا لم تكن تامة السند أو الدلالة

ص: 53

لم نأخذ بها وان اعتمد عليها المجمعون.

اجل نستدرك لنقول : ان الرواية قد تكون ضعيفة الدلالة على معنى معين في نظرنا ولكن استناد المجمعين اليها يصير سببا لقوة دلالتها على ذلك المعنى باعتبار ان استنادهم وفهمهم ذلك المعنى المعين منها يولّد اطمئنانا بكون الظروف التي صدرت فيها الرواية ظروفا تساعد على فهم ذلك المعنى المعين ولئن لم يفهم ذلك المعنى الآن فهو ناتج عن تغير تلك الظروف ، الا ان هذا مطلب آخر غير ما نحن بصدده فاننا بصدد البحث عن ان الاجماع الذي له مدرك هل هو حجة او لا؟ ولسنا بصدد ان الاجماع المدركي بعد عدم حجيته هل يجبر ضعف دلالة الرواية او لا.

ثم ان الاجماع المدركي ليس حجة بلا فرق بين الجزم بكون المدرك الموجود قد استند اليه المجمعون وبين ان يكون مما يحتمل استنادهم اليه بدون جزم بذلك ، فانه على كلا التقديرين لا يكون حجة للنكتة المتقدمة وهي انه مع وجود المدرك الجزمي او الاحتمالي لا يقطع بكاشفية الاجماع عن الارتكاز حتى يكون حجة ، اذ لعل سبب تحقق الاجماع هو ذلك المدرك دون الارتكاز.

3 - ان لا تكون هناك قرائن تدل على عدم تحقق ذلك الارتكاز اذ حجية الاجماع انما هي بسبب كاشفيته عن الارتكاز ، فاذا فرضنا وجود قرائن تنفي تحققه وتدل على ان سبب ثبوت الاجماع ليس هو الارتكاز فلا يكون حجة كما هو واضح.

4 - ان لا تكون المسألة من المسائل التي يحكم فيها العقل ، فالاجماع على ان مقدمة الواجب واجبة ليس حجة ، اذ لعل سبب تحقق الاجماع هو حكم العقل بوجوب مقدمة الواجب دون الارتكاز. وهكذا يلزم عدم وجود اطلاق او عموم

ص: 54

يدل على الحكم المجمع عليه ، اذ مع وجود الاطلاق او العموم لا يجزم بكاشفية الاجماع عن الارتكاز ، بل يحتمل كون السبب لتحقق الاجماع هو ذلك الاطلاق او العموم.

وبكلمة جامعة : انه يلزم في حجية الاجماع ان يكون سبب تحققه منحصرا بالتعبد الشرعي - المكتشف بالارتكاز - دون اطلاق او عموم او حكم العقل (1).

قوله ص 216 س 13 وتسلسلها : عطف تفسير. والتسلسل المبين سابقا هو ان الاجماع كاشف عن الارتكاز ، والارتكاز كاشف عن صدور السنة منه علیه السلام .

قوله ص 217 س 4 ومن اليهم : اي ومن يناظرهم ويشبههم وهم المعاصرون للائمة علیهم السلام وان لم يكونوا من الرواة وحملة الحديث.

قوله ص 217 س 6 بل ان لا يكون هناك مدرك ... الخ : ما سبق ناظر الى صورة وجود المدرك الجزمي ، وهذا ناظر لصورة احتمال كون الآية او الرواية مدركا لهم بدون جزم بذلك.

قوله ص 217 س 8 قد يشكّل : بتشديد الكاف ، وقوله : قوة فيه : مفعول ليشكل.

قوله ص 217 س 13 التشكيك المعاصر : اي التشكيك في زماننا الحاضر.

قوله ص 218 س 3 ودور الوسيط : وهو الارتكاز. والضمير في قوله « فيه » يرجع الى الاكتشاف. ثم ان دور الوسيط كشفه عن صدور السنة منه علیه السلام .

ص: 55


1- لعل الحاق هذا الشرط الرابع بالشرط الثاني أولى لانه من مصاديقه فيقال هكذا : الشرط الثاني : عدم كون الاجماع مدركيا ، ويترتب على ذلك ان لا تكون المسألة عقلية ولا مما فيها اطلاق او عموم .

وكيفية تسلسل الاكتشاف : ان الاجماع يكشف عن الارتكاز ، والارتكاز يكشف عن صدور السنة منه علیه السلام .

قوله ص 218 س 7 مسألة تفريعية : اي فقهية.

مقدار دلالة الاجماع.

قوله ص 218 س 9 لما كان كشف الاجماع ... الخ : في هذا المبحث نقطتان.

1 - ان فتاوى العلماء اذا كانت مختلفة - بأن كان بعضها عاما والآخر خاصا كما لو قال بعض : الخيارات ثابتة في المعاملة وقال بعض آخر الخيارات ثابتة في البيع - اخذ بالخاص وحكم بثبوت الخيار في خصوص البيع لأن المقدار المتفق عليه بين الجميع هو ثبوت الخيار في خصوص البيع لا مطلق المعامله.

2 - اذا قال العلماء : « يثبت الخيار في المعاملة » مثلا ، فهذا التعبير يدل على ثبوت الخيار في المعاملة وباطلاقه يدل على ثبوت جميع اقسام الخيار في جميع اقسام المعاملة ولكن دلالة الاجماع على هذا الاطلاق وكاشفيته عنه اضعف من دلالته على اصل الحكم - اي اصل ثبوت الخيار في المعاملة - لأن نكتة حجية الاجماع كاشفيته عن الارتكاز ، ومن الواضح ان احتمال خطأ المجمعين في تشخيص اصل الارتكاز اضعف من احتمال خطأهم في تشخيص تفاصيله كما هو واضح ، اذ هو - الارتكاز - ليس قضية لفظية حتى تكون دلالتها على اطلاق المعنى مساويا لدلالتها على اصل المعنى بل هو قضية معنوية قد يشوبها الغموض في اطلاقها.

قوله ص 218 س 9 على اساس تجمع انظار ... الخ : اي على اساس اتفاق فتاوى العلماء في القضية الواحدة.

ص: 56

قوله ص 218 س 10 بالمقدار المتفق عليه : وهو الخاص عند اختلاف تعبير العلماء.

قوله ص 218 س 12 ويعتبر كشف الاجماع : هذا اشارة الى النقطة الثانية.

قوله ص 218 س 13 بنحو القضية المهملة : اي بقطع النظر عن الاطلاق والتفاصيل.

قوله ص 219 س 2 ومن اليهم : اي ومن يشبههم ، وهم اصحابهم علیهم السلام من غير الرواة.

قوله ص 219 س 4 حدوده وامتداداته : اي اطلاقه.

الاجماع البسيط والمركب

قوله ص 219 س 9 يقسّم الاجماع ... الخ : الاجماع على قسمين ، فتارة يفرض اتفاق جميع الفقهاء على حكم واحد معين كاتفاقهم على وجوب صلاة الجمعة زمن الغيبة ، ويسمى ذلك بالاجماع البسيط - وكلامنا فيما سبق كان يدور حول هذا الاجماع - واخرى يفرض ان نصف العلماء يقول بالوجوب والنصف الآخر يقول بالاستحباب ، ومثله يسمى بالاجماع المركب.

ثم انه عند اختلاف العلماء على قولين يوجد فرضان :

ا - ان تنفي كلتا الطائفتين الاحتمال الثالث - كحرمة صلاة الجمعة - حتى على تقدير بطلان الرأي المختار لها ، فكل طائفة حتى على تقدير بطلان الوجوب والاستحباب تنفي الحرمة ، وفي مثله يمكن القول بتحقق اجماع بسيط من الكل على نفي الحرمة.

ب - ان تنفي كلتا الطائفتين احتمال الحرمة فيما اذا كان الرأي المختار لها هو

ص: 57

الصحيح فالطائفة الاولى تقول اني انفي الحرمة لو كان احتمال الوجوب الذي اخترته صحيحا ، وعلى تقدير بطلانه لا انفيها ، والطائفة الثانية تقول كذلك اي اني انفي احتمال الحرمة لو كان احتمال الاستحباب صحيحا دونما اذا كان باطلا. وفي مثل هذه الفرضية يصدق على الاجماع انه اجماع مركب على نفي الاحتمال الثالث.

وبعد ان عرفنا اختصاص الاجماع المركب بالفرضية الثانية نسأل : هل الاجماع المركب حجة او لا؟ الصحيح العدم ، لان حجية الاجماع انما هي باعتبار تجميع القيم الاحتمالية ، ومن الواضح انه عند اختلاف العلماء على رأيين نعلم ببطلان احد الرأيين ومعه يكون نصف القيم الاحتمالية باطلا وبالتالي لا يمكن جمع جميع القيم الاحتمالية حتى يتولد اليقين بالارتكاز.

قوله ص 220 س 3 باعتبار كشفه : اي كشفه عن الارتكاز.

ص: 58

الشهرة

قوله ص 220 س 9 كلمة الشهرة بمعنى الذيوع ... الخ : نريد في هذا البحث توضيح معنى الشهرة لغة ثم توضيح معناها في المصطلح الاصولي.

اما لغة فالشهرة تعني الوضوح والذيوع ، يقال : شهر فلان سيفه اي اوضحه بعد ما كان مستورا في غمده ، ويقال : اشتهر الخبر بمعنى وضح وذاع.

واما في المصطلح الاصولي فهي تطلق على معنيين :

ا - الشهرة الروائية. ويراد بها كثرة الناقلين للرواية من دون ان يصل الى حد التواتر. وفي هذا المعنى اضيفت الشهرة الى الرواية.

ب - الشهرة الفتوائية. ويراد بها شهرة الافتاء بفتوى معينة دون ان يصل ذلك الى حد الاجماع. وفي هذا المعنى اضيفت الشهرة الى الفتوى.

وبعد هذا نسال هل يمكن عدّ الشهرة من وسائل الاثبات الوجداني او لا؟ والجواب اما بالنسبة الى الشهرة الروائية فهى تعني بلوغ نقل الرواية الى مادون التواتر. ولكن ما هو التواتر؟ ان التواتر حدد تحديدا كيفيا ، فهو كثرة الناقل للخبر الى حد يحصل العلم بمضمونه. وعلى اساس هذا التحديد لا بد ان تكون الشهرة الروائية - وقد قلنا انها ادون من مرتبة التواتر - عبارة عن نقل جماعة كثيرة للرواية الى حدّ يحصل الظن دون العلم. واذا كانت تحصّل الظن فهي ليست من وسائل الاثبات الوجداني - اذ وسائل الاثبات الوجداني هى الوسائل المفيدة لليقين - وبالتالي لا تكون حجة الا اذا قام دليل قطعي على ثبوت الحجيه تعبدا

ص: 59

للخبر المفيد للظن. وسيأتي في المبحث التالي - ص 223 من الحلقة - اقامة الدليل على ثبوت الحجيه تعبدا للخبر الظني (1) هذا كله في توضيح الشهرة الروائية.

اما الشهرة الفتوائية فهي كما قلنا عبارة عن بلوغ الفتوى لما دون الاجماع. ولكن ما هو الاجماع؟ انه يمكن تحديده بشكلين ، فتارة يحدد بتحديد كيفي واخرى بتحديد كمّي (2) :

1 - فان حدد بتحديد كيفي بان قيل ان الاجماع هو الاتفاق الموجب للعلم بصحة الحكم المتفق عليه (3) ، فالشهرة الفتوائية على هذا تعني افتاء جماعة كبيرة من العلماء بفتوى معينة دون ان يحصل العلم بالحكم. وبناء عليه لا تكون الشهرة الفتوائية من وسائل الاثبات الوجداني لانها لا تفيد اليقين بل الظن ، وبالتالي لا تكون حجة الا اذا قام دليل قطعي على حجيتها تعبدا. وقد اختلف الاصوليون في قيام الدليل القطعي على حجيتها تعبدا وعدمه. ولعل الرأي السائد هو حجيتها تعبدا. وستأتي الاشارة من السيد الشهيد في آخر كلامه (4) الى هذا النزاع الاصولي في حجية الشهرة الفتوائية تعبدا.

ص: 60


1- وبذلك يدخل في وسائل الاثبات التعبدي.
2- اما التواتر فقد مر انه لا يحدد الا بالتحديد الكيفي. والمراد بالتحديد الكمي التحديد من حيث العدد بان يقال ان الاجماع هو اتفاق العلماء باسرهم. ويراد بالتحديد الكيفي التحديد من حيث افادة العلم بان يقال الاجماع هو الاتفاق الموجب للعلم بصحة الحكم بقطع النظر عن كون المتفقين هم الكل او الجل.
3- المراد من العلم ما يشمل الاطمئنان.
4- وهو قوله 1 ص 222 س 3 من الحلقه : ثم ان في الشهرة في الفتوى بحثا آخر ... الخ وانما لم يبحث قدس سره هذا البحث هنا لان البحث هنا ناظر الى وسائل الاثبات الوجداني ، والشهرة الفتوائية بناء على حجيتها تعبدا ليست من وسائل الاثبات الوجداني.

2 - واذا حددنا الاجماع تحديدا كميا ، بان قلنا انه اتفاق العلماء بأسرهم على حكم معين سواء حصل العلم ام لا لزم ان تكون الشهرة الفتوائية - التي فرضنا انها دون الاجماع - عبارة عن افتاء اكثر الفقهاء بفتوى معينة سواء حصل العلم بالحكم ام لا ، فكل فتوى يفتي بها اكثر الفقهاء فهي شهرة فتوائية بدون فرق بين ان نجهل فتوى بقية الفقهاء او نظن بموافقتهم او نعلم بمخالفتهم ، فعلى جميع التقادير تصدق الشهرة الفتوائية.

ثم انه ينبغي الالتفات الى ان الشهرة الفتوائية اذا حصل العلم منها دخلت تحت الاجماع بالتحديد الكيفي فانا ذكرنا في التحديد الكيفي للاجماع انه الاتفاق الموجب للعلم سواء كان اتفاقا لكل الفقهاء ام لأكثرهم ، وبناء عليه اذا افادت الشهرة الفتوائية العلم صارت اجماعا بالتحديد الكيفي وبالتالي من وسائل الاثبات الوجداني.

وطبيعي ان تحصيل الشهرة الفتوائية للعلم يختلف باختلاف الموارد ، فان الاكثر الذي يفتي بالفتوى المشهورة اذا كان فيهم مثل المفيد والطوسى واضرابهم حصل اليقين بشكل اسرع ، بينما اذا لم يكن ضمنهم امثال هؤلاء لم يحصل اليقين بشكل سريع بل ربما لا يحصل ابدا.

كما وان الاعلام الذين لم يدخلوا مع المشهور قد تحرز مخالفتهم وقد لا تحرز ، وعدم الاحراز لربما يسهّل حصول اليقين بخلاف ما اذا احرز ذلك.

ثم ان الموقع العلمي للشخص المخالف له الاثر في هذا المجال ايضا ، فقد لا يكون للمخالف موقع علمي مهم فلا تكون مخالفته مانعة من حصول اليقين بخلاف ما لو كان له ذلك.

وباختصار : ان حصول اليقين من الفتوى المشهورة يتأثر باختلاف

ص: 61

خصوصيات متعددة لا بد من ملاحظتها.

وفي النهاية نلفت النظر الى ان عدّ الشهرة من وسائل الاثبات الوجداني انما هو باعتبار افادتها (1) للعلم احيانا ضمن الشروط المتقدمة.

قوله ص 221 س 5 كما يأتي : اي في المبحث الآتي ص 223 من الحلقة.

قوله ص 221 س 10 ما لم يقم دليل على التعبد بحجيته : وهذا البحث - اي البحث عن حجية الشهرة الفتوائية تعبدا - بحث مشهور بين الاصوليين وتأتي الاشارة اليه ص 222 ص 3.

قوله ص 221 س 11 مجموعة الفقهاء : اي جميع الفقهاء بأسرهم. ولعل التعبير ب- « جميع الفقهاء » انسب.

قوله ص 222 س 4 وهذا خارج عن محل الكلام : لأن الكلام انما هو في وسائل الاثبات الوجداني ، وواضح ان الشهرة الفتوائية بناء على حجيتها التعبدية لا تكون من وسائل الاثبات الوجداني.

قوله ص 222 س 4 وانما يدخل في قسم الدليل غير الشرعي : لعل المناسب : وانما يدخل في وسائل الاثبات التعبدي.

ص: 62


1- اي الشهره الفتوائيه والا فالشهرة الروائيه لا تفيد العلم كما تقدم.

وسائل الاثبات التعبدي أو حجية الخبر

اشارة

ص: 63

ص: 64

وسائل الاثبات التعبدي

قوله ص 223 س 1 وأهم ما يذكر ... الخ : وسيلة الاثبات التعبدي عبارة اخرى عن الظن الذي قام الدليل القطعي على حجيته ، فيمكننا على هذا ابدال جملة « وسائل الاثبات التعبدي » بجملة « الظنون التي قام الدليل القطعي على حجيتها ».

والظنون التي بحث الاصوليون عن حجيتها متعددة كخبر الواحد ، الشهرة الفتوائية ، الاجماع المنقول وغير ذلك (1). ونحن نبحث عن واحد منها وهو خبر الواحد.

وليس المراد من خبر الواحد الخبر الذي يرويه شخص واحد بل كل خبر لم يبلغ حد التواتر حتى وان كان الراوي له اشخاصا متعددين.

ثم انه ليس المقصود من اثبات الحجية للخبر اثباتها لجميع اقسامه حتى مثل خبر غير الثقة الذي لم يعمل به المشهور بل اثباتها لبعض اقسامه - كخبر الثقة - في مقابل السيد المرتضى الذي نسب اليه السلب الكلي وانه لا شيء من الخبر بحجة.

والبحث عن حجية الخبر يقع في مرحلتين :

الاولى : اثبات حجيته على نحو الموجبة الجزئية - المعبر عنها بالقضية

ص: 65


1- تقدمت محاولة ادخال الشهرة الفتوائية والاجماع تحت وسائل الاثبات الوجداني وان كان المشهور بين الاصوليين كونهما من وسائل الاثبات التعبدي.

المهملة - في مقابل السيد المرتض الذي ادعى السلب الكلي.

الثانية : بعد ثبوت حجية الخبر بنحو الموجبة الجزئية يقع الكلام عن تشخيص ذلك الخبر الثابت له الحجية فى الجملة ، فهل الحجة هو خبر الثقة او خبر العادل او الخبر الذي عمل به المشهور او غير ذلك.

المرحلة الاولى.

اشارة

قوله 223 س 8 والمشهور بين العلماء ... الخ : المشهور ان خبر الواحد حجة بنحو الموجبة الجزئية. وخالف في ذلك المرتضى وابن زهرة وابن ادريس والطبرسي قدس سره حيث نسب لهم ان لا شيء من الخبر بحجة.

واستدل المشهور على الحجية بالكتاب والسنة والعقل.

اما الكتاب الكريم فاستدل منه بعدة آيات نذكر منها :

الآية الاولى.

آية النبأ المذكورة في سورة الحجرات : « ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ان تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ».

والاستدلال بها على الحجية بوجهين :

الاول : التمسك بمفهوم الشرط.

الثاني : التمسك بمفهوم الوصف (1).

اما تقريب الاستدلال بمفهوم الشرط فبأن يقال : ان الآية الكريمة علقت بمنطوقها وجوب التبين على شرط وهو مجيء الفاسق ، فتدل بمفهومها على عدم

ص: 66


1- والفارق بين الوجهين يأتي عند التعرض للوجه الثاني.

وجوب التبين عند عدم مجىء الفاسق. وهذا المقدار واضح. وقد يتخيل انه به يتم الاستدلال بالآية الكريمة على حجية خبر العادل (1) ، ولكنه باطل ، فانه بمجرد عدم وجوب التبين لا تثبت الحجية ، اذ من الوجيه عدم وجوب التبين عن خبر العادل وفي نفس الوقت لا يكون حجة ولا يجب قبوله.

ولا جل تتميم الاستدلال نقول : اذا لم يجب التبين عن خبر العادل كان حجة اما :

ا - لان وجوب التبين عن خبر الفاسق كناية عرفا عن عدم حجيته فحينما يقال تبين عن خبر الفاسق يفهم منه عدم حجيته ، واذا دل المفهوم على عدم وجوب التبين عن خبر العادل كان ذلك عرفا كناية عن حجيته.

ب - او لما ذكره الشيخ الاعظم من ان وجوب التبين عن خبر الفاسق لو كان وجوبا نفسيا (2) فلا يمكن استفادة حجية خبر العادل ، لان عدم وجوب التبين لا يلازم الحجية فلعله لا يجب التبين عن الخبر ومع ذلك لا يجب قبوله ، ولكنا نقول : ان وجوب التبين ليس وجوبا نفسيا بل هو وجوب شرطي ، بمعنى ان التبين شرط لجواز العمل بخبر الفاسق وبالمفهوم يستفاد اذا جاء العادل بالخبر فجواز العمل به ليس مشروطا بالتبين. والشيخ الاعظم اعتقدانه بهذا المقدار يتم الاستدلال بالآية بلا حاجة الى ضم مقدمة الأسوأية ، اذ جواز العمل بخبر العادل

ص: 67


1- وذلك بعد ضمّ مقدمه الاسوأيه بان يقال اذا لم يكن خبر العادل حجه بل يرد من دون تبين حاله يلزم ان يكون حاله اسؤ من خبر الفاسق اذ الفاسق لم يرد خبره مباشره بل يفحص عن حاله فان لم يتضح صدقه ردّ وهذا بخلاف خبر العادل فانه يرد مباشره بلا فحص عن حاله فيكون اسوء.
2- المقصود من الوجوب النفسي ان الفاسق اذا اخبر عن شيء وجب الفحص عن خبره سواء اريد العمل به ام لا.

اذا لم يكن مشروطا بالتبين فلازمه جواز العمل به بلا حاجة الى تبين وهو المطلوب.

هذا ويمكن ان يقال : ان هذا المقدار لا يكفي لتمامية الاستدلال بالآية ، اي ان مجرد عدم اشتراط جواز العمل بالتبين لا يدل على الحجية ، اذ حينما نقول : جواز العمل بخبر العادل ليس مشروطا بالتبين ففيه احتمالان :

1 - ان يكون المقصود : يجوز العمل بخبر العادل بلا حاجة الى تبين ، ولازم هذا حجية خبره. وهذا الاحتمال هو الذي فهمه الشيخ الاعظم ، وعلى اساسه اعتقد تمامية دلالة الآية على حجية خبر العادل.

2 - ان يكون المقصود : لا يجوز العمل بخبر العادل حتى مع التبين فانه اذا لم يجز العمل به حتى مع التبين صدق ان جواز العمل بخبر العادل غير مشروط بالتبين. وهذا نظير ان يقال : جواز اكل لحم الخنزير ليس مشروطا بالمرض فان في ذلك احتمالين ، فيحتمل كون المقصود يجوز الاكل وان لم يكن هناك مرض ، كما ويحتمل ان يكون المقصود لا يجوز الاكل حتى مع افتراض المرض ، اذ على كلا الاحتمالين يصدق ان جواز الاكل غير مشروط بالمرض.

والى هنا اتضح ان الوجوب لو كان شرطيا فالاية بمفهومها تدل على ان جواز العمل بخبر العادل ليس مشروطا بالتبين ، واتضح ان في ذلك احتمالين احدهما يلائم الحجية والآخر لا يلائمها ، وبعد هذا نأخذ بابطال الاحتمال الثاني - ليتعين الاحتمال الاول الملائم للحجية - بوجهين :

1 - ان خبر العادل اذا لم يجز قبوله حتى بعد التبين يلزم ان يكون حال العادل اسوء من حال الفاسق ، اذ الفاسق بعد التبين عن خبره يجوز العمل بخبره ، فاذا فرض ان العادل لا يجوز العمل بخبره حتى بعد التبين لزم كون حاله اسوء.

ص: 68

2 - ان العادل اذا فحصنا عن خبره واتضح صدقه حصل العلم بصدقه وبعد العلم بصدقه كيف لا يكون حجة ولا يجب قبوله.

واذا بطل الاحتمال الثاني تعين الاحتمال الاول الذي بموجبه يكون خبر العادل حجة.

اعتراضان على آية النبأ

وقد اعترض على الاستدلال بآية النبأ بعدة اعتراضات ، والمهم منها اثنان :

الاول : ان الاية الكريمة من قبيل الشرطية المسوقة لبيان تحقق الموضوع - اي هي نظير « ان رزقت ولدا فاختنه » - والشرطية المسوقة لبيان تحقق الموضوع لا مفهوم لها كما هو واضح.

اما لماذا كانت الشرطية من القبيل المذكور؟ تكمن النكتة في كون الشرط هو المحقق للموضوع كما في رزق الولد ، فانه المحقق للولد ، اذ بدون رزق اللّه تعالى لا يمكن وجوده ، وهكذا في المقام ، فانه من دون مجيء الفاسق بالنبأ لا يتحقق نبأ الفاسق ، وكل شرطيه كان الشرط فيها محققا للموضوع فهي ما نصطلح عليها بالمسوقه لبيان تحقق الموضوع.

والجواب : ان كل شرطية لها موضوع وشرط. وفي المقصود من الموضوع والشرط في الآية الكريمة ثلاثة احتمالات على تقدير بعضها يكون لها مفهوم وعلى تقدير بعضها الآخر لا يكون لها ذلك. والاحتمالات هي :

ا - ان يكون الموضوع طبيعي النبأ لا خصوص نبأ الفاسق ويكون الشرط مجيء الفاسق بالنبأ ، فيصير المعنى هكذا : النبأ ان جاء به الفاسق وجب التبين عنه.

ص: 69

والشرط - وهو مجيء الفاسق - بناء على هذا الاحتمال وان كان يحقق النبأ الا ان مجيء الفاسق بالنبأ ليس هو الوسيلة الوحيدة لتحقق اصل النبأ بل يمكن تحققه بمجىء العادل ايضا ، واذا لم يكن مجىء الفاسق هو الوسيلة الوحيدة كان للآية مفهوم اذ مرّ ص 174 - 175 من الحلقة : ان الشرط اذا لم يكن هو الاسلوب الوحيد لتحقق الموضوع كان له مفهوم.

ب - ان يكون الموضوع نبأ الفاسق بالخصوص لا طبيعي النبأ ، ويكون الشرط مجيء الفاسق به ، والتقدير هكذا : نبأ الفاسق اذا جاء به الفاسق وجب التبين عنه ، وبناء عليه يكون الشرط هو الطريق الوحيد لتحقق الموضوع - اذ نبأ الفاسق بقيد كونه نبأ الفاسق لا يتحقق الا بمجىء الفاسق - ومعه لا يثبت المفهوم جزما.

ج - ان يكون الموضوع هو المخبر - اي الجائي بالخبر - ويكون الشرط فسقه ، والتقدير هكذا : المخبر ان كان فاسقا وجب التبين عنه. وبناء عليه يثبت المفهوم جزما لان الشرط ليس هو المحقق للموضوع ، اذ فسق المخبر لا يحقق وجود المخبر كما هو واضح.

اذن على الاحتمال الاول والثالث يثبت المفهوم دونه على الاحتمال الثاني ، وحيث ان الظاهر من الآية الكريمة هو الاحتمال الاول - لانها اخذت الموضوع طبيعي النبأ ، وقالت : ان جاءكم فاسق بنبأ ولم تقل : ان جاءكم فاسق بنبأ الفاسق ، وهكذا لم تقل : المخبر ان كان فاسقا بل قالت : ان جاءكم فاسق بنبأ فالنبأ هو الموضوع ، ومجيء الفاسق هو الشرط - فالمفهوم ثابت.

الثاني : ان الآية ذكرت في ذيلها تعليلا يدل على ان خبر العادل ليس حجة اذ عللت وجوب التبين عن نبأ الفاسق باحتمال اصابة القوم بالجهالة وعدم العلم ،

ص: 70

حيث قالت : ان تصيبوا قوما بجهالة ، اي مخافة ان تصيبوا قوما بالجهالة وعدم العلم ، وهذا يدل على ان كل خبر اذا لم يفد العلم فالتبين عنه واجب ، وخبر العادل حيث لا يفيد العلم فالتبين عنه واجب. وبكلمة اخرى : لو سلم دلالة الآية بقطع النظر عن التعليل على حجية خبر العادل لكن بسبب التعليل تدل على عدم حجيته ، وهذا نظير ما اذا قيل : لا تأكل الرمان لانه حامض ، فانه بقطع النظر عن التعليل يدل على النهي عن اكل خصوص الرمان ولكن مع الالتفات الى التعليل يستفاد ان كل حامض لا يجوز اكله وان لم يكن رمانا.

وقد اجيب عن هذا الاعتراض بعدة اجوبة نذكر منها ثلاثة :

1 - ان حصيلة الاعتراض ترجع الى معارضة التعليل للمفهوم على تقدير ثبوته ، ويمكن ان يقال : ان المعارضة بين المفهوم والتعليل هي من قبيل معارضة الخاص والعام ، فان التعليل عام يدل على ان كل خبر لا يفيد العلم فهو ليس حجة ، والمفهوم خاص يدل على ان خبر العادل حجة وان لم يفد العلم ، وواضح عند المعارضة بين الخاص والعام يخصص العام بالخاص فتصير النتيجة هكذا : كل ما لا يفيد العلم فهو ليس حجة الا خبر العادل فهو حجة وان لم يفد العلم.

ويمكن مناقشة الجواب المذكور بأنّا لا ندعي ان المفهوم منعقد وثابت ولكنه معارض بالتعليل حتى يقال ما تقدم ، بل ندعي ان التعليل ما دام قد اتصل بالمنطوق ولم يكن منفصلا عنه فلا ينعقد مفهوم اصلا ، اذ التعليل الدال على وجوب التبين حتى في خبر العادل يقتضي عدم انعقاد ظهور للآية في المفهوم ، اي لا يثبت لها ظهور في عدم وجوب التبين عن خبر العادل.

2 - ما ذكره الميرزا بناء على مسلكه في معنى جعل الحجية ، حيث مر

ص: 71

ص 25 من الحلقة انه يرى (1) ان المولى اذا قال جعلت الخبر حجة فمرجع ذلك الى اني جعلت الخبر علما وطريقا ، فمعنى جعل الحجية اذن هو جعل العلمية والطريقية. وقد استفاد قدس سره من هذا المسلك في موارد متعددة منها المقام حيث قال : بناء على المسلك المذكور يرتفع اشكال التعارض بين المفهوم والتعليل ، فان التعليل يقول : كل خبر لا يفيد العلم الوجداني فالتبين عنه واجب ، وهذا المقدار لا يتنافى مع المفهوم ، اذ المفهوم يقول ان خبر العادل لا يجب التبين عنه اي هو حجة ، وحيث ان معنى الحجية جعل العلمية فيصير معنى المفهوم : جعلت خبر العادل علما ، فخبر العادل خارج من موضوع التعليل لان موضوع التعليل هو الخبر الذي لا يفيد العلم ، والمفروض ان خبر العادل علم ومعه فلا منافاة. ثم ان هذا الخروج خروج تعبدي وليس حقيقيا ، اذ بجعل خبر العادل حجة لا يصير علما حقيقة بل علما تعبدا. ومثل هذا الخروج التعبدي يسمى بالحكومة. والدليل المخرج - بكسر الراء - يسمى بالحاكم ، والدليل الآخر المخرج منه يسمى بالمحكوم ، فالمفهوم حيث انه يخرج خبر العادل من التعليل فهو حاكم ، والتعليل الذي خرج منه خبر العادل محكوم (2).

ويرد على هذا الوجه الميرزائي انه مبني على مسلك جعل العلمية ونحن لا نسلمه ، وعلى تقدير تسليمه فالميرزا ذكر ان المفهوم يصير هكذا : خبر العادل

ص: 72


1- وهكذا السيد الخوئي « دام ظله »
2- قد يقال : ان جواب الميرزا هذا يتم على تقدير ثبوت المفهوم وانعقاده ، فانه بعد ثبوته يصير حاكما على التعليل ، ولكن مرّ سابقا ان التعليل ما دام متصلا بالمفهوم فلا ينعقد ظهور في المفهوم اصلا فكيف يصير حاكما على التعليل. والجواب : ان التعليل انما يمنع من انعقاد المفهوم فيما لو كان منافيا له ، فاذا قلنا ان المفهوم حاكم على التعليل فلا يكون منافيا له حتى يمنع من انعقاده.

علم ، وهذا شيء مقبول ، ولكن نقول : كما ان المفهوم جعل الحجية - اي العلمية - لخبر العادل كذلك المنطوق سلب الحجية عن خبر الفاسق ، واذا كانت الحجية الثابتة في المفهوم معناها جعل العلمية فيلزم ان يكون سلب الحجية الدال عليه المنطوق معناه عدم جعل العلمية فيصير المنطوق هكذا : خبر الفاسق ليس حجة اي ليس علما ، ثم بعد هذا نقول : ان التعليل بعمومه يريد توسعة الحكم الثابت في المنطوق - فحينما يقال : لا تاكل الرمان لانه حامض يكون التعليل مفيدا لتوسعة حرمة الاكل لكل حامض وان لم يكن رمانا - اي يريد ان يعمم وجوب التبين وعدم الحجية وبالتالي سلب العلمية عن كل خبر لا يفيد العلم الوجداني فيصير مفاد التعليل هكذا : كل ما لا يفيد العلم الوجداني فهو ليس حجة اي لا اجعله علما تعبدا. ثم نقول : لو ضممنا التعليل بعد توسعته الى المفهوم لم نجد بينهما حكومة بل كمال المعارضة ، فان التعليل يقول : كل خبر لا يفيد العلم الوجداني - ومنه خبر العادل - لم اجعله علما ، والمفهوم يقول : جعلت خبر العادل علما ، وبتعبير آخر : احدهما يقول : خبر العادل ليس علما ، والآخر يقول : خبر العادل علم ، وواضح ان مثل هذين اللسانين ليس بينهما حكومة بل هما متعارضان (1) ، اذ احدهما يثبت العلمية لخبر العادل والآخر ينفيها عنه ، وهذا نظير ما اذا قال شخص : زيد عالم ، وقال آخر : زيد ليس بعالم ، فهل ترى ان احدهما حاكم على الآخر؟ كلا ، بل هما متعارضان.

ولاجل ان يتضح المقصود اكثر نقول : ان هنا نكتتين لم يوجه الميرزا نظره

ص: 73


1- اي هما متعارضان بنحو العموم والخصوص ، فالتعليل عام والمفهوم خاص - وليس بينهما حكومة كما اعتقد الميرزا - ولكن لا يمكن ان يخصص المفهوم التعليل لما مر في الجواب الاول من عدم امكان التخصيص.

اليهما ، فهو قد التفت الى ان المفهوم يجعل الحجية لخبر العادل وبالتالي يجعله علما ، ونحن نسلم هذا ، ولكن هنا نكتتان احداهما : ان المفهوم كما يثبت الحجية والعلمية لخبر العادل كذلك المنطوق ينفي الحجية والعلمية عن خبر الفاسق. وثانيتهما : ان التعليل يوسع من عدم الحجية وسلب العلمية لكل خبر لا يفيد العلم الوجداني. وبعد الالتفات الى هذا يصير التعليل مفيدا لسلب العلمية عن خبر العادل بينما المفهوم يفيد جعل العلمية له فتحصل المعارضة بينهما ولا يكون احدهما حاكما على الآخر.

3 - ما ذكره الآخوند من ان التعليل لا ينافي المفهوم ، حيث ان هناك فرقا بين الجهل والجهالة ، فمعنى الجهل هو عدم العلم ، بينما الجهالة ليست بمعنى عدم العلم بل بمعنى الفعل السفهي ، اي الفعل الذي لا ينبغي صدوره من العاقل ، ولعل الاستعمالات العرفيه اليوم تشهد بذلك ، فحينما يقال : ما هذه الجهالة منك يراد : ما هذا الفعل السفهي الذي لا ينبغي صدوره من العاقل ولا يراد : ما هذا الفعل غير العلمي (1).

وبعد هذا نقول : بناء على ان الجهالة بمعنى الفعل السفهي لا يكون التعليل عاما لخبر العادل ، اذ الاخذ بخبره ليس سفهيا ومما لا ينبغي صدوره من العاقل. وبكلمة ثانية : ان التعليل يدل على عدم حجية كل خبر يكون الاخذ به سفهيا ، وواضح ان الاخذ بخبر العادل ليس سفهيا حتى يكون التعليل دالا على عدم حجيته (2).

ص: 74


1- والشيخ المظفر قدس سره في كتابه « اصول الفقه » ادعى انه لم يجد في اللغة استعمال الجهالة في الجهل وعدم العلم ابدا.
2- واورد في التقرير 4 / ص 360 على هذا الجواب : انه لا معين لحمل الجهالة على السفاهة ، ومن المحتمل ارادة عدم العلم منها.
التقريب الثاني للاستدلال بآية النبأ.

ذكرنا فيما سبق ان اية النبأ يمكن الاستدلال بها على حجية خبر العادل بمفهوم الشرط تارة ومفهوم الوصف اخرى. وفيما سبق كنا نتحدث عن التقريب الاول وهو مفهوم الشرط ، ومن الآن نريد التمسك بمفهوم الوصف (1). وتقريب ذلك : ان كلمة « فاسق » وصف يدل بالمفهوم على انه اذا جاءكم عادل بنبأ فلا تتبينوا ، وهذا هو مطلوبنا. ولأجل ان يتم هذا التقريب لا بد وان نبني على احد امرين :

ا - ثبوت المفهوم للوصف خلافا لما تقدم في مبحث الوصف - وهو المشهور ايضا - من عدم ثبوته.

ب - ثبوت المفهوم لوصف الفاسق في خصوص الآية الكريمة - وان لم يكن له ذلك في سائر الموارد - باعتبار ان لازم عدم ثبوت المفهوم له وجوب التبين عن خبر العادل كما يجب عن خبر الفاسق ، ومع ثبوته نسأل : هل ان وجوب التبين

ص: 75


1- ينبغى الالتفات الى انه اذا اردنا اخذ المفهوم من الشرط غيّرنا الشرط والجزاء فقط دون غيرهما ، فحينما نقول : اذا جاءك زيد فاكرمه فالشرط « اذا جاءك » والجزاء « فاكرمه » وحينما نأخذ المفهوم نغيرهما ونقول : اذا لم يجىء زيد فلا تكرمه ، واما في مفهوم الوصف فنغير الحكم والوصف ففي قولنا اكرم الرجل العالم يصير المفهوم لا تكرم الرجل الجاهل. وباتضاح هذا نأتي الى الآية الكريمة ، فالمفهوم فيها ان اردنا اخذه من الشرط صار المعنى : ان لم يجيء الفاسق بنبأ فلا تتبينوا ، بينما لو اردنا اخذه من الوصف صار المعنى : ان جائكم عادل بنبأ فلا تتبينوا. اذن لو اردنا اخذ المفهوم من الوصف فالشرط لا نغيره بل نغير وصف الفاسق الى العادل ، واما اذا اردنا اخذه من الشرط فالوصف لا نغيره بل نغير الشرط.

الثابت لخبر العادل هو نفس وجوب التبين الثابت لخبر الفاسق او غيره؟ وكلا الاحتمالين باطل.

اما الاول : فلأن وجوب التبين الثابت لخبر الفاسق بما انه مقيد بالفاسق فلا بد وان يكون منتفيا عن العادل وغير ثابت له ، اذ الحكم المقيد بقيد خاص لا بد وان ينتفي عند انتفاء ذلك القيد الخاص طبقا لقاعدة الاحتراز في القيود المتقدمة ص 134 من الحلقة. اذن وجوب التبين الثابت للعادل لا يمكن ان يكون هو نفس وجوب التبين المقيد بالفاسق بل لا بد وان يكون غيره.

واما الثاني - وهو مغايرة وجوب التبين الثابت للعادل لوجوب التبين الثابت للفاسق - فلأن تشريع وجوب التبين بنحو يختص بالعادل بحيث يكون موضوعه خصوص العادل امر غير محتمل ، فان كون المخبر عادلا لا يحتمل اقتضاءه لوجوب التبين ، بل المقتضي له اما مطلق الخبر او خصوص ما اذا كان المخبر فاسقا. هذه حصيلة الاستدلال بمفهوم الوصف.

ويرده : ان كلا الامرين اللذين يتوقف على احدهما الاستدلال باطل.

اما الاول - وهو ثبوت المفهوم للوصف بشكل عام - فلما تقدم في مبحث الوصف من عدم ثبوت المفهوم له خصوصا فيما اذا ذكر من غير موصوف - كما في الاية ، فان وصف الفاسق ذكر وحده بلا موصوف ، اذ لم يقل « ان جاءكم رجل فاسق بنبأ » ، بل قيل ان جاءكم فاسق - ووجه الخصوصية ان الوصف اذا ذكر بلا موصوف كان اشبه باللقب (1) ، وواضح لدى كل انسان عرفي ان اللقب لا

ص: 76


1- اللقب هو كل لفظ يعد ركنا في الكلام كزيد وقائم في قولنا زيد قائم ، فانه تتركب منهما الجملة ولا يمكن الاستغناء عنهما فكل منهما يسمى باللقب. وهو لا مفهوم له والا كان اللازم ان نستفيد من كلمة « زيد » ان غير زيد - كعمرو وخالد - ليس قائما وهو باطل جزما ، اذ اثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عما عداه ، وهكذا كلمة « قائم » ليس لها مفهوم والا استفدنا منها نفي الصفات الاخرى غير القيام عن زيد اي نستفيد ان زيدا ليس بمجتهد ولا بمؤمن ولا بشاعر و .... وهو باطل جزما ، فان اثبات صفة القيام لزيد لا يدل على نفي غيرها عنه. وبهذا اتضح ان كلمة « فاسق » في الاية حيث ذكرت وحدها بلا موصوف فهي ركن اساسي لا يستغنى عنه فتكون من اللقب ، وهذا بخلاف ما اذا ذكر الموصوف معها فانه يمكن الاستغناء عنها حينذاك فتكون وصفا لا لقبا.

مفهوم له.

واما الثاني - وهو ثبوت المفهوم لوصف الفاسق في خصوص الآية الكريمة - فلأن ثبوت وجوب التبين لخصوص خبر العادل انما يكون باطلا فيما لو كان وجوب التبين وجوبا مولويا تكليفيا اذ لا يحتمل ثبوت التكليف بالتبين لخصوص العادل ولكنا نقول انه ليس وجوبا تكليفيا بل ارشاد الى عدم الحجية وكناية عن ذلك ، فكانه قيل ان خبر العادل ليس حجة ولا يقتضي الحجية وليس موضوعا لها ، وواضح ان هذا شيء معقول وان كان اثبات التكليف بوجوب التبين لخبر العادل بخصوصه غير معقول.

قوله ص 224 س 12 كما تقدم في مباحث الامر : اي ص 118.

قوله 225 س 1 لان الشرطية منتفية في كلتا الحالتين : اي ان كون جواز العمل بخبر العادل ليس مشروطا بالتبين يصدق سواء كان العمل بخبر العادل جائزا من دون حاجة الى تبين ام كان غير جائز حتى بعد التبين.

قوله ص 225 س 11 تصويرها : المناسب : تصويرهما.

قوله ص 226 س 8 كما تقدم توضيحه : اي ص 174 - 175 من الحلقة.

قوله ص 226 س 12 اسراء الحكم المعلل : وهو وجوب التبين الذي هو

ص: 77

كناية عن عدم الحجية.

قوله ص 226 س 13 الى سائر موارد عدم العلم : اي ومنها خبر العادل.

قوله ص 227 س 6 عدم انحصار الجزاء : وهو وجوب التبين.

قوله ص 228 س 3 في رتبة واحدة : اي ليس احدهما حاكما على الآخر بل كلاهما ناظر الى شيء واحد وهو خبر العادل واحدهما يثبت له العلمية والآخر ينفيها عنه.

قوله ص 228 س 8 غير المتزن : اي غير العقلائي.

قوله ص 228 س 10 حيث انيط وجوب التبين بفسق المخبر : لا بد من الالتفات الى انه في الوجه الاول للاستدلال - وهو التمسك بمفهوم الشرط - حينما اراد قدس سره بيان مفهوم الشرط عبّر بان الآية ربطت وجوب التبين بمجىء الفاسق ، واما هنا اي عند بيان مفهوم الوصف لم يعبر ان الآية ربطت وجوب التبين بمجىء الفاسق بل عبّر ربطته بفسق المخبر. ووجه تغيير التعبير واضح على ما اشرنا له سابقا ، فانه عند اخذ مفهوم الشرط لا نتوجه الى الوصف وهو فسق المخبر بل الى الشرط اي مجىء الفاسق فنقول ان الآية علقت وجوب التبين على مجىء الفاسق الذي هو الشرط ، واما عند اخذ مفهوم الوصف فالامر بالعكس تاما اي لا نتوجه الى الشرط بل الى الوصف فنقول ان الاية علقت وجوب التبين على فسق المخبر الذي هو الوصف.

قوله ص 228 س 15 انتفاء شخص ذلك الوجوب : اي انتفاء وجوب التبين الثابت للفاسق ، ان مثل هذا الوجوب لا بد وان يكون منتفيا عن العادل ، فلو كان ثابتا له فهو وجوب آخر غير الوجوب الثابت للفاسق.

قوله ص 229 س 2 له : اي لخبر العادل.

ص: 78

قوله ص 229 س 2 خلاف القاعدة المذكورة : اي قاعدة الاحتراز في القيود.

قوله ص 229 س 5 هذا : اي الثابت لخبر العادل.

قوله ص 229 س 9 اما اللحاظ الاول : هذا رد للامر الاول الذي يبتني عليه الاستدلال بمفهوم الوصف. وقوله « واما اللحاظ الثاني » فهو اشارة الى رد الامر الثاني.

قوله ص 229 س 13 ليس حكما مجعولا : اي ليس حكما تكليفيا مجعولا.

قوله ص 229 س 14 ومرجع ربطه بعنوان : اي عنوان خبر العادل.

قوله ص 229 س 17 بهذا المعنى : اي بمعنى عدم الحجية. الاية الثانية.

قوله ص 230 س 1 ومنها آية النفر ... الخ : والاية الثانية التي استدل بها على حجية الخبر قوله تعالى في سورة برائة : « فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون » (1). وتقريب الاستدلال بها يتوقف على مقدمات ثلاث :

1 - انها دلت على وجوب حذر القوم الباقين الذين انذرهم المنذرون.

2 - ان وجوب الحذر ثابت مطلقا ولا يختص بما اذا حصل العلم من انذار المنذرين.

ص: 79


1- - مضمون الآية الكريمة ان كل قبيلة من القبائل يلزم ان يرحل جماعة منها الى بلد العلم كالمدينة المنورة في ذلك الزمان ليتعلموا الفقه الاسلامي ثم يرجعوا الى اوطانهم لينذروا قومهم الباقين ليحذر هؤلاء الباقون. وقد يبين معنى الآية بشكل آخر.

3 - ان وجوب الحذر مطلقا يدل على حجية انذار المنذرين ، والا لما وجب الحذر الا عند ما يحصل العلم من انذارهم.

وعلينا اثبات المقدمة الاولى ، اذ بامكان قائل ان يقول انه الآية قالت « لعلهم يحذرون » ، وكلمة « لعل » لا تدل على الوجوب ، ومعه كيف يستفاد وجوب الحذر؟ ولا ثبات ذلك يمكن تقديم بيانات ثلاثة :

ا - ما في معالم الاصول من ان كلمة « لعل » وان لم تدل على الوجوب لكنها على الاقل تدل على ان ما يقع بعدها شيء محبوب وراحج ، فالحذر الواقع بعد « لعل » شيء محبوب ، وهذا يفهمه كل من يقرأ الآية. واذا ثبت رجحان الحذر ثبت كونه واجبا ، فرجحان الحذر يستلزم وجوبه. ووجه ذلك : ان الحذر اذا كان راحجا فالمقتضي له - الحذر - لا بد وان يكون ثابتا والا كيف يكون راجحا ، ومع ثبوت المقتضي للحذر يلزم وجوبه ، اذ كيف لا يكون الحذر واجبا مع افتراض ثبوت المقتضي له.

وباختصار : توجد ملازمة بين رجحان الحذر ووجوبه ، وحيث ان الآية تدل على رجحانه يثبت وجوبه ايضا (1).

ب - ان الغاية المقصودة من النفر هي الحذر ، فالنفر والانذار وجبا لأجل ان يتحقق الحذر ، وبما ان النفر واجب (2) فغايته لا بد وان تكون واجبة ايضا ، لان غاية الواجب لا بد وان تكون واجبة ، اذ كيف يكون الشيء واجبا ولا تكون

ص: 80


1- الملازمة بين الرجحان والوجوب يدعيها صاحب المعالم في خصوص الحذر لا في جميع الاشياء ، ومعه فلا يشكل بان غسل الجمعة وغيره من المستحبات راجح وليس بواجب.
2- الدليل على كون النفر واجبا كلمة « لو لا » ، فانها تدل على التحضيض اي الطلب بشدة ، والطلب بشدة عبارة اخرى عن الوجوب.

غايته - التي من اجلها وجب - واجبة.

ج - ان النفر والانذار اذا كانا واجبين ولم يكن الحذر واجبا يلزم محذور اللغوية ، اذ كأنه قيل يجب عليكم ايها النافرون ان ترتقوا المنابر وتحذروا الناس ولكن لا يجب على الناس الحذر من انذاركم والاعتناء بكلامكم ، انه لغو واضح.

وبهذه البيانات الثلاثة تثبت تمامية المقدمة الاولى وهي ان الحذر واجب.

ويمكن بنفس هذه البيانات الثلاثة اثبات المقدمة الثانية - وهي ان الحذر واجب حتى عند عدم حصول العلم من كلام المنذر - فانها كما تثبت اصل وجوب الحذر كذلك تثبت كون وجوبه ثابتا بشكل مطلق ولا يختص بحالة حصول العلم. وبهذا كله يتم تقريب الاستدلال بالآية على حجية الخبر.

ويمكن رده بمناقشة جميع مقدماته الثلاث.

مناقشة المقدمة الاولى.

اما الاولى - وهي ان الحذر واجب - فلبطلان جميع بياناتها الثلاثة.

اما البيان الاول فلما ذكره الشيخ الاصفهاني قدس سره من ان كلمة « لعل » لم توضع لافادة الترجي - اي محبوبية ما بعدها - بل لافادة ترقب وتوقع حصول ما بعدها ، فحينما يقال لعل زيدا يأتي من السفر يستفاد ان المتكلم يترقب المجيء ولا يستفاد ان المجيء شيء محبوب له. ومما يدل على ذلك دخولها على المبغوض احيانا كما فى دعاء ابي حمزه الثمالي « لعلك عن بابك طردتني » اذ من الواضح ان الطرد عن باب اللّه سبحانه امر مبغوض للعبد وليس محبوبا. ومع التسليم بعدم دلالة كلمة « لعل » على محبوبية مدخولها فلا يصح ان يقال اذا ثبتت محبوبية الحذر ثبت وجوبه.

ص: 81

واما البيان الثاني فلانا لا نسلم ان غاية الواجب واجبة بل لربّ شيء يكون واجبا ولا تكون غايته واجبة كما لو فرض ان غاية معينة تحصل بمجموعة اشياء وفرض ايضا ان صبّ الوجوب على تلك الغاية يلزم منه العسر والحرج ولكن لا يلزم من صبه على بعض تلك الاشياء التي تحصل بها الغاية ، ففي مثله لا بد من توجيه الوجوب الى ذلك الشيء الذي تحصل به الغاية ولا يلزم من وجوبه الحرج من دون توجيهه الى نفس الغاية حذرا من الحرج ، وعند ذلك يصير الشيء واجبا دون ان تصير غايته واجبة. ولتوضيح ذلك نذكر المثال التالي : ان تنظيف الاسنان يحصل بمجموعة اشياء : استعمال المسواك ، واستعمال معجون الاسنان ، واستعمال ماء الملح ، ان هذه الثلاثة اذا اجتمعت تحصل نظافة الاسنان بشكل كامل ، ولكن توجيه الوجوب لها جميعا يلزم منه العسر على المكلف ، بخلاف توجيهه الى خصوص استعمال المسواك فلا يلزم منه ذلك ، وفي مثله لا يوجه الحاكم الوجوب الى الغاية - اي تنظيف الاسنان - لان لازمه وجوب الاشياء الثلاثة جميعا وذلك يلزم منه العسر بل يوجهه الى استعمال المسواك فقط ، ومعه فاستعمال المسواك يصير واجبا بدون ان تصير غايته واجبة. وان شئت قلت : ان المولى في مثل هذه الفرضية لا يسد باب عدم الغاية - وهي التنظيف - سدا كاملا ، اذ لازم السد الكامل توجيه الوجوب اليها - الغاية - وقد فرضنا ان توجيهه اليها يلزم منه الحرح ، فلا بد وان نفترض انه يسد بابا من ابواب عدم الغاية وذلك بتوجيه الوجوب الى استعمال المسواك فقط ، فان لازم ذلك سد باب عدم الغاية ولكن لا سدا كاملا بل من جهة استعمال المسواك ، فالتنظيف من ناحية استعمال المسواك واجب ولا يجوز عدمه ، لان الحاكم سد باب عدمه بسبب توجيه الوجوب اليه - اي الى استعمال المسواك - واما من الناحيتين

ص: 82

الاخريتين فلم يسده.

واما البيان الثالث - وهو لزوم اللغوية من وجوب الانذار مطلقا بدون وجوب الحذر مطلقا - فلأن وجوب النفر والانذار مطلقا لا تلزم منه اللغوية مادام الانذار يحصّل العلم في كثير من الاحيان.

ولرب قائل يقول : ان المناسب للحاكم - بناء على هذا - ان يقول للمنذر ان انذارك متى ما كان يحصّل العلم للاشخاص الباقين في البلد وجب - الانذار - عليك وبالتالي يجب على الباقين الحذر ، ومتى لم يحصّل العلم فلا يجب عليك وبالتالي لا يجب على الباقين الحذر ، وليس من المناسب ان يقول الحاكم للمنذر يجب عليك الانذار مطلقا ولكن لا يجب على الباقين الحذر الا عند حصول العلم لهم ، اذ لازمه لغوية اطلاق وجوب الانذار.

والجواب : ان المنذر لو كان بامكانه تمييز ان انذاره متى يفيد العلم للباقين ومتى لا يفيده فمن الوجيه ان يقال لا وجه لجعل وجوب الانذار بشكل مطلق ما دام الحذر لا يجب الا عند حصول العلم ، اما اذا فرض ان المنذر لا يمكنه ذلك بل يحتمل دائما ان يكون انذاره مفيدا للعلم فمن الوجيه جعل وجوب الانذار بشكل مطلق من دون تقييده بما اذا كان مفيدا للعلم.

وعليه فالمقدمة الاولى قابلة للمناقشة بجميع بياناتها الثلاثة.

هذا ولكن بالامكان ان يقال بتماميتها - المقدمة الاولى - في بعض الموارد لتمامية البيان الاول احيانا ، فان الاصفهاني ذكر عند مناقشته للبيان الاول ان كلمة « لعل » لا تدل على المحبوبية بل على الترقب ، وهذا وان كان تاما الا ان بامكان السياق تشخيص شكل الترقب وأنه ترقب محبوب او ترقب مبغوض ، ولا اشكال في ان القارىء للاية الكريمة يفهم من سياقها كون الحذر شيئا محبوبا

ص: 83

وان ترقبه ترقب للمحبوب لا للمبغوض.

مناقشة المقدمة الثانية.

ناقش الشيخ الاعظم المقدمة الثانية بمناقشتين :

1 - ان الموجب لاستفادة وجوب الحذر حتى في حالة عدم حصول العلم ليس هو الا الاطلاق بان يقال ان اطلاق وجوب الحذر وعدم تقييده بحالة حصول العلم يدل على وجوب الحذر حتى في حالة عدم حصول العلم ، ولكن الاطلاق المذكور غير ثابت ، اذ الآية الكريمة ليست في مقام البيان من ناحية وجوب الحذر ليتمسك باطلاقها ، بل في مقام البيان من ناحية وجوب الانذار ، وعليه فالاطلاق الذي يمكن التمسك به هو اطلاق وجوب الانذار لا اطلاق وجوب الحذر.

ولرب قائل يقول : ان اطلاق وجوب الانذار بدون اطلاق وجوب الحذر تلزم منه اللغوية ، اذ لا معنى لوجوب الانذار عند عدم افادة قول المنذر للعلم مع افتراض كون وجوب الحذر منحصرا بحالة حصول العلم.

والجواب عن ذلك مر سابقا ، اذ قلنا ان المكلف حيث لا يمكنه تشخيص متى يفيد انذاره العلم فلا يمكن للمولى ان يقول : يجب عليك ايها المنذر الانذار فيما اذا كان انذارك مفيدا العلم ، بل يوجب الانذار مطلقا من باب الاحتياط ، اذ كل مورد من الموارد يحتمل ان يكون انذار المنذر فيه مفيدا للعلم.

2 - يمكن ابراز قرينة خاصة على كون مقصود الآية وجوب الحذر في خصوص حالة حصول العلم ، وهي : ان الآية اوجبت النفر لاجل حصول التفقة. وما هو التفقه؟ انه عبارة عن تعلم الاحكام الشرعية الصحيحة دون التوهمية ،

ص: 84

فبعض الناس قد يتعلم احكاما يعتقد خطأ انها احكام شرعية ولكنها ليست من الشرع في شيء ، ان تعلم مثل هذه الاحكام ليس تفقها ، وانما التفقه تعلم الاحكام التي هي من الشرع حتما. وبعد هذا نقول : ان الآية اوجبت انذار الاحكام الفقهية ، اي انذار الاحكام التي هي من الشرع حتما ، وبعد تحقق الانذار المذكور أوجبت الحذر. اذن الحذر لا يجب الا اذا احرز الشخص المتخلف في البلد ان المنذر قد انذره بالاحكام الشرعية دون التوهمية. وهذا هو المطلوب ، اذ ثبت ان الحذر لا يجب الا بعد تحقق العلم بكون الاحكام احكاما شرعية ، فتحقق العلم شرط في وجوب الحذر.

ثم ان حاصل المناقشتين يرجع الى عدم وجود اطلاق في الاية يستفاد منه وجوب الحذر في حالة عدم حصول العلم.

والفرق بين المناقشتين ان الاولى كانت تدعي عدم وجود اطلاق في الآية بدون ان تدعي استفادة التقييد ، بينما الثانية تدعي مضافا الى عدم وجود الاطلاق امكان استفادة تقييد وجوب الحذر بحالة العلم.

مناقشة المقدمة الثالثة.

واما المقدمة الثالثة - وهي ان وجوب الحذر الشامل لحالة عدم حصول العلم يدل على حجية الانذار تعبدا - فيرد عليها انا لو سلمنا دلالة وجوب الحذر مطلقا على حجية الانذار تعبدا يمكننا ان نقول ان حجية الانذار تعبدا لا تلازم حجية الخبر ، فلعل الانذار حجة بدون ان يكون الخبر حجة. ويمكن ايضاح ذلك بوجهين :

1 - ان الانذار عنوان اخر غير عنوان الاخبار ، فانه - الانذار - وان كان

ص: 85

عبارة اخرى عن الاخبار ولكن لاكل اخبار ، بل خصوص الاخبار المسبوق باحتمال الخطر ، فاذا كان احتمال الخطر ثابتا سابقا وحصل بعده الاخبار سمي الاخبار حينذاك بالانذار. ومتى يكون احتمال الخطر ثابتا في المرحلة السابقة؟ يتحقق ذلك في بعض الحالات نذكر منها ثنتين :

ا - اذا كان لدى المكلف علم اجمالي بثبوت بعض الاحكام في حقه ، فان كل مكلف بما انه متشرع بالشريعة الاسلامية يعلم اجمالا بثبوت بعض الاحكام عليه ، فان معنى الشريعة ليس الا مجموعة معينة من الاحكام ، فكل مكلف اذن يعلم بثبوت مجموعة من الاحكام في حقه وان كان لا يعرفها على التفصيل. وبعد هذا نقول اذا سلم بوجود علم اجمالي قبل اخبار زرارة مثلا برواية معينة فالحكم الذي يخبر عنه وان وجب امتثاله لكن لا من جهة حجية الخبر بل لأن الحكم منجز - بالعلم الاجمالي المفترض - بقطع النظر عن اخباره ، فالعلم الاجمالي السابق هو الحجة والمنجز للحكم دون الرواية.

ب - اذا لم يكن لدى المكلف علم اجمالي بالاحكام بالنحو المشار له سابقا بل كان لديه شك في ثبوتها فيمكن ان يقال ان الشك المذكور منجز ايضا مادام المكلف لم يفحص في الادلة ، فالشك في حرمة التدخين قبل الفحص عن ثبوتها منجز لها ولا تجري البراءة عنها ، ومع تنجز الحرمة بالشك قبل الفحص فاخبار زرارة عن الحرمة لا يكون هو الحجة المنجزة لها بل الحجة هو الشك قبل الفحص الثابت قبل اخبار زرارة.

2 - لو بنينا على مسلك حق الطاعة القائل بمنجزية احتمال التكليف عقلا كما هو المختار فيمكن ان يقال ان زرارة لو اخبر عن حكم فالحكم يتنجز لكن لا لحجية الاخبار ولا لأجل العلم الاجمالي السابق ولا للشك قبل الفحص بل من

ص: 86

جهة ان الاخبار عن الحكم يولّد احتمال ثبوت الحكم ، وبما ان احتمال التكليف منجز على مسلك حق الطاعة فيكون الحكم ثابتا في حقنا من باب منجزية احتمال التكليف وليس من باب حجية الخبر.

وباختصار : لو سلمنا دلالة الآية على حجية الحذر تعبدا فلا يثبت بذلك حجية الاخبار اذ لعل وجوب الحذر تعبدا ليس لحجية الاخبار تعبدا بل للعلم الاجمالي السابق او لأن الشك قبل الفحص منجز او لتوليد الأخبار عن التكليف احتمال ثبوته.

قوله ص 230 س 6 انه وقع : اي التحذر.

قوله ص 230 س 7 الدالة على المطلوبية : المراد من المطلوبية الرجحان والمحبوبية.

قوله ص 230 س 8 مبرر : اي مقتضي

قوله ص 230 س 10 للنفر الواجب : واستفدنا وجوبه من كلمة « لعل » الدالة على التحضيض وهو الطلب بشدة.

قوله ص 231 س 2 مساوق للحجية شرعا : اي لحجية الاخبار تعبدا. والمراد من الحجية تعبدا ان الخبر حجة حتى اذا لم يفد العلم.

قوله ص 231 س 7 لا الترجي : الترجي هو توقع المحبوب.

قوله ص 231 س 7 مرغوبا عنه : اي مبغوضا.

قوله ص 231 س 8 والاعتراض على ثاني : عطف على الاعتراض في قوله س 5 « بالاعتراض ».

قوله ص 231 س 12 وسد باب من ابواب عدمها : هذا عطف تفسير لقوله « تقريب المكلف نحو الغاية ».

ص: 87

قوله ص 231 س 14 وسد كل ابواب عدمها : عطف تفسير لقوله التكليف بها.

قوله ص 231 س 15 والاعتراض على ثالث : عطف على الاعتراض في قوله س 5 « بالاعتراض ».

قوله ص 231 س 16 مع عدم الحجية التعبدية : اي مع عدم حجية الانذار تعبدا.

قوله ص 232 س 1 او مساهمته : اي ان المنذر تارة يفيد انذاره العلم للسامع واخرى يفيد العلم بعد انضمام انذار بقية المنذرين اليه ، فانذار المنذر تارة يكون علة تامة لحصول العلم واخرى جزء العلة ، والمراد من المساهمة كون الانذار جزء العلة.

قوله ص 232 س 4 وهذه المناقشة : اي اصل مناقشة المقدمة الاولى. والمقصود ان مناقشة المقدمة الاولى ليست تامة في جميع الموارد لان البيان الاول يمكن ان يكون تاما في بعض الموارد.

قوله ص 232 س 7 بالسباق : الصواب : بالسياق.

قوله ص 232 س 8 للاول : متعلق بقوله « تعيين ». والمراد من الاول كون الترقب ترقب المحبوب.

قوله ص 232 س 12 لم تسق : اي ليست في مقام البيان. وقوله « من حيث الاساس » اي من الاول.

قوله ص 233 س 3 او مساهمته فيه : مر معنى المساهمة قبل اسطر.

قوله ص 233 س 4 من وجود قرينة : كان من المناسب الاشارة الى ان معنى التفقه هو تعلم الاحكام الشرعية الصحيحة دون التوهمية ، فان ذلك مقدمة

ص: 88

مهمة يتوقف عليها الاستدلال ، وقد اشار لها الشيخ الاعظم في رسائله.

قوله ص 233 س 7 في ذلك : اي في كون الانذار انذارا بما تفقّه.

قوله ص 233 س 12 والمستتبع : عطف تفسير للمنجز ، وقوله « بجعل الشارع » متعلق بالمنجز.

الاستدلال على حجية الخبر بالسنة.

تقدم ان الادلة على حجية الخبر هى الكتاب والسنة والعقل ، وتحدثنا فيما سبق عن آيتين من الكتاب الكريم ، واتضح ان الاستدلال بآية النبأ تام ، والآن نتحدث عن الدليل الثاني وهو السنة الشريفة. ولكن ما هو الطريق لاثبات السنة؟ وبكلمة اخرى ما هو الطريق لا ثبات راي المعصوم علیه السلام في مسألة حجية الخبر؟ يوجد في هذا المجال طريقان :

1 - التمسك بالاخبار الكثيرة الدالة على حجية الخبر فانها تدل على ان رأي المعصوم علیه السلام هو الحجية.

2 - التمسك بسيرة المتشرعة وسيرة العقلاء الجارية على التمسك بالخبر ، فانه بعد امضائها من قبله علیه السلام يثبت ان رأيه علیه السلام هو حجية الخبر.

اما الطريق الاول - وهو التمسك بالاخبار الكثيرة - فقد يشكل عليه بان التمسك بالاخبار لا ثبات حجية الخبر دور واضح ، اذ ما دام لم تثبت حجية الخبر كيف يتمسك لا ثبات حجيته بنفس الخبر؟ والجواب : انا نتمسك بالاخبار التي نقطع بصدورها - اما لتواترها او احتفافها بالقرائن القطعية - لا بمطلق الاخبار ، ومعه فلا دور ، اذ لا محذور في التمسك بالخبر المقطوع بصدوره لا ثبات حجية الخبر الذي لا يقطع بصدوره.

ص: 89

ثم ان الاخبار التي يراد التمسك بها في المقام يمكن انهاؤها الى عشر طوائف ، وكل طائفة تدخل تحتها مجموعة من الاخبار (1). وسيتضح انها قاصرة الدلالة على المطلوب ، وهي.

1 - ورد ان الراوي الجليل يونس بن عبد الرحمن الفّ كتابا في الحديث اسمه يوم وليلة عرضه بعض الاصحاب على الامام العسكرى علیه السلام وطلب منه تقريضه فقال علیه السلام « هذا ديني ودين آبائي وهو الحق كله » ان هذه الرواية وامثالها تشكّل الطائفة الاولى وتدل على حجية الخبر ، اذ لو لا ذلك لم يكن معنى لقوله علیه السلام « هذا ديني ودين آبائى ».

ويردها : انها تدل على شهادة الامام العسكري علیه السلام بكون الاخبار المسجلة في كتاب يوم وليلة صادرة منهم علیه السلام وكأنه يريد القول ان الاخبار المسجلة في كتاب يونس صادرة يقينا من آبائي علیهم السلام ، وهذا لا ربط له بمقامنا ، فانا نتكلم عن ان الخبر الذي لا نعلم بصدوره هل هو حجة تعبدا او لا.

2 - ورد في روايات كثيرة الحث على حفظ الحديث من الضياع وكتابته والثناء على المحدثين. وكمثال لذلك الحديث المشهور « من حفظ على امتي اربعين حديثا بعثه اللّه فقيها عالما يوم القيامه » (2) ، فان الخبر اذا لم يكن حجة فلا وجه للحث على حفظه ، اذ من اللغو الامر بحفظ ما ليس حجة.

ويردها : ان الامر بحفظ الحديث لا يدل على حجيته ، اذ يمكن ان لا تكون الاحاديث حجة ومع ذلك يكون حفظها في نفسه من المستحبات بل من

ص: 90


1- وهي مذكورة في كتاب جامع احاديث الشيعة 1 / باب حجية اخبار الثقات ، والوسائل 18 باب 8 ، 11 من ابواب صفات القاضي.
2- ولاجل هذا الحديث قام جماعة بتأليف كتاب بعنوان « اربعون حديثا ».

الواجبات من باب ان حفظ الشريعة لا يتحقق الا بحفظ الاحاديث (1).

3 - ورد عن الامام الصادق علیه السلام انه قال لأبان بن تغلب : اذا قدمت الكوفة فارو لاهل الكوفة هذا الحديث : من شهد ان لا اله الا اللّه مخلصا وجبت له الجنة. ان هذا الخبر وامثاله يشكّل الطائفة الثالثة. وتقريب الاستدلال به : ان الخبر اذا لم يكن حجة فلا وجه للامر بروايته ، فان الامر برواية ما ليس حجة لغو.

والجواب : يكفي لزوال اللغوية افتراض ان بعض السامعين للحديث يحصل لهم اطمئنان ووثوق بصدوره ، فكأنه قيل : انقله كيما اذا حصل الاطمئنان للبعض عمل به ، وواضح ان محل الكلام هو الخبر الذي لا اطمئنان بصدوره.

4 - ورد ان المنقول اليه الحديث ربما يكون افقه من الناقل ، ففي رواية ابن ابي يعفور عن ابي عبد اللّه علیه السلام « ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خطب الناس في مسجد الخيف فقال : نضّر اللّه عبدا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلّغها من لم يسمعها ، فربّ حامل فقه غير فقيه وربّ حامل فقه الى من هو افقه منه ». وتقريب الاستدلال : ان نقل الخبر اذا لم يكن حجة فكيف يصير المنقول اليه افقه.

والجواب : ان حجية الاحاديث للمنقول اليه اذا كانت هي الموجب لأفقهيته فيلزم ان يكون الناقل دائما هو الافقه ، لان المنقول اليه لا تثبت عنده الاحاديث - لو كان نقلها حجة - الا ثبوتا تعبديا ولا تثبت له ثبوتا حقيقيا ، بينما الناقل حيث انه سمع الاحاديث من النبي صلی اللّه علیه و آله فهي ثابتة له ثبوتا حقيقيا فيلزم ان يكون هو الافقه دائما. وعليه لا بد وان يكون الموجب لا فقهية المنقول اليه شيئا

ص: 91


1- يبقى ان نقل الحديث اذا لم يكن حجة فلا وجه للامر بحفظه بنحو الاستحباب او الوجوب. والجواب : لعل النكته في الاستحباب او الوجوب هو ان الحديث اذا حفظ وسجل فلربما يحصل من كثرة تسجيله التواتر او الاحتفاف بالقرينة القطعية.

آخر غير كون نقل الروايات حجة الا وهو ان المنقول له قد يفهم من الحديث نكات ومعان معينة لا يفهمها الناقل ولا يلتفت لها. وبكلمة اخرى : ان النبي صلی اللّه علیه و آله ليس بصدد بيان ان نقل الحديث حجة بل بصدد ان نقل الحديث اذا كان حجة في مورد من الموارد - كما لو كان الحديث مما اطمئن بصدوره - فالشخص المنقول له لربما يكون افقه باعتبار التفاته الى نكات معينة لم يتوجه لها الناقل بل توجه الى الالفاظ فقط.

5 - ورد في احاديث كثيرة تحذير النبي صلی اللّه علیه و آله والائمة علیهم السلام من الكذب عليهم ، ففي بعضها : من كذب عليّ فليتبوء مقعده من النار ، كما وورد التحذير من الكاذبين عليهم ، والتحذير من الكذب والكاذبين يدل على حجية الخبر ، اذ لو لم يكن حجة لما كان هناك داع لجعل الاحاديث الكاذبة واختلاقها فانه بلا فائدة ولما كان هناك داع لتحذير اهل البيت علیهم السلام من الكذب والكاذبين.

والجواب : ان بالامكان افتراض عدم حجية الخبر ووجاهة التحذير من الكذب والكاذبين وذلك :

ا - اما لاجل ان الخبر الكاذب يولّد احيانا اطمئنانا للسامع بمضمونه فيأخذ به.

ب - او لاجل ان القضية التي نقل فيها الخبر ترتبط بالعقائد الاسلامية ، وواضح ان الخبر وان لم يكن حجة لكنه قد يولد احتمالا يؤثر على العقيدة ، فمثلا نحن نعتقد بعصمة الانبياء علیهم السلام على سبيل اليقين ولكن قد يأتي خبر يدل على عدم العصمة ويولّد احتمال عدم العصمة ، وبالتالي يزول عن انفسنا اليقين بالعصمة ، فلاجل ان لا يزول اليقين المذكور حذّر من الكاذبين والاخبار الكاذبة.

6 - ورد في بعض الروايات السؤال من الامام علیه السلام عما اذا ابتلي بواقعة من

ص: 92

الوقائع فالى من يرجع للتعرف على حكمها فاشار علیه السلام في بعضها الى زرارة قائلا : « اذا اردت حديثا فعليك بهذا الجالس » وفي بعضها الآخر يأمر الامام الهادي علیه السلام بالرجوع الى السيد الجليل عبد العظيم الحسني. وتقريب الاستدلال : ان الخبر اذا لم يكن حجة فاي معنى للارجاع الى زرارة وعبد العظيم وامثالهما.

والجواب : ان الامام علیه السلام لم يرجع الى عنوان الثقة بنحو يكون ذلك ضابطا كليا بل ارجع الى اشخاص معينين ، وهذا الارجاع لعله ليس من باب انهم ثقات حتى يثبت حجية خبر كل ثقة بل لعله من باب اطلاعه علیه السلام وعلمه بان زرارة وعبد العظيم لا يكذبان قطعا ، ومعه فلا يمكن استكشاف حجية خبر كل ثقة ، فمثلا لو شهد النجاشي بوثاقة راو معين فبشهادته وان ثبتت وثاقته شرعا لكن لا يحصل يقين وجداني بها حتى ينتفي احتمال صدور الكذب منه بل يبقى الاحتمال المذكور ثابتا ، فان اليقين التعبدي بالوثاقة لا يتنافى معه. وبكلمة اخرى : لعل الامام علیه السلام ارجع الى زرارة وعبد العظيم من جهة يقينه الوجداني بوثاقتهما المستلزم ذلك لزوال احتمال صدور الكذب ولا يثبت بذلك جواز الرجوع الى كل ثقه ما دام لا يقين وجداني بوثاقته.

7 - الاخبار الواردة في ذم من يطرح بعض الاحاديث لمجرد عدم موافقتها لطبعه وذوقه من قبيل « واسوأهم عندي حالا وأمقتهم الذي يسمع الحديث ينسب الينا ويروى عنا فلم يقبله اشمأز منه وجحده وكفّر من دان به (1) وهو لا يدري لعل الحديث من عندنا خرج والينا اسند ». وتقريب الاستدلال : ان الخبر اذا لم يكن حجة فلا وجه للذم المذكور ، اذ طرحه - ما دام لم يكن حجة - مناسب وفي محله.

ص: 93


1- دان بمعنى اعتقد ، فهم يكفّرون كل من اعتقد بمضمون الاخبار المخالفة لذوقهم.

والجواب : ان الامام علیه السلام ذم هولاء من جهة اعتمادهم على ذوقهم وطبعهم وعدم اعتنائهم بالشرع ومن جهة تكفيرهم لكل من يعتقد ما يخالف ذوقهم ، ان الذم من هذه الناحية وليس لمجرد عدم العمل باخبار الثقات حتى يدل ذلك على حجيتها.

8 - ورد في علاج الاخبار المتعارضة الامر بأخذ الموافق للكتاب او المخالف للعامة وطرح المخالف للكتاب او الموافق للعامة. وتقريب الاستدلال : ان الخبر اذا لم يكن حجة فلا معنى لفرض التعارض وبيان كيفية علاج ذلك ، فانه عند عدم معارضته بخبر آخر اذا لم يكن حجة ففي صورة معارضته اولى بان لا يكون حجة.

والجواب : ان السائل والامام علیه السلام افترضا ورود خبرين هما حجة لو لا المعارضة - ولأجل المعارضة تحيّر السائل ماذا يفعل - ولكن لم يبين المقصود من ذلك الخبر الحجة فلعله الخبر القطعي الصدور ، فكأن السائل قال للامام علیه السلام يردنا خبران هما حجة - كالخبرين القطعيين صدورا - ولكنهما مع الاسف متعارضان فما ذا نفعل؟ ومعه فلا يمكن ان نفهم من هذه الطائفة حجية مطلق خبر الثقة وان لم يكن قطعي الصدور.

9 - وورد ايضا الترجيح بالاوثقية والاشهرية وانه اذا جاء حديثان متعارضان فرجح الاوثق والاشهر. وتقريب الاستدلال ان يقال - كما تقدم في الطائفة السابقة - ان الخبر اذا لم يكن حجة فلا معنى لفرض تعارضه وتقديم وصفة العلاج له.

ودلالة هذه الطائفة على حجية الخبر تامة ولا يرد عليها ما اوردناه على الطائفة السابقة اي لا يمكن حملها على الخبرين القطعيين ، اذ في حالة قطعية

ص: 94

الخبرين لا معنى للاخذ بالاوثق والاشهر ، فان اقصى ما تستلزمه او ثقية الراوي هو حصول الظن بصدور الخبر ، ونحن ما دمنا قد فرضنا ان الخبرين قطعيان فلا معنى لترجيح احدهما بما يوجب الظن بالصدور ، فان الخبر اذا كان مظنون الصدور فبواسطة الاوثقية يصير صدره مظنونا بدرجة اقوى وبالتالي يصير راجحا اما اذا كان مقطوع الصدور فبالا وثقية لا يقوى اكثر.

10 - ورد في بعض الروايات ارجاع الامام علیه السلام شيعته الى الثقات من اصحابه. وهي على لسانين :

ا - الارجاع الى عنوان « ثقاتنا » كما في الرواية التي تقول « لا عذر لاحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا قد عرفوا بانا نفاوضهم سرنا ونحملهم اياه اليهم ».

ويرده : ان الارجاع الى عنوان « ثقاتنا » لا يثبت حجية مطلق خبر الثقة ، فان عنوان « ثقاتنا » نظير عنوان « ثقتي » يطلق على الثقة الذي يكون امينا للسر وموردا للأعتماد الوثيق ، بل في تعبيرات الرواية اشارة الى ذلك ، وعليه فهذا اللسان لا يثبت حجية مطلق خبر الثقة بل حجية خبر من يكون امينا على اسرار الائمة علیهم السلام .

ب - الارجاع الى اشخاص معينين مع التعليل بانهم ثقات كما في الخبر الذي يرويه محمد بن عيسى عن عبد العزيز بن المهتدي : « قال : قلت لابي الحسن الرضا : جعلت فداك اني لا اكاد اصل اليك لأسألك عن كل ما احتاج اليه من معالم ديني ، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما احتاج اليه من معالم ديني؟ فقال : نعم ». ولهذه الرواية ميزة على بقية الروايات ، حيث تدل على ان حجية خبر الثقة كان امرا مركوزا وواضحا في ذهن السائل وانما كان يسأل عن

ص: 95

المصداق وان يونس هل هو ثقة او لا ، والامام علیه السلام حيث امضى الارتكاز المذكور ولم يردع عنه يثبت حجية خبر مطلق الثقة. ولكن مع الاسف ان روايات هذا اللسان لا تبلغ حدّ التواتر حتى يمكن الاستدلال بها. اجل توجد بعض الروايات التي يمكن حصول الاطمئنان بصدورها من الامام علیه السلام - لقرائن في سندها وغيره - تدل على حجية خبر مطلق الثقة ، وحيث ان الاطمئنان حجة تثبت حجية الرواية المذكورة (1) وبواسطتها تثبت حجية خبر مطلق الثقة.

قوله ص 234 س 7 وفيما يلي نستعرض بايجاز : وفي التقرير تعرض الى خمس عشرة طائفة ولكنه لم يشر للطائفة التاسعة.

قوله ص 234 س 10 التصديق الواقعي : اي انها صادقة وصادرة واقعا.

قوله ص 234 س 14 وهو غير الحجية التعبدية : تقدم ان الحجية التعبدية

ص: 96


1- وهي مثل رواية الكليني في كافيه عن محمد بن عبد اللّه الحميري ومحمد بن يحيى العطار جميعا عن عبد اللّه بن جعفر الحميري قال : اجتمعت انا والشيخ ابو عمرو - عثمان بن سعيد سلام اللّه عليه - عند احمد بن اسحاق. والرواية طويلة يحدث في جملتها الحميري عن احمد بن اسحاق عن الامام علیه السلام ان « العمري وابنه ثقتان فما اديا اليك عني فعني يؤديان ، وما قالا لك فعني يقولان ، فاسمع لهما واطعمهما فانهما الثقتان المأمونان » الى آخر الرواية ، فان مراجعة رجال سند الرواية توجب الاطمئنان بصدورها ، فالكليني هو الثقة الامين كما يعرفه الكل ، ومحمد الحميري والعطار من وجوه الاصحاب واجلائهم ، وكلاهما ينقل عن عبد اللّه بن جعفر الحميري الذي قال عنه النجاشي انه شيخ اصحابنا في قم ، واعطف عليه احمد بن اسحاق فانه من اجلاء الاصحاب ايضا ، وبعد هذا كيف لا يحصل الاطمئنان بصدور الرواية المذكورة التي رجالها بالشكل الذي ذكرناه. هذا من حيث صدور الرواية ، واما دلالتها فهي واضحة في حجية خبر مطلق الثقة ، فانه علیه السلام حينما قال « وما قالا لك فعني يقولان » فالمقصود لانهما ثقتان. وللتوسع اكثر يمكن مراجعة كتاب مباحث الدليل اللفظي ج / 4 ص 390.

هي بمعنى جعل الخبر حجة عند عدم العلم بصدوره. ومعنى العبارة : ان اخبار الامام علیه السلام بمطابقة رواية يونس للواقع وصدورها واقعا ليس هو المطلوب وهو كون الخبر حجة عند الشك في صدوره ومطابقته للواقع.

قوله ص 235 س 10 في وجاهته : اي في زوال اللغوية عنه. وتقدير العبارة هكذا : ان الامر بنقل الحديث المذكور يكفي في زوال اللغوية عنه احتمال صيرورته حجة بسبب حصول الوثوق بصدوره للسامع ، ولا يتوقف على افتراض الحجية التعبدية التي معناها جعل الخبر حجة عند الشك في صدوره.

قوله ص 236 س 1 يثبت المنقول : اي الرواية المنقولة. والمقصود من ثبوت الرواية تعبدا كونها حجة تعبدا. وقوله « من هذه الناحية » اي من ناحية ثبوت الرواية المنقولة.

قوله ص 236 س 5 وفي ذلك : اي في ادراك المعاني واستيعابها.

قوله ص 236 س 10 خطأ : متعلق به « اقتناع ».

قوله ص 236 س 15 بدون اعطاء ضابطة كلية للارجاع : اي من دون ان يقال ارجع الى كل ثقة او ارجع الى زرارة وعبد العظيم لانهما ثقتان حتى يستفاد حجية خبر مطلق الثقة.

قوله ص 237 س 6 مطلقا : اي حتى في حالة احتمال تعمد الكذب.

قوله ص 238 س 2 مع ان مجرد عدم الحجية ... الخ : اي ان فرض مخالفة الرواية للطبع والذوق بل وفرض عدم حجيتها لا يسوّغ التسرع في انكارها كما ولا يسوغ تكفير من اعتقد بها وانما المناسب لعدم الحجية هو التشكيك دون الانكار والتكفير ، وهذا كما هو الحال في خبر الفاسق فانه ليس بحجة جزما ولكن ذلك لا يسوغ الجزم بعدم مطابقته للواقع.

ص: 97

قوله ص 238 س 13 وقوة الظن بصدوره : عطف تفسير على قوله « زيادة قيمة الخبر ».

قوله ص 239 س 1 بشكل وآخر : قوله « بشكل » اشارة الى اللسان الاول ، وقوله « واخر » اشارة الى اللسان الثاني. وقوله « الارجاع الى كلي الثقة ابتداء » اشارة الى اللسان الاول. وقوله « واما تعليلا ... الخ » اشارة الى اللسان الثاني. وقوله « على نحو يفهم منه الضابط الكلي » يراد به على وجه يفهم منه حجية خبر مطلق الثقة.

قوله ص 240 س 1 ان مناط التحويل : اي ولما كان المرتكز في ذهن الراوي ان مناط جواز الرجوع الى يونس وغيره هو الوثاقة والامام علیه السلام أقر هذا الارتكاز ... الخ.

الطريق الثاني.

قوله ص 240 س 8 والطريق الآخر لاثبات ... الخ : ذكرنا آنفا وجود طريقين لا ثبات السنة هما : التمسك بالاخبار وبالسيرة. والكلام فيما سبق كان عن الطريق الاول ، والآن نتكلم عن الطريق الثاني وهو السيرة. وللسيرة تقريبان :

1 - سيرة المتشرعة - اي اصحاب الائمة علیهم السلام - على العمل بالاخبار في مجال الاحكام الشرعية ، فاصحاب الامام الهادي والعسكري علیهماالسلام وصلتهم اخبار كثيرة من الامامين الباقر والصادق علیهماالسلام وكانوا يعملون بها جزما ، وهو يدل على حجيتها وان جواز العمل بها قد وصلهم من الائمة علیهم السلام .

وهنا سؤالان سبق الجواب عنهما في الحلقة الثانية :

ا - كيف نثبت ان سيرة اصحاب الامامين العسكريين علیهماالسلام كانت جارية

ص: 98

على العمل بالاخبار الواصلة لهم من الامامين الصادقين علیهماالسلام .

ب - ما الدليل على حجية السيرة المذكورة على تقدير التسليم بتحققها؟

اما السؤال الاول فجوابه : ان اصحاب الامامين العسكريين علیه السلام واجهوا اخبارا كثيرة وصلتهم عن النبى صلی اللّه علیه و آله والائمة السابقين علیهم السلام ، وموقفهم اتجاهها اما ايجابي بمعنى العمل بها او سلبي بمعنى رفضها. فان كانوا يعملون بها فذاك هو المطلوب والا فنسأل عن سبب رفضهم لها والحال ان العادة والذوق العقلائي يقتضيان العمل باخبار الثقات ، ان السبب لا بد وان يكون هو نهي الائمة علیهم السلام عن العمل باخبار الثقات ، اذ لا يوجد سبب غير ذلك ، ولكنه سبب باطل ، اذ لو كان قد صدر نهي عن العمل بالاخبار فاللازم كونه قويا لان قوة الردع لا بد وان تتناسب وقوة المردوع ، وحيث ان السيرة على العمل باخبار الثقات قوية فالنهي عنها لا بد وان يكون بتلك القوة ، والنهي القوي لم يصدر جزما والا لوصلنا ، وحيث لم يصل دل ذلك على عدم صدوره وبالتالي على عمل الاصحاب باخبار الثقات وهو المطلوب.

واما السؤال الثاني فجوابه : ان عمل اصحاب العسكريين علیهماالسلام باخبار الثقات اما ان يكون بما هم متشرعة واصحاب لأهل البيت علیهم السلام لا يتحركون بحركة الا وهي موافقة لرأيهم علیهم السلام او يكون بما هم عقلاء ولهم ذوق عقلائي يقتضي العمل بخبر الثقة في جميع المجالات ومنها مجال الحكام الشرعية. فان كانوا يعملون بها بما هم متشرعة فلازم ذلك رضا المعصوم علیه السلام بالعمل باخبار الثقات والا لم يكونوا متشرعة ومتقيدين برأي الائمة علیهم السلام ، وان كانوا يعملون بما هم عقلاء فحينئذ نقول لو كان عملهم هذا غير مرضي للمعصوم علیه السلام لردع عنه وحيث لم

ص: 99

يردع دل ذلك على رضاه (1).

2 - التمسك بسيرة العقلاء ، فانا نرى جميع العقلاء يعملون بخبر الثقة في جميع قضاياهم بدون فرق بين الشخصية منها - والمعبر عنها بالاغراض التكوينية كأخبار الثقة عن عودة بعض الاصدقاء من السفر ، فانه يعتمد عليه - وقضاياهم التشريعية المعبر عنها بالاغراض التشريعية كأخبار الثقة بامر الاب بشراء حاجة معينة ، فانه يعتمد عليه وتشترى تلك الحاجة

وبعد هذا يقال : حيث ان من المحتمل تطبيق العقلاء سيرتهم هذه في يوم من الايام في مجال الاحكام الشرعية - جريا على عادتهم وذوقهم العقلائي القاضي بالعمل بخبر الثقة في جميع المجالات - فلو لم يكن ذلك مرضيا له علیه السلام فلا بد من باب الاحتياط والحذر المسبق من النهي عن العمل بخبر الثقة في المجال الشرعي ، وحيث لم يصل الردع المذكور دل ذلك على عدم صدوره.

يبقى شيء وهو انه يوجد فارق بين هذين الشكلين من السيرة ، ففي سيرة العقلاء لم نفترض ان العقلاء جرت سيرتهم بالفعل على العمل بخبر الثقة في المجال الشرعي ، بل ولا حاجة الى هذا الافتراض ، وانما كنا نفترض ان من المحتمل تطبيقها في يوم من الايام في المجال الشرعي ، فاحتمال تطبيقها يكفي لاستكشاف امضائها بلا حاجة الى افتراض تطبيقها الفعلي على المجال الشرعي ، وهذا بخلافه في سيرة المتشرعة ، فانا كنا نفترض ان اصحاب الائمة علیهم السلام كانت سيرتهم قد

ص: 100


1- لا يخفى وجود فارق بين سيرة العقلاء وسيرة المتشرعة ، ففي سيرة العقلاء نحتاج الى دليل يدل على امضائها فيقال انه حيث لم يردع عنها دل ذلك على امضائها ، بينما في سيرة المتشرعة لا نحتاج الى دليل على الامضاء ، فان نفس جريان سيرة المتشرعة على شيء يدل على رضا المعصوم به ، والا لم يكونوا متشرعة ومتقيدين برضاه علیه السلام .

جرت بالفعل على العمل باخبار الثقات الامر الذي يدلل على وصول المسوغ لهم من المعصوم علیه السلام بلا حاجة للتمسك لحجيتها بالامضاء وعدم الردع.

اعتراض على السيرة العقلائية.

قوله ص 241 س 15 وهناك اعتراض يواجه ... الخ : ذكرنا فيما سبق ان سيرة العقلاء لا تكون حجة الا اذا كانت ممضاة وغير مردوع عنها. وقد يقال : ان الردع عنها ثابت حيث وردت نصوص كثيرة تنهى عن اتباع الظن كقوله تعالى « ان يتبعون الا الظن » ، وحيث ان خبر الثقة لا يفيد الا الظن فيكون العمل به مردوعا عنه بمقتضى هذه النصوص (1).

ويمكن تقديم الاجوبة الاربعة التالية :

1 - ما ذكره الميرزا - مبنيا على مسلكه وهو مسلك جعل العلمية (2) - من ان السيرة بعد ما جرت على التمسك بالخبر فيكون حجة ، وبما ان معنى الحجية هو العلمية يصير الخبر - بعد السيرة على التمسك به وحجيته - علما ، وبصيرورته علما يخرج من الآيات الناهية عن اتباع الظن لانها تنهى عن الظن والمفروض صيرورته علما ، وحيث ان خروج الخبر من موضوع الآيات خروج تعبدي وليس حقيقيا - لان السيرة لا تجعل الخبر علما حقيقة وانما تجعله علما تعبدا - صح القول بان السيرة حاكمة على الآيات لان كل دليل يوسّع او يضيّق تعبدا موضوع دليل

ص: 101


1- هذا التساؤل يختص بسيرة العقلاء لانها التي تحتاج الى امضاء ، اما سيرة المتشرعة فلا تحتاج الى امضاء كي يقال بان الردع عنها ثابت.
2- حاصل المسلك المذكور ان المولى حينما يقول ان الخبر حجة فمعنى ذلك اني جعلت الخبر علما وطريقا ، وقد مر هذا ص 25 من الحلقة.

آخر يسمى بالحاكم.

ويمكن مناقشة هذا الجواب بما يلي :

ا - لو سلمنا ان معنى جعل الحجية هو جعل العلمية فيمكن ان نقول : ان الايات الناهية عن اتباع الظن تنفي الحجية عن الظن وكأنها تقول - بدل قولها « ان الظن لا يغني من الحق شيئا » - ان الظن ليس حجة ، وحيث ان معنى الحجية هو جعل الظن علما فلا بد وان يكون معنى نفي الحجية هو نفي جعل الظن علما ، فاذا ضممنا مضمون السيرة الى الآيات كانت النتيجة هكذا : الخبر حجة وعلم - وهذا مضمون السيرة - وان اي ظن من الظنون بما في ذلك الخبر ليس حجة وعلما ، وهذا مضمون الآيات ، وواضح انه على هذا لا تكون السيرة حاكمة ومخرجة للخبر من الآيات بل بينهما معارضة واضحة اذ كلاهما ناظر الى الخبر ، والسيرة تقول هو علم والآيات تقول هو ليس علما (1). وقد تقدم مضمون هذا الايراد ص 227 من الحلقة.

ب - انا نسأل عن الحاكم والمخرج للخبر من الايات ، فهل هو سيرة العقلاء او هو الامضاء الشرعي للسيرة لا نفسها؟ وكلاهما باطل. اما الاول فلأنه لا يحق للعقلاء جعل الخبر علما ، اذ الحكم بان الظن لا يغني من الحق شيئا حكم شرعي ، ومن الجلي ان توسيع موضوع كل حكم او تضييقه لا يحق الا لجاعل ذلك الحكم دون غيره ، وحيث ان جاعل هذا الحكم هو الشارع فالذي يحق له اخراج الخبر من الظن هو الشارع فقط دون العقلاء. وعلى الثاني يرد : ان الشارع وان كان يحق له اخراج الخبر من الآيات ولكن تحقق الامضاء الشرعي للسيرة اول

ص: 102


1- ولعل الذي اوجب اعتقاد الميرزا بحكومة السيرة تخيله ان مفاد الآيات تحريم العمل بالظن تكليفا لا الارشاد الى عدم حجية الظن ، والحال ان مفادها الارشاد دون التحريم.

الكلام ، وهو المتنازع فيه ، فان الخصم يقول : ان الامضاء الشرعي لم يتحقق بل تحقق الردع لقوله تعالى « ان الظن لا يغني ... » ، فدعوى ان الامضاء الشرعي حاكم ومخرج للظن الخبري من الآيات فرع تحققه. وبكلمة اخرى : قول الميرزا ان السيرة جرت على التمسك بالخبر كلام صحيح ، ولكن قوله فيكون حجة وعلما لا نسلمه ، اذ لا يكون الخبر حجة وعلما الا اذا كانت السيرة ممضاة من قبل الشارع ، والمفروض انه لم يثبت الامضاء ، لانا نحتمل ان الآيات رادعة عن السيرة.

2 - ما ذكره الآخوند من ان الايات الكريمة - المعبر عنها في الكتاب بالعمومات - لا يمكن ان تكون رادعة عن السيرة للزوم الدور من الرادعية ، فالرادعية مستحيلة لانها دورية ، ونوضح الدور ضمن المقدمات الثلاث التالية :

ا - ان كون الايات رادعة موقوف على ان يكون عمومها للسيرة حجة ، اذ العموم الحجة هو الذي يمكن التمسك به دون غيره.

ب - وعموم الآيات لا يكون حجة الا اذا لم تكن السيرة مخصصة للآيات ، اذ لو كانت مخصصة للآيات لم يكن عمومها لها - السيرة - حجة كما هو واضح.

ج - وعدم كون السيرة مخصصة للآيات موقوف على ان تكون الآيات رادعة عن السيرة ، اذ لو لم تكن الآيات رادعة عن السيرة لكانت السيرة حجة وبالتالي مخصصة للآيات.

اذن كون الايات رادعة موقوف على كون الايات رادعة ، وهو ما قلناه من كون رادعية الايات دورية.

والجواب : انا نسلم المقدمة الاولى وهي : ان رادعية الآيات موقوفة على حجية عمومها ، ولكن لا نسلم المقدمة الثانية التي تقول ان حجية عموم الايات

ص: 103

موقوفة على عدم كون السيرة مخصصة للآيات ، اذ المقصود منها اما ان حجية عموم الآيات موقوفة على العلم بأن السيرة ليست مخصصة للآيات او ان المقصود ان حجية عموم الآيات موقوفة على عدم العلم بكون السيرة مخصصة للآيات (1).

وما ذكر من الدور يتم على الاحتمال الاول ، لانه لا يحصل العلم بعدم كون السيرة مخصصة للايات الا اذا كانت الآيات رادعة عن السيرة فيلزم الدور ، واما على الاحتمال الثاني فالدور غير لازم ، لانا نقول هكذا : رادعية الايات موقوفة على حجية عمومها ، وحجية عمومها موقوفة على عدم العلم بتخصيص السيرة للآيات ، ومن الواضح ان عدم العلم بتخصيص السيرة للآيات ليس موقوفا على كون الآيات رادعة حتى يلزم الدور ، بل انا ما دمنا نشك في ان الآيات رادعة عن السيرة أو لا - وبتعبير آخر ان الامضاء الشرعي للسيرة هل هو متحقق أو لا - يصدق انا لا نعلم بكون السيرة مخصصة للآيات. وحيث ان الاحتمال الصحيح هو الثاني - اذ العقلاء يتمسكون بالعموم ما داموا لم يحرزوا المخصص له بلا حاجة الى احراز عدم التخصيص - فلا دور.

3 - ما ذكره الشيخ الاصفهاني من ان مدرك حجية ظهور الآيات - بل وكل ظهور - هو السيرة العقلائية ، ومعه يقال ان العقلاء ما دام يتمسكون بالخبر ويجعلونه حجة فلا يمكن ان تنعقد سيرتهم على العمل بظهور الآيات للتنافي الواضح بينهما ، اذ سيرتهم اذا انعقدت على حجية ظهور الآيات فلازم ذلك ان لا

ص: 104


1- والثمرة بين الاحتمالين تظهر عند الشك في كون السيرة مخصصة للآيات ، فعلى الاحتمال الاول لا يكون عموم الآيات حجة ، اذ شرط الحجية العلم بعدم المخصص والمفروض انا نشك فيه ، وهذا بخلافه على الاحتمال الثاني ، فان عموم الآيات يكون حجة لأن حجية العموم مشروطة بعدم العلم بالتخصيص والمفروض الشك في المخصص.

شيء من الظن بحجة ، ومع حكمهم بعدم حجية الظن كيف يتمسكون بالخبر ويجعلونه حجة والحال انه لا يفيد الا الظن. وعليه فالعقلاء ما داموا يتمسكون بالخبر فلا يمكن ان يتمسكوا بظهور الآيات وبالتالي لا يكون ظهور الآيات حجة ، ومن ثم لا يمكن ان تكون الآيات رادعة عن السيرة

والجواب : انه لا منافاة بين حجية الخبر وحجية ظهور الآيات في العموم ، ووجه ذلك يتجلى بعد التعرف على المقصود من حجية الظهور ، فما هو المقصود من قولنا الظهور حجة؟ المقصود ان العقلاء يجعلون الظهور كاشفا عن مراد المتكلم ، فظهور الآيات يرونه كاشفا عن مراده سبحانه وأنه لا شيء من الظن بحجة ، وحجية الظهور بهذا المعنى لا تتنافى وحجية الخبر ، وهل ترى منافاة بين ان يقال ظهور الآيات كاشف عن عدم حجية الظن لدى الشارع والقول بأن الظن الخبري حجة لدى العقلاء؟ كلا لا منافاة بين كاشفية الظهور عن مراد الشارع وحجية الظن الخبرى ، وانما المنافاة ثابتة بين ما انكشف بالظهور - وهو عدم حجية الظن لدى الشارع - وبنائهم على حجية الخبر.

وان شئت قلت : ان المنافاة ان كانت ثابتة فهي بين المنكشف بظهور الايات والعمل بالخبر لا بين الكاشفية عن المراد والعمل بالخبر ، وحيث ان حجية الظهور تعني الكاشفية عن المراد - لا نفس المراد - فهي لا تتنافى والعمل بالخبر. وكأن الاصفهاني قدس سره تخيل ان معنى حجية ظهور الايات هو ان الظن ليس حجة ، مع ان من الواضح ان عدم حجية الظن هو المراد والمنكشف بالظهور وليس هو نفس حجية الظهور ، فان معنى حجية الظهور كونه كاشفا عن المراد ، ومن الجلي ان نفس الكاشفية لا تتنافى وحجية الخبر.

4 - والصحيح ان يقال في الجواب : ان الايات اذا كانت رادعة عن السيرة

ص: 105

فهي تردع عن اي سيرة؟ فهل تردع عن سيرة المتشرعة او تردع عن سيرة العقلاء؟

فان كان المقصود هو الاول فيرده ان الآيات لو كانت صالحة للردع عن سيرة المتشرعة فلماذا لم يرتدعوا ولماذا بقوا يتمسكون بالاخبار والحال ان هذه الآيات يقرؤنها صباحا ومساء؟ ان عدم ارتداعهم دليل واضح على ان الايات المذكورة لا تصلح للردع والا لارتدعوا بسببها (1).

وان كان المقصود هو الثاني فيرده : انا وان كنا نحتمل ان الايات تردع العقلاء ولكنهم لم يعيروا لها اهمية ، بل تساهلوا وتسامحوا ، ان العقلاء بما هم عقلاء وان احتملنا في حقهم ذلك حتى مثل زرارة ومحمد بن مسلم - فانا سابقا لم نحتمل في حقهم التهاون باعتبار انا كنا نلاحظهم بما هم متشرعة ومن اصحاب الامام الصادق علیه السلام ، اما اذا نظرنا اليهم بما هم عقلاء فنحتمل في حقهم ذلك - لكنا نقول ان سيرة العقلاء على العمل بخبر الثقة حيث انها مستحكمة وقوية جدا فاذا اريد الردع عنها فلا بد وان يكون الردع قويا جدا وبمستوى قوتها ، فان ردّ الفعل لا بد وان يتناسب مع الفعل في القوة ولا يقل عنه درجة ، فلو كان القرآن الكريم يقصد ردع السيرة لكان من المناسب ان ترد اية بل آيات صريحة في ذلك تقول ان الخبر ليس حجة ، والحال انا لا نجد ذلك في الآيات الناهية عن الظن ، فانها تنهى عن الخبر باطلاقها الشامل له ولا تنهى عنه بخصوصه ، ومثل هذا لا يكفي في الردع عن مثل السيرة المذكورة.

ص: 106


1- ان قلت : لعلها صالحة للردع وانما لم يرتدعوا لتسامحهم وتساهلهم. قلت : كيف يحتمل ذلك في حق زرارة ومحمد بن مسلم وأبان ونظائرهم ممن قال الامام الصادق عليه السلام في حقهم : لو لا هؤلاء لاندرست آثار النبوة؟

قوله ص 240 س 11 كما تقدم كيفية ... الخ : هذا اشارة الى السؤال الثاني وجوابه ، كما وان قوله « وقد تقدم في الحلقة السابقة بيان ... الخ » اشارة الى السؤال الاول وجوابه.

قوله ص 241 س 2 وعلاقات الآمرين بالمأمورين : هذا عطف تفسير للاغراض التشريعية ، فانها تعني الاوامر الصادرة من الموالي الى العبيد.

قوله ص 241 س 12 الامر الذي يفرض : اي ان الميل العقلائي الى العمل بخبر الثقة اذا لم يكن مرضيا للشارع لزمه الردع عنه حتى لا يطبقه العقلاء في الاحكام الشرعية.

قوله ص 242 س 9 ما يدل على الحجية : وهو السيرة. والضمير في قوله « مدلولها » يرجع الى الآيات. وقوله « فلا معنى لحكومته عليه » يعني لا معنى لحكومة مدلول السيرة على مدلول الآيات.

قوله ص 242 س 10 موضوعها : المناسب : موضوعهما.

قوله ص 242 س 16 أو يضيقون : الصواب : أو يضيقوا. وقوله « من قبل غيرهم » : اي من قبل الشارع.

قوله ص 243 س 13 كذلك : اي في العموم.

قوله ص 243 س 15 ما لم يعلم ب ... الخ : كلمة « ما » زائدة.

قوله ص 244 س 9 وتنجزه به : عطف تفسير لاكتشاف مراد المولى بالظهور.

قوله ص 244 س 10 عمل آخر لهم : وهو العمل بخبر الثقة. والذي تنجز بالظهور هو عدم حجية الظن.

قوله ص 244 ص 17 التقريب الاول : المراد به التمسك بسيرة المتشرعة

ص: 107

الذي مر تقريبه ص 240 من الحلقة. ولا يخفى ان قوله 1 « لاننا اثبتنا في التقرير الاول ... الخ » يريد به ان كيفية اثبات انعقاد سيرة المتشرعة على العمل بالخبر مرت في التقريب الاول من الحلقة الثانية ص 196.

قوله ص 245 س 1 واقامة الحجة : عطف تفسير للردع.

قوله ص 245 س 2 بالتقريب الثاني : وهو التقريب الثاني المار ص 240 من الحلقة.

قوله ص 245 س 2 فقد يكون له وجه : لما ذكرنا من احتمال ان الآيات ردعت العقلاء ولكنهم لم يرتدعوا ، فان العقلاء يمكن افتراض عدم ارتداعهم وان لم يمكن ذلك في حق المتشرعة.

قوله ص 245 س 5 من هذا القبيل : اي من قبيل قوله تعالى « ان الظن لا يغني من الحق شيئا » ، فانه باطلاقه يشمل خبر الثقة.

الدليل العقلي على حجية الخبر

قوله ص 245 س 6 واما دليل العقل فله شكلان .. الخ : تقدم ان الادلة على حجية الخبر ثلاثة : الكتاب ، السنة ، العقل. وتم الحديث الى الآن عن الاستدلال بالكتاب والسنة ، واتضح ان الاستدلال بآية النبأ والسيرة بكلا شكليها تام. واما الاستدلال بالعقل فله شكلان :

الشكل الاول : ما ذكره الشيخ الاعظم في رسائله لا ثبات حجية خصوص اخبار الثقات. وحاصله : انه توجد لدينا اخبار كثيرة ذكر قسم كبير منها في كتاب « وسائل الشيعة ». وجميع هذه الاخبار لم يرد من طريق الثقات ، بل بعضها ورد من طريقهم. واذا فرض انا فرزنا اخبار الثقات فنسأل : هل يمكن دعوى القطع

ص: 108

بصدور بعض اخبار الثقات؟ فاذا فرض ان عدد اخبار الثقات (1000) مثلا فهل يمكن دعوى القطع بصدور (10) مثلا من اهل البيت علیهم السلام ؟ نعم يمكن دعوى القطع هذه ، اذ لا يحتمل ان جميع اخبار الثقات كاذب ولم يصدر شيء منها منهم علیهم السلام ، وبذلك يتشكل لدينا علم اجمالي بصدور (10) اخبار من بين (1000) خبر ، ومعه يجب العمل بكل خبر للثقة نحتمل صدوره منهم علیهم السلام بمقتضى منجزية العلم الاجمالي ، فكما انه لو علمنا بنجاسة (10) أواني من بين (1000) آنية يجب الاجتناب عن الجميع كذا في المقام يجب العمل بكل خبر نحتمل صدوره منهم علیهم السلام ، وهذا هو المطلوب ، اذ ثبت عن طريق هذا البيان لزوم العمل بكل خبر للثقة وهو معنى حجيته.

وقد اعترض على هذا البيان باعتراضين احدهما نقضي والآخر حلي.

الجواب النقضي.

اما الجواب النقضي فحاصله : انا كما نعلم اجمالا بصدور بعض اخبار الثقات كذا نعلم اجمالا بصدور مجموعة من بين جميع اخبار الوسائل ، فيمكن ان نشير الى جميع اخبار الوسائل بما في ذلك الاخبار الضعيفة ونقول انا نعلم اجمالا بصدور مجموعة من هذه الاخبار ، وبناء على هذا لا تنحصر اطراف العلم الاجمالي باخبار الثقات فقط بل تعم الاخبار الضعيفة ايضا ، ومعه يثبت لزوم العمل بالاخبار الضعيفة ايضا ، وهذا ما لا يمكن الالتزام به ، فان الاخبار الضعيفة ليست حجة ولا يلزم العمل بها.

وذكر الآخوند في كفايته ردا على هذا النقض بانا نسلم بهذا العلم الاجمالي الكبير الذي دائرته جميع اخبار الوسائل ولكن هذا لا يتنافى وأن يكون الى جانب

ص: 109

هذا العلم الكبير علم اجمالي صغير دائرته خصوص اخبار الثقات ، ففي نفس الوقت الذي نشير فيه الى جميع اخبار الوسائل ونقول انا نعلم بصدور (10) منها يمكن ان نشير الى خصوص اخبار الثقات ونقول انا نعلم بصدور (10) منها ، ومع ثبوت العلمين المذكورين نقول ان العلم الكبير منحل بواسطة العلم الصغير ، ومع الانحلال يكون العلم المنجز هو الصغير دون الكبير. ووجه الانحلال ما تقدم في الحلقة الثانية ص 370 من انحلال كل علم كبير بالصغير متى ما توفر شرطان :

ا - كون الصغير بعض اطراف الكبير.

ب - كون المعلوم فى الكبير لا يزيد على المعلوم في الصغير. وكلا هذين الشرطين متوفر في المقام.

اما الاول فلأن اخبار الثقات هي قسم من مجموع اخبار الوسائل.

واما الثاني فلأن المعلوم صدوره من بين مجموع اخبار الوسائل لا يزيد على المعلوم صدوره من بين اخبار الثقات.

الجواب الحلّي

قوله ص 247 س 5 الثاني جواب حلي ... الخ : واما الجواب الحلي - وقد اشار له الشيخ الاعظم في رسائله - فهو :

ا - ان الدليل المذكور لا يثبت وجوب العمل بالخبر الدال على الاباحة وانما يثبت وجوب العمل بالخبر الدال على الوجوب او الحرمة مع ان المقصود من حجية الخبر كونه حجة سواء كان دالا على التكليف - كالوجوب او الحرمة - او على الاباحة. والوجه في عدم اثبات هذا الدليل لوجوب العمل بالخبر الدال على الاباحة ان الدليل المذكور يقتضي وجوب العمل بخبر الثقة من باب العلم

ص: 110

الاجمالي بصدور مجموعة من اخبار الثقات ، فان مقتضى منجزية العلم الاجمالي لزوم الاحتياط والعمل بكل خبر للثقة يحتمل صدوره ومن الواضح ان العلم الاجمالي لا يقتضي لزوم العمل بالخبر الدال على الاباحة ، فان العلم الاجمالي منجز في خصوص باب الوجوب والحرمة دون بقية الاحكام ، فمثلا لو على بان احد الانائين حرام وجب الاجتناب عنهما من باب الاحتياط ومنجزية العلم الاجمالي ، اما لو علم باباحة احد الانائين (1) فهل يجب ارتكاب كلا الانائين؟ كلا ، اذ الاحتياط يقتضي الاتيان بالواجب او ترك الحرام ولا يقتضي الاتيان بالمباح او تركه.

ب - ان الدليل المذكور قد لا يقتضي احيانا وجوب العمل بالخبر حتى اذا كان دالا على الوجوب او الحرمة. ولتوضيح ذلك نقول : يوجد في القرآن الكريم بعض العمومات الدالة على اباحة كل شيء كقوله تعالى « خلق لكم ما في الارض جميعا » (2) ، ومثل هذا العموم حجة بلا اشكال ، اذ سنده قطعي ودلالته معتبرة لانه ظاهر في العموم والظهور حجة. وبعد هذا نقول لو ورد خبر ثقة يقول : لحم الارنب حرام فهذا الخبر مع انه يدل على التحريم ولكن مع ذلك لا يلزم الاخذ به ، لان لازم الاخذ به طرح العموم القرآني الدال بعمومه او اطلاقه على حليه لحم الارنب ، ومن الواضح ان طرح العموم القرآني الذي هو حجة جزما بخبر لم تثبت

ص: 111


1- مع افتراض عدم الاطلاع على حال الاناء الثاني ، اما مع الاطلاع على انه محرم فهذا معناه العلم الاجمالي بحرمة احد الانائين.
2- فان اللام في قوله تعالى « لكم » تدل على النفع اي خلق لنفعكم ما في الارض جميعا ، ولازم ذلك حلية جميع ما في الارض ، وما خرج فانما يخرج بالمخصص.

حجيته (1) ليس هو من الاحتياط في شيء اذ اي احتياط في طرح الدليل القرآني الذي هو حجة جزما لخبر لم تثبت حجيته بعد.

اجل يمكن ان يقال : ان طرح العموم القرآني يمكن تقريب كونه موافقا للاحتياط ببيان ان العمومات القرآنية بشكل عام وخصوصا مثل عموم « خلق لكم ما في الارض جميعا » مما نجزم بطرو تخصيصات كثيرة عليها اخرجت منها كثيرا من الاشياء وحكمت عليها بالحرمة ، وهذه التخصيصات لا نعرفها تفصيلا بل اجمالا فيعلم اجمالا بوجود محرمات كثيرة خرجت بالتخصيص من العمومات ، ومع علمنا هذا فلا تكون العمومات حجة في عمومها لان شرط حجية العموم ان لا يعلم بطرو التخصيص عليه ، اما مع العلم بذلك يكون سقوطه عن الحجية وعدم العمل به هو الملائم للاحتياط بمعنى ان التمسك به لا ثبات حلية الارنب مثلا يكون مخالفا للاحتياط ، اذ لعل الارنب هو من جملة تلك المحرمات التي خرجت من العمومات.

ومن خلال هذا البيان اتضح ان العمل بالعمومات غير جائز وان طرحها هو المناسب. واتضح انه لئن لم يمكنّا سابقا جعل خبر الثقة مخصصا للعموم القرآني - من جهة ان طرح معلوم الحجية لاجل مشكوك الحجية مخالف للاحتياط - فيمكننا من خلال هذا البيان طرح العموم القرآني لان في طرحه الموافقة الكاملة للاحتياط. وطرح العموم القرآني هذا وان لم يكن تقييدا او تخصيصا (2) لكنه هو

ص: 112


1- اذ المفروض ان خبر الثقة لم تثبت حجيته بعد بل يراد بالدليل العقلي المذكور اثبات حجيته.
2- لان التقييد او التخصيص معناه وجود عام وخاص كلاهما حجة ويقدم الخاص على العام بالتخصيص ، فالتخصيص اذن يستدعي كون العام حجة في عمومه بينما في هذا التقريب نريد ان نقول ان العام ليس حجة حتى بقطع النظر عن الخبر الدال على حرمة الارنب الذي هو اخص من العام.

في نتيجة التقييد او التخصيص ، اذ التقييد او التخصيص يقتضي طرح العموم وعدم الاخذ به وهذا البيان يقتضي ايضا طرح العموم ، اجل في التقييد والتخصيص نطرح العموم لا لاجل عدم حجيته في نفسه بل لاجل وجود المخصص او المقيد ، واما في هذا البيان فنطرح العموم القرآني من باب انه ليس حجة في نفسه لا من اجل وجود المخصص او المقيد.

قوله ص 245 س 8 بالعلم الاجمالي : متعلق بالاستدلال.

قوله ص 246 س 9 العلم الذي ابرز ... الخ : وهو العلم الكبير ، والعلم الثاني هو العلم الصغير.

قوله ص 247 س 1 على الحجة : لعل المناسب : على الحجية.

قوله ص 247 س 6 بالمعنى المطلوب : وهو كون الخبر حجة حتى لو كان دالا على الاباحة وحتى لو كان في مقابله عموم قرآني.

قوله ص 247 س 9 للاحكام الترخيصية : وهي الاباحة والكراهة والاستحباب.

قوله ص 247 س 18 للتكاليف المعلومة بالاجمال : فان الاخبار التي نعلم بصدورها اجمالا انما يجب العمل بها من باب انها تدل على تكاليف ، فتلك التكاليف حيث انه يجب العمل بها وجب العمل بالاخبار المعلوم صدورها اجمالا.

قوله ص 248 س 2 في دليل قطعي الصدور : وهو كالعموم القرآني الذي

ص: 113

مثلنا به.

قوله ص 248 س 5 ومعلوم الحجية : عطف تفسير على قطعي الصدور.

قوله ص 248 س 6 ومن الواضح : لعل المناسب ان لا يوضع هذا رأس السطر.

قوله ص 248 س 8 التخصيص بها : لعل التعبير بكلمة « به » اولى من « بها » ، فان رجوع الضمير الى خبر الثقة اولى من رجوعه الى حجية خبر الثقة.

قوله ص 248 س 10 مثلا : وورود ... الخ : نقطتا الشارحة في غير محله.

قوله ص 248 س 13 والمطلقات الترخيصية : اي الدالة على عدم الوجوب وعدم الكراهة والمرخصة في الفعل مثل العموم القرآني الذي ذكرناه سابقا.

قوله ص 248 س 15 فسوف لن ... الخ : فانه لو كان خبر الثقة حجة لامكن بواسطة اخبار الثقات تعيين موارد التخصيص ، ولكن حيث انه ليس حجة فلا يمكن تشخيص تلك الموارد ، ومع عدم تشخيصها يبقى العلم الاجمالي بطرو المخصصات على حاله لا ينحل ، ومع عدم انحلاله تسقط العمومات عن الحجية.

قوله ص 348 س 17 لا نعمل بها : اي بالعمومات القرآنية الدالة على الترخيص.

قوله ص 249 س 1 طرح اطلاق ما دل ... الخ : اي العموم القرآني.

قوله ص 249 س 2 والتقيد : عطف على « طرح ». اي يلزم ان يتقيد بحرمة الارنب من باب الاحتياط.

ص: 114

الشكل الثاني

قوله ص 249 س 5 الشكل الثاني للدليل العقلي ... الخ : تقدم ان الدليل العقلي على حجية الخبر له شكلان ، وكان الحديث فيما سبق عن اولهما. واما الشكل الثاني فهو ما يسمى بدليل الانسداد وهو لا يثبت حجية خصوص الخبر بل حجية كل ظن من الظنون ، وحيث ان الخبر احد مصاديق الظن فتثبت حجيته (1) والدليل المذكور مركب من مقدمات خمس هي :

1 - انا نعلم اجمالا بوجود واجبات ومحرمات كثيرة في الشريعة الاسلامية ، وهذه الواجبات والمحرمات باقية الى يوم القيامة ، فلنا اذن دعويان في هذه المقدمة ، احداهما : انا نعلم اجمالا بوجود واجبات ومحرمات. وثانيتهما : انها باقية الى يوم القيامة.

اما الدليل على الدعوى الاولى فواضح ، فانه ما دمنا نعتقد بان الاسلام شريعة فلا بد من وجود واجبات ومحرمات ، اذ الشريعة لا يمكن ان تكون شريعة الا اذا كان فيها واجبات ومحرمات ، ولا نتصور شريعة تشتمل على مجموعة مباحات بلا اشتمال على واجبات ومحرمات.

واما الدليل على الدعوى الثانية فواضح ايضا ، اذ من البديهي ان الواجب واجب والحرام حرام الى يوم القيامة.

2 - ان تلك الواجبات والمحرمات لا نعلمها على سبيل التفصيل بل اجمالا.

ص: 115


1- نلفت النظر الى مصطلحي الظن الخاص والظن المطلق فخبر الثقة او غيره من الظنون ان تمسك لحجيته بدليل الانسداد سمي بالظن المطلق ، وان تمسك بدليل قطعي خاص - غير دليل الانسداد - كالسيرة العقلائية او آية النبأ سمي بالظن الخاص او بالعلمي.

وبكلمة اخرى ان باب العلم بتلك الاحكام منسد وهكذا باب العلمي (1). اما انسداد باب العلم فهو بديهي ، اذ لا يمكن لفقيه ان يدعي تمكنه من تحصيل العلم بغالب الاحكام ، اجل بعض الاحكام معلوم كوجوب الصلاة والصوم لكنه مقدار قليل والمدعى ان المعظم ليس معلوما. واما انسداد باب العلمي فنحن نفترض ذلك ، فانّه عند الاستدلال بدليل الانسداد نفترض عدم حجية خبر الثقة والا لم تصل النوبة الى دليل الانسداد. ومع انسداد باب العلم والعلمي فلا يمكن تحصيل العلم بمواطن تلك المحرمات والواجبات.

لا تقل : اذا كان باب العلم والعلمي منسدا فكيف ادعي في المقدمة الاولى العلم اجمالا بوجود واجبات ومحرمات.

فانه يقال : ان علمنا بذلك وليد الاعتقاد بالشريعة الاسلامية ، فان لازم الشريعة هو الاشتمال على واجبات ومحرمات كما ذكرنا سابقا.

3 - ان المحرمات والواجبات اذا كانت باقية الى يوم القيامة فكيف نمتثلها مع فرض عدم علمنا التفصيلي بها؟ قد يقال يمكن امتثالها عن طريق الاحتياط بان نأتي بكل فعل نحتمل وجوبه ونترك كل فعل نحتمل حرمته ، وبذلك نكون قد حصلنا على الموافقة القطعية ، ولكنه باطل ، لان الاحتياط التام في جميع الوقائع يستلزم العسر والحرج وقد قال تعالى : « ما جعل عليكم في الدين من حرج ».

4 - وقد يقال نرجع الى الاصول العملية الجارية في كل واقعة ، فان كان الاصل الجاري هو البراءة اخذنا به وان كان هو الاستصحاب اخذنا به وهكذا ، ولكنه باطل ايضا ، اذ الاصول لا يمكن ان تجري مع وجود العلم الاجمالي.

5 - واذا كان التكليف ثابتا بمقتضى المقدمة الاولى ولم يمكن العلم به تفصيلا

ص: 116


1- ومن اجل هذه المقدمة سمي هذا الدليل بدليل الانسداد.

بمقتضى المقدمة الثانية ولم يجب الاحتياط بمقتضى المقدمة الثالثة ، ولم يجز الرجوع الى الاصول العملية بمقتضى المقدمة الرابعة فماذا نفعل؟ ان العقل يقول اذا حصل ظن بالوجوب كان اللازم الاخذ به ، اذ لو لم نأخذ به تعين الاخذ بالطرف الموهوم وهو احتمال عدم الوجوب ، وبما انه يقبح ترجيح المرجوح على الراجح فاللازم الاخذ بالظن ، وهذا هو المطلوب ، اذ كنا نقصد اثبات حجية الظن. واذا ثبتت حجيته ثبتت بذلك حجية خبر الثقة لانه احد مصاديق الظن (1). هذه هي حصيلة دليل الانسداد. ويمكن مناقشتها بما يلي :

ا - انا لا نسلم المقدمة الثانية التي تقول ان باب العلم والعلمي منسد ، فان باب العلم وان كان منسدا الا ان باب العلمي مفتوح ، اذ اثبتنا سابقا حجية خبر الثقة بآية النبأ والسيرة والطائفة العاشرة من الاخبار ، ومن الواضح ان اخبار الثقات وافية بمعظم الاحكام.

ب - لا نسلم المقدمة الاولى التي تقول ان لنا علما اجماليا بثبوت الاحكام في مجموع الوقائع ، اذ يمكن ان ندعي ان هذا العلم الاجمالي في مجموع الوقائع منحل بالعلم الاجمالي في دائرة اخبار الثقات.

وتوضيح ذلك : ان مجموع الوقائع - الا ما شذ - مشتبهة الحكم ، وهي كثيرة جدا (2) ، ولنقرض ان عددها (1000) واقعة. وهذه الوقائع نجزم بان حكم

ص: 117


1- وقد وقع الخلاف بين الاصوليين في انه بعد تمامية دليل الانسداد هل يحكم العقل بحجية الظن او انه لا يحكم هو بذلك بل يستكشف ان الشارع قد جعل الظن حجة ، فعلى الاول تكون حجية الظن حكما عقليا ويسمى ذلك بمسلك الحكومة ، وعلى الثاني تكون حجية الظن حكما شرعيا ، ويسمى ذلك بمسلك الكشف.
2- لا تقل : ان مجموع الوقائع ليست مشتبهة الحكم بل اكثرها معلوم ، فنعلم ان شرب الشاي والقهوة جائز ، وشرب الخمر ونحوه محرم ، والصلاة والصوم او نحوهما واجب وهكذا في الباقي. فأين اذن الوقائع التي يقال ان اكثرها مجهول. فانه يقال : ان هذه الوقائع صارت معلومة الحكم بسبب الاخذ باخبار الثقات ولكن مفروض كلامنا الآن عدم ثبوت حجية خبر الثقة.

بعضها هو الوجوب او الحرمة ، اذ الشريعة لا يمكن ان تخلو من واجبات ومحرمات ، ولنفرض ان المقدار الذي نجزم بكونه محرما او واجبا هو بمقدار (100). ثم نقول انا لو رجعنا الى اخبار الثقات لكنّا نجزم بان قسما منها صادر من المعصوم علیه السلام ، وقد فرضنا ان ذلك القسم الذي نجزم بصدوره (100) حديث. وهذه الاحاديث المائة التي نجزم بصدورها حيث انها تحكي عن (100) تكليف لذا يكون العمل بها واجبا. ومن خلال هذا يتضح ان لنا علما اجماليا كبيرا - في مجموع الوقائع الالف - بثبوت (100) تكليف ، ولنا ايضا في دائرة اخبار الثقات (100) خبر نجزم بصدورها تدل على (100) تكليف ، ولازم ذلك انحلال العلم الكبير بالعلم الصغير ، لان الكبير ينحل بالصغير متى ما فرض ان الصغير جزء من الكبير ، وفرض ان المعلوم في الصغير لا يقل عن المعلوم في الكبير ، وكلا هذين الشرطين متوفر في المقام. وبانحلال الكبير بالصغير يكون الاحتياط واجبا في دائرة العلم الصغير فقط ، اي ان كل خبر ثقة دل على وجوب او تحريم واحتملنا صدقه يكون العمل به لازما ، وحيث ان الاحتياط في اطراف العلم الصغير لقلتها مما لا يوجب العسر - الذي كان لازما من الاحتياط في العلم الكبير - لذا يكون الاحتياط في اطراف الصغير لازما بلا مانع.

ج - لا نسلم بالمقدمة الثالثة - وهي عدم وجوب الاحتياط - على اطلاقها بل نسلمها في الجملة ، بمعنى ان الاحتياط الكامل في مجموع الوقائع الالف حيث انه عسري فنرفع اليد عنه لكن لا رفعا كاملا بل بالمقدار الذي يرتفع به العسر ،

ص: 118

فان الضرورات تقدر بقدرها. وعلى ضوء هذا نقول : ان الاحتياط الكامل في مجموع الوقائع الالف وان لم يجب لكونه عسريا ، ولكن لا نرفع اليد عنه في دائرة المظنونات ، بل كلما ظننا بوجوب شيء كان العمل بالظن واجبا ، بيد ان العمل بهذا الظن واجب لا من باب انه ظن بل لان العمل به موافق للاحتياط. ويترتب على ذلك - اي كون العمل بظن الوجوب لازما من باب انه احتياط - انا لو ظننا بعدم الوجوب فلا يجب العمل بهذا الظن لان العمل به ليس موافقا للاحتياط وانما الموافق للاحتياط هو العمل بالطرف الموهوم اي احتمال الوجوب. اذن اللازم هو العمل بالاحتياط ، غير ان الاحتياط تارة يقتضي العمل بالطرف المظنون - وذلك فيما اذا كان الظن ظنا بالوجوب - واخرى يقتضي العمل بالطرف الموهوم ، وذلك فيما اذا كان الظن ظنا بعدم الوجوب.

وباختصار : ان لازم دليل الانسداد - بعد رفع اليد عن الاحتياط الكامل - هو العمل بالاحتياط الذي قد يكون تارة مطابقا للعمل بالظن واخرى غير مطابق له ، لا انه يلزم العمل بالظن في جميع الحالات حتى يكون لازم ذلك حجية الظن.

اجل نستدرك ونقول : اذا قال قائل ان الشريعة الاسلامية لم تبن على الاحتياط لانها الشريعة السمحة السهلة - فلو كان الاحتياط لازما سواء كان موافقا للطرف المظنون او للطرف الموهوم لم تكن سمحة سهلة - امكن ان نتنزل ونرفع اليد عن الاحتياط ونجعل المدار على الظن ، فاذا حصل ظن بالوجوب اخذنا به واذا حصل ظن بعدم الوجوب عملنا به ايضا وان لم يكن العمل بالظن المذكور موافقا للاحتياط ، ولازم هذا ان الحجة هو الظن وليس المدار على الاحتياط ، وبهذا يثبت المطلوب وهو حجية الظن.

ص: 119

قوله ص 249 س 10 بتكاليف شرعية : اي وجوبية وتحريمية ، واما الاحكام الترخيصية وهي الاباحة وأخواها فالعلم الاجمالي بها لا يكون منجزا ، ولذا اقتصر قدس سره على التكاليف الشرعية التي هي الواجبات والمحرمات.

قوله ص 249 س 11 في مجموع الشبهات : اي في مجموع الوقائع التي فرضنا انها ألف.

قوله ص 249 س 14 لا قطعي وجداني : اي ان الطريق القطعي على قسمين :

ا - قطعي وجداني وهو كالخبر المتواتر.

ب - قطعي تعبدي وهو الظن الذي قام الدليل القطعي على حجيته.

قوله ص 250 س 1 ان الاحتياط بالموافقة القطعية : اي ان الاحتياط الذي يحصل بواسطة الموافقة القطعية للعلم الاجمالي.

قوله ص 250 س 13 والثاني ترجيح : المناسب ان لا يذكر هذا رأس السطر.

قوله ص 251 س 4 بعض الامارات الشائعة : كخبر الثقة ، فانه من الامارات الشائعة ويفي بمعظم الاحكام.

قوله ص 251 س 11 عن المرتبة العليا من الاحتياط : وهي الاحتياط في مجموع الوقائع الالف.

قوله ص 251 س 11 بالقدر الذي : اي لا انه نرفع اليد عن الاحتياط رأسا.

قوله ص 251 س 14 وأين هذا من حجية الظن : اي ان هذا وان كان اخذا بالظن لكنه لا يستلزم حجية الظن ، فنحن نأخذ بالظن الوجوبى من باب انه

ص: 120

موافق للاحتياط لا بما انه ظن.

قوله ص 252 س 4 وقد تلخص من استعراض : ذكر هذا من باب التمهيد للبحث الآتي ، فكانه قدس سره يقول : من خلال هذا كله اتضح ان الخبر في الجملة حجة بواسطة آية النبأ وغيرها ، وبعد هذا ننتقل في البحث الآتي الى تحديد الخبر الذي ثبتت حجيته في الجملة وهل هو كل خبر او ...

قوله ص 252 س 6 كسيرة المتشرعة والسيرة العقلائية : وهكذا الطائفة العاشرة من الاخبار.

المرحلة الثانية.

اشارة

قوله ص 252 س 7 ونأتي الآن ... الخ : يمكن منهجة هذا المبحث ضمن نقاط ثلاث :

1 - تقدم ص 223 من الحلقة ان البحث حول الخبر يقع في مرحلتين هما :

ا - في اثبات حجية الخبر في الجملة

ب - في تحديد دائرة الخبر الحجة.

وفيما سبق كان الحديث يدور عن المرحلة الاولى ، ومن الآن يقع عن المرحلة الثانية وهي ان الخبر بعد ان ثبتت حجيته في الجملة فهل الحجة كل خبر او خصوص خبر الثقة او خصوص خبر العادل؟

والجواب : انه لو لا حظنا آية النبأ فالمستفاد منها ان الحجة هو خبر العادل ، فخبر الفاسق وان كان ثقة ليس حجة ، فانظر الى منطوقها حيث يقول : ان جاءكم فاسق - اي سواء كان ثقة ام لا - فتبينوا ، اما اذا لا حظنا السيرة والروايات فالمستفاد منها ان الحجة هو خبر الثقة وان لم يكن عادلا ، فان سيرة العقلاء جرت

ص: 121

على العمل بخبر الثقة وان لم يكن عادلا ، وهكذا المستفاد من الروايات (1).

وباتضاح هذا قد يقال : انه بناء عليه تقع المعارضة بين آية النبأ من جهة والسيرة والروايات من جهة اخرى ، اذ آية النبأ تقول ان خبر الفاسق ليس حجة سواء كان خبر ثقة ام لا ، بينما السيرة تقول : خبر الثقة حجة سواء كان عادلا ام لا. وهذه معارضة بنحو العموم والخصوص من وجه - وليست بنحو العموم والخصوص المطلق حتى يقال بالتخصيص - ومادة الاجتماع التي يتعارضان فيها هي خبر الثقة غير العادل الذي هو محل النزاع والخلاف (2) ، فالآية تقول ليس هو حجة ، والسيرة تقول هو حجة ، وبعد التعارض يتساقطان ونرجع الى اصالة عدم حجيته ، فان الاصل فيما يشك في حجيته هو عدم الحجية كما تقدم ص 67 من الحلقة.

هذا ويمكن دفع المعارضة بان مفاد آية النبأ موافق للسيرة وليس مخالفا لها ، فآية النبأ تدل على حجية خبر الثقة لا خبر العادل ، ووجه ذلك : ان آية النبأ وان عبرت بالفاسق وقالت ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا الا انه يمكن القول بكون المراد من الفاسق هو غير الثقة لا غير العادل ، والقرينة على ذلك هي التعليل ، فان المستفاد منه ان خبر الفاسق انما يجب التبين عنه لاحتمال الوقوع في الجهالة اي السفاهة وهي الفعل غير العقلائي ، ومن الواضح ان الاخذ بالخبر انما يكون سفهيا فيما اذا كان ناقل الخبر غير ثقة اما اذا كان ثقة فلا يكون الاخذ به سفهيا وان لم يكن عادلا.

2 - انه لو فرضنا وجود خبر واجد لشرط الحجية - بان كان خبر ثقة أو

ص: 122


1- من قبيل العمري وابنه ثقتان.
2- فان النزاع والخلاف انما هو في خبر الثقة فيما اذا لم يكن عادلا.

عادل - ولكن كان مضمونه مخالفا لفتوى المشهور فهل يسقط بسبب ذلك عن الحجية ، واذا فرضنا العكس بأن كان الخبر غير واجد لشرائط الحجية ولكن كان مضمونه موافقا لفتوى المشهور فهل يرتفع بذلك الى درجة الحجية ويصير حجة او لا؟ اذن ههنا بحثان :

احدهما : ان الخبر الحجة هل توهنه الشهرة الفتوائية اذا كانت مخالفة له وتسقطه عن الحجية او لا؟

ثانيهما : ان الخبر اذا لم يكن حجة وكانت الشهرة الفتوائية موافقة لمضمونه فهل تجبره وترفعه الى درجة الحجية؟ هذان بحثان تقدم كلام موجز عنهما في الحلقة الثانية ص 201.

3 - ان خبر الثقة انما يكون حجة فيما اذا كان اخبارا عن قضية محسوسة - كالاخبار عن نزول المطر - او عن قضية غير محسوسة ولكنها ذات اثار محسوسة كالاخبار عن عدالة زيد مثلا ، فان العدالة شيء غير محسوس ولكن لها اثار محسوسة كالمواظبة على فعل الواجبات وترك المحرمات ، واما اذا فرض ان الخبر لم يكن محسوسا وليس له آثار محسوسة فلا يكون حجة لعدم انعقاد السيرة العقلائية والمتشرعية على العمل بمثله.

ويترتب على هذا ان فتوى المجتهد لا تكون حجة على المجتهد الآخر ، لان اخباره عن الحكم ليس اخبارا حسيا حتى يكون حجة ، وانما هو حدسي. اجل فتوى المجتهد حجة على مقلديه ولكن لا من باب حجية خبر الثقة بل للادلة الخاصة على جواز التقليد كقوله تعالى « واسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون » والسيرة العقلائية على الرجوع لاهل الخبرة.

ص: 123

لا قيمة للاجماع المنقول

اتضح من خلال هذا ان الخبر الحدسي ما دام ليس حجة فالناقل لقول الامام علیه السلام اذا كان ينقله عن حدس لا عن حس - كما لو فرض انه استكشف رأي الامام علیه السلام من اتفاق مجموعة من العلماء على فتوى معينة - فلا يكون نقله معتبرا لانه نقل حدسي لا حسي. اجل ان نقله لاتفاق العلماء حيث انه نقل لامر حسي - اذ الاتفاق امر حسي - فيكون معتبرا ويثبت بذلك الاتفاق (1) ، وبثبوت الاتفاق يثبت رأي الامام علیه السلام لو كان الشخص المنقول اليه يرى الملازمة بين ثبوت الاتفاق ورأي الامام علیه السلام .

وبهذا يتضح حال الاجماعات التي ينقلها الشيخ الطوسي وغيره ، فانه كان يقول القدماء من العلماء في توجيه حجيتها : ان الشيخ الطوسي مثلا حينما يدعي الاجماع فهو ينقل ضمنا قول الامام علیه السلام - ولكنه نقل بالمعنى لا بنص الالفاظ - فانه علیه السلام بمقتضى قاعدة اللطف لا بد وان يكون من الموافقين لهم غاية الامر لا يكون مشخّصا ومميزا من بين بقية الاشخاص.

واجاب المتأخرون عن هذا التوجيه بان الشيخ الطوسى وان كان ناقلا لقول الامام علیه السلام ضمن نقله للاجماع الا انه نقل حدسي وبسبب قاعدة اللطف مثلا ، وليس نقلا حسيا ليكون حجة ، فان الحجة هو خبر الثقة الحسي دون الحدسي. اجل ان الاتفاق حيث انه امر حسي فيكون نقله حجة وبثبوته يثبت

ص: 124


1- طبيعي ان الاتفاق يثبت بشرط ان لا يكون الناقل ذا تسامح عند نقله للاتفاق ، فهناك بعض اذا شاهد اتفاق عشرة من العلماء على حكم معين نسب الاتفاق الى الجميع ، ان مثل هذا لا يكون نقله للاتفاق معتبرا.

رأي الامام علیه السلام على تقدير ثبوت الملازمة عند الشخص المنقول اليه (1).

قوله ص 252 س 9 وشروطها : هذا عطف تفسير لسابقه ، اي ان المقصود في المرحلة الثانية تحديد دائرة الحجية ، وبكلمة اخرى شروط الحجية ، وان شرط الحجية هل هو الوثاقة او العدالة.

قوله ص 253 ص 7 بالتعارض والتساقط : اي في مادة الاجتماع ، وهي خبر الثقة غير العادل التي هي محل النزاع والكلام.

قوله ص 253 س 8 لان التعليل بالجهالة : وهكذا التعليل بالندم يشهد بذلك ، فان العاقل لا يندم اذا اخذ بخبر الفاسق ما دام ثقة وانما يندم لو اخذ بخبر غير الثقة.

قوله ص 253 س 12 وهل يسقط .. الخ : هذا اشارة الى النقطة الثانية من النقاط الثلاث المتقدمة. والمراد من الامارة الظنية النوعية مثل الشهرة الفتوائية فانها تورث الظن غالبا.

قوله ص 254 س 2 في الحلقة السابقة : ص 201.

قوله ص 254 س 3 ولا شك في ان ادلة .. الخ : اشارة الى النقطة الثالثة من النقاط الثلاث المتقدمة.

قوله ص 254 س 12 ومن اجل ذلك : اي عدم حجية الخبر الحدسي.

قوله ص 255 س 2 في مثل ذلك : اي في نقل الاتفاق كما اذا كان ينقل

ص: 125


1- ينبغي الالتفات الى ان الاجماع على نحوين : محصل ومنقول ، فالمحصل هو الاجماع الذي يحصله المجتهد بنفسه بتتبعه دون ان ينقل له. والمنقول هو ما ينقله الغير له. والحديث عن المحصل تقدم في مبحث وسائل الاثبات الوجداني ص 210 من الحلقة ، وهنا يتحدث قدس سره عن الاجماع المنقول. وعليه فقد وقع فصل بين البحثين ولم يجمعا في مكان واحد.

اتفاق الكل والحال ان المتفق عشرة مثلا.

قوله ص 255 س 5 وعلى هذا الاساس : اي على اساس عدم حجية الخبر الحدسي.

قوله ص 255 س 6 فانه كان يقال : اي من قبل العلماء القدماء.

قوله ص 255 س 12 بل في اثبات تلك الفتاوى فقط : اي بل في اثبات الاتفاق فقط ، فان كان الشخص المنقول اليه يرى الملازمة بين هذا الاتفاق ورأى الامام علیه السلام ثبت رأيه علیه السلام والا فلا.

حجية الخبر مع الواسطة.

وقوله ص 255 س 13 ولا شك في ان حجية الخبر ... الخ : للخبر صورتان ، فتارة يكون اخبارا عن الامام علیه السلام بلا واسطة كما لو كنا معاصرين لزرارة واخبرنا عنه علیه السلام بأن قراءة السورة بعد الحمد واجبة في الصلاة ، واخرى يكون اخبارا عنه علیه السلام مع الواسطة كما لو اخبر الشيخ الطوسي عن زرارة (1) عنه علیه السلام بان السورة واجبة.

وفى الصورة الاولى لا يوجد اشكال ، واما الصورة الثانية ففيها اشكال يتوقف استيضاحه على بيان مقدمة وهي : ان الشارع اذا أراد جعل الحجية لشي فذلك يحتاج الى ركنين :

ا - وجود خبر مثلا لكي تنصب عليه الحجية ، فالخبر موضوع للحجية ومن دون افتراضه لا يمكن جعلها. ومن اللازم افتراض وجود الخبر اولا لكي تنصب عليه الحجية ثانيا ، فان موضوع الحكم متقدم على الحكم.

ص: 126


1- مع افتراض معاصرة الشيخ لزراره حتى يكون النقل عنه عن حس.

ب - وجود اثر شرعي لمضمون الخبر ، فوجود الاثر شرط للحجية ، والحجية مشروطة به ، فاذا لم يكن لمضمون الخبر اثر شرعي فلا يمكن ان تثبت له الحجية للزوم محذور اللغوية ، نظير ما اذا اخبر شخص بان الجو شديد الحرارة ، فان هذا الاخبار لا يمكن ان يحكم عليه الشارع بالحجية لعدم الاثر الشرعي لحرارة الجو. وهذا شيء واضح.

ثم ان الشرط لا بد وان يكون غير الحجية المشروطة اذ الشرط مغاير للمشروط ومتأخر عنه ولا يمكن ان يكون نفسه.

وبعد اتضاح هذه المقدمة نعود لبيان الاشكال ونقول : انه لو كنّا معاصرين لزرارة واخبرنا عن الامام علیه السلام بوجوب السورة امكن ان تثبت له الحجية دون اي اشكال لتوفر كلا الركنين السابقين فيه ، اذ موضوع الحجية وهو خبر زرارة ثابت بالوجدان ، والاثر الذي هو شرط الحجية ثابت ايضا ، فان وجوب السورة هو الاثر لمضمون خبر زرارة (1) ، واما اذا فرض ان الاخبار كان مع الواسطة - كما لو اخبر الشيخ الطوسي عن زرارة عنه علیه السلام - فهنا يأتي الاشكال بتقريب ان خبر زرارة لا نجزم بثبوته كي تثبت له الحجية ، فان ثبوت الحجية له - خبر زرارة - فرع ثبوته وحيث انه لم يحرز ثبوته فكيف تثبت الحجية له.

وقد يدفع هذا الاشكال بان خبر الشيخ الطوسي حيث انه ثابت بالوجدان فيمكن ان تثبت له الحجية ، واذا صار حجة ثبت بذلك خبر زرارة - لان اخبار زرارة هو المضمون لخبر الشيخ الطوسي وبعد ثبوته بالتعبد الشرعي وصيرورته كأنه ثابت وجدانا تثبت له الحجية. وبهذا البيان يتضح ان بالامكان تطبيق

ص: 127


1- اذ المضمون الذي اخبر عنه زرارة هو ان الامام علیه السلام اخبرني ، فمضمون خبر زرارة هو اخبار الامام علیه السلام وليس هو وجوب السورة ، اجل وجوب السورة اثر لاخباره علیه السلام .

الحجية على خبر زرارة بعد تطبيقها على خبر الطوسي اولا ، اذ بتطبيقها عليه يثبت خبر زرارة وبعد ثبوته نطبق عليه الحجية.

ولكن هذا الدفاع اشكل عليه باشكالين مذكورين في الرسائل والكفاية :

ا - انه على الدفاع المذكور يلزم ان يكون الحكم موجدا لموضوع نفسه ، اي يلزم ان تكون الحجية موجدة لموضوع نفسها ، لان خبر زرارة ثبت بالحجية الثابتة لخبر الطوسي ، ومع ثبوته بالحجية فكيف تثبت له الحجية بعد ذلك وتصير حكما له ، ان لازم هذا صيرورة الموجد للشيء حكما له والحكم للشيء يلزم ان يكون موجدا له ، وهذا مستحيل فان الحكم متأخر عن موضوعه فلو كان هو الموجد لموضوعه يلزم ان يكون متقدما عليه.

ب - وهذا الاشكال ناظر الى خبر الطوسي بخلاف السابق فانه ناظر الى خبر زرارة. وحاصله : ان الحجية كيف تثبت لخبر الطوسي ، فانه وان كان ثابتا بالوجدان ويمكن ثبوت الحجية له من دون اي اشكال الا انه يأتي الاشكال من ناحية ان ثبوت الحجية له موقوف على وجود الاثر لمضمونه ، ومن الواضح ان مضمونه ليس هو الا ان زرارة اخبرني عن الامام علیه السلام ، فاخبار زرارة هو المضمون لخبر الطوسى ، واذا لاحظنا خبر زرارة لم نجد له اثرا شرعيا الا شيئا واحدا وهو الحجية ، اذ زرارة بما انه عادل فخبره حجة (1) ومن خلال هذا نخرج بهذه النتيجة وهي ان الحجية ثابتة لخبر الطوسي بلحاظ اثر شرعي هو نفس الحجية فيلزم ان تكون الحجية هي الشرط وهي الحكم المشروط مع انا اشرنا في المقدمة الى ان الحجية المشروطة متقدمة على الشرط ولا يمكن ان تكون نفسه.

ولاجل استيعاب الاشكالين جيدا نذكر الفروق بينهما :

ص: 128


1- واما وجوب السورة فهو ليس اثرا لمضمون خبر الطوسي وانما هو اثر لمضمون خبر زرارة.

1 - ان الاشكال الاول ناظر الى خبر زرارة بينما الثاني ناظر الى خبر الطوسي.

2 - ان الاول ناظر الى محذور كون الحكم موجدا لموضوع نفسه بينما الثاني ناظر الى محذور كون الشرط عين المشروط.

3 - ان الاول ناظر الى اختلال الركن الاول من الركنين السابقين بينما الثاني ناظر الى اختلال الركن الثاني.

دفع الاشكالين

وبعد اتضاح الاشكالين نقول في دفعهما ان حجية خبر الطوسي وحجية خبر زرارة لو كانتا حجية واحدة كان كلا الاشكالين تاما ، اما اذا فرض ان احداهما غير الاخرى فكلاهما مدفوع. والصحيح ان احداهما غير الاخرى لان الدليل الدال على حجية الخبر يدل على حجيته بنحو القضية الحقيقية ، اي يدل انه كلما فرض وجود خبر خارجي فهو حجة ، فاذا كان عندنا خمسة أخبار فعدد الحجيات خمس ولكل خبر حجية خاصة به ، واذا حصل خبر جديد حصلت حجية جديدة ، وهذا نظير الدليل على حرمة الخمر ، فكما انه يدل على صيرورة الحرمة فعلية عند تحقق الخمر خارجا بحيث كلما حصل خمر جديد حصلت حرمة جديدة كذلك الحال في حجية الخبر فان الحجية تصير فعلية عند تحقق الخبر خارجا بحيث كلما تحقق خبر جديد خارجا تحققت حجية خاصة به.

وعلى هذا الضوء نقول : ان خبر الطوسي وخبر زرارة بما انهما فردان من الخبر فيلزم ان يكون لكل منهما حجية خاصة به ، وبذلك يندفع كلا الاشكالين.

اما الاشكال الاول فباعتبار ان خبر زرارة وان كان يوجد بواسطة الحجية

ص: 129

الثابتة لخبر الطوسي ، وبعد تحقق خبر زرارة فالحجية وان كانت تثبت له الا ان هذه الحجية التي صارت حكما لخبر زرارة هي غير حجية خبر الطوسي وليستا واحدة حتى يلزم ان يكون الموجد للشيء حكما له.

واما الاشكال الثاني فباعتبار ان مضمون اخبار الطوسي وان لم يكن له اثر سوى الحجية الا ان هذه الحجية هي غير الحجية الثابتة لخبر الطوسي ، فالحجية الثابتة لخبر الطوسي وان كانت لا تثبت الا بلحاظ حجية خبر زرارة الا ان هذه الحجية غير تلك الحجية فلا يلزم اتحاد الشرط والمشروط.

قوله ص 256 س 1 كذلك : اي شرعي.

قوله ص 256 س 2 وجعل الحجية له : عطف تفسير للتعبد به.

قوله ص 256 س 4 وعن افتراض : عطف على « عن الخبر ».

قوله ص 256 س 11 واما اذا نقل شخص : كالشيخ الطوسي مثلا.

قوله ص 256 س 13 على الشخص الناقل : وهو الشيخ الطوسي على ما ذكرنا.

قوله ص 257 س 6 المستفادة من الدليل : اي ان الحجية التي وجد بها خبر زرارة والحجية الثابتة لخبر زرارة كلتاهما مستفادة من دليل واحد وهو دليل حجية خبر الثقة ، فدليل حجية خبر الثقة دليل واحد يدل على حجية واحدة بها يوجد خبر زرارة وهي في نفس الوقت حكم لخبر زرارة.

قوله ص 257 س 14 وشرطها : عطف على موضوعها - ولا بد من شطب الفارزة الموجودة قبل كلمة « وشرطها » - والمقصود ان الحجية مجعولة على موضوعها وشرطها على نحو القضية الحقيقية.

قوله ص 257 س 14 المقدر الوجود : صفة للشرط والموضوع لا

ص: 130

لخصوص الشرط.

قوله ص 257 س 15 وفعلية الحجية : اي ان الحجية تصير فعلية فيما اذا صار موضوعها وشرطها فعليا ، وكلما تعدد الشرط والموضوع تعددت الحجية.

قوله ص 257 س 16 كما هو الشأن في سائر : مثل الخمر حرام.

ص: 131

قاعدة التسامح في ادلة السنن

اشارة

قوله ص 258 س 10 ذكرنا ان موضوع الحجية ... الخ : اتضح من خلال ما سبق ان الخبر الذي حكم الشارع بحجيته هو خبر الثقة لا غير ، ولكن هناك رأي اصولي يقول انه في خصوص باب المستحبات يمكن القول بحجية خبر غير الثقة ايضا ، فغير الثقة اذا اخبر باستحباب الدعاء عند رؤية الهلال مثلا كان خبره حجة ايضا. واستند اصحاب هذا الرأى الى بعض الروايات الدالة على ان من بلغه عن النبي صلی اللّه علیه و آله ثواب على عمل فعلمه كان له ذلك الثواب وان كان صلی اللّه علیه و آله لم يقله ، ففي صحيح هشام بن سالم عن ابي عبد اللّه علیه السلام « قال : من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه كان له وان لم يكن على ما بلغه » (1) وعلى هذا لو وردت رواية من شخص غير ثقة تقول : من سرّح لحيته كانت له شجرة في الجنة ، فمن سرّح لحيته لتحصيل هذا الثواب كان له الثواب المذكور وان كان الخبر كاذبا.

وتسمى الاخبار المذكورة باخبار من بلغ حيث ورد في بعضها التعبير بجملة « من بلغه ». كما وتسمى القاعدة المستفادة من الاخبار المذكورة بقاعدة التسامح في ادلة السنن ، فالسنن التي هي المستحبات يتسامح في سندها وان لم يتسامح في سند غيرها.

وقد استفاد بعض الاعلام من اخبار من بلغ اكثر من ذلك حيث استفاد منها حجية خبر غير الثقة في باب المكروهات ايضا ، فلو دل خبر لشخص غير ثقة

ص: 132


1- الوسائل : 1 باب 18 من ابواب مقدمة العبادات حديث 6

على كراهة شرب الماء حالة القيام كان حجة بالرغم من عدم وثاقة الراوي (1).

ولتحقيق مدى صحة الرأي المذكور - القائل بحجية الخبر الضعيف في باب المستحبات فقط او باضافة المكروهات - نرجع من جديد الى صحيح هشام المتقدم لنستعرض الاحتمالات في المقصود منه ، وهي اربعة ، على الاول منها يثبت المطلوب وهو حجية خبر غير الثقة في باب المستحبات ، وعلى الثلاثة الاخيرة منها لا يثبت ذلك. والاحتمالات هي :

1 - ان يكون دالا على حجية خبر غير الثقة في خصوص باب المستحبات او بتعبير آخر على حجية مطلق البلوغ وان كان حاصلا بخبر غير الثقة ، وهذا الاحتمال هو المطلوب.

2 - ان يكون دالا على اثبات استحباب الفعل الذي بلغ عليه الثواب ولكن لا بعنوانه الاولي بل بعنوان البلوغ ، فلو دل خبر ضعيف على استحباب تسريح اللحية صار مستحبا لكن لا بما هو تسريح اللحية بل بما انه قد بلغ عليه الثواب.

والفرق بين هذا الاحتمال وسابقه ان السابق يدل على انشاء حكم ظاهري وهو الحجية ، بينما هذا الاحتمال يدل على انشاء حكم واقعى ، فان حجية الخبر حكم ظاهري - والحكم الظاهري هو الحكم المجعول حالة الشك ، وحجية الخبر حيث انها مجعولة حالة الشك في الحكم الواقعي فهي حكم ظاهري - بينما استحباب الفعل حكم واقعي حيث لم يجعل حالة الشك حتى يصير حكما

ص: 133


1- وهناك من يقول : لو ورد خبر لغير ثقة يدل على وجوب شيء معين فهذا الخبر وان لم يكن حجة فى اثبات الوجوب لكنه حجة في اثبات الاستحباب ، فاذا كان الخبر يدل على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال فيمكن الاستناد اليه في الحكم بالاستحباب دون الوجوب.

ظاهريا. نعم الاحتمالان المذكوران يشتركان في شيء واحد وهو جواز فتوى الفقيه باستحباب التسريح ، اذ الاحتمال الثاني ينشىء الاستحباب حسب الفرض والاحتمال الاول ينشىء الحجية للخبر.

3 - ان يكون دالا على الارشاد لحكم العقل ، فان العقل حينما يسمع الخبر الضعيف الدال على ثواب تسريح اللحية يحكم بحسن ذلك من باب الرجاء والاحتياط ، كما ويحكم باستحقاق من يسرح لحيته رجاء للثواب. واخبار من بلغ لعلها لا تفيد مطلبا اكثر من حكم العقل هذا بل تريد تأكيد حكم العقل والارشاد اليه.

4 - ان يكون بصدد وعد المسرّح لحيته بالثواب حتى تحصل له الرغبة بالاحتياط حينما يسمع باستحباب بعض الاشياء. وبكلمة اخرى هناك مصلحة في نفس الوعد بالثواب لتحصل للمكلف الرغبة في الاحتياط. وهذا نظير قولك لولدك : متى ما طلب منك شخص المساعدة ازاء ان يدفع اليك مقدارا معينا من المال فساعده وانا اعطيك ذلك المقدار لو لم يف ، انك في هذا المثال تعد بدفع ذلك المقدار حتى تحصل لولدك الرغبة في مساعدة الآخرين فتعد بدفع المال لمصلحة في نفس الوعد وهي الترغيب في مساعدة الآخرين.

ولا يخفى ان هذا الاحتمال الاخير يشترك مع سابقه في نقطة ويختلف عنه في اخرى ، فهو يشترك معه في عدم اشتماله على حكم شرعي ، فكلاهما لا يثبت حكما شرعيا - بخلاف الاحتمالين الاولين فانهما يثبتان حكما شرعيا - ويختلف عنه في افادته لمطلب مولوي بينما الثالث يفيد الارشاد ، فان الثالث يدل على الارشاد لحكم العقل بحسن الاحتياط بينما الرابع يعد وعدا مولويا بالثواب فهو مشتمل على المولوية في مقام الوعد بالثواب بينما الثالث لا يشتمل على اي مولوية.

ص: 134

ومن خلال هذا تجلى ان الفروق بين الاحتمالات كما يلي :

ا - ان الاحتمال الثالث لا يتضمن المولوية بل الارشاد لحكم العقل بخلافه في الاحتمالات الثلاثة الاخرى فانها تتضمن المولوية اما في جعل الحجية او في انشاء الاستحباب او في الوعد.

ب - ان الاحتمالين الاولين يتضمنان جعل حكم اما بالحجية او بالاستحباب بخلاف الاخيرين فانهما لا يتضمنان جعل حكم بل الارشاد او الوعد.

ج - ان الاحتمالين الاولين وان اشتركا في جعل الحكم الا ان الحكم المجعول في الاول ظاهري وفي الثاني واقعي.

د - انه على الاحتمالين الاولين يتمكن الفقيه من الفتوى باستحباب تسريح اللحية مثلا بينما على الاخيرين لا يمكنه ذلك. اما انه على الاولين يمكنه ذلك فباعتبار ان الاحتمال الثاني يجعل الاستحباب مباشرة حسب الفرض ، والاول يجعل الحجية للخبر الضعيف ، وبعد حجيته يحق للفقيه الفتوى بالاستحباب على طبقه. واما انه على الاخيرين لا يحق له ذلك فلأن الثالث يتضمن الارشاد لا اكثر ، والرابع يتضمن الوعد بالثواب لا غير. وهذا الفرق الاخير فارق عملي بينما الفوارق الثلاثة الاولى نظرية لا غير.

هل هناك ثمرة عملية بين الاول والثاني.

ذكرنا ان الفارق العملي بين الاحتمالين الاولين والاخيرين انه على الاولين يحق للفقيه الفتوى بالاستحباب بخلافه على الاخيرين. وهناك سؤال : هل يوجد فارق عملي وثمرة عملية بين الاحتمال الاول والثاني او لا؟ اختلفت الاجابة عن

ص: 135

ذلك ، فالسيد الخوئي « دام ظله » قال : انه لا توجد ثمرة عملية بينهما بينما السيد الشهيد يرى وجود الثمرة ، وذكر لذلك ثلاثة امثلة :

1 - اذا كان خبران احدهما يدل على استحباب شيء معين والآخر ينفي استحبابه ونفترض ان الدال على الاستحباب ضعيف السند بينما النافي له خبر ثقة ففي مثل هذه الحالة هل يحصل تعارض بين هذين الخبرين الدال احدهما على الاستحباب والآخر على نفيه؟ ان الثمرة العملية تظهر هنا ، فعلى الاحتمال الاول يحصل التعارض ، اذ احدهما يثبت الاستحباب والاخر ينفيه بينما على الاحتمال الثاني لا يحصل ، اذ المثبت للاستحباب لا يثبت الاستحباب لذات الفعل حتى يتعارض مع الخبر النافي للاستحباب عن ذات الفعل وانما الخبر المثبت للاستحباب يثبت الاستحباب بعنوان البلوغ ، ومن الواضح عدم التنافي بين ان يكون الفعل في نفسه ليس مستحبا وفي نفس الوقت يكون مستحبا بعنوان البلوغ ، وهذا نظير ما اذا ترجى اخوك المؤمن شرب الشاي في داره فانه بعنوان شرب الشاي ليس مستحبا ولكنه بعنوان رجاء المؤمن يكون مستحبا.

2 - لو فرض ورود خبر من غير الثقة يقول بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلا فبناء على الاحتمال الاول الذي يفرض فيه جعل الحجية للخبر الضعيف لا يكون الخبر المذكور حجة لا في اثبات الوجوب ولا في اثبات الاستحباب ولا في اثبات الجامع بينهما وهو اصل الطلب والرجحان.

اما انه لا يمكن ان يكون حجة في اثبات الوجوب فلأنه لم يقل احد بل ولا يحتمل ان يكون الخبر الضعيف حجة في اثبات الوجوب.

واما انه لا يمكن ان يكون حجة في اثبات الاستحباب فلأن الخبر بعد ما لم يكن دالا على الاستحباب كيف يكون حجة فيه فان حجية شيء في شيء فرع

ص: 136

دلالته عليه.

واما انه لا يمكن ان يكون حجة في اثبات الجامع فلأن الجامع مدلول التزامي للخبر - اذ المفروض ان الخبر الضعيف يدل على الوجوب بالمطابقة ، ولازم ذلك كون الفعل مطلوبا وراجحا - وبعد فرض ان الخبر لم يكن حجة في اثبات المدلول المطابقى وهو الوجوب فلا يكون حجة في اثبات ، المدلول الالتزامي ، فان مثل السيد الخوئي (1) يرى ان الدلالة المطابقية اذا سقطت عن الحجية فالدلالة الالتزامية تسقط عن الحجية ايضا. هذا كله بناء على الاحتمال الاول ، واما بناء على الاحتمال الثاني فيثبت الاستحباب لان المفروض بناء عليه ان اخبار من بلغ تثبت الاستحباب للفعل بعنوان البلوغ ، وحيث انه يصدق - عند ما يدل الخبر على وجوب الدعاء - بلغ الثواب على الدعاء (2) فيكون الدعاء مستحبا بعنوان البلوغ.

3 - اذا دل خبر ضعيف على استحباب الجلوس في المسجد مثلا الى ان تطلع الشمس وفرض عدم دلالته على حكم الجلوس ما بعد الطلوع ففي مثله هل يمكن استصحاب الاستحباب لما مع الطلوع او لا بعد افتراض ان نفس الخبر لا دلالة له على الحكم بعد الطلوع؟ ان ذلك يرتبط بالاحتمالين ، فعلى الاول يجري الاستصحاب لان المفروض حجية الخبر الضعيف في اثبات الاستحباب قبل الطلوع ، وما دام الاستحباب ثابتا قبل الطلوع فيمكن استصحاب بقائه. واما بناء على الثاني فلا يجري ، لان الاستحباب لم يثبت لذات الفعل وانما ثبت لعنوان البلوغ ، ومن الواضح ان عنوان البلوغ منتف بعد الطلوع جزما لان الذي بلغنا

ص: 137


1- وهكذا السيد الشهيد.
2- اذ الخبر الدال بالمطابقة على وجوب فعل دال بالالتزام على الثواب عند فعله.

عليه الثواب هو الجلوس الى حين الطلوع واما ما بعده فجزما لم يبلغ ثوابه فكيف يجري الاستصحاب؟ فان شرط جريانه بقاء الموضوع وهو مما نجزم بانتفائه لاختصاص عنوان البلوغ بما قبل الطلوع ، وهذا بخلافه على الاحتمال الاول فان الخبر الضعيف بعد صيرورته حجة يثبت الاستحباب لذات الفعل فيجري استصحابه.

المختار في المسألة

وبعد ان عرفنا الاحتمالات الاربعة في روايات من بلغ وان النافع منها هو الاول نريد التعرف على مدى امكان استفادته ليثبت المطلوب. والصحيح عدمه ، اذ الاخبار المذكورة تثبت الثواب حتى في صورة كذب الخبر - حيث قالت : كان له ذلك الثواب وان لم يقله النبي صلی اللّه علیه و آله - ومن الواضح انه لو كان المقصود اثبات الحجية فالمناسب اثباتها في صورة الشك في كذب الخبر لا في صورة كذبه واقعا ، فانه مع كذبه واقعا لا معنى لجعله حجة. وعليه فقاعدة التسامح في ادلة السنن التي يراد منها اثبات حجية الخبر الضعيف في باب المستحبات غير ثابتة (1).

قوله ص 258 س 11 خبر الثقة على تفصيلات متقدمة : من قبيل ان يكون حسيا لا حدسيا وان لا يكون مخالفا للمشهور على رأي بعض.

ص: 138


1- ينبغي الالتفات الى ان في المقصود من قاعدة التسامح احتمالين : 1 - ان خبر غير الثقة هل هو حجة في المستحباب او لا؟ 2 - هل يمكن الحكم باستحباب الفعل الدال على استحبابه خبر غير الثقة؟ وعلى الاول يكون النافع هو الاحتمال الاول من الاحتمالات الاربعة المتقدمة ، وعلى الثاني يكون النافع الاحتمالين الاولين. والسيد الشهيد حيث جعل محل الكلام هو البحث عن الحجية دون الحكم بالاستحباب لذا لم يسلم بقاعدة التسامح.

قوله ص 259 س 4 لمطلق البلوغ : اي تجعل الحجية للخبر الضعيف ايضا.

قوله ص 259 س 5 بدوا : وان كان التأمل يقتضي اختيار الاحتمال الثالث كما سبق في الحلقة الثانية.

قوله ص 259 س 8 واقعي نفسي : اما انه واقعي فلانه ليس كالحجية مجعولا حالة الشك. واما انه نفسي فلان استحبابه ليس من باب المقدمة للتوصل الى مستحب آخر.

قوله ص 261 س 5 لا يثبت مؤداه : وهو استحباب ذات الفعل.

قوله ص 261 س 6 بل هو بنفسه يكون موضوعا : لان الخبر الضعيف بنفسه يحقق البلوغ ، وبتحقق البلوغ يتحقق الاستحباب.

قوله ص 261 س 7 وكونه معارضا : هذا دفع لاشكال مقدر. اما الاشكال فهو انه قد يقال ان البلوغ غير محقق ، اذ الخبر الدال على الاستحباب لو لم يكن معارضا امكن القول بتحقق البلوغ ولكن المفروض معارضته بخبر آخر ينفي الاستحباب ، ومعه لا يصدق البلوغ. واما الدفع : فهو ان المعارضة لا تنفي صدق عنوان البلوغ ، نظير ما اذا اخبر شخص بسفر زيد واخبر آخر بانه لم يسافر فانه يصح ان يقال بلغني سفر زيد.

قوله ص 261 س 16 لانه مدلول تحليلي : اي التزامي او تضمني.

قوله ص 262 س 2 بكامله : فان المدلول المطابقي الكامل للخبر هو الطلب الوجوبي ، فاذا لم يكن الخبر حجة في هذا المدلول بكامله فلا يكون حجة في جزءه وهو الطلب فقط.

قوله ص 262 س 10 ومهما يكن : اي سواء كانت هناك ثمرة عملية بين الاحتمال الاول والثاني ام لا.

ص: 139

ص: 140

حجية الظهور

اشارة

ص: 141

ص: 142

البحث الثالث في حجية الظهور

اشارة

قوله ص 263 س 1 الدليل الشرعي .. الخ : مرّ ص 86 من الحلقة ان البحث في الدليل الشرعي يقع في ثلاث نقاط هي :

ا - البحث عن بعض الدلالات العامة مثل ان الامر ظاهر في الوجوب ، والجملة الشرطية ظاهرة في المفهوم وهكذا. وقد مر هذا من ص 87 الى ص 193 من الحلقه.

ب - البحث عن وسائل اثبات صدور الدليل. وقد مر هذا من ص 194 الى ص 262. وبقيت النقطة الثالثة وهي ما نريد التحدث عنها الآن.

ج - البحث عن حجية الظهور.

وقبل البحث عن حجية الظهور نوضح ثلاثة مصطلحات هي : الظهور ، النص ، المجمل.

ان الدليل اذا كانت دلالته صريحة بحيث لا تقبل احتمال الخلاف فهو نص ، واذا كان محتملا لعدة معان بدون رجحان لبعضها على بعض فهو مجمل ، واذا كانت بعض المعاني منسبقة عرفا الى الذهن فهو الظاهر.

اما البحث عن الظاهر فسيأتي في البحث الآتي ص 265 من الحلقة. واما النص فلا اشكال في حجيته لان دلالته قطعية لا تحتمل الخلاف. واما المجمل فهو ليس حجة في خصوص معنى من معانيه وانما هو حجة في الجامع بينها لو فرض امكان تنجزه على جامعيته واجماله ، فمثلا لو امر المولى بالدعاء عند رؤية الهلال

ص: 143

وتردد المقصود من الامر بين الوجوب والاستحباب - بناء على كون الامر مشتركا لفظا بينهما وليس موضوعا لخصوص الوجوب - فلا يكون منجزا لخصوص الوجوب ولا لخصوص الاستحباب بل للجامع بينهما وهو اصل الطلب والرجحان ، اذ الجامع المذكور وان كان مجملا لكنه قابل للتنجز على المكلف (1) فيتنجز الا اذا حصل سبب مزيل للمنجزية ، وذلك في احدى الحالات الاربع التالية :

1 - ان يرد دليل ثان يدل على ان الدعاء عند الرؤية مستحب ، فان هذا الدليل يوجب رفع الاجمال عن الدليل الاول بعد ضمه اليه ويثبت ان المقصود منه الاستحباب.

2 - ان يرد دليل ثان يدل على ان الدعاء عند الرؤية ليس واجبا ، فانه بضمه الى الاول يرتفع اجمال الاول كما هو واضح.

وفرق هذه الحالة عن صاحبتها ان الدليل في السابقة مثبت لاحد المعنيين بينما في الثانية هو ناف لذلك.

3 - ان يرد دليل ثان مجمل وبضمه الى الاول يرتفع الاجمال. ومثال ذلك : روايتا الكر ، فانه وردت في تحديد مقدار الكر روايتان احداهما تقول : الكر (600) رطل والاخرى تقول الكر (1200) رطل. وكلمة « الرطل » في هذين النصين لم يحدد المقصود منها ، اذ الرطل رطلان رطل عراقي ورطل مكي - والمكي ضعف العراقي - ولكن عند ضم احداهما الى الاخرى يفهم ان مقصود الاولى من

ص: 144


1- ومثال الجامع الذي لا يقبل التنجز ما لو قال المولى كل الطعام وتردد مقصوده بين الوجوب والتهديد ، فان الجامع بينهما لا يمكن تنجزه ، او فرض انه قال تحرز عن رغبة النكاح ودار الامر بين ان يكون المقصود تحرز عن الرغبة في النكاح او تحرز عن الرغبة عن النكاح ، فان الجامع لا يمكن تنجزه ايضا.

الرطل هو المكي ومقصود الثانية هو العراقي ، فان المكي ما دام ضعف العراقي فمن المناسب ان تكون الرواية الثانية ناظرة الى العراقي والاولى الى المكي ، لان (1200) ضعف (600). وباختصار : المقصود من هذه الحالة ان ترد روايتان كل منهما مجملة ونعلم ان المقصود منهما واحد - ففي الروايتين السابقتين نعلم بان المقصود شيء واحد والا وقع التعارض بينهما - ويكون للمجمل في الرواية الاولى معنى يتناسب مع احد معنيي المجمل في الرواية الثانية.

4 - ان يرد دليل ثان يثبت احد معاني المجمل دون ان يكون ذلك مستلزما لنفى المعانى الاخرى ، نظير ما لو ورد « جئني بعين » وتردد المقصود بين الذهب والفضة ، فلو ورد دليل ثان يقول يجب الاتيان بالفضة فالعلم الاجمالي بوجوب الاتيان اما بالذهب او الفضة يسقط عن المنجزية ويجب الاتيان بخصوص الفضة (1) فان الامر بالاتيان بالفضة وان كان لا يتنافى مع وجوب الاتيان بالذهب ، اذ وجوب احدهما يلتئم مع وجوب الآخر (2) ولكن مع ذلك يسقط العلم الاجمالي عن المنجزية ويجب الاتيان بخصوص الفضة لان العلم الاجمالي لا يكون منجزا الا اذا توفرت اركان اربعة - تقدمت في الحلقة الثانية ص 366 - ثالثها تعارض الاصول العملية في الاطراف ، فلو تعارضت ثبت التنجز والا فلا ، وفي المقام لا تتعارض لان الاتيان بالفضة حيث دل الدليل الثاني على وجوبه فلا يمكن اجراء البراءة عنه ، ومعه فتجري البراءة عن وجوب الاتيان بالذهب بلا معارض. وبكلمة اخرى : ان البراءة عن وجوب الفضة لا تجري لاننا بواسطة

ص: 145


1- لو كان العلم الاجمالي غير ساقط عن المنجزية فاللازم الاتيان بالذهب والفضة لان الجامع اذا تنجز وجب من باب تحصيل الموافقة القطعية الاتيان بهما معا.
2- وهذا بخلافه في الحالة الاولى فان ثبوت الاستحباب يتنافى وثبوت الوجوب.

الدليل الثاني نجزم بوجوبها ولا نشك فيه بخلاف وجوب الذهب فانه مشكوك فيه فتجري البراءة عنه بلا معارض.

قوله ص 263 س 2 في نسبتها اليه : اي نسبة تلك الامور الى المدلول.

قوله ص 263 س 3 ولا يحتمل .. الخ : بفتح الياء ، اي ولا يحتمل مدلوله مدلولا آخر بدلا عنه.

قوله ص 263 س 5 والمنسبق : عطف تفسير على الظاهر.

قوله ص 264 س 3 الا معنى واحد قابل لهما : المناسب هكذا : ويكون احد المعاني لهذا مناسبا لواحد من معاني ذاك.

قوله ص 264 س 6 في حالة عدم التنافي ... الخ : واما مع التنافي فتلك هي الحالة الاولى.

قوله ص 264 س 15 في المدلول التصوري والمدلول التصديقي معا :

المدلول التصوري هو المدلول الوضعي الذي ينسبق الى الذهن عند سماع الكلمة. والمدلول التصديقي هو قصد المعنى. اي ان الدليل اذا كان نصا في دلالته على اصل المعنى ونصا في دلالته على قصد المتكلم له فلا اشكال في حجيته ، اذ مع القطع بالدلالة لا وجه للتأمل في الحجية.

دليل حجية الظهور

قوله ص 265 س 1 واما الظاهر فظهوره حجة : ذكرنا فيما سبق ان النص حجة وهكذا المجمل حجة في الجامع. وبقي ان نتحدث عن الظاهر. ان الكلام اذا كان ظاهرا في معنى معين فظهوره حجة - وتسمى حجية الظهور باصالة الظهور - والدليل على حجيته ثلاثة وجوه تقدم في الحلقة الثانية الاولان منها. والوجوه

ص: 146

الثلاثة هي :

1 - التمسك بسيرة المتشرعة اي اصحاب الائمة علیهم السلام ، فانها كانت جارية على التمسك بظهور القرآن الكريم والاحاديث الواردة من الائمة السابقين ، وهي حجة جزما بمعنى أنها كاشفة عن موافقة الامام علیه السلام - بلا حاجة الى استكشاف موافقته من عدم الردع - اذ بدون موافقته لا تكون السيرة سيرة للمتشرعة فان المتشرع هو من يوافق عمله رضا الامام علیه السلام ومع عدم الموافقة لا يكون متشرعا.

وقد تسأل : كيف يمكن اثبات ان سيرة اصحاب الائمة علیهم السلام كانت جارية على العمل بالظواهر؟ والجواب : تقدم في الحلقة الثانية ص 178 بيان خمسة طرق لا ثبات ذلك ، ونستعين هنا بالطريق الرابع منها فيقال : انه لو لم يعمل اصحاب الائمة علیهم السلام بالظهور فلا بد من وجود بديل يعتمدون عليه في فهم المراد ، وحيث ان ترك الظهور والاعتماد على البديل ظاهرة غريبة فمن اللازم نقلها في الكتب التأريخية ، وحيث لم تنقل كان ذلك دليلا على عدم البديل وبالتالي على الاعتماد على الظهور.

2 - التمسك بسيرة العقلاء على العمل بالظهور ، فانهم في كل زمان بما فيه زمان الائمة علیهم السلام يعملون بالظهور - اذ لو لم يعملوا به وكان لهم بديل لنقله التأريخ - فلو لم يكن الائمة علیهم السلام موافقين للسيرة المذكورة لردعوا عنها ، وعدم الردع دليل على الامضاء.

اجل هنا شيء لا بد من الالتفات اليه وهو انه ذكر ص 184 من الحلقة ان عدم الردع يدل على الامضاء اما لنكتة عقلية - وهي لزوم نقض الغرض او وجوب النهي عن المنكر - او لنكتة استظهارية ، فان ظاهر حاله علیه السلام انه في مقام المحافظة على الشريعة ، فسكوته ظاهر في الموافقة. وهنا نقول : حينما نتمسك

ص: 147

بالسيرة العقلائية لا ثبات حجية الظهور فلا بد وان لا نتمسك لا ثبات عدم الردع بالنكتة الاستظهارية ، اذ يلزم من ذلك الدور ، لانا نتمسك بالظهور - اي ظهور حاله علیه السلام في الموافقة - لا ثبات حجية الظهور. وقد تقدمت الاشارة الى ذلك في الحلقة الثانية ص 212.

3 - التمسك بالاحاديث الدالة على وجوب التمسك بالقرآن الكريم والسنة الشريفة كقوله صلی اللّه عليه وآله : ما ان تمسكتم بهما - اي القرآن واهل البيت علیهم السلام - لن تضلوا بعدي ابدا. وتقريب الاستدلال : ان احد مصاديق التمسك بالقرآن واهل البيت هو العمل بظهور الكتاب والسنة فيكون واجبا ومشمولا لاطلاق الامر بالتمسك وبالتالي يكون الظهور حجة.

وقد يشكل عليه بان لازمه الدور ، اذ ظاهر الاحاديث المذكورة بمقتضى اطلاقها الشمول للعمل بالظهور ، ومعنى ذلك انه قد تمسكنا بالظهور لا ثبات حجية العمل بالظهور.

وللتخلص من ذلك لا بد من افتراض حجية الظهور ولو في الجملة بمعنى انه لا يلزم - لتمامية الاستدلال بالاحاديث المذكورة - افتراض حجية الظهور في جميع الموارد بل يكفي حجية ظهور خصوص الاحاديث المذكورة فانه اذا ثبت ذلك - ولو من باب ان العمل بظهور هذه الاحاديث هو القدر المتيقن من عمل العقلاء بالظهور - فيمكن التمسك به لا ثبات حجية الظهور في بقية الموارد (1).

ص: 148


1- قد يقال : انا اذا تمسكنا بالسيرة العقلائية لا ثبات حجية ظهور هذه الاحاديث فيثبت بها ايضا حجية بقية الظواهر ، فان السيرة لا تفرق بين ظهور وظهور. والجواب : انا نفترض ان القدر المتيقن من السيرة هو العمل بظهور هذه الاحاديث بحيث يكون العمل ببقية افراد الظهور مشكوكا.
اشكال على الدليلين الاولين.

اتضح ان الادلة على حجية الظهور ثلاثة. وهناك اشكال على الدليل الاول وهو سيرة المتشرعة وعلى الدليل الثاني وهو سيرة العقلاء.

اما الاشكال على سيرة المتشرعة فهو ان انعقاد سيرة اصحاب الائمة علیهم السلام على العمل بالظهور وان كان مسلما ولكنا لا نجزم بعملهم بجميع اقسام الظهور ، فان الظهور تارة يكون جليا وواضحا ومثل هذا يجزم بعملهم به ، واخرى غير جلي ومثله لا يجزم بانعقاد السيرة على العمل به. ومثاله : ما اذا كان الكلام ظاهرا في معنى معين واحتمل ان قرينة على خلاف ظهوره اتصلت به ولكنها اختفت علينا ، ان مثل هذا الظهور - الذي قال المشهور بحجيته وخالفناه في ذلك كما تقدم في الحلقة الثانية ص 215 - كيف يمكن الجزم بانعقاد سيرة المتشرعة على العمل به ، فان انعقاد السيرة على العمل به في غير الحالة المذكورة وان كنا نجزم به الا انه في هذه الحالة لا نجزم بذلك.

اجل اذا كان مدرك حجية الظهور هو الدليل الثاني اي سيرة العقلاء دون سيرة المتشرعه لم يرد هذا الاشكال ، لان سيرة العقلاء يمكن التأكد منها بالرجوع اليهم ويمكن للمشهور الجزم بعمل العقلاء بالظهور حتى في الحالة المذكورة. هذا كله في الاشكال على الدليل الاول.

واما الدليل الثانى وهو سيرة العقلاء فالوارد عليه اشكالان :

1 - ان التمسك بسيرة العقلاء اخص من المدعى ، فانه لا يثبت بها حجية الظهور في الموارد التي توجد فيها امارة عقلائية على خلاف الظهور ، كما لو كان لدينا كلام ظاهر فى معنى معين وكانت في مقابله امارة عقلائية - وان لم تكن

ص: 149

معتبرة شرعا كالقياس مثلا - فانه في هذه الحالة لا يعمل العقلاء بهذا الظهور المقابل بالامارة حتى ولو كانت غير معتبرة شرعا. هذا هو مقتضى التمسك بسيرة العقلاء بينما المدعى حجية الظهور حتى في هذه الحالة ، فان من قال بالحجية قال بها حتى في حالة مخالفة القياس للظهور. ويمكن دفع ذلك بما يلي :

ا - ان الدليل الدال على عدم حجية القياس يدل على ان اللازم للمكلف ان يطبق حالة وجود القياس جميع الآثار التي يرتبها حالة عدم وجوده فان هذا هو معنى عدم حجية القياس عرفا ، ومن الواضح ان احد الاثار التي يطبقها المكلف لو لم يكن القياس ثابتا لديه هو العمل بالظهور ، فدليل عدم حجية القياس على هذا الضوء يكون دالا على حجية الظهور المقابل للقياس وانه لا ينبغي ترك الظهور لاجله.

ب - ان هذا الاشكال يتم بناء على مسلك الشيخ الاصفهاني القائل بان سيرة العقلاء اذا جرت على عمل معين في حدود معينة فالامضاء الذي نستكشفه بواسطة عدم الردع يتحدد بتلك الحدود المعينة لا اكثر ، فاذا فرض ان العقلاء يعملون بالظهور في حالة عدم وجود قياس مخالف له فالثابت بالامضاء هو العمل بالظهور في هذه الحالة لا اكثر ، اما اذا تجاوزنا هذا المسلك وقلنا ان الامضاء لا يتعلق بالعمل الخارجي في حدوده الخاصة بل بالنكتة العقلائية المرتكزة في اذهان العقلاء التي من اجلها يعملون بالظهور (1) فلا يتم ما ذكر حيث ان النكتة

ص: 150


1- مسألة تعلق الامضاء الشرعي بالنكتة الارتكازية او بمقدار العمل الخارجي وقعت محلا للكلام بين الاعلام فممن اختار كون المدار على النكتة الارتكازية السيد الحكيم في المستمسك عند البحث في ثبوت الكرية بقول صاحب اليد ج 1 ص 215 بينما السيد الخوئي في فقه الشيعة ج 2 ص 75 والتنقيح ج 2 ص 329 وافق الاصفهاني في كون المدار على مقدار العمل الخارجي وقد تعرض السيد الشهيد الى المسألة المذكورة في بحوثه ج 2 ص 127.

التي لاجلها يعمل العقلاء بالظهور هو كونه مقتض للحجية - اي ان كل ظهور له اقتضاء الحجية ما دام لم يزاحم بحجه اخرى - وبامضاء هذه النكتة تكون النتيجة هي حجية الظهور فيما اذا لم يكن في مقابله حجة اخرى ، وبما ان الشارع الغى حجية القياس فلا يكونه مقابل الظهور حجة مزاحمة وبالتالي يكون حجة لدى الشارع لسقوط المزاحم عن الحجية.

2 - ان سيرة العقلاء وان جرت على العمل بالظهور الا انها جرت على العمل به في كلام الانسان الاعتيادي الذي متى ما اراد خلاف الظهور نصب قرينة متصلة على ذلك ، ومن الواضح ان الشارع ليس كذلك ، فانه كثيرا ما يعتمد على القرائن المنفصلة ، فيطرح احد المعصومين علیهم السلام عاما من العمومات ويأتي المخصص له من معصوم آخر متأخر عنه. وما دام للشارع هذه العادة - والمفروض انه لا يوجد بين العقلاء من له مثل هذه السيرة حتى يلاحظ انه يعمل بظهور كلامه او لا - فكيف يمكن ان يدعى ان العقلاء جرت سيرتهم على العمل بالظهور حتى في مثل كلام الشارع.

والجواب : ان هذا يتم فيما لو كان من اللازم اتحاد الموضوع الذي يمضي الشارع الظهور فيه مع الموضوع في السيرة ، فانه بناء عليه حيث ان الموضوع الذي جرت السيرة العقلائية على العمل بالظهور فيه هو الانسان الاعتيادي فيلزم ان يكون الموضوع الذي قد امضى الشارع الظهور فيه هو الانسان الاعتيادي ايضا ، ولكنا لا نقبل هذا ، اذ من الممكن ان تجري السيرة على العمل

ص: 151

بظهور كلام الانسان الاعتيادي ولكن الشارع يمضي الظهور في حق مطلق الانسان ولو غير الاعتيادي بتقريب : ان العقلاء وان جرت سيرتهم على العمل بالظهور في حق الانسان الاعتيادي لكن من المحتمل ان يطبقوا سيرتهم هذه يوما من الايام على كلام الشارع ايضا اما من باب الاعتياد - فان الاعتياد على العمل بالظهور في كلام الانسان الاعتيادي قد يوجب العمل بالظهور احيانا حتى في حق الانسان غير الاعتيادي - او من باب الغفلة عن كون الشارع ذا عادة خاصة ، وعليه فاللازم على الشارع من باب الاحتياط المسبق الردع عن هذه السيرة خوف تطبيقها يوما من الايام على كلامه ايضا ، فاذا لم يصلنا الردع دلّ ذلك على امضائها.

قوله ص 265 س 3 بالسنة المستكشفة : فان سيرة اصحاب الائمة علیهم السلام تكشف عن رأيهم الذي هو السنة.

قوله ص 265 س 5 ولو في الجملة : اي ولو في خصوص ظهور هذه الاحاديث الآمرة بالتمسك بتقريب ان حجية ظهور هذه الاحاديث هو القدر المتيقن من سيرة العقلاء المنعقدة على العمل بالظهور.

قوله ص 266 س 7 واطلاقها : عطف تفسير على ظهور الاحاديث.

قوله ص 266 س 8 كما ان الوجهين الاولين : المناسب التعبير بالوجه الثاني ، فان سيرة العقلاء هي التي تحتاج الى الامضاء ، واما سيرة المتشرعة فلا تحتاج في حجيتها الى الامضاء.

قوله ص 267 س 4 وهنا نقول : اي في هذه الحلقة الثالثة.

قوله ص 268 س 3 ولكن الصحيح : هذا رد ثان على اصل الاشكال ، وليس ردا على قولهم « اللّهم الا اذا ... ». والمناسب وضعه رأس السطر.

ص: 152

قوله ص 268 س 6 غير انك ... الخ : المناسب ان لا يجعل هذا رأس السطر فانه متصل بسابقه.

قوله ص 268 س 8 مطلقا : اي حتى فيما اذا كان مزاحما بمثل القياس.

قوله ص 268 س 8 كذلك : اي اقتضائية.

قوله ص 268 س 11 والامر الآخر : المناسب : وثانيهما.

قوله ص 268 س 11 الوجه الاول : الصحيح : الوجه الثاني.

قوله ص 269 س 1 وهذا الاعتراض ... الخ : هذا رد على الاشكال الثاني.

تشخيص موضوع الحجية.

قوله ص 269 س 14 ظهور الكلام في المعنى الحقيقي ... الخ : قبل توضيح المقصود نذكر مقدمة مرت في الحلقة الثانية ص 214. وحاصلها : ان لظهور اللفظ في معناه شكلين ، فتارة يكون ظهورا تصوريا واخرى ظهورا تصديقيا. والمقصود من الظهور التصوري انسباق المعنى الى الذهن وانتقاشه فيه عند سماع اللفظ ، فانه اذا سمعنا كلمة « كتاب » مثلا تصورنا معناها حتى ولو فرض صدورها من نائم بل ولو من اصطكاك حجرين. ان هذا الخطور الحاصل عند سماع اللفظ من اي مصدر كان هو الظهور التصوري.

ولو فرض ان اللفظ المذكور صدر من شخص ملتفت دل ذلك على ان المتكلم قد قصد معناه ، وهذا ما يسمى بالظهور التصديقي ، فالدلالة على قصد المعنى هي عبارة اخرى عن الظهور التصديقي.

ومنه يتضح ان النائم اذا تلفظ بلفظ فلا يحصل الا الظهور التصوري اما اذا تلفظ به الملتفت حصل منه ظهوران : تصوري وتصديقي.

ص: 153

وبعد استذكار هذين المصطلحين نذكر مطلبا آخر هو ان المتكلم لو تلفظ بلفظ معين ونصب قرينة على خلاف معناه الحقيقي فالظهور التصوري في المعنى الحقيقي يبقى ولا يزول ، فلو قال الاب لولده : « اذهب الى البحر وخذ العلم منه » فكلمة « البحر » تبقى ظاهرة في المعنى الحقيقي وهو البحر من الماء فيخطر ذلك الى الذهن وان كانت القرينة على ارادة المعنى المجازي - وهو الشخص العالم - موجودة ، اجل هذه القرينة تمنع من انعقاد الظهور التصديقي اي من الدلالة على قصد المتكلم للبحر الحقيقى. هذا اذا كانت القرينة متصلة. اما المنفصلة فهي كما لا تمنع من الظهور التصوري كذلك لا تمنع من الظهور التصديقي وانما تمنع من حجيته ، فلو فرض ان فقرة « خذ العلم » وردت منفصلة بان قال الاب بعد يوم « خذ العلم منه » فان الجملة الاولى تبقى دالة على قصد المتكلم للبحر الحقيقي غاية الامر لا يكون هذا القصد حجة (1).

وبعد الفراغ من هذه المقدمة نطرح سؤالين :

ا - ما هو الظهور الحجة؟ فهل هو الظهور التصوري او الظهور التصديقي؟

ب - ما هو الشرط الذي يلزم توفره قبل تطبيق الحجية على الظهور؟

اما بالنسبة للسؤال الاول فله ثلاثة اجوبة :

1 - ما ذكره الشيخ الاصفهاني من ان الحجة هو الظهور التصوري بشرط عدم العلم بالقرينة المتصلة والمنفصلة على الخلاف ، فموضوع حجية الظهور على هذا مركب من جزئين : الظهور التصوري ، وعدم العلم بالقرينة المتصلة والمنفصلة.

ص: 154


1- خلافا للميرزا حيث اختار انها تهدم الظهور التصديقي وتزيله ولا يبقى ظهور في قصد المعنى الحقيقي كما يأتي ص 288 من الحلقة.

2 - ما ذكره الميرزا تبعا للشيخ الاعظم من ان الحجة هو الظهور التصديقي بشرط عدم وجود القرينة المنفصلة واقعا.

3 - ما اختاره السيد الشهيد من ان الحجة هو الظهور التصديقي بشرط عدم العلم بالقرينة المنفصلة ، فموضوع الحجية على هذا مركب من جزئين : الظهور التصديقي ، وعدم العلم بالقرينة المنفصلة.

وفرق هذا الاحتمال عن سابقه انه في السابق اعتبر عدم وجود القرينة المنفصلة واقعا بينما في هذا الاحتمال اعتبر عدم العلم بها لا عدمها الواقعي. هذا كله بالنسبة الى السؤال الاول.

واما بالنسبة الى السؤال الثاني - وهو ان اي شرط يلزم توفره قبل تطبيق الحجية - ففي جوابه نقول : لو اخذنا بالاحتمال الاول فلا يشترط اي شرط قبل تطبيق الحجية لان موضوعها مركب من جزئين : الظهور التصوري وعدم العلم بالقرينة ، وكلاهما محرز بالوجدان ، وبعد احرازهما الوجداني لا يبقى الا تطبيق الحجية على الظهور.

واذا اخذنا بالاحتمال الثاني فتارة يفترض الجزم بعدم القرينة المتصلة والمنفصلة واخرى لا يجزم بذلك ، فعلى الاول يتم تطبيق الحجية على الظهور دون اي شرط. وعلى الثاني لا يمكن ذلك اذ مع احتمال القرينة المتصلة واقعا لا يحرز ثبوت الظهور التصديقي (1) ، فلأجل احرازه لا بد من الجزم بعدم وجودها واقعا ، كما لا بد من نفي القرينة المنفصلة واقعا ، اذ الجزء الثاني لموضوع حجية الظهور حسب الفرض هو عدم القرينة المنفصلة واقعا ، فلا بد من نفي احتمال وجودها واقعا. اذن نحن بحاجة الى نفي احتمال القرينة المتصلة واحتمال القرينة المنفصلة.

ص: 155


1- اذ مع وجود القرينة المتصلة يزول الظهور التصديقي طبقا لما ذكرناه في المقدمة.

ولكن كيف يمكن ذلك؟ يمكن ذلك بناء على افتراض جريان سيرة العقلاء على التمسك باصالة عدم القرينة عند الشك في وجودها واقعا. وعليه فبناء على الاحتمال الثاني لا يمكن التمسك باصالة الظهور مباشرة بل لا بد قبل تطبيقها من تطبيق اصل سابق وهو اصالة عدم القرينة كي ينفى به احتمال وجود القرينة واقعا وبالتالي ليجزم بوجود كلا الجزئين.

ولو اخذنا بالاحتمال الثالث فلا يضر احتمال القرينة المنفصلة واقعا لان المعتبر بناء عليه هو عدم العلم بالقرينة المنفصلة لا عدم وجودها الواقعي ، وعدم العلم صادق حتى مع احتمال وجودها واقعا. اجل احتمال القرينة المتصلة مضر ولا بد من نفيه ، اذ مع احتمالها لا يجزم بوجود الظهور التصديقي ، فلا بد قبل تطبيق اصالة الظهور من اجراء اصالة عدم القرينة لنفي احتمال وجود القرينة المتصلة واقعا.

وباختصار : انه بناء على الاحتمال الاول لا يحتاج الى اجراء اصالة عدم القرينة في المرحلة السابقة ، وعلى الثاني يحتاج الى اجرائها مرتين ، مرة لنفي القرينة المتصلة واخرى لنفي القرينة المنفصلة ، وعلى الثالث يحتاج الى اجرائها مرة واحدة لنفي القرينه المتصلة.

ترجيح الاحتمال الثالث.

والارحج من الاحتمالات السابقة هو الثالث ، فالاول ضعيف ، اذ العقلاء انما يبنون على حجية الظهور بمعنى جعله كاشفا عن مراد المتكلم ، وواضح ان الكاشف عن المراد هو الظهور التصديقي دون التصوري ، اذ التصوري يحصل في حق النائم ايضا والحال لا مراد له.

ص: 156

والاحتمال الثاني ضعيف ايضا من ناحية عدم امكان احراز جزئه الثاني - وهو عدم القرينة المنفصلة واقعا - اذ الطريق لا حرازه ليس الا اصل عدم القرينة الذي مستنده بناء العقلاء ، وواضح ان العقلاء لا يبنون على اصل الا عند وجود حيثية كاشفة تصحح الاصل ، وفي المقام لا توجد حيثية كاشفة عن عدم القرينة واقعا الا الظهور ، فظهور الكلام وكشفه عن المراد هو الحيثية الكاشفة عن عدم القرينة المنفصلة حيث ان من البعيد ان يتكلم المتكلم بكلام ظاهر في معنى وهو لا يريد ذلك المعنى اعتمادا على قرينة منفصلة يذكرها في المستقبل ، ومن هنا لو كان الكلام مجملا وغير ظاهر في معنى فلا نستبعد مجيء قرينة تفسره ، فالمبعد للقرينة هو الظهور ، وعلى هذا فالعقلاء يبنون على حجية الظهور اولا وبعد ذلك ينفون القرينة المنفصلة لا انه يبنون على عدم القرينة المنفصلة اولا ثم بعد ذلك يبنون على حجية الظهور. وعليه فالمناسب ان يكون الجزء الثاني من موضوع حجية الظهور هو عدم العلم بالقرينة المنفصلة - حتى لا يحتاج الى اجراء اصالة عدم القرينة - لا عدم وجودها واقعا ، وهذا معناه تعين الاحتمال الثالث.

كيف ننفي القرينة على الاحتمال الثالث.

وبعد اتضاح صحة الاحتمال الثالث نقول : انه على الاحتمال المذكور يحتاج تطبيق حجية الظهور الى احراز الظهور التصديقي. ولكن كيف يحرز؟ والجواب : اذا كنا نقطع بعدم القرينة المتصلة والمنفصلة او لا اقل كنا نقطع بعدم القرينة المتصلة فلازم ذلك القطع بتحقق الظهور التصديقي وامكان تطبيق حجية الظهور بلا حاجة لا جراء اصالة عدم القرينة. اما اذا لم نقطع بعدم القرينة المتصلة فلا نحرز تحقق الظهور التصديقي ، ولكن هل يمكن نفي احتمال القرينة المتصلة بواسطة اصالة عدم

ص: 157

القرينة؟ والجواب : ان في ذلك تفصيلا يتضح بعد ملاحظة مناشىء احتمال خفاء القرينة المتصلة ، وهي ثلاثة :

1 - ان يفرض ان احتمال خفاء القرينة المتصلة مسبب عن احتمال غفلة السامع عن الالتفات اليها ، فلعل المتكلم ذكرها والسامع غفل عنها.

2 - ان يفرض ان احتمال خفاء القرينة المتصلة مسبب عن احتمال اسقاط الناقل لها ، فالمتكلم ذكرها الا ان الناقل اسقطها حين نقله.

3 - ان يفرض ان احتمال الخفاء مسبب عن امر ثالث كما لو فرض ان الكلام كان مكتوبا في ورقة واحتمل ذكر القرينة في الورقة ايضا الا ان بعض الورقة قد تلف ونحتمل ان القرينة كانت مذكورة في القسم التالف. وفي مثل هذا الفرض نحتمل بالوجدان خفاء القرينة المتصلة ولكن ليس سبب ذلك هو الغفلة او الاسقاط بل الامر الثالث المذكور (1).

وباتضاح هذه المناشىء الثلاثة نقول :

اما المنشأ الاول فيمكن نفيه بواسطة اصالة عدم الغفلة - فان العقلاء عند صدور فعل او كلام من شخص لا يحملونه على الغفلة وان ادعى هو ذلك ، فلو شتم شخص غيره ثم اعتذر بصدور ذلك غفلة منه لم يعذره العقلاء - وبواسطتها يحرز عدم وجود القرينة المتصلة وبالتالي يحرز الظهور التصديقي. وحيث ان المفروض عدم العلم بالقرينة المنفصلة فيمكن حينذاك تطبيق اصالة الظهور بلا محذور.

ثم ان اصالة عدم الغفلة قد تسمى باسم آخر وهو اصالة عدم القرينة. وانما

ص: 158


1- ومثال ثان : ما لو فرض ان القرينة المحتملة كانت ارتكازية لبية لم يذكرها الناقل اعتمادا على وضوحها وارتكازها ، ان مثل هذه القرينة لا يمكن نفيها ايضا.

سميت بذلك باعتبار ان اصالة عدم الغفلة تنفي احتمال وجود القرينة.

واما المنشأ الثاني - وهو احتمال اسقاط الناقل للقرينة - فيمكن نفيه ايضا بظهور حال كل انسان حينما ينقل قضية من القضايا انه ينقل جميع ما له دخل في فهم القضية او بتعبير آخر ان كلامه يشتمل ضمنا على شهادته بانه لا يسقط ما يرتبط بفهم القضية ، فلو كانت هناك قرينة قد اتصلت بظاهر الكلام فمن اللازم على الراوي نقلها ، فاذا لم ينقلها كان ذلك شهادة منه على عدم وجودها.

واما المنشأ الثالث فلا يمكن نفيه باصل او ظهور ، وكيف يمكن نفي احتمال وجود القرينة في القسم التالف من الورقة.

ومن خلال هذا كله اتضح ان موضوع حجية الظهور هو الظهور التصديقي بشرط عدم العلم بالقرينة المنفصلة. واتضح ايضا انه اذا لم نحرز الظهور التصديقي من جهة احتمال وجود القرينة المتصلة فان كان المنشأ لاحتمال القرينة هو الغفلة او الاسقاط فيمكن نفيهما وبالتالي يثبت الظهور التصديقي ، ويمكن حينذاك تطبيق اصالة الظهور ، اما لو كان المنشأ امرا ثالثا غيرهما فلا يمكن نفيه وبالتالي لا يكون الظهور التصديقي محرزا ولا يمكن تطبيق اصالة الظهور.

هل اصالة الظهور ترجع الى اصالة عدم القرينة او بالعكس.

اتفق الشيخ الاعظم والآخوند على ان العقلاء لا يوجد عندهم اصلان احدهما باسم اصالة الظهور والآخر باسم اصالة عدم القرينة ، بل الثابت عندهم اصل واحد. وبعد هذا الاتفاق اختلف في ذلك الاصل الواحد ، فاختار الآخوند ان الاصل الذي يبني عليه العقلاء هو اصالة الظهور وبعد بنائهم على حجية الظهور ينفون القرينة ، اذ الظهور عند العقلاء امارة كاشفة عن عدم القرينة ، بينما

ص: 159

الشيخ الاعظم اختار العكس ، اي ان العقلاء يبنون على عدم القرينة ويتفرع على هذا البناء بناؤهم على الظهور. اذن على رأي الآخوند ترجع اصالة عدم القرينة الى اصالة الظهور بينما على رأي الشيخ الاعظم ترجع اصالة الظهور الى اصالة عدم القرينة.

وكلا هذين الرأيين يمكن التأمل فيه لانهما مبنيان على اساس باطل وهو اعتقاد ان اصالة الظهور واصالة عدم القرينة يجريان في مورد واحد ، فانه بناء عليه يصح النزاع في ان ايهما الاصيل وايهما الفرع ، ولكن هذا باطل ، فان كل واحد من هذين الاصلين يجري في مورد خاص به لا يشركه الآخر فيه ، فاصالة الظهور تجري - على ما اتضح سابقا - فيما اذا كان الظهور محرزا ، فانه بعد احرازه يكون المورد صالحا لتطبيق اصالة الظهور ، واما اصالة عدم القرينة فموردها مناقض تماما لمورد اصالة الظهور ، ان موردها الشك في الظهور ، فانه عند الشك في الظهور من جهة احتمال الغفلة (1) تجري اصالة عدم القرينة لنفي احتمال القرينة وبالتالي لاحراز الظهور.

اذن مورد اصالة الظهور هو حالة احراز الظهور بينما مورد اصالة عدم القرينة هو حالة الشك في الظهور من جهة احتمال الغفلة عن القرينة ، وبعد اختلاف المورد بهذا الشكل فلا معنى لان يقال ان هذا الاصل يرجع الى ذاك او ذاك يرجع الى هذا.

قوله ص 269 س 15 كثيرا ما لا ينثلم : لعل التقييد بالكثرة دون الدوام من جهة ان القرينة قد تزيل الظهور التصوري احيانا كما لو كثر استعمالها واقترانها

ص: 160


1- واما اذا كان من جهة احتمال اسقاط الناقل للقرينة فقد تقدم انه لا تجري اصالة عدم القرينة بل يتمسك بالشهادة الضمنية للناقل.

باللفظ ، فان ذلك قد يكسب اللفظ ظهورا تصوريا جديدا يتناسب والقرينة.

قوله ص 270 س 8 له في ذلك : اي للفظ في ارادة المعنى الحقيقي.

قوله ص 270 س 16 وكيفية تطبيقها : هذا اشارة الى ما عبرنا عنه بالسؤال الثاني وهو ان اي شرط يلزم توفره قبل تطبيق حجية الظهور.

قوله ص 271 س 2 مع عدم العلم بالقرينة على الخلاف متصلة او منفصلة : لعل عدم ذكر الاحتمال الرابع - وهو ان يكون موضوع الحجية الظهور التصوري وعدم القرينة المتصلة والمنفصلة واقعا - لعدم وجود قائل به.

وقد يقال : ان الوجه في عدم ذكره هو ان الظهور التصوري ثابت ولا يتزعزع حتى مع القرينة المتصلة ، ومع ثبوته يكون حجة الا اذا علم بان المتكلم لا يريده ، ولا يعلم ذلك الا اذا علم بنصب القرينة. اذن الظهور التصوري يكون حجة ما دام لا يعلم بالقرينة وليس المناط على عدم وجودها واقعا.

والجواب : انه بناء على هذا يلزم عدم ذكر الاحتمال الثاني ايضا اذ عليه يكون موضوع الحجية هو الظهور التصديقي ، ومن الواضح ان الظهور التصديقي محفوظ حتى مع وجود القرينة المنفصلة واقعا ، ومع ثبوته لا بد وان يكون حجة الا اذا علم بعدم ارادة المتكلم له ، ولا يعلم ذلك الا اذا علم بنصب القرينة المنفصلة ، وعلى هذا فالذي يضر بحجية الظهور التصديقى هو العلم بوجود القرينة المنفصلة لا وجودها واقعا.

قوله ص 271 س 5 عدم صدور القرينة المنفصلة : انما قيدت القرينة بكونها منفصلة لانه مع كونها متصلة لا يبقى ظهور تصديقي حتى يكون حجة.

قوله ص 271 س 11 وتختلف هذه الاحتمالات : هذا اشارة الى جواب السؤال الثاني.

ص: 161

قوله ص 271 س 13 ابتداء : اي بلا حاجة الى تطبيق اصالة عدم القرينة اولا.

قوله ص 272 س 2 مباشرة : اي بلا اجراء اصالة عدم القرينة قبل ذلك.

قوله ص 272 س 3 كذلك : اي مباشرة.

قوله ص 272 س 8 لكى ينقح : اي يثبت.

قوله ص 272 س 9 وكذلك لا يمكن : هذا عدل لقوله في السطر الثالث : « ولا يمكن الرجوع اليها ... الخ ».

قوله ص 273 س 4 محرز حتى مع هذا الاحتمال : اذ الجزء الثاني لموضوع الحجية على هذا الاحتمال هو عدم العلم بالقرينة المنفصلة ، ومن الواضح ان عدم العلم ثابت حتى مع احتمال وجود القرينة المنفصلة واقعا.

قوله ص 273 س 6 والتحقيق في تمحيص : هذا شروع في ابطال الاحتمالين الاولين وبالتالي اختيار الاحتمال الثالث. والتمحيص هو تمييز الاحتمال الصحيح عن الباطل.

قوله ص 273 س 8 وهي انما تناط ... الخ : اي والحجية يثبتها العقلاء للظهور الكاشف عن المراد - اذ العقلاء لا يثبتون الحجية لشيء تعبدا وبلا نكتة - وواضح ان الكاشف عن المراد ليس هو الظهور التصوري بل التصديقي ، ومعه فلا بد وان تكون الحجية ثابتة للظهور التصديقي دون التصوري.

قوله ص 274 س 1 وان ما قاله يريده : عطف تفسير لقوله « ارادة مفاده ».

قوله ص 274 س 2 وهي كاشفية مساوقة ... الخ : لما ذكرنا سابقا من استبعاد تكلم المتكلم بكلام ظاهر في ارادة معنى وهو لا يريده بلا نصب قرينة

ص: 162

متصلة ، ومما يؤكد ذلك ان كلام المتكلم لو لم يكن له ظهور - بان كان مجملا - فلا يستبعد ورود قرينة منفصله تفسره.

قوله ص 274 س 3 وحيث ان الاصول ... الخ : المناسب عدم جعل هذا رأس السطر.

قوله ص 274 س 5 لافتراض اصالة القرينة : الصحيح : لافتراض اصالة عدم القرينة.

قوله ص 274 س 7 لا أنها ... الخ : اي الكاشفية.

قوله ص 274 س 9 وهكذا يتعين : اي بعد وضوح بطلان الاحتمالين الاولين.

قوله ص 274 س 15 لأنها : اي الغفلة.

قوله ص 274 س 15 وظهور الحال : عطف تفسير لقوله « خلاف العادة ». والمناسب وضع الفارزه قبل كلمة « وبها ... الخ ».

قوله ص 275 س 7 موضوع اصالة الظهور : وهو الظهور التصديقى.

قوله ص 275 س 12 لا توجد حيثية كاشفة : وهي ظهور الحال او الشهادة الضمينة.

قوله ص 275 س 13 ويبنون : الصواب : ويبنوا.

قوله ص 276 س 3 او باصل عقلائي آخر : وهو كاصالة عدم الغفلة.

الظهور الذاتي والظهور الموضوعي.

قوله ص 276 س 9 الظهور سواء كان تصوريا ... الخ : بعد اتضاح حجية الظهور للادلة الثلاثة المتقدمة ص 265 قد يسأل سائل هل كل ظهور حجة بما في

ص: 163

ذلك الظهور الذاتي او خصوص الظهور الموضوعي؟ والمقصود من الظهور الذاتي الظهور الذي يحصل لدى ذهن كل شخص شخص ، فانت حينما تسمع كلاما ويحصل منه ظهور معين في ذهنك يسمى ذلك بالظهور الذاتي ، وهكذا حينما يسمع شخص ثان كلاما ويحصل له منه ظهور معين فانه يسمى بالظهور الذاتي ايضا. وسبب الظهور الذاتي احد امرين ، فهو قد يحصل بسبب الوضع - فان اللفظ اذا كان موضوعا لمعنى معين فكل من يسمعه ينسبق الى ذهنه ذلك المعنى المعين - وقد يحصل بسبب أنس الذهن بمعنى معين ، فمن يعيش بلد دجلة والفرات تكون كلمة « الماء » ظاهرة لديه في خصوص ماء دجلة والفرات لا لوضع كلمة « الماء » لخصوص ذلك بل بسبب المحيط الضيق والانس الذهني بماء دجلة والفرات.

والمقصود من الظهور الموضوعي الظهور الناشىء بسبب الوضع واللغة دون المحيط الضيق.

وبهذا يتجلى ان الظهورين المذكورين قد يجتمعان - كما لو حصل الظهور لدى ذهن خاص وكان سببه الوضع ، فباعتبار حصوله للذهن الخاص هو ظهور ذاتي وباعتبار حصوله من الوضع هو ظهور موضوعي - وقد يفترقان كما لو حصل الظهور لدى ذهن خاص ولم يكن سببه الوضع بل الانس الذهني الخاص.

وبعد تجلي الفرق بين قسمي الظهور نعود لنقول : هل كلا قسمي الظهور حجة او خصوص الظهور الموضوعي؟ والجواب : ان الحجة هو خصوص الظهور الموضوعي ، لان العقلاء انما يبنون على حجية الظهور باعتبار ان ظاهر حال كل متكلم ارادته للمعنى الظاهر ، ومن الواضح ان ظاهر حال المتكلم هو ارادته للمعنى الظاهر بسبب الوضع دون الظاهر بسبب الانس الذهني الخاص.

وقد يقال : ان هذا وان كان متينا الا انه كيف يمكن تشخيص ان الظهور

ص: 164

ظهور موضوعي ناشىء من الوضع وليس ذاتيا ناشئا من الانس الذهني الخاص.

والجواب : يمكن تشخيص ذلك باعتبار ان العقلاء متى ما حصل لهم ظهور خاص ولم يجدوا قرينة تدل على نشوئه من غير الوضع فهم يينون على نشوئه منه وكونه ظهورا موضوعيا لا ذاتيا. اذن الظهور الكاشف عن الوضع هو الظهور الموضوعي دون الذاتي الا ان الظهور الذاتي هو طريق لاحراز الموضوعي فيما اذا لم تكن هناك قرينة تدل على نشوء الظهور من الانس الذهني الخاص. وعليه ففائدة الظهور الذاتي هو الكشف عن الظهور الموضوعي كما وان فائدة الظهور الموضوعي هو الكشف عن الوضع.

قوله ص 276 س 9 سواء كان تصوريا او تصديقيا : الظهور التصوري هو خطور المعنى للذهن ، والظهور التصديقي هو دلالة اللفظ على قصد المتكلم وارادته المعنى.

قوله ص 276 س 10 انسان معين : اي في ذهن هذا الانسان وذاك.

قوله ص 276 س 10 وهذا هو الظهور الذاتي : سمي بالذاتي لانه يحصل لذات هذا الانسان وذاك. وسمي الآخر بالموضوعي باعتبار انه لم ينشأ من عوامل ذاتية خاصه كالبيئة والانس الذهني.

قوله ص 276 س 11 بموجب علاقات اللغة : اي بموجب الوضع. وعطف « اساليب التعبير العام » على « علاقات اللغة » تفسيري.

قوله ص 276 س 12 والاول يتأثر ... الخ : اي قد يتأثر لا انه يتأثر دائما بالعوامل الخاصة.

قوله ص 276 س 14 وعلاقاته : عطف تفسير على الانس الذهني. والفارزة لا بد وأن توضع بعد كلمة « وعلاقاته » لا قبلها.

ص: 165

قوله ص 277 س 1 واساليب التعبير العام : عطف تفسير لعلاقات اللغة.

قوله ص 277 س 2 لان هذه الحجية : اي حجية الظهور.

قوله ص 277 س 5 موضوعيا : اي ظهورا موضوعيا.

قوله ص 277 س 13 بين التبادر على مستوى ... الخ : اي بين التبادر الذاتي والتبادر الموضوعي.

قوله ص 277 س 16 تكويني : اي ان كاشفية الظهور الموضوعي عن الوضع لم تنشأ بسبب الاعتبار والجعل وانما هي تكوينية ككاشفية الاحراق عن النار. وقد مر ذلك في الحلقة الثانية ص 76.

الظهور الموضوعي في عصر النص.

قوله ص 278 س 1 لا شك ان ظواهر ... الخ : قبل التعرض لهذا المبحث نذكر مقدمة ، وهي ان للاستصحاب اشكالا ثلاثة :

ا - استصحاب القهقرى ، ب - الاستصحاب الاستقبالى ، ج - الاستصحاب المتداول.

فلو كنت اعلم بان ثوبي طاهر امس وأشك الآن في بقاء طهارته فهذا مورد الاستصحاب المتداول ، واليقين فيه موجود سابقا والشك موجود الآن.

ومثال الثاني : الحج ، فانه واجب على المستطيع بشرط ثبوت الشرائط - كالحياة والعقل والقدره - من اوله الى آخره ، فلو زالت القدرة مثلا اثناء الحج كشف ذلك عن عدم كونه واجبا من الاول ، فوجوب الجزء الاول اذن مشروط ببقاء الشرائط الى نهاية العمل. وهكذا الحال في الصلاة وبقية الواجبات ، فان وجوب الركعة الاولى مشروط ببقاء جميع الشرائط الى آخر الصلاة. هذا ولكن

ص: 166

كيف يعرف المصلي بقاءه على الشرائط الى اخر العمل لينوي الوجوب منذ البداية مع انه يحتمل زوال القدرة في الاثناء؟ هنا يأتي دور الاستصحاب ، فاذا كان المكلف واجدا للشرائط في بداية العمل فباستصحاب بقائه عليها الى الزمان المستقبل يثبت احراز ذلك.

والفارق بين هذا الاستصحاب وسابقه ان زمان اليقين في السابق كان متقدما وزمان الشك هو الآن بينما في هذا الاستصحاب الامر بالعكس تماما ، فزمان اليقين هو الآن وزمان الشك متأخر وفي الاستقبال. ويسمى الاستصحاب المذكور بالاستصحاب الاستقبالي وهو حجة في مثل هذه الموارد للسيرة العقلائية.

واما استصحاب القهقرى فمثاله دلالة صيغة « افعل » على الوجوب فانه يقال في تقريب الدلالة ان المتبادر منها في زماننا هذا هو الوجوب ولكن المهم هو اثبات التبادر والوضع في زمان النص لتحمل عليه ، وطريق اثبات ذلك هو اصالة عدم النقل المعبر عنها احيانا باستصحاب القهقرى بان يقال : ان معنى الصيغة في زماننا هذا هو الوجوب لان ذلك هو المتبادر حسب الفرض ، فلو لم يكن ثابتا عصر صدور النص - بان كانت الصيغة موضوعة سابقا للاستحباب مثلا ثم بعد ذلك تغير معناها ووضعت للوجوب - فلازم ذلك حصول التغير والنقل في معناها حيث كانت اولا للاستحباب ثم نقلت للوجوب ، واصالة عدم النقل تبطل هذا التغير ويثبت بها ان المعنى المتبادر الآن هو بنفسه المعنى الموضوع له سابقا. ويمكن تسمية اصالة عدم النقل باستصحاب القهقرى حيث ان المعنى الثابت في هذا الزمان نستصحبه الى الزمان السابق ونأخذ بالرجوع والتقهقر الى الزمان السابق ، كما ويمكن تسميتها باصالة الثبات في اللغة ، اذن باستصحاب القهقرى

ص: 167

المعبر عنه احيانا باصالة عدم النقل او باصالة الثبات في اللغة يثبت ان كل معنى نفهمه من اللفظ الآن فهو بنفسه مفهوم عصر صدور النص ايضا وليس معنى حادثا جديدا. ولو لا هذا الاصل لم يمكن اثبات المقصود من اي نص نواجهه (1).

وزمان اليقين في هذا الاستصحاب هو الآن وزمان الشك هو الزمان الماضي بينما في الاستصحاب الاستقبالي يكون زمان اليقين هو الآن وزمان الشك هو المستقبل ، اما في الاستصحاب المتداول فزمان الشك هو الآن وزمان اليقين هو السابق.

وبعد اتضاح هذه المقدمة نعود الى صلب الموضوع ونقول : عرفنا من خلال ما سبق ان الحجة هو الظهور الموضوعي دون الذاتي ، والسؤال في هذا المبحث : هل المدار في الظهور الموضوعي على الظهور الموضوعي الثابت الآن او على الظهور الموضوعي الثابت زمان صدور النص؟ فان الكلمة الواحدة قد يختلف ظهورها الموضوعي باختلاف عصرين (2) نظير كلمة « الشك » الواردة في حديث « لا تنقض اليقين بالشك » فانها ظاهرة في زماننا هذا في حالة تساوي الطرفين بينما في الزمان السابق هي ظاهرة في غير العلم ، فان الشك يعني خلاف العلم ، فالظن شك ايضا حسب المعنى القديم وليس شكا حسب المعنى الجديد

والجواب : ان المدار على الظهور الموضوعي زمن صدور النص لان ظاهر حال المتكلم ارادته للمعنى الظاهر حين صدور الكلام منه دون ما يثبت فيما بعد. وهذا مطلب واضح ولكن كيف يمكن احراز الظهور الموضوعى زمن صدور

ص: 168


1- وحجية استصحاب القهقرى لم تثبت الا في هذا المورد. والقهقرى هو الرجوع الى الوراء.
2- فان الالفاظ قد يطرأ التغير على معانيها بسبب عوامل متعددة اجتماعية او فكرية او غير ذلك.

الكلام وان الظهور الحاصل في زماننا ليس خاصا به بل ثابت زمن صدور النص ايضا؟ يمكن احراز ذلك بواسطة اصالة عدم النقل او بتعبير آخر اصالة الثبات في اللغة او استصحاب القهقرى بان يقال ان المعنى المستظهر من النص اذا لم يكن واحدا في كلا الزمانين فلازمه حصول التغير في معنى اللفظ ، واصالة الثبات في اللغة تنفي ذلك.

ومدرك الاصالة المذكورة هو سيرة العقلاء بتقريب : ان معاني الالفاظ وان كان بالامكان تغيرها - فكلمة « الشك » مثلا يتحول معناها الى حالة تساوي الطرفين بعد ما كان اعم من ذلك - ولكن التغير يحتاج غالبا الى فترة زمينة طويلة كمائة سنة مثلا لانه بطيء وتدريجي وليس دفعيا ، وحيث ان عمر الانسان العادي اقصر من المدة المذكورة عادة فلا يمكن له - الانسان العادي - مشاهدة التغير في معاني الالفاظ ويتخيل عدم التغير وبالتالي يصير ذلك سببا لبنائه على عدم وقوع التغير عند الشك في حصوله.

ثم ان بناء الانسان العادي على عدم تغير معاني الالفاظ - للنكتة السابقة - وان كان بناء باطلا ، حيث ان المعاني قد تتغير بشكل بطيء الا ان الشارع حيث لم يردع عنه كان ذلك دليلا على امضائه له.

ان قلت : ان معنى هذا امضاء الشارع للباطل وحاشاه عن ذلك.

قلت : انه بامضائه البناء المذكور لا يريد ان يقول اني امضى نفس البناء الباطل بل امضي نتيجته وهي الحكم بعدم تغير المعنى عند الشك في تغيره.

ثم انه مما يؤكد صحة اصالة عدم النقل ان اصحاب الامامين العسكريين علیهم السلام كانوا يعملون بظواهر الاحاديث الواصلة لهم من النبي صلی اللّه علیه و آله مع ان من المحتمل كون تلك الظواهر حادثة وغير ثابتة عصر صدور النص ، ان هذا

ص: 169

الاحتمال موجود ومع ذلك لا يعتنون له وما ذلك الا لاعتمادهم على اصالة الثبات في اللغة وعدم النقل.

موردان لا يعمل فيهما باصالة عدم النقل.

قوله ص 280 س 3 ولكن اصالة عدم النقل ... الخ : اجل هناك موردان لا يعمل فيهما العقلاء باصالة عدم النقل :

1 - اذا علم باصل التغير وشك في تقدمه وتأخره فانه لا يستصحب بقاء المعنى الاول الى زمن الشك. ومثال ذلك كلمة « الشك » فانها كانت موضوعة في البداية لغير اليقين الشامل للظن وقد تغير هذا المعنى الى معنى جديد وهو حالة تساوي الطرفين ولكن قد نشك ان هذا التغير حصل زمن الائمة علیهم السلام - ولازمه حمل كلمة « الشك » الموجودة في الاحاديث الصادرة عنهم على المعنى الجديد - او حصل بعد زمانهم ولازمه حمل كلمة « الشك » على المعنى القديم ، في مثل ذلك لا يمكن اجراء اصالة عدم النقل لاثبات ان التحول حصل بعد زمانهم علیهم السلام . ووجه ذلك ان العقلاء لا يبنون على اصل من الاصول الا بعد وجود حيثية كاشفة تقتضي مضمون ذلك الاصل ، ومن الواضح انه في حالة الشك في اصل التحول والنقل توجد حيثية كاشفة عن عدم حصوله وهي كون النقل والتحول حالة شاذة ونادرة ، ان الندرة والشذوذ تقتضيان ان يبني العقلاء عند الشك في اصل التحول على عدم حصوله ، اما اذا علم بوقوع اصل التحول الذي هو حالة شاذة فلا توجد حيثية تقتضي تأخر وقوع هذه الحالة الشاذة وعدم تقدمها.

2 - ما اذا علم بوجود ظروف وعوامل تساعد على حصول التحول والنقل فانه لا يبعد عدم بناء العقلاء في مثل هذه الحالة على اصالة عدم النقل ويختص

ص: 170

اعتمادهم عليها بصورة عدم وجود الظروف المساعدة.

قوله ص 278 س 4 في عصر السماع : اي عصرنا هذا الذي نسمع فيه الرواية او نقرأها في الوسائل مثلا.

قوله ص 278 س 5 وموضوع حجية : الصواب : وموضوع الحجية.

قوله ص 278 س 8 ومن الواضح : المناسب ان لا يجعل هذا رأس السطر.

قوله ص 278 س 9 في زمان صدور ... الخ : هذا مفسر لكلمة « فعلا ».

قوله ص 278 س 9 وعليه فنحن بالتبادر : في التعبير مسامحة ، لان التبادر هو نفس الظهور الذاتي على ما تقدم ص 277 س 7 لا انهما شيئان واحدهما علة للآخر ، اجل لو لم تكن كلمة « بطريق الإن » موجودة امكن تصحيح العبارة بلا مسامحة.

قوله ص 278 س 15 وقد نسميه .. الخ : وقد يسمى ايضا باستصحاب القهقرى.

قوله ص 279 س 3 والتطور البطىء : هذا عطف تفسير للثبات النسبي ، فان المقصود من الثبات النسبي هو التطور البطيء الذي لا يحس به الانسان فترة عمره التي هي فترة قصيرة ، فالثبات اذن نسبي ، اي هو ثبات بالنسبة الى العمر القصير للانسان.

قوله ص 279 س 4 وتطابق ظواهرها : عطف تفسير لعدم التغير.

قوله ص 279 س 7 باعتباره : اي التغير.

قوله ص 279 س 13 طيلة قرنين ونصف : لان الفترة من زمن النبي صلی اللّه علیه و آله الى الامام العسكري علیه السلام (250) سنة تقريبا.

قوله ص 280 س 4 في الظهور او الوضع : الترديد بين الظهور والوضع

ص: 171

مع ان الظهور يحصل عادة من الوضع باعتبار ان الظهور يحصل احيانا من دون وضع كما في صيغة الامر الواردة بعد النهي ، فانها ظاهرة في الاباحة مع انها قد لا تكون موضوعة لذلك بل للوجوب.

التفصيلات في الحجية.

قوله ص 281 س 1 توجد عدة اقوال .. الخ : اتضح مما سبق ان الظهور حجة لسيرة المتشرعة والعقلاء. ولكن هل هو حجة في جميع الحالات او هناك تفصيل؟ والتفاصيل المعروفة ثلاثة :

1 - التفصيل بين ظواهر القرآن الكريم وغيرها ، فظواهر القرآن الكريم ليست حجة بخلاف غيرها. وهذا التفصيل منسوب الى الاخباريين وتقدمت الاشارة له في الحلقة الثانية ص 216 ولذا لم يتعرض له هنا.

2 - التفصيل المختار لصاحب القوانين بين المقصود بالافهام فالظهور له حجة وبين غيره فلا يكون حجة ، فاذا كنت تتكلم مع شخص تقصد تفهيمه وكان وراء الباب من لا تقصد تفهيمه فالظهور في حق الاول حجة دون الثاني. ووجه ذلك : ان الشخص المقصود تفهيمه يجزم بارادة المعنى الظاهر ، اذ احتمال ارادة غيره لا منشأ له الا احتمال نصب قرينة لم يلتفت اليها غفلة ، ان هذا هو المنشأ الوحيد لاحتمال ارادة غير الظاهر ، ومن الواضح انه يمكن نفيه باصالة عدم الغفلة ، اما غير المقصود بالافهام فلا ينحصر منشأ احتماله لارادة غير الظاهر بالغفلة بل له منشأ آخر وهو احتمال نصب المتكلم لقرينة خاصة بينه وبين المقصود بالافهام كما اذا فرض وجود عهد ذهني بينهما اعتمد المتكلم عليه في تفهيم المعنى غير الظاهر ، وفي مثل ذلك لا يمكن نفي الاحتمال المذكور باصالة عدم الغفلة ، فان عدم وصول

ص: 172

غير المقصود بالافهام الى مثل هذه القرينة لم ينشأ من غفلته بل من كون القرينة في نفسها خاصة لا يمكن ان يصل اليها الا المقصود بالافهام. هذا ما يمكن ان يوجه به التفصيل المذكور.

وقد ناقشه الاعلام بان للعقلاء اصلا آخر - غير اصالة عدم الغفلة - يمكن به نفي كل قرينة يحتمل وجودها واقعا حتى اذا كانت مثل العهد الذهنى الخاص وهو اصالة عدم القرينة ، ومعه يبطل التفصيل المذكور ، فانه وجيه لو فرض انحصار الاصل النافي للقرينة باصالة عدم الغفلة اما بعد وجود ما هو اوسع منه فلا يتم. هذا ما اجاب به الاعلام.

ويمكن التعليق على الجواب المذكور بان مجرد دعوى وجود اصل آخر يسمى باصالة عدم القرينة لا يكفي فان العقلاء حينما يبنون على اصل من الاصول لا بد من وجود نكتة وحيثية مصححة له ، والمناسب للاعلام ابراز تلك النكتة وعدم الاكتفاء بدعوى الاصل الواسع من دون ابرازها. ومن هنا سوف نقوم باستعراض مناشىء احتمال ارادة خلاف الظاهر وابراز الحيثيات التي يمكن بها ابطال كل واحد من تلك المناشىء. والمناشىء خمسة :

ا - احتمال ابهام المتكلم لمقصوده الحقيقي وتستره به : فيحتمل ارادة المتكلم خلاف الظاهر بلا نصب قرينة عليه لكونه بصدد اخفاء مقصوده. وهذا المنشأ - كما هو واضح - ليس ثابتا في حق المقصود بالافهام بل يختص بغيره ، اذ تستر المتكلم بمراده لا يلتئم وقصد التفهيم.

وهل توجد حيثية يمكن بها نفي هذا المنشأ؟ اجل هي ظهور حال المتكلم في انه لا يعيش حاله الاتقاء والتستر بمراده.

ب - احتمال ان المتكلم سوف يذكر في المستقبل قرينة منفصلة تدل على ان

ص: 173

مراده خلاف الظاهر ، وهذا المنشأ ثابت في حق المقصود بالافهام ايضا ، اذ المقصود بالافهام يحتمل ان المتكلم سوف ينصب قرينة منفصلة في المستقبل على ارادة خلاف الظاهر.

وهل توجد حيثية يمكن بها نفي هذا المنشأ؟ اجل هي ظاهر حال كل متكلم انه بصدد تفهيم مراده بشخص كلامه الصادر منه لا بمجموع ما يصدر منه من كلام ولو في المستقبل.

ج - احتمال الغفلة عن القرينة التي نصبها المتكلم. وهذا المنشأ ثابت في حق المقصود بالافهام ايضا لانه يحتمل غفلته عن القرينة التي نصبها المتكلم.

وهل توجد حيثية يمكن بها نفي هذا المنشأ؟ اجل هي اصالة عدم الغفلة ، فان الغفلة حالة شاذة في حياة الانسان ، فعند الشك فيها يكون شذوذها مبعدا لها.

د - احتمال ان المتكلم نصب قرينة على ارادة خلاف الظاهر ولكنها خاصة بينه وبين من يقصد افهامه كما هو الحال في العهد الذهني الخاص. وهذا المنشأ هو الذي ابرزه صاحب القوانين كتوجيه لتفصيله. وهو غير ثابت في حق المقصود بالافهام ، اذ المفروض ان القرينة الخاصة معهودة بين المتكلم والمقصود بالافهام.

وهل توجد حيثية تنفيه؟ اجل هي ان ظاهر حال كل متكلم اعتماده على الاساليب العامة والمتداولة للتفهيم دون الاساليب الخاصة كالقرينة العهدية الخاصة بين المتكلم والمقصود بالافهام. وبهذا يتضح بطلان تفصيل صاحب القوانين قدس سره .

ه- - احتمال اعتماد المتكلم على قرينة خاصة يطلع عليها كل حاضر في مجلس الحوار كتحريك الرأس او اليد وتغيير قسمات الوجه ونحو ذلك من الخصوصيات

ص: 174

التي يشاهدها كل حاضر في المجلس وان لم يكن مقصودا بالافهام (1).

وفرق هذا المنشأ عن الرابع ان القرينة المحتملة في الرابع قرينة تختص بالمقصود بالافهام ، واما القرينة المحتملة في هذا المنشأ فهي قرينة يطلع عليها كل حاضر في المجلس وان لم يكن مقصودا بالافهام. وهذا المنشأ ليس ثابتا في حق المقصود بالافهام بل ليس بثابت في حق كل حاضر مجلس الخطاب وان لم يكن مقصودا بالافهام.

وهل توجد حيثية تنفي هذا المنشأ؟ اجل هي ان الناقل للرواية يفهم منه ضمنا شهادته بانه ينقل كل ما سمعه وشاهده مما له مدخليه في فهم المقصود ، فاذا لم ينقل قرينة على ارادة خلاف الظاهر دل ذلك على عدم وجودها.

التفصيل الثالث في حجية الظهور.

3- والتفصيل الثالث في حجية الظهور (2) هو ان المتكلم اذا تكلم بكلام ظاهر في معنى معين فتارة يحصل الظن الشخصي بارادته المعنى الظاهر واخرى يشك في ذلك وثالثة يظن بعدم ارادته. وتسمى الاولى بحالة حصول الظن الشخصي على وفق الظهور ، والثالثة بحالة حصول الظن الشخصي بالخلاف ، والحالة الثانية هي حالة لا يكون فيها ظن بالوفاق ولا بالخلاف. وسبب تعدد هذه الحالات هو ان كل ظهور لوخلي ونفسه ومن دون قرينة مزاحمة له يكون كاشفا كشفا نوعيا عن كونه مرادا للمتكلم. ولكن قد تقترن احيانا بالظهور قرينة

ص: 175


1- هذا المنشأ وسابقه دمجا في التقرير ج 4 ص 274 في امر واحد ، وذكر في الامر الخامس منشأ سادس.
2- لم ينسب في الكتب الاصولية لقائل معين.

مزاحمة له ، فاذا كانت اضعف منه - الظهور - بقي الظهور مفيدا للظن بكونه مرادا وحصل الظن الفعلي على طبقه ، واذا كانت القرينة اقوى من الظهور حصل الظن الفعلي بالخلاف ، واذا كانت مساوية للظهور فلا يحصل الظن الفعلي بالخلاف ولا بالوفاق.

وبعد الاطلاع على هذه الحالات يفصل هذا القول ويقول بحجية الظهور في الحالة الاولى التي فيها ظن فعلي بالوفاق دون ذلك في الحالتين الاخيرتين. ووجه ذلك : ان الظهور يعتبره العقلاء حجة من باب انه كاشف عن المراد ، وبما انه في الحالتين الاخيرتين لا يكون كاشفا عن المراد فلا يكون حجة.

واشكل الاعلام على هذا التفصيل بان العقلاء يأخذون بالظهور ويعتبرونه حجة في جميع الحالات الثلاث لا في خصوص الحالة الاولى.

والتعليق على ما ذكره الاعلام واضح فانا لو رجعنا الى العقلاء لوجدناهم يتمسكون بالظهور في خصوص الحالة الاولى التي فيها ظن فعلي بارداة الظاهر ولا يتمسكون به اذا لم يحصل ظن بكونه مرادا ، فالتاجر مثلا اذا ارسل له التاجر الآخر بضاعه بثمن معين ولم يحصل له ظن بكون الظاهر مرادا فلا يكتفي بالظاهر بل يأخذ بالاستفسار ، وهكذا لو فرض انك ذهبت الى السوق واشتريت سلعة واخبرك البائع بوزنها ولم يحصل لك الظن من ظاهر كلامه اخذت باستفساره من جديد ولا تكتفي بظاهر كلامه.

ومن هنا فصّل الميرزا بان المجال الذي يراد اتباع الظاهر فيه تارة يكون من قبيل الاغراض الشخصية المعبر عنها بالتكوينية - كما في المثالين السابقين. واخرى يكون من قبيل الاغراض التشريعية (1) كما هو الحال في ظاهر الكتاب

ص: 176


1- وهو محل الكلام ، فان الكلام هو في ظاهر الاوامر والنواهي.

والسنة واحكام الموالي العرفيين. فان كان من القبيل الاول فالظهور لا يكون حجة الا فيما اذا حصل الظن الفعلي بكونه مرادا لما ذكرناه من سيرة العقلاء في المثالين السابقين ، واما اذا كان من القبيل الثاني فالظهور حجة حتى اذا لم يحصل الظن بكونه مرادا حيث ان العقلاء لا يفرقون في المجال الثاني بين ما اذا حصل الظن بكون الظهور مرادا وما اذا لم يحصل بل يعملون به في كلتا الحالتين.

وهذا الكلام من الميرزا وان كان متينا حيث ان العقلاء يعملون بالظهور في المجال الثاني مطلقا ومن دون تفصيل بين الحالات الثلاث ولكن لم يدفع قدس سره الحجة التي استند اليها اصحاب هذا التفصيل فانهم قالوا ان الظهور انما يعتبره العقلاء حجة من باب انه كاشف عن مراد المتكلم ومع عدم حصول الظن بالوفاق لا يكون الظهور كاشفا حتى يكون حجة ، وكان من المناسب له دفع هذه الحجة بان يبين ان نكتة حجية الظهور وان كانت هي الكاشفية الا انها لا تستدعي حصر الحجية بالحالة الاولى بل يبقى الظهور حجة في جميع الحالات الثلاث فيما اذا كان الغرض غرضا تشريعيا لا تكوينيا.

ويمكن توضيح ذلك ضمن النقاط الاربع التالية (1).

ص: 177


1- وقبل بيان النقاط لا بد من استذكار مطلب تقدم اول الكتاب وهو الفرق بين الامارة والاصل في نظر السيد الشهيد. وحاصله : ان المولى شرّع بعض المحرمات كما وشرّع بعض المباحات ، فشرّع حرمة الخمر واباحة الماء ، ولكن اذا حصل الاشتباه في مائع ولم يعلم انه ماء او خمر ففي مثله يوازن المولى بين مصلحة الاباحة ومفسدة الحرمة ، فاذا كانت المصلحة هي الاقوى فسوف يصدر قانونا باباحة كل مشكوك ويقول كل شيء لك حلال حتى تعلم انه حرام ، واذا كانت المفسدة اقوى شرّع الحكم بالاحتياط ويقول اخوك دينك فاحتط لدينك. والحكم باباحة المشكوك او حرمته هو ما يسمى بالحكم الظاهري ، فالحكم الظاهري اذن حكم ناشىء من الملاك الاهم. وبعد التعرف على حقيقة الحكم الظاهري يبقى كيف نفرق بين الامارة والاصل مع ان كليها حكم ظاهرى؟ والفرق هو انا عرفنا ان الحكم الظاهري حكم ناشيء من الملاك الاهم ، واهمية الملاك لها شكلان ، فتارة يكون احد الملاكين في نفسه اهم من الآخر ، واخرى يكون الملاكان في نفسهما بدرجة واحدة من حيث الاهمية وانما تنشأ - الاهمية - من حيث قوة الكشف الثابتة في احدهما ، وفي الحالة الاولى يكون الحكم الظاهري اصلا وفي الثانية امارة ، فمثلا الخبر الدال على حرمة الارنب هو حجة لا من جهة ان الحرمة لها خصوصية بل لأن كاشفيته عن ثبوت الحرمة اقوى ، ومن هنا لو فرض انه كان دالا على الاباحة تثبت الاباحة ايضا ، وهذا بخلافه في الاصل العملي ، فانه لو شككنا في حلية التتن واباحته فاصالة الاباحة تقول هو حلال ، والحلية تثبت لا من جهة قوة في انكشافها بل لان مصلحتها اهم من مفسدة الحرمة في نفسهما. اذن حجية الامارة حكم ظاهري متولد من اهمية الملاك الثابتة بسبب قوة الكشف.

1 - ان نكتة حجية الظهور هي كونه كاشفا عن المراد ، ولكن اذا كان الظهور ظهورا لكلام المولى - وهو ما يعبر عنه بمجال الاغراض التشريعية - فالمدار على كاشفيته لدى المولى دون العبد.

2 - ان المقصود من كون الظهور كاشفا عند المولى هو ان المولى اذا لاحظ مجموع ظواهر كلامه فتارة يلاحظها على سبيل التفصيل ، بان يلحظ هذا الظهور مستقلا وذاك مستقلا وهكذا ، واخرى يلحظها بنظرة اجمالية بان يلحظ المجموع من حيث المجموع. فان لاحظها بنظرة تفصيلية فسوف لا يجعل الحجية لجميعها من باب الكاشفية بل يجعلها لخصوص الظهور الموافق للمراد دون غير الموافق ، اذ بعد النظرة التفصيلية يمكن للمولى تمييز الظهور الموافق للمراد عن غيره. واما اذا لاحظها بنظرة اجمالية فسوف يرى ان اغلبها مطابق لمراده ، وهذه الغلبة سبب لصيرورة كل ظهور كاشفا عن المراد ، ولاجل هذه الكاشفية يجعل المولى الحجية

ص: 178

لكل ظهور.

3 - ان حجية الظهور امارة وليست اصلا ، لان الحجية تثبت للظهور من جهة قوة كاشفيته عن المراد ، وقد تقدم ان كل حكم ظاهري ينشأ من قوة الكاشفية هو امارة وليس اصلا.

4 - وبعد ان عرفنا ان الحجية تثبت للظهور من جهة قوة كاشفيته نسأل ما هو المقصود من قوة كاشفيته؟ فهل المقصود قوة كاشفيته لدى المولى او قوة كاشفيته لدى العبد؟ الصحيح ان المقصود قوة كاشفيته لدى المولى ، لان المولى حينما يجعل الحكم الظاهري على طبق الملاك الاهم لا بد وان تكون اهمية الملاك ثابتة عنده وفي نظره - اذ الحكم الظاهري هو الحكم الذي ينشأه المولى على طبق ما هو الملاك الاهم في نظره - والكاشفية في جميع الظواهر هي بدرجة واحدة في نظر المولى وليس بعضها اقوى من بعض ، اجل تختلف درجة الكاشفية فيما لو كان المدار على قوة الكاشفية لدى المكلف فان المكلف متى ما حصل له الظن الفعلي على طبق الظهور كانت درجة كاشفيه الظهور اقوى عنده واذا لم يحصل له الظن الفعلي على طبق الظهور كانت درجة الكاشفية اضعف عنده. اذن في ظواهر كلام المولى - المعبر عنها بمجال الاغراض التشريعية - لا معنى للتفصيل في حجية الظهور ، بل هو حجة في جميع الحالات الثلاث السابقة لان وجه حجية الظهور هو قوة كاشفيته لدى المولى ، ومن الواضح ان درجة كاشفية الظهور لدى المولى هي واحدة في جميع الحالات ، وهذا بخلافه في مجال الاغراض الشخصية ، فان الغرض بما انه يرجع للشخص نفسه دون المولى فالمدار على قوة الكاشفية عنده دون المولى وقوة الكاشفية عنده لا تحصل الا اذا حصل الظن الفعلي على طبق الظهور. هذا هو حصيلة نكته الفرق بين الظواهر في مجال الاغراض التشريعية حيث هى

ص: 179

حجة في جميع الحالات وبينها في مجال الاغراض الشخصية حيث لا تكون حجة الا في حالة حصول الظن الفعلي على وفقها.

قوله ص 281 س 6 على الخلاف : اي على ارادة معنى مخالف للظهور.

قوله ص 281 س 10 ثم التواطؤ عليها : ليس المقصود من كلمة « ثم » الاشارة الى الترتيب بل المقصود ان من المحتمل اعتماد المتكلم على قرينة متواطىء عليها بصورة خاصة بين المتكلم والمقصود بالافهام.

قوله ص 281 س 16 في الحالة المذكورة : اي حالة احتمال الاعتماد على قرينة خاصة متواطىء عليها بين المتكلم والمقصود بالافهام.

قوله ص 282 س 7 متوفرة : الصحيح : وهي متوفرة.

قوله ص 282 س 14 مقتض لذلك : اي ذلك الاصل العقلائى مقتض لنفي ذلك المنشأ.

قوله ص 283 س 7 كان نظر المتكلم اليه : اي كان مقصودا بالافهام.

قوله ص 283 س 10 في لحن الخطاب : اي في كيفية طرح الخطاب وبيانه.

قوله ص 283 س 12 والفرق بين المقصود ... الخ : اي ان هذه المناشىء الخمسة بعضها غير ثابت في حق المقصود بالافهام وبعضها الآخر ثابت في حقه. وقد تقدم بيان ذلك.

قوله ص 284 س 14 بطبعه : اي لو لم تكن قرينة وامارة مزاحمة له.

قوله ص 284 س 15 على الاقل : اي وقد يقتضي الاطمئنان والقطع بان المعنى الظاهر مراد.

قوله ص 285 س 1 أثرّ : بتشديد الثاء.

قوله ص 285 س 6 وعلى هذا فقد ... الخ : اي وبعد ان عرفت وجود

ص: 180

حالات متعددة ثلاث فقد يفصل ويقال ان الظهور في الحالة الثالثة ليس حجة بل وفي الثانية ايضا ، وانما تكون له الحجية في الحالة الاولى فقط.

قوله ص 285 س 16 المطلقة : اي في جميع الحالات الثلاث.

قوله ص 286 س 1 قيد : الصواب : قد.

قوله ص 286 س 7 عمّق المحقق النائيني : اي قال ان المشهور من الاصوليين حينما اختاروا حجية الظهور مطلقا فمقصود هم انه حجة مطلقا في مجال الاغراض التشريعية دون الشخصية.

قوله ص 286 س 10 وتنظيم علاقات الآمرين بالمامورين : وبعبارة اخرى : مجال التكاليف.

قوله ص 286 س 11 لمجرد اقتضائه النوعي : فان نوع الظهور وبشكل عام يقتضي الكشف عن المراد.

قوله ص 286 س 14 تنجيزا وتعذيرا : كاشفية الظهور في مقام التنجيز انما تكون فيما اذا دل على وجوب شيء او حرمته ، واما كاشفيته في مقام التعذير فهي فيما اذا دل على اباحة شيء ، فان الظهور الدال على الاباحة يكون عذرا للمكلف فيما لو كان الشيء حراما او واجبا واقعا.

قوله ص 287 س 3 ولا يحل الشبهة التي ... الخ : المراد من الشبهة هي الحجة التي يستند اليها هذا التفصيل والتي اشار لها قدس سره بقوله ص 285 س 9 : ويمكن تبرير ... الخ.

قوله ص 287 س 5 الذي يفي بذلك : اي بحل الشبهة وبيان نكتة الفرق.

قوله ص 287 س 11 وذلك يجعل : اي هذه النظرة الاجمالية تجعل الغلبة ... الخ.

ص: 181

قوله ص 287 س 14 حجية الامارة : المراد من الامارة في المقام هو الظهور.

قوله ص 287 س 15 الاغراض الواقعية الاكثر اهمية : اي الحكم الظاهري ناشىء من الملاك الواقعي الاهم ، وهذه الاهمية التي تريد الامارة ان تتحفظ عليها ولاجلها جعلت الحجية لها هي الاهمية بلحاظ قوة الكشف والاحتمال.

قوله ص 287 س 16 بلحاظ قوة : متعلق بقوله « اكتسبتها ».

قوله ص 287 س 17 كما تقدم في محله : اي ص 34.

قوله ص 288 س 6 كاشفيته : الصواب : كاشفية.

الخلط بين الحجية والظهور.

قوله ص 288 س 10 اتضح مما تقدم ... الخ : تقدم ص 269 من الحلقة ان الدلالة على ثلاثة اقسام.

1 - الدلالة التصورية. وهي تصوّر المعنى للذهن عند سماع اللفظ حتى وان صدر من اصطكاك حجرين. وسبب الخطور هو الوضع ، فان اللفظ متى ما كان موضوعا لمعنى فسماعه يكون موحبا لخطور معناه. وهذا الخطور يحصل حتى مع وجود القرينة المتصلة على الخلاف كما في مثال اذهب الى البحر وخذ العلم منه ، فانه يخطر للذهن المعنى الحقيقي للبحر بالرغم من وجود القرينة المتصلة على خلافه.

2 - الدلالة التصديقية الاولى. وهي دلالة الكلام على ان المتكلم قد قصد استعمال المعنى واراده على مستوى الارادة الاستعمالية. وهذه الدلالة تزول

ص: 182

بالقرينة المتصلة ، فلو قيل اذهب الى البحر كان ذلك دالا على ان المتكلم قد قصد استعمال البحر الحقيقي ولكن اذا ذكرت القرينة المتصلة وقيل خذ العلم منه زالت الدلالة على قصد استعمال الحقيقي.

3 - الدلالة التصديقية الثانية. وهي دلالة الكلام على ان المتكلم اراد المعنى واقعا لا انه اراده على مستوى الاستعمال فقط. وهذه الدلالة تزول بالقرينة المتصلة ايضا ، فلو قيل اذهب الى البحر وخذ العلم منه لا تحصل الدلالة على ان المتكلم قد اراد المعنى الحقيقي للبحر ارادة جدية.

ثم ان الدلالة التصديقية الاولى والثانية هل تزولان بالقرينة المنفصلة كما تزولان بالمتصلة او لا؟ كلا لا تزولان بذلك ، ووجه ذلك ان هاتين الدلالتين تتحددان على ضوء شخص الكلام فمتى ما تكلم المتكلم بكلام وفرغ من شخص كلامه حصلت الدلالة التصديقية الاولى والثانية ، فلو قال اذهب الى البحر وخذ العلم منه كانت القرينة المتصلة - خذ العلم منه - جزء من شخص الكلام ، ومع كونها جزء من شخص الكلام تتحدد الدلالة التصديقية الاولى والثانية على طبقها اي يكون الكلام دالا على ان المتكلم لم يرد البحر من الماء لا على مستوى الارادة الاستعمالية ولا على مستوى الارادة الجدية وانما اراد البحر من العلم. هذا لو كانت القرينة متصلة. اما اذا كانت منفصلة بان قال اذهب الى البحر وسكت وبعد يوم او يومين ذكر القرينة فلا تزول الدلالة التصديقية الاولى والثانية - لان القرينة المنفصلة ليست جزء من شخص الكلام حتى تتحدد الدلالة على طبقها - بل تبقى ، غاية الامر لا تكون حجة.

هذا ولكن الميرزا ذكر ان صدور القرينة المنفصلة يزيل الدلالة التصديقية الثانية من اساسها لا انها تبقى وتزول حجيتها فقط. وللتوضيح اكثر نقول : ان

ص: 183

الميرزا قسم الدلالة الى ثلاثة اقسام :

1 - التصورية ، اي الخطور. وهي لا تزول بالقرينة المتصلة فضلا عن المنفصلة.

2 - تصديقية اولى ، وهي دلالة الكلام على ان المتكلم قال واستعمل معنى معينا. وهذه تزول بالقرينة المتصلة دون المنفصلة. ولحد الآن لم نختلف معه.

3 - تصديقية ثانية. وهي دلالة الكلام على ان المتكلم قد اراد المعنى المعين واقعا. والحجية ثابتة لهذة الدلالة دون الاولى والثانية. وذكر قدس سره ان هذه الدلالة تزول بالقرينة المتصلة بل وبالمنفصلة ايضا. وهنا تظهر نقطة الخلاف ، فالميرزا يرى تقوّم هذه الدلالة بعدم القرينة المنفصلة بينما نحن نرى بقاءها وعدم زوالها بالقرينة المنفصلة وانما الذي يزول هو الحجية فقط. ووجه ذلك ما تقدم من ان هذه الدلالة تتحدد على طبق شخص الكلام ، فاذا انتهى شخص الكلام بان قال المتكلم اذهب الى البحر وسكت حصلت الدلالة التصديقية الثانية اي كان الكلام دالا على ان المتكلم يريد واقعا البحر من الماء (1) لان شخص الكلام لم تذكر فيه

ص: 184


1- قد يقول قائل : كيف نثبت بعد ان تم شخص الكلام ان المتكلم قد اراد واقعا البحر من الماء والحال نحن لم ندخل قلب المتكلم لنعلم ماذا اراد؟ والجواب : ان المتكلم اذا قال اذهب الى البحر خطر للذهن البحر من الماء ، وهذا الخطور نشعر به بالوجدان ولا نحتاج لاثباته الى محرز - اذ هو نظير الجوع ، فكما ان الجوع نحرزه من خلال الوجدان ولا يحتاج الى مثبت فكذا الخطور - واذا ثبت فيمكن ان نثبت ان المتكلم قصد استعمال البحر من الماء عن طريق اصالة التطابق ، فان ظاهر حال كل متكلم كونه قاصدا لاستعمال نفس المعنى الذي يخطر للذهن ، واذا ثبت قصد استعمال البحر من الماء فبواسطة اصالة التطابق بين المعنى الاستعمالي والمراد الجدي - واصالة التطابق هذه غير السابقة - نثبت ان المراد الجدي للمتكلم هو البحر من الماء ، فان ظاهر حال كل متكلم كونه مريدا جدا للمعنى الذي استعمل فيه اللفظ. اذن بواسطة اصلين للتطابق نثبت ان المراد الجدي للمتكلم هو البحر من الماء. وفي اصلي التطابق هذين نلاحظ شخص الكلام ، فاذا تم شخص الكلام اثبتنا هذين التطابقين وبالتالي يثبت ان المراد الجدي هو البحر من الماء مثلا.

القرينة الدالة على ارادة البحر من العلم ، فاذا ذكرت القرينة المنفصلة بعد ذلك كانت مذكورة بعد ما انعقدت الدلالة على ارادة البحر من الماء ولا تزول هذه الدلالة بعد ذلك بل يكون ذكر القرينة مكذبا ومنافيا لهذه الدلالة وموجبا لانتفاء حجيتها ، والمنبه الوجداني على ذلك هو ان الاعتماد على القرينة المنفصلة يخالف بالوجدان الاصل والطبع العقلائي ، ولا وجه لذلك الا كون القرينة المنفصلة مخالفة للظهور التصديقي الدال على ارادة البحر من الماء ، فلو كان الظهور يزول عند ورودها فلماذا تكون مخالفة للاصل العقلائي بل يلزم ان لا تكون مخالفة له كما في القرينة المتصلة ، فانا نجد بذوقنا ان ذكر القرينة المتصلة ليس فيه اي حرازة ومخالفة للذوق ، وما ذلك الا من جهة ان القرينة المتصلة حينما ترد تزيل الظهور في ارادة البحر من الماء ، وبزواله لا يبقى شيء واقعا امامها لتكون منافية له ، اذن ما ذكره الميرزا من ان القرينة المنفصلة تزيل اصل الظهور التصديقي الثاني غير مقبول وفيه خلط بين الظهور والحجية ، فان الذي يزول بذلك هو الحجية لا اصل الظهور (1). اجل ما ذكره من كون موضوع الحجية هو الظهور التصديقي الثاني كلام مقبول ، لان الحجية لا تثبت الا للظهور الكاشف عن المراد الواقعي ، وواضح ان الكاشف عن المراد الواقعي هو الظهور التصديقي الثاني فيكون هو الحجة.

قوله ص 288 س 10 مما تقدم : اي ص 269.

ص: 185


1- والظاهر ان هذا البحث لا ثمرة عملية له.

قوله ص 289 س 9 انه قال كذا : اي استعمل كذا ، فان كلمتي استعمل وقال هما بمضمون واحد.

قوله ص 290 س 3 لا يمكن قبوله بظاهره : اي ولعل مقصود الميرزا معنى آخر غير ظاهر كلامه ، بان يكون مقصوده موافقا لما ذكرناه وهو زوال الحجية بالقرينة المنفصلة لا زوال اصل الظهور التصديقي الثاني.

قوله ص 290 س 5 كما تقدم : اي في مبحث تشخيص موضوع الحجية ص 269.

قوله ص 290 س 9 والمدلول التصديقي : اي الاول.

قوله ص 290 س 14 وما استعمل فيه : عطف تفسير على قوله « ما قاله ».

الظهور الحالي.

قوله ص 291 س 6 وكما ان الظهور اللفظي حجة ... الخ : الظهور على قسمين فتارة يكون لفظيا واخرى حاليا. اما الظهور اللفظي فهو حجة. وكلامنا السابق كله كان ناظرا له. واما الظهور الحالي - كما لو فتح شخص غرفته لاخر فان ظاهر حاله رضاه بمطالعة الكتب الموجودة فيها ، وهكذا لو عرض على البنت الزواج من شخص فسكتت فان ظاهر حال سكوتها رضاها به - فهل هو حجة او لا؟ والجواب : قد يقال : نعم ، ويستدل على ذلك :

ا - بسيرة المتشرعة من اصحاب الائمة علیهم السلام حيث كانوا يعملون بالظهور الحالي كما يعملون بالظهور اللفظي. وهذا الاستدلال غير مقبول لعدم امكان اثبات السيرة المذكورة ، فان وجود الظهور الحالي ليس امرا شائعا حتى يجزم بانعقاد سيرة اصحاب الائمة علیهم السلام على العمل به.

ص: 186

ب - او بالاوامر الكثيرة الدالة على وجوب التمسك بالقرآن الكريم والسنة الشريفة.

وهذا باطل ايضا ، فان الاخذ بالظهور الحالي لا يصدق عليه عنوان التمسك بالقرآن والسنة حتى يجب من باب وجوب العمل بالكتاب والسنة ، وانما يصدق ذلك في الظواهر اللفظية ، فان التمسك بظاهر لفظ القرآن الكريم والسنة الشريفة عمل وتمسك بهما.

والصحيح ان الدليل على حجية الظهور الحالي هو سيرة العقلاء ، فقد جرت سيرتهم على العمل بالظهور الحالي كما جرت على العمل بالظهور اللفظي. ولكن كيف يمكن اثبات ان السيرة المذكورة قد امضاها المعصوم علیه السلام ؟ والجواب : تقدم ص 184 من الحلقة ان المعصوم علیه السلام اذا سكت عن سيرة او فعل دل سكوته على الامضاء لاحد وجوه ثلاثه :

1 - لو لم يكن الفعل مرضيا له كان سكوته نقضا للغرض.

2 - لو لم يكن مرضيا له لردع عنه من باب النهي عن المنكر.

3 - ان سكوته علیه السلام يدل على الامضاء من باب ان ظاهر حال سكوته علیه السلام هو الامضاء.

وفي المقام لا بد من التمسك بالوجهين الاولين دون الثالث اذ يلزم من التمسك به الدور ، لانا بصدد اثبات حجية الظهور الحالي بسيرة العقلاء ، فلو اردنا اثبات امضاء السيرة بالظهور الحالي لسكوت المعصوم علیه السلام يلزم توقف حجية الظهور الحالي على حجية الظهور الحالي.

قوله ص 291 س 11 والاحوال : عطف تفسير للافعال.

ص: 187

الظهور التضمني.

قوله ص 292 س 6 اذا كان للكلام ظهور ... الخ : عنوان هذا البحث في الكتب القديمة « هل العام بعد التخصيص حجة في الباقي اولا » بينما المذكور في الحلقة هو ان الدليل اذا كانت له ظهورات ضمينة متعددة وسقط بعضها عن الحجية فهل يسقط البعض الآخر عنها أولا (1) فلو قال المتكلم « اكرم من في الدار من العلماء » وفرض ان عددهم (100) فهنا مدلولان : مطابقي ، وهو وجوب اكرام الجميع ، وتضمني وهو وجوب اكرام هذا العالم ووجوب اكرام ذلك العالم ووجوب اكرام الثالث وهكذا الى تمام المائة. وعدد الدلالات التضمنية على هذا (100) بينما الدلالة المطابقية واحدة. واذا صدر مخصص منفصل (2) بعد يوم او اكثر يقول لا تكرم العلماء الفساق وفرض ان عددهم (10) فسوف نعلم بسقوط المدلول المطابقي عن الحجية وانه لا يجب اكرام تمام المائة كما سنعلم بسقوط عشر دلالات تضمنية عن الحجية ، وبعد هذين السقوطين - سقوط المدلول المطابقي وعشر دلالات تضمنية عن الحجية - فهل تسقط بقية الدلالات التضمنية التسعين عن الحجية او لا؟ وبكلمة اخرى هل العام بعد تخصيصه واخراج الفساق العشرة منه يكون حجة في الباقي بحيث يلزم اكرام التسعين او لا؟ وهناك اجابتان عن هذا السؤال احداهما تقول نعم يسقط عن الحجية في وجوب اكرام الباقي ، وهذا معناه تبعية الدلالة التضمنية للمطابقية في الحجية. وثانيهما يقول بعدم السقوط ، وهذا

ص: 188


1- وقد تقدم ص 77 من الحلقة الوعد بهذا المبحث وانه اذا سقط المدلول المطابقي عن الحجية فهل يسقط المدلول التضمني ايضا او لا؟
2- واما الكلام عن المخصص المتصل فتأتي الاشارة له آخر البحث.

معناه عدم تبعية المدلول التضمني للمدلول المطابقي في الحجية.

اما الاجابة الاولى فيمكن ان توجه بان العام انما دل على وجوب اكرام التسعين باعتبار انه قبل ان يرد المخصص كان مستعملا في العموم اي في مجموع المائة ، ولازم ذلك استعماله في التسعين ايضا ، وبعد ان ورد المخصص فحيث لا يكون العام مستعملا في المائة فلا مثبت لاستعماله في التسعين اذ الاستعمال في غير المائة - سواء كان تسعين ام ثمانين ام ... - استعمال مجازي ولا مرجح لمجاز على مجاز.

ولا يقولن قائل بوجود المرجح للاستعمال في التسعين وهو كونها اقرب الى المائة.

فانه يقال : ان هذه الاقربية مسلمة ولكنها اقربية عددية وهي لا تجدي في مقام الترجيح وانما المجدي هو الاقربية من حيث نفس المعنى.

واذا اتضح عدم وجود المثبت للاستعمال في التسعين فلا يمكن تطبيق اصالة التطابق وان المتكلم بعد ان استعمل العام في التسعين فباصالة التطابق بين المراد الاستعمالي والمراد الجدي لا بد وان يكون المراد الجدي هو اكرام التسعين ، كلا ان هذا غير ممكن لان المفروض ان العام بعد ورود المخصص لم يستعمل فى التسعين.

وقد ذكر الاخوند وجماعة من الاصوليين في مقام ردّ التوجيه المذكور ان بالامكان الالتزام باستعمال العام - بعد ورود المخصص المنفصل - في العموم اي في المائة ، ولازم ذلك استعماله في التسعين ، وبضم اصالة التطابق بين المراد الاستعمالي والمراد الجدي يثبت ان التسعين مراد جدي.

لا يقال : لماذا لا نطبق اصالة التطابق في العشرة الاخرى مادام العام مستعملا فيها ايضا حيث ان المفروض استعمال العام في تمام المائة حتى بعد ورود

ص: 189

المخصص؟

فانه يقال : ان العشرة الاخرى وان كان العام مستعملا فيها الا انه بعد ورود المخصص والعلم بان المتكلم لا يريدها بالارادة الجدية فلا يمكن تطبيق اصالة التطابق بلحاظها.

ويبقى من حقنا التساؤل كيف يمكن للآخوند اثبات استعمال العام في العموم حتى بعد ورود المخصص المنفصل؟ والجواب : انه تقدم في المبحث السابق ان القرينة المنفصلة اذا وردت فهي لا تزيل الظهور التصديقي الاول اي لا تزيل الظهور في كون العام مستعملا في معناه الحقيقى وهو العموم وانما تزيل حجيته في العموم.

اشكال ودفع.

قد يقال : ان الآخوند نقل التبعيض من مرحلة الاستعمال الى مرحلة المراد الجدي ، ففي مرحلة الاستعمال استعمل العام في مجموع المائة الا ان المراد الجدي هو خصوص التسعين دون مجموع المائة ، ومعه فيمكن الاشكال بان نقل التبعيض من الاستعمال الى مرحلة المراد الجدي ليس مجديا ، لان التبعيض في المراد الجدي اذا لم يكن مضرا فليكن في مرحلة الاستعمال غير مضر ايضا ، فلماذا صار في مرحلة الاستعمال مضرا دون مرحلة المراد الجدى؟

والجواب : ان العام اذا لم يكن في مرحلة الاستعمال مستعملا في تمام المائة فلا يمكن اثبات استعماله في التسعين ، اذ استعماله فيها وفي الثمانين وبقية المراتب لم يثبت الا بواسطة استعمال العام في المائة - فان الاستعمال في المائة يستلزم الاستعمال في جميع المراتب الادون - اما اذا لم يكن مستعملا فيها فلا يثبت

ص: 190

الاستعمال في مرتبة التسعين ولا في غيرها من المراتب ، اذ الاستعمال في كل مرتبة غير المائة مجاز ، ولا مرجح لمجاز على مجاز. ومن هنا نعرف لماذا يؤكد الآخوند على الاستعمال في تمام المائة حتى بعد ورود المخصص ، ان تأكيده ناشىء من جهة ان المثبت للاستعمال في التسعين وغيرها من المراتب نكتة واحدة وهي الاستعمال في المائة ، فاذا سقطت هذه النكتة بان لم يكن العام مستعملا في المائة فلا يمكن اثبات استعماله في التسعين ، فهو يؤكد على الاستعمال في المائة ليثبت الاستعمال فى التسعين ، واذا كان مستعملا في التسعين فبضم اصالة التطابق بين المراد الاستعمالي والمراد الجدي يثبت ان التسعين كما هي مراد استعمالي هي مراد جدي ايضا. هذا كله في مرحلة الاستعمال ، اما في مرحلة المراد الجدي فالنكتة لا ثبات ان التسعين مراد جدي والسبعين مراد جدي وهكذا ليست نكتة واحدة بل نكات متعددة ، اذ كل مرتبة لها اصالة تطابق خاصة بها تثبت ان تلك المرتبة مرادة بالارادة الجدية ، فالعام اذا ثبت استعماله في تمام المائة بعد ورود المخصص فباصالة التطابق وان لم يمكن اثبات ان تمام المائة مراد جدي - حيث ان ورود المخصص يمنع من تطبيق اصالة التطابق ، الا ان التسعين يمكن اثبات كونها مرادة جدا ، حيث ان العام مستعمل بعد ورود المخصص في تمام المائة ولازم ذلك استعماله في التسعين ايضا ، واذا كان مستعملا في التسعين فيمكن بواسطه اصالة التطابق (1) اثبات ان التسعين مرادة جدا. اذن عدم ارادة المائة بالارادة الجدية لا يمنع من ارادة التسعين بالارادة الجدية ، لان تلك يوجد مانع من تطبيق اصالة التطابق بلحاظها بخلاف هذه. وبهذا يتضح ان بالامكان تقديم الميزان التالي : متى ما كان المثبت لارادة

ص: 191


1- واصالة التطابق هذه غير اصالة التطابق الساقطة في المائة ، فان لكل مرتبة اصالة تطابق خاصة بها.

جميع المراتب نكتة واحدة فبسقوط تلك النكتة يلزم سقوط المثبت لارادةاى مرتبة من المراتب - وهذا كما هو الحال في مرتبة الاستعمال ، فان المثبت لاستعمال العام في مرتبة التسعين وغيرها من المراتب هو الاستعمال في المائة ، فاذا فرض عدم الاستعمال في المائة فلا مثبت للاستعمال في التسعين ولا في غيرها من المراتب - ومتى ما كان المثبت متعددا فبسقوط النكتة المثبتة لارادة بعض المراتب لا يلزم سقوط النكتة المثبتة لارادة بقية المراتب ، وهذا كما هو الحال في مرتبة المراد الجدي ، فان المثبت فيها لاي مرتبة من المراتب هو اصالة التطابق التي هي متعددة بعدد المراتب وبسقوط اصالة التطابق لاثبات ارادة المائة لا يلزم سقوطها في بقية المراتب.

المخصص المتصل.

كنا نفترض لحد الآن المخصص منفصلا ، اما اذا كان متصلا كما لو قال المتكلم اكرم كل من في الدار الا الفساق - ولنفرض عددهم (10) - فقد اتفقت الكلمة على حجية العام في تمام التسعين. ووجه هذا الاتفاق هنا وعدم حصول مثله في المخصص المنفصل ان المخصص اذا كان متصلا فالعام مستعمل حتما في تمام التسعين لانه مع اتصال المخصص ينعقد منذ البداية ظهور للعام في تمام التسعين بتقريب ان كلمة « كل » موضوعة للعموم وهو تختلف دائرته سعة وضيقا بذكر قيد « الا الفساق » وعدمه ، فقيد « الا الفساق » اذا لم يكن مذكورا فدائرة العموم هي المائة والاستعمال لا يكون حقيقيا الا اذا استعملت الجملة في تمام المائة ، ومن هنا كان الآخوند يؤكد على الاستعمال في المائة ، اما اذا كان قيد « الا الفساق » مذكورا فدائرة العموم تصير ضيقة وهي التسعون ، فان القيد المذكور يوجب صيرورة

ص: 192

دائرة العموم هي التسعين ، فاذا استعمل العام في التسعين كان مستعملا في معناه الحقيقي ، وحيث ان العام عند ذكر قيد « الا الفساق » مستعمل في التسعين - وهذا مما لم يختلف فيه للاتفاق على ان العام مستعمل في التسعين عند ذكر قيد « الا الفساق » - فهو مستعمل في معناه الحقيقي لا في المجازي ليقال انه لا مرجح لمجاز على مجاز.

قوله ص 292 س 7 ظهور استقلالي : وبتعبير علم المنطق ظهور مطابقي او دلالة مطابقية.

قوله ص 292 س 14 دل على عدم وجوب بعض ... الخ : الظاهر ان كلمة « اكرام » ساقطة. والتقدير : دل على عدم وجوب اكرام بعض.

قوله ص 293 س 13 والدلالات التضمنية : عطف الدلالات على الظواهر تفسيري ، والفارزة الموضوعة قبل كلمة « والدلالات » غير مناسبة.

قوله ص 293 س 15 وهي الظهور التصديقي لاداة : وبتعبير اخصر : وهي الاستعمال في تمام المائة.

قوله ص 294 س 11 وانما يكشف فقط عن عدم تعلق ... الخ : بل لا يكشف عن ذلك ايضا ، حيث تقدم في المبحث السابق ان ورود القرينة المنفصلة لا يزيل الظهور التصديقي الثاني ، اي الظهور في كون المعنى الحقيقي - وهو الاستعمال في المائة - مرادا بالارادة الجدية بل يزيل الحجية عن هذا الظهور لا اصله. وانما لم يعلق السيد الشهيد على هذه النقطة من كلام الآخوند لانها غير مؤثرة على اصل المطلب فان المهم في المطلب كون العام مستعملا بعد ورود المخصص في تمام المائة والزائد على ذلك غير مهم.

ص: 193

قوله ص 294 س 16 لو خلي وطبعه : اي بقطع النظر عن المخصص.

قوله ص 295 س 1 ليسوا كذلك : اي ليسوا مرادين بالارادة الجدية.

قوله ص 295 س 3 لهم : المناسب : له.

قوله ص 295 س 8 من مرحلة الظهور التصديقي الاول : وبتعبير اوضح : من مرحلة الاستعمال الى مرحلة المراد الجدي.

قوله ص 295 س 12 كذلك : اي في الحجية.

قوله ص 296 س 1 ولها نكتة واحدة : هذا عطف تفسير لقوله « مترابطة ». والمقصود من النكتة الواحدة هو الاستعمال في المعنى الحقيقي اي في تمام المائة.

قوله ص 296 س 5 ان هذا الفرد : كالتسعين مثلا داخل في نطاق الاستعمال ، وذلك الفرد كالثمانين داخل وهكذا.

قوله ص 296 س 12 ظاهر في الجدية : اي له اصالة تطابق خاصة به كما اشرنا لذلك سابقا.

قوله ص 296 س 15 وهكذا يثبت : اي والنتيجة الثابتة من كل هذا البيان هو ان العام حجة في الباقي.

قوله ص 297 س 5 مستعملة في استعياب ... الخ اي انها مستعملة في معناها الحقيقي وهو العموم غاية الامر ان دائرة العموم بسبب المخصص المتصل صارت اضيق وتشمل التسعين فقط.

قوله ص 297 س 7 فلا تجوّز : بتشديد الواو.

قوله ص 297 س 9 وعلى اي حال : اي في صورة المخصص المتصل سواء كان الاستعمال في التسعين مجازا ام لا.

ص: 194

الدليل العقلي

ص: 195

ص: 196

الدليل العقلي :

قوله ص 289 س 1 الدليل العقلي كل قضية ... الخ :

تقدّم ص 85 من الحلقة منهجة الابحاث الاصولية وان الحديث يقع تارة عن الدليل الشرعي واخرى عن الدليل العقلي ، والحديث لحد الآن كان يدور حول الدليل الشرعي ، واما الدليل العقلي فنمنهج المطالب المذكورة فيه ضمن النقاط التالية :

1 - ما هو المقصود من الدليل العقلي؟ المقصود منه كل حكم عقلي يستنبط منه حكم شرعي ، فمثلا حكم العقل بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته يستنبط منه حكم شرعي وهو وجوب تهيئة بطاقة الطائرة وجواز السفر ونحو ذلك من مقدمات الحج ، اما الحكم العقلي الذي لا يستنبط منه حكم شرعي كاستحالة اجتماع النقيضين فليس دليلا عقليا بالمصطلح الاصولي ، فان مثل الحكم المذكور مما لا اشكال في حجيته بين الجميع ولا يشمله مصطلح الدليل العقلي الذي وقع النزاع بين الاصوليين والاخباريين في حجيته.

هذا هو المقصود من الدليل العقلي دون ما قد ينسبق الى الذهن من كونه عبارة عن الدليل الدال على الحكم العقلي - كما هو الحال في الدليل الشرعي ، فان المقصود منه الدليل الدال على الحكم الشرعي لا نفس الحكم الشرعي - ولكنه باطل بل المقصود منه نفس الحكم العقلي لا الدال عليه ، اذ لا يوجد في الاحكام العقلية دال ومدلول.

ص: 197

2 - ان الابحاث المطروحة في الدليل العقلي على قسمين ، بعضها ابحاث صغروية ناظرة الى تحقق حكم العقل وعدمه كالبحث عن ان العقل هل يحكم بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته او لا ، وهل يحكم بالملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضده او لا وهكذا ، وبعضها ابحاث كبروية كالبحث عن ان حكم العقل حجة او لا؟ اذن تارة يبحث هل يحكم العقل بالملازمة في هذا المورد وذاك او لا ، واخرى يبحث بعد حكمه بالملازمة مثلا هل حكمه حجة او لا (1).

3 - وهل الابحاث المطروحة في الدليل العقلي ابحاث اصولية او لا؟ والجواب : ان البحث الكبروي بحث اصولي فان البحث عن حجية حكم العقل كالبحث عن حجية الخبر ، فكما ان البحث عن حجية الخبر بحث اصولي - حيث ان حجية الخبر يستعان بها في مقام استنباط الاحكام الشرعية ولولاها لما امكن استنباط الاحكام الشرعية من الخبر - فكذا البحث عن حجية حكم العقل بحث اصولي حيث انها تقع في طريق الاستنباط ولولاها لما امكن استنباط وجوب المقدمة.

واما الابحاث الصغروية فهي على شكلين ، فبعضها يشكّل عنصرا مشتركا في مقام الاستنباط - كحكم العقل بالملازمة فانه يقع عنصرا مشتركا لاستنباط الحكم بوجوب تهيئة الجواز والبطاقة وغير ذلك من المقدمات - ومثل هذه الابحاث ابحاث اصولية ، وبعضها الآخر لا يشكّل عنصرا مشتركا بل يختص باستنباط حكم شرعي واحد - كحكم العقل بحرمة الكذب فانه ليس عنصر

ص: 198


1- والى هذه النقطة اشار قدس سره بقوله : والبحث عن القضايا العقلية ... الخ.

مشتركا بل يختص بخصوص الكذب - ومثله لا يكون البحث عنه اصوليا (1).

4 - والقضية العقلية ذات شكلين ، فتارة تكون شرطية واخرى فعلية ، ونذكر للشكل الاول مثالين :

أ - حكم العقل بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، فان الحكم المذكور يرجع في روحه الى قضية شرطية هي انه ان كانت الصلاة مثلا واجبة شرعا فمقدمتها وهي الوضوء واجبة.

ب - حكم العقل بالملازمة بين قبح الشيء وحرمته ، فان مرجعه الى قضية شرطية هي : إن كان الكذب قبيحا فهو حرام.

واما الشكل الثاني - القضية العقلية الفعلية - فمثاله حكم العقل باستحالة تكليف غير القادر ، فان حكم العقل هذا لا يرجع في روحه الى قضية شرطية بل هو قضية فعلية ليس فيها اي اشتراط (2).

5 - ان القضية العقلية الفعلية يمكن تقسيمها الى قسمين : قضية فعلية تحليلية وقضية فعلية تركيبية.

اما القضية التحليلية فهي قضية يقوم فيها العقل بتحليل حقيقة من الحقائق ، ونذكر لذلك مثالين :

أ - حكم العقل برجوع حقيقة الوجوب التخييري الى وجوبين

ص: 199


1- وأشار قدس سره الى هذه النقطة بقوله : ولا شك في ان البحث الكبروي اصولي ... الخ.
2- لا تقل : يمكن ارجاعه الى قضية شرطية ايضا وانه ان وجد عاجز فيستحيل تكليفه. فانه يقال : ان هذا اشتراط بوجود الموضوع ، واشتراط القضية بوجود الموضوع لا يجعلها شرطية ، والا فكل قضية من القضايا هي مشروطة بتحقق الموضوع فيلزم صيرورة جميع القضايا شرطية ، فقولنا ( زيد قائم ) يلزم صيرورته قضية شرطية وانه ان كان زيد موجودا فهو قائم. ثم انه ( قدس ) اشار للنقطة الرابعة بقوله : ثم ان القضايا العقلية ... الخ

مشروطين (1) ، فان ذلك قضية فعلية تحليلية ، فهي فعلية باعتبار ان روحها لا تتضمن اشتراطا ، وهي تحليلية باعتبار انها تتضمن تحليل حقيقة الوجوب التخييري.

ب - حكم العقل بان حقيقة العلاقة بين الحكم وموضوعه هي علاقة المسبب بالسبب ، فانه مرّ في الحلقة الاولى ص 157 ان كل حكم يتركب من موضوع وحكم ، والموضوع بمثابة السبب والحكم بمثابة المسبب ، فحينما يقال المستطيع يجب عليه الحج مثلا نلاحظ ان الاستطاعة بمثابة السبب لوجوب الحج ووجوب الحج بمثابة المسبب عنها ، فالعلاقة بين الحكم وموضوعه - على هذا - ترجع في حقيقتها الى علاقة المسبب بالسبب. ان تفسير هذه العلاقة بهذا الشكل هو قضية عقلية فعلية تحليلية. اما انها عقلية فباعتبار ان الحاكم بالتحليل هو العقل ، واما انها فعلية فلعدم تضمنها اشتراطا ، واما انها تحليلية فلتضمنها تحليل حقيقة العلاقة بين الحكم وموضوعه. هذا في القضية التحليلية.

واما القضية التركيبية فهي قضية لا تتضمن تفسير حقيقة من الحقائق بل اثبات الاستحالة (2) لحقيقة من الحقائق بعد وضوح تلك الحقيقة كحكم العقل بان تقييد الحكم بالعلم به مستحيل ، ان مثل هذه القضية قضية عقليه فعلية تركيبية ، فهي عقلية لكون الحاكم هو العقل ، وهي فعلية لعدم تضمنها اشتراطا ، وهي تركيبية لتضمنها تركيبا اي اثبات شيء - وهو الاستحالة - لشيء آخر وهو تقييد الحكم بالعلم به (3).

ص: 200


1- فالوجوب التخييري بين الصوم والاطعام مثلا يرجع الى انه يجب الصوم ان لم تطعم ، او الاطعام ان لم تصم .
2- او الضرورة كما اشير له في الحلقة الثانية ص 233 .
3- واشار 1 لهذه النقطة بقوله ص 299 س 5 : والقضايا الفعلية ... الخ .

6 - وفي النقطة السابقة تحدثنا عن القضية الفعلية ، واما شقيقتها وهي القضية الشرطية فيمكن بدورها ان تقسم الى قسمين :

أ - ان يكون الشرط امرا شرعيا كحكم العقل بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته فانه قضية عقلية حيث يحكم العقل بان الصلاة مثلا ان كانت واجبة شرعا فمقدمتها - وهي الوضوء - واجبة ايضا ، والشرط في هذه القضية كما نرى قولنا « الصلاة واجبة شرعا » وهو امر شرعي ، فان الشارع هو الذي يحكم بوجوب الصلاة وبدونه لا يحكم العقل بوجوب المقدمة. ومثل هذه القضية الشرطية تسمى بالدليل العقلي غير المستقل او بالملازمات العقلية غير المستقلة. اما انها دليل عقلي فلكون الحاكم بالملازمة هو العقل ، واما انه غير مستقل فلأن العقل لا يحكم بالملازمة بين وجوب الصلاة ووجوب الوضوء مثلا الا بعد حكم الشارع اولا بوجوب الصلاة ، فحكم العقل بالملازمة اذن غير مستقل بل هو متوقف على حكم الشارع بوجوب الصلاة مثلا.

ب - ان يكون الشرط امرا عقليا ، كحكم العقل بالملازمة بين قبح الشيء وحرمته ، فالعقل يقول مثلا ان كان الكذب قبيحا - اي عقلا - فهو حرام شرعا ، وفي هذه القضية نرى ان الشرط امر عقلي وهو قبح الكذب عقلا وليس امرا شرعيا ، وتسمى مثل هذه القضية بالدليل العقلي المستقل او بالملازمات العقلية المستقلة. اما انها دليل عقلي فلكون العقل هو الحاكم بالملازمة ، واما انه دليل عقلي مستقل فلأن حكم العقل بها لا يتوقف على حكم شرعي (1).

7 - وبعد ان عرفنا في النقطة السابقة ان القضية الشرطية قد تكون احيانا

ص: 201


1- تبتدأ هذه النقطة من قوله 1 ص 299 س 12 والقضايا الشرطية ... الخ

من قبيل الدليل العقلي المستقل (1) نعود الى عدلها وهي القضية الفعلية لنسأل هل تدخل تحت الدليل العقلي المستقل او لا؟ والجواب : نعم تدخل تحته فيما اذا كانت تركيبية (2) كقولنا تقييد الحكم بالعلم به مستحيل ، ان هذه القضية تدخل تحت الدليل العقلي المستقل ، لأن حكم العقل بالاستحالة المذكورة لا يتوقف على امر شرعي ، فانه سواء حكم الشارع بوجوب الصلاة مثلا ام لا يحكم العقل باستحالة تقييد وجوب الصلاة وامثاله بالعلم.

وبعد التعرف على دخول القضية التركيبية تحت الدليل العقلي المستقل قد يسأل هل تدخل في المسائل الأصولية او هي خارجة عن علم الاصول بتقريب : ان المسائل الاصولية هي ما يستنبط منها ثبوت حكم شرعي ، وواضح ان القضية التركيبية - مثل قضية « ان تقييد الحكم بالعلم مستحيل » - لا يستنبط منها ثبوت حكم شرعي بل يستنبط منها عدم ثبوت الحكم المقيد بالعلم.

والصحيح ان القضية التركيبية تدخل في علم الأصول لانه يستنبط منها نفي الحكم ، والمتوقع من المسألة الأصولية ان تقع في طريق استنباط نتيجة شرعية اعم من ان تكون هي ثبوت حكم او نفيه وليس المتوقع منها خصوص اثبات الحكم.

وقد تقول : عرفنا شيئين :

أ - ان القضية الفعلية تدخل تحت الدليل العقلي المستقل فيما اذا كانت تركيبية.

ب - ان القضية التركيبية هي من المسائل الأصولية ، ولكن لم نعرف حال القضية التحليلية (3) - التي هي عدل التركيبية - هل تدخل تحت الدليل العقلي

ص: 202


1- طبيعي وقد تكون احيانا من قبيل الدليل العقلي غير المستقل.
2- القضية التركيبية على ما تقدم هي المتضمنة لا ثبات الاستحالة.
3- ومثالها : ان حقيقة الوجوب التخييري ترجع الى وجوبين مشروطين.

المستقل او لا (1)؟ وهل القضية التحليلية من المسائل الأصولية او لا؟

اما السؤال الأول فجوابه : نعم القضية التحليلية تدخل تحت الدليل العقلي المستقل ايضا ، فان قولنا : الوجوب التخييري يرجع عقلا الى وجوبين مشروطين حكم عقلي لا يتوقف على افتراض وجود حكم شرعي ، فسواء حكم الشارع بوجوب الاطعام والصيام تخييريا ام لا فان العقل يحكم برجوع الوجوب التخييري الى وجوبين مشروطين.

واما السؤال الثاني فجوابه : ان القضية التحليلية هي من المسائل الأصولية حيث يستفاد منها بشكلين في مقام الاستنباط :

أ - انها تقع احيانا في طريق اثبات استحالة قضية معينة اي في طريق اثبات قضية تركيبية ، فان القضية التركيبية عبارة اخرى عن استحالة قضية معينة.

ب - انها تقع احيانا في مقام تحديد كيفية تطبيق مسألة من المسائل الأصولية.

مثال الشكل الأول : القضية التحليلية المفسرة لحقيقة الحكم المجعول على نحو القضية الحقيقية ، فقضية الحج واجب على المستطيع قضية حقيقية ، اي ان الحكم فيها لم ينصب على خصوص الافراد الموجودة في الخارج ، بل على كل فرد فرض كونه مستطيعا سواء كان موجودا بالفعل في الخارج ام لا. والموضوع فيها - وهو المستطيع - بمثابة السبب ، والحكم - وهو الوجوب - بمثابة المسبب ، فالاستطاعة متى ما تحققت كان ذلك سببا لتحقق وجوب الحج ، فروح القضية الحقيقية على هذا ترجع الى ان الحكم فيها مسبب عن الموضوع ، فكلما تحقق الموضوع كان ذاك سببا لتحقق الحكم. وبعد هذا نقول : ان تحليل الحكم في القضية

ص: 203


1- السؤال الأول هذا وجوابه لم يتعرض لهما في عبارة الكتاب.

الحقيقية بهذا الشكل يمكن ان يستفاد منه في مسألة اخرى وهي انه هل يمكن تقييد الحكم بوجوب الحج بالعلم بان يقال يجب الحج على المستطيع ان كان عالما بوجوب الحج؟ والجواب : كلا لا يمكن ذلك لان الوجوب اذا كان منصبا على المستطيع المقيد بالعلم بالوجوب فهذا معناه ان موضوع الوجوب مركب من جزئين هما المستطيع والعلم بالوجوب ، وهذا مستحيل للزوم الدور منه ، اذ وجوب الحج متوقف على العلم بوجوب الحج - باعتبار ان العلم بالوجوب جزء الموضوع ، وقد قلنا ان الحكم مسبب عن موضوعه ، فلو كان العلم بالوجوب جزء الموضوع يلزم توقف الوجوب عليه - وحيث ان العلم بالوجوب متوقف على ثبوت الوجوب فيلزم كون الوجوب موقوفا على الوجوب.

وباختصار : ان القضية التحليلية التي تقول : « الحكم في القضية الحقيقية يرجع الى كون الحكم مسببا عن موضوعه » وقعت في طريق اثبات قضية تركيبية وهي ان تقييد الحكم بالعلم به امر مستحيل لمحذور الدور. وقد مرّ كل هذا في الحلقة الاولى ص 156 - 158 تحت عنوان ( موضوع الحكم ).

ومثال الشكل الثاني ما اذا قيل : ان افطرت متعمدا فصم شهرين متتابعين ، فلو فرض ان شخصا افطر ولكنه شك في ان صوم الشهرين متعيّن عليه او هو مخيّر بينه وبين اطعام ستين فقيرا - والثمرة تظهر فيما لو اطعم ستين مسكينا ، فان صوم الشهرين

لو كان معينا فلازمه عدم الاكتفاء بالاطعام ولزوم صوم شهرين ، بينما لو كان مخيرا اكتفي بالاطعام - فالمشهور بين الفقهاء ان المكلّف بعد اطعامه الفقراء لا يلزمه صوم الشهرين لجريان البراءة عنه. ولكنه كيف تجري البراءة (1)؟

ص: 204


1- لا تضاح المثال نذكر مقدمة هي : انه وقع كلام بين الأصوليّين في حقيقة الوجوب التخييري فلو قيل : ان افطرت فاطعم ستين فقيرا او صم شهرين فما هي حقيقة هذا الوجوب التخييري؟ توجد في ذلك عدة اراء نذكر منها اثنين : أ - انه يرجع الى وجوب الجامع فكأنه قيل ان فطرت وجب عليك الجامع اي احدهما ، وبعد وجوب احدهما يحكم العقل بالتخيير بين الفردين ، اذن بناء على هذا الرأي يرجع الوجوب التخييري الى كون الواجب شرعا هو الجامع والعقل يخير بين الفردين. ب - انه يرجع الى وجوبين مشروطين شرعيين فكأنه قيل : ان لم تصم فاطعم وان لم تطعم فصم. ويشكل عليه بان لازمه استحقاق المكلّف لعقابين عند تركه الصيام والاطعام معا - لانه حينما يترك الصيام يصير الاطعام واجبا عليه وهكذا حينما يترك الاطعام يصير الصيام واجبا عليه ، والمفروض مخالفته لكلا الوجوبين - وهو باطل بالوجدان ، فان تارك الواجب المخير لا يستحق الا عقابا واحدا.

والجواب : ان قلنا برجوع الوجوب التخييري الى وجوب الجامع كان شكنا راجعا الى الشك في اننا هل مخيرون بين الاطعام والصيام او ان الصيام متعيّن ، فان الصيام لو كان واجبا مخيرا فمعناه ان الواجب هو الجامع ، وبوجوب الجامع نصير مخيرين بين الاطعام والصيام ، بينما لو لم يكن الصيام واجبا مخيرا بل كان واجبا معينا فلازمه عدم إجزاء الاطعام وتعين الصيام ، فالمقام على هذا يكون من مصاديق دوران الأمر بين التعيين والتخيير فتجري البراءة عن التعيين باعتبار انه خصوصية توجب التضييق والكلفة على المكلّف وأصل البراءة ينفي كل كلفة وضيق مشكوك (1). هذا بناء على رجوع الوجوب التخييري الى وجوب الجامع.

واما بناء على رجوعه الى وجوبين مشروطين فعند تحقق الاطعام يحصل الشك في وجوب الصيام اذ ما دمنا نحتمل كون الصيام واجبا مخيرا فلازمه - بناء على الرأي المذكور - احتمال كون وجوبه مشروطا بعدم تحقق الاطعام فاذا تحقق حصل الشك في وجوبه فتجري البراءة عنه.

وباختصار : ان تحليل حقيقة الوجوب التخييري يساعد على تحديد كيفية

ص: 205


1- وهناك رأي يقول : ان مورد الشك بين التعيين والتخيير لا تجري فيه البراءة عن خصوصية التعيين بل يجري الاشتغال ، ولكن هذا الرأي لا يؤثر على بحثنا فانا نريد ان نقول بناء على جريان البراءة فهي تجري لنفي خصوصية التعيين.

اجراء اصل البراءة ، فبناء على رجوع الوجوب التخييري الى وجوب الجامع فالبراءة تجري عن خصوصية التعيين بينما بناء على رجوعه الى وجوبين مشروطين تجري البرائة عن وجوب الصيام. وستأتي الاشارة الى هذا المطلب في مبحث الوجوب التخييري ص 369 من الحلقة (1).

8 - سوف نرى في الابحاث المقبلة وجود ترابط وتفاعل بين القضايا العقلية ، فقد نتكلم عن قضية تحليلية معينة ويصير ذلك سببا للبحث عن قضية تحليلية اخرى او عن قضية تركيبية.

مثال ذلك : البحث عن حقيقة الوجوب التخييري وانها ترجع الى وجوبين مشروطين ، فانه قد يولد قضية تركيبية - حيث قد يقال بان لازم ذلك استحقاق عقوبتين حالة ترك كلا الفردين فتكون حقيقة الوجوب التخييري بالتفسير المذكور مستحيلة - او قضية تحليلية ، فانه بعد اختيار رجوع الوجوب التخييري الى وجوبين مشروطين قد يحتاج الى البحث عن حقيقة الوجوب المشروط وتحديدها فان في ذلك اختلافا ، فالشيخ الأعظم فسّر الوجوب المشروط بشكل والمشهور فسروه بشكل آخر كما يأتي ايضاح ذلك في بحث الوجوب المشروط.

والخلاصة : ان البحث عن قضية تحليلية قد يولّد بحثا في قضية تركيبية كما وقد يولّد بحثا في قضية تحليلية اخرى. ولربما تدعو الحاجة احيانا الى بحث القضية التحليلية الاخرى في نفس الموضوع الذي تبحث فيه القضية التحليلية الاولى فيما اذا كان الارتباط بين القضيتين التحليليتين ارتباطا قويا الى درجة لا يسمح للفصل بينهما (2).

ص: 206


1- وقد اشير الى هذه النقطعة بقوله 1 ص 300 س 5 : وكذلك تعتبر القضايا ... الخ.
2- وقد اشير الى هذه النقطة بقوله 1 ص 301 س 6 : وسوف نلاحظ ... الخ.

ثم انه بعد الفراغ من هذه النقاط الثمان يقع الكلام في مقامين :

أ - ما هي القضايا التي يحكم بها العقل؟ فهل يحكم باشتراط القدرة في التكليف؟ وهل يحكم بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته؟ وهل يحكم بالملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضده؟ وهكذا. ويمكن تسمية ذلك بالبحث عن صغريات الدليل العقلي.

ب - اذا فرض حكم العقل مثلا باشتراط القدرة في التكليف فهل حكم العقل هذا حجة او لا؟ ويمكن تسمية ذلك بالبحث الكبروي.

قوله ص 299 س 13 من قبيل المثال الاول لها : اي للقضايا الشرطية ، والمراد من المثال الأول ما اشير له آخر ص 298 بقوله 1 : من قبيل ادراك العقل ان وجوب شيء يستلزم وجوب مقدمته.

قوله ص 299 س 14 من قبيل المثال الثاني لها : اي ان قبح الفعل يستلزم حرمته.

قوله ص 300 س 5 وكذلك تعتبر : اوضحنا سابقا وجه التعبير بكلمة ( كذلك ).

قوله ص 300 س 13 والبرهنة عليها : عطف تفسير لقوله : « اثبات قضية عقلية تركيبية ».

قوله ص 301 س 2 مثلا : اي ذكر هذين الاتجاهين للوجوب التخييري هو من باب المثال ، والا فهناك اتجاهات اخرى.

قوله ص 301 س 4 ودوران ... الخ : عطف تفسير على ( الشك ).

قوله ص 301 س 9 قضايا عقلية تركيبية : كان من المناسب ان يقال : او قضايا تحليلية.

ص: 207

ص: 208

استحالة التكليف بغير المقدور

اشارة

ص: 209

ص: 210

استحالة التكليف بغير المقدور :

قوله ص 303 س 1 في التكاليف مراتب متعددة ... الخ :

حصيلة البحث المذكور : ان العقل هل يحكم باستحالة تكليف غير القادر او لا ، وبتعبير آخر هل يحكم باشتراط القدرة في التكليف او لا. وهذا بحث عن اول صغرى من صغريات الدليل العقلي. ولاجل اتضاح المطلب اكثر نرجع الى الحلقة الثانية ص 13 وهذه الحلقة ص 21 لنستذكر ان لكل تكليف اربع مراحل ، فامر الاب ولده بمواصلة الدراسة مثلا يمر بمراحل اربع هي :

1 - مرحلة الملاك ، بمعنى ان مواصلة الدراسة لا بدّ من اشتمالها على المصلحة في نظر الأب والا لما وجّه الأمر لها.

2 - مرحلة الشوق والحب ، فانه بعد الاطلاع على وجود المصلحة في مواصلة الدراسة يحصل الشوق لها ، وطبيعي ان الشوق والحب لا يحصلان الا بعد العلم بوجود المصلحة ولا يكفي وجودها الواقعي من دون علم بها. وهذا معنى ما يقال ان المصلحة بوجودها العلمي توجب الشوق والحب لا بوجودها الواقعي.

3 - وبعد حصول الشوق يعتبر الوالد مواصلة الدراسة في عهدة ولده ويجعلها عليه ويقول له ولدي واصل دراستك (1). وما هو الغرض من هذا الاعتبار والجعل؟ يمكن تصور الغرض بشكلين :

ص: 211


1- كلمة الجعل والاعتبار يمكن ابدالهما بكلمة الوجوب ، فان الوجوب والجعل والاعتبار كلمات مترادفة.

أ - اطلاع الولد على اشتمال مواصلة الدراسة على الحب والمصلحة.

ب - تحريك الولد نحو مواصلة الدراسة وبعثه لها. وطبيعي ان ظاهر الجعل هو الثاني وان الغرض هو التحريك لا مجرد الاخبار عن وجود المصلحة والشوق ، فقوله تعالى : ( ولله على الناس حجّ البيت ) يدل على التحريك نحو الحج ايضا لا على وجود المصلحة والشوق فقط.

4 - مرحلة التنجر واستحقاق العقوبة (1) ، فالولد يستحق العقوبة بعد جعل التكليف عليه ومخالفته له.

وبعد التعرف على هذه المراحل الاربع نعود للتساؤل السابق لنرى ان القدرة بناء على كونها شرطا للتكليف هل هي شرط له :

1 - في مرحلة الملاك بحيث لا مصلحة في الفعل عند عدم القدرة؟

2 - او هي شرط له في مرحلة الشوق بحيث لا شوق للفعل عند انتفاء القدرة عليه؟

3 - او هي شرط في مرحلة الجعل بحيث لا جعل عند انتفاء القدرة؟

4 - او هي شرط في مرحلة التنجّز بحيث لا استحقاق للعقوبة عند عدم القدرة؟

اما بالنسبة للتساؤل الرابع فواضح ان القدرة شرط عقلا في استحقاق العقوبة ، اذ من دونها لا يكون للمولى على عبده حق الاطاعة.

واما بالنسبة للتساؤلين الاولين فالقدرة قد تكون شرطا في المصلحة والشوق - بحيث لا مصلحة ولا شوق عند انتفائها - وقد لا تكون ، ومراجعة الوجدان تشهد بذلك ، فالانسان يحب العودة لحالة الطفولة ويشتاق لها بالرغم

ص: 212


1- التنجّز واستحقاق العقوبة تعبيران مترادفان.

من عدم كونها مقدورة.

مصطلح اصولي :

والقدرة متى ما كانت شرطا في المصلحة والملاك بحيث من دونها لا مصلحة سميت بالقدرة الشرعية ، ومتى لم تكن شرطا في ذلك سميت بالقدرة العقلية (1).

واما بالنسبة للسؤال الثالث - وهو ان القدرة هل هي شرط في الجعل - فالجواب : ان الغرض من الجعل اذا كان هو مجرد ابراز المصلحة والشوق فالقدرة ليست دخيلة فيه بمعنى ان الجعل يمكن ان يكون ثابتا في حق غير القادر ايضا لان المصلحة والشوق اللذين فرض ان ابرازهما هو الغرض من الجعل يمكن ثبوتهما في حق غير القادر.

ان قلت : ان المصلحة والشوق وان كان بالامكان ثبوتهما في حق غير القادر ولكن نفس الجعل والوجوب لا يمكن ثبوته في حقه - غير القادر - فانه لا يصح ان يقال لغير القادر : يجب عليك الفعل الذي لا تقدر عليه.

قلت : ان الجعل والوجوب ليسا الاعبارة عن الاعتبار ، والاعتبار سهل المؤونة ، فيمكن ثبوته في حق غير القادر ايضا.

ان قلت : ان الوجوب وان كان مجرد اعتبار وهو سهل المؤونة ولكن جعله للفعل غير المقدور لغو لعدم امكان امتثاله ، واللغو لا يصدر من الحكيم.

قلت : يكفي في ارتفاع اللغوية كون الغرض من جعل الوجوب ابراز المصلحة والشوق. اجل لو كان الغرض هو التحريك فهو مما لا يمكن ثبوته في حق

ص: 213


1- وللقدرة الشرعية والعقلية مصطلح آخر وهو ان القدرة اذا اخذها الشارع في لسان الدليل سميت بالقدرة الشرعية واذا لم يأخذها بل العقل اعتبرها سميت بالقدرة العقلية.

غير القادر لان التحريك انما يصح فيما اذا جازت العقوبة عند عدم التحرك ، وحيث ان غير القادر لا تصح عقوبته عند عدم تحركه فلا يصح تحريكه (1). وبعد هذا نقول : بما ان ظاهر كل دليل هو جعل الحكم بداعي التحريك فمن اللازم اختصاص مفاد الادلة بالقادر (2).

ما المقصود من القدرة :

ثم انه ماذا يقصد من كون الفعل مقدورا؟ المقصود كون الفعل تحت اختيار المكلف بحيث يمكنه فعله وتركه ، والخارج عن اختياره - اما لانه ضروري الوقوع كدقات القلب او ضروري الترك كالطيران الى السماء او لانه قد يحصل وقد لا يحصل ولكنه في حالات حصوله يحصل من دون اختيار المكلّف كما في نبع الماء من تحت الأرض فان الماء قد ينبع وقد لا ينبع ، وفي حالات نبعه ينبع من دون اختيار المكلّف (3) - ليس بمقدور.

ص: 214


1- قد يقال : كان بالامكان افادة المطلب بشكل مختصر فيقال : ان جعل الحكم بداعي التحريك يختص بالقادر باعتبار ان غيره لا يمكن ان يتحرك بلا حاجة الى اضافة الزوائد المذكورة. والجواب : ستتضح ص 309 من الحلقة الفائدة من اضافة الزوائد.
2- ومن الغريب ان بعض الاعلام المتأخرين منهم السيد الخوئي في هامش اجود التقريرات ج 1 ص 264 والمحاظرات ج 4 ص 188 اختار ان القدرة معتبرة فقط في حكم العقل بلزوم الامتثال فان العقل لا يلزم بالامتثال الا مع القدرة على المتعلق ، واما في متعلق التكليف فهي ليست بمعتبره ابدا لا باقتضاء نفس التكليف ولا بحكم العقل حيث ان التكليف ليس الا عبارة عن اعتبار كون الفعل في ذمة المكلف ، وهو لا يقتضي اعتبار القدرة على المتعلق. هذا ما اختاره في مبحث الضد ، ولكنّا لم نره يلتزم بنتائج هذا الرأي في ابحاثه الاخرى.
3- كان من المناسب التمثيل بغير هذا المثال ، فان نبع الماء ليس فعلا للانسان ، والمفروض ان الكلام هو فيما يكون فعلا له ولكنه يصدر بغير اختياره ، ويمكن التمثيل بالنوم ، فانه فعل للانسان قد يصدر منه بلا اختيار. واذا كان هذا قابلا للمناقشة ايضا فيمكن ذكر امثلة اخرى.

ثمرة مدخلية القدرة في جعل الحكم :

ان اثمرة شرطية القدرة في استحقاق العقوبة واضح ، اذ يلزم عدم ثبوت العقوبة عند عدم القدرة بينما لو لم تكن شرطا يلزم ثبوتها.

والاشكال الذي يمكن طرحه - وقد اشير له في الحلقة الثانية ص 238 - هو ان القدرة لو قلنا بكونها شرطا في الجعل والوجوب فما هي ثمرة ذلك؟ فان الوجوب سواء كان مشروطا بالقدرة ام لا فذاك غير مهم ، فانه حتى لو كان ثابتا في حق غير القادر فلا فائدة في ثبوته بعد عدم امكان عقوبته.

والجواب : يمكن تصوير ثمرة ثبوت الوجوب في حقه في مسألة وجوب القضاء وذلك باحد شكلين :

1 - لو فرض ان المكلّف لم يتمكن من الاتيان بالصلاة في وقتها المقرر وفرض ايضا ان الدليل الخاص دل على وجوب قضاء الصلاة لو لم يأت بها المكلّف فيما لو كان ملاك لها في وقتها فانه في مثل ذلك اذا خرج الوقت يحصل الشك في وجوب القضاء للشك في اشتمال الصلاة على الملاك ، فان كان لها ملاك وجب قضاؤها والا فلا ، ولكن ما هي الوسيلة لا ثبات اشتمالها على الملاك ليجب قضاؤها (1)؟ ان الوسيلة لا ثبات ذلك هي ان الوجوب اذا لم يكن مشروطا بالقدرة فيمكن التمسك بدليل « اقيموا الصلاة » لا ثبات وجوب الصلاة في حق غير القادر وبالتالي لا ثبات وجود الملاك بالدلالة الالتزامية ، واما اذا كان

ص: 215


1- قد يقال : ان ثبوت الملاك في الصلاة داخل الوقت امر واضح لا يحتاج الى اثبات ، وهل يحتمل ان الصلاة التي هي عمود الدين ليس فيها ملاك. والجواب : ان عهدة هذه الدعوى على مدعيها ، فنحن لا نسلم اشتمال الصلاة دائما على الملاك بل ذاك يحتاج الى مثبت بالشكل الذي اوضحناه.

مشروطا بالقدرة فلا يمكن ذلك ، لان الدلالة المطابقية على الوجوب اذا سقطت عن الحجية سقطت الدلالة الالتزامية عنها ايضا.

2 - ان يفرض ان فعلا معينا لم يكن المكلّف قادرا عليه ولكنه صدر منه صدفة وبلا اختيار - كما لو فرض ان الوالد كلف ولده بتنظيف غرفته ومرت على الولد فترة لم يتمكن لانحراف صحته من التنظيف ولكنه حالة النوم حصل منه ، اذ الانسان حالة النوم قد تصدر منه افعال لا يتمكن منها حالة اليقظة - ففي مثله هل يكفي الفعل المذكور في سقوط الوجوب او يبقى ويلزم القضاء بعد الوقت؟ ان الثمرة هنا تظهر فلو لم تكن القدرة شرطا في الوجوب فيمكن التمسك بدليل وجوب الفعل لا ثبات الوجوب وبالتالى لا ثبات كون الفعل الصادر مصداقا للواجب ويكون اتيانه مسقطا للوجوب وللقضاء ، اما اذا كانت القدرة شرطا في الوجوب فلا يمكن التمسك بدليل الوجوب لا ثبات الوجوب ، وبالتالي لا يمكن اثبات ان الفعل المأتي به واجب ومسقط للقضاء الا اذا كانت هناك قاعدة اخرى - سواء كانت اصلا عمليا ام امارة - تقتضي كونه مسقطا للقضاء.

وبعد اتضاح هاتين الثمرتين نلفت النظر الى الفارق بينهما ، وهو أمران :

أ - ان المفروض في الثمرة الاولى عدم اتيان المكلّف بفعل بينما المفروض في الثانية اتيانه به.

ب - انه في الاولى يراد اثبات وجوب القضاء بينما في الثانية يراد اثبات سقوط القضاء.

قوله ص 303 س 2 هو المصلحة الداعية ... الخ : ذكر المصلحة من باب المثال والا فقد يكون الملاك هو المفسدة الداعية الى التحريم.

قوله ص 303 س 3 من ادراك تلك المصلحة : الادراك هو العلم. ووجه

ص: 216

التقييد به واضح فانه لا يحصل الشوق لشيء لمجرد وجود المصلحة فيه واقعا بل لا بدّ من العلم بوجودها ، فالمريض اذا لم يعلم بمرضه لا يشتاق لاستعمال الدواء. وهذا معنى ما يقال من ان المصلحة بوجودها العلمي توجب الشوق لا بوجودها الواقعي.

قوله ص 304 س 2 كذلك : اي كشرط فيهما.

قوله ص 304 س 5 بصورة مجردة : اي مجردة عن داعي التحريك بان كانت متمحضة لابراز المصلحة والشوق.

قوله ص 304 س 7 وقد يوجه ... الخ : هذا دفع لمحذور اللغوية المشار اليه سابقا.

قوله ص 304 س 8 على الاطلاق : اي حتى في حق العاجز ، وقوله « في حق الجميع » اي حتى في حق العاجز.

قوله ص 304 س 10 انما هو بسبب الادانة : اي لا يصح التحريك الا في مورد يمكن فيه العقاب لو لم يتحرك فيه المكلّف.

قوله ص 304 س 11 وحكم العقل بالمسؤولية : عطف تفسير للادانة.

قوله ص 304 س 17 والقدرة انما تتحقق : هذا اشارة الى ما اوضحناه تحت عنوان « ما المقصود من القدرة ».

قوله ص 305 س 2 كذلك : اي تكوينا.

قوله ص 305 س 3 ولم يقع : الصواب : ولا يقع.

قوله ص 305 س 13 الذي هو مفاد الدليل : صفة لجعل الحكم.

قوله ص 305 س 13 باطلاق الدليل : انما عبر بكلمة ( اطلاق ) باعتبار ان ثبوت اصل الوجوب في حق القادر معلوم ، وانما يراد التمسك باطلاقه لاثبات

ص: 217

شمول الوجوب للعاجز.

قوله ص 305 س 15 ومبادىء الحكم له : عطف تفسير للملاك ، وضمير له يرجع الى العاجز.

قوله ص 305 س 16 وبهذا تعرف : الصواب : يعرف.

قوله ص 306 س 9 بمبادئه : ذكر المبادىء باعتبار ان ثبوت الوجوب بلا مبادىء امر غير ممكن.

قوله ص 306 س 12 بدليل : الصواب : بالدليل ، اي بدليل الواجب.

قوله ص 306 س 13 من طلب حاله : اي انه مسقط للقضاء او غير مسقط له.

حالات ارتفاع القدرة قوله ص 306 س 15 ثم ان القدرة التي ... الخ :

تقدم ان القدرة شرط في موردين : العقاب والتكليف بداعي التحريك ، فبدونها لا يصح العقاب كما ولا يصح التكليف بداعي التحريك ، وهذا واضح ، ولكن قد يفرض ان المكلّف يدخل عليه وقت الصلاة مثلا وهو قادر عليها غير انه بعد فترة تزول قدرته ، والسبب في زوال القدرة احد امور ثلاثة :

1 - التواني في اداء الواجب حتى ينتهي الوقت ، وفي مثله يسقط الأمر جزما بسبب العصيان ، فالقدرة على فعل الواجب زالت بسبب العصيان.

2 - اراقة الماء مثلا عمدا وبلا مبرر وبالتالي ازالة القدرة على اداء الصلاة الوضوئية بلا مسوغ.

3 - انعدام الماء وسط الوقت بلا تسبيب من المكلّف بل صدفة.

ص: 218

وبعد اتضاح هذا نسأل : هل يستحق المكلّف العقاب في الحالات الثلاث المذكورة؟ نعم يستحق ذلك في الحالة الاولى والثانية ، اذ في الاولى تماهل حتى انتهى الوقت وزالت قدرته ، وفي الثانية اراق الماء بلا مبرر وازال القدرة عن نفسه بعد ما كانت موجودة ، ويكفي ثبوت القدرة اول الوقت في استحقاق العقاب.

واما في الحالة الثالثة فلا بدّ من التفصيل بين علم المكلّف بان الماء سينعدم بعد قليل ومع ذلك يسوّف حتى ينعدم وبين ما اذا لم يعلم بذلك ، فعلى الاول يستحق العقاب دونه على الثاني.

والخلاصة : ان العقل والعقلاء يحكمون في الحالات الثلاث المذكورة باستحقاق المكلّف للعقاب ، فانه وان كان مضطرا لترك الوضوء مثلا الا ان ذلك بسوء اختياره ، والاضطرار الناشىء من سوء الاختيار لا يتنافى واستحقاق العقوبة.

وللمتكلمين والاصوليين عبارة مشهورة تشير لذلك هي : ان الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقابا ، اي ان فقدان القدرة اذا كان بسوء الاختيار فالمكلّف يستحق العقاب ، فان استحقاقه لا يتوقف على ثبوت قدرته في تمام الوقت. اذن الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي - اي لا ينفي - الاختيار والقدرة بل هي موجودة بلحاظ استحقاق العقاب ، لان وجودها اول الوقت يكفي في ذلك.

وهل يسقط التكليف عند الاضطرار بسوء الاختيار :

ذكرنا ان المكلّف اذا اراق الماء او عصى حتى انتهى الوقت كان مستحقا

ص: 219

للعقاب ولكن هل يصح توجيه التكليف بالوضوء مثلا له او انه بعد الاراقة لا يبقى خطاب ( توضأ ) موجها له ، وبكلمة اخرى : حينما نقول ان الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار فهل المقصود انه لا ينافيه من ناحية العقاب فقط او من ناحية التكليف ايضا؟ المعروف سقوط التكليف لانه بعد الاراقة لا يكون المكلّف قادرا على الوضوء ومعه كيف يقال له توضأ والحال ان تحريك من لا يتمكن من التحرك امر غير معقول ، اذن العقاب حالة الاضطرار بسوء الاختيار وان كان معقولا الا ان التكليف غير معقول ، ولاجل هذا اضافوا لتلك العبارة المشهورة تكملة وقالوا : ان الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وينا فيه خطابا ، اي الاضطرار بسوء الاختيار لا يزيل استحقاق العقاب ويزيل الخطاب والتكليف حيث ان القدرة التي يتطلبها استحقاق العقاب - وهي القدرة اول الوقت - موجودة بينما القدرة التي يتطلبها الخطاب - وهي القدرة حين توجيه الخطاب - غير موجودة.

هذا ولكن السيد الشهيد خالف المشهور وذهب الى امكان بقاء التكليف ايضا ، فكما ان استحقاق العقاب ثابت فكذلك الخطاب ثابت. ووجه ذلك : ان المشهور ماذا يقصد من سقوط الخطاب؟ ان فيه احتمالين :

أ - ان التكليف بالوضوء باق بعد الاراقة ويبقى الشارع يقول للمكلّف توضأ ، الا ان التكليف المذكور لا يكون محركا نحو الوضوء ، فالساقط ليس هو الوجود الفعلي لخطاب توضأ بل محركيته وتأثيره وفاعليته ، واذا كان هذا هو المقصود للمشهور فهو امر مقبول ، اذ من الواضح ان خطاب توضأ لا يمكن ان يحرك من لا يتمكن من التحرك.

ب - ان التكليف ساقط ولا يبقى له وجود بعد الاراقة فهو ليس فقط لا

ص: 220

يكون محركا بل ساقط من اساسه ، واذا كان هذا هو المقصود فيرده : ان خطاب ( توضأ ) لا وجه لسقوطه الا اذا كانت القدرة شرطا فيه بحيث يكون وجوده بقاء مشروطا ببقائها ، فاذا زالت سقط ، الا ان هذا باطل ، اذ يكفي وجود القدرة اول الوقت لحدوث التكليف وبقائه ولا يتوقف بقاؤه على استمرارها لما ذكرنا سابقا من ان المولى يجعل التكليف لغرض تحريك المكلّف ، والتحريك لا يصح الا متى ما صح العقاب على تقدير المخالفة ، وقد تقدم ان العقاب يصح متى ما كان المكلّف قادرا اول الوقت وان انتفت بعد ذلك ، ونتيجة هذا : ان التكليف يصح متى ما كانت القدرة موجودة اول الوقت وان زالت بعد ذلك. وبكلمة اخرى يكفي في ثبوت التكليف وجود القدرة بالمقدار المصحح للعقاب وهو وجودها اول الوقت.

اجل ينبغي ان يكون واضحا ان امكان وجود خطاب ( توضأ ) وان كفى فيه وجود القدرة اول الوقت وقبل الاراقة الا ان هذا الوجود للخطاب بعد حصول الاراقة وجود غير نافع ، لأن الفائدة المحتملة في ثبوت الخطاب بعد الاراقة لا تخلو من احد امور ثلاثة :

1 - ان يكون ثبوته كاشفا عن ثبوت المبادىء وهي المصلحة والشوق ، فخطاب ( توضأ ) يكشف عن اشتياق المولى للوضوء وكونه ذا مصلحة.

ويرده : ان الوضوء هو ذو مصلحة ومما يشتاق له المولى حتى وان لم يكن خطاب ( توضأ ) ثابتا بدليل ان المكلّف بعد اراقته للماء يصح عقابه على عدم الوضوء ، فلو لم تكن المصلحة والشوق ثابتين فيه لما صح عقابه ، وعليه فروح التكليف - وهي مبادئه - ثابتة حتى وان لم يكن ثابتا.

2 - ان يكون ثبوته موجبا لتحريك المكلّف نحو الوضوء.

ويرده : ان خطاب ( توضأ ) لا يمكنه تحريك المكلّف بعد اراقة الماء.

ص: 221

ج - ان ثبوته موجب لاستحقاق المكلّف للعقاب.

ويرده : ان ثبوت القدرة قبل الاراقة يكفي لصحة عقاب المكلّف على عدم الوضوء وان سقط الخطاب بعد ذلك ولا تتوقف صحة عقابه على بقاء الخطاب.

وباختصار : ان وجود خطاب ( توضأ ) وجود غير نافع لان روح التكليف وهي مبادئه ثابتة على كلا التقديرين ، والعقوبة ثابتة على كلا التقديرين ايضا ، والتحريك مفقود على كلا التقديرين ايضا (1).

قوله ص 307 س 12 بانه سيطر : الصواب : سيطرأ وتماهل.

قوله ص 308 س 2 ما نشأ عن العصيان والتعجيز : عدم ذكر السبب الثالث من جهة ان الاضطرار الناشىء من طرو سبب خارج عن اختيار المكلّف ليس اضطرارا بسوء الاختيار ، فان منشأ الاضطرار ما دام خارجا عن الاختيار فلا يكون الاضطرار بسوء الاختيار.

قوله ص 308 س 3 مطلقا : مراده من الاطلاق ما ذكره بعد ذلك بقوله « سواء كان ... الخ ».

قوله ص 308 س 8 يردف : اي يضاف له.

قوله ص 309 س 1 بالقدر الذي يحقق : اي بالقدرة في اول الوقت ، حيث انها هي المصححة للادانة اي العقوبة.

قوله ص 309 س 3 والبرهان على ... الخ : الصواب : والبرهان على ان شتراط ... الخ.

ص: 222


1- قد يقال : ان الفائدة تظهر في وجوب القضاء ، فان الخطاب اذا لم يكن ساقطا بعد الاراقة فالقضاء واجب بينما اذا كان ساقطا فلا يجب. وفيه : ان الخطاب وان لم يكن ساقطا بعد الاراقة لكنه يسقط عند انتهاء الوقت جزما ، فان الامر بالاداء يسقط بانتهاء الوقت ، ووجوب القضاء لو ثبت فهو بدليل خاص ، ومعه فلا ثمرة لوجود الخطاب من هذه الناحية.

قوله ص 309 س 4 وهو ان التكليف : الواو زائدة. والصواب : هو ان ... الخ.

قوله ص 309 س 10 والوجوب المجعول ايضا : عطف تفسير للخطاب. وقوله « ايضا » : اي كما لا ينافي العقاب. والمراد من الاطلاق هو شمول العقاب للعاجز وعدم اختصاصه بالقادر.

الجامع بين المقدور وغيره :

قوله ص 309 س 15 ما تقدم حتى الآن ... الخ :

تقدم ان القدرة شرط في التكليف فهو لا يتعلق بشيء الا اذا كان مقدورا ، وههنا ثلاث صور لا بدّ من الالتفات اليها :

1 - ان تكون جميع حصص المتعلّق غير مقدورة ، ومثله لا اشكال في عدم امكان تعلّق التكليف به.

2 - ان تكون بعض الحصص مقدورة دون بعض ، وفي مثله ان كان التكليف متعلقا بالشيء بنحو الاطلاق الشمولي (1) فايضا يكون - التكليف - مستحيلا لأن معنى الاطلاق الشمولي تعلق التكليف بجميع الحصص ، والمفروض ان بعضها غير مقدور.

3 - وان كان متعلقا بالشيء بنحو الاطلاق البدلي كما لو قيل : سافر - وكان للسفر حصتان احداهما مقدورة دون الاخرى - بنحو الاطلاق البدلي لا الشمولي ، اي كان المطلوب حصة واحدة من السفر لا كلتا حصتيه ، فقد وقع

ص: 223


1- حينما يقال : ان اطلاق « اكرم العالم » شمولي فالمراد دلالته على وجوب اكرام جميع افراد العالم ، وحينما يقال ان اطلاق « اكرم عالما » بدلي فالمراد دلالته على وجوب اكرام فرد واحد من افراد العالم.

النزاع بين الاعلام في ان الوجوب هل يمكن تعلقه بجامع السفر او يكون متعلقا بخصوص الحصة المقدورة ، فالميرزا اختار ان الأمر وان كان في لسان الدليل متعلقا بعنوان السفر وجامعه الا انه بحسب الواقع متعلّق بخصوص الحصة المقدورة لأن الغرض من التكليف هو التحريك ، والتحريك لا يمكن الاّ نحو المقدور ، بينما المنسوب للمحقّق الثاني كون التكليف متعلقا بالجامع لا بخصوص الحصة المقدورة لأن الغرض من التكليف وان كان هو التحريك وهو يختص بالأمر المقدور الا ان احدى حصص الجامع ما دامت مقدورة فالجامع يكون مقدورا ، فان القدرة على الجامع لا تتوقف على القدرة على جميع حصصه بل يكفي لحصولها القدرة على بعض افراده (1) ، وما دام نفس الجامع مقدورا فيبقى التكليف متعلقا بالجامع ولا وجه لتعلقه بخصوص الحصة المقدورة.

وقد وافق المحقّق الثاني على هذا الرأي جملة من الاعلام كالسيد الخوئي والسيد الشهيد.

وقد تسأل عن ثمرة هذا الاختلاف وان المكلّف ما دام لا يتمكّن من الاتيان الاّ بالحصة المقدورة فاي ثمرة لكون التكليف متعلقا بخصوص الحصة المقدورة او بالجامع؟

والجواب : تظهر الثمرة فيما لو اتى المكلّف بالحصة غير المقدورة صدفة كما لو قال الأب لولده : سافر وكان للسفر حصتان احداهما مقدورة وهي السفر في

ص: 224


1- ولعل الوجدان قاض بذلك ، فلو قال صديقك : زرني هذه الليلة ، فقلت له : لا اتمكّن هذه الليلة لبعض الموانع ، فيقول : زرني اذن اما هذه الليلة او الليلة المقبلة ، فتقول : نعم هذا جيد. تأمل في هذا المثال ونضائره تجد ان تعلق التكليف باصل الزيارة الجامعة بين كونها هذه الليلة او الليلة المقبلة امر معقول ، ولا وجه له الا كون جامع الزيارة مقدورا وان كانت بعض حصصه غير مقدورة

اليقظة والأخرى غير مقدورة وهي في المنام ، فلو تحققت الحصة غير المقدورة بان رفع الولد حالة نومه ووضع في الطائرة فعلى رأي المحقق الثاني يكون هذا السفر مصداقا للواجب ومجزيا لأن الوجوب متعلّق بالجامع وهو صادق عليه ، واما على رأي الميرزا فلا يكون مجزيا بل تجب العودة والسفر من جديد (1) لان التكليف متعلّق بخصوص الحصة المقدورة وهي السفر في اليقظة ، والسفر في المنام لم يتعلّق به التكليف فاجزاؤه عن الحصة الواجبة يحتاج الى دليل ، فان اجزاء غير الواجب عن الواجب يحتاج الى دليل.

ص: 225


1- طبيعي فيما اذا لم يكن السفر واجبا من باب المقدمة بل كان واجبا نفسيا والا لم تجب اعادته لأن الغرض منه التوصل والمفروض حصوله.

ص: 226

شرطية القدرة بالمعنى الأعم او مبحث الترتب

اشارة

ص: 227

ص: 228

شرطية القدرة بالمعنى الأعم :

اشارة

قوله ص 312 س 1 تقدم ان العقل يحكم ... الخ :

تقدم ان التكليف لا يتعلق بغير المقدور ، فالوجوب لا يتعلّق بالصلاة مثلا الا مع قدرة المكلّف عليها قدرة تكوينية بان يكون سالم الاعضاء والحواس ، فالمغمى عليه الفاقد للاحساس لا يكون مكلّفا بها ، وهذا واضح ، ولكن لو فرض ان المكلّف كان سالم الاعضاء والحواس الاّ انه مبتلى بواجب اهم كانقاذ شخص اوشك على الغرق فهل مع توجه الأمر بالانقاذ يبقى الأمر بالصلاة متوجها او لا؟ كلا لا يمكن ذلك ، فان الصلاة والانقاذ ضدان ، وتوجه الأمر للضدّين في وقت واحد امر غير ممكن ، فمع توجه الأمر بالانقاذ لا يمكن توجه الأمر بالصلاة والا يلزم طلب الجمع بين الضدين وهو مستحيل.

وقد يقال : ان الأمر بالجمع بين الضدين وان كان مستحيلا الا ان ذلك فيما لو كان الأمر واحدا بان قال المولى اجمع بين الضدين ، اما اذا كان بأمرين بان قيل في امر صل وفي امر ثان انقذ فهو ليس بمستحيل ، والمفروض في المقام وجود امرين.

والجواب : ان العقل يرى الاستحالة في كلتا الحالتين ولا يفرق بينهما.

ومن مجموع هذا نخرج بالنتيجة التالية : ان كل تكليف يشترط فيه شرطان :

أ - القدرة التكوينية بمعنى سلامة الاعضاء والحواس.

ص: 229

ب - عدم الابتلاء بالامر بالضد كالانقاذ.

ونصطلح على مجموع هذين الشرطين بالقدرة التكوينية بالمعنى الاعم بخلاف خصوص الشرط الأول - اي سلامة الاعضاء - حيث نصطلح عليه بالقدرة التكوينية بالمعنى بالاخص.

وكل ما ذكرناه لحد الآن هو في الحقيقة تمهيد لطرح السؤال التالي : ماذا يراد من الشرط الثاني الذي هو عدم الابتلاء بالضد فهل يراد به عدم وجود نفس امر انقذ او عدم الاشتغال بامتثاله دون مجرّد عدم وجوده؟ اختار الآخوند الاوّل وانه مع وجود من اوشك على الغرق وتوجه الأمر بانقاذه فلا يمكن توجه الأمر بالصلاة سواء اشتغل المكلّف بالانقاذ او لا ، فنفس وجود امر انقذ يمنع من وجود امر صل ، لان لازم وجودهما معا الأمر بالضدين.

واختار جملة من الاعلام منهم الميرزا (1) الثاني وان شرط وجود امر صل هو عدم الاشتغال بالانقاذ وليس وجود امر انقذ بمجرده مانعا من وجود امر صل ، فاذا لم يشتغل المكلّف بالانقاذ فمن المعقول توجه امر صل اليه فيقال له : انقذ فان لم تشتغل بالانقاذ فصلّ ، ويصطلح على مثل هذين الأمرين - اي الأمر بالانقاذ والأمر بالصلاة مترتبا على عدم الاشتغال بالانقاذ - بالامرين الترتبيين ، لان الامر بالصلاة مترتب على عدم الاشتغال بامتثال امر انقذ.

والثمرة بين الرأيين واضحة ، اذ على الاول اذا لم يشتغل المكلّف بالانقاذ واشتغل بالصلاة وقعت صلاته باطلة لعدم الأمر بها بخلافه على الثاني.

ادلة الرأيين :

اما الآخوند فقد استدل على رأيه بان لازم الرأي الثاني القائل بامكان

ص: 230


1- وهذا هو الرأي السائد بين علمائنا المتأخرين كالسيد الخوئي والسيد الشهيد وغيرهما

فكرة الترتب ومعقولية توجه الأمر بالمهم - الصلاة - عند عدم الاشتغال بالاهم - الانقاذ - توجه الامر لكلا الضدين في آن واحد ، فعند عدم الاشتغال بالانقاذ يتوجه الأمر بالصلاة لتحقق شرطه - وهو عدم الاشتغال بالانقاذ - والأمر بالانقاذ لان مجرد عدم الاشتغال بالانقاذ لا يستوجب سقوط امره وانما يسقط عند زوال الموضوع وتحقق الغرض بالفعل.

واما الميرزا الذي هو من رواد الرأي الثاني القائل بامكان فكرة الترتّب فقد ذكر في تقريرات درسه خمس مقدمات لاثبات ذلك (1) ، بيد ان السيد الشهيد اختصر تلك المقدمات واثبت الامكان ضمن مقدمات ثلاث تكفلت الاولى منها توضيح ان المنافاة بين صل وانقذ ليست الا من حيث عالم الامتثال بمعنى ان امتثال صل لما كان يبعّد عن امتثال انقذ وامتثال انقذ لما كان يبعّد عن امتثال صل حصلت المنافاة بينهما. وتكفّلت الثانية اثبات ان امر صل لا يبعّد من امتثال انقذ. وتكفّلت الثالثة اثبات ان انقذ لا يبعّد عن امتثال صل.

ونتيجة النقاط الثلاث بعد هذا هو ان امتثال كل واحد من صل وانقذ لا يبعّد ولا ينافي امتثال الآخر بل بينهما كمال الملائمة ، هذا هو مضمون النقاط الثلاث على سبيل الاجمال ، واما تفصيلا فكما يلي :

ص: 231


1- ولكن بعض المقدمات الخمس ليس له مدخلية لا ثبات الامكان كما يتّضح ذلك لمن راجعها ونبه عليه العلمان السيد الخوئي والسيد الشهيد. ويقال ان فكرة امكان الترتب كانت موجودة قبل الميرزا ، حيث تبناها كل من السيد محمد الاصفهاني الفشاركي والسيد المجدّد الشيرازي الاستاذين الجليلين للميرزا ، وكان دور الميرزا دور المشيد لاركان الفكرة واصلاح اسسها. وفي كتاب « فرائد الأصول » للشيخ الأعظم الطبعة القديمة ص 309 س 5 عبائر منقولة عن الشيخ جعفر كاشف الغطاء تدل على انه كان يقول ايضا بامكان الفكرة المذكورة ، وفي ذلك الموضع بالذات يرد الشيخ الأعظم على الفكرة بنفس ما ذكره الآخوند لا ثبات الاستحالة وبذلك يحصل اتجاه ثان يقول بعدم امكان الترتب من رواده الشيخ الأعظم.

النقطة الاولى : نشعر بالوجدان بالمنافاة بين صل وانقذ لو وجها للمكلّف في وقت واحد ، ولكن ما هو سبب المنافاة؟ ان في ذلك ثلاثة احتمالات :

1 - ان يكون التنافي بين المبادىء هو السبب لذلك ، فلاجل دلالة امر صل على المصلحة والشوق في الصلاة ودلالة امر انقذ على الشوق والمصلحة في الانقاذ يحصل التنافي بين الامرين ، ولكنه باطل ، اذ اي مانع من اشتمال الصلاة على المصلحة والشوق وفي نفس الوقت يكون الانقاذ متصفا بذلك ايضا.

2 - ان يكون التنافي بسبب نفس الجعل ، بمعنى ان جعل الوجوب على هذا الضد يتنافى وجعله على الضد الآخر من جهة امتناع نفس توجيه الوجوب الى المتضادين حتى بقطع النظر عن المصلحة والشوق ، وهو باطل ايضا ، لأن الوجوب اعتبار وهو سهل المؤونة ، فكما يمكن اعتبار الليل نهارا وبالعكس يمكن ايضا اعتبار هذا الضد واجبا وفي نفس الوقت يعتبر الضد الآخر واجبا.

3 - ويتعيّن بعد بطلان الوجهين السابقين ان يكون التنافي من حيث الامتثال ، فلأجل ان صل يدفع بالمكلّف نحو الصلاة بينما انقذ يدفع به نحو الضد يتحقق التنافي.

وبهذا تنتهي النقطة الاولى واتضح من خلالها ان سبب المنافاة بين صل وانقذ هو التنافي من حيث عالم الامتثال.

النقطة الثانية : وبعد كون المنافاة بين صل وانقذ من حيث الامتثال نوضح في هذه النقطة ان صل لا ينافي امتثال انقذ ولا يقول امتثلني ولا تمتثل انقذ. وسبب ذلك ان صل مشروط بعدم امتثال انقذ فهو يقول ان لم تمتثل انقذ فامتثلني ولا يقول امتثلني واترك امتثال انقذ. وان شئت قلت : ان امر صل لا يوجد الاّ بعد ترك امتثال انقذ ، فعدم امتثال انقذ مقدمة وجوبية لصل وشرط لا صل حدوث

ص: 232

صل ، ومن الواضح ان الواجب لا يدعو لتحقيق مقدمته الوجوبية ، فكما ان امر ( حج ) لا يقول حصّل الاستطاعة - اذ قبل حصول الاستطاعة لا وجوب للحج حتى يقول حصّل الاستطاعة - كذا امر صل لا يدعو الى مقدمته الوجوبية ولا يقول اترك الاشتغال بالانقاذ ، فانه مع الاشتغال بالانقاذ لا وجود لامر صل حتى يقول اترك الاشتغال بالانقاذ.

النقطة الثالثة : وبعد تجلي ان امر صل لا ينافي امتثال امر انقذ ولا يقول لا تمتثل انقذ نوضح في هذه النقطة ان امر انقذ بدوره لا ينافي امتثال صل. وسبب ذلك ان امر انقذ اما ان يكون مقيدا بعدم امتثال امر صل ايضا او يكون مطلقا وغير مقيد بذلك ، فان كان مقيدا فلا يكون منافيا لامتثال صل لنفس ما تقدم في النقطة الثانية ، وان كان مطلقا فهو وان كان يقول لا تمتثل امر صل الاّ انه لا يقول ذلك ابتداء ومباشرة ، اذ مباشرة يقول امتثلني ، وبتبع قوله امتثلني يكون قد بعدنا عن امتثال صل ، حيث ان لازم امتثال انقذ عدم امتثال صل ، وباتضاح هذا نقول : ان خطاب انقذ حينما يقول امتثلني فمعنى ذلك انه يقول لا تحقق موضوع امر صل - فان موضوع صل هو عدم امتثال انقذ فاذا كان انقذ يقول امتثلني فهذا يرجع الى انه لا تحقق موضوع صل - وواضح ان هذا المقدار مما لا يأباه خطاب صل ، فان الخطاب - اي خطاب كان - لا يقول اوجد موضوعي (1) ، واذا لم يقل خطاب صل اوجد موضوعي فلا يكون قول انقذ لا توجد موضوع صل منافيا لصل ، وان شئت قلت : ان امر انقذ وان كان يقول لا تمتثل صل ولكنه لا يقول ذلك مباشرة بل مباشرة يقول امتثلني اي اعدم موضوع خطاب صل ، ومن

ص: 233


1- لانه قبل وجود موضوع صل لا يكون لخطاب صل وجود حتى يتمكن ان يقول اوجد موضوعي.

الواضح ان الخطاب لا يرفض ترك امتثال نفسه في حالة عدم تحقق موضوعه ، اذ في حالة عدم تحقق موضوعه لا يكون له وجود ، وجلي ان الخطاب لا يرفض عدم امتثال نفسه الا في حالة وجوده - الخطاب - وتحقق موضوعه وشرطه (1) ولا يأبى عن عدم امتثال نفسه في حالة عدم تحقق وجوده. هذه حصيلة النقطة الثالثة وبتمامها يتجلى ان فكرة الترتب فكرة ممكنة لان التنافي بين الأمرين لا ينشأ الا من ناحية الامتثال على ما تقدم في النقطة الاولى ، وقد اثبتنا انه لا تنافي بين صل وانقذ من ناحية الامتثال ، فلا امتثال صل ينافي امتثال انقذ - على ما اتضح في النقطة الثانية - ولا امتثال انقذ ينافي امتثال صل على ما اتضح في النقطة الثالثة.

نقاط ثلاث :

اشارة

قوله ص 317 س 4 وهكذا نعرف ... الخ : وبعد اتضاح امكان فكرة الترتّب نذكر ثلاث نقاط ترتبط بالفكرة المذكورة :

1 - اتضح مما سبق ان كل تكليف ليس مشروطا بخصوص سلامة الاعضاء المعبر عنها بالقدرة التكوينية بالمعنى الأخص بل هو مشروط اضافة لذلك بعدم الاشتغال بامتثال تكليف آخر.

ونستدرك الآن لنقول : ان التكليف وان كان مشروطا بعدم الاشتغال بامتثال تكليف آخر ولكن مقصودنا من ذلك هو عدم الاشتغال بتكليف آخر مساو او اهم ، فامر صل مثلا مشروط بعدم الاشتغال بواجب آخر اهم من الصلاة او مساو لها ، وبتعبير جامع هو مشروط بعدم الاشتغال بواجب آخر لا يقل اهمية عن الصلاة ، اما اذا كان الواجب الآخر اقل اهمية فلا يكون وجوب

ص: 234


1- الشرط والموضوع شيء واحد ، فان كل شرط للوجوب هو موضوع له

الصلاة مقيدا بعدم الاشتغال به ، فانه لا معنى لاشتراط الواجب بعدم الاشتغال بما هو أدون منه فان وجوب المهم هو الذي يعقل اشتراطه بترك الاهم ولا معنى لاشتراط وجوب الاهم بترك المهم لكونه خلف فرض الاهمية (1).

2 - اتضح ان صيغة التقييد التي يحكم بها العقل في كل تكليف هي : ان كل تكليف هو مشروط بعدم الاشتغال بالاهم او بالمساوي ، واذا واجه المكلّف واجبين كالصلاة وازالة النجاسة فللتعرف على ان ايهما هو المشروط بترك الآخر لا بدّ من التفحص على الملاك الأهم (2) ، فان كان ملاك الصلاة هو الأهم كان وجوب الازالة هو المشروط بعدم الاشتغال بالصلاة ويبقى وجوب الصلاة مطلقا ، ولو فرض العكس فالعكس ، ولو كانا متساويين كان كل منهما مشروطا بترك امتثال الآخر المعبّر عنه بالترتّب من الجانبين.

ثم انه لو كان احد الوجوبين مشروطا بترك الآخر واراد المكلّف الامتثال بشكل لا يقع في العصيان فعليه الاتيان بالاهم فانه حينئذ يكون ممتثلا لوجوب الاهم كما هو واضح وفي نفس الوقت يكون وجوب المهم ساقطا عنه حيث ان وجوب المهم مشروط بترك الاهم ، فاذا تحقق الاهم سقط وجوب المهم. وعليه فلو اتى المكلّف بالاهم لم يكن عاصيا لشيء من الأمرين بينما لو حقق المهم فهو وان كان ممتثلا لامره لكنه يكون عاصيا لأمر الاهم. هذا لو كان احد الواجبين اهم ، اما لو كانا متساويين فبأي واحد منهما اتى المكلّف يكون ممتثلا لان الاتيان باي واحد منهما يكون موجبا لامتثال امره وفي نفس الوقت يكون موجبا

ص: 235


1- وقد اشار قدس سره لهذه النقطة بقوله : وهكذا نعرف ... الخ.
2- وقد تسأل : ما هو الطريق لاحراز اهمية الملاك؟ والجواب : توجه عدة طرق نذكر بعضها : أ - ان يكون احد الواجبين فوريا والآخر موسعا ، فان الفوري هو الاهم. ب - ان يكون احدهما مما له بدل والآخر مما ليس له بدل ، فان ما لا بدل له هو الأهم. ج - ان يدل الاجماع على ان الملاك الأهم هذا دون ذاك

لسقوط الأمر بالآخر (1).

3 - وقد تسأل عن ثمرة البحث عن امكان الترتّب واشتراط كل تكليف بعدم الاشتغال بامتثال واجب آخر اهم او مساو؟ والجواب : تظهر الثمرة في ثلاثة موارد هي (2) :

الثمرة الاولى : بناء على تقييد كل تكليف بعدم الاشتغال بالأهم او المساوي لا يكون بين خطاب صل وازل تعارض (3) بل تزاحم (4). ووجه ذلك ان الدليلين انما يكونان متعارضين فيما اذا لم يمكن تشريعهما للتكاذب بينهما ، ومن الواضح بعد اشتراط كل تكليف بعدم الاشتغال بالاهم او المساوي يكون مفاد خطاب صل

ص: 236


1- وقد اشار 1 لهذه النقطة بقوله : ومن هنا نصل الى صيغة عامة للتقييد ... الخ.
2- كان من المناسب عدّ الثمرة واحدة لا متعددة ، فان ما يذكر تحت عنوان الثمرة الثانية والثالثة هما من لوازم الثمرة الاولى.
3- المقصود من التعارض هو تكاذب الدليلين في مقام التشريع وعدم امكان جعل كلا الحكمين ، ونذكر لذلك مثالين : أ - اذا قيل صل ولا تصل فانه مع صدور صل لا يمكن صدور لا تصل ، وهذا ما يسمى بالتعارض بنحو التباين. ب - اذا قيل اكرم كل عالم ولا تكرم اي فاسق فان الاول يدل على وجوب اكرام كل عالم سواء كان عادلا ام فاسقا ، والثاني يدل على حرمة اكرام اي فاسق سواء كان عالما ام لا فيحصل التعارض بينهما في العالم الفاسق ، فهذا يقول اكرمه وذاك يقول لا تكرمه ، ويسمى هذا بالتعارض بنحو العموم والخصوص من وجه. وعلى هذا فالتعارض تارة يكون بنحو التباين واخرى بنحو العموم من وجه.
4- المتزاحمان هما الحكمان اللذان يمكن تشريعهما غير ان المكلّف تضيق قدرته عن امتثالهما معا كوجوب الصوم ووجوب التكسّب تحصيلا للمعاش ، فان تشريعهما معا ممكن ، فمن الوجيه ان يقال صم وتكسب ، واذا لم يمكن لفرد في بعض الاحيان الجمع بينهما كمن يعيقه الصوم عن التكسب تحقق التزاحم بينهما لا لعدم امكان تشريعهما بل لضيق القدرة عن امتثالهما. والوظيفة اتجاه المتزاحمين هي تقديم الاهم ملاكا سواء كان موافقا للكتاب ومخالفا للعامة او لا بينما الوظيفة اتجاه المتعارضين هي تقديم الارجح سندا او دلالة فيقدم المخالف للعامة او الموافق للكتاب او الاشهر ويقطع النظر عن اهمية الملاك.

وازل هكذا : صل ان لم تشتغل بواجب اهم او مساو وازل ان لم تشتغل بواجب اهم او مساو ، ولا محذور في جعل مثل هذين الحكمين.

ومن هنا نعرف معنى العبارة القائلة بان « باب التزاحم خارج عن باب التعارض » فان المقصود منها هو ما ذكرناه اي ان مثل صل وازل اللذين هما متزاحمان لا يوجد بينهما تعارض بينما بناء على انكار فكرة الترتب يتحقق بينهما التعارض ولا يكون التزاحم بينهما اجنبيا عن باب التعارض.

ان قلت : بل يوجد تعارض بين صل وازل ، فان الأمر بالصلاة في قوله تعالى : ( « اقم الصلاة لدلوك الشمس ... الآية » ) مطلق وليس مقيدا بعدم الاشتغال بالازالة ، وهكذا الامر بالازالة هو مطلق وليس مقيدا بعدم الاشتغال بالصلاة ، ومثل هذين المفادين المطلقين لا يمكن جعلهما وبينهما تعارض.

قلت : ان الخطابين وان كانا من حيث اللفظ مطلقين ولم يقيد احدهما بترك الاشتغال بواجب آخر الا انهما مقيدان بحكم العقل بعدم الاشتغال بواجب آخر اهم او مساو وهو يكفي لرفع التعارض.

التزاحم بين الواجب والحرام

التزاحم بين التكليفين له حالتان ، فتارة يكون بين تكليفين كلاهما وجوبي كالتزاحم بين امر ازل وصل ، واخرى بين تكليفين احدهما وجوبي والآخر تحريمي كمن اوشك على الغرق وتوقّف انقاذه على اجتياز ارض مغصوبة متوسطة بينه وبين النهر ، فان وجوب الانقاذ وحرمة الغصب حكمان متزاحمان ولا تعارض بينهما. اما انه لا تعارض بينهما فلأن كلا منهما مقيد بعدم الاشتغال بواجب آخر مساو او هم ، وكل خطابين من هذا القبيل لا يقع بينهما تعارض ، واما انه يوجد بينهما تزاحم فباعتبار ضيق قدرة المكلّف عن امتثال كلا

ص: 237

الحكمين (1)

الثمرة الثانية : واذا تحقق التزاحم بين صل وازل طبقا للثمرة السابقة فاللازم اعمال مرجحات باب التزاحم وهي تقديم الاهم ملاكا حيث انه بتقديمه ينتفي وجوب المهم لكونه مشروطا بعدم الاشتغال بالاهم ، فاذا قدم المكلّف الازالة واشتغل بها لم يبق للصلاة وجوب وبالتالي لم يكن عاصيا لشيء من الخطابين ، وهذا بخلاف ما لو قدم المهم فانه يكون عاصيا لأمر الاهم.

هذا كله لو كان اهم في البين ، اما اذا كانا متساويين فالمكلّف مخيّر في تقديم اي واحد منهما شاء لان كلا منهما مشروط بعدم الاشتغال بالآخر ، فاذا اشتغل بهذا انتفى وجوب ذاك ، واذا اشتغل بذاك انتفى وجوب هذا.

واذا اهمل المكلّف كلا الواجبين الاهم والمهم فهل يستحق عقابين او عقابا واحدا؟ المناسب لفكرة الترتّب القائلة بان كلا التكليفين موجه الى المكلّف بنحو الترتّب الالتزام باستحقاق عقابين عقاب على مخالفة هذا وعقاب على مخالفة ذاك ، لان المفروض توجه كلا التكليفين الى المكلّف.

ولكن قد يشكل على الالتزام بتعدد العقاب بانه لمّا لم يمكن الجمع بين الصلاة والازالة فلا وجه لاستحقاق عقابين بل المناسب استحقاق عقاب واحد. وقد ذكر الآخوند (2) ان استاذه الميرزا محمّد حسن الشيرازي قدس سره كان من القائلين بامكان فكرة الترتب وكان الآخوند يشكل عليه بان لازم الفكرة المذكورة الالتزام بتعدد العقاب عند ترك كلا التكليفين والحال انه مما لا يمكن

ص: 238


1- هذا وقد ذكر الميرزا في اجود التقريرات ج 1 ص 322 بعض الشبهات على الترتب بين الواجب والحرام وناقشها. ثم ان اقحام بيان هذا المطلب - اي التزاحم بين الواجب والحرام - اثناء بيان الثمرات غير مناسب ، بل المناسب ذكره مستقلا بعد الفراغ من ذلك.
2- الكفاية ج 1 ص 218 طبعة المشكيني.

الالتزام به لعدم تمكن المكلّف من الجمع بين الازالة والصلاة معا.

هذا ويمكن مناقشة الآخوند بامكان الالتزام بتعدد استحقاق العقاب عند ترك كلا التكليفين ، ومجرّد ان الجمع بين الصلاة والازالة غير ممكن لا يمنع من تعدد الاستحقاق ، اذ المناط في استحقاق العقاب هو فعلية التكليف والمفروض ان كلا التكليفين فعلي في حق المكلّف.

الثمرة الثالثة : واذا اتضح تحقق التزاحم بين خطاب صل وازل بناء على فكرة الترتب وبالتالي لزوم تقديم الاهم ملاكا فهل ان تقديم الاهم كالازالة مثلا يعني سقوط التكليف بالصلاة سقوطا تاما او يعني السقوط الناقص؟ والجواب : انه يعني السقوط الناقص ، فتقديم وجوب الازالة يقتضي سقوط الوجوب عن الصلاة حالة الاشتغال بالازالة فقط ويبقى ثابتا حالة عدم الاشتغال بها ، وبهذا يحصل الفرق بين حالة التعارض وحالة التزاحم ، فانه لو اخذنا برأي الآخوند القائل باستحالة الترتب كان بين خطاب صل وازل تعارض ، فاذا قدمنا خطاب ازل من باب موافقته للكتاب او مخالفته للعامة فخطاب صل يسقط من اساسه وهذا بخلاف ما لو قلنا بامكان الترتب فانه يتحقق التزاحم وبتقديم الاهم يبقى التكليف بالمهم ثابتا عند عدم الاشتغال بالاهم (1).

الامكان يستلزم الوقوع :

قوله ص 321 س 9 ولا يحتاج اثبات هذا الوجوب الترتبي ... الخ : تقدم ان المكلف عند توجه الامر بالازالة اليه يمكن ان يوجه له في الوقت نفسه الامر

ص: 239


1- وبهذا اتضح امكان صياغة الثمرات الثلاث بصيغة ثمرة واحدة فيقال : بناء على امكان فكرة الترتب يتحقق تزاحم بين الخطابين دون التعارض ويترتب على ذلك لزوم تقديم الاهم ملاكا ولازم ذلك عدم سقوط الخطاب بالمهم من اساسه.

بالصلاة مشروطا بترك الازالة. وقد يقال : ان مجرّد امكان توجيه الوجوب المذكور للمكلّف ما لم يرتق الامكان الى مستوى الوقوع غير نافع فالمهم اثبات هذا الوجوب بالفعل ولا يكفي مجرّد امكانه ، فان صحة الصلاة في المسجد الذي فيه نجاسة تحتاج الى وجود امر بها بالفعل ولا يكفيها مجرد امكان وجوده ، وواضح ان امكان الشيء لا يستلزم وقوعه.

والجواب : ان الامكان وان لم يكن مستلزما للوقوع ولكنه في خصوص مقامنا يستلزمه بتقريب انه يوجد لدينا امر بالصلاة يقول « اقم الصلاة لدلوك الشمس ... الخ » والعقل بعد حكمه بتقييد كل تكليف بعدم الاشتغال بالاهم او المساوي فمن اللازم تقيد الخطاب المذكور بعدم الاشتغال بالازالة التي هي واجب اهم او مساو للصلاة. وبهذه الطريقة يثبت ان الآية الكريمة تدل على تحقق وجوب للصلاة مشروطا بعدم الاشتغال بالازالة.

الثمرة العملية لفكرة الترتب :

قوله ص 321 س 15 ومن نتائج هذه الثمرة ... الخ : اتضح مما سبق ان ثمرة فكرة الترتب هي تحقق التزاحم بين صل وازل بخلافه بناء على انكارها فانه يتحقق التعارض ولكن الثمرة بهذا المقدار لا تعدو كونها ثمرة نظرية واصولية الا ان من نتائج الثمرة المذكورة تحقق ثمرة عملية وهي تصحيح الصلاة عند الاشتغال بالازالة فانه بعد تحقق التزاحم بين صل وازل وتقديم الأمر بالاهم يبقى الأمر بالمهم مشروطا بترك الأهم ، فهناك امر متعلق بالصلاة مشروطا بترك الازالة ، فاذا ترك المكلّف الازالة واشتغل بالصلاة وقعت منه صحيحة لوجود امر ترتبي متعلق بها ، وهذا بخلافه على رأي الآخوند المنكر لامكان الترتب فانه لا يمكنه

ص: 240

الحكم بصحة الصلاة لعدم وجود امر ترتبي متعلّق بها (1).

هذا ولكن الآخوند دافع عن نفسه قائلا : ان بالامكان تصحيح الصلاة عن طريق آخر وهو الملاك بتقريب ان صحة الصلاة تحتاج الى امرين : وجود الملاك وقصد القربة ، وكلاهما متوفّر ، اما قصد القربة فباعتبار ان المكلّف جاهل ويعتقد عدم المحذور في ترك الازالة والاتيان بالصلاة فيتأتى منه لاجل ذلك قصد القربة ، واما الملاك فباعتبار ان وجود خطاب ازل يمنع من وجود خطاب صل ولا يمنع من ملاك الصلاة ، فان المنافاة ثابتة بين خطاب صل وخطاب ازل ، فاذا تحقق خطاب ازل امتنع وجود خطاب صل ، اما ملاك الصلاة وملاك الازالة فلا ممانعة بينهما ليلزم من ثبوت المصلحة او الامر بالازالة انتفاء المصلحة عن الصلاة. هذا حصيلة ما افاده قدس سره .

ويرده : ان وجود النجاسة والامر بازالتها وان كان لا يمنع من بقاء المصلحة ثابتة في الصلاة ولكن مع ذلك يحتمل زوالها عنها بسبب المزاحمة بالازالة ولا يوجد طريق يحرز به بقاؤها سوى الامر فان الأمر المتعلق بالصلاة يدلّ بالمطابقة على الوجوب وبالالتزام على ثبوت الملاك فيها ، فاذا فرض عدم تعلق الامر الترتبي بالصلاة واستحالة ثبوته فلا محرز لوجود الملاك في الصلاة.

قوله ص 312 س 1 واشتراطه : عطف تفسير على قوله : « تقيد التكليف ».

قوله ص 312 س 6 تكوينا : بان كان سالم الاعضاء والحواس.

قوله ص 312 س 7 للتضاد ... الخ : اي ان فوات الصلاة بانقاذ الغريق

ص: 241


1- وبهذا اتضح الردّ على السيد الخوئي فانه جعل ثمرة امكان الترتب هي تصحيح العبادة عند ترك الاهم بينما المناسب ان تكون الثمرة هي انتفاء التعارض وتحقق التزاحم ، ويتفرع على تحقق التزاحم صحة الصلاة ، فصحة الصلاة ليست هي الثمرة مباشرة لامكان الترتب وانما هي لازم مترتب على الثمرة المذكورة.

ناشىء من التضاد بين الصلاة والانقاذ ، فانه مع الاتيان بالصلاة لا يمكن الانقاذ ومع الانقاذ لا يمكن الاتيان بالصلاة.

قوله ص 313 س 7 ان لا يكون : اي المكلّف.

قوله ص 313 س 8 فلأن قيده : اي موضوعه.

قوله ص 314 س 8 بالمعنى الذي : اي بمعنى عدم الاشتغال بامتثال الضد.

قوله ص 314 س 8 بنفس ثبوته : اي وليس المانع من التكليف بالضد الآخر - كالصلاة - هو الاشتغال بالانقاذ.

قوله ص 315 س 7 او بالبناء على عصيانه : اي ان امر صل ما دام مشروطا فهو لا ينافي امتثال انقذ من دون فرق بين ان يكون شرطه هو عدم امتثال انقذ او البناء على عصيانه.

قوله ص 315 س 8 على هذا النحو : اي فهو وجوب مشروط بعدم امتثال انقذ او بالبناء على عصيانه.

قوله ص 315 س 9 ومحركيته : عطف تفسير لفاعليته ، اي ان امر صل يستحيل ان يكون تحريكه نحو امتثاله منافيا لامر انقذ.

قوله ص 316 س 2 مشروطا بدوره ايضا : ويسمى الترتب في هذه الحالة بالترتب من الجانبين.

قوله ص 316 س 4 بنفس البيان السابق : وهو ان امر انقذ ما دام مشروطا بعدم امتثال صل فيستحيل ان يقول لا تمتثل صل لانه بامتثال صل لا وجود له اصلا حتى يمكنه ان يقول لا تمتثل صل.

قوله ص 316 س 7 ويصلح ان ... الخ : عطف تفسير لقوله : « يبعّد عن امتثال » ، اي ان انقذ وان كان يبعّد عن امتثال صل ويصلح ان يستند عدم وقوع

ص: 242

الصلاة الى امر انقذ.

قوله ص 316 س 8 بذلك : متعلّق بالواجب.

قوله ص 316 س 10 الذي يساوق : صفة لقوله : « امتثال نفسه ».

قوله ص 316 س 11 ونفي موضوعه : عطف تفسير لأفناء الشرط ، فان شرط الوجوب يكون موضوعا له فلازم نفي شرط الوجوب نفي الموضوع.

قوله ص 316 س 11 وهذا يعني : اي ما دام انقذ يقول بالمباشرة امتثلني ، والمفروض ان امتثلني يعني لا توجد موضوع صل فبضم هذا لذاك تكون النتيجة ان انقذ وان كان يقتضي عدم امتثال صل ويقول لا تمتثل صل ولكنه يقتضي ذلك عن طريق نفي اصل وجوب الصلاة - لان انقذ بقوله امتثلني كأنه يقول لا توجد موضوع صل - ولا يقتضي ترك امتثال الصلاة عند افتراض تحقق وجوبها وتحقق شرطه وموضوعه.

قوله ص 316 س 13 لا نفيه : اي لا نفي امتثال الوجوب المشروط مع حفظ ... الخ.

قوله ص 316 س 16 اذ يستحيل : لانه قبل وجود شرطه لا وجود له اصلا حتى يقوم بحفظ شرطه فقبل تحقق الاستطاعة مثلا لا وجود لوجوب الحج اصلا حتى يقول اوجد الاستطاعة.

قوله ص 317 س 1 وبهذا يتبرهن : هذا نتيجة النقاط الثلاث.

قوله ص 317 س 2 على الأقل مشروطا : اي ان الامر بالضدين يمكن في حالتين احداهما : ان يكون كل منهما مشروطا بترك الآخر ، ويسمى بالترتب من الجانبين ، وثانيهما : ان يكون احدهما بالخصوص مشروطا بترك الآخر ، ويسمى بالترتب من جانب واحد ، والذي يكفي لامكان الامر بالضدين كون احدهما

ص: 243

على الاقل مشروطا بعدم امتثال الآخر ولا يلزم اشتراط كليهما بذلك.

قوله ص 318 س 3 بمعرفة النسبة : اي انهما متساويان او احدهما اهم.

قوله ص 318 س 11 وان المكلّف : عطف على قوله : « ان الامر ».

قوله ص 319 س 4 لان الدليل مفاده جعل الحكم : فمفاد دليل صل هو وجوب الصلاة على كل من يفرض بالغا عاقلا قادرا ، وهكذا الحال بالنسبة لمفاد ازل.

قوله ص 319 س 10 كذلك : اي المقيد بالقدرة التكوينية بالمعنى الاعم.

قوله ص 320 س 8 مغاير لباب التعارض : بينما على رأي الآخوند المنكر لامكان الترتب يكون كل دليلين متزاحمين كصل وازل داخلين تحت المتعارضين ولا يكون باب التزاحم خارجا عن باب التعارض ، وبالتالي يلزم تطبيق قواعد باب التعارض - وهي تقديم الموافق للكتاب او المخالف للعامة ونحو ذلك - على كل متزاحمين.

قوله ص 320 س 13 في مورد ما : كمورد توقف انقاذ الغريق على اجتياز الأرض المغصوبة.

قوله ص 321 س 11 الدليل العام : كدليل « اقم الصلاة لدلوك ... الخ ».

قوله ص 321 س 13 عن ذاك : اي عن وجوب المتعلّق مشروطا بعدم الاشتغال بواجب لا يقل عنه اهمية.

قوله ص 321 س 14 المزاحم الآخر : وهو وجوب الازالة.

قوله ص 321 س 15 هذه الثمرة : اي المشار لها في هذه الصفحة من الحلقة س 5 بقول : ومنها ان تقديم ... الخ.

قوله ص 322 س 7 على وجهة النظر المذكورة : وهي وجهة نظر الآخوند

ص: 244

القائلة باستحالة الأمر الترتبي.

قوله ص 322 س 9 فحيث امر : الصواب : فحيث لا امر.

ما هو الضد؟

قوله ص 322 س 11 عرفنا ان الأمر بشيء ... الخ : تقدم ان كل تكليفين يوجد بين متعلقيهما تضاد - كأزل وصل فان متعلقيهما وهما الصلاة والازالة بينهما تضاد - فلا تعارض بينهما ما دام الترتب ممكنا ، اي ما دام كل منهما مشروطا بعدم الاشتغال بواجب اهم او مساو. هذا ولكن يوجد موردان لا تعقل فيهما فكرة الترتب هما :

1 - مورد التناقض ، فالصلاة وعدمها (1) متناقضان لا يعقل فيهما الترتب ، فلا يمكن ان يقال صل فان لم تشتغل بالصلاة وجب عليك تركها ، انه غير معقول ، اذ عند عدم امتثال صل يكون ترك الصلاة متحققا ومع تحققه لا يمكن الأمر به لانه لا يعد وعن كونه امرا بتحصيل الحاصل.

وان شئت قلت : عند عدم امتثال صل لا يمكن الأمر بترك الصلاة لا امرا مطلقا ولا امرا مشروطا ، اما انه لا يمكن الأمر به امرا مطلقا - بمعنى ان يقال صل واترك الصلاة - فلأنه امر بالجمع بين الضدين وهو غير معقول ، واما انه لا يمكن الأمر به مشروطا بعدم امتثال صل فلأنه امر بتحصيل الحاصل. اذن كلما كان بين الشيئين تناقض فلا يمكن الأمر بهما بنحو الترتب ، ولو تعلق الامر بهما كان بين الامرين تعارض.

2 - مورد الضدين اللذين لا ثالث لهما كالجهر والاخفات فلا يمكن ان يقال

ص: 245


1- ويعبر عن مثل عدم الصلاة بالضد العام او النقيض.

اجهر في صلاتك وان لم تجهر يجب عليك الاخفات لنفس النكتة السابقة ، فانه عند عدم الجهر يكون الاخفات حاصلا والأمر به امرا بتحصيل الحاصل.

وبهذا يتضح ان فكرة الترتب لا تعقل الا في الضدين اللذين لهما ثالث كالصلاة والازالة فان لهما ضدا ثالثا وهو تركهما معا والاشتغال بالاكل مثلا.

وبامكاننا تقديم هذا الضابط الكلي : متى لم يعقل الامر بالشيئين بنحو الترتب - كما في النقيضين او الضدين اللذين ليس لهما ثالث - كان بين الامرين تعارض ، ومتى ما كان الأمر بنحو الترتب معقولا كما في الضدين اللذين لهما ثالث فلا تعارض بين الأمرين ، فتحقق التعارض وعدمه على هذا يدور مدار امكان الترتب وعدمه.

قوله ص 323 س 12 على وجوب او حرمة فعله : الصواب : على وجوب تركه او حرمة فعله. اي متى ما قيل صل ثم قيل يجب ترك الصلاة او يحرم فعل الصلاة تحققت المعارضة.

اطلاق الواجب لحالة المزاحمة :

قوله ص 324 س 9 قد تكون المزاحمة قائمة ... الخ : حاصل المبحث المذكور ان الامرين :

أ - تارة يفرضان بشكل لو امتثل احدهما لم يمكن امتثال الآخر ، كما لو رأى المكلّف نجاسة في المسجد وكان الوقت ضيقا بحيث لو مارس الازالة فاتته الصلاة ، وهذه الحالة هي التي كنا نتكلّم عنها لحد الآن ، واتضح ان بالامكان الامر بالصلاة منوطا بعدم الاشتغال بالازالة.

ب - واخرى يفرضان لو اراد المكلّف امتثال احدهما فلا يفوته امتثال

ص: 246

الآخر كما لو كان وقت الصلاة واسعا بحيث لا يكون الاشتغال بالازالة مفوتا لها. وفي هذه الحالة هل يوجد تزاحم بين الامر بالازالة والامر بالصلاة؟ وبكلمة اخرى هل يوجد تضاد بين الصلاة والازالة أولا؟ فان المزاحمة بين الامرين انما تتحقق عند المضادة بين المتعلقين فاذا كانت مضادة بين الصلاة والازالة تحققت المزاحمة بين امريهما والا فلا. وفي الاجابة عن هذا السؤال يوجد احتمالان :

1 - عدم المزاحمة بين الامرين لامكان ازالة النجاسة ثم الصلاة.

2 - ثبوت المزاحمة بين الامر بالازالة واطلاق صل ، فان مقتضى اطلاق صل ثبوت الحق للمكلّف في الاتيان بالصلاة اي وقت احب - ما بين الزوال والغروب مثلا - بما في ذلك الوقت الذي توجد فيه نجاسة ، بينما امر ازل يريد الازالة في تلك الفترة ويرفض الصلاة.

هذا ويمكن ان يقال بوجود ارتباط وثيق بين مسألتنا هذه والمسألة المتقدمة ص 390 من الحلقة وهي ان الجامع بين المقدور وغير المقدور هل يمكن تعلق التكليف به اولا ، فان :

أ - قلنا بعدم امكان تعلق التكليف به - الجامع بين المقدور وغيره - كما هو مختار الميرزا وقلنا بامكان الترتب كما هو مختار الميرزا ايضا كان الامر بجامع الصلاة ممتنعا ، لان المفروض مع وجود النجاسة في المسجد والامر بازالتها صيرورة الصلاة غير مقدورة ومع عدم القدرة عليها يصير الامر بجامع الصلاة ممتنعا ، وهل يتحقق حينئذ التعارض او التزاحم؟ الصحيح تحقق التزاحم بلا معارضة لان المفروض انا اخذنا امكان الترتب بعين الاعتبار ، ومع فرض امكان الترتب لا يتحقق التعارض بل التزاحم ، ومع تحقق التزاحم فاللازم تقديم الاهم ، وحيث ان الاهم هو الازالة - لان وجوبها فوري بخلاف وجوب الصلاة فانه

ص: 247

موسع - فيكون وجوب الازالة مطلقا بينما وجوب الصلاة مشروطا بترك الازالة.

ب - وان قلنا بعدم امكان الترتب كما هو مختار الآخوند - اي انكرنا الفرضية الثانية وتحفظنا على الفرضية الاولى وهي ان الجامع بين المقدور وغيره لا يمكن تعلق التكليف به - تحقق التعارض كما هو واضح لما ذكرنا سابقا من ملازمة انكار فكرة الترتب لتحقق التعارض بين الدليلين.

ج - وان انكرنا الفرضية الاولى (1) وقلنا بمقالة المحقق الكركي - وهي ان الجامع بين المقدور وغيره مقدور ويمكن تعلق التكليف به - لم تتحقق معارضة ولا مزاحمة ، لانه بناء على هذا الافتراض يكون المكلّف حين وجود النجاسة في المسجد قادرا على الازالة وفي نفس الوقت قادرا على الاتيان بجامع الصلاة ، اي ان القدرة على الاتيان بالجامع تجتمع في وقت واحد مع القدرة على الازالة ، ومع اجتماع القدرتين في وقت واحد فلا تتحقق المزاحمة ، اذ تحققها فرع عدم اجتماع القدرتين في وقت واحد. اذن التزاحم غير متحقق ومع عدم تحققه فبالاولى لا يتحقق التعارض (2).

قوله ص 325 س 5 فلا تضاد بين الواجبين : ومع عدم المضادة لا يتحقق التزاحم لانه فرع المضادة بين المتعلقين.

قوله ص 325 س 13 فان اخذنا في تلك المسألة : لم يذكر قدس سره العدل لهذا الشق. والمناسب ان يقول بعد ذلك : وان اخذنا بوجهة نظر المحقق الثاني ... الخ.

قوله ص 325 س 14 واخذنا القدرة التكوينية ... الخ : التعبير المذكور

ص: 248


1- لم يشر في الكتاب لهذه الحالة وكان من المناسب الاشارة اليها.
2- لا يخفى ان في عبارة الكتاب آخر هذا المبحث شيئا من التشويش.

صعب ، وقد ابدلناه سابقا بتعبير - امكان الترتب - فان امكان الترتب عبارة اخرى عن كون الشرط للتكليف هو عدم الاشتغال بالاهم او المساوي.

قوله ص 326 س 2 تمنع : الصواب : ممتنع.

قوله ص 326 س 2 بالازالة والامر : الصواب : والامر بالازالة.

قوله ص 326 س 6 وفقا لما تقدم : اي من اشتراط كل تكليف بعدم الابتلاء بواجب آخر.

قوله ص 326 س 7 فان فسرنا عدم الابتلاء بعدم الامر : ذكر مختار الآخوند هنا غير مناسب ، لانه افترضنا فيما سبق ان الحديث على تقدير امكان الترتب ، اي على تقدير كون الشرط هو عدم الاشتغال بالمساوي او الاهم.

قوله ص 326 س 9 لا امر بها : اي لا امر بها بما هي حصة ولا بما هي مصداق للجامع. اما عدم الامر بها بعنوانها الخاص - اي بما هي حصة فلفرض ان الامر يتعلق بالجامع لا بالحصة. واما عدم تعلق الامر بجامعها فلأن المفروض انا نتكلّم الآن على مسلك الميرزا القائل بان الجامع بين المقدور وغيره لا يمكن تعلق الامر به.

قوله ص 326 س 10 وان فسرنا عدم الابتلاء : بل هذا هو مورد الحديث على ما فرض سابقا حيث تقدم ان الفرضية الثانية هي افتراض امكان الترتب ، وبعد اخذ هذه الفرضية بعين الاعتبار فلا معنى لتكرار افتراضها الآن.

التقييد بعدم المانع الشرعي :

قوله ص 326 س 15 قلنا ان القانون ... الخ : سبق وان اتضح ان كل تكليفين اذا تزاحما قدم الاهم منهما ، ويراد هنا الاستدراك وتبيان ان الاهم انما

ص: 249

يقدم فيما اذا لم يشترط احد التكليفين بما سوى الشرط العقلي العام وهو عدم الاشتغال بالاهم او المساوي ، اما اذا كان احدهما مشروطا بشرط اضافي اي بعدم المانع الشرعي والآخر لم يكن مشروطا بذلك فلا يقدم الاهم ملاكا بل يقدم التكليف الذي لم يؤخذ فيه الشرط المذكور وان كان اضعف ملاكا. ولتوضيح ذلك نذكر المثال التالي : لو فرض ان شخصا اشترط عليه آخر ضمن عقد من العقود زيارة الامام الحسين (ع) ليلة عرفة في كل عام فاذا فرض في سنة من السنين حصول استطاعة الحج للمشترط عليه فسوف يتوجه له خطابان احدهما يقول يجب عليك الوفاء بالشرط وثانيهما يقول يجب عليك الحج ، وكل منهما كما هو واضح مقيد بعدم الاشتغال بالواجب الاهم والمساوي ، بيد ان الخطاب الاول - وجوب الوفاء بالشرط - مقيّد بقيد اضافي وهو عدم وجود مانع شرعي حيث ورد في الرواية ان شرط اللّه قبل شرطك (1) فانها تدل على ان الشرط انما يجب الوفاء به فيما اذا لم يزاحمه واجب من الواجبات الالهية ، وما دام دليل وجوب الوفاء بالشرط مقيدا بعدم المانع الشرعي فاللازم تقديم وجوب الحج ولا يلتفت الى اهمية ملاك وجوب الوفاء بالشرط على تقدير اهمية ملاكه. اذن لنا دعويان هما :

أ - ان وجوب الحج الذي لم يشترط بعدم المانع الشرعي هو المقدم.

ب - لا يلتفت الى اهمية ملاك وجوب الوفاء بالشرط.

اما الدعوى الاولى فوجهها واضح ، فان وجوب الوفاء ما دام مقيدا بعدم المانع الشرعي - والمفروض ان وجوب الحج مانع شرعي - فيلزم انتفاء وجوب الوفاء بالشرط عند ثبوت وجوب الحج سواء اتى المكلّف بالحج ام لا ، فان

ص: 250


1- وسائل الشيعة ج 17 ب 22 من ابواب موانع الارث ص 409.

وجوب الحج حتى وان لم يمتثل مانع شرعي.

واما الدعوى الثانية فوجهها ان وجوب الحج ما دام مانعا شرعيا فيلزم عند ثبوته عدم ثبوت وجوب الوفاء ، ومع عدم ثبوته كيف يحرز ثبوت الملاك فيه - الوفاء بالشرط - فان احراز الملاك فرع ثبوت الحكم ، فعند انتفائه لا يمكن احرازه ، ومع عدم ثبوت ملاكه لا معنى لترجيحه باهمية الملاك.

مصطلح اصولي :

ثم ان المقيد بعدم المانع الشرعي قد يصطلح عليه بالمقيد بالقدرة الشرعية بينما مثل وجوب الحج الذي ليس مقيدا بذلك قد يصطلح عليه بالمقيد بالقدرة العقلية ، وعلى ضوء هذين المصطلحين يصح ان نقول : ان المقيد بالقدرة العقلية مقدم على المقيد بالقدرة الشرعية ولا يلتفت الى اهمية الملاك ، وانما يلتفت لها فيما اذا لم يكن احد التكليفين مقيدا بالقدرة الشرعية بل كانا معا مقيدين بالقدرة العقلية.

ولا يخفى ان هذا الاصطلاح للقدرة الشرعية والقدرة العقلية يغاير مصطلح القدرة العقلية والشرعية بالمعنى المتقدم ص 304 من الحلقة فان ما سبق كان يقصد به ان المصلحة والارادة اذا كانتا مشروطتين بالقدرة بحيث عند عدم القدرة لا مصلحة ولا ارادة فالقدرة شرعية وان لم تكونا مشروطتين بذلك بل كان العقاب فقط هو المشروط بالقدرة فالقدرة عقلية.

قوله ص 327 س 5 على الخلاف : اي على خلافه ، فان وجوب الوفاء بالشرط مقيد بعدم وجود حكم على خلافه.

قوله ص 327 س 10 بلسان ان شرط : اي ان مفاد المقيد لدليل وجوب

ص: 251

الوفاء ولسانه هو ان شرط اللّه قبل شرطك.

قوله ص 327 س 13 اما الاول : اي انه يجب تقديم وجوب الحج.

قوله ص 327 س 13 بنفسه : اي حتى اذا لم يمتثله المكلّف.

قوله ص 327 س 15 على الخلاف : اي على خلاف وجوب الوفاء بالشرط.

قوله ص 328 س 15 مر بنا في الحلقة السابقة : بل وفي هذه الحلقة ايضا ص 304.

ص: 252

الوجوب المشروط

اشارة

ص: 253

ص: 254

قاعدة امكان الوجوب المشروط :

قوله ص 329 س 1 للوجوب ثلاث مراحل ... الخ : يراد في هذا المبحث اثبات امكان تقيد الوجوب ببعض الشروط فوجوب الحج يعقل اشتراطه بالاستطاعة ووجوب الصلاة يعقل اشتراطه بالزوال وهكذا وجوب بقية الواجبات في مقابل من انكر امكان ذلك كالشيخ الانصاري حيث اختار استحالة ذلك وان التكليف دائما هو مطلق ولا يمكن ان يكون مشروطا ، فوجوب الحج مطلق وثابت حتى قبل حصول الاستطاعة وانما المقيد بالاستطاعة هو الواجب - اي الحج - فمفاد دليل وجوب الحج على هذا هكذا : الحج المقيّد بالاستطاعة واجب. ونفس الشيء يقال في صلاة الظهر مثلا ، فان مفاد دليلها هكذا : صلاة الظهر المقيدة بالزوال واجبة ، فالوجوب ثابت في جميع الاوقات وحتى قبل الزوال وانما المقيد بالزوال هو الصلاة (1) وهكذا في صوم شهر رمضان يكون وجوب الصوم ثابت قبل دخول شهر رمضان والمقيد بذلك هو الصوم لا وجوبه فيكون مفاد دليل وجوب الصوم : الصوم المقيد بدخول شهر رمضان واجب.

وباختصار : هذا الرأي يرى ان الوجوب مطلق وان المشروط هو الواجب (2).

ص: 255


1- وعلى ضوء هذا يمكن للمكلّف قصد الوجوب عند اتيانه بالوضوء حتى قبل الزوال. كما انه بناء على هذا ينحل الاشكال القائل كيف يجب على المجنب في شهر رمضان الاغتسال قبل الفجر مع انه لا وجوب للصوم قبل الفجر حتى يجب الغسل؟ ان هذا مندفع بناء على عدم تقيد الوجوب بالفجر.
2- وبناء على هذا يكون الواجب المشروط في نظر الشيخ الأعظم عين الواجب المعلق ، والكتاب لم يتعرض لدليل الشيخ على رأيه هذا وانما تعرض لدليل آخر. وملخص دليله : ان الوجوب يستفاد من الهيئة ، فحينما يقال صل توجد مادة وهي الصلاة وهيئة هي هيئة افعل ، والذي يدل على الوجوب هو الهيئة ، وحيث ان مفاد الهيئة في نظر الشيخ جزئي والجزئي لا يقبل التقييد فلازم ذلك استحالة تقيد الوجوب وتحتم رجوع جميع القيود الى المادة وهي الصلاة مثلا. هذا ملخص دليل الشيخ الذي لم يتعرض له في الكتاب. واما ما تعرض له فهو انه سبحانه جعل الوجوب للحج وشرّعه بقوله « ولله على النار. .. » قبل ان تحصل الاستطاعة للمكلّف ، وما دام الوجوب مشرعا قبل حصول الاستطاعة فلازم ذلك عدم شرطية الاستطاعة لوجوب الحج والا فكيف شرّع الوجوب بمقتضى الآية الكريمة قبل تحقق الاستطاعة خارجا.

وبعد التعرف على هذا نمنهج مطالب الكتاب ضمن النقاط التالية :

1 - تقدم في مباحث سابقة ان للحكم مراحل ثلاث : الملاك اي المصلحة مثلا ، والارادة اي الشوق ، والجعل اي الوجوب مثلا.

2 - يوجد لكل واحد من هذه المراحل الثلاث نحوان من الشروط ، وفي هذه النقطة نوضح شروط مرحلة الملاك على ضوء المثال التالي : ان استعمال الدواء للمريض واجب عقلا بل ولعله واجب شرعا ايضا ، ولكن ما هي المصلحة فيه؟ انها استرجاع المريض حالته الطبيعية ، وبعد ان كانت المصلحة كامنة في استرجاع الحالة الطبيعية نقول : يوجد لاستعمال الدواء شرطان هما :

أ - المرض ، فمن دونه لا مصلحة في استعمال الدواء.

ب - تناول الدواء بعد وجبة الطعام فيما اذا كانت الفائدة منحصرة بذلك.

هذان شرطان لاستعمال الدواء ، واذا تأملنا قليلا وجدنا فارقا بينهما وهو انه من دون تحقق المرض لا مصلحة اصلا في استعمال الدواء ، فشرط اتصاف الدواء بالمصلحة هو المرض ، ولذا يمكن ان يسمى مثل المرض بشرط الاتصاف بالمصلحة. اما الاكل فليس هو شرطا لاصل وجود المصلحة فان المصلحة ثابتة في استعمال الدواء حتى قبل الاكل غاية الامر لا تترتب المصلحة ولا يظهر لها

ص: 256

مفعول الا بعد تناول الطعام ، فتناول الطعام اذن شرط لترتب المصلحة لا لأصل وجودها ، ولذا قد يتناول المريض احيانا الطعام قبل حلول الموعد لا لغرض سوى استعمال الدواء ، فلو لم يكن استعمال الدواء قبل الاكل ذا مصلحة فلماذا تناول الطعام قبل الموعد المقرر (1).

وكما كان للمصلحة شرطان شرط لأصل الاتصاف بالمصلحة وشرط لترتبها فكذا الارادة التي هي المرحلة الثانية من مراحل الحكم لها الشرطان المذكوران احدهما المرض المعبر عنه بشرط الاتصاف وثانيهما بعدية الطعام المعبّر عنها بشرط الترتب ، بيد ان المرض شرط لنفس الارادة بمعنى ان الانسان قبل ان يمرض لا ارادة له لاستعمال الدواء وانما تحدث بعد ذلك ، وهذا بخلافه في بعدية الطعام فانها ليست شرطا لنفس الارادة والا لم تكن للمريض ارادة لاستعمال الدواء قبل تناول الطعام والحال ان الوجدان على خلاف ذلك ، فهو يريد استعمال الدواء حتى قبل ان يأكل ، ولذا قد يأكل وجبة الطعام قبل موعدها المقرر لا لغرض سوى استعمال الدواء بعدها ، فلو لم تكن ثابتة قبلا فلماذا الاندفاع نحو الطعام قبل الموعد المقرر.

وقد تسأل : اذا لم تكن بعدية الطعام شرطا لنفس الارادة فهي شرط لأي شيء؟ انها شرط للمراد اي لاستعمال الدواء ، فالانسان حينما يمرض يريد استعمال الدواء ولكن لا يريد استعماله المطلق بل المقيد بما بعد الطعام ، فبعدية الطعام قيد لاستعمال الدواء الذي هو المراد (2).

4 - وبعد اتضاح ان المرض شرط لنفس الارادة بمعنى انه قبل المرض لا

ص: 257


1- وقد اشار قدس سره لهذه النقطة بقوله : « وفي كل من هذه المراحل الثلاث ... الخ ».
2- وقد اشار قدس سره لهذه النقطة بقوله : « وشروط الاتصاف تكون شروطا لنفس الارادة ... الخ ».

توجد ارادة لاستعمال الدواء وانما تحدث بعده قد تسأل هل ارادة استعمال الدواء تحدث للمريض عند ما يكون مريضا حقا او عند ما يتخيل ويتصور انه مريض؟ الصحيح هو الثاني ، فهو يريد الدواء عند ما يتخيل كونه مريضا وان لم يكن مريضا واقعا فان المرض واقعا من دون اعتقاد به لا يحدث الارادة للدواء وانما المحدث لها هو اعتقاد المرض سواء كان ثابتا حقا ام لا.

وبكلمة اخرى ان السبب لحدوث الارادة هو المرض بوجوده العلمي التخيلي دون وجوده الواقعي ، وهذا بخلاف المصلحة في استعمال الدواء فانها لا تثبت الا عند وجود المرض واقعا سواء اعتقد الشخص بكونه مريضا او لا (1).

5 - وننتقل الى مرحلة الجعل - اي الوجوب مثلا - لنقول ان الوجوب له شرطان ايضا ، فالمرض شرط لاتصاف استعمال الدواء بالوجوب ومن دونه لا وجوب اصلا بخلاف بعدية الطعام - التي هي شرط الترتب - ليست شرطا لاصل الوجوب ، فان الوجوب ثابت على المريض حتى قبل استعمال الطعام وانما هي شرط لمتعلق الوجوب اي الواجب وهو استعمال الدواء ، فاستعمال الدواء هو المقيد ببعدية الطعام ولذا نقول في مقام التعبير : الدواء ما بعد الطعام واجب آخذين بعدية الطعام قيدا للدواء لا لكلمة واجب.

وخلاصة البحث الى الآن : ان المرض الذي هو - شرط الاتصاف - شرط

ص: 258


1- وقد اشار قدس سره لهذه النقطة بقوله ص 331 س 6 : « غير ان الارادة التي ذكرنا ... ». ثم لا يخفى ان غالب الامور النفسية هي من هذا القبيل فانها معلولة للاعتقاد لا لثبوت الشيء واقعا ، فالخوف مثلا لا يحدث الا عند الاعتقاد بوجود الاسد في الدار فمن اعتقد بذلك حصل له الخوف وان لم يكن موجودا فيها واقعا ، ومن لم يعتقد بذلك لا يحصل له وان كان موجودا فيها واقعا ، وهكذا الحب والبغض ، فمن اعتقد باحسان شخص له احبه وان لم يكن كذلك واقعا ، ومن لم يحصل له الاعتقاد بالاحسان فلا حب له ولو كان كذلك واقعا. وهذا معنى ما يقال من ان القضايا النفسية تنشأ من الصور العلمية دون الوجودات الواقعية.

لاتصاف استعمال الدواء بالمصلحة ، وهو شرط ايضا لنفس الارادة كما وهو شرط لنفس الوجوب بينما بعدية الطعام هي شرط لترتب المصلحة وشرط للمراد وشرط للواجب (1).

6 - والنقطة الاساسية في هذا المبحث هي تحقيق المراد من الاستطاعة (2) ، فانه ذكرنا ان الاستطاعة شرط لوجوب الحج ومن دونها لا وجوب اصلا ولكن هل المراد بها الاستطاعة الفعلية الموجودة خارجا او الاستطاعة الفرضية؟ قد يقال ان الشرط هو الاستطاعة الفعلية دون الفرضية ، لكنه باطل ، اذ لازم ذلك عدم تحقق الوجوب قبل حصول الاستطاعة خارجا مع انه لا اشكال في ثبوت وجوب الحج على المستطيع حتى قبل تحقق استطاعته خارجا ، فان قوله تعالى : « ولله على الناس ... » يثبت الوجوب حتى قبل تحققها خارجا ، اذ الآية الكريمة ثابتة حتى قبل تحقق الاستطاعة وتدل على وجوب الحج سواء كان مستطيع خارجا ام لا.

هذا ولكن الصحيح ان يقال : ان لوجوب الحج مرحلتين : مرحلة الوجوب الانشائي ومرحلة الوجوب الفعلي ، والوجوب الانشائي - الذي هو عبارة عن انشاء الوجوب وتشريعه في حق كل من فرض استطاعته ، ويعبر عنه بالجعل ايضا - ليس مشروطا بتحقق الاستطاعة خارجا بل بافتراض تحققها ، فالآية الكريمة تنشأ الوجوب في حق كل من يفرض استطاعته ، وحينما تقول « ولله على

ص: 259


1- وقد اشار قدس سره لهذه النقطة بقوله : « ونفس الفارق بين شروط الاتصاف ... ». ثم ان المثال الشرعي لذلك فعل الصلاة فان لوجوبه مصلحة وارادة وجعلا. والبلوغ والعقل والقدرة هي شروط لاصل الاتصاف فمن دون البلوغ مثلا لا مصلحة ولا ارادة ولا وجوب ، فهو شرط لاتصاف الصلاة بالمصلحة وشرط لارادتها وشرط لوجوبها بينما الوضوء مثلا - الذي هو شرط للترتب - هو شرط للترتب المصلحة لا لأصل وجودها وهو شرط للمراد لا للارادة كما وهو شرط للواجب دون الوجوب.
2- او المرض في مثال الدواء.

الناس ... الخ » كأنها تقول اذا فرض وجود المستطيع وجب عليه الحج. اجل اذا تحققت الاستطاعة خارجا وصار المكلّف مستطيعا بالفعل تحول الوجوب الى الفعلية (1).

اذن من هذا نعرف ان للوجوب مرحلتين : مرحلة الفعلية ومرحلة الانشاء ، والاستطاعة بوجودها الفرضي التقديري شرط لانشاء الوجوب وبوجودها الخارجي الفعلي شرط للوجوب الفعلي ، فالمولى يقول من فرض كونه مستطيعا فانا قد انشأت في حقه وجوب الحج ، واذا تحقق المستطيع في الخارج صار الوجوب في حقه فعليا.

وقد تسأل : ان اشتراط الوجوب الانشائي بفرض الاستطاعة والوجوب الفعلي بالاستطاعة الفعلية وان كان امرا وجيها ولكن ما هي النكتة التي لاجلها صارت الاستطاعة الفرضية شرطا للوجوب الانشائي ولم تصر الاستطاعة الفعلية هي الشرط له؟ والجواب : ان النكتة هي ان انشاء الوجوب امر نفساني ويحصل في النفس ومن الواضح ان الصفة النفسانية لا معنى لاناطتها بالوجود الخارجي للشرط بل لا بد من اناطتها بالوجود النفسي وهو افتراض الاستطاعة ، وهذا بخلافه في الوجوب الفعلي فانه امر خارجي ولا بدّ من اناطته بالوجود الخارجي للاستطاعة.

وحصيلة هذه النقطة ان للحج مثلا نحوين من الشروط : شروط الاتصاف وشروط الترتب ، فالاستطاعة شرط للاتصاف بالوجوب بينما الاحرام مثلا شرط للترتب ، والاستطاعة - التي هي شرط الاتصاف - هي شرط للوجوب الانشائي بوجودها الفرضي وهي شرط للوجوب الفعلي بوجودها الفعلي. واما

ص: 260


1- ويعبر عن الوجوب الفعلي بالمجعول.

الاحرام الذي هو شرط الترتب فهو ليس شرطا لا للوجوب الانشائي ولا للوجوب الفعلي وانما هو شرط للواجب اي الحج (1).

7 - وفي هذه النقطة ندفع الشبهة التي قد يستند اليها في اثبات استحالة الواجب المشروط ، وهي ان الوجوب المشروط لو كان ممكنا فيلزم ان لا يكون الوجوب ثابتا قبل تحقق شرطه ، فوجوب الحج مثلا يلزم ان لا يكون ثابتا قبل الاستطاعة لتأخر تحقق المشروط عن تحقق شرطه مع ان من الواضح ثبوت الوجوب للحج قبل تحقق الاستطاعة فان قوله تعالى : ( « ولله على الناس ... » ) يثبت الوجوب للحج سواء كان مستطيع خارجا ام لا ، ولازم ذلك عدم اشتراط وجوب الحج بالاستطاعة.

والجواب : ان لوجوب الحج مرحلتين : مرحلة الوجوب الانشائي ومرحلة الوجوب الفعلي ، والآية الكريمة ناظرة الى الوجوب الانشائي ، فانها تنشأ الوجوب للحج ، وقد تقدم في النقطة السادسة ان الوجوب الانشائي ليس مشروطا بالاستطاعة الخارجية حتى يقال كيف ثبت قبل تحققها - الاستطاعة الخارجية - وانما هو مشروط بالاستطاعة الفرضية وهي ثابتة عند تحقق الوجوب الانشائي ، فان المولى حينما ينشأ وجوب الحج يفترض المستطيع ويقول لو فرض وجود مستطيع وجب عليه الحج ، هذا في الوجوب الانشائي الذي تكفلته الآية الكريمة ، واما الوجوب الفعلي فهو لا يتحقق الا بعد تحقق الاستطاعة خارجا. اذن بتحقق الاستطاعة خارجا يصير الوجوب فعليا وقبل ذلك لا وجوب فعلي حتى يرد الاشكال وانما المتحقق هو الوجوب الانشائي وهو مشروط بالاستطاعة

ص: 261


1- وقد اشار قدس سره لهذه النقطة بقوله : « واذا لاحظنا المرحلة الثالثة بدقة ... الخ ». ثم ان اول من وجدناه يقسم الشروط الى القسمين المذكورين شروط الاتصاف وشروط الترتب هو الشيخ العراقي في تقرير درسه بدايع الافكار ص 335 .

الفرضية المتحققة حين تحققه (1).

8 - وقد تسأل عن ثمرة هذا البحث وانه ماذا يترتب على الوجوب المشروط لو كان ممكنا؟ والجواب ان لهذا المبحث ارتباطا وثيقا بحل مشكلة المقدمات المفوتة التي حاصلها ان من المسلّم وجوب الاغتسال على الجنب في شهر رمضان قبل طلوع الفجر والحال ان وجوب الصوم يبتدأ بعد طلوع الفجر ، ان لازم هذا تحقق وجوب المقدمة قبل تحقق وجوب ذيها وهو امر غير معقول (2) وقد قدمت عدة حلول للمشكلة المذكورة احدها ما ذكره الشيخ الانصاري - مبنيا على رأيه من استحالة الوجوب المشروط - من ان وجوب الصوم لا يكون مشروطا بطلوع الفجر بل هو ثابت قبل ذلك ايضا ، ومع ثبوته قبل الطلوع يكون ثبوت الوجوب للغسل قبل الطلوع على وفق القاعدة وليس مخالفا لها كما يأتي ايضاح ذلك ص 349 من الحلقة (3).

قوله ص 330 س 1 وكيفية استيفائها : عطف تفسير على قوله « ترتب تلك المصلحة ».

قوله ص 330 س 6 وشرب الدواء سواء كان مطلوبا تشريعيا ... الخ : شرب الدواء اذا اراده نفس المريض سمي بالمراد التكويني لان الارادة التكوينية عبارة عن تعلق ارادة المريد بنفس فعله لا بفعل غيره ، اما لو اراده الطبيب سمي بالمراد التشريعي لان الارادة التشريعية تعني تعلق ارادة المريد بفعل غيره لا بفعل نفسه ، وباتضاح هذا نقول : المقصود ان مصلحة استعمال الدواء مشروطة

ص: 262


1- وقد اشار قدس سره لهذه النقطة بقوله : « واما ما يقال من ان الوجوب المشروط ... الخ ».
2- ويسمي الأصوليون مثل الغسل بالمقدمة المفوتة حيث ان المكلّف لو لم يأت به قبل زمان وجوب ذي المقدمة لفاته الصوم. ويأتي التعرض لمشكلة المقدمات المفوتة ص 347 من الحلقة تحت عنوان « المسؤولية عن المقدمات قبل الوقت ».
3- وقد تعرض 1 لهذه النقطة بقوله : « واما ثمرة البحث عن امكان ... الخ ».

بالمرض في اصل ثبوتها وببعدية الطعام في ترتبها من دون فرق بين كون استعمال الدواء قد اراده الطبيب او اراده نفس المريض.

قوله ص 330 س 9 في المرحلة الثانية : لو كان قدس سره يعبر هكذا : « وشروط الاتصاف تكون شروطا في المرحلة الثانية اي لنفس الارادة » لكان اوضح.

قوله ص 330 س 13 فالانسان لا يريد ... الخ : عدم وضع هذا رأس السطر اولى فانه متصل بسابقه. ثم ان هذا مثال للارادة التكوينية ، واما ما يذكره بقوله « ولا يريد من مأموره ... الخ » فهو مثال للارادة التشريعية ، وقوله « كذلك » : اي مريضا.

قوله ص 330 س 15 او لمن يوجهه : وهو الطبيب ، فانه الذي يوجّه المريض.

قوله ص 331 س 4 ومتعلقة ... الخ : اي هي فعلية بيد انها متعلقة بالمقيد اي الحصة الخاصة وهي الدواء المقيد بما بعد الطعام.

قوله ص 331 س 5 نحو ايجاد القيد نفسه : اي نحو ايجاد الطعام او بتعبير ادق بعدية الطعام.

قوله ص 331 س 8 بل بوجودها التقديري اللحاظي : فان المريض يريد استعمال الدواء عند اعتقاد كونه مريضا وتخليه لذلك سواء كان مريضا حقا ام لا فلو لم يقدّر المرض - اي لم يلحظه ولم يعتقده - لما اراد استعمال الدواء حتى لو كان مريضا واقعا.

قوله ص 331 س 8 لان الارادة معلولة : اي والنكتة فيما ذكرناه واضحة ، فان الانسان انما يريد الدواء عند اعتقاده بمرضه وعند اعتقاده بوجود المصلحة في

ص: 263

استعماله للدواء وليست ارادته للدواء مرتبطة بوجود المرض والمصلحة واقعا.

قوله ص 331 س 9 ولحاظ ماله دخل ... الخ : عطف تفسير على قوله « ادراك المصلحة ».

قوله ص 331 س 16 او فيمن يتولى توجيهه : هذا في الارادة التشريعية ، وما سبقه ناظر الى الارادة التكوينية.

قوله ص 332 س 2 فقد علمنا سابقا : وذلك في مواطن متعددة منها في الحلقة الاولى ص 156. والمقصود : انا عرفنا ان جعل الحكم عبارة عن نفس الحكم الانشائي اي انشاء وجوب الحج مثلا على المستطيع.

قوله ص 332 س 4 مشروطا : الصواب : شروطا.

قوله ص 332 س 8 باعتباره امرا نفسيا منوطا ومرتبطا : الصواب : منوط ومرتبط. والمقصود الاشارة الى نكتة كون الوجوب الانشائي للحج مشروطا بافتراض الاستطاعة وتقديرها لا بوجودها الخارجي ، وحاصل النكتة : ان الوجوب الانشائي عبارة عن الانشاء ، والانشاء امر نفسي ، والامر النفسي لا يمكن ان يكون مشروطا ومرتبطا بالامر الخارجي بل بالامر النفسي اي بافتراض الاستطاعة وتقديرها وتصورها.

قوله ص 332 س 9 كالارادة تماما : اي فكما ان الارادة منوطة بالشرط بوجوده التصويري لا بوجوده الخارجي - كما اشير الى ذلك في الصفحة السابقة من الحلقة س 6 - كذلك في الجعل.

قوله ص 332 س 10 ولهذا كثيرا ما يتحقق الجعل ... الخ : فالحكم الانشائي بوجوب الحج على المستطيع مثلا ثابت قبل ان تتحقق الاستطاعة خارجا.

قوله ص 332 س 11 واما فعلية المجعول : هذا عدل لقوله في س 7 « ان

ص: 264

الجعل باعتباره ... الخ » ، اي هذا كله في الجعل واما المجعول وهو الحكم الفعلي بوجوب الحج ... الخ.

قوله ص 332 س 14 واما شروط الترتب : اي هذا كله في الاستطاعة التي هي شرط للاتصاف واتضح انها بوجودها الخارجي شرط للوجوب الفعلي وبوجودها اللحاظي شرط للوجوب الانشائي ، واما شروط الترتب كالاحرام فهي ليست شرطا لاصل الوجوب بل شرط للواجب اي الحج ، فان الحج هو المراد للمولى وهو الواجب ايضا ، وبما ان شرط الترتب كالاحرام مثلا هو شرط للمراد كما مر في النقطة الثالثة فيلزم ان يكون شرطا للواجب ايضا ، فان الواجب والمراد شيء واحد وهو الحج فاذا كان الاحرام شرطا للمراد فهو شرط للواجب ايضا ، والى هذا المعنى اشار قدس سره بقوله « تبعا لاخذها قيودا في المراد ».

قوله ص 332 س 16 وبهذا نعرف : اي بهذا نعرف ان الوجوب الفعلي للحج - المعبر عنه بالمجعول - لا يكون ثابتا قبل تحقق الاستطاعة - التي هي شرط الاتصاف - خارجا لان وجوب الحج ما دام مشروطا في عالم الانشاء والجعل بالاستطاعة فيلزم ان لا يصير فعليا الا بعد تحققها خارجا.

قوله ص 333 س 3 بين الجعل والمجعول : اي بين الوجوب الانشائي للحج والوجوب الفعلي له.

قوله ص 333 س 4 اناطة الجعل بالوجود التقديري : اي ومن الواضح ان لحاظ المولى وتقديره للشرط ثابت عند تحقق الحكم الانشائي ، فان المولى حينما يقول « ولله على الناس ... الخ » يفترض الاستطاعة ويقدّرها وكأنه يقول : كل من فرض وقدّر انه مستطيع فالحج واجب عليه ، اذن لم يلزم ثبوت الحكم قبل شرطه.

ص: 265

قوله ص 333 س 5 واناطة المجعول بالوجود الخارجي له : اي واناطة الحكم الفعلي بالوجود الخارجي للشرط ، وواضح ان الوجوب الفعلي للحج لا يثبت قبل تحقق الاستطاعة خارجا وانما الثابت هو الوجوب الانشائي وهو ليس مشروطا بالاستطاعة الخارجية ، ومعه فلا يلزم ثبوت الوجوب قبل تحقق شرطه.

قوله ص 333 س 7 في بحث مقبل : اي ص 349 من الحلقة.

ص: 266

المسؤولية اتجاه المقدمات

اشارة

ص: 267

ص: 268

المسؤولية اتجاه القيود والمقدمات :

قوله ص 334 س 1 تنقسم المقدمات ... الخ : حاصل هذا المبحث ان الأصوليين قسموا المقدمة الى ثلاثة اقسام :

1 - مقدمة الوجوب. ويقصد منها المقدمة التي يتوقف عليها اصل الوجوب بحيث لا يكون متحققا قبل تحققها كالاستطاعة لوجوب الحج ، فانه قبل تحققها لا وجوب اصلا للحج.

وانما صار وجوب الحج مشروطا بالاستطاعة باعتبار انه سبحانه حينما جعل الوجوب للحج وانشأه لم يجعله على مطلق المكلّف بل على المكلف المستطيع فبسبب اخذ الاستطاعة قيدا صار الوجوب مشروطا بها والا لم يكن مشروطا بل مطلقا.

2 - المقدمة الشرعية للواجب (1) ، وهي المقدمة التي لا يتوقف عليها اصل الوجوب ، وانما يتوقف عليها امتثاله توقفا شرعيا كالوضوء بالنسبة الى الصلاة ، فان اصل وجوب الصلاة ليس مشروطا بالوضوء - والا يلزم عدم وجوبها على من لم يتوضأ - وانما هو شرط لحصول الواجب ، وبكلمة اخرى هو شرط لامتثال الوجوب ، وحيث ان توقف امتثال الامر بالصلاة على الوضوء توقف شرعي وليس توقفا عقليا سمي هذا القسم من المقدمة بالمقدمة الشرعية للواجب.

ص: 269


1- ينبغي الالتفات الى ان مقدمة الواجب والمقدمة الوجودية ومقدمة الصحة الفاظ مترادفة فلا غرابة اذا عبّرنا تارة بمقدمة الواجب واخرى بالمقدمة الوجودية.

3 - المقدمة العقلية للواجب ، وهي المقدمة التي لا يتوقف عليها اصل الوجوب بل امتثاله توقفا عقليا كالسفر بالنسبة الى الحج ، فان وجوب الحج لا يتوقف على السفر والا يلزم عدم ثبوت الوجوب على من لم يسافر وانما هو مقدمة لامتثاله ، وهذه المقدمة مقدمة عقلية فان العقل هو الذي يحكم بلزوم السفر لامتثال الامر بالحج بخلافه في الوضوء فانه لا يحكم بمقدميته للصلاة ، ومن هنا يسمى مثل السفر بالمقدمة العقلية باعتبار ان العقل هو الذي يحكم بمقدميته. ومن امثلة المقدمة العقلية ارتقاء السلّم فانه لو وجب النوم على السطح فالعقل يحكم بمقدمية ارتقاء السلّم ووجوبه ليتمكن من امتثاله.

وبعد اتضاح هذه الاقسام الثلاثة للمقدمة نشير الى فارق بين القسم الثاني والثالث ، ففي القسم الثاني لم يأمر المولى بذات الصلاة بل بالصلاة المقيدة بالوضوء ، فحصول الوضوء يكون مقدمة للتقيّد المطلوب ، اذ المفروض ان المطلوب ليس هو ذات الصلاة بل الصلاة مع التقيد بالوضوء ، فتحصيل الوضوء انما يلزم من باب انه مقدمة لحصول التقيد بالوضوء ، وهذا بخلافه في القسم الثالث فان المولى يأمر بذات الحج لا الحج المقيد بالسفر ، فالاتيان بالسفر اذن لا يكون مقدمة للتقيّد لفرض عدم طلب تقيد الحج بالسفر (1).

ص: 270


1- ورد في عبارة الكتاب ان المقدمة المذكورة - كالوضوء مثلا - مقدمة عقلية للتقيّد ، وقد تسأل : ان كون الوضوء مقدمة للتقيد امر مسلم ولكن كيف هو مقدمة عقلية لا شرعية؟ ولتوضيح الجواب نذكر رأيا للآخوند يقول فيه : ان تقسيم المقدمة الى شرعية وعقلية ليس تاما بل المقدمة دائما عقلية ، فالوضوء مثلا مقدمة عقلية بتقريب : ان الوضوء انما صار مقدمة للصلاة باعتبار ان المولى لم يأمر بذات الصلاة بل بالصلاة+ التقيد بالوضوء ، ومن الواضح ان التقيد بالوضوء بعد ما كان مطلوبا فتكون مقدمية الوضوء مقدمة عقلية ، اذ مقدمية القيد لتحقق التقيد مما يحكم بها العقل ، فالتقيد بالوضوء بعد ما كان مطلوبا يحكم العقل بلزوم الاتيان بالقيد وهو الوضوء لكي يحصل التقيد.وان شئت قلت : ان المولى بعد ما امر بالمقيد - المراد بالمقيد هو ذات المقيد كالصلاة مثلا+ التقيد - فالعقل يحكم بلزوم الاتيان بالقيد لان المقيد عبارة عن ذات المقيد+ التقيد ، وحيث ان التقيد لا يحصل الا بواسطة ايجاد القيد فاللازم عقلا ايجاد القيد مقدمة للتقيد. ثم لا يخفى ان السيد الشهيد قدس سره بهذه العبارة لا يريد ان يدعي ان الوضوء مقدمة عقلية كما يقول الآخوند وانما يقصد ان مقدمية الوضوء للتقيد مقدمية عقلية ولكن هذا المقدار لا يخرج الوضوء عن كونه مقدمة شرعية للصلاة ، فانه وان كان مقدمة عقلية لحصول التقيد الا ان اعتبار التقيد بالوضوء بما انه لم يثبت الا من طريق الشارع فبهذا الاعتبار يمكن عدّه مقدمة شرعية.

وبعد هذا نطرح التساؤلين التاليين :

1 - هل يجب على المكلّف ايجاد جميع الاقسام الثلاثة للمقدمة او خصوص القسمين الأخيرين؟

2 - متى يجعل المولى المقدمة وجوبية ومتى يجعلها وجودية؟ وبتعبير آخر ما هو الضابط الذي يسير عليه المولى في جعل بعض المقدمات شرطا لاصل الوجوب والبعض الآخر شرطا للواجب؟

اما بالنسبة للتساؤل الأول فجوابه : ان المقدمة اذا كانت وجوبية فلا يجب على المكلف ايجادها ، فالاستطاعة مثلا لا يجب ايجادها ، اذ قبل تحققها لا وجوب للحج ليحرك نحو تحصيلها وبعد تحققها فالامر بالحج وان كان موجودا لكنه لا يحرك نحو تحصيلها ، لانه بعد فرض حصولها يكون تحريكه نحوها من قبيل التحريك لتحصيل الحاصل.

واما اذا كانت المقدمة وجودية - كالوضوء بالنسبة للصلاة - فيجب تحصيلها ويكون الامر بالصلاة مثلا محركا نحو تحصيل الوضوء ، لان كل امر يحرك نحو ايجاد متعلقه وحيث ان المقدمة الوجودية قيد في المتعلق - فان الوجوب متعلق بالصلاة المقيدة بالوضوء - فامر « صل » مثلا الذي يحرك نحو متعلقه يكون محركا ايضا نحو ايجاد الوضوء لفرض ان التقييد بالوضوء جزء من المتعلق. اجل ان

ص: 271

الامر بالصلاة لا يحرك نحو الوضوء الاّ بعد دخول وقت الصلاة ، اذ قبل دخوله لا يكون فعليا ليحرك نحو الصلاة وبالتالي ليحرك نحو التقيد بالوضوء وانما يصير فعليا بعد دخول الوقت وحينذاك يحرك نحو المتعلق وبالتالي يحرك نحو الوضوء.

وبهذا يتضح ان المكلّف لا يمكنه ان ينوي الوجوب بوضوئه اذا اتى به قبل الوقت ، اذ قبل الوقت لا وجوب للصلاة ليجب الوضوء

وقد تسأل عن المقدمة التي هي وجوبية ووجودية معا - كالزوال بالنسبة لصلاة الظهر فانه من دون الزوال لا تجب صلاة الظهر بل ولا يمكن ايجادها ولو على سبيل الاستحباب ، فالزوال شرط لتحقق الوجوب وشرط لامكان تحقق الواجب - هل يجب على المكلف تحصيلها او لا؟ كلا لا يجب تحصيلها ، اذ قبل تحقق الزوال لا وجوب لصلاة الظهر لكي يحرك نحو تصيل المقدمة ، اجل ان القيد وهو الزوال اذا تحقق وصار الوجوب فعليا حرك هذا الوجوب المكلف نحو التقيد اي نحو ايجاد الصلاة بعد الزوال وعدم تأخيرها عن وقتها المقرر.

واما بالنسبة للتساؤل الثاني فجوابه : ان المقدمة تارة تكون شرطا لاصل الاتصاف بالمصلحة بحيث قبل تحققها لا تكون المصلحة متحققة اصلا - كما في الاستطاعة بالنسبة الى الحج فانه يمكن ان يقال بعدم المصلحة اصلا في الاتيان بحج الاسلام قبل تحقق الاستطاعة - واخرى تكون شرطا لترتب المصلحة لا لأصل وجودها ، وهذا كما في الاحرام والوضوء ، فاذا كانت :

أ - شرطا لاصل المصلحة فاللازم جعلها شرطا لاصل الوجوب اي جعلها مقدمة وجوبية ، لان الاستطاعة ما دامت غير متحققة فلا مصلحة في الحج لكي يهتم المولى بتحصيل الاستطاعة ويطلب ايجادها ، فاللازم في هذه الحالة جعل الاستطاعة مقدمة وجوبية للحج ، اذ لو جعلت مقدمة للواجب - اي قيدا في

ص: 272

الواجب - للزم ايجادها لما مر في جواب السؤال الاول من وجوب ايجاد مقدمة الواجب.

ب - واما اذا كانت المقدمة شرطا لترتب المصلحة فلها حالتان ، فتارة تكون اختيارية للمكلف - كما هو الحال في الوضوء - واخرى غير اختيارية كما في دخول الوقت بالنسبة لصلاة الظهر (1) ، فان دخول الوقت ليس تحت اختيار المكلّف. فان كانت :

أ - اختيارية فاللازم اخذها قيدا في الواجب لان المصلحة في الصلاة مثلا ثابتة قبل تحقق الوضوء ، ومع ثبوتها قبل الوضوء فالمولى يهتم بتحصيل الوضوء ويلزم اخذه قيدا في الواجب اذ قيود الواجب يلزم على المكلّف تحصيلها.

ب - وان كانت غير اختيارية فيلزم اخذها قيدا في الواجب والوجوب معا. اما وجه اخذها قيدا في الواجب فباعتبار انها شرط للترتب. واما اخذها قيدا في الوجوب فلأنه لو اقتصر على اخذها قيدا في الواجب لزم على المكلّف تحصيلها والمفروض عدم امكان تحصيلها لكونها غير اختيارية.

اذن من خلال هذا اتضح ان المقدمة تكون وجوبية في حالتين :

1 - اذا كانت شرطا لاصل الاتصاف بالمصلحة.

2 - اذا كانت شرطا لترتب المصلحة وكانت غير اختيارية.

قوله ص 334 س 4 كذلك : اي مما يتوقف عليها فعلية الوجوب.

قوله ص 334 س 4 واخذها مقدرة الوجود ... الخ : عطف تفسير على التقييد الشرعي.

ص: 273


1- لئن كان في بعض الامثلة التي ذكرناها تأمل فالامر سهل بعد ما كان المقصود تقريب المطلب.

قوله ص 334 س 5 على نهج القضية الحقيقية : هذا راجع الى جعل الحكم ، فان الحكم بوجوب الحج مثلا مجعول على نهج القضية الحقيقية اي هو غير ثابت لخصوص الافراد الموجودة في الخارج بالفعل بل لكل من فرض انه مستطيع سواء كان موجودا بالفعل ام سيوجد في المستقبل.

قوله ص 335 س 7 والتقيد : التقيد عبارة عن الارتباط والاضافة بين شيئين ، فحينما يقال « غلام زيد » توجد ثلاثة اشياء : ذات الغلام ، وزيد ، والاضافة بينهما المعبر عنها بالتقيد. وفي مقامنا حينما يقال « تجب الصلاة المقيدة بالوضوء » فالمقصود ان الواجب هو : ذات الصلاة+ التقيد بالوضوء ، واما القيد فهو خارج عن المقيد ، اذ لو كان داخلا لكان جزء ولم يكن قيدا ، فان الفرق بين القيد والجزء هو ان الجزء داخل في المركب بينما القيد خارج عنه (1) ، فالركوع مثلا جزء من الصلاة بينما استقبال القبلة شرط لها ، وما ذاك الا لان الركوع داخل في حقيقة الصلاة ومقوم لها بينما استقبال القبلة خارج عنها وان كان يلزم ايقاعها مقيدة به.

قوله ص 335 س 15 ولا مدينا : بضم الميم وهو من الادانة بمعنى العقاب. وقوله « بها » متعلق بقوله « مدينا » لا « بالمكلف ». وضمير « بها » يرجع الى المقدمات.

قوله ص 336 س 2 تبعا لتحريكه نحو متعلقه : اي ان الوجوب بما انه يحرك نحو متعلقه والمفروض ان المقدمة الوجودية قيد في المتعلق فيلزم ان يكون الوجوب محركا نحو المقدمة الوجودية ايضا.

ص: 274


1- ولذا قال السبزواري في منظومته في مقام تحديد المقيد : « تقيد جزء وقيد خارجي » اي ان القيد خارج عن حقيقة المقيد وان كان ذات التقيد داخلا فيه وجزء منه.

قوله ص 336 س 10 وايقاع الفعل مقيدا به : عطف تفسير على التقيد ، اي ان المقصود من تحريك الوجوب نحو التقيد هو انه يحرك نحو ايجاد الصلاة بعد الزوال مثلا في مقابل عدم ايجادها ابدا وايجادها لا بعد الزوال.

ص: 275

ص: 276

مبحث الشرط المتأخر

اشارة

ص: 277

ص: 278

القيود المتاخرة زمانا عن المقيد :

اشارة

قوله ص 338 س 1 القيد سواء كان قيدا ... الخ :

يتعرض هذا البحث الى مشكلة واجهها الاصوليون تسمى بمشكلة الشرط المتأخر. وحاصلها : ان العلة كما نعرف لا يجوز تأخرها عن المعلول بل لا بدّ وان تكون مقارنة له ، وعلى ضوء هذا يقع الاشكال في بعض الموارد الشرعية التي تكون العلة فيها متأخرة عن المعلول كما في اجازة بيع الفضولي بناء على الكشف ، فان الملكية بناء على الكشف تحصل من حين العقد والحال ان العلة الموجبة لحصولها وهي الاجازة متأخرة عن العقد.

ومثال ثان لذلك غسل المستحاضة ، فان الاستحاضة اذا كانت كثيرة فيجب على المرأة ثلاثة اغسال : غسل في الصباح ، وغسل في الظهر ، وغسل في الليل ، وقد وقع النزاع بين الفقهاء في ان الغسل الليلي هل هو شرط لصحة صوم اليوم السابق او هو شرط لصحة صوم اليوم الآتي ، وبناء على الرأي الاول القائل بانه شرط لصحة صوم اليوم السابق يكون الغسل شرطا متأخرا للصوم السابق (1). والمشكلة في هذين المثالين ونظائرهما تقول : ان الشرط بمثابة العلة او جزء العلة ، ومن الواضح ان العلة واجزاءها لا يجوز تأخرها عن المعلول.

وبعد اتضاح هذا نمنهج مطالب الكتاب ضمن النقاط الاربع التالية :

1 - ان الشرط في القضايا الشرعية تارة يكون شرطا لاصل الحكم

ص: 279


1- واما بناء على كونه شرطا لصوم اليوم الآتي فالشرط متقدم لا متأخر.

واخرى شرطا لمتعلق الحكم. ونذكر لكل واحد مثالين.

أ - رؤية هلال رمضان بالنسبة الى وجوب الصوم ، فان وجوب الصوم مشروط برؤية الهلال ، ومن دون رؤيته لا يجب الصوم.

ب - الزوال بالنسبة الى وجوب صلاة الظهر فان صلاة الظهر لا تجب الا اذا تحقق زوال الشمس ، فالزوال شرط لاصل الوجوب.

وهذان مثالان للشرط الراجع لأصل الحكم. اما الراجع لمتعلق الحكم فهو :

ج - الوضوء بالنسبة الى الصلاة ، فانه ليس شرطا لوجوبها والا يلزم عدم وجوب الصلاة عند عدم تحصيل الوضوء ، وانما هو شرط لنفس الصلاة التي هي متعلق الحكم والتي تسمى بالواجب ايضا ، فالوضوء اذن شرط للواجب لا للوجوب (1).

د - استقبال القبلة بالنسبة للصلاة ، فانه ليس شرطا لوجوبها وانما هو شرط لنفس الصلاة التي هي متعلق الوجوب.

2 - ان الشرط سواء كان راجعا للحكم ام لمتعلقه تارة يكون شرطا متقدما واخرى مقارنا. ولتوضيح ذلك نذكر اربعة امثلة اثنان منهما للشرط المتقدم الراجع الى الحكم والى المتعلق واثنان آخران للشرط المقارن الراجع الى الحكم

ص: 280


1- يوجد اختلاف بين الفقهاء في شرط الصلاة وانه نفس الوضوء او الطهارة الحاصلة منه والمسببة عنه ، فهناك من يقول ان شرط الصلاة هو نفس الوضوء اي نفس الغسلات والمسحات وهناك من يقول ان الطهارة الحاصلة من الوضوء والمسببة عنه هي الشرط. ونحن حينما ذكرنا الوضوء كمثال للشرط المتقدم كان ذلك مبنيا على ان الشرط هو نفس الوضوء ، فان نفس الوضوء امر متقدم على الصلاة ، اما اذا كان الشرط هو الطهارة الحاصلة بالوضوء فالشرط شرط مقارن لان الطهارة الحاصلة من الوضوء امر مقارن للصلاة وليست متقدمة عليها.

والى المتعلق.

أ - اما مثال الشرط المتقدم الراجع لأصل الحكم فكرؤية هلال رمضان بالنسبة الى وجوب الصوم ، فان رؤية الهلال شرط لاصل الوجوب وهي شرط متقدم ، اذ وجوب الصوم يبتدأ من حين طلوع الفجر ، وحيث ان رؤية الهلال متقدمة على طلوع الفجر فهي شرط متقدم على طلوع الفجر الذي هو زمان ابتداء وجوب الصوم.

ب - واما مثال الشرط المقارن الراجع لمتعلق الحكم فهو كالزوال بالنسبة لوجوب الصلاة ، فانه شرط لاصل الوجوب وهو مقارن لزمان حدوث الوجوب ، فان الوجوب يحدث مقارنا للزوال لا بعده.

ج - واما مثال الشرط المتقدم لمتعلق الوجوب فهو كالوضوء بالنسبة للصلاة ، فان الوضوء شرط للصلاة التي هي متعلق الوجوب وليس شرطا لوجوبها ، وهو شرط متقدم عليها بناء على ان الشرط هو الوضوء بمعنى الغسلات والمسحات لا الطهارة المسببة عنه والا كان شرطا مقارنا.

د - واما مثال الشرط المقارن لمتعلق الوجوب فهو كالاستقبال بالنسبة للصلاة فانه شرط لنفس الصلاة لا لوجوبها ، وهو مقارن لها.

3 - ان الشرط كما يكون متقدما او مقارنا للمشروط كذلك يكون احيانا متأخرا عنه ، ولتوضيح ذلك نذكر مثالين احدهما للشرط المتأخر الراجع للحكم وثانيهما للشرط المتأخر الراجع للمتعلق.

أ - اما الراجع لاصل الحكم فكأجازة بيع الفضولي بناء على الكشف ، فان الاجازة شرط للملكية الحاصلة من حين العقد ، فالملكية امر متقدم حاصل من حين العقد وشرطها وهو الاجازة امر متأخر ، فالاجازة اذن شرط لنفس الحكم -

ص: 281

اي الملكية (1) - وهي متأخرة من حيث الزمان عن زمان ثبوت الحكم.

ب - واما الراجع لمتعلق الحكم فكالغسل الليلي بالنسبة الى صوم اليوم السابق للمستحاضة ، فان الغسل شرط للصوم الذي هو متعلق الحكم وهو شرط متأخر من حيث الزمان عن صوم اليوم السابق.

4 - وبعد ان عرفنا ان الشرط قد يكون متأخرا فسوف تتضح المشكلة التي اشرنا لها في اول البحث ، وهي ان الشرط من احد اجزاء العلة ، والعلة كما لا يمكن ان تتأخر بكاملها عن المعلول فكذا لا يمكن تأخر بعض اجزائها ، فان العلة لو تأخرت فلازمه تأثير المعدوم في الموجود فان المعلول لا يوجد الا بالعلة وحيث ان العلة غير موجودة عند تحقق المعلول كما هو المفروض فيلزم من ايجادها للمعلول مع فرض عدمها تأثير العلة التي هي معدومة في المعلول الذي هو امر موجود ، وهذا هو ما قلنا من ان الشرط لو كان متأخرا عن المشروط يلزم تأثير المعدوم في الموجود.

وبهذا تنتهي النقاط الاربع التي ذكرنا في اولاها ان الشرط قد يكون شرطا للحكم وقد يكون شرطا للمتعلق ، وفي الثانية ذكرنا ان الشرط قد يكون متقدما وقد يكون مقارنا ، وفي الثالثة ذكرنا ان الشرط قد يكون متأخرا (2) ، وفي الرابعة ذكرنا اشكال الشرط المتأخر (3).

ص: 282


1- والملكية وان لم تكن حكما تكليفيا لكنها حكم وضعي ، ونحن لم نخصص الكلام بالحكم التكليفي بل هو شامل للاعم منه ومن الوضعي ، ثم انه عبر في الكتاب بكلمة « النفوذ » ، والمراد منها هو الصحة ، فان نفوذ العقد عبارة اخرى عن صحته ، ومن الواضح ان الصحة كنفس الملكية حكم وضعي ، ولا فرق بين ان يقال الاجازة شرط للملكية او الاجازة شرط لصحة العقد فانه على كلا التقديرين يكون الشرط شرطا للحكم يعني الوضعي.
2- وانما افردنا الشرط المتأخر في نقطة مستقلة باعتبار ان المشكلة تكمن فيه.
3- والآخوند وسّع مشكلة الشرط المتأخر وعمّمها للشرط المتقدم فقال ان الشرط المتقدم يرد فيه الاشكال ايضا فان العلّة كما لا يمكن ان تتأخر كذلك لا يمكن ان تتقدم بل هي مقارنة زمانا للمعلول.

وبعد التعرف على مشكلة الشرط المتأخر نذكر حلين من الحلول المقترحة لها (1) : الحلّ الأول :

عرفنا ان اشكال الشرط المتأخر له مجالان :

أ - الشرط المتأخر للواجب كالغسل الليلي بالنسبة الى صوم المستحاضة المتقدم ، فان شرطه متأخر لا لاصل الوجوب بل لمتعلقه وهو الصوم الذي يعبر عنه بالواجب.

ب - الشرط المتأخر للحكم كاجازة عقد الفضولي بناء على الكشف ، فان الاجازة المتأخرة شرط لحصول الملكية التي هي امر متقدم وثابت من حين العقد بناء على الكشف. حلّ المشكلة في المجال الأول :

اما بالنسبة الى المجال الاول - اي شرائط الواجب - فيمكن دفع الاشكال بانا حينما نقول الغسل الليلي شرط للصوم فليس المقصود ان الغسل الذي يؤتى به

ص: 283


1- قد يقال ان المشكلة باطلة من جذورها فان العلة انما يستحيل تأخرها عن المعلول في خصوص الامور التكوينية فالنار لا يمكن ان تتأخر عن الاحراق ، واما القضايا الشرعية فلا بأس بتأخر العلة فيها عن المعلول لانها بيد الشارع وراجعه له فيمكنه تأخير العلة عن معلولها. وهذا الجواب وان نسب الى صاحب الجواهر ولكن يرد عليه ان العلّة اذا كان يستحيل تأخرها عن المعلول فلا فرق في الاستحالة بين القضايا الخارجية والقضايا الشرعية ، وهذا نظير استحالة اجتماع النقيضين فهل ترى من الصحيح ان يقال ان النقيضين يستحيل اجتماعهما في القضايا الخارجية التكوينية فقط؟ كلا ان الاستحالة لا تختص بمجال دون آخر.

في الليل يكون مؤثرا في الصوم المتقدم حتى يقال بان الامر المتأخر كيف يؤثر في الأمر المتقدم ، وانما المقصود ان المطلوب ليس هو مطلق الصوم بل الحصة الخاصة وهي الصوم الذي يكون بعده غسل في الليل ، فان المولى اذا طلب شيئا فتارة يكون مطلوبه الشيء على اطلاقه واخرى حصة خاصة منه ، فاذا طلب منك زيارته فتارة يكون مطلوبه مطلق الزيارة واخرى حصة خاصة منها ، وعلى تقدير كون المطلوب هو الحصة فتارة تكون تلك الحصة هي الزيارة المقرونة بامر متقدم - كالزيارة التي يكون قبلها اخبار حتى يتمكن من احضار الفاكهة او الانتظار في البيت - واخرى تكون هي الزيارة المقرونة بامر مقارن كالزيارة التي يكون معها تقديم الهدية ، وثالثة تكون هي الزيارة المقرونة بامر متأخر كالزيارة التي لا يكون بعدها اظهار المن والتفضل.

اذن ليس المقصود من كون الغسل الليلي شرطا للصوم تأثيره في الصوم المتقدم ليقال ان المتأخر كيف يؤثر في المتقدم وانما المقصود تعلّق الطلب بالحصة الخاصة وهي الصوم الذي بعده غسل ، وتعلق الطلب بالحصة الخاصة امر معقول ، والتحصيص كما يعقل حصوله بشيء متقدم او مقارن كذلك يعقل حصوله بامر متأخر كما هو واضح.

وباختصار : ان روح هذا الجواب ترجع الى اخراج الغسل الليلي عن صفة التأثير والعلية الى صفة التحصيص (1). حل المشكلة في المجال الثاني :

واما بالنسبة الى المجال الثاني - اي شرائط نفس الحكم - فالجواب : ان شرط الحكم تارة يكون شرطا للحكم الانشائي الذي يعبّر عنه بشرط الجعل

ص: 284


1- هذا الجواب ذكره السيد الخوئي دام ظله.

واخرى يكون شرطا للحكم الفعلي الذي يعبّر عنه بشرط المجعول.

اما اذا كان الشرط المتأخر شرطا في مقام الجعل فيمكن دفع المشكلة فيه بسهولة حيث يقال ان الاجازة المتأخرة انما تكون شرطا في عالم الجعل بوجودها اللحاظي لا بوجودها الخارجي ، اي ان لحاظ الاجازة هو الشرط دون الاجازة الخارجية المتأخرة فانه مرّ سابقا ان المولى حينما يشرع الحكم يلاحظ الشرائط ويفرضها موجودة ثم يجعل الحكم قائلا لو فرض ان المالك اجاز فالملكية ثابتة من حين العقد ، فالشرط لجعل الملكية ليس هو نفس الاجازة المتأخرة بل فرض الاجازة ولحاظها ، ومن الواضح ان لحاظ الاجازة امر مقارن للجعل وليس متأخرا عنه وانما المتأخر هو الملحوظ لا نفس اللحاظ.

واما اذا كان الشرط المتأخر شرطا للمجعول اي للحكم الفعلي فنحتاج الى جواب جديد ولا يكفينا الجواب السابق ، فان الشرط للملكية الفعلية ليس هو لحاظ الاجازة بل نفس الاجازة الخارجية اذ الملكية الفعلية لا تحصل بمجرّد لحاظ الاجازة بل بنفس الاجازة ، ومعه يشكل بان الامر المتأخر كيف يمكنه التأثير في الامر المتقدم؟ ويمكن دفع ذلك بان الاجازة المتأخرة وان كانت مؤثرة في الأمر المتقدم اي في الملكية المتقدمة الا ان ذلك لا محذور فيه ، اذ الامر المتأخر انما لا يصح ان يؤثر في الأمر المتقدم فيما لو كان الامر المتقدم ذا وجود خارجي حقيقي ، اما اذا كان وجوده فرضيا واعتباريا فلا محذور في تأثير الأمر المتأخر فيه ، فان الامر الاعتباري سهل المؤونة ، ومن الواضح ان الملكية وبقية الاحكام ليست موجودات خارجية حقيقية ولذا لا ترى بالعين ولا تلمس باليد بل هي مجرد افتراض واعتبار يفترضه العقلاء ، ولا مانع من تأثير الأمر المتأخر في ايجاد امر اعتباري متقدم فالمولى عند حصول الاجازة المتأخرة يقول : انا الآن اعتبر

ص: 285

حصول الملكية من حين العقد ، وهو شيء معقول.

مناقشة الحل :

وهذا الحل وان كان متينا لكنه يدفع نصف المشكلة لا جميعها ، فان مشكلة الشرط المتأخر لها مجالان :

أ - ان الوجوب المتقدم كيف يؤثر فيه الأمر المتأخر؟ والمشكلة في هذا المجال تندفع بالجواب المتقدم فيقال بأن الوجوب الانشائي ليس شرطه نفس الأمر المتأخر بل لحاظ الأمر المتأخر ، واللحاظ امر مقارن ، واما الوجوب الفعلي فهو مجرّد اعتبار وافتراض.

ب - ان الأمر المتأخر كيف يؤثر في اتصاف الفعل بالمصلحة او في ترتب المصلحة فانه تقدم ص 336 من الحلقة ان الشرط يكون شرطا للواجب فيما اذا كان شرطا لترتب المصلحة ويكون شرطا لاصل الوجوب فيما اذا كان شرطا لأصل المصلحة ، ومن الواضح ان اتصاف الفعل باصل المصلحة او ترتب المصلحة امر تكويني خارجي وليس امرا اعتباريا افتراضيا حتى يقال بان الأمر المتأخر يمكن ان يؤثر في الامر الاعتباري ، فمثلا الغسل الذي هو شرط للصوم اذا حصل في الليل ترتبت المصلحة على الصوم السابق وحينئذ يقال كيف يؤثر الغسل المتأخر في ترتب المصلحة على الصوم المتقدم والحال ان ترتب المصلحة امر خارجي حقيقي وليس اعتباريا. وهكذا يأتي الاشكال نفسه في الغسل الليلي فيما لو فرضناه شرطا لاصل الوجوب (1) فان الغسل في الليل كيف يمكنه ان يؤثر في اتصاف الصوم السابق بالمصلحة والحال ان الاتصاف بالمصلحة امر تكويني

ص: 286


1- وهذا الافتراض غير مطابق للواقع. ثم ان المقصود من كون الغسل شرطا لاصل الوجوب ان المرأة اذا لم تغتسل في الليل فلا يكون الصوم واجبا في النهار السابق وانما يثبت عليها الوجوب فيما لو اغتسلت في الليل.

خارجي لا يمكن ان يؤثر فيه الأمر المتأخر.

وبكلمة جديدة : ان الحكم ذو مراحل اربع منها مرحلة الملاك ومنها مرحلة الاعتبار اي مرحلة جعل الوجوب ، ومشكلة الشرط المتأخر تأتي في كلتا هاتين المرحلتين ففي مرحلة الملاك يقال : ان الامر المتأخر كيف يؤثر في وجود اصل المصلحة او في ترتبها ، وفي مرحلة الاعتبار - اي الوجوب - يقال : كيف يؤثر الامر المتأخر في الوجوب المتقدم ، وهذا الجواب الاول يحل المشكلة في المرحلة الثانية دون الاولى ، ومن هنا نكون بحاجة الى تقديم جواب جديد يمكنه دفع المشكلة في كلتا المرحلتين.

الحل الثاني :

وهو ما ذكره جماعة منهم الآخوند. وحاصله : ان الشرط للملكية ليس نفس الاجازة المتأخرة بل هو التعقب ولحوق الغسل الليلي ، ومن الواضح ان التعقب واللحوق امر مقارن وليس امرا متأخرا وانما المتأخر هو طرف التعقب واللحوق لا نفس التعقب واللحوق.

وان شئت قلت : ان هذا الجواب يعترف بان الشرط المتأخر امر مستحيل اذ الاتصاف باصل المصلحة او ترتب المصلحة امر حقيقي خارجي لا يمكن ان يؤثر فيه الامر المتأخر بيد انه يحاول تأويل الشرط واخراجه من كونه شرطا متأخرا الى كونه مقارنا حيث يجعل الشرط هو التعقب واللحوق لا نفس الاجازة والغسل المتأخر.

ص: 287

ثمرة البحث عن امكان الشرط المتأخر.

وما هي ثمرة البحث عن امكان الشرط المتأخر واستحالته ، فانه بعد ما دل الدليل الشرعي على شرطية الغسل الليلي للصوم المتقدم فلا فائدة للبحث عن امكان الشرط المتأخر فان كل ما دل الدليل عليه لا بدّ من التسليم به سواء كان الشرط المتأخر مستحيلا - الذي لازمه جعل الشرط هو التعقب بالغسل لا نفسه - ام كان ممكنا فانه على كلا التقديرين لا ثمرة عملية لذلك وان كانت الثمرة العلمية ثابتة حيث انه بناء على استحالة الشرط المتأخر يلزم تحويل الشرط وجعله هو التعقب بالغسل لا نفسه. وباختصار : ان الثمرة العلمية وان كانت ثابتة ولكن ما هي الثمرة العملية؟ يمكن في هذا المجال ذكر ثمرتين :

1 - انه بناء على استحالة الشرط المتأخر يلزم استحالة الواجب المعلق بخلافه بناء على امكانه فانه يلزم امكانه. وقد مر ذلك في الحلقة السابقة ص 275 ويأتي في هذه الحلقة ص 346. ولتوضيح ذلك نذكر مثالا للواجب المعلق ثم نذكر كيفية ارتباط امكانه بامكان الشرط المتأخر.

لو فرض ان انسانا اهديت له اموال في غير اشهر الحج فهل يثبت عليه وجوب الحج من حين الاهداء او لا؟ هناك من الفقهاء من يقول بان الوجوب يثبت من حين الاهداء ولا يجوز التصرف في تلك الاموال بشراء دار بها او التزويج او السفر وغير ذلك (1) بل يجب التحفظ الكامل عليها ليمكن الحج بها في اشهر الحج ، فالوجوب اذن يستقر من حين الاهداء ويكون فعليا غاية الامر يكون الواجب وهو الحج متأخرا ومعلقا على مجيء الاشهر ، وهذا ما يصطلح

ص: 288


1- الاّ اذا لزم الحرج والمشقة الشديدة من عدم ذلك.

عليه بالواجب المعلق. وينبغي الالتفات الى ان الوجوب وان كان يثبت من حين الاهداء لكنه مشروط بعدم طرو المرض في اشهر الحج وهكذا هو مشروط ببقاء المكلف عاقلا وبعدم سرقة تلك الاموال والا فكيف يمكن بقاء الوجوب. اذن ثبوت الوجوب من حين الاهداء مشروط بامر متأخر وهو ان يكون المكلف عاقلا وقادرا على الحج في اشهره ، فاذا قلنا باستحالة الشرط المتأخر فلازم ذلك استحالة ثبوت الواجب المعلق ويكون ثبوت الوجوب للحج من حين الاهداء مستحيلا. ومن هنا نرى ان الميرزا لما كان يبني على استحالة الشرط المتأخر اختار استحالة الواجب المعلق ايضا وما ذاك الا لأن امكان الواجب المعلق يرتبط بامكان الشرط المتأخر.

2 - وهذه الثمرة تظهر فيما اذا دل الدليل على اعتبار الرضا في شيء معين كما هو الحال في باب العقود ، فان الفضولي لو اجرى عقدا على ملك الغير لم يكن عقده صحيحا وموجبا للنقل والانتقال الا بعد اجازة المالك ورضاه ، فاذا أجاز حصلت الملكية ، وهذا شيء واضح ولكن لو شككنا في ان اجازة المالك هل هي ناقلة او كاشفة فما هو الموقف؟ وبكلمة اخرى : لو شك في كون الاجازة هل هي شرط مقارن للملكية او شرط متأخر فما هو الموقف (1)؟ وفي هذه الحالة تظهر الثمرة فلو قلنا باستحالة الشرط المتأخر فمن اللازم البناء على كون الاجازة ناقلة

ص: 289


1- هذا التعبير من حيث المضمون نفس التعبير الاول ، فان معنى كون الرضا شرطا مقارنا للملكية هو ان الملكية لا تحصل الا اذا قارنها الرضا ، فحين حصول الرضا تحدث الملكية مقارنة له ، واذا كانت الملكية لا تحصل الا عند الرضا فهذا معناه ان الرضا ناقل وموجب لحصول الملكية من حين حصوله وليس كاشفا عن حصول الملكية من حين العقد. واما اذا قلنا بان الرضا شرط متأخر فمعنى ذلك ان الرضا حينما يحصل في الزمان المتأخر فالملكية تحصل في الزمان المتقدم ، فحصول الملكية في الزمان المتقدم منوط بحصول الرضا في الزمان المتأخر ، واذا كان هذا معنى كون الرضا شرطا متأخرا فلازمه كون الاجازة كاشفة ، فحصول الرضا في الزمان المتأخر يكشف عن تحقق الملكية في الزمان المتقدم.

لا كاشفة لان معنى الكشف هو ان الاجازة حينما تحصل بعد العقد بساعة او ساعتين فهي تؤثر في حصول الملكية من حين العقد وان كانت - اي الاجازة - متأخرة ، وهذا مما لا يمكن الالتزام به بناء على استحالة الشرط المتأخر اذ كون الاجازة المتأخرة مؤثرة في حصول الملكية المتقدمة فيه احتمالان كلاهما باطل :

أ - ان تكون نفس الاجازة المتأخرة بالرغم من تأخرها مؤثرة في حصول الملكية المتقدمة ، وهذا باطل لان لازمه تأثير الامر المتأخر في الامر المتقدم وقد فرض استحالة الشرط المتأخر اي استحالة تأثير المتأخر في المتقدم.

ب - ان لا يكون الشرط لحصول الملكية المتقدمة نفس الاجازة المتأخرة ليلزم تأثير المتأخر في المتقدم بل الشرط هو التعقب ولحوق الاجازة الذي هو امر مقارن للعقد وليس متأخرا عنه ، وهذا الاحتمال وان كان معقولا اذ لا يلزم منه تأثير المتأخر في المتقدم لفرض ان المؤثر هو التعقب الذي هو امر مقارن للعقد ولكن مع ذلك لا يمكن المصير اليه لمخالفته لظاهر دليل « لا يحل مال امرىء الا بطيبة نفس منه » اذ ظاهره ان الشرط لحلية المال هو نفس طيب النفس لا التعقب بذلك.

والخلاصة : لو قلنا باستحالة الشرط المتأخر فاللازم البناء على كون الاجازة ناقلة لان كونها كاشفة فيه احتمالان كلاهما باطل ، هذا لو قيل باستحالة الشرط المتأخر.

واما اذا قلنا بامكانه فلا يتعيّن كون الاجازة ناقلة بل كلا احتمالي الكشف والنقل ممكن ولا بد من اتباع ظاهر الدليل والعمل به فان اقتضى النقل قيل به وان اقتضى الكشف قيل به.

قوله ص 338 س 1 للحكم المجعول : المقصود من القيد هو الشرط ، كما ان

ص: 290

المقصود من الحكم المجعول هو الاعم من الحكم التكليفي والوضعي.

قوله ص 338 س 7 مقيدا : الانسب : مقيدة.

قوله ص 338 س 11 لنفوذ : اي لصحة عقد الفضولي ، وبتعبير آخر لحصول الملكية ، فان الملكية والصحة والنفوذ كلها متقاربة ، وهي حكم وضعي.

قوله ص 338 س 12 على القول بالكشف : واما على القول بالنقل فالاجازة تكون من قبيل الشرط المقارن.

قوله ص 338 س 13 الدخيل في صحة صيام النهار : كان من المناسب ان يقال : الذي هو قيد وشرط لنفس صيام النهار ، فان تعبير الكتاب قد يفهم منه ان الغسل قيد لنفس الصحة ، وحيث ان الصحة حكم وضعي فيلزم ان يكون الغسل شرطا متأخرا لنفس الحكم والحال ان المفروض التمثيل لشرط الواجب لا لشرط الحكم.

قوله ص 339 س 1 على قول بعض الفقهاء : وعلى القول الآخر الذي يقول بان الغسل الليلي شرط لصوم اليوم الآتي يكون الغسل مثالا للشرط المتقدم للواجب.

قوله ص 339 س 3 والقيد : عطف تفسير للشرط.

قوله ص 339 س 10 وليس القيد علة : اي وليس الشرط مؤثرا ليلزم تأثير المتأخر في المتقدم وانما هو محصص فقط.

قوله ص 339 س 11 والتحصيص : كان من المناسب وضع الفارزة قبل كلمة « والتحصيص » ، اي ومن الواضح ان التحصيص كما يمكن : ... الخ.

قوله ص 339 س 11 كما تقدم : اي ص 332.

قوله ص 340 س 1 ولكنه : اي الحكم.

ص: 291

قوله ص 340 س 5 والوجوب : عطف تفسير للحكم من باب عطف الخاص على العام ، وقوله « او للواجب » عطف على قوله للحكم.

قوله ص 340 س 6 للضابط المتقدم : اي ص 336 من الحلقة.

قوله ص 340 س 10 والجواب المذكور : اي ومن الواضح ان هذا الجواب ناظر الى حل مشكلة الشرط المتأخر بلحاظ عالم الوجوب الاعم من الانشائي والفعلي (1) ولم ينظر لحلها بلحاظ عالم الملاك.

قوله ص 340 س 13 ووجودها : قوله « في ترتب المصلحة » ناظر الى شرط الواجب الذي هو شرط للترتب ، كما وان قوله « ووجودها » ناظر الى شرط الوجوب الذي هو شرط لاصل وجود المصلحة.

قوله ص 340 س 13 ودخل : عطف على « دخل قيد الواجب ».

قوله ص 340 س 14 وترتب المصلحة : الواو استينافية ، اي ومن الواضح ان ترتب المصلحة وأصل الاتصاف بها امر تكويني وليس مجرد اعتبار.

قوله ص 341 س 3 كالغسل المذكور : المثال المذكور مجرد افتراض غير مطابق للواقع ، فان الغسل شرط للواجب لا للوجوب.

قوله ص 341 س 5 ومن هنا قد يقال : اي من ان الشرط المتأخر لا يمكن ان يؤثر في الامر المتقدم - وهو ترتب المصلحة او اصل الاتصاف بها - قيل باستحالة الشرط المتأخر والتزم بتأويل كل شرط متأخر الى مقارن. وهذا شروع في الجواب الثاني عن اشكال الشرط المتأخر.

قوله ص 341 س 14 في الحلقة السابقة : بل وفي هذه الحلقة يأتي ص 346.

ص: 292


1- ويعبر عن الوجوب الانشائي بعالم الجعل وعن الوجوب الفعلي بالمجعول او بالوجوب المجعول.

قوله ص 341 س 15 وتظهر من ناحية اخرى : هذا عطف على قوله « تظهر من ناحية ... الخ » وهو اشارة الى الثمرة الثانية.

قوله ص 342 س 1 متقدما : المناسب : مقارنا ، ولكنه قصد من المتقدم غير المتأخر الذي هو صادق على المقارن.

قوله ص 342 س 3 في المثال : اي في مثال البيع.

قوله ص 342 س 5 ان كان بالمعنى الحقيقي للشرط المتأخر : اي بمعنى ان نفس الاجازة المتأخرة - لا التعقب بالاجازة - مؤثرة في حصول الملكية المتقدمة.

قوله ص 342 س 6 وان كان بالتأويل : اي بان يكون التعقب بالاجازة هو الشرط.

قوله ص 342 س 8 واما على الثاني : هذا عدل لقوله في السطر الثاني : فانه على القول بامتناع الشرط المتأخر.

ص: 293

ص: 294

الواجب المعلّق

اشارة

ص: 295

ص: 296

زمان الوجوب والواجب :

قوله ص 343 س 1 لا شك في ان زمان الوجوب ... الخ :

هذا هو المبحث المعروف بالواجب المعلق. واول من نسبت له فكرة الواجب المعلّق هو صاحب الفصول. ولتوضيحها نقول : ان زمان الوجوب :

أ - تارة يتطابق مع زمان الواجب تطابقا تاما ، كصلاة الظهر ، فان زمان الصلاة محدد بما بين الزوال والغروب ، وهذا الزمان هو بنفسه زمان الوجوب ، فان وجوب صلاة الظهر محدد ايضا بما بين الزوال والغروب ، ويسمى مثل هذا بالواجب المنجّز (1).

ب - واخرى يكون زمان الوجوب متقدما على زمان الواجب ، وطبيعي ليس المقصود ابتداء زمان الواجب بعد انتهاء زمان الوجوب فانه مستحيل بل المقصود ان زمان الوجوب يتقدم على زمان الواجب ويبقى مستمرا الى نهاية زمان الواجب ، كما هو الحال في وجوب صوم شهر رمضان ، فانه يبتدأ من حين رؤية الهلال على ما يستفاد من قوله تعالى « فمن شهد منكم الشهر فليصمه » (2) بينما زمان الصوم متأخر عن ذلك حيث يبتدأ من حين طلوع الفجر الذي هو متأخر عن زمان رؤية الهلال (3). واصطلح صاحب الفصول على مثل هذا

ص: 297


1- وعبارة الكتاب لم تشر له .
2- حيث يدل على ان مجرد رؤية الهلال تكفي لتوجه الامر بالصوم .
3- ومثال آخر لذلك وجوب الحج فانه تقدم في البحث السابق ان بعض الفقهاء يقول اذا استطاع المكلّف وجب عليه الحج وان كانت استطاعته قبل اشهر الحج ويكون الوجوب فعليا ثابتا قبل اشهر الحج والواجب وهو الحج معلقا على مجيء اشهر الحج .

الواجب الذي يكون زمان الوجوب فيه متقدما على زمان الواجب بالواجب المعلق حيث ان الوجوب فيه فعلي والواجب معلق على امر متأخر كطلوع الفجر.

ولو سئل عن الفرق بين الواجب المعلق والواجب المشروط كان الجواب انهما يشتركان في ان كلا منهما غير منجّز - اي غير فعلي - من بعض الجهات ويختلفان في ان الواجب المشروط يكون نفس الوجوب فيه غير فعلي ومشروطا بشرط ، واما في الواجب المعلق فالواجب غير فعلي بل مشروط بخلاف الوجوب ، فالصوم مثلا هو المعلق والمشروط بمجيء زمان لم يحصل بعد كطلوع الفجر مثلا (1).

وبعد اتضاح حقيقة الواجب المعلق تعرضت عبارة الكتاب الى اشكال وبعد الجواب عنه تعرضت الى اشكالين فتكون مجموع الاشكالات ثلاثة هي :

1 - ان توجيه الوجوب للصوم قبل مجيء زمان الصوم لغو ، اذ ما الفائدة في توجيه الوجوب من حين رؤية الهلال ما دام لا يمكن الاتيان بالصوم حينئذ.

ص: 298


1- وقد تقول : مرّ سابقا ان الشيخ الاعظم قدس سره يفسر الواجب المشروط بتفسير يخالف فيه المشهور ، فالمشهور يقول ان الواجب المشروط هو الواجب الذي يكون نفس الوجوب فيه مشروطا بالشرط - وكان من المناسب ان يسمى بالوجوب المشروط لا الواجب المشروط - بينما الشيخ الاعظم يقول ان نفس الوجوب لا يكون مشروطا - لاستحالة تقييده اذ هو مفاد للهيئة ومفادها معنى حرفي ، والمعنى الحرفي جزئي لا يقبل التقييد - بل الواجب هو المشروط ، فجميع القيود على رأيه ترجع الى المادة اي الى الواجب ، والوجوب مطلق وفعلي ، فمثلا وجوب صلاة الظهر فعلي ثابت قبل تحقق الزوال فان الزوال ليس قيدا للوجوب وانما هو قيد للواجب وهو الصلاة. وبعد هذا يتّضح عدم وجود فرق بين الواجب المعلق والواجب المشروط بتفسير الشيخ ، ومن هنا نرى ان الشيخ حينما يسمع من صاحب الفصول فكرة الواجب المعلق ينكر عليه ذلك ، وما ذاك الا لأنه لا يرى للواجب المعلق وجودا في مقابل الوجوب المشروط بتفسيره ، وعلى هذا فهو في الحقيقة لا ينكر روح الواجب المعلّق وانما ينكر الوجود الخاص له في مقابل الواجب المشروط بتفسيره.

وفيه : ان مصلحة الصوم اذا فرض حدوثها من حين رؤية الهلال فمن المناسب توجيه الوجوب من حين الرؤية وعدم تأخيره الى طلوع الفجر ، فان توجيه الوجوب يتبع ثبوت المصلحة ، فمع فعلية المصلحة من حين الرؤية فالمناسب توجهيه من حينها ايضا دون ان يلزم محذور اللغوية ، بل يمكن ان نضيف ان ثبوت الوجوب من حين الرؤية له بعض الفوائد ، فلو كان ثابتا قبل طلوع الفجر كان محركا للمكلف نحو تحصيل مقدمات الصوم ، فمثلا من جملة مقدماته الغسل من الجنابة ، فاذا لم يكن الوجوب ثابتا قبل الفجر يرد اشكال يقول لا وجه لوجوب الغسل قبل الفجر ما دام وجوبه مقتبسا من وجوب الصوم ، واذا اريد الاتيان بالغسل من حين طلوع الفجر لزم فوات الصوم ، فالاتيان به قبل الفجر لا وجه لوجوبه وبعده مفوت للصوم ، وهذا الاشكال يسمى باشكال المقدمات المفوتة. وانما سمي بذلك باعتبار ان الغسل اذا لم يؤت به قبل الفجر فات الصوم. والاشكال مندفع بناء على ثبوت وجوب الصوم قبل الفجر ، اذ يقال انما وجب الغسل قبل الفجر لثبوت وجوب الصوم آنذاك ، واما بناء على عدم ثبوته قبل الفجر فالاشكال يبقى بحاجة الى جواب آخر (1).

2 - ان حقيقة الوجوب (2) ليست هي الا التحريك ، فحقيقة الامر بالصوم هي التحريك نحو الصوم ، ولكن ليس المقصود هو التحريك الفعلي فانه باطل بالوجدان ، اذ امر « صم » ليس محركا للمكلّف تحريكا فعليا والا يلزم عدم وجود عاص على وجه الارض ، لان الامر اذا كان يحرك تحريكا فعليا للصوم عاد الكل

ص: 299


1- قد يقال : ان الوجه في وجوب الغسل قبل الفجر هو دلالة الروايات على ذلك. وفيه : انا نوجه السؤال الى نفس الروايات ونقول كيف اثبتت الوجوب للغسل قبل الفجر بعد ما كان وجوب الصوم يبتدأ من حين طلوع الفجر.
2- وقد ذكر هذا في الكتاب بعنوان الاعتراض الاول.

ممتثلا لامر الصوم فلا بدّ وان يكون المقصود هو التحريك الشأني ، اي ان امر « صم » فيه شأنية وقابلية تحريك المكلّف نحو الصوم ، وبعد هذا نقول ان الوجوب قبل مجيء زمان الواجب ليست له قابلية تحريك المكلّف نحو الصوم فان قابلية التحريك فرع قابلية التحرك وحيث انه لا يمكن التحرك قبل الفجر فلا يمكن التحريك آنذاك وبالتالي يلزم عدم امكان تحقق الوجوب قبل الفجر اذ قد عرفنا ان حقيقة الوجوب متقومة بقابلية التحريك وحيث فرض عدم القابلية قبل الفجر فلا حقيقة للوجوب آنذاك.

وفيه : انا لا نسلم تقوّم حقيقة الوجوب بالتحريك بل الوجوب عبارة عن اعتبار الفعل في ذمة المكلّف ، اجل الداعي والغرض من اعتبار الفعل في الذمة هو تحريك المكلّف الى الفعل ، فالتحريك اذن هو الداعي لاعتبار الوجوب لا انه نفس حقيقة الوجوب ، وبعد هذا نقول : ان المستفاد من ادلة الواجبات ان الداعي لاعتبار الوجوب وان كان هو التحريك نحو الفعل ولكن ليس هو التحريك من اول زمان ثبوت الوجوب الى آخر زمان ثبوته حتى يقال بان الوجوب في الواجب المعلّق لا يمكن ان يكون محركا من اول زمان ثبوته وانما الداعي هو ان يكون محركا ولو في بعض فترة ثبوته (1) ، ومن الواضح ان وجوب الصوم الثابت قبل طلوع الفجر وان لم يكن قابلا لتحريك المكلّف من بداية ثبوته ولكنه يمكن ان يكون محركا له بعد ذلك اي حينما يطلع الفجر.

3 - ان فكرة الواجب المعلّق تعتمد على امكان الشرط المتأخر ، فاذا لم

ص: 300


1- فمثلا قوله تعالى : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) يستفاد منه ان الداعي لاعتبار الوجوب هو تحريك المكلّف نحو الصوم ولكن لا من حين رؤية الهلال بل ولو بعد فترة. وهكذا مثل خطاب « اقم الصلاة لدلوك الشمس » يستفاد منه ان الداعي هو تحريك المكلّف الى الصلاة خلال فترة ما بين الزوال والغروب اي ولو في بعض هذه الفترة لا في جميعها.

يكن ممكنا لزم عدم امكان الواجب المعلّق.

وتوضيح ذلك : ان وجوب الصوم اذا كان ثابتا قبل طلوع الفجر فنحن نسأل : هل طلوع الفجر قيد للواجب فقط - اي قيد للصوم فقط - او هو قيد له وللوجوب ايضا.

فان كان قيدا للواجب فقط لزم المكلّف تحصيل طلوع الفجر لانه تقدم ص 336 من الحلقة ان المكلّف يلزمه تحصيل قيود الواجب التي تسمى بالمقدمات الوجودية ، فاذا كان طلوع الفجر قيدا للصوم يلزم تحصيله وهو باطل لعدم كونه اختياريا.

وان كان قيدا للوجوب ايضا لزم ان يكون الوجوب حادثا عند طلوع الفجر وقبله لا وجوب وهو باطل لان المفروض في الواجب المعلق تقدم الوجوب على طلوع الفجر.

وينبغي ان نستدرك ونقول ان هذا المحذور يتم فيما لو كان طلوع الفجر قيدا لوجوب الصوم بنحو الشرط المقارن بمعنى ان الوجوب يحدث مقارنا لطلوع الفجر فاذا طلع الفجر فمقارنا له يحدث الوجوب ، اما اذا فرضنا ان طلوع الفجر قيد للوجوب بنحو الشرط المتأخر فلا يتم المحذور ، وذلك بان نفترض ان طلوع الفجر حينما يحدث يكون موجبا لحدوث وجوب الصوم من حين رؤية الهلال ، انه بناء على هذه الفرضية لا يرد الاشكالان السابقان اي اشكال لزوم تحصيل طلوع الفجر واشكال لزوم حدوث وجوب الصوم عند طلوع الفجر (1). ومن هنا صح

ص: 301


1- وهكذا يقال في بقية الشرائط غير طلوع الفجر كبقاء الصحة والقدرة والعقل الى زمان الواجب اي الى طلوع الفجر ، فان وجوب الصوم من حين رؤية الهلال لا يثبت الا اذا كان المكلّف عاقلا وصحيحا وقادرا حين طلوع الفجر والا فكيف يثبت على من هو مجنون او مريض او غير قادر حين طلوع الفجر ، ومعه فمن اللازم ان يكون ثبوت الوجوب من حين رؤية الهلال مشروطا بالصحة والعقل والقدرة حين طلوع الفجر بنحو الشرط المتأخر ولا يمكن ان تكون شرطا مقارنا كما ولا يمكن ان تكون شرطا للواجب من دون ان تكون شرطا للوجوب لنفس البيان السابق.

لصاحب هذا الاعتراض الثالث ان يقول ان فكرة الواجب المعلق تبتني على امكان فكرة الشرط المتأخر ، ولهذا نجد ان الميرزا حيث انكر امكان الشرط المتأخر انكر تبعا لذلك فكرة الواجب المعلق.

قوله ص 343 س 7 بالوجوب المعلق : في العبارة شيء من الايهام ، حيث توهم ان نفس الوجوب معلق مع ان الوجوب ليس معلقا وانما الواجب معلق فكان من المناسب ان يقال : الواجب بهذا النحو من الوجوب سمي بالواجب المعلق ... الخ.

قوله ص 343 س 13 ما دام وجوبا معطلا : اي ما دام الوجوب وجوبا معطلا عن الامتثال.

قوله ص 343 س 14 او ليس ذلك لغوا : هذا استفهام تقريري ، اي ان جعل مثل هذا الوجوب لغو.

قوله ص 344 س 9 ولفعلية الوجوب ... الخ : الواو استينافية ، اي ان ثبوت الوجوب الفعلي من حين طلوع الهلال فيه فوائد كحل مشكلة المقدمات المفوتة بالبيان المتقدم سابقا.

قوله ص 345 س 1 اي انه : اي ان الوجوب حكم قابل لبعث المكلّف وتحريكه.

قوله ص 345 س 4 ومن الواضح ... الخ : كان من المناسب ان لا يوضع هذا رأس السطر لاتصاله بسابقه ، اي ومن الواضح انه في فترة ما قبل طلوع الفجر لا قابلية لتحرك المكلّف نحو الصوم فلا قابلية للتحريك ، وبانتفاء قابلية

ص: 302

التحريك يكون الوجوب منتفيا.

قوله ص 345 س 6 في عالم الحكم : اي ان الوجوب لو لاحظناه بما هو حكم فهو ليس الا اعتبارا لا اكثر.

قوله ص 345 س 10 اعداده : اي اعداد الحكم.

قوله ص 345 س 12 كذلك : اي محركا شأنيا.

قوله ص 345 س 15 لما تقدم : اي ص 336 من الحلقة.

قوله ص 346 س 6 والشيء نفسه نقوله عن القدرة : اي كما ان طلوع الفجر فيه شقوق ثلاثة والصحيح منها هو الشق الاخير كذلك الحال في القدرة والصحة والعقل عند طلوع الفجر ، فان فيها الشقوق المذكورة والصحيح منها هو الاخير ، اي هي شرط للوجوب بنحو الشرط المتأخر.

قوله ص 346 س 8 ومن هنا كنا نقول في الحلقة السابقة : بل وفي هذه الحلقة ايضا ص 341.

قوله ص 346 س 9 المتعلق : الصواب : المعلق. ثم ان المناسب التعبير بالواجب المعلق لا الوجوب المعلق ، اذ المعلق هو الواجب دون الوجوب.

قوله ص 346 س 11 فتأتي الاشارة اليها : اي في البحث المقبل ص 347 من الحلقة حيث تحل بواسطة الواجب المعلق مشكلة المقدمات المفوتة.

ص: 303

ص: 304

المقدمات المفوتة

اشارة

ص: 305

ص: 306

المسؤولية عن المقدمات قبل الوقت :

قوله ص 347 س 1 اتضح مما تقدم ... الخ : هذا هو المبحث المعروف بمبحث المقدمات المفوتة. ونمنهج ذلك ضمن النقاط التالية :

1 - تقدم ص 336 من الحلقة ان المقدمات اذا كانت مقدمات وجودية فيلزم على المكلّف تحصيلها. كما وعرفنا ان تحصيلها يجب بعد صيرورة وجوب ذي المقدمة فعليا ، فمثلا الوضوء الذي هو من المقدمات الوجودية للصلاة يجب على المكلّف تحصيله بعد دخول وقت الصلاة ، اذ قبل ذلك لا وجوب فعلي للصلاة لكي يجب.

2 - واذا لم يكن الوضوء واجبا قبل دخول الوقت طرحنا هذا السؤال : لو فرض ان المكلّف كان واجدا للماء قبل دخول الوقت وكان يعلم بتعذّر تحصيله بعد دخول الوقت فهل يلزمه الوضوء قبل دخول الوقت؟ وهل يجوز له اراقة الماء قبل دخوله الوقت؟ كلا لا يلزمه الوضوء قبل الوقت كما ويجوز له اراقته قبل دخول الوقت (1) ، اذ قبل دخول الوقت لا تكليف بالصلاة ليجب الوضوء وبالتالي لتحرم الاراقة. واذا جازت الاراقة قبل الوقت فمتى ما حل وقت الصلاة فلا يخاطب المكلّف بوجوب الصلاة الوضوئية ، اذ المفروض كونه عاجزا عن ذلك وانما يخاطب بالصلاة مع التيمم. اجل لو فرض ان المكلّف توضأ قبل الوقت فوضوءه هذا وان لم يكن واجبا ولكن متى ما حل الوقت توجه الخطاب بالصلاة

ص: 307


1- اما بعد دخول الوقت فلا تجوز الاراقة لصيرورة وجوب الصلاة والوضوء فعليا.

الوضوئية لفرض القدرة عليها. اذن مع الاتيان بالوضوء قبل الوقت يتوجه بعد دخول الوقت الامر بالصلاة الوضوئية ومع عدم الاتيان به قبل الوقت فلا يمكن توجيه الامر بالصلاة الوضوئية. ومن هنا صح ان نطلق على الاتيان بالوضوء قبل الوقت بأنه مقدمة وجوبية للامر بالصلاة الوضوئية بعد دخول الوقت ، فكما ان الاستطاعة مقدمة وجوبية للامر بالحج بمعنى انه لا يجب تحصيلها ولكن لو حصلت صدفة توجه وجوب الحج كذلك الحال في الاتيان بالوضوء قبل الوقت فانه ليس بواجب على المكلّف ولكن لو حصل صدفة توجه الامر بالصلاة الوضوئية الى المكلّف بعد دخول الوقت.

ويمكن ان نصطلح على الوضوء في الحالة المذكورة بانه مقدمة مفوتة ، اي اذا لم يؤت به قبل الوقت فات الواجب وهو الصلاة الوضوئية. ونؤكد اننا لا نريد بهذا صحة الاطلاق المذكور في جميع الحالات بل في خصوص الحالة المتقدمة اي حالة ما اذا كان عدم الاتيان بالوضوء قبل الوقت موجبا لعجز المكلّف عن الصلاة الوضوئية بعد دخول الوقت.

3 - ان بحث المقدمات المفوتة لم يعقد للبحث عن الوضوء في الحالة المذكورة التي يصطلح عليه فيها بالمقدمة المفوتة وانما عقد للبحث عن المقدمة التي تكون هذه الحالة هي الطابع العام لها اي للمقدمة التي صفتها الدائمية انه اذا لم يؤت بها قبل الوقت فات الواجب. ومثال ذلك : الغسل قبل الفجر في شهر رمضان فانه متى ما ترك فات الصوم ، وهكذا السفر الى الحج فانه واجب قبل وقت الحج - الذي هو اليوم التاسع من ذي الحجة - ومن ترك السفر قبل وقت الحج فلا يمكنه الاتيان بالحج. وعليه فالطابع العام للغسل والسفر ان المكلّف متى ما تركهما قبل الوقت فات عليه الواجب وليس هذا طابعا لهما في بعض الحالات دون بعض.

ص: 308

والاصوليون واجهوا مشكلة في مثل هذه المقدمات حاصلها : كيف يجب الغسل قبل الفجر مع انه لا وجوب للصوم ذلك الحين حتى يجب الغسل فان وجوب الغسل وجوب غيري مترشح من الوجوب النفسي وليس نفسيا (1).

ومن اجل حلّ هذه المشكلة تولدت فكرة الواجب المعلق في ذهن صاحب الفصول.

والحلول المطروحة لحل هذه الشبهة متعددة نذكر منها ثلاثة :

1 - تقدم ص 329 من الحلقة ان الشيخ الأعظم انكر الواجب المشروط بتفسيره السائد بين الاصوليين ، فانهم فسروه بالواجب الذي يكون نفس وجوبه مشروطا ببعض الشروط كالحج فان نفس وجوبه مشروط بالاستطاعة وهو قدس سره انكر التفسير المذكور لاعتقاده باستحالة تقيد الوجوب - باعتبار ان الوجوب مفاد الهيئة ، ومفاد الهيئة معنى حرفي ، والمعنى الحرفي جزئي ، والجزئي لا يقبل التقييد - واختار ان الوجوب مطلق وفعلي دائما والقيود ترجع الى الواجب ، ففي مثال الصوم يكون الوجوب ثابتا قبل طلوع الفجر والتقييد بالطلوع راجع الى الصوم لا الى وجوبه ، واذا قبلنا تحقق الوجوب قبل الطلوع كان اتصاف الغسل بالوجوب قبل الفجر على طبق القاعدة ومن دون اشكال.

وفيه : انه مبني على استحالة الواجب المشروط بالمعنى المشهور ، وهي غير مسلمة كما مرّ ص 329 من الحلقة حيث تقدم ان تقيد نفس الوجوب امر معقول.

2 - واذا بنينا على عدم استحالة الواجب المشروط بتفسيره المشهور نكون بحاجة الى حل آخر لدفع المشكلة وهو يتمثل في فكرة الواجب المعلق بان نقول :

ص: 309


1- اذ لو كان نفسيا وجب الاغتسال على من لا يجب عليه الصوم كالحائض مثلا مع انه لا يجب عليها جزما.

ان الدليل بعد ان دل على اتصاف الغسل بالوجوب قبل طلوع الفجر كان ذلك كاشفا عن سبق وجوب الصوم وتقدمه على الطلوع فزمان الصوم وان كان يبتدأ من حين الطلوع الا ان وجوبه يبتدأ قبل ذلك بدليل اتصاف الغسل قبل الفجر بالوجوب ، وهذا هو معنى الواجب المعلق ، فان معناه ان الوجوب للصوم ثابت قبل طلوع الفجر وان كان زمان نفس الصوم يبتدأ عند طلوع الفجر.

3 - لو انكرنا فكرة الواجب المعلق كما انكرها الميرزا فبالامكان حل المشكلة عن طريق آخر بان نقول : ان القدرة - كما عرفنا في ابحاث سابقة - هي دخيلة في ثبوت الوجوب وفي العقوبة جزما ولكن بالنسبة الى الملاك لا يتحتم ان تكون دخيلة فيه بل ربما تكون دخيلة فيه بحيث لا تكون المصلحة في الصوم مثلا ثابتة عند عدم القدرة - وتسمى القدرة حينئذ بالقدرة الشرعية - وربما لا تكون دخيلة فيه بان يكون الملاك ثابتا حالة العجز وعدم القدرة ايضا ، وتسمى القدرة حينئذ بالقدرة العقلية.

وباتضاح هذا نقول : ان الدليل الشرعي اذا دل على ثبوت وجوب الغسل قبل طلوع الفجر كان ذلك كاشفا عن كون القدرة قدرة عقلية ، وبتعبير آخر يكون كاشفا عن ثبوت ملاك الصوم في حق غير القادر ايضا ، ومعه فيكون ثبوت وجوب الغسل قبل طلوع الفجر على مقتضى القاعدة ، اذ لو لم يأت المكلّف بالغسل قبل الفجر فات عليه الصوم ، وبفواته يفوت الملاك الثابت في حقه.

ثم تعرضت عبارة الكتاب بعد ذلك الى انه لو فرضنا العكس فالامر يكون بالعكس ، اي لو لم يدل دليل على وجوب المقدمة قبل دخول الوقت ولكن دل على ان الملاك ثابت في حق العاجز ايضا ففي مثله نحكم بان المقدمة واجبة قبل دخول الوقت ، فانه ما دام قد دل الدليل على ثبوت الملاك في حق العاجز ايضا

ص: 310

فلا بدّ من الحكم بوجوب المقدمة قبل دخول الوقت

ثم تعرضت عبارة الكتاب الى مطلب ثالث وهو انه هل يمكن ان يستفاد من دليل وجوب ذي المقدمة ثبوت ملاك الواجب في حق العاجز ايضا او لا؟ فدليل وجوب الصوم مثلا هل يمكن ان يستفاد منه ان مصلحة الصوم ثابتة في حق العاجز ايضا او لا؟ والجواب بالنفي ، اي لا يمكن ان يستفاد اطلاق الملاك من دليل وجوب الصوم مثلا بل ذلك يحتاج الى قيام دليل خاص ، اذ دليل وجوب الصوم يدل بالمطابقة على وجوب الصوم وبالالتزام على ان في الصوم مصلحة ، وحيث ان المدلول المطابقي وهو وجوب الصوم مقيد بالقدرة وغير ثابت في حق العاجز فلا يمكن بعد هذا الجزم بثبوت الملاك في حق العاجز ، لان المدلول المطابقي اذا سقط عن الحجية في حق العاجز سقط المدلول الالتزامي عنها ايضا.

قوله ص 347 س 3 ان الواجب اذا كان له زمن متأخر : كالصلاة التي زمانها ما بعد الزوال ، وهي تتوقف على الوضوء الذي فرضنا عدم امكان الاتيان به بعد الزوال.

قوله ص 347 س 5 في حينها : اي في وقتها المقرر وهو ما بعد الزوال مثلا.

قوله ص 348 س 6 وفعليته في حينه : عطف تفسير على « الوجوب ».

قوله ص 348 س 9 من هذا القبيل : اي يفوت الواجب لو لم يؤت بها قبل الوقت.

قوله ص 348 س 12 من قبل : بكسر القاف وفتح الباء ، اي ان وجوب السفر ليس نفسيا وانما هو ناشىء من وجوب الحج. وهكذا قوله في السطر الثاني : « من قبل وجوب الصيام » يراد به الاشارة الى ان وجوب الغسل وجوب غيري ناشىء من وجوب الصوم وليس وجوبا نفسيا.

ص: 311

قوله ص 348 س 15 وفي تحديد الضوابط ... الخ : وقد اتضح ان الضوابط التي على ضوئها تجب المقدمة المفوتة هي اما انكار الواجب المشروط بتفسيره المشهور والاخذ بتفسير الشيخ ، او التسليم بالواجب المعلق ، او كون ملاك الواجب مطلقا وثابتا في حق العاجز ايضا.

قوله ص 349 س 6 يعني من الناحية العملية : اي ان الثمرة العملية لانكار الواجب المشروط بتفسيره المشهور هو وجوب المقدمات المفوتة قبل الوقت.

قوله ص 349 س 10 الذي تقدم : صفة لما في تقريرات الشيخ الانصاري او لقوله الوجوب المشروط.

قوله ص 349 س 14 من قبل : بكسر القاف وفتح الباء ، اي ان وجوب المقدمة المفوتة اذا كان وجوبا غيريا ناشئا من قبل وجوب ذي المقدمة استكشفنا من ذلك ان الواجب معلق.

قوله ص 349 س 15 الوجوب معلق : المناسب : الواجب معلق.

قوله ص 350 س 1 فحكم : الصواب : نحكم.

قوله ص 350 س 15 كما انه في كل حالة ... الخ : الى هنا انتهى التفسير الثالث ، وهذا اشارة الى مطلب جانبي اوضحناه في الشرح.

قوله ص 350 س 16 كذلك : اي غير دخيلة في الملاك.

ص: 312

اخذ العلم في موضوع الحكم

اشارة

ص: 313

ص: 314

صور اخذ القطع في موضوع الحكم :

اشارة

قوله ص 352 س 1 قد يفترض ... الخ :

حاصل هذا المبحث هو : هل يمكن تقييد الحكم بخصوص العالم بحيث يؤخذ القطع بالحكم في موضوع الحكم فيقال مثلا ان علمت بوجوب الجمعة صارت حينذاك واجبة عليك؟ واذا اجيب بعدم الامكان قيل فكيف توجيه بعض الاحكام التي ثبتت لخصوص العالم كوجوب الجهر والاخفات والقصر والتمام ، فان وجوب الجهر يختص بخصوص العالم بوجوب الجهر ، وهكذا في الباقي.

ولتوضيح الحال نقول : توجد اربع صور لتقييد الحكم بخصوص العالم هي :

1 - ان يؤخذ القطع بالحكم في موضوع نفس الحكم الذي تعلق به القطع فيقال مثلا : ان قطعت بوجوب الجمعة صارت حينذاك واجبة عليك.

2 - ان يؤخذ القطع بالحكم لا في موضوع نفس ذلك الحكم بل في موضوع حكم آخر يماثل الحكم الذي تعلق به القطع فيقال مثلا ان قطعت بوجوب الجمعة وجبت عليك بوجوب ثان مغاير للاول.

3 - ان يؤخذ القطع بالحكم في موضوع حكم آخر مضاد للحكم الذي تعلق به القطع كما لو قيل ان قطعت بوجوب الجمعة حرمت عليك الجمعة.

4 - ان يؤخذ القطع بالحكم في موضوع حكم آخر ليس مضادا ولا مماثلا للحكم الذي تعلق به القطع بل مخالف له ، كما لو قيل ان قطعت بوجوب الجمعة وجب عليك التصدق ، فان وجوب التصدق ليس ضدا لوجوب الجمعة ولا نفسه

ص: 315

ولا مثله بل مخالف له.

هذه صور أربع. وقد وقع الاتفاق على امكان الصورة الرابعة حيث لا محذور في ان يقال ان قطعت بوجوب الجمعة وجب التصدق ، وانما الكلام في الصور الثلاث الاولى.

ونتحدث اولا عن الصورة الاولى - وهي الصورة المهمة - ثم عن الثانية والثالثة.

اخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه :

اما اخذ القطع بالحكم في موضوع نفس الحكم الذي تعلق به القطع - كما لو قيل ان قطعت بوجوب الجمعة وجبت عليك - فقد قرأنا في الحلقة السابقة انه مستحيل لمحذور الدور ، اذ العلم بالوجوب موقوف على ثبوت الوجوب - كي يتعلق العلم به - فلو كان ثبوت الوجوب موقوفا على العلم به لزم الدور ، اذ العلم بالوجوب يصير موقوفا على العلم بالوجوب. وقرأنا في الحلقة السابقة ايضا ان هذا الدور يمكن دفعه عن طريق المناقشة في المقدمة الاولى حيث يمكن القول بعدم تسليم توقف العلم بالوجوب على ثبوت الوجوب ، فان العلم بالشيء لا يتوقف على ثبوته ، فالعلم بمجيء زيد لا يتوقف على تحقق مجيء زيد واقعا والا يلزم ان يكون كل علم مصيبا وعدم وجود علم مخطىء. هذا ما تقدم في الحلقة السابقة ، وفي هذه الحلقة ولاجل تحقيق صحة الدور وعدمها نقول : ان القطع المأخوذ في موضوع الحكم تارة يكون هو خصوص القطع المصيب واخرى مطلق القطع اعم من كونه مصيبا او لا ، فان :

أ - كان القطع المأخوذ في موضوع الحكم هو خصوص المصيب فتقريب

ص: 316

الدور بالبيان السابق تام ، فان القطع المصيب للواقع موقوف على ثبوت الواقع والا لم يكن مصيبا ، فالقطع بثبوت وجوب الجمعة مثلا لا يكون مصيبا الا اذا كان الوجوب ثابتا في الواقع ، فلو توقف ثبوت الحكم بوجوب الجمعة على القطع بالوجوب لزم الدور اي توقف العلم بثبوت الوجوب على العلم بثبوت الوجوب. وما افيد في دفع الدور من عدم توقف العلم بالشيء على ثبوته باطل لانه يتم في القطع غير المصيب واما المصيب فهو موقوف على ثبوت الشيء في الواقع والا لم يكن مصيبا.

ب - وان كان القطع المأخوذ في موضوع الحكم هو الاعم من المصيب فالدور ببيانه السابق لا يكون تاما ، فان القطع غير المصيب لا يتوقف على ثبوت الشيء في الواقع ، ومن هنا نكون بحاجة لاثبات استحالة هذا القسم الى ذكر بيانات اخرى نقتصر على اثنين منها :

الاول : ان كل قاطع يعتقد بكون قطعه كاشفا عن ثبوت الشيء وليس مثبتا له ، فمن قطع بوجود الاسد في الشارع فهو لا يعتقد ان قطعه هو الذي جاء بالاسد الى الشارع بل دور قطعه دور الكاشف عن وجود الاسد. وفي مقامنا نطبق هذا ونقول : ان القاطع بوجوب الجمعة لا يصدّق بكون قطعه هو المولّد للوجوب وانما يرى ان قطعه كاشف عن تحقق الوجوب ، ومعه فلا يمكن للمولى تشريع الحكم بوجوب الجمعة على القاطع بالوجوب ، لان مثل هذا الحكم لا يمكن ان يصدّق به المكلف اذ لازمه كون القطع مولدا للوجوب ، ومع عدم امكان تصديق المكلف به يكون تشريعه لغوا.

الثاني : ما ذكره الميرزا. وهو يتوقف على بيان مقدمة صغيرة حاصلها : ذكر في علم المعقول ان العلم بالاشياء يحصل بواسطة حضور صورها في الذهن ،

ص: 317

فالعلم بالكتاب يحصل بحضور صورة الكتاب في الذهن والعلم بزيد يحصل بحضور صورته في الذهن وهكذا. ويسمى مثل هذا العلم بالعلم الحصولي ، فالعلم الحصولي اذن عبارة عن حضور صور الاشياء وارتسامها في الذهن. اما نفس الصور كيف يحصل العلم بها؟ لا يحصل العلم بها بواسطة حضور صور اخرى - والا يلزم التسلسل ، اذ الصورة الاولى تعلم بواسطة حضور صورة ثانية ، والثانية بواسطة ثالثة وهكذا - بل بواسطة حضورها في الذهن مباشرة ، فالصورة الذهنية الاولى بما انها حاضرة بنفسها في الذهن فلا يحتاج بعد حضورها بنفسها الى حضور صورتها. ويصطلح على مثل هذا العلم بالعلم الحضوري. وعليه فحصول العلم بالاشياء يتم عن طريق العلم الحصولي اي بحضور صورها في الذهن واما نفس الصور فيتم العلم بها عن طريق العلم الحضوري اي بحضورها بنفسها.

وبعد هذه المقدمة ذكر الميرزا ان القطع بالحكم لو اخذ في موضوع نفس الحكم يلزم الدور. ولكن اين يلزم الدور؟ يلزم في مرحلة الوصول اي في مرحلة العلم ، فالمكلف لا يمكنه العلم بالحكم والاطلاع عليه الا بشكل دوري ، وهذا بخلاف الدور المتقدم سابقا (1) فانه كان يلزم في مرحلة الجعل والتشريع بينما هذا يلزم في مرحلة العلم والوصول. وايضاحه يتم بالشكل التالي.

1 - ان تحقق العلم بالحكم يتوقف على العلم بالموضوع ، فالمكلف لا يمكنه العلم بوجوب الاجتناب عن هذا السائل الا اذا علم بكونه خمرا ، فان الخمر هو موضوع وجوب الاجتناب ، ولا يتحقق العلم بوجوب الاجتناب الا بعد العلم بتحقق الخمرية ، وهكذا لا يمكنه العلم بان هذا الفعل المعين واجب الا اذا علم بانه

ص: 318


1- الذي كان يقول ان العلم بالحكم موقوف على ثبوت الحكم ، فلو كان ثبوت الحكم موقوفا على العلم به يلزم الدور.

صلاة مثلا وعليه فالعلم بالوجوب او اي حكم آخر موقوف على العلم بتحقق موضوع ذلك الحكم.

2 - وبعد توقف العلم بالحكم على العلم بالموضوع نسأل عن الموضوع ونقول ما هو الموضوع في مقامنا الذي يتوقف العلم بالحكم على العلم به؟ انه العلم بالحكم ، اذ المفروض ان العلم بالحكم اخذ موضوعا للحكم.

3 - وبعد كون الموضوع هو العلم بالحكم تصير العبارة السابقة - اي قولنا العلم بالحكم يتوقف على العلم بالموضوع - بعد تبديل كلمة « الموضوع » بكلمة « العلم بالحكم » هكذا : العلم بالحكم يتوقف على العلم بالعلم بالحكم.

4 - ان العلم بالعلم بالحكم ليس الا عبارة عن العلم بالحكم ، لانا عرفنا من خلال المقدمة السابقة ان نفس العلم بالحكم لا يعلم بواسطة ارتسام صورة ثانية في الذهن اي لا يحصل بواسطة علم ثان بل بحضور نفس الصورة الاولى لدى الذهن ، اذن العلم بالعلم بالحكم ليس علما ثانيا مغايرا للعلم الاول بل هو نفس العلم بالحكم.

5 - وبعد اتضاح ان العلم بالعلم بالحكم ليس الا نفس العلم الاول وليس علما ثانيا منضما الى العلم الاول تصير العبارة السابقة هكذا : ان العلم بالحكم يتوقف على العلم بالحكم (1). وهذا ما رام الميرزا اثباته ، اذ اراد اثبات لزوم الدور في مرحلة العلم والوصول وقد تم ذلك اذ ثبت ان العلم بالحكم موقوف على العلم بالحكم.

ص: 319


1- يمكن توضيح مطلب الميرزا هكذا : العلم بالحكم موقوف على العلم بتحقق الموضوع ، وحيث ان الموضوع هو العلم بالحكم فالقضية المذكورة تساوي ان العلم بالحكم موقوف على العلم بالعلم بالحكم ، وحيث ان العلم بالعلم بالحكم هو نفس العلم بالحكم فترجع القضية المذكورة الى ان العلم بالحكم موقوف على العلم بالحكم.

ويمكن مناقشة ذلك بان لدينا ضورتين لا بدّ من التفرقة بينهما :

1 - ان يؤخذ العلم بثبوت الحكم الفعلي - المعبر عنه بالمجعول - في ثبوت الحكم الفعلي فيقال مثلا ان ثبوت الوجوب الفعلي للقصر على المسافر موقوف على ثبوت الوجوب الفعلي للقصر عليه. ولا اشكال في لزوم الدور في هذه الصورة ، اذ العلم بالحكم الفعلي موقوف على ثبوت الحكم الفعلي ، وثبوت الحكم الفعلي موقوف على العلم بالحكم الفعلي ، فبيان الميرزا للدور يكون تاما ، وهكذا البيان الاول حيث يصير العلم بالحكم الفعلي مولدا للحكم الفعلي لا كاشفا والحال ان واقع المطلب على العكس فان العلم بوجود الاسد في الدار لا يولّد وجوده فيه بل هو كاشف عنه.

2 - ان يؤخذ العلم بالحكم الانشائي - المعبر عنه بالجعل او التشريع - في موضوع الحكم الفعلي فيقال هكذا : ان علمت بتشريع وجوب القصر على المسافر ثبت عليك حينذاك الوجوب الفعلي للقصر ، فالعلم بالمجعول لم يؤخذ في موضوع الحكم المجعول بل العلم بالجعل اخذ في موضوع الحكم المجعول. وهذه الصورة معقولة ولا يرد عليها البيان الاول ولا الثاني.

اما ان الاول لا يرد عليها فباعتبار انه لا يلزم في هذه الصورة صيرورة العلم بالشيء مولّدا له ، فالعلم بالتشريع لا يولّد التشريع بل يولّد الحكم الفعلي ، وهو معقول ، اذ لا محذور في ان يكون العلم بالشيء مولّدا لشيء آخر غير ما تعلق به العلم ، فالعلم بوجود الاسد وان لم يكن مولّدا لوجود الاسد ولكن لا محذور في توليده لشيء آخر كالخوف والفرار.

واما ان الثاني لا يرد عليها فباعتبار ان غاية ما يلزم هو توقف العلم بالحكم الفعلي على العلم بالتشريع والحكم الانشائي وهو مما لا محذور فيه انما

ص: 320

المحذور في توقف العلم بالحكم الفعلي على العلم بالحكم الفعلي.

ومن هنا نعرف كيف نجيب لو سألنا سائل : ان تقييد الحكم بخصوص العالم اذا لم يكن ممكنا فكيف نفسر اخذ الشارع العلم بوجوب القصر في موضوع وجوب القصر ، وهكذا بالنسبة للجهر والاخفات؟ والجواب : ان بالامكان التوصل الى ذلك من خلال الصورة الثانية ، فيقول المولى هكذا : اذا علمت بتشريع القصر على المسافر ثبت عليك حينذاك الوجوب الفعلي للقصر.

ثم ان عبارة الكتاب تعرضت لمطلب آخر وهو انه لو رفضنا الصورة الثانية كما رفضنا الصورة الاولى وقلنا ان التقييد في كليتهما غير ممكن - كما هو رأي الميرزا حيث يرفض الصورة الثانية ايضا - فسوف نقع في حيرتين :

1 - لو اراد المولى تقييد وجوب القصر بخصوص العالم فكيف يمكنه التوصل الى ذلك بعد افتراض عدم امكان الصورة الثانية؟

2 - لو اراد المولى جعل الحكم مطلقا وعدم تخصيصه بالعالم فكيف يمكنه التوصل الى ذلك بناء على رأي الميرزا القائل بكون التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، فانه اذا استحال التقييد بخصوص العالم استحال الاطلاق ايضا؟

ان هاتين الحيرتين يقع فيهما مثل الميرزا ، ومرجعهما روحا الى حيرة واحدة حاصلها : لزوم كون الاحكام المشرعة مهملة فلا هي مقيدة ولا مطلقة ، فلو سألنا المولى وقلنا له ان الحكم الذي شرعته هل هو واقعا وفي مقام التشريع مطلق او مقيد فلا بدّ وان يجيب ليس هو مقيدا ولا مطلقا.

وان شئت قلت : لو فرض ان الميرزا اراد تشريع حكم لخادمه واراد جعله مقيدا بخصوص حالة العلم فما هو الطريق لذلك؟ ولو اراد جعله مطلقا فما هو

ص: 321

الطريق لذلك بعد وضوح ان الحكم واقعا وفي مقام التشريع لا يخلو من كونه مطلقا او مقيدا ولا يمكن ان يكون مهملا فان الاهمال لا يتصور في مقام الواقع والتشريع وانما يتصور في مقام الاثبات والدلالة فالدليل في مقام الدلالة قد يكون مهملا نظير « اقيموا الصلاة » فانه مهمل من حيث ان السورة جزء او لا واما بلحاظ الواقع فلا بدّ وان يكون اما مقيدا بجزئية السورة او مطلقا من ناحيتها.

وقد تشبث الميرزا لرفع هذه الحيرة بفكرة متمم الجعل (1) التي يرجع حاصلها الى ان المولى يصدر اولا حكما يقول فيه يجب القصر على المسافر ، وهذا الحكم ليس مختصا بالعالم ولا مطلقا له وللجاهل بل هو مهمل من هذه الناحية ، وبعد ذلك اذا اراد تخصيصه بخصوص العالم او تعميمه له وللجاهل امكنه لاجل التوصل الى التقييد او الاطلاق الاستعانة بجعل ثان وذلك باصدار خطاب آخر بلسان : المسافر يجب عليه القصر لو كان عالما بالخطاب الاول الصادر منذ البداية ، هذا لو اراد تقييد الحكم بالعالم ، ولو اراد اطلاقه اصدر خطابا آخر بلسان : المسافر يجب عليه القصر سواء كان عالما بالخطاب الاول ام لا. اذن الخطاب الاول مهمل وليس مقيدا ولا مطلقا وانما يثبت اطلاقه وتقييده بواسطة خطاب ثان مسمى بمتمم الجعل ، فمتمم الجعل هو الذي يثبت الاطلاق والتقييد دون الخطاب الاول.

وذكر الميرزا ايضا ان الخطاب الثاني المعبّر عنه بمتمم الجعل لا يثبت الاطلاق او التقييد في الجعل الاول بل يثبت نتيجة الاطلاق والتقييد فيه. والنكتة في ذلك ان الاطلاق والتقييد لم يحصلا في نفس الجعل الاول مباشرة بل حصلا

ص: 322


1- لهذه الفكرة جذور قبل الميرزا نجدها في كلمات غير واحد من الاعلام منهم الآخوند في مسألة التعبدي والتوصلي.

بواسطة الجعل الثاني ، فمن اجل هذا صح ان يقال ان الجعل الاول لا يثبت فيه الاطلاق والتقييد بل نتيجة ذلك. وههنا تساؤلان :

1 - هل محذور الدور يرتفع بفكرة متمم الجعل او لا؟ نعم يرتفع بذلك لان الدور انما يلزم فيما لو فرض ان المولى قال : ثبوت الجعل الاول موقوف على العلم بالجعل الاول ، لكنه لم يقل ذلك بل قال ان ثبوت الجعل الثاني موقوف على العلم بالجعل الاول ، ولا محذور في ذلك لان ثبوت الجعل الثاني وان توقف على العلم بالجعل الاول الا ان ثبوت الجعل الاول ليس موقوفا على العلم بالجعل الثاني ليلزم الدور.

2 - لماذا اطلق الميرزا على الخطاب الثاني عنوان متمم الجعل ولم يعبر عنه بالجعل المستقل؟ ان ذلك لاجل رجوع كلا الخطابين الى روح واحده وملاك واحد وان كانا من حيث الصورة خطابين ، فالخطاب الثاني ليست له روح مستقلة ولا ملاك مستقل ليعبّر عنه بالجعل المستقل ، ولاجل وحدة الروح كان التقييد والاطلاق الحاصل بواسطة الخطاب الثاني في حكم تقييد واطلاق الخطاب الاول. هذه حصيلة فكرة متمم الجعل.

ويمكن مناقشة ذلك بان الحكم الفعلي بوجوب القصر في الخطاب الثاني اذا كان مقيدا بالعلم بالخطاب الاول فنسأل بماذا هو مقيد؟ فهل هو مقيد بالعلم بتشريع الخطاب الاول او بالعلم بالحكم الفعلي في الخطاب الاول؟ وبكلمة اخرى : ان فعلية الخطاب الثاني المعبّر عنها بالمجعول اذا كانت مقيدة فهل هي مقيدة بالعلم بالجعل في الخطاب الاول او بالعلم بالمجعول في الخطاب الاول ، فان :

أ - اخذنا بالاحتمال الاول وقلنا بتقيّد الحكم الفعلي في الخطاب الثاني بالعلم

ص: 323

بالجعل في الخطاب الاول فهو وان كان معقولا ولكنه تطويل بلا طائل ، اذ تقييد الحكم الفعلي بوجوب القصر بالعلم بتشريع وجوب القصر يمكن الحصول عليه بلا توسيط فكرة متمم الجعل فيمكن اعمال هذا التقييد في نفس الخطاب الاول بلا حاجة الى خطاب ثان بان يقول المولى : متى ما علمت بتشريع وجوب القصر على المسافر صار عليك وجوب القصر فعليا ، اذ تقدم امكان تقييد الحكم الواحد بالعلم من دون لزوم محذور الدور وذلك بجعل مرتبة الفعلية منوطة بالعلم بالانشاء.

ب - وان اخذنا بالاحتمال الثاني وقلنا بان الحكم الفعلي في الخطاب الثاني مقيد بالعلم بالحكم الفعلي في الخطاب الاول فيرده : ان الاحتمال المذكور غير معقول في نفسه ، اذ مع تقيد الحكم الفعلي في الخطاب الثاني بالعلم بالحكم الفعلي في الخطاب الاول فنسأل متى يكون الحكم في الخطاب الاول فعليا؟ فهل هو فعلي في حق خصوص العالم به بحيث تكون فعلية الخطاب الاول مقيدة بالعلم بفعلية نفس الخطاب الاول ولازمه الدور كما هو واضح ، او هو فعلي في حق العالم والجاهل معا ولازمه عدم اهمال الخطاب الاول بل يكون مطلقا ، وهذا خلف ما ذكره الميرزا من اهمال الجعل الاول.

ثمرة البحث :

وقد يسأل عن ثمره بحثنا هذا؟ والجواب : انها تظهر بالشكل التالي :

1 - لو قلنا بامكان تقييد الاحكام بالعلم وامكان الاطلاق ايضا كما هو مختار السيد الشهيد - حيث ذكر ان تقييد الحكم بالعلم يمكن بواسطة تقييد المجعول بالعلم بالجعل بان يقول المولى اذا علمت بتشريع وجوب القصر صار

ص: 324

عليك فعليا ، فالتقييد ممكن كما وان الاطلاق ممكن بالاولوية - فمتى ما دل الدليل على حكم معين وشك في تقييده بالعالم واطلاقه فيمكن التمسك باطلاق الدليل لنفي احتمال تقيده بخصوص العالم كما هو الحال في بقية القيود الاخرى التي يشك في قيديتها للحكم كقيدية الايمان في الرقبة ، فكما لو شك في اعتبار قيدية الايمان امكن التمسك باطلاق الدليل لنفيها كذا يمكن التمسك بالاطلاق في المقام لنفي قيدية العلم.

2 - وان قلنا بان تقييد الحكم بالعلم مستحيل وانه متى ما استحال التقييد استحال الاطلاق - كما هو رأي الميرزا - فلا يمكن التمسك باطلاق الدليل لاثبات ان الحكم ثبوتا وواقعا مطلق وغير مقيد بالعلم لان الاطلاق الاثباتي انما يكشف عن الاطلاق الثبوتي فيما اذا كان الاطلاق الثبوتي ممكنا ، وحيث فرضنا استحالته - لاستحالة التقييد وكلما استحال التقييد استحال الاطلاق - فلا يمكن التمسك بالاطلاق الاثباتي في الدليل.

3 - وان قلنا بان تقييد الحكم مستحيل كما هو رأي الميرزا ولكن قلنا ان استحالة التقييد لا تستوجب استحالة الاطلاق بل يكون الاطلاق واجبا من جهة ان التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل النقيضين او الضدين اللذين لا ثالث لهما ، فلا يمكن ايضا التمسك باطلاق الدليل لاثبات اطلاق الحكم ، لان الاطلاق الاثباتي انما يتمسك به فيما اذا كان الاطلاق الثبوتي مشكوكا ومرددا ، فبالاطلاق الاثباتي يرفع الشك ويثبت الاطلاق ثبوتا ، اما اذا فرض ان الاطلاق الثبوتي كان حتميا وواجبا - كما هو المفروض على هذا الاحتمال فلا معنى للتمسك بالاطلاق الاثباتي لكون التمسك به تمسكا بالدليل لاثبات شيء معلوم الحصول ، اجل لو اردنا التمسك باطلاق الدليل فلا بدّ وان يكون لاثبات شيء آخر غير

ص: 325

اطلاق الحكم كأن يتمسك به لاثبات اطلاق ملاك الحكم فان اطلاق الحكم وان كان معلوما الا ان اطلاق الملاك وشموله للجاهل حيث انه مشكوك فيتمسك باطلاق الدليل لاثبات شمولية الملاك. وهذه المحاولة وان كانت معقولة الا انها مع ذلك باطلة لانه حينما يراد التمسك بطلاق الدليل لا ثبات اطلاق الملاك فنسأل : هل يجعل اطلاق الدليل كاشفا بالمباشرة عن اطلاق الحكم او يجعل اطلاق الدليل كاشفا في المرحلة الاولى عن اطلاق الحكم وبعد ثبوت اطلاق الحكم يجعل اطلاق الحكم كاشفا عن اطلاق الملاك؟ فان :

أ - جعلنا اطلاق الدليل كاشفا بالمباشرة عن اطلاق الملاك (1) فيرده : ان الدليل لا يدل بالمباشرة على الملاك ليتمسك باطلاقه لاثبات اطلاق الملاك ، وانما يدل بالمباشرة على الحكم وبعد دلالته على الحكم يدل على الملاك.

ب - وان جعلنا اطلاق الدليل كاشفا ابتداء عن اطلاق الحكم ثم نستعين باطلاق الحكم لاثبات اطلاق الملاك فيرده : ان اطلاق الدليل لو سلم كونه كاشفا عن اطلاق الحكم الا ان اطلاق الحكم لا يمكن ان يدل على اطلاق الملاك الا اذا كان تقييد الحكم ممكنا ولم يقيد ، فان اطلاقه حينئذ كاشف عن اطلاق الملاك ، اما بعد فرض استحالة تقييد الحكم فلا يكون اطلاقه كاشفا عن اطلاق الملاك ، وحيث ان المفروض في المقام استحالة تقييد الحكم بالعلم فلا يكون اطلاقه كاشفا عن اطلاق الملاك.

قوله ص 352 س 2 مضاد له : اي للحكم الذي تعلق به القطع.

قوله ص 352 س 10 وتحقيق الحال : كل ما سبق كان مذكورا في الحلقة الثانية ، والكلام الجديد في هذه الحلقة يبتدأ من هذه الجملة. وحاصل هذا

ص: 326


1- اخّر هذا الاحتمال في عبارة الكتاب ونحن قدمناه لكونه اوضح.

التحقيق : ان محذور الدور مقبول في خصوص العلم المصيب دون الاعم.

قوله ص 353 س 5 بالتقريب المذكور : اي المشار له ص 352 س 7 من الحلقة.

قوله ص 353 س 6 بوجوه : ذكر منها قدّس سره هنا وجهين.

قوله ص 353 س 15 بعلم زائد : اي بعلم ثان.

قوله ص 354 س 3 الا ان كل هذا ... الخ : هذا جواب الوجهين السابقين.

قوله ص 354 س 4 في موضوعه : اي في موضوع نفس الحكم المجعول.

قوله ص 354 س 12 الثبوتيين : واما الاثباتيان فالتقابل بينهما تقابل العدم والملكة على جميع الآراء كما تقدم في مبحث التقابل بين الاطلاق والتقييد. ثم ان الوجه في التقييد بالثبوتيين هو ان كلامنا في كون الحكم الصادر من المولى هل هو واقعا وفي مقام التشريع مقيد او مطلق وليس الكلام بلحاظ عالم الدلالة.

قوله ص 355 س 4 لا بها : الصواب : لا بهما ، اي لا بنفس الاطلاق والتقييد.

قوله ص 355 س 5 عن اطلاقه : اي اطلاق الجعل الاول.

قوله ص 355 س 13 ان اراد تقييد الحكم : اي تقييد الحكم الفعلي - المعبر عنه بالمجعول - في الجعل الثاني.

قوله ص 355 س 15 وان اراد تقييد الحكم : اي تقييد الحكم الفعلي في الجعل الثاني.

قوله ص 356 س 13 فلا يمكن ذلك : اي نفي احتمال قيدية العلم بالاطلاق.

قوله ص 356 س 14 كما يرى ذلك : اي انه اذا استحال التقييد كان الاطلاق ضروريا.

ص: 327

قوله ص 357 س 4 وهذا معلوم بالضرورة : اي ان اطلاق الحكم معلوم بالضرورة على هذا المبنى الثالث الذي يقول بان الاطلاق ضروري عند استحالة التقييد.

اخذ العلم بالحكم في موضوع ضده او مثله :

قوله ص 357 س 11 واما الافتراض الثاني ... الخ : تقدم في بداية البحث ان اخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم له اربع صور وهي :

1 - اخذ العلم بالحكم في موضوع نفس الحكم الذي تعلق به القطع.

2 - اخذ العلم بالحكم في موضوع ضده.

3 - اخذ العلم بالحكم في موضوع مثله.

4 - اخذ العلم بالحكم في موضوع حكم آخر مخالف.

والكلام الى الآن كان في الصورة الاولى واتضح ان التقييد فيها ممكن فيما اذا اخذ القطع بالحكم الانشائي - المعبر عنه بالجعل - في موضوع الحكم الفعلي المعبر عنه بالمجعول.

واما الصورة الرابعة فقد تقدم انها ممكنة جزما لوجاهة ان يقال ان قطعت بوجوب الجمعة وجب التصدق. وعلى هذا بقي ان نتحدث عن الصورة الثانية والثالثة.

اما الصورة الثانية - وهي اخذ القطع في موضوع حكم مضاد نظير قولنا ان قطعت بوجوب الجمعة حرمت عليك - فهي مستحيلة للزوم اجتماع الحكمين المتضادين فيها ، اذ عند القطع بالوجوب يكون الوجوب ثابتا لفرض القطع به كما ويكون التحريم ثابتا لفرض تحقق موضوعه ، ومع لزوم اجتماع المتضادين

ص: 328

يستحيل تصديق المكلف بثبوت التحريم عند القطع بالوجوب ، ومع استحالة تصديقه بثبوت مثل الحكم المذكور يكون تشريعه غير ممكن للغوية تشريع حكم لا يمكن تصديق المكلف به.

لا يقال : ان اجتماع المتضادين انما يلزم فيما اذا قطع المكلف بالوجوب وكان قطعه مصيبا للواقع - اي كان الوجوب ثابتا في الواقع - اما اذا كان القطع مخطئا فلا يلزم ذلك اذ مع خطأ القطع لا يكون الوجوب ثابتا واقعا ليلزم اجتماعه مع التحريم ، ويترتب على هذا ان هذه الصورة لا تكون باطلة دائما وفي جميع الحالات بل في خصوص ما ذا كان القطع مصيبا.

فانه يقال : انه في صورة خطأ القطع وان لم يلزم اجتماع المتضادين في عالم الواقع بيد انه يلزم اجتماعهما في نظر القاطع ، فان القاطع يرى ان قطعه مصيب دائما والا لم يكن قاطعا. وعليه فبنظر القاطع يلزم دائما محذور اجتماع المتضادين ، غاية الامر في حالة كون القطع مصيبا يلزم محذور آخر وهو اجتماعهما في الواقع ايضا. وعلى هذا يصح ان نقول : يلزم في حالة اصابة القطع اجتماع المتضادين في نظر القاطع والواقع معا ، وفي حالة الخطأ يلزم اجتماعهما في نظر القاطع فقط (1).

وبعد هذا تعرضت عبارة الكتاب الى مطلب آخر وهو : ان المولى اذا قال ان قطعت بوجوب الجمعة ثبت عليك التحريم فمعنى ذلك سلب الحجية عن القطع ، فان لسلب الحجية عن القطع اسلوبين :

أ - ان يقال بلسان صريح ان القطع بالوجوب ليس حجة.

ب - ان يشرع حالة القطع بالوجوب حكم مضاد للوجوب فيقال ان

ص: 329


1- وواضح ان اجتماع الضدين كما هو مستحيل واقعا كذلك هو مستحيل في نظر القاطع ، فلا يمكن لعاقل القطع بان هذه الورقة من الكتاب بيضاء وسوداء في وقت واحد فانه وان لم يلزم من قطعه هذا اجتماع الضدين حقيقة وواقعا ولكن مع ذلك هو مستحيل في نفسه.

قطعت بالوجوب ثبت التحريم ، ان معنى هذا سلب الحجية عن القطع والا فكيف اثبت التحريم ولم تعر اهمية للقطع.

اذن متى ما امكن - عند القطع بالوجوب - اثبات التحريم او اي حكم آخر مضاد فلازم ذلك امكان سلب الحجية عن القطع ، ومتى لم يمكن ذلك - كما هو الصحيح حيث قلنا ان اثبات التحريم عند القطع بالوجوب لازمه اجتماع المتضادين - فلازمه عدم امكان سلب الحجية عنه.

وبهذا اتضح انا لو سئلنا : لماذا لا يمكن سلب الحجية عن القطع اجبنا بان سلبها يتحقق باثبات حكم آخر مضاد وهو غير ممكن لان لازمه اجتماع المتضادين في نظر القاطع بل وفي الواقع على تقدير اصابة القطع. الصورة الثالثة (1) :

واما الصورة الثالثة - وهي اخذ القطع بالحكم في موضوع حكم آخر مماثل نظير ان قطعت بوجوب الجمعة ثبت عليك وجوب آخر - فقد يقال باستحالتها لمحذور اجتماع المتماثلين.

وقد يقال بان اجتماع الوجوبين ليس من اجتماع المثلين كي يكون مستحيلا ، اذ عند اجتماع الوجوبين يندك احدهما في الآخر ويصيران وجوبا واحدا اكيدا نظير اجتماع سواد ثان مع السواد الاول في مكان واحد فانه يتحول السواد الاول الى سواد أكيد ، وانما يستحيل اجتماع السوادين او الوجوبين فيما اذا بقي كل منهما على حده الخاص بحيث يعدان بعد الاجتماع سوادين ايضا ، اما اذا زال حدهما الخاص وعدا سوادا واحدا فلا يلزم اجتماع المثلين نظير ما اذا قال المولى اكرم عادلا واكرم فقيرا ، فانه اذا راى العبد شخصا يجمع الفقر والعدالة اجتمع

ص: 330


1- افراد هذه الصورة بعنوان مستقل لطول الفصل.

الوجوبان في حقه بدون ان يلزم محذور اجتماع المثلين لاندكاك احدهما في الآخر وتحولهما الى وجوب واحد اكيد.

والجواب : ان اندكاك احد الوجوبين في الآخر انما يعقل لو كانا عرضيين اي كان احدهما في عرض الآخر (1) كما في اكرم عادلا واكرم فقيرا ، فان وجوب اكرام العادل ليس في طول وجوب اكرام الفقير لعدم توقفه عليه ، كما ان وجوب اكرام الفقير ليس في طول وجوب اكرام العادل لعدم توقفه عليه فهما اذن وجوبان عرضيان لعدم توقف احدهما على الآخر ، وفي مثله يعقل الاندكاك والتحول الى وجوب واحد اكيد ، اما اذا كانا طوليين بمعنى توقف احدهما على الآخر فلا يكون التأكد والاندكاك معقولا (2) ، وحيث ان الوجوبين في المقام طوليان وليسا عرضيين - حيث ان الوجوب الثاني موقوف على حصول القطع بالوجوب الاول ، ولو لا حصول القطع بالوجوب الاول لم يتولد الوجوب الثاني - فلا يكون التأكد والتوحد معقولا.

قوله ص 357 س 12 يرى في ذلك : اي في اثبات التحريم عند القطع بالوجوب مثلا.

قوله ص 358 س 6 نفس المحذور المتقدم : اي يقال لا يمكن ان يصدق المكلف بثبوت الوجوب الثاني عند القطع بالوجوب الاول - لمحذور اجتماع المثلين - ومعه فيكون تشريع الحكم الثاني لغوا.

قوله ص 358 س 12 وترتب : عطف تفسير على « طولية ».

ص: 331


1- المقصود من العرضية عدم توقف احد الوجوبين على الآخر.
2- لان لازم التأكد والتوحد في الشيئين اللذين بينهما طولية وتوقف صيرورة الشيء الواحد متوقفا ومتوقفا عليه ، وبعتبير آخر صيرورة الشيء الواحد علة ومعلولا ، لان الشيء المتوقف عليه علة والشيء المتوقف معلول ، فاذا اتحدا صار الشىء الواحد علة ومعلولا.

قوله ص 358 س 13 كما في المثال : اي مثال اكرم الفقير واكرم العادل.

قوله ص 358 س 13 حيث ان احدهما ... الخ : اي حيث ان الوجوب الثاني متأخر رتبة عن الوجوب الاول لان الوجوب الثاني متوقف على حصول القطع بالوجوب الاول ... الخ.

ص: 332

الواجب التعبدي والتوصلي

اشارة

ص: 333

ص: 334

تقسيم الواجب وملاكه :

اشارة

قوله ص 359 س 1 لا شك في وجود واجبات ... الخ :

ذكر الاعلام ان الواجب ينقسم الى تعبدي وتوصلي. والوجه في ذلك ان الواجب تارة لا يسقط عن ذمة المكلف الا اذا اتي به بقصد القربة كالصلاة والصوم ونحوهما ، ويسمى مثل ذلك بالواجب التعبدي ، واخرى يسقط عن الذمة ولو لم يؤت به بقصد القربة كرد السلام وقطع المسافة للحج ، ويسمى مثل ذلك بالواجب التوصلي.

والفرق بهذا المقدار بين الواجب التوصلي والتعبدي مسلم وواضح وليس هو المنظور الاساسي في هذا البحث وانما المنظور الاساسي هو ان الفارق بينهما هل يكمن في عالم الجعل والوجوب او في عالم الغرض والملاك.

توضيح ذلك : ان الفرق بين الوجوبين تارة يجعل بلحاظ عالم الجعل بان يقال : ان المولى في عالم الجعل تارة يصب الوجوب على الفعل المقيد بقصد الامتثال فيقول مثلا تجب الصلاة المقيدة بقصد الامتثال ، واخرى يصبه على ذات الفعل فيقول مثلا يجب رد السلام دون ان يقيده بقصد الامتثال ، والاول هو الواجب التعبدي والثاني هو التوصلي. وبناء على هذا يكون الفارق بلحاظ عالم الجعل.

واخرى - وهو الرأي الثاني - يقال ان الوجوب لا يمكن ان ينصب على الفعل المقيد بقصد الامتثال لمحاذير تأتي الاشارة لها انشاء اللّه بل دائما ينصب على

ص: 335

ذات الفعل من دون فرق بين الواجب التوصلي والتعبدي ففي الصلاة مثلا يصب المولى الوجوب على ذات الفعل ويقول تجب الصلاة ولا يقول تجب الصلاة المقيدة بقصد الامتثال لاستحالة ذلك. هكذا يقول جماعة منهم الآخوند.

وقد تقول : اذا كان الوجوب في كلا القسمين منصبا على ذات الفعل فما هو الفارق بينهما اذن؟ والجواب : ان اصحاب هذا الرأي قالوا ان الفارق يكمن في الملاك والغرض ، بمعنى ان الغرض من الوجوب المتعلق بذات الفعل تارة يكون سنخ غرض لا يحصل الا مع الاتيان بالفعل بقصد الامتثال ، واخرى سنخ غرض يحصل ولو لم يؤت بالفعل بقصد الامتثال ، والاول هو التعبدي والثاني هو التوصلي.

وهذا الرأي - الذي اختاره الآخوند وجماعة والذي يجعل الفارق بلحاظ الملاك والغرض - تولد بسبب اعتقاد اصحابه بطلان الرأي الاول ، اي بسبب اعتقادهم استحالة كون الفارق بلحاظ عالم الجعل ، وهذه الاستحالة ان تمت تعين - كما اختاروه - جعل الفارق بلحاظ الغرض والملاك والا كان اللازم جعله بلحاظ عالم الجعل ومتعلق التكليف.

اما وجه استحالة اخذ قصد الامتثال في متعلق الامر فقد ذكرت له براهين متعددة نذكر منها :

البرهان الاول

ما ذكره الآخوند من لزوم صيرورة قصد الامتثال متقدما ومتأخرا في آن واحد ، وهو مستحيل كما هو واضح. والوجه في لزوم ذلك : ان قصد امتثال الامر ، متأخر عن وجود الامر ، اذ لا بدّ من وجود الامر اولا حتى يمكن فرض قصد امتثاله ، فانه من دون وجود الامر فاي شيء يقصد المكلف امتثاله ، واذا كان

ص: 336

قصد الامتثال متأخرا عن الامر وموقوفا عليه وفي طوله نقول : لو كان قصد امتثال الامر مأخوذا في متعلق الامر بحيث كان الامر منصبا على الفعل المقيد بقصد الامتثال لزم تقدم قصد الامتثال على وجود الأمر ، لان قصد الامتثال حينما يؤخذ في متعلق الامر يصير معروضا ومركزا للامر ، ومن الواضح ان معروض الشيء متقدم عليه ، فزيد اذا كان معروضا للقيام فلا بدّ من فرض تقدمه على القيام كي يعرض عليه.

وباختصار : ان قصد امتثال الامر بما انه يتوقف على وجود الامر فهو متأخر عن الامر ، فلو كان مأخوذا في متعلق الامر صار متقدما على الامر ، فيلزم صيرورة قصد الامتثال متقدما على الامر ومتأخرا عنه وهو مستحيل.

جواب البرهان الاول :

والجواب يتوقف على استعراض مقدمة نذكر فيها ثلاثة مطالب قرأناها فيما سبق وهي :

1 - قرأنا في الحلقة الاولى ص 157 وجود مصطلحين اصوليين هما : « الموضوع والمتعلق » ، ولاجل التعرف عليهما نذكر المثال التالي : لو فرض ان المولى قال يجب الحج على المستطيع كان الوجوب منصبا على شيئين هما الحج والمستطيع. ولو دققنا في الحج والاستطاعة لوجدنا فارقا بينهما وهو ان الاستطاعة لا يدعو الوجوب الى تحصيلها ولا يطلب منا السعي نحو ايجادها بل يقول متى حصلت صدفة واتفاقا وجب الحج ، وهذا بخلافه بالنسبة الى الحج ، فان الوجوب يدعو اليه ويطلب ايجاده ولا يقول لو فرض صدفة تحقق الحج وجب ، اذا اتضح هذا نقول : ان مثل الحج الذي يدعو الامر الى ايجاده يصطلح عليه بالمتعلق ، بينما مثل الاستطاعة يصطلح عليها بالموضوع ، فالمتعلق مصطلح يطلق

ص: 337

على ما يدعو التكليف الى ايجاده او تركه بينما الموضوع مصطلح يطلق على ما لا يدعو اليه التكليف بل يكون ثابتا على تقدير حصوله صدفة.

2 - قرأنا في الحلقة الاولى ايضا ص 156 ان للحكم مرحلتين : مرحلة الجعل ومرحلة المجعول ، فان كل حكم يمر بمرحلتين ، فاولا ينشؤه المولى ويشرعه بمثل لسان « ولله على الناس ... » ، وثانيا يصير فعليا وذلك عند تحقق الاستطاعة - الموضوع - خارجا ، فانشاؤه وتشريعه يسمى بالجعل ، واذا صار الحكم فعليا بسبب فعلية موضوعه سمي بالمجعول.

3 - اذا اراد المولى تشريع حكم كوجوب الحج على المستطيع فلا يمكنه ذلك الا اذا فرض وجود الحج ووجود الاستطاعة ، فان الوجوب عرض من الاعراض كالسواد والبياض والقيام ، فكما ان هذه تحتاج الى وجود محل مسبق لتطرأ عليه كذلك الحال في الوجوب ، فان المولى لا يمكنه تشريعه الا اذا كان محله منذ البدء ثابتا ، فان ثبوت الوجوب بلا محل امر مستحيل ، وهذا مطلب واضح ولا يحتاج الى زيادة بيان ، وانما الذي لا بدّ من الوقفة القصيرة عنده هو ان الحج والاستطاعة اللذين هما محل الوجوب هل لا بدّ من وجودهما - قبل تشريع الوجوب - بالوجود الخارجي او بالوجود التصوري؟ اي هل لا بدّ من فرض تحقق الحج والاستطاعة وبعد ذلك يشرع المولى الوجوب او ان اللازم تصور المولى لهما في ذهنه اولا ثم تشريع الوجوب بعد ذلك؟ والصحيح هو الاحتمال الثاني اي لا بدّ من تصورهما اولا ثم تشريع الوجوب فانه اذا تصور المولى الحج والاستطاعة وجّه الوجوب بعد ذلك الى الحج المشروط بالاستطاعة ، والاحتمال الاول باطل جزما ، اذ كيف يحتمل لا بدية وجود الحج اولا ثم صب الوجوب عليه!! انه غير محتمل ، اذ لازمه بقاء المولى منتظرا المكلف متى يأتي بالحج لكي

ص: 338

يصب عليه الوجوب واذا لم يأت به يكون الوجوب منتفيا. هذا اضافة الى لزوم عدم عصيان المكلف لو ترك الحج ، اذ قبل ان يأتي به لا وجوب لكي يكون عاصيا له ، اذن هذا الاحتمال باطل والامر بالعكس تماما ، فالوجوب لا بدّ من افتراضه اولا وبعد ذلك يوجد الحج خارجا ، فان المكلف انما يأتي بالحج لاجل استقرار الوجوب عليه اولا فتحقق الحج خارجا هو من نتائج وثمرات الوجوب ومن الامور المسببة عنه من دون ان يكون هو المحل له ، وانما المحل هو الحج بوجوده التصوري ، فالمولى اذا تصور الحج صب الوجوب عليه وبعد صبه عليه يقوم المكلف بايجاده خارجا.

والخلاصة : ان تشريع الوجوب وانشاءه يتوقف على تصور الحج والاستطاعة لا على وجودهما الخارجي ، اجل صيرورة الوجوب فعليا يتوقف على تحقق الاستطاعة - التي تسمى بالموضوع - خارجا ، فما لم تتحقق خارجا وتصير فعلية لا يصير الوجوب فعليا بل يبقى انشائيا.

ومن كل هذا البيان سنخرج بهذه النتيجة وهي ان الحكم على مستوى الجعل والانشاء يتوقف على تصور كل من الحج والاستطاعة اي على تصور كل من المتعلق والموضوع (1) ، واما على مستوى المجعول - اي على مستوى الحكم الفعلي - فهو يتوقف على تحقق الموضوع خارجا اي تحقق الاستطاعة ، ومن هنا قيل ان فعلية الحكم منوطة بفعلية موضوعة بخلاف تشريعه وجعله فانه منوط بتصور موضوعه ومتعلقه ، وبهذا تنتهي المقدمة بمطالبها الثلاثة.

وبعد هذا نعود الى الجواب وحاصله : ان البرهان على استحالة اخذ قصد الامتثال يرجع الى لزوم صيرورة قصد الامتثال متقدما ومتأخرا وهو باطل ،

ص: 339


1- فان الحج متعلق والاستطاعة موضوع على ما اتضح سابقا.

ولكنا نقول ليس هو باطلا ، اذ تأخر قصد الامتثال عن الامر وان كان امرا مسلما بيد ان المتأخر عن الامر هو قصد الامر بوجوده الخارجي اي ان المكلف لا يمكنه تحقيق قصد الامتثال في قلبه حقيقة الا اذا فرض وجود الامر اولا والا فاي شيء يقصد امتثاله ، اذن ما قيل في المقدمة الاولى من ان قصد الامتثال متأخر عن الامر يراد به ان قصد الامتثال بوجوده الخارجي متأخر عنه بينما المراد في المقدمة الثانية حينما قيل ان قصد الامتثال لو كان مأخوذا في المتعلق يلزم تقدمه على الامر هو لزوم تقدم قصد الامتثال بوجوده التصوري على الامر ولا يلزم تقدمه بوجوده الخارجي عليه اذ المتعلق للامر وان كان متقدما على الامر الا انه متقدم عليه بوجوده التصوري على ما اشرنا له في المطلب الثالث.

وبعد هذا تكون النتيجة هي ان قصد الامتثال متقدم بوجوده التصوري ومتأخر بوجود الخارجي وهذا لا محذور فيه وانما المحذور فيما لو كان بوجوده الخارجي متقدما ومتأخرا.

ثم ان منشأ الاشتباه في اعتقاد لزوم الدور هو عدم التمييز بين المتعلق والموضوع فتخيل ان المتعلق هو الموضوع ، فحينما يقال ان قصد الامتثال مأخوذ في متعلق الامر يتخيل ان المقصود اخذ قصد الامتثال في الموضوع ، وبناء عليه يلزم ان يكون قصد الامتثال بوجوده الخارجي متقدما على الامر ومتأخرا عنه ، اذ تحقق قصد الامتثال خارجا بما انه متوقف على وجود الامر فيكون متأخرا عنه فلو كان مأخوذا في المتعلق الذي هو الموضوع حسب تخيل صاحب هذا البرهان يلزم تقدمه لان الموضوع بوجوده الخارجي متقدم على الامر الفعلي ، ولكن بعد ان ميزنا بين المتعلق والموضوع بالشكل المتقدم وميزنا بين الجعل والمجعول وعرفنا اناطة الجعل بتصور كل من المتعلق والموضوع بخلاف المجعول فانه منوط

ص: 340

بتحقق الموضوع خارجا ، بعد ان عرفنا كل هذا فلا نقع في الاشتباه ، اذ قصد الامتثال وان كان متأخرا عن الامر ولكنه متأخر عنه بوجوده الخارجي ، فلو اخذ في متعلق الامر يلزم تقدمه ولكن بوجوده التصوري - اذ الجعل يتوقف على تصور المتعلق اولا - لا بوجوده الخارجي حتى يلزم الدور اذ الذي يلزم تقدمه بوجوده الخارجي هو الموضوع لا المتعلق.

البرهان الثاني

يمكن توضيح هذا البرهان ببيانين يرجعان الى روح واحدة :

أ - ان لازم تعلق الامر بالصلاة المقيدة بقصد الامتثال صيرورة الامر بالصلاة محركا نحو محركية نفسه ، اذ معنى قصد امتثال الامر هو محركية الامر نحو الفعل ، فقصد امتثال الامر بالصلاة معناه ان المحرك نحو الصلاة هو الامر بها ، وعلى هذا يمكننا ابدال جملة « قصد امتثال الامر بالصلاة » بجملة « محركية الامر بالصلاة نحو الصلاة ». وعلى ضوء هذا فلو قال المولى تجب الصلاة المقيدة بقصد الامتثال فمعناه ان الامر بالصلاة سوف يحرك نحو شيئين فهو يحرك نحو ذات الصلاة ويحرك نحو قصد الامتثال ، وبما ان قصد الامتثال معناه محركية الامر فسوف يكون الامر بالصلاة محركا نحو قصد امتثاله اي نحو محركية نفس الامر بالصلاة ، وهذا هو ما قلناه من لزوم صيرورة الامر بالصلاة محركا نحو محركية نفسه وهو غير معقول فان المعقول هو التحريك نحو الفعل لا نحو محركية وعليّة نفسه اذ الشيء اذا لم يقبل ان يكون علة لنفسه فبالاولى لا يقبل ان يكون علة لعليّة نفسه (1)

ب - ان قصد امتثال الامر (2) لا يمكن ان يتحقق الا اذا اتى المكلف بتمام

ص: 341


1- هذا البيان مذكور في كلمات الشيخ الاصفهاني في نهاية الدراية ج 1 ص 132.
2- هذا البيان مذكور في كلمات الاصوليين كوجه مستقل لا كبيان آخر.

متعلق الامر فانه اذا اتى بتمام المتعلق قاصدا امتثال الامر فحينذاك يصدق تحقق قصد الامتثال. وفي المقام نقول ان الامر لو كان متعلقا بالصلاة المقيدة بقصد الامتثال فالمتعلق للامر ما هو؟ فهل هو ذات الصلاة او هو الصلاة مع التقيد بقصد الامتثال؟ كلا ليس هو ذات الصلاة ، ومع عدم كونه ذات الصلاة فلا يمكن للمكلف ان يقصد الاتيان بذات الصلاة لاجل الامتثال اذ ذات الصلاة ليست متعلقا للامر حتى يقصد بها الامتثال بل لا بدّ وان يقصد الاتيان بالصلاة مع قصد الامتثال لاجل قصد الامتثال ، وهذا باطل ، اذ قصد الصلاة بهذا الشكل لا يحتمل فقيه لزومه مضافا الى ان لازمه تعلق قصد الامتثال بقصد الامتثال اي تعلق الشيء بنفسه ومحركية الشيء نحو نفسه.

ويمكن ان نوضح هذا البيان الثاني بعبارة اخرى (1) بان نقول : ان قصد امتثال الامر لا يمكن ان يتحقق الا بان يكون المأتي به مصداقا لمتعلق الامر ، ومن الواضح ان الامر اذا كان متعلقا بالصلاة المقيدة بقصد الامتثال فالمصداق للمتعلق ليس هو ذات الصلاة بل الصلاة بقصد الامتثال ، فاذا اراد المكلف الاتيان بهذا المصداق بقصد الامتثال فلازمه تعلق قصد الامتثال بقصد الامتثال وهذا معناه توقف الشيء على نفسه اي توقف قصد الامتثال على قصد الامتثال وهو مستحيل. هذا حاصل البرهان الثاني.

واجاب غير واحد من الاعلام عنه بان الامر اذا كان متعلقا بالصلاة المقيدة بقصد الامتثال فهذا معناه ان المتعلق مركب من جزئين هما : الصلاة وقصد الامتثال ، ومع كون المتعلق جزئين يلزم انحلال الامر المتعلق بهذا المركب الى امرين ضمنيين احدهما متعلق بالجزء الاول وهو الصلاة ، والآخر بالجزء الثاني

ص: 342


1- وليست هي بيانا ثالثا.

وهو قصد الامتثال ، واذا امكننا الحصول على هذين الامرين اندفع كلا البيانين.

اما البيان الاول - الذي كان يقول ان معنى قصد امتثال الامر محركية الامر ، فلو كان الامر متعلقا بالصلاة وبقصد الامتثال كان الامر محركا نحو قصد الامتثال وبالتالي محركا نحو محركية نفسه - فيمكن دفعه بان اي امر يكون محركا نحو محركية نفسه فهل الامر الاول يكون محركا نحو محركية نفسه او الامر الثاني يكون كذلك؟ وكلاهما باطل. اما الامر الاول فلأنه متعلق بذات الصلاة ولم يتعلق بقصد الامتثال حتى يكون محركا نحو محركية نفسه. واما الامر الثاني فلأنه وان كان متعلقا بقصد الامتثال الا انه متعلق بقصد امتثال الامر الاول وليس متعلقا بقصد امتثال امر نفسه ، ومعه فاقصى ما يلزم محركية الامر الثاني نحو محركية الامر الاول ، وهذا شيء معقول ، اذ محركية الامر نحو محركية غيره امر ممكن ، والذي لا يمكن هو تحريك الامر نحو محركية نفسه.

واما البيان الثاني - الذي يقول بان لازم اخذ قصد الامتثال في المتعلق توقف تحقق الامتثال على الاتيان بالصلاة المقيدة بقصد الامتثال بقصد الامتثال - فيرده : ان ذات الصلاة هي متعلق للامر الاول فيمكن الاتيان بها بقصد امتثال الامر الاول ولا يلزم الاتيان بالصلاة المقيدة بقصد الامتثال بقصد الامتثال حتى يلزم تعلق قصد الامتثال بقصد الامتثال (1).

البرهان الثالث

وتوضيح هذا البرهان (2) يتوقف على استعراض مقدمة تشتمل على

ص: 343


1- وقد تقول : انه بهذه الطريقة امكن امتثال الامر الاول ولكن لم يحصل امتثال الامر الثاني. والجواب : ان امتثال الامر الثاني حاصل ايضا حيث ان مقصود الامر الثاني هو حصول قصد الامتثال والمفروض حصوله بعد الاتيان بذات الصلاة بقصد امتثال الامر الاول.
2- وهو للميرزا على ما في اجود التقريرات ج 1 ص 108.

مطالب اربعة هي :

1 - قرأنا فيما سبق ان الشروط على قسمين فقسم منها يرجع الى نفس الوجوب وتسمى بشرائط الوجوب ، ومثالها الاستطاعة بالنسبة الى الحج ، فان وجوب الحج مشروط بها بحيث لا وجوب للحج قبلها ، وقسم من الشروط يرجع الى متعلق الوجوب - المعبر عنه بالواجب - وتسمى بشرائط الواجب او بالمقدمة الوجودية او بمقدمة الواجب ، كالوضوء للصلاة ، فان وجوب الصلاة ليس مشروطا بالوضوء بل هو ثابت سواء توضأ المكلف ام لا وانما هو شرط في متعلق الوجوب اي الصلاة ، فالوجوب منصب على الصلاة المقيدة بالوضوء.

2 - قرأنا ايضا ان شرائط الوجوب لا يجب على المكلف تحصيلها فالاستطاعة مثلا لا يجب تحصيلها ، اذ قبل تحققها لا وجوب للحج كي يدعو الى تحقيقها وبعد تحققها لا معنى لدعوة الوجوب الى تحقيقها للزوم محذور طلب تحصيله الحاصل ، هذا بالنسبة الى شرائط الوجوب ، واما شرائط الواجب فيلزم تحصيلها فالوضوء مثلا يجب تحصيله ، اذ وجوب الصلاة ليس مشروطا بالوضوء بل هو مطلق وثابت حتى قبل الوضوء ، ومع ثبوته يكون محركا نحو تحصيله.

3 - قرأنا ايضا ان الواجب اذا كان مقيدا بقيد غير اختياري فمن اللازم رجوع ذلك القيد الى الوجوب ايضا ، فصلاة الظهر مثلا - التي هي الواجب - مقيدة بالزوال ، وحيث ان الزوال قيد غير اختياري فمن اللازم رجوعه الى الوجوب ايضا ، فنفس صلاة الظهر مشروطة بالزوال ووجوبها مشروط به ايضا ، اذ لو لم يكن الوجوب مشروطا بالزوال لزم تعلق الوجوب بالصلاة المقيدة بالزوال وبالتالي يلزم تحريك الوجوب نحو تحصيل الصلاة والزوال ، وهو واضح البطلان ، اذ الزوال امر غير اختياري لا يمكن تعلق الوجوب به فلذا لا بدّ من

ص: 344

تقيد اصل الوجوب به كي لا يكون - الوجوب - ثابتا قبله بل ثابتا على تقدير حصول الزوال اتفاقا وصدفة.

4 - اوضحنا فيما سبق الفرق ين مصطلحي المتعلق والموضوع وقلنا : ان ما يدعو التكليف الى تحصيله يسمى بالمتعلق بينما الذي لا يدعو الى تحصيله يسمى بالموضوع ، فالحج يسمى بالمتعلق ، لان التكليف يدعو الى ايجاده بينما الاستطاعة والبلوغ والعقل تسمى بالموضوع لانه لا يدعو الى ايجادها بل هو يثبت متى ما حصلت صدفة واتفاقا. ويمكن ان نقول ان جميع شرائط الوجوب هي داخلة تحت مصطلح الموضوع لان الوجوب لا يدعو الى تحصيلها بل يثبت على تقدير حصولها صدفة. وعلى هذا فمن حقنا ابدال مصطلح الموضوع بمصطلح شرائط الوجوب (1).

وباتضاح هذا نعود الى البرهان ، وحاصله : ان قصد امتثال الامر مركب من جزئين هما :

أ - قصد الامتثال :

ب - وجود الامر ، فانه لا بدّ من وجود الامر كي يمكن تحقيق قصد الامتثال.

واذا كان قصد امتثال الامر مركبا من هذين الجزئين فيلزم من اخذ قصد الامتثال في متعلق الامر اخذ كلا الجزئين ، وحيث ان احد الجزئين هو وجود الامر فيلزم ان يكون المتعلق مقيدا بوجود الامر ، فالوجوب مثلا منصب على الصلاة المقيدة بقصد الامتثال ، والمقيدة ايضا بوجود الامر ، وحيث ان وجود

ص: 345


1- ولكن ليس المقصود من هذا ان مصطلح الموضوع منحصر بشرائط الوجوب ، فان له مصاديق اخرى غير ذلك بل المقصود انه في خصوص هذا الموضع يراد من الموضوع شرائط الوجوب.

الامر ليس اختياريا - لانه ليس من فعل المكلف بل من فعل الشارع - فمن اللازم ان يكون قيدا في اصل الوجوب طبقا لما ذكرناه في المطلب الثالث وبالتالي يلزم ان يكون الامر بالصلاة مشروطا بوجود الامر بالصلاة وهو واضح الاستحالة ، فان ثبوت الامر لا يكون مشروطا بوجود نفسه ، هذا حاصل البرهان الثالث.

ويرده : كما هو مذكور في كلمات السيد الخوئى دام ظلّه (1) - : ان القيد غير الاختياري المتقيد به الواجب وان كان من اللازم اخذه في الموضوع - اي اخذه شرطا لاصل الوجوب - الا ان النكتة التي تستدعي اخذه في الموضوع - وهي ان القيد غير الاختياري كالزوال مثلا اذا لم يؤخذ شرطا لاصل الوجوب يلزم تحصيله وهو غير ممكن لكونه غير اختياري - لا تتم في مقامنا ، اذ القيد غير الاختياري في المقام هو وجود الامر ، ومثل هذا القيد لا يلزم اخذه شرطا في اصل الامر ، اذ لو لم يؤخذ فيه لا يلزم محذور وجوب تحصيله لانه يحصل بمجرد انشاء الوجوب ، فبمجرد انشاء الوجوب يكون الامر حاصلا ، ومع حصوله لا معنى لوجوب تحصيله لانه من قبيل وجوب تحصيل الحاصل ، وهذا بخلاف ما لو كان القيد غير الاختياري مثل الزوال فانه لا يتحقق بمجرد الامر بالصلاة ، فلو لم يكن الامر بالصلاة مشروطا بالزوال يلزم تحقق الوجوب قبل الزوال وبالتالي يلزم تحصيل الزوال والحال انه غير اختياري.

مختار السيد الشهيد :

والسيد الشهيد قدس سره في عبارة الكتاب لم يوضح مختاره وانه من القائلين بالاستحالة او من القائلين بالامكان ولكنه في تقرير درسه الشريف ذكر عدة ادلة دقيقة على الاستحالة وتبنى القول بالاستحالة فراجع مباحث الدليل

ص: 346


1- راجع هامش اجود التقريرات ج 1 ص 106

اللفظي ج 2 ص 89 ولكنه بعد ذلك وفي ص 95 تراجع قائلا : ان الدقة الفلسفية ان كانت تقتضي الاستحالة بيد ان المولى العرفي الذي لم يدرس الفلسفة والاصول لا يعتقد بالاستحالة ويرى امكان التقييد ثبوتا ، والشارع المقدس وان كان دقيقا الا انه في مقام التشريع يتبع الطريق العرفي.

ثمرة البحث :

قوله ص 364 س 10 وثمره هذا البحث ... الخ : ورب سائل يسأل عن ثمرة بحث الفرق الاساسي بين الواجب التعبدي والتوصلي وانه بلحاظ عالم الجعل والوجوب او بلحاظ عالم الملاك.

وقد ذكر الاعلام مجالين للثمرة احدهما في مجال الاصل اللفظي وثانيهما في مجال الاصل العملي (1).

المجال الأول للثمرة :

اما الاصل اللفظي ففي توضيحه نقول : لو فرض ان المولى امر بواجب معين كرد السلام مثلا وشك في كونه توصليا لا يلزم فيه قصد القربة او تعبديا يلزم فيه ذلك فهل يمكن التمسك بمثل اطلاق قوله تعالى : ( « واذا حييتم بتحية فحيوا باحسن منها » ) لاثبات انه توصلي بتقريب انه لو كان تعبديا يلزم فيه قصد القربة فمن اللازم تقييده وحيث لم يقيد دل ذلك على انه توصلي؟ ان الثمرة تظهر في هذا المجال اي في مجال صحة التمسك بالاطلاق وعدمه فانه لو قلنا بان الفارق بين التعبدي والتوصلي هو ان ذاك قد اخذ في متعلق امره قصد الامتثال وهذا لم يؤخذ

ص: 347


1- المقصود من الاصل اللفظي هو مثل الاطلاق بينما المقصود من الاصل العملي هو مثل اصل البراءة.

فيه ذلك فالتمسك بالاطلاق وجيه ، واما اذا قلنا بان اخذ قصد الامتثال في متعلق الامر غير ممكن للبراهين السابقة وغيرها وان الفارق هو من حيث الملاك فالتعبدي يكون قصد الامتثال دخيلا في حصول ملاكه بخلاف التوصلي فانه لا يكون كذلك ، فبناء عليه لا يصح التمسك بالاطلاق لاثبات ان قصد الامتثال ليس دخيلا في الملاك ، ووجه ذلك : انه لا طريق للتعرف على حال الملاك الا متعلق الامر فان متعلق الامر اذا كان مطلقا كشف ذلك عن كون الملاك مطلقا وان قصد الامتثال غير دخيل فيه ، واذا كان مقيدا كشف ذلك عن كون الملاك مقيدا ، ولكن هذا الطريق في المقام غير ممكن اي لا يمكن التمسك باطلاق متعلق الامر لاستكشاف ان الملاك مطلق ولا يعتبر فيه قصد الامتثال حيث انه اما ان يكون المقصود من التمسك باطلاق متعلق الامر لاستكشاف اطلاق الملاك هو التمسك به بصورة مباشرة لاثبات اطلاق الملاك ، وهو واضح البطلان ، لان الامر ليس ناظرا ابتداء ومباشرة الى الملاك حتى يكون اطلاق متعلقه دالا على اطلاق الملاك ، او يكون المقصود التمسك به بصورة غير مباشرة بمعنى انه ابتداء يتمسك باطلاق الامر لاثبات اطلاق متعلقه ، فاذا ثبت اطلاق المتعلق جعل ذلك كاشفا عن اطلاق الملاك ، فاستكشاف اطلاق الملاك على هذا الاساس يتم عن طريق اطلاق متعلق الامر ، واطلاق متعلق الامر يثبت بواسطة اطلاق الدليل ، وهذا باطل ايضا فان اطلاق متعلق الامر انما يكشف عن اطلاق الملاك فيما اذا امكن تقييد متعلق الامر ولم يقيد بالفعل اما اذا لم يمكن تقييده للبراهين السابقة وغيرها حسب الفرض فاطلاقه لا يدل على اطلاق الملاك كما هو واضح. المجال الثاني للثمرة :

واما فيما يخص المجال الثاني للثمرة وهو مجال الاصل العملي فتوضيحه هو

ص: 348

انه لو فرض عدم امكان التمسك بالاطلاق اللفظي لسبب وآخر من قبيل عدم كون المولى في مقام البيان فالنوبة حينئذ تصل الى الاصل العملي - كما لو فرض ان قوله تعالى ( « واذا حييتم ... الخ » ) ليس في مقام البيان حتى يتمسك باطلاقه - والسؤال يقع عن الاصل العملي فهل يقتضي البراءة او الاشتغال؟ بناء على امكان اخذ قصد الامتثال في متعلق الوجوب يكون الشك في كون رد جواب السلام توصليا او تعبديا راجعا الى الشك في تعلق الوجوب بالأقل او الاكثر ، فان الوجوب اذا كان متعلقا بالرد من دون اضافة قصد الامتثال فهذا معناه التعلق بالاقل وان كان متعلقا بالرد مع قصد الامتثال فهذا معناه التعلق بالاكثر ، ومتى ما شك في متعلق التكليف وانه الاقل او الاكثر جرت البراءة عن تعلقه بالزائد فيقال ان تعلق الوجوب بالاقل اي باصل الرد متيقن وتعلقه بالزائد - وهو قصد الامتثال - مشكوك فتجري البراءة عنه. هذا لو قيل بامكان تعلق الوجوب بقصد الامتثال ، اما لو قيل بعدم امكانه وان قصد الامتثال ليس دخيلا في متعلق الوجوب بل هو دخيل في الملاك فلا تجري البراءة وانما يجري الاشتغال ، اذ تعلق الوجوب بقصد الامتثال ليس محتملا ومشكوكا حتى تجري البراءة عنه لفرض ان تعلق التكليف به مستحيل وانما يحتمل مدخليته في حصول الملاك. وبكلمة ثانية نحن نحتمل ان غرض المولى لا يحصل بمجرد الرد من دون قصد الامتثال فمع الرد من دون قصد الامتثال لا يتحقق الغرض وبالتالي يبقى الوجوب ولا يسقط ، وفي مثله يجري الاشتغال ويجب الاتيان بقصد الامتثال ، لان الشك ليس في تعلق الوجوب بقصد الامتثال لتجري البراءة عنه لما قد فرضنا من عدم امكان ذلك ، وانما الشك في سقوط الوجوب ، فالوجوب يعلم بتعلقه بالرد فقط ولكن يشك في سقوطه بدون ضم قصد الامتثال لاحتمال عدم حصول الغرض بمجرد الرد ،

ص: 349

والعقل في موارد الشك في سقوط التكليف يحكم بالاشتغال ، وان الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقينى وانما يحكم بالبراءة في موارد الشك في تعلق الوجوب.

وباختصار : بناء على امكان تعلق التكليف بقصد الامتثال يكون الاصل مقتضيا للبراءة عن وجوب قصد الامتثال بينما بناء على عدم الامكان يكون مقتضيا للاشتغال.

قوله ص 359 س 8 قيدا او جزء : القيد هو الشرط ، فان الوجوب تارة يكون متعلقا بالصلاة فقط فيكون قصد الامتثال حينئذ شرطا للمتعلق ، واخرى يكون متعلقا بالصلاة وبقصد الامتثال فيكون جزء.

قوله ص 360 س 11 والوجوب : عطف تفسير على « الامر ».

قوله ص 360 س 11 معرض : الصواب : معروض.

قوله ص 360 س 15 وتصور مفهومه : عطف تفسير على « عنوانه ».

قوله ص 361 س 1 دهن : الصواب : ذهن.

قوله ص 361 س 7 فقد عرفنا سابقا : اي في الحلقة الاولى ص 157.

قوله ص 361 س 11 بينما وجوده متفرع على الوجوب : اي والحال ان وجود قصد الامتثال متفرع على الوجوب.

قوله ص 362 س 8 فلا يمكن للمكلف ان يقصد الامتثال بذات الفعل : اي بل لا بدّ وان يقصد الامتثال بالفعل المقيد بقصد الامتثال ، وهذا مضافا الى انه لا يقول به فقيه يلزم منه تعلق قصد الامتثال بقصد الامتثال ، اي لازمه تعلق الشيء بنفسه ومحركية الشيء نحو محركية نفسه وهو باطل.

قوله ص 362 س 9 وان شئت قلت : هذا ليس بيانا ثالثا بل هو نفس البيان

ص: 350

الثاني بعبارة اخرى ولذا في مقام الجواب ذكر قدس سره جوابا عن البيان الاول والثاني دون الثالث.

قوله ص 363 س 9 فلا بدّ من اخذه قيدا في موضوع الوجوب : كما تقدم ذلك في هذه الحلقة ص 337 ، ويمكن ابدال تعبير « موضوع الوجوب » بتعبير « شرط الوجوب » ، اي لا بدّ من اخذه شرطا للوجوب ايضا.

قوله ص 363 س 11 في الحلقة السابقة : في ص 265.

قوله ص 363 س 11 وقد يعترض عليه : اي وقد يجاب عن هذا البرهان.

قوله ص 363 س 14 وهو يساوق التحريك نحو القيد : حيث ان المقيد عبارة عن مجموع ثلاثة اشياء : ذات المقيد والتقييد والقيد ، فالتحريك نحو المقيد تحريك الى مجموع هذه الثلاثة التي احدها القيد.

قوله ص 363 س 16 وفي هذه الحال : اي في حالة اخذ القيد في الموضوع ، وبتعبير ثان : في حالة اخذه شرطا في الوجوب لا يكون الوجوب محركا نحو القيد اذ المفروض حدوث الوجوب بعد حصول القيد بل يكون محركا نحو ذات المقيد - اي نحو الاتيان بالصلاة مثلا - ونحو التقييد ، اي نحو الاتيان بصلاة الظهر مثلا بعد الزوال وعدم تأخيرها الى ما بعد الغروب.

قوله ص 364 س 5 لانه موجود بنفس وجوده : اي بنفس وجود هذا الجعل.

قوله ص 365 س 8 وقد تذكر ثمرة اخرى : ولكنه قدّس سره لا يرتضيها ، ولذا عبر بقوله « وقد تذكر ... الخ » باعتبار ان الشك في سقوط الوجوب انما يجري فيه الاشتغال فيما اذا كان احتمال عدم السقوط ناشئا من ناحية احتمال يرجع الى العبد كما اذا احتمل المكلف انه لم يأت بالصلاة مثلا ، واما اذا كان احتمال عدم

ص: 351

السقوط ناشئا من امر يرجع الى المولى بحيث يكون عليه بيانه فهنا لا يحكم العقل بالاشتغال بل بالبراءة ، ومقامنا من القبيل الثاني حيث ان احتمال عدم سقوط الوجوب ناشيء من احتمال دخالة قصد الامتثال في الملاك ومثل هذا يجب على المولى بيانه ، اذ دخالة قصد الامتثال في الملاك وعدمها امر يرجع الى المولى وعليه بيانه ، وقد اشار قدّس سره لهذا المطلب في مباحث الدليل اللفظي ج 2 س 106.

قوله ص 365 س 9 وعدم الدليل : اي وعدم امكان التمسك بالاطلاق اللفظي من جهة عدم كون المولى في مقام البيان مثلا ، اذ مع امكان التمسك به لا تصل المرحلة الى الاصل العملي.

قوله ص 365 س 12 ومجرى لاصالة الاشتغال : عطف على كلمة « مجرى » السابقة قبل ثلاثة أسطر.

ص: 352

حقيقة الوجوب التخييري

اشارة

ص: 353

ص: 354

التخيير في الواجب :

اشارة

قوله ص 366 س 1 التخيير تارة يكون عقليا ... الخ :

نعرف ان الواجب ينقسم الى : تعييني وتخييري ، والتعييني هو مثل وجوب الصلاة حيث ان الوجوب متعلق بخصوص الصلاة وليس لها بديل ، والتخييري هو مثل كفارة شهر رمضان فانها مخيرة بين الاطعام والصوم والعتق ، وهذا شيء واضح. والذي نريد ان نقوله هنا هو ان الاصوليين قسموا الواجب التخييري الى قسمين : واجب مخيّر بالتخيير الشرعي وواجب مخيّر بالتخيير العقلي. والفرق بين القسمين هو ان المولى تارة يفرض تصديه بنفسه للتخيير وذكر البدائل مقرونة بكلمة « اما وأو » كأن يقول : ان افطرت فاما ان تطعم او تصوم او تعتق ، ومثل هذا التخيير شرعي ، واخرى لا يتصدى بنفسه لذلك بل يتصدى فقط لتوجيه الحكم الى الشيء الكلي ، كما لو قال : ان افطرت فاطعم ستين فقيرا بدون تشخيص الفقراء ولا نوعية الطعام ، فان التكليف هنا متوجه الى كلي الفقراء وكلي الطعام من دون تصد لتعيين المصاديق ، وفي مثله يحكم العقل بالتخيير بين افراد الطعام وافراد الفقراء ويقول ما دام المولى لم يشخّص الافراد فانت مخير بين اطعام هذه المجموعة من الستين او تلك ، وهكذا يقول بالنسبة الى الطعام. ان مثل هذا التخيير يسمى بالتخيير العقلي لحكومة العقل بالتخيير بين الافراد دون الشارع بخلافه في التخيير الشرعي فان الحاكم به هو الشارع.

ولم يقع بين الاصوليين اختلاف في حدود هذا المقدار من الفرق وانما وقع

ص: 355

الاختلاف بينهم في الفرق بين حقيقة التخيير الشرعي وحقيقة التخيير العقلي ، فهل حقيقة الوجوبين واحدة والفارق بينهما لا يعدو المقدار الذي ذكرناه او ان هناك فارقا بين الحقيقتين اضافة الى الفارق المتقدم. وفي هذا المجال وجدت عدة اتجاهات نذكر منها ثلاثة هي :

1 - ان حقيقة الوجوب في التخييرين مختلفة ، فحقيقة الوجوب في التخيير العقلي تغاير حقيقة الوجوب في التخيير الشرعي ، فانه في التخيير العقلي يكون الوجوب واحدا لا متعددا ويكون متعلقا بالجامع فحينما يقال : اطعم ستين فقيرا يكون الوجوب واحدا ومتعلقا بكلي اطعام الستين لا باطعام هذه الستين او تلك ، واما في التخيير الشرعي فالوجوب متعدد بعدد البدائل ويكون تعلقه بكل واحد مشروطا بعدم الاتيان بالباقي ، فحينما يقال مثلا ان افطرت فاطعم او صم او اعتق فالبدائل ثلاثة ، وبعددها يتعدد الوجوب بنحو مشروط ، فالاطعام واجب مشروطا بعدم الاتيان بالصوم والعتق ، وهكذا العتق واجب بشرط عدم الاتيان بعدليه.

ويرده : ما تقدم في الحلقة السابقة من ان لهذا الاتجاه لوازم لا يمكن الالتزام بها من جملتها تعدد العقاب ، فان التخيير الشرعي اذا كان يرجع الى وجوبات متعددة مشروطة فلازمه استحقاق المكلف عند تركه لجميع البدائل لثلاث عقوبات لان وجوب العتق فعلي باعتبار انه مشروط بترك عدليه والمفروض تحقق الشرط فيلزم صيرورة المشروط - الوجوب - فعليا وبما انه لم يمتثل فيلزم استحقاق العقاب على مخالفته ، وهكذا الحال بالنسبة الى وجوب الاطعام والصيام فهو فعلي لنفس النكتة ، ومن الواضح ان تعدد استحقاق العقوبة مما لا يلتزم به فقيه.

ص: 356

2 - ان حقيقة الوجوب في كلا التخييرين واحدة ، فالوجوب في التخيير العقلي واحد ومتعلق بالكلي الجامع ، وهكذا الحال في التخيير الشرعي ، فان الوجوب فيه واحد متعلق بالجامع ، فحينما يقال ان افطرت فصم او اطعم او اعتق يكون الوجوب واحدا متعلقا بالجامع وهو عنوان « احدها » وكأنه قيل ان افطرت وجب عليك احد الامور الثلاثة.

وقد تسأل عن نكتة جعل الوجوب في التخيير الشرعي واحدا متعلقا بالجامع والحال ان ظاهر الدليل تعدد الوجوب بعدد الافراد. ان نكتة ذلك احد امرين هما :

أ - نفس النكتة التي ذكرت في الاتجاه الاول ، فانه في الاتجاه الاول ذكر ان الالتزام بالوجوبات المتعددة المشروطة يلزم منه تعدد العقاب الذي لا يلتزم به فقيه ، وهذه النكتة بنفسها تقتضي في هذا الاتجاه القول بان التخيير الشرعي يرجع الى وجوب واحد متعلق بالكلي الجامع ولا يرجع الى وجوبات مشروطة بعدد الافراد.

ب - التمسك بقاعدة « الواحد لا يصدر الا من واحد » فيقال ان الغرض في التخيير الشرعي واحد وليس متعددا ، ففي قول المولى ان افطرت فصم او اطعم او اعتق يكون الغرض واحدا ، اذ لو كان متعددا بان كان للصوم غرض ومصلحة مستقلة وهكذا لعدليه لزم ان يوجه المولى الوجوب لجميعها بان يقول يجب تحصيل العتق والصوم والاطعام جميعا لفرض تواجد المصلحة المستقلة في كل واحد ، اذن الغرض واحد ولكنه يحصل باي واحد من الافراد الثلاثة ، وما دام واحدا لزم ان يكون المؤثر والموجد له واحدا وهو الجامع بين الافراد الثلاثة لا كل واحد من الثلاثة لئلا يلزم صدور الغرض الواحد من الافراد الكثيرة الذي

ص: 357

هو مستحيل ، وما دام الموجد للغرض الواحد هو الجامع يلزم تعلق الوجوب به لا بالافراد لعدم كونها موجدة للغرض.

3 - ان حقيقة الوجوب في كلا التخييرين واحدة - كما يقوله الاتجاه الثاني - فالوجوب واحد ومتعلق بالجامع دون الافراد غاية الامر ان هذا الاتجاه يقول بان الوجوب الواحد المتعلق بالجامع يسري الى الافراد فيتعلق الوجوب بكل واحد من الافراد بنحو مشروط ، وهذا بلا فرق بين كون التخيير عقليا او شرعيا بينما اصحاب الاتجاه الثاني لم يقولوا بهذه السراية بل بوقوف الوجوب على الجامع (1).

ان قلت : ان هذا الاتجاه اذا كان يقول بسراية الوجوب الى الافراد فلازمه تعدد العقاب عند ترك جميع الافراد الثلاثة ، وهذا ما لا يمكن الالتزام به.

قلت : ان هذه الوجوبات الثلاثة ما دامت ترجع في حقيقتها وروحها الى ذلك الوجوب الواحد المتعلق بالجامع فلا يلزم من عصيانها الا استحقاق عقوبة واحدة.

ثم انه تقدم عدم سراية الوجوب على الاتجاه الثاني من الجامع الى الافراد بل يبقى واقفا على الجامع ، ومعه يكون معروض الوجوب ومركزه هو الجامع دون الافراد ، اذ الافراد لم يسر اليها الوجوب حتى تكون معروضة له وانما هي

ص: 358


1- من خلال هذا يتضح ان بين الاتجاه الثاني والثالث نقطة اشتراك ونقطة اختلاف. اما نقطة الاشتراك فهي ان كلا الاتجاهين يقول بان الوجوب في كلا التخييرين متعلق بالجامر. ونقطة الاختلاف هي ان الاتجاه الثاني لا يقول بسراية الوجوب من الجامع الى الافراد بينما الاتجاه الثالث يقول بذلك. وعلى ضوء هذا الاختلاف يمكن ان نذكر نقطة اختلاف اخرى وهي ان الاتجاه الثاني ارجع التخيير الشرعي الى العقلي بينما الاتجاه الثالث عكس الامر وارجع التخيير العقلي الى الشرعي حيث جعل الوجوب المتعلق بالجامع ساريا الى الافراد بنحو مشروط.

مصداق لمعروض الوجوب كما هو الحال في زيد وعمرو وبكر فانهم ليسوا معروضا للنوعية ، بل معروضها هو الانسان فالانسان نوع دون زيد وعمرو وبكر وانما هم مصاديق للانسان الذي هو معروض النوعية وليسوا بانفسهم المعروض لها.

ثم تعرض قدس سره بعد ذلك الى اشكال ودفع. اما الاشكال فحاصله : ان اصحاب الاتجاه الثالث يقولون بسراية الوجوب من الجامع الى الافراد ، وهذه السراية غير معقولة لان الوجوب اذا وجه الى الجامع فكيف يسري الى الافراد؟ ان هذه السراية اما ان تحصل بنحو اتوماتيكي ومن دون ان يسرّي الشارع الوجوب من الجامع الى الافراد او تحصل من نفس الشارع بان يقوم هو بتسرية الوجوب من الجامع الى الافراد ، وكلا الاحتمالين باطل.

اما الاول فلأن الشارع اذا وجّه الوجوب الى الجامع فلا يمكن ان ينتقل الى غير محله ويتحرك عنه بلا محرك.

واما الثاني فلأن الشارع اذا وجّه الوجوب الى الجامع يكون توجيهه ثانية الى الافراد لغوا ، فانه لا معنى لوجوب الجامع والافراد معا بل لا بدّ اما من وجوب الجامع فقط او وجوب الافراد فقط ، هذا بالنسبة الى الاشكال.

واما بالنسبة الى الدفع فيمكن اختيار الشق الاول والقول بان الوجوب يسري بنفسه من الجامع الى الافراد من دون تسرية من الشارع بتقريب : ان الذي يسري ليس هو الوجوب نفسه حتى يقال كيف يسري بنفسه وانما الذي يسري هو الشوق والحب فالشوق المتعلق بالجامع يسري الى افراده سريانا مشروطا. وهذا وان لم يمكن اقامة البرهان عليه الا انه وجداني فالوجدان قاض بان كل من احب شيئا كليا فقد احب افراده حبا مشروطا ، فمن احب شراء دار لها

ص: 359

افراد متعددة يشعر بالوجدان بحبه لشراء الدار الاولى ان لم يتمكن من شراء بقية الدور ويحب شراء الثانية ان لم يتمكن من شراء غيرها وهكذا. اذن المدعى سريانه هو الحب والشوق دون نفس الوجوب ، ومحذور اللغوية غير لازم ، فان اللغوية تلزم لو فرض ان الساري هو الوجوب نفسه وكانت التسرية بفعل الشارع اما اذا فرض ان الساري هو الحب والشوق - المعبّر عنهما بالمبادىء التكوينية للوجوب - فلا يلزم ذلك.

ثمرة الاختلاف في حقيقة التخيير

قد تسأل عن ثمرة الاختلاف بين الاتجاهات الثلاثة السابقة ، فهل النزاع علمي فقط او له ثمرة عملية؟ يمكن ان نذكر لذلك ثمرتين :

1 - سيأتي في مبحث اجتماع الامر والنهي ص 398 من الحلقة ان بامكان المولى صبّ الوجوب على الكلي وتوجيه النهي في نفس الوقت الى بعض حصصه كأن يقول تجب الصلاة ولا تصل في الحمام ، ان الوجوب متوجه الى طبيعي الصلاة والنهي الى حصة خاصة وهي الصلاة في الحمام ، ربما يقال ان هذا غير ممكن ، لان الوجوب اذا توجه الى طبيعي الصلاة فلازمه وجوب جميع حصصه التي احدها الصلاة في الحمام ، وحيث انها منهي عنها فيلزم اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد.

ان تحقيق حال هذه المسألة يرتبط بهذه الاتجاهات فان بني على ان الوجوب التخييري يسري (1) من الجامع الى الافراد فالمثال المذكور لا يكون ممكنا لان الوجوب المتوجه الى جامع الصلاة يسري الى جميع الافراد التي منها الصلاة في الحمام وحيث انها منهي عنها فيلزم اجتماع الامر والنهي في شيء

ص: 360


1- بمعنى سراية الحب ، والمقصود من اجتماع الامر والنهي اجتماع الحب والبغض.

واحد ، واما اذا بني على ان الوجوب يبقى على الجامع ولا يسري الى الافراد فالمثال المذكور ممكن ، اذ لا يلزم اجتماع الامر والنهي في شيء واحد بل يكون الوجوب مستقرا على طبيعي الصلاة والنهي على الحصة.

2 - لو وجب شيء معين وشك في كونه واجبا معينا او مخيرا كما لو قال المولى ان افطرت وجب عليك صوم شهرين وشك في كون الصوم واجبا معينا لا يجزي عتق الرقبة بدله او مخيرا بينه وبين العتق ، ونفترض ان الاطلاق لم يمكن لسبب وآخر التمسك به لاثبات كون الصوم واجبا معينا ففي مثله ان بني على الاتجاه الثاني القائل بان مرجع التخيير الى تعلق الوجوب بالجامع من دون سراية الى الافراد يكون الشك في المثال المذكور راجعا الى الشك في ان الواجب هو الجامع او خصوص الصوم ، وبتعبير ثان يكون الشك راجعا الى الشك في التخيير والتعيين ، فانه اذا كان الواجب خصوص الصوم فلازمه التعيين واذا كان هو الجامع فلازمه التخيير بين الصوم والعتق ، ومتى ما كان الامر دائرا بين التعيين والتخيير فقد ذكر بعض الاعلام (1) ان البراءة تجري عن خصوصية التعيين ولازمه جواز الاكتفاء بالعتق بينما اختار بعض آخر جريان الاشتغال وتعين خصوص الصوم.

واما على الاتجاه الاول القائل بان مرجع التخيير الى الوجوبات المشروطة فالاصل يقتضي البراءة من دون اختلاف فان الصوم اذا كان واجبا مخيرا فلازمه - بناء على رجوع التخيير الى وجوبات مشروطة - اشتراط وجوب الصوم بعدم العتق ، فعند العتق لا يكون وجوب الصوم ثابتا ، هذا لو كان الصوم واجبا مخيرا ، واذا كان معينا فلازمه كون وجوب الصوم مطلقا وغير مشروط بعدم العتق. اذن

ص: 361


1- على ما يأتي في الجزء الثاني من هذه الحلقة انشاء اللّه.

على الاتجاه الاول يرجع الشك الى الشك في كون الصوم هل هو واجب مشروط بعدم العتق او مطلق وبالتالي لو اتينا بالعتق فسوف نشك في ثبوت الوجوب للصوم - اذ نحتمل ان يكون وجوب الصوم مشروطا بعدم العتق - وعند الشك في ثبوت التكليف يرجع الى البراءة بلا خلاف بين الاعلام.

ولاستيضاح المطلب اكثر نقول : ان الشك في وجوب الصوم يتولد في حالة ما اذا اتي بما يحتمل كونه بديلا وهو العتق فعند الاتيان بالعتق يحصل الشك في وجوب الصوم ، وفي هذه الحالة تجري البراءة عن وجوبه ، واما في حالة عدم الاتيان بالعتق فلنا جزم بوجوب الصوم ولا شك فيه لتجري البراءة عنه فوجوب الصوم معلوم على احد تقديرين ومشكوك على تقدير ثان فهو معلوم على تقدير عدم الاتيان بالعتق ومشكوك على تقدير الاتيان به ، ونحن نريد ان نجري البراءة حالة الاتيان بالعتق ولا نريد اجراءها حالة عدم الاتيان به.

وخلاصة القول في بيان هذه الثمرة : انه على الاتجاه الثاني تجري البراءة على رأي بعض الاعلام والاشتغال على رأي بعض آخر ، بينما على الاتجاه الاول تجري البراءة من دون اختلاف (1).

قوله ص 367 س 12 ليس من ناحيتها الاعقاب واحد في فرض ترك الجميع : قد يقال بان رجوع الوجوبات المشروطة المتعددة الى وجوب واحد ان كان يدفع اشكال تعدد العقاب فلماذا لا يذكر نفس هذا في الدفاع في حق الاتجاه الاول ، فانه قد اورد على الاتجاه الاول بان لازمه تعدد العقاب فلماذا لا يدفع هذا المحذور ويقال بان الوجوبات المشروطة المتعددة حيث انها ترجع الى وجوب

ص: 362


1- نؤكد على ان البراءة المراد اجراؤها هي البراءة عن وجوب الصوم حالة العتق لا البراءة عنه حالة عدمه ، كما ونؤكد ان حصيلة الثمرة ترجع الى انه على الاتجاه الاول يكون اجراء البراءة حتميا وبلا خلاف بينما على الاتجاه الثاني يوجد اختلاف.

واحد فلا يلزم عند مخالفتها تعدد العقاب.

والجواب : انه فرض على الاتجاه الثالث كون الوجوب الصادر من الشارع واحدا وهو الوجوب المتعلق بالجامع بيد ان هذا الوجوب الواحد المنصب على الجامع يسري الى الافراد ، ومعه فيكون القول برجوع الوجوبات المشروطة المتعددة الى الوجوب الواحد المتعلق بالجامع وجيها ، واما على الاتجاه الاول فلم يفرض كون الوجوب الصادر من الشارع واحدا متعلقا بالجامع بل فرض العكس حيث فرض ان الصادر ابتداء متعدد ومتعلق بالافراد تعلقا مشروطا من دون ان يكون في البداية واحدا متعلقا بالجامع حتى يقال برجوع الوجوبات المشروطة المتعددة المتعلقة بالافراد الى ذلك الوجوب الواحد المتعلق بالجامع.

قوله ص 367 س 14 بالنحو المذكور : اي سريانا مشروطا.

قوله ص 367 س 15 وعليه : اي على الاتجاه الثاني.

قوله ص 368 س 9 بلا موجب : اي بعد جعل الوجوب على الجامع.

قوله ص 368 س 13 لأن الكلام هنا : اي في هذا الافتراض الذي نتكلم فيه حيث افترضنا ان السراية الحاصلة ثابتة في مرحلة الشوق والارادة دون مرحلة نفس الوجوب والحكم.

قوله ص 368 س 14 عن المبادىء التكوينية : وهي الشوق والارادة.

قوله ص 368 س 14 وهذه الملازمة : اي الملازمة بين حب الجامع والشوق اليه وبين الشوق الى افراده شوقا مشروطا.

قوله ص 369 س 8 اي في ثبوته : اي ان الشك في اطلاق الوجوب واشتراطه معناه بعبارة اخرى هو الشك في ثبوت وجوب الصوم عند الاتيان بالعتق الذي يحتمل كونه بديلا عن الصوم.

ص: 363

قوله ص 369 س 9 وهذا شك في الوجوب الزائد : اذ وجوب الصوم حالة عدم الاتيان بالعتق معلوم وليس مشكوكا ، واما عند الاتيان به فيحصل الشك في وجوب الصوم وهو شك في وجوب زائد على الوجوب المتيقن حالة عدم العتق.

ص: 364

الوجوب الغيري لمقدمات الواجب

اشارة

ص: 365

ص: 366

الوجوب الغيري لمقدمات الواجب :

اشارة

قوله ص 370 س 1 اتضح مما تقدم ... الخ :

هذا هو المبحث المعروف بأن « مقدمة الواجب واجبة او لا » او « ان ما لا يتم الواجب الا به (1) واجب او لا » ويمكن فهرسة مطالب هذا المبحث ضمن خمس نقاط :

1 - تقدم ص 336 من الحلقة ان الواجب اذا كان له مقدمة يتوقف وجوده عليها - كالسفر بالنسبة الى الحج - فتحصيلها واجب ، لان وجوب الحج يحرك نحو متعلقه - وهو الحج - وبالتبع يحرك نحو السفر ايضا لعدم تحقق الحج الا بالسفر ، فالتحريك نحو الحج تحريك نحو السفر.

2 - لرب قائل يقول ان بحث الاصوليين عن وجوب مقدمة الواجب بحث غير وجيه ، اذ من الواضح لدى الجميع ان الحج اذا كان واجبا فمقدمته وهي السفر يلزم الاتيان بها ولا يسوغ تركها ، اذ بتركها لا يتحقق الحج والمفروض وجوبه.

والجواب : ان الاصوليين يسلمون بان مقدمة الواجب واجبة عقلا بمعنى ان السفر لا بدّ من الاتيان به عقلا لتوقف امتثال وجوب الحج عليه ، فالوجوب العقلي الذي هو بمعنى اللابدية العقلية لم يقع فيه اختلاف بين الاصوليين وانما

ص: 367


1- « وما لا يتم الواجب الا به » عبارة اخرى عن المقدمة ، حيث ان ذا المقدمة لا يتم ولا يوجد الا بالمقدمة.

الاختلاف وقع في ان مقدمة الواجب التي هي واجبة عقلا هل هي واجبة شرعا ايضا او لا ، فالنزاع انما هو في الوجوب الشرعي دون الوجوب العقلي بمعنى اللابدية.

3 - المشهور بين الاصوليين ثبوت الوجوب الشرعي للمقدمة اي ان مقدمة الواجب واجبة شرعا غير ان وجوبها وجوب تبعي ، وفي المقصود من الوجوب التبعي احتمالان :

أ - ان الوجوب النفسي المتعلق بالحج يولد الوجوب الغيري المتعلق بالسفر ، فوجوب السفر حيث انه متولد ومعلول لوجوب الحج يسمى بالتبعي.

ب - ان الشارع حينما يشرع وجوب الحج لا بدّ من وجود ملاك ومصلحة تقتضي الوجوب ، وهذا الملاك سبب لنشوء وجوبين احدهما الوجوب النفسي للحج وثانيهما الوجوب الغيري للسفر ، بيد ان هذا الملاك لما كان اولا وبالذات يقتضي وجوب الحج وثانيا وبالتبع يقتضي وجوب السفر سمي وجوب السفر بالتبعي حيث ان الملاك يستتبعه ثانيا وبالتبع.

4 - عرّف الواجب الغيري بتعريفين فتارة قيل بانه الواجب الذي وجب لاجل غيره واخرى بأنه ما وجب لاجل واجب آخر (1) ، فالسفر مثلا واجب لاجل غيره وهو الحج كما ويصدق عليه انه وجب لاجل واجب آخر ، هذا بالنسبة الى الواجب الغيري ، واما الواجب النفسي فهو ما وجب لا لأجل الغير ولا لأجل واجب آخر.

5 - اشكل على التعريف المتقدم بان لازمه صيرورة جميع الواجبات النفسية غيرية ، فالصلاة مثلا تصبح واجبا غيريا ، لان تشريع الوجوب لها لا بدّ

ص: 368


1- والفارق بين التعريفين يتضح فيما بعد انشاء اللّه تعالى.

وان يكون لاجل مصلحة تترتب عليها والا كان لغوا ، وبما ان الصلاة شيء مغاير للمصلحة وليس نفسها فيصدق على الصلاة انها وجبت لاجل شيء آخر وهو المصلحة. وهكذا بالنسبة الى الحج والصوم و ... ، ولا يبقى مصداق للواجب النفسي سوى الايمان باللّه سبحانه ، فانه لم يجب لاجل مصلحة مترتبة عليه ، اذ هو بنفسه وبذاته محبوب وذو مصلحة لا انه شيء تترتب عليه المصلحة بعد حصوله بحيث تكون المصلحة مغايرة له بل مصلحته ذاتية له (1).

واجيب عن هذا الاشكال بان الصلاة مثلا وان وجبت لاجل المصلحة المترتبة عليها الا ان المصلحة ليست واجبة ، واذا لم تكن واجبة فلا يصدق على الصلاة انها وجبت لاجل واجب آخر ، اجل يصدق عليها انها وجبت لشيء آخر ولا يصدق انها وجبت لاجل واجب آخر (2) ، ونحن نختار ان الواجب الغيري هو ما وجب لاجل واجب آخر.

وقد يعترض بان المصلحة كيف لا تكون واجبة التحصيل والحال ان الصلاة وجبت لاجلها؟ ان ثبوت الوجوب للصلاة مع عدم ثبوته للمصلحة التي لاجلها صارت الصلاة واجبة ما هو الا من قبيل زيادة الفرع على الاصل.

والجواب : انا نسلم شيئا وننكر شيئا آخر ، فنسلم ان الصلاة اذا كانت محبوبة ومرادة فمن اللازم ان تكون مصلحتها محبوبة ومرادة اذ الصلاة صارت محبوبة لاجل مصلحتها ومعه فلا يمكن ان تكون الصلاة محبوبة دون مصلحتها ، اذن الملازمة في عالم الشوق والارادة مسلمة ، هذا ما نسلمه. واما ما ننكره فهو

ص: 369


1- التمثيل بالايمان باللّه سبحانه لما كانت مصلحته ذاتيه اولى من تمثيل الاخوند بمعرفة اللّه سبحانه اذ المعرفة قد يقال انها تجب لا لمصلحة ذاتية بل لاجل توقف شكر المنعم عليها الذي هو امر مغاير للمعرفة.
2- وبهذا اتضح الفارق بين التعريفين.

الملازمة في عالم الوجوب فلا نسلم ان الصلاة اذا كانت واجبة فمصلحتها واجبة التحصيل اذ الوجوب كما تقدم ص 22 من الحلقة اعتبار وجعل يستعمله المولى لتحديد مركز حق اطاعته فاذا اراد اثبات حق اطاعته على شيء استعمل الوجوب لتحصيل ذلك ، وباتضاح هذا يتضح ان المحبوب والمراد الاصيل للمولى وان كان هو المصلحة والملاك ، والصلاة مقدمة لذلك الا انه قد تقتضي نكتة خاصة تحديد المولى مركز اطاعته في مقدمة مراده الاصيل - والمقدمة هي الصلاة - لا في نفس مراده الاصيل - المصلحة - ومع عدم تحديد مركز حق الاطاعة في المصلحة فلا يصدق على المصلحة انها واجبة وبالتالي لا يصدق على الصلاة انها وجبت لاجل واجب آخر وان صدق عليها انها وجبت لشيء آخر ، ومعه فلا تصير واجبا غيريا ، وهذا بخلاف الوضوء مثلا فانه وجب لاجل واجب آخر فهو واجب غيري.

قوله ص 370 س 1 مما تقدم : اي ص 336 من الحلقة.

قوله ص 370 س 2 المتعلق بها الصواب : المتعلق به : المتعلق به.

قوله ص 370 س 4 من شؤون حكم العقل بلزوم الامتثال : اي لما كان العقل يحكم بلزوم امتثال الحج فمن لوازم ذلك حكمه بلزوم السفر.

قوله ص 370 س 11 وبضم مقدمية : اي لما كان ذلك الملاك يقتضي بذاته وجوب الحج بينما اقتضاؤه لوجوب السفر ثانيا وبالعرض وباعتبار كونه مقدمة سمي وجوب السفر بالتبعي.

قوله ص 372 س 3 والجعل : عطف تفسير على « الاعتبار » ، ووضع النقطة قبل كلمة « والجعل » خطأ مطبعي.

قوله ص 372 س 4 الذي هو العنصر الثالث : تقدم ص 22 ان الحكم في

ص: 370

عالم الثبوت له مراحل ثلاث : الملاك ، والارادة ، والوجوب الذي هو عبارة عن الاعتبار.

قوله ص 372 س 7 لا في عالم الجعل والاعتبار : عطف على « عالم الحب والارادة ».

قوله ص 372 س 9 لمركز حب الاصيل : اي لمركز حب المراد الاصيل. وذلك المركز هو المصلحة.

خصائص الوجوب الغيري :

قوله ص 373 س 3 ولا شك لدى الجميع ... الخ : على تقدير ثبوت الوجوب الغيري للمقدمة يقع التساؤل عن خصائص الوجوب المذكور التي بها يمتاز عن الوجوب النفسي الثابت لذي المقدمة. والخصائص اربع هي :

1 - ان الوجوب الغيري لا يصلح للمحركية الاستقلالية بخلاف النفسي فانه صالح لذلك. والمقصود من ذلك ان المكلف لا يمكنه في حالة عدم ارادة الحج مثلا التحرك نحو السفر بقصد امتثال الامر الغيري المتعلق به ، فالتحرك نحو امتثال الامر الغيري المتعلق بالسفر من دون التحرك نحو امتثال الامر النفسي المتعلق بالحج امر غير ممكن لان الشارع وان اراد السفر الا انه اراده لاجل التوصل به الى الحج ، اما بقطع النظر عنه فلا يريده ، ومعه فلا يمكن ارادة السفر بدون ارادة الحج فان ارادة المكلف لا بدّ وان تتطابق مع ارادة الشارع ، وحيث فرض ان الشارع لا يريد السفر عند عدم ارادة الحج فلا يمكن للمكلف ان يأتي بالسفر بقصد امتثال وجوبه الغيري ، بل لو راجع المكلف قرارة نفسه لوجد بوضوح ان اتيانه بالسفر عند عدم ارادته للحج لا ينشأ من الوجوب الغيري المتعلق بالسفر

ص: 371

وانما هو ناشىء من دواع اخرى كالتنزه والتجارة فهو يسافر ليتنزه ويتاجر ولا يسافر لاجل امتثال امر اللّه الغيري المتعلق بالسفر.

2 - ان امتثال الوجوب الغيري لا يوجب استحقاق الثواب فلو اتى المكلف بالسفر بقصد امتثال وجوبه الغيري فلا يستحق الثواب لان اتيانه بالسفر لا يخلو من احدى حالتين ، فاما ان يأتي به بقصد ان يتحقق منه امكان الاتيان بالحج او يأتي به من دون توجه الى الحج ، وعلى الاول وان استحق الثواب ولكن ليس على الاتيان بالسفر بما هو اتيان بالسفر بل عليه بما هو بداية وشروع في امتثال الامر بالحج ، ومعنى هذا بعبارة اخرى استحقاق الثواب على امتثال الواجب النفسي دون امتثال الامر الغيري ، وبكلمة ثانية ان من اتى بالسفر بقصد التوصل الى الحج يصدق عليه من حين الشروع في السفر انه شرع في امتثال الامر النفسي المتعلق بالحج ، ومعه فمن بداية السفر يصير مستحقا للثواب ولكن لاجل امتثال الامر النفسي بالحج وليس على امتثال الامر الغيري بما هو امتثال له ، هذا كله لو اتي بالسفر بقصد امكان الاتيان بالحج.

واما لو اتي به بقطع النظر عن الحج فلا يكون هناك قصد لامتثال الامر الغيري المتعلق بالسفر ليستحق الثواب عليه ، فانه تقدم في الخصوصية الاولى ان المكلف لا يمكنه قصد امتثال الامر الغيري المتعلق بالسفر بقطع النظر عن قصد امتثال الامر النفسي المتعلق بالحج.

ويمكن ان نقول : ان ثبوت هذه الخصوصية للوجوب الغيري امر وجداني لا يحتاج الى اثبات ، فان الوجدان قاض بان الحج لو كان له عشر مقدمات واتى المكلف بجميعها فلا يستحق احد عشر ثوابا واحد منها على امتثال الحج والبقية على امتثال المقدمات العشر بل قاض باستحقاقه لثواب واحد على امتثال الحج

ص: 372

غاية الامر ان ذلك الثواب الواحد يتضاعف ويزداد باعتبار ان الفعل كلما ازدادت مقدماته صار اشق.

3 - ان مخالفة الوجوب الغيري لا توجب استحقاق العقاب ، فالتارك للسفر لا يستحق العقاب على تركه امتثال الوجوب الغيري المتعلق بالسفر وانما يستحقه على عدم امتثال الوجوب النفسي المتعلق بالحج ، فان السفر ليس له ملاك خاص به ليلزم استحقاق العقاب على تفويته وانما الملاك ثابت في الحج فقط ، وبترك السفر يلزم تفويت ملاك الحج وبالتالي يلزم استحقاق العقاب من الناحية المذكورة ، هذا مضافا الى قضاء الوجدان بهذه الخصوصية ، فانه قاض بان التارك للحج بما له من مقدمات لا يستحق عقوبات متعددة بعدد المقدمات المتروكة بل عقوبة واحدة على ترك الحج.

4 - ان الوجوب الغيري توصلي وليس عباديا ، فالمكلف اذا سافر الى مكة المكرمة مثلا لا بقصد الاتيان بالحج بل بقصد التجارة او التنزه بيد انه بعد وصوله اليها قصد الاتيان بالحج فلا يلزمه الرجوع الى بلده والسفر منه الى مكة من جديد ، لان الغرض من وجوب السفر هو الوصول الى مكة والمفروض حصوله فلا وجه للتكرار ، وبكلمة ثانية : المطلوب هو واقع المقدمة دون المقدمة المقيدة بقصد التوصل بها لذيها.

قوله ص 373 س 4 اذا كان ثابتا : يأتي البحث عن ثبوت الوجوب الغيري للمقدمة وعدمه ص 382 من الحلقة.

قوله ص 373 س 11 لأن ارادة العبد المنقاد ... الخ : اي لان العبد اذا كان منقادا حقيقة وواقعا فلازمه ان يريد ما أراده المولى ، والمفروض ان المولى يريد السفر عند ارادة الحج ولا يريده بقطع النظر عنه.

ص: 373

وكلمة « التكوينية » صفة للارادة. ثم ان الارادة على قسمين : تكوينية وتشريعية. والفرق بينهما : ان الشخص المريد اذا كان يريد فعل نفسه فالارادة تسمى بالارادة التكوينية ، واذا كان يريد فعل غيره فالارادة تسمى بالارادة التشريعية ، فاذا اراد الاب من ولده ان يدرس ويجد ويجتهد فارادته تشريعية لانها متعلقة بفعل غيره ، واما اذا أراد ان يكون هو بنفسه مجدا ومجتهدا فارادته تكوينية لتعلقها بفعل نفسه ، ومن هنا يتضح ان ارادة العبد للسفر هي ارادة تكوينية لانها ترتبط بفعل نفسه واما ارادة المولى للسفر فهي تشريعية لانها ترتبط بفعل غيره.

قوله ص 374 س 1 بما هو امتثال : اي بما هو امتثال للوجوب الغيري.

قوله ص 374 س 3 من قبل : بكسر القاف وفتح الباء.

قوله ص 374 س 4 وهو منصرف : اي غير قاصد.

مقدمات غير الواجب :

قوله ص 375 س 7 كما تتصف مقدمات الواجب ... الخ : كان الكلام فيما سبق عن مقدمة الواجب. وقد تسأل عن حال مقدمة الحرام والمكروه والمستحب.

اما مقدمة المستحب فحالها حال مقدمة الواجب دون اي فرق ، فاذا قلنا بوجوب مقدمة الواجب لزم القول باستحباب مقدمة المستحب ، لان نكتة وجوب مقدمة الواجب ليست هي الا توقف الواجب عليها ، وهذه النكتة بنفسها ثابتة في مقدمة المستحب.

واما مقدمة الحرام فهي على قسمين ، اذ تارة تكون بشكل لو حصلت فحتما

ص: 374

يحصل الحرام ولا يمكن تخلفه كمن قبض السكين ووضعها على رقبة غيره واخذ بامرارها ، فان امرارها يستلزم حصول القتل ولا يمكن تحققه من دون تحققه. واخرى يفرض انها لو حصلت فلا يلزم تحتم حصول الحرام كما هو الحال في شراء السكين ، فان تحققه لا يستلزم حصول القتل ، فلربما يشتري الشخص السكين ولا يتحقق منه قتل الغير.

واذا اتضح وجود هذين القسمين لمقدمة الحرام نقول : ان القسم الاول محرم لان ترك الحرام يتوقف على ترك هذا القسم من المقدمة ، واما القسم الثاني فليس بمحرم لعدم توقف ترك الحرام على تركه ، اذ ترك الحرام لا يتوقف على ترك كل واحدة واحدة من مقدماته بل يكفي لتحققه ترك مقدمة واحدة من مقدماته (1).

واما مقدمة المكروه فحالها حال مقدمة الحرام دون اي فرق ، ويأتي فيها التفصيل السابق ، فالمقدمة التي يتوقف على تركها ترك المكروه مكروهة دون غيرها.

قوله ص 375 س 8 عند القائلين بالملازمة : اي عند القائلين بان مقدمة الواجب واجبة.

قوله ص 375 س 12 من العلة التامة له : اي للحرام.

الثمرة الفقهية للنزاع في الوجوب الغيري :

قوله ص 376 س 6 ومسألة الملازمة بين وجوب الشيء ... الخ : من

ص: 375


1- وعلى هذا فشراء السكين لا يكون محرما من باب انه مقدمة للحرام وان احتمل القول بحرمته من جهة اخرى ككونه معاونة على الاثم ونحو ذلك ، ولكن هذا مطلب آخر لو تم فهو اجنبي عن محل الكلام ، فان الكلام انما هو في الحرمة من جهة المقدمية للحرام.

الواضح ان مسألتنا هذه وهي مسألة الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته من المسائل القديمة والاصيلة في علم الاصول ولسنا مبالغين اذا قلنا هي اقدم مسألة فيه ، وبالرغم من ذلك وقع تشكيك في اصوليتها باعتبار انه يلزم في المسألة الاصولية استنباط حكم شرعي منها ، ومسألة الملازمة ليست كذلك ، فان القول بثبوت الملازمة وان استنبط بواسطته ثبوت الوجوب الشرعي للمقدمة كوجوب السفر الى مكة ونحوه ولكن هذا المقدار لا يكفي في اصولية المسألة فانه ذكرنا في البحث السابق ان الوجوب الغيري الثابت للمقدمة لا يحرك تحريكا استقلاليا كما وانه لا عقاب على مخالفته ولا ثواب على موافقته ، ومعه فلا يكون متضمنا لروح الحكم وانما يحمل اسمه فقط ، فان روح الحكم عبارة عن كونه محركا وموجبا للثواب والعقاب والا فهو كالقشر بلا لب وكاللفظ بلا معنى ، وواضح ان المسألة تصير اصولية فيما لو كانت تحصّل حكما شرعيا يشتمل على روح الحكم وحقيقته ولا يكفي تحصيلها لاسم الحكم دون روحه ، ومن هنا اخذ الاصوليون بتصوير ثمرة مسألة الملازمة ، وقد ذكر في الكتاب ثمرتان لذلك. الثمرة الاولى (1) :

ولتوضيحها نذكر مقدمة تشتمل على نقاط ثلاث هي :

1 - قرأنا فيما سبق الفرق بين مصطلحي التعارض والتزاحم ، فان الحكمين تارة يتكاذبان في مقام الجعل بحيث اذا كان احدهما صادرا من الشارع فلا يمكن صدور الثاني منه ، كما لو قال احد الدليلين تجب صلاة الجمعة زمن الغيبة والثاني يقول تحرم الجمعة زمن الغيبة فان الدليل الاول اذا كان صادرا من الشارع فلا يمكن صدور الثاني منه والعكس بالعكس ، ومثل هذه الحالة تسمى بحالة

ص: 376


1- هذه الثمرة لم تذكر في الكتب الاصولية الاخرى بل ولم يذكرها قدّس سره في تقرير درسه.

التعارض. اما اذا افترض عدم تكاذب الدليلين بهذا الشكل بيد انه لم يكن بامكان المكلف امتثالهما معا ، كما هو الحال في امر « صل » وامر « انقذ الغريق » فانه لا تكاذب بينهما في مقام الجعل لامكان صدورهما من الشارع بلا اي تناف غير انه قد لا يمكن للمكلف امتثالهما معا كما لو ضاق وقت الصلاة واوشك شخص على الغرق ، فان الجمع بين الصلاة والانقاذ غير ممكن في مقام الامتثال. ومثل هذه الحالة تسمى بالتزاحم.

وباختصار : ان التعارض هو تنافي الدليلين في مقام الجعل ، والتزاحم هو تنافيهما في مقام الامتثال بلا تناف في مقام الجعل.

2 - ان العلاج في باب التزاحم هو تقديم الحكم الأهم ملاكا بينما العلاج في باب التعارض هو تقديم الاقوى سندا او دلالة ولا ينظر الى اهمية الملاك.

3 - ان كل حكم من الاحكام هو مشروط بالقدرة على امتثاله ، فامر « صل » مثلا مشروط بالقدرة على امتثاله ، فالنائم لا يكون مأمورا بالصلاة. وهذا واضح ، ولكن قرأنا فيما سبق ان كل حكم من الاحكام كما هو مشروط بالقدرة على امتثاله كذلك هو مشروط بعدم وجود حكم آخر لا يمكن عند امتثاله امتثال الآخر ، اذ في هذه الحالة يكون التكليف متوجها الى الاهم فقط ويبقى المهم لا تكليف به حالة الاشتغال بالاهم ، اجل في حالة عدم الاشتغال بالاهم لا مانع من تعلق التكليف بالمهم. ومن هنا نخرج بهذه النتيجة وهي : انه كلما كان عندنا تكليفان لا يمكن امتثالهما معا فما هو الاهم منهما يكون ثابتا وغيره لا يكون ثابتا الا في حالة عدم الاشتغال بالاهم ، ومثال ذلك : انقاذ الغريق والصلاة عند ضيق وقتها ، ان مثل هذين لا يمكن امتثالهما ، اذ الاتيان باحدهما يفوت امكان الاتيان بالآخر ، وفي مثل ذلك لا بدّ من ملاحظة ان ايهما هو الأهم ، فاذا كان الانقاذ هو

ص: 377

الاهم كان التكليف متعلقا به وتبقى الصلاة لا امر بها الا عند عدم الاشتغال بالانقاذ.

وبعد الفراغ من هذه المقدمات نعود الى الثمرة وحاصلها : انه بناء على ثبوت الملازمة يتحقق التعارض بين الدليلين ويلزم تطبيق احكام باب التعارض وهي تقديم الاقوى سندا او دلالة ولا ينظر الى اهمية الملاك بينما بناء على عدم ثبوت الملازمة يتحقق التزاحم ولا بدّ من تقديم الاهم ملاكا ، ولا ينظر الى قوة السند او الدلالة.

وهذه الثمرة تظهر فيما لو كان عندنا واجب وحرام وكان الواجب مقدمة لفعل الحرام ونفترض ان الواجب كان مقدمة للحرام بنحو العلة التامة. ومثال ذلك : ما لو قال الظالم : ان صليت قتلت ولدك فان فعل الصلاة علة لقتل الولد ومقدمة له. وفي مثله اذا بني على ان مقدمة الحرام حرام (1) صارت الصلاة واجبة ومحرمة وبذلك يتحقق التعارض ، اذ لا يمكن ان يكون الشيء الواحد واجبا ومحرما. اما انها واجبة فلفرض انها في نفسها كذلك ، واما انها محرمة فلأنها مقدمة وعلة تامة لتحقق الحرام وقد قرأنا سابقا ان مقدمة الحرام محرمة فيما اذا كانت علة تامة لتحقق الحرام (2).

ولاول وهلة قد يتخيل ان المعارضة تتحقق بين وجوب الصلاة وحرمتها الغيرية ولكنها بالدقة هي بين دليل وجوب الصلاة ودليل حرمة القتل ، فان

ص: 378


1- قلنا لو بني على ان مقدمة الحرام حرام ولم نقل لو بني على ان مقدمة الواجب واجبة ، فهذه الثمرة اذن ترتبط بالملازمة بين حرمة الشيء وحرمة مقدمته ولا ترتبط بالملازمة بين وجوب الشيء ومقدمته. اجل الثمرة الثانية ترتبط بذلك.
2- ومن هنا يتضح الوجه في افتراض كون الواجب علة تامة ، اذ لو لم يكن علة تامة لتحقق الحرام فلا يكون محرما فان مقدمة الحرام لا تكون محرمة الا اذا كانت علة تامة لتحقق الحرام.

المعارضة لا تتحقق الا بين التكاليف النفسية ، ودليل حرمة القتل بعد ضم الملازمة اليه يصير مقتضيا لحرمة القتل حرمة نفسية ولحرمة الصلاة حرمة غيرية وبذلك يعارض دليل وجوب الصلاة فدليل وجوب الصلاة يقول الصلاة واجبة ودليل حرمة القتل يقول الصلاة محرمة.

هذا كله لو قلنا بثبوت الملازمة بين حرمة الشيء وحرمة مقدمته ، واما بناء على انكار ذلك فلا يتحقق التعارض بل التزاحم ، اذ الصلاة لا تصير محرمة وواجبة ليلزم التعارض بل هي واجبة فقط غاية الامر بما ان القتل محرم - والمفروض عدم امكان امتثال هذين الحكمين - فيتحقق التزاحم بينهما ويقدم الاهم.

وكان الواجب اهم ملاكا من الحرام

وقد قيدت عبارة الكتاب هذه الثمرة بما اذا كان الواجب اهم من الحرام. وفي وجه التقييد المذكور خفاء.

وقد يقال في بيانه بان ملاك الحرام اذا كان هو الاهم فلا يمكن الامر بالصلاة لا بنحو مطلق ولا بنحو مشروط بعصيان حرمة القتل ، اما انه لا يمكن الامر بها بنحو مطلق فواضح ، اذ كيف يقال يحرم القتل مطلقا وتجب الصلاة مطلقا ، ما هذا الا امر بالضدين ، واما انه لا يمكن الامر بها بشرط عصيان حرمة القتل فلأن فرض مخالفة الحرمة معناه تحقق قتل الولد ، ولازم تحقق القتل تحقق الصلاة ، ومعه يكون الامر بالصلاة امرا بتحصيل الحاصل. وهذا بخلاف ما اذا كان الواجب هو الاهم فانه يمكن ثبوت الحرمة مشروطة بعدم الصلاة ، اذ مخالفة الواجب التي هي بعبارة اخرى ترك الصلاة لا تلازم امتثال حرمة القتل حتى

ص: 379

يكون ثبوتها تكليفا بما هو حاصل فيمكن ان يقال ان لم تصل فلا تعرّض النفس المحترمة للقتل (1).

ص: 380


1- هكذا قد يقال. وفيه : انا لا نسلم بان فرض مخالفة حرمة القتل يستلزم فرض تحقق الصلاة حتى يكون الامر بها امرا بتحصيل الحاصل ، اذ يمكن تحقق تعريض النفس المحترمة للقتل لا لأجل الصلاة بل لاغراض اخرى من قبيل التشفي ، وحينئذ يصح ان يقال ان خالفت النهي عن القتل وعرّضت النفس المحترمة للقتل فالصلاة واجبة عليك. ان قلت : ان المقصود من مخالفة الحرمة هو مخالفة حرمة القتل الحاصلة بسبب الصلاة ، وواضح ان مخالفة هذه الحصة الخاصة من الحرمة لا يمكن فرض تحققها الا بتحقق الصلاة. قلت : اذا كان هذا هو المقصود فلازم ذلك عدم صحة الامر الترتبي من الجانب الآخر ايضا فلا يمكن ان يقال ان خالفت الامر بالصلاة ولم تصل فلا تعرّض النفس المحترمة للقتل ، لانه مع ترك الصلاة فالقتل الناشىء من الصلاة لا يمكن تحققه وبالتالي لا يمكن تحقق مخالفة الحرمة المتعلقة به ، فالتكليف بعدم مخالفة الحرمة يكون تكليفا بغير المقدور ، وعليه فالتقييد المذكور لم يتضح لنا وجهه. التأمل في اصل الثمرة ويمكن التأمل في اصل الثمرة باعتبار ان تحقق التعارض بين دليل حرمة القتل ودليل وجوب الصلاة ليس مبنيا على القول بسراية الحرمة من حرمة القتل الى الصلاة بل حتى لو لم نقل بالملازمة والسراية يتحقق التعارض بين وجوب الصلاة شرعا وحرمة قتل المؤمن بعد الالتفات الى اللابدية العقلية وانه لا بدّ عقلا لامتثال حرمة القتل من ترك الصلاة ، انه بعد الالتفات الى هذه اللابدية العقلية لا يمكن الامر بالصلاة ويرى العرف استحالة صدورهما من المولى وتشريعهما معا ، اذ كيف يمكن ان تكون العلة واجبة والمعلول محرما. ان قلت : ان لازم هذا البيان دخول جميع موارد التزاحم تحت باب التعارض ، ولا يبقى مورد للتزاحم ، ففي مثل الازالة والصلاة مثلا يقال : مع الامر بالازالة التي لا يمكن ان تجتمع مع الصلاة لا يمكن الامر بالصلاة ويتحقق التعارض بينهما. قلت : ان كل تكليف بما انه مشروط عقلا بعدم الاشتغال بالمساوي او الاهم فلا يتحقق التعارض بينهما لامكان الامر بالازالة والصلاة تحت ظل الشرط العقلي المذكور ، وفي المقام اذا اريد رفع التعارض بين الامر بالصلاة والنهي عن القتل من خلال الطريق المذكور - وذلك بتشريع كل من الامر بالصلاة والنهي عن القتل مشروطا بعدم الاشتغال بالمساوي او الاهم - كان الجواب ان هذا وان كان متينا الا ان التخلص من التعارض بهذا البيان وعدمه لا يفرق فيه بين القول بالملازمة وعدمه فان اللابدية العقلية تكفي للقيام مقام القول بالملازمة. ان قلت : انه بناء على الملازمة تصير النتيجة هكذا : تحرم الصلاة غيريا وتجب نفسيا ، وواضح ان مثل هذين الخطابين متعارضان ولا يمكن الاستعانة بالشرط العقلي السابق لرفعه ، اذ لا معنى لان يقال تحرم عليك الصلاة ان لم تشتغل بامتثال وجوب الصلاة او بالعكس فان هذا متصور في الحكمين الثابتين لموضوعين دون الثابتين لموضوع واحد. قلت : المفروض ان طرف المعارضة للوجوب النفسي للصلاة ليس هو الحرمة الغيرية للصلاة بل الحرمة النفسية للقتل بعد ضم الملازمة فان الحرمة الغيرية ليست امرا قابلا للوقوع طرفا للمعارضة ، واذا كانت الحرمة النفسية هي الطرف للمعارضة فلا يفرق في تحقق المعارضة بين القول بالملازمة والقول باللابدية العقلية.
الثمرة الثانية

الثمرة الثانية (1) : وهذه الثمرة تظهر فيما لو كان لدينا فعلان احدهما واجب والآخر حرام بيد ان الحرام مقدمة للواجب والواجب ذو المقدمة على عكس ما مر في الثمرة السابقة ، والمقدمة هنا مقدمة للواجب بخلافه فيما سبق حيث كانت مقدمة للحرام.

ومثال هذه الثمرة انقاذ الغريق واجتياز الارض المغصوبة ، فان الانقاذ واجب ولكنه قد يكون امام النهر الذي فيه الغريق ارض مغصوبة ويتوقف الانقاذ على اجتياز تلك الارض ، ففي مثل هذه الحالة يصير الاجتياز الذي هو حرام مقدمة للانقاذ الذي هو واجب.

والسؤال هو ان المكلف اذا اجتاز المغصوب فهل يكون اجتيازه محرما او لا؟ وهذه الثمرة تريد الاجابة على هذا السؤال وتوضيح ان الاجتياز متى يكون محرما ومتى لا يكون كذلك.

ان اجتياز المغصوب يقع محرما في حالتين وغير محرم بل واجبا في حالتين اخريين ، اذ المجتاز للمغصوب تارة :

1 - يجتاز المغصوب ويشتغل بانقاذ الغريق. وفي مثل هذه الحالة لا يكون

ص: 381


1- هذه الثمرة هي المتداولة في كلمات الاصوليين.

الاجتياز محرما لانا فرضنا (1) ان الواجب وهو الانقاذ اهم ، وقد قلنا سابقا ان الاهم هو الذي يتوجه اليه التكليف وغير الاهم - وهو الاجتياز في المقام - لا يتوجه اليه التكليف الا عند عدم الاشتغال بالاهم ، وحيث فرضنا في هذه الحالة اشتغال المكلف بالانقاذ فلا يكون الاجتياز محرما عليه.

2 - واخرى يجتاز المغصوب بلا انقاذ الغريق بل بقصد التنزه مثلا. وفي مثله اذا قلنا بعدم وجوب مقدمة الواجب يقع الاجتياز محرما لانا ذكرنا انه عند عدم الاشتغال بالاهم وهو الانقاذ فلا مانع من توجه الحرمة الى غير الاهم وهو الاجتياز ، والمفروض في هذه الحالة عدم البناء على وجوب مقدمة الواجب حتى يلزم صيرورة الاجتياز واجبا وبالتالي حتى يلزم صيرورة هذا الوجوب مانعا من ثبوت الحرمة للاجتياز.

3 - وثالثة يفترض ان المجتاز لا ينقذ الغريق كالحالة السابقة غير انه يفرض البناء على ان مقدمة الواجب اذا كانت موصلة - اي قد حصل بعدها ذو المقدمة وهو الانقاذ مثلا - فهي واجبة واذا لم تكن موصلة فهي غير واجبة (2). وفي هذه الحالة يكون الاجتياز محرما لنفس النكتة في الحالة السابقة فانه بعد عدم الاشتغال بالاهم فلا مانع من اتصاف غير الاهم وهو الاجتياز بالحرمة ، وحيث ان الاجتياز غير موصل - اذ لم يحصل بعده الانقاذ - فلا يكون واجبا من باب المقدمة وبالتالي تكون الحرمة ثابتة للاجتياز بلا مانع يمنع من ثبوتها.

4 - ورابعة يفترض حصول الاجتياز بلا انقاذ ايضا ولكن مع البناء على

ص: 382


1- هذا الافتراض وان لم يصرح به قدّس سره في صدر هذه الثمرة ولكنه قد اعتمد على الاشارة له في الثمرة الاولى.
2- سياتي في الابحاث المقبلة ان شاء اللّه تعالى تحقيق ان الواجب هل هو مطلق المقدمة او خصوص الموصلة.

وجوب مقدمة الواجب وان لم تكن موصلة ، وفي هذه الحالة لا يكون الاجتياز محرما لان المجتاز وان لم يشتغل بالانقاذ الا ان عدم الاشتغال به لا يسقط وجوبه ، ومع وجوبه يكون الاجتياز واجبا بالوجوب الغيري لانا فرضنا في هذه الحالة ان مقدمة الواجب واجبة وان لم يحصل بعدها ذو المقدمة ، ومع وجوب الاجتياز بالوجوب الغيري فلا يمكن اتصافه بالحرمة ، اذ ثبوت الوجوب يمنع من ثبوت الحرمة ، فان الشيء الواحد لا يمكن ان يكون واجبا وحرما (1).

قوله ص 376 س 8 العريقة : اي الاصيلة ، يقال - كما في المنجد - هو أعرق منك اي آصل منك.

قوله ص 376 س 15 الذي تقع مخالفته ... الخ : وتقع موافقته ايضا موضوعا لاستحقاق الثواب.

قوله ص 377 س 10 كما عرفنا سابقا : من جملة ذلك ص 320 من الحلقة حيث ذكر ان باب التزاحم خارج عن باب التعارض ولا تطبق عليه احكامه.

ص: 383


1- يوجد سؤالان يرتبطان بالمقام : 1 - لماذا لم يتعرض قدّس سره لبيان خصوصية التعارض والتزاحم في الثمرة الثانية كما تعرض لهما في الثمرة الاولى؟ والجواب : ان ذلك حيث اشير له في الثمرة الاولى فلا داعي بعد هذا للتكرار في هذه الثمرة. 2 - ما هو روح الفرق بين الثمرتين بعد وضوح ان كون الاولى ناظرة لكون الواجب مقدمة للحرام والثانية الى العكس وان الحرام هو المقدمة للواجب لا يستدعي عقد ثمرتين بعد ان كانت روحهما واحدة؟ وقد يقال : ان الاولى ناظرة الى حيثية التعارض والتزاحم بخلاف الثانية فانها ناظرة الى حيثية ثبوت الحرمة وعصيانها ، وهذا لا يكفي للفرق ايضا لأن الحيثية المذكورة مترتبة على حيثية التعارض والتزاحم المذكورة في الثمرة الاولى. ولعل وحدة روح الثمرتين هو السبب في عدم تعرضه قدّس سره في بحثه الخارج للثمرة الاولى كما لم يتعرض اليها غيره من الاعلام.
شمول الوجوب الغيري :
اشارة

قوله ص 378 س 16 قام القائلون بالملازمة ... الخ : قسّم الاصوليون مقدمة الواجب الى عدة تقسيمات كتقسيمها تارة الى داخلية وخارجية واخرى الى وجوبية ووجودية وثالثة الى ....

والغرض من ذكر هذه التقسيمات هو التعرف على ان البحث عن وجوب المقدمة هل يشمل جميع الاقسام او ان بعضها لا يشمله باعتبار عدم امكان اتصافه بالوجوب الغيري لنكتة تأتي الاشارة لها ان شاء اللّه تعالى. والتقسيمات هي :

التقسيم الاول

تقسيم المقدمة الى داخلية وخارجية. والمقصود من الداخلية الاجزاء فان كل جزء هو مقدمة لحصول المركب ، فالركوع مثلا مقدمة لحصول الصلاة ، وحيث انه داخل فيها ومقوم لها صح تسميته بالمقدمة الداخلية ، والمقصود من الخارجية الشرائط ، فان الوضوء مثلا تتوقف عليه صحة الصلاة وحيث انه خارج عنها صح تسميته بالمقدمة الخارجية.

وقد وقع الكلام بين الاصوليين في ان البحث عن وجوب المقدمة هل يشمل الداخلية ايضا او يختص بالخارجية ، وفي ذلك اتجاهان احدهما يقول بالشمول وثانيهما بعدمه.

اما الاتجاه الاول فتوجيهه : ان الصلاة مثلا كما تتوقف على المقدمة الخارجية كذلك تتوقف على الداخلية ، ومع انحفاظ المقدمية والتوقف في الداخلية ايضا فلا وجه لعدم شمول النزاع لها.

واما الاتجاه الثاني فيمكن توجيهه ببيانين :

ص: 384

أ - ان الجزء ليس مقدمة اصلا حتى يمكن اتصافه بالوجوب الغيري ، فان المقدمية فرع الاثنينية ، اي لا بدّ من وجوب شيئين في الخارج ليكون احدهما مقدمة للآخر كالسفر والحج فان السفر غير الحج خارجا والحج يتوقف على السفر ، وهذا بخلافه في باب الجزء فان الركوع مثلا لا يغاير الصلاة خارجا بل هي عين الركوع والسجود وبقية الاجزاء ، ومعه فلا يعقل ان تتوقف الصلاة على اجزائها ، اذ لازمه توقف الشيء على نفسه ، ومن خلال هذا يتضح ان عدم اتصاف الاجزاء بالوجوب الغيري ليس لوجود مانع من اتصافها به بل لفقدان المقتضي وهو المقدمية.

ب - ان الاجزاء لا تتصف بالوجوب الغيري لوجود المانع ، اي حتى لو سلمنا بثبوت المقتضي لاتصافها به فمع ذلك لا تتصف به لوجود مانع وهو : ان الاجزاء بما انها نفس الصلاة خارجا فالوجوب النفسي المنصب على الصلاة ينحل الى وجوبات نفسية - ولكنها انحلالية وضمنية - بعدد الاجزاء ، فكل جزء يتوجه اليه وجوب نفسي ضمني ، فالركوع واجب بوجوب نفسي ضمني ، والسجود واجب بوجوب نفسي ضمني ، وهكذا ، ومعه فيستحيل الاتصاف بالوجوب الغيري والا يلزم اجتماع وجوبين في شيء واحد وهو مستحيل.

لا يقال : لماذا لا يكون اجتماع الوجوبين كاجتماع السوادين ، فكما ان الورقة اذا كانت متصفة بالسواد امكن حلول سواد جديد عليها وذلك بتأكد السواد الاول وتحوله الى سواد اكيد كذلك في المقام نقول بالتأكد والتحول الى وجوب واحد اكيد.

فانه يقال : ان التأكد والتوحد لا يعقل في الوجوبين وان كان معقولا في السوادين ، اذ السوادان هما في عرض واحد ، وليس احدهما علة للآخر كي لا

ص: 385

يعقل التوحد ، وهذا بخلافه في الوجوب الغيري والنفسي ، فان الغيري على ما قالوا هو معلول ومتولد من النفسي وفي رتبة متأخرة عنه والنفسي علة له وفي رتبة متقدمة عليه ، ومن الواضح ان العلة والمعلول لا يمكن اتحادهما والا صارت العلة معلولا والمعلول علة او صار الوجود الواحد علة ومعلولا ومتقدما ومتأخرا.

التقسيم الثاني

تقسيم المقدمة الى وجوبية ووجودية. والوجوبية هي المقدمة التي يتوقف عليها وجوب الواجب كالاستطاعة حيث يتوقف عليها وجوب الحج. والوجودية هي التي لا يتوقف عليها وجوب الواجب بل وجوده كالسفر حيث لا يتوقف عليه وجوب الحج - والا لانتفى الوجوب عمن تهاون عن السفر - بل وجوده.

وباتضاح هذا نقول : ان المقدمة الوجوبية خارجة عن محل البحث حيث لا يمكن ان تتصف بالوجوب ابدا لا بالوجوب النفسي ولا بالغيري. اما انها لا تتصف بالنفسي فلأنه قبل حصولها لا وجوب نفسي للحج ليثبت لها وبعد حصولها لا معنى لوجوب تحصيلها لاستحالة تحصيل الحاصل. واما انها لا تتصف بالغيري فلأن الغيري بما انه متولد من النفسي فهو لا يثبت الا عند ثبوت النفسي ، وبما ان النفسي لا يثبت الا بعد حصول الاستطاعة فلا معنى حينئذ لتعلق الوجوب بها اذ يكون ذلك من قبيل وجوب تحصيل الحاصل.

التقسيم الثالث

تنقسم المقدمة باعتبار آخر الى علمية وعقلية وشرعية (1). والعلمية هي

ص: 386


1- وهناك قسم رابع ذكره الآخوند في الكفاية وهو المقدمة العادية. ولعل السبب في اعراض السيد الشهيد عن الاشارة له هو ان المقدمة العادية ليست بحسب الحقيقة مقدمة فان لبس الحذاء مثلا قبل الخروج من الدار وان كان بحسب عادة الناس مقدمة للخروج من الدار ولكنه لا يتوقف الخروج عليه حقيقة حتى يكون مقدمة ومتصفا بالوجوب الغيري.

المقدمة التي لا يتوقف عليها وجود الواجب وانما يتوقف عليها العلم بتحقق الواجب كغسل شيء من فوق المرفق في الوضوء ليعلم بغسل المقدار الواجب ، فان غسل اليد ما بين رؤوس الاصابع والمرفق لا يتوقف على غسل شيء من فوق المرفق كما هو واضح وانما يتوقف العلم بتحقق ذلك على غسل المقدار الزائد.

ومثال ثان : ما اذا كان لدينا او ان عشرة وعلمنا بنجاسة واحد منها فان ترك التسعة الباقية واجب من باب المقدمة لكن لا لأنه مقدمة لترك نفس ذلك الاناء النجس فان تركه يتحقق بترك نفسه ولا يتوقف على ترك التسعة الباقية وانما العلم بتحقق ذلك يتوقف على ترك التسعة الباقية.

واما المقدمة العقلية فهي المقدمة التي يتوقف عليها تكوينا وخارجا وجود الواجب كالسفر بالنسبة للحج ، فان وجود الحج يتوقف تكوينا على تحقق السفر.

واما المقدمة الشرعية فهي المقدمة التي اخذها الشارع قيدا في الواجب كالوضوء بالنسبة للصلاة فان الصلاة لا تتوقف عقلا على الوضوء وانما تتوقف عليه شرعا باعتبار ان الشارع اخذ الوضوء قيدا للصلاة.

وبعد اتضاح هذه الاقسام الثلاثة نقول :

اما المقدمة العلمية فهي خارجة عن محل البحث لانها لا يمكن ان تتصف بالوجوب الغيري ، اذ الذي يتصف به هو مقدمة الواجب اي ما يكون مقدمة لتحقق الواجب بحيث لا يحصل الواجب بدونها ، ومن الواضح ان غسل اليد من رؤوس الاصابع الى المرفق لا يتوقف على غسل المقدار الزائد ليجب غسل المقدار الزائد من باب المقدمة والوجوب الغيري.

ص: 387

ولا ينبغي ان يفهم من هذا انا ندعي عدم اتصاف المقدمة العلمية بالوجوب اصلا وانما ندعي عدم اتصافها بالوجوب المقدمي الغيري وان كانت تتصف بالوجوب من ناحية اخرى اي من ناحية ان احراز حصول الواجب لا يتحقق بدونها. وبتعبير آخر : هي تتصف بالوجوب من باب قاعدة « الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية » ولكن هذا مطلب آخر لسنا بصدده وانما نحن بصدد الوجوب الغيري المقدمي.

واما المقدمة العقلية التي هي كالسفر بالنسبة للحج فهي القدر المتيقن من محل البحث فان القدر المتيقن - على تقدير ثبوت الوجوب الغيري واتصاف المقدمة به - هو ثبوته للمقدمة العقلية اذ عليها يتوقف وجود الواجب.

واما المقدمة الشرعية فهي التي وقعت محلا للبحث فقد ذهب بعض كالميرزا الى خروجها عن محل البحث لعدم امكان اتصافها بالوجوب الغيري بتقريب : ان المقدمة الشرعية - كالوضوء مثلا - متصفة بالوجوب النفسي ، وما دامت هي واجبا نفسيا فكيف تتصف بالوجوب الغيري ، انه غير ممكن لأن لازمه اجتماع الوجوبين في شيء واحد ، وقد تقدم نظير هذا منه قدّس سره في المقدمة الداخلية كالركوع مثلا اذ اختار ان الركوع لا يتصف بالوجوب الغيري لنفس النكتة المذكورة.

يبقى السؤال عن نكتة اتصاف الوضوء بالوجوب النفسي في رأي الميرزا ، ان نكتة ذلك هي ان الوضوء مثلا لا يكون مقدمة شرعية للصلاة الا اذا اخذه الشارع قيدا في الصلاة ، ومع اخذه قيدا فيها فسوف ينصب وجوب الصلاة الذي هو وجوب نفسي على الصلاة المقيدة بالوضوء ، ولازم ذلك انحلال هذا الوجوب النفسي الواحد الى وجوبين نفسيين ضمنيين احدهما متعلق بالصلاة والآخر

ص: 388

بالوضوء ، وعليه يكون الوضوء بحسب النتيجة متصفا بالوجوب النفسي.

وفيه : انا وان سلمنا شرطية الوضوء للصلاة ولكن لا نسلم ان لازم شرطيته انصباب الوجوب النفسي عليه ، اذ تقدم في مبحث الشرط المتأخر ان مرجع شرطية شيء للصلاة الى تعلق الوجوب بالحصة الخاصة اي مرجعه الى تعلق الوجوب بالصلاة مع التقييد بالوضوء ، فالوجوب منصب على شيئين : الصلاة والتقييد ، واما نفس القيد وهو الوضوء فليس متعلقا للوجوب ولا ينصب عليه والا يلزم عدم الفرق بين مثل الركوع والوضوء ، فيلزم ان يكون الوضوء جزء للصلاة كالركوع لعدم وجود اي فارق بينهما اذ الوجوب النفسي كما هو متعلق بالركوع كذلك هو متعلق بالوضوء مع انا نعرف ان الوضوء يمتاز عن الركوع ، ففي الركوع يكون الوجوب النفسي الثابت للصلاة متعلقا بالتقييد بالركوع وبنفس الركوع واما في الوضوء فالوجوب النفسي الثابت للصلاة متعلق بالتقييد بالوضوء دون نفس الوضوء ، ومع عدم تعلق الوجوب النفسي بالوضوء فلا مانع من تعلق الوجوب الغيري به.

ان قلت : انك اذا سلمت تعلق الوجوب النفسي بالتقيد بالوضوء فلا بدّ وان تسلم تعلقه بنفس الوضوء ايضا ، اذ التقييد لا يتحقق الا بتحقق نفس القيد لكونه منتزعا منه ، ولازم ذلك ان يكون الامر النفسي المتعلق بالتقييد متعلقا بالوضوء ايضا.

قلت : اذا كان المقصود من هذا الكلام ان التقييد بالوضوء هو عين الوضوء ونفسه وان الامر النفسي المتعلق بالتقييد يكون متعلقا بالوضوء فهذا باطل جزما ، اذ التقييد عبارة عن النسبة بين ذات المقيد والقيد ، فلو كان التقييد نفس القيد لزم من ذلك كون النسبة عين طرفها والحال ان لها وجودا مغايرا لوجود طرفيها

ص: 389

فالنسبة بين الصلاة والوضوء ليست هي نفس الوضوء بل غيره.

وان كان المقصود ان التقييد شيء مغاير للقيد خارجا وليس نفسه الا ان حصول القيد هو مقدمة لحصول التقييد فهذا شيء ، صحيح الا انه لا يلزم منه كون الامر النفسي المتعلق بالتقييد متعلقا بالقيد وانما يلزم منه تعلق امر مقدمي غيري بالقيد باعتبار انه مقدمه لحصول التقييد ، وهذا لا ينفع الميرزا لانه يريد الحصول على وجوب نفسي للوضوء حتى يكون مانعا من تعلق الوجوب الغيري به.

قوله ص 379 س 10 ويقال في مقابل ذلك : هذا عدل لقوله : « وقد يقال بالتعميم ».

قوله ص 380 س 3 من خلال ذلك : اي من خلال اجتماعهما.

قوله ص 380 س 6 كما يقال : التعبير بقوله « كما يقال » يدل على تضعيف هذا الرأي وهو كون الوجوب الغيري معلولا للوجوب النفسي ، والوجه في ضعفه على ما سيأتي ص 382 من الحلقة ان الوجوب فعل اختياري للشارع يحصل بسبب تشريعه وجعله ولا يعقل تولد وجوب من وجوب ، فان الوجوب لا يقبل الولادة.

قوله ص 380 س 10 من قبل : بكسر القاف وفتح الباء.

قوله ص 380 س 11 على ما تقدم : اي ص 335 من الحلقة.

قوله ص 380 س 11 لانه من : الصواب : لانه اما.

قوله ص 380 س 12 او معه : الترديد بقوله « معلول للوجوب النفسي او معه » اشارة الى الاحتمالين المتقدم ذكرهما ص 370 حيث ذكر قدّس سره ان التعبير عن الوجوب الغيري بالتبعي اما باعتبار انه معلول للوجوب النفسي او باعتبار ان هناك ملاكا واحدا ينشىء المولى بسببه الوجوب النفسي اولا وبالذات

ص: 390

والوجوب الغيري ثانيا وبالتبع.

قوله ص 381 س 15 بما تقدم : اي في مبحث الشرط المتأخر ص 339 من الحلقة.

قوله ص 381 س 16 جعل الامر متعلقا بالتقييد : اي جعل الامر متعلقا بالفعل مع التقييد.

قوله ص 382 س 2 لانه طرف له : فان التقييد نسبة لها طرفان احدهما القيد.

قوله ص 382 س 3 بما هو معنى حرفي : اي بما هو نسبة - فان المعنى الحرفي في المصطلح الاصولي يراد به النسبة - في مقابل التقييد بالمعنى الاسمي الذي هو عبارة عن نفس كلمة « التقييد ».

تحقيق حال الملازمة :

قوله ص 382 س 8 والصحيح انكار الوجوب الغيري ... الخ : ولحد الآن لم يتم التعرض لصلب الموضوع وهو ان مقدمة الواجب هل هي واجبة او لا ، وقد حان الآن وقت ذلك ، وقبل الاشارة الى الرأي المختار ينبغي استذكار ان المقصود من الوجوب المبحوث عنه هنا ليس هو الوجوب العقلي فانه لا اشكال لدى كل عاقل ان مقدمة الواجب يلزم الاتيان بها عقلا لتوقف تحقق الواجب عليها. وبكلمة ثانية : الوجوب العقلي الذي هو بمعنى اللابدية العقلية لم يقع موردا للخلاف بين الاصوليين بل هو من الامور المسلمة عندهم ، وانما الذي وقع موردا للخلاف هو الوجوب الشرعي بمعنى ان مقدمة الواجب التي قلنا بوجوب الاتيان بها عقلا هل اثبت الشارع المقدس لها الوجوب مضافا الى الوجوب الذي اثبته

ص: 391

لذي المقدمة او انه اثبت الوجوب لذي المقدمة فقط دون المقدمة؟

وبعد اتضاح المقصود من الوجوب نعود لنقول : هل مقدمة الواجب متصفة بالوجوب الشرعي او لا؟ الصحيح انها ليست واجبة بالوجوب الشرعي ولكنها محبوبة للمولى ويريدها ، فلنا دعويان :

أ - ان مقدمة الواجب ليست واجبة بوجوب شرعي ، اي لا ملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته.

ب - ان مقدمة الواجب محبوبة للمولى ، اي انه توجد ملازمة بين حب الشيء وحب مقدمته.

اما الدعوى الاولى فيمكن اثباتها بالبيان التالي : ان مقدمة الواجب لو كانت واجبة فنسأل : هل وجوبها حصل بسبب وجوب ذي المقدمة بمعنى ان وجوب الحج مثلا هو الذي ولّد وجوب السفر وترشح منه بشكل قهري ، او ان وجوبها حصل بسبب جعل الشارع المقدس الوجوب عليها ، فالشارع صب الوجوب اولا على الحج وثانية على السفر. وعليه ففي المقام احتمالان ، وكلاهما باطل.

اما الاول فباعتبار ان الوجوب فعل اختياري للشارع يحصل باختياره وفعله ولا يمكن ان يحصل من وجوب آخر ، فان الوجوب لا يولّد وجوبا اذ هو ليس قابلا للولادة.

واما الثاني فباعتبار ان المولى حينما يجعل الوجوب على شيء فلا بدّ ان يكون ذلك بداع وهدف معين ، ونحن نسأل عن ذلك الهدف ، فهل الهدف من جعل الوجوب على السفر مثلا تبيان ثبوت الملاك والمصلحة فيه او تبيان لزوم التحرك نحو السفر واستحقاق العقاب على تركه؟ وكلاهما غير صحيح.

ص: 392

اما الاول فباعتبار ان نفس السفر لا ملاك له حتى يحاول المولى اظهاره عن طريق جعل الوجوب عليه ، اجل ذو المقدمة وهو الحج مثلا له ملاك الا ان ملاكه قد تم بيانه واظهاره بواسطة الوجوب النفسي الثابت للحج.

واما الثاني فباعتبار ان الوجوب الغيري ليس له محركية مستقلة ولا استحقاق للعقاب على مخالفته كما تقدم توضيح ذلك عند التعرض لخصائص الوجوب الغيري. هذا كله في اثبات الدعوى الاولى وهي : ان مقدمة الواجب ليست واجبة.

واما الدعوى الثانية - وهي ان مقدمة الواجب محبوبة للمولى - فوجهها واضح ، فانه وان لم يمكن اقامة البرهان على ان من احبّ شيئا احبّ مقدماته الا ان الوجدان قاض بذلك ، فانه يحكم بان من احب ان يكون عالما فقد احب مقدمات ذلك ومن احب الزواج فقد احب مقدماته ايضا وهلم جراء. ومما يؤيد ذلك : ان من الامور الواضحة لدى كل متشرع محبوبية الصلاة والصوم ونحوهما من الواجبات النفسية للشارع المقدس ، فلو لم تكن هناك ملازمة بين حب الشيء وحب مقدماته فلا وجه لاستكشاف محبوبيتها اذ لا يوجد ما يكشف عن كونها محبوبة سوى ان الغرض من هذه الواجبات - وهو الانتهاء عن الفحشاء والمنكر مثلا - لما كان محبوبا فيلزم كون مقدمة هذا الغرض المحبوب - والمقدمة هي الصلاة مثلا - محبوبة ايضا. اذن الملازمة بين حب الشيء وحب مقدمته لو لم تتم فلا وجه لاستكشاف كون الصلاة محبوبة.

وقد تقول : ان الوجه في استكشاف محبوبيتها ليس ما ذكر بل هو تعلق الامر بها ، فان تعلق الامر بالصلاة مثلا يكشف عن كونها محبوبة والا لما تعلق الامر بها.

ص: 393

وفيه : ان تعلق الامر بالصلاة لا يدل على محبوبيتها اذ لعل وجه ذلك هو كونها مقدمة للغرض المحبوب من دون ان تكون محبوبة بنفسها.

قوله ص 382 س 9 والايجاب : عطف تفسير على « الجعل ».

قوله ص 383 س 1 كما تقدم في محله : اي في الحلقة الثانية ص 14 وهذه الحلقة ص 22.

قوله ص 383 س 5 كما مر : في هذه الحلقة ص 373.

حدود الواجب الغيري :

قوله ص 383 س 14 وفي حالة التسليم بالواجب الغيري ... الخ : هناك بحث اصولي يقول لو ثبت ان مقدمة الواجب واجبة او لا اقل محبوبة فهل الواجب مطلق المقدمة سواء كانت موصلة - اي حصل بعدها ذو المقدمة - ام لا او ان الواجب هو خصوص الموصلة ، فالسفر الى الحج مثلا هل هو واجب وان لم يحصل بعده الحج او ان الواجب هو خصوص السفر الحاصل بعده الحج؟ اختار صاحب الفصول والسيد الخوئي والسيد الشهيد ان الواجب هو خصوص الموصلة بينما ذهب الآخوند الى ان الواجب مطلق المقدمة.

وذكر الآخوند انا لو اردنا التعرف على ان الواجب هو مطلق المقدمة او خصوص الموصلة فعلينا ان نبحث هذه النقطة وهي : ان الغرض من وجوب المقدمة هل هو التمكن من الاتيان بذي المقدمة او حصول ذي المقدمة؟ فان كان الغرض هو التمكن فلازم ذلك وجوب مطلق المقدمة اذ مطلق المقدمة يوجب حصول التمكن من ذي المقدمة ، وان كان الغرض هو حصول ذي المقدمة فاللازم وجوب خصوص الموصلة. ثم اضاف قدّس سره ان الصحيح من هذين

ص: 394

الاحتمالين هو كون الغرض التمكن ، ومعه فاللازم وجوب مطلق المقدمة.

ولكن لماذا كان الصحيح هذا الاحتمال؟ ذكر قدّس سره ان الحصول لا يمكن ان يكون هو الغرض بحيث يكون الوجوب الغيري متعلقا بالمقدمة الموصلة ، اذ لازم ذلك صيرورة الواجب النفسي واجبا غيريا لأن الوجوب الغيري اذا كان متعلقا بالمقيد - اي المقدمة المقيدة بحصول ذي المقدمة بعدها - كان حصول الواجب النفسي مقدمة لحصول هذا المقيد - اذ حصول الواجب النفسي قيد ، والقيد مقدمة لحصول المقيد - واذا كان حصول الواجب النفسي مقدمة للمقيد فلازم ذلك صيرورة الواجب النفسي واجبا غيريا ، اذ قد فرضنا ان المقيد هو المتعلق للوجوب الغيري ، واذا كان المقيد واجبا غيريا فمقدمته وهو حصول الواجب النفسي يكون واجبا غيريا ايضا ، فان مقدمة الواجب الغيري واجب غيري بالاولوية.

هذا ما استدل به الآخوند لاثبات ان الغرض من الوجوب الغيري هو التمكن دون الحصول.

وفي مقابل هذا يمكن الاستدلال على العكس وان الغرض هو الحصول وليس التمكن ، اذ لو كان التمكن هو الغرض فنسأل : هل هو الغرض الاصيل والاساسي من وجوب المقدمة او هو غرض غير اصيل؟ والاحتمال الاول باطل لوجهين :

أ - ان كون التمكن هو الغرض الاصيل خلاف الوجدان ، فانه قاض بان الشارع لا يريد السفر لمجرد انه يوجب التمكن من الحج وان لم يحصل بعده الحج ، بل يريد السفر الذي يحصل الحج بعده.

ب - يلزم من كون التمكن هو الغرض الاصيل خلف الفرض ، اذ قد فرضنا

ص: 395

ان المقدمة قد تكون موصلة وقد لا تكون ، فلو كان التمكن هو الغرض الاصيل والنفسي فلازمه صيرورة المقدمة موصلة دائما ولا توجد مقدمة غير موصلة ، فانه لو كان التمكن هو الغرض الاصيل فهذا الغرض حيث انه حاصل في كل مقدمة فيلزم صيرورة كل مقدمة موصلة الى الغرض الاصيل وهو التمكن ، اذ كل مقدمة يحصل بها التمكن من ذي المقدمة.

والاحتمال الثاني - وهو كون التمكن غرضا غير اصيل - لازمه وجود غرض اصيل ونفسي ، اذ كل شيء غير اصيل يلزم ان ينتهي الى شيء اصيل لقاعدة ان كل ما بالغير لا بد وان ينتهي الى ما بالذات ، وحيث فرضنا ان التمكن ليس هو الغرض الاصيل فيلزم وجود غرض اصيل ينتهي اليه هذا الغرض غير الاصيل ، وحيث لا يوجد غرض اصيل الا الوصول لذي المقدمة فيلزم كون الوصول هو الغرض الاصيل. وبهذا يثبت ما اردناه وهو كون الغرض الاصيل هو الحصول دون التمكن.

يبقى قد تقول : ان هذا طريق لطيف لاثبات كون الغرض هو الحصول دون التمكن ولكن كيف ندفع ما ذكره الآخوند من ان الغرض لو كان هو الحصول يلزم صيرورة الواجب النفسي واجبا غيريا؟ يمكن دفع ذلك بانه ليس المقصود من تعلق الوجوب الغيري بالمقدمة الموصلة هو ان الوجوب الغيري متعلق بالمجموع المركب من المقدمة وقيد حصول الواجب النفسي حتى يلزم ان يكون الواجب النفسي قيدا في متعلق الوجوب الغيري بل المقصود ان الواجب لو كان له عشر مقدمات مثلا فالوجوب الغيري لا يتعلق بكل واحدة واحدة بحيث تكون هناك عشرة وجوبات بل هناك وجوب واحد يتعلق بمجموع المقدمات العشر ، فان الذي يحصل الواجب النفسي بعده ليس هو كل مقدمة مقدمة بل هو مجموع

ص: 396

المقدمات العشر.

وبكلمة ثانية : نحن لا نفسر المقدمة الموصلة بالمقدمة التي يكون الواجب النفسي حاصلا بعدها ليرد ما ذكره الآخوند بل نفسرها بالمقدمة التي لو حصلت لحصل بعدها الواجب النفسي حتما ، وتلك المقدمة ليست هي الا مجموع المقدمات من حيث المجموع واما كل مقدمة بمفردها فلا يصدق عليها لو حصلت لحصل بعدها الواجب النفسي حتما.

وبكلمة ثالثة : ان المقدمة تارة تكون علة تامة لحصول ذي المقدمة واخرى جزء العلة التامة ، والاولى نسميها بالموصلة وهي التي ينصب عليها الوجوب الغيري دون كل مقدمة مقدمة لانها جزء العلة التامة وليست علة تامة. وبناء على هذا التفسير الجديد للمقدمة الموصلة لا يكون الواجب النفسي قيدا في متعلق الوجوب الغيري ليلزم صيرورته واجبا غيريا.

وبكلمة رابعة : ان قيد الموصلة يؤخذ في متعلق الوجوب الغيري بما هو مشير ومعرّف الى واقع المقدمة التي لا ينفك عنها ذو المقدمة ولا يؤخذ فيه بنحو الموضوعية فلو فرض انه يوجد في الخارج نحو ان من السفر احدهما حاصل بعده الحج والآخر لم يحصل بعده الحج فبقيد الموصلة كأنه يراد الاشارة الى النحو الاول وانه هو المطلوب دون الثاني.

قوله ص 384 س 7 مقدمة للواجب الغيري : اي وما هو المقدمة للواجب الغيري يكون واجبا غيريا بالاولوية.

قوله ص 385 س 11 والا تسلسل الكلام : اي اذا لم ينته الغرض غير النفسي الى غرض نفسي اصيل يلزم التسلسل ، وهذا نظير العالم الذي يكون علمه مكتسبا من الغير فانه لا بدّ وان ينتهي علمه الى عالم يكون علمه ذاتيا له

ص: 397

والا يلزم التسلسل ، اذ العالم الذي اكتسب علمه من الغير يكون علمه معلولا لعالم ثان ، فلو كان علم هذا الثاني ليس ذاتيا لزم افتراض عالم ثالث وهكذا.

قوله ص 385 س 12 حتى يعود اليه : حتى يعود الكلام الى غرض نفسي وهو حصول الواجب النفسي.

مشاكل تطبيقية :

قوله ص 386 س 1 استعرضنا فيما سبق ... الخ : هناك مشكلتان واجههما الاصوليون عند بحثهم عن مقدمة الواجب هما :

1 - ذكرنا فيما سبق اربع خصوصيات للوجوب الغيري ، وكانت الخصوصية الثانية ان امتثال الوجوب الغيري لا يوجب استحقاق الثواب ، وهذه الخصوصية صارت سببا لمشكلة حاصلها : انه ورد في عدة روايات استحقاق المكلف للثواب على بعض المقدمات كمن سافر الى الحج او لزيارة الامام الحسين علیه السلام ماشيا على قدميه فان له بكل خطوه يخطوها ثوابا عظيما (1) ، ان هذه الروايات تثبت الثواب على الخطوات بالرغم من انها مقدمات للمطلوب النفسي وليست بنفسها مطلوبات نفسية ، وهذا يتنافى والخصوصية الثانية للوجوب الغيري.

2 - ذكرنا في الخصوصية الرابعة ان الوجوب الغيري توصلي لا يتوقف سقوطه على قصد القربة ، وهذه الخصوصية صارت سببا لمشكلة حاصلها : ان الوضوء والتيمم والغسل هي واجبات غيرية مع انها تتوقف على قصد القربة ، وهذه المشكلة هي المعروفة بمشكلة عبادية الطهارات الثلاث.

ص: 398


1- فقد ورد في بعضها : « من اتى قبر الحسين علیه السلام ماشيا كتب اللّه له بكل خطوة الف حسنة ومحى عنه الف سيئة ورفع له الف درجة ». والروايات في ذلك كثيرة راجع الوسائل ج 10 الباب 41 من ابواب المزار.

ويمكن دفع المشكلة الاولى بان الآتي بالخطوات لزيارة الامام الحسين علیه السلام او لأداء الحج يقصد من اول خطوة يخطوها امتثال الامر النفسي المتعلق بالزيارة والحج ، ومعه فيكون مستحقا للثواب على الخطوات بما هي شروع في امتثال الامر النفسي لا بما هي خطوات وامتثال للامر الغيري ليرد الاشكال ، والروايات المتقدمة يمكن حملها على ذلك (1). هذا بالنسبة الى المشكلة الاولى.

واما بالنسبة الى المشكلة الثانية فقد ذكر الآخوند في دفعها بان المقدمة اذا كانت عبارة عن ذات الفعل فلا يلزم قصد القربة ، وهذا كالسفر بالنسبة للحج ، فان المقدمة للحج هو ذات السفر ومعه فلا يلزم حين الاتيان بالسفر قصد القربة ، واما اذا كانت المقدمة ليست ذات الفعل بل الفعل مع انضمام قصد القربة - كما هو الحال في الوضوء فان المقدمة للصلاة ليست ذات الوضوء بل الوضوء المنضم اليه قصد القربة - فيلزم الاتيان بقصد القربة ولكن لا من جهة توقف سقوط الامر بالمقدمة على قصد القربة ليرد الاشكال بل من جهة ان نفس المقدمة تتوقف على قصد القربة.

وبكلمة ثانية : ان قصد القربة في باب الوضوء هو جزء من المقدمة وليس شيئا خارجا عنها ليلزم الاشكال من لزوم ضمه اليها حين الاتيان بها.

وبكلمة ثالثة : ان الذي ذكرناه في الخصوصية الرابعة هو ان قصد القربة لا يلزم ضمه الى المقدمة ، ومن الواضح انه في باب الوضوء لا يكون قصد القربة

ص: 399


1- هذا كله لو قلنا بان الخطوات مطلوبة طلبا غيريا ، اما لو قلنا بانها مطلوبة طلبا نفسيا - بتقريب ان المشي على الاقدام الى قبر الامام الحسين علیه السلام مطلوب في نفسه حتى ولو لم تتحقق زيارته علیه السلام لان في ذلك نحوا من تعظيم الشعائر وهكذا بالنسبة الى الحج - فالاشكال مرتفع من اساسه.

شيئا منضما الى المقدمة بل هو مقوم لها بحيث من دونه لا يصدق الاتيان بالمقدمة.

وان شئت قلت : ان العبادية لم تطرأ على المقدمة بل المقدمية طارئة على العبادة.

ان قلت : ان هذا وجيه ولكن قد يورد بان قصد القربة وان كان جزء من ذات المقدمة وليس اجنبيا عنها غير انه لا يمكن للمكلف الاتيان به اذ معنى قصد القربة كون المحرك للمكلف نحو الوضوء هو الامر وليس الرياء او التبريد او شيئا آخر ، ومعه فنسأل عن هذا الامر الذي صار محركا للمكلف نحو الوضوء ، انه ليس الا الامر بالوضوء ، وحيث ان الامر المذكور غيري فلا يصلح لأن يكون محركا لما تقدم في الخصوصية الاولى من عدم صلاحية الامر الغيري للمحركية.

قلت : يمكن الجواب بوجهين :

أ - ان المحرك ليس هو الامر بالوضوء بل الامر بالصلاة الذي هو امر نفسي ، ومعه فلا يرد الاشكال.

لا يقال : ان لازم هذا عدم صحة الوضوء لو لم يأت المكلف به بقصد امتثال الامر بالصلاة.

فانه يقال : نعم يلزم قصد الامر بالصلاة بل ذلك هو المطابق للواقع الخارجي ، فان المكلف لا يأتي بالوضوء الا لاجل التوصل به الى الصلاة او نحوها من الغايات (1) ، وكل من قصد التوصل الى ذلك فقد قصد امتثال الامر بالصلاة او نحوها من الغايات لعدم انفكاكه عنه فقصد التوصل الى الصلاة هو عبارة اخرى عن قصد امتثال امر الصلاة وكون امر الصلاة هو المحرك.

ص: 400


1- هذا بناء على قطع النظر عن ثبوت الاستحباب النفسي للوضوء فان ذلك هو الجواب الثاني.

ب - ان هناك رأيا معروفا يقول بان الوضوء مستحب ونور في نفسه وان لم يقصد به الصلاة ، ومعه فيمكن للمكلف الاتيان به بقصد امتثال الاستحباب النفسي ويكون هو المحرك له ، وبالتالي فلا يلزم الاشكال.

اجل هذا الجواب يجدي في خصوص الوضوء دون التيمم والغسل حيث لم يثبت من الادلة استحبابهما النفسي.

وبهذا اتضح ان المكلف مخيّر في مقام قصد القربة بالوضوء بين ان يقصد امتثال الامر النفسي المتعلق بالصلاة او يقصد الاستحباب النفسي المتعلق بالوضوء.

قوله ص 386 س 6 وان ما ثبت من عبادية ... الخ : هذا اشارة الى المشكلة الثانية ، وقوله فيما سبق « وقد لوحظ ان ما ثبت ... الخ » اشارة الى المشكلة الاولى.

قوله ص 386 س 9 فهو انها : اي الخصوصية الثانية.

قوله ص 386 س 14 يمكن تطبيقه على ذلك : اي يمكن ان يكون مقصود الروايات ان الآتي بالخطوات يثاب عليها بما انه قد قصد من حين الاتيان بها امتثال الامر النفسي.

قوله ص 387 س 9 نستكشف انطباق هذه الحالة عليها : اي نستكشف ان قصد القربة جزء مقوم للمقدمة وليس شيئا خارجا عنها.

قوله ص 387 س 16 وهذا التحريك يتمثل في قصد التوصل : اي ان قصد امتثال الامر بالصلاة وكونه المحرك لا ينفك عن قصد التوصل بالوضوء الى الصلاة.

ص: 401

ص: 402

الاجزاء في الاوامر الظاهرية والاضطرارية

اشارة

ص: 403

ص: 404

دلالة الاوامر الظاهرية والاضطرارية على الاجزاء :

اشارة

قوله ص 389 س 1 لا شك في ان الاصل اللفظي ... الخ :

لتوضيح هذا المبحث نطرح السؤالين التاليين :

1 - لو فرض ان المكلف امتثل الامر الاضطراري بان تيمم مثلا وصلى ثم تمكن من الماء فهل يجب عليه اعادة الصلاة مع الوضوء او لا؟ وبكلمة اخرى : هل الامر الاضطراري يجزي عن امتثال الامر الواقعي الاختياري او لا؟ وطبيعي نطرح هذا التساؤل بقطع النظر عن الروايات الخاصة الواردة في هذا المجال لنعرف ما تقتضيه القاعدة الاولية ، فالبحث اذن ليس بحثا عما تقتضيه الروايات بل عما تقتضيه القاعدة الاولية.

2 - اذا امتثل المكلف الامر الظاهري كما لو قلد مجتهدا وعمل برأيه فترة من الزمن ثم قلد من يفتي ببطلان اعماله السابقة فهل يلزمه اعادتها او لا؟

وقبل الاجابة نقدم مقدمة صغيرة حاصلها : ان مقتضى القاعدة الاولية في كل امر عدم تحقق امتثاله بغير متعلقه ، فلو قال المولى اعتق رقبة فلا يسقط الامر الا بعتق الرقبة ولا يكفي توزيع ثمنها على الفقراء ، فان توزيع الثمن ليس هو المأمور به ، فاسقاطه للامر يحتاج الى دليل ، اذ لو كان مسقطا لكان من المناسب تقييد الامر بان يقال يجب عتق الرقبة ان لم يوزع ثمنها ، وحيث لم يقيد بل اطلق كان ذلك دليلا على عدم اجزاء غير العتق. اذن مقتضى القاعدة في كل امر - المقصود من القاعدة الاصل اللفظي اي الاطلاق - هو عدم اجزاء غير متعلقه

ص: 405

عنه.

وبعد الفراغ من المقدمة نقول : ان لازم هذه القاعدة عدم اجزاء الوظيفة الظاهرية او الاضطرارية عن امتثال الامر الواقعي ولا يسقط الامر الواقعي الا بالاتيان بالمأمور به الواقعي بيد انه قد يدعى وجود نكتة خاصة تقتضي اجزاء امتثال الامر الظاهري والاضطراري عن امتثال الامر الواقعي. ولتوضيح ذلك نتكلم تارة عن الامر الاضطراري واخرى عن الامر الظاهري.

دلالة الاوامر الاضطرارية على الاجزاء عقلا

قوله ص 390 س 1 اذا تعذر الواجب الاصلي ... الخ : وامثلة الاوامر الاضطرارية كثيرة منها مثال التيمم بدل الوضوء ومنها الصلاة جالسا عند عدم القدرة على القيام ، فاذا تحققت القدرة على الوضوء او القيام فهل تجب الاعادة او لا؟ ولتوضيح ما تقتضيه القاعدة نقول : تارة نفترض ان جواز البدار الى الصلاة من جلوس او مع التيمم في بداية الوقت مشروط ببقاء العذر - اي عدم القدرة على الوضوء والقيام - الى آخر الوقت ، واخرى يفرض جواز البدار وان لم يكن العذر مستوعبا لتمام الوقت.

ونتكلّم اولا عن الحالة الثانية - ثم عن الاولى - والقاعدة فيها تقتضي عدم وجوب الاعادة ، فلو لم يكن المكلف قادرا على الصلاة مع الوضوء او القيام وبادر الى الصلاة مع الجلوس او التيمم في اول الوقت ثم ارتفع العذر قبل انتهاء الوقت فلا تلزمه الاعادة ، ويمكن توضيح وجه ذلك بالشكل التالي : لو اتى المكلّف بالصلاة جالسا او مع التيمم كانت الصلاة المذكورة مصداقا للواجب الاضطراري ، وحينئذ نسأل : هل الصلاة المذكورة واجبة على سبيل التعيين بحيث

ص: 406

لا يجوز للمكلف تأخير صلاته الى ما بعد ارتفاع العذر او هو مخير بينها وبين الانتظار الى ارتفاع العذر ليأتي بالصلاة الاختيارية؟ لا اشكال في ان الصحيح هو الثاني فيجوز الانتظار الى ارتفاع العذر. واذا ثبت تخير المكلف بين الصلاة العذرية والانتظار لاداء الصلاة الاختيارية فلازم ذلك كفاية الصلاة العذرية التي يأتي بها اول الوقت لان الواجب عليه هو الجامع - اي احدى الصلاتين : الاضطرارية او الاختيارية - والمفروض تحقق الجامع بالاتيان باحد فرديه وهو الصلاة العذرية فيكون ما اتي به كافيا ولا تلزم الاعادة.

ان قلت : ان التخيير اذا كان بالشكل التالي - الاتيان بالصلاة العذرية حالة العذر والاتيان بالصلاة الاختيارية بعد ارتفاع العذر - لم تجب الاعادة كما ذكر ، لكن لماذا لا يكون التخيير بشكل آخر بان يكون التخيير بين الاتيان بصلاتين - وهما الصلاة العذرية حالة العذر والاختيارية بعد ارتفاعه - وبين الانتظار الى حالة ما بعد ارتفاع العذر ليؤتى بصلاة واحدة وهي الاختيارية ، والتخيير اذا كان بهذا الشكل فالاتيان بالصلاة العذرية حالة العذر لا يكفي بل لا بدّ من ضم الصلاة الاختيارية لها بعد ارتفاع العذر.

قلت : ان التخيير بهذا الشكل غير معقول لأنه تخيير بين الاقل والاكثر اي تخيير بين صلاة واحدة وصلاتين ، والتخيير بين الاقل والاكثر غير معقول فلا معنى لان يقول الوالد لولده مثلا اما ان تدرس درسا واحدا او تدرس درسين ، اذ بدراسته للدرس الواحد يكون الواجب متحققا ومع تحققه لا يمكن ان يبقى الوجوب ليكون الدرس الثاني واجبا. هذا كله في الحالة الثانية.

واما الحالة الاولى - وهي ان يكون جواز البدار للصلاة العذرية مشروطا باستمرار العذر الى آخر الوقت - فتوضيح الحال فيها : ان المكلف اذا اتى بالصلاة

ص: 407

العذرية حالة العذر فان ارتفع عذره قبل انتهاء الوقت وصار متمكنا من الصلاة الاختيارية فلازم ذلك بطلان الصلاة العذرية التي اتى بها ، اذ ان صحتها مشروطة باستمرار العذر والمفروض عدم استمراره ، ومع بطلانها فلا تقع مجزية عن الصلاة الاختيارية كما هو واضح. هذا اذا فرض زوال العذر قبل انتهاء الوقت ، واما اذا بقي مستمرا فالبحث عن وجوب الاعادة لا معنى له لفرض عدم ارتفاع العذر داخل الوقت ليمكن اعادة الصلاة فينحصر البحث في وجوب القضاء فيقال هل يجب القضاء والاتيان بالصلاة الاختيارية بعد انقضاء الوقت وارتفاع العذر او لا؟ قد يقال بعدم وجوب القضاء ، اذ المكلف باتيانه بالصلاة العذرية حالة العذر قد حصل على تمام مصلحة الصلاة الاختيارية فان الصلاة العذرية اذا لم تكن وافية بتمام مصلحة الصلاة الاختيارية لم يأمر بها فأمره بها دليل على وفائها بتمام مصلحة الصلاة الاختيارية ، ومع حصول المكلف على تمام مصلحة الصلاة الاختيارية فلا يصدق انه فاته شيء ليجب عليه القضاء ، اذ وجوب القضاء منصب على الفوت - اقض ما فات كما فات (1) - ومع عدم صدق الفوت فلا يجب القضاء ، هكذا قد يقال.

وفيه ان الامر بالصلاة العذرية لا يدل على وفائها بتمام مصلحة الصلاة الاختيارية ، اذ مصلحة الصلاة الاختيارية اذا كانت بمقدار عشر درجات فمن الممكن ان تفي الصلاة العذرية داخل الوقت بمقدار خمس والصلاة الاختيارية القضائية تفي بمقدار خمس اخرى ، ان هذا افتراض معقول ، وبناء عليه يلزم على المولى الامر بالصلاة العذرية داخل الوقت ليحصل المكلف على مقدار خمس كما

ص: 408


1- لم يرد التعبير المذكور في رواياتنا وانما الوارد في معتبرة زرارة « فليقض في السفر صلاة الحضر كما فاتته » الوسائل باب 6 من قضاء الصلوات حديث 1. وقريب من ذلك معتبرته الاخرى الواردة في الباب 2 حديث 3.

ويلزم الامر بالقضاء للحصول على الخمس الاخرى.

وبكلمة مختصرة : مجرد الامر بالصلاة العذرية داخل الوقت لا يمكن ان نفهم منه اشتمالها على تمام المصلحة ليثبت الاجزاء بل اثباته يحتاج الى دليل خاص - والا فالقاعدة لا تقتضي الاجزاء - كما قد يدعى ذلك في التيمم فقد يستفيد الفقيه من حديث « التيمم احد الطهورين » وحديث « يكفيك عشر سنين » (1) اشتماله على تمام مصلحة الوضوء ، كما وربما يستفيد الفقيه من الادلة الخاصة عدم وجوب القضاء كما هو الحال في قوله تعالى ( « وتيمموا صعيدا طيبا » ) (2) فان هذه الآية اذا كانت بصدد بيان الوظيفة حالة عدم الماء وحالة ما بعد التمكن منه ومع ذلك لم تأمر الا بالصلاة مع التيمم كان ذلك دليلا على عدم وجوب القضاء والا لأمرت به ولقالت : واذا تمكنتم من الماء وجبت عليكم الصلاة مع الوضوء.

والنتيجة التي نخرج بها هي : ان القاعدة لا تقتضي الاجزاء ، بل لا بدّ لاثباته من احد امرين : اما دلالة الدليل على وفاء الوظيفة الاضطرارية بتمام مصلحة الوظيفة الاختيارية او عدم اشارة الدليل لوجوب القضاء فيما اذا كان بصدد بيان الوظيفة حالة ثبوت العذر وارتفاعه.

قوله ص 390 س 2 تشرع : بضم التاء وسكون الشين وفتح الراء من دون تشديد. والمراد من التشريع هو الجعل بمعنى الوجوب.

ص: 409


1- ففي معتبره محمد بن مسلم « سألت ابا عبد اللّه عن رجل اجنب فتيمم بالصعيد وصلى ثم وجد الماء قال : لا يعيد ، ان رب الماء رب الصعيد فقد فعل احد الطهورين ». وسائل الشيعة ج 2 باب 14 من ابواب التيمم ح 15. وفي معتبرة السكوني عن جعفر عن ابيه عن آبائه عن ابي ذر رضي اللّه عنه « انه اتى النبي صلى اللّه عليه وآله فقال : يا رسول اللّه هلكت جامعت على غير ماء ، قال : فأمر النبي صلى اللّه عليه وآله بمحمل فاستترت به وبماء فاغتسلت انا وهي ثم قال : يا ابا ذر يكفيك الصعيد عشر سنين » المصدر السابق ح 12.
2- النساء : 43

قوله ص 392 س 4 في هذه الحالة : اي حالة استيعاب العذر.

قوله ص 392 س 5 مع بقاء جزء آخر مهم : واما اذا كان الجزء المتبقى ضئيلا فلا يأمر المولى بالقضاء بل باداء الوظيفة الاضطرارية داخل الوقت فقط.

قوله ص 392 س 11 من لسان دليل ... الخ : كما في لسان « التيمم احد الطهورين » او « يكفيك عشر سنين » فان لسانهما ظاهر في وفاء التيمم بتمام مصلحة الوضوء.

قوله ص 392 س 12 واطلاقه : كما في قوله « فيتمموا صعيدا طيبا » ، فان مقتضى اطلاقه وعدم تقييده بوجوب القضاء عدم وجوبه.

قوله ص 392 س 14 ابتداء وانتهاء : المراد من الابتداء حالة العذر ومن الانتهاء حالة ما بعد ارتفاعه.

دلالة الاوامر الظاهرية على الاجزاء :

قوله ص 393 س 1 قد تؤدي الحجة الى تطبيق ... الخ : تمام الحديث السابق كان عن الاوامر الاضطرارية ، واما الاوامر الظاهرية فنذكر لها مثالين :

أ - اذا دلت الامارة على وجوب الظهر مثلا ثم اتضح الخلاف وان الواجب واقعا هو الجمعة. وفي هذا المثال يوجد حكم ظاهري وهو حجية الامارة قد سار المكلف على طبقه ثم اتضح مخالفته للواقع.

ب - اذا شهد الثقة بطهارة الثوب فصلى فيه المكلف ثم اتضحت نجاسته واقعا.

وفي هذين المثالين نسأل : هل الوظيفة الظاهرية التي اتى بها المكلف تجزي عن الوظيفة الواقعية او لا؟ قد يقال نعم تقتضي الاجزاء لان الشارع المقدس

ص: 410

حينما جعل الامارة حجة لا بدّ وان يفرض صيرورتها سببا لحدوث المصلحة في مؤداها ، فاذا ادت الى وجوب الظهر فمؤداها - وهو وجوب الظهر - لا بدّ من حدوث المصلحة فيه والا كان جعل الحجية لها من قبل الشارع قبيحا لانه يوجب تفويت مصلحة الواقع ، ومعه يلزم اجزاؤها لعدم الفرق بينها وبين الجمعة في الوفاء بالمصلحة.

وهذا المسلك القائل بكون الامارة سببا لحدوث المصلحة في مؤداها هو المعروف بمسلك السببية. هكذا قد يقرب برهان القول باجزاء امتثال الاحكام الظاهرية. وفيه :

1 - ان القول بالسببية باطل في نفسه - لما سيأتي - وحل المشكلة لا يتوقف عليه حتى نكون ملزمين بالاخذ به ، بل يمكن حلها بوجه آخر تقدمت الاشارة اليه في اوائل الكتاب. ولتوضيحه نقول باختصار : واجه الاصوليون مشكلة تقول كيف جعل الشارع خبر الثقة مثلا حجة والحال ان ذلك قد يوجب تفويت مصلحة الواقع باعتبار انه ربما يكون الثابت واقعا وجوب الجمعة ، فاذا جعل الشارع خبر الثقة حجة وكان دالا على وجوب الظهر فسوف يأتي المكلف بالظهر ويترك الجمعة ، وبذلك تفوت عليه مصلحة الجمعة ، ومن الواضح ان تفويت المصلحة الواقعية امر قبيح. وهذه المشكلة تتولد من اثبات الحجية لخبر الثقة ، اذ لو لا ذلك لما اخذ المكلف به بل كان يحتاط ويحاول تحصيل العلم بالواقع. ان هذه المشكلة اثارت اهتمام الاصوليين وصارت سببا لتولد مسلك السببية ، فمسلك السببية لم ينشأ الا من اجل الفرار من هذه المشكلة ، فان الامارة اذا كانت تحدث مصلحة بمقدار مصلحة الواقع فلا محذور بعد ذلك في جعلها حجة ، ولكن هذا المسلك باطل جزما ، لانه يؤدي الى محذور التصويب كما سنوضح ، ومن هنا

ص: 411

حاول الشيخ الانصاري قدّس سره سلوك مسلك آخر في حل المشكلة وهو القول بالمصلحة السلوكية (1) الذي هو من نتائج هذه المشكلة ايضا. وسلك السيد الشهيد قدّس سره مسلكا ثالثا تقدمت الاشارة له في اوائل الحلقة ، وحاصله : ان الحكم الظاهري ينشأ من مصلحة وملاك معين ولكن تلك المصلحة هي عين مصلحة الواقع وليست مغايرة لها ، فمثلا شرّع اللّه سبحانه الاباحة للماء كما وشرع الحرمة للخمر ، واحيانا قد يحصل الاشتباه ويتردد امر سائل معين بين الخمر والماء وفي مثل ذلك لا بدّ من تشريع لهذا السائل المشتبه ، ولكن ما هو ذلك الحكم المشرع؟ ان الحكم المشرع لا بدّ وان يكون موافقا للملاك الاهم ، فالمولى يقارن بين مصلحة اباحة الماء ومفسدة حرمة الخمر ، فاذا شخّص ان المصلحة اهم شرع حكما ظاهريا يقول كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام ، ان هذا الحكم الظاهري نشأ عن مصلحة وليست هي الا المصلحة الواقعية الاهم ، وان شخص ان الاهم هو مفسدة الخمر شرع حكما ظاهريا يقول اخوك دينك فاحتط لدينك ، وهو ايضا حكم ظاهري ناشىء عن الملاك الاهم. اذن الحكم الظاهري حكم ناشىء من الملاك الواقعي الاهم.

واذا عرفنا حقيقة الحكم الظاهري اندفعت المشكلة السابقة ، اذ الحكم الظاهري وان كان قد يخالف الواقع احيانا الا انه لما نشأ للتحفظ على الملاك الاهم كان فوات مصلحة الواقع من باب التضحية بالملاك غير الاهم حفاظا على الملاك الاهم ، وتلك تضحية مقبولة لدى العقلاء.

اذن حلّ المشكلة السابقة يمكن في تفسير حقيقة الحكم الظاهري بالحكم الناشىء وفق الملاك الاهم ، وهو الحل الصحيح.

ص: 412


1- يأتي توضيح المقصود من المصلحة السلوكية في الجواب الثاني.

واما ما افيد في البرهان السابق من التمسك بمسلك السببية فهو باطل ، فان مسلك السببية يستلزم التصويب ، اذ لو فرض ان الحكم الثابت في الواقع هو وجوب الجمعة وادت الامارة الى وجوب الظهر واحدثت في الظهر مصلحة بمقدار عشر درجات التي هي بمقدار مصلحة الواقع فيلزم تبدل الواقع من التعيين الى التخيير ، فالثابت في الواقع قبل قيام الامارة هو وجوب الجمعة بنحو التعيين وعند قيام الامارة وحدوث مصلحة في الظهر بمقدار مصلحة الواقع يلزم تبدل تعين وجوب الجمعة الى التخيير بينها وبين الظهر ، فانه بعد اشتمال كل من الجمعة والظهر على مصلحة متعادلة فلا وجه لتخصيص الوجوب بالجمعة بل يلزم انقلابه الى التخيير وهذا نحو من انحاء التصويب ، فان للتصويب انحاء منها ان لا يكون في الواقع حكم ابدا وانما يحدث بعد قيام الامارة ومنها ان يكون في الواقع حكم ولكنه يتبدل كما هو الحال في المقام. ومن هنا جرت عادة الاصوليين على الفرار من مسلك السببية وما ذاك الا للمحذور المذكور.

2 - انه حتى لو قبلنا مسلك السببية فلا يثبت بذلك الاجزاء ، فلو سلمنا ان الامارة تحدث مصلحة فلا يلزم ان تكون تلك المصلحة ثابتة في المؤدى ليلزم صيرورة الظهر مثلا واجبة كوجوب الجمعة بل من الممكن افتراض ثبوتها في السلوك بمعنى ان سلوك الامارة والجري العملي على طبقها تحدث فيه مصلحة ، وهذه المصلحة في السلوك ليست بمقدار مصلحة الواقع بل بمقدار المصلحة الفائتة على المكلف ، فاذا فرض ان المكلف سلك الامارة الدالة على وجوب الظهر وكان الثابت في الواقع هو وجوب الجمعة ولم ينكشف مخالفة الامارة للواقع الا بعد انقضاء الوقت ففي مثل هذه الحالة تكون جميع مصلحة الواقع قد فاتت على المكلف بسبب سلوك الامارة فيلزم لاجل تدارك المصلحة الفائتة ثبوت مصلحة

ص: 413

في السلوك بمقدار المصلحة الفائتة فاذا كانت الفائتة بمقدار عشر درجات فيلزم ان يثبت في السلوك المقدار المذكور ، اما اذا فرض ان انكشاف مخالفة الامارة للواقع اتضح وسط الوقت فلا يحدث في السلوك مصلحة بمقدار عشر درجات اذ السلوك لم يفوّت على المكلف تمام مصلحة الواقع لفرض عدم انتهاء الوقت حتى لا يمكن التدارك ، اجل سلوكها فوّت مصلحة فضيلة اول الوقت ، فاذا كانت المصلحة المذكورة بمقدار درجة واحدة لزم حدوث درجة واحدة من المصلحة في السلوك وتبقى التسع بلا تدارك فيلزم المكلف تداركها بفعل الجمعة في الوقت.

وباختصار : ان المصلحة اذا كانت في السلوك لا في المتعلق فاللازم عدم الاجزاء في صورة انكشاف الخلاف اثناء الوقت لان السلوك تحدث فيه مصلحة بمقدار ما يفوت من مصلحة الواقع بسبب السلوك ، وحيث ان الفائت جزء يسير من المصلحة فيلزم الاتيان بالواجب الواقعي لتدرك بذلك المصلحة المتبقاة وهذا هو عدم الاجزاء. اذن القول بالسببية بهذا النحو - وهو ثبوت المصلحة في السلوك المعبر عنه بالمصلحة السلوكية (1) - لا يلازم القول بالاجزاء بل قد ينفك عنه كما اذا انكشف الخلاف داخل الوقت.

الامر الظاهري يجزي في بعض الصور عند علمين

قوله ص 395 س 11 نعم يبقى امكان دعوى ... الخ : ذكرنا ان السيد الشهيد يختار في الامر الظاهري عدم اجزائه عن الامر الواقعي لكون الاجزاء مبنيا على مسلك السببية الذي هو باطل لاستلزامه التصويب على ما تقدم مضافا الى ان السببية لا تقتضي الاجزاء دائما. هذا ولكن الآخوند وتلميذه الاصفهاني

ص: 414


1- وبهذا اتضح المقصود من المصلحة السلوكية.

قدّس سرهما اختارا اجزاء الامر الظاهري في صورة وعدم اجزائه في صورة اخرى. وقد تقدم توضيح هذا التفصيل ص 39 من الحلقة. ومختصره : ان المكلف اذا اراد الصلاة لزمه احراز طهارة ثوبه وبدنه - ان لم يكن له قطع - اما بواسطة خبر الثقة بان يشهد الثقة بطهارة الثوب مثلا او بواسطة قاعدة الطهارة فيما اذا لم يشهد الثقة بذلك. واذا استند المصلي في اثبات الطهارة الى احد هذين الطريقين : خبر الثقة او قاعدة الطهارة ثم اتضح بعد ذلك نجاسة الثوب او البدن واقعا فهل تجب اعادة الصلاة (1)؟ هنا فصّل الآخوند والاصفهاني بين ما اذا كان المستند خبر الثقة وما اذا كان قاعدة الطهارة ، فان كان المستند قاعدة الطهارة فلا تجب الاعادة لان قاعدة الطهارة تثبت طهارة جديدة مغايرة للطهارة الواقعية وتسمى بالطهارة الظاهرية ، وما دامت قاعدة الطهارة تثبت طهارة جديدة باسم الطهارة الظاهرية فلازم ذلك حصول توسعة في الدليل الدال على شرطية الطهارة في الصلاة الذي يقول « صل في الطاهر » ، ان الشرطية سوف تتسع ويصير المقصود : صل في الطاهر سواء كان طاهرا بطهارة واقعية ام بطهارة ظاهرية ، فبينما كان موضوع الشرطية سابقا - اي قبل ملاحظة قاعدة الطهارة - منحصرا بفرد واحد وهو الطهارة الواقعية اصبح بعد ذلك متسعا وشاملا لكلتا الطهارتين : الواقعية والظاهرية ، وبعد اتساع دائرة موضوع الشرطية وصيرورة الشرط هو الطهارة الاعم من الواقعية والظاهرية فلا يلزم اعادة الصلاة بعد انكشاف النجاسة واقعا ، فان الثوب وان كان نجسا واقعا الا انه حين الصلاة لفرض عدم العلم بنجاسته هو طاهر بالطهارة الظاهرية ، ومع طهارته الظاهرية تقع الصلاة صحيحة لان شرط الصحة هو الطهارة الشاملة للطهارة الظاهرية ، والمفروض وجود الطهارة

ص: 415


1- طبيعي البحث ناظر الى ما تقتضيه القاعدة الاولية بقطع النظر عن الروايات الخاصة.

الظاهرية حين الصلاة وانما هي ترتفع من حين انكشاف النجاسة وحصول العلم بها الذي هو ما بعد الصلاة.

هذا كله لو كان المستند لاحراز الطهارة هو قاعدة الطهارة ، واما لو كان المستند هو خبر الثقة فتجب الاعادة لان خبر الثقة لا يجعل طهارة ظاهرية جديدة مغايرة للطهارة الواقعية حتى يلزم اتساع دائرة الشرطية الى الطهارة الظاهرية وبالتالي حتى يلزم صحة الصلاة بل ان خبر الثقة يخبر عن الطهارة الواقعية ويحاول ايصالنا لها من دون ان يجعل طهارة جديدة. هذا حاصل توجيه تفصيل العلمين. وينبغي لفت نظر القارىء الى :

1 - ان الاجزاء الذي قال به هذان العلمان لا يستند الى ملازمة عقلية بين الحكم الظاهري والاجزاء بل الى الاستظهار من دليل قاعدة الطهارة مثلا ، فان لسان « كل شيء لك طاهر حتى تعلم انه قذر » يفهم منه جعل طهارة جديدة بعنوان الطهارة الظاهرية الذي يلزم منه اتساع دائرة الشرطية وبالتالي الاجزاء.

2 - قد تقول : لماذا يلزم - بعد استفادة جعل الطهارة الظاهرية من دليل قاعدة الطهارة - اتساع دائرة الشرطية الى الطهارة الظاهرية؟ وما هي نكتة التوسعة المذكورة؟ والجواب : اذا لم تتسع دائرة الشرطية يلزم ان يكون جعل الطهارة الظاهرية لغوا وبلا فائدة ، فلو لم تترتب عليها آثار الطهارة الواقعية التي منها صحة الصلاة فما فائدة جعلها وتشريعها.

3 - تقدم من السيد الشهيد ص 40 من الحلقة الوعد بالتحدث عن هذا التفصيل وكيفية رده ، واشرنا هناك الى ان مقصوده قدّس سره الاشارة الى هذا الموضع ، وفي هذا الموضع يحوّل مناقشة هذا التفصيل الى مبحث الحكومة الظاهرية والواقعية. واذا فتشنا الحلقات الثلاث من اولها الى آخرها لم نجد بحثاً

ص: 416

بالعنوان المذكور ، فقد تكلم قدّس سره في اواخر الجزء الثاني من الحلقة الثالثة عن معنى الحكومة ولكنه لم يقسمها الى الظاهرية والواقعية. ونحن نشير باختصار الى هذا المصطلح وكيفية مناقشة هذا التفصيل على ضوئه.

الحكومة الواقعية والظاهرية :

ان الدليل الحاكم هو الدليل الموسع او المضيق لموضوع الدليل الآخر ، فمثلا دليل « الطواف بالبيت صلاة » (1) يوسع من دائرة شرائط الصلاة ، فكما ان الوضوء وطهارة الثوب والبدن وغير ذلك هي شرائط للصلاة كذلك هي شرائط للطواف للدليل المذكور. وهذه التوسعة التي يقوم بها دليل « الطواف بالبيت صلاة » في حق دليل شرائط الصلاة هي عبارة اخرى عن الحكومة ، والدليل الاول يسمى بالحاكم والثاني بالمحكوم.

ثم ان التوسعة التي يقوم بها الدليل الحاكم تارة تكون توسعة حقيقية بمعنى عدم تقيدها بعدم انكشاف الخلاف واخرى ظاهرية بمعنى تقيدها بذلك ، فالحكومة في المثال الذي ذكرناه آنفا واقعية فان دليل « الطواف بالبيت صلاة » يوسع شرائط الصلاة ويعممها للطواف حقيقة وواقعا وبلا تعليق على شرط ، وهذا بخلافه في قاعدة الطهارة فانها وان كانت تجعل طهارة ظاهرية وتوسع من دائرة الشرطية الا ان هذه الحكومة والتوسعة ظاهرية ، بمعنى ان دليل قاعدة الطهارة لا يثبت الطهارة واقعا وحقيقة وانما يأمر بترتيب آثار الطهارة ما دام لم ينكشف الخلاف ، فاذا انكشف الخلاف واتضحت نجاسة الثوب واقعا فلا تكون تلك الآثار مترتبة بل منتفية منذ البداية.

ص: 417


1- سنن البيهقي ج 5 ص 87 ، كنز العمال ج 3 ص 10.

اذن الحكومة الواقعية تعني التوسعة غير المشروطة بعدم انكشاف الخلاف والحكومة الظاهرية تعني التوسعة المشروطة بذلك.

وباتضاح هذا تتضح مناقشة تفصيل العلمين ، فان قاعدة الطهارة وان شرعت طهارة ظاهرية الا ان هذه الطهارة تعني لزوم ترتيب آثار الطهارة ما دام لم تنكشف النجاسة واقعا فاذا انكشفت فلا تكون تلك الآثار - التي منها صحة الصلاة - مترتبة بل تزول منذ البداية فان ترتبها مشروط بعدم انكشاف الخلاف فاذا انكشف فلا تكون مترتبة.

قوله ص 393 س 9 وبينه : اي وبين الاجزاء.

قوله ص 394 س 6 على ما تقدم : اي ص 28.

قوله ص 395 س 4 لامكان استيفائه : اي استيفاء ملاك الواقع ، ولكن من المناسب حذف كلمة « معا ». وفي الطبعة الجديدة صححت العبارة هكذا : « لامكان استيفائهما معا » ، وبناء على هذا يشكل الامر في مرجع ضمير التثنية فان ارجاعه الى فضيلة أول الوقت وملاك الواقع - باعتبار ان فضيلة اول الوقت تدرك بواسطة سببية الامارة ، وملاك الواقع يدرك بواسطة الاعادة - لو تم ولم يكن ركيكا من حيث المعنى مدفوع بانه غير مقصود للسيد الشهيد فان مقصوده ان ملاك الواقع لم يفت حيث يمكن تداركه وليس مقصوده ان فضيلة اول الوقت وملاك الواقع لم يفت شيء منها. وعليه فالمناسب حذف كلمة « معا » وابقاء الضمير مفردا كما في الطبعة القديمة ليرجع الى ملاك الواقع.

قوله ص 395 س 6 والتعبد العملي بها : عطف تفسير على « سلوك الامارة ».

قوله ص 395 س 7 وليست قائمة بالمتعلق : اي كما يقوله اصحاب مسلك

ص: 418

السببية وهم الاشاعرة ، وانما هي قائمة بالسلوك كما يقوله الشيخ الاعظم قدّس سره.

قوله ص 395 س 8 وبالوظيفة الظاهرية : عطف تفسير على « المتعلق ».

قوله ص 395 س 10 وعليه فلا موجب للاجزاء : اي على هذه الصورة - وهي صورة انكشاف الخلاف اثناء الوقت - لا موجب للاجزاء.

قوله ص 395 س 11 بعض ادلة الحجية : اي دليل الاصل العملي كقاعدة الطهارة مثلا.

قوله ص 395 س 12 على ادلة الاحكام الواقعية : المقصود من الاحكام الواقعية مثل شرطية الطهارة للصلاة.

قوله ص 395 س 12 وتوسعتها لموضوعها : عطف تفسير على قوله « حكومة بعض ... الخ ».

قوله ص 395 س 13 وقد اوضحنا ذلك سابقا : اي ص 39 - 40.

قوله ص 395 س 16 ان شاء اللّه تعالى : ولكن لم يشأ اللّه تعالى ذلك.

ص: 419

ص: 420

اجتماع الامر والنهي

اشارة

ص: 421

ص: 422

امتناع اجتماع الامر والنهي :

اشارة

قوله ص 396 س 1 لا شك في التضاد ... الخ :

حاصل المبحث المذكور (1) انه هل يمكن تعلق الوجوب والحرمة بشيء واحد في وقت واحد او لا؟ فالصلاة في الدار المغصوبة مثلا هل يمكن تعلق الوجوب والحرمة بها في وقت واحد او لا؟ ولعل السامع لهذا المبحث يستغرب منه لأول وهلة لوضوح عدم امكان ذلك ، فان الوجوب والحرمة متنافيان غاية التنافي فكيف يجتمعان في شيء واحد؟

وفي رد الاستغراب المذكور نقول : ان الاصوليين يسلمون بهذه القضية البديهية وهي ان الشيء الواحد لا يجوز اجتماع حكمين فيه بيد انهم يدخلون في الحساب بعض الخصوصيات التي توجب وجاهة البحث ومعقوليته ، فمثلا يقولون هكذا : لو فرض ان الشيء الواحد كان له عنوانان كالصلاة في المغصوب - حيث لها عنوانان وهما الغصبية والصلاتية - فهل تعدد العنوان يرفع المشكلة بتقريب ان النهي متعلق بعنوان الغصبية والامر متعلق بعنوان الصلاتية ، ومعه فلا مشكلة ، اذ الامر يكون متعلقا بشيء والنهي متعلقا بآخر ولا يكون عندنا شيء واحد تعلق الامر والنهي به ليلزم المحذور. اذن الاصوليون يسلمون بان الشيء الواحد لا يجوز تعلق الامر والنهي به وهم لا يبحثون المسألة من هذه الزاوية بل من زاوية ان تعدد العنوان - كالصلاتية والغصبية مثلا - هل يوجب صيرورة الامر والنهي

ص: 423


1- الذي هو من المباحث الاصولية الدقيقة.

متعلقين بشيئين او انه لا يوجب ذلك ويبقى الامر والنهي متعلقين بشيء ، واحد وان كان العنوان متعددا.

ومن خلال هذا يتضح ان عنوان المسألة يعطي شيئا بينما المقصود الحقيقي شيء آخر ، فالعنوان يعطي ان البحث منصب على جواز اجتماع الامر والنهي في شيء واحد بينما المقصود الحقيقي هو ان تعدد العنوان هل يوجب صيرورة الامر متعلقا بشيء والنهي متعلقا بشيء آخر بحيث لا يكونان مجتمعين في شيء واحد او لا يوجب ذلك؟

كما واتضح ان من المناسب تبديل عنوان البحث الى عنوان جديد ، فبدلا من تعبير « هل يجوز اجتماع الامر والنهي في شيء واحد » كان من المناسب ان يقال هل تعدد العنوان يوجب تعدد متعلق الامر والنهي او لا.

وبعد اتضاح المقصود الواقعي من البحث المذكور نعود للكتاب لنوضح ابحاثه ضمن النقاط التالية :

1 - لا اشكال في وجود تضاد وتناف بين مثل الوجوب والحرمة فلا يمكن اجتماعهما في الصلاة مثلا.

وقد يقال : ان التنافي بين الوجوب والحرمة وان كان واضحا ولكن ما هو سببه؟ ان التنافي ينشأ من سببين هما :

أ - ان وجوب الصلاة يدل على وجود مصلحة في الصلاة بينما حرمتها تدل على وجود مفسدة فيها ، ومن الواضح عدم امكان اجتماع المصلحة والمفسدة في شيء واحد.

ب - ان وجوب الصلاة يقتضي في مقام الامتثال التحرك نحو الصلاة بينما الحرمة تقتضي الانسحاب عنها ، ومن الواضح ان الانسان الواحد لا يمكنه في آن

ص: 424

واحد التحرك نحو شيء والانسحاب عنه.

اذن التنافي بين الوجوب والحرمة ينشأ اما من حيث الملاك - اي المصلحة والمفسدة - او من حيث الامتثال. وبكلمة ثانية : التنافي ينشأ اما من حيث المبدأ او من حيث المنتهى والنتيجة (1).

2 - يتفرع على امتناع اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد صيرورة الامر والنهي المتعلقين بشيء واحد متعارضين لا متزاحمين ، فمثل تجب الصلاة وتحرم الصلاة يكون من قبيل المتعارضين حيث لا يمكن صدورهما من المولى معا وبالتالي يلزم تطبيق احكام باب التعارض التي هي تقديم الاقوى سندا او دلالة ولا يدخلان تحت باب التزاحم الذي لازمه تقديم الاقوى ملاكا ، فان التزاحم لا يتحقق الا اذا فرض امكان صدور الحكمين معا من المولى مع ضيق قدرة المكلّف عن امتثالهما مثل صل وأزل - فان متعلق احد الحكمين هو الصلاة ومتعلق الآخر هو الازالة وليس متعلقهما واحدا ليمتنع صدورهما من الشارع ، اجل حيث تضيق قدرة المكلف عن امتثالهما (2) يتحقق التزاحم بينهما - اما اذا كان اصل صدورهما ممتنعا كما هو الحال في المقام حيث لا يمكن مع الامر بالصلاة النهي عنها فلا محالة من تحقق التعارض.

وقد يقال : لماذا لا نقول بان الوجوب والحرمة متعلقان بالصلاة ولكن بنحو

ص: 425


1- وقد يقال : لماذا لا نقول ان التنافي بين الوجوب والحرمة ينشأ من كون نفس الوجوب والحرمة متنافيين بما هما وجوب وحرمة بقطع النظر عن الملاك والامتثال فان معنى الوجوب الالزام بالفعل ومعنى الحرمة الالزام بالترك ، وعدم امكان اجتماع الالزام بالفعل والالزام بالترك في وقت واحد واضح. والجواب : ان الوجوب مجرد اعتبار والحرمة مجرد اعتبار ، ومن الواضح ان الاعتبار سهل المؤنة ، فمن الممكن في وقت واحد اعتبار زيد موجودا وغير موجود مثلا.
2- طبيعي عند ضيق وقت الصلاة.

الترتب فكما ان صل وازل لا تنافي بينهما اذا كانا بنحو الترتب - بان يقول المولى هكذا : ازل فان لم تشتغل بالازالة وجبت عليك الصلاة - فكذلك نقول لا تنافي بين تجب الصلاة وتحرم الصلاة اذا كانا بنحو الترتب بان يقول المولى هكذا : تجب الصلاة فان لم تشتغل بها حرمت عليك ، ان هذا الترتب اذا كان معقولا هنا كما كان معقولا في صل وازل لزم ارتفاع التعارض بين تجب الصلاة وتحرم الصلاة.

والجواب : ان الترتب فكرة معقولة في مثل صل وازل لان متعلق التكليفين مختلف فمتعلق الوجوب هو الصلاة ومتعلق الحرمة هو الغصب ، وفي مثل ذلك تعقل فكرة الترتب ، واما في مقامنا فالمفروض ان المتعلق للحرمة والوجوب واحد ، ومع وحدة المتعلق لا يمكن توجيه التكليفين ولو بنحو الترتب ، فلا يمكن ان يقال تجب الصلاة فان لم تشتغل بها حرمت عليك ، اذ عند عدم الاشتغال بالصلاة يكون المكلف تاركا لها ومع تركه لها لا معنى لان يقال تحرم عليك الصلاة ، فان ذلك اشبه بتحصيل الحاصل.

3 - ذكرنا سابقا ان المقصود الحقيقي من هذا البحث ادخال بعض الخصوصيات في الحساب ليرى - على ضوئها - هل يبقى الامر والنهي متعلقين بشيء واحد او يصيران متعلقين بشيئين ، وتلك الخصوصيات ثلاث هي :

الخصوصية الاولى :

ان يفرض تعلق الامر بالطبيعي والنهي بالحصة كما اذا قال الشارع « تجب الصلاة » و « تحرم الصلاة في الحمام » فالوجوب متعلق بطبيعي الصلاة والحرمة بالحصة الخاصة فهل يكفي ذلك لرفع المشكلة اولا؟ والجواب : ان السبب الثاني للتنافي - وهو ان الوجوب يحرك نحو الصلاة والحرمة تسحب عن الصلاة - منتفٍ

ص: 426

في هذه الحالة ، اذ المكلف يمكنه امتثال كلا الحكمين وذلك بالخروج من الحمام والصلاة في بيته.

واما السبب الاول للتنافي - وهو لزوم اجتماع المصلحة والمفسدة في شيء واحد - فقد يقال بانتفائه ايضا اذ مركز المصلحة هو طبيعي الصلاة ومركز المفسدة هو الحصة الخاصة من الصلاة وليس مركزهما واحدا. وللتعرف على مدى صحة هذا الكلام لا بدّ من الرجوع الى مبحث الوجوب التخييري لاستذكار الاتجاه الثالث من الاتجاهات الثلاثة المذكورة في بيان حقيقته ، ان الاتجاه المذكور يقول بتوجه الوجوب الى الجامع ولكنه يسري الى الافراد سريانا مشروطا ، فحينما يقال يجب عليك الاتيان بالماء فمعناه يجب عليك الاتيان بهذا الماء ان لم تات بذاك الماء ويجب عليك الاتيان بذاك ان لم تات بهذا وهكذا. وذكرنا هناك ايضا انه قد يقال اذا صب المولى الوجوب على الجامع فكيف يسري الى افراده ، انه غير ممكن اذ بصب الوجوب على شيء يبقى ثابتا عليه ولا يتحرك عنه. وفي الجواب قلنا ليس المقصود من السراية سراية نفس الوجوب بل سراية ملاكه ، فان من احب شيئا فقد احب جميع افراده حبا مشروطا. هذا ما قرأناه سابقا. وفي مبحثنا هذا نقول : اذا اردنا ان نعرف ان ادخال الخصوصية الاولى في الحساب - وهي خصوصية الطبيعي والحصة - هل يرفع السبب الاول للتنافي او لا فعلينا بالرجوع الى هذا الاتجاه الثالث ، فان سلمناه وقلنا بان المولى متى ما صبّ الوجوب على الجامع سرى - بمعنى سراية مبادىء الوجوب وهي الحب والارادة - الى افراده وصار كل فرد محبوبا بحب مشروط فالسبب الاول للتنافي يكون باقيا ، اذ حينما يقول المولى تجب الصلاة فلازمه محبوبية جميع افرادها التي احدها الصلاة في الحمام ، فالصلاة في الحمام تكون محبوبة ، وحيث انه قد توجه اليها النهي وقيل « لا

ص: 427

تصل في الحمام » فلا بدّ وان تكون مبغوضة ، فيلزم اجتماع الحب والبغض في شيء واحد (1). اذن مع تسليم الاتجاه المذكور لا يرتفع السبب الاول للتنافي ويتوقف ارتفاعه على رفضه. كلام النائيني في المقام :

ومن خلال هذا يتضح ان ثبوت السبب الاول للتنافي وعدمه يرتبط بالاتجاه المذكور ، هذا ولكن الميرزا ذكر انه حتى لو انكرنا الاتجاه المذكور وقلنا ان من احب شيئا لا يتحتم حبه للافراد بنحو مشروط فمع ذلك يمكن ان يقال بعدم جواز الامر بالصلاة والنهي عن الحصة الخاصة ، والوجه في ذلك ان الامر بالصلاة مطلق ، ومع اطلاقه يجوز تطبيقه على اي فرد من افراد الصلاة ، ومن جملة تلك الافراد هو الصلاة في الحمام ، وعليه فيكون المكلف مرخصا في تطبيق الصلاة على الصلاة في الحمام ، ومن الواضح ان هذا الترخيص يتنافى والنهي عن الصلاة في الحمام.

ومن خلال هذا يتضح ان التنافي ليس ثابتا بين نفس وجوب الصلاة وحرمتها في الحمام بل بين الترخيص في التطبيق والنهي عن الصلاة في الحمام (2).

ص: 428


1- وبناء على اجتماع الحب والبغض في الصلاة في الحمام يلزم البناء على التخصيص وان النهي عن الصلاة في الحمام مخصص لامر صل بغير الصلاة في الحمام فيكون المامور به بناء على هذا هو الصلاة في غير الحمام واما الصلاة في الحمام فهي ليست متعلقة للامر ، ومعه فلا يلزم محذور اجتماع الملاكين المتنافيين في شيء واحد. واما بناء على انكار مسلك الاستبطان فتوجيه التخصيص يحتاج الى بيان آخر.
2- وبناء على بيان الميرزا هذا يلزم التخصيص ايضا اذ دفعا للتنافي بين الترخيص في التطبيق وبين حرمته لا بدّ من الالتزام بتخصيص الامر بالصلاة بغير الصلاة في الحمام. وبهذا يتضح انه على كل من المسلكين - مسلك الميرزا ومسلك السيد الشهيد - لا بدّ من الالتزام بالتخصيص.
الفارق بين مسلكين

ذكرنا ان السيد الشهيد يرى ان النكتة في عدم امكان الامر بطبيعي الصلاة والنهي عن الحصة الخاصة هي ان الامر بالطبيعي يدل على حب الطبيعي ، وحب الطبيعي يستلزم حب الافراد فيلزم في مثل الصلاة في الحمام اجتماع الحب والبغض. وهذا ما سوف نصطلح عليه بمسلك السيد الشهيد (1). واما الميرزا فقد ذكر ان النكتة في ذلك شيء آخر وهي ان الامر بالطبيعي يستلزم الترخيص في التطبيق على جميع الافراد التي احدها الصلاة في الحمام ، وهذا الترخيص في التطبيق يتنافى والنهي عن الصلاة في الحمام.

وبعد التعرف على هذين المسلكين نسأل عن الفارق بينهما فهل هو ثابت او لا؟ نعم يظهر الفارق فيما اذا كان النهي عن الصلاة في الحمام نهيا كراهتيا لا تحريميا ، فعلى مسلك الميرزا تنحل مشكلة العبادات المكروهة ، فان احدى المشاكل التي واجهها الاصوليون هي ان العبادة كيف يمكن ان تكون احيانا مكروهة كالصلاة في الحمام مثلا فان العمل اذا كان عبادة فهو محبوب للمولى فاذا فرض مكروها فلازمه كونه مبغوضا له ، والشيء الواحد لا يمكن ان يكون محبوبا ومبغوضا.

هذه المشكلة التي يعبر عنها بمشكلة العبادات المكروهة تخلّص منها الميرزا من خلال مسلكه المتقدم فقال ان الامر بالصلاة يعني الترخيص بالاتيان بها في اي مورد بما في ذلك الحمام ، ومن الواضح ان النهي عن الصلاة في الحمام لا يتنافى وثبوت الترخيص المذكور بل يدل على ان هذا التطبيق وان كان جائزا لكنه مكروه ولا مانع من كون التطبيق مرخصا فيه وفي نفس الوقت يكون مكروها فكراهة العبادة لا تعني ان نفس العبادة مكروهة كي يشكل بان الفعل بعد فرض

ص: 429


1- وفي عبارة الكتاب عبّر عنه بمسلك الاستبطان ، اي استبطان حب الجامع لحب افراده.

كونه عبادة ومقربا نحو المولى كيف يكون مكروها ومبغوضا له وانما المراد كراهة التطبيق ، ولا محذور في كون التطبيق على فرد معين جائزا وفي نفس الوقت يكون مكروها. هذا على مسلك الميرزا.

واما على مسلك السيد الشهيد فالمشكلة باقية اذ امر « اقيموا الصلاة » يدل على ان طبيعي الصلاة شيء يحبه المولى ، وبما ان حب الجامع يستلزم حب الافراد فيلزم ان تكون الصلاة في الحمام التي هي احد الافراد محبوبة ، ومع كونها محبوبة فلا يمكن تعلق الكراهة بها اذ الكراهة تدل على مبغوضية الشيء مبغوضية ضعيفة ، ومن الواضح ان المحبوبية لا يمكن ان تجتمع مع المبغوضية ولو كانت ضعيفة.

مناقشة مسلك النائيني :

ويمكن مناقشة مسلك الميرزا بانه ما المقصود من قولكم ان الامر بالمطلق يدل على الترخيص في تطبيقه على جميع الافراد؟ فهل المقصود ان اطلاق المطلق معناه هو نفس الترخيص في التطبيق على جميع الافراد او المقصود ان الاطلاق لازمه الترخيص في التطبيق وليس نفسه؟ وكلاهما باطل.

اما الاول فلأن معنى الاطلاق عدم لحاظ القيد عند ملاحظة الطبيعة وليس معناه نفس الترخيص في التطبيق ، فحينما يقال ان كلمة الصلاة - في قوله تعالى ( « اقيموا الصلاة » ) - مطلقة فالمراد انه لم يلحظ معها قيد كونها في المسجد او في البيت مثلا وليس المراد ان المكلف مرخص في تطبيقها على افرادها.

واما الثاني فلأن كلمة الصلاة في قوله تعالى ( « اقيموا الصلاة » ) اذا كانت مطلقة فنسلم ان لازم ذلك هو الترخيص في التطبيق على اي فرد من افرادها ولكن هذا الترخيص هو ترخيص من جانب امر « اقيموا الصلاة » وليس

ص: 430

ترخيصا من جانب المولى. وبكلمة اخرى : ان اطلاق كلمة الصلاة يدل على ان امر « اقيموا » لا مانع من ناحيته في تطبيق الصلاة على اي فرد من افرادها ولا يدل على ان المولى قد رخص بالفعل في تطبيق الصلاة على اي فرد فان استفادة الترخيص الفعلي من المولى يتوقف على ان لا يرد من المولى نهي يمنع من تطبيق الصلاة على بعض افرادها فاذا ورد النهي من قبله فلا يمكن حينئذ استفادة الترخيص من قبله وقد فرض في مقامنا ورود نهي من المولى عن الصلاة في الحمام ، ومع وروده فلا يمكن ان يستفاد من اطلاق « اقيموا الصلاة » ان المولى رخص في الاتيان بالصلاة في جميع الموارد بما في ذلك الحمام حتى يكون النهي عن الصلاة في الحمام منافيا لهذا الترخيص بل اقصى ما يستفاد منه هو الترخيص وعدم المانع من قبل نفس امر « اقيموا » في التطبيق على جميع الافراد ، والترخيص من قبل هذا الامر لا يتنافى مع نهي المولى عن الاتيان بالصلاة في الحمام فان الذي يتنافى مع النهي هو الترخيص من قبل المولى لا الترخيص من قبل الامر الخاص.

الخصوصية الثانية :

وبعد ان عرفنا عدم اجداء خصوصية الطبيعي والحصة - وبكلمة اخرى خصوصية الاطلاق والتقييد - في رفع محذور اجتماع الحب والبغض في مركز واحد ندخل في الحساب خصوصية ثانية وهي خصوصية تعدد العنوان كما هو الحال في الصلاة في الدار المغصوبة ، فانها في الخارج شيء واحد غير ان لها عنوانين : عنوان الصلاة وعنوان الغصب ، وهذان العنوانان ليس بينهما نسبة الاطلاق والتقييد كما كنا نفرض ذلك في الخصوصية الاولى ، اذن في الخصوصية الاولى نفترض وجود

ص: 431

عنوان واحد تعلق الامر بمطلقه والنهي بحصة منه بينما في الخصوصية الثانية نفرض وجود عنوانين متغايرين.

والسؤال المطروح هو : ان تعدد العنوان هل يوجب تعدد متعلق الامر والنهي بشكل لا يلزم اجتماعهما في شيء واحد او لا يوجب ذلك؟ وقد يجاب بان تعدد العنوان لا يجدي بعد ان كان المعنون الذي يحكي عنه العنوانان واحدا خارجا ، فالصلاة في المغصوب شيء واحد خارجا وان كان لها عنوانان : الصلاتية والغصبية. هذا ولكن يمكن تصوير اجداء تعدد العنوان باحد بيانين :

أ - يفترض ان تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون خارجا ، غاية الامر ان العين الباصرة - لعدم قدرتها على رؤية كل ما هو موجود في الخارج - لا تبصر تعدد المعنون خارجا ، فالصلاة في الغصب بعد ان كان لها عنوانان متعددة في الخارج ، فيوجد شيئان : صلاة وغصب.

ب - يفترض ان تعدد العنوان لا يعدد المعنون خارجا غير ان ذلك يكفي وحده لحل المشكلة بلا حاجة الى افتراض تعدد المعنون خارجا فان الاحكام تتعلق بالعناوين دون المعنونات ، وحيث ان العنوان متعدد في المقام فلا مشكلة حيث يكون الامر متعلقا بعنوان الصلاة والنهي بعنوان الغصب.

وبعد التعرف على هذين البيانين نأخذ بتحقيق الحال فيهما.

اما البيان الاول فلو تمّ لارتفعت المشكلة على كلا المسلكين : مسلك الميرزا ومسلك السيد الشهيد.

اما انها مرتفعة على مسلك الميرزا - القائل بان اطلاق المطلق يستلزم الترخيص في جميع الافراد ، وحيث ان احد الافراد هو الصلاة في المغصوب فيلزم ان تكون الصلاة في المغصوب محرمة ومرخصا فيها - فباعتبار ان الترخيص

ص: 432

متعلق بالصلاة والنهي بوجود آخر غير وجود الصلاة وهو الغصب ، ومعه فلا يلزم اجتماع الترخيص والتحريم في شيء واحد.

واما انها مرتفعة على مسلك السيد الشهيد - القائل بان حب الطبيعي يستلزم حب الافراد - فباعتبار ان الخارج بعد اشتماله على شيئين متغايرين : صلاة وغصب فلا يلزم اجتماع الحب والبغض في شيء واحد بل يكون الحب الساري من طبيعي الصلاة متعلقا بالصلاة الخارجية والبغض متعلقا بالغصب الخارجي.

والخلاصة : ان على هذا البيان ترتفع المشكلة على كلا المسلكين بيد انه يمكن المناقشة فيه فلا نسلم ان تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون خارجا ، فان ذلك شيء مخالف للوجدان ، اذ هو قاض بان تعدد العنوان لا يعدد المعنون ، فلربّ شيء يكون خارجا واحدا ومع ذلك تصدق عليه عناوين متعددة كزيد مثلا فانه شيء واحد خارجا ومع ذلك له عناوين متعددة ، فهو ابن والده وابن امه وابو ولده وفقيه وشاعر و ... اجل نستثني من ذلك ما اذا كان العنوان المتعدد من العناوين الذاتية التي تمثل الحقيقة النوعية للشيء كعنوان الانسان والفرس فان الانسان نوع والفرس نوع ، فاذا صدق على الشيء عنوان الانسانية والفرسية كان ذلك كاشفا عن تعدد الشيء خارجا اذ لو كان واحدا لزم كون الشيء الواحد انسانا وفرسا وهو مستحيل اذ الشيء الواحد ليس له الا حقيقة واحدة.

والخلاصة : ان العنوان اذا كان من قبيل الانسان والفرس فتعدده يدل على تعدد المعنون خارجا ، واذا كان من العناوين العرضية المنتزعة فلا يدل على ذلك ، وحيث ان الصلاتية والغصبية من العناوين العرضية فتعددهما لا يدل على تعدد المعنون خارجا. هذا كله في تحقيق البيان الاول.

ص: 433

واما البيان الثاني - وهو ان تعدد العنوان يكفي في رفع المشكلة باعتبار تعلق الاحكام بالعناوين - فهو تام ووجيه فان الوجوب يتعلق بعنوان الصلاة والحرمة بعنوان الغصب ، وحيث انهما عنوانان متغايران في الذهن فلا يلزم حينئذ اجتماع الامر والنهي في شيء واحد. اشكال وجواب :

وقد تقول : ان تعدد العنوان لا ينفع في حل المشكلة ، اذ الاحكام المتعلقة بالعناوين لا تتعلق بها بما هي عناوين بل بما هي مرآة للمعنون الخارجي فالوجوب مثلا لا يتعلق بمفهوم الصلاة بما هو مفهوم الصلاة بل به بما هو مرآة حاكية عن الخارج ، وهكذا الحرمة لا تتعلق بمفهوم الغصب بما هو مفهوم وصورة في الذهن بل به بما هو مرآة للخارج ، ومعه فيكون الوجوب والحرمة منصبين حقيقة على الخارج ، وحيث ان الخارج واحد - لفرض ان المعنون لا يتعدد بتعدد العنوان - فيلزم بالتالي تعلق الحرمة والوجوب بشيء خارجي واحد ، وبذلك تعود المشكلة من جديد ولا ترتفع بمجرد افتراض تعدد العنوان.

والجواب ان يقال : ليس المقصود من تعلق الحكم بالعنوان بما هو مرآة للخارج تعلقه بالموجود الخارجي فانه باطل ، فالحكم لا يسري الى الخارج ولا يتعلق بالصلاة الخارجية كما سنوضح وانما المقصود من تعلق الحكم بمفهوم الصلاة بما هو مرآة للخارج هو ان الوجوب لا ينصب على مفهوم الصلاة بما هو مفهوم من المفاهيم وصورة ذهنية - اذ لو لاحظنا مفهوم الصلاة بما هو مفهوم وصورة ذهنية فلا فرق بينه وبين بقية الصور الذهنية ، فصورة الصلاة وصورة الغصب لو لاحظناهما بما هما صورة فلا فرق بينهما اذ كلاهما صورة ، وبالتالي لا معنى لتعلق الوجوب بصورة الصلاة والحرمة بصورة الغصب فانه بلا مرجح وليس ذلك اولى

ص: 434

من تعلق الوجوب بصورة الغصب والحرمة بصورة الصلاة - بل ينصب الوجوب على صورة الصلاة بما انها عين الصلاة الخارجية ، وهكذا الحرمة تنصب على صورة الغصب بما انها عين الغصب الخارجي.

وبالجملة : صب الوجوب على المفهوم بما هو مرآة للخارج لا يقصد منه تعلقه بالخارج حتى يلزم عود الاشكال بل يعني تعلقه بالمفهوم لا بما هو مفهوم بل بما هو عين الخارج ، ومعه فلا يلزم عود الاشكال لبقاء الحكم مستقرا على المفهوم. زيادة توضيح :

وبهذا انتهى بيان السيد الشهيد في دفع الاشكال المذكور. ولزيادة التوضيح نقول : ان الطالب حينما يسمع تعلق الاحكام بالمفاهيم دون الخارج قد يستغرب من ذلك فان صورة الصلاة ومفهومها ليست معراجا للمؤمن ولا تنهى عن الفحشاء لكي يتعلق بها الوجوب بل تلك آثار للصلاة الخارجية ، ومعه فاللازم تعلق الحكم بالصلاة الخارجية دون المفهوم.

هذا ولكن الصحيح عدم امكان تعلق الاحكام بالافراد الخارجية اذ لازم ذلك عدم ثبوت الوجوب على المكلف قبل اتيانه بالصلاة ، فانه لو كان ثابتا يلزم ثبوته بلا موضوع وهو مستحيل ، واذا فرض ان المكلف اوجد الصلاة خارجا فايضا لا يمكن تعلق الوجوب بها اذ تعلقه بها بعد فرض تحققها في الخارج يكون طلبا لتحصيل ما هو حاصل. اذن الوجوب لا يمكن تعلقه بالصلاة الخارجية لا قبل وجودها لفقدان الموضوع ولا بعد وجودها لمحذور طلب تحصيل الحاصل.

وقد تقول : ان هذا مطلب لطيف (1) ولكن مع ذلك قبوله صعب ، فان مثل

ص: 435


1- وقد ذكر في كلمات غير واحد من الاعلام كالشيخ الحائري في درره ج 1 ص 123 ، والعراقي في نهاية الافكار ج 3 ص 60 ، والاصفهاني في نهايته. وتقدمت الاشارة الى هذا المطلب عند شرح ص 44 من الحلقة.

الوجوب وان لم يمكن تعلقه بالخارج لما تقدم ولكن في نفس الوقت لا يمكن تعلقه بالمفهوم الذهني لعدم ترتب الآثار عليه.

وفيه : ان مفهوم الصلاة مثلا يمكن لحاظه بشكلين ، فتارة يلحظ بما هو مفهوم وصورة ذهنية ، وبهذا اللحاظ لا يمكن تعلق الوجوب به لانه امر ذهني لا تترتب عليه الآثار ، واخرى يلحظ بما هو عين الخارج ، وبهذا اللحاظ يمكن تعلق الوجوب به لانه عين الصلاة الخارجية.

وقد تقول : ان مفهوم الصلاة امر ذهني فكيف يلحظ عين الصلاة الخارجية؟

والجواب : ان المفهوم يلحظ احيانا عين الخارج وكأن الانسان حينما يلحظه يلحظ نفس الخارج. ولذلك عدة منبهات وجدانية ، فالخطيب الحسيني حينما يستعرض واقعة الطف نبكي ونتألم بالرغم من انه لم يطرح سوى مفاهيم وصور ذهنية. وايضا قد نفكر احيانا في وقائع تأريخية سابقة فنتألم او نفرح بالرغم من ان التكفير لا تحضر بواسطته الا صور ذهنية ، ان هذا وذاك ليس له تفسير سوى ان تلك الصور يرى بها الخارج وكأنه امام العين. والامثلة الاخرى على ذلك كثيرة.

عود لصلب الموضوع

ونعود لصلب الموضوع وهو ان تعدد العنوان يكفي في رفع المشكلة باعتبار ان الاحكام تتعلق بالعناوين لا بالمعنونات ، وحيث ان العناوين متعددة في الذهن فلا يلزم اجتماع حكمين في شيء واحد.

وهذا البيان لو تم فهو يدفع المشكلة على مسلك السيد الشهيد الذي يعبر عنه بمسلك الاستبطان ولا يدفعها على مسلك الميرزا ، فانه على المسلك الاول

ص: 436

يمكن ان يقال ان الصلاة في الدار المغصوبة وان كانت في الخارج شيئا واحدا ، والشوق المتعلق بجامع الصلاة - المستفاد من قوله تعالى ( « اقيموا الصلاة » ) حيث يدل على تعلق الوجوب والشوق بطبيعي الصلاة - وان كان يسري الى الصلاة الخارجية الواقعة في الغصب باعتبار ان حب الجامع يسري الى افراده بيد ان الشوق يسري اليها بعنوان انها صلاة. وبتعبير أوضح : الشوق يتعلق بعنوان الصلاة لا بالوجود الخارجي لها لفرض انا نتكلم على تقدير تعلق الاحكام بالعناوين ، وهكذا الحال بالنسبة لمفسدة الغصب فانها تتعلق بعنوان الغصب لا بالوجود الخارجي له ، ومعه فتكون المشكلة مندفعة اذ الحب متعلق بعنوان الصلاة والبغض بعنوان الغصب وليس مركزهما هو الوجود الخارجي ليلزم اجتماعهما في شيء واحد.

واما بناء على المسلك الثاني - مسلك الميرزا - فوجه بقاء المشكلة هو ان المسلك المذكور يقول : ان امر « اقيموا الصلاة » يامر بمطلق الصلاة ، والامر بالمطلق يستلزم الترخيص في تطبيق الصلاة على جميع افرادها ، وحيث ان احد الافراد هو الصلاة في الغصب فيلزم الترخيص في تطبيق المطلق على الصلاة في المغصوب ، وبتعبير أصرح : كأن امر « اقيموا الصلاة » يقول : اني ارخصك في تطبيق الصلاة على الصلاة في المغصوب ، ومن الواضح ان هذا الترخيص يتنافى والنهي عن الغصب اذ لا معنى لان يقول المولى : اني ارخصك بالاتيان بالصلاة في المغصوب وفي نفس الوقت انهاك عن الغصب ، ان التهافت بين ذاك وهذا واضح.

ولا يحق لقائل ان يقول : ان الترخيص اذا كان متعلقا بمفهوم الصلاة فهو لا يتنافى مع النهي المتعلق بمفهوم الغصب. وبكلمة اخرى : كما ان المشكلة كانت مندفعة على المسلك الاول كذا هي مندفعة على هذا المسلك.

ص: 437

والجواب : ان الميرزا لا يقول ان امر « اقيموا الصلاة » يستفاد منه الترخيص في نفس الصلاة حتى يقال بان الترخيص متعلق بمفهوم الصلاة بل يقول ان الترخيص متعلق بالتطبيق اي بتطبيق مفهوم الصلاة على مصاديقه ، ومن الواضح ان المولى لا يمكنه ان يقول انت مرخص في تطبيق مفهوم الصلاة على الصلاة في المغصوب وفي نفس الوقت يقول انت منهي عن الغصب.

الخصوصية الثالثة :

اتضح مما سبق ان الخصوصية الاولى - وهي فرض وجود عنوان واحد تعلق الامر بمطلقه والنهي بمقيده - لا تخفف من المشكلة شيئا اذ حب الجامع يسري الى الحصة الخاصة فيجتمع فيها الحب والبغض ، كما واتضح ان الخصوصية الثانية وهي فرض تعدد العنوان نافعة في رفع المشكلة ، اذ الاحكام تتعلق بالعناوين بما هي عين الخارج فاذا كان العنوان متعددا فلازمه تعدد مصب الوجوب والحرمة.

ولكن لو فرض عدم تمامية الخصوصية الثانية ايضا فننتقل الى الخصوصية الثالثة وهي : فرض ان النهي يسقط في فترة حدوث الامر بحيث لا يلزم تعاصرهما في زمان واحد. ولتوضيح الفكرة نذكر المثال التالي : لو فرض ان انسانا دخل ارضا مغصوبة وفي اثناء الخروج التفت لضيق وقت الصلاة فاذا اداها اثناءه فهل تكون واجبة بلا حرمة او محرمة بلا وجوب او هي محرمة وواجبة معا؟ وفي الجواب نقول : ان الدخول الى الغصب له حالتان :

أ - الدخول على سبيل الاختيار.

ب - الدخول لا بالاختيار ، كما اذا القى الظالم شخصا في المكان المغصوب.

وفي كلتا الحالتين يكون الداخل ملزما بالخروج - اذ البقاء في الغصب غير

ص: 438

سائغ - بيد ان خروجه في الحالة الثانية يكون مضطرا اليه لا بسوء اختياره بمعنى ان اضطراره الى الخروج لم ينشأ من سوء اختياره ، وفي مثله لا يكون الخروج محرما لان دليل (1) حرمة الغصب ناظر الى الغصب الذي لا يكون المكلف مضطرا اليه ، بينما في الحالة الاولى يكون الشخص الخارج مستحقا للعقاب جزما ، اذ اضطراره ما دام بسوء اختياره فهو لا ينافي الاختيار من حيث العقوبة. اجل هناك كلام (2) في ان الخطاب بالحرمة هل هو ثابت ايضا او ساقط.

وبعد التعرف على هذا نقول : ان المكلف اذا اراد الصلاة اثناء الخروج مع فرض ضيق الوقت (3) وعدم استلزامها لتصرف زائد (4) وقعت صحيحة في الحالة الثانية - حالة كون الاضطرار لا بسوء الاختيار - لعدم حرمة الخروج في الحالة المذكورة. واما في الحالة الاولى - حالة نشوئه بسوء الاختيار - فيلزم توجه الامر والنهي الى الصلاة ، فهي واجبة لانها صلاة ومحرمة لتحققها ضمن الخروج الذي فرضنا حرمته ، بيد ان الامر والنهي لم يجتمعا في وقت واحد ، فالنهي عن التصرف الغصبي ثابت قبل الدخول واما بعده فهو ساقط باعتبار تحقق الاضطرار الى الخروج ومع الاضطرار - ولو بسوء الاختيار - يسقط النهي.

وبهذا تم ايضاح الخصوصية الثالثة وحاصلها : انه في صورة الاضطرار بسوء الاختيار تكون الصلاة الواقعة حال الخروج واجبة بوجوب فعلي ومنهيا عنها بنهي ساقط.

وبعد هذا فهل تنفع هذه الخصوصية في رفع المشكلة او لا؟ ربما يقال هي

ص: 439


1- وهو مثل قوله 9 : « لا يحل مال امرىء مسلم الا بطيب نفس منه ».
2- تقدم ذلك ص 308 من الحلقة.
3- اذ في حالة سعة الوقت يجب الانتظار واداؤها خارج الغصب.
4- كما اذا ادّي الركوع والسجود عن طريق الايماء. ثم انه في حالة استلزام الصلاة لتصرف زائد يلزم تركها داخل الوقت واداؤها قضاء خارجه.

نافعة ، اذ بعد سقوط النهي لا يلزم اجتماع الامر والنهي في وقت واحد.

وفيه : ان النهي وان كان ساقطا ولكن سقوطه لم ينشأ من الامتثال بل من سوء اختيار المكلف وعصيانه بدخوله المغصوب الامر الذي استلزم عدم تمكن المولى من توجيه النهي اليه ، ومعه فيكون الخروج باقيا على المبغوضية والمفسدة وبالتالي يلزم اجتماع المبغوضية والمحبوبية في الخروج في وقت واحد فتكون المشكلة باقية على حالها اذ مبدأ النهي وهو المفسدة باق وانما الذي زال هو الخطاب بالحرمة فقط. هذا لو اخترنا القول بسقوط النهي حالة الاضطرار بسوء الاختيار ، واما لو اخترنا بقاءه فالمشكلة أوضح لبقاء النهي والمفسدة ثابتين معا.

مشكلة جديدة

واجه الاصوليون في المقام مشكلتين احداهما في الصلاة الواقعة اثناء الخروج ، وقد عرفنا بقاء هذه المشكلة لان النهي وان كان ساقطا ولم يجتمع مع الامر الا ان مفسدته باقية فيلزم اجتماع المبدأين المتنافيين. والثانية في الخروج بقطع النظر عن اداء الصلاة حالته ، فان الخروج بقطع النظر عن الصلاة يكون محرما باعتبار كونه تصرفا في الغصب وواجبا باعتبار كونه مقدمة للتخلص من الغصب الزائد فيلزم اجتماع الوجوب والحرمة فيه. وفي مقام التخلص من هذه المشكلة توجد ثلاثة اجوبة هي :

أ - ان الخروج ليس مقدمة للتخلص من الغصب فلا يكون واجبا من باب المقدمة.

ب - ان التصرف في الغصب حرام الا ما حصل بسبب الخروج.

ج - ان مقدمة الواجب ليست واجبة في المقام وان كانت واجبة في غيره.

ص: 440

توضيح الجواب الاول :

اما الجواب الاول فهو ما تقدم به الشيخ الاصفهاني (1) قدّس سره. وحاصله : ان الخروج ليس مقدمة للواجب حتى يكون واجبا. ووجه ذلك : ان الخروج اذا كان مقدمة فهو مقدمة لأي شيء؟ انه مقدمة لترك البقاء في الغصب ، فترك البقاء هو الواجب ومقدمته هي الخروج ، هذا ولكن الخروج لا يمكن ان يكون مقدمة لترك البقاء ، اذ البقاء والخروج متضادان - فان الداخل في الغصب اما ان يبقى فيه او يخرج منه ولا يمكن ان يبقى ويخرج في وقت واحد - وما دام بينهما تضاد فلا يمكن ان يكون وجود احدهما مقدمة وعلة لعدم الآخر لما قرأنا في مبحث الضد من الحلقة الثانية من عدم مقدمية احد الضدين لعدم الآخر ، فالصلاة وازالة النجاسة عن المسجد متضادان ، ووجود الصلاة ليس مقدمة وعلة لعدم الازالة وانما العلة هي ارادة المكلف واختياره لعدم الازالة فانه لما يختار عدم الازالة يتحقق منه عدم الازالة سواء صلى ام لا ، اجل عند اختيار عدم الازالة وتحققه منه لا بدّ من الاشتغال بفعل من الافعال اما المطالعة او النوم او الصلاة او ... فالصلاة اذن ليست هي العلة لعدم الازالة بل هي امر يقترن من باب الصدفة مع اختيار عدم الازالة الذي هو العلة الاصيلة ، فكما ان المطالعة والنوم ليسا علة لعدم الازالة بل امور مقارنة لعلة عدم الازالة صدفة كذا الصلاة.

وباختصار : ان الخروج بعد ما كان ضدا للبقاء فلا يمكن ان يكون مقدمة وعلة لعدم البقاء ، اذ وجود احد الضدين ليس علة لعدم الآخر.

مناقشة الجواب الاول :

ويمكن مناقشة الجواب المذكور بما يلي :

ص: 441


1- نهاية الدراية ج 1 ص 287 س 11.

أ - نسلم بعدم امكان كون الخروج مقدمة لعدم البقاء باعتبار انهما متضادان وأحد الضدين ليس علة لعدم الآخر ، ولكن نقول : ان الخروج اذا لاحظناه في الدقيقة الاولى فهو ضد للبقاء في الدقيقة الاولى فلا يمكن ان يكون الخروج في الدقيقة الاولى مقدمة لعدم البقاء في الدقيقة الاولى ولكن نحن لا ندعي ان الخروج في الدقيقة الاولى مقدمة لعدم البقاء في الدقيقة الاولى بل ندعي ان الخروج في الدقيقة الاولى علة لعدم البقاء في الدقائق البعدية ، ومعه فلا يتم ما ذكره الاصفهاني ، اذ الخروج في الدقيقة الاولى ليس ضدا للبقاء في الدقائق البعدية - بدليل ان الخروج في الدقيقة الاولى يجتمع ويلتئم مع البقاء في الدقائق البعدية كما لو فرض خروج الانسان من المغصوب في الدقيقة الاولى ثم دخوله له في الدقائق البعدية - ومعه فيمكن ان يكون الخروج في الدقيقة الاولى مقدمة لعدم البقاء في الدقائق البعدية (1).

ب - سلمنا ان الخروج لا يمكن ان يكون مقدمة لعدم البقاء للضدية بينهما ولكن نقول : ان هذه المناقشة من الاصفهاني تتم في خصوص مثال الخروج من الغصب ولا تتم في امثلة اخرى كما لو فرض ان الانسان جرح نفسه بجرح عظيم بسوء اختياره واوشك على الموت وتوقف علاجه على شرب الخمر ، ان هذه المثال يتطابق مع مثال الخروج - اذ في كل منهما ارتكب المكلف حراما بسوء اختياره واضطر بسببه لارتكاب فرد ثان من المحرم للتخلص من المحرم الاول - ومناقشة الاصفهاني لا تتم فيه ، اذ الوجدان يحكم بشكل قطعي ان شرب الخمر مقدمة لحفظ النفس من الموت وليس بين شرب الخمر وحفظ النفس تضاد ليطبق ما سبق بل بينهما ملازمة فالشرب ملازم لحفظ النفس وليس ضده.

ص: 442


1- وقد اشارت عبارة الكتاب لهذا الجواب بجملة « وهذا الجواب حتى اذا تم ».
توضيح الجواب الثاني :

وتوضيح الجواب الثاني ان الخروج وان كان تصرفا في المغصوب - باعتبار ان الخروج يحصل بالمشي على المغصوب وهو تصرف فيه - الا انه ليس كل تصرف غصبي محرما بل يلتزم بحرمة كل تصرف غصبي الا الخروج فلا يكون محرما ، اذ لو كان محرما يلزم محذور اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد وفرارا من ذلك لا بدّ من الالتزام بعدم حرمته.

وفيه : ان تمامية الجواب المذكور تتوقف على ان لا نملك جوابا آخر نتمكن بواسطته من التخلص من المشكلة ، وسيتضح ان الجواب الثالث يمكن التخلص بواسطته منها.

توضيح الجواب الثالث :

وتوضيح هذا الجواب : انا لا نسلم بوجوب مقدمة الواجب في جميع الحالات ، بل قد لا تكون واجبة احيانا فان المقدمة يمكن تقسيمها الى الاقسام الثلاثة التالية :

1 - ان يكون للمقدمة فردان احدهما مباح والآخر محرم ، كما لو وجب الحج على المكلف وكانت هناك وسيلتان للوصول الى مكة المكرمة احداهما مغصوبة والاخرى مباحة. وفي هذه الحالة هل يحكم العقل بوجوب خصوص الفرد المباح او بوجوب كليهما؟ لا اشكال في حكمه بوجوب خصوص الفرد المباح ولا وجه لوجوب الفرد المحرم بعد ما كان المباح متيسرا.

2 - ان تكون المقدمة منحصرة بالفرد المحرم كما لو فرض انحصار وسيلة الحج بخصوص المغصوب. وفي هذه الحالة لا بدّ من اجراء موازنة بين المقدمة وذيها فيلاحظ ان الحج هو الاهم او حرمة الغصب ، فان فرض ان وجوب الحج

ص: 443

هو الاهم سقطت الحرمة عن المقدمة واتصفت بالوجوب الغيري ، وان كانت حرمة الغصب هي الاهم سقط وجوب الحج.

3 - ان يكون للمقدمة فردان مباح ومحرم غير ان المكلف بسوء اختياره عجّز نفسه عن الفرد المباح واضطر الى ارتكاب الفرد المحرم. ومقامنا من هذا القبيل فان التخلص من الغصب يمكن ان يحصل بفردين احدهما مباح وهو ان لا يدخل الانسان المغصوب اصلا فانه بعدم دخوله يكون متخلصا من الغصب ، وثانيهما محرم وهو ان يدخل الغصب ثم يخرج منه فانه بدخوله يكون قد عجّز نفسه عن الفرد المباح وحصر امره بالفرد المحرم وهو الخروج. وفي هذه الحالة نطرح الاسئلة التالية :

أ - هل الخروج الذي هو الفرد المحرم يتصف بالوجوب الغيري او لا؟ كلا لا يتصف بذلك اذ المفروض وجود فرد مباح للمقدمة والمكلف عجّز نفسه بسوء اختياره عنه ، والعقل الذي هو الحاكم بوجوب المقدمة لا يحكم بوجوب هذه المقدمة.

ب - هل الخروج يتصف بالحرمة او لا؟ نعم ، لا مانع من اتصافه بها بعد ما كان الاضطرار اليه ناشئا من سوء الاختيار.

ج - هل التخلص من المغصوب يبقى واجبا او لا؟ كلا لا يبقى على الوجوب لان الخروج بعد ما كان محرما يصير الشخص مضطرا الى تركه ، ومع تحقق تركه لا يتمكن على التخلص من الغصب بيد ان هذا الاضطرار الى ترك التخلص لمّا نشأ من سوء الاختيار فيكون الساقط هو الخطاب بوجوب ذي المقدمة - اي الخطاب بوجوب التخلص - واما العقاب على تركه فهو باق لما تقدم سابقا من ان الاضطرار اذا نشأ من سوء الاختيار فلا يسقط العقاب بل الخطاب

ص: 444

فقط.

اجل نستدرك لنقول : ان الخطاب بوجوب التخلص وان سقط ولكن مع ذلك يحكم العقل بلزوم التخلص بواسطة الخروج فانه بالخروج وان ارتكب المكلف المحرم - لفرض حرمة الخروج - الا انه لو لم يخرج يلزم ارتكاب غصب أزيد فمن باب ارتكاب اخف المحذورين يحكم العقل بلزوم الخروج ومع حكمه بذلك يصير المكلف مضطرا الى الخروج ولكن حيث ان هذا الاضطرار للخروج نشأ من سوء الاختيار فيكون الساقط هو الخطاب بحرمته دون العقاب عليه.

ومن جميع هذا يتضح ان الخطابات باسرها ساقطة ، فالخطاب بوجوب التخلص ساقط والخطاب بحرمة الخروج ساقط والخطاب بوجوب المقدمة ساقط الا ان الساقط هو الخطاب فقط واما العقاب فهو باق لان سقوط الخطاب ناشىء من الاضطرار بسوء الاختيار ، وقد تقدم ان الاضطرار اذا كان بسوء الاختيار فالساقط هو الخطاب فقط دون العقاب.

والخلاصة في حل المشكلة - مشكلة اجتماع الوجوب والحرمة في الخروج - هو الالتزام بعدم وجوب الخروج لان انحصار المقدمية فيه نشأ من سوء الاختيار ، وفي مثله لا يحكم العقل بالوجوب ، ومع عدم وجوبه لا يلزم اجتماع الوجوب والحرمة فيه. هذا هو الحل ، واما المطالب الاخرى التي اشرنا لها فليست دخيلة فيه ولا يمكن حل المشكلة فيها. وانما اشير لها لتوضيح حقيقة الحال في مثال الخروج. سؤال وجواب :

قد يقال : ان الخطاب بحرمة الخروج اذا كان ساقطا فما هو الموجب بعد هذا لسقوط وجوب التخلص فان الموجب لسقوطه ليس الا حرمة الخروج فاذا

ص: 445

فرض عدمها فلا موجب لسقوطه.

والجواب : ان المقصود من سقوط الحرمة عن الخروج هو سقوط الخطاب فقط واما العقاب فهو باق ، ومع بقائه يكون المكلف مضطرا الى ترك التخلص فيسقط خطابه.

عمومية النزاع لاقسام الوجوب والحرمة

قوله ص 408 س 6 وفي كل حالة يثبت ... الخ : ذكرنا فيما سبق ان الشيء الواحد يستحيل اجتماع الوجوب والحرمه فيه لسببين احدهما لزوم اجتماع المصلحة والمفسدة فيه ، وثانيهما لزوم التحريك والسحب في آن واحد.

وهنا نقول : ان استحاله الاجتماع تعم حالة ما اذا كان كل واحد منهما نفسيا او غيريا او كان احدهما نفسيا والآخر غيريا.

مثال الاول : الصلاة في المغصوب ، فان وجوب الصلاة نفسي وحرمة الغصب نفسية.

ومثال الثاني : الوضوء فيما اذا استلزم الوقوع في ضرر محرم ، فان الوضوء بما هو وضوء واجب بالوجوب الغيري وبما انه مقدمة للضرر المحرم محرم بالحرمة الغيرية.

ومثال الثالث : الخروج من المغصوب ، فان حرمته نفسية - اذ هي ليست الا من جهة حرمة الغصب التي هي حرمة نفسية - بينما وجوبه غيري ومن باب المقدمة للواجب وهو التخلص من الغصب.

والوجه في عمومية الاستحالة لجميع هذه الاقسام الثلاثة هو ان الوجوب النفسي كما يكشف عن الحب والمصلحة كذلك الوجوب الغيري يكشف عنهما غاية الامر ان الوجوب النفسي يكشف عن الحب النفسي بينما الوجوب الغيري

ص: 446

يكشف عن الحب الغيري. وهكذا الحرمة النفسية والغيرية فكلاهما تكشفان عن البغض غاية الامر الحرمة النفسية تكشف عن البغض النفسي بينما الحرمة الغيرية تكشف عن البغض الغيري ، ومن الواضح انه كما لا يجوز اجتماع الحب والبغض النفسيين في شيء واحد كذلك لا يجوز اجتماع الحب والبغض الغيريين او الحب النفسي مع البغض الغيري او العكس.

وقد يقال : تقدم سابقا اختيار عدم اتصاف مقدمة الواجب بالوجوب الشرعي وهكذا عدم اتصاف مقدمة الحرام بالحرمة الشرعية ، ومعه فكيف نفترض الآن وجود وجوب غيري وحرمة غيرية والحكم بان استحالة الاجتماع تعم حالة الوجوب والحرمة الغيريين؟

والجواب : ان الذي تقدم هو انكار الوجوب والحرمة الغيريين على مستوى الجعل والحكم لا على مستوى المبادىء ، فمقدمة الواجب لم يجعل الشارع لها وجوبا غيريا ولكنها من حيث المبادىء محبوبة ، وهكذا مقدمة الحرام ، وهذا المقدار يكفي لاستحالة الاجتماع فانها لا تتوقف على وجود جعلين - فان اجتماع الجعلين بما هما جعلان امر ممكن كما تقدم لكون الجعل اعتبارا وهو سهل المؤنة - وانما على وجود مبدأين متنافيين.

ثمرة البحث :

وقد تسأل عن ثمرة البحث عن جواز اجتماع الامر والنهي وعدمه. وفي الجواب يمكن ذكر ثمرتين الثانية منهما مترتبة على الاولى وهما :

1 - لو قلنا بالامتناع يدخل الدليلان في باب التعارض فحرمة الغصب ووجوب الصلاة لو قلنا بعدم امكان اجتماعهما في الصلاة الواقعة في المغصوب

ص: 447

متعارضان (1) اي يحصل بينهما تكاذب في مقام الجعل ، فان ثبوتهما معا ما دام ممتنعا فلا يمكن صدورهما من المولى بل لا بدّ وان يكون الصادر احدهما.

واذا دخلا في باب التعارض فاللازم تقديم اقوى الحكمين. ولكن ما هو الاقوى؟ ذكر الاصوليون انه النهي لان اطلاق لا تغصب شمولي ، اي هو يقول لا يجوز اي فرد من افراد الغصب بينما اطلاق صل بدلي ، اي هو يقول يجب فرد واحد من افراد الصلاة دون جميعها ، وما دام الاول شموليا والثاني بدليا فالمقدم هو الاول لاقوائية الشمولية من البدلية. هذا كله لو قلنا بامتناع الاجتماع.

واما لو قلنا بجوازه - بدعوى ان الاحكام تتعلق بالعناوين او تتعلق بالمعنون مع افتراض تعدده بتعدد العنوان - فالدليلان كصل ولا تغصب لا يكونان متعارضين لانه بعد فرض جواز الاجتماع يكون صدورهما معا من المولى امرا ممكنا. وهل يصيران متزاحمين؟ ان فرضنا ان بالامكان الخروج من المغصوب واداء الصلاة في مكان آخر فلا يتحقق التزاحم لانه انما يتحقق فيما اذا لم يقدر المكلف على امتثال كلا الحكمين ، اما اذا امكنه (2) فلا يتحقق. اجل اذا لم يمكن الخروج تحقق التزاحم لعدم امكان امتثال الحكمين معا فيقدم الاهم منهما.

وباختصار : بناء على الامتناع يتحقق التعارض ، وبناء على الجواز يتحقق التزاحم ان لم تكن مندوحة ، ومع المندوحة فلا تعارض ولا تزاحم. الثمرة الثانية

والثمرة الثانية تظهر في صحة العمل وفساده كما سنوضح. وهذه الثمرة - كما

ص: 448


1- طبيعي ليس المقصود من ثبوت التعارض ثبوته بين ذات صل وذات لا تغصب اذ لا معارضة بين الذاتين بل يقصد ثبوته بين الاطلاقين اي ان اطلاق صل وشموله لكل صلاة بما في ذلك الصلاة في المغصوب يتعارض مع اطلاق لا تغصب وشموله لكل غصب بما في ذلك الغصب المتمثل بالصلاة.
2- ويعبر عن امكان الخروج بالمندوحة فانها تعني المجال والسعة.

قلنا سابقا - مترتبة على الاولى ، فان صحة العمل وفساده يرتبطان بمسألة التعارض والتزاحم ، فلو اتى المكلف بالصلاة في المغصوب كانت صحة صلاته وفسادها مرتبطين بالتعرف على ان الثابت بين صل ولا تغصب هو التعارض او التزاحم. وهكذا لو امر المولى عبده بطبخ اكلة معينة ونهاه نهيا عاما عن استعمال الوسائل الكهربائية فاذا طبخ العبد تلك الاكلة بالوسيلة الكهربائية وقعت طبخته موردا لاجتماع الامر والنهي (1) وكان تحقق الامتثال بها وعدمه مرتبطا بمسألة التعارض والتزاحم فانه :

1 - ان قلنا في الثمرة الاولى بعدم جواز الاجتماع وبالتالي بالتعارض فاللازم فساد العمل وعدم تحقق الامتثال به ، اذ بعد البناء على الامتناع والتعارض يكون الثابت اما صل او لا تغصب ، فاذا قدم النهي لاجل ان اطلاقه شمولي فمعناه عدم ثبوت الامر وسقوطه عن الصلاة في الغصب وهكذا بالنسبة لمثال الطبخ فانه بعد سقوط الامر لا يكون الطبخ مصداقا للمأمور به فتجب الاعادة من جديد اذ إجزاء غير الواجب عن الواجب يحتاج الى دليل.

وباختصار : بعد البناء على الامتناع والتعارض لا يكون المأتي به مصداقا للواجب ولا مجزيا بلا فرق بين كون الواجب عباديا او توصليا.

2 - وان بني على الجواز وعدم التعارض فينبغي التفصيل بين كون الواجب توصليا او تعبديا :

أ - فان كان توصليا - كما في مثال الطبخ - فالامتثال متحقق ولا تلزم الاعادة لفرض ان الامر ثابت ومتعلق بالطبخ ، ومع تعلقه به يكون مجزيا ولا تجب اعادته. اجل في حالة عدم وجود المندوحة - اي حالة عدم وجود وسيلة

ص: 449


1- فرق هذا المثال عن سابقه ان الواجب في المثال السابق عبادي وفي هذا توصلي.

غير كهربائية يمكن الطبخ بها - يتحقق التزاحم بين الامر بالطبخ والنهي عن استعمال الوسيلة الكهربائية حيث انه بعد عدم وجود المندوحة لا يمكن امتثال كلا الحكمين فيتحقق التزاحم بينهما ، وفي باب التزاحم - كما عرفنا ذلك في مبحث الضد - لا يكون التكليف متعلقا بالمتزاحمين في عرض واحد وانما يؤمر بالاهم ابتداء وعلى تقدير عدم الاشتغال بامتثاله يؤمر بالمهم ، فالامر بالصلاة معلق على عدم الاشتغال بالازالة مثلا ولا يمكن الامر بهما في عرض واحد بلا ترتب لانه يلزم منه الامر بالجمع بين الضدين. وفي مقامنا يقال نفس الشيء فبعد فرض تحقق التزاحم بين الامر بالطبخ والنهي عن الوسيلة الكهربائية يكون الامر متعلقا بالطبخ معلقا على عدم امتثال النهي. هذا في فرض عدم المندوحة ، واما عند فرض وجودها فلا تزاحم كما ولا تعارض بل يكون الامر والنهي ثابتين معا على وجه العرضية بلا حاجة الى فرض الترتب.

وباختصار : بناء على الجواز يكون الامر متعلقا بالطبخ على وجه الترتب وعدم الاشتغال بامتثال النهي فيما اذا لم تكن مندوحة ، ومع وجودها يكون الامر ثابتا على وجه العرضية. وعلى كلا التقديرين يقع الطبخ مصداقا للمأمور به ومجزيا.

ب - وان كان الواجب عباديا - كما في مثال الصلاة في المغصوب - فاللازم التفصيل بين ما اذا كان مستند البناء على الجواز هو البناء على تعدد المعنون خارجا عند تعدد العنوان وبين ما اذا كان هو البناء على كفاية تعدد العنوان حتى مع وحدة المعنون خارجا ، فان كان المستند هو تعدد المعنون خارجا ووجود صلاة وغصب بوجودين متغايرين في الخارج فلا بدّ من تحقق الامتثال بالصلاة المأتي بها في الغصب لان الامر متعلق بها وقد قصد المكلف امتثاله فتقع صحيحة.

ص: 450

واما اذا كان المستند كفاية تعدد العنوان حتى مع وحدة المعنون خارجا فلا تقع الصلاة صحيحة ، لان الامر وان كان ثابتا ومتعلقا بعنوان الصلاة الا ان الصلاة بعد ما كانت في الخارج متحدة مع الغصب ومرتدية ثوب الغصب فلا يمكن قصد التقرب بها.

تلخيص ما سبق :

ويمكن تلخيص الثمرة الثانية بما يلي :

1 - بناء على الامتناع والتعارض لا تقع الصلاة ولا الطبخ مصداقا للمأمور به فتجب الاعادة.

2 - بناء على الجواز وعدم التعارض يقع المأتي به مصداقا للمأمور به ومجزيا فيما لو كان توصليا لتعلق الامر به بنحو الترتب في صورة عدم المندوحة او بنحو العرضية في صورة وجودها.

3 - ولو كان عباديا وقع صحيحا بناء على تعدد المعنون خارجا عند تعدد العنوان.

4 - وبناء على وحدة المعنون خارجا وكفاية تعدد العنوان فلا يقع صحيحا لعدم امكان قصد التقرب.

بطلان العمل في حالتين

عرفنا من خلال ما تقدم بطلان العمل في حالتين :

1 - اذا بني على التعارض وتقديم النهي فان العمل يقع باطلا سواء كان العمل عباديا ام توصليا.

2 - اذا بني على الجواز وكان العمل عبادة وبني على وحدة المعنون خارجا.

ص: 451

هل يفرق بين حالة الالتفات والغفلة

قوله ص 410 س 14 وفي كل حالة حكمنا فيها ... الخ : وبعد ان عرفنا بطلان العمل في حالتين نسأل : هل الحكم بالبطلان يختص بحالة الالتفات الى حرمة الغصب او يعم حالة عدم الالتفات ايضا؟ والجواب : اما بالنسبة الى الحالة الاولى - وهي حالة البناء على وجود تعارض بين الامر والنهي - فيحكم بالبطلان مطلقا ، اذ مع التعارض وتقديم النهي يكون الامر مفقودا واقعا ، ومع فقدانه يقع العمل باطلا ولا اثر لجهل المكلف.

واما بالنسبة للحالة الثانية - وهي حالة بطلان الصلاة من جهة وحدة المعنون خارجا - فيختص البطلان بحالة الالتفات الى الغصب وحرمته ، اذ فيها لا يمكن للمكلف قصد التقرب ، واما مع جهله فتقع صحيحة لفرض ثبوت الامر وامكان قصد التقرب.

قوله ص 396 س 3 وعالم الملاك : عطف تفسير على « المبادىء ». وهكذا قوله « عالم الامتثال » عطف على « النتائج ».

قوله ص 396 س 4 اما الاول : اي التنافي بلحاظ عالم المبادىء.

قوله ص 396 س 5 واما الثاني : اي التنافي بلحاظ عالم الامتثال.

قوله ص 396 س 7 وقد سبق في مباحث القدرة : اي ص 324 س 4.

قوله ص 396 س 10 وعلى هذا الاساس : اي على اساس امتناع الاجتماع للسببين السابقين يترتب على ذلك انه اذا دل دليل ... الخ.

قوله ص 397 س 3 حقا : اي واقعا.

قوله ص 397 س 7 على نحو التخيير العقلي بين حصصها : بمعنى ان الامر متعلق بطبيعي الصلاة كما في قوله تعالى : « اقيموا الصلاة » فان الامر اذا تعلق

ص: 452

بالطبيعي حكم العقل بالتخيير بين افراده فيكون التخيير بين افراد الصلاة تخييرا عقليا.

قوله ص 398 س 15 للنهي : الصواب : المنهي عنها.

قوله ص 398 س 16 معروفة : الصواب : معروضة.

قوله ص 399 س 7 ومن هنا فسر ... الخ : في العبارة تقدير ، اي ان الميرزا فسر كراهة الصلاة في الحمام بانه لا تنافي بين وجوب المطلق وكراهة الحصة.

قوله ص 399 س 10 او كراهتيا : اذ المبغوضية ولو كانت بمرتبة الكراهة لا يمكن ان تجتمع مع المحبوبية.

قوله ص 399 س 14 كما تقدم : اي ص 131 حيث قال في آخرها : والصحيح هو القول الثالث ، وهو ان الاطلاق عبارة عن عدم لحاظ القيد.

قوله ص 400 س 5 وعلى اي حال : اي سواء قلنا بان المنافي للنهي هو الترخيص من قبل الامر او هو الترخيص من قبل المولى. وقوله « تجاوزنا هذه الخصوصية » بمعنى قطعنا النظر عن هذه الخصوصية.

قوله ص 400 س 5 : وافترضنا الامتناع : واما اذا لم نفترض الامتناع فلا بدّ ان يكون ذلك من جهة تعلق المحبوبية بالجامع والمبغوضية بالحصة وكفاية هذا المقدار لحلّ المشكلة ، وبناء عليه لا حاجة الى فرض تعدد العنوان اذ ذاك الحل كاف سواء فرضنا تعدد العنوان ام لا ويكون ضمّ فرض تعدد العنوان من قبيل ضمّ الحجر الى جنب الانسان.

قوله ص 401 س 6 نعم اذا ثبت : الانسب : نعم اذا كان العنوان ماهية ... الخ.

قوله ص 401 س 13 والصور الذهنية : عطف تفسير على « العناوين ».

ص: 453

قوله ص 403 س 1 لحالة غصبية الصلاة : اي ان اطلاق « اقيموا الصلاة » اذا كان شاملا للصلاة في الدار المغصوبة.

قوله ص 403 س 2 على المقيد بهذه الحالة : اي الصلاة المقيدة بحالة الغصبية.

قوله ص 403 س 4 : ان نسلم بان الخصوصيتين : واما اذا سلمنا بان الخصوصية الثانية نافعة وانه يكفي تعدد عنواني الغصبية والصلاة في حلّ المشكلة فلا حاجة لفرض الخصوصية الثالثة اذ الصلاة حالة الخروج ينطبق عليها عنوانا الصلاة والغصبية فاذا كان تعددهما كافيا فلا حاجة الى فرض كون النهي ساقطا بالفعل وان الثابت هو الامر فقط. وهكذا لو كانت الخصوصية الاولى تامة فلا تصل النوبة الى فرض الخصوصية الثالثة اذ مركز الشوق هو جامع الصلاة دون فردها الخاص - وهو الصلاة في المغصوب - ومركز البغض هو جامع الغصب دون فرده وهو الغصب المتمثل في الصلاة.

قوله ص 403 س 14 ومضطر : الصواب : ومضطرا اليه.

قوله ص 404 س 2 والادانة : عطف تفسر على « المسؤولية ». والادانة هي العقوبة.

قوله ص 404 س 3 على القول المتقدم : ص 308.

قوله ص 404 س 9 غير منهي عنه منذ البدء : اي ان الخروج ما دام مضطرا اليه لا بسوء الاختيار فهو قبل الدخول غير مشمول لخطاب « لا تغصب » ، فخطاب « لا تغصب » حتى قبل الدخول لا يقول لا تتصرف بالخروج.

قوله ص 404 س 13 وادانة : عطف تفسير على قوله « عقابا ».

قوله ص 404 س 15 لا يدفع بين ... الخ : الصواب : لا يدفع التنافي بين ...

ص: 454

الخ.

قوله ص 405 س 12 وملاكه : عطف تفسير على « روحه ».

قوله ص 405 س 14 ينفي : الصواب : ينفى.

قوله ص 406 س 3 كما تقدم في الحلقة السابقة : ص 289.

قوله ص 406 س 5 بل في حالات اخرى : يجمعها جامع واحد وهو ارتكاب المكلف بسوء اختياره لفعل يصير بسببه مضطرا الى ارتكاب الحرام.

قوله ص 406 س 10 بتعذر ... الخ : اي بسبب تعذر ... الخ.

قوله ص 406 س 13 من هذا القبيل : اي احدهما مباح والآخر محرم.

قوله ص 406 س 14 فعلا : اي كلا الفردين موجود في وقت واحد.

قوله ص 407 س 1 وبدون دخل للمكلف : عطف تفسير على « اساسا ».

قوله ص 407 س 5 ان تكون منقسمة اساسا : اي بدون دخل للمكلف. ثم ان الفرق بين هذا القسم والقسم الاول انه في القسم الاول يكون كلا الفردين - الحرام والمباح - موجودا بالفعل ، واما في هذا القسم فالفردان ليسا موجودين في زمان واحد ، اذ الشخص قبل دخوله في المغصوب يكون الثابت في حقه هو الفرد المباح فقط واذا دخل ينعدم ويتحقق حينئذ مجال الفرد المحرم.

قوله ص 407 س 9 لسوء الاختيار : الى هنا ينتهي الجواب الثالث. وما سيذكره بعد ذلك هو توضيح اضافي زائد عليه.

قوله ص 407 س 9 يظل على ما هو عليه من الحرمة : ليس المقصود بقاء نفس الخطاب بالحرمة بل بقاء العقوبة كما سبق.

قوله ص 407 س 11 بذي المقدمة : وهو وجوب التخلص من الغصب.

قوله ص 408 س 7 في ذلك : اي في امتناع الاجتماع.

ص: 455

قوله ص 408 س 10 لنفسه : متعلق بقوله « محبوبا ومبغوضا ».

قوله ص 408 س 11 بسائر : اي بجميع.

قوله ص 409 س 10 واما صحة امتثال ... الخ : هذا اشارة الى الثمرة الثانية.

قوله ص 410 س 1 كما تقدم : ص 389 حيث ذكر هناك ان لازم اجزاء غير الواجب عن الواجب تقييد دليل الواجب بعدم الاتيان بغير الواجب ، واطلاق دليل الواجب ينفيه.

قوله ص 410 س 3 او لا : اي او لم يقع التزاحم.

قوله ص 410 س 6 كذلك : اي كما في التوصلي ويجري ايضا نفس التفصيل المتقدم فيه فيقع صحيحا بالامر الترتبي في صورة التزاحم وعدم المندوحة وبالامر العرضي في صورة عدم التزاحم ووجود المندوحة.

قوله ص 410 س 16 والعالم بها : اي العالم بالحرمة.

ص: 456

مبحث الضد

اشارة

ص: 457

ص: 458

اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضده :

اشارة

قوله ص 412 س 1 وقع البحث في ان وجوب شيء ... الخ :

قبل توضيح المقصود من هذا المبحث نشير الى ان الصلاة مثلا يوجد لها مناف لا يجتمع معها. والمنافي له شكلان ، فتارة يكون امرا وجوديا كالاكل والنوم و ... ، فالاكل مثلا يتنافى مع الصلاة ولا يجتمع معها وهو امر وجودي. ويسمى المنافى الوجودي بالضد الخاص. واخرى يكون امرا عدميا وهو الترك ويعبر عنه بالضد العام ، فالضد العام للصلاة هو ترك الصلاة (1).

وبعد التعرف على هذين المصطلحين نطرح سؤالين ليتضح مبحثنا.

1 - هل الامر بالصلاة مثلا يقتضي النهي عن الضد العام الذي هو ترك الصلاة؟ فمثل « اقم الصلاة » هل يدل على حرمة ترك الصلاة؟

2 - هل الامر بالصلاة مثلا يقتضي النهي عن الضد الخاص؟ فمثل « اقم الصلاة » هل يدل على حرمة الاكل والمطالعة و ...؟

والثمرة تظهر - كما سيأتي انشاء اللّه تعالى - فيما لو ورد حكم بلسان ازل النجاسة عن المسجد ، فلو اشتغل المكلف بالصلاة التي هي ضد خاص للازالة فبناء على ان الامر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاص تقع الصلاة محرمة وبالتالي فاسدة ويجب اعادتها من جديد.

وقبل الاجابة عن هذين التساؤلين نشير الى ان الدلالة حسب ما قرأنا في

ص: 459


1- بهذا يتضح ان ليس المقصود من الضد في المقام الضد المنطقي بل ما يعم النقيض.

المنطق على ثلاثة اقسام ، فتارة تكون مطابقية واخرى تضمنية وثالثة التزامية. وعلى هذا فهل المقصود من الدلالة والاقتضاء حينما نقول : « الامر بالشيء هل يقتضي النهي عن الضد » هو الاقتضاء بنحو المطابقة او بنحو التضمن او بنحو الالتزام؟ والصحيح ان المقصود ما يعم الانحاء الثلاثة.

وبعد هذا يقع الحديث اولا عن الضد العام وبعد ذلك عن الضد الخاص.

الضد العام :
اشارة

وقع البحث في ان مثل « اقم الصلاة » هل يقتضي النهي عن ترك الصلاة؟ والمعروف اقتضاؤه لذلك ولكن اختلف في كيفية الاقتضاء على ثلاثة اقوال : الاقتضاء بنحو المطابقة ، والاقتضاء بنحو التضمن ، والاقتضاء بنحو الالتزام.

القول الاول

والقول الاول يرى ان مثل « اقم الصلاة » يدل بالمطابقة على النهي عن تركها ، فاقم الصلاة هو عين لا تترك الصلاة. وبطلان هذا القول واضح ، اذ لازمه صيرورة الامر عين النهي والحال انه يغايره. ومن هنا حاول اصحاب هذا القول توجيهه باحد وجهين :

أ - ليس المقصود من العينية ان وجوب الصلاة عين حرمة تركها ليقال ان الوجوب غير الحرمة بل العينية في مقام التأثير بمعنى ان تأثير وجوب الصلاة لو لاحظناه مع تأثير حرمة ترك الصلاة لوجدنا ان التأثيرين واحد وليس بمتعدد ، فان النهي عن ترك الصلاة يسحب المكلف عن ترك الصلاة ومن الواضح ان الامر بالصلاة يؤثر نفس هذا التأثير فانه وان كان بالمباشرة يدفع بالمكلف نحو الصلاة ويقربه اليها الا انه بنفس تقريبه نحوها يبعده ويسحبه عن ترك الصلاة.

ص: 460

اذن الامر بالصلاة والنهي عن ترك الصلاة يشتركان في تاثير واحد وهو سحب المكلف عن ترك الصلاة غاية الامر النهي عن ترك الصلاة يدل بالمباشرة على ذلك بينما الامر بالصلاة يدل بالمباشرة على الدفع نحو الصلاة وبالالتزام على السحب عن تركها.

ويمكن مناقشة هذا التوجيه بان وحدة التأثير بالشكل السابق وان كانت امرا مسلما الا انها لا تنفع ، اذ المطلوب اثباته هو حرمة ترك الصلاة والنهي عنه بحيث حينما يقال صل يثبت حكمان : وجوب للصلاة وحرمة لتركها ، وهذا التوجيه لا يثبت ذلك.

ب - ان وجوب الصلاة هو عين حرمة تركها باعتبار ان حرمة الشيء تعني طلب النقيض - فحينما يقال يحرم شرب الخمر فمعناه اني اطلب نقيض شرب الخمر ، وحيث ان النقيض هو الترك يصير المعنى : اني اطلب ترك شرب الخمر - وما دامت حرمة الشيء ترجع الى طلب نقيض الشيء فلو فرض ان الشارع نهى عن ترك الصلاة وقال يحرم ترك الصلاة فمعنى ذلك انه طلب منا نقيض ترك الصلاة وبالتالي طلب منا ترك ترك الصلاة ، وبما ان ترك ترك الصلاة عبارة اخرى عن فعل الصلاة فالمعنى يصير هكذا : اني اطلب منك فعل الصلاة ، وبهذا يثبت ان النهي عن ترك الصلاة هو عين الامر بالصلاة.

ويمكن مناقشة هذا التوجيه :

1 - بانه يرجع الى ان طلب الصلاة له لفظان وتعبيران هما : صل ولا تترك الصلاة ، فالمولى اذا اراد ان يطلب الصلاة فبأمكانه الاستعانة باحد تعبيرين احدهما صل والآخر لا تترك الصلاة نظير ان يقال ان لك اسمين احدهما علي (1)

ص: 461


1- لو فرض ان خالتك ليس لها الا اخت واحدة وهي امك وفرض انك الولد الوحيد لامك.

والآخر ابن اخت خالتك ، فان ابن اخت خالتك ليس هو الا انت الذي اسمك علي لان اخت خالتك هي امك ، وابنها هو انت.

وباختصار : ان هذا التوجيه كأنه يريد ان يقول ان طلب الصلاة له لفظان كما ان ذات علي لها لفظان ، وهذا وان كان امرا مسلما ولكنه لا يليق ان يكون محل النزاع والبحث العلمي وكيف يليق بالاصولي البحث عن وجود تعبير ثان لطلب الصلاة وعدمه.

2 - ان هذا التوجيه مبني على ان النهي عن شرب الخمر مثلا معناه اني اطلب منك ترك شرب الخمر وهذا ما لا نسلمه ، فان النهي عن شيء لا يرجع الى طلب تركه بل الى الزجر عنه ، فمعنى يحرم عليك شرب الخمر اني ازجرك عن شرب الخمر ، ولعل الوجدان العرفي قاض بذلك.

القول الثاني

ان الامر بالصلاة مثلا يقتضي بنحو الدلالة التضمنية النهي عن ترك الصلاة. وقد اختار هذا القول جماعة منهم صاحب المعالم حيث انه يعتقد تركب حقيقة الوجوب من جزئين هما طلب الفعل والنهي عن الترك ، فالنهي عن الترك - على هذا - يكون جزء مدلول الوجوب وبالتالي يكون الوجوب دالا عليه بالدلالة التضمنية.

وفيه ما تقدم ص 115 من عدم تركب الوجوب من طلب الفعل والنهي عن الترك.

القول الثالث

ان الامر بالصلاة مثلا يقتضي بنحو الالتزام النهي عن ترك الصلاة بتقريب ان الشارع اذا امر بالصلاة فلا يمكن ان يرخص في تركها ، اذ الترخيص في ذلك

ص: 462

مع فرض وجوب الصلاة جمع بين المتنافيين ، ومع عدم امكان الترخيص في ترك الصلاة فلازم ذلك تحريمه - ترك الصلاة - وهو المطلوب.

وفيه : انا نسلم باستلزام وجوب الصلاة لعدم الترخيص في تركها ولكن لا نسلم ان لازم عدم الترخيص في الترك تحريم الترك بل لعل المولى لم يصدر منه ترخيص بترك الصلاة ومع ذلك لم يحرّم ترك الصلاة. وبكلمة اخرى : ان عدم الترخيص في ترك الصلاة يستلزم اما تحريم ترك الصلاة او وجوب الصلاة ولا يستلزم تحريم ترك الصلاة بالخصوص ، وهذا لعله مما يقضي به الوجدان ، فانه لو قيل انت لست مرخصا في ترك الاجتهاد فهذا فيه احتمالان ، فيحتمل كون المقصود ان الاجتهاد واجب ويحتمل ارادة تحريم ترك الاجتهاد ولا يتعين ارادة الثاني بخصوصه.

وقد تقول : ان عدم صدور الترخيص بترك الصلاة اذا لم يكن مستلزما لتحريم الترك يلزم لغوية عدم الترخيص في الترك فلا بدّ من افتراض استلزامه لتحريم الترك.

والجواب : انا لم نفترض صدور عدم الترخيص حتى تلزم لغوية هذا الصادر بل افترضنا عدم صدور ترخيص من المولى اي عدم صدور شيء يرتبط بالترك ومعه فاي لغوية تلزم ، ان اللغوية تلزم لو فرض صدور عدم الترخيص دونما اذا فرض عدم صدور شيء.

الضد الخاص :
اشارة

قوله ص 414 س 1 واما الضد الخاص ... الخ : كان حديثنا سابقا عن الضد العام واتضح ان الامر بشيء لا يقتضي النهي عن تركه لا بنحو المطابقة ولا

ص: 463

التضمن ولا الالتزام.

واما الضد الخاص فهل يقتضي الامر بالواجب النهي عنه؟ فالامر بأزالة النجاسة عن المسجد هل يقتضي النهي عن ضدها الخاص وهو الصلاة مثلا؟

فائدة قبل البحث

تعرضت عبارة الكتاب لفائدة وهي انه مرّ عند البحث عن فكرة الترتب ان المكلف لو دخل المسجد ورأى نجاسة فلا بدّ من ازالتها وعدم الاشتغال بالصلاة اذ ما دامت هي الاهم فالامر يتعلق بها. ولكن لو فرض الاشتغال بالصلاة وهجر الازالة فهل تقع صحيحة؟ ذكرنا هناك ان الازالة وان كانت اهم والامر يتوجه اليها الا انه يمكن تعلق الامر بالصلاة ايضا ولكن بنحو الترتب بان يقال تجب الازالة فان لم تشتغل بها فتجب الصلاة ، ان هذا الامر الترتبي بالصلاة معقول وثابت وببركته يمكن تصحيح الصلاة.

والذي نريد الاشارة له هنا هو ان فكرة الترتب هذه انما تنفع في تصحيح الصلاة فيما اذا لم نقل ان الامر بشيء يقتضي النهي عن ضده الخاص ، فان الامر بالازالة مثلا اذا كان مقتضيا للنهي عن الصلاة صارت الصلاة منهيا عنها ومع النهي عنها كيف يمكن تعلق الامر بها ، ما ذلك الا اجتماع للامر والنهي في شيء واحد وهو مستحيل حتى بناء على القول بجواز اجتماع الامر والنهي ، فان الامر والنهي انما يجوز اجتماعهما فيما اذا كان هناك عنوانان كالصلاة والغصبية دونما اذا كان العنوان واحدا كما هو المفروض في المقام حيث لا نملك غير عنوان الصلاة فالامر يقول صل والنهي يقول لا تصل ، واجتماع الامر والنهي على شيء واحد بعنوان واحد مما لا اشكال في استحالته.

والخلاصة : ان فكرة الترتب لا تعقل الا على تقدير القول بعدم الاقتضاء.

ص: 464

عودة الى الكتاب :
اشارة

وتعرضت عبارة الكتاب بعد ذلك الى دليل القائلين بالاقتضاء ، فانه قد استدل على ان الامر بالازالة يقتضي النهي عن الصلاة بدليلين هما :

الدليل الاول

التمسك بمسلك التلازم. وحاصله يتركب من ثلاث مقدمات هي :

أ - ان الامر بالازالة يقتضي النهي عن ترك الازالة ، فان الامر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام وهو تركه.

ب - ان المكلف اذا ترك الازالة فلازم ذلك ان يشتغل بفعل من الافعال فاما ان يطالع او يأكل او يصلي او ... ، فالصلاة اذن هي احد الافعال الملازمة لترك الازالة.

ج - ان ترك الازالة اذا كان محرما بمقتضى المقدمة الاولى فما يلازمه وهو فعل الصلاة يكون محرما ايضا لان الملازم للمحرم محرم ايضا. وبهذا يثبت ان فعل الصلاة محرم وهو المطلوب.

ويمكن مناقشة هذا الدليل بعدم تمامية المقدمة الاولى حسب ما تقدم في البحث السابق ، اذ مر ان الامر بالازالة لا يقتضي النهي عن تركها اي عن الضد العام. وهكذا يمكن المناقشة في المقدمة الثالثة (1) فانه لم يثبت ان الملازم للمحرم

ص: 465


1- بل وهكذا يمكن المناقشة في المقدمة الثانية ، فان الصلاة ليست امرا ملازما لترك الازالة بحيث لا تنفك عنه بل هي امر مقارن له من باب الاتفاق والصدفة فان المكلف اذا ترك الازالة فلا يتحتم ان يشتغل بالصلاة بل من الممكن ان يطالع او يأكل او يفعل فعلا آخر ، فالصلاة اذن امر مقارن اتفاقي ، ومن الواضح ان الامر الاتفاقي لا تلزم حرمته عند حرمة ترك الازالة مثلا ، ومن هنا نوقشت شبهة الكعبي فان ابا القاسم الكعبي له رأي ينكر فيه وجود المباح في الشريعة فشرب الماء او المطالعة وغير ذلك ليست من المباحات اذ ترك شرب الخمر مثلا واجب ، واذا كان واجبا فيلزم وجوب شرب الماء او المطالعة او النوم ، لان ترك شرب الخمر لا يتحقق الا ضمن واحد من هذه الامور ، وبهذا يلزم انتفاء المباح بشكل كامل. وجواب هذه المشبهة : ان شرب الماء مثلا ليس ملازما لترك شرب الخمر بل مقارن اتفاقي ، ومن الواضح لا يلزم من وجوب الشيء وجوب مقارنه الاتفاقي. وهكذا لا يلزم من حرمة الشيء حرمة مقارنه الاتفاقي.

محرم. ويمكن ذكر عدة منبهات تشهد بذلك ، فاستقبال القبلة حالة التخلي له ملازمات متعددة كجعل المشرق على اليسار والمغرب على اليمين ووضع القدمين على الارض ، فلو كان الملازم للمحرم محرما يلزم حرمة هذه الامور ايضا وبالتالي يلزم ان يكون الانسان عند استقباله للقبلة حالة التخلي مستحقا لعدة عقوبات : عقوبة على الاستقبال وعقوبة على جعل المشرق يساره وثالثة على جعل المغرب يمينه ورابعه ... وهذا مخالف لارتكاز المتشرعة جزما.

ومنبه ثان على ذلك : ايجاد النار فانه يلازم وجود الدخان والاحراق والحرارة و ... ، فلو فرض ان المولى حرّم على عبده ايجاد النار في وقت او مكان معين فيلزم حرمة هذه الملازمات ايضا وبالتالي يلزم استحقاق عقوبات متعددة وهو مخالف للوجدان ايضا.

يبقى شيء وهو ان الملازم للمحرم اذا لم يكن محرما فبأي حكم يكون محكوما اذن؟ فهل يمكن ان يكون محكوما بالوجوب او بالاستحباب او بغير ذلك من الاحكام؟ كلا لا يمكن ان يكون محكوما بذلك ، اذ مع حرمة ايجاد النار كيف يمكن ان يكون ايجاد الحرارة واجبا او مكروها او مباحا او مستحبا وانما الممكن ان لا يكون متصفا بحكم اصلا فاستقبال القبلة حالة التخلي محكوم بالحرمة واما ملازماته فهي خلوة من اي حكم فلا هي متصفة بالحرمة ولا بغيرها من

ص: 466

الاحكام. ومن هنا يتضح ان الملازم للمحرم لا يمكن ان يتصف بحكم معاكس للحرمة وفي نفس الوقت لا يلزم ان يكون محرما بل يمكن ان يكون خلوا من اي حكم.

وبهذا نعرف معنى العبارة التي تقول : ان المتلازمين وان كان لا يجوز تخالفهما في الحكم ولكن لا يلزم توافقهما فيه ايضا.

الدليل الثاني

وهو المعروف بمسلك المقدمية. ويتركب من مقدمات ثلاث ايضا هي :

أ - ان عدم الصلاة مقدمة لحصول الازالة ، فان الصلاة ضد الازالة ، وترك احد الضدين مقدمة لوجود الضد الآخر.

ب - ان ترك الصلاة اذا كان مقدمة لحصول الازالة صار - اي ترك الصلاة - واجبا لان مقدمة الواجب واجبة.

ج - ان ترك الصلاة اذا صار واجبا صار نقيضه - وهو ترك ترك الصلاة اي فعل الصلاة - محرما لان الامر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام ، وحيث ان النقيض لترك الصلاة هو فعل الصلاة فيلزم ان يصير فعل الصلاة محرما وهو المطلوب.

وقبل مناقشة هذا الدليل نتعرض الى مطلبين : 1 - ان تمامية هذا الدليل لا تتوقف على تمامية المقدمة الثالثة بل على الاولى والثانية فقط اذ تقدم سابقا انه بناء على كون الامر بالازالة مقتضيا للنهي عن الصلاة فلا يمكن تعلق الامر بالصلاة بنحو الترتب لانه يلزم من فرض الاقتضاء وفرض الامر الترتبي التكليف بالنقيضين اي التكليف بفعل الصلاة وتركها وهو مستحيل. اذن من لوازم القول بالاقتضاء وثمراته استحالة تصحيح الصلاة بالامر

ص: 467

الترتبي ، ومن الواضح ان هذه الثمرة لا تتوقف على القول بالاقتضاء اي على تعلق النهي بالصلاة بل ان ترك الصلاة ما دام واجبا بمقتضى المقدمة الثانية فالامر الترتبي بالصلاة يصير مستحيلا حتى لو لم نقل باستدعاء وجوب ترك الصلاة لحرمة الصلاة ، فان ترك الصلاة اذا كان واجبا فلا يمكن الامر بالصلاة بنحو الترتب لعدم امكان الامر بفعل الشيء وتركه معا. وبكلمة اخرى : كما لا يمكن مع حرمة الصلاة الامر بها كذلك لا يمكن مع وجوب تركها الامر بها.

وباختصار : انا وان كنا نرفض المقدمة الثالثة الا انه لا يمكن ان يكون ذلك مبررا لرفض مسلك المقدمية من اساسه.

2 - ناقش البعض كصاحب المعالم قدّس سره في المقدمة الثانية - وهي ان مقدمة الواجب واجبة - حيث قال : لا اسلم بوجوب مقدمة الواجب ، ومع عدم وجوبها لا يصير ترك الصلاة واجبا من باب المقدمة حتى يحرم فعل الصلاة ويقع فاسدا.

هذا ولكن يمكن ان يقال ان مقدمة الواجب وان لم تكن واجبة على مستوى الجعل والحكم ولكنها محبوبة ومرادة لما تقدم في مبحث مقدمة الواجب من قضاء الوجدان بان الشيء اذا كان واجبا فمقدمته محبوبة ومرادة ، واذا سلمنا بمحبوبية ترك الصلاة باعتبار مقدميته للازالة فلا يمكن تعلق الامر الترتبي بالصلاة لان الامر الترتبي اذا تعلق بفعل الصلاة كشف عن محبوبية فعل الصلاة ، ومع محبوبيته - والمفروض ان ترك الصلاة محبوب ايضا - يلزم تعلق الحب بالنقيضين : فعل الصلاة وتركها وهو مستحيل.

مناقشة الدليل الثاني :

اجل يمكن مناقشة مسلك المقدمية من خلال مقدمته الاولى فلا انسلم ان

ص: 468

ترك الصلاة مقدمة لوجود الازالة. وبتعبير أشمل لا نسلم بمقدمية ترك احد الضدين لوجود الضد الآخر. ووجه ذلك : ان الدليل على المقدمية هو ان وجود الصلاة مانع من وجود الازالة ، وما دام مانعا فيكون عدم الصلاة مقدمة لوجود الازالة لاننا نعرف ان عدم المانع هو احد اجزاء العلة - فان العلة التامة تتركب من ثلاثة اشياء : مقتضي وشرط وعدم مانع - وما دام عدم المانع من جملة اجزاء العلة التامة والمفروض ان عدم الصلاة هو من قبيل عدم المانع بالنسبة للازالة فيكون عدم الصلاة مقدمة لوجود الازالة وهو المطلوب ، هذا هو الدليل على مقدمية عدم احد الضدين لوجود الآخر. ويمكن مناقشته بوجهين :

1 - ويتوقف توضيح هذا الوجه (1) على بيان مقدمتين :

أ - ان العلة التامة تتركب من ثلاثة اجزاء هي المقتضي والشرط وعدم المانع. وفي هذه المقدمة نريد التعرف على معاني المصطلحات المذكورة.

اما المقتضي فهو عبارة عن ذلك الشيء الذي يفيض الاثر ويوجده كالنار بالنسبة للاحراق ، فان احتراق الورقة يوجد ويحصل بسبب النار فالنار اذن هي المقتضي للاحراق.

واما الشرط فهو العامل المساعد للمقتضي في تأثيره ، فقرب الورقة من النار شرط لانه يساعد النار على تأثيرها في الاحراق.

واما المانع فهو ما يمنع المقتضي من التاثير كالرطوبة مثلا فانها تمنع النار من تأثيرها في الاحراق.

ب - اتضح ان وجود الاحراق يتوقف على وجود الاجزاء الثلاثة للعلة

ص: 469


1- وقد ذكره الميرزا في اجود التقريرات ج 1 ص 255. ثم ان الجواب المذكور بمثابة الحل لما استدل به اصحاب مسلك المقدمية بخلاف الوجه الثاني للردّ فانه بمثابة النقض عليه.

وهي المقتضي والشرط وعدم المانع. واما بالنسبة الى عدم وجود الاحتراق فهو لا يتوقف على انعدام جميع الاجزاء الثلاثة المذكورة بل يكفي فيه عدم واحد منها فاذا فقد المقتضي انعدم الاثر وان كان الشرط وعدم المانع متحققين. وهكذا بالنسبة الى الشرط فانه اذا فقد انعدم الاثر حتى مع تحقق المقتضي وعدم المانع ، ونفس الكلام يأتي بالنسبة الى المانع. وهذا واضح. والذي نريد التأكيد عليه في هذه المقدمة هو ان عدم احتراق الورقة لا ينسب الى الرطوبة ولا يقال ان الرطوبة منعت من احتراق الورقة الا اذا كان المقتضي للاحتراق موجودا ، فعند وجود النار يمكن ان يقال ان الرطوبة منعت النار من تأثيرها في الاحراق اما مع عدم وجودها فلا ينسب عدم الاحتراق الى الرطوبة ولا يقال ان الرطوبة منعت من الاحتراق لما ذكرنا في المقدمة الاولى من ان المانع هو ما يمنع المقتضي من التأثير فلا بدّ من فرض وجود المقتضي اولا حتى تمنع الرطوبة من تأثيره فاذا فرض ان النار غير موجودة فلا مقتضي حتى تمنع الرطوبة من تأثيره. اذن المانع لا يكون مانعا الا اذا فرض وجود المقتضي ، اما اذا استحال وجود المقتضي ولم يمكن ان يعاصر المانع ويقارنه فلا وجود للمانع.

وبعد اتضاح هاتين المقدمتين نقول في توضيح الوجه الاول من الجواب على برهان المقدمية : ان الازالة لا يمكن ان تكون مانعة من الصلاة (1) ليكون عدم الازالة من قبيل عدم المانع ، فان الازالة لا يمكن ان تكون مانعة الا اذا فرضنا وجود المقتضي للصلاة ، ونحن ندعي ان المقتضي للصلاة لا يمكن وجوده عند افتراض وجود الازالة اذ المقتضي للصلاة ليس هو الا الارادة فان ارادة المكلف

ص: 470


1- لا يخفى ان عبارة الكتاب في هذا الموضع فرضت الازالة هي المانع بينما نحن فيما سبق كنا نفترض ان الصلاة هي المانع. وهذا شيء غير مهم اذ الجواب يتم سواء فرض ان الصلاة هي المانع ام الازالة ، ولكن العادة جرت على فرض الواجب هو الازالة والصلاة هي المانع.

للصلاة هي السبب في وجود الصلاة (1) ، ومن الواضح ان المكلف اذا دخل المسجد ورأى النجاسة فيه واخذ يشتغل بالازالة فلازم ذلك عدم كونه مريدا للصلاة اذ لو كان يريدها لأوجدها ولما اشتغل بالازالة ، فاذا اشتغل بالازالة ولم يأت بالصلاة كان ذلك كاشفا عن عدم ارادته للصلاة.

وان شئت قلت : ان المقتضي للصلاة اما ان يكون موجودا او لا ، فان كان موجودا فمن اللازم تحقق الصلاة وترك الازالة ، وان لم يكن موجودا فلا يمكن عدّ الازالة مانعة من تأثير المقتضي اذ لا مقتضي للصلاة على الفرض حتى يمكن ان تمنع الازالة من تأثيره.

اشكال وجواب :

قد يقال : ان هذا الكلام - وهو ان الازالة لا يمكن ان تكون مانعة باعتبار انه مع تحققها لا يمكن تحقق المقتضي للصلاة لتكون الازالة مانعة من تأثيره - وان كان وجيها الا انه يوجد ما يمنع من التصديق به حيث نشعر بالوجدان ان الازالة لا تجتمع مع الصلاة ، وما دامت لا تجتمع معها فيصح ان يقال ان الازالة مانعة من الصلاة.

والجواب : ان كلمة « المانع » لها معنيان ، فتارة تستعمل ويراد منها ما يمنع المقتضي من التأثير كما في الرطوبة حيث انها تمنع النار من تأثيرها ، واخرى تطلق ويراد منها المنافر الوجودي كما في السواد والبياض ، فان كل واحد منهما يمنع من وجود الآخر وينافره ولا يمكن ان يجتمع معه. واذا اتضح هذا نقول : ان كان

ص: 471


1- قد يقال : ان المقتضي للصلاة ليس هو ارادة المكلف بل الوجوب الشرعي للصلاة ولكنه باطل ، فان المقتضي هو ما يوجد الاثر ، ومن الواضح ان الموجد للصلاة ليس هو وجوبها بل ارادة المكلف لها ، اجل الوجوب الشرعي داع لتحقق ارادة المكلف لا انه الموجد لها.

المقصود من قولكم نشعر بالوجدان بكون الازالة مانعة من الصلاة ان الازالة مانعة بالمعنى الاول فهذا باطل كما اوضحنا ذلك سابقا حيث تقدم ان المانع بالمعنى الاول لا يصدق الا اذا كان المقتضي للصلاة موجودا ، وقد اثبتنا ان الازالة لا يمكن ان تجتمع مع المقتضي للصلاة.

وان كان المقصود ان الازالة مانعة بالمعنى الثاني - اي هي تتنافر والصلاة ولا تجتمع معها - فهو صحيح ولكن عدم المانع بهذا المعنى ليس من اجزاء العلة ، فان جزء العلة الذي يعد مقدمة هو عدم المانع بالمعنى الاول لا عدمه بالمعنى الثاني.

ان قلت : لماذا لا نعد عدم المانع بالمعنى الثاني من جملة اجزاء العلة بان نقول هكذا : ان العلة التامة تتركب من اجزاء اربعة - لا ثلاثة - المقتضي والشرط وعدم المانع بالمعنى الاول وعدم المانع بالمعنى الثاني؟

قلت : ان عدم الازالة لو كان مقدمة للصلاة ومن جملة اجزاء العلة لزم ان يكون عدم الازالة متقدما من حيث الرتبة على الصلاة ، لان رتبة المقدمة متقدمة على رتبة ذي المقدمة فان المقدمة لا بدّ وان يفرض وجودها اولا ثم يفرض بعد ذلك وجود ذيها ، ومن الواضح ان عدم الازالة ليس متقدما على الصلاة من حيث الرتبة اذ المكلف لو دخل المسجد ورأى النجاسة فقد تحدث له ارادة نحو الصلاة ، وهذه الارادة متى ما حصلت كان حدوثها سببا في وقت واحد ورتبة واحدة لشيئين هما وجود الصلاة وعدم الازالة ، فعدم الازالة ووجود الصلاة اذن هما في رتبة واحدة وليست ارادة الصلاة تحدث عدم الازالة اولا ثم تحدث الارادة بمعونة عدم الازالة وجود الصلاة. وما داما في رتبة واحدة فلا يكون عدم الازالة مقدمة للصلاة والا كانت رتبته متقدمة على الصلاة.

ص: 472

2 - ان لازم افتراض المقدمية الدور. ويمكن توضيح الدور ببيانات متعددة نقتصر على ما اشار له قدس سره في الحلقة الثانية ص 289. وحاصله يتضح بعد بيان مقدمة هي : ان ( أ ) لو كان علة ل- ( ب ) فنقيض ( أ ) يكون علة لنقيض ( ب ) فالنار اذا كانت علة للاحتراق فعدم النار يكون علة وسببا لعدم الاحتراق (1).

وباتضاح هذه المقدمة نقول : ان عدم الصلاة لو كان علة ومقدمة للازالة - وهكذا عدم الازالة لو كان علة ومقدمة للصلاة - لزم ان يكون نقيض عدم الصلاة وهو الصلاة علة لعدم الازالة طبقا للمقدمة السابقة ، واذا صارت الصلاة علة لعدم الازالة لزم الدور اذ فرضنا فيما سبق ان عدم الازالة هو العلة للصلاة (2) بينما اصبحت الآن الصلاة هي العلة لعدم الازالة ، وهذا معناه ان ما فرض معلولا اصبح علة وما فرض علة اصبح معلولا.

نتيجة ما تقدم :

اتضح مما سبق انه استدل على اقتضاء الامر بالازالة للنهي عن الضد الخاص وهو الصلاة بوجهين : احدهما مسلك التلازم وثانيهما مسلك المقدمية. وقد اتضح بطلان كلا المسلكين. والنتيجة على هذا ان الامر بالشيء كما لا يقتضي النهي عن ضده العام كذلك لا يقتضي النهي عن ضده الخاص.

ثمرة المسألة :

قد تسأل عن ثمرة بحث اقتضاء الامر بالازالة للنهي عن الصلاة مثلا. وقد

ص: 473


1- وهذا هو معنى العبارة القائلة : نقيض العلة علة لنقيض المعلول.
2- حيث قلنا : وهكذا عدم الازالة لو كان علة ومقدمة للصلاة.

تقدمت الاشارة لها سابقا ، وحاصلها : انه بناء على اقتضاء الامر بالازالة للنهي عن الصلاة يلزم وقوع الصلاة فاسدة اذ الامر الترتبي لا يمكن تعلقه بها لتصح بواسطته فانه مع النهي عن الصلاة لا يمكن تعلق الامر بها (1) ، وهذا بخلافه بناء على عدم الاقتضاء ، فان الصلاة يمكن وقوعها صحيحة بواسطة الامر الترتبي لعدم تعلق نهي بها كي يمنع من تعلق الامر.

ويمكن ان نصوغ الثمرة بشكل آخر اعم بحيث يكون البيان السابق مظهرا له. وحاصله : ان الامر بالازالة لو كان مقتضيا للنهي عن الصلاة يحصل التعارض بينه وبين الامر بالصلاة ، اذ الامر بالازالة يقول - بناء على الاقتضاء - أوجد الازالة ولا توجد الصلاة ، وهكذا الامر بالصلاة يقول بناء على الاقتضاء اوجد الصلاة ولا توجد الازالة ، والمعارضة بناء على هذا واضحة ، ومع تحقق المعارضة وتقديم الامر بالازالة لقوة سنده او دلالته يكون اطلاق « اقيموا الصلاة » ساقطا وغير شامل للصلاة المقارنة للنجاسة في المسجد ، ومعه تقع باطلة. هذا كله بناء على القول باقتضاء الامر بالازالة للنهي عن الصلاة ، واما بناء على عدم الاقتضاء فلا تحصل المعارضة بين « صل » و « ازل » بل مزاحمة ، اذ « ازل » لا يكون مفاده لا توجد الصلاة بل مفاده فقط اوجد الازالة ، وطبيعي هو يقول اوجد الازالة ضمن الشرائط العامة التي احدها القدرة وعدم الاشتغال بواجب آخر اهم فهو يقول اوجد الازالة ان كنت قادرا ولم تشتغل بواجب اهم ، وهكذا الامر بالصلاة بناء على عدم الاقتضاء يقول اوجد الصلاة ان كنت قادرا ولم تشتغل بالاهم ولا يقول لا تشتغل بالازالة ، ومن الواضح عدم المنافاة بين تكليفين من هذا القبيل.

ص: 474


1- حتى بناء على جواز اجتماع الامر والنهي ، اذ جواز الاجتماع يشترط فيه تعدد العنوان كعنواني الغصبية والصلاة ، والمفروض في المقام وحدته حيث لا نملك غير عنوان الصلاة.

اجل ان بين هذين التكليفين تزاحما حيث لا يمكن امتثالهما معا ، ومع التزاحم يقدم الاهم منهما ويكون الامر بالمهم - وهو الصلاة في المثال - ثابتا بنحو الترتب وعدم الاشتغال بالاهم ، ومع وقوع المهم متعلقا للامر الترتبي فلو اتى به المكلف وقع صحيحا.

والخلاصة : انه بناء على هذه الصياغة الجديدة تصير الثمرة هكذا : بناء على الاقتضاء يقع التعارض بين « صل » و « ازل » ، وبناء على عدمه يقع التزاحم. واما الصياغة الاولى التي كانت تقول ان الصلاة تقع فاسدة بناء على الاقتضاء وصحيحة بناء على عدمه فهي من مظاهر ونتائج التعارض والتزاحم فان من نتائج التعارض وتقديم « ازل » بطلان الصلاة ومن نتائج التزاحم صحتها من خلال الامر الترتبي.

قوله ص 412 س 3 ويراد بالاقتضاء استحالة ثبوت ... الخ : اي المراد من الاقتضاء انه مع الامر بالازالة مثلا يلزم النهي عن الصلاة سواء كان ذلك بنحو الدلالة المطابقية ام التضمنية ام الالتزامية.

قوله ص 412 س 12 تبعد عنه : اي عند الضد العام ، فان حرمة ترك الصلاة تقتضي التبعيد عن ترك الصلاة.

قوله ص 413 س 5 بان يرجع : الصواب : بانه يرجع.

قوله ص 413 س 9 وقد تقدم في ... الخ : اي ص 115 س 2 حيث تقدم ان الوجوب ليس مركبا من طلب الفعل والنهي ، فان طلب الفعل حنس شامل للواجب والمستحب وهكذا النهي هو جنس شالم للمحرمات والمكروهات ، اذ المكروه مشتمل على النهي ايضا ، ومن الواضح ان الشيء لا يتركب من جنسين بل من جنس وفصل.

ص: 475

قوله ص 414 س 7 كما تقدم : اي في مبحث الضد العام حيث ذكرنا فيه ان الامر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده العام.

قوله ص 415 س 3 ومن الواضح : لعل الاوجه التعبير هكذا : اذ من الواضح ... الخ. وتوضيح العبارة : انه كما لا يمكن الامر بالضد الخاص وهو الصلاة مع النهي عن الصلاة كذلك لا يمكن الامر بالصلاة مع الامر بترك الصلاة لاستحالة الامر بالنقيضين.

قوله ص 415 س 14 وبيانه ان العلة ... الخ : هذا اشارة الى المقدمة الاولى.

قوله ص 416 س 1 ومن هنا ... الخ : هذا اشارة الى المقدمة الثانية.

قوله ص 416 س 9 وعلى هذا الاساس : هذا شروع في الجواب بعد الفراغ من المقدمتين.

قوله ص 416 س 10 اذا لاحظنا الصلاة ... الخ : المفروض هنا ان الازالة هي المانع ، وهو غير مهم.

قوله ص 416 س 15 لا حالة منتظرة : اي لا بدّ وان تكون الصلاة حاصلة ولا تكون الازالة متحققة.

قوله ص 417 س 7 وعدم امكان ... الخ : عطف تفسير على « التمانع ».

قوله ص 417 س 8 كما في الضدين : اي كما في السواد والبياض مثلا.

قوله ص 417 س 9 بهذا المعنى : هذا متعلق بالمتمانعين. اي ان المتمانعين - بمعنى المتنافرين في الوجود فقط - متى ما تم المقتضي لاحدهما ... الخ.

قوله ص 417 س 11 في وجود احد ... الخ : اي يؤثر في وجود احدهما ونفي الآخر في رتبة واحدة من دون ان يكون عدم احدهما متقدما وعلة لوجود

ص: 476

الآخر.

قوله ص 418 س 3 كما اشرنا في الحلقة السابقة : ص 291.

قوله ص 418 س 5 وكذلك اي واجب ... الخ : اي وكذا غير الصلاة من الواجبات العبادية فيما اذا زوحم بواجب اهم.

قوله ص 418 س 15 كما تقدم : ص 317 س 13.

ص: 477

ص: 478

اقتضاء التحريم للفساد

اشارة

ص: 479

ص: 480

اقتضاء الحرمة للبطلان :

اشارة

قوله ص 419 س 1 لا شك في ان النهي المتعلق بالعبادة ... الخ :

حاصل المبحث المذكور ان الحرمة اذا تعلقت بالصلاة مثلا كأن قيل لا تصل في المغصوب فهل هذه الحرمة تقتضي فساد الصلاة بحيث يلزم اعادتها من جديد؟ وفرق هذا المبحث عن المبحث السابق الذي كان يقول ان وجوب الشيء هل يقتضي حرمة ضده او لا هو انه في البحث السابق كان يبحث عن الامر بالازالة هل يقتضي حرمة الصلاة او لا فاذا اختير القول بالاقتضاء وان الصلاة منهي عنها يأتي الدور لمبحثنا هذا فيقال بعد ما ثبت تعلق الحرمة بالصلاة فهل توجب حرمتها فسادها او لا. وعليه فمبحثنا هذا مترتب على المبحث السابق.

وبعد هذا نعود الى الكتاب ، وقبل الدخول في صلب الموضوع لا بدّ وان نعرف ان محل كلامنا هو النهي التكليفي دون الارشادي ، فان النهي قد يكون ارشاديا مثل « لا تصل فيما لا يؤكل لحمه » او « لا تبع بغير كيل » ، فان النهي في الاول ارشاد الى ان لبس جلد او شعر الحيوان الذي يحرم اكله مانع من صحة الصلاة وموجب لبطلانها ، وهكذا النهي في الثاني هو ارشاد الى شرطية الكيل والعلم بالعوضين في صحة البيع.

ووجه خروج النهي المذكور عن محل البحث هو ان الفساد والبطلان مضمون النهي الارشادي فهو يرشد الى الفساد ، ولا معنى للبحث عن اقتضائه للفساد بعد ان كان الارشاد الى الفساد مضمونه ، ومن هنا يكون البحث مختصا

ص: 481

بالنهي التكليفي من قبيل النهي عن البيع وقت النداء لصلاة الجمعة او النهي عن الصلاة في المغصوب (1) ، فان النهي في هذين المثالين تكليفي حيث ان مخالفته توجب استحقاق العقوبة.

وبعد اتضاح اختصاص محل البحث بالنهي التكليفي نقول : ان الكلام يقع تارة في النهي عن العبادة واخرى في النهي عن المعاملة. وبعبارة اخرى تارة يبحث هل النهي عن مثل الصلاة يقتضي فسادها بمعنى لزوم اعادتها من جديد او لا؟ واخرى يبحث هل النهي عن مثل البيع يقتضي فساده بمعنى عدم ترتب الملكية على البيع؟

اقتضاء الحرمة لبطلان العبادة :

قوله ص 419 س 7 والمعروف بينهم ان الحرمة ... الخ : المعروف بين الاصوليين في النهي عن العبادة اقتضاؤه لفسادها. ولكن ما هي نكتة ذلك؟ يمكن ذكر ثلاثة تقريبات لذلك :

1 - لو قلنا بان الامر بالازالة مثلا يقتضي النهي عن الصلاة فهذا النهي يكشف عن ان اطلاق « اقيموا الصلاة » لا يشمل الصلاة المقارنة للنجاسة في المسجد ، اذ لو كان شاملا لها يلزم تعلق الامر والنهي بعنوان واحد وهو عنوان الصلاة وذلك باطل. اذن من وجود النهي عن الصلاة حين تواجد النجاسة نستكشف عدم تعلق الامر بها ، ومع عدم تعلقه بها تقع فاسدة.

وقد يقال : لماذا لا تقع الصلاة صحيحة بواسطة المصلحه والمحبوبية باعتبار

ص: 482


1- ينبغي الالتفات الى عدم وجود نص ينهى عن الصلاة في المغصوب بلسان لا تصل في المغصوب وانما الثابت هو النهي عن التصرف في مال الغير بدون رضاه ، والصلاة الواقعة في المغصوب تكون منهيا عنها باعتبار انها مصداق للتصرف غير المرضي.

ان صحة الصلاة لا تتوقف على وجود الامر بل يكفي فيها وجود المصلحة والمحبوبية؟

والجواب : ان الامر اذا لم يكن متعلقا بالصلاة المقارنة للنجاسة فمن اين يستكشف وجود المصلحة فيها؟ ان الكاشف ليس الا الامر ، واذ لا امر فلا كاشف.

ثم ان هذا التقريب لو كان تاما نطرح الاسئلة الثلاثة التالية :

أ - هل التقريب المذكور يثبت بطلان الصلاة في خصوص صورة علم لمكلف بالنهي او يعم صورة جهله به؟ انه يعم صورة الجهل ايضا ، اذ مع تعلق النهي بالصلاة واقعا فلا امر بها واقعا سواء كان المكلف عالما بتعلق النهي ام لا.

ب - وهل التقريب المذكور يثبت البطلان في خصوص الامور العبادية او يعم التوصلية ايضا؟ كما لو امر المولى بالكنس ونهى عن استعمال الوسيلة الكهربائية ، فلو تحقق الكنس بالوسيلة الكهربائية وقع منهيا عنه ، والنهي المذكور نهي عن امر توصلي. الصحيح عمومية البطلان لذلك ، اذ مع تعلق النهي بالامر التوصلي لا يكون اطلاق الامر شاملا له ، ومع عدم شموله له لا يقع مصداقا للمأمور به.

ج - وهل التقريب المذكور يثبت البطلان في خصوص ما اذا كان النهي نفسيا او يعم الغيري ايضا؟ انه يعم الغيري - كالنهي عن الصلاة حين وجود النجاسة في المسجد ، فان النهي عن الصلاة غيري اي هو ناشىء من كون ترك الصلاة مقدمة للازالة الواجبة - اذ مع تعلق النهي بالصلاة ولو كان غيريا فلا يمكن شمول اطلاق امر « اقيموا الصلاة » لها.

ومن خلال هذا اتضح ان هذا التقريب لو تم فهو عام من جميع الجهات

ص: 483

الثلاث ، اي هو عام للجاهل والامور التوصلية والنهي الغيري.

2 - والتقريب الثاني لاقتضاء النهي للفساد ان النهي عن العبادة يكشف عن مبغوضيتها للشارع ، ومع مبغوضيتها فلا يمكن الاتيان بها على وجه التقرب فتقع باطلة اذ شرط صحة العبادة وقوعها على وجه قربي.

وهذا التقريب لو تم نطرح نفس الاسئلة الثلاثة السابقة وهي :

أ - هل التقريب المذكور يعم صورة الجهل ايضا؟ كلا بل يختص بالعالم اذ الجاهل لا يعلم بمبغوضية العمل للشارع كي لا يمكنه قصد التقرب.

ب - وهل يعم الامور التوصلية؟ كلا بل يختص بالعباديات لانها التي تحتاج الى قصد القربة.

ج - وهل يعم النهي الغيري (1)؟ نعم يعمه ايضا ، اذ كما ان النهي النفسي يكشف عن المبغوضية كذلك الغيري يكشف عنها ، غاية الامر ان الغيري يكشف عن المبغوضية الغيرية دون النفسية ، ومن الواضح انه كما لا يمكن قصد التقرب في حالة المبغوضية النفسية كذلك لا يمكن قصده في حاله المبغوضية الغيرية.

وبهذا اتضح ان هذا التقريب خاص من الجهة الاولى والثانية وعام من الجهة الثالثة.

3 - ان الحرمة اذا تعلقت بالعبادة حكم العقل بقبح الاتيان بها ، ومعه فلا يمكن قصد التقرب بها لعدم امكان التقرب بالقبيح. وفرق هذا التقريب عن سابقه انه في السابق كان العقل يستكشف كون الفعل مبغوضا من دون ان يحكم هو بالمبغوضية واما في هذا التقريب فالعقل هو الذي يحكم بقبح الفعل لا انه

ص: 484


1- هذا السؤال لم يتعرض له في عبارة الكتاب وكان من المناسب التعرض له كما تعرض له في مباحث الدليل اللفظي ج 3 ص 116.

يستكشف ذلك.

وعلى تقدير تمامية هذا التقريب نطرح الاسئلة السابقة ايضا وهي :

أ - هل يعم التقريب المذكور الجاهل بالنهي؟ كلا لا يعم ، اذ مع الجهل بالنهي لا يقبح صدور الفعل حتى يمتنع قصد التقرب به.

ب - وهل يعم الامور التوصلية؟ كلا بل يختص بالعباديات ، اذ الامور التوصلية لا يشترط فيها قصد القربة.

ج - وهل يعم النهي الغيري؟ كلا لان العقل لا يحكم بقبح مخالفة النهي الغيري قبحا مستقلا مغايرا لقبح مخالفة النهي النفسي بل القبيح هو مخالفة النهي النفسي فقط ، واما مخالفة النهي الغيري فتقبح بما انها مقدمة وشروع في مخالفة النهي النفسي والا فهي في نفسها لا تكون قبيحة حتى يمتنع قصد التقرب.

وبهذا اتضح ان هذا التقريب خاص من جميع الجهات الثلاث بخلاف التقريب الاول فانه عام من جميع الجهات الثلاث وبخلاف التقريب الثاني فانه خاص من الجهة الاولى والثانية وعام من الجهة الثالثة.

اقسام النهي عن العبادة :

قوله ص 420 س 16 ثم اذا افترضنا ... الخ : للنهي عن العبادة اشكال ثلاثة :

1 - ان يكون متعلقا بالعبادة بكاملها كالنهي عن الصلاة حين وجود النجاسة في المسجد.

2 - ان يكون متعلقا بجزء العبادة لا بجميعها ، كالنهي عن قراءة سور العزائم في الصلاة ، فان القراءة جزء من الصلاة والنهي عنها نهي عن جزء الصلاة.

ص: 485

3 - ان يكون متعلقا بشرط العبادة كالنهي عن الوضوء بالماء المغصوب ، فان الوضوء شرط للصلاة والنهي عنه نهي عن شرط الصلاة.

وبعد اتضاح هذه الاشكال الثلاثة نطرح هذا السؤال وهو انه بناء على اقتضاء النهي عن العبادة فسادها فهل الاقتضاء المذكور يعم جميع هذه الاشكال الثلاثة او يختص ببعضها؟ والجواب : اما بالنسبة الى النهي عن العبادة بكاملها فهو القدر المتيقن فلو قلنا بان النهي عن العبادة يقتضي الفساد فالقدر المتيقن من ذلك هو النهي عن العبادة بكاملها.

واما بالنسبة للنهي عن جزء العبادة فهو ايضا يقتضي الفساد اذ جزء العبادة - كالقراءة مثلا - عبادة ايضا ، ومعه فيكون النهي عنه نهيا عن العبادة وهو يقتضي الفساد. ولكن بفساد القراءة مثلا هل تفسد الصلاة؟ والجواب : لو فرض اقتصار المكلف على قراءة العزيمة المنهي عنها وعدم قراءة سورة اخرى بعدها فصلاته باطلة جزما لان القراءة جزء من الصلاة وبطلان الجزء يستدعي بطلان الكل. واما اذا قرأ بعدها سورة اخرى وقعت صحيحة - لتحقق الجزء الصحيح - لو لم نقل بان القراءة الثانية تعد زيادة في الصلاة وكل زيادة مبطلة.

واما بالنسبة للنهي عن الشرط فالمناسب هو التفصيل بين كون الشرط عبادة وبين غيره ، فان كان عباده كالوضوء مثلا فالنهي عنه موجب لفساده ومع فساد الشرط يفسد المشروط ، وان لم يكن عبادة - كستر العورة بالقماش المغصوب فان الستر شرط وليس عبادة - فالنهي عنه لا يقتضي البطلان لا من ناحية نفس الشرط ولا من ناحية المشروط.

اما انه لا موجب للفساد من ناحية نفس الشرط فلأن المفروض عدم كون الستر عبادة ، ومعه فلا وجه لبطلانه بالنهي.

ص: 486

واما انه لا موجب للبطلان من ناحية المشروط فلأن المفروض ان الشرط صحيح وليس فاسدا ، ومع صحة الشرط يكون المشروط واجدا لشرطه ولا موجب لبطلانه (1).

ان قلت : كيف يمكن ان يكون شرط الصلاة ليس عبادة والحال ان الامر بالصلاة امر عبادي ، وحيث ان الامر بالصلاة يرجع الى تعلق الامر باجزاء الصلاة وشرائطها فاللازم ان تكون جميع اجزائها وشرائطها عبادة.

قلت : تقدم ص 381 من الحلقة ان الامر النفسي المتعلق بالمركب لا يكون متعلقا بالشرائط حتى يلزم صيرورة جميع الشرائط عبادية بل هو متعلق بالتقيد بالشرط لا بنفس الشرط اذ لو كان متعلقا بنفس الشرط يلزم عدم الفرق بين الجزء والشرط ، فالركوع مثلا جزء من الصلاة لان الامر المتعلق بالصلاة متعلق به ، واما ستر العورة فالامر بالصلاة لا يكون متعلقا به بل هو متعلق بالتقييد بالستر اذ لو كان متعلقا بنفس الستر لزم صيرورته جزء كالركوع لا شرطا.

والى هنا ننهي الكلام عن اقتضاء النهي لفساد العبادة ونتكلم عن اقتضائه لفساد المعاملة.

اقتضاء الحرمة لبطلان المعاملة :

قوله ص 421 س 15 وتحلل المعاملة ... الخ : كل معاملة تتركب من جزئين : سبب ومسبب ، فالبيع مثلا يتركب من سبب - وهو العقد اي الايجاب والقبول - ومن مسبب وهو انتقال الملكية. والنهي عن المعاملة تارة يكون راجعا الى السبب واخرى الى المسبب.

ص: 487


1- اوضحنا المطلب في هذا الموضع بشكل آخر غير ما هو الموجود في الكتاب لانه الانسب.

مثال النهي عن السبب : النهي عن البيع وقت النداء لصلاة الجمعة فان المنهي عنه ليس هو المسبب - اي حصول الملكية - اذ الشارع لا يبغض حصول الملكية بسبب الارث او بسبب آخر غير البيع وانما يكره نفس الايجاب والقبول الذي هو السبب لانه الذي يشغل عن صلاة الجمعة دون حصول الملكية فانه لا يشغل عنها.

ومثال النهي عن المسبب : النهي عن بيع المصحف للكافر ، فان المنهي عنه هو ملكية الكافر للمصحف ولذا لو حصلت - الملكية - من سبب آخر غير البيع كانت مبغوضة ايضا ، فالشارع يبغض ملكية الكافر للمصحف ولو عن طريق الهبة مثلا ولا خصوصية لحصولها من الايجاب والقبول البيعي.

وباتضاح هذا نبحث :

أ - هل النهي عن السبب يقتضي الفساد؟

ب - هل النهي عن المسبب يقتضي الفساد؟

اما بالنسبة الى السؤال الاول فالمعروف بين الاصوليين ان النهي عن السبب لا يقتضي الفساد ، فلربما يكون السبب منهيا عنه ومبغوضا للشارع ومع ذلك يترتب عليه الاثر لو حصل كما هو الحال في الظهار ، فان قول الزوج لزوجته « انت عليّ كظهر امي » محرم ولكن مع ذلك يترتب الاثر على القول المذكور بمعنى ان الزوجة تصير محرمة عليه. وايجاد النار مثلا في مكان معين قد يكون مبغوضا ومنهيا عنه من قبل المولى ولكن مع ذلك لو حصل اثّر اثره وهو الاحراق.

واما بالنسبة للسؤال الثاني - وهو ان النهي عن المسبب هل يقتضي الفساد او لا - فقبل الاجابة عنه نذكر شبهة تقول ان تعلق النهي بالمسبب اي بالملكية ليس معقولا في نفسه حتى يبحث عن اقتضائه الفساد فانه يشترط في تعلق النهي

ص: 488

بشيء القدرة على متعلقه ، ومن الواضح ان السبب - اي الايجاب والقبول - هو فعل للمكلف ومقدور له فيمكن تعلق النهي به ، واما الملكية التي هي المسبب فليست فعلا للمكلف ليمكن تعلق النهي بها.

والجواب : ان الملكية وان لم تكن فعلا للمكلف بالمباشرة ولكنها مقدورة له بواسطة سببها فان المكلف ما دام قادرا على ايجاد السبب فهو قادر على ايجاد المسبب ، وهذا المقدار من القدرة يكفي في صحة تعلق النهي فان شرط تعلق النهي هو القدرة على متعلقه سواء كانت بالمباشرة ام بواسطة السبب (1).

وبعد هذا نرجع الى صلب الموضوع وهو ان النهي عن المسبب هل يقتضي الفساد او لا؟ قد يقال باقتضائه الفساد لوجهين :

1 - ان النهي عن الملكية - التي هي المسبب - يدل على مبغوضيتها للشارع ، ومع مبغوضيتها له كيف يحكم بها عند حصول السبب ، ان حكم الشارع بثبوتها يتنافى وكونها مبغوضة عنده ، وعدم حكمه معناه بطلان المعاملة (2).

وفيه : ان حصول الملكية بالبيع مثلا يتوقف على توفر امرين :

أ - صدور الايجاب والقبول (3) اذ بدون ذلك لا يمكن حصول الملكية.

ب - حكم الشارع بالملكية بعد صدور الايجاب والقبول فانه من دون حكمه بها بعد صدورهما لا يمكن تحققها. اذن حصول الملكية - التي هي المسبب - يتوقف على صدور الايجاب والقبول وعلى حكم الشارع.

وباتضاح هذا نقول : ان الشارع اذا نهى عن الملكية فنهيه هذا وان دل على

ص: 489


1- ويصطلح على الفعل بالمباشرة - كالايجاب والقبول - بالفعل المباشري وعلى المقدور بواسطة السبب بالفعل التسبيبي او التوليدي.
2- نسب في تهذيب الاصول ج 1 ص 332 هذا الوجه الى الشيخ الأعظم في تقريراته.
3- المقصود من الايجاب والقبول ليس خصوص اللفظيين بل ما يعم الفعليين الحاصلين.

مبغوضيتها له ولكن لعلها مبغوضة له من ناحية الامر الاول دون الامر الثاني ، اي لعلها مبغوضة له من ناحية الايجاب والقبول فقط فهو يبغض الملكية بمعنى بغضه ايجادها بالايجاب والقبول من دون بغضه لها بعد تحقق الايجاب والقبول. ويمكن استيضاح ذلك بمثال القتل فانه - القتل - يتوقف على امرين : امرار السكين على رقبة المقتول وكونها قابلة للقتل وليست كالخشبة ، والمولى اذا نهى عن القتل دل ذلك على مبغوضيته القتل ولكن اقصى ما يدل النهي عليه هو مبغوضية القتل من ناحية امرار السكين فهو يكره امرار السكين ولا يلزم ان يكون مبغضا لكون السكين ذات قابلية للقتل بل ذلك لعله محبوب له.

2 - ما ذكره الميرزا قدّس سره من ان النهي عن تمليك المصحف للكافر مثلا يدل على ان المسلم لا سلطنة له على تمليك المصحف للكافر فهو مسلوب السلطنة من هذه الناحية ومحجور عليه وحاله اشبه بالطفل ، فكما انه لا سلطنة له على التصرف في امواله كذلك البالغ في المثال المذكور ، ومع الحجر وسلب السلطنة يقع البيع باطلا لان شرط صحته وجود السلطنة.

وفيه : ما المقصود من كون النهي يدل على الحجر وسلب السلطنة؟ فهل المقصود الحجر التكليفي بمعنى ان بيع المصحف محرم على المسلم ويعاقب عليه او المقصود هو الحجر الوضعي بمعنى انه لا يتحقق الانتقال منه ويكون بيعه باطلا؟ فان كان المقصود هو الاول فهو مسلم ولكن ذلك لا يستلزم فساد المعاملة وعدم تحقق الانتقال ، وان كان المقصود هو الثاني فذاك اول الكلام فنحن لا نسلم ان النهي عن بيع المصحف يدل على الحجر بهذا المعنى.

وبهذا اتضح كما ان النهي عن السبب لا يقتضي الفساد كذلك النهي عن المسبب لا يقتضيه ، بل يمكن ان نقول اكثر من هذا انه ليس فقط لا يقتضي الفساد

ص: 490

بل يقتضي الصحة وتحقق المسبب (1) باعتبار ان الشارع لا ينهى عن شيء الا اذا كان ذلك الشيء مقدورا للمكلف ، فهو حينما ينهى عن تمليك المصحف للكافر لا بدّ وان يكون حصول التمليك امرا مقدورا للمسلم والا فلا معنى للنهي عنه ، ومن الواضح ان التمليك لا يكون مقدورا الا اذا كانت المعاملة صحيحة اذ لو كانت باطلة لزم عدم امكان تحقق الملكية وعدم كونها مقدورة.

قوله ص 419 س 9 ودليلا : عطف تفسير على قوله « خطابا ». اي ان النهي عن الصلاة حالة وجود النجاسة في المسجد يدل على ان الخطاب بالوجوب لا يشمل متعلق الحرمة اي لا يشمل الصلاة حالة وجود النجاسة في المسجد.

قوله ص 420 س 11 يمكنه التقرب : كان من المناسب ان يضاف الى ذلك قوله وتعم الحرمة الغيرية كما اشرنا لذلك سابقا.

قوله ص 420 س 12 وبفرض تنجز الحرمة : اي فرض العلم بالحرمة ، فان فرض العلم بالحرمة هو فرض تنجز الحرمة.

قوله ص 421 س 3 المفرد : الصواب : الفرد.

قوله ص 421 س 6 لبغض العبادات : الصواب : لبعض العبادات. ثم ان هذا البعض هو مثل الصلاة فان الزيادة والتكرار فيها قد يكون مضرا ، وهذا بخلاف مثل الحج ، فان تكرار صلاة الطواف فيه او الهدي ليس مبطلا.

قوله ص 421 س 10 فلأن عبادية : كان من المناسب ان يقال : فلأنه بعد صحة الشرط وعدم فساده يكون المشروط تاما ثم بعد ذلك يبين هذا المطلب بلسان ان قلت قلت.

ص: 491


1- نسب القول باقتضاء النهي عن المعاملة للصحة الى ابي حنيفة واختاره الآخوند وجماعة ممن تأخر عنه.

قوله ص 422 س 2 والعقد : عطف تفسير على « الانشاء ».

قوله ص 422 س 5 باعتباره فعلا : هذا اشارة الى الاشكال والجواب الذي اشرنا له سابقا.

قوله ص 422 س 14 للمضمون : وهو الملكية مثلا.

قوله ص 423 س 14 كما اشرنا اليه في حلقة سابقة : ص 294.

ص: 492

الملازمة بين حكم العقل والشرع

اشارة

ص: 493

ص: 494

الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع :

اشارة

قوله ص 424 س 1 ينقسم الحكم العقلي الى قسمين ... الخ :

هذا المبحث هو آخر قضية عقلية تبحث في هذا الكتاب ، فانه تقدم سابقا ان الدليل على الحكم الشرعي تارة يكون شرعيا واخرى عقليا. والمراد من الدليل العقلي هو كل قضية يحكم بها العقل كحكمه بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته وحكمه بالملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضده و ... وكان بداية البحث عن هذه القضايا ص 298 واولها هي قضية استحالة التكليف بغير المقدور وخاتمتها هي هذه القضية اي قضية الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.

وبالرغم من تكرر سماع وقراءة القضية المذكورة في ثنايا كلمات الاصوليين الا انهم لم يفردوا لها بحثا مستقلا ، ولئن تحدثوا عنها قليلا فذلك ضمن ابحاث اخرى (1) وبحثها في هذا الكتاب تحت عنوان مستقل يسترعي انتباه القارىء يعد من احدى حسناته.

ص: 495


1- فقد ذكرها الميرزا في مبحث التجري عند البحث عن ان قبح الفعل المتجرى به هل يستلزم حرمته شرعا فراجع اجود التقريرات ج 2 ص 36 وفوائد الاصول ج 3 ص 60 ومصباح الاصول ج 2 ص 26.
منهجة البحث :

ويمكن منهجة مطالب هذا البحث ضمن النقاط التالية :

1 - قام الاعلام بتقسيم الحكم العقلي الى قسمين فتارة :

أ - يتعلق الحكم العقلي بامر واقعي ثابت في عالم الواقع ولا ارتباط له بحيثية العمل كحكم العقل باستحالة اجتماع النقيضين او استحالة الدور والتسلسل او امكان اجتماع المتخالفين ، فان استحالة اجتماع النقيضين امر ثابت في عالم الواقع ولا ارتباط له بحيثية العمل ، والعقل بحكمه هذا يريد الكشف عن حقيقة ثابتة في الواقع لا ارتباط لها بحيثية العمل. ويسمى مثل هذا الحكم بالحكم العقلي النظري. وسبب التسمية واضح حيث ان متعلق الحكم ليس امرا عمليا بل امرا واقعيا نظريا.

واخرى يتعلق بامر عملي ويسمى بالحكم العقلي العملي كحكم العقل بان الصدق ينبغي فعله والكذب لا ينبغي فعله (1) ، ان هذا الحكم يرتبط بحيثية العمل كما هو واضح ومن هنا يسمى بالحكم العقلي العملي.

2 - وقع الكلام بين الاعلام في ان صفة الحسن والقبح - المعبر عنهما بجملة ينبغي فعله او لا ينبغي - هل هي من الامور الواقعية الثابتة في عالم الواقع او من الاحكام العقلائية؟ ان هذا بحث يأتي بشكل واضح ص 426 من الحلقة ، وهنا وقع التلميح له في عبارة الكتاب. ولتوضيحه نقول : هناك رأي يقول ان الحسن والقبح هما من الاحكام العقلائية بمعنى ان اللّه سبحانه بعد ان خلق العقلاء واتفقوا على ان الصدق ينبغي فعله ثبتت بعد ذلك صفة الحسن للصدق وعندما اتفقوا على

ص: 496


1- يمكن ابدال جملة ينبغي فعله بكلمة حسن كما ويمكن ابدال جملة لا ينبغي فعله بكلمة قبيح ، اذن قولنا ينبغي فعله - حسن ، وقولنا لا ينبغي فعله = قبيح.

ان الكذب لا ينبغي فعله ثبتت بعد ذلك صفة القبح له ، فصفة الحسن والقبح لا وجود لها في عالم الواقع قبل خلق العقلاء بل ينسب الى ابن سينا انه كان يقول ان حسن العقل وقبح الظلم حكمان من العقلاء يتولدان نتيجة آداب وعادات اجتماعية معينة بحيث لو فرض ان الانسان خلق وحيدا ولم يعش تلك العادات والآداب لما ادرك بعقله حسن العدل وقبح الظلم.

وهناك رأي ثان يقول : ان صفة الحسن والقبح من الصفات الواقعية الثابتة في الواقع بقطع النظر عن العقلاء ، فكما ان استحالة اجتماع النقيضين هي من القضايا الواقعية الثابتة في الواقع حتى قبل وجود العقلاء كذلك حسن الصدق وقبح الكذب مثلا (1).

والصحيح هو الرأي الثاني كما تأتي البرهنة عليه. وبناء عليه قد يقال : ما هو الفرق اذن بين الحكم النظري والحكم العملي بعد عدّ صفة الحسن والقبح من الصفات الثابتة في عالم الواقع كصفة استحالة اجتماع النقيضين.

والجواب : ان صفة الحسن والقبح وان كانت صفة واقعية الا انها ترتبط بجنبة العمل ، بل ان جنبة العمل مستبطنة فيها ، فحينما يقال هذا حسن يعني فعله وحينما يقال هذا قبيح يعني فعله ، وهذا بخلاف صفة استحالة اجتماع النقيضين فانها لا تستبطن ذلك ، وبناء على هذا فالفارق بين الحكم العملي والحكم النظري هو ان الحكم العملي حكم متعلق بصفة واقعية يستبطن مفهومها جنبة العمل بينما الحكم النظري حكم متعلق بصفة واقعية لا يستبطن مفهومها ذلك.

3 - قلنا ان الحكم النظري هو الحكم المتعلق بصفة واقعية لا يستبطن

ص: 497


1- وهذا البحث بحث مستقل يغاير البحث عن ان مثل عنوان الصدق والايثار وغيرهما هل هو علة للحسن او مقتض لذلك او ليس بعلة ولا مقتض.

مفهومها جنبة العمل. وللحكم المذكور امثلة كثيرة كحكم العقل باستحالة اجتماع النقيضين او الدور او امكان اجتماع المتخالفين او ... ومن امثلته ايضا حكمه بوجود المصلحة في هذا الفعل ووجود المفسدة في ذاك ، حيث ان المصلحة والمفسدة صفتان واقعيتان لا ارتباط لهما بجنبة العمل ارتباطا مباشريا ، ونحن في بحثنا هذا - الذي هو بحث حول الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع - يهمنا هذا الفرد من الحكم النظري فانه الحكم الذي يتناسب التحدث عنه والبحث عن وجود ملازمة بينه وبين حكم الشرع ، فاذا حكم العقل بوجود مصلحة في شيء معين فيبحث هل يلزم حكم الشارع بوجوبه او لا. واما الاحكام النظرية الاخرى كحكم العقل باستحالة الدور مثلا فلا معنى للبحث عنها بعد عدم المعنى لملازمتها لحكم الشارع. هذا كله في الحكم النظري.

واما الحكم العملي فليس له مصاديق متعددة بل له مصداق واحد فقط وهو صفة الحسن والقبح ، اذ الصفة التي تستبطن بذاتها جنبة العمل ليست هي الا صفة الحسن والقبح.

4 - بعد ان عرفنا ان المصداق الذي يهمنا من الحكم النظري هو الحكم بوجود المصلحة او المفسدة نطرح السؤال التالي : هل توجد ملازمة بين الحكم النظري - اي الحكم بوجود المصلحة والمفسدة في شيء معين - وبين حكم الشرع او لا؟ وبعد ان عرفنا ان الحكم العملي له مصداق واحد وهو الحسن والقبح نسأل : هل توجد ملازمة بين الحكم العملي - اي حكم العقل بالحسن والقبح - وبين حكم الشرع او لا؟ اذن لنا على هذا الاساس بحثان :

1 - هل توجد ملازمة بين ادراك العقل لوجود المصلحة او المفسدة - اي الحكم النظري - وبين حكم الشرع بالوجوب او الحرمة؟

ص: 498

2 - هل توجد ملازمة بين ادراك العقل للحسن والقبح - اي الحكم العلمي - وبين حكم الشرع بالوجوب او الحرمة؟

الملازمة بين الحكم النظري وحكم الشرع :

قوله ص 425 س 7 لا شك في ان الاحكام ... الخ : اما بالنسبة الى تحقيق البحث الاول فنقول : نحن نسلم بتبعية الاحكام الشرعية للمصالح والمفاسد ، فالشيء اذا كانت فيه مصلحة عالية والشرائط المساعدة متوفرة والموانع مفقودة يلزم جعل الوجوب له لتوفر علته التامة بيد ان القطع بتحقق مجموع هذه الافتراضات امر بعيد فان عقل الانسان محدود وهو يعلم بانه قد تخفى عليه اشياء كثيرة ، فلرب مانع موجود وهو لا يعلم به او شرط مفقود وهو يجهله ، اجل لو حصل القطع بتحقق العلة التامة لزم حصول القطع بالحكم الشرعي ولكن حصول القطع الاول بعيد جدا (1).

الملازمة بين الحكم العملي وحكم الشرع :

قوله ص 426 س 7 عرفنا ان مرجع الحكم العملي ... الخ : واما بالنسبة الى البحث الثاني - هل توجد ملازمة بين حكم العقل بالحسن والقبح وبين حكم الشارع - فنتعرض قبل تحقيقه الى مقدمة صغيرة مرّ مضمونها سابقا ، وحاصلها : ان صفة الحسن والقبح هل هي من الصفات الثابتة في عالم الواقع بقطع النظر عن

ص: 499


1- ومن الغريب ما ذهب اليه الميرزا من تسليم الملازمة بدعوى « انه لا شبهة في استقلال بقبح الكذب الضار الموجب لهلاك النبي مع عدم رجوع نفع الى الكاذب ومع استقلال العقل بذلك يحكم حكما قطعيا بحرمته شرعا » فوائد الاصول ج 3 ص 61 ، اذ فيه ان من المحتمل وجود مانع من جعل الحكم لم يصل له عقلنا.

العقلاء كصفة استحالة الدور مثلا بحيث ان العقلاء بحكمهم بالحسن والقبح يكشفون عما هو ثابت في عالم الواقع دون ان يثبتوا شيئا لم يكن فيه او انها صفة تثبت بحكم العقلاء ، فحينما يحكم العقلاء بان الشيء ينبغي فعله يثبت الحسن وحينما يحكمون بانه ينبغي تركه يثبت القبح. وطبيعي حكمهم بالحسن والقبح ليس عبثا وبلا نكتة بل ناشىء من ادراكهم للمصلحة والمفسدة ، فلأجل ادراكهم وجود المصلحة في الصدق يحكمون بحسنه ولادراكهم وجود المفسدة في الكذب يحكمون بقبحه.

وباختصار : الحسن والقبح على هذا الاتجاه حكمان مجعولان من قبل العقلاء كسائر الاحكام المجعولة من قبلهم مثل حكمهم بوجوب اقامة العزاء على الميت غاية الامر حكمهم بحسن الصدق وقبح الكذب مثلا حكم متفق عليه بينهم ولم يخالف فيه احد ، وما ذاك الا لوضوح ثبوت المصلحة في الصدق والمفسدة في الكذب بخلاف مثل اقامة العزاء على الميت فانه قد لا يكونون متفقين عليه بسبب عدم وضوح المصلحة فيه (1).

والصحيح هو الاتجاه الاول لناحيتين :

أ - ان الاتجاه الثاني مخالف للوجدان فانه قاض بان الظلم قبيح والعدل حسن حتى قبل ان يخلق اللّه سبحانه العقلاء ، فكما ان استحالة الدور امر ثابت في الواقع حتى قبل وجود العقلاء كذلك حسن العدل وقبح الظلم.

ب - ذكر الاتجاه الثاني ان الحسن والقبح حكمان مجعولان من قبل العقلاء

ص: 500


1- من الجدير ان نشير الى ان اصحاب الاتجاه الثاني - القائل بان الحسن والقبح حكمان عقلائيان لا واقعيان - اختلفوا فيما بينهم فقال بعض كالسيد الخوئى ان حكم العقلاء بحسن الشيء او قبحه وليد ادراك المصلحة والمفسدة ، وقال آخر - كما هو المنقول عن ابن سينا - ان حكمهم بذلك ليس وليد ادراك المصلحة والمفسدة بل قد يكون وليد آداب ورسوم اجتماعية عاشها العقلاء.

وانهم يجعلون الحسن والقبح لاجل وجود المصلحة والمفسدة في الشيء ، فالشيء لاجل مصلحته يحكمون بحسنه ولاجل مفسدته يحكمون بقبحه ، هكذا ذكروا ولكنه غير مسلم دائما اذ احيانا يحكم العقلاء بقبح الشيء وليس فيه مفسدة او يحكمون بحسن الشيء وليس فيه مصلحة. ومثال ذلك ما لو فرض وجود انسان مريض يتمنى الموت لحظة بعد اخرى وليس لوجوده اي نفع فاذا قتل واستخرج من قلبه دواء خاص امكن ان يستفيد منه شخصان عالمان تحفظ به حياتهما ، في مثل هذه الفرضية يكون قتل ذلك الشخص غير مشتمل على المفسدة اذ اي مفسدة في قتل مثل الشخص المذكور ولكن مع ذلك هو قبيح. اذن صفة الحسن والقبح لا تنشأ دائما من المفسدة والمصلحة بل قد تنشأ من غيرهما وان كانت في الغالب تنشأ منهما.

ان قلت : ان القتل في المثال المذكور اذا لم يكن مشتملا على المفسدة فكيف حكم العقلاء بالقبح ، ان حكمهم المذكور يكون بلا مبرر.

قلت : ان هذا نفسه دليل على حقانية الاتجاه الاول وان الحسن والقبح صفتان ثابتتان في الواقع ولا ربط لهما بالمصلحة والمفسدة - خلافا لما يدعيه اصحاب الاتجاه الثاني - وان كانتا في الغالب تلتقيان مع المصلحة والمفسدة وتكونان هما المنشأ لحكم العقل بالحسن والقبح.

عودة لصلب الموضوع

طرحنا فيما سبق تساؤلا وهو أنه اذا حكم العقل بحسن شيء او قبحه فهل يلزم حكم الشارع بالوجوب او الحرمة ، واستعرضنا قبل الاجابة عنه مقدمة ، وبعد الفراغ منها نعود الى تساؤلنا السابق. وقد طرحت له اجابتان :

ص: 501

1 - ان الملازمة ثابتة ، فاذا حكم العقل بحسن شيء او قبحه لزم حكم الشارع ايضا. وعلى هذا بنى الميرزا والشيخ الاصفهاني.

2 - ان الملازمة غير ثابتة. وعلى هذا بنى صاحب الفصول وجماعة من المتأخرين كالشيخ العراقي والسيد الخوئي والسيد الشهيد.

واستدل اصحاب الاجابة الاولى (1) بان العقل اذا حكم بحسن شيء فبما ان الشارع عاقل ايضا بل سيد العقلاء ورئيسهم فيلزم ان يحكم هو ايضا.

وفيه : انه تارة نبني على ان صفة الحسن والقبح من الصفات الواقعية الثابتة قبل خلق العقلاء واخرى نبني على كونها صفة مجعولة من قبل العقلاء.

فان بني على الاول فالملازمة المدعاة بين حكم العقل وحكم الشارع لا وجه لها فان العقل حينما يحكم بان الصدق مثلا حسن فالمقصود كشف العقل عن ثبوت حسن الصدق واقعا لا انه هو الذي يحكم ويثبت الحسن - اذ المفروض ان الحسن ثابت واقعا بقطع النظر عن حكم العقل والعقلاء - ومعه فموافقة الشارع للعقلاء لا معنى لها سوى ان الشارع يدرك ثبوت صفة الحسن للصدق واقعا كما ادرك العقلاء ذلك ، وواضح ان هذا اجنبي عن مسألة الملازمة ، فان المقصود من الملازمة هو اثبات حكم شرعي بالوجوب او الحرمة لا مجرد ادراك الشارع ثبوت صفة الحسن والقبح واقعا.

وان بني على الثاني وان صفة الحسن والقبح تثبت بحكم العقلاء فنسأل لماذا يلزم - عند حكم العقلاء بحسن شيء - حكم الشارع؟ ان ذلك يحتاج الى نكتة ، وقد يقال تلك النكتة هي ان العقلاء حينما يحكمون بحسن الصدق مثلا فلا بدّ من وجود مصلحة في الصدق هي التي دعتهم للحكم على طبقها بالوجوب ، ولكن

ص: 502


1- المستدل هو الشيخ الاصفهاني.

يردها ان احكام الشارع وان كانت تابعة للمصالح بيد ان استكشاف الوجوب من المصلحة هو عبارة اخرى عن استكشاف الحكم الشرعي من الحكم العقلي النظري وليس استكشافا له من الحكم العقلي العملي - والمفروض ان كلامنا الآن في استكشاف الحكم الشرعي من الحكم العقلي العملي دون النظري - ومرّ بنا سابقا ان استكشاف الحكم الشرعي من الحكم النظري صعب جدا اذ من البعيد قطع العقل بتحقق المصلحة والشرط وفقدان المانع فان العقل يدرك محدوديته وضعفه.

هذا كله لو فرض ان نكتة تحتم حكم الشارع عند حكم العقلاء هي ان حكم العقل بالحسن ناشىء من المصلحة وعند وجود المصلحة يلزم حكم الشارع بالوجوب ، اما اذا فرض ان نكتة تحتم حكم الشارع ليست هي المصلحة بل ان العقلاء اذا حكموا بحسن الصدق مثلا فحيث انهم لا يحكّمون اهواءهم بل عقلهم فقط فيلزم ان يحكم الشارع كما حكموا لانه عاقل مثلهم بل رئيسهم ، ان النكتة اذا كانت هذه فيردها عدم الدليل على الملازمة فان مجرد كون الشارع احد العقلاء بل رئيسهم لا يصلح نكتة على حتمية حكم الشارع بل قد يقتضي العكس ، اذ مقتضى كون الشارع رئيس العقلاء كون عقله اكبر فقد يطلع على ما خفي على غيره.

الاجابة الثانية :

ذكرنا فيما سبق ان في مسألة الملازمة اجابتين ، وكنا لحد الآن نتحدث عن الاجابة الاولى ، والاجابة الثانية تقول : ان العقلاء اذا حكموا بحسن الصدق مثلا فلا يمكن ان يحكم الشارع بوجوبه لان الغرض من حكم الشارع بالوجوب ليس

ص: 503

الا تحريك المكلف نحو الصدق ونحن ما دمنا قد فرضنا حكم العقل بحسن الصدق فيكفي ذلك لتحريك المكلف نحو فعل الصدق بلا حاجة الى حكم الشارع بوجوبه بل لا يمكن ذلك لانه اشبه بتحصيل الحاصل ، اذ ما دام المكلف متحركا نحو الصدق فحكم الشارع بوجوبه يكون من قبيل تحريك المتحرك (1).

وفيه : ان محذور اللغوية وتحصيل الحاصل غير لازم لان حكم العقل بالحسن وان كان قد يحرك المكلف نحو فعل الصدق ولكن محركية هذا الحسن العقلي لربما تكون بدرجة ضعيفة لا يهتم المكلف معها بالصدق بينما لو حكم الشارع بالوجوب قويت تلك المحركية وصارت سببا لاقدام المكلف على الصدق ، والشارع المقدس اذا كان مهتما بالصدق ويريد التحرك نحوه فمن اللازم ان يحكم بوجوبه.

تلخيص ما تقدم :

والخلاصة من كل هذا هي :

1 - اذا حكم العقل بتحقق المصلحة في شيء فيلزم حكم الشارع بالوجوب مع القطع بتحقق الشرائط وفقدان الموانع الا ان تحقق مثل هذا القطع بعيد جدا.

2 - اذا حكم العقل بحسن الصدق مثلا فلا يلزم حكم الشارع بالوجوب لان حكم العقل بالحسن ان كان بمعنى ادراكه لذلك واقعا فاقصى ما يلزم ادراك الشارع للحسن ايضا ولا يلزم حكمه بالوجوب ، وان كان بمعنى اثبات الحسن فنكتة الملازمة ان كانت هي ان حكم العقل بالحسن ينشأ من المصلحة فذاك

ص: 504


1- هكذا ذكر الشيخ العراقي في نهاية الافكار ج 3 ص 37 والسيد الخوئي في مصباح الاصول ج 2 ص 26.

اثبات للحكم الشرعي عن طريق الحكم النظري دون العملي وقد تقدم ما فيه ، وان كانت هي ان الشارع سيد العقلاء فيردها ان مقتضاها المخالفة احيانا دون الموافقة.

كما ان من يرى استحالة حكم الشارع عند حكم العقل لمحذور اللغوية يمكن رده بعدم لزوم ذلك.

وبذلك كله يتضح ان كلا من ثبوت الملازمة وعدمها ليس ضروريا.

قوله ص 424 س 2 ما يكون واقعا : اي ما يكون ثابتا في عالم الواقع كاستحالة اجتماع النقيضين او امكان اجتماع المتخالفين ونحو ذلك.

قوله ص 424 س 4 ان يقع : اي ان يفعل.

قوله ص 424 س 4 وبالتحليل : هذا اشارة الى ان صفة الانبغاء وعدم الانبغاء - اي صفة الحسن والقبح - هي من الصفات الواقعية كاستحالة اجتماع النقيضين. وهذا المطلب سيأتي مفصلا ص 426 من الحلقة وتقدم في الحلقة الثانية ص 302. والمراد من الثاني الحكم العملي ومن الاول الحكم النظري.

قوله ص 424 س 8 والامور الواقعية : عطف تفسير على « الصفات ». ومثال ذلك ادراك العقل لاستحالة اجتماع النقيضين.

قوله ص 424 س 13 ويدخل ادراك : هذا اشارة الى النقطة الثالثة التي ذكرناها سابقا.

قوله ص 425 س 3 وسنتكلم : هذا اشارة الى النقطة الرابعة التي ذكرناها سابقا.

قوله ص 425 س 12 العقل النظري : لا ينبغي ان يتوهم وجود عقلين للانسان احدهما نظري والآخر عملي بل العقل واحد غير انه اذا تعلق بامر واقعي

ص: 505

سمي بالعقل النظري واذا تعلق بحكم عملي سمي بالعقل العملي.

قوله ص 425 س 14 بالانتقال من العلة : وهي الملاك بكل خصوصياته. والمعلول هو الحكم الشرعي.

قوله ص 426 س 3 وبمدى اهميتها : عطف تفسير على قوله « بدرجتها ».

قوله ص 426 س 13 كذلك : اي للنوع البشري.

قوله ص 426 س 14 وتميزهما : الواو استينافية. وكلمة « تميز » مصدر.

قوله ص 427 س 2 خارجيا : لعل المناسب : خارجا.

قوله ص 427 س 9 بصورة بحتة : اي فقط.

قوله ص 427 س 12 والمشهور بين ... الخ : هذا شروع في تحقيق الملازمة بين حكم العقل العملي وحكم الشارع.

قوله ص 428 س 12 لان مناطه : اي لان مناط الاستكشاف المذكور وهو استكشاف الحكم الشرعي من الحكم العقلي النظري.

قوله ص 428 س 13 فيه : اي في الاستكشاف المذكور.

قوله ص 429 س 8 واجبات العقل العملي : وهو فعل الامانة وترك الخيانة مثلا فانهما واجبان.

حجية الدليل العقلي :

قوله ص 430 س 1 الدليل العقلي ... الخ : تقدم ص 302 من الحلقة ان الكلام في الدليل العقلي يقع في مرحلتين ففي الاولى يبحث عن مصاديق الدليل العقلي - اي عن القضايا التي يحكم بها العقل كحكمه باشتراط القدرة في التكليف او الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته و ... - وقد تم الحديث عنها ، وفي

ص: 506

الثانية يبحث عن حجية الدليل العقلي بمعنى ان العقل بعد ان حكم بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته مثلا فهل حكمه هذا حجة او لا؟ نسب الى الاخبارين عدم حجيته فمن قطع بوجوب السفر شرعا الى الحج عن طريق الملازمة العقلية بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته فقطعه هذا ليس حجة لان دين اللّه لا يصاب بالعقول وانما الحجة خصوص القطع بالحكم الشرعي المتولد من الكتاب والسنة.

ولتحقيق الحال نقول : ان الحكم العقلي ان كان ظنيا ولم يبلغ مستوى القطع - كما لو حصل الظن بالملازمة دون القطع - فليس حجة لان الظن لا يغني من الحق شيئا الا اذا فرض دلالة الدليل القطعي على حجيته - كما في خبر الثقة فانه يفيد الظن وقد دلت الادلة القطعية على حجيته - وحيث ان الحكم العقلي الظني لم يدل دليل قطعي على حجيته فلا يكون حجة.

واما اذا كان قطعيا - بان فرض ان العقل قطع بالملازمة - فهو حجة لانه تقدم في اوائل الحلقة ان القطع حجة وحجيته ذاتية لا تقبل الجعل.

ثم انه نسب الى البعض - وهم الاخباريون - عدم حجية القطع بالحكم الشرعي اذا كان حاصلا من العقل. واشكل على هذا بان القطع حجة من اي سبب حصل ولا يمكن النهي عنه للزوم التناقض في نظر القاطع فلو قطع المكلف بالوجوب الشرعي للسفر بسبب الملازمة العقلية بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته فهو سوف يرى بسبب قطعه ان الوجوب متحقق واقعا فاذا نهى الشارع عن القطع المذكور وحكم بعدم الوجوب لزم اجتماع الوجوب وعدمه في نظر القاطع.

ولاجل لزوم محذور التناقض من مقالة الاخباريين هذه حاول البعض

ص: 507

توجيهها - وقد تقدمت الاشارة الى هذا التوجيه مع مناقشته عند شرح ص 84 من الحلقة - بان الشارع يمكنه النهي عن القطع الحاصل من العقل بعد تحويل القطع من طريقي الى موضوعي (1) بان يفرض ان الشارع يقول هكذا : ان الوجوب الشرعي ثابت للسفر فيما لو قطعت بتشريع الوجوب من الشرع لا من العقل فيؤخذ عدم حصول القطع العقلي في موضوع وجوب السفر فاذا حصل القطع من العقل فلا يكون الوجوب ثابتا. وهذه الطريقة معقولة اذ في القطع الموضوعي لا يكون الوجوب منصبا على ذات الشيء بل على الشيء المقيد بكونه مقطوعا ، ومن الواضح كما يمكن للشارع صب حكمه لا على ذات الشيء بل على الشيء المقطوع كذلك يمكنه صبه على الشيء المقطوع قطعا حاصلا من الشرع فان احكام الشارع واقعة تحت اختياره ويمكنه صبها على اي موضوع اختاره ، وهذا بخلافه في القطع الطريقي فان الحكم فيه يكون منصبا على ذات الشيء لا على الشيء المقطوع فحرمة الخمر مثلا منصبة على ذات الخمر لا على الخمر المقطوع ، وما دامت منصبة على ذات الخمر فالمكلف اذا قطع بالخمرية من اي سبب كان فسوف يرى الحرمة ثابتة ، فاذا نهى الشارع عن هذا القطع لزم عدم ثبوت الحرمة في نظر القاطع وبالتالي لزم اجتماع الحرمة وعدمها في نظره.

مناقشة الاخباريين :

هذا ويمكن مناقشة مقالة الاخباريين - القائلة بعدم حجية القطع العقلي -

ص: 508


1- الفرق بين القطع الموضوعي والطريقي هو ان الحكم اذا كان منصبا على ذات الشيء فالقطع طريقي واذا كان منصبا على الشيء المقيد بكونه مقطوعا فهو موضوعي ، فحرمة الخمر مثلا ان كانت منصبة على الخمر المقطوع فالقطع موضوعي وان كان منصبة على ذات الخمر فالقطع طريقي.

حتى بعد تحويل القطع من طريقي الى موضوعي بالوجهين التاليين :

1 - ما المراد من اخذ عدم القطع العقلي بالوجوب في الموضوع؟ فهل المراد اخذ عدم القطع بالوجوب الفعلي (1) او اخذ عدم القطع بالوجوب الانشائي؟ فان كان المراد اخذ عدم القطع بالوجوب الفعلي فالمعنى يصير هكذا : السفر للحج يجب بالوجوب الفعلي ان لم يقطع بالوجوب الفعلي من العقل ، ومفهوم ذلك يصير هكذا : وان قطعت بالوجوب الفعلي من العقل فالوجوب الفعلي لا يكون ثابتا ، ومن الواضح ان مثل هذه الحكم غير معقول للزوم التناقض في نظر القاطع اذ بعد ثبوت الوجوب الفعلي بنظره كيف يقول له الشارع ان الوجوب الفعلي غير ثابت.

وان كان المأخوذ في الموضوع عدم القطع بالوجوب الانشائي فالمعنى يصير هكذا : يجب السفر بالوجوب الفعلي ان لم يقطع بالوجوب الانشائي من العقل ، ومفهوم ذلك يصير هكذا : وان قطع بالوجوب الانشائي من العقل فالوجوب الفعلي غير ثابت ، وجعل الحكم بهذا الشكل امر معقول ولا يلزم منه التناقض في نظر القاطع اذ لم يقل الشارع : وان قطعت بالوجوب الانشائي من العقل فالوجوب الانشائي غير ثابت بل قال فالوجوب الفعلي غير ثابت ، وذلك معقول ، فان غير المعقول هو نفي الشيء الذي حصل القطع به واما نفي شيء آخر غير ما تعلق به القطع فلا محذور فيه ، ولكن مع كل ذلك لا يمكن قبول الاحتمال المذكور لكونه خلف المفروض ، اذ المفروض ان المكلف حينما قطع حصل له القطع بوجود الملاك بتمام خصوصياته وشؤونه بحيث لا يحتمل وجود شرط آخر - والشرط الآخر في مقامنا عبارة عن عدم حصول القطع من العقل - لم يلتفت له والا لم يكن قاطعا بتحقق الملاك بتمام خصوصياته حتى يكون قطعه معتبرا.

ص: 509


1- يعبر عن الحكم الفعلي بالمجعول وعن الانشائي بالجعل.

وان شئت قلت : ان المكلف حينما يقطع بتحقق الملاك فاما ان يكون قاطعا بتحقق الملاك بتمام خصوصياته او يكون قاطعا بتحققه في الجملة بحيث يحتمل وجود شرط لم يحرز تحققه ، فعلى الاول لا يكون المكلف محتملا لوجود شرط آخر - اي عدم حصول القطع من العقل - حتى يمكن ان يصدّق به فمثل هذا الشرط لا يمكن ان يصدّق به فيكون تشريعه لغوا. وعلى الثاني لا يكون القطع في نفسه حجة - لفرض احتمال وجود شرط لم يلتفت له - حتى يحتاج الى تحويله من الطريقية الى الموضوعية.

2 - ان فكرة تحويل القطع من طريقي الى موضوعي لو كانت نافعة فهي تنفع فيما لو كان القطع العقلي متعلقا بثبوت الحكم ولا تنفع في حالة تعلقه بنفي الحكم.

مثال القطع العقلي المتعلق بثبوت الحكم : ان قطعت من طريق العقل بوجوب السفر فالوجوب الفعلي غير ثابت ، ان القطع في هذا المثال تعلق بثبوت الوجوب للسفر ، وفي مثله قد تنجح فكرة تحويل القطع من الطريقية الى الموضوعية فعند حصول القطع بالوجوب من العقل فالشارع لا يحكم بالوجوب.

ومثال القطع العقلي المتعلق بنفي الحكم : ما لو قطع العقل باستحالة فكرة الامر الترتبي - بتقريب : ان الامر بالازالة اذا كان مطلقا وكان الامر بالصلاة مترتبا على عدم الاشتغال بالازالة فيلزم عند عدم الاشتغال بالازالة الامر بالضدين اي بالازالة والصلاة وهو مستحيل - كما ذهب الى ذلك الشيخ الاعظم والآخوند ، انه في مثل ذلك يكون المكلف قاطعا بعدم تحقق الامر بالصلاة حين وجود النجاسة في المسجد ، ومن الواضع ان المكلف اذا كان قاطعا بعدم تحقق الامر بالصلاة فكيف لا يكون قطعه هذا حجة ، ان لازم عدم حجيته امر الشارع

ص: 510

بالصلاة ، ومن البين ان المكلف اذا كان قاطعا بعدم امكان الامر بالصلاة فكيف يمكن ان يصدق بثبوته.

والخلاصة : ان فكرة التحويل لو تمت فهي تتم في حالة تعلق القطع العقلي بثبوت الحكم اذ فيها اذا لم يكن القطع حجة فلازمه نفي الشارع الحكم عن المكلف ، وامر نفي الحكم سهل ، وهذا بخلافه في حالة تعلق القطع بنفي الحكم فان لازم عدم حجيته اثبات الشارع الحكم على المكلف وهو متعذر لان القاطع بنفي الشيء لا يمكنه التصديق بثبوته.

اتضح مما سبق :

وبهذا اتضح ان مقالة الاخباريين باطلة سواء لم يحوّل القطع من طريقي الى موضوعي ام حوّل اذ لو لم يحول يلزم من عدم حجية القطع العقلي التناقض في نظر القاطع ، واذا حوّل يرد عليها الايرادان السابقان.

ادلة الاخباريين على عدم حجية القطع العقلي

استدل الاخباريون لعدم حجية القطع العقلي بمجموعة من الروايات نذكر على سبيل المثال دون الحصر ثلاثة مجاميع منها :

1 - ما دل على ان دين اللّه لا يصاب بالعقول (1).

2 - ما دل على ان شرط قبول الاعمال ولاية اهل البيت صلوات اللّه عليهم ، ففي الحديث عن الامام الباقر علیه السلام بني الاسلام على خمس : على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية (2).

ص: 511


1- الكافي ج 1 ص 57 ح 14.
2- الوسائل ج 1 باب 1 من ابواب مقدمة العبادات ح 10.

3 - ما ورد من ان السنة اذا قيست محق الدين ، ففي الحديث الذي ينقل قصة ابان بن تغلب مع الامام الصادق علیه السلام ورد ان ابان سأل الامام علیه السلام عن الدية الثابتة على الرجل فيما لو قطع اصبعا من اصابع المرأة فاجاب علیه السلام : تجب عشر من الابل ، ثم سأله عن قطع اصبعين فاجاب علیه السلام : تجب عشرون من الابل ، ثم سأله عن قطع ثلاث اصابع فاجاب علیه السلام : تجب ثلاثون ، ثم سأله عن قطع اربع فاجاب علیه السلام : تجب عشرون ، فاستغرب ابان من هذا الجواب الاخير ، اذ كيف يتساوى قطع الاصبعين مع قطع الاربع في وجوب عشرين من الابل ، ثم قال ابان للامام علیه السلام : ان هذا الحكم كنا قد سمعناه في العراق وكنا نقول ان الذي جاء به شيطان ، وفي رد ابان قال علیه السلام : مهلا يا ابان انك اخذتني بالقياس ، والسنة اذا قيست محق الدين (1).

مناقشة ادلة الاخباريين :

وهذه الروايات غير صالحة للاستدلال. اما المجموعة الاولى فباعتبار انها تنهى عن الحكم العقلي الظني الناشىء من مثل القياس الاستحسان واعمال الرأي وليست ناظرة الى الحكم العقلي القطعي ، - فان العامة كانوا يعتمدون على القياس والاستحسان في مقابل اهل البيت علیهم السلام فجاءت هذه المجموعة لترد عليهم وان دين اللّه لا يمكن الوصول اليه بالظنون الناشئة من القياس والاستحسان - وواضح ان محل كلامنا هو في الحكم العقلي القطعي دون الظني فان الحكم الظني لا اشكال في عدم حجيته.

ص: 512


1- الكافي ج 7 ص 299 ح 6.

واما المجموعة الثانية - وهي الاخبار الدالة على شرطية ولاية اهل البيت علیهم السلام في قبول الاعمال - فيردها انها اجنبية عن المقام بالكلية ، اذ هي لا تقول ان القطع الحاصل من العقل ليس حجة بل تقول ان العمل مهما كان راقيا وعاليا فما دام فاعله لا يوالي اهل البيت علیهم السلام فهو غير مقبول.

واما المجموعة الثالثة فيردها انها بصدد النهي عن ترك مراجعة رواياتهم علیهم السلام والاعتماد الكلي على القضايا العقلية باعتبار ان مراجعة رواياتهم قد تصير سببا لعدم حصول القطع من القضايا العقلية بصورة سريعة كما هو الحال في قصة ابان ، فانه لو كان قد راجع الروايات الدالة على ان المرأة تعاقل الرجل الى ثلث الدية فاذا بلغته رجعت الى النصف لما كان يقطع بكون المناسب ثبوت اربعين في قطع اربع اصابع (1).

ص: 513


1- جدير بهذه المناسبة الاشارة الى الاتجاهات المتعاكسة في تقييم العقل ، وهي : 1 - الاتجاه الذي يصعّد من قيمة العقل ويرتقي به الى القمة. وتجلت معالم هذا الاتجاه بوضوح اواسط القرن الثاني الهجري حينما ارتحل الرسول الاعظم صلى اللّه عليه وآله وهجرت وصاياه بالتمسك بالعترة الطاهرة عليهم السلام الى جانب القرآن الكريم. ان هجر تلك الوصايا وحصر مصادر التشريع بالقرآن الكريم وسنته صلى اللّه عليه وآله ادى بحسب النتيجة الى تضييق الينابيع المستقى منها الاحكام واضطرت الحاجة الى فتح المجال للعقل ليقف مصدرا ثالثا الى جانب المصدرين السابقين. وقد اطلق على هذه المدرسة اسم مدرسة الرأي والاجتهاد ، وكان ابو حنيفة من روادها الاوائل ، ويؤثر عنه انه كان يقول : « اني آخذ بكتاب اللّه اذا وجدته فما لم اجده اخذت بسنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فاذا لم اجد في كتاب اللّه ولا سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله اخذت بقول اصحابه من شئت وأدع من شئت ثم لا اخرج من قولهم الى غيرهم فاذا انتهى الامر الى ابراهيم والشعبي والحسن وابن سيرين فلي ان اجتهد كما اجتهدوا ». ولا نكون بعيدين عن الصواب اذا ما نسبنا الى هذه المدرسة اتهام الشريعة الاسلامية بالنقص وعدم الشمول لجميع شؤون الحياة وان اللّه لم يشرع الا احكاما معدودة وهي ما جاء بيانها في القرآن الكريم وسنة الرسول صلى اللّه عليه وآله وترك التشريع في سائر المجالات الاخرى الى اجتهاد الفقهاء واستحساناتهم. وقد جاءت احاديث اهل البيت عليهم السلام للرد على هذا الاتجاه نذكر منها حديث الجامعة الذي يقول « فيها كل حلال وحرام وكل شيء يحتاج اليه الناس حتى الارش في الخدش » [ الكافي ج 1 ص 239 ] 2 - وكرد فعل على الاتجاه السابق برز اتجاه جديد ينزل بالعقل الى الحضيض ولا يعير له اية اهمية ويقتصر في الاعتماد على ظواهر النصوص الشرعية فقط. ومن مصاديق هذا الاتجاه المذهب الظاهري الذي ولد على يد داود بن علي بن خلف الاصبهاني في اواسط القرن الثالث الهجري فكان يدعو الى العمل بظواهر النصوص الشرعية ويرفض الرجوع الى العقل. هذا على الصعيد الفقهي. واما على الصعيد العقائدي والكلامي فقد تمثل هذا الاتجاه في المذهب الاشعري الذي عطّل العقل بالمره وتطرّف الى حدّ اختار ان وجوب معرفة اللّه سبحانه ليس حكما عقليا بل هو حكم شرعي على حد وجوب الصوم والحج وغيره من الاحكام الشرعية ونسى ان ذلك يؤدي به الى الدور ، كيف لا ولازم ذلك توقف ثبوت الشارع والشريعة على نفس احكام الشارع والشريعة. وتجسد هذا الاتجاه في مجال ثالث وهو مجال علم الاخلاق حيث انكر الاشاعرة قدرة العقل على تمييز ما هو حسن عما هو قبيح فلو خلي العقل ونفسه لما امكنه الحكم بان العدل حسن والظلم قبيح بل يبقى منتظرا حكم الشارع فاذا ما حكم تابعه في حكمه. ولو قدّر ان الشارع حكم بقبح العدل تابعه العقل في ذلك وحكم بقبح العدل ايضا ، واذا ما حكم بحسن الظلم تابعه على ذلك ايضا وحكم بحسن الظلم. ونحن نحتمل - وان لم نملك دليلا على ذلك - تولد هذا الخط الفكري لاسباب وظروف سياسية معينة مهدت له السلطات الحاكمة آنذاك لتبرير افعالها وتعطيل العقل عن الحكم بقبح ما يصدر منها من انحراف وظلم. ولا نستغرب كما نستغرب من بعض اتباع مدرسة اهل البيت عليهم السلام حيث اختار هذا الاتجاه ببعض مراتبه وعطّل العقل بشكل واخر ، فمدرسة المحدثين وعلى راسها الميرزا محمد امين الاستربادي المتوفى سنة 1023 ه عطت العقل وجعلت المدار على النصوص الشرعية لا غير. وقد تطرفت هذه المدرسة حينما انكرت حجية ظواهر الكتاب الكريم وقالت ان الاخذ بها لا يجوز الا بعد ورود تفسير لها من قبل روايات اهل البيت عليهم السلام. وللامين الاستربادي كتاب الّفه في المدينة المنورة باسم « الفوائد المدنية » يقسّم فيه العلوم البشرية الى قسمين قسم يستمد فيه العلم قضاياه من الحس - كالرياضيات مثلا حيث تنتهي في نهاية الشوط الى الحس نظير ان 2+ 2 4 - وقسم لا يقوم على اساس الحس كعلوم ما وراء الطبيعة من قبيل حدوث العالم او بقاء النفس بعد البدن وامثال ذلك. ثم قال : والجدير بالاعتماد والثقة هو الاول دون الثاني. وبذلك ينتهي الاستربادي الى جعل الحس هو الاداة الوحيدة في مجال المعرفة البشرية الصحيحة. واتجاه الاستربادي هذا يشبه تماما الاتجاه الحسي في الفلسفة الاوربية على يدجون لوك ودافيد هيوم. ومن الطريف ما ينقل عن السيد البروجردي قدس سره من ان الاستربادي واصحابه استفادوا اتجاههم الحسي من الاتجاه الحسي الاوربي وتسرب اليهم منه في حين ان القضية يمكن ان تكون على العكس تماما فقد كانت وفاة الاستربادي قبل وفاة جون لوك بمائة سنة تقريبا. وعلى اي حال اخذ الاتجاه الاخباري بالتصرف في انكاره لقيمة العقل حينما يحكم بعض رواده - وهو السيد نعمة اللّه الجزائري حسب نقل صاحب الحدائق في درره النجفية - بالطعن في الادلة العقلية التي يستدل بها المؤمنون على اثبات وجود اللّه سبحانه وانه لا قيمة لها باعتبار استنادها الى العقل. وقد واجه اصحاب هذا الاتجاه مشكلة الاخبار الكثيرة والمختلفة التي فيها الغث والسمين والكاذب والصادق عند ما لم يسعهم قبول التقسيم الاصولي للاخبار الى الصحيح والضعيف وان الاول يؤخذ به والثاني يهجر فاضطروا الى قبول جميع الاخبار. ولكن كيف ذاك وكثير من الاخبار متناف ومتهافت. ان هذه الظاهرة حدت بالبعض الى دعوى وجود حاسة سادسة له يتمكن من خلالها على تشخيص الخبر الصادق من الكاذب والجمع بين الاخبار وتقديم معاني لها توصل لها ذهنه بسبب الرياضات النفسية والانكشافات الخاصة الحاصلة له دون غيره فيقدم معاني جديدة لاحاديث اهل البيت عليهم السلام لا يعرفها سواه. ويدعي البعض على لسانه او لسان تابعيه ان له اتصالا من قرب او بعد بالانوار الطاهرة عليهم السلام تطلعه بين حين وآخر وعن طريق النفث في روعه او بشكل اخر على المقصود من احاديثهم. ان هذه الدعوى وامثالها قد تنطلي على بعض العقول الضعيفة وتؤثر فيها اثرها ولكنها بعيدة عن الصواب ، كيف وهل يحتمل ان اهل البيت عليهم السلام حدثوا باحاديثهم ليفهمها نفر قليل لا يتجاوز عددهم اصابع اليد وعن طريق الرياضات والانكشافات. ان امثال هذه الدعاوى لا نراها من حيث النتيجة بعيدة عن الاتجاه الاول المحكم للعقل بتمام معنى الكلمة ، بل هي من حيث الخطورة لا تقل عنه 3 - والاتجاه الثالث ياخذ بالتوسط فلا هو يهمل العقل بشكل كامل ولا يأخذ به بشكل كامل بل بين هذا وذاك ، فحكم العقل اذا كان ظنيا ولم يكن قطعيا ليست له اية قيمة وتنحصر القيمة بحكم العقل القطعي الذي لا يشوبه ادنى تشكيك فاذا ما حكم العقل بضرورة عصمة الانبياء ودلت بعض ظواهر النصوص الشرعية على خلاف ذلك اول النص بشكل واخر ، واذا ما حكم بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته حكم بوجوب المقدمة. وهذا الاتجاه هو الصحيح. وقد جاءت روايات كثيرة تدل عليه فقد روى عبد اللّه بن سنان عن ابي عبد اللّه عليه السلام « حجة اللّه على العباد النبي والحجة فيما بين العباد وبين اللّه العقل » [ اصول الكافي ج 1 ص 25 ]. وفي حديث ثاني : « ان اول الامور ومبداها وقوتها وعمارتها التي لا ينتفع شيء الا به العقل الذي جعله اللّه زينة لخلقه ونورا لهم فبالعقل عرف العباد خالقهم وانهم مخلوقون وانه المدبر لهم وانهم المدبرون وانه الباقي وهم الفانون واستدلوا بعقولهم على ما رأوا من خلقه من سمائه وارضه وشمسه وقمره وليله ونهاره وبأن له ولهم خالقا ومدبرا لم يزل ولا يزول وعرفوا به الحسن من القبيح وان الظلمة في الجهل وان النور في العلم فهذا ما دلهم عليه العقل » [ اصول الكافي ج 1 ص 29 ]. وهناك احاديث اخرى في هذا المجال يمكن مراجعتها في كتاب العقل والجهل من اصول الكافي.

ص: 514

ص: 515

قوله ص 430 س 2 ولا دليل على حجية الظنون العقلية : فان الدليل دل على حجية بعض الظنون كالظن الحاصل من خبر الثقة ولم يدل على حجية جميعها.

قوله ص 430 س 4 بعدم حجية القطع : اي عدم حجية القطع بالحكم الشرعي الناشىء من القضايا العقلية.

قوله ص 430 س 5 وهو بظاهره غير معقول : اي هو من دون تحويل القطع من طريقي الى موضوعي غير معقول لانه يلزم منه التناقض في نظر القاطع.

قوله ص 430 س 7 توجيهه ثبوتا : اي بقطع النظر عن مساعدة كلماتهم والادلة على ذلك.

قوله ص 431 س 2 ان يصدّق : بتشديد الدال.

قوله ص 431 س 7 بقيد آخر : وهو عدم القطع بالجعل من العقل.

ص: 516

قوله ص 431 س 15 من قبيل ما يستدل به : وهو انه يلزم في حالة عدم الاشتغال بالازالة الامر بالجمع بين الضدين : الازالة والصلاة.

قوله ص 432 س 1 على الرغم من استحالته : متعلق بالحكم المستحيل ، اي وهل يفترض ان المولى يجعل الحكم المستحيل على الرغم من استحالته.

قوله ص 432 س 7 نددت : اي ذمت وردعت.

قوله ص 432 س 8 وأكدت على عدم قبول اي عمل غير ... الخ : هذا اشارة الى المجموعة الثانية من المجموعات الثلاث المتقدمة. وقوله قدّس سره « ونحو ذلك من الالسنة » اشارة الى المجموعتين الاولى والثالثة وغيرهما مما لم نشر له.

قوله ص 432 س 12 ونحو ذلك من الظنون العقلية : اي هي فقط ناظرة الى الحكم العقلي الظني دون القطعي.

تم الفراغ من توضيح الجزء الاول من الحلقة الثالثة

بحوله وقوته عزّ وجلّ يوم 23 / ربيع الثاني / 1411 ه

ص: 517

ص: 518

محتويات الكتاب

الموضوع / الصفحة

الدليل الشرعي غير اللفظي... 7

دلالات التقرير... 8

الجواب عن الشبهة... 13

اشتراط المعاصرة... 13

لا يلزم التعاصر في بعض السير... 14

فارق ثان بين السيرتين... 15

وسائل اثبات الدليل الشرعي... 19

اثبات صغرى الدليل الشرعي... 21

مبحث التواتر... 26

رأي السيد الشهيد... 28

الضابط للتواتر... 31

تعدد الوسائط في التواتر... 34

اقسام التواتر... 36

مطلب ظريف... 39

القسم الثاني من اقسام التواتر... 40

القسم الاول من اقسام التواتر... 42

مبحث الاجماع... 46

ص: 519

الشروط المساعدة على كشف الاجماع... 53

مقدار دلالة الاجماع... 56

الاجماع البسيط والمركب... 57

الشهرة... 59

وسائل الاثبات التعبدي أو حجية الخبر... 63

وسائل الاثبات التعبدي... 65

المرحلة الاولى... 66

الآية الاولى... 66

اعتراضان على آية النبأ... 69

التقريب الثاني للاستدلال بآية النبأ... 75

الاية الثانية... 79

مناقشة المقدمة الاولى... 81

مناقشة المقدمة الثانية... 84

مناقشة المقدمة الثالثة... 85

الاستدلال على حجية الخبر بالسنة... 89

الطريق الثاني... 98

اعتراض على السيرة العقلائية... 101

الدليل العقلي على حجية الخبر... 108

الجواب النقضي... 109

الجواب الحلّي... 110

الشكل الثاني... 115

المرحلة الثانية... 121

ص: 520

لا قيمة للاجماع المنقول... 124

حجية الخبر مع الواسطة... 126

دفع الاشكالين... 129

قاعدة التسامح في ادلة السنن... 132

هل هناك ثمرة عملية بين الاول والثاني... 135

المختار في المسألة... 138

حجية الظهور... 141

البحث الثالث في حجية الظهور... 143

دليل حجية الظهور... 146

اشكال على الدليلين الاولين... 149

تشخيص موضوع الحجية... 153

ترجيح الاحتمال الثالث... 156

كيف ننفي القرينة على الاحتمال الثالث... 157

هل اصالة الظهور ترجع الى اصالة عدم القرينة او بالعكس... 159

الظهور الذاتي والظهور الموضوعي... 163

الظهور الموضوعي في عصر النص... 166

مورد ان لا يعمل فيهما باصالة عدم النقل... 170

التفصيلات في الحجية... 172

التفصيل الثالث في حجية الظهور... 175

الخلط بين الحجية والظهور... 182

الظهور الحالي... 186

الظهور التضمني... 188

ص: 521

اشكال ودفع... 190

المخصص المتصل... 192

الدليل العقلي... 195

المقصود من الدليل العقلي... 197

استحالة التكليف بغير المقدور... 209

المقصود من استحالة التكليف... 211

مصطلح اصولي... 213

ما المقصود من القدرة... 214

ثمرة مدخلية القدرة في جعل الحكم... 215

حالات ارتفاع القدرة... 218

وهل يسقط التكليف عند الاضطرار بسوء الاختيار... 219

الجامع بين المقدور وغير المقدور... 223

شرطية القدرة بالمعنى الأعم او مبحث الترتب... 227

المقصود من شرطية القدرة بالمعني الاعم... 229

نقاط ثلاث... 234

التزاحم بين الواجب والحرام... 237

الامكان يستلزم الوقوع... 239

الثمرة العملية لفكرة الترتب... 240

ما هو الضد... 245

اطلاق الواجب لحالة المزاحمة... 246

التقييد بعدم المانع الشرعي... 249

مصطلح اصولي... 251

ص: 522

الوجوب المشروط... 253

قاعدة امكان الوجوب المشروط... 255

المسؤولية اتجاه المقدمات... 267

المسؤولية اتجاه القيود والمقدمات... 269

مبحث الشرط المتأخر... 277

تقسيم القيود... 279

الحلّ الأول لمشكلة الشرط المتاخر... 283

الحلّ الثاني لمشكلة الشرط المتاخر... 283

ثمرة البحث عن امكان الشرط المتاخر... 283

الواجب المعلّق... 295

زمان الوجوب والواجب... 297

المقدمات المفوتة... 305

المسؤولية عن المقدمات قبل الوقت... 307

اخذ العلم في موضوع الحكم... 313

صور اخذ القطع في موضوع الحكم... 315

اخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه... 316

ثمرة البحث... 324

اخذ العلم بالحكم في موضوع ضده او مثله... 328

الواجب التعبدي والتوصلي... 333

تقسيم الواجب وملاكه... 335

البرهان الاول على الاستحالة... 336

جواب البرهان الاول... 337

ص: 523

البرهان الثاني... 341

البرهان الثالث... 343

مختار السيد الشهيد... 346

ثمرة البحث... 347

المجال الأول للثمرة... 347

المجال الثاني للثمرة... 348

حقيقة الوجوب التخييري... 353

التخيير في الواجب... 355

ثمرة الاختلاف في حقيقة التخيير... 360

الوجوب الغيري لمقدمات الواجب... 365

منهجة البحث في الوجوب الغيري... 367

خصائص الوجوب الغيري... 371

مقدمات غير الواجب... 374

الثمرة الفقهية للنزاع في الوجوب الغيري... 375

الثمرة الاولى... 376

وكان الواجب اهم ملاكا من الحرام... 379

الثمرة الثانية... 381

شمول الوجوب الغيري... 384

التقسيم الاول... 384

التقسيم الثاني... 386

التقسيم الثالث... 386

تحقيق حال الملازمة... 391

ص: 524

حدود الواجب الغيري... 394

مشاكل تطبيقية... 398

الاجزاء في الاوامر الظاهرية والاضطرارية... 403

دلالة الاوامر الظاهرية والاضطرارية على الاجزاء... 405

دلالة الاوامر الاضطرارية على الاجزاء عقلا... 406

دلالة الاوامر الظاهرية على الاجزاء... 410

الامر الظاهري يجزي في بعض الصور عند علمين... 414

الحكومة الواقعية والظاهرية... 417

اجتماع الامر والنهي... 421

امتناع اجتماع الامر والنهي... 423

الخصوصية الاولى... 426

كلام النائيني في المقام... 428

الفارق بين مسلكين... 429

مناقشة مسلك النائيني... 430

الخصوصية الثانية... 431

اشكال وجواب... 434

زيادة توضيح... 435

عود لصلب الموضوع... 436

الخصوصية الثالثة... 438

مشكلة جديدة... 440

توضيح الجواب الاول... 441

مناقشة الجواب الاول... 441

ص: 525

توضيح الجواب الثاني... 443

توضيح الجواب الثالث... 443

سؤال وجواب... 445

عمومية النزاع لاقسام الوجوب والحرمة... 446

ثمرة البحث... 447

الثمرة الاولى... 447

الثمرة الثانية... 448

تلخيص ما سبق... 451

بطلان العمل في حالتين... 451

هل يفرق بين حالة الالتفات والغفلة... 452

مبحث الضد... 457

اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضده... 459

الضد العام... 460

القول الاول... 460

القول الثاني... 462

القول الثالث... 462

الضد الخاص... 463

فائدة قبل البحث... 464

عودة الى الكتاب... 465

الدليل الاول... 465

الدليل الثاني... 467

مناقشة الدليل الثاني... 468

ص: 526

اشكال وجواب... 471

ثمرة المسألة... 473

اقتضاء التحريم للفساد... 479

اقتضاء الحرمة للبطلان... 481

اقتضاء الحرمة لبطلان العبادة... 482

اقسام النهي عن العبادة... 485

اقتضاء الحرمة لبطلان المعاملة... 487

الملازمة بين حكم العقل والشرع... 493

الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع... 495

منهجة البحث... 496

الملازمة بين الحكم النظري وحكم الشرع... 499

الملازمة بين الحكم العملي وحكم الشرع... 499

عودة لصلب الموضوع... 501

الاجابة الثانية... 503

تلخيص ما تقدم... 504

حجية الدليل العقلي... 506

مناقشة الاخباريين... 508

اتضح مما سبق... 511

ادلة الاخباريين على عدم حجية القطع العقلي... 511

مناقشة ادلة الاخباريين... 512

ص: 527

المجلد 3

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الناشر: المحبين للطباعة والنشر

المطبعة: قلم

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 2007 م

ISBN (ردمك): 964-8991-27-8

المكتبة الإسلامية

الحلقة الثالثة في اسلوبها الثاني

الجزء الثالث

بقلم: باقر الايرواني

ص: 1

اشارة

سرشناسه : ایروانی، باقر، 1328 -

عنوان قراردادی : دروس فی علم الاصول . برگزیده . شرح

عنوان و نام پديدآور : الحلقه الثالثه فی اسلوبهاالثانی/ بقلم باقر الایروانی.

مشخصات نشر : قم: محبین، 14ق. = 20م .= 13 -

مشخصات ظاهری : ج.

شابك : دوره 964-8991-29-4 : ؛ ج.4 964-91029-6-5 :

وضعیت فهرست نویسی : برون سپاری

يادداشت : كتاب حاضر شرح، برگزیده " دروس فی علم الاصول "، محمدباقر صدر می باشد.

يادداشت : فهرستنویسی بر اساس جلد چهارم، 2007م = 1386).

يادداشت : عربی.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : صدر،محمدباقر،1931-1979م . دروس فی علم الاصول -- نقد و تفسیر

موضوع : تعارض ادله

اصول فقه شیعه

ادله و شواهد (فقه)

شناسه افزوده : صدر،محمدباقر،1931-1979م .دروس فی علم الاصول برگزیده

رده بندی كنگره : BP159/8/ص 4د40214 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 1298423

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

ص: 2

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين. والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمّد وأهل بيته الطيبين الطاهرين.

وبعد :

نقدّم إلى اخواننا الأعزاء طلبة الحوزات العلمية شرح القسم الثاني من الحلقة الثالثة قاصدين به تقديم بعض الخدمة لهم بتذليل جملة من العقبات الثابتة في الكتاب المذكور ، وليبرز بذلك وبشكل متكامل على خط التدريس الحوزوي.

وكلّنا أمل في تحقق الغاية المنشودة. فإن وفقنا لذلك فهو بعنايته عزّ وجلّ وإلاّ ففي بقية الاخوة كامل الأمل في ملئ الفراغ.

باقر الايرواني

ص: 3

ص: 4

بسم اللّه الرحمن الرحيم

منهجة أبحاث القسم الثاني من الحلقة الثالثة

تكفّل القسم الثاني من الحلقة الثالثة البحث عن موضوعين هما : -

1 - الاصول العملية المعبّر عنها بالدليل الفقاهتي حيث انّه في القسم الأوّل بحث عن الدليل الاجتهادي بكلا قسميه الشرعي والعقلي. وفي هذا القسم يراد البحث عن الدليل الفقاهتي.

2 - تعارض الأدلة الشرعية. وقد اشير إلى هذا البحث ص 321 تحت عنوان « خاتمة ».

وفي البحث الأوّل - الاصول العملية - نتكلّم في ثلاث نقاط هي : -

1 - البحث عن المقصود من مصطلح الأصل العملي والتفرقة بينه وبين مصطلح الامارة ، والبحث عن تقسيم الأصل العملي إلى الأصل الشرعي والأصل العقلي ، والبحث عن الفرق بين الأصل التنزيلي والأصل المحرز وتمييز هذين عن الأصل الذي لا يكون تنزيليا ولا محرزا ، والبحث عن موارد جريان الاصول.

وهذه الأبحاث الأربعة في هذه النقطة اشير لها في الكتاب تحت عنوان « تمهيد » ، فالبحث في التمهيد اذن يرجع إلى التحدّث عن هذه الأبحاث الأربعة.

ص: 5

2 - البحث عن حالة الشكّ في التكليف مع افتراض عدم وجود حالة سابقة متيقّنة. ويدخل تحت هذه الحالة أصل البراءة وأصل الاحتياط وأصل التخيير ، فإنّه في جميع هذه الاصول الثلاثة يفترض الشكّ في التكليف مع عدم وجود حالة سابقة متيقّنة.

3 - البحث عن حالة الشك في التكليف مع افتراض وجود حالة سابقة التي هي مورد الاستصحاب والبحث عنها بحث عن الاستصحاب.

هذه هي منهجة الأبحاث في الاصول العملية.

ونتكلّم أوّلا عن أبحاث التمهيد الأربعة التي أوّلها بيان الفرق بين مصطلحي الامارة والأصل.

ص: 6

الفارق بين الامارات والاصول

اشارة

ص: 7

ص: 8

خصائص الأصول العملية

اشارة

قوله ص 11 س 1 : عرفنا فيما تقدّم انّ الاصول العملية الخ : تقدّم في القسم الأوّل من الحلقة الثالثة ص 32 ان الأحكام الظاهرية على قسمين قسم منها يتمثّل في باب الامارات وقسم آخر يتمثّل في باب الاصول العملية. والحكم الظاهري في باب الاصول العملية مجعول لتنجيز الحكم الواقعي المشكوك أو التعذير منه ، فالأصل العملي لا ينظر إلى الحكم الواقعي ولا يريد تشخيصه وإنّما يشخص الوظيفة العملية اتجاهه ، فأصل البراءة مثلا يقول انّ وجوب صلاة الجمعة ما دام مجهولا فوظيفتك العملية اتجاهه ليست هي الاحتياط بل البراءة ولا يقول انّ صلاة الجمعة حكمها واقعا هو الوجوب أو عدم الوجوب. هذا بالنسبة إلى الحكم الظاهري في باب الاصول العملية.

وأمّا الحكم الظاهري في باب الامارات فليس مجعولا بداعي التنجيز أو التعذير بل هو ناظر إلى الواقع ويريد تشخيص الحكم الواقعي المشكوك غاية الأمر قد يصيبه وقد يخطأه.

وبعد وجود امتياز بين الحكم الظاهري في باب الامارات عنه في باب الاصول العملية نريد التعرّف على الفرق بين حقيقة ذاك الحكم وحقيقة هذا فهل هناك فارق آخر غير المقدار الذي ذكرناه أو لا؟ وفي هذا المجال يمكن تقديم أربعة فروق هي : -

1 - [ الفرق الأول ] ما ذكره الميرزا قدس سره واختاره السيد الخوئي ( دام ظلّه ) (1) من انّ المجعول في

ص: 9


1- تقدّم هذا الفرق في القسم الأوّل من الحلقة الثالثة ص 33.

باب الامارات هو الطريقية والعلمية وتتميم الكشف (1) ، فحينما يقول الشارع جعلت خبر الثقة حجّة فالمقصود انّي جعلت خبر الثقة طريقا تاما إلى الواقع وجعلته علما بعد ما كان ظنا وجعلت كاشفيّته عن الواقع كاشفية تامة بعد ما كانت ناقصة ، وأمّا في باب الاصول العملية فالمجعول هو الوظيفة العملية أي التنجيز والتعذير.

ثمّ أضاف الميرزا قائلا : انّ جعل الوظيفة العملية في باب الاصول العملية تارة يكون بلسان جعل التنجيز والتعذير واخرى بلسان تنزيل المشكوك منزلة الواقع ، كما هو الحال في أصل الحلّ فإنّ قوله علیه السلام : « كل شيء لك حلال حتّى تعرف انّه حرام » يفهم منه انّ الشيء الذي يشكّ في حلّيته فهو بمنزلة الحلال الواقعي. واصطلح على الأصل في هذه الحالة بالأصل التنزيلي حيث نزّل المشكوك منزلة الواقع.

وهناك حالة ثالثة أشار لها الميرزا وهي أن يكون جعل الوظيفة العملية بلسان تنزيل الاحتمال منزلة اليقين كما هو الحال في الاستصحاب فإنّ المستفاد من دليل « لا تنقض اليقين بالشكّ » في نظره قدس سره تنزيل احتمال البقاء منزلة اليقين بالبقاء. ومثل هذا الأصل سماّه بالأصل المحرز حيث انّ احتمال البقاء ما دام قد نزّل منزلة اليقين فالشاكّ في بقاء الحالة السابقة يصير محرزا لبقاء الحالة السابقة.

وعلى هذا فالأصل في نظر الميرزا على ثلاثة أقسام : -

أ - أصل تنزيلي. وهو ما يكون جعل الوظيفة العملية فيه بلسان تنزيل

ص: 10


1- الطريقيّة والعملية وتتميم الكشف ألفاظ مترادفة.

المشكوك منزلة الواقع.

ب - أصل محرز. وهو ما يكون جعل الوظيفة العملية فيه بلسان تنزيل نفس الشكّ منزلة اليقين.

والفرق بين هذا وسابقه انّه في السابق ينزل المشكوك - دون الشكّ - منزلة الواقع دون اليقين بينما في هذا الأصل ينزّل نفس الشكّ - دون المشكوك - منزلة اليقين دون الواقع.

ج - أصل غير تنزيلي ولا محرز. وهو ما يكون جعل الوظيفة العملية فيه لا بلسان تنزيل المشكوك منزلة الواقع ولا بلسان تنزيل الشكّ منزلة اليقين بل بلسان جعل التنجيز والتعذير لا أكثر. ومثاله أصل البراءة فإنّ قوله صلی اللّه علیه و آله : « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » يدلّ على جعل المعذورية ، أي انّ امّتي معذورة من ناحية الحكم الذي لا يعلمونه ، فالمجعول هو الوظيفة العملية بلسان جعل المعذرية.

ثمرة التقسيم

وثمرة هذا التقسيم الثلاثي للأصل العملي تأتي الإشارة لها إنشاء اللّه ص 17 من الحلقة.

التعليق على الفرق الأوّل

ويمكن التعليق على التفرقة الميرزائية بما تقدّم في القسم الأوّل من الحلقة ص 34 من أنّ ما ذكر ليس هو الفرق الحقيقي بين الأصل والامارة فإنّ كلمة

ص: 11

الأصل والأمارة لم تردا في آية أو رواية لنأخذ بتفسيرهما بأي شكل كان بل هما مصطلح اصولي ، فالأصل مصطلح يراد به كل دليل لا يصلح أن يثبت اللوازم الشرعية (1) ، والامارة مصطلح يراد به كل دليل يصلح لإثبات ذلك ، وما دام الأمر كذلك فلا بدّ من تفسير الأصل والامارة بشكل يوضح لنا نكتة صيرورة الامارة صالحة لاثبات اللوازم غير الشرعية دون الأصل.

والميرزا وإن اعتقد أنّ الفرق الذي تقدّم به يصلح أن يكون وجها لحجّيّة الامارة في إثبات اللوازم غير الشرعية بخلاف الأصل - حيث ذكر في وجه ذلك انّ المجعول في خبر الثقة إذا كان هو العلمية فالثقة متى ما أخبرنا بشيء صرنا وكأنّنا عالمون به ، وإذا صرنا عالمين به ثبتت اللوازم غير الشرعية لأنّ من علم شيئا فقد علم بلوازمه ، فمن علم بحياة ولده فقد علم بنبات لحيته ، وهذا بخلافه في الاصول العملية فإنّه ليس المجعول فيها العلمية حتّى يلزم فيها ثبوت اللوازم - ولكنّه باطل لما مرّ في القسم الأوّل من الحلقة ص 72 من انّ قاعدة من علم بشيء

ص: 12


1- فمثلا إذا كان لك ولد غاب عنك وعمره عشر سنوات ونذرت ان لحيته متى ما نبتت تصدّقت على الفقير بدرهم فإذا مضى على غيبته عشرون سنة ثمّ شككت في بقائه على قيد الحياة وبالتالي شككت في نبات لحيته ففي هذه الحالة لو أخبرك الثقة بعد عشرين سنة ببقائه على قيد الحياة ثبت بإخباره حياة الولد وثبتت بذلك اللوازم غير الشرعية وهي نبات اللحية ومن ثمّ يثبت وجوب التصدّق. هذا كلّه في حالة إخبار الثقة بحياة الولد. وأمّا لو أجريت استصحاب الحياة فلا يثبت بذلك نبات اللحية ومن ثمّ لا يجب التصدّق. اذن الامارة حجّة في إثبات الحياة وفي إثبات نبات اللحية الذي هو لازم غير شرعي _ وإنّما لم يكن نبات اللحية لازما شرعيا لأنّه لا توجد آية ولا رواية تقول إذا بقي الولد حيّا بعد عشرين سنة فلحيته نابتة _ بينما الأصل ليس حجّة في إثبات نبات اللحية.

فقد علم بلوازمه تتمّ في العلم الوجداني دون التعبّدي ، فالعالم حقيقة ووجدانا بحياة الولد يلزم أن يصير عالما باللوازم وأمّا العالم تعبّدا بحياة الولد فلا يلزم أن يصير عالما باللوازم بل التعبّد يقتصر فيه على حدوده ولا يتجاوزها ، فمثلا لو قلت للرجل الشجاع أنت كالأسد فلا يحقّ له افتراسك بحجّة انّك اعتبرته أسدا فإنّ ذلك إنّما يتمّ في الأسد الحقيقي دون من اعتبر أسدا وليس هو بأسد حقيقة ، ونفس هذا يجري في مقامنا أيضا فإنّ العلم بالشيء إنّما يستلزم العلم باللوازم في خصوص العلم الوجداني دون التعبّدي ، ومن الواضح انّ العلم الحاصل في باب الامارة هو علم تعبّدي لا وجداني فإنّ الشارع يعبّدنا ويجعلنا كأنّنا عالمون من دون أن نكون عالمين حقيقة ووجدانا حتّى يلزم من العلم بالشيء العلم باللوازم.

الفرق الثاني

2 - والفرق الثاني بين الأصل والامارة : ان الأصل يفترق عن الامارة في مقام الجعل ففي مقام الجعل والتشريع جعل الأصل حجّة في حالة الشكّ في الحكم الواقعي ، فالشاكّ في الحكم الواقعي هو الذي جعل الأصل في حقّه حجّة بينما حجّية الامارة لم تجعل في حقّ الشاكّ في الحكم الواقعي بل هي منصبّة على ذات المكلّف. وبكلمة اخرى : الشكّ في الحكم الواقعي أخذ موضوعا في حجّية الأصل دون حجية الامارة.

ويمكن مناقشة ذلك بما يلي : -

أ - نفس ما أورد على الفرق الأوّل من أنّ مجرّد أخذ الشكّ في موضوع حجّية الأصل وعدم أخذه في موضوع حجية الامارة لا يوضح لماذا صارت

ص: 13

الامارة حجّة في لوازمها غير الشرعية ولم يصر الأصل حجّة في ذلك.

ب - ان لازم عدم أخذ الشكّ في موضوع حجية الامارة كون الامارة حجّة في حقّ كل مكلّف ولو كان عالما بالحكم الواقعي - إذ المفروض عدم تخصيص حجية الامارة بالشاك - مع انّ من الواضح ان الامارة لا يمكن أن تجعل حجّة في حقّ العالم بالحكم الواقعي إذ بعد انكشاف الواقع لا معنى لجعل خبر الثقة مثلا حجّة كما هو واضح. ومن أجل الفرار من هذا المحذور ذهب البعض إلى أنّ حجية الامارة وإن لم تجعل مقيّدة بالشكّ ولكنّها مجعولة في ظرف الشكّ فالشكّ ظرف لجعل حجّية الامارة وليس قيدا لها ، وهذا كما لو فرض ان زيدا موجود في الدار فان الدار ظرف لوجوده ومكان له وليست قيدا له وإلاّ يلزم صيرورة زيد بعد خروجه من الدار مغايرا له حالة وجوده في الدار لأنّ زيدا المقيد بالدار مغاير لزيد المقيد بعدم الدار ، وهذا بخلاف ما لو كانت الدار ظرفا لوجود زيد فإنّ الشيء لا يتغير بتغير ظرفه.

ويردّه : ان الشكّ لو كان ظرفا لا قيدا فنحن نسأل هل حجّية الامارة ثابتة للمكلّف الشاكّ فقط أو هي ثابتة في حقّ غيره أيضا؟ فإن كانت ثابتة في حقّ الشاكّ فقط فلازمه صيرورة الشكّ قيدا وموضوعا لحجّيّة الامارة وليس ظرفا. وإن كانت الحجّية ثابتة في حقّ غير الشاك أيضا فلازمه صيرورة الامارة حجّة في حقّ العالم بالحكم الواقعي ، أي يلزم الكر على ما فرّ منه فإنّه قد قصد بتحويل الشكّ من كونه موضوعا لحجّية الامارة إلى كونه ظرفا الفرار من محذور شمول حجية الامارة للعالم بالحكم الواقعي وقد لزم العود إليه.

وإن شئت قلت : انّا لا نتعقل أخذ الشكّ في مقام الجعل بشكلين : بشكل

ص: 14

القيدية تارة وبشكل الظرفية اخرى ، فانّ الحجية إن كانت ثابتة في حقّ الشاك فقط فلازمه صيرورة الشكّ قيدا وموضوعا ، وإن لم تكن ثابتة في حقّ الشاك فقط فلازمه ثبوت حجّية الامارة في حق العالم أيضا.

الفرق الثالث

3 - [ الفرق الثالث انّه بحسب عالم الجعل لا فرق بين الأصل والامارة ففي كليهما أخذ الشكّ في الموضوع ] وقبل توضيح الفرق الثالث نذكر مقدّمة حاصلها ان السيد الخوئي ( دام ظلّه ) يرى - كشيخه الميرزا - انّ المجعول في باب الامارة هو الطريقية والعلمية حسبما تقدّم سابقا ، ولكن ما هو المجعول عنده في باب الاستصحاب؟ انّ المجعول في نظره في باب الاستصحاب هو الطريقية والعلمية أيضا (1). وعلى أساس هذا الرأي لا يبقى فرق بين الامارة والاستصحاب في المجعول ، فالمجعول في كليهما شيء واحد وهو الطريقية والعلمية فيصير الاستصحاب واحدا من الامارات كخبر الثقة تماما. أجل يبقى فرق واحد بينهما وهو أنّ دليل حجّية خبر الثقة لم يؤخذ في لسانه وألفاظه الشكّ - فمثلا قوله تعالى : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) الذي هو من أحد أدلّة حجّية الخبر لم يذكر فيه لفظ الشكّ وعدم العلم - بخلافه في الاستصحاب فإنّ لسان دليله أخذ فيه الشكّ حيث قيل لا تنقض اليقين بالشكّ ، أي ما دمت شاكا ولا تعلم ببقاء الحالة السابقة فلا تنقض يقينك السابق.

وبعد هذه المقدّمة نقول في بيان الفرق الثالث : انّه بحسب عالم الجعل

ص: 15


1- وستأتي الإشارة إلى ذلك ص 17 من الحلقة.

لا فرق بين الأصل والامارة ففي كليهما أخذ الشكّ في الموضوع ، فالمولى بحسب عالم الجعل صبّ الحجّية في الأصل والامارة على الشاك بيد أنّ الدليل الذي يصل إلينا تارة يكون قد أخذ في لسانه وألفاظه الشكّ فيكون الحكم الظاهري حينذاك أصلا واخرى لم يؤخذ في لسانه وألفاظه الشكّ فيكون الحكم الظاهري امارة.

ويرد عليه : -

أ - نفس ما تقدّم من أنّ مجرّد أخذ الشكّ في لسان الدليل وألفاظه وعدم أخذه لا يوضح لنا لماذا صارت الامارة حجة في لوازمها غير الشرعية ولم يصر الأصل كذلك. وعليه فأخذ الشكّ في لسان الدليل وعدم أخذه لا ثمرة له من هذه الناحية ، ولئن كانت له ثمرة فثمرته تظهر على رأي السيد الخوئي - القائل بأنّ الاستصحاب امارة كخبر الثقة لا فرق بينهما فكلاهما امارة إذ المجعول في كليهما هو الطريقية والعلمية - حيث انّه قد يشكل على رأيه بأنّ الاستصحاب إذا كان امارة كخبر الثقة تماما فلماذا عند التعارض بين خبر الثقة والاستصحاب يقدّم خبر الثقة بالرغم من كون الاستصحاب امارة مثله. هنا أجاب السيد الخوئي ( دام ظلّه ) قائلا ان لسان دليل خبر الثقة حيث لم يؤخذ فيه الشكّ فيكون حجّة في جميع الحالات - ولا ترفع اليد عن حجّيته إلاّ في حالة واحدة يحكم فيها العقل بلزوم ذلك وهي حالة حصول العلم الوجداني بالواقع فإنّه عند حصول العلم الوجداني بالحكم الواقعي يحكم العقل بلزوم رفع اليد عن حجّية خبر الثقة إذ مع اتضاح الواقع لا معنى لجعل الخبر حجّة - وواحدة من تلك الحالات هي حالة اجتماع خبر الثقة مع الاستصحاب ، فإنّه في هذه الحالة يكون خبر الثقة حجّة أيضا ، وإذا كان حجّة فلازم ذلك أنّه لو أخذنا به فسوف يحصل لنا العلم

ص: 16

التعبّدي بالواقع - إذ المفروض أنّ المجعول في خبر الثقة هو العلمية - ويرتفع بذلك الشكّ الذي هو موضوع الاستصحاب ، وهذا بخلافه لو أخذنا بالاستصحاب فإن المجعول في الاستصحاب وإن كان هو العلمية فلو أخذنا به حصل العلم وارتفع الشكّ إلاّ أنّه قد فرضنا أنّ الشكّ لم يؤخذ في موضوع دليل حجّية خبر الثقة ليلزم من ذلك عدم حجّية خبر الثقة بل المفروض أنّ خبر الثقة حجّة في جميع الحالات ولم يشذ عن حجّيته سوى حالة واحدة وهي حالة العلم الوجداني بالواقع والمفروض أنّ الاستصحاب لو جرى فأقصى ما يحصّله لنا هو العلم التعبّدي دون العلم الوجداني.

والخلاصة : انّ أخذ الشكّ في لسان دليل الأصل وعدم أخذه في لسان دليل الامارة لئن كان يثمر فهو يثمر هنا حيث يوضح لماذا نقدّم خبر الثقة على الاستصحاب عند التعارض بينهما بالرغم من أنّ كليهما امارة (1).

ب - انّه لو كان المدار على لسان الدليل وألفاظه فلازم ذلك صيرورة خبر الثقة امارة تارة وأصلا عمليا اخرى فانّه لو جعلنا الدليل على حجّية الخبر آية السؤال من أهل الذكر - أي قوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* ) - صار الخبر أصلا لأنّ هذه الآية الكريمة أخذ في لسانها الشكّ وعدم العلم حيث قيل اسألوا وخذوا بالخبر إن كنتم شاكّين ولا تعلمون ، بينما لو جعلنا الدليل على حجّية الخبر مفهوم آية النبأ - أي قوله تعالى : وإن لم يجىء فاسق فلا تتبيّنوا - صار الخبر امارة حيث لم يؤخذ في اللسان المذكور الشكّ وعدم العلم ، وهذا باطل إذ

ص: 17


1- اشير إلى إيضاح هذا المطلب ص 362 من الحلقة.

من الواضح انّ خبر الثقة امارة مهما كان لسان دليله.

الفرق الرابع

4 - [ الفرق الرابع ] ما يتبنّاه السيد الشهيد والذي تقدّم توضيحه في القسم الأوّل من الحلقة الثالثة ص 73 - 74 ، وحاصله انّ المولى بعد أن شرّع الإباحة لشرب الماء والحرمة لشرب الخمر مثلا تقف أمامه مشكلة وهي أنّه أحيانا قد يشتبه حال المائع فلا يدرى أنّه خمر أو ماء ففي مثل هذه الحالة ماذا يقول المولى للمكلّف فهل يقول له احكم بأنّه حلال بالرغم من احتمال كونه خمرا أو يقول له احكم بأنّه حرام بالرغم من احتمال حليته؟ هنا يلاحظ المولى مصلحة شرب الماء ويقيسها إلى مفسدة شرب الخمر فإن وجد أنّ الاولى أهمّ من الثانية حكم بالإباحة على كل سائل مشكوك ويضحّي بالمفسدة في سبيل تحصيل مصلحة شرب الماء التي فرض أنّها أهم ويصدر حينذاك قرارا عاما بمثل لسان « كل شيء لك حلال حتّى تعرف انّه حرام ». هذا لو كانت المصلحة أهم ، وأمّا لو فرض العكس بأن كانت المفسدة هي الأهم أصدر قرارا على العكس فيقول مثلا : « أخوك دينك فاحتط لدينك ». اذن أصل الإباحة على هذا الأساس حكم ظاهري نشأ من الحفاظ على الملاك الأهم عند حصول الاختلاط والاشتباه. وهكذا الحال في أصل الاحتياط.

ثم ان ههنا شيئا آخر لا بدّ من الالتفات إليه وهو أنّ أهمية الملاك من أين تنشأ؟ هذا سؤال قد يطرح.

والجواب عنه انّ الأهمية لها شكلان فتارة تنشأ من قوة الاحتمال

ص: 18

والكشف ، ويسمّى الحكم الظاهري في هذه الحالة بالامارة - فالثقة إذا أخبر عن حرمة شيء تثبت الحرمة ، وهكذا كل ما يشهد به يثبت ، وما ذاك إلاّ لأنّ درجة كاشفية خبر الثقة عن القضية التي يخبر بها كاشفية قوية وبدرجة 70% مثلا - واخرى تنشأ الأهمية من قوة المحتمل لا من قوّة الاحتمال ، ويسمّى الحكم الظاهري في هذه الحالة بالأصل العملي ، فأصل الإباحة مثلا يقول انّه كلّما دار الأمر بين محتملين : الإباحة والحرمة فقدّم الاباحة لا لأنّ درجة كاشفية أصل الإباحة عن الإباحة أقوى بل لأنّ الإباحة في نفسها أهم في نظر المولى من الحرمة. وعليه فحجّية الامارة حكم ظاهري نشأ من أهمية وقوّة الاحتمال بينما حجّية الأصل حكم ظاهري نشأ من أهمية وقوة المحتمل في نفسه.

وإذا اتضح ان حجّية الامارة ناشئة من القوة في الاحتمال والكشف يتضح ان الامارة حجّة في إثبات لوازمها غير الشرعية أيضا لأنّ كاشفية خبر الثقة عن حياة الولد إذا كانت بدرجة معينة فكاشفيّته عن نبات اللحية تكون بتلك الدرجة أيضا فإنّ درجة كاشفية الشيء عن مدلوله الالتزامي تتساوى ودرجة كاشفيّته عن مدلوله المطابقي. وإذا كانت كاشفية خبر الثقة عن حياة الولد موجبة لحجّية خبر الثقة في حياة الولد فتلك الكاشفية توجب حجّية خبر الثقة أيضا في نبات اللحية لعدم الفرق بين الكاشفيتين من حيث الدرجة.

قوله ص 11 س 1 : فيما تقدم : أي في القسم الأوّل ص 32.

قوله ص 11 س 2 : الطريقية : أي لم تنشأ عن مصلحة في نفسها بل للتحفظ على الملاكات الواقعية. وفي مقابل الحكم الطريقي الحكم النفسي وهو ما نشأ عن مصلحة في نفسه.

ص: 19

قوله ص 11 س 3 : عن الأحكام الظاهرية في باب الامارات : الحكم الظاهري في باب الامارات هو حجّية الامارة وفي باب الاصول هو حجّية الأصل.

قوله ص 11 س 7 : مثلا : أي ذكر الطريقية من باب المثال وإلاّ فيمكن تبديل الطريقية بالعلمية أو تتميم الكشف فإنّ الجميع يؤدي معنى واحدا.

قوله ص 11 س 7 : الوظيفة العملية : هذا ناظر إلى الأصل الذي لا يكون محرزا ولا تنزيليا. وقوله : « أو التنزيل منزلة اليقين » ناظر إلى الأصل المحرز. وكان من المناسب الإشارة إلى الأصل التنزيلي أيضا بأن يعبّر هكذا : وفي الثاني : الوظيفة العملية أو التنزيل منزلة اليقين أو الواقع.

قوله ص 11 س 8 : بلحاظ الجري العملي : هذا إشارة إلى دفع إشكال حاصله : انّ الأصل المحرز إذا كان ينزل فيه احتمال البقاء منزلة اليقين بالبقاء فما الفرق بعد هذا بين الامارة والأصل المحرز إذ كل منهما نزّل منزلة اليقين.

وحاصل الدفع : ان الميرزا ذكر أنّ اليقين له أربع خصوصيات نذكر اثنتين منها : -

أ - الكاشفية والطريقية فكل يقين له كاشفية وطريقية إلى الواقع.

ب - الجري العملي ، فإنّ من علم بوجود الأسد في مكان معين فرّ بسرعة فالفرار جري عملي يقتضيه اليقين بوجود الأسد.

ثمّ أضاف قائلا : ان الامارة منزلة منزلة اليقين من حيث الخصوصية الاولى ، أي من حيث الكاشفية بينما الأصل المحرز منزل منزلة اليقين من حيث الخصوصية الثانية ، أي من حيث الجري العملي لا من حيث الكاشفية فالفرق

ص: 20

واضح.

قوله ص 11 س 9 : وقد تقدّم الكلام الخ : هذا شروع في الردّ على التفرقة الميرزائية. ثمّ انّ هذه المناقشة تقدّمت في القسم الأوّل ص 34 من الحلقة.

قوله ص 11 س 13 : للأحكام الشرعية : كوجوب التصدّق المترتّب على نبات اللحية الذي هو لازم غير شرعي لحياة الولد التي هي - حياة الولد - مؤدّى الامارة.

قوله : ص 11 س 15 : الذي ليس له تلك الآثار : أي لا يكون حجّة في إثبات اللوازم غير الشرعية.

قوله ص 11 س 15 : وقد عرفنا سابقا : أي في القسم الأوّل من الحلقة ص 71. ثمّ انّه بهذه العبارة يراد بيان أنّ جعل الطريقية في الامارة لا يصلح أن يكون نكتة لحجّيتها في إثبات اللوازم.

قوله : ص 12 س 2 : كذلك : أي موضوعا.

قوله ص 12 س 3 : وهذا الفرق الخ : هذا هو الايراد الأوّل على هذا الفرق. وقوله : « غير معقول الخ » إشارة إلى الإيراد الثاني.

قوله ص 12 س 3 : لا يفي بالمقصود : وهو انّه لماذا صارت الامارة حجّة في اللوازم غير الشرعية بخلاف الأصل.

قوله ص 12 س 5 : وجعل الامارة الخ : الواو استينافية. أي ومن الواضح أنّ جعل الامارة الخ.

قوله ص 12 س 7 : موردا لا موضوعا : أي أنّ الشكّ مأخوذ ظرفا لجعل الحجّية لا قيدا.

ص: 21

قوله ص 12 س 13 : على دليل الأصل : أي على دليل الاستصحاب. وإنّما عبّر عنه بالأصل - والحال أنّه امارة على رأي السيد الخوئي - نظرا إلى رأي المشهور.

والمقصود من الحكومة هو أنّ دليل الامارة ينفي تعبدا الشك الذي هو مأخوذ في موضوع دليل الاستصحاب.

ثمّ انّ التعبير بكلمة « قد » إشارة إلى أنّ هذا لا يثمر في تقديم الامارة على مطلق الأصل بل في خصوص الأصل الذي يكون من قبيل الاستصحاب ، أي يكون المجعول فيه الطريقية.

قوله ص 12 س 13 : إلى كونه اتفاقيا : أي أنّ دليل الامارة ليس دائما لم يؤخذ في لسان دليله الشكّ بل ذلك يتّفق غالبا وإلاّ فأحيانا يكون الشكّ مأخوذا في لسان دليله أيضا فيلزم صيرورة الامارة أصلا في هذه الحالة.

قوله ص 12 س 17 : في الجزء السابق : أي ص 73.

قوله ص 13 س 1 : عند التزاحم بين الخ : فإنّ مفسدة شرب الخمر تزاحم مصلحة شرب الماء. والمقصود أنّهما يتزاحمان في مقام الحفظ التشريعي فالمصلحة تطلب تحفظ المولى عليها وذلك بتشريع أصالة الإباحة بينما المفسدة تطلب التحفّظ عليها بتشريع أصالة الاحتياط. ومن خلال هذا يتضّح أنّ قوله : « في مقام الحفظ التشريعي » متعلّق بالتزاحم ، وهكذا قوله : عند الاختلاط.

قوله ص 13 س 2 : عند الاختلاط : أي عند اشتباه المصلحة بالمفسدة.

قوله ص 13 س 3 : في أدلّة الحجّية : أي في أدلة حجّية الامارة.

قوله ص 13 س 4 : محضا : أي فقط ومن دون أن تنشأ من قوّة المحتمل.

ص: 22

الأصول العملية الشرعية والعقلية

قوله : ص 13 س 6 : وتنقسم الاصول العملية الخ : ذكرنا سابقا أنّ التمهيد المذكور في صدر الكتاب يشتمل على أربعة أبحاث. وإلى هنا فرغنا من البحث الأوّل وندخل الآن في البحث الثاني ، وهو أنّ الأصل العملي ينقسم إلى قسمين : شرعي وعقلي.

والمقصود من الأصل الشرعي هو الحكم الظاهري الذي ينشأ من أهمية المحتمل مثل أصالة البرائة المستفادة من قوله علیه السلام : « كل شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام » فإنّ هذا الأصل حكم ظاهري بالحلية نشأ من أهمية الحلية.

والمقصود من الأصل العقلي هو الحكم العقلي (1) الذي يرتبط بتوسعة أو تضييق حقّ الطاعة فقاعدة « الاشتغال اليقيني (2) يستدعي الفراغ اليقيني » حكم عقلي بسعة حقّ الطاعة للمولى ، فالمولى إذا أوجب علينا صلاة الظهر مثلا فلا بدّ

ص: 23


1- أو بتعبير آخر الوظيفة العقلية التي ترتبط بعمل المكلّف
2- الفرق بين قاعدة الاشتغال اليقيني وقاعدة قبح العقاب أن الأولى ناظرة إلى حالة ثبوت التكليف جزما كوجوب صلاة الظهر فإنّه ثابت جزما وبعد ثبوته الجزمي تأتي القاعدة الاولى لتقول انّه بعد ثبوت التكليف جزما لا بدّ من تفريغ الذمّة منه جزما ولا يكفي الظنّ ، وهذا بخلافه في القاعدة الثانية فانّها تقول أنّ التكليف إذا لم يثبت جزما فلا يجب امتثاله ويقبح العقاب. فالحكم العقلي النظري هو الحكم المتعلّق بشيء ثابت في الواقع ولا يرتبط بجانب العمل وذلك كالحكم باستحالة اجتماع النقيضين ، فإنّ الاستحالة المذكورة أمر ثابت في الواقع ولا ربط له بجانب العمل.

وأن نتيقن بأدائها وفراغ ذمّتنا منها فله علينا حقّ الطاعة في تحصيل الامتثال بنحو اليقين دون الاحتمال والظنّ.

ومثال ثاني للأصل العقلي : قاعدة قبح العقاب بلا بيان فإنّ مرجعها لدى المشهور إلى أنّ المولى ليس له علينا حقّ الطاعة في التكليف الذي يكون ثبوته على مستوى الاحتمال دون الجزم.

ومثال ثالث للأصل العقلي : حكم العقل بمنجزية احتمال التكليف - كما هو المختار خلافا للمشهور (1) - فإنّ مرجعه إلى أنّ المولى له حقّ الطاعة علينا في التكليف المحتمل ولا يتحدّد بخصوص التكليف المتيقن.

وبالجملة أن الفرق بين الأصل الشرعي والأصل العقلي هو أنّ مضمون الأصل العقلي حكم عقلي يرتبط بتوسعة حقّ الطاعة وتضييقه.

وبعد أن عرفنا الأصل الشرعي والعقلي نأخذ باستعراض جملة من خصائصهما ليتجلّى حالهما أكثر. والخصائص خمس هي : -

1 - ما ذكرناه سابقا وهو أنّ الأصل الشرعي حكم شرعي بينما الأصل العقلي حكم عقلي (2) يرتبط بتوسعة حقّ الطاعة وتضييقه.

ص: 24


1- يقول المشهور ان احتمال التكليف ليس منجّزا والعقل يحكم بقبح العقاب على التكليف ما دام ثبوته غير معلوم خلافا للسيد الشهيد حيث يرى ان احتمال التكليف منجز وإن قاعدة قبح العقاب لا أساس لها. وسيأتي التعرّض إلى هذا المطلب مفصلا ص 29 من الحلقة.
2- تقدّم أواخر القسم الأوّل من الحلقة ص 424 أنّ الحكم العقلي تارة يكون نظريا واخرى عمليا. فالحكم العقلي النظري هو الحكم المتعلّق بشيء ثابت في الواقع ولا يرتبط بجانب العمل وذلك كالحكم باستحالة اجتماع النقيضين ، فإنّ الاستحالة المذكورة أمر ثابت في الواقع ولا ربط له بجانب العمل. وأمّا الحكم العقلي العملي فهو الحكم المرتبط بجانب العمل كحكم العقل بأنّه ينبغي فعل الصدق والعدل والأمانة والايثار ولا ينبغي فعل الكذب والظلم و ... ان هذه الأحكام ترتبط بعمل المكلّف حيث يقول العقل ينبغي الفعل أو لا ينبغي الفعل. إذن يتّضح من خلال هذا صحّة قولنا ان مثل قاعدة الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني حكم عقلي عملي لارتباطها بحيثيّة العمل إذ تفريغ الذمّة أمر عملي. وبهذا يتضح أيضا أنّ لزوم تفريغ الذمّة بنحو اليقين شيء مدرك يدركه العقل العملي وله ارتباط بحقّ الطاعة. ثمّ انّه ينبغي الالتفات إلى أنّ التعبير بالعقل العملي والنظري لا يراد به وجود عقلين للإنسان بل العقل واحد غاية الأمر إذا تعلّق بأمر عملي سمي بالعقل العملي وإذا تعلّق بأمر غير عملي سمّي بالعقل النظري

2 - انّ الأصل الشرعي لا يلزم وجوده في كل مورد من موارد الشكّ إذ لربّ مورد لم يشرّع الشارع فيه أصلا معينا ويترك تحديده إلى ما يحكم به العقل بخلاف ذلك في الأصل العقلي فإنّه لا يمكن أن يخلو مورد منه إذ في الأصل العقلي يكون الحاكم هو العقل ومن الواضح أنّ العقل لا يمكن أن يشكك في حكم نفسه بل هو امّا أن يحكم بأنّ المولى له حقّ الطاعة في مورد الشكّ وبذلك يثبت أصل الاحتياط العقلي أو يحكم بعدم ثبوت حقّ الطاعة للمولى في مورد الشكّ وبذلك يثبت أصل البراءة العقلي ولا يمكن أن نفترض شقا ثالثا يتردّد فيه العقل ولا يحكم بشيء.

3 - انّ الاصول العقلية يمكن حصرها في أصلين لا ثالث لهما وهما أصل البراءة العقلي وأصل الاحتياط العقلي فإنّ العقل إن حكم بشمول حقّ الطاعة لمورد الشكّ ثبت الاحتياط العقلي وأنّ حكم بعدم شموله ثبتت البراءة العقلية ولا

ص: 25

يوجد شق ثالث.

ولربّ قائل يقول انّه يوجد أصل ثالث عقلي وهو أصالة التخيير عند الدوران بين المحذورين ، فإنّ صلاة الجمعة لو دار أمرها بين الوجوب والحرمة فالعقل يحكم بالتخيير بين الفعل والترك.

والجواب : أنّ التخيير بين الفعل والترك ليس أصلا عقليا ثالثا إذ في المقصود منه - التخيير - احتمالان : -

أ - فقد يقصد به وجوب الفعل أو الترك ، وبتعبير آخر : وجوب الجامع بين الفعل والترك المعبّر عنه بعنوان أحدهما فالذمّة تكون مشغولة بأحد الأمرين : الفعل أو الترك.

والاحتمال المذكور باطل لأنّ الجامع بين الفعل والترك حاصل من المكلّف قهرا إذ لا يخلو حاله من فعل صلاة الجمعة أو تركها ومعه يكون الالزام بأحد الأمرين - الفعل والترك - إلزاما بما هو حاصل وأمرا بتحصيل ما هو حاصل.

ب - وقد يقصد منه نفي التكليف بالفعل والترك وعدم اشتغال الذمّة بأحدهما ، وبتعبير آخر نفي وجوب الجامع بين الفعل والترك.

وهذا وإن كان معقولا غير انّ التخيير بناء على هذا الاحتمال يكون راجعا إلى أصل البراءة ، أي براءة ذمّة المكلّف وعدم اشتغالها لا بالفعل ولا بالترك ولا يكون أصلا ثالثا مستقلا في مقابل أصل البراءة وأصل الاحتياط بل هو عين أصل البراءة (1).

ص: 26


1- وبهذا يتّضح انّ عدّ الأحكام خمسة محل تأمّل بل هي أربعة فإنّه يمكن القول بعدم كون الإباحة حكما شرعيا مجعولا ، فإباحة شرب الماء ماذا يقصد منها؟ فهل المقصود الزام المكلّف بأنّه أمّا يشرب أو لا يشرب؟ وهو باطل لأنّه تكليف بما هو حاصل إذ صدور الفعل أو الترك من المكلّف أمر قهري بلا حاجة إلى تكليف بذلك. أو انّ المقصود نفي الالزام بالفعل والترك وإنّ المكلّف لا يجب عليه فعل الشرب ولا تركه ، وهو وإن كان معقولا لكنّه لا يحتاج إلى جعل إذ مجرّد عدم جعل الوجوب للفعل ولا للترك يكفي في تحقّق الإباحة بلا حاجة إلى جعل وتشريع. هذا كلّه لو كانت الإباحة لا اقتضائية. وأمّا الاقتضائية فيمكن عدّها حكما مجعولا بلا ورود ما سبق عليها.

وباختصار : أن الأصل العقلي ينحصر في البراءة والاحتياط بخلافه في الأصل الشرعي فيمكن افتراض أصل ثالث كالاستصحاب مثلا.

4 - ان الاصول الشرعية وإن كان لا تعارض فيما بينها بلحاظ عالم الثبوت إلاّ أنّه يمكن وقوع التعارض فيما بينها بلحاظ عالم الإثبات ، فالشارع المقدس حينما شرّع الاستصحاب وأصل البراءة لا بدّ وأن لا يكون بينهما في مقام الجعل والتشريع - وعبّر في الكتاب عن عالم الجعل بمقام الثبوت - تعارض وتناف فإنّ الشارع لا يعقل أن يشرّع حكمين متعارضين ولكن من المعقول وقوع التعارض بينهما في مقام الإثبات أي بلحاظ لسان الدليل ، كما لو فرض الشكّ في وجوب الجمعة زمن الغيبة فإنّ مقتضى أدلّة البراءة عدم ثبوته لأنّ الوجوب زمن الغيبة ما دام مشكوكا فهو موضوع عن المكلّفين بمقتضى قوله صلی اللّه علیه و آله : « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » بلا فرق في ذلك بين أن يكون الوجوب متيقنا في الزمان السابق أو لا بينما مقتضى الاستصحاب ثبوته لأنّه - الوجوب - كان ثابتا زمن الحضور وبالاستصحاب يثبت بقاءه زمن الغيبة أيضا.

ص: 27

هذا بالنسبة إلى الاصول الشرعية. وقد اتّضح انّه وإن لم يكن بينها تعارض في مقام الثبوت إلاّ أنّه يمكن وقوعه بينها في مقام الإثبات.

وهذا بخلافه في الاصول العقلية فإنّه لا تعارض بينها لا في مقام الثبوت ولا في مقام الإثبات.

أمّا أنّه لا تعارض بينها في مقام الثبوت فلأنّ العقل لا يمكن أن يحكم بحكمين متنافيين.

وأمّا أنّه لا تعارض بينها في مقام الاثبات فلأنّ مقام الإثبات في الأحكام العقلية هو عين مقام الثبوت ؛ إذ مقام الإثبات فيها ليس هو إلاّ عبارة عن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان مثلا ومن الواضح أنّ حكم العقل هذا هو نفس مقام الثبوت وليس شيئا آخر يغايره ، وما دام هو نفس مقام الثبوت فلا يمكن أن يقع التعارض لأنّ الأحكام العقلية لا تعارض فيما بينها في مقام الثبوت.

وهذا كلّه بخلافه في الاصول الشرعية فإنّ مقام الثبوت فيها يغاير مقام الإثبات فمقام الثبوت عبارة عن عالم الجعل والتشريع بينما مقام الإثبات هو عبارة عن لسان الروايات ، وبالإمكان وقوع التعارض في لسان الروايات.

5 - لا يمكن وقوع التعارض بين الاصول الشرعية والاصول العقلية ؛ لأنّ مضمون الأصل العقلي إذا كان موافقا لمضمون الأصل الشرعي - كما في أصل البراءة العقلي وأصل البراءة الشرعي (1) فإنّ مضمون كل واحد منهما هو البراءة -

ص: 28


1- إذا كان مستند أصل البراءة قاعدة قبح العقاب سمّي بأصل البراءة العقلي ، وإذا كان مستنده مثل حديث « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » سمّي بأصل البراءة النقلي أو الشرعي.

فعدم التعارض بينهما واضح. وإذا كان مضمونهما مختلفا مثل حكم العقل بمنجزية احتمال التكليف على رأي السيد الشهيد مع حكم الشرع بالبراءة بقوله صلی اللّه علیه و آله : « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » فلأنّ حكم العقل بمنجزية الاحتمال أمّا أن يفترض كونه معلّقا على عدم حكم الشارع بالبراءة أو يفترض عدم كونه معلّقا على ذلك؟ فإن كان معلّقا - كما هو الواقع - بمعنى أنّ العقل يحكم بأنّ احتمال ثبوت الحرمة لشرب التتن منجز وموجب للاحتياط فيما إذا لم يحكم الشارع بالبراءة ولم يرخص في التدخين فلازم ذلك أنّه متى ما رخّص الشارع فلا يبقى العقل حاكما بمنجزية الاحتمال حتّى تقع المعارضة بين حكم العقل وحكم الشرع بالبراءة الشرعية.

وإن لم يكن معلّقا بل منجزا - كحكم العقل بمنجزية العلم الإجمالي بنحو يكون علّة تامّة لوجوب الاحتياط بحيث لا يمكن الترخيص في ترك الاحتياط (1) - فترخيص الشارع على خلافه لا يكون ممكنا أي أنّ الأصل العملي الذي يقول رفع عن امّتي ما لا يعلمون لا يمكن أن يشمل أطراف العلم الإجمالي ويختص بالشبهة البدوية ، ومع عدم ترخيص الشارع على خلاف الحكم العقلي يكون الحكم العقلي ثابتا بلا ترخيص شرعي على خلافه حتّى تقع بينهما معارضة.

قوله ص 13 س 7 : هي ما كنّا نقصده آنفا : أي بقوله : « الأصل العملي

ص: 29


1- كما هو رأي الشيخ العراقي حيث يختار قدس سره انّ العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية بحيث لا يمكن الترخيص الشرعي بخلافه.

حكم ظاهري لوحظت فيه أهمية المحتمل عند التزاحم بين ... » فإنّ المقصود بذلك هو الأصل الشرعي.

قوله ص 13 س 9 : إثباتا ونفيا : أي توسعة وتضييقا.

قوله ص 13 س 11 : الذي يستقل به العقل : كلمة « الذي » صفة لحقّ الطاعة.

قوله ص 13 س 14 : تحديد : أي تضييق.

قوله ص 13 س 16 : وهكذا : أي في بقية الأحكام العقلية.

قوله ص 14 س 3 : مدركات العقل العملي : فإنّ حكم العقل بوجوب تفريغ الذمّة على سبيل اليقين هو حكم يدركه العقل ، وباعتبار إدراك العقل له يسمّى بالمدرك.

وإنّما جعلت الاصول العقلية مدركات للعقل العملي دون النظري من جهة أنّ مضامين الاصول العقلية ترتبط بجانب العمل وكل حكم يرتبط بحيثيّة العمل يسمّى العقل الحاكم به بالعقل العملي.

قوله ص 14 س 8 : بوجه : أي لا بدّ من فرضه بوجه من الوجوه ، فأمّا أن يفرض حكمه بالبراءة أو بالاشتغال ولا يمكن خلو مورد الشكّ من أحد هذين الحكمين العقليين.

قوله ص 14 س 10 : قد ترد : التعبير بقد يدلّ على تضعيف هذه الخصوصية الثالثة أو التردد فيها ، ولا نعرف وجه ذلك.

قوله ص 14 س 14 : وقد يعترض : التعبير بقد يدل على التضعيف أو الترديد ، ولا نعرف وجهه.

ص: 30

قوله ص 15 س 11 : بحسب لسان أدلتها : المناسب إضافة كلمة « أي » بأن يقال هكذا : فيعقل التعارض بينها إثباتا ، أي بحسب لسان أدلتها.

قوله ص 15 س 17 : كان هذا واردا : أي كان الأصل الشرعي رافعا لموضوع الأصل العقلي فإنّ الرافع للموضوع رفعا حقيقيا يعبّر عنه بالوارد ، وهنا كذلك فإنّ الأصل العقلي بعد ما أخذ في موضوعه عدم الحكم الشرعي على خلافه فالحكم الشرعي يكون رافعا حقيقة لموضوع الأصل العقلي.

قوله ص 16 س 1 : وإلاّ : أي وإن لم يكن الحكم العقلي معلّقا على عدم الحكم الشرعي بخلافه بل كان منجزا.

ص: 31

ص: 32

الأصول التنزيلية والمحرزة

اشارة

قوله ص 16 س 2 : الاصول العملية الشرعية ... : هذا هو البحث الثالث من الأبحاث الأربعة التي يتكفّلها التمهيد. وحاصله أنّ الأصل الشرعي على ثلاثة أقسام : أصل محرز ، أصل تنزيلي ، أصل بحت.

توضيح ذلك : أنّ الأصل الشرعي تارة يفترض أنّه ينشأ التنجيز والتعذير بدون نظر إلى الأحكام الواقعية أبدا حتّى ينزل المشكوك منزلة الواقع أو ينزل احتمال البقاء منزلة اليقين بالبقاء. ومثال ذلك : أصل البراءة فإنّ مفاد حديث « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » إثبات العذرية من ناحية التكليف الواقعي المشكوك بدون نظر إلى تنزيل شيء منزلة الواقع. ومثل هذا يسمّى بالأصل العملي بدون إضافة قيد آخر له.

وهناك حالة اخرى يفترض فيها عناية التنزيل. وعناية التنزيل لها شكلان : -

الأصل التنزيلي

1 - أن ينزل المشكوك منزلة الواقع. ومثال ذلك : أصالة الحلّ فإنّ مفاد « كل شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام » إنشاء العذرية من ناحية الحرمة الواقعية المحتملة ولكن بلسان تنزيل الشيء الذي يشكّ في حلّيته منزلة الحلال

ص: 33

الواقعي. هكذا فهم الميرزا ، ومن هنا سمّى قدس سره مثل أصل الحل بالأصل التنزيلي ؛ لأنّ مفاده تنزيل المشكوك منزلة الواقع.

وبعض الأعلام - كالآخوند وتلميذه الأصفهاني (1) - أنكر ذلك وقال : انّ مثل أصل الحلّ لا يستفاد منه تنزيل مشكوك الحلّية منزلة الحلال الواقع بل جعل حلّية ظاهرية مستقلة مغايرة للحلّية الواقعية بدون تنزيل شيء منزلة شيء آخر.

ثمرة الأصل التنزيلي

وقد تسأل عن ثمرة كون الأصل تنزيليا. انّها تظهر في موارد نذكر منها المورد التالي : ورد في الحديث ما مضمونه إنّ كل حيوان يحلّ أكل لحمه شرعا فبوله طاهر (2) فإذا فرض الشكّ في انّ الأرنب مثلا حلال اللحم حتّى يكون بوله طاهرا فقد يتمسّك بأصل الحل لإثبات حلّية لحمه ومن ثم لتثبت طهارة بوله. ان هذه الطريقة صحيحة على رأي الميرزا القائل بأنّ أصل الحلّ أصل تنزيلي فانّه بناء عليه ينزل لحم الأرنب منزلة الحلال الواقعي ومعه فثبت له آثار الحلال الواقعي التي منها طهارة بوله ، وهذا بخلافه على رأي الآخوند فإنّه لا يمكن إثبات طهارة البول لأنّها مترتّبة على كون الحيوان حلال اللحم حلّية واقعية لا حلّية ظاهرية - لأنّ ظاهر حلال اللحم الوارد في الحديث هو الحلال الواقعي ؛ إذ

ص: 34


1- تقدّم هذا الرأي في القسم الأوّل من الحلقة الثالثة ص 39.
2- كما في حديث ابن سنان عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « اغسل ثوبك من بول كل ما لا يؤكل لحمه » - الوسائل : ج 2 الباب 6 من أبواب النجاسات حديث 3.

كل عنوان يؤخذ في موضوع الحكم ظاهر في انّه بوجوده الواقعي مأخوذ في الموضوع - ومن الواضح انّ أصل الحلّ يثبت على رأي الآخوند حلّية ظاهرية بدون تنزيل الحيوان منزلة الحلال الواقعي لتثبت بذلك طهارة بوله.

الأصل المحرز

2 - أن ينزل احتمال البقاء (1) - أو نفس الاستصحاب مثلا - منزلة اليقين بالبقاء ، كما هو الحال في الاستصحاب على رأي الميرزا والسيد الخوئي حيث ذهبا إلى أنّ المجعول فيه هو الطريقية ، أي ان احتمال البقاء نزل منزلة اليقين بالبقاء. وبعد ان اتّفقا على ذلك اختلفا في انّ احتمال البقاء حينما نزل منزلة اليقين هل نزل منزلة اليقين من حيث خصوصية الجري العملي أو من حيث خصوصية الكاشفية (2) ، فالميرزا اختار الأوّل أي أنّ احتمال البقاء نزل منزلة اليقين من حيث الجري العملي فحينما يقال ابن على البقاء فالمقصود ابن على بقاء الحالة السابقة

ص: 35


1- ذكر احتمال البقاء الذي هو مختص بباب الاستصحاب من باب المثال لا لخصوصية له.
2- فإنّ لليقين أربع خصوصيات على ما ذكر الميرزا : أ _ كونه كاشفا عن الواقع. ب _ الجري العملي على طبقه. ج _ كونه منجزا ومعذرا. د _ كونه صفة نفسية تتّسم بالثبات والاستقرار وعدم التزلزل بخلاف صفة الشكّ. والصفة الاولى هي المجعولة في الامارة ، والثانية هي المجعولة في الأصل المحرز ، والثالثة هي المجعولة في الأصل الذي لا يكون تنزيليا ولا محرزا ، وأمّا الرابعة فهي من الصفات التكوينية المختصّة باليقين ولا يمكن إثباتها لغيره.

من حيث الجري العملي ، أي فليكن موقفك العملي كأنّك متيقّن بالبقاء ، ففي حالة اليقين بطهارة ثوبك إذا كنت تصلي فيه فصل فيه عند الشكّ أيضا ، وأمّا السيد الخوئي فقد اختار الثاني ، أي انّ احتمال البقاء نزل منزلة اليقين من حيث الكاشفية. وبناء عليه لا يبقى فرق بين الامارة والاستصحاب ؛ إذ المجعول في كليهما هو الكاشفية ، ومن هنا كان الاستصحاب لدى السيد الخوئي امارة كسائر الامارات.

ثمرة الأصل المحرز

وقد تسأل عن ثمرة كون الأصل محرزا. أنّها تظهر فيما لو تعارض أصل محرز مع أصل غير محرز.

ومثال ذلك : الشكّ في وجوب صلاة الجمعة زمن الغيبة ، فإنّ مقتضى أصل البراءة نفي الوجوب بينما مقتضى الاستصحاب ثبوته ، وفي مثل ذلك يقدّم الاستصحاب لأنّه أصل محرز فإذا جرى صرنا وكأنّنا عالمون بثبوت الوجوب لصلاة الجمعة ومع العلم بالوجوب ينتفي الشكّ الذي هو موضوع أصل البراءة ، وهذا بخلافه فيما لو أردنا أن نجري أصل البراءة أوّلا فإنّه بجريانه لا نصير عالمين بالبراءة ؛ إذ هو ليس أصلا محرزا حتّى نصير بسببه عالمين بالبراءة.

الأصل المحرز عند السيد الشهيد

وبعد الفراغ من توضيح المقصود من الأصل المحرز والتنزيلي على رأي الميرزا نأخذ بتوضيح الأصل المحرز على رأي السيد الشهيد.

ص: 36

تقدّم سابقا أنّ الحكم الظاهري إذا كان ناشئا من أهمية الاحتمال والكشف فهو امارة ، وإذا كان ناشئا من أهمية المحتمل فهو أصل عملي. وهنا نقول أنّ الحكم الظاهري إذا كان ناشئا من أهمية الاحتمال والمحتمل معا فهو ما نصطلح عليه بالأصل المحرز ، فالأصل المحرز إذن هو الحكم الظاهري الناشئ من أهمية الاحتمال والمحتمل معا. ومثاله : قاعدة الفراغ ، فإنّ الشارع حكم على المكلّف - فيما إذا شكّ بعد صلاته في تحقّق الوضوء منه - بصحّة الصلاة لأنّ الشكّ ما دام قد حدث بعد الفراغ من الصلاة فلا يعتنى به. وحجّية قاعدة الفراغ نشأت من مجموع أمرين : -

أ - قوة الكشف باعتبار أنّ المكلّف إذا فرغ من العمل فنفس فراغه كاشف عن الإتيان بجميع الأجزاء والشرائط التي أحدها الوضوء ؛ إذ المكلّف لا يفرغ عادة من العمل إلاّ بعد أن يأتي بجميع أجزاءه وشرائطه.

ب - قوة المنكشف بمعنى أنّ نفس الفراغ من العمل له مدخلية في عدم الاعتناء بالشكّ ، فإذا فرض أنّ المكلّف لم يفرغ من الصلاة وشكّ في الوضوء لم يحكم بتحققه وإن كان احتمال تحققه قويا.

ومن أجل أنّ حجّية قاعدة الفراغ تنشأ من قوّة الكشف وقوة المنكشف معا يتّضح أنّ قوة الكشف وحدها لا تكفي ، ولذا إذا فرغ المكلّف من صلاته وشكّ في أنّه توضأ أو لا لزمه الوضوء بالنسبة إلى الصلاة الثانية - وإن كان بالنسبة إلى الصلاة الاولى يحكم بحصول الوضوء لها - لأنّ الفراغ بالنسبة إليها غير متحقّق وإنّما هو متحقّق بالنسبة إلى الصلاة الاولى.

إذن قوة الكشف وحدها لا تكفي وهكذا قوة المنكشف وحدها لا تكفي ،

ص: 37

فلو فرض أنّ المكلّف فرغ من عمله ولكن لم تكن هناك قوّة في الكشف بأن فرض انّه حينما دخل في الصلاة كان غافلا بالمرّة وفجأة التفت إلى نفسه وهو يقول السلام عليكم فلا يكون فراغه كاشفا عن إتيانه بالوضوء.

ومن هنا اختار السيد الخوئي والشهيد عدم جريان قاعدة الفراغ في الموارد التي لا يكون فيها قوّة كشف كما لو كان المكلّف قاطعا بغفلته حين العمل وإنّما تجري في الموارد التي فيها قوّة كشف ، بأن يفرض أنّه كان محتملا للالتفات وعدم الغفلة حين الاتيان بالعمل.

وبعد أن اتّضح معنى الأصل المحرز وانّه عبارة عن مثل قاعدة الفراغ قد تسأل : هل الأصل المحرز حجّة في إثبات اللوازم غير الشرعية أو لا؟ كلا انّه ليس حجّة في ذلك لأنّ حجّية الأصل المحرز لم تنشأ من قوّة الكشف فقط حتّى يقال بأنّ قوّة الكشف عن شيء وعن لوازمه بدرجة واحدة بل عن قوة الكشف المنضمّ لها قوّة المنكشف ، ومن الواضح أنّ الدليل إنّما يصير حجّة في إثبات اللوازم غير الشرعية فيما إذا كانت حجّيته ناشئة من قوّة الكشف فقط.

ومن خلال هذا تتّضح النكتة في أنّه لماذا لا يثبت بقاعدة الفراغ عدم الحاجة إلى الوضوء بالنسبة إلى الصلاة الثانية؟ انّ النكتة هي انّ قاعدة الفراغ لا تثبت بها اللوازم غير الشرعية لأنّ حجّيتها لم تنشأ من قوة الكشف فقط ، ومن الجلي ان الإتيان بالوضوء ليس لازما شرعيا للفراغ من الصلاة ؛ إذ لا توجد آية ولا رواية تقول انّ من فرغ من صلاته فحتما قد أتى بالوضوء. وبكلمة اخرى : الوضوء وإن كان حكما شرعيا إلاّ أنّه حكم شرعي بمعنى أنّه لا يجوز الدخول في الصلاة بلا وضوء وليس حكما شرعيا بمعنى أنّ من فرغ من صلاته حكم عليه

ص: 38

بالإتيان بالوضوء.

وقد تسأل أنّ قوّة الكشف التي اعتبرت من أجلها قاعدة الفراغ إذا لم تنفع في إثبات اللوازم غير الشرعية - حيث انّ حجّية قاعدة الفراغ لم تنشأ من قوّة الكشف فقط - فما الفائدة منها إذن؟ ان فائدة اعتبار قوّة الكشف هي انّه في الموارد التي لا يكون فيها قوّة كشف لا تجري فيها قاعدة الفراغ ، كما لو فرض انّ المكلّف كان قاطعا بغفلته غفلة تامّة حين الإتيان بالصلاة كما أشرنا إلى ذلك سابقا.

لا أصل تنزيلي عند السيد الشهيد

وقد تقول إنّا عرفنا الأصل المحرز في نظر السيد الشهيد ولكن ما هو الأصل التنزيلي عنده؟ لا يوجد أصل تنزيلي في نظره قدس سره يغاير الأصل المحرز بل الأصل التنزيلي والمحرز واحد عنده وإنّما يتغايران عند الميرزا كما تقدّم ذلك في الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ص 35.

قوله ص 16 س 3 : بلسان إنشاء حكم تكليفي ترخيصي أو إلزامي : لعلّ التعبير « بلسان إنشاء الوظيفة العملية » أوضح كما عبّر بذلك ص 11 ، والمقصود واحد. ثمّ إنّ المراد من الحكم التكليفي الترخيصي المعذرية ومن الحكم التكليفي الالزامي المنجزية. كما وأنّ المقصود من الوظيفة العملية هو ذلك ، أي المنجزية والمعذرية.

قوله ص 16 س 3 : بوجه : أي أبدا.

ص: 39

قوله : ص 16 س 5 : بحتة : أي خالصة من التنزيل والإحراز.

قوله ص 16 س 7 : بوجهين : ففي الوجه الأوّل يكون الأصل تنزيليا ، وفي الوجه الثاني يكون محرزا.

قوله ص 16 س 8 : الحكم الظاهري : وهو الحلّية الظاهرية مثلا ، كما وأنّ المراد من الحكم الواقعي هو الحلال الواقعي.

قوله ص 17 س 1 : مدفوعة : الصواب : مدفوعه. والمقصود من المدفوع العذرة والبول.

قوله ص 17 س 2 : فكذلك حكمها : أي طهارة المدفوع تكون ثابتة أيضا بالتنزيل.

قوله ص 17 س 3 : ننقح : أي نثبت.

قوله ص 17 س 4 : وهكذا : أي في أمثلة اخرى.

قوله ص 17 س 10 : فلم يبق ... : وقد تقول إذا كان السيد الخوئي يرى أنّ الاستصحاب امارة كبقيّة الامارات فلماذا يقدّم خبر الثقة مثلا على الاستصحاب حين اجتماعهما؟ ان النكتة تقدّمت ص 12 من الحلقة كما وتأتي أيضا ص 362.

قوله : ص 18 س 3 : وإلاّ فلا : أي وإن لم ينضمّ إليه قوّة الاحتمال فلا يكون أصلا محرزا بل أصلا بحتا.

قوله ص 18 س 5 : في مثبتاتها : أي في اللوازم غير الشرعية.

قوله ص 18 س 5 : إلاّ أنّ ... : أي أنّ قوّة الكشف والاحتمال في قاعدة الفراغ إذا لم تنفع في إثبات اللوازم غير الشرعية ففي أي مجال تنفع إذن؟

قوله ص 18 س 8 : العلم بعدم التذكر : أي العلم بالغفلة التامّة حين العمل.

ص: 40

مورد جريان الأصول العملية

اشارة

قوله ص 18 س 11 : لا شكّ في جريان ... : هذا إشارة إلى البحث الرابع من الأبحاث الأربعة التي يتكفّلها التمهيد. وحاصله : انّ الشكّ في الحكم الواقعي له شكلان فتارة يشكّ المكلّف في ثبوت الحرمة لشرب التتن واقعا من دون أن يحتمل وجود حجّة شرعية تدلّ على تحريمه ، واخرى يشكّ في حرمته واقعا ويحتمل وجود حجّة شرعية - كخبر الثقة مثلا - تدل على تحريمه (1).

أمّا في الشكل الأوّل فلا إشكال في أنّه تجري البراءة عن احتمال الحرمة الواقعية ، وإنّما الإشكال في الشكل الثاني حيث قد تسأل : هل نحتاج إلى إجراء البراءة مرّتين : مرّة عن الحرمة الواقعية المحتملة ومرّة اخرى عن الحجّية المشكوكة (2).

وبكلمة اخرى : هل البراءة يختص إجراؤها بالأحكام الواقعية أو تجري

ص: 41


1- الشكّ في وجود الحجّة الشرعية له نحوان ، فتارة يشكّ في أصل وجود خبر يدلّ على حرمة التتن ، واخرى يعلم بوجود الخبر ولكن يشكّ في حجّيته. والنحو الأوّل يسمّى بالشكّ في وجود الحجّة بنحو الشبهة الموضوعية ، والنحو الثاني يسمّى بالشكّ في وجود الحجّة بنحو الشبهة الحكمية.
2- وتسمّى الحجّية بالحكم الظاهري ، فإنّ حجّية الامارة حكم ظاهري ، كما وأنّ حجّية الأصل حكم ظاهري أيضا.

أيضا لنفي الأحكام الظاهرية؟

قد يقال بالحاجة إلى إجراء برائتين لأنّه يوجد عندنا احتمالان يصلح كل منهما أن يكون منجزا وهما : -

أ - احتمال الحرمة الواقعية. ويمكن تسميته بالاحتمال البسيط.

ب - احتمال الحجّية المشكوكة. ويمكن تسميته بالاحتمال المركب. والوجه في كون هذا الاحتمال صالحا للمنجزية هو أنّ الحجّية حكم ظاهري ، والحكم الظاهري ينشأ كما تقدّم من أهمية ، الملاك فكل حكم ظاهري يبرز اهتمام المولى بملاك الحكم الواقعي ، واحتمال الحجّية على هذا هو بعبارة اخرى احتمال لإبراز المولى اهتمامه بملاك الحكم الواقعي ، ومن الواضح انّ احتمال إبراز المولى لاهتمامه بالملاك احتمال صالح للمنجزية فلا بدّ من نفيه ببراءة اخرى.

هذا وقد يعترض على إجراء براءة ثانية عن الحجّية المشكوكة بأنّه تقدّم في الجزء القسم من الحلقة الثالثة ص 36 ان الأحكام الظاهرية متنافية بوجوداتها الواقعية ، فالمولى لا يمكن أن يشرّع البراءة عن شرب التتن وفي نفس الوقت يشرّع الاحتياط فتشريع ، مثل هذين الحكمين غير ممكن حتّى ولو لم يصلا إلى المكلّف لأنّ تشريع البراءة معناه عدم اهتمام المولى بالمفسدة الواقعية المحتملة في شرب التتن بينما تشريع الاحتياط معناه اهتمام المولى بالمفسدة الواقعية المحتملة ، ومن الواضح أنّه لا يمكن في وقت واحد ثبوت اهتمام المولى بالمفسدة وعدم اهتمامه بها.

وباتّضاح هذا نقول في مقامنا : انّه لا يمكن إجراء براءة ثانية عن الحجّية المشكوكة ؛ إذ من المحتمل أن تكون الحجّية ثابتة واقعا ، وإذا كانت ثابتة واقعا ،

ص: 42

والمفروض إنّنا قد أجرينا البراءة عنها فيلزم اجتماع الحجّية والبراءة معا وهو غير ممكن لأنّ الحجّية تكشف عن اهتمام المولى بالمفسدة المحتملة في شرب التتن بينما البراءة تكشف عن عدم الاهتمام بتلك المفسدة فيلزم اجتماع الاهتمام وعدمه في وقت واحد وهو مستحيل.

وقد تقول : انّ ثبوت الحجّية ليس أمرا جزميا حتّى يلزم اجتماع البراءة والحجّية في وقت واحد ، بل هو محتمل ، ومعه فلا يقطع بثبوت البراءة والحجّية معا في وقت واحد حتّى يلزم المحذور المذكور.

والجواب : انّ ثبوت الحجّية ما دام محتملا فلازمه احتمال اجتماع المتنافيين ، ومن الواضح انّه كما لا يمكن القطع باجتماع المتنافيين كذلك لا يمكن احتمال اجتماعهما.

والخلاصة : انّ إجراء البراءة الثانية عن الحجّية قد يعترض عليه بأنّ لازمه احتمال اجتماع المتنافيين فلا يجوز.

ويمكن الجواب بأنّ البراءة الثانية - التي نجريها لنفي الحجّية المشكوكة - ليست في عرض الحجّية المشكوكة بل هي في طولها ؛ إذ لا بدّ وأن نفترض الشكّ في الحجّية أوّلا ثمّ بعد ذلك نجري البراءة الثانية عنها ، وما دامت البراءة الثانية في طول الحجّية المشكوكة فالنسبة بينهما إذن هي نفس النسبة بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي ، فكما انّه في الموارد الاخرى التي يوجد فيها حكم ظاهري وحكم واقعي يكون الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي - إذ لا بدّ من افتراض الشكّ في الحكم الواقعي أوّلا ثمّ بعد ذلك يأتي دور الحكم الظاهري - كذلك في مقامنا الذي يوجد فيه حكمان ظاهريان يكون أحد الحكمين الظاهريين

ص: 43

في طول الحكم الظاهري الآخر ، فالبراءة الثانية التي هي حكم ظاهري في طول الحجّية المشكوكة التي هي حكم ظاهري ، وكما أنّ تلك الطولية بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي كافية في رفع مشكلة اجتماع الحكم الظاهري والحكم والواقعي (1) للبيانات المتقدّمة هناك كذلك الطولية بين البراءة الثانية والحجّية المشكوكة ترفع المشكلة هنا أيضا (2).

ثمّ أضاف السيّد الشهيد قائلا : انّه وإن تقدّم في القسم الأوّل ص 36 انّ الأحكام الظاهرية متنافية بوجوداتها الواقعية ولكن مقصودنا من ذلك هو خصوص الأحكام الظاهرية التي تكون في عرض واحد - أي التي يكون موضوعها واحدا كالشكّ في حرمة التتن فانّه شكّ واحد لا يمكن ثبوت البراءة

ص: 44


1- لعلّ أوّل من أثار مشكلة اجتماع الحكم الظاهري والحكم الواقعي هو ابن قبه. وحاصلها أنّه لا يمكن أن يجعل الشارع المقدس الأصل أو الامارة حجّة لأنّه إذا قامت الامارة على وجوب صلاة الجمعة مثلا فإن كانت صلاة الجمعة واجبة واقعا أيضا يلزم من ذلك اجتماع المثلين وهو مستحيل ، وإن كانت غير واجبة واقعا بأن كانت محرمة مثلا يلزم من ذلك اجتماع المتنافيين ، وهو مستحيل أيضا. وقد تقدّمت الإشارة لذلك في القسم الأوّل من الحلقة الثالثة ص ٢٣.
2- فعلى طريقة السيد الشهيد في الجمع بين الأحكام الظاهرية والأحكام الواقعية التي حصيلتها أنّ الحكم الظاهري حكم ناشئ من تقديم الملاك الأهم يمكن أن يقال انّه عند قيام خبر الثقة على حرمة شرب التتن مثلا يحكم الشارع بحرمته من ناحية قوّة كشف الخبر ، وعند الشكّ في حجّية خبر الثقة يحكم الشارع على شرب التتن بالحلّية من ناحية قوّة المحتمل ؛ إذ المفروض وجود شكّين : شكّ في التكليف الواقعي - الذي هو موضوع حجّية الامارة - وشكّ في حجّية الامارة - الذي هو موضوع البراءة الثانية - فمن الممكن أن يحكم الشارع عند الشكّ الأوّل بالحرمة على شرب التتن لقوّة الكشف ويحكم عند الشكّ الثاني بالحلّية لقوة المحتمل.

عنه والاحتياط في وقت واحد لأنّ ثبوت البراءة يكشف عن عدم اهتمام المولى بالمفسدة المحتملة بينما ثبوت الاحتياط يكشف عن اهتمامه بالمفسدة المحتملة فيلزم اجتماع المتنافيين - ولا يعمّ الأحكام الظاهرية الطولية ، أي التي يكون الموضوع فيها مختلفا ، وهذا كما هو الحال في مقامنا فإن البراءة الثانية موضوعها الشكّ في الحجّية بينما الحجّية المشكوكة موضوعها الشكّ في الحرمة الواقعية.

وبكلمة اخرى : يوجد في مقامنا شكّان ، وهما الشكّ في الحجّية والشكّ في الحرمة الواقعية ، والشكّ الأوّل ثبت له حكم ظاهري وهو البراءة الثانية والشكّ الثاني ثبت له حكم ظاهري آخر وهو الحجّية المشكوكة ، وليس هناك شكّ واحد ثبت له حكمان ظاهريان ليلزم المحذور.

هذا وقد يعترض على إجراء براءة ثانية بأنّها لغو ؛ إذ عند إجرائها نسأل عن البراءة الاولى هل تجرى أيضا أو لا؟ فإنّ اجريت البراءة الاولى - أي البراءة عن الحكم الواقعي - كان اجراؤها كافيا ومغنيا عن إجراء البراءة الثانية ؛ إذ بإجراء البراءة الاولى نصبح في أمان من احتمال العقاب فإنّ احتمال العقاب يتولّد من احتمال التكليف الواقعي ، فإذا نفيناه - احتمال التكليف الواقعي - بالبراءة ينتفي احتمال العقاب بالتبع ويصير إجراء البراءة الثانية لغوا. هذا لو اجريت البراءة الاولى قبل إجراء البراءة الثانية.

وأمّا إذا لم تجر الاولى قبل الثانية فلا يكون إجراء الثانية نافعا ؛ إذ بإجراء الثانية لا ينتفي احتمال التكليف الواقعي بل يبقى ثابتا ومع بقاءه نصير بحاجة إلى إجراء الاولى لنفيه ومع إجراء الاولى نكون في غنى من إجراء الثانية على ما تقدّم.

ص: 45

والجواب عن هذا الاعتراض : انّ احتمال العقوبة لا ينشأ فقط من احتمال التكليف الواقعي بل ينشأ أيضا من احتمال الحجّية المشكوكة فإنّ احتمال الحجّية المشكوكة يرجع إلى احتمال إبراز المولى اهتمامه بالتكليف الواقعي ، ومن الواضح انّ احتمال اهتمام المولى بالتكليف اهتماما مبرزا احتمال صالح للتنجيز واستحقاق العقوبة عليه ، وعليه فليس الاحتمال الموجب لاحتمال العقوبة هو خصوص الاحتمال الأوّل بل الاحتمال الثاني صالح لذلك أيضا ، ومن هنا نجد بالوجدان أنّه يصحّ للمولى التصريح بمنجزية الاحتمال الأوّل دون الاحتمال الثاني بأن يقول هكذا : إذا احتملت التكليف الواقعى من دون احتمال قيام الحجّة عليه فلا يلزمك الاحتياط من أجله وإذا احتملت قيام الحجّة عليه فيلزمك الاحتياط ، إنّ هذا أمر معقول ، ومعقوليّته تدلّ على أنّ الاحتمال الثاني صالح للمنجزية أيضا وبالتالي لا بدّ من إجراء براءة ثانية لنفيه من دون لزوم محذور اللغوية.

هذا ولكن الصحيح بالرغم من كل ما ذكرناه الاكتفاء بإجراء البراءة الاولى بلا حاجة إلى إجراء الثانية.

ولتوضيح ذلك نذكر البيان التالي المركب من خمس نقاط : -

1 - انّ البراءة الاولى حكم ظاهري ، وهكذا الحجّية المشكوكة (1) ، حكم ظاهري. وهذان الحكمان الظاهريان عرضيان - أي أنّ موضوعهما واحد فموضع البراءة الاولى هو الشكّ في الحكم الواقعي وموضوع الحجّية المشكوكة هو الشكّ في الحكم الواقعي أيضا فإنّه عند الشكّ في الحكم الواقعي يجعل الشارع خبر الثقة

ص: 46


1- عبّرنا بالحجّية المشكوكة ولم نعبّر بالبراءة عن الحجّية المشكوكة فلا بدّ وأن لا يغفل عن ذلك.

مثلا حجّة - وليسا طوليين إذ الطولية ثابتة بين البراءة الثانية وبين الحجّية المشكوكة (1) وأمّا البراءة الاولى مع الحجّية المشكوكة فهما في عرض واحد.

2 - انّ كل حكمين ظاهريين إذا كانا عرضيين فهما متنافيان بوجودهما الواقعي سواء وصلا إلى المكلّف أم لا كما تقدّم ذلك في القسم الأوّل من الحلقة الثالثة ص 36.

3 - انّ الحكمين الظاهريين العرضيين ما داما متنافيين فلازم ذلك حصول التنافي بين البراءة الاولى وبين الحجّية المشكوكة لأنّهما حكمان ظاهريان عرضيان.

4 - انّ لازم المنافاة بين البراءة الاولى وبين الحجّية المشكوكة هو أنّ البراءة الاولى إذا كانت ثابتة فالحجّية المشكوكة تكون منتفية.

5 - انّ البراءة الاولى إذا كانت منافية للحجّية المشكوكة فلازم ذلك أنّ مثل حديث « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » الدال على البراءة الاولى دال على نفي الحجّية المشكوكة.

ومن خلال هذا يتّضح إنّا في غنى من إجراء البراءة الثانية عن الحجّية المشكوكة ؛ إذ حديث رفع عن امّتي يدل بالالتزام على نفي الحجّية المشكوكة ومع انتفائها بحديث الرفع فلا نحتاج إلى إجراء براءة ثانية - لنفيها - وإن كان إجراؤها أمرا ممكنا أيضا إلاّ أنّه لا حاجة إليه.

ص: 47


1- إذ البراءة الثانية مع الحجّية المشكوكة لهما موضوعان مختلفان ، فموضع البراءة الثانية هو الشكّ في الحجّية بينما الحجّية المشكوكة موضوعها الشكّ في التكليف الواقعي.
الاستصحاب في الأحكام الظاهرية

والنتيجة النهائية من كل ما سبق انّ البراءة لا تجري في الأحكام الظاهرية - أي الحجّية المشكوكة - بل تختص بنفي احتمال الأحكام الواقعية.

وقد تسأل هل يمكن أن يجري الاستصحاب في الأحكام الظاهرية أو لا يجري فيها كما لم تجر البراءة فيها؟

والجواب : نعم الاستصحاب يجري في الأحكام الظاهرية ، فلو كانت ظواهر القرآن الكريم مثلا متيقّنة الحجّية زمن الأئمّة علیهم السلام وشكّ في بقائها على الحجّية زماننا هذا من جهة احتمال نسخها - حجّية الظواهر - جرى استصحاب بقائها. وعليه فالاستصحاب يجري في الحجّية وإن كانت البراءة لا تجري لنفيها.

وقد تقول : لماذا لا يجري استصحاب في الحكم الواقعي المدلول لظواهر الكتاب الكريم وبذلك نكون في غنى عن إجراء الاستصحاب في حجّية الظواهر ، فمثلا لو فرض أنّ ظاهر القرآن الكريم يدلّ على وجوب صلاة الجمعة فبإمكاننا الاستغناء عن استصحاب بقاء حجّية الظواهر بإجراء الاستصحاب في نفس وجوب الجمعة.

والجواب : انّ هذا كلام متين ولكن قد يفرض أحيانا أنّ الاستصحاب لا يمكن جريانه في الحكم الواقعي من جهة اختلال بعض أركانه - كما لو قيل بأنّ الاستصحاب لا يجري في الأحكام التكليفية كالوجوب مثلا ويختص جريانه بالأحكام الوضعية التي منها الحجّية - فيتعين إجراؤه في نفس الحجّية.

ص: 48

الاصول العملية الأربعة

اشارة

ص: 49

ص: 50

الوظيفة العملية حالة الشكّ

وبهذا ننهي الحديث عن التمهيد المتكفل للأبحاث الأربعة السابقة ونأخذ بالتحدّث عن الاصول العملية.

انّ مورد جريان الاصول العملية هو الشكّ في التكليف. والشكّ في التكليف تارة لا يكون مسبوقا بحالة سابقة متيقنة واخرى يكون مسبوقا بذلك. فإن كان مسبوقا بذلك فهو مورد الاستصحاب ويأتي البحث عنه مفصّلا ص 205 من الحلقة ، وإن لم يكن مسبوقا بذلك فهو مورد الاصول العملية الثلاثة ، أي التخيير والاحتياط والبراءة. ونتحدّث أوّلا عن الحالة الثانية ، أي التي لم يسبق فيها الشكّ باليقين. وهي تتضمّن الصور التالية : -

1 - حالة الشكّ البدوي ، أي حالة الشكّ في التكليف التي لا تكون مقرونة بالعلم الإجمالي كالشكّ في حرمة شرب التتن. وهذه مورد أصالة البراءة.

2 - حالة الشكّ المقرونة بالعلم الإجمالي بأنّ يعلم بثبوت التكليف ولكن يشكّ في تعلّقه بهذا أو بذاك ، كما لو فرض العلم بثبوت الوجوب يوم الجمعة وشكّ في تعلّقه بصلاة الظهر أو بصلاة الجمعة ، وكما لو علم بوجوب صلاة الصبح مثلا وشكّ في أنّ أجزائها عشرة - بحيث تكون جلسة الاستراحة جزء أيضا - أو تسعة ليس معها جلسة الاستراحة فأصل الوجوب معلوم ولكن لا يعلم تعلّقه بعشرة أو بتسعة. وهذه الحالة - أي حالة الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي - هي

ص: 51

مورد أصالة الاحتياط فإنّ مورد الاحتياط هو العلم بالتكليف والشكّ في تعلّقه بهذا أو بذاك.

ثمّ إنّ حالة العلم الإجمالي بالتكليف لها شقّان ؛ إذ تارة يكون متعلّق التكليف مردّدا بين المتباينين كمثال صلاة الظهر والجمعة فإنّ صلاة الظهر تباين صلاة الجمعة ، واخرى يكون مردّدا بين الأقل والأكثر كمثال الشكّ في أنّ أجزاء الصلاة تسعة أو عشرة.

والشقّ الأوّل ذكر في الكتاب تحت رقم (2) بينما الشقّ الثاني ذكر تحت رقم (4).

3 - حالة دوران الأمر بين الوجوب والحرمة. وهذا مورد أصالة التخيير.

4 - وفي الصورة الرابعة يبحث عن حالة العلم الإجمالي المتعلّق بالأقل والأكثر كما أشرنا إلى ذلك.

ص: 52

الوظيفة حالة الشكّ البدوي

اشارة

وفي الحالة الاولى وهي حالة الشكّ البدوي - أي غير المقرونة بالعلم الإجمالي - يبحث عن أصالة البراءة لأنّ ذلك هو موردها.

والبحث عن ذلك يقع في مرحلتين : -

أ - في تشخيص ما يحكم به العقل بقطع النظر عن الآيات والروايات. ويمكن التعبير عن ذلك بالوظيفة الأولية.

ب - في تشخيص ما تقتضيه الآيات والروايات. ويمكن التعبير عن ذلك بالوظيفة الثانوية.

الوظيفة الأولية حالة الشكّ
اشارة

قوله ص 29 س 1 : كلّما شكّ المكلّف ... : إذا شكّ المكلّف في حرمة شرب التتن مثلا ولم يتمكّن من إثبات حلّيته أو حرمته بواسطة النصوص الشرعية فلا بدّ من تحديد الأصل العملي أو بعبارة اخرى الوظيفة العملية اتّجاه الحرمة المشكوكة فهل يلزم الاحتياط لأجلها أو تجري البراءة؟ وفي هذا المجال نطرح السؤالين التاليين : -

1 - لو قطعنا النظر عن النصوص الشرعية والتفتنا إلى العقل فقط فهل يحكم - العقل - بلزوم الاحتياط أو البراءة. ويمكن التعبير عن الوظيفة التي يحكم

ص: 53

بها العقل بالوظيفة الأوليّة حالة الشكّ.

2 - لو التفتنا إلى النصوص الشرعية فماذا نستفيد منها؟ فهل نستفيد أنّ الوظيفة هي الاحتياط أو هي البراءة. ويمكن التعبير عن الوظيفة التي تحدّدها النصوص الشرعية بالوظيفة الثانوية حالة الشك.

وعليه فالوظيفة الأوليّة حالة الشكّ تعني تحديد ما يحكم به العقل بقطع النظر عن النصوص الشرعية بينما الوظيفة الثانوية تعني تحديد ما تحكم به النصوص الشرعية.

وفي تحديد الوظيفة الأوليّة ، وبكلمة اخرى في تحديد ما يحكم به العقل عند الشكّ في حكم من الأحكام يوجد مسلكان : - مسلك قبح العقاب بلا بيان

أ - والمسلك الأوّل - وهو المشهور بين الاصوليّين (1) - يقول انّ العقل يحكم بقبح العقاب على حرمة شرب التتن مثلا ما دامت الحرمة لا يعلم بها المكلّف.

ص: 54


1- ولكن ذكر الشيخ الأنصاري قدس سره في الرسائل ص 214 من الطبعة القديمة المحشاة بحواشي رحمة اللّه انّ جماعة من قدماء الاصوليين كالشيخ الطوسي والمفيد والسيد المرتضى وابن زهرة أنكروا حكم العقل بهذه القاعدة وقالوا أنّ العقل يحكم بالاحتياط. واستدلّ الشيخ الطوسي على ذلك بأنّ الإقدام على شيء تحتمل حرمته هو إقدام على ما يحتمل فيه المفسدة ، والإقدام على ما يحتمل فيه المفسدة كالاقدام على ما يعلم فيه المفسدة. وقد نقل الآخوند ذلك في الكفاية أيضا فراجع الجزء الثاني ص ١٨٠ من الطبعة المحشاة بحواشي المشكيني.

وعبروا عن هذا الحكم العقلي بقاعدة قبح العقاب بلا بيان (1). وتكاد أن تكون القاعدة المذكورة عندهم من الامور الواضحة التي لا ينبغي التشكيك فيها. وحاول البعض الاستدلال عليها. وننقل في هذا المجال استدلالين للميرزا وآخرين للشيخ الأصفهاني.

الدليل الأوّل

ما ذكره الميرزا من أنّ المقتضي للتحرك هو العلم فالإنسان إذا كان يعلم بوجود الأسد إلى جانبه يتحرّك فارا ، أمّا إذا لم يعلم به فلا يفرّ ، فالمحرّك إذن هو العلم. وعليه فإذا كان المكلّف عالما بحرمة شرب التتن فالمقتضي لتحرّكه نحو الامتثال موجود أمّا إذا لم يعلم بالحرمة فلا مقتضي لتحرّكه نحو الامتثال ، ومع عدم المقتضي للتحرّك نحو الامتثال يكون عقابه على مخالفة الحرمة التي لا يعلم بها عقابا على ما لا مقتضي للتحرك عنه وهو قبيح.

وقد تقدّم في الحلقة الثانية ص 315 الجواب عن البيان المذكور وأن كون المقتضي للتحرّك خصوص العلم أول الكلام وعين المتنازع فيه إذ كون المقتضي للتحرّك هو خصوص العلم فرع أن نقول أنّ اللّه سبحانه له علينا حقّ الطاعة في خصوص التكاليف التي نقطع بثبوتها وليس له حقّ الطاعة في التكاليف التي نحتمل ثبوتها ؛ إذ لو كان له حقّ الطاعة حتّى في التكاليف المحتملة فمعنى ذلك انّ احتمال ثبوت التكليف مقتض للتحرك أيضا وليس المقتضي للتحرّك خصوص

ص: 55


1- المقصود من البيان خصوص العلم.

التكليف المعلوم. إذن بحثنا لا بدّ وأن ينتهي وينصبّ على تحديد دائرة حقّ الطاعة ، أي تحديد أنّ اللّه سبحانه هل له حقّ الطاعة علينا في خصوص التكاليف المعلومة أو في التكاليف المحتملة أيضا ، وعقلنا يحكم بأنّ اللّه سبحانه له علينا حقّ الطاعة حتّى في التكاليف المحتملة ولا يختص بخصوص التكاليف المعلومة (1) ، وإذا لم يكن حق الطاعة مختصا بالتكاليف المعلومة بل شاملا للتكاليف المحتملة أيضا فالمقتضي للتحرك نحو الامتثال عند احتمال ثبوت التكليف واقعا يكون ثابتا وبالتالي لا يكون العقاب قبيحا.

الدليل الثاني

ما ذكره الميرزا أيضا من أنّ الأعراف العقلائية متبانية على قبح عقاب من خالف قانونا من القوانين وهو لا يعلم به ، فالغريب عن بلد إذا دخل بعض شوارعه التي منعت الحكومة من الدخول فيه وهو لا يعلم بالمنع يقبح عقابه.

وقد تقدّم في الحلقة الثانية ص 316 الجواب عن البيان المذكور بما حاصله أنّ المولوية الثابتة للمولى على قسمين (2) : -

أ - فتارة تكون مجعولة من قبل الغير كالمولوية الثابتة لرئيس العشيرة فإنّ مولويته وحقّ إطاعته ثابت له بسبب جعل أفراد عشيرته ذلك الحقّ له عليهم وكمولوية الأب بالنسبة إلى ولده أو الزوج بالنسبة إلى زوجته فإنّها ثابتة بسبب

ص: 56


1- والوجه في حكم العقل هذا وتوضيحه يأتي فيما بعد إنشاء اللّه تعالى.
2- وتعني المولوية حقّ الطاعة فالمولوية - حقّ الطاعة.

جعل الشرع المقدّس لذلك.

ب - واخرى تكون ذاتية وحقيقية بمعنى أنّها لم تجعل من قبل الغير كمولوية اللّه سبحانه بالنسبة إلى جميع أفراد البشر فإنّها ثابتة بسبب كونه تعالى منعما وخالقا ومدبّرا لأمر العباد.

وإذا عرفنا أنّ المولوية تنقسم إلى القسمين المذكورين فنقول انّ المولوية إذا كانت مجعولة وثابتة بسبب جعل الغير لها فمقدار سعة دائرتها وضيقها يتحدّد بحدود سعة الجعل وضيقه ، فأفراد العشيرة إذا جعلوا للرئيس حقّ طاعته في مطلق القضايا كانت مولويته عامة لجميع ذلك وإذا جعلوها خاصّة ببعضها كانت خاصّة ، وأمّا إذا كانت المولوية ذاتية فلا بدّ من الرجوع إلى العقل الذي حكم بثبوت المولوية الذاتية له سبحانه وهو يحكم بسعة حقّ طاعته وشموله للتكاليف المحتملة (1).

الدليل الثالث
اشارة

ما ذكره الشيخ الأصفهاني. وهو يتوقّف على بيان مقدّمة حاصلها : انّه تقدّم في القسم الأوّل من الحلقة الثالثة ص 424 أنّ حكم العقل ينقسم إلى قسمين عملي ونظري. والمقصود من الحكم العملي الحكم الذي يرتبط بجانب العمل كالحكم بأنّ الصدق يحسن فعله ، والكذب لا يحسن فعله ، والأمانة يحسن فعلها ،

ص: 57


1- ويمكن أيضا مناقشة دليل الميرزا هذا بأنّا لا نعرف وجود مثل هذه الأعراف العقلائية التي استشهد بها ، فإنّ الأعراف العقلائية تقضي بقبح عقاب من دخل شارعا وهو يعتقد عدم المنع من دخوله أو كان غافلا عنه ، أمّا إذا كان محتملا أو ظانا بالمنع فقبح ذمّه وعقابه أوّل الكلام.

والخيانة لا يحسن فعلها وأمثال ذلك. والمقصود من الحكم النظري الحكم الذي لا يرتبط بجانب العمل كالحكم باستحالة اجتماع النقيضين أو الدور أو التسلسل أو إمكان اجتماع المتخالفين وأمثال ذلك.

وبعد اتّضاح هذا نسأل : ما هي عدد أفراد الحكم النظري؟ أنّها كثيرة جدّا منها الأمثلة المتقدّمة. أمّا أفراد الحكم العملي فقد ذكر جماعة منهم الشيخ الأصفهاني أنّها منحصرة في قضيّتين هما : العدل حسن والظلم قبيح.

وقد تستغرب كيف نحصر الحكم العملي في هاتين القضيّتين والحال أنّ هناك قضايا كثيرة يمكن عدّها من الأحكام العقلية العملية كالحكم بأنّ الصدق حسن والأمانة حسنة والايثار حسن و ... والكذب قبيح والخيانة قبيحة ... وقد دفع الشيخ الأصفهاني ذلك بأنّ القضايا المذكورة مصاديق لتينك القضيتين ، فالعقل يحكم بأنّ الصدق حسن بما أنّه مصداق لقضية العدل حسن فإنّ العدل عبارة عن وضع الشيء في موضعه المناسب ، ومن الواضح الصدق هو شيء موضوع في موضعه المناسب والعقل حينما يحكم بحسنه لا يحكم بذلك بعنوان انّه صدق بل بما أنّه عدل ووضع للشيء في موضعه المناسب. وهكذا يقال في باقي القضايا المذكورة (1).

وباتّضاح هذه المقدّمة يقول الأصفهاني في دليله على قاعدة قبح العقاب : بأنّ القبيح بنظر العقل العملي شيء واحد وهو الظلم ، فلا بدّ وأن نحقّق هذه النقطة

ص: 58


1- بل هناك دعوى تقرب من هذه الدعوى تقول أنّ حال الأحكام النظرية ذلك أيضا فهناك حكم نظري واحد ، وهو استحالة اجتماع وارتفاع النقيضين وجميع القضايا الاخرى ترجع إلى هذه القضية ، فالدور أو التسلسل مثلا مستحيل لأنّه يلزم منه اجتماع أو ارتفاع النقيضين.

وهي : متى تكون مخالفة تكاليف المولى ظلما له - المولى - حتّى تكون قبيحة فهل مخالفة التكليف المعلوم ثبوته هي القبيحة فقط أو مخالفة التكليف الذي يحتمل ثبوته قبيحة أيضا؟ والجواب : أنّ التكليف إذا كان معلوما فمخالفته خروج عمّا تقتضيه عبودية العبد وتجاوز على مولوية المولى فتكون ظلما وبالتالي يستحقّ العبد الذمّ والعقاب من قبل مولاه على مخالفة التكليف المعلوم ، وأمّا إذا لم يكن التكليف معلوم التحقّق بل كان محتملا فمخالفته ليست تجاوزا وتعدّيا على مولوية المولى حتّى تكون ظلما له ، ومعه فلا يجوز الذمّ والعقوبة على مخالفة التكليف المحتمل ، وهو المطلوب.

الجواب عن دليل الأصفهاني

ويمكن الجواب بأنّا لا نسلّم انحصار حكم العقل العملي في قضية « الظلم قبيح » بل هناك قضية اخرى يحكم بها قبل القضية المذكورة.

توضيح ذلك : إنّا نسأل عن معنى الظلم وماذا يراد منه حينما يقال : « الظلم قبيح »؟ انّه يعني سلب حقّ الغير ، ولازم هذا أنّ العقل العملي قبل حكمه بقبح الظلم يحكم بأنّ اللّه سبحانه له علينا حقّ الطاعة ؛ إذ لو لم يحكم بذلك فلا يتحقّق من العبد ظلم له سبحانه.

إذن هناك قضية يحكم بها العقل العملي قبل قضية « الظلم قبيح » وهي قضية أنّ اللّه سبحانه له حقّ الطاعة علينا ، ومعه فلا بدّ وأن نوجّه البحث إلى القضية المذكورة لنرى انّه سبحانه هل له علينا حقّ الطاعة حتّى في التكليف المحتمل او في خصوص التكليف المعلوم ، في هذه النقطة بالذات لا بدّ وأن يتمركز

ص: 59

البحث. ولا نحتمل في هذه النقطة حكم عاقل بضيق حقّه سبحانه واختصاصه بخصوص التكاليف المقطوعة بل هو شامل جزما للتكاليف المحتملة ، ومع سعة الحقّ المذكور يلزم تبعا لذلك حكم العقل بلزوم الاحتياط كلّما احتمل ثبوت تكليف في الواقع ، فعند الشكّ في حرمة التدخين مثلا يلزم الاحتياط بتركه ؛ إذ بفعله يكون المكلّف ظالما للمولى حيث إنّ له حقّ الطاعة حسب الفرض في التكليف المحتمل أيضا.

الدليل الرابع
اشارة

ما ذكره الشيخ الأصفهاني أيضا. وحاصله : إنّ التكليف على قسمين : إنشائي وحقيقي.

والمقصود من الإنشائي إنشاء التكليف وجعله وتشريعه ، فنفس تشريع الحكم وإنشائه عبارة اخرى عن التكليف الإنشائي.

والمقصود من التكليف الحقيقي إنشاء التكليف بداعي تحريك المكلّف نحو الفعل ، فالفرق إذن بين التكليف الإنشائي والحقيقي هو أنّ الحقيقي يشتمل على داعي التحريك بخلاف الإنشائي فإنّه مجرّد عن ذلك.

ويترتّب على ذلك : انّ التكليف الإنشائي ليس له أهمية لأنّه لا تجب إطاعته ولا تترتّب على مخالفته عقوبة وإنّما المهم هو التكليف الحقيقي حيث إنّه ما دام يشتمل على داعي التحريك فتكون إطاعته لازمة. وقاعدة قبح العقاب بلا بيان لا بدّ وأن تكون ناظرة إلى التكليف الحقيقي فهي تريد أن تقول انّ التكليف الحقيقي ما دام لا بيان عليه فالعقوبة عليه قبيحة ، وأمّا التكليف الإنشائي فهو

ص: 60

ليس بمهم ولا تنظر له القاعدة فإنّ التكليف الإنشائي حتّى إذا كان معلوما لا تترتّب على مخالفته العقوبة ولا يختص قبح العقوبة عليه بحالة الجهل به بل يعمّ حالة العلم أيضا ، وهذا بخلافه في التكليف الحقيقي فإنّه الذي يمكن أن يقال إنّ العقوبة عليه قبيحة عند الجهل به دون العلم.

وإذا كانت قاعدة قبح العقاب ناظرة إلى التكليف الحقيقي فلنا أن نقول في البرهنة على القاعدة إنّ التكليف الحقيقي كما أنّه يختص بالقادر على الامتثال ولا يعمّ العاجز - إذ العاجز لا يمكنه التحرّك حتّى ينشأ المولى في حقّه تكليفا بداعي التحريك - كذلك هو يختص بالعالم دون الجاهل فإنّ العالم بالتكليف هو الذي يمكنه التحرك نحو امتثال التكليف دون الجاهل ؛ إذ التحرك نحو امتثال التكليف فرع العلم بالتكليف.

وباتّضاح اختصاص التكليف الحقيقي بالعالم يتّضح أنّه من دون البيان - أي من دون العلم - لا ثبوت للتكليف الحقيقي كي يعاقب عليه المكلّف ، فقبح العقاب قبل البيان ليس إلاّ من جهة السالبة بانتفاء الموضوع ، أي من جهة أنّه لا تكليف ليعاقب عليه لا أنّه ثابت والعقل يحكم بقبح العقوبة عليه.

وبهذا نعرف أنّ الشيخ الأصفهاني أعطى معنى جديدا لقاعدة قبح العقاب أعمق من المعنى الذي كنّا نفهمه سابقا ، فقد كنّا سابقا نفهم من القاعدة المذكورة أنّ التكليف قبل علم المكلّف به ثابت في حقّه ولكنّه يقبح العقاب عليه من جهة عدم العلم به بينما المعنى الجديد الذي يتقدّم به الأصفهاني هو أنّ المكلّف ما دام لا يعلم بالتكليف فلا ثبوت للتكليف الحقيقي في حقّه حتّى يعاقب عليه.

ص: 61

مناقشة الدليل الرابع

ويمكن مناقشة الدليل المذكور بما يلي : -

أ - نسأل الأصفهاني عن حقّ الطاعة الثابت له سبحانه هل يرى شموله للتكاليف المحتملة أو يختص بالتكاليف المقطوعة؟ فإنّ كان يختار الأوّل فلازم ذلك أن يكون احتمال التكليف صالحا لتحريك المكلّف نحو الامتثال ولا يختص لزوم التحرّك بحالة العلم بالتكليف وبالتالي فما ذكره من اختصاص التكليف الحقيقي بالعالم لا يكون له وجه.

وإن كان يختار الثاني فقاعدة قبح العقاب تكون تامّة ولكن لا يحتاج البرهنة عليها إلى هذا التطويل ؛ إذ يكفي أن يقال إنّه قبل البيان لا يصحّ العقاب على التكليف لعدم الحقّ له سبحانه في التكاليف المحتملة بلا حاجة إلى تقسيم التكليف إلى إنشائي وحقيقي وأنّ الحقيقي يختصّ بالعالم ...

وبهذا يتّضح أنّ جهودنا لا بدّ من توجيهها إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة والبحث عن ذلك ، فإن قلنا باختصاصها بالتكاليف المقطوعة ثبتت بذلك قاعدة قبح العقاب من جهة عدم ثبوت الحقّ له سبحانه في التكاليف المحتملة ، وإن قلنا بعموميتها للتكاليف المحتملة كانت قاعدة قبح العقاب باطلة لأنّه سبحانه له حقّ الطاعة في التكاليف المحتملة أيضا.

ب - ما هو المقصود من التكليف الحقيقي فهل يراد به التكليف الناشئ عن إرادة ومصلحة أو التكليف الناشئ بداعي التحريك؟ وعلى الأوّل فما ذكره من اختصاص التكليف الحقيقي بالعالم باطل ، فإنّ التكليف الناشئ عن إرادة

ص: 62

ومصلحة لا يتوقّف على العلم بل يمكن ثبوته في حقّ الجاهل أيضا ، أجل مع احتمال المكلّف له - أي للتكليف الناشئ عن إرادة ومصلحة - وعدم علمه به لا يكون منجزا فالتكليف ثابت بيد أنّه ليس بمنجز لعدم العلم به (1).

وعلى الثاني فما ذكره من اختصاص التكليف الحقيقي بخصوص العالم وعدم ثبوته في حقّ الجاهل قد يكون صحيحا ولكن أقصى ما يثبت بذلك أنّ اسم التكليف الحقيقي ولفظه لا يكون صادقا ، وهو غير مهم ، فإنّ صدق لفظ التكليف الحقيقي وعدمه ليس له كثير أهمية ؛ إذ حتّى لو سلّمنا عدم صدقه فيبقى من حقّنا أن نسأل هل يبقى المكلّف محتملا للتكليف الحقيقي بالمعنى الأوّل ، أي ما نشأ عن مصلحة وإرادة؟ ولا بدّ وأن يكون الجواب بالإيجاب ؛ إذ التكليف الناشئ عن إرادة ومصلحة يمكن ثبوته في حقّ الجاهل ، ومع احتماله فلا بدّ من البحث عن كونه منجزا أو لا ، فإن كان منجزا وجب الاحتياط ولا يكون العقاب على مخالفته قبيحا حتّى وإن لم يصدق عليه عنوان التكليف الحقيقي فإنّ صدقه ليس بمهم ، والأصفهاني لم يثبت عدم كونه منجزا.

وباختصار : أنّ التكليف الحقيقي له معنيان ، والمعنى الأوّل لا يختص بالعالم ، والمعنى الثاني وإن فرض اختصاصه به إلاّ أنّ المكلّف يبقى محتملا للتكليف الحقيقي بالمعنى الأوّل ، ولم يثبت الأصفهاني عدم كونه منجزا فإنّ غاية ما أثبته هو أنّ التكليف الحقيقي بالمعنى الثاني ليس بصادق ولم يثبت أنّ احتمال التكليف الحقيقي بالمعنى الأوّل ليس منجزا.

ص: 63


1- وطبيعي لا بدّ للأصفهاني - بعد اتّضاح بطلان البرهان الذي استدل به - من إقامة البرهان على عدم كون احتمال التكليف منجزا.
بطلان قاعدة قبح العقاب

ومن خلال هذا كلّه اتّضح أنّ قاعدة قبح العقاب ليس تامّة لبطلان أدلّتها الأربعة. كما واتّضح صحّة المسلك الثاني وهو مسلك حقّ الطاعة.

مسلك حق الطاعة

ب - ومسلك حقّ الطاعة يقول انّ احتمال التكليف منجز أيضا ولا يختص التنجيز بحالة العلم بالتكليف لأنّ اللّه سبحانه له حقّ الطاعة علينا حتّى في التكليف المحتمل ولا يختص بالمعلوم.

والدليل على سعة الحقّ المذكور أنّه سبحانه منعم علينا بنعم لا تعدّ ولا تحصى ، والعقل كما يدرك أصل وجوب شكره سبحانه باعتبار المنعمية كذلك يدرك أنّ مقتضى الشكر وجوب إطاعته لا في خصوص التكاليف المقطوعة بل المحتملة أيضا. وكما أنّ أصل وجوب شكره سبحانه وإطاعته هو من القضايا الأوّلية التي يدركها العقل بلا حاجة إلى إقامة برهان عليها كذلك سعة الحقّ المذكور هي من القضايا الأوّلية التي يدركها العقل بلا حاجة إلى برهنة عليها (1).

ص: 64


1- وممّا يؤكّد سعة الحقّ المذكور : أنّ كل شيء موجود على الأرض هو ملك له سبحانه ملكية حقيقية - لا كملكيتنا للأشياء التي هي ملكية اعتبارية يعتبرها العقلاء - نشأت من كونه سبحانه خالقا لجميع الأشياء ، فإنّ الخالق لشيء مالك له ، وما دام سبحانه مالكا للسيكارة والشفّة والصدر واليد فكيف يتصرّف المكلّف في السيكارة وفي اليد والشفّة بقبضها؟ انّ ذلك تصرّف في ملك الغير وهو لا يجوز إلاّ عند القطع بإذنه. انّ العقل الحاكم بعدم جواز التصرّف في ملك الغير بدون قطع بإذنه يحكم بقبح التصرّف المذكور في المقام أيضا ، بل هو أولى بذلك حيث أنّ الملكية فيه حقيقية بخلافه هناك فهي اعتبارية. هكذا ذكر قدس سره في مجلس بحثه الشريف على ما أتذكر ، ولكنّه أعرض عنه بعد ذلك.
حكم العقل تعليقي

وقد يتصوّر أنّ النتيجة على مسلك حقّ الطاعة تختلف عنها على رأي المشهور القائل بقاعدة قبح العقاب ، فعلى مسلك حقّ الطاعة يكون شرب التتن مثلا محرّما لأنّه محتمل الحرمة واحتمال الحرمة منجز بينما على رأي المشهور يكون جائزا لأنّ حرمته ما دامت غير معلومة فيقبح العقاب عليها.

والتصور المذكور خاطئ فإن العقل وإن حكم على مسلك حقّ الطاعة بمنجزية الاحتمال إلاّ أنّ حكمه هذا معلّق ، أي هو يقول إنّ احتمال حرمة شرب التتن منجز وموجب للاحتياط فيما إذا لم يأذن الشارع في ترك الاحتياط فإنّ العقل لا يحكم بشيء في مقابل الشارع.

وإن شئت قلت : انّ حكم العقل بلزوم الاحتياط ليس إلاّ للتحفظ على أحكام الشارع ومراعاة حقّه فإذا فرض تنازله عن حقّه فلا يبقى حاكما بلزوم الاحتياط ، فشرب التتن وإن حكم العقل بلزوم تركه من جهة انّه محتمل الحرمة والاحتمال منجز إلاّ أنّ الشرع ما دام قد حكم بالبراءة بمثل قوله : « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » فهو يرفع يده عن حكمه بالمنجزية.

ومن هنا فالنتيجة العملية لا تختلف على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان عنها على مسلك حقّ الطاعة وإنّما الاختلاف بينهما اختلاف نظري لا عملي.

ص: 65

قوله ص 30 س 12 : وفي نفس الأمر : عطف تفسير للواقع.

قوله ص 30 س 17 : تطبيقات له : أي مصاديق لحكم العقل بقبح الظلم.

قوله ص 31 س 12 : تعميقا لقاعدة : أي أعطاها معنى أعمق حيث إنّا نفهم منها أنّ التكليف عند عدم العلم به ثابت ولكن لا عقاب عليه بينما الأصفهاني فسّرها بأنّه عند عدم العلم بالتكليف لا يكون أصل التكليف الحقيقي ثابتا كي يعاقب عليه.

قوله ص 31 س 15 : على الوصول : أي العلم.

قوله ص 32 س 1 : وكما يختص : هذه الجملة أشبه بعطف التفسير على سابقتها.

قوله ص 32 س 3 : والتنجيز : عطف تفسير للعقاب.

قوله ص 32 س 12 : ليس مولى : أي ليس ممّن تجب طاعته ، فإنّ لفظ المولى يرادف لفظ من تجب طاعته.

قوله ص 32 س 14 : وهكذا نجد مرّة اخرى : أي كما وجدنا ذلك سابقا ص 31 س 7.

قوله ص 33 س 1 : وإن المكلّف الشاكّ : عطف تفسير لقوله غير منجز.

قوله ص 33 س 4 : فلنفترض ... : إنّما عبّر بقوله « فلنفترض » ولم يجزم باختصاص داعي التحريك بصورة الوصول لأنّه تقدّم منه قدس سره في الإيراد الأوّل أنّ داعي التحريك يمكن ثبوته في صورة الشكّ ؛ إذ حقّ الطاعة شامل لصورة احتمال التكليف ولا يختص بحالة العلم.

قوله ص 33 س 5 : في وجود جعل بمبادئه : أي في التكليف الحقيقي بالمعنى

ص: 66

الأوّل.

قوله ص 33 س 8 : ذلك : أي الجعل الناشئ من الإرادة والمصلحة الملزمتين.

قوله ص 33 س 9 : واقع الحال : كلمة « واقع » مضاف لكلمة « الحال ».

قوله ص 33 س 15 : وهذا من مدركات العقل العملي : العقل العملي هو العقل الذي يحكم بما يرتبط بحيثيّة العمل ، ومن الواضح أنّ حقّ الطاعة يرتبط بحيثيّة العمل لأنّ معناه وجوب فعل كل ما هو واجب وترك كل ما هو حرام.

قوله ص 33 س 16 : وهي غير مبرهنة : أي لا برهان عليها بل هي بديهية أودعها اللّه سبحانه في عقل الإنسان.

قوله ص 34 س 3 : على ما تقدّم : في القسم الأوّل ص 49.

الوظيفة الثانوية حالة الشكّ

قوله ص 35 س 1 : والقاعدة العملية ... : تقدّم في البحث السابق أنّ العقل يحكم بأنّ احتمال التكليف منجز - بناء على مسلك حقّ الطاعة - بيد أنّ هذا الحكم معلّق على عدم حكم الشارع بالبراءة. ومن هنا ينفتح مجال لبحث جديد وهو أنّ الشارع هل حكم بالبراءة حتّى لا يكون احتمال التكليف منجزا عقلا - وبالتالي حتّى تكون الوظيفة الثانوية حالة الشكّ هي البراءة وإن كانت الوظيفة الأوّلية تقتضي منجزية الاحتمال - أو لم يحكم حتّى يكون احتمال التكليف منجزا عقلا. ولهذا سوف نأخذ بالبحث في البراءة الشرعية. والكلام فيها يقع في مبحثين : -

ص: 67

أ - في الأدلّة الدالّة على البراءة الشرعية.

ب - في الوجوه المعارضة للبراءة الشرعية الدالة على أنّ الشارع حكم بالاحتياط دون البراءة.

المبحث الأوّل
اشارة

والأدلة على البراءة الشرعية تتمثّل في آيات من القرآن الكريم وروايات من السنّة الشريفة (1).

أمّا الكتاب الكريم فيمكن الاستدلال منه بعدّة آيات : -

الآية الاولى
اشارة

استدلّ على البراءة الشرعية بقوله تعالى في سورة الطلاق : 7 ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) . وقد وردت الآية الكريمة ضمن آيات اخرى ناظرة إلى مسألة إنفاق الزوج على زوجته عند طلاقه لها فالزوج إذا طلّق زوجته وكانت حاملا لزمه الانفاق عليها إلى أن تلد ، وإذا ولدت وقامت بإرضاع طفله لزمه دفع الاجرة على الأرضاع. ولكن ما هو مقدار الاجرة؟ انّه يختلف باختلاف غنى الزوج وفقره فمن كان غنيا ينفق بما يتناسب وغناه ومن كان فقيرا ينفق ما يتمكّن عليه فإنّ اللّه لا يكلّف نفسا إلاّ ما آتاها ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ

ص: 68


1- وأمّا الإجماع فلم يستدل به لعدم تحقّقه بعد مخالفة الأخباريين ، مضافا إلى كونه على تقدير تحقّقه محتمل أو قطعي المدرك. وأمّا العقل فلم يستدل به هنا لتقدّم ذكره تحت عنوان الوظيفة الأولية حالة الشك.

قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللّهُ لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) .

وتقريب الاستدلال - حسبما ذكر الشيخ الأعظم قدس سره في الرسائل - انّ كلمة « ما » في جملة « إلاّ ما آتاها » اسم موصول ، أي لا يكلّف اللّه نفسا إلاّ الذي آتاها. وما هو المقصود من اسم الموصول المذكور؟ إنّ في المقصود منه ثلاثة احتمالات : -

أ - المال. أي لا يكلّف اللّه نفسا بدفع مال إلاّ بالمقدار الذي آتاها ومكّنها منه. والقرينة على هذا الاحتمال هو المورد ؛ إذ مورد الآية وسياقها ناظر إلى المال وانّ انفاق المال لا يجب إلاّ بالمقدار الميسور.

ب - الفعل. أي لا يكلّف اللّه نفسا بفعل من الأفعال إلاّ مع القدرة على ذلك الفعل. والقرينة على هذا الاحتمال هو كلمة « يكلّف » فإنّ التكليف لا يتعلّق إلاّ بالأفعال.

وعلى هذين الاحتمالين لا ينتفع بالآية الكريمة في الاستدلال بها على البراءة لأنّها ناظرة إلى المال والفعل وأجنبية عن التكليف.

ج - التكليف. أي لا يكلّف اللّه نفسا بتكليف إلاّ إذا آتاها التكليف ، وواضح انّ إتياء كل شيء بحسبه ، وإيتاء التكليف عبارة عن إيصاله وأعلام المكلّف به. وبناء على هذا الاحتمال يتمّ الاستدلال بالآية الكريمة ؛ إذ يصير المعنى : انّ اللّه لا يكلّف نفسا بتكليف إلاّ إذا أعلمها بذلك التكليف فقبل الإعلام لا تكليف ، وهذا هو المطلوب.

ولكن كيف نثبت هذا الاحتمال الثالث في حين انّ بالإمكان إرادة أحد الاحتمالين الأولين الذين لا يتمّ الاستدلال بناء عليهما؟ ذكر الشيخ الأعظم انّه قد يتمسّك بالإطلاق بأن يقال إنّ مقتضى إطلاق اسم الموصول هو الشمول لجميع

ص: 69

الاحتمالات الثلاثة التي أحدها التكليف وببركته يثبت انّ الآية ناظرة إلى التكليف أيضا ، أي أنّها تنفي ثبوت التكليف عند عدم العلم به ، وهو المطلوب.

لا يقال : ان مورد الآية حيث انّه هو المال فتكون الآية الكريمة ناظرة إلى خصوص المال ولا تكون شاملة للتكليف.

فإنّه يقال : انّ المورد لا يخصص الوارد.

اعتراض الشيخ الأعظم

وقد اعترض الشيخ الأعظم على الاستدلال المذكور بما حاصله : انّه على الاحتمالين الأوّلين تكون نسبة الفعل - أي يكلّف - إلى اسم الموصول نسبة الفعل إلى المفعول به ، فإنّ المال والفعل هما المتعلّق للتكليف ، وواضح انّ المتعلق للفعل هو عبارة اخرى عن المفعول به ، بينما على الاحتمال الثالث تكون نسبة الفعل إلى اسم الموصول نسبة الفعل إلى المفعول المطلق (1) ؛ إذ يصير المعنى هكذا : لا يكلّف اللّه إلاّ تكليفا آتاه. وحيث انّ نسبة الفعل إلى المفعول به تغاير نسبة الفعل إلى المفعول المطلق - فإنّ النسبة إلى المفعول المطلق هي نسبة الحدث إلى ما هو طور من أطواره وشأن من شؤونه بينما النسبة إلى المفعول به هي نسبة المغاير إلى المغاير - فلا يمكن أن تكون هيئة الجملة (2) مستعملة فيهما معا لأنّ لازمه الاستعمال في معنيين وهو مستحيل. ومعه فلا بدّ وأن يكون المقصود أمّا أحد الاحتمالين الأوّلين

ص: 70


1- ليس المقصود من كون اسم الموصول مفعولا به أو مفعولا مطلقا انّه يعرب كذلك بل المقصود انّه بحسب المعنى يكون كذلك.
2- أي الحاصلة بين الفعل - يكلّف - واسم الموصول.

أو الاحتمال الثالث ، وحيث لا نجزم بإرادة الاحتمال الثالث فلا يمكن الاستدلال بالآية الكريمة.

وباختصار : انّ النسبة على الاحتمالين الأوّلين حيث انّها تغايرها على الاحتمال الثالث فلا بدّ وأن تكون الهيئة مستعملة في إحداهما لا في كليهما ، وحيث انّه لا معيّن لإرادة النسبة إلى المفعول المطلق فلا يمكن الاستدلال بالآية.

جوابان عن اعتراض الشيخ الأعظم

وقد سجل في الكتاب جوابان على الاعتراض المذكور : -

1 - ما ذكره الشيخ العراقي من أنّ هيئة الجملة ليست مستعملة في النسبتين حتّى يلزم الاستعمال في أكثر من معنى واحد بل في الجامع بين النسبتين ، وحيث انّ الجامع معنى واحد فيلزم الاستعمال في معنى واحد لا في معنيين. وهذا نظير كلمة البيع في قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) فإنّها تشمل جميع أقسام البيوع - كبيع النقد وبيع النسيئة والبيع العقدي والبيع المعاطاتي و ... من دون أن يلزم الاستعمالها في أكثر من معنى واحد ، وما ذاك إلاّ من جهة استعمالها في الجامع الذي هو حقيقة البيع المجرّدة عن الخصوصيات.

وفيه : أنّه ما المقصود من الجامع بين النسبتين فهل يراد به الجامع الحقيقي بين النسبتين أو يراد به نسبة ثالثة تلائم كلتا النسبتين وإن لم تكن جامعا حقيقيا - لهما؟

والأوّل يرده ما تقدّم في القسم الأوّل ص 99 من أنّ الجامع الحقيقي بين النسب غير معقول ؛ إذ الجامع الحقيقي بين الشيئين لا يمكن الحصول عليه إلاّ بعد

ص: 71

طرح ما به الافتراق ، فزيد وعمرو إذا طرحنا الفوارق بينهما فالمتبقى بعد ذلك - وهو الحيوان الناطق - يكون الجامع الذاتي ، وهذا في مقامنا متعذّر فإنّ افتراق كل نسبة عن النسبة الاخرى ليس إلاّ بطرفيها ، ففي قولنا : « سرت من البصرة » وقولنا : « سرت من الكوفة » تمتاز النسبة الاولى عن النسبة الثانية بالطرفين أي : السير والبصرة ، والسير والكوفة ، ومن الواضح أنّه بعد إلغاء طرفي النسبة لا يبقى شيء كي يكون هو الجامع الذاتي (1).

والثاني باطل أيضا باعتبار : -

أ - انّ النسبة الثالثة الملائمة لكلتا النسبتين من دون أن تكون جامعة لهما كيف يمكن إثبات انّها مقصودة فإنّ ظاهر هيئة الجملة يساعد على إرادة نسبة الفعل إلى المفعول به فقط أو إرادة نسبة الفعل إلى المفعول المطلق فقط ولا يساعد على إرادة النسبة الثالثة الملائمة للنسبتين المذكورتين.

ب - انّ أصل وجود مثل هذه النسبة الثالثة غير معلوم فلا يوجد في اللغة العربية نسبة تلائم نسبتين.

والصحيح في الجواب أن يقال : انّه حتّى لو فسّرنا اسم الموصول بالتكليف فالنسبة بين « يكلّف » واسم الموصول هي نسبة الفعل إلى المفعول به لا إلى المفعول المطلق ، ومعه فتكون النسبة نسبة واحدة على جميع الاحتمالات الثلاثة ولا تكون هناك نسبتان متغايرتان حتّى يلزم الاستعمال في أكثر من معنى واحد.

ص: 72


1- هذا ولكن الشيخ العراقي على ما في بدائع الأفكار ص 57 ونهاية الأفكار ج 1 ص 53 يرى أنّ الجامع الذاتي بين النسب ثابت خلافا للشيخ الأصفهاني والسيد الخوئي والشهيد فانّهم يرون عدم إمكان تحقّق الجامع الذاتي.

ولكن كيف يكون اسم الموصول بناء على تفسيره بالتكليف مفعولا به لا مفعولا مطلقا؟ الجواب : انّ التكليف يستعمل بمعنيين فتارة يستعمل بمعنى المصدر ، أي كمصدر ليكلّف ، وبناء على هذا يصير التكليف مفعولا مطلقا حيث يصير المعنى : لا يكلّف اللّه تكليفا ، واخرى يستعمل بمعنى الحكم الشرعي أي الوجوب والحرمة ويصير المعنى : لا يكلّف اللّه (1) نفسا ولا يحمّلها حكما شرعيا إلاّ إذا آتاها ، وبناء عليه يصير اسم الموصول الذي هو بمعنى الحكم الشرعي مفعولا به لأنّه المتعلّق للتحميل. وكثيرا ما يستعمل العرف كلمة « الحكم الشرعي » مفعولا به حيث يقال هل كلّفت بحكم شرعي (2) فيجعل الحكم الشرعي متعلّقا للتكليف والتحميل.

والشبهة نشأت من تفسير اسم الموصول بالتكليف وتفسير التكليف بنفس معنى يكلّف ، فإنّ معنى يكلّف هو التحميل فإذا فسّرنا التكليف بمعنى التحميل أيضا صار اسم الموصول مفعولا مطلقا ؛ إذ يصير المعنى : لا يحمّل اللّه نفسا إلاّ تحميلا آتاها ، ولكن هذا لا داعي له فإنّا نقول انّ المراد من يكلّف هو التحميل والإدانة ومن اسم الموصول هو الحكم الشرعي فيصير المعنى : لا يحمل اللّه نفسا إلاّ حكما شرعيا آتاها ، وبناء عليه لا يصير اسم الموصول مفعولا مطلقا لأنّ معناه يغاير معنى الفعل فمعنى الفعل هو التحميل بينما معنى اسم الموصول هو الحكم الشرعي ، وفي باب المفعول المطلق يشترط الاتحاد بين الفعل والمفعول من

ص: 73


1- وكلمة « يكلّف » مشتقّة من الكلفة بمعنى التحميل والمسؤولية والإدانة.
2- المراد من وقوع الحكم الشرعي مفعولا به هو وقوعه كذلك بحسب المعنى وإن كان بحسب الإعراب النحوي قد لا يعرب مفعولا به.

حيث المعنى بخلافه في باب المفعول به فانّه تشترط المغايرة.

هل دليل الإخباري مقدّم على الآية؟

ذكر الشيخ الأعظم قدس سره في الرسائل انّ دليل الإخباري على وجوب الاحتياط - من قبيل أخوك دينك فاحتط لدينك أو قف عند الشبهة - لو عمّ فهو مقدّم على الآية الكريمة لأنّها تقول انّ التكليف ما دام غير معلوم فلا عقاب عليه ، وهذا المضمون لا يقف أمام دليل الإخباري لأنّه - دليل الإخباري - يقول أنا اعلمك بوجوب الاحتياط ، وبعد معلوميّته فالآية الكريمة لا تقف أمامه ولا تقول انّ الاحتياط لا عقاب على تركه وليس بواجب لأنّها تقول انّ الحكم غير المعلوم لا عقاب على ترك امتثاله والمفروض إنّ وجوب الاحتياط معلوم بواسطة دليل الإخباري.

وإن شئت قلت : انّ مفاد الآية الكريمة شبيه تماما بمفاد أصل الطهارة فانّه يقول كل شيء إذا لم تعلم بكونه نجسا فهو طاهر ، فإذا فرضنا انّ الثقة أخبرنا بنجاسة شيء فهل تحتمل أنّ أصل الطهارة يقف أمام خبر الثقة ويقول لخبر الثقة انّ الشيء الذي أخبرت بنجاسته أحكم أنا بطهارته ، كلا ، بل بمجرد مجئ خبر الثقة وشهادته بأنّ الشيء نجس يرضخ أصل الطهارة لذلك ؛ إذ هو يحكم بالطهارة في صورة عدم العلم بالنجاسة وبعد مجئ خبر الثقة يصير الشيء معلوم النجاسة ، ومع معلومية نجاسته لا يبقى أصل الطهارة مصرا على الحكم بالطهارة. هذا في أصل الطهارة ، ونفس الشيء يأتي في الآية الكريمة فإنّها تحكم بنفي العقاب عند عدم العلم بثبوت التكليف ودليل الإخباري لو تمّ فهو يفيد العلم بثبوت

ص: 74

وجوب الاحتياط. هذا ما افيد في الرسائل.

وتعليقا عليه نقول : لا بدّ من الالتفات إلى أنّ مقصود الآية الكريمة هل هو نفي السببيّة أو نفي المورديّة.

فإن كان مقصودها نفي السببية - بأن يكون المقصود : لا يعاقب اللّه سبحانه بسبب حرمة شرب التتن ما دامت غير معلومه - فما ذكره الشيخ الأعظم تامّ ؛ إذ الآية تنفي العقوبة بسبب الحرمة المجهولة وهذا لا يتنافى مع دليل الإخباري فإنّه - دليل الإخباري - يثبت العقوبة بسبب وجوب الاحتياط الذي هو وجوب معلوم ، فالعقوبة التي تنفيها الآية هي العقوبة بسبب الحرمة المجهولة بينما دليل الإخباري يثبت العقوبة بسبب وجوب الاحتياط الذي هو معلوم ، ونفي العقوبة من ناحية أحد سببين لا يتنافى وإثباتها من ناحية سبب ثاني.

وأمّا لو كان المقصود نفي المورديّة - أي كان المقصود : لا يعاقب اللّه سبحانه في مورد حرمة شرب التتن ما دامت مجهولة بل المكلّف مطلق العنان وله الحرية الكاملة في المورد المذكور - فما ذكره الشيخ الأعظم لا يكون تامّا لأنّ الآية تحكم على المكلّف بأنّه مطلق العنان في مورد شرب التتن ما دامت حرمته مجهولة وواضح أنّ دليل الإخباري لو تمّ فهو يحكم على المكلّف بالاحتياط ولزوم ترك التتن وعدم كونه مطلق العنان ، والتعارض حينئذ بين الآية ودليل الإخباري واضح.

وبعد أن عرفنا أنّ في المقصود من الآية الكريمة احتمالين يبقى علينا أن نعرف أنّ أي واحد من الاحتمالين أرجح؟ انّ الأرجح هو احتمال الموردية لأنّ ذلك هو المناسب لمورد الآية وسياقها فإنّ موردها هو المال على ما تقدّم (1) والمناسب

ص: 75


1- بل والموردية هي المناسبة للفعل - الذي هو أحد المصاديق الثلاثة التي يشملها الإطلاق أيضا ؛ إذ لا معنى لأن يكون المقصود : لا يكلّف اللّه بسبب الفعل إلاّ إذا كان مقدورا بل : لا يكلّف اللّه في مورد الفعل إلاّ إذا كان مقدورا.

للحال هو الموردية دون السببية ؛ إذ لا معنى لأن يكون المقصود : لا يكلّف اللّه بسبب المال ، فإنّ المال لا يكون سببا للتكليف والعقوبة وإنّما المناسب أن يكون المقصود لا يكلّف اللّه في مورد القضايا المالية إلاّ بالمقدار الميسور. شمول الآية للشبهات الوجوبية والتحريمية

وهل الآية الكريمة تختص بالشبهات التحريمية - كالشكّ في حرمة شرب التتن - أو تعمّ الشبهات الوجوبية كالشك في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال؟ والجواب : انّ بعض الآيات الآتية تختص بالشبهة التحريمية كقوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ) فإنّه ناظر إلى حالة الشكّ في حرمة الشيء دون الشكّ في الوجوب ، وأمّا الآية التي بين أيدينا فهي شاملة للشبهة الوجوبية والتحريمية معا لأنّه لم يذكر فيها لفظ التحريم بالخصوص ولا لفظ الوجوب.

شمول الآية للشبهات الموضوعية

وهل الآية الكريمة ناظرة إلى الشبهة الموضوعية أيضا أو تختص بالشبهة الحكمية (1)؟ قد يتوهم الاختصاص بالشبهة الحكمية بقرينة التعبير بقوله :

ص: 76


1- الشبهة الحكمية هي الشبهة الناشئة بسبب أمر يرجع إلى الشارع كالشكّ في حرمة شرب التتن فإنّ منشأه احتمال أنّ الشارع حرّمه ولكن لم يصل التحريم بسبب فقد النص أو إجماله أو تعارضه. وأمّا الشبهة الموضوعية فهي شبهة ناشئة بسبب أمر يرجع إلى المكلّف لا إلى الشارع كالشكّ في حرمة سائل معيّن من جهة الترديد في كونه خمرا أو ماء فإنّ منشأ الشكّ في التحريم لا يرجع إلى الشارع بل إلى المكلّف نفسه حيث لم يميز بين الخمر والماء.

« آتاها » أي إلاّ ما آتاها اللّه سبحانه ، ومن الواضح انّ إيتاء الشارع يختص بالأحكام فإنّه سبحانه يؤتي الأحكام ، وأمّا الشبهات الموضوعيّة فهو لا يؤتي شيئا فيها ، فإنّ كون هذا السائل المعيّن المشكوك خمرا حتّى يكون حراما أو ماء حتّى يكون حلالا ليس ممّا يؤتيه اللّه سبحانه ؛ إذ وظيفة الشارع بيان الأحكام الكلية (1) كبيان أنّ الخمر الكلي حرام والماء الكلي حلال ولا يبين الأحكام الجزئية ككون هذا السائل بالخصوص حراما أو حلالا.

ويمكن دفع هذا التوهم بأنّ المقصود من الإيتاء ليس هو الإيتاء التشريعي بل الإيتاء التكويني - ولا أقلّ من كون المقصود هو الإيتاء الأعمّ من التشريعي والتكويني - وواضح انّ الإيتاء الذي يختص بالشبهة الحكمية هو الإيتاء التشريعي وأمّا الإيتاء التكويني فهو يعمّ الشبهة الموضوعية أيضا ؛ إذ تمييز السائل المشكوك وأنّه خمر لا ماء يحصل بإتيائه سبحانه بمعنى خلقه القدرة فينا على تمييز ذلك.

وممّا يدلّ على عموميّة الآية للايتاء التكويني ان اسم الموصول يشمل

ص: 77


1- التي هي مورد الشبهة الحكمية فإنّ المشكوك في الشبهة الحكمية هو الحكم الكلّي بخلافه في الشبهة الموضوعية فإنّ المشكوك فيها هو الحكم الجزئي. وبهذا يتّضح أنّ الشبهة الحكمية لها ضابطان أحدهما كون المشكوك حكما كليا ، وثانيهما : كون منشأ الشك في الحكم فقدان النصّ أو إجماله أو تعارضه.

بإطلاقه المال والفعل - كما تقدّم بل المال هو مورد الآية - وواضح أنّ المال والفعل لا يؤتيهما اللّه سبحانه إيتاء تشريعيا بل إيتاء تكوينيا فهو لا يرزق المال ولا يعطي القدرة على الفعل بما هو شارع بل بما هو مكوّن وخالق.

وهل تشمل الآية حالة ما قبل الفحص؟

وهل الآية الكريمة تثبت البراءة في خصوص حالة ما إذا فحص المكلّف عن الحكم ولم يعثر عليه أو تثبتها حتّى في حالة ما قبل الفحص؟ قد يتوهم انّ مقتضى إطلاق الآية الكريمة ثبوتها حتّى في حالة ما قبل الفحص ؛ إذ هي لم تقل إذا فحص المكلّف ولم يعثر على الحكم فحينئذ لا يكلّف اللّه بذلك الحكم بل هي من هذه الناحية مطلقة.

هذا ولكن الصحيح اختصاصها بحالة ما بعد الفحص لأنّ الحكم إذا كان موجودا في كتب الروايات بحيث يعثر عليه المكلّف لو فحص عنه فيصدق انّ اللّه قد آتى ذلك الحكم فإنّ إيتاء الحكم ليس هو بمعنى إيصاله بيد المكلّف مباشرة بل بمعنى جعله في مظان العثور عليه لو فحص عنه.

الآية الثانية
اشارة

واستدل من القرآن الكريم أيضا بقوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (1)

بتقريب أنّ المقصود من الرسول ليس هو خصوص النبي

ص: 78


1- الإسراء : 15

حتّى يصير المعنى انّه قبل بعثة الأنبياء لا نعذب على مخالفة الأحكام - ولو كان هذا هو المقصود فهو غير نافع في المقام ؛ إذ تدلّ الآية بإطلاقها حينئذ على انّ اللّه بعد بعثة النبي يعذّب على مخالفة الحكم وإن لم يصل إلى المكلّف وهو خلاف المطلوب - بل المقصود منه هو البيان ، أي لا نعذّب على مخالفة الحكم حتّى نبيّنه ، فقبل بيانه لا نعذّب عليه. وإنّما خصّص الرسول بالذكر من جهة أنّه أحد المصاديق والأسباب البارزة التي يحصل بها البيان.

والشيخ الأعظم قدس سره في الرسائل ذكر إشكالين على الاستدلال المذكور هما : -

1 - ان الآية الكريمة تنفي فعلية العذاب ولا تنفي استحقاقه ، أي هي لا تدل على أنّ المكلّف لا يستحقّ العذاب قبل بيان الحكم بل أقصى ما تدل عليه هو انّ اللّه سبحانه لا يعذّب قبل البيان ولعلّ عدم تعذيبه ليس من جهة أن المكلّف لا يستحق العذاب بل من جهة عفوه سبحانه عن المستحق ، والنافع في مقام الاستدلال هو عدم الاستحقاق لأنّ المكلّف إذا لم يستحق العذاب قبل العلم بالحكم كان ذلك دالاّ على عدم ثبوت الحكم وأمّا نفي العذاب الفعلي فهو لا يدلّ على عدم ثبوت الحكم ؛ إذ لعلّ الحكم ثابت والمكلّف يستحق العقاب عليه ولكن اللّه سبحانه لا يعاقب عليه بالفعل لكرمه وعفوه (1).

2 - انّ الآية الكريمة ناظرة إلى العذاب الدنيوي الذي نزل بالامم السالفة كامّة نوح أو هود أو صالح وغيرهم من الأنبياء صلواته عليهم أجمعين ، فهي كأنّها

ص: 79


1- ويمكن أن يقال انّ المهم لمن يدّعي البراءة هو إثبات أنّ لا عذاب بالفعل سواء كان هناك استحقاق أم لا ، وسواء كان الحكم ثابتا واقعا أم لا.

تريد أن تقول : إنّا لم نعذّب قوم هود وصالح إلاّ بعد أن أرسلنا لهم أنبياء ، وواضح أنّ هذا أجنبي عن محل كلامنا فإنّ كلامنا هو في أنّ المكلّف لو لم يجد دليلا على حرمة شرب التتن فهل يعاقب يوم القيامة لو دخن أو لا ، فالنظر إنّما هو إلى العقاب في عالم الآخرة لا إلى عالم الدنيا.

ويمكن دفع الإشكال الأوّل - وهو أنّ الآية ناظرة إلى نفي الفعلية لا نفي الاستحقاق - بأن التعبير بجملة « ما كنّا » ظاهر في نفي الشأنية والمناسبة ، أي أنّ المقصود : ليس من شأننا ولا يناسبنا أن نعذّب قبل البيان ، وهذا كما يقال عرفا ما كنت لأهين الضيف ، فإنّ المقصود أنّه لا يناسبني وليس من شأني إهانة الضيف ، وواضح ان نفي الشأنية يتناسب ونفي الاستحقاق فإنّ العبد إذا كان لا يستحق العقوبة صحّ أن يقال : لا يناسب المولى إنزال العقوبة بالعبد بخلاف ما إذا كان يستحق العقوبة فإنّه يصحّ أن يقال إنّ إنزال العقوبة ممّا يتناسب والمولى.

وأمّا الإشكال الثاني - وهو أنّ الآية ناظرة إلى العذاب الدنيوي في الامم الماضية لا إلى العذاب الاخروي - فيمكن ردّه بثلاثة أجوبة : -

أ - إذا ثبت أنّ مقصود الآية نفي المناسبة وأنّه لا يناسبنا إنزال العقوبة قبل البيان فلا تكون خاصّة بنفي العذاب الدنيوي بل تعمّ نفي العذاب الاخروي أيضا فإنّ نكتة عدم المناسبة ليست هي إلاّ أنّ العذاب قبل البيان أمر قبيح ، وهذه النكتة لا تختص بالعذاب الدنيوي بل هي مشتركة وثابتة في العذاب الاخروي أيضا ، فكما انّ إنزال العقوبة الدنيوية قبل البيان قبيح كذا الحال في العقوبة الاخروية. وهذا نظير ما إذا قال شخص أنّه لا يناسبني إهانة الضيف فإنّه لا يحتمل أن يكون المقصود انّه لا يناسبني إهانة الضيف في الصيف دون الشتاء أو في

ص: 80

هذا البلد دون ذاك البلد.

ب - انّ دعوى كون الآية الكريمة ناظرة إلى العذاب الدنيوي دعوى بلا شاهد بل لعلّ الشاهد على خلافها ؛ إذ لو نظرنا إلى سياق الآية وجدنا أنّها واردة في سياق آيات ناظرة إلى العذاب الاخروي حيث قال سبحانه : ( مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) فإنّ قانون « وَلا تَزِرُ ... » ناظر إلى العذاب الاخروي ، أي أنّ كل نفس مرتكبة للوزر لا تتحمل يوم القيامة إلاّ عذاب وزرها خاصّة ولا تتحمّل عذاب وزر غيرها ، وإذا كان هذا القانون ناظرا إلى العذاب الاخروي فبقرينة وحدة السياق يثبت أنّ قانون « وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ ... » ناظر إلى العذاب الاخروي أيضا.

ج - لا منشأ لتوهّم اختصاص الآية الكريمة بالعذاب الدنيوي سوى التعبير بكلمة « كان » في قوله تعالى : ( وَما كُنَّا ... ) الدالة على الزمان الماضي ولكن يرده أنّ كلمة « كان » لا تدلّ في مثل هذا الاستعمال على الزمان الماضي بل المقصود منها الشأنية والمناسبة ، وواضح أنّه لا معنى لأن يكون المقصود ليس من شأننا في الزمان الماضي ؛ إذ الشيء إذا لم يكن من شأن اللّه سبحانه فهو ليس من شأنه في جميع الأزمنة لا في خصوص الزمان الماضي.

مناقشة الاستدلال

والصحيح في مناقشة الاستدلال بالآية الكريمة - بعد اتّضاح بطلان الاعتراضين السابقين المذكورين في رسائل الشيخ الأعظم - أن يقال : انّه توجد

ص: 81

عندنا حالتان فتارة نفترض أن بيان حرمة شرب التتن لم تصدر من الشارع جزما واخرى نفترض احتمال صدور ذلك ولكنّه لم يصلنا لعوامل الخفاء والضياع الخاصّة (1) ، وأقصى ما تدلّ عليه الآية الكريمة هو أنّه في الحالة الاولى - أي حالة الجزم بعدم صدور البيان من الشارع - تجري البراءة ولا يستفاد منها أنّه في الحالة الثانية - أي حالة احتمال صدور البيان واختفائه - تجري البراءة أيضا ، ومن الواضح أنّا نعيش عادة الحالة الثانية ، أي نحتمل عادة صدور البيان من الشارع وعدم وصوله لنا لسبب وآخر ، ومعه فلا يمكن التمسّك بالآية الكريمة إذ لا نجزم بنظرها إلى الحالة الثانية والمتيقّن هو نظرها إلى الحالة الاولى فإنّ التعبير بكلمة « رسولا » ظاهر في الحالة الاولى ، أي لا نعذّب إلاّ بعد إصدار البيان - فإنّ الرسول ذكر كمثال لصدور البيان - وليس ظاهرا في الحالة الثانية وأنّه لا نعذّب إلاّ بعد صدور البيان ووصوله إلى المكلّف.

وهل دليل الإخباري مقدّم؟

وفي هذه الآية الكريمة - على تقدير تمامية دلالتها على البراءة - نطرح نفس السؤال السابق الذي ذكرناه في الآية السابقة وهو أنّ دليل الإخباري على وجوب الاحتياط لو تمّ فهل يكون مقدّما على الآية الكريمة التي نحن بصدد

ص: 82


1- فإنّ من المحتمل أنّ قسما من أحاديث أهل البيت علیهم السلام ضاع وتلف ، ففي بغداد كانت مكتبة عظيمة تضمّ قسما كبيرا من ذلك التراث ألقاها المغول عند هجومهم على بغداد في نهر دجلة. وابن أبي عمير كانت له كتب كثيرة سجّل فيها الأحاديث التي سمعها من الأئمّة علیهم السلام وعند ما ألقى الرشيد القبض عليه أحرقت اخته تلك الكتب حفاظا عليه.

البحث عن دلالتها على البراءة أو يكون معارضا بها؟ والجواب : انّ دليل الإخباري على وجوب الاحتياط لو تمّ فهو مقدّم على الآية الكريمة لأنّها تقول إنّ حرمة شرب التتن ما دام لم يبلّغها الرسول فلا نعذّب عليها ، ومع تمامية دليل الإخباري على وجوب الاحتياط يصدق أنّ الرسول بلّغنا وجوب الاحتياط بترك التتن ، وإذا دخّن المكلّف فإنزال العقوبة عليه يكون بعد إرسال الرسول (1).

الآية الثالثة

واستدل أيضا بقوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً ... ) (2) بتقريب أنّ بعض أهل الكتاب حرّم على نفسه قسما من الحيوانات فنزلت الآية الكريمة لتعلم النبي صلی اللّه علیه و آله كيفية الردّ عليهم وأنّه قل لهم انّي لا أجد في قائمة المحرّمات تلك الحيوانات التي حرّمتموها ، وهذا يدلّ على أنّ كل شيء لم يدلّ دليل على تحريمه فهو مباح وهو المطلوب.

ويمكن المناقشة بما يلي : -

1 - انّ النبي صلی اللّه علیه و آله إذا لم يجد اسم الحيوان في قائمة المحرّمات الموجودة عنده كشف ذلك عن إباحة الشيء واقعا لأنّه صلی اللّه علیه و آله عنده القائمة التامّة لجميع المحرّمات

ص: 83


1- وإنّما لم يفصل هنا بين الموردية والسببية كما فصّل في الآية السابقة لأنّه حتّى لو فسّرت الآية بالموردية فدليل الإخباري لو تمّ فهو المقدّم ، إذ المعنى بناء على الموردية هكذا : لا نعذّب في مورد عدم إرسال الرسول ، وواضح أنّ دليل الإخباري على وجوب الاحتياط بترك التتن لو تمّ فهو رسول ، فالتعذيب يكون تعذيبا بعد إرسال الرسول.
2- الأنعام : 145.

فإذا لم يجد فيها اسم الحيوان كان ذلك كاشفا قطعيا عن عدم حرمته ؛ إذ لا يحتمل أن يكون الشيء محرّما واقعا ومع ذلك لا يذكر اسمه في القائمة الموجودة عنده ويبقى مستورا عليه. هذا بالنسبة إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ، وقياسنا نحن عليه قياس مع الفارق ؛ إذ نحن لا نقطع بأنّ قائمة المحرّمات الموجودة عندنا هي قائمة تامّة لم يتلف منها شيء بل نحتمل أنّ بعضها ضاع علينا بسبب وآخر ، ومع الاحتمال المذكور لا يمكن القطع بأنّ الشيء إذا لم يوجد اسمه في قائمة المحرّمات الموجودة بأيدينا فهو مباح واقعا.

2 - انّ النبي صلی اللّه علیه و آله إذا لم يجد اسم الحيوان في قائمة المحرّمات الموجودة عنده فذلك ان لم يكن كاشفا قطعيا عن عدم حرمته واقعا فلا أقل هو كاشف عن عدم صدور بيان يدلّ على تحريمه وإلاّ لوصل النبي صلی اللّه علیه و آله إذ لا يحتمل تحريم شيء وإخفائه عليه. هذا بالنسبة إلى صلی اللّه علیه و آله . ومن الواضح أنّ قياس أنفسنا عليه صلی اللّه علیه و آله قياس مع الفارق فإنّ عدم وجداننا اسم الشيء في قائمة المحرّمات لا يدلّ على عدم صدور بيان تحريمه من اللّه سبحانه ؛ إذ لعلّه صدر ولم يصلنا سبب ضياع جملة من الأحاديث.

3 - ومع التنازل عن المناقشتين السابقتين نقول : انّ الآية الكريمة حكمت بأنّ الشيء إذا لم يوجد اسمه في قائمة المحرّمات فهو مباح ، ومن الواضح أنّ هذا لا يدلّ على حجّية أصل الإباحة ؛ إذ من المحتمل أن يكون حكم الآية على الشيء بالإباحة عند عدم وجود اسمه في القائمة لا لأصالة الإباحة بل من جهة الاعتماد على بعض العمومات الاجتهادية كقوله تعالى : ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ

ص: 84

جَمِيعاً ) (1) حيث يدلّ على إباحة كل شيء مخلوق له سبحانه ، فإثبات الحلّية هو من باب التمسّك بعموم العام عند عدم وجود مخصّص له (2) وليس من باب أصل الإباحة في كل شيء.

الآية الرابعة

واستدلّ أيضا بقوله تعالى : ( وَما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ) (3) بتقريب أنّ المراد من الإضلال في قوله : ( لِيُضِلَ ) أمّا تسجيل القوم ظالين ومنحرفين فيثبت لهم عقاب الضالين أو بمعنى الخذلان ، أي إيكالهم إلى أنفسهم وسلب أسباب التوفيق والهداية عنهم. والمراد من الهداية في قوله : « هَداهُمْ » هي الهداية إلى نور الإسلام ، والمراد من بيان ما يتّقون بيان ما يكون محرّما.

ومعنى الآية الكريمة بعد هذا : انّ اللّه سبحانه بعد أن هدى المسلمين إلى نور الإسلام لا يسجلهم ضالين عند ارتكابهم لبعض المحرّمات إلاّ بعد أن يبيّن لهم تلك المحرّمات التي يجب أن يتّقوها ويتحرّزوا عنها ، وهذا هو المطلوب حيث يثبت أنّه قبل بيان حرمة الشيء لا يعاقب سبحانه على ارتكاب الشيء المحرّم. وعلى هذا فدلالة الآية على البراءة تامّة.

ص: 85


1- البقرة : 29
2- والمخصّص في المقام هو ذكر اسم الشيء في قائمة المحرّمات ، وعند عدم ذكر اسمه لا يكون المخصّص ثابتا فيتمسّك بعموم قل لا أجد ... إلخ.
3- التوبة : 115.

ولكن يبقى علينا أن نعرف أنّ دليل الإخباري على وجوب الاحتياط لو تمّ فهل هو مقدّم على الآية الكريمة أو لا؟ ان التعرّف على ذلك يتوقّف على التعرّف على مطلب وهو أنّه ماذا يراد من قوله تعالى : ( حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ) فهل يراد حتّى يبيّن لهم حرمة الشيء بعنوانه الأولي أو المراد حتّى يبيّن لهم حرمة الشيء ولو بعنوانه الثانوي. وبكلمة اخرى هل المراد حتّى يبيّن لهم حرمة شرب التتن مثلا بعنوان شرب التتن (1) أو حتّى يبيّن لهم حرمة شرب التتن ولو بعنوان أنّه مجهول ومشتبه الحكم؟ فإن كان المراد هو الأوّل - أي أنّ اللّه لا يضلّ قوما لأجل حرمة شرب التتن مثلا حتّى يبيّن لهم بواسطة النصوص أن شرب التتن محرّم (2) - فلا يكون دليل الإخباري مقدّما على الآية الكريمة بل تكون معارضة له. وأمّا لو كان المراد هو الثاني فدليل الإخباري هو المقدّم لأنّ مثل « قف عند الشبهة » يدلّ على أنّ شرب التتن يحرم ارتكابه لكونه مشتبها ومع بيان حرمته بعنوان أنّه مشتبه لا تجري البراءة فيه.

وبهذا ينتهي حديثنا عن الآيات الكريمة ونتكلّم بعد هذا عن الروايات المستدل بها على البراءة.

قوله ص 35 س 3 : في الاعتراضات العامّة : أي التي لا تختص بدليل دون

ص: 86


1- العنوان الأولي لشرب التتن هو شرب التتن ، والعنوان الأولي لشرب الماء هو شرب الماء و ... أمّا عنوان مشكوك الحكم أو مشتبه الحكم ونحوهما فهو ثانوي.
2- ويسمّى الحكم الناهي عن شرب التتن بعنوان شرب التتن بالحكم الواقعي وتكون مخالفته مخالفة واقعية بينما يسمّى الحكم الناهي عن عنوان المشتبه بالحكم الظاهري وتكون مخالفته مخالفة ظاهرية.

آخر.

قوله ص 36 س 6 : الهيئة القائمة بالفعل والمفعول : المراد من الفعل هو « يكلّف » ومن المفعول هو اسم الموصول. والمعنى : أنّ الشيخ الأعظم ذكر أنّه يلزم استعمال الهيئة الحاصلة من نسبه يكلّف إلى اسم الموصول في معنيين ...

قوله ص 37 س 5 : شموله لذلك : أي وليس المقصود من كون اسم الموصول مطلقا وشاملا أنّه شامل للتكليف بمعنى الكلفة والإدانة والتحميل حتّى يصير المعنى : لا يحمّل اللّه إلاّ تحميلا آتاها. وبكلمة اخرى : المراد من قوله « لذلك » هو التكليف بمعنى الكلفة والتحميل.

قوله ص 37 س 9 : فلا تنفع : أي الآية الكريمة أو البراءة المستفادة منها.

قوله ص 39 س 6 : خاصّة : أي بل لعلّه بلحاظ إفادة الشأنية والمناسبة.

قوله ص 40 س 1 : في إطلاق العنان : أي الإباحة.

قوله ص 40 س 14 : بعنوانه : أي الأوّلي.

قوله ص 40 س 14 : انحصر بالمخالفة الواقعية : أي انحصر بما لو ورد دليل يحرم شرب التتن بعنوان شرب التتن بأن يقول هكذا : لا تشرب التتن ، فإن مخالفة مثل هذا النهي تسمّى بالمخالفة الواقعية.

قوله ص 41 س 2 : كعنوان المخالفة الاحتمالية : أي كعنوان المشتبه أو مجهول الحكم أو ما يحتمل فيه المخالفة.

قوله ص 41 س 3 : بهذا المعنى : أي ولو بعنوان ثانوي ظاهري.

ص: 87

ص: 88

أدلة البراءة من السنّة

اشارة

قوله ص 41 س 5 : واستدل من السنّة بروايات ... الخ : واستدل على البراءة من السنّة الشريفة بعدّة روايات نذكر منها : -

الحديث الأوّل
اشارة

قوله علیه السلام : كل شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » (1). والاستدلال به يتوقّف على مطلبين هما : -

1 - أن يكون المقصود من الورود - المستفاد من كلمة يرد - هو الوصول دون الصدور وإلاّ صار المعنى : شرب التتن مثلا مباح ومطلق إذا لم يصدر نهي عنه ، وبناء على هذا لا يتمّ الاستدلال إذ نحتمل صدور النهي عن شرب التتن واختفاءه علينا لبعض الأسباب ، وهذا بخلافه بناء على إرادة الوصول فإنّ الاستدلال تامّ ؛ إذ المعنى : شرب التتن مثلا مباح إذا لم يصل نهي عنه ، ومن الواضح ما دام لا توجد رواية في الوسائل تدلّ على حرمة التتن يصدق أنّه لم يصلنا نهي عن التتن وإن كنّا نحتمل صدوره واقعا واختفاءه علينا فإنّه حتّى مع هذا الاحتمال يصدق لم يصلنا نهي عن التتن.

ص: 89


1- الوسائل : الباب 12 من أبواب صفات القاضي حديث 60.

2 - أن يكون المقصود من ورود النهي ورود النهي عن الشيء بعنوانه الأولي لا بعنوانه الثانوي ؛ إذ لو كان المقصود وروده ولو بالعنوان الثانوي ، أي بعنوان مشتبه الحكم مثلا لكان دليل الإخباري مقدّما على الحديث لأنّه - دليل الإخباري - يفيد النهي عن كل مشتبه الحكم ، وحيث أنّ شرب التتن مشتبه الحكم فيصدق عليه أنّه ممّا ورد النهي عنه فلا يكون مطلقا ومباحا لأنّ المباح هو الشيء الذي لم يرد نهي عنه ولو بالعنوان الثانوي ، والمفروض أنّ دليل الإخباري يفيد النهي بالعنوان الثانوي ، وأمّا لو كان المقصود ورود النهي بالعنوان الأوّلي ، أي بأن يرد نهي عن شرب التتن بعنوان شرب التتن فلا يكون دليل الإخباري مقدّما على الحديث لأنّه لو تمّ فهو لا يثبت النهي عن شرب التتن بعنوان شرب التتن بل بعنوانه الثانوي ، أي بعنوان المشتبه ومشكوك الحكم.

وبعد اتّضاح توقّف الاستدلال على المطلبين المذكورين نأخذ بتحقيق حالهما.

أمّا المطلب الأوّل فقد يقال بأنّ الورود حيث إنّه مردّد بين الصدور والوصول ولا مثبت لكونه بمعنى الوصول فلا يتمّ الاستدلال بالحديث.

ولكن في مقابل هذا قد يقال بإمكان إثبات كون الورود هو بمعنى الوصول وذلك بأحد البيانين التاليين : -

البيان الأوّل
اشارة

ما ذكره السيد الخوئي ( دام ظلّه ) من أنّ الإباحة التي حكم بها الحديث هي الإباحة الظاهرية دون الواقعية - لما سيأتي بعد قليل - وما دامت ظاهرية فلا بدّ

ص: 90

وأن يكون موضوعها هو عدم الوصول لا عدم الصدور لأنّ موضوع الحكم الظاهري هو الشكّ وعدم العلم ، فلو كان معنى الورود هو الوصول تصير الإباحة إباحة ظاهرية ؛ إذ يصير معنى الحديث : شرب التتن مثلا مباح إذا لم يصل - أي لم يعلم - نهي عنه ، والإباحة على هذا ظاهرية لأنّ موضوعها هو عدم الوصول أي عدم العلم بالنهي ، ومن الواضح متى ما كان موضوع الإباحة عدم العلم تصير ظاهرية. وأمّا لو كان معنى الورود هو الصدور تصير الإباحة إباحة واقعية ؛ إذ يصير معنى الحديث : انّ التتن مباح ما دام لم يصدر نهي عنه ، وواضح أنّه إذا أردنا أن نجزم بإباحة التتن فلا بدّ من الجزم بعدم صدور النهي عنه ، ونحن نعلم أنّه لو جزمنا بعدم صدور النهي فلا يبقى لدينا شكّ حتّى تكون الإباحة الثابتة إباحة ظاهرية ، فإنّ كون الحكم ظاهريا يتوقّف على وجود الشكّ ومع الجزم بعدم صدور النهي لا يبقى شكّ لتكون الإباحة ظاهرية (1).

ولربّ قائل يقول : لماذا قلتم إنّ الإباحة المنظورة للحديث هي الإباحة الظاهرية حتّى يترتّب على ذلك تفسير الورود بالوصول ولم تقولوا هي الإباحة الواقعيّة حتّى يترتّب على ذلك تفسير الورود بالصدور.

والجواب : إنّ الإباحة الناظر لها الحديث لو كانت هي الواقعية فنسأل هل

ص: 91


1- لا يقال : لو فسّرنا الورود بمعنى الوصول يلزم نفس ما ذكر أيضا. فإنّه يقال : كلا ، لا يلزم ذلك فإنّه وإن كان من اللازم _ بناء على تفسير الورود بالوصول _ إحراز عدم الوصول ولكن حيث أنّ الوصول معناه العلم فإحراز عدم الوصول يصير معناه إحراز عدم العلم ، وإحراز عدم العلم معناه إحراز الشكّ الذي هو موضوع الحكم الظاهري ، وهو محرز بالوجدان.

المقصود للحديث إفادة التعليق الواقعي - بحيث يصير المعنى : أنّ الإباحة الواقعية متوقّفة واقعا على عدم صدور النهي فيكون عدم صدور النهي علّة واقعا لثبوت الإباحة الواقعية - أو أنّ المقصود ليس هو إفادة التعليق الواقعي بل إفادة أنّ النهي إذا لم يكن صادرا واقعا فالإباحة واقعا هي الثابتة؟

فإنّ كان المقصود هو الأوّل فهو باطل فإنّ إباحة شرب التتن واقعا والنهي عن شرب التتن متضادان ؛ إذ امّا أن يكون التتن مباحا واقعا أو منهيا عنه ، ومع التضادّ فلا يمكن أن يكون عدم صدور النهي علّة لثبوت الإباحة فإنّ عدم ثبوت أحد الضدّين لا يكون علّة لثبوت الضدّ الآخر ، ولذا لا يصحّ أن يقال أنّ عدم الإزالة هو العلّة لوجود الصلاة بل العلّة لوجود الصلاة هي إرادة المكلّف فهو لما أراد الصلاة أوجدها ولم يوجد الإزالة ، فوجود الصلاة وعدم الإزالة معلولان لعلّة واحدة وهي إرادة المكلّف لا أن الإزالة لما انعدمت وجدت الصلاة.

وإن كان المقصود هو الثاني فهو باطل أيضا لأنّه بيان لمطلب واضح لا يستحقّ التعرّض له بمثل الحديث الشريف لأنّ معنى الحديث يصير : إذا لم يكن النهي صادرا واقعا فالإباحة هي الثابتة ، ان هذا لغو وبيان لما هو واضح إذ هو نظير أن يقال إذا لم يكن أحد الضدّين ثابتا فالضدّ الآخر هو الثابت فالبياض إذا لم يكن ثابتا فالسواد هو الثابت (1).

وباختصار : أنّ الإباحة الناظر لها الحديث لا يمكن أن تكون إباحة واقعية لأنّ إرادة التعليق الواقعي غير ممكنة ، وإرادة غير التعليق الواقعي لغوية فيلزم أن

ص: 92


1- فيما لو فرض عدم وجود ضدّ ثالث.

تكون ظاهرية ، وحيث أنّ الإباحة الظاهرية لا يمكن أن يكون موضوعها عدم الصدور فيتعيّن أن يكون موضوعها عدم الوصول أي عدم العلم ، وهو المطلوب.

مناقشة البيان الأوّل

ويمكن مناقشة البيان المذكور بأنّا نختار أن الإباحة الناظر لها الحديث هي الإباحة الواقعية ، كما ونختار أنّ المقصود من التعليق هو التعليق الواقعي ولا يرد ما ذكر من لزوم تعليق ثبوت أحد الضدّين على عدم الضدّ الآخر لأنّ الإباحة الواقعية لشرب التتن مع النهي عن شرب التتن ليسا متضادين فإنّ الضدّ للإباحة الواقعية هو حرمة شرب التتن لا النهي عن شرب التتن فإنّ النهي ليس هو نفس الحرمة بل كاشف عنها ، وعلى هذا فأقصى ما يلزم تعليق ثبوت الإباحة الواقعية على عدم الخطاب المبرز للضدّ - وهو الحرمة - لا على نفس عدم الضدّ ، وشتّان ما بين المطلبين.

إن قلت : إنّا نسلّم أنّ التضاد ليس هو بين الإباحة الواقعية والنهي بل بين الإباحة الواقعية والحرمة إلاّ أنّ التضادّ بين الإباحة الواقعية والحرمة كما يقتضي امتناع تعليق ثبوت الإباحة الواقعية على عدم ثبوت الحرمة الواقعية كذلك يقتضي امتناع تعليق ثبوت الإباحة الواقعية على عدم الخطاب الكاشف عن الحرمة الواقعية.

قلت : إنّ التضادّ بين الإباحة الواقعية والحرمة وإن اقتضى امتناع تعليق ثبوت الإباحة على عدم الحرمة ولكنّه لا يقتضي امتناع تعليق ثبوت الإباحة على عدم المبرز والكاشف عن الحرمة غايته انّه لا يقتضي ثبوت تعليق الإباحة

ص: 93

على عدم المبرز للحرمة لا أنّه يقتضي امتناع تعليق ثبوت الإباحة الواقعية على عدم المبرز للحرمة.

وما دام لا يمتنع تعليق ثبوت الإباحة على عدم المبرز للحرمة فمن الممكن أحيانا وجود نكتة تقتضي ان يعلّق المولى ثبوت الإباحة على عدم المبرز والكاشف عن الحرمة بأن يقول : ان شرب التتن مباح واقعا إن لم يصدر خطاب يدلّ على الحرمة ، ومفهوم هذا ولازمه أنّه إن صدر خطاب يدلّ على إنشاء الحرمة فالإباحة لشرب التتن غير ثابتة واقعا بل الثابت هو الحرمة الفعلية.

ومعنى ذلك بعبارة اخرى أنّ الحرمة الفعلية لشرب التتن واقعا مقيّدة بصدور خطاب يدل على إنشاء الحرمة ، وهذا معنى معقول ، فإنّ تقييد المجعول - أي الحرمة الفعلية - بصدور خطاب يدلّ على الجعل - أي الحكم الإنشائي بالحرمة - أمر معقول فإنّ غير المعقول هو تعليق ثبوت الحرمة الفعلية على صدور خطاب يدلّ على الحرمة الفعلية وأمّا تعليق ثبوت الحرمة الفعلية على صدور خطاب يدلّ على الحكم الإنشائي بالحرمة فهو معقول.

ولعلّ هذا يشبه ما تقدّم في القسم الأوّل ص 430 من أنّ تقييد الحكم الفعلي بالقطع بالحكم الإنشائي من طريق خاص أمر معقول ، فكما أنّ تقييد الحكم الفعلي بالعلم بالحكم الإنشائي من طريق خاص أمر معقول كذلك يعقل في مقامنا تقييد الحكم الفعلي التحريمي بصدور خطاب دال على الحكم الإنشائي بالحرمة.

البيان الثاني

والبيان الثاني لإثبات أنّ الورود بمعنى الوصول دون الصدور هو أنّ

ص: 94

الورود يحتاج إلى مورود عليه ، فورود شيء بلا مورود عليه أمر غير ممكن ، وإذا كان الورود يحتاج إلى مورود عليه فهذا يدلّل على أنّه بمعنى الوصول لا بمعنى الصدور ؛ إذ وصول النهي يحتاج إلى وجود شخص يتحقّق له الوصول - وهو المورود عليه - وهذا بخلافه في الصدور فإنّه لا يتوقّف على افتراض شخص يتحقّق الصدور بالنسبة إليه.

وفيه : إنّا نسلّم احتياج الورود إلى مورود عليه ولكن لا نسلّم أنّ المورود عليه الذي يتطلّبه لا بدّ وأن يكون شخصا بل لعلّه عبارة عن متعلّق النهي كشرب التتن مثلا ، ولذا نقول إنّ شرب التتن ورد عليه النهي. وما دام الورود لا يتطلّب أكثر من مورود عليه بمعنى متعلّق النهي فذلك لا يكشف عن كونه - الورود - بمعنى الوصول إذ الوصول يحتاج إلى افتراض شخص يصل إليه النهي بينما الورود لا يتطلّب افتراض شخص يرد إليه النهي بل يكتفي بافتراض مورود عليه بمعنى متعلّق النهي ومعه لا يتعيّن إرادة الوصول من الورود.

والخلاصة : لا يمكن بواسطة البيانين المذكورين إثبات أنّ الورود هو بمعنى الوصول ، ومعه فلا حاجة إلى البحث عن المطلب الثاني وهو أنّ المقصود من النهي هو النهي عن الشيء بعنوانه الأوّلي لا بعنوانه الثانوي.

قوله ص 41 س 7 : لا بدّ من بحثهما : لتوقّف تمامية الاستدلال بالحديث الشريف عليهما.

قوله ص 41 س 10 : بالمعنى المقصود : وهو البراءة عند عدم وصول النهي.

قوله ص 41 س 12 : النهي الظاهري : أي النهي الذي تمسّك به الإخباري في أدلته فإنّ النهي عن ارتكاب الشبهة نهي ظاهري لأنّه نهي عن الشيء بعنوانه

ص: 95

الثانوي - أي بعنوان مجهول الحكم - وليس نهيا عنه بعنوانه الأوّلي.

قوله ص 41 س 13 : يصلح دليل وجوب الاحتياط للورود عليه : لأنّها براءة مقيّدة بعدم النهي عن الشيء ولو نهيا ظاهريا متعلّقا بالشيء بما أنّه مجهول الحكم وواضح أنّ دليل الإخباري يفيد النهي عن ارتكاب شرب التتن بما هو مجهول الحكم لا بما هو شرب التتن.

قوله ص 42 س 4 : من أنّ المغيى : وهو قوله « كلّ شيء مطلق » ، فالإطلاق الذي هو بمعنى الإباحة هو المغيى.

قوله ص 42 س 7 : ولا يمكن إحرازها : أي ولا يمكن إحراز الإباحة والعلم بها إلاّ بإحراز الخ.

قوله : ص 42 س 9 : كان الجواب منه : أي من السيد الخوئي.

قوله ص 42 س 11 : الأولى : أي الإباحة الواقعية. والمراد من الثاني النهي الواقعي.

قوله ص 42 س 12 : مقدّمية : أي : علّية.

قوله ص 42 س 17 : لا يقتضي : المناسب : وإن كان لا يقتضي.

قوله ص 43 س 2 : إناطة حكم : وهو الإباحة الواقعية. والمراد من الحكم المضاد هو الحرمة.

قوله ص 43 س 3 : ومرجع ذلك : أي مرجع تعليق الإباحة الواقعية بعدم النهي الكاشف عن الحرمة.

قوله ص 43 س 3 : إلى أن تكون فعلية الحرمة بمبادئها : أي يكون الحكم الفعلي بالحرمة - المعبّر عنه بالمجعول - منوطا بصدور الخطاب الشرعي الخ.

ص: 96

قوله ص 43 س 4 : الدالّ عليها : ظاهر العبارة أنّ الضمير يرجع إلى الحرمة الفعلية بمبادئها ولكنّه غير مراد جزما فإنّ الخطاب لا يدلّ على الحكم الفعلي بل على الحكم الإنشائي فالضمير يرجع إلى الحرمة الإنشائية.

قوله ص 43 س 5 : في موضوعه : أي في موضوع الحكم.

ص: 97

الحديث الثاني
اشارة

واستدلّ على البراءة بحديث الرفع المروي عن النبي صلی اللّه علیه و آله : « رفع عن امّتي تسعة : الخطأ والنسيان وما اكرهوا عليه وما لا يعلمون ... » (1).

وتقريب الاستدلال : أنّ إحدى الفقرات التسع المذكورة في الرواية فقرة « ما لا يعلمون » ، وحرمة شرب التتن مثلا حيث إنّها غير معلومة فهي مرفوعة ، وهو المطلوب (2).

ويمكن منهجة الأبحاث في الحديث المذكور في ثلاث مراحل (3) : -

المرحلة الاولى

وفي هذه المرحلة نتكلّم عن فقه الرواية ، أي عن معناها والمقصود منها.

وقبل ذلك نقدّم مقدّمة صغيرة في توضيح مصطلح الحكومة.

انّ الحكومة تعني نظر أحد الدليلين إلى الدليل الآخر لشرحه وتوضيحه كدليل لا ضرر فإنّه ناظر إلى مثل دليل وجوب الوضوء وغيره من أدلة الأحكام الأوّلية ويريد أن يقول إنّ الوجوب لا يثبت للوضوء إذا كان مستلزما للضرر. ويسمّى الدليل الناظر بالحاكم بينما الدليل المنظور له يعبّر عنه بالمحكوم عليه.

ص: 98


1- الوسائل : كتاب الجهاد باب 56 من أبواب جهاد النفس حديث 1. ثمّ إنّه يأتي فيما بعد شرح بعض فقرات الحديث.
2- يأتي توضيح الاستدلال بشكل أعمق في المرحلة الثانية.
3- كلام الاصوليين في حديث الرفع دقيق ومطوّل.

ثمّ إنّ الدليل الحاكم له شكلان فتارة يكون ناظرا إلى الموضوع في الدليل المحكوم - مثل دليل لا ربا بين الوالد وولده فإنّه ناظر إلى دليل الربا حرام ويريد أن يقول إنّ الموضوع في هذا الدليل وهو الربا لا يتحقّق ما دام أخذ الزيادة متحقّقا بين الوالد والولد - واخرى يكون ناظرا إلى المحمول في الدليل المحكوم (1) مثل دليل لا ضرر فإنّ هذا الدليل ينفي كل حكم ينشأ منه الضرر ، فوجوب الوضوء إذا كان مستلزما للضرر فهو منفي بمقتضى هذا الحديث ، وواضح إنّ الوجوب حكم ومحمول على الوضوء وليس موضوعا ، فدليل لا ضرر ناظر إلى المحمول في دليل الوضوء واجب ، أي هو ناظر إلى الوجوب لينفيه حالة الضرر.

وبعد اتّضاح هذه المقدّمة نعود إلى المرحلة الاولى لنمنهجها ضمن نقاط ستّ :

1 - كيف قال الحديث رفع الخطأ والنسيان وما اكرهوا عليه و ... الحال إنّا نجد وقوع الخطأ والنسيان ونحوهما كثيرا ، ومع هذه الكثرة في الوقوع خارجا كيف يصحّ للحديث نفي ذلك؟ وفي الجواب نذكر ثلاثة احتمالات :

أ - ان نقدّر لفظا كلفظ المؤاخذة ونقول المقصود : رفعت المؤاخذة حالة الخطأ ورفعت المؤاخذة حالة النسيان وهكذا في البقية.

ب - أن نقول إنّ المقصود رفع هذه الامور التسعة ولكن لا وجودها الخارجي ليقال أنّ تحقّقها في الخارج كثير فكيف يرفع بل المقصود رفع وجودها في عالم التشريع ، فكأنّ الحديث يريد أن يقول انّ الخطأ مرفوع في عالم التشريع بمعنى أنّ الخطأ لم يقع في عالم التشريع موضوعا أو متعلّقا (2) لحكم ، فمن شرب

ص: 99


1- ويعبّر عن المحمول بالحكم أيضا ، فالحكم والمحمول لفظان يقصد بهما شيء واحد.
2- الموضوع والمتعلّق مصطلحان اصوليان ، فيراد بالمتعلّق ما تعلّق به الحكم بحيث يلزم إيجاده أو تركه. ويراد بالموضوع ما ثبت الحكم له على تقدير افتراض وجوده صدفة ، فشرب الخمر متعلّق لأنّه يلزم تركه وفعل الصلاة متعلّق لأنّه يلزم إيجاده بينما البلوغ والاستطاعة والبيع و ... موضوع لأنّه لا يلزم إيجادها أو تركها بل على تقدير تحقّق البلوغ أو الاستطاعة يجب الحجّ مثلا ، وعلى تقدير البيع تثبت الحلّية والإمضاء.

الخمر خطأ فشربه الخطأي لم يقع موضوعا للحرمة.

ويمكن أن نقول إنّ مرجع هذا الاحتمال بالعبارة الصريحة إلى رفع الحكم فالحديث كأنّه يريد أن يقول إن شرب الخمر ما دام قد صدر خطأ فهو ليس بحرام ، ولكن لم تنف الحرمة صريحا ومباشرة بل بشكل غير مباشر ، فإنّ أحد الأساليب المتداولة عند العرب لنفي الحكم هو نفي موضوعه نظير الحديث الذي يقول : « لا رهبانية في الإسلام » أي أنّ الرهبانية لم تقع موضوعا للاستحباب الشرعي في الإسلام. هذا هو المقصود للحديث بالنظرة الاولى ولكن المقصود بالنظرة الثانية نفي الاستحباب وأنّه لا استحباب للرهبنة في الإسلام بيد أن هذا لم يذكر بهذا اللسان الصريح بل نفي وقوع الرهبنة موضوعا للحكم الاستحبابي في عالم التشريع ولازم ذلك نفي الاستحباب.

وباختصار : انّه بناء على هذا الاحتمال يريد الحديث نفي الحكم ولكن عن طريق نفي وقوع هذه الامور التسعة موضوعا في عالم التشريع ، وبناء عليه يكون الحديث شبيها تماما بحديث لا رهبانية في الإسلام.

ج - أن يكون المقصود نفي هذه الامور التسعة لا بلحاظ عالم التشريع - كما كنّا نذكر ذلك في الاحتمال الثاني - بل نفيها بلحاظ وجودها الخارجي ، وللفرار من لزوم محذور الكذب يقال المقصود نفي وجودها الخارجي نفيا تنزيليا ، فكأنّ

ص: 100

الحديث يريد أن يقول إن شرب الخمر مثلا إذا تحقّق خطأ فوجوده الخارجي هو بمنزلة العدم وكأنّه لم يوجد ويترتّب على ذلك نفي الحرمة ونفي الحد. وبناء على هذا الاحتمال يصير حديث الرفع أشبه بحديث « لا ربا بين الوالد وولده » فكما أنّ حديث لا ربا ينزل وجود الربا بين الوالد وولده بمنزلة العدم كذلك حديث الرفع ينزل الفعل الصادر خطأ أو نسيانا منزلة العدم.

هذه هي الاحتمالات الثلاثة في المقصود من رفع الخطأ وأخواته.

2 - وحديث الرفع سواء فسّرناه على ضوء الاحتمال الأوّل أم الاحتمال الثاني أو الثالث هو حاكم على أدلة الأحكام الأوّلية لأنّه على جميع هذه الاحتمالات الثلاثة ناظر إلى أدلة الأحكام الأوّلية ويشرحها فهو ناظر إلى مثل دليل شرب الخمر حرام ليقول على الاحتمال الأوّل : إنّ شرب الخمر إذا صدر خطأ أو نسيانا فلا عقوبة عليه بناء على تقدير العقوبة ، وليقول على الاحتمال الثاني : انّ شرب الخمر إذا صدر خطأ أو نسيانا فليس موضوعا للحرمة ، وليقول على الاحتمال الثالث : إنّ شرب الخمر إذا صدر خطأ أو نسيانا فهو بمنزلة العدم.

وقد تسأل إنّ حديث الرفع إذا كان حاكما على أدلّة الأحكام الأوّلية فهل هو ناظر إلى الموضوع في أدلّة الأحكام الأوليّة أو إلى المحمول فيها؟

والجواب : انّه على الاحتمالين الأوّلين يكون ناظرا إلى الحكم والمحمول (1) بينما على الاحتمال الثالث يكون ناظرا إلى الموضوع.

أمّا أنّه على الاحتمال الثالث يكون ناظرا إلى الموضوع فلأنّه على الاحتمال

ص: 101


1- الحكم والمحمول شيء واحد فإن كل حكم هو محمول على موضوع القضية.

المذكور يقول الحديث : ان شرب الخمر ما دام قد صدر خطأ فهو بمنزلة العدم ، ومن الواضح إن شرب الخمر هو موضوع في دليل شرب الخمر حرام.

وبناء على الاحتمال المذكور يصير حديث الرفع أشبه بحديث لا ربا بين الوالد وولده ، فكما أنّ حديث لا ربا ناظر إلى الموضوع في دليل الربا حرام كذلك حديث الرفع ناظر على الاحتمال الثالث إلى الموضوع في دليل شرب الخمر حرام.

وأمّا أنّه على الاحتمال الأوّل يكون حديث الرفع ناظرا إلى الحكم فلأنّه على الاحتمال الأوّل لا بدّ من تقدير لفظ ، وذلك اللفظ إذا كان هو الحكم - لا المؤاخذة كما كنّا نفترض ذلك سابقا - يصير المعنى : لا حكم في صورة الخطأ والنسيان ، ومن الواضح انّه بناء على هذا يصير حديث الرفع ناظرا إلى الأحكام المذكورة في أدلة الأحكام الأولية ويريد نفيها في صورة الخطأ والنسيان.

وبناء على هذا الاحتمال يصير حديث الرفع أشبه بحديث لا ضرر ، فكما انّ حديث لا ضرر ينفي الحكم الذي ينشأ منه الضرر كذلك حديث الرفع بناء على هذا ينفي الحكم في صورة الخطأ والنسيان.

وأمّا أنّه على الاحتمال الثاني يكون حديث الرفع ناظرا إلى الحكم أيضا فلأنّه على الاحتمال الثاني يريد حديث الرفع نفي الحكم ولكن بلسان نفي الموضوع.

إذن على كلا الاحتمالين الثاني والأوّل يكون حديث الرفع ناظرا إلى الحكم ويريد نفيه في صورة الخطأ والنسيان ، غاية الأمر بناء على الاحتمال الأوّل يكون الحديث نافيا للحكم بصورة مباشرة بينما على الاحتمال الثاني لا يكون الحديث

ص: 102

نافيا للحكم بصورة مباشرة بل بشكل غير مباشر ؛ إذ هو ينفي الحكم ولكن لا بلسان نفي الحكم بل بلسان نفي الموضوع فهو ينفي الموضوع ويريد بذلك نفي الحكم حيث إنّ ثبوت الموضوع في عالم التشريع هو عبارة اخرى عن ثبوت الحكم ونفي ثبوت الموضوع في عالم التشريع هو عبارة اخرى عن نفي الحكم.

وحديث الرفع بناء على هذا الاحتمال الثاني هو أشبه بحديث لا رهبانية في الإسلام ، فكما أنّ حديث لا رهبانيّة ينفي وقوع الرهبنة موضوعا في عالم التشريع ومقصوده الحقيقي نفي استحبابها كذلك حديث الرفع ينفي وقوع شرب الخمر الصادر خطأ موضوعا في عالم التشريع ومقصوده الحقيقي نفي الحرمة.

3 - وبعد أن عرفنا أنّ الاحتمالات في حديث الرفع ثلاثة علينا الآن أن نعرف أنّ أي واحد من هذه الاحتمالات هو الأرجح؟

أمّا الاحتمال الأوّل - وهو تقدير كلمة مؤاخذة أو حكم - فهو بعيد لأنّه بحاجة إلى تقدير والأصل عدم التقدير ، ومعه فيكون الراجح هو أحد الاحتمالين الآخرين.

وقد تقول إنّه لا رجحان للاحتمالين الآخرين على الاحتمال الأوّل إذ كما أنّ الاحتمال الأوّل يحتاج إلى عناية - وهي عناية التقدير - كذلك الاحتمالان الأخيران هما بحاجة إلى عناية ولكنّها غير عناية التقدير ، وتلك العناية وهي كون الحديث ناظرا إلى عالم التشريع فإنّ توجيه نظر الحديث إلى عالم التشريع عناية أيضا ؛ إذ ظاهر الحديث كونه ناظرا إلى عالم الخارج ، وحمله على خلاف ذلك - بمعنى حمله على النظر لعالم التشريع - حمل له على خلاف ظاهره فيكون عناية أيضا.

ص: 103

وهكذا الاحتمال الثالث يحتاج إلى عناية أيضا فإنّ الاحتمال الثالث وإن كان يحافظ على ظهور الحديث في النظر إلى عالم الخارج ولكن حمل النفي الخارجي على النفي التنزيلي حمل على خلاف الظاهر فيكون عناية.

والجواب : انّ حمل نظر الحديث إلى عالم التشريع أو إلى الرفع التنزيلي وإن كان حملا على خلاف الظاهر فيكون عناية إلاّ أنّ هذه العناية توجد قرينة تساعد عليها ، بخلاف الاحتمال الأوّل فإنّ العناية التي يستدعيها لا توجد قرينة تساعد عليها.

وتلك القرينة هي أنّه لو لم يحمل نظر الحديث إلى عالم التشريع بل أبقي ناظرا إلى عالم الخارج فلازمه أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله يحكي لنا ما هو ثابت خارجا وكأنّه يقول إنّه خارجا لا يوجد خطأ ولا نسيان ولا ... وواضح أنّ هذا باطل لأنّ ظاهر الحديث حينما يقول رفع عن امّتي ... أنّه صلی اللّه علیه و آله يريد التكلّم بما هو نبي ومشرّع ولا يريد التكلّم بما هو إنسان عادي يخبر عمّا هو واقع خارجا ، فظهور الحديث في التكلّم بما هو شارع يريد إنشاء الأحكام دون الأخبار عمّا وقع خارجا قرينة تساعد على الاحتمال الثاني.

ونفس الشيء نقوله بالنسبة إلى الاحتمال الثالث فإنّه وإن كان مستلزما للعناية إلاّ أنّها عناية تساعد عليها القرينة فإنّ الحديث إذا كان ناظرا إلى رفع الخطأ والنسيان رفعا خارجيا بلا تنزيل ما هو موجود خارجا منزلة العدم فلازمه أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله يخبر عمّا هو في الخارج ، وواضح أنّ ظاهر الحديث أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله حينما تكلّم فقد تكلّم بما هو مشرّع ومنشأ للأحكام لا بما هو مخبر وقصّاص لما هو حادث في الخارج.

ص: 104

وباختصار : انّ الاحتمالين الأخيرين وإن كانا يستلزمان عناية إلاّ أنّها عناية تساعد عليها القرينة بخلافه على الاحتمال الأوّل فإنّ العناية التي يستدعيها لا تساعد عليها قرينة فإنّ تقدير كلمة محذوفة عناية مخالفة للظاهر حتّى في كلام النبي صلی اللّه علیه و آله الصادر منه بما هو مشرّع ومنشأ.

وبعد أن عرفنا أنّ الاحتمال الأوّل احتمال بعيد وأنّ الاحتمال الراجح هو أحد الأخيرين نأتي الآن لإجراء موازنة بين نفس الاحتمالين الأخيرين لنرى أن أيّهما هو الأرجح؟

والظاهر أنّ الأرجح هو الاحتمال الثاني ؛ إذ الاحتمال الثالث لا يمكن أن يتمّ في جميع الموارد المذكورة في الحديث ، فمثلا لو فرض أنّ المكلّف لم يطق الصوم فتركه بسبب عدم الإطاقة ، في مثل هذه الحالة لا يمكن تطبيق حديث الرفع بناء على الاحتمال الثالث ، فإنّ الاحتمال الثالث ينزّل ما هو موجود خارجا منزلة العدم - فشرب الخمر الصادر خطأ شيء موجود خارجا والحديث ينزّله منزلة العدم بناء على الاحتمال الثالث - وواضح في حالة ترك المكلّف للصوم بسبب عدم إطاقته له لا يوجد شيء خارجا لينزل منزلة العدم.

وهذا بخلافه على الاحتمال الأوّل والثاني فإنّ حديث الرفع يمكن تطبيقه في هذا المثال ، فعلى الاحتمال الأوّل ترفع المؤاخذة على ترك الصوم ، وعلى الاحتمال الثاني ينفى وقوع ترك الصوم موضوعا للحرمة في عالم التشريع.

4 - وبعد أن عرفنا الاحتمالات الثلاثة في حديث الرفع وعرفنا الراجح منها نأتي الآن للاطلاع على الثمرة المترتبة على الاحتمالات المذكورة. وفي هذا المجال نذكر ثمرتين هما : -

ص: 105

أ - انّه على الاحتمال الأوّل لا بدّ من تقدير شيء محذوف ، وحيث إنّ ذلك المقدّر مردّد بين خصوص المؤاخذة وبين كونه جميع الآثار فيقتصر على تقدير ما هو خصوص المؤاخذة دون بقية الآثار فيكون المرفوع هو خصوص المؤاخذة دون بقية الآثار.

هذا على الاحتمال الأوّل.

وأمّا على الاحتمال الثاني فالمرفوع هو جميع الآثار لا خصوص المؤاخذة فإنّه على الاحتمال الثاني ينفي الحديث وقوع شرب الخمر الخطأي موضوعا في عالم التشريع ، وجلي أنّ مقتضى الإطلاق عدم وقوع الشرب الخطأي موضوعا لأي حكم من الأحكام لا خصوص المؤاخذة. وهكذا على الاحتمال الثالث ، فإنّ الحديث ينزّل شرب الخمر الخطأي منزلة العدم ، ومقتضى الإطلاق أنّ الشرب الخطأي هو بمنزلة العدم بلحاظ جميع الآثار لا خصوص المؤاخذة.

ب - انّه لو اضطر المكلّف إلى ترك الصوم فبناء على الاحتمال الثالث لا يمكن تطبيق حديث الرفع بينما على الاحتمالين الأوّلين يمكن تطبيقه.

أمّا أنّه على الاحتمال الثالث لا يمكن تطبيقه فلأنّه على الاحتمال الثالث ينزل ما هو موجود خارجا منزلة العدم وواضح أنّه في حالة اضطرار المكلّف إلى ترك الصوم لا يوجد شيء خارجا لينزل منزلة العدم بل المتحقّق هو ترك الصوم فأي شيء إذن ينزل منزلة العدم؟

وقد تقول : لماذا لا ينزل نفس عدم الصوم منزلة العدم؟

والجواب : انّ عدم الصوم لو نزّل منزلة العدم فهذا معناه أنّ الصوم موجود ، أي معناه أنّ حديث الرفع يريد أن يقول إنّ المكلّف إذا اضطر إلى ترك

ص: 106

الصوم فهو وإن ترك الصوم ولكن حيث إنّ تركه للصوم منزّل منزلة العدم فالصوم منه متحقّق وثابت ، وواضح أنّ هذا لا يمكن أن يفي به حديث الرفع لأنّه حديث يتكفّل الرفع حيث يقول رفع ولا يتكفّل الإثبات فهو لا يقول انّ الصوم ثابت ومتحقّق من التارك له حالة الاضطرار.

هذا كلّه على الاحتمال الثالث. وقد اتّضح أنّه لا يمكن تطبيق حديث الرفع بناء عليه حالة الاضطرار إلى ترك الصوم ، وهذا بخلافه على الاحتمالين الأوّلين فإنّه لا يلزم من تطبيق الحديث إثبات الصوم ليقال إنّ الحديث لا يتكفّل الإثبات بل الرفع وإنّما بناء عليهما يلزم رفع المؤاخذة على ترك الصوم أو رفع موضوعية ترك الصوم للحرمة وهذا لا يستلزم الإثبات أبدا.

5 - اتّضح من خلال ما سبق تعيّن الاحتمال الثاني من بين الاحتمالات الثلاثة السابقة ، أي أنّ المقصود هو رفع وقوع الامور التسعة موضوعا في عالم التشريع الذي معناه بالعبارة الصريحة رفع الأحكام في حالة صدور شيء خطأ أو نسيانا أو ... وعليه فإذا اضطر المكلّف إلى شرب الخمر أو اكره عليه فلا حرمة في حقّه ولا حدّ لأنّ المرفوع بناء على هذا الاحتمال هو جميع الآثار - تمسّكا بالإطلاق - لا أثر دون آخر ، وهكذا لو أكره المكلّف على معاملة البيع مثلا لم يترتّب عليها مضمونها وهو النقل والانتقال.

6 - انّه بناء على الاحتمالين الأخيرين وإن كان حديث الرفع يرفع جميع الآثار ولكن لا بدّ من الالتفات إلى عدم إمكان تطبيقه إلاّ في مورد يكون تطبيقه فيه موجبا للامتنان لأنّه مسوق مساق الامتنان ، امّا إذا كان موجبا لعكس الامتنان فلا يمكن تطبيقه ، فمثلا إذا اكره إنسان آخر على بيع داره فيمكن تطبيق

ص: 107

فقرة « رفع عن امّتي ما استكرهوا عليه » لأنّ لازم تطبيقها صيرورة البيع باطلا لا يترتّب عليه أي أثر ، وهذا شيء موافق للامتنان وليس مخالفا له فإنّ عدم حصول غرض المكره أمر يتوافق والامتنان ، أمّا لو فرض أنّ إنسانا ابتلى بمرض واضطر إلى بيع بعض ممتلكاته ليستعين بثمنها على العلاج فلا يمكن تطبيق فقرة « رفع عن امّتي ما اضطروا إليه » إذ لازم تطبيقها صيرورة البيع باطلا ، ومع بطلانه لا يكون المريض مالكا لما يستعين به على العلاج وهذا عكس الامتنان كما هو واضح.

ومن هنا ينبغي عدم التسرّع في تطبيق الحديث بل لا بدّ وأن يلاحظ هل تكون النتيجة الحاصلة بعد تطبيق الحديث موافقة للامتنان أو لا ، فإن كانت موافقة له صحّ تطبيقه وإلاّ فلا.

وقد تسأل عن القرينة الدالة على ورود الحديث مورد الامتنان.

إنّها التعبير بكلمة « رفع » فانّها لا تستعمل إلاّ في مورد رفع الشيء الثقيل الذي يكون في رفعه امتنان خصوصا والرفع اضيف إلى الامّه وقيل رفع عن امّتي فإنّ التعبير المذكور لا يستعمل عادة إلاّ في مورد الامتنان.

قوله ص 43 س 15 : والطيرة : بفتح الياء أو بسكونها. والمقصود منها التشاؤم ، وحيث أنّ غالب تشاؤم العرب كان بالطير خصوصا الغراب عبّر عن التشاؤم بالطيرة.

قوله ص 43 س 15 : والتفكّر في الوسوسة في الخلق : ورد في بعض الروايات الاخرى بدل « التفكّر في الوسوسة في الخلق » : الوسوسة في التفكّر في الخلق. وقد ذكر الشيخ الأعظم قدس سره في رسائله أنّ التعبير الثاني هو الأنسب وأنّ

ص: 108

التعبير الأوّل يحتمل كونه اشتباها من الراوي.

والمقصود من الوسوسة في التفكّر في الخلق هو انّ الإنسان قد يفكّر أحيانا في كيفية خلق الناس والعالم ، وأثناء تفكّره هذا يأتي الشيطان ويبث سمومه قائلا انّ العالم خلقه اللّه ولكن من خلق اللّه سبحانه؟ انّ مثل هذه الوساوس الشيطانية التي تأتي حين التفكّر في خلق العالم لا عقاب عليها بمقتضى الحديث المذكور شريطة أن لا ينطق الإنسان بشفتيه بتلك الوساوس بل تبقى كامنة في قلبه ، فالوساوس الباقية في القلب بلا إبراز معفو عنها وإذا برزت باللسان والشفة فلا عفو.

هذا على التعبير الثاني. وأمّا على التعبير الأوّل فتبقى الجملة بلا معنى.

قوله ص 43 س 15 : ما لم ينطق بشفة : احتمل الشيخ الأعظم في رسائله رجوع هذا القيد إلى خصوص الفقرة الأخيرة - أي الوسوسة في التفكّر في الخلق - كما واحتمل رجوعه إلى الفقرات الثلاث الأخيرة ، فالحسد الكامن في النفس بلا إبراز باللسان معفو عنه ، والتطيّر الكامن معفو عنه أيضا والتفكّر في الوسوسة كذلك.

قوله ص 44 س 2 : والنقطة المهمة في هذه المرحلة : أي أنّ البحث في فقه الحديث ومعناه فيه جهات متعدّدة ، منها : تصوير كيفية الرفع ، ومنها : توضيح أنّه هل يمكن أن يستفاد من الحديث أنّ الملاك ثابت في موارد الخطأ والنسيان وغيرهما - أي انّ المرفوع خصوص الحكم دون الملاك - ليصحّ الفعل بواسطة الملاك ، ومنها : البحث عن كون الحديث مسوقا مساق الامتنان وما يترتّب على ذلك ، ومنها غير ذلك. وقد بحث قدس سره في التقرير عن سبع جهات في هذه المرحلة

ص: 109

الاولى ولكن المهم من هذه الجهات هي الجهة الاولى وهي تصوير كيفية الرفع.

قوله ص 44 س 8 : بالنحو المناسب من الوجود لموضوع الحكم ... : فما كان من المناسب وقوعه موضوعا للحكم ترتفع موضوعيّته للحكم ، وما كان من المناسب وقوعه متعلّقا للحكم ترتفع متعلقيّته.

وقد تقدّم سابقا الفرق بين المتعلّق والموضوع.

قوله ص 44 س 11 : وروح ذلك رفع الحكم : أي انّ مرجع رفع موضوعية شرب الخمر الخطأي لحكم من الأحكام في عالم التشريع ليس إلاّ إلى رفع الحكم.

قوله ص 45 س 1 : فيكون على وزان : أي انّ حديث الرفع بناء على الاحتمال الثالث يكون أشبه بحديث « لا ربا بين الوالد وولده ». وهكذا اسم « يكون » في بقية الأسطر هو حديث الرفع.

قوله ص 45 س 11 : كذلك توجيه الرفع إلى الوجود التشريعي : هذا إشارة إلى الاحتمال الثاني. وإنّما ذكر هذا الاحتمال - ولم يذكر الاحتمال الثالث - لا لخصوصية فيه بل من باب المثالية ولذا أضاف قدس سره كلمة « مثلا ».

قوله ص 45 س 13 : صادر بما هو شارع : هذا البيان لم يذكر لإثبات خصوص العناية التي يقتضيها الاحتمال الثاني بل لإثبات العناية التي يقتضيها الاحتمال الثالث أيضا.

قوله ص 45 س 13 : وبما هو إنشاء : هذا أشبه بعطف التفسير لقوله : « بما هو شارع ».

قوله ص 46 س 10 : بالاحتمال الثاني : ذكر الاحتمال الثاني من باب المثال

ص: 110

وإلاّ فالأمر كذلك على الاحتمال الأوّل أيضا.

قوله ص 46 س 16 : وعلى أي حال : أي سواء تمّت الثمرة الثانية أم لا فحديث الرفع يدلّ على رفع جميع الآثار حيث قوّينا الاحتمال الثاني الذي يكون المرفوع بناء عليه جميع الآثار بمقتضى الإطلاق.

المرحلة الثانية
اشارة

وبعد الفراغ من المرحلة الاولى بنقاطها الست نتكلّم عن المرحلة الثانية التي هي توضيح لكيفية الاستدلال بحديث الرفع على المطلوب.

ونحن فيما مضى ذكرنا تقريب الاستدلال بشكل مجمل وقلنا انّ حرمة شرب التتن إذا لم تكن معلومة فهي مشمولة لفقرة : « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » فتكون مرفوعة.

وللتوضيح أكثر نقول : ما هو المقصود من الرفع فهل المقصود منه الرفع الواقعي أو الرفع الظاهري (1)؟ قد يقال : انّ المطلوب من الاستدلال بالحديث يتمّ سواء فسّرنا الرفع بهذا أو بذاك فإنّ المطلوب إثبات أمرين هما : -

أ - كون المكلّف مطلق العنان ، بمعنى أنّه إذا شكّ في وجوب الصلاة عليه فلا

ص: 111


1- المراد من الرفع الحقيقي رفع الحكم في حقّ الجاهل واقعا فالمكلّف ما دام لا يعلم مثلا بوجوب الصلاة عليه فالوجوب مرفوع عنه واقعا ولا يكون ثابتا في حقّه بل يكون مختصا بالعالم. وأمّا الرفع الظاهري فيقصد به رفع وجوب الاحتياط فإنّ المكلّف إذا شكّ في وجوب الصلاة عليه فإذا قلنا بعدم وجوب الاحتياط عليه ازاء الوجوب المشكوك فهذا معناه الرفع الظاهري.

يجب عليه الاحتياط بفعلها وهكذا لو شكّ في حرمة شرب التتن فلا يجب عليه الاحتياط بتركه.

ب - معارضة مقالة الاخباري ، فإنّ الإخباري يقول بوجوب الاحتياط عند الشكّ في حرمة شرب التتن مثلا ونحن نريد أن نحصّل دليلا يعارض هذه المقالة ويقول انّ الاحتياط ليس بواجب عند الشكّ في حرمة شرب التتن.

وهذا المطلوب بكلا أمريه يتمّ سواء فسّرنا الرفع بالرفع الواقعي أم بالرفع الظاهري ولا يتوقّف على تفسيره بخصوص الرفع الظاهري فهو يتمّ حتّى لو فسّرناه بالرفع الواقعي بل قد يتخيّل انّه لو فسّرناه بالرفع الواقعي فحصول المطلوب يكون أتم وآكد حيث ان لازمه ارتفاع حرمة شرب التتن في حقّ الجاهل من جذورها واسسها وذلك ممّا يثبت إطلاق العنان بشكل آكد وأقوى ممّا إذا كان الرفع ظاهريا.

هذا ولكن يمكن أن نقول في مقابل ذلك : انّ حصول المطلوب من الحديث - المطلوب هو إثبات إطلاق العنان كما تقدّم - يتوقّف في كثير من الحالات على إرادة الرفع الظاهري ولا يحصل لو كان المقصود هو الرفع الواقعي.

والوجه في ذلك : انّا نجزم في كثير من الأحكام باشتراكها بين العالم والجاهل على تقدير ثبوتها ولا تختص بالعالم ، فوجوب الصلاة مثلا يجزم بعدم اختصاصه واقعا بالعالم وهكذا وجوب الحجّ والخمس والزكاة وغير ذلك - فإنّ الأحكام المختصة بالعالم واقعا نادرة جدا والطابع العام فيها هو الاشتراك عدا الجهر والاخفات والقصر والتمام - وإذا كان الحكم ممّا نقطع باشتراكه واقعا بين العالم والجاهل ولا يختص بالعالم فمثل هذا الحكم لو فرض أنّ المكلّف لم يعلم به

ص: 112

وكان شاكا فيه فلا يمكن التمسّك بحديث الرفع في حقّه لإثبات المطلوب أي لإثبات كونه مطلق العنان وأنّه لا يجب عليه الاحتياط إذ حديث الرفع يثبت رفع الحكم واقعا في حقّ الجاهل ، والمفروض إنّا نعلم باشتراك الحكم واقعا وعدم اختصاصه بالعالم.

وبكلمة اخرى : بعد علمنا باشتراك الحكم واقعا يلزم تخصيص حديث الرفع وصيرورة مضمونه كذا : رفع عن امّتي الحكم الذي لا يعلمونه إلاّ إذا كان الحكم هو وجوب الصلاة مثلا فانّه ثابت في حقّ الجاهل أيضا. ومع عدم شمول حديث الرفع للحكم الذي يشكّ فيه المكلّف - وهو وجوب الصلاة مثلا حيث انّ المفروض القطع باشتراكه وعدم اختصاصه بالعالم - فلا يمكن إثبات المطلوب وهو كون المكلّف مطلق العنان ولا يجب عليه الاحتياط ؛ إذ إطلاق العنان لا يثبت إلاّ بعد ثبوت الرفع الواقعي ، والمفروض عدم إمكان ثبوت الرفع الواقعي لأنّا فرضنا أنّ الحكم المشكوك - كوجوب الصلاة مثلا الذي يشكّ فيه المكلّف - على تقدير ثبوته واقعا ثابت في حقّ الجاهل واقعا ولا يختص بالعالم ، ومع عدم ثبوت الرفع الواقعي فلا يثبت إطلاق العنان. وهذا بخلافه على تقدير تفسير الرفع بالرفع الظاهري فانّه يمكن إثبات إطلاق العنان في حقّ الجاهل حتّى في مثل وجوب الصلاة الذي هو مشترك بين الجاهل والعالم على تقدير ثبوته واقعا فانّه - وجوب الصلاة مثلا - وإن كان مشتركا بين العالم والجاهل واقعا ولا يمكن رفعه واقعا في حقّ الجاهل إلاّ أنّه يمكن رفعه ظاهرا في حقّ الجاهل بمعنى أنّه لا يجب عليه الاحتياط من ناحيته ، وإذا حصل رفع الوجوب ظاهرا ثبت بذلك كون المكلّف مطلق العنان من ناحية الحكم المشكوك ، وهو المطلوب

ص: 113

والخلاصة : انّ الأحكام التي يجزم باشتراكها بين العالم والجاهل على تقدير ثبوتها واقعا لا يمكن للمكلّف عند جهله بها إثبات كونه مطلق العنان من ناحيتها تمسّكا بحديث الرفع فيما إذا كان المراد الرفع الواقعي وإنّما يمكنه على تقدير إرادة الرفع الظاهري.

وقد تسأل : انّه على تقدير الرفع الواقعي لا يجوز التمسّك بحديث الرفع في موارد الجزم بالاشتراك وعلى تقدير الرفع الظاهري يجوز ذلك ، وهذا كلّه واضح. ولكن كيف الموقف لو شكّ في كون المراد هو الرفع الواقعي أو الظاهري فهل يجوز التمسّك بالحديث لإثبات إطلاق العنان فيما إذا كان الحكم المشكوك ممّا نجزم باشتراكه بين العالم والجاهل على تقدير ثبوته ، فوجوب الصلاة مثلا على تقدير ثبوته واقعا هو مشترك بين العالم والجاهل جزما فإذا شكّ المكلّف ولم يعلم بأصل ثبوته فهل يمكن التمسّك بحديث الرفع لإثبات كونه مطلق العنان فيما إذا لم يحرز كون المراد من الرفع هو الرفع الواقعي أو الظاهري؟

نعم يجوز ذلك لأنّ الحكم ما دام قد فرض مشتركا واقعا بين العالم والجاهل فنفس اشتراكه واقعا يكون قرينة على كون المراد من الرفع هو الرفع الظاهري لا الواقعي.

وإن شئت قلت : انّ الحكم ما دام قد فرض مشتركا فحديث الرفع لو كان المراد منه الرفع الواقعي فيلزم تخصيصه وعدم شموله لمثل هذا الحكم المشكوك المفروض اشتراكه ، ولو كان المراد منه الرفع الظاهري فلا يلزم تخصيصه بل يكون شاملا للحكم المشكوك. إذن الشكّ في كون المراد هو الرفع الواقعي أو الظاهري يرجع بالتالي إلى الشكّ في تخصيص حديث الرفع وعدمه ، وواضح

ص: 114

عند الشكّ في تخصيص عمومه يتمسّك بأصالة عمومه وعدم تخصيصه الذي نتيجته كون المراد من الرفع هو الرفع الظاهري.

هل الرفع ظاهري أو واقعي؟

ذكرنا انّه عند الشكّ في إرادة الرفع الظاهري أو الواقعي يصحّ التمسّك بالحديث للنكتة المتقدّمة. ولكن هل يمكن دعوى انّ ظاهر الحديث إرادة الرفع الواقعي دون الظاهري أو انّه مجمل من هذه الناحية؟

قد يقال نعم يمكن دعوى الظهور في الرفع الواقعي لأنّ إرادة الرفع الظاهري تستلزم التقدير بأن تكون فقرة : « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » هكذا : رفع عن امّتي وجوب الاحتياط بالنسبة إلى الحكم الذي لا يعلم فيلزم تقدير كلمة « وجوب الاحتياط » ، وواضح أنّ الأصل يقتضي عدم التقدير.

ولئن لم يقبل أعمال العناية بهذا الشكل فلا بدّ من قبولها بشكل آخر ، وذلك بأنّ لا نقدر كلمة « وجوب الاحتياط » وإنّما نعطي لكلمة « رفع » معنى وفردا جديدا ، فهي أوّلا كانت ذات فرد واحد وهو الرفع الحقيقي الواقعي والآن وبعد تضمين المعنى الجديد يصير لها فرد آخر وهو الرفع الظاهري بأن نقول : انّ رفع شرب التتن له شكلان فتارة ترفع نفس الحرمة وذاتها واخرى يرفع وجوب الاحتياط من ناحيتها فإنّ رفع وجوب الاحتياط هو رفع بعبارة اخرى للحرمة كما وأنّ ثبوت وجوب الاحتياط هو إثبات بعبارة اخرى للحرمة.

والفرق بين إعمال العناية بهذا الشكل وإعمالها بالشكل السابق انّه في السابق كانت العناية ملحوظة في المرفوع - لا في الرفع - فبدلا من كون المرفوع هو حرمة

ص: 115

شرب التتن المجهولة يجعل - أي المرفوع - وجوب الاحتياط ، بينما في هذا الشكل تعمل العناية في الرفع فتضمن كلمة الرفع معنى جديدا وهو تفسيرها برفع وجوب الاحتياط فإنّ رفع وجوب الاحتياط رفع للحرمة ولكنّه رفع ظاهري.

وباختصار : حمل الرفع على الظاهري يحتاج إلى إعمال العناية بأحد شكلين كلاهما خلاف الظاهر فلا بدّ من الحمل على الرفع الواقعي حتّى لا يلزم ذلك.

هذا ولكن يمكن ردّ ذلك بأحد جوابين : -

1 - ما ذكره الشيخ العراقي من انّه توجد في حديث الرفع قرينة تدل على أنّ المراد هو الرفع الظاهري - أي رفع وجوب الاحتياط - دون الواقعي ، وهي أنّ الحديث مسوق مساق الامتنان ، والامتنان يتحقّق برفع وجوب الاحتياط سواء كان الحكم ثابتا واقعا أم لا ، فإنّ الاحتياط بالنسبة إلى حرمة شرب التتن المشكوكة إذا لم يجب تحقّق بذلك الامتنان سواء كانت حرمة التتن ثابتة واقعا أم لا ، وبرفع الحرمة واقعا لا تزداد درجة الامتنان ، فإنّ ثبوت الحكم واقعا لا يؤثّر على المكلّف ولا يضرّه حتّى يكون رفعه موجبا للامتنان عليه أو زيادته وإنّما المهم هو رفع وجوب الاحتياط إذ به يحصل الامتنان.

وعليه فكون الحديث مسوقا مساق الامتنان قرينة واضحة على كون المقصود من الرفع هو الرفع الظاهري أي رفع وجوب الاحتياط.

وفيه : انّا نسلّم بحصول الامتنان برفع وجوب الاحتياط لا برفع الحكم واقعا ولكن نقول انّ الشارع لو رفع الحكم واقعا فالامتنان يمكن أن يتحقّق أيضا غير انّه بصورة غير مباشرة ؛ إذ برفع الحكم واقعا يرتفع بالتبع وجوب الاحتياط ، وما دام وجوب الاحتياط يرتفع بارتفاع الحكم واقعا فيصحّ أن يقال

ص: 116

انّ رفع الحكم واقعا منشأ للامتنان بالواسطة وإن لم يكن بالمباشرة ، وواضح انّ حديث الرفع لا يظهر منه إلاّ أنّه يريد رفع شيء يستلزم رفعه الامتنان ، انّ هذا المقدار هو الذي يظهر منه ولا يظهر منه انّ ما يرفعه لا بدّ وأن يكون موجبا للامتنان بنفسه ومن دون واسطة.

2 - انّه لا يمكن أن يكون المقصود من حديث الرفع الرفع الحقيقي ؛ إذ لازم ذلك ارتفاع الأحكام واقعا عن الجاهل واختصاصها بالعالم.

وبتعبير آخر يلزم من إرادة الرفع الحقيقي تقييد الأحكام الواقعية بالعلم بها ، وواضح أنّ هذا شيء مستحيل ؛ إذ لا يمكن أن يقال : ثبوت الوجوب الفعلي للصلاة مثلا موقوف على العلم بالوجوب الفعلي للصلاة لأنّ لازمه الدور كما مرّ في القسم الأوّل.

وعليه فمن اللازم حمل الرفع على الظاهري حتّى لا يلزم محذور اختصاص الأحكام الواقعية بحالة العلم وبالتالي حتّى لا يلزم محذور الدور.

وقد تقول : انّه تقدّم سابقا وجود طريقة يمكن بواسطتها تخصيص الأحكام بالعالمين بأن يقال : تجب الصلاة بالوجوب الفعلي إن علمت بتشريع وجوب الصلاة ، إنّ هذه طريقة ممكنة ، أي يجعل ثبوت الحكم الفعلي - المعبّر عنه بالمجعول - موقوفا على العلم بالتشريع المعبّر عنه بالجعل ، فإنّ المستحيل هو تعليق ثبوت المجعول على العلم بنفس المجعول ، أمّا تعليق ثبوت المجعول على العلم بالجعل فهو ليس بمستحيل. وإذا كانت هذه الطريقة ممكنة فلا بأس بحمل الرفع على الرفع الواقعي لأنّه وإن لزم منه اختصاص الأحكام الواقعية بالعالمين بها إلاّ أنّه لا محذور فيه بعد إمكانه بهذه الطريقة.

ص: 117

والجواب : انّ هذه الطريقة وإن كانت ممكنة إلاّ أنّه لا يمكن حمل الحديث عليها لأنّ ظاهر الحديث انّ الشيء الذي لا يعلم هو المرفوع لا غيره حيث قيل رفع ما لا يعلمون ، فنفس الذي لا يعلم هو المرفوع لا انّ الذي لا يعلم شيء والمرفوع شيء آخر ، وواضح انّه على هذه الطريقة يكون المرفوع غير الذي لا يعلم ، فالمرفوع هو الحكم المجعول بينما الذي لا يعلم هو الجعل والتشريع.

إذن لازم إرادة الرفع الحقيقي اختصاص الأحكام الواقعية بحالة العلم ، والاختصاص بالطريقة الاولى مستحيل وبالطريقة الثانية وإن كان ممكنا إلاّ أنّه خلاف ظاهر الحديث (1).

قوله ص 47 س 13 : لو تمّ : أي لو تمّت دلالة دليل وجوب الاحتياط على وجوب الاحتياط.

قوله ص 47 س 15 : إذ كثيرا ما يتّفق ... : التعبير الوارد في التقرير أوضح وهو : انّه لو اريد الرفع الواقعي فلا يمكن إثبات ما هو المطلوب ، إذ في موارد الشبهات نعلم عادة بأنّه لو ثبت الحكم الواقعي في حقّ العالم فهو ثابت في حقّ الجاهل أيضا جزما للقطع بعدم إناطته بالعلم به.

ص: 118


1- ويوجد جواب ثالث أوضح وأخصر من الجوابين السابقين وهو أن يقال إنّ لازم إرادة الرفع الواقعي اختصاص الأحكام بحالة العلم ، والاختصاص باطل لأنّه مخالف لضرورة الاشتراك ، فنفس ما دلّ على اشتراك الأحكام واقعا بين العالم والجاهل يثبت أنّ المراد من الرفع هو الرفع الظاهري دون الواقعي وإلاّ يلزم بقاء الحديث بلا مورد ، أو بتعبير آخر يلزم انحصار مورده بالجهر والاخفات والقصر والتمام ، وهو كما ترى. ولا حاجة إلى تطويل المناقشة بالشكل الذي ذكره قدس سره .

قوله ص 48 س 1 : مع الحمل على الواقعية : أي فيما إذا حمل الرفع على الرفع الواقعي.

قوله ص 48 س 2 : نعم يكفي للمطلوب : وهو إطلاق العنان. ثمّ ان عبارة التقرير أوضح وهي : لو بقي الحديث مجملا مردّدا بين الرفع الواقعي والظاهري فالنتيجة بصالح الاستدلال وذلك تمسّكا بإطلاقه لموارد الشكّ في التكليف الذي يعلم بعدم اختصاصه بالعالم لأنّه من الشكّ في التخصيص بالنسبة إليه ، وبذلك يثبت انّ الرفع ظاهري لا محالة.

قوله ص 48 س 3 : إذ حتّى مع الإجمال : أي وتردّد المراد من الرفع بين الواقعي والظاهري.

قوله ص 48 س 4 : في الفرض المذكور : أي فرض القطع بأنّ الحكم على تقدير ثبوته مشترك بين العالم والجاهل ولا يختص بالعالم.

قوله ص 48 س 4 : لعدم إحراز ... : فإنّه لو كنّا نجزم بأنّ المراد من الرفع هو الواقعي فلازم ذلك تخصيص حديث الرفع وعدم شموله للأحكام التي افترضنا انّها مشتركة بين العالم والجاهل ، ومع القطع بالتخصيص فلا يمكن التمسّك بحديث الرفع وبالتالي لا يمكن إثبات إطلاق العنان.

قوله ص 48 س 5 : أو المخصّص : المناسب إبدال « أو » بالواو حتّى يكون العطف تفسيريا. ولعلّ التعبير بالمعارض أو المخصّص باعتبار الالتفات إلى موارد التمسّك بحديث الرفع بشكل عام ، فإنّه بشكل عام يوجد في بعض الموارد معارض لحديث الرفع وفي بعض الموارد الاخرى يوجد مخصّص ، وهو قدس سره يريد أن يقول انّه لا مانع في موردنا من التمسّك بحديث الرفع لأنّه في موردنا لا يوجد

ص: 119

معارض جزما وأمّا المخصّص - وهو دليل الحكم الواقعي الذي فرضنا القطع باشتراكه - فهو غير مقطوع فينفى بأصالة عدم التخصيص.

قوله ص 48 س 6 : وعلى أي حال : أي سواء كان إجمال المراد من الرفع كافيا في إثبات المطلوب أم لا.

قوله ص 48 س 8 : لا نفسه : عطف على وجوب الاحتياط أي لا نفس ما لا يعلم الذي هو عبارة اخرى عن الحكم المجهول.

قوله ص 48 س 8 : وهو خلاف الظاهر : لأنّ ظاهر الحديث انّ الرفع متعلّق ومتوجّه إلى نفس الحكم الذي لا يعلم لا إلى وجوب الاحتياط.

قوله ص 49 س 1 : من ناحيته : أي من ناحية التكليف الواقعي المشكوك.

قوله ص 49 س 1 : المراتب الاخرى : أي سواء رفع الحكم بوجوده الواقعي أم لا.

قوله ص 49 س 6 : بنفسه : المناسب حذف كلمة « بنفسه ».

قوله ص 49 س 12 : فيه : أي في نفس التكليف.

قوله ص 49 س 15 : خلاف ظاهر الدليل : أي خلاف ظاهر حديث الرفع. وقوله : « جدا » بمعنى قويّا.

قوله ص 49 س 16 : غير المعلوم : المناسب : غير المجهول أو غير ما لا يعلم. وفي التقرير لم تقع هذه المسامحة.

قوله ص 49 س 16 : لأنّ الأوّل : وهو المرفوع. والمراد من الثاني : المعلوم.

قوله ص 49 س 17 : يتبادلان : أي أنّ نفس ما هو مجهول هو الذي يطرء عليه الرفع.

ص: 120

المرحلة الثالثة
اشارة

ذكرنا أنّ الكلام في حديث الرفع يقع في ثلاث مراحل. وهذه هي المرحلة الثالثة. وحاصلها انّ حديث الرفع هل يختص بالشبهات الموضوعية أو يعمّ الحكمية أيضا (1).

وقد مرّ في الحلقة الثانية احتمال الاختصاص بالشبهات الموضوعية تمسّكا بوحدة السياق حيث انّ الشبهة في الخطأ والنسيان والاكراه و ... لا تكون إلاّ موضوعية فإنّ الإنسان لا يخطأ إلاّ في الشيء المعيّن ولا يتصوّر أبدا الخطأ أو النسيان أو الاكراه في الشيء الكلّي.

وإذا كان هذا هو المقصود في هذه الفقرات فيثبت كونه المقصود أيضا في فقرة : « ما لا يعلمون » فيكون المراد في الجميع هو الشبهة الموضوعية.

والجواب عن ذلك : انّ إرادة خصوص الشبهة الموضوعية في غالب الفقرات وإرادة الأعمّ من الشبهة الحكمية والموضوعية في فقرة « ما لا يعلمون » لا يتنافى ووحدة السياق ؛ إذ كلمة « ما » الواردة في الفقرات اسم موصول بمعنى الشيء ، والمعنى المستعمل فيه في جميع الفقرات شيء واحد وهو مفهوم الشيء

ص: 121


1- الشبهة الموضوعية هي الشبهة التي يكون الحكم الكلي فيها واضحا وإنّما التردّد في الموضوع الخارجي المعيّن ، كما إذا كان لدينا سائل مردّد بين كونه خمرا أو خلا ، فإنّ حديث الرفع لو كان يشمله فلازمه جواز تناوله لاقتضاءه ارتفاع المؤاخذة أو حرمة الشرب. والشبهة الحكمية هي الشبهة التي يكون الموضوع فيها واضحا والتردد في الحكم الكلّي كما هو الحال في حرمة شرب التتن لو شكّ فيها.

غاية الأمر مصداق الشيء مختلف فتارة هو خصوص الشبهة الموضوعية واخرى هو الأعم منها ومن الشبهة الحكمية ، وذلك لا يخلّ بوحدة السياق.

هذه شبهة تقدّمت مع جوابها في الحلقة الثانية. وتقدّم أيضا أنّ الحديث لو كان شاملا للشبهة الموضوعية والحكمية معا فلا بدّ من تصوير جامع بينهما حتّى لا يلزم الاستعمال في أكثر من معنى واحد فإنّ المشكوك في الشبهة الموضوعية هو الموضوع الخارجي بينما هو في الشبهة الحكمية الحكم الكلي ، وواضح أنّ الموضوع الخارجي مغاير للحكم الكلّي فلا بدّ من تصوير جامع بينهما حتّى لا يلزم محذور الاستعمال في أكثر من معنى واحد.

ويمكن أن نقول : إنّا بحاجة إلى إثبات أمرين حتّى يمكن شمول الحديث لكلتا الشبهتين : -

أ - وجود جامع بين الموضوع والحكم لئلا يلزم الاستعمال في أكثر من معنى واحد.

ب - عدم وجود قرينة على اختصاص الحديث بالشبهة الموضوعية أو بالشبهة الحكمية وإلاّ فلا يمكن شمول الحديث لكلتا الشبهتين.

تصوير الجامع

امّا بالنسبة إلى الجامع فقد ذكر له تصويران : -

1 - انّ الجامع عبارة عن مفهوم الشيء ، بمعنى أنّ اسم الموصول - وهو كلمة « ما » في قوله : « ما لا يعلمون » - يراد به الشيء أي رفع الشيء الذي لا يعلم ، وواضح انّ الشيء يصدق على الموضوع والحكم إذ كلاهما شيء.

ص: 122

واعترض الآخوند (1) على ذلك بأنّ نسبة الرفع إلى الشيء بمعنى الحكم نسبة حقيقية - لأنّ الحكم قابل للرفع حقيقة إذ اختياره بيد الشارع فيمكنه رفعه ، فحرمة شرب التتن ما دامت مجهولة فيمكن رفعها - وهذا بخلاف نسبة الرفع إلى الشيء بمعنى الموضوع فإنّها نسبة مجازية ؛ إذ الموضوع لا يمكن للشارع رفعه حقيقة فالخمر الذي لا يعلم بخمريته لا يمكن رفعه وإنّما الذي يمكن رفعه هو حكم الخمر أي الحرمة الثابتة له ، فنسبة الرفع إلى الخمر إذن نسبة مجازية ؛ إذ المرفوع حقيقة هو حكم الخمر لا نفسه. وما دامت نسبة الرفع إلى الشيء بمعنى الحكم حقيقية بينما نسبته إلى الشيء بمعنى الموضوع مجازية فلا يمكن الجمع بينهما فإنّ نسبة الرفع إلى الشيء لا بدّ وأن تكون امّا حقيقية أو مجازية ولا يمكن أن تكون في وقت واحد حقيقية ومجازية معا.

وأجاب الشيخ الأصفهاني بأنّه لا بأس وأن تكون نسبة الرفع حقيقية ومجازية في وقت واحد ولكن باعتبارين مختلفين فباعتبار كون الرفع منسوبا إلى الشيء بمعنى الحكم تكون النسبة حقيقية وباعتبار نسبته إلى الشيء بمعنى الموضوع تكون مجازية ، انّ هذا ممكن ما دام الاعتبار متعدّدا نظير أن يكون الشخص الواحد عالما وجاهلا باعتبارين مختلفين فهو عالم بلحاظ الفقه وجاهل بلحاظ الطب وإنّما المستحيل كون النسبة حقيقية ومجازية باعتبار واحد.

ويمكن أن نقول في ردّ الأصفهاني أنّ المحذور لا يكمن في أنّ النسبة كيف تكون في وقت واحد حقيقية ومجازية حتّى يقال لا بأس بذلك ما دام الاعتبار

ص: 123


1- في تعليقته على الرسائل على ما نقل الشيخ الأصفهاني في حاشيته ج 2 ص 181.

مختلفا بل المحذور يكمن في أنّ النسبتين ما دامتا متغايرتين - ودليل التغاير كون إحداهما حقيقية والاخرى مجازية - فلا يمكن أن تكون الهيئة الحاصلة من إضافة الرفع إلى ما لا يعلمون مستعملة فيهما لأنّه استعمال في أكثر من معنى واحد.

وإن شئت قلت : كلّما كانت النسبتان متغايرتين فلا يمكن أن تكون الهيئة الواحدة مستعملة فيهما لأنّه استعمال في أكثر من معنى واحد ، وحيث إنّ النسبتين في مقامنا متغايرتان لأنّ إحداهما حقيقية والاخرى مجازية فلا يمكن استعمال الهيئة فيهما بعد وضوح عدم وجود جامع بين النسبتين لتكون الهيئة مستعملة فيه ، فهي إذن امّا مستعملة في النسبة الحقيقية فقط ولازمه اختصاص الحديث بالشبهة الحكمية أو في النسبة المجازية فقط ولازمه الاختصاص بالشبهة الموضوعية. والمحذور إذا بيّن بهذا الشكل فلا يمكن دفعه بما أفاده الأصفهاني كما هو واضح.

والصحيح في دفع اعتراض الآخوند أن يقال إنّ نسبة الرفع إلى الشيء بمعنى الحكم لا تغاير نسبته إلى الشيء بمعنى الموضوع ؛ إذ النسبة على كلا التقديرين مجازية ، فكما انّ نسبة الرفع إلى الموضوع نسبة مجازية كذلك نسبته إلى الحكم مجازية أيضا لأنّ المقصود من الرفع في حديث الرفع هو الرفع الظاهري أي أنّ المرفوع هو وجوب الاحتياط لا نفس الحكم المجهول وإلاّ يلزم اختصاص الأحكام واقعا بالعالم ، وما دام المرفوع هو وجوب الاحتياط فنسبة الرفع إلى الحكم الذي لا يعلم نسبة غير حقيقية لأنّ المرفوع حقيقة ليس هو الحكم غير المعلوم بل هو وجوب الاحتياط ، وعليه فلا يلزم استعمال الهيئة في نسبتين بل في نسبة واحدة مجازية وطرفها واحد وهو الشيء ، غاية الأمر مصداق الشيء مختلف فهو الحكم مرة والموضوع اخرى ، وواضح انّ النسبة إنّما

ص: 124

تتعدّد بتعدّد طرفها ، أمّا إذا كان طرفها واحدا - وهو الشيء - وكان مصداقه مختلفا فذلك لا يوجب تعدّدها بل تبقى واحدة ومجازية سواء كان مصداق الشيء هو الحكم أم الموضوع.

2 - والتصوير الثاني للجامع ما ذكره الشيخ العراقي وهو أنّ الجامع عبارة عن الحكم ، فإنّ المشكوك في الشبهة الحكمية هو الحكم الكلي والمشكوك في الشبهة الموضوعية هو الحكم أيضا ولكنّه الحكم الجزئي ، فالمشكوك في كليهما هو الحكم غير أنّه في إحداهما هو الحكم الكلي - المعبّر عنه بالجعل أو الحكم الإنشائي أو الحكم الكلّي الثابت للموضوع الكلّي الذي افترضه المولى في ذهنه ، فإنّ حرمة شرب التتن التي نشكّ فيها بنحو الشبهة الحكمية حكم كلي ثابت للتتن الكلّي فالمولى افترض في ذهنه وقدّر شرب التتن وبعد ذلك حكم عليه بحكم كلي وهو الحرمة - وفي الاخرى هو الحكم الجزئي المعبّر عنه بالمجعول أو بالحكم الفعلي الذي هو حكم ثابت للشيء الفعلي وجودا فالسائل الموجود خارجا بالفعل المردّد بين الخل والخمر شيء فعلي يشك في حكمه الجزئي الفعلي وأنّه حرام أو حلال.

وباختصار : الجامع بين الشبهتين هو الحكم غاية الأمر المشكوك في إحداهما هو الحكم الكلي وفي الاخرى الحكم الجزئي.

لا قرينة

ذكرنا سابقا انّ شمول الحديث للشبهة الحكمية والموضوعية معا يتوقّف على أمرين : وجود الجامع وعدم القرينة. وإلى الآن كنّا نتحدّث عن الجامع واتّضح انّه عنوان الحكم.

ص: 125

وامّا بالنسبة إلى الأمر الثاني فقد سبق مفصّلا في الحلقة الثانية ص 327 انّه قد يدّعى وجود قرينة تقتضي اختصاص الحديث بالشبهة الموضوعية وهي قرينة وحدة السياق - بأن يقال ان الفقرات السابقة ناظرة إلى الموضوع الجزئي فإنّ الخطأ والنسيان وغير ذلك لا تتصوّر إلاّ في الامور الجزئية فالإنسان قد يخطأ أو يكره على الخمر الخارجي فيشربه ولا يتصوّر ذلك في الأشياء الكلّية.

وقد تقدّم الجواب عن هذه القرينة في الحلقة الثانية أيضا (1).

وتقدّم في الحلقة الثانية أيضا انّه قد يقال بوجود قرينة تقتضي اختصاص الحديث بالشبهات الحكمية (2)

ص: 126


1- وحاصله أنّ كلمة « ما » اسم موصول ومستعملة في معنى واحد وهو مفهوم الشيء ، غاية الأمر انّ مصداق الشيء قد يكون تارة أمرا جزئيا كما هو الحال بالنسبة إلى غالب الفقرات واخرى كليا كما هو في فقرة لا يعلمون ، وواضح انّ اختلاف المصداق لا يعني اختلاف المعنى المستعمل فيه. وقد تقدّم منّا الإشارة إلى ذلك في بداية حديثنا عن المرحلة الثالثة
2- وتلك القرينة هي أنّ ظاهر الحديث انّ « ما » هو الذي لا يعلم وليس غيره حيث قيل « ما لا يعلمون » ، ومعه فلا بدّ من تفسير « ما » بمعنى يكون ذلك المعنى غير معلوم حقيقة ، وواضح انّه لو فسّرنا « ما » بالتكليف صدق عليه انّه غير معلوم بينما لو فسّرناه بالموضوع الخارجي أي بالسائل الخارجي المردّد بين كونه خمرا أو ماء فلا يكون نفس « ما » شيئا غير معلوم إذ السائل الخارجي يعلم انّه سائل خارجي وإنّما الذي لا يعلم هو شيء آخر وهو كونه خمرا. وإن شئت قلت : انّ غير المعلوم هو الخمرية بينما المقصود من « ما » هو السائل الخارجي فيحصل تغاير بين المقصود من « ما » وبين غير المعلوم بينما لو فسّر « ما » بالتكليف لما حصل هذا التغاير إذ غير المعلوم هو التكليف والتكليف غير معلوم ، وظاهر الحديث انّ المقصود من « ما » هو بنفسه غير معلوم.

وتقدّم الجواب عنها أيضا (1).

إذن كلتا القرينتين على الاختصاص غير تامة فإطلاق الحديث للشبهات الحكمية والموضوعية تامّ ولا محذور في التمسّك به.

روايات اخرى

وإلى هنا ينتهي بنا الكلام عن حديث الرفع. وهناك أحاديث اخرى قد يتمسّك بها لإثبات البراءة (2) تقدّم الحديث عنها في الحلقة السابقة. وتقدّم أيضا أنّها قاصرة الدلالة أو لا أقل تختص بالشبهات الموضوعية ولا تعمّ الشبهات الحكمية. والمهم هو إثبات البراءة في الشبهات الحكمية ، فإنّ المهم هو إثبات مثل حلّية شرب التتن أو أكل لحم الأرنب ونحو ذلك ممّا يكون المشكوك فيه حكما كليا ، وأمّا الشبهات الموضوعية - مثل انّ هذا السائل المردّد بين الخمر والخل حلال - فغير مهم ، فإنّ الجميع بما في ذلك الاخباريّون متفقون على إجراء البراءة والحلّية فيها.

التعويض بالاستصحاب

كنّا فيما سبق نستدل على البراءة بالنصوص من القرآن الكريم والسنّة

ص: 127


1- وحاصله : انّ هذا يتمّ بناء على تفسير الموضوع الخارجي بالسائل الخارجي ولكن لم لا نفسّره بالخمر ، ومعه يصير المعنى رفعت الخمرية غير المعلومة.
2- كحديث : « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » أو : « كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه ».

الشريفة. وهنا نلفت النظر إلى إمكان التعويض عن هذه النصوص والاستغناء عنها بالاستصحاب بلا حاجة إلى التمسّك بالنصوص.

والاستصحاب له أشكال ثلاثة هي : -

1 - استصحاب عدم التكليف الثابت قبل التشريع الإسلامي بأن نقول هكذا : انّ حرمة شرب التتن مثلا لم تكن ثابتة قبل التشريع الإسلامي فإذا شككنا في ثبوتها بعده استصحبنا عدمها الثابت قبلا ، وبذلك يثبت عدم حرمة شرب التتن بعد الإسلام وهو المطلوب.

2 - استصحاب عدم الحرمة الثابت بعد الإسلام وقبل البلوغ بأن نقول : بعد بزوغ نور الإسلام لم تكن الحرمة لشرب التتن ثابتة قبل البلوغ جزما - إذ التكاليف معدومة قبل البلوغ - فإذا شككنا في ثبوتها بعد البلوغ استصحبنا عدمها الثابت قبل البلوغ.

3 - انّ التكليف لو كان مشروطا بشرط على تقدير ثبوته فيمكن استصحاب عدمه الثابت بعد البلوغ وقبل تحقّق ذلك الشرط ، فمثلا إذا شككنا في وجوب صلاة الجمعة زمن الغيبة ففي يوم الأربعاء إذا تحقق البلوغ أمكننا أن نستصحب عدم الوجوب الثابت يوم الخميس فإنّه قبل يوم الجمعة لا وجوب لصلاة الجمعة جزما ؛ إذ الوجوب لو كان ثابتا فهو مشروط جزما بمجئ يوم الجمعة فقبل الجمعة - أي يوم الخميس الذي هو ما بعد البلوغ - لا وجوب فيستصحب إلى يوم الجمعة عدم الوجوب الثابت بعد يوم البلوغ وقبل تحقق الشرط ويثبت بذلك انتفاء وجوب صلاة الجمعة زمن الغيبة وهو المطلوب (1).

ص: 128


1- قد يقال : إذا جاء يوم الجمعة فالوجوب جزمي فكيف يستصحب عدم الوجوب إلى يوم الجمعة؟ والجواب : نحن فرضنا أنّ ثبوت الوجوب لصلاة الجمعة زمن الغيبة مشكوك ، أي فرضنا أن أصل جعل الوجوب زمن الغيبة مشكوك.

والفرق بين هذه الاستصحابات الثلاثة أنّ الأوّل منها - وهو استصحاب عدم الحكم الثابت قبل الإسلام - استصحاب لعدم التشريع ؛ إذ قبل الإسلام لا تشريع لحرمة شرب التتن جزما فإذا شكّ في تشريع حكم بعد الإسلام استصحب عدم التشريع - أي عدم الجعل فإنّ التشريع عبارة اخرى عن الجعل - بينما الثاني منها استصحاب لعدم الحكم الفعلي ، أي استصحاب لعدم المجعول حيث نقول هكذا : انّ الإسلام حتّى لو فرض انّه شرّع حرمة شرب التتن فهي غير فعلية قبل البلوغ ، فإنّ الأحكام تصير فعلية بالبلوغ ، ولا يمكن أن نستصحب عدم التشريع إذ لا نجزم بعدم ثبوت تشريع الحرمة قبل البلوغ بل هي محتملة وإنّما المجزوم به هو عدم فعلية الحرمة.

وهكذا الأمر في الاستصحاب الثالث ، أي انّ المستصحب هو عدم الحكم الفعلي فإنّ الذي نجزم به قبل يوم الجمعة هو عدم الوجوب الفعلي لصلاة الجمعة لا عدم تشريع الوجوب فإنّ من المحتمل ثبوت تشريع وجوب الجمعة قبل يوم الجمعة.

والخلاصة من كل هذا : انّ الاستصحاب في الشكل الأوّل استصحاب لعدم الجعل الثابت قبل الإسلام ، وفي الشكل الثاني استصحاب لعدم المجعول الثابت قبل البلوغ ، وفي الشكل الثالث استصحاب لعدم المجعول الثابت بعد البلوغ وقبل تحقّق الشرط.

ص: 129

ثمّ ان الاستصحاب بأشكاله الثلاثة وقع موردا للاعتراض من قبل الميرزا على ما تقدّم في الحلقة الثانية فراجع.

قوله ص 51 س 8 : انّ نسبة الشيء إلى ما هو له : أي انّ نسبة الرفع إلى الحكم حيث انّها نسبة إلى ما يستحق أن ينسب إليه بخلاف نسبة الرفع إلى الموضوع فإنّها نسبة إلى ما لا يستحقّ أن ينسب إليه.

قوله ص 51 س 15 : التصوير الثاني ... : البيان في هذا التصوير لا يخلو من التطويل والغموض. والتعبير في التقرير ج 5 ص 44 أوضح وأخصر حيث ورد : « الثالث : ما ذكره المحقّق العراقي من إرادة التكليف الأعمّ من الحكم الكلّي والجزئي ويكون الاسناد إليه حقيقيا لا محالة ».

قوله ص 51 س 16 : بوصفه ... : فإنّ الجعل عبارة اخرى عن الحكم الكلّي الثابت للموضوع الكلي الذي يفترض المولى وجوده في ذهنه بينما المجعول هو عبارة اخرى عن الحكم الجزئي الثابت للموضوع الفعلي وجودا.

قوله ص 52 س 3 : بعد الايمان بثبوت جعل ومجعول ... : إنّما عبّر بهذا لأنّ هذا التصوير هو للشيخ العراقي وهو ينكر انقسام الحكم إلى جعل ومجعول (1) ، وبعد إنكاره هذا فلا وجه لهذا التصوير الثاني منه قدس سره لأنّه يتمّ بناء على التسليم بفكره الجعل والمجعول والمفروض انّه ينكر ذلك.

قوله ص 52 س 13 : كما يمكن التعويض عن البراءة بالاستصحاب : المناسب : كما يمكن التعويض عن نصوص البراءة بالاستصحاب.

قوله ص 52 س 16 : بداية الشريعة : المناسب : قبل الشريعة أو يقال

ص: 130


1- بدايع الأفكار : ص 325.

هكذا : بداية الشريعة وقبل التشريع.

قوله ص 53 س 1 : بل قد يكون : أي انّ ذكر زمان ما قبل البلوغ هو من باب المثال وإلاّ فيمكن استصحاب عدم التكليف الثابت قبل العقل.

قوله ص 53 س 1 : بل قد يكون : أي زمان الحالة السابقة.

قوله ص 53 س 2 : وتحقق الشرط بعد البلوغ : أي تحقق الشرط بعد البلوغ بفترة فإنّ الشرط - وهو يوم الجمعة - تحقق بعد البلوغ بفترة حيث انّ يوم الخميس فترة متخلّلة بين يوم الأربعاء - الذي هو يوم البلوغ - ويوم الجمعة الذي هو يوم تحقق الشرط.

ثمّ انّه في الطبع الجديد صحفت العبارة بشكل يخلّ بما يريد قدس سره بيانه. فلاحظ ذلك.

قوله ص 53 س 3 : استصحاب عدمه : أي استصحاب عدم التكليف المشروط الثابت ذلك العدم قبل تحقّق الشرط أي قبل يوم الجمعة.

ص: 131

ص: 132

الاعتراضات العامة

اشارة

قوله ص 54 س 1 : ويعترض على أدلة البراءة ... : تقدّم سابقا انّ الكلام عن البراءة يقع في مبحثين أحدهما في أدلة البراءة وثانيهما في الاعتراضات العامة.

وانتهينا من المبحث الأوّل ، ونتحدّث الآن عن الاعتراضات العامة على أدلة البراءة.

وإنّما سمّيت بالاعتراضات العامة لأنّها لا تختص ببعض أدلة البراءة دون بعض. وتقدّمت هذه الاعتراضات في الحلقة الثانية. والمهم منها اثنان : -

1 - استدل الإخباري على وجوب الاحتياط بعدّة روايات - تقدّمت في الحلقة الثانية - لو تمّت دلالتها فهي مقدّمة على أدلّة البراءة لأنّ أدلة البراءة تدلّ على أن التكليف الذي لا يعلم مرفوع حيث قال صلی اللّه علیه و آله : رفع عن امّتي ما لا يعلمون ، ومن الواضح أنّ دليل الإخباري لو تمّ فهو يفيد العلم بوجوب الاحتياط ، ومع العلم بوجوب الاحتياط فلا يمكن لدليل البراءة أن ينفيه - وجوب الاحتياط - لأنّه ينفي الوجوب غير المعلوم ، ووجوب الاحتياط معلوم.

2 - انّ أدلة البراءة تثبت البراءة في حالة كون الشبهة بدوية ، أي غير مقرونة بالعلم الإجمالي ، وواضح انّه يمكن أن يقال لو نظرنا إلى مجموع الشبهات نجد انّا نعلم في مجموع الشبهات بوجود بعض التحريمات أو الوجوبات ، فنحن

ص: 133

نشكّ في حرمة شرب التتن وفي حرمة الأرنب وفي حرمة القهوة وفي وجوب الدعاء عند رؤية الهلال و ... ولا نحتمل أن جميع هذه الشبهات لا يوجد فيها تحريم ولا وجوب بل نقطع بثبوت التحريم أو الوجوب في بعضها - فإنّ الشريعة لا يحتمل أن تحكم على جميع الوقائع بالإباحة وإلاّ لم تكن شريعة فإنّ الشريعة هي المنهج الذي يحكم بحرمة بعض الأشياء أو وجوبها - ومع وجود هذا القطع فلا يمكن إجراء البراءة ؛ إذ إجراؤها في جميع الشبهات مخالف للعلم الإجمالي وإجراؤها في بعضها ترجيح بلا مرجّح ، نظير ما لو كان لدينا ألف إناء نعلم بحرمة بعضها فإنّ الحكم بحلّية جميعها يتنافى مع العلم الإجمالي والحكم بحلّية بعضها ترجيح بلا مرجّح.

الجواب عن الاعتراض الأوّل

ويمكن الجواب عن الاعتراض الأوّل بما يلي : -

أ - تقدّم في الحلقة الثانية استعراض الروايات التي تمسّك بها الإخباري على وجوب الاحتياط ، وقد اتّضح عدم تماميتها. أجل أقصى ما تدلّ عليه رجحان الاحتياط والحثّ والترغيب فيه ولا تدلّ على وجوبه ، والمهمّ هو إثبات وجوب الاحتياط وإلاّ فرجحانه ممّا لا كلام فيه.

ب - لو سلّمنا تمامية دلالة الروايات التي استدلّ بها الإخباري على وجوب الاحتياط فلا نسلّم ما قيل من انّ أدلة الاحتياط حاكمة على أدلة البراءة بل نقول انّ بعض أدلة البراءة يعارض أدلة الاحتياط ، فمثلا حديث الرفع يعارض أدلة الاحتياط لأنّ حديث الرفع يرفع الحكم رفعا ظاهريا ، أي يرفع وجوب الاحتياط - ولا يرفع الحكم واقعا لما تقدّم من الوجهين السابقين - فهو

ص: 134

يقول رفع وجوب الاحتياط إزاء الحكم الذي لا يعلم (1) بينما دليل وجوب الاحتياط يقول يجب الاحتياط إزاء الحكم الذي لا يعلم ، والمعارضة بين اللسانين واضحة. وقد تقدّم هذا في الحلقة الثانية ص 338.

ثمّ انّه بعد المعارضة بين مثل حديث الرفع وأدلة وجوب الاحتياط فأيّهما المقدّم؟ انّ هذا ما نبحثه في النقطة التالية.

ج - بعد أن عرفنا انّ بعض أدلة البراءة معارض لأدلة الاحتياط فعلينا الآن أن نعرف أيّهما المقدّم.

قد يقول الإخباري بتقديم أدلة الاحتياط وتوجيه ذلك بأنّ أدلة البراءة على قسمين بعضها نصوص قرآنية وبعضها نصوص روائية.

أمّا النصوص القرآنية فالنص التامّ من حيث الدلالة هو الآية الاولى ، أي قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) .

وأمّا النصوص الروائية فالنص التامّ من حيث الدلالة هو حديث « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » بخلاف بقية النصوص فإنّها لم تسلم من المناقشة.

وبعد أن عرفنا انّ المعارضة تقع بين الآية الاولى وأدلة وجوب الاحتياط ، وهكذا تقع بين حديث الرفع وأدلة وجوب الاحتياط نأتي الآن لنعرف ما هو المقدم في المعارضة الاولى ثمّ لنعرف ما هو المقدّم في المعارضة الثانية؟

وفي المعارضة الاولى لا بدّ وأن يقول الإخباري انّ المقدّم هو أدلة وجوب

ص: 135


1- طبيعي هو يدل على عدم وجوب الاحتياط ما لم يرد نهي عن الشيء بعنوانه الأوّلي ، أي ما لم يرد نهي عن شرب التتن مثلا بعنوان شرب التتن. وبكلمة اخرى ما لم يرد نهي واقعي عن شرب التتن فإنّ النهي الواقعي عبارة اخرى عن النهي عن الشيء بعنوانه الأوّلي.

الاحتياط بتقريب انّ الآية الكريمة عامّة بينما أدلّة وجوب الاحتياط خاصّة ، وعند المعارضة يقدم الخاص على العام.

والوجه في كون الآية عامة هو أنّها تشمل - على ما تقدّم - ثلاثة أفراد : المال ، والفعل ، والتكليف ، والمهم في محل بحثنا من هذه الثلاثة هو التكليف ، والآية شاملة له بمقتضى عمومها فهي تشمل التكليف بمقتضى العموم المذكور ، وهذا بخلاف أدلة وجوب الاحتياط فإنّها مختصة بفرد واحد وهو التكليف فهي تدل على أنّ الاحتياط واجب في خصوص باب التكاليف.

وبعد إن كانت أدلة وجوب الاحتياط خاصة بمورد التكاليف بينما أدلة البراءة عامة للتكاليف ولغيرها يلزم تخصيص أدلة البراءة بواسطة أدلة وجوب الاحتياط فتصير النتيجة : لا يكلّف اللّه نفسا بشيء لم يؤت إلاّ في خصوص التكاليف فإنّها وإن لم تؤت - أي لم تعلم - يجب فيها الاحتياط ولا تكون مرفوعة.

هذا كلّه بالنسبة إلى المعارضة الاولى.

وأمّا المعارضة الثانية - أي المعارضة الواقعة بين حديث الرفع وأدلة وجوب الاحتياط - فأيضا قد يقول الإخباري بتقديم أدلة وجوب الاحتياط لنفس النكتة السابقة ، أي لكون حديث الرفع عاما بينما أدلة وجوب الاحتياط خاصة والخاص مقدّم على العام بالتخصيص.

والوجه في كون حديث الرفع عاما هو انّه يشمل الشبهات الحكمية والموضوعية - حيث مرّ بنا سابقا انّ حديث الرفع لا يختص بالشبهات الحكمية بل يعم الشبهات الموضوعية - بينما أدلة وجوب الاحتياط ناظرة إلى خصوص الشبهات الحكمية ؛ إذ الشبهات الموضوعية لا خلاف بين الاصولي والإخباري في عدم وجوب الاحتياط فيها.

ص: 136

وإذا كان حديث الرفع شاملا للشبهات الحكمية والموضوعية بينما أدلة وجوب الاحتياط مختصة بالشبهات الحكمية خصّصت أدلة وجوب الاحتياط حديث الرفع وصارت نتيجة حديث الرفع بعد التخصيص : رفع عن امّتي كل ما لا يعلمونه إلاّ في الشبهات الحكمية فإنّه لا يرتفع فيها وجوب الاحتياط وإنّما هو مرفوع عن خصوص الشبهات الموضوعية ، وواضح انّ هذه النتيجة تتلائم ومرام الإخباري.

الصحيح انّ المعارضة بنحو العموم من وجه

هذا والصحيح أنّ المعارضة بين أدلة البراءة وأدلة وجوب الاحتياط ليست هي بنحو العموم والخصوص المطلق ليقال بتقديم أدلة الاحتياط من جهة انّها مخصّصة لأدلة البراءة ، بل هي العموم والخصوص من وجه.

امّا بالنسبة إلى الآية القرآنية وأدلة الاحتياط فوجه ذلك انّ الآية الكريمة وإن كانت عامة من جهة - أي من جهة شمولها للمال والفعل والتكليف ولا تختص بالتكليف - إلاّ أنّها خاصّة من جهة اخرى حيث انّها تختص بموارد ما بعد الفحص ولا تعمّ ما قبل الفحص (1).

هذا بالنسبة إلى الآية الكريمة. ولو لاحظنا أدلة وجوب الاحتياط لوجدنا أنّها وإن كانت خاصة بالتكليف ولا تعمّ المال والفعل إلاّ أنّها عامّة لشمولها موارد ما قبل الفحص وما بعده (2) فإنّ أدلة الاحتياط تدلّ على وجوب الاحتياط حتّى

ص: 137


1- حيث تقدّم انّ المراد من الإيتاء ليس هو الإيتاء باليد بل بمعنى جعل الحكم في مظان الوصول ، وواضح انّ ثبوت الحكم في كتب الحديث بحيث يعثر عليه بعد الفحص يصدق عليه أنّه قد اوتي.
2- ينبغي الالتفات إلى أنّه لو أردنا تحصيل جهة العموم في دليل فلا بدّ وأن نلاحظ جهة الخصوص في الدليل الآخر وعلى ضوئها نستخرج جهة العموم ، فالعمومية في كل دليل تحصل بلحاظ جهة الخصوصية في الدليل الآخر ، والخصوصية في كل دليل تحصل بلحاظ جهة العمومية في الدليل الآخر.

فيما بعد الفحص ولا تختص بموارد ما قبل الفحص ، فدليل « أخوك دينك فاحتط لدينك » يقول احتط حتّى فيما بعد الفحص.

وإذا كان كل واحد من الآية الكريمة وأدلة وجوب الاحتياط عاما من جهة وخاصا من جهة اخرى صارت النسبة هي العموم من وجه. ومادة الاجتماع هي التكليف ما بعد الفحص (1) فالآية الكريمة تنفي وجوب الاحتياط فيه بينما أدلة وجوب الاحتياط تثبت وجوب الاحتياط فيه.

وبعد هذه المعارضة فأيّهما المقدّم؟ انّ المقدّم هو الآية الكريمة التي تنفي وجوب الاحتياط لأنّها نصّ قرآني ، والنص القرآني عند معارضته للرواية يكون هو المقدّم لأنّه قطعي.

وهذه النتيجة نتيجة في صالح الاصولي لأنّها تثبت تقدّم البراءة في باب التكاليف بعد الفحص وهو مطلوبه.

هذا كلّه في توضيح كون المعارضة بين الآية الكريمة وأدلة وجوب الاحتياط هي العموم من وجه.

وأمّا كون المعارضة بين حديث الرفع وأدلة وجوب الاحتياط هي العموم والخصوص من وجه فذلك باعتبار انّ حديث الرفع وإن كان عاما من جهة

ص: 138


1- طبيعي مادة الاجتماع التي تحصل فيها المعارضة بين الدليلين هي دائما المورد الذي يكون محلاّ للنزاع بين المتخاصمين ، فمثلا في مقامنا مورد النزاع بين الاصولي والإخباري هو التكليف ما بعد الفحص ، وهذا بنفسه مادة الاجتماع.

الشمول للشبهات الحكمية والموضوعية إلاّ أنّه خاص من جهة اختصاصه بموارد الشبهة البدوية ولا يعمّ موارد العلم الإجمالي ؛ إذ في موارد العلم الإجمالي يكون التكليف معلوما ، والحديث ناظر إلى موارد عدم العلم أي موارد الشكّ حيث يقول : « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » فما لا يعلم - وهو التكليف المشكوك - هو المرفوع.

هذا بالنسبة إلى حديث الرفع.

وأمّا بالنسبة إلى أدلة وجوب الاحتياط فالأمر فيها كذلك أيضا فهي وإن كانت خاصّة بالشبهات الحكمية إلاّ أنّها عامة للشبهة البدوية والشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ولا تختص بموارد الشبهة البدوية.

ومادة الاجتماع هي الشبهة البدوية الحكمية (1) ، وفي مثلها يحصل التعارض بين حديث الرفع وأدلة وجوب الاحتياط ، فحديث الرفع ينفي وجوب الاحتياط بينما أدلة وجوب الاحتياط تثبت وجوب الاحتياط والمقدّم هو حديث الرفع لأنّ مضمونه موافق للقرآن الكريم - أي لقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) فإنّ مقتضى إطلاقه للتكليف هو انّ التكليف إذا لم يؤت فهو غير ثابت - والموافق لكتاب اللّه سبحانه مقدّم على المخالف عند المعارضة.

وهذه النتيجة هي في صالح الاصولي أيضا حيث انّه يريد إثبات البراءة في الشبهة الحكمية البدوية.

ص: 139


1- وهي المادة الواقعة محلا للنزاع بين الاصولي والإخباري فإنّ نزاعهما في الشبهة الحكمية البدوية ؛ إذ الشبهة الموضوعية لا إشكال في جريان البراءة فيها ، والشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي لا إشكال في وجوب الاحتياط فيها.

إذن النتيجة في كلتا المعارضتين بعد هذا البيان هي في صالح الاصولي.

ثمّ انّه بعد أن عرفنا انّ النسبة في مقام المعارضة هي العموم من وجه والمقدم هو دليل البراءة امّا لأنّه قرآني أو لموافقته لمضمون القرآن الكريم نقول : لو قطعنا النظر عن هذا الوجه للتقديم فمع ذلك تكون النتيجة في صالح الاصولي وليست في صالح الإخباري ؛ إذ دليل البراءة ودليل وجوب الاحتياط بعد تعارضهما يتساقطان ، وبعد التساقط نرجع إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان - وبذلك تثبت البراءة أيضا - إن كنّا من القائلين بالقاعدة المذكورة ، وإن كنّا من المنكرين لها فنرجع لإثبات البراءة إلى استصحاب البراءة الثابتة قبل التشريع أو قبل البلوغ فإنّ دليل الاستصحاب عامّ يدل على جريان الاستصحاب في كل حالة متيقّنة سابقة ، وأدلة وجوب الاحتياط جاءت وخصّصت عموم دليل الاستصحاب وأثبتت أنّ الاستصحاب لا يجري لإثبات البراءة - فإنّ الحكم عند الشكّ في ثبوت التكليف هو الاحتياط دون البراءة - ولكن حيث انّ هذا المخصص الدال على وجوب الاحتياط معارض بأدلة البراءة فلا يمكن الأخذ به فيبقى الدليل العام وهو دليل حجّية الاستصحاب سالما من المخصّص ويجري لإثبات البراءة بلا مزاحم.

الجواب الأوّل عن الاعتراض الثاني

ذكرنا سابقا انّ أدلة البراءة اعترض عليها باعتراضين أساسيين. وكان حديثنا إلى الآن يدور حول الاعتراض الأوّل.

وأمّا الاعتراض الثاني - الذي يقول انّ أدلة البراءة ناظرة إلى إثبات البراءة في الشبهات البدوية بينما الشبهات التي بأيدينا والتي نريد إجراء البراءة

ص: 140

فيها هي مقرونة بالعلم الإجمالي - فقد ذكر له جوابان أحدهما ما هو المذكور في الكفاية وغيرها من انّا وإن كنّا نعلم بثبوت الحرمة في بعض الشبهات بيد أنّ هذا العلم الإجمالي منحلّ بعلم إجمالي أصغر منه يختص بدائرة أخبار الثقات ، ومعه فيكون العلم المنجز هو هذا العلم الصغير.

توضيح ذلك : انّا لو فرضنا انّ الوقائع التي نشك في حكمها - 1000 واقعة مثلا وفرضنا أيضا انّ الوقائع التي نعلم بثبوت الحرمة فيها - 10 وقائع مثلا ففي مثل هذه الحالة يكون العلم الإجمالي الثابت في الوقائع الألف منجزا ويجب الاحتياط في جميع أطرافه ، ولكن هذا لو لم نلتفت إلى حقيقة اخرى وهي أنّه لو نظرنا إلى وسائل الشيعة لوجدنا فيه أخبارا كثيرة جدّا ، وهذه الأخبار لا يحتمل كذبها جميعا بل نجزم بأنّ 10 أخبار على الأقل - الدالّة على 10 تحريمات - صادقة وصادرة عن الأئمّة علیهم السلام ، وبعد الالتفات إلى هذه الحقيقة يحصل لنا علم إجمالي ثاني أصغر من السابق ، وهو العلم إجمالا بوجود 10 أخبار أو بالأحرى 10 تكاليف تحريمية في مجموع دائرة الأخبار ، ونحن ندّعي أنّ العلم الكبير الأوّل منحلّ بهذا العلم الصغير لأنّه كلّما كان عندنا علمان أحدهما كبير والآخر صغير وكانت أطراف الصغير بعض أطراف الكبير وكان مقدار المعلوم بالإجمال في الصغير لا يقلّ عن مقدار المعلوم بالإجمال في الكبير فالكبير ينحلّ بالصغير ويكون العلم المنجز هو العلم الصغير.

فمثلا لو كان عندنا عشرة أواني وكنّا نعلم بنجاسة منها ثمّ علمنا بعد ذلك بأنّ اثنين من الأواني الخمسة الواقعة في جانب اليمين من تلك الأواني العشرة نجس ، في مثل ذلك لا يكون العلم الأوّل الكبير منجزا بل يكون المنجز هو العلم الثاني الثابت في الأواني الخمسة فإنّ أطراف العلم الصغير الثاني بعض أطراف

ص: 141

العلم الكبير الأوّل كما انّ المعلوم نجاسته بالإجمال في العلم الصغير لا يقلّ عن المعلوم في العلم الكبير فيكون العلم المنجز هو الثاني ، أي يجب الاجتناب عن الأواني الخمسة فقط ولا يجب الاجتناب عن مجموع الأواني العشرة لأنّ العلم الكبير ينحلّ بسبب العلم الصغير ويبقى الصغير هو المنجز.

ونفس الشيء نقوله في مقامنا فإنّ العلم الكبير الذي أطرافه جميع الشبهات ينحلّ بالعلم الإجمالي الصغير في دائرة الأخبار لأنّ الشبهات التي وردت فيها أخبار هي بعض من تلك الشبهات في العلم الكبير ، كما وانّ المفروض انّ المعلوم بالإجمال في العلم الصغير لا يقلّ عن المعلوم بالإجمال بالكبير فينحل الكبير ويكون الصغير هو المنجز ، أي انّه يجب الاحتياط في دائرة الأخبار فقط لا في جميع الشبهات.

وبكلمة أوضح : كل شبهة دلّت رواية على حرمتها يجب فيها الاحتياط ، وأمّا الشبهات التي لا يوجد فيها خبر فلا يجب الاحتياط فيها ، وهذا هو المطلوب ؛ إذ المطلوب للاصولي هو إثبات إنّ كل شبهة يشكّ في حكمها ولم يدل خبر على حرمتها فلا يجب فيها الاحتياط بل تجري البراءة.

هذا حصيلة ما ذكره الآخوند وغيره.

ويمكن مناقشته بأنّ العلم الصغير ليس واحدا بل اثنان إذ كما نعلم بأنّ عشرة من أخبار الثقات صادق جزما كذلك نعلم بأنّ عشرا من الامارات غير المعتبرة كالشهرات وأخبار من لم يثبت توثيقهم صادق (1) فإنّا لا نحتمل كذب

ص: 142


1- إذ العلماء مع شدّة دقّتهم وذكائهم وقوّة تقواهم فمن البعيد جدّا أن يكون الحكم المشتهر بينهم باطلا ومخالفا للواقع ، وهكذا لا نحتمل أنّ أخبار الرواة الذين لم يثبت توثيقهم باطلة ولا شيء منها مطابقا للواقع بالرغم من كونها تشكّل نصف مجموع الأخبار أو أكثر

جميع ذلك بل بمقتضى حساب الاحتمال نجزم بصدق عشر منها على الأقل (1).

وبهذا تحصل لنا ثلاثة علوم إجمالية : علم إجمالي كبير ثابت في مجموع الشبهات يثبت حرمة عشر وقائع ، وعلمين إجماليين صغيرين أحدهما في دائرة أخبار الثقات وثانيهما في دائرة الشهرات وأخبار غير الثقات ، وفي كل من هذين العلمين الصغيرين نعلم بحرمة عشر شبهات.

ولا بدّ من الالتفات إلى أنّ الشبهات في دائرة أخبار الثقات لا ندّعي أنّها مغايرة للشبهات في دائرة الشهرات وأخبار غير الثقات بل في الغالب هما متّحدان ، بمعنى أنّ أغلب الشبهات يوجد فيها أخبار ثقات ويوجد فيها شهرات أو أخبار غير ثقات ونادرا ما يكون خبر الثقة ثابتا في شبهة من دون شهرة أو خبر غير ثقة وهكذا بالعكس.

وبعد الالتفات إلى هذا كاملا نأخذ بطرح السؤال التالي وهو أنّ التحريمات العشر التي نعلم بثبوتها في دائرة أخبار الثقات هل هي نفس التحريمات العشر التي نعلم بثبوتها في دائرة الشهرات وأخبار غير الثقات أو أنّ ذلك غير محتمل وإنّما هما متطابقان في البعض لا في الجميع ، فكلتا العشرتين تتطابقان مثلا في ثمانية تحريمات وهناك تحريمان ثابتان في دائرة أخبار الثقات بلا أن يكون فيهما شهرة أو خبر غير ثقة ، كما وأنّه هناك تحريمان آخران توجد فيهما شهرة وخبر غير ثقة ولا يوجد فيهما أخبار ثقات (2)؟

فإن اخترت الأوّل وقلت إنّا نحتمل أنّ تلك التحريمات العشر في أخبار الثقات هي نفس التحريمات العشر التي نعلم بثبوتها في الشهرات وأخبار غير

ص: 143


1- المراد عشر ممّا يدل على تكليف تحريمي.
2- قدمت عبارة الكتاب الاحتمال الثاني على الأوّل عكس ما فعلنا.

كالثقات - أي أنّ المعلومين بالإجمال في كلا العلمين نحتمل واقعا تطابقهما تطابقا تامّا - فيشكل حينئذ بأنّه لماذا ينحلّ العلم الكبير الثابت في مجموع الشبهات بالعلم الصغير الثابت في دائرة أخبار الثقات ولا ينحلّ بالعلم الإجمالي الصغير الثابت في الشهرات وأخبار غير الثقات؟ إنّ هذا ترجيح من غير مرجّح (1).

وإن اخترت الاحتمال الثاني - وهو انّ التحريمات العشر هنا وهناك ليست متطابقة تطابقا تامّا بل هي متطابقة في ثمانية فقط وهناك تحريمان فيهما أخبار ثقات بلا شهرات وأخبار غير ثقات كما وهناك تحريمان فيهما شهرات وأخبار غير ثقات بلا أخبار ثقات - فيرد عليه انّ لازم هذا أن تكون التحريمات التي نعلم بها في العلم الإجمالي الكبير الثابت في مجموع الشبهات ليست هي عشر تحريمات بل 12 تحريما (2).

ص: 144


1- قد يقال : لماذا لا نقول انّ العلم الكبير ينحلّ بكلا العلمين الصغيرين معا في آن واحد؟ والجواب انّ لازم هذا حجّية الشهرات وأخبار غير الثقات الدالة على الحرمة وعدم جريان البراءة معهما بالرغم من كونهما من الامارات غير المعتبرة. إن قلت : انّه بعد تطابق الشهرات مع أخبار الثقات في التحريمات العشر فلماذا لا نقول انّ كل شبهة دل خبر الثقة والشهرة معا على ثبوت الحرمة فيها يجب الاحتياط فيها وإلاّ فلا. قلت : انّ تلك التحريمات العشر لا نشخّصها ولا نميّزها خارجا فإنّ الشبهات التي يوجد فيها أخبار ثقات وشهرات كثيرة جدّا وليست هي عشرا فقط. هذا مضافا إلى أنّ لازم هذا حجّية الخبر في خصوص ما إذا كانت الشهرة موافقة له ، وأمّا إذا لم تكن معه شهرة فلا يكون حجّة ، وهذا لا يلتزم به ، فإنّ القائل بحجّية الخبر يقول بحجّيته حتّى إذا لم تكن معه شهرة.
2- لأنّ الشبهات في كل من العلمين الصغيرين هي قسم من الشبهات الثابتة في العلم الكبير فإذا كان مجموع التحريمات في شبهات كل من العلمين الصغيرين - 12 - حيث انّ التحريمات المعلومة التي تدلّ عليها أخبار الثقات والشهرات - 8 والتحريمات التي فيها أخبار ثقات فقط - 2 والتحريمات التي فيها شهرات - 2 - فهذا لازمه انّ التحريمات الثابتة في شبهات العلم الكبير هي 12 أيضا.

وإذا كان المعلوم بالإجمال في الكبير 12 تحريما فلازم ذلك عدم انحلاله بالعلم الصغير في دائرة الأخبار لأنّ المعلوم في دائرة الأخبار هو 10 بينما المعلوم في الكبير هو 12 ، وقد قلنا سابقا إنّ شرط انحلال العلم الكبير بالصغير هو ان لا يقل المعلوم في الصغير عن المعلوم في الكبير ، والمفروض هنا انّ المعلوم في الصغير أقلّ من المعلوم في الكبير فلا يحصل الانحلال.

الجواب الثاني عن الاعتراض الثاني

والجواب الثاني عن الاعتراض الثاني أن يقال : نسلّم انّه لو نظرنا إلى مجموع الشبهات التي نشكّ في حكمها فلنا علم إجمالي بثبوت الحرمة في بعضها ولكن هذا العلم الإجمالي ليس منجزا لما تقدّم في الحلقة الثانية ص 366 من أنّ العلم الإجمالي لا يكون منجزا إلاّ إذا تمّت أركان أربعة ، والركن الثالث منها عبارة عن تعارض الاصول في الأطراف فالعلم الإجمالي متى ما تعارضت الاصول في أطرافه كان منجزا ومتى لم تتعارض لم يكن منجزا. فمثلا إذا كان عندنا اناءان وكنّا نعلم بنجاسة أحدهما فهذا العلم الإجمالي منجز لأنّ أصل الطهارة في ذاك الإناء معارض بأصل الطهارة في هذا الإناء وبذلك لا يجوز ارتكاب أي واحد منهما لأنّ جواز ارتكاب الشيء يحتاج إلى مؤمّن ، والمؤمّن ليس هو إلاّ أصل الطهارة ، والمفروض انّه معارض.

ص: 145

وأمّا إذا فرض انّ الاصول لم تتعارض فالعلم الإجمالي لا يكون منجزا ، كما لو فرض انّا نملك انائين أحدهما خمر والآخر ماء وعلمنا إجمالا بوقوع نجاسة في أحدهما فيجوز إجراء أصل الطهارة في إناء الماء وبالتالي يجوز شربه ولا يعارضه أصل الطهارة في الإناء الآخر لأنّه خمر ، والخمر نجس جزما لا معنى لإجراء أصل الطهارة فيه.

وباتّضاح هذا نقول : انّ مجموع الشبهات التي بأيدينا وإن كنّا نعلم إجمالا بحرمة بعضها إلاّ أنّ هذا العلم الإجمالي ليس منجزا لأنّ كثيرا من الشبهات وردت فيها آيات وروايات تبيّن الحكم الثابت فيها ، فالخمر مثلا وردت فيه آية تدلّ على حرمته والكلب وردت فيه آية كذلك و ... وبعضها اتّضح الحكم فيه بالاستصحاب كالشكّ في بقاء وجوب صلاة الجمعة زمن الغيبة فإنّه ببركة استصحاب الوجوب إلى زمن الغيبة يثبت الوجوب.

إذن هناك شبهات كثيرة ثبت حكمها بالآيات أو الروايات أو الاستصحاب. ومثل هذه الشبهات لا يجري فيها أصل البراءة للعلم بحكمها من الطرق المذكورة ، ومع عدم جريان البراءة فيها فالقسم الباقي من الشبهات الذي لم ترد فيه آية ولا رواية ولا استصحاب لا محذور من إجراء البراءة فيه لأنّه لا يوجد علم إجمالي بثبوت الحرمة فيه.

وبذلك يثبت إنّ كل شبهة ليس فيها آية ولا رواية ولا استصحاب فلا مانع من جريان البراءة فيها ، وهو المطلوب ، إذ مطلوبنا إثبات انّ أصل البراءة يجري في الشبهة التي لا يوجد دليل على تحريمها ، وذلك ثابت بعد انحلال العلم الإجمالي.

ويسمّى مثل هذا الانحلال بالانحلال الحكمي لأنّ العلم الإجمالي لم يرتفع حقيقة من النفس وإنّما ارتفعت منجزيته فقط بسبب عدم تعارض الاصول فإنّ

ص: 146

عدم تعارض الاصول لا يرفع العلم الإجمالي حقيقة وإنّما يرفع منجزيته.

توجيه آخر للانحلال

والسيد الخوئي ( دام ظلّه ) أوضح فكره الانحلال الحكمي في المقام وحاول ربطها بمسلك جعل الطريقية الذي يتبناه.

وحاصل ما ذكره : انّ فكرة الانحلال الحكمي تامّة وواضحة بناء على مسلك جعل الطريقية. والوجه في ذلك انّ العلم الإجمالي متقوّم بأمرين : العلم بالجامع ، والشكّ في كل طرف طرف.

فإذا فرضنا انّ الآية أو الرواية أو الاستصحاب (1) دلّ على ثبوت الحرمة أو الوجوب في قسم من الشبهات فسوف يزول عنه الشكّ إذ حجّية الامارة تعني جعل العلمية والطريقية ، فالمكلّف متى ما قامت لديه امارة على الحرمة في شبهة فالشكّ يزول عنها ويتبدّل إلى العلم بالحرمة - ولكن ارتفاع الشكّ تعبّدي وليس ارتفاعا حقيقيا لأنّ الامارة لا تولّد العلم حقيقة وإنّما تولّده تعبّدا. ومن أجل هذا كان انحلال العلم الإجمالي انحلالا تعبّديا وليس حقيقيا - ومع زوال الشكّ وتبدّله إلى العلم يزول العلم الإجمالي أيضا لتقوّمه بالشكّ في كل طرف.

ويمكن مناقشة ذلك بأنّ منجزية العلم الإجمالي تتوقّف على تعارض الاصول في الأطراف فمتى لم تتعارض - كما هو الحال في مقامنا حيث انّ القسم الذي فيه الامارات لا تجري فيه البراءة وإنّما تجري في القسم الباقي فقط - لم يكن منجزا ، وهذا بلا فرق بين أن نبني على مسلك جعل العلمية أو لا.

ص: 147


1- المجعول في باب الاستصحاب عند السيد الخوئي هو الطريقية أيضا على ما تقدّم

فتمام النكتة للانحلال تكمن في عدم تعارض الاصول ولا تأثير لمسلك جعلية العلمية في ذلك أبدا. أجل لئن كان لمسلك جعل العلمية دور في المقام فدوره يبرز في توجيه نكتة عدم جريان الأصل في الطرف الذي قامت فيه الامارة ، فما قامت فيه الامارة لا يجري فيه الأصل باعتبار انّ الامارة بناء على مسلك جعل العلمية تورث العلم وتلغي الشكّ الذي هو موضوع الأصل - ومن الطبيعي تلغيه تعبّدا لا حقيقة ومن هنا كانت حاكمة لا واردة - وبالتالي ينحصر جريان الأصل بالطرف الآخر ويرتفع التعارض.

وإن شئت قلت : إنّ نكتة وجوب الموافقة القطعية ليست كامنة في عنوان العلم الإجمالي ليقوم السيد الخوئي ببذل الجهود في إثبات زوال العنوان المذكور زوالا تعبّديا ببركة مسلك جعل العلمية وإنّما هي كامنة في عدم تعارض الاصول في الأطراف. ولكن لماذا لا تتعارض الاصول عند قيام الامارة في أحد الطرفين؟ انّ مسلك جعل العلمية يصلح جوابا عن هذا السؤال فيقال انّ الطرف الذي قامت فيه الامارة لا يجري فيه الأصل لحكومتها عليه حيث إنّها تلغي الشكّ تعبّدا ، وأمّا إذا لم نبن على مسلك جعل العلمية فيمكن ان نستعين بنكتة ثانية لتقدّم الامارة وعدم جريان الأصل من قبيل نكتة الأخصيّة والنصيّة أو غيرها ممّا يأتي التعرّض له في هذا القسم من الحلقة ص 360 - 363 وبالتالي يتمّ عدم التعارض بين الاصول ومن ثمّ عدم وجوب الموافقة القطعية من دون الاستعانة بمسلك جعل العلمية أبدا.

قوله ص 54 س 2 : بأدلة تدل على وجوب الاحتياط : تقدّمت في الحلقة الثانية ص 338.

قوله ص 54 س 3 : بل هذه الأدلة : أي أدلة وجوب الاحتياط. وقوله :

ص: 148

« حاكمة عليها » أي على أدلة البراءة. وقوله : « لأنّها » : أي لأنّ أدلة وجوب الاحتياط. وقوله : « وتلك » : أي أدلة البراءة.

قوله ص 54 س 7 : غير معيّنة : أي هي ثابتة في مجموع الشبهات وإن لم تكن تلك التكاليف مشخّصة ومميّزة لنا.

قوله ص 55 س 4 : منوطة بعدم وصول الواقع : أي بعدم النهي عن شرب التتن مثلا بعنوان شرب التتن ، فإنّ من جملة أدلة البراءة حديث « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » وواضح أنّ هذا الحديث يرفع وجوب الاحتياط عن شرب التتن ما دام لم يصل نهي عنه بعنوان شرب التتن.

قوله ص 55 س 9 : على أساس : هذا توضيح لكيفية دلالة الآية الاولى على البراءة عن التكليف.

قوله ص 56 س 5 : والتعارض : هذا أشبه بعطف التفسير على الاجتماع.

قوله ص 56 س 10 : في الحلقة السابقة : ص 345.

قوله ص 56 س 16 : شرطي القاعدة : أي قاعدة انحلال العلم الكبير بالعلم الصغير.

قوله ص 57 س 1 : تكون الشبهة خارج نطاق ... : أي تكون الشبهة التي ليس فيها خبر ثقة بدوية.

قوله ص 57 س 10 : والنطاقان : أي نطاق الامارات المعتبرة ونطاق الامارات غير المعتبرة.

قوله 57 س 10 : وإن كانا متداخلين جزئيّا : بمعنى انّ بعض الشبهات توجد فيه الامارات المعتبرة والامارات غير المعتبرة. بل هذا هو الغالب فإنّ الغالب في الشبهة التي فيها خبر ثقة فيها شهرة أيضا ، والشبهة التي فيها شهرة

ص: 149

فيها خبر ثقة أيضا.

قوله ص 57 س 11 : ولكن مع هذا : أي بالرغم من وجود التداخل الجزئي فمع ذلك لا يحصل الانحلال.

قوله ص 57 س 12 : تطابقهما المطلق : أي تطابقهما في جميع التكاليف العشرة المعلومة بالإجمال.

قوله ص 58 س 4 : الذي تضمّ أطرافه : أي العلم الإجمالي الكبير الثابت في مجموع الشبهات.

قوله ص 58 س 9 : واستصحاب مثبت للتكليف : ليس المقصود من الاستصحاب المثبت الاستصحاب الذي يراد به إثبات لازمه العقلي الذي يعبّر عنه بالأصل المثبت بل الاستصحاب الذي نتيجته ثبوت التكليف.

قوله ص 59 س 4 : وإنّما يكون تأثيره : أي تأثير إلغاء عنوان العلم الإجمالي.

قوله ص 59 س 5 : عن طريق رفع التعارض : أي انّ إلغاء عنوان العلم الإجمالي إن كان له أثر فأثره يظهر في رفع التعارض بين الاصول حيث انّ إلغاء العلم الإجمالي يتحقّق بسبب رفع الامارة - في الطرف الذي تقوم فيه - للشكّ رفعا تعبّديا ، ومع ارتفاع الشكّ تعبّدا فلا يجري الأصل لارتفاع موضوعه وبالتالي لا يحصل تعارض.

ص: 150

تحديد مفاد البراءة

اشارة

قوله ص 59 س 11 : وبعد أن اتّضح انّ البراءة : قبل توضيح المبحث المذكور نطرح السؤال التالي : بماذا يسقط التكليف؟

والجواب : انّه يسقط بكل شيء أخذ عدمه قيدا في التكليف ، فالمرض مثلا مسقط لوجوب الصوم لأنّه قيّد بعدم المرض فمع طروّ المرض يسقط وجوب الصوم. وهذا واضح.

وهل امتثال التكليف أو عصيانه مسقط له أيضا؟ ذهب المشهور إلى كونه مسقطا. والصحيح عدمه لأنّ المسقط للتكليف هو كل شيء أخذ عدمه قيدا في التكليف ، وواضح أنّ الامتثال والعصيان لم يؤخذ عدمهما قيدا في التكليف ؛ إذ لو كان الامتثال قد أخذ عدمه قيدا في التكليف صار وجوب الصلاة هكذا : أقيموا الصلاة إن لم تقيموا الصلاة. ولو كان عدم العصيان قيدا صار الوجوب هكذا : أقيموا الصلاة إن لم تعصوا الأمر المذكور ، وهو واضح البطلان.

وعليه فالصحيح انّ امتثال التكليف وعصيانه ليسا مسقطين بل التكليف يبقى بعد الامتثال أيضا غاية الأمر يسقط عن المحركية والفاعلية فمن صلّى وفرغ من صلاته لا يسقط وجوب الصلاة في حقّه بل هو باق كما كان موجودا قبل الإتيان بها ، غاية الأمر قبل الإتيان بالصلاة كان - وجوب الصلاة - محرّكا للمكلّف ودافعا له إلى الصلاة ، وأمّا بعد الإتيان بها فلا يكون محركا نحوها.

ويمكن توضيح المدّعى المذكور بأنّ التكليف يرجع في روحه إلى الحبّ

ص: 151

والإرادة ، وواضح انّ الحبّ لا يزول بتحقّق المحبوب ، والإرادة لا تزول بتحقق المراد ، فنحن نحبّ الطعام وحبّنا له لا يزول بتناوله بل هو باق لكنّه لا يحرك نحو الأكل من جديد.

وممّا يدل على عدم زوال فعلية الحب بتحقّق الأكل إنّنا قد نقوم بعد تناول الوجبة الاولى بالإعداد للوجبة الثانية ، فلو لم يكن الحب فعليا بعد تناول الوجبة الاولى فلماذا التحرّك لإعداد الوجبة الثانية.

وبعد اتّضاح هذا نعود إلى الكتاب لنوضّح أين يجري أصل البراءة وأين يجري أصل الاشتغال.

إنّ مورد البراءة هو ما إذا كان الشكّ في أصل ثبوت التكليف ومورد أصالة الاشتغال هو ما إذا كان الشكّ في تحقيق امتثال التكليف بعد اليقين بثبوته ، فمن شكّ في ثبوت وجوب الدعاء عند رؤية الهلال جرت البراءة لنفيه ، امّا إذا تيقّن بوجوب ذلك وشكّ هل دعا عند رؤية الهلال أو لا كان الاشتغال ولزوم الاتيان هو المحكم في حقّه.

وهذا شيء واضح. ولكن هناك شبهة لعلّ أوّل من أثارها هو الشيخ العراقي قدس سره تقول : لماذا لا تجري البراءة في الحالة الثانية أيضا - أي حالة العلم بثبوت التكليف والشكّ في حصول الامتثال - بتقريب انّ المكلّف متى ما احتمل صدور الدعاء منه فقد احتمل عدم ثبوت التكليف ، ومن الواضح انّ الشكّ في ثبوت التكليف مجرى للبراءة.

وقد يتخلّص من ذلك بأنّ أدلّة البراءة التي تدل على ثبوت البراءة عند الشكّ في التكليف منصرفة عن حالة الشكّ في ثبوت التكليف الناشئ من احتمال الامتثال ومختصّة بحالة الشكّ في ثبوت التكليف الذي لم ينشأ من احتمال

ص: 152

الامتثال ، فحديث « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » مثلا يريد أن يقول : متى ما لم يعلم بثبوت التكليف فهو مرفوع ولا يريد أن يقول انّه مرفوع حتّى عند الشكّ في سقوطه بعد العلم بتحقّقه.

كما وقد يتخلص بأنّ استصحاب عدم الإتيان بالواجب يثبت عدم تحقّق الواجب خارجا وبالتالي يثبت وجوب الإتيان به من جديد واشتغال الذمّة به.

بأحد هذين الجوابين قد يتخلص من الشبهة المذكورة. بيد انّه إنّما يحتاج إليهما فيما لو لم نبن على المسلك المتقدّم ، وأمّا بناء على ما تقدّم من انّ الامتثال ليس مسقطا للتكليف وإنّما هو مسقط لفاعليته فالشبهة المذكورة تندفع من جذورها لأنّ المكلّف وإن احتمل إتيانه بالدعاء إلاّ أنّه يبقى متيقنا بثبوت التكليف ولكنّه يشك في سقوط فاعليته ومحرّكيته ، ومن الواضح انّه مع العلم بثبوت التكليف والشكّ في سقوط محركيته لا تجري البراءة ، فإنّ البراءة تجري حالة الشك في ثبوت التكليف ولا تجري حالة العلم بثبوته والشكّ في انتهاء فاعليته (1).

ما هو الميزان؟

بعد أن عرفنا ان البراءة تجري في مورد الشكّ في ثبوت التكليف والاشتغال يجري في مورد الشكّ في الامتثال يقع التساؤل عن ميزان كون الشكّ شكّا في ثبوت التكليف كي تجري البراءة أو شكّا في الامتثال كي يجرى الاشتغال.

ص: 153


1- قد يقال : لماذا لا يكون المناط هو الشكّ في الفاعلية لا الشكّ في الفعلية؟ والجواب : انّ ظاهر أدلة البراءة انّ البراءة تجري فيما إذا كان الشكّ في ثبوت التكليف الفعلي دونما إذا كان الشكّ في الفاعلية بعد العلم بتحقّق التكليف الفعلي.

انّ هذا التساؤل وإن كان قد يبدو واهيا حيث ان تشخيص كون الشكّ شكّا في ثبوت التكليف أو في الامتثال شيء واضح.

بيد أنّه يمكن أن يقال : انّ الشكّ في الشبهات الحكمية - كالشكّ في حرمة التتن - وإن كان عادة شكّا في ثبوت التكليف ولم نعهد شبهة حكمية لا يكون الشكّ فيها شكّا في ثبوت التكليف ؛ إذ لو لم يكن الحكم مشكوكا فلا تكون الشبهة شبهة حكمية إلاّ أنّه في الشبهات الموضوعية قد يحصل الخفاء في كون الشكّ شكّا في ثبوت التكليف أو في الامتثال ، فلو قيل اكرم كل عالم وشك في شخص انّه عالم أو لا فهل الشكّ المذكور شكّ في ثبوت التكليف كي تجري البراءة ولا يجب إكرامه أو هو شكّ في الامتثال كي يجري الاشتغال؟ وهكذا لو قيل يحرم الكذب وشكّ في كلام انّه كذب أو لا فهل الشكّ في ذلك شكّ في ثبوت التكليف أو في الامتثال؟

إذن الشبهة الموضوعية بحاجة ملحّة إلى تقديم ضابط يوضح لنا متى يكون الشكّ شكا في ثبوت التكليف ومتى يكون شكا في الامتثال.

ولتوضيح الضابط نقول : لو قال المولى يحرم شرب الخمر إن كنت بالغا كان الحكم هو الحرمة. وهذا الحكم يرتبط بثلاثة أطراف وهي : -

أ - الشرب ، فإنّ الحرمة متعلّقة به. ويسمّى الشرب بمتعلّق الحكم.

ب - الخمر ، فإنّ الشرب - الذي هو متعلّق الحرمة - متعلّق بالخمر. ويسمّى الخمر بمتعلّق المتعلّق ، كما ويسمّى بالموضوع أيضا.

ج - البلوغ الذي هو قيد للحرمة ، فإنّ الحرمة مقيّدة بالبلوغ.

وبعد معرفة هذه الأطراف الثلاثة نقول انّ الشبهة لا تكون موضوعية إلاّ مع الشكّ في أحد الأطراف المذكورة ، فالشبهة تكون موضوعية لو شكّ في تحقّق

ص: 154

البلوغ أو في تحقّق الخمر أو في صدق الشرب ، إذ مع عدم الشكّ من إحدى الجهات المذكورة يتعيّن أن يكون الشكّ من ناحية الحكم وبذلك تكون الشبهة حكمية لا موضوعية.

وباتضاح هذا نقول : ميزان كون الشكّ في التكليف أو في الامتثال كما يلي : -

1 - إذا كان الشكّ في تحقق القيد - بأن شك في تحقق البلوغ - فالشكّ شكّ في أصل التكليف لأنّ التكليف مقيّد بالبلوغ فعند الشكّ في تحقّقه لا بدّ وأن يشكّ في ثبوت التكليف الذي هو مجرى البراءة (1)

2 - إذا كان الشكّ في تحقّق المتعلّق فالشكّ شكّ في الامتثال ويثبت الاشتغال ، كما لو فتح لشخص بواسطة عملية جراحية ثقب في جنبه وصبّ الخمر بواسطة انبوب في تلك الفتحة فهل يتحقّق بذلك عنوان شرب الخمر كي يحرم أو لا؟

في مثل ذلك يكون الشكّ شكّا في الامتثال لأنّ المكلّف لا يشك في حرمة شرب الخمر بل يجزم بفعليتها في حقّه وإنّما يشكّ في صدق الشرب على الإراقة في الثقب ، فإن كان صادقا فهو عاص بالإراقة في الثقب وإلاّ فلا. فالشك إذن شكّ في عصيان الحرمة المتوجهة إليه لا في أصل توجهها إليه ، فإنّ توجه الحرمة وفعليتها في حقّ المكلّف ليس مقيدا بوجود المتعلق في الخارج ، فعدم تحقق عنوان شرب الخمر في الخارج لا يعني عدم فعلية حرمة شرب الخمر في حقّ المكلّف ومع الجزم بتوجه الحرمة يلزم ترك الإراقة في الثقب كي يجزم بحصول فراغ الذمّة عمّا اشتغلت به يقينا (2).

ص: 155


1- لم تشر عبارة الكتاب إلى هذه الحالة ، وكان من المناسب الإشارة لها.
2- هذا ولكن سيأتي منه قدس سره التراجع عن ذلك وإمكان توجيه جريان البراءة.

3 - إذا كان الشكّ في تحقّق الموضوع - كما لو شكّ في سائل انّه خمر أو لا - فلا بدّ من التفصيل بين كون الموضوع مأخوذا بنحو الشمولية - كما لو قيل اكرم كل فقير ، فإنّ الفقير لوحظ بنحو الشمولية ، أي انّ جميع الفقراء يلزم إكرامهم ، وهكذا لو قيل لا تشرب الخمر ، فإنّ المقصود إنّ جميع أفراد الخمر يلزم تركها - وبين كونه مأخوذا بنحو البدلية ، كما لو قيل اكرم فقيرا ما (1).

فعلى تقدير الشمولية يكون الشكّ شكّا في ثبوت التكليف لأنّ وجوب الإكرام ينحلّ بعدد الأفراد ، فلو كانت أفراد العالم مائة انحلّ إلى مائة وجوب ، ولكل فرد من العالم فرد خاص من الوجوب (2) ، ومعه فالشكّ في كون شخص معين عالما يستلزم الشكّ في ثبوت وجوب آخر زائد على المائة فتجري البراءة عنه.

وإن كان مأخوذا بنحو البدلية - كما لو قيل اكرم فقيرا ما - فالشكّ شكّ في الامتثال ويجب الاحتياط لأنّ المفروض أنّ وجوب الاكرام الثابت في حقّ المكلّف وجوب واحد ويشكّ في أنّ هذا الوجوب الواحد هل يحصل امتثاله باكرام من يشكّ في فقره أو لا ، وفي مثله يحكم بالاشتغال ولزوم الجزم بتحقّق الامتثال.

ص: 156


1- قد يعبّر عن البدلية بصرف الوجود - فيقال انّ وجوب الاكرام متعلّق بالفقير بنحو صرف الوجود - وعن الشمولية بمطلق الوجود فيقال وجوب الاكرام متعلّق بالفقير بنحو مطلق الوجود.
2- والدليل على الانحلال المذكور انّ من أكرم بعض العلماء ولم يكرم بعضهم الآخر كان مطيعا بمقدار ما أكرم وعاصيا بمقدار ما لم يكرم ، فلو كان الوجوب واحدا وليس بانحلالي فكيف يتحقق العصيان والإطاعة معا؟ كلا لا يمكن بل يلزم تحقق الإطاعة فقط أو العصيان فقط.
ميزانان للشكّ في ثبوت التكليف والامتثال

ومن خلال ما تقدّم اتضح انّ الشكّ في ثبوت التكليف له ميزانان : -

1 - أن يكون الشك في تحقق القيد كالبلوغ مثلا.

2 - أن يكون الشكّ في تحقق الموضوع فيما إذا كان إطلاقه شموليا.

كما واتّضح أيضا أنّ الميزان لكون الشكّ شكا في الامتثال هو أحد أمرين أيضا : -

1 - أن يكون الشكّ في المتعلّق.

2 - أن يكون الشكّ في الموضوع فيما إذا كان إطلاقه بدليا.

كلام للميرزا

وللميرزا قدس سره كلام ذكر فيه (1) انّ الميزان الثاني يمكن إرجاعه إلى الميزان الأوّل. وبذلك يكون الميزان للشك في التكليف واحدا وهو الشكّ في قيد التكليف.

ووجه ذلك : انّ وجود الموضوع قيد للحكم ، وما دام قيدا للحكم فالشكّ في تحقق الموضوع شك في تحقق قيد الحكم. فمثلا وجود الخمر موضوع للحكم بالحرمة والحرمة مقيدة بوجود الخمر ، فالخمر يحرم إن وجد في الخارج ، ومعه فيكفي الميزان الأوّل.

وفيه : انّه لا يلزم دائما أن يكون وجود الموضوع قيدا بل ذلك مسلم أحيانا ، فوجود الموضوع إذا لم يكن تحت اختيار المكلّف يلزم أخذه قيدا في

ص: 157


1- راجع مبحث اللباس المشكوك من تقرير الكاظمي للصلاة ج 1 ص 272.

الحكم ، كما لو قيل تجب الصلاة عند الزوال ، فإنّ الزوال موضوع ، وحيث انّه غير اختياري فيلزم أخذه قيدا ويكون المقصود : انّ تحقّق الزوال وجب الصلاة. وكما لو قيل : تجب الصلاة إلى الجهة التي فيها القبلة ، فإنّ كون القبلة في هذه الجهة أو تلك أمر غير اختياري فيجب أخذه قيدا ويكون المقصود : تجب الصلاة إلى هذه الجهة إن كانت القبلة فيها.

وأمّا إذا كان تحت الاختيار - كوجود الخمر مثلا - فلا يلزم أخذه قيدا في الحكم حتّى يكتفى بالميزان الأوّل بل تبقى الحاجة إلى الميزان الثاني.

تصحيح مدّعى الميرزا بطريقة اخرى

هذا ولكن ما ذكره الميرزا - وهو انّه لا حاجة إلى ميزانين بل يكفي الميزان الأوّل - يمكن توجيهه ببيان آخر غير ما ذكره قدس سره فإنّ الميرزا ذكر أنّ وجود الموضوع حيث انّه قيّد للحكم فلا حاجة إلى ذكر الميزان الثاني بينما البيان الجديد يقول انّ وجود الخمر خارجا وإن لم يكن قيدا للحرمة بل هي ثابتة قبل وجوده أيضا إلاّ أنّ هذا لا يعني كون الحرمة مطلقة بل هي مقيّدة بصدق الخمر على السائل ، فكل سائل يحرم أن اتّصف بكونه خمرا على تقدير وجوده ، فالسائل قبل وجوده إذا فرض صدق الخمر عليه على تقدير وجوده فهو حرام ، والحرمة ثابتة قبل وجود السائل ولكن مشروطة بصدق الخمر عليه على تقدير وجوده.

والبراءة تجري لا من باب عدم إحراز تحقق الخمر خارجا - فإنّ تحقق الخمر خارجا ليس قيدا للحرمة - بل من باب عدم إحراز اتصاف السائل

ص: 158

الموجود بالخمرية على تقدير وجوده (1).

صياغة الميزان الأوّل من جديد

وعلى ضوء هذا يتضح انّ الميزان في كون الشكّ شكا في التكليف هو الشك

ص: 159


1- والنكتة لكون الحرمة مقيّدة بالاتصاف بالخمرية لا بوجود الخمر خارجا أنّ الحرمة ليست إلاّ عبارة عن البغض والكراهة ، وواضح أن بغض الخمر لا يتوقف على وجود الخمر خارجا بل هو مبغوض حتى قبل وجوده ما دام يتّصف بالخمرية على تقدير وجوده. وقد تقول : أو ليس ثبوت الحرمة للخمر قبل وجوده لغوا ؛ إذ ما الفائدة في ثبوت الحرمة ما دام الخمر بعد لم يوجد؟ والجواب : انّ الفائدة تظهر فيما لو فرض أنّ المكلّف علم أن العنب لو اشتراه وصيّره خمرا لشربه حتما ، ففي مثل ذلك لا يجوز لمثل هذا الشخص شراء العنب وتصييره خمرا بخلافه على رأي الميرزا فإنّه لا محذور فيه. إن قلت : أو ليس ثبوت الحرمة للخمر قبل وجوده يتنافى مع ما تقدّم من أنّ فعلية التكليف تدور مدار فعلية موضوعه؟ قلت : ان مصطلح الموضوع يطلق على : _ أ _ شرائط التكليف كالاستطاعة والبلوغ و ... فإنّ الاستطاعة مثلا قيد لوجوب الحجّ ، وهي موضوع له لأنّه لا يجب تحصيلها بل متى ما حصلت صدفة ثبت وجوب الحجّ. ب _ متعلّق المتعلّق كالخمر مثلا فإنّه موضوع لحرمة شرب الخمر. بعد هذا نقول : انّ المقصود من قاعدة « انّ فعلية الحكم تدور مدار فعلية موضوعه » هو أنّ الحكم لا يصير فعليا إلاّ بعد فعلية شرائط الحكم ، فوجوب الحج لا يصير فعليا إلاّ بعد فعلية الاستطاعة والبلوغ و ... ولا تشمل القاعدة المذكورة متعلّق المتعلّق. هكذا يجاب أو يجاب بأنّ القاعدة تشمل متعلّق المتعلّق أيضا بيد انّ الموضوع في حرمة الخمر ليس هو وجود الخمر حتّى يلزم فعلية وجوده وإنّما هو الاتصاف فيلزم فعلية الاتصاف ، أي فعلية القضية الشرطية ولا يلزم فعلية وجود الخمر في الخارج لأنّه ليس هو الموضوع.

في القيد بيد انّ الشك في القيد له شكلان فتارة : -

أ - يشكّ في أصل وجود القيد ، كما لو شكّ في أنّ البلوغ متحقّق أو لا. ويسمّى هذا بالشكّ في وجود القيد بنحو مفاد كان التامّة (1).

ب - واخرى يشكّ في وجود القيد بنحو مفاد كان الناقصة ، أي يشك في اتصاف السائل بكونه خمرا على تقدير وجوده (2). أخذ المتعلّق قيدا في الحكم

اتضح من خلال ما سبق انّ الموضوع هو قيد في الحكم ولكن لا بوجوده بل اتصاف الشيء بالخمرية على تقدير وجوده - وبتعبير أشمل اتصاف الشيء بوصف الموضوع - هو القيد للحكم.

وهذه الفكرة يمكن تطبيقها على المتعلّق أيضا كالكذب في دليل « يحرم الكذب » فإنّ الكذب متعلّق للتحريم وليس موضوعا ويمكن تطبيق الفكرة السابقة عليه فيقال انّ اتصاف الكلام بالكذب هو قيد في الحرمة ، والتقدير : يحرم كل كلام إذا كان على تقدير وجوده متصفا بالكذب (3).

ص: 160


1- « كان التامّة » هي الدالة على أصل الوجود ، ومن هنا صح التعبير عن أصل وجود الشيء بمفاد كان التامّة.
2- « كان الناقصة » هي الدالة على ثبوت شيء لشيء ، فقولنا : « كان زيد قائما » يدلّ على ثبوت القيام لزيد واتصافه به ، ومن هنا صح التعبير عن اتّصاف السائل بالخمرية بمفاد كان الناقصة.
3- وهذا تراجع عمّا سبق فإنّه تقدّم أنّ الشكّ في المتعلّق مجرى للاشتغال للبيان المتقدّم بينما على ضوء البيان الفعلي يكون الشكّ في المتعلّق مجرى للبراءة. وبهذا يتّضح انّ الكلام متى ما شكّ في كونه كذبا فيوجد بيانان أحدهما يقتضي الاشتغال والآخر يقتضي البراءة. أمّا بيان الاشتغال فهو انّ المكلّف حيث يقطع باشتغال ذمّته بحرمة الكذب فلأجل تحصيل اليقين بفراغها يلزمه ترك ما يشكّ في كونه كذبا. وبيان البراءة أنّ الحرمة حيث انّها ثابتة لما يتّصف بكونه كذبا على تقدير وجوده فالكلام المشكوك تجري البراءة عن حرمته لعدم إحراز اتصافه بوصف الكذب على تقدير وجوده. والبيان الثاني هو الوجيه. أجل البيان الأوّل يتمّ في باب الواجبات فإذا وجبت الصلاة على المكلّف وشكّ في صدورها منه جرى الاشتغال. وعليه فالمناسب هو التفصيل بين باب المحرّمات فتجري البراءة عند الشكّ في المتعلّق للبيان الثاني وبين باب الواجبات فيجري الاشتغال للبيان الأوّل.

وهذا شيء وجداني فإنّ الحرمة لا تثبت للكذب بعد وجوده فليس من الصواب أن نقول انّه لا بدّ من وجود الكذب أوّلا ثمّ توجد الحرمة بل الحرمة ثابتة قبل وجود الكذب ، فكل كلام يصدق عليه الكذب على تقدير وجوده فهو حرام قبل وجوده أيضا.

الصياغة النهائية لميزان الشكّ في التكليف

وعلى ضوء هذا يتّضح انّ الصياغة النهاية لميزان الشكّ في التكليف هو أن يكون الشكّ في قيد التكليف ، والشكّ في قيد التكليف له أشكال ثلاثة : -

أ - أن يشكّ في أصل تحقّق القيد. ويسمّى بالشكّ في تحقق القيد بنحو مفاد كان التامة ، كالشك في تحقق البلوغ أو الشكّ في تحقّق الزلزلة التي هي قيد في وجوب صلاة الزلزلة.

ب - انّ يشكّ في الموضوع بنحو مفاد كان الناقصة ، كما لو شكّ في اتصاف

ص: 161

السائل بكونه خمرا على تقدير وجوده.

ج - أن يشكّ في المتعلّق بنحو مفاد كان الناقصة ، كما لو شكّ في اتصاف الكلام بكونه كذبا على تقدير وجوده.

قوله ص 59 س 11 : لوجود الدليل عليها ... : أمّا الدليل على البراءة فهو الآية الاولى وحديث الرفع فإنّ دلالة هذين تامّة على ما اتّضح سابقا.

وأمّا انّ المانع عن تطبيق البراءة مفقود فلأنّ المانع من البراءة هو الاعتراضان الأساسيان السابقان ، وقد تقدّم دفعهما.

قوله ص 59 س 16 : وهذا واضح : أي جريان الاشتغال وعدم جريان البراءة. وقوله : « على مسلكنا المتقدّم » إشارة إلى ما مرّ في الحلقة الثانية ص 296 وفي القسم الأوّل من هذه الحلقة ص 308.

قوله ص 60 س 3 : في فعلية التكليف : أي في ثبوت التكليف الفعلي.

قوله ص 60 س 8 : بأصل موضوعي حاكم : تسمية استصحاب عدم الامتثال بالأصل الموضوعي واضح لأنّه ناظر إلى الموضوع وهو الامتثال فإنّ الامتثال موضوع لعدم وجوب الامتثال من جديد. وأمّا تسميته بالحاكم فلأنّه يثبت تعبّدا - لا حقيقة - موضوع وجوب الامتثال من جديد.

قوله ص 60 س 11 : أي المكلّف به : فإنّ الشكّ في الامتثال عبارة اخرى عن الشكّ في تحقق المكلّف به.

قوله ص 62 س 7 : ميزانان : الصواب : ميزانين.

قوله ص 62 س 10 : أن يكون إطلاق التكليف : المناسب : أن يكون الشكّ في الموضوع ويكون إطلاق التكليف ...

ص: 162

قوله ص 64 س 4 : في الأوّل : أي فيما إذا كان القيد مأخوذا بنحو مفاد كان التامة. والمراد من الثاني أخذه بنحو مفاد كان الناقصة.

ص: 163

ص: 164

استحباب الاحتياط

اشارة

قوله ص 65 س 1 : عرفنا سابقا عدم وجوب الاحتياط ... : عرفنا فيما سبق انّ الاحتياط لا يجب في موارد الشك في التكليف كالشك في حرمة التتن. ولكن هل هو راجح ومستحب أو لا؟ أجل هو مستحب ، فإنّ مثل حديث « أخوك دينك فاحتط لدينك » لئن أنكرنا دلالته على وجوب الاحتياط فليس بإمكاننا إنكار دلالته على استحباب الاحتياط ورجحانه.

وهذا شيء واضح. غير انّه توجد نقطتان وقعتا محلا للبحث بين الاصوليين : -

النقطة الاولى

انّ استحباب الاحتياط هل هو مستحب مولوي كسائر المستحبات المولوية - كاستحباب صلاة الليل مثلا - أو هو إرشادي؟

والثمرة بين هذين الاحتمالين تظهر في ثبوت الثواب ، فإنّه بناء على الاستحباب المولوي يكون المكلّف مستحقا للثواب لو احتاط كما يستحق الثواب لو فعل بقية المستحبات المولوية بينما على الاستحباب الإرشادي لا يكون مستحقا للثواب على الاحتياط بما هو احتياط وإن كان يستحقه عليه بما هو انقياد.

ص: 165

وتظهر الثمرة أيضا في إمكان قصده في مقام الامتثال فإنّ الاستحباب المولوي يمكن قصده في مقام الامتثال ويصير الفعل بذلك عباديا ، وهذا بخلافه في الاستحباب الإرشادي فإنّ قصده في مقام الامتثال لا يصيّر الفعل عباديا.

وعلى أي حال وقع الكلام في أنّ استحباب الاحتياط هل هو مولوي أو إرشادي؟

ذهبت مدرسة الشيخ النائيني قدس سره إلى عدم إمكان كون استحباب الاحتياط مولويا وقالت انّ الروايات الدالة على حسن الاحتياط واستحبابه - مثل أخوك دينك فاحتط لدينك - لا بدّ من حملها على الإرشاد ، أي الإرشاد إلى ما يحكم به العقل من حسن الاحتياط ولا تريد أنّ تؤسس استحبابا مولويا زيادة على الحسن العقلي الذي يحكم به العقل. واستدلت على ذلك بوجهين : -

1 - إنّ الغرض من الاستحباب المولوي للاحتياط امّا هو إيجاد محرّك لزومي نحو الاحتياط ، أو إيجاد محرك غير لزومي.

والأوّل باطل جزما ، إذ لازمه صيرورة الاحتياط واجبا مع أنّ المفروض كونه مستحبا وليس واجبا.

والثاني لغو وتحصيل للحاصل ، فإنّ المكلّف ما دام يحتمل انّ شرب التتن محرّم واقعا فهذا الاحتمال سوف يحركه نحو الاحتياط حتّى لو فرض أنّ الشارع لم يجعل الاستحباب للاحتياط لأنّ العقل يحرّك المكلّف ويدفعه نحو إيجاد الاحتياط ، وما دام احتمال ثبوت الحرمة كافيا في تحريك المكلّف نحو الاحتياط يكون جعل الشارع الاستحباب للاحتياط بداعي التحريك نحو الاحتياط لغوا وأشبه بتحصيل الحاصل.

ص: 166

2 - وبيان هذا الوجه موقوف على مقدّمة تقدّمت في الحلقة الثانية ص 302 حاصلها : انّ العقل إذا حكم بحسن شيء فهل يلزم حكم الشارع على طبقه أو لا؟ وبتعبير آخر : هل هناك ملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع؟

وفي الجواب عن هذا السؤال فصّل الميرزا بين الحسن الثابت في مرحلة متأخّرة عن الحكم والحسن الثابت في مرحلة أسبق على الحكم ، فالحسن الثابت في مرحلة أسبق يستلزم حكم الشارع على طبقه بخلاف الحسن المتأخر.

فمثلا حسن الإطاعة حسن ثابت في مرحلة متأخّرة عن الحكم إذ لا بدّ من افتراض سبق حكم بوجوب الصلاة مثلا حتّى يمكن تحقق إطاعته وبالتالي حتّى يثبت حسن هذه الإطاعة فإذا لم نفترض وجود حكم شرعي بوجوب الصلاة فلا يمكن تحقق إطاعته حتّى تكون حسنة ، فحسن الإطاعة إذن موقوف على وجود حكم شرعي.

ومثل هذا الحسن لا يستلزم حكم الشارع على طبقه إذ لو حكم الشارع على طبقه يلزم تولّد حكم ثاني جديد غير الحكم السابق - والحكم السابق هو وجوب الصلاة مثلا - وهذا الحكم الثاني حيث انّ إطاعته حسنة أيضا فيلزم تولّد حكم شرعي ثالث ، وإطاعة هذا الحكم الثالث حيث انّها حسنة أيضا فيلزم تولد حكم رابع جديد ، وهكذا يلزم التسلسل.

هذا كلّه في الحسن الثابت في مرحلة متأخرة عن الحكم. ويعبّر عنه بالحسن الواقع في طول الحكم الشرعي.

وأمّا إذا كان الحسن واقعا في مرتبة أسبق على الحكم - ويعبّر عنه بوقوع الحكم الشرعي في طول الحسن ، كحسن الصدق مثلا ، فإنّ الصدق حسن في

ص: 167

نفسه وقبل أن يحكم الشارع بوجوبه ، ولأجل حسنه المذكور حكم الشارع بوجوبه - فهو يستلزم حكم الشارع على طبقه وسلّم فيه الميرزا الملازمة بين حكم العقل بالحسن وحكم الشارع بالوجوب.

وباتّضاح هذه المقدّمة نقول في توضيح الوجه الثاني : انّ الاحتياط ما دام حسنا عقلا فلا يمكن أن يكون مستحبا مولويا شرعا لأنّ هذا الحسن العقلي للاحتياط هو حسن متأخر عن الحكم الشرعي إذ لا بدّ من فرض وجود حرمة شرب التتن أوّلا حتّى يمكن الاحتياط لأجلها وبالتالي حتّى يكون الاحتياط لأجل تلك الحرمة المحتملة حسنا.

وما دام حسن الاحتياط متأخّرا عن الحكم الشرعي فلا يمكن أن يكون مستلزما للاستحباب المولوي لأنّه إذا كان الاحتياط مستحبا شرعا فإطاعة هذا الاستحباب حسنة أيضا فيلزم تولد استحباب جديد بإطاعة الاستحباب السابق ، وحيث إن إطاعة هذا الاستحباب الجديد حسنة أيضا فيلزم تولّد استحباب آخر ، وهكذا يلزم التسلسل.

مناقشة الوجه الأوّل

ويمكن مناقشة الوجه الأوّل - وهو أنّ جعل الاستحباب للاحتياط لغرض إيجاد محرّك لزومي غير معقول ولايجاد محرّك غير لزومي لغو - بأنّ الاستحباب المولوي للاحتياط فيه احتمالان : -

أ - أن يكون الاستحباب نفسيا لا طريقيا ، بمعنى أنّه جعل الاستحباب للاحتياط لا لأجل التحفّظ على عدم الوقوع في المحرمات الواقعية المحتملة بل

ص: 168

لأجل ملاك آخر كما قد يستفاد ذلك من حديث « من ترك الشبهات فهو لما استبان له أترك » حيث يدلّ على أنّ رجحان الاحتياط وترك الشبهة لم ينشأ من أجل التحفّظ على الواقع بل لأنّ ترك الشبهة يولّد للمؤمن مناعة ونفسا قادرة على ترك المحرّمات المعلومة ، فمن اعتاد على ترك الشبهات هان عليه ترك المحرّمات.

وبناء على هذا الاحتمال لا يلزم محذور اللغوية لأنّ احتمال حرمة شرب التتن واقعا وإن كان يحرك المكلّف نحو الاحتياط حتّى لو لم يجعل الشارع الاستحباب للاحتياط إلاّ أنّ هذه المحركية الناشئة من احتمال حرمة شرب التتن هي محركية مغايرة للمحركية الناشئة من جعل الاستحباب المولوي للاحتياط ، فإنّ المحركية الاولى محركية ناشئة من أجل التحفّظ على الواقع المشكوك بينما المحركية الثانية ناشئة من أجل إيجاد المناعة. وبعد تغاير المحركيتين فلا لغوية. أجل عند اجتماع المحركتين تتحوّلان إلى محركية واحدة أكيدة كالسوادين المتغايرين حينما يجتمعان في محل واحد حيث يتحوّلان إلى سواد واحد أكيد.

ب - ان يكون الاستحباب المولوي للاحتياط استحبابا طريقيا بمعنى أنّه ناشىء من أجل التحفّظ على عدم الوقوع في المحرّمات المحتملة.

وبناء عليه لا يلزم محذور اللغوية أيضا لأنّ احتمال حرمة شرب التتن واقعا وإن كان يحرّك المكلّف نحو الاحتياط وترك التتن إلاّ أنّ هذه المحركية تقوى بجعل استحباب الاحتياط إذ به تتّضح شدّة اهتمام المولى بالاحتياط ، وواضح كلّما تكشّف اهتمام المولى وشدّته كلّما قويت المحركية.

ص: 169

مناقشة الوجه الثاني

وأمّا الوجه الثاني - وهو أنّ حسن الاحتياط لا يمكن أن يكون مستلزما للاستحباب المولوي حذرا من التسلسل - فيردّه : -

أ - لا نسلّم محذور التسلسل ، فإنّ التسلسل المستحيل هو التسلسل في الامور التكوينية ، وأمّا في الامور الاعتبارية فليس مستحيلا ، ومن الواضح أنّ التسلسل اللازم في المقام هو تسلسل في الامور الاعتبارية لأنّ الأحكام التي يلزم تسلسلها وعدم تناهيها هي امور اعتبارية ، والتسلسل في الامور الاعتبارية ليس مستحيلا أو بالأحرى غير لازم لأنّ المعتبر متى ما قطع اعتباره ورفع يده عنه انقطع التسلسل.

ب - لو سلّمنا باستحالة التسلسل حتّى في الامور الاعتبارية فيمكن أن نقول انّ هذه الاستحالة لا تؤثّر علينا شيئا إذ لا نريد إثبات الاستحباب الشرعي بواسطة الملازمة بين حسن الاحتياط واستحبابه الشرعي حتّى يقال انّ ذلك غير ممكن للزوم محذور التسلسل بل استحباب الاحتياط ثابت بأدلة استحباب الاحتياط الخاصة من قبيل « أخوك دينك فاحتط لدينك » غاية الأمر نريد أن نعرف هل يوجد مانع ثبوتا وواقعا من ثبوت الاستحباب للاحتياط أو لا.

وبكلمة اخرى : المقصود ليس إلاّ نفي المانع من ثبوت الاستحباب للاحتياط وليس المقصود إثبات الاستحباب للاحتياط.

وممّا يؤكّد عدم كون المقصود إثبات الاستحباب بقاعدة الملازمة بل نفي المانع لا أكثر أنّه لو كان المقصود التمسّك بقاعدة الملازمة فمن اللازم أن يكون

ص: 170

الاستحباب الشرعي للاحتياط على منوال الحسن العقلي للاحتياط لفرض استكشاف ذاك من هذا مع وضوح انّ الاستحباب الشرعي للاحتياط ليس على منوال الحسن العقلي فإنّ العقل لا يحكم بأنّ كل احتياط حسن وإنّما يحكم بحسن الاحتياط فيما إذا اتي به بداع قربي ، فترك التتن مثلا يكون حسنا عقلا فيما إذا تركه المكلّف بداعي تحصيل رضا اللّه سبحانه بترك ارتكاب ما حرّمه دون ما إذا تركه لا لهذا الداعي فإنّه لا يكون حسنا وهذا بخلافه في الاستحباب الشرعي للاحتياط فإنّه غير ثابت لخصوص الاحتياط المأتي به بداع قربي ؛ إذ المستفاد من دليل « أخوك دينك فاحتط لدينك » وأمثاله انّ التتن ما دام من المحتمل حرمته فتركه مطلوب وراجح حتّى لو صدر لا بداع قربي بأن صدر بداعي التحفظ على صحّة البدن فالترك المذكور مطلوب أيضا ويشمله دليل أخوك دينك.

النقطة الثانية

ذكرنا فيما سبق انّ الكلام في الاستحباب المولوي للاحتياط يقع في نقطتين. ونأخذ الآن بالتحدّث عن النقطة الثانية - بعد الفراغ عن النقطة الاولى - وحاصلها : انّه بعد معرفة حسن الاحتياط ورجحانه نسأل هل يمكن تحقق الاحتياط في جميع الموارد أو إنّ هناك بعض الموارد لا يمكن تحققه فيها؟

ربّما يقال بعدم إمكان الاحتياط في بعض الموارد.

توضيح ذلك : لو كان عندنا فعل عبادي (1) نشكّ انّه مستحب أو لا فلذلك صورتان : -

ص: 171


1- المقصود انّه لو كان مطلوبا فهو مطلوب بنحو العبادية.

1 - ان نجزم بكونه مطلوبا ولكن نشكّ انّه مطلوب على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب ، كالدعاء عند رؤية الهلال فإنّا نجزم بمطلوبيّته ورجحانه بيد انّا نشكّ هل هو واجب أو مستحب.

وفي مثل ذلك يمكن أن نأتي بالفعل بقصد القربة ويتحقّق بذلك الاحتياط ويكون حسنا وراجحا. وهذا ممّا لا إشكال فيه.

2 - انّ نشكّ في أصل المطلوبية ، كما لو دلت رواية ضعيفة على استحباب صلاة ركعتين في وقت معين ، فإنّه بعد فرض ضعف سند الرواية سنحتمل عدم استحباب الركعتين وبالتالي يكون الأمر دائرا بين احتمالين : ثبوت الاستحباب - وذلك على تقدير صدق الرواية - وعدم ثبوته ، وذلك على تقدير كذبها.

وفي هذه الحالة وقع الكلام بين الأعلام هل يمكن الإتيان بالركعتين من باب الاحتياط أو لا؟

وقد نقل الشيخ الأعظم في الرسائل عن بعض القول بعدم إمكانه لأنّ المكلّف إذا أراد الاحتياط فهل يأتي بالركعتين من دون قصد القربة أو معه؟ فإن أتى بهما من دون قصد القربة فلا يصدق عليهما عنوان العبادة ولا عنوان الاحتياط ، فإنّ الصلاة بلا قصد القربة أشبه بالصلاة بلا ركوع ولا سجود.

وإن أتى بهما بقصد القربة فعنوان العبادة والاحتياط وإن كان صادقا ولكن لا يمكن ذلك ، أي لا يمكن قصد القربة بالركعتين إذ قصد القربة يتوقّف على وجود أمر جزمي بالعمل ليقصد امتثاله ، والمفروض عدم جود أمر جزمي بالركعتين.

وبهذا ثبت ما ذكرناه من أنّ الاحتياط لا يمكن تحقّقه في بعض الموارد ، أي

ص: 172

فيما إذا لم يجزم بمطلوبية العمل العبادي (1).

مناقشة الشبهة

وقد يجاب عن الشبهة المذكورة بأنّ قصد القربة عند الإتيان بالركعتين وإن كان يتوقّف على وجود أمر جزمي غير انّا ندّعي وجوده وتحققه ، وذلك الأمر الجزمي هو الأمر الاستحبابي بالاحتياط فإنّ مثل « أخوك دينك فاحتط لدينك » الذي تمسّك به الإخباري لإثبات وجوب الاحتياط يدل في نظرنا على استحباب الاحتياط ، وبعد ثبوت هذا الأمر الاستحبابي يمكن الإتيان بالركعتين بقصد امتثال هذا الأمر الجزمي.

وقد يشكل بأنّ هذا الأمر الاستحبابي المتعلّق بالاحتياط توصلي (2) ، وما دام توصليا فكيف يجب قصد امتثاله؟

وفيه : ان لزوم قصد امتثاله لم ينشأ من كونه أمرا عباديا ليقال انّه توصّلي وليس بعبادي وإنّما نشأ من جهة انّ صلاة الركعتين على تقدير كونها مطلوبة واقعا فهي عبادة ، فلأجل أن تتحقق العبادة التي نحتمل أنّها مطلوبة واقعا يلزم قصد الأمر الاستحبابي بالاحتياط ، فلزوم قصده ليس إلاّ من هذه الجهة وليس

ص: 173


1- ينبغي أن يكون واضحا انّ هذا الإشكال يختص بما إذا كان العمل عباديا ، وأمّا إذا كان توصليا فالإتيان به على وجه الاحتياط ممكن دون أي محذور إذ لا يلزم في العمل التوصّلي قصد القربة ليقال انّ الإتيان به بقصد القربة غير ممكن.
2- بدليل انّ استحباب الاحتياط يسقط بمجرّد تحقّق الاحتياط وإن لم يكن بقصد القربة ، فمن ترك التدخين تحقّق منه الاحتياط وسقط عنه الأمر بالاحتياط وإن لم يكن تركه للتدخين بقصد امتثال الأمر المذكور.

لكونه أمرا عباديا.

الأولى في الجواب

عرفنا انّ الشبهة السابقة اجيب عنها بأنّ الأمر الجزمي ثابت وهو الأمر الاستحبابي بالاحتياط. هذا ولكن يوجد جواب آخر أولى من هذا الجواب وهو أن يقال : انّ الإتيان الركعتين بنحو قربي لا يتوقّف على وجود أمر جزمي بل يكفي الإتيان بهما بنيّة رجاء المطلوبية ، فكما انّ قصد امتثال الأمر الجزمي يحقق التقرب كذلك قصد امتثال الأمر المحتمل.

قوله ص 65 س 2 : واستحبابه : عطف تفسير على مطلوبيته.

قوله ص 65 س 5 : ثبوتا : أي واقعا.

قوله ص 65 س 9 : إذ يكفي فيه نفس التكليف : المناسب إضافة كلمة « احتمال » أي يكفي فيه احتمال التكليف ...

قوله ص 65 س 13 : وقد تقدّم : أي في الحلقة الثانية ص 302.

قوله ص 65 س 14 : في هذه المرحلة : أي في مرحلة متأخرة عن الحكم الشرعي.

قوله ص 65 س 14 : لا يستتبعان : فرارا من محذور التسلسل.

قوله ص 66 س 4 : لملاك الخ : هذا تفسير لقوله : « نفسيا ». وقوله : « وراء » بمعنى غير.

قوله ص 66 س 5 : بملاك الخ : هذا تفسير لقوله : « طريقيا ».

قوله ص 66 س 12 : فيه : أي المشار إليه في الوجه الثاني.

قوله ص 66 س 14 : واستتباع : عطف تفسير لقوله : « الملازمة ».

ص: 174

قوله ص 66 س 16 : ولهذا : أي ولأجل انّا لا نريد إثبات استحباب الاحتياط بقانون الملازمة.

قوله ص 66 س 17 : والعقل : أي بينما العقل الخ.

قوله ص 67 س 1 : والقربى خاصة : عطف تفسير للانقيادي.

قوله ص 67 س 6 : وإن لم يعلم كونه : أي كون الأمر المعلوم تعلّقه به.

قوله ص 67 س 7 : وقريبا : عطف تفسير ل- « عباديا ».

قوله ص 67 س 11 : والبناء على وجوده : عطف تفسير لقوله : « افتراض الأمر ».

قوله ص 67 س 16 : وكون الأمر الخ : هذا مبتدأ ، خبره قوله : « لا ينافي الخ ». وقوله : « لا تتوقف موافقته على قصد امتثاله » جملة تفسيرية أو وصفية لقوله : « توصليا ».

قوله ص 67 س 17 : لا ينافي ذلك : أي لا ينافي عبادية الركعتين ولزوم قصد القربة بهما.

قوله ص 68 س 2 : ما يحتاط فيه : وهو نفس الركعتين.

ص: 175

ص: 176

مباحث العلم الإجمالي

اشارة

ص: 177

ص: 178

ثلاثة أبحاث في العلم الإجمالي

اشارة

قوله ص 74 س 1 : والكلام في هذه القاعدة الخ : تقدّم في ص 25 من الحلقة أنّ الشكّ في الحكم له صورتان ، فتارة يشكّ في ثبوت الحكم من دون أن يقترن بالعلم الإجمالي. وتسمّى حالة الشكّ هذه بالشبهة البدوية. ومثالها الشكّ في حرمة شرب التتن.

واخرى يشكّ في ثبوت الحكم مع اقتران ذلك بالعلم الإجمالي. وتسمّى هذه الحالة بالشبهة المحصورة (1). ومثال ذلك الشكّ في وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة فإنّ هذا الشكّ مقرون بالعلم الإجمالي بثبوت وجوب حتما متعلّق امّا بالظهر أو بالجمعة.

وما سبق كان حديثا عن الشبهة البدوية. ومن الآن نأخذ بالتحدّث عن الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي.

ويمكن منهجة البحث عن العلم الإجمالي في ثلاثة فصول : -

1 - هل العلم الإجمالي منجز أو لا؟

2 - ما هي أركان منجزية العلم الإجمالي؟

3 - بعض التطبيقات.

والكلام يقع أوّلا عن الفصل الأوّل ، أي في منجزية العلم الإجمالي.

ص: 179


1- طبيعي فيما إذا كانت الأطراف محصورة وإلاّ سمّيت بالشبهة غير المحصورة.
منجزية العلم الإجمالي

وفي البحث عن منجزية العلم الإجمالي نتكلّم عن ثلاثة امور : -

1 - إذا علم المكلّف إجمالا يوم الجمعة أمّا بوجوب الظهر أو الجمعة مثلا فنسأل : ماذا يحكم العقل - وبقطع النظر عن أي دليل شرعي على البراءة - بالنسبة للعلم الإجمالي فهل يحكم بأنّه منجز أو لا؟ وإذا حكم بكونه منجزا فهل يحكم بكونه منجزا لكلا الطرفين بحيث يلزم الإتيان بالظهر والجمعة معا - وهذا ما يعبّر عنه بوجوب الموافقة القطعية - أو يحكم بكفاية الإتيان بأحدهما ، وهذا ما يعبّر عنه بحرمة المخالفة القطعية.

2 - لو فرض أن العقل حكم بكون العلم الإجمالي منجزا بمعنى لزوم الإتيان بالظهر والجمعة أو لا أقل لزوم الإتيان بأحدهما فنسأل : لو رجعنا إلى أدلة البراءة الشرعية من قبيل « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » فهل يمكن أن نستفيد منها موقفا آخر غير ما انتهى إليه العقل كأن يستفاد منها جواز ترك كلتا الصلاتين باعتبار أن كل واحدة منهما لما لم تكن معلومة الوجوب بالخصوص فيكون وجوبها مرفوعا ولازم ذلك جواز المخالفة القطعية (1).

ص: 180


1- قد يقال بعدم إمكان تطبيق دليل البراءة على كلا الطرفين لأنّ لازمه الترخيص في المعصية القطعية وهو قبيح. وقد يقال انّ المحذور المذكور لا يلزم ولكن بالرغم من ذلك لا يمكن تطبيق دليل البراءة على كلا الطرفين باعتبار قصوره عن الشمول للطرفين لقرينة خاصة يدعى اتصالها به. والمحذور بشكله الأوّل يسمّى بالمحذور الثبوتي ، وبشكله الثاني بالمحذور الإثباتي ، وقد تقدّم ذلك في القسم الأوّل ص ٥٨.

3 - لو سلّم عدم إمكان تطبيق دليل البراءة على كلا الطرفين امّا للمانع الثبوتي أو للمانع الإثباتي فهل يمكن تطبيقه على أحد الطرفين لتكون النتيجة عدم وجوب الموافقة القطعية؟

هذه أبحاث ثلاثة ترتبط بمنجزية العلم الإجمالي. والأوّل منها عقلي بينما الأخيران شرعيان.

وينبغي الالتفات إلى أنّ البحث عن الأمرين الأخيرين بحث عن مدى مانعية العلم الإجمالي ، وهل هو مانع - للمحذور الثبوتي أو الإثباتي - من تطبيق دليل البراءة حتّى على الطرف الواحد أو هو لا يمنع من ذاك وإنّما يمنع من تطبيقه على كلا الطرفين أو هو لا يمنع من هذا ولا ذاك.

بحث الأمر الأول

وفي هذا البحث كما قلنا سابقا نترك المجال للعقل وحده لنرى ماذا يحكم؟ فهل يحكم بلزوم الإتيان بكلتا الصلاتين أو بإحداهما على الأقل أو لا بهذا ولا ذاك؟

وقبل أن نأخذ بالجواب لا بدّ من التوجه إلى أنّ هذا البحث ينبغي أن يتصدّى له المشهور القائل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان دون مثل السيد الشهيد الذي يرى منجزية الاحتمال ، فإنّ احتمال الوجوب في كل طرف إذا كان منجزا ولو لم يكن هناك علم إجمالي فمع افتراض وجود العلم الإجمالي يكون التنجز أوضح ، فاحتمال وجوب الجمعة إذا كان منجزا للزوم الإتيان بها فكلتا الصلاتين يكون الإتيان بهما لازما من ناحية منجزية الاحتمال ولا مدخلية لافتراض وجود العلم الإجمالي ، فسواء كان العلم الإجمالي ثابتا أم لا يكون الإتيان بكلتا الصلاتين

ص: 181

لازما من ناحية منجزية الاحتمال.

فهذا البحث إذن يختص بأصحاب قاعدة قبح العقاب بلا بيان ليلاحظ من خلاله انّ القاعدة المذكورة تقتضي التنجيز بأي مقدار ، فالعلم الإجمالي إذا لم يكن ثابتا فلا إشكال في اقتضاء قاعدة قبح العقاب جواز ترك كلتا الصلاتين لعدم تحقق البيان لا في هذه الصلاة ولا في تلك فإذا فرض تحقّقه - العلم الإجمالي - فيبحث انّه بأي مقدار يكون منجزا.

وبتعبير آخر : انّ قاعدة قبح العقاب هل تسقط بلحاظ كلا الطرفين - ولازم ذلك لزوم الإتيان بكلتا الصلاتين - أو تسقط بلحاظ أحدهما ، ولازم ذلك جواز ترك إحدى الصلاتين.

وعليه فإذا أردنا بحث الأمر الأوّل فنحن نبحث عن منجزية العلم الإجمالي على فرض تسليمنا بقاعدة قبح العقاب والتنازل عن مسلك منجزية الاحتمال.

وعلى ضوء هذا التنازل نطرح السؤالين التاليين : -

1 - هل العلم الإجمالي ينجز وجوب إحدى الصلاتين - ويعبّر عن ذلك بالجامع (1) - أو لا؟ وبتعبير ثاني : هل ينجز العلم الإجمالي وجوب الجامع أو لا؟ فإذا قلنا انّه ينجز الجامع فمعناه وجوب الإتيان بإحدى الصلاتين وعدم جواز تركهما معا بينما لو قلنا بعدم التنجيز حتّى على مستوى الجامع فلازمه جواز المخالفة القطعية بترك كلتا الصلاتين.

ص: 182


1- فالجامع يراد به إذن وجوب إحدى الصلاتين ، ووجوب إحدى الصلاتين عبارة اخرى عن الجامع. ولعلّ التعبير عن الجامع بأحد الوجوبين أدق وأولى.

2 - إذا قلنا بتنجز الجامع - بمعنى عدم جواز المخالفة القطعية بترك كلتا الصلاتين - فهل العلم الإجمالي ينجز الجامع فقط أو ينجز أكثر من ذلك ، أي وجوب كلتا الصلاتين معا الذي لازمه وجوب الموافقة القطعية.

ويمكن أن نصوغ هذين السؤالين بشكل آخر : هل العلم الإجمالي ينجز حرمة المخالفة القطعية أو لا؟ وعلى تقدير تنجيزه لها فهل ينجز مضافا لذلك وجوب الموافقة القطعية أيضا أو لا؟

جواب السؤال الأوّل

أمّا بالنسبة إلى السؤال الأوّل فالجواب بالإيجاب ، أي انّ العلم الإجمالي ينجز وجوب إحدى الصلاتين لأنّ المكلّف بعد حصول العلم الإجمالي له يصير عالما بالجامع أي بوجوب إحدى الصلاتين ، ومع علمه بوجوب إحدى الصلاتين فلا يجوز له تركهما معا لأنّ تركهما معا ترك للجامع ، والمفروض انّ الجامع معلوم ومنجز.

ولربّ قائل يقول انّ العلم الإجمالي يكون علما بالجامع - أي علما بأحد الوجوبين - فيما لو قلنا بأنّ العلم الإجمالي ترجع حقيقته إلى العلم بالجامع دون ما إذا قلنا برجوعه إلى العلم بالواقع (1) ، فإنّه بناء على تعلّقه بالجامع يكون تنجز

ص: 183


1- يأتي بعد قليل إن شاء اللّه تعالى أنّ في حقيقة العلم الإجمالي عدّة أقوال ، فالميرزا ذهب إلى أن العلم الإجمالي بوجوب امّا الظهر أو الجمعة مثلا يرجع إلى العلم بالجامع والشكّ بعدد الأطراف ، بينما الشيخ العراقي ذهب إلى أنّه يرجع إلى العلم بالواقع ، بمعنى انّه إذا فرض انّ الوجوب الثابت واقعا وفي علم اللّه سبحانه هو الظهر فالعلم الإجمالي يكون متعلّقا بوجوب الظهر الذي هو الثابت واقعا وليس متعلّقا بالجامع الذي هو أحد الوجوبين.

الجامع وجيها ، وأمّا بناء على تعلّقه بالواقع فلماذا تنجز الجامع؟

والجواب : انّ العلم الإجمالي حتّى لو قلنا برجوعه إلى العلم بالواقع فالجامع منجز أيضا إذ الواقع يصدق عليه عنوان « أحدهما » أيضا ، فإنّ الواقع أحد أيضا.

جواب السؤال الثاني

وبعد أن عرفنا انّ العلم الإجمالي ينجز الجامع ، وبتعبير آخر ينجز حرمة المخالفة القطعية نأتي الآن لنعرف هل العلم الإجمالي ينجز أكثر من الجامع ، أي هل ينجز كلا الطرفين فينجز وجوب الظهر ووجوب الجمعة معا - الذي هو عبارة اخرى عن وجوب الموافقة القطعية - أو لا؟ انّ هذا التساؤل توجد له ثلاثة أجوبة : -

1 - ما اختاره الشيخ العراقي من تنجيزه لكلا الطرفين فيجب الإتيان بالظهر والجمعة ولا يكتفى بأحدهما.

2 - ما اختاره الميرزا وتلميذه السيد الخوئي من عدم تنجيزه لكلا الطرفين وإنّما ينجز الجامع فقط ، غايته انّ أصل البراءة لا يمكن أن يجري بلحاظ كلتا الصلاتين لأنّه خلف العلم بالجامع وتنجزه ، ولا يجري في أحدهما بالخصوص لأنّه بلا مرجّح ، وبالتالي فلا يجري لا بلحاظ هذه ولا بلحاظ تلك لأنّ جريانه بلحاظ كل واحدة معارض بجريانه بلحاظ الاخرى ، ومعه فيجب الإتيان بكلتيهما من باب عدم وجود المؤمّن الذي يؤمن من العقوبة عند ترك أي واحد منهما. وهذا معناه انّ العلم الإجمالي لا يقتضي بذاته لزوم الإتيان بكلتا الصلاتين وإنّما يجب ذلك - الإتيان بكلتا الصلاتين - لأجل تعارض الاصول.

ص: 184

3 - ما يظهر من بعض المحقّقين حيث ربط مسألتنا في المقام بمسألة حقيقة العلم الإجمالي وانّه إن كان علما بالجامع فيكفي الإتيان بإحدى الصلاتين وإن كان علما بالواقع فيجب الإتيان بكلتا الصلاتين ، حيث انّ العلم الإجمالي بعد تعلّقه بالواقع يتنجز الواقع ، ومقتضى قاعدة الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني لزوم إحراز الواقع ، وإحرازه لا يحصل إلاّ بالإتيان بكلتا الصلاتين حيث إنّ ترك أي واحدة منهما يؤدي إلى احتمال ترك الواقع المفروض تنجزه.

ولتحقيق الحال في هذا الجواب الثالث نأخذ بعرض الاتجاهات في حقيقة العلم الإجمالي لنعرف انّ ربط مسألتنا بالاتجاهات في حقيقة العلم الإجمالي صحيح أو لا.

الاتجاهات في حقيقة العلم الإجمالي
اشارة

والاتجاهات في حقيقة العلم الإجمالي ثلاثة : -

الأوّل

ما اختاره الميرزا والأصفهاني قدس سره من انّ العلم الإجمالي مركب من أمرين : -

أ - علم تفصيلي بالجامع.

ب - وشكوك تفصيلية بعدد الأطراف.

فالعالم إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة هو عالم تفصيلا بأحد الوجوبين - أي بالجامع - وليس له شكّ في ذلك وإنّما له شكّ بلحاظ الأطراف فهو يشكّ في أنّ الظهر هل هي مصداق الواجب المعلوم أو لا؟ ويشك في أنّ الجمعة هل هي مصداق الواجب المعلوم أو لا؟ فالعلم على هذا الأساس يتعلّق بالجامع وأمّا

ص: 185

الأطراف فليس هناك علم بلحاظها بل شكوك.

ويمكن أن يقال : انّ هذا الرأي منحل إلى دعويين إحداهما إيجابية ، وهي تعلّق العلم بالجامع ، وثانيتهما سلبية ، وهي أنّ الأطراف لا يتعلّق بها العلم بل هناك شكوك بلحاظها.

أمّا الدعوى الإيجابية فهي واضحة. وأمّا الدعوى السلبية فهي وإن كانت واضحة أيضا إلاّ أنّه يمكن البرهنة عليها بهذا الشكل : لو كان هناك علم ثاني متعلّق بغير الجامع فنسأل عن متعلّقه فهل هو لا متعلق له أو أنّ متعلّقه الظهر بخصوصها مثلا أو انّ متعلّقه الفرد المردّد بين الظهر والجمعة ، فالاحتمالات في متعلّق هذا العلم الثاني إذن ثلاثة كلّها باطلة.

أمّا بطلان الأوّل فباعتبار انّ العلم لا يمكن أن يوجد بلا متعلّق يتعلّق به لأنّه من الصفات الإضافية ، أي من الصفات التي تحتاج إلى طرف تضاف إليه فنحن دائما نعلم بشيء ولا يمكن أن نعلم بلا وجود شيء يتعلّق به العلم.

وأمّا بطلان الثاني فلأنّه مخالف للوجدان إذ لازمه صيرورة الظهر معلومة الوجوب علما تفصيليا لا إجماليا.

وأمّا بطلان الثالث فلأنّ المقصود من الفرد المردّد امّا مفهوم الفرد المردّد أو واقع الفرد المردّد ، فإن كان المقصود مفهوم المردّد فواضح انّ مفهوم الفرد المردّد ليس إلاّ عبارة عن مفهوم أحدهما ، وحيث انّ مفهوم أحدهما ليس هو إلاّ الجامع فيلزم تعلّق العلم بالجامع لا بشيء زائد عليه.

وإن كان المقصود واقع الفرد المردّد فواضح انّ واقع الفرد المردّد لا ثبوت له خارجا ليتعلّق به العلم إذ كل ما هو ثابت خارجا معيّن ولا يمكن أن يكون مردّدا فكل شيء في الخارج هو هو وليس اما هو أو غيره.

ص: 186

الثاني
اشارة

ما ذكره الآخوند من تعلّقه بالفرد المردّد فانّه قدس سره في بحث الواجب التخييري من الكفاية ذكر عدّة احتمالات في حقيقة الوجوب التخييري ، فوجوب العتق أو الصيام أو الإطعام فيه عدّة احتمالات منها تعلّق الوجوب بكل واحد من الأفراد مشروطا بترك الفردين الآخرين ومنها تعلّقه بالفرد الذي يختاره المكلّف في علم اللّه ومنها ... ومنها ما اختاره هو قدس سره من تعلّقه بأحدهما المردّد.

وأشكل هو قدس سره في الهامش الذي سجّله على كفايته بأنّ الفرد المردّد كيف يمكن تعلّق الوجوب به.

وأجاب عن ذلك بأنّ الوجوب أمر اعتباري ، والفرد المردّد يقبل ما هو أكثر من ذلك ، إنّه يقبل تعلّق الصفة الحقيقية به كالعلم الإجمالي فكيف لا تتعلّق الصفة الاعتبارية به كالوجوب.

إنّ هذا الجواب يظهر منه ان الآخوند يبني على تعلّق العلم الإجمالي بالفرد المردّد حيث ذكر انّ العلم الإجمالي الذي هو صفة حقيقية نفسانية يقبل التعلّق بالمردّد فكيف بالصفة الاعتبارية التي هي الوجوب.

المناقشة على ضوء مقدّمات ست

وقبل أن نأخذ بمناقشة الرأي المذكور نذكر مقدّمات ست : -

1 - إنّ كل ممكن يتركّب من وجود وماهية ، فالإنسان يتركب من وجود وماهية ، والفرس يتركب من ذلك أيضا.

ص: 187

وإذا تأمّلنا قليلا وجدنا أنّ الوجود قاسم مشترك بين وجود الإنسان ووجود الفرس ، فكلاهما وجود إلاّ أنّ هذا الوجود يمتاز عن ذاك بأنّ هذا وجود للإنسان وذاك وجود للفرس.

إذن الفرسية والإنسانية هما الحدّ الذي يتميز به هذا الوجود عن ذاك. ومثل هذا الحد المائز يسمّى بالماهية ، فالماهية إذن هي حدّ الوجود.

2 - إنّ كل وجود لا بدّ وأن يكون متميزا ومشخّصا وليس فيه تردد ، فالكلي حيث لا تشخص له ليس موجودا في الخارج وإنّما الموجود أفراده. ومن هنا قيل الشيء ما لم يتشخّص لا يوجد.

3 - انّ الشيء متى ما وجد فلا بدّ وأن يكون متشخّصا ، ولازم تشخّصه وتعيّنه تشخّص ماهيّته وتعيّنها إذ ماهيّته حدّ لوجوده ، وكيف يعقل أنّ يكون المحدود وهو الوجود معيّنا ومشخّصا وحدّه مردّدا وغير مشخّص!! انّه غير ممكن إذ لازم تردّد الحدّ وعدم تعيّنه تردّد نفس الوجود المحدود ، وحيث انّ الوجود قد فرضناه محدّدا ومعيّنا فيلزم تعيّن ماهيّته.

4 - انّ العلم بنزول المطر مثلا بم يتعلّق؟ فهل يتعلّق بالوجود الخارجي أو بالصورة الذهنية لنزول المطر؟ الصحيح هو الثاني ، وذلك لعدّة منبّهات نذكر منها (1) : -

أ - انّ العلم أمر ذهني قائم بالذهن ، ومعه فكيف يتعلّق بالأمر الخارجي!! إنّ لازمه تحقّق ما في الذهن في الخارج أو تحقّق ما في الخارج في الذهن. إذن لا بدّ من تعلّق العلم بالصورة الذهنية كي لا يلزم ما ذكر.

ص: 188


1- تقدّمت الإشارة إلى هذا البحث في الجزء الأوّل من هذا الشرح ص 105.

ب - إنّنا قد نعلم بنزول المطر بينما هو في الواقع لم ينزل ، وفي مثل هذه الحالة بم يتعلّق العلم ، فهل يتعلّق بالخارج بالرغم من عدم تحقّق نزول المطر في الخارج؟ انّه غير معقول فلا بدّ من تعلّقه بالصورة الذهنية.

وبهذا يثبت انّ المتعلّق الحقيقي للعلم هو الصورة الذهنية. وتسمّى بالمعلوم بالذات بينما الوجود الخارجي الذي تحكي عنه الصورة يسمّى بالمعلوم بالعرض.

5 - ان الصورة الذهنية التي يتعلّق بها العلم ترجع في حقيقتها إلى الوجود الذهني ، فحينما يقال تصوّر هذا الشيء فالمقصود أوجده في ذهنك واحضره فيه.

6 - انّ الصورة الذهنية للظهر تشترك مع الصورة الذهنية للجمعة في كون كل واحدة منهما صورة ذهنية ، وتمتاز الاولى بخصوصية الظهر والثانية بخصوصية الجمعة. ومن هنا يصحّ ان نعبّر عن خصوصية الظهر والجمعة بأنّهما حدّان يميزان إحدى الصورتين عن الاخرى ، وبالتالي يصحّ التعبير عنهما بالماهية ، فالماهية للصورة الاولى خصوصية الظهر وللصورة الثانية خصوصية الجمعة.

وبعد اتضّاح هذه المقدّمات الست نعود إلى رأي الآخوند القائل بتعلّق العلم الإجمالي بالفرد المردّد لنقول في مناقشته : انّ المشكلة لا تكمن في أنّ الفرد المردّد كيف يتعلّق به الوجوب التخييري ليقال انّ ذلك لا محذور فيه باعتبار انّ الصفة الحقيقية - العلم الإجمالي - إذا كانت قابلة للتعلّق بالمردّد فكيف بالوجوب التخييري الذي هو صفة اعتبارية ، إنّنا لا ننكر إمكان تعلّق الصفة الاعتبارية بل والحقيقية بالمردّد لو فرض إمكان تحقّقه ، بيد إنّا ندّعي عدم إمكان تحقّق الفرد المردّد في نفسه.

والوجه في ذلك : انّ العلم الإجمالي يتعلّق كما قلنا بالصورة الذهنية ، فإذا

ص: 189

كانت تلك الصورة صورة للجامع فهذا معناه تعلّق العلم الإجمالي بالجامع دون الفرد المردّد ، وإذا كانت تلك الصورة مشتملة على الحدين - أي خصوصية الظهر وخصوصية الجمعة - فتارة يفرض انّ كلتا الخصوصيتين دخيلة فيها ، واخرى يفرض انّ خصوصيّة الظهر مثلا هي الدخيلة فقط ، وثالثة يفرض انّ أحد الخصوصيتين على سبيل الترديد هي الدخلية. والكل باطل.

أمّا الأوّل فلأنّ لازمه انّ العالم بالإجمال يعلم بوجوب الظهر والجمعة معا ، وهو خلف المفروض.

وأمّا الثاني فلأنّه يلزم منه انقلاب العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بوجوب الظهر.

وأمّا الثالث فلأنّ الصورة الذهنية وجود ذهني ، والوجود بما في ذلك الذهني لا بدّ وأن يكون متشخّصا ومعيّنا ، ومع تشخّصه فلا بدّ من تشخّص ماهيّته وحدّه ، أي خصوصية الظهر والجمعة ، فإنّ حدّ الصورة الذهنية للظهر هو الظهر وحدّ الصورة الذهنية للجمعة هو الجمعة ، ومع تعيّن الصورة الذهنية لا بدّ من تعيّن حدّها ، فهي أمّا صورة للظهر أو صورة للجمعة ولا يمكن أن تكون الصورة التي هي وجود ذهني معيّنة وحدّها وهو خصوصية الظهر والجمعة ليس معيّنا لأنّ لازم ذلك عدم تعيّن نفس الصورة.

الثالث

والرأي الثالث في حقيقة العلم الإجمالي هو للشيخ العراقي قدس سره . وحاصله : انّ العلم الإجمالي لا يتعلّق بالجامع ولا بالفرد المردّد بل بالواقع ، ففي مثال العلم الإجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة يكون العلم متعلّقا بالواقع ، فلو كان الوجوب

ص: 190

الثابت واقعا وفي علم اللّه سبحانه هو وجوب الظهر مثلا فالعلم يكون متعلّقا بوجوب الظهر.

وإذا كان العلم الإجمالي متعلّقا بالواقع فما الفرق بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي بعد وضوح تعلّق العلم التفصيلي بالواقع أيضا؟

إنّ الفرق هو أنّ العلم الإجمالي يرى فيه الشخص العالم الواقع لكن رؤية مشوبة بالخفاء وعدم الوضوح بخلافه في العلم التفصيلي فإنّ الشخص العالم ينكشف له الواقع دون خفاء ، فمثلا إذا رأيت من بعد شبحا ولم تشخّص انّه زيد أو بكر وكان في الواقع زيدا فرؤيتك متعلّقة بالواقع الذي هو زيد غاية الأمر الرؤية ليست واضحة خلافا لما إذا كنت قد رأيت زيدا من قرب فإنّ رؤيتك واضحة ، فالرؤية في كلتا الحالتين متعلّقة بزيد إلاّ أنّها في الاولى مشوبة بالخفاء وفي الثانية ليست مشوبة بذلك. وهكذا في المقام فإنّ الرؤية في كل من العلم الإجمالي والتفصيلي متعلّقة بالواقع إلاّ أنّها في الإجمالي مشوبة بالخفاء وفي التفصيلي ليست مشوبة بذلك.

ومن خلال هذا يتجلّى الفرق بين الرأي الأوّل وهذا الرأي ، فعلى الأوّل لا فرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي من حيث نفس العلم بل الفرق هو من حيث المتعلّق ، فالعلم التفصيلي متعلّق بالواقع بينما العلم الإجمالي متعلّق بالجامع. وامّا على الرأي الثالث فالمتعلّق في كلا العلمين واحد وهو الواقع والفارق ليس إلاّ من حيث العلم ، ففي التفصيلي العلم متعلّق بالواقع بلا شوب خفاء بينما في الإجمالي متعلّق بالواقع مشوبا بالخفاء (1).

ص: 191


1- وذكر الشيخ العراقي في بعض عبائره : انّه بلغني عن بعض أهل الفضل من المعاصرين ويقصد بذلك الميرزا النائيني - تعلّق العلم الإجمالي بالجامع وانّه لا فرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيلي من حيث العلم وإنّما الفرق بينهما من حيث المعلوم. ثمّ أخذ في ردّ ذلك.

ثمّ إنّ الشيخ العراقي وإن لم يذكر برهانا على رأيه هذا إلاّ أنّه يمكن الاستدلال له بأنّ الإنسان العاقل بعد توجّهه إلى أنّ الجامع لا يمكن وجوده في الخارج بما هو جامع وكلي فلا يحتمل تعلّق علمه بالجامع ؛ إذ مع علمه وتوجهه إلى أنّ الجامع لا يمكن وجوده في الخارج فكيف يتعلّق علمه به بل لا بدّ من فرض انضمام خصوصية إلى الجامع ، وتلك الخصوصية هل هي كلية أو شخصية؟ فإن كانت كلية عاد المحذور السابق وهو تعلّق العلم بالأمر الكلي الجامع ، وإن كانت خصوصية شخصية فحيث لا يمكن أن تكون مردّدة لا ستحالة المردّد على ما سبق فيلزم أن تكون معيّنة ، وليست تلك الخصوصية المعيّنة إلاّ خصوصية الواقع ، وبذلك يثبت المطلوب ، وهو تعلّق العلم الإجمالي بالواقع.

تخريجات وجوب الموافقة القطعية

وبعد اتّضاح الاتجاهات الثلاثة في تفسير حقيقة العلم الإجمالي نعود إلى الجواب الثالث الذي ربط حالة وجوب الموافقة القطعية بالآراء المذكورة.

انّ الجواب الثالث كان يقول بناء على تعلّق العلم الإجمالي بالجامع فالذي يتنجز هو الجامع فقط ، وإذا اشتغلت الذمّة يقينا بالجامع فاللازم تفريغها اليقيني منه ، وذلك يحصل بالإتيان بطرف واحد لأنّ الجامع يتحقّق بوجود طرف واحد. وأمّا على القول بتعلّق العلم الإجمالي بالواقع فالذي يتنجّز كلا الطرفين لأنّه بعد

ص: 192

العلم بالواقع واشتغال الذمّة به يقينا فيجب تفريغها اليقيني منه ، وذلك لا يحصل بالإتيان بطرف واحد لاحتمال انّ الواقع ثابت في الطرف الثاني فتجب الموافقة القطعية بالإتيان بهما معا.

هذا ويمكن مناقشة ذلك بأنّ العلم الإجمالي ينجز الجامع فقط حتّى بناء على تعلّق العلم بالواقع ، فإنّ المكلّف إذا حصل له العلم الإجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة فعلمه هذا وإن كان متعلّقا بالواقع إلاّ أنّ هذا العلم المتعلّق بالواقع ليس كلّه وضوحا بل هو خليط من الوضوح والخفاء باعتراف الشيخ العراقي ، وحيثية الوضوح تتمثّل في الجامع وحيثية الخفاء تتمثّل فيما زاد على الجامع ، وما دام الوضوح ثابتا بالنسبة إلى الجامع فقط فالذي يتنجز هو الجامع فقط دون الواقع لأنّ التنجز يحصل بسبب الوضوح دون الخفاء ، فمقدار ما يتّضح يتنجز دون ما يخفى ، إذ البيان لا يصدق إلاّ بمقدار الوضوح ، والواقع بمقدار الجامع لمّا كان واضحا فيصدق عليه البيان ويتنجز ، وأمّا بالمقدار الزائد على الجامع فحيث انّه ليس بواضح فلا يصدق عليه البيان وبالتالي لا يتنجز.

والنتيجة من كل ما تقدّم : انّ العلم الإجمالي لا ينجّز إلاّ حرمة المخالفة القطعية - مقدار الجامع - على جميع الآراء في حقيقة العلم الإجمالي (1).

عودة لصلب الموضوع

كان كلامنا سابقا في مقدار منجزية العلم الإجمالي في نظر العقل ، واتّضح

ص: 193


1- وأمّا الرأي الثاني - القائل بتعلّق العلم بالمردّد - فهو امّا يرجع إلى التعلّق بالجامع أو إلى التعلّق بالواقع ، وعلى كلا التقديرين فالنتيجة واحدة.

انّه منجز بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية ، وأمّا بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية ففيه آراء ثلاثة. والآن نشير إلى تقريبين لإثبات وجوب الموافقة القطعية ثانيهما ناظر إلى مسلك تعارض الاصول.

التقريب الأوّل

وهذا التقريب للشيخ الأصفهاني قدس سره . وحاصله انّه بعد العلم بالجامع وتنجزه يلزم الإتيان بكلتا الصلاتين : الظهر والجمعة ؛ إذ كما يحتمل تمثّل الجامع ضمن الظهر يحتمل تمثّله ضمن الجمعة ، ففي ترك الظهر حتمال المخالفة للجامع وفي ترك الجمعة احتمال مخالفته أيضا فيلزم الإتيان بكلتا الصلاتين ليجزم بتحقّق الجامع.

وإن شئت قلت : يمكن صياغة التقريب المذكور ضمن المقدّمتين التاليتين : -

أ - انّ ترك أي واحد من الطرفين يستلزم احتمال مخالفة الجامع المنجز.

ب - لا تجوز المخالفة الاحتمالية للجامع بعد تنجزه لاستلزامه احتمال المعصية.

وفيه : انّ المقدّمة الاولى - وهي إنّ الإتيان بطرف دون طرف مستلزم لاحتمال مخالفة الجامع - باطلة إذ الجامع يتحقّق جزما بالإتيان بطرف واحد لأنّه عبارة عن الأحد ، وهو يتحقّق بالإتيان بأحد الطرفين.

وبكلمة اخرى : انّ الأصفهاني ما دام قد سلّم انّ العلم الإجمالي ينجز الجامع لا أكثر فمن اللازم الاكتفاء بالإتيان بطرف واحد فقط لأنّ الجامع يتحقّق بذلك (1).

ص: 194


1- وهذا مطلب واضح ونستبعد غفلة الشيخ الأصفهاني عنه. ويحتمل انّ مقصوده شيء آخر ، ومن هنا عبّر السيد الشهيد بكلمة « قد ».
التقريب الثاني

وهو للميرزا والسيد الخوئي. وحاصله : انّ العلم الإجمالي ينجز الجامع فقط - أي أحد الطرفين - ولا ينجز كلا الطرفين حيث انّ المعلوم هو الجامع لا أكثر فيكون الجامع هو المنجز. أجل يجب الإتيان بالطرفين من ناحية اخرى غير العلم الإجمالي ، وهي انّ ترك كل طرف يحتاج إلى مؤمن ومسوغ ، والمؤمن - وهو أصل البراءة - حيث انّه معارض فيجب الإتيان بالطرفين ولكن لا من ناحية العلم الإجمالي نفسه بل من ناحية تساقط الاصول بالمعارضة.

ويمكن بيان هذا التقريب ضمن فقرات أربع بالشكل التالي : -

1 - انّ العلم الإجمالي حيث انّه يستدعي العلم بالجامع فمن اللازم الإتيان بأحد الطرفين لأنّ تركهما معا مخالفة قطعية للجامع الذي فرض تنجزه بسبب العلم الإجمالي.

2 - انّ جريان أصل البراءة في كلا الطرفين غير ممكن لأدائه إلى ترك كلا الطرفين ، والمفروض عدم جوازه.

3 - انّ الأصل كما لا يمكن جريانه في كلا الطرفين كذلك لا يمكن جريانه في أحد الطرفين لأنّه ترجيح بلا مرجّح.

4 - إذا لم يكن بالإمكان جريان الأصل في كلا الطرفين ولا في أحدهما فاللازم الإتيان بكلا الطرفين وتنجزهما لأنّ احتمال ثبوت التكليف في كل طرف يبقى بلا مؤمن ، إذ المؤمن وهو أصل البراءة قد فرضنا عدم جريانه ، وواضح انّ احتمال التكليف إذا لم يكن هناك ما ينفيه ويؤمن منه يكون منجزا.

ومن هنا يتّضح انّ الموافقة القطعية - أي الإتيان بالطرفين - واجبة ولكن

ص: 195

لا من باب انّ العلم الإجمالي يقتضي بنفسه ذلك بل من باب أنّ ترك كل واحد من الطرفين يحتاج إلى مؤمن ، وهو مفقود. أجل حيث انّ تعارض الأصلين حصل بسبب العلم الإجمالي صحّ أن نقول انّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية ولكن بصورة غير مباشرة.

وأوضح من هذا انّ نقول : انّ المنجز على هذا التقريب هو احتمال التكليف الثابت في كل طرف بلا مؤمن وليس هو العلم الإجمالي نعم العلم الإجمالي سبب لفقدان المؤمن وتساقطه. وعلى هذا تكون نسبة التنجيز إلى العلم الإجمالي نسبة بنحو المجاز.

مناقشة التقريب الثاني

ويمكن مناقشة التقريب المذكور بأنّا لا نسلّم قولكم انّ احتمال ثبوت التكليف يبقى في كل طرف بلا مؤمن بعد تساقط الأصلين إذ أصل البراءة الشرعي المتمثّل في حديث « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » وإن كان جريانه في هذا الطرف معارضا بجريانه في الطرف الثاني وبالتالي يتساقطا ولكن هذا لا يعني فقدان المؤمن في كل طرف إذ أين قاعدة قبح العقاب بلا بيان المعتبرة عندهم والتي تعدّ مؤمنا عقليا ، إنّ فقدان المؤمن الشرعي بسبب التعارض لا يعني فقدان المؤمن العقلي.

وقد يقال : انّ التعارض الذي ثبت في المؤمن الشرعي يجري نفسه في المؤمن العقلي فيقال انّ قاعدة قبح العقاب في هذا الطرف تعارض بالقاعدة نفسها في الطرف الثاني.

والجواب : انّ التعارض يتمّ في خصوص الاصول الشرعية ولا يجري في

ص: 196

قاعدة قبح العقاب.

والوجه في ذلك : انّ قاعدة قبح العقاب تجري في كل تكليف لا يكون معلوما ولا تجري في التكليف المعلوم. وإذا فرضنا انّ تكليفا كان معلوما من جهة وغير معلوم من جهة اخرى فمن الجهة المعلومة لا تجري القاعدة ومن الجهة غير المعلومة تجري.

وفي مقامنا نقول : انّه لو علمنا إجمالا بوجوب امّا الظهر أو الجمعة مثلا فالجامع - وهو أحد الوجوبين - حيث انّه معلوم فلا تجري قاعدة قبح العقاب فيه ، أمّا كل واحد من الطرفين بخصوصه فحيث انّه غير معلوم فتجري فيه القاعدة.

وبعبارة اخرى : إنّا ندّعي انّ قاعدة قبح العقاب يمكن جريانها في كل واحد من الطرفين ولكن بلحاظ الخصوصية لا بلحاظ الجامع ، فالظهر حيث انّه لا يعلم وجوبها بعنوان الظهر تجري قاعدة قبح العقاب لنفي وجوبها ولكن نفس الظهر حيث انّها بلحاظ الجامع - أي بعنوان أحد الطرفين - معلومة الوجوب فلا تجري القاعدة لنفي وجوبها بهذا اللحاظ ، وهكذا الكلام نفسه يجري في الجمعة فإنّه تجري فيها قاعدة قبح العقاب لنفي الوجوب بمقدار الخصوصية دون مقدار الجامع.

ونتيجة ذلك : انّ إحدى الصلاتين - الذي هو الجامع - يلزم الإتيان بها من دون أن يلزم كون تلك الصلاة الواحدة المأتي بها هي خصوص الظهر بل يجوز ترك الظهر والإتيان بالجمعة ، وهكذا لا يلزم أن تكون خصوص الجمعة بل يجوز تركها والإتيان بالظهر.

وقد تقول : انّ التفكيك في إجراء قاعدة قبح العقاب إذا قبل بهذا الشكل - أي تجري في كل طرف بلحاظ الخصوصية دون الجامع - فليقبل في أصل البراءة

ص: 197

الشرعي أيضا بأن يقال انّ أصل البراءة الشرعي يجري في كل طرف بلحاظ الخصوصية دون الجامع من دون أن يحصل تعارض وتساقط ، فالتعارض والتساقط كما رفض في قاعدة قبح العقاب فليرفض في أصل البراءة الشرعي أيضا.

والجواب : ان مستند أصل البراءة الشرعي دليل لفظي وهو مثل « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » ، والمتبع في فهم الدليل اللفظي هو العرف ، والعرف لا يقبل تطبيق الدليل اللفظي مفكّكا بهذا الشكل بل هو يرى أنّ الدليل أمّا أن يطبّق رأسا أو لا يطبّق رأسا ولا يقبل تطبيقه بلحاظ الخصوصية دون الجامع ، وهذا بخلافه في قاعدة العقاب فإنّها حكم عقلي ، والعقل يقبل هذا التفكيك ويقبل مثل هذه الدقة ويقول انّ كل تكليف هو مرفوع بمقداره المجهول وغير مرفوع بمقداره المعلوم.

هذه حصيلة مناقشة تقريب الميرزا والسيد الخوئي.

ويمكن صياغة المناقشة بمنهجة اخرى بأن يقال : ما هو المقصود من تعارض الاصول في الأطراف؟ فهل المقصود انّ الاصول الشرعية متعارضة وساقطة وهكذا الاصول العقلية أو المقصود انّ الاصول الشرعية هي المتعارضة والساقطة فقط دون الاصول العقلية؟

فإن كان المقصود الأوّل فجوابه انّ الاصول الشرعية وإن كانت متعارضة وساقطة ولكن لا وجه لتعارض الاصول العقلية ، إذ قاعدة قبح العقاب تجري في كل طرف بلحاظ الخصوصية دون الجامع. بل يمكننا أن نقول أكثر من هذا : انّ دعوى تعارض قاعدة قبح العقاب في الطرفين هي من الأساس دعوى غريبة فإنّ المقتضي لحكم العقل في كل طرف امّا أن يكون موجودا أو لا ، فإن كان

ص: 198

موجودا - والواقع كذلك حيث انّ خصوصية الظهر والجمعة بما أنّها غير معلومة فيشملها حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان - حكم العقل بالبراءة في كل طرف بلا معارضة ، إذ المعارضة في الأحكام العقلية غير ممكنة ، فإنّ العقل لا يمكن أن يحكم بحكمين متعارضين. وإن لم يكن موجودا فلا يحكم العقل أصلا حتّى يلزم التعارض.

وإن كان المقصود الثاني فهو صحيح ولكن بعد تساقط الاصول الشرعية يمكن الرجوع إلى البراءة العقلية لنفي احتمال التكليف في كل طرف.

نقض على قاعدة قبح العقاب

وبهذا اتضّح انّ أنصار قاعدة قبح العقاب بلا بيان يلزمهم القول بعدم وجوب الموافقة القطعية للعلم الإجمالي فلا يلزم الإتيان بالظهر والجمعة معا بل يكفي الإتيان بواحدة ، إذ بعد تعارض الأصل الشرعي في كل طرف بالأصل الشرعي في الطرف الثاني يرجع إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، انّه يلزم هذا والحال انّ الحسّ العقلائي والمتشرعي يقضي بوجوب الإتيان بكلا الطرفين ويرفض رفضا باتّا الاكتفاء بأحدهما. وهذا بنفسه منبه واضح على بطلان قاعدة قبح العقاب ، فكل من قال بالقاعدة المذكورة يلزمه القول بعدم وجوب الموافقة القطعية المرفوض لدى الحسّ العقلائي والمتشرعي (1).

ص: 199


1- لم نعثر على قائل بعدم وجوب الموافقة القطعية إلاّ صاحب المدارك فإنّ الشيخ الأعظم في رسائله ص 248 من الطبع القديم المحشى بحواشي رحمة اللّه نسب إليه عدم وجوب الموافقة القطعية.
الثمرة بين المسلكين

نحن نعرف انّ السيد الشهيد ينكر قاعدة قبح العقاب ويقول بمنجزية الاحتمال غير انّنا عرفنا أيضا انّه قدس سره يقول بمنجزية الاحتمال فيما إذا لم يدل دليل شرعي على البراءة. وبعد أن كان الدليل على أصل البراءة الشرعي تامّا عنده فالاحتمال لا يكون منجزا في نظره بحسب النتيجة.

ويبقى بعد هذا السؤال عن الثمرة بين مسلك منجزية الاحتمال ومسلك المشهور بعد ما كان الجميع يرجع إلى أصل البراءة الشرعي.

انّ الثمرة تظهر في مقامنا فإنّه بعد تعارض الاصول الشرعية في الطرفين يلزم الرجوع إلى قاعدة قبح العقاب - بناء على تسليمها - وتكون النتيجة جواز الاكتفاء بطرف واحد وعدم وجوب الموافقة القطعية بينما بناء على إنكار قاعدة قبح العقاب يلزم الإتيان بكلا الطرفين - بعد تساقط الاصول الشرعية - لمنجزية الاحتمال.

إذن الثمرة بين المسلكين تظهر في هذا المجال وأمثاله.

التفصيل بين الشبهات الحكمية والموضوعية

اتّضح انّه بناء على تسليم قاعدة قبح العقاب يلزم القول بعدم وجوب الموافقة القطعية للبيان المتقدّم. ونستدرك الآن ونقول انّ عدم تنجز الطرفين بالعلم الإجمالي ولزوم الرجوع إلى قاعدة قبح العقاب بلحاظ خصوصية كل واحد من الطرفين يتم في حالات الشبهة الحكمية ولا يتمّ في حالات الشبهة

ص: 200

الموضوعية. ففي مثال التردّد بين صلاة الجمعة والظهر الذي تكون الشبهة حكمية فيه - حيث انّ أصل الحكم مشكوك ولا يعلم انّ الثابت هو وجوب الجمعة أو وجوب الظهر - لا تجب الموافقة القطعية حيث انّ المعلوم هو أحد الوجوبين ، والأحد يتحقق بالإتيان بإحدى الصلاتين.

أمّا إذا تعلّق الوجوب بشيء مقيّدا بقيد معيّن بحيث كان القيد داخلا تحت العهدة وتردّد أمره - القيد - بين فردين بنحو الشبهة الموضوعية فتجب الموافقة القطعية بالإتيان بكلا الفردين ، كما لو أمر المولى عبده بإكرام العالم وتردّد العالم بين فردين فإنّ الوجوب حيث لم يتعلّق بأصل الإكرام بل الإكرام المقيّد بكون المكرم عالما فيجب إكرامهما معا ولا يكفي إكرام أحدهما.

والنكتة الفارقة : انّه في الحالة الثانية اشتغلت الذمة بإكرام العالم ، ولإحراز الفراغ اليقيني يلزم إكرام كلا الفردين ، وهذا بخلافه في الحالة الاولى فإنّ الذمة اشتغلت يقينا بإحدى الصلاتين ، والفراغ اليقيني من ذلك يحصل بالإتيان بإحدى الصلاتين ولا حاجة إلى أكثر من ذلك.

ومن خلال هذا اتّضح انّ القائل بمسلك حقّ الطاعة ومنجزية الاحتمال يلزمه القول بوجوب الموافقة القطعية ، وأمّا القائل بقاعدة قبح العقاب فينبغي له التفصيل بين ما إذا كانت الشبهة حكمية فلا تجب فيها الموافقة القطعية وبين ما إذا كانت الشبهة موضوعية فتجب فيها الموافقة القطعية.

وهنا نريد الاستدراك لنقول : لا تجب الموافقة القطعية في كل شبهة موضوعية بل فيما إذا كان الواجب قد قيّد بقيد تردد بين شيئين ، امّا إذا كانت الشبهة موضوعية من دون أن يؤخذ في الواجب قيد تردّد بين شيئين فلا يتنجز

ص: 201

الطرفان ، كما لو نذر المكلّف متى رزق ولدا ذكرا تصدّق بدينار ومتى ما رزق انثى صلّى ركعتين فإذا فرض انّه رزق طفلا ولسبب وآخر لم يعلم كونه ذكرا أو انثى حصل له علم إجمالي بوجوب التصدّق أو الصلاة ركعتين. والشبهة شبهة موضوعية - حيث انّ الحكم واضح والتردّد في الموضوع - ولكن مع ذلك لا يتنجز الطرفان إذ لم يعلم المكلّف باشتغال ذمّته بقيد مردّد بين فردين وإنّما يعلم باشتغالها بالجامع أي بأحد الوجوبين.

إذن تنجز الطرفين لا يثبت إلاّ إذا اشتغلت الذمّة بقيد أخذ في الواجب وتردّد بين شيئين فإنّ الذمة ما دامت قد اشتغلت بالقيد فلأجل البراءة اليقينية لا بدّ من الإتيان بكلا الطرفين.

هذا هو الميزان العام في تنجز الطرفين وليس الميزان يدور مدار عنوان الشبهة الموضوعية. ومن هنا نجد عبارة الكتاب قيّدت الشبهة الموضوعية بذلك فقالت : من شبهة موضوعية تردّد فيها مصداق قيد ...

قوله ص 74 س 5 : ثبوتا أو إثباتا : هذان قيدان للعدم فقط ، أي وعدم جريان جميع الاصول امّا لمحذور ثبوتي أو لمحذور إثباتي. ويأتي بيان المحذور الثبوتي والإثباتي ص 86 من الحلقة.

قوله ص 74 س 8 : بذاته أو تنجيزه : قوله : « بذاته » إشارة إلى رأي الشيخ العراقي فإنّه قائل بأنّ العلم الإجمالي منجز بذاته أي بقطع النظر عن تعارض الاصول في أطرافه. وقوله : « تنجيزه » إشارة إلى رأي الميرزا القائل بأنّ العلم الإجمالي لا ينجز بذاته بل بسبب تعارض الاصول في أطرافه.

قوله ص 75 س 7 : ومدى إخراجه : عطف تفسير لقوله : « حدود منجزية

ص: 202

العلم الإجمالي ». والمقصود : انّه لا بدّ من البحث عن كون الخارج من قاعدة قبح العقاب بسبب العلم الإجمالي هل هو الجامع فقط حتّى يكون المنجز هو الجامع فقط أو انّ الخارج كلا الطرفين لا خصوص الجامع حتّى يكون كلا الطرفين منجزا.

قوله ص 75 س 9 : بقطع النظر : هذا تفسير لقوله : « في نفسها ».

قوله ص 75 س 12 : وعليه فلا شكّ : أي على افتراض قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

قوله ص 76 س 6 : وتنجّز كل أطرافه : عطف تفسير لقوله : وجوب الموافقة القطعية.

قوله ص 76 س 9 : من بعض هؤلاء المحقّقين : أي القائلين بكون العلم الإجمالي ينجز وجوب الموافقة القطعية بالمباشرة.

قوله ص 77 س 9 : بين الحدّين أو الحدود : قوله : « بين الحدّين » ناظر إلى صورة كون العلم الإجمالي ذا طرفين. وقوله : « أو الحدود » ناظر إلى صورة كونه ذا أطراف أكثر.

قوله ص 77 س 10 : انكشاف بلا منكشف : أي علم بلا معلوم.

قوله ص 78 س 10 : ذو الاضافة : فإنّ العلم لا يوجد وحده بل لا بدّ من إضافته إلى متعلّق يتعلّق به.

قوله ص 78 س 13 : كيف يكون لوصف من الخ : أي ليست المشكلة هي أنّ الوصف الاعتباري كيف يتعلّق بالفرد المردّد وتكون له نسبة وإضافة إليه.

قوله ص 78 س 16 : في افق الانكشاف : أي في افق العلم وهو الذهن.

ص: 203

قوله ص 79 س 1 : حتّى في موارد الخطأ : فإنّ العلم لا بدّ له من متعلّق يتعلّق به حتّى في موارد الخطأ ، وليس ذلك المتعلّق إلاّ الصورة الذهنية فالعلم لا ينفك عن الصورة الذهنية حتّى في موارد الخطأ وإنّما ينفك عن المتعلّق الخارجي ، فإنّه في موارد الخطأ لا يكون المتعلّق بالعرض ثابتا في الخارج بينما في مورد الإصابة يكون ثابتا.

قوله ص 79 س 11 : لا تحكي عن مقدار الجامع ... : لعلّ الأنسب أن يقال : لا تحكي من الخارج عن مقدار الجامع فقط.

قوله ص 79 س 12 : فالصورة شخصية : فكما انّ رؤية الشبح شخصية والمرئي شخصي كذلك الصورة الذهنية شخصية ومطابقها شخصي أيضا.

قوله ص 81 س 6 : على هذا المبنى : أي المبنى الثالث الذي هو مبنى الشيخ العراقي.

قوله ص 84 س 3 : فيما زاد على الجامع : الزائد على الجامع هو خصوصية الطرفين.

قوله ص 85 س 6 : تبرير : أي توجيه.

بحث الأمر الثاني

قوله ص 86 س 2 : وامّا الأمر الثاني ... : تقدّم انّ البحث عن قاعدة منجزية العلم الإجمالي يقع في ثلاثة امور. وإلى هنا تمّ الفراغ من الأمر الأوّل - وهو أنّ العلم الإجمالي هل هو منجز وبأي مقدار - وكانت النتيجة هي أنّه لو بني على قاعدة قبح العقاب فالمقدار المنجز هو الجامع ، أي حرمة المخالفة القطعية

ص: 204

دون كلا الطرفين وإنّما يتنجز الطرفان فيما إذا قيّد الواجب بقيد دار أمره بين فردين.

وبعد هذا يقع الكلام في الأمر الثاني ، وهو انّ الاصول العملية هل يمكن أن تشمل كلا الطرفين - ولازمه جواز المخالفة القطعية - أو لا؟

وقد أجاب المشهور (1) حسبما تقدّم في القسم الأوّل من هذه الحلقة ص 56 بالنفي ، أي لا يمكن جريان الاصول في كلا الطرفين إذ لو جرى أصل البراءة عن وجوب الظهر وعن وجوب الجمعة لجاز تركهما ، وحيث انّ ذلك مخالفة قطعية ، والمخالفة القطعية قبيحة فلا يجوز أن تشمل الاصول كلا الطرفين لأنّ لازمه الترخيص في المعصية القبيحة. ومثل هذا المحذور يمكن أن يصطلح عليه بالمحذور الثبوتي.

وتقدّم الجواب عن ذلك وأنّه لا محذور ثبوتي في جريان الأصل في كلا الطرفين لأنّ العقل وإن كان يحكم بقبح المعصية وقبح المخالفة القطعية إلاّ أنّ حكمه هذا معلّق على ما إذا لم يرخّص الشارع نفسه بالمخالفة ولم يجوّز إجراء الأصل في كلا الطرفين وإلاّ فلا يصدق عنوان المخالفة والمعصية بترك الظهر والجمعة معا ، فإنّ صدق عنوان المعصية فرع أن يكون للمولى حقّ الإطاعة فإذا رخّص هو في ترك الطرفين لم يكن له حقّ الإطاعة حتّى يصدق على ترك الصلاتين عنوان المعصية.

إذن شمول الأصل لكلا الطرفين لا محذور فيه عقلا ولا يلزم منه محذور

ص: 205


1- وعلى رأسهم الشيخ الأنصاري في الرسائل ص 241 السطر الأخير من الطبعة القديمة المحشّاة بحواشي رحمة اللّه.

الترخيص في المعصية القبيحة. ولكن مع ذلك لا يمكن شمول الأصل لكلا الطرفين لمانع عقلائي ، وهو لزوم كون الغرض الترخيصي أهم من الغرض الالزامي.

توضيح ذلك : انّه في مثال الظهر والجمعة يوجد طرفان أحدهما مباح واقعا والآخر واجب واقعا. والغرض الثابت في المباح يفرض على المولى - لأجل الحفاظ على تحقّقه الجزمي - جعل الإباحة وتشريع أصل البراءة في كلا الطرفين بينما الغرض الثابت في الواجب يفرض على المولى للحفاظ على نفسه جعل الوجوب على كلا الطرفين وعدم تشريع أصل البراءة لا في هذا الطرف ولا في ذاك.

وفي مثل هذه الحالة لو فرض انّ دليل أصل البراءة - مثل حديث رفع عن امّتي ما لا يعلمون - كان شاملا للطرفين فلازم ذلك تقدّم غرض المباح الذي هو غرض ترخيصي على غرض الواجب الذي هو غرض إلزامي.

وإذا رجعنا إلى الحياة العقلائية لم نجد فيها عادة غرضا غير إلزامي يكون أهمّ من الإلزامي فيما إذا اجتمعا وعلم بثبوتهما معا - كما هو الحال في موارد العلم الإجمالي التي يوجد فيها كلا الغرضين : الإلزامي والترخيصي - بل كلّما اجتمع الغرضان كان الإلزامي منهما متقدّما على الترخيصي. وإذا سلّمنا بهذا العرف العقلائي كان ذلك نفسه بمثابة قرينة متّصلة بحديث الرفع مثلا موجبة لصرفه إلى خصوص موارد الشبهة البدوية وعدم الشمول لأطراف العلم الإجمالي.

إذن الاصول العملية لا تشمل جميع الأطراف لمانع عقلائي لا عقلي - ويمكن تسمية هذا بالمانع الإثباتي - فالعقل لا يرى محذورا في الترخيص في كلا

ص: 206

الطرفين لأهمية الغرض الترخيصي واقوائيّته بالنسبة إلى الغرض الإلزامي ، انّ ذلك محتمل عقلا وممكن إلاّ أنّ العقلاء بما أنّهم أصحاب عادات وأعراف خاصّة يرفضون وجود غرض ترخيصي أهم من الإلزامي عند اجتماعهما معا.

الأصول المؤمنة والمنجزة

انّ الأصلين الجاريين في الطرفين تارة يكونان مؤمّنين واخرى منجزين.

مثال المؤمّنين : ما إذا كان لدينا إناءان وكانت حالتهما السابقة الطهارة ثمّ علمنا بطرو النجاسة على أحدهما. انّ الأصل الجاري في مثل هذه الحالة في كل إناء - لو كان جاريا - هو استصحاب الطهارة لأنّ الطهارة ثابتة سابقا جزما في كل إناء فإذا شكّ في بقائها جرى استصحابها في كلا الإنائين. ويسمّى استصحاب الطهارة بالأصل المؤمن لأنّه يرخّص في الارتكاب ويأمن من الحرمة والعقوبة.

ومثال الأصل المنجز : ما إذا كانت الحالة السابقة للإنائين هي النجاسة ثمّ علم بطرو الطهارة على أحدهما (1). انّ الأصل الجاري في هذه الحالة - لو كان جاريا - هو استصحاب النجاسة. ويسمّى بالأصل المنجز لأنّه ينجز على المكلّف ويحتمّ عليه الاجتناب.

ص: 207


1- طرو الطهارة على أحدهما له شكلان فتارة تطرء الطهارة على أحدهما ويبقى الآخر على النجاسة جزما ، واخرى تطرأ الطهارة على أحدهما جزما ونحتمل طروّها على الآخر أيضا ، ففي الشكل الأوّل نعلم ببقاء النجاسة في أحدهما بينما في الشكل الثاني لا نعلم بذلك بل نحتمل ارتفاع النجاسة في كليهما.

وبعد اتّضاح هذا نقول : حينما ذكرنا انّ الأصل لا يمكن أن يشمل جميع الأطراف للمحذور العقلي أو العقلائي فالمقصود حالة ما إذا كان الأصل الجاري في الأطراف أصلا مؤمّنا كاستصحاب الطهارة فإنّه يلزم من تطبيقه في كلا الإنائين اللذين يعلم بطرو النجاسة على أحدهما الترخيص في المعصية القبيحة ، امّا إذا كان الأصل الجاري في الطرفين أصلا تنجيزيا فلا يلزم المحذور العقلي ولا العقلائي.

امّا انّه لا يلزم المحذور العقلي فلأنّه لا يلزم من إجراء استصحاب النجاسة في كلا الإنائين الترخيص في ارتكاب النجس بل يلزم الاجتناب عن الطاهر ، وواضح انّ هذا ليس فيه أي محذور إذ الطاهر لا يلزم ارتكابه.

وأمّا انّه لا يلزم محذور عقلائي فلأنّ العقلاء يرفضون تقدّم الغرض الترخيصي على الغرض الإلزامي ، وامّا العكس - أي تقدّم الغرض الإلزامي على الترخيصي الذي هو اللازم من إجراء استصحاب النجاسة في الإنائين - فهو مألوف بينهم ومناسب للقاعدة.

إذن جريان الاصول المنجزة في جميع الأطراف لا يلزم منه المحذوران السابقان العقلي والعقلائي ، ولكن بالرغم من ذلك قد يدّعى امتناع جريان استصحاب النجاسة في الإنائين لمحذورين آخرين أحدهما ثبوتي والآخر إثباتي وهما : -

المحذور الثبوتي

وحاصل المحذور الثبوتي : انّ لازم جريان استصحاب النجاسة في كلا

ص: 208

الإنائين مع فرض العلم بطرو الطهارة على أحدهما اجتماع النجاسة والطهارة في أحد الإنائين وهو غير ممكن.

ولماذا لا يمكن اجتماع النجاسة والطهارة في الإناء الواحد؟ يمكن أن يقرّب ذلك بأحد بيانين ، فأمّا ان يقرب ببيان انّ النجاسة والطهارة حكمان متضادّان ، فالنجاسة عبارة عن وجوب الاجتناب والطهارة عبارة عن عدم وجوب الاجتناب وهما حكمان متضادّان لا يمكن اجتماعهما في شيء واحد في عالم التشريع.

أو يقرب ببيان انّ الطهارة تستدعي أن يكون المكلّف مطلق العنان من حيث الارتكاب وعدمه بينما النجاسة تستدعي تضييق العنان وعدم الارتكاب ، وواضح انّ إطلاق العنان وتضييقه لا يمكن اجتماعهما فتلزم المنافاة في مقام العمل والامتثال.

والفرق بين البيانين انّ البيان الأوّل ناظر إلى لزوم المحذور بلحاظ عالم التشريع بينما البيان الثاني ناظر إلى لزومه بلحاظ عالم الامتثال.

وكلا هذين البيانين قابل للمناقشة.

امّا البيان الأوّل فلأنّ النجاسة والطهارة وإن كانا حكمين متضادّين إلاّ أنّ أحدهما واقعي - وهو الطهارة - والآخر ظاهري وهو النجاسة ، وقد تقدّم في القسم الأوّل من الحلقة التوفيق بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري واتّضح انّ بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي كمال الملائمة وإن المنافاة ثابتة بين خصوص الحكمين الواقعيين - كالطهارة الواقعية والنجاسة الواقعية - دون الظاهري والواقعي.

ص: 209

وبتعبير آخر : انّ ما يدفع به التنافي بين الحكم الظاهري والواقعي في سائر الموارد يدفع به التنافي في المقام إذ النجاسة ظاهرية والطهارة واقعية.

وأمّا البيان الثاني فلأنّ الطهارة لا تقتضي إطلاق العنان ما دام موضوعها مردّدا بين الإنائين ، فإنّ الطهارة لا يعلم ثبوتها في هذا الإناء أو في ذاك الإناء ، وما دام لا يعلم ثبوتها في إناء معيّن فلا تقتضي إطلاق العنان ؛ إذ لو كانت تقتضي ذلك فهي امّا أن تقتضي جواز ارتكاب كلا الإنائين ، وهو باطل جزما لأنّ أحدهما نجس لا يجوز ارتكابه ، أو تقتضي جواز ارتكاب أحدهما فقط ، وهو باطل أيضا لأنّه ترجيح بلا مرجّح.

هذا كلّه في المحذور الثبوتي ، وقد اتّضح بطلانه.

المحذور الإثباتي

وأمّا المحذور الإثباتي فقد ذكر الشيخ الأعظم قدس سره في الرسائل انّ دليل الاستصحاب قاصر الدلالة عن الشمول لجميع أطراف العلم الإجمالي للزوم التهافت بين صدره وذيله ، فإنّ بعض روايات الاستصحاب ورد فيها ذيل وهو « ولكن انقض اليقين باليقين » فالرواية هكذا : « لا تنقض اليقين بالشكّ ولكن انقض اليقين باليقين » ، انّ هذه الرواية لها صدر ، وهو الفقرة الاولى أي « لا تنقض اليقين بالشكّ » ولها ذيل وهو الفقرة الثانية أي « ولكن انقض اليقين باليقين ».

ولو نظرنا إلى الإناء الأوّل بخصوصه رأينا فيه يقينا سابقا بالنجاسة وشكّا لا حقا بالطهارة ، وهكذا لو نظرنا إلى الإناء الثاني رأينا فيه ذلك ، ولازم ذلك

ص: 210

بمقتضى الصدر جريان استصحاب النجاسة في كلا الإنائين. بينما لو نظرنا إلى الذيل فاللازم عدم جريان الاستصحاب في كليهما وإنّما يجري في أحدهما فقط لأنّ الذيل يقول « انقض اليقين باليقين » ، وواضح انّ كل واحد من الإنائين وإن كان فيه يقين بالنجاسة إلاّ أنّ أحد الإنائين كما فيه يقين بالنجاسة فيه أيضا يقين بالطهارة فيلزم عدم جريان استصحاب النجاسة فيه. وعلى هذا يحصل الإجمال في الرواية لحصول التهافت بين الصدر والذيل حيث انّ الصدر يقول اجر الاستصحاب في كلا الطرفين بينما الذيل يقول لا تجره في كليهما بل في أحدهما.

ومن أجل إشكال التهافت هذا اختار الشيخ الأعظم قدس سره عدم جريان الاستصحاب لا في بعض الأطراف للزوم محذور الترجيح بلا مرجّح ولا في جميع الأطراف للزوم محذور التهافت.

وهذا من دون فرق بين أن يكون الاستصحابان استصحابين مؤمّنين أو منجزين. وإنّما خصص قدس سره الإشكال بالاستصحابين المنجزين من جهة انّ الاستصحابين المؤمّنين يوجد مانع آخر من جريانهما وهو المحذور العقلي المتقدّم ، أي لزوم الترخيص في المعصية القبيحة.

مناقشة محذور التهافت

واجيب عن محذور التهافت هذا بجوابين : -

1 - انّ الذيل المذكور - وهو فقرة ولكن انقض اليقين باليقين - لا يوجد في جميع روايات الاستصحاب بل في رواية واحدة ، ومعه فالإجمال يلزم في هذه الرواية الواحدة المشتملة على الذيل ، وأمّا بقية الروايات - التي ذكرت الفقرة

ص: 211

الاولى فقط أي فقرة لا تنقض اليقين بالشكّ - فلا إجمال فيها ويتمسّك بإطلاقها.

وبكلمة اخرى : متى ما كان لدينا روايتان أحدهما مجملة والاخرى غير مجملة لم يكن إجمال المجملة مانعا من التمسّك بالرواية غير المجملة (1).

2 - انّ إشكال التهافت باطل من أساسه لأنّ ظاهر الذيل « ولكن انقض اليقين باليقين » انّ اليقين الناقض لا بدّ وأن يكون على منوال اليقين المنقوض فإذا كان لنا يقين بطهارة هذا الثوب الخاص المعيّن فاليقين الناقض لا بدّ وأن يكون هو اليقين بنجاسة هذا الثوب الخاص أيضا ، ونحن لو نظرنا إلى مقامنا لوجدنا انّ لنا يقينا بنجاسة الإناء الأوّل بخصوصه كما ولنا يقين ثان بنجاسة الإناء الثاني بخصوصه بينما اليقين الطارئ بعد ذلك هو اليقين بطهارة أحدهما على سبيل الإجمال ، فاليقين الناقض يقين إجمالي بينما اليقين المنقوض يقين تفصيلي ، وأحد اليقينين حيث انّه ليس على منوال الآخر فلا يكون أحدهما ناقضا للثاني فالذيل

ص: 212


1- قد يقال : لماذا لا نطبّق قانون الإطلاق والتقييد في المقام بأن نقول انّ الرواية المشتملة على الذيل تصير مقيّدة للروايات التي لا تشتمل على الذيل؟ والجواب : انّ مجال قانون الإطلاق والتقييد هو ما إذا ورد لفظ واحد _ كلفظ رقبة _ في رواية مطلقا وورد في رواية ثانية مقيدا ، وامّا إذا وردت روايتان إحداهما ذكرت جملتين والاخرى ذكرت جملة واحدة فلا معنى لكون الاولى مقيّدة للثانية ، نظير ما إذا وردت رواية تقول : « صل صلاة الليل واغتسل للجمعة » ووردت رواية اخرى تقول : صل صلاة الليل » من دون أن تذكر جملة « واغتسل الجمعة » فإنّه لا معنى لكون الاولى مقيّدة للثانية. والمقام من هذا القبيل فإنّ الرواية المشتملة على الذيل ليست من قبيل المقيّد إذ جملة « ولكن انقض اليقين باليقين » لا تعدّ تقييدا لحكم « لا تنقض اليقين بالشكّ » المذكور في الصدر وإنّما هو بيان لمطلب ثان إضافي.

المذكور يختص بالموارد التي يكون فيها اليقين الناقض واليقين المنقوض على منوال واحد بأن يكونا معا يقينين تفصيليين.

تعبير اصولي

ومن خلال هذا كلّه اتّضح ان الاستصحابين إذا كانا مؤمّنين فلا يجريان للمحذور العقلي أو العقلائي ، وأمّا إذا كانا منجزين فلا مانع من جريانهما ؛ إذ أقصى ما يلزم إشكال التهافت الذي ذكره الشيخ الأعظم ، وهو مدفوع بالوجهين السابقين.

ومن هنا نعرف معنى العبارة الاصولية المشهورة التي تقول : لا مانع من جريان الاصول في أطراف العلم الإجمالي إذا لم يلزم من جريانها مخالفة عملية قطعية ، فإنّهم بهذه العبارة يريدون القول بأنّ الاستصحابين إذا كانا منجزين فلا مانع من جريانهما لأنّه لا يلزم من جريانهما معا إلاّ التجنّب عن الإنائين الذين نعلم بطهارة أحدهما ، وهذا ليس فيه مخالفة عملية ، وإنّما المخالفة العملية تختص بصورة ما إذا كان الاستصحابان مؤمّنين إذ لازم جريان استصحاب الطهارة في كلا الإنائين ارتكاب كلا الإنائين الذين نعلم بنجاسة أحدهما ، وهو مخالفة عملية.

قوله ص 86 س 3 : بلحاظ مقام الثبوت : أي بلحاظ انّه هل يوجد محذور عقلي في الترخيص في كلا الطرفين - كمحذور الترخيص في المعصية القبيحة - أو لا.

قوله ص 86 س 3 ومقام الإثبات : أي بلحاظ انّه هل يوجد محذور عقلائي من شمول أدلّة الاصول لجميع الأطراف.

ص: 213

قوله ص 86 س 6 : لأدائه الخ : أي للمحذور الثبوتي.

قوله ص 86 س 8 : غير أنّ ذلك ليس عقلائيا : أي للمحذور الإثباتي.

قوله ص 86 س 11 : انّ ذلك : أي استحالة جريان الاصول في جميع الأطراف للمحذور الثبوتي أو الإثباتي.

قوله ص 86 س 12 : الاصول الشرعية المنجزة للتكليف : كاستصحاب النجاسة فإنّه منجز لوجوب الاجتناب.

قوله ص 86 س 13 : فلا محذور ثبوتا ولا إثباتا : أي لا يرد فيها المحذور العقلي - وهو الترخيص في المعصية القبيحة - ولا المحذور العقلائي وهو لزوم كون الغرض الترخيصي أهم من الغرض الإلزامي.

قوله ص 86 س 14 : إذا كان كل طرف موردا لها في نفسه : بأن كان فيه يقين سابق بالنجاسة وشكّ لا حق في ارتفاعها.

وقوله : « في نفسه » أي بقطع النظر عن العلم الإجمالي بطرو الطهارة على أحدهما.

قوله ص 86 س 15 : أكثر من تكليف واحد : أي أكثر من نجاسة واحدة في المثال المتقدّم ، فإنّ كل نجاسة لها تكليف وهو بوجوب الاجتناب.

قوله ص 86 س 17 : ومنه يعلم : أي يعلم من استصحاب النجاسة في كل واحد من الإنائين وعدم مانعية العلم بارتفاع إحدى النجاستين وبقاء الاخرى ، يعلم من هذا انّ استصحاب النجاسة يجري في كل واحد من الإنائين حتّى في حالة العلم بارتفاع إحدى النجاستين حتما واحتمال ارتفاع الاخرى أيضا ، أي بأن كنّا نعلم إجمالا بطرو الطهارة على واحد منهما جزما وكنّا نحتمل طرو الطهارة على

ص: 214

الثاني منهما أيضا فلم نعلم ببقاء النجاسة لا في كليهما ولا في أحدهما.

قوله ص 87 س 2 : ولا ينافي ذلك ... الخ : هذا راجع إلى كلتا الحالتين ، أي حالة العلم بارتفاع النجاسة عن واحد وبقائها في الثاني وحالة العلم بارتفاعها عن واحد قطعا مع احتمال ارتفاعها عن الثاني أيضا.

وقوله : « لا ينافي ذلك » أي لا ينافي جريان استصحاب النجاسة في كلا الإنائين.

قوله ص 87 س 3 : بطهارة بعض الأواني : فإنّه في كلتا الحالتين يعلم بطهارة أحد الإنائين جزما ولكن في الحالة الاولى يعلم ببقاء النجاسة في الثاني بينما في الحالة الثانية لا يعلم ببقائها في الثاني بل يحتمل ارتفاعها.

قوله ص 87 س 4 : عنها : الضمير يرجع إلى بعض الأواني. والتأنيث باعتبار الإضافة إلى المؤنّث وهو الأواني.

قوله ص 87 س 5 : والحكم الترخيصي : أي الطهارة المعلومة في أحدهما. وقوله : « الاصول المنجزة » إشارة إلى استصحاب النجاسة في كلّ من الإنائين.

قوله ص 87 س 6 : أو بلحاظ محذور إثباتي : وهو محذور التهافت الذي أشار له الشيخ الأعظم قدس سره .

قوله ص 87 س 8 : امّا الأوّل : أي المحذور الثبوتي.

قوله ص 87 س 8 : الالزامات الظاهرية : أي النجاسة في كل واحد من الإنائين بمقتضى الاستصحاب.

قوله ص 87 س 11 : بينها : أي الالزامات الظاهرية.

قوله ص 87 س 17 : وأمّا الثاني : أي المحذور الإثباتي.

ص: 215

قوله ص 88 س 1 : كما ينهى عن نقض الخ : أي بمقتضى الفقرة الاولى. وقوله : « كذلك يأمر ... » أي بمقتضى الفقرة الثانية.

قوله ص 88 س 7 : على الأمر والنهي معا : أي على الفقرة الاولى المشتملة على النهي عن نقض اليقين بالشكّ ، والفقرة الثانية المشتملة على الأمر بنقض اليقين باليقين.

وقوله : « لا فيما اختصّ مفاده بالنهي فقط » أي لا ما اشتمل على الفقرة الاولى فقط.

قوله ص 88 س 10 : بعين ما تعلّق الخ : فإذا كان اليقين الأوّل متعلّقا بنجاسة إناء معيّن تفصيلا لزم كون اليقين الثاني الناقض متعلّقا بنفس ذلك الإناء المعيّن لا بطهارة إناء غير معيّن.

قوله ص 88 س 12 : ومصبه ليس متّحدا : فإنّ مصبّ الحكم الترخيصي - أي الطهارة - المعلوم بالإجمال هو طهارة أحد الأواني بينما مصبّ الحكم الإلزامي هو نجاسة كل إناء بخصوصه.

بحث الأمر الثالث

كان الكلام فيما سبق عن إمكان جريان الاصول في جميع الأطراف وعدمه. وقد اتّضح انّ الاصول المؤمّنة لا يمكن أن تجري لمحذور عقلائي لا عقلي بينما الاصول المنجزة يمكن أن تجري بلا محذور عقلي ولا عقلائي.

والآن نريد التكلّم عن الأمر الثالث ، أي عن إمكان جريان الاصول في بعض الأطراف لا في جميعها. والكلام في ذلك يقع تارة بلحاظ عالم الثبوت - أي

ص: 216

بلحاظ لزوم محذور عقلي من ترخيص ارتكاب بعض الأطراف وعدمه - واخرى بلحاظ عالم الإثبات ، أي بلحاظ عالم الأدلة.

عالم الثبوت

وقع البحث عن إمكان الترخيص ثبوتا - أي واقعا - في أحد الطرفين وهل هو ممكن لا يلزم منه محذور أو لا (1).

وينبغي أن يكون واضحا انّ هذا البحث لا معنى له على رأي من يقول

ص: 217


1- قد يقال : ان طرح هذا البحث لغو إذ جريان الأصل في بعض الأطراف دون بعض ترجيح بلا مرجّح فلا يكون ممكنا. والجواب : انّ لزوم الترجيح بلا مرجّح مانع إثباتي لأنّ معناه انّ دلالة دليل الأصل لا يمكن أن تشمل بعض الأطراف دون بعض لعدم المرجّح ، وكلامنا ليس في عالم الدلالة والإثبات بل في عالم الثبوت بقطع النظر عن دلالة الدليل ، فنحن نبحث هل يمكن واقعا ثبوت الترخيص في بعض الأطراف بقطع النظر عن دلالة الدليل أو لا يمكن ذلك في نفسه وبقطع النظر عن دلالة الدليل. هذا مضافا إلى أنّه سنذكر فيما بعد بعض الحالات التي يكون جريان الأصل فيها مختصا ببعض الأطراف بدون معارضة ، كما لو فرضنا وجود إنائين رقم (١) ورقم (٢) نعلم إجمالا بنجاسة أحدهما ، ثمّ نفرض ان إناء رقم (٣) لاقى إناء رقم (٢) ، فبعد الملاقاة سوف يحصل علم إجمالي جديد بنجاسة امّا إناء رقم (١) أو مجموع رقم (٢) و (٣). وفي مثل هذه الحالة يتعارض أصل الطهارة في إناء رقم (١) مع أصل الطهارة في إناء رقم (٢) ، وبعد تعارضهما وتساقطهما نرجع إلى أصل الطهارة في إناء رقم (٣). وقد توجّه بعض الاعتراضات إلى المثال المذكور نتعرّض لها فيما بعد إنشاء اللّه تعالى ص ٢٥٩.

بإمكان الترخيص في كلا الطرفين - كما هو مختار السيد الشهيد على ما تقدّم - فإنّ إمكان الترخيص في كلا الطرفين يستلزم إمكان الترخيص في الطرف الواحد بطريق أولى.

وهكذا لا معنى لهذا البحث على رأي الميرزا في أجود التقريرات القائل بأنّ العلم الإجمالي لا يقتضي بذاته وجوب الموافقة القطعية - أي لزوم الإتيان بالظهر والجمعة معا - وإنّما المقتضي لذلك تعارض الاصول.

ووجه ذلك : انّ الاصول إنّما تتعارض في الأطراف وتتساقط ليس إلاّ لأجل انّ جريانها جميعا يستوجب المخالفة القطعية للعلم الإجمالي ، ومن الواضح انّ هذا المحذور يختص بحالة جريان الاصول في جميع الأطراف ، امّا جريانها في طرف واحد فلا يلزم منه ذلك حتّى يمتنع.

وبعد هذا لا يبقى لهذا البحث وجاهة إلاّ على الرأي القائل باستدعاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية بذاته ، فإنّ هذا القائل قد يمنع عن الترخيص حتّى في الطرف الواحد باعتبار انّ ذلك يتنافى ووجوب الموافقة القطعية التي يقتضيها العلم الإجمالي بذاته.

ولكن كيف يطرح هذا البحث على أصحاب هذا القول وبأي صيغة ينبغي أن يكون؟

ينبغي أن يكون البحث حول العلية والاقتضاء فيقال هل العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة بنحو لا يمكن للشارع الترخيص حتى في الطرف الواحد - وهذا ما يصطلح عليه بأنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية - أو يقتضي ذلك فيما إذا لم يرخّص الشارع في الطرف الواحد فإذا رخّص فلا

ص: 218

يكون مقتضيا لذلك ، كالنار حيث انّها تقتضي احتراق الورقة فيما إذا لم تمنع الرطوبة من ذلك. ويسمّى هذا بأنّ العلم الإجمالي مقتضي لوجوب الموافقة القطعية لا علّة.

فالبحث إذن لا بدّ وأن يحوم حول العلية والاقتضاء. ومن هنا وجد مسلكان أحدهما : يقول بأنّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة بذاته بنحو الاقتضاء. وهذا هو مختار الميرزا في فوائد الاصول.

وثانيهما : يقول بأنّه يقتضي وجوب الموافقة بذاته بنحو العلّة التامّة. وهو مختار الشيخ العراقي.

ومن هنا نعرف أنّ في مسألة تنجيز العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية ثلاثة آراء : -

1 - انّ العلم الإجمالي لا يقتضي وجوب الموافقة بنفسه وإنّما يقتضيها بسبب تعارض الاصول. وهو مختار الميرزا في أجود التقريرات. واختاره السيد الخوئي أيضا.

2 - انّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة بنفسه ولكن بنحو الاقتضاء دون العلّة التامّة. وهو مختار الميرزا في فوائد الاصول (1).

3 - انّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية بنفسه وبنحو العلّة التامّة. وهو مختار الشيخ العراقي.

ص: 219


1- لبحث الميرزا النائيني قدس سره تقريران أحدهما للشيخ محمّد علي الكاظمي باسم فوائد الاصول وثانيهما للسيد الخوئي باسم أجود التقريرات. والثاني تقرير لآخر دورة اصولية لبحث الميرزا في الاصول بخلاف الأوّل فإنّه تقرير لدورة أسبق.
الفارق الواضح

وقد تسأل عن الفارق الواضح بين الرأي الأوّل والرأي الثاني.

انّ الفارق هو انّه على الرأي الأوّل لا يكون العلم الإجمالي هو المقتضي للزوم الإتيان بالظهر والجمعة معا وإنّما المقتضي له هو احتمال التكليف في كل طرف بعد فرض تساقط الاصول المؤمنة ، فاحتمال التكليف بلا مؤمن هو المقتضي لذلك وليس العلم الإجمالي ، أجل العلم الإجمالي سبب لتعارض الاصول لا أكثر.

وأمّا على الرأي الثاني فالمقتضي لوجوب الموافقة هو العلم الإجمالي لا تعارض الاصول ، غاية الأمر يكون الاقتضاء معلّقا على عدم الترخيص في بعض الأطراف ، نظير النار فإنّها بنفسها تقتضي الإحراق ولكن معلّقا على عدم المانع.

الاستدلال على مسلك العلّية

وبعد ان عرفنا وجود مسلكين في كيفية استدعاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية نأخذ بعرض برهان الشيخ العراقي على مسلك العلّية. وهو مركب من مقدّمتين : -

أ - انّ كل علم هو علّة تامّة لتنجز معلومه ، فإذا علمت تفصيلا بأنّ هذا الإناء خمر كان العلم المذكور علّة تامّة لوجوب الاجتناب عنه ، بمعنى انّه لا يمكن الترخيص في مخالفته فلا يمكن أن يقول المولى يجوز لك أن تشربه. وهذا واضح.

ب - انّ المعلوم في العلم الإجمالي إذا كان هو الجامع فالذي يتنجز هو الجامع ، ولازم تنجزه وجوب تحصيله ، وحيث ان تحصيله يتحقّق بالإتيان بأحد

ص: 220

الطرفين فيكفي الإتيان بالطرف الواحد ولا يلزم الإتيان بالطرفين ، ولكن حيث انّ المفروض على رأي الشيخ العراقي انّ المعلوم بالعلم الإجمالي ليس هو الجامع بل الواقع فالذي يتنجز هو الواقع ، وبما انّ الواقع لا يحرز تحقّقه بالإتيان بطرف واحد بل بالإتيان بالطرفين فالعلم الإجمالي يكون علّة لوجوب الإتيان بالطرفين.

اعتراض الميرزا على مسلك العلّية

واعترض الميرزا على مسلك العلية بأنّ العلم الإجمالي إذا كان علّة تامة لوجوب الموافقة القطعية فلازم ذلك أنّ العلم الإجمالي متى ما كان ثابتا فوجوب الموافقة القطعية لا بدّ وأن يكون ثابتا أيضا بحيث لا يمكن أن ينفك عنه مع انّنا نرى في باب العلم التفصيلي - الذي هو أقوى من العلم الإجمالي - انّ العلم التفصيلي بالتكليف قد يكون ثابتا ومع ذلك لا تجب موافقته القطعية ، فإذا دخل وقت صلاة الظهر مثلا فالمكلّف يحصل له علم تفصيلي بثبوت الوجوب في حقّه فإذا صلّى وبعد الفراغ شكّ هل أتى بالركوع أو لا فاللازم لو كان العلم التفصيلي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية أن يصلّي من جديد صلاة مشتملة على الركوع ليحرز على على سبيل القطع موافقته للتكليف ، والحال انّ الشارع حكم بالاكتفاء بالصلاة السابقة التي لا يقطع بحصول الموافقة معها. انّ حكم الشارع بعدم وجوب الإعادة من جديد وتطبيق قاعدة الفراغ دليل واضح على انّ العلم التفصيلي بوجوب صلاة الظهر ليس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية. وإذا كان العلم التفصيلي هكذا فالعلم الإجمالي أولى بذلك.

ص: 221

جواب الشيخ العراقي

وأجاب الشيخ العراقي عن هذا الاعتراض بأنّ العلم التفصيلي متى ما كان ثابتا فهو علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية ولا يمكن أن ينفك عن ذلك. وما ذكر من مثال صلاة الظهر لا نسلّم الانفكاك فيه فإنّ المكلّف إذا طبّق قاعدة الفراغ فالموافقة القطعية حاصلة منه إذ هي تقول للمكلّف انّي أحكم بحصول الركوع منك في صلاتك وبالتالي احكم بأنّك قد وافقت الوجوب وامتثلته قطعا غاية الأمر الموافقة التي حصلت منك وإن لم تكن مقطوعة بالقطع الوجداني إلاّ أنّها ثابتة تنزيلا وتعبّدا ، وواضح أنّ هذا المقدار يكفي لإشباع متطلّبات مسلك العلّية فإنّ المسلك المذكور لا يقول انّ العلم التفصيلي أو الإجمالي علّة لخصوص وجوب الموافقة القطعية بالقطع الوجداني بل علّة لوجوب الموافقة أعمّ من أن تكون مقطوعة بالقطع الوجداني أو بالقطع التعبّدي.

ثمّ أضاف العراقي قائلا لو اريد النقض على مسلك العلّية فلا بدّ من النقض بموارد يكون العلم التفصيلي أو الإجمالي ثابتا فيها ويكتفي الشارع بموافقته الاحتمالية دون أن ينزلها منزلة الموافقة القطعية ، انّه بمثل هذه الموارد يصح النقض ، كما لو فرض انّ الشارع أجرى أصل البراءة في موارد العلم التفصيلي أو الإجمالي ، فإنّ لسان رفع التكليف وليس لسان حصول الموافقة القطعية ، تعبّدا وتنزيلا ، حيث يقول رفع عن امّتي ما لا يعلمون ولا يقول انّي أحكم بحصول الموافقة ، وهذا بخلاف قاعدة الفراغ فإن لسانها يدلّ على الحكم بتحقّق الموافقة تعبّدا حيث يقول قد صحّت صلاته ، ومعنى صحّت صلاته انّي أحكم بتحقّق

ص: 222

الركوع من المصلّي الشاك بعد الصلاة.

مناقشة كلام العراقي

ويمكن التعليق على كلام الشيخ العراقي هذا بأنّ قاعدة الفراغ إذا ارتضي جريانها في موارد العلم التفصيلي أو الإجمالي فيلزم قبول جريان أصل البراءة أيضا ، فإنّ قاعدة الفراغ وأصل البراءة كلاهما من واد واحد ، إذ كلاهما حكم ظاهري ، وقد تقدّم انّ حقيقة الحكم الظاهري حقيقة واحدة - وهي عبارة عن الحكم الناشىء من تقديم الغرض الأهمّ الذي هو الغرض غير اللزومي في مثل قاعدة الفراغ وأصل البراءة - ولا يؤثّر في تلك الوحدة اختلاف لفظ الدليل ولسانه فإنّ اللسان قد يكون لسان رفع الحكم - كما في البراءة - وقد يكون لسان التعبّد بحصول الموافقة كما هو لسان قاعدة الفراغ.

وما دامت روح الحكم الظاهري واحدة فاللازم من قبول تطبيق قاعدة الفراغ في موارد العلم التفصيلي أو الإجمالي قبول تطبيق أصالة البراءة أيضا فإنّ اختلاف لسان الدليل غير مهم.

ترجيح مسلك الاقتضاء

وبعد هذا العرض لمسلك العلّية والاقتضاء والاستدلال عليهما يحق أن نسأل عن الأرجح والأجدر منهما؟ انّ الأجدر هو مسلك الاقتضاء ، فالعلم الإجمالي ليس علّة تامّة لوجوب الموافقة بل مقتضى لذلك بدليل انّه يمكن للمولى جعل الترخيص في أحد الطرفين ، وإمكان ذلك دليل على أنّ وجوب الموافقة

ص: 223

القطعية يمكن انفكاكه عن العلم الإجمالي وبالتالي يثبت انّه ليس علّة تامّة وإلاّ لما حصل الانفكاك.

امّا كيف نثبت إمكان جعل الترخيص في أحد الطرفين؟ الجواب : انّ نفس النكتة التي صحّحت جعل الترخيص الظاهري في مورد الشبهة البدوية هي بنفسها يمكن أن تصحّح جعل الترخيص الظاهري في بعض أطراف العلم الإجمالي. وتلك النكتة هي انّ المكلّف حينما يشكّ في الحكم الواقعي وانّه الإباحة أو الوجوب مثلا فبإمكان الشارع الحكم بالإباحة ظاهرا فيما إذا كان ملاكها هو الأهمّ في نظره.

انّ هذه النكتة ثابتة أيضا في اطراف العلم الإجمالي ، فلو علم المكلّف إجمالا بوجوب امّا الظهر أو الجمعة عليه فوجوب خصوص الظهر مثلا مشكوك والأمر دائر بين وجوب الظهر وإباحتها فإذا كان ملاك الإباحة أهم في نظر الشارع أمكن جعل الترخيص في تركها.

وعليه فالنتيجة النهائية هي أنّ جعل الترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي أمر ممكن. ومعنى ذلك بعبارة اخرى انّ العلم الإجمالي مقتض لوجوب الموافقة القطعية وليس علّة تامّة.

هذا كلّه في البحث عن إمكان جعل الترخيص في بعض الأطراف بلحاظ عالم الثبوت. وامّا بلحاظ عالم الاثبات فهو ما سنتكلّم عنه.

عالم الإثبات

وبعد أن ثبت إمكان جعل الترخيص ثبوتا - واقعا - في بعض الأطراف

ص: 224

نتكلّم الآن بلحاظ عالم الإثبات لنرى هل بالإمكان استفادة الترخيص في بعض الأطراف - بعد أن ثبت إمكانه واقعا - من أدلة البراءة ، فإنّ أقصى ما أثبتناه في البحث الثبوتي إمكان الترخيص في بعض الأطراف ولم نثبت وقوعه.

وفي هذا المجال قال المشهور لا يمكن أن يستفاد من أدلة البراءة وقوع الترخيص في بعض الأطراف لأنّ تطبيق أدلة البراءة على أطراف العلم الإجمالي فيه احتمالات ثلاثة : -

أ - فامّا أن نطبّقها على كلا الطرفين ، وهو باطل لأنّ لازمه جواز المخالفة القطعية.

ب - أو نطبّقها على هذا الطرف المعيّن دون ذاك ، وهو باطل أيضا لأنّه ترجيح بلا مرجّح.

ج - أو نطبّقها على الفرد المردّد ، وهو باطل أيضا لعدم تحقّق الفرد المردّد خارجا.

العراقي وشبهة الترخيص المشروط

والشيخ العراقي قدس سره ذكر في هذا المجال انّ بالإمكان تطبيق أصل البراءة في كل واحد من الطرفين دون أن يلزم محذور المخالفة القطعية ، فإذا كان لدينا إناءان نعلم بخمرية أحدهما فنطبق أصل البراءة على كل طرف ولكن تطبيقا مشروطا بترك الطرف الآخر فيقال أنت مرخّص في ارتكاب الإناء الأوّل بشرط ترك الثاني ومرخّص في الثاني بشرط ترك الأوّل.

انّ تطبيق أصل البراءة بهذه الشكل لا ينجم عنه أي محذور ، فلا يلزم منه

ص: 225

محذور الترجيح بلا مرجّح كما هو واضح ، ولا يلزم منه محذور الترخيص في المخالفة القطعية ، إذ ذلك - أي محذور المخالفة القطعية - يلزم لو طبّق أصل البراءة على كل طرف تطبيقا مطلقا بأن قيل : أنت مرخص في الأوّل سواء ارتكبت الثاني أم لا ، وهكذا أنت مرخّص في الثاني سواء ارتكبت الأوّل أم لا ، امّا في فرض الترخيص المشروط فلا يلزم ذلك.

وقد يقال : كيف نستفيد البراءة المشروطة بهذا الشكل مع انّ مفاد حديث « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » مثلا هو البراءة المطلقة دون المشروطة ؛ إذ هو يقول رفع وجوب الاجتناب عن الإناء الأوّل من دون تقييد بترك الثاني؟

والجواب : انّ في كيفية تطبيق أصل البراءة ثلاثة احتمالات : -

أ - فامّا ان لا نطبّقه لا على هذا الإناء ولا على ذاك.

ب - أو نطبّقه على أحدهما دون الآخر.

ج - أو نطبّقه على كل واحد منهما بالنحو المشروط الذي اقترحه الشيخ العراقي.

ولا إشكال في تعيّن الاحتمال الثالث ، فإنّ عدم طرح الدليل من أساسه في الطرفين معا أو في أحدهما وتطبيقه على كل منهما مع إلغاء إطلاقه أولى من الطرح ؛ إذ الضرورة تقدر بقدرها ، وهي تقتضي عدم تطبيقه في كل منهما تطبيقا مطلقا ولا تقتضي إلغاءه رأسا ومن الأساس في كليهما أو في أحدهما.

هذه حصيلة اعتراض الشيخ العراقي. وهو كما ترى اعتراض لطيف وقوي

ص: 226

جدّا. وقد استحكم في أذهان أهل العلم تلك الفترة حتّى انّ الشيخ الكاظمي المقرر لدرس الميرزا أطال الكلام كثيرا في دفعه ، وقال انّا لم نطل الكلام إلاّ لدفع ما شاع وترسخ في أذهان أهل العلم من إمكان إجراء البراءة في كلا الطرفين إجراء مشروطا.

تنبيه

انّ لازم هذا الاعتراض أن لا يحكم الميرزا والسيد الخوئي - وكل من التزم بعدم عليّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية سواء التزم انّ منجزيته بسبب تعارض الاصول أم بسبب استلزام ذات العلم الإجمالي لذلك بنحو الاقتضاء - بوجوب الموافقة القطعية في باب العلم الإجمالي ؛ إذ تنجيز العلم الإجمالي لكلا الطرفين فرع عدم إمكان إجراء البراءة في الأطراف فإذا جرت بالشكل المذكور كانت النتيجة جواز ارتكاب أحد الطرفين وترك الثاني والحال أنّ الالتزام بعدم وجوب الموافقة القطعية أمر صعب جدّا لمخالفته الحسّ الشرعي والعقلائي. ومن هنا صار هذا الاعتراض مهما.

وكأنّ الشيخ العراقي يريد أن يقول : ان لازم عدم البناء على مسلك العلّية ان يكون تنجيز العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية موقوفا على تعارض الاصول فإذا رفعنا التعارض عن طريق الترخيص المشروط لم تكن الموافقة القطعية واجبة. وهذا منبّه على أنّ مسلك فوائد الاصول الذي هو مسلك الاقتضاء باطل فضلا عن مسلك أجود التقريرات الذي يقول بعدم اقتضاء العلم الإجمالي بنفسه لوجوب الموافقة القطعية.

ص: 227

ونتيجة بطلان كلا هذين المسلكين تعيّن المسلك الثالث القائل باستلزام العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية بذاته بنحو العلّة التامة.

مناقشة شبهة الترخيص المشروط
اشارة

وقد نوقشت شبهة الترخيص المشروط بعدّة وجوه نذكر منها : -

الوجه الأوّل

ما أفاده السيد الخوئي ( دام ظلّه ) (1) من انّه لو كان لدينا إناءان نعلم بأنّ أحدهما خمر فلا يمكن الترخيص في ارتكاب الأوّل بشرط ترك الثاني ، ولا الترخيص في ارتكاب الثاني بشرط ترك الأوّل.

والوجه في ذلك : انّ المكلّف لو فرض تركه لكلا الإنائين وعدم اقترابه من هذا ولا من ذاك فاللازم أن يكون مرخّصا في ارتكاب كلا الإنائين ترخيصا فعليا فهو بالفعل مرخص في ارتكاب الأوّل - لأنّه قد ترك الثاني - ومرخص في ارتكاب الثاني لأنّه قد ترك الأوّل ، فإن كان كل حكم إذا كان مشروطا بشرط معيّن وفرض الأنسب عدم الفصل بين الضاد وما قبلها تحقّق شرطه بالفعل انقلب وصار فعليا. وحيث انّ الترخيص في كل إناء كان مشروطا بترك الآخر وفرض تحقّق الشرط فاللازم أن يصير الترخيصان فعليين ، أي انّ المكلّف مرخّص بالفعل في ارتكاب هذا الإناء وذاك الإناء معا ، وهو مستحيل لانّه

ص: 228


1- الدراسات ص 338

يعلم بخمرية أحدهما ، والترخيص في ارتكابهما ترخيص في ارتكاب المحرم الواقعي.

وقد تقول : انّ ثبوت الترخيص المشروط في كل واحد من الإنائين وإن كان لازمه ثبوت الترخيص الفعلي في ارتكاب كلا الإنائين الذين يعلم بخمرية أحدهما إلاّ أنّ هذا الترخيص الفعلي حيث لا يؤدّي إلى تحقّق المخالفة العملية القطعية خارجا فلا محذور فيه.

والوجه في عدم كونه مؤدّيا إلى حصول المخالفة العملية القطعية : انّ المكلّف إذا أراد أن يخالف ويمدّ يده إلى أحد الإنائين لتناوله فبمجرّد أن يشربه يصير الثاني محرما ولا يسوغ له ارتكابه لأنّ المفروض أنّ الترخيص في كل منهما مشروط بترك الآخر ، وحيث فرض تناول الأوّل فلا يكون الترخيص ثابتا في الثاني بل يكون محرما.

إذن المخالفة القطعية يستحيل تحقّقها خارجا ، وما دام تحقّقها مستحيلا فثبوت الترخيصين الفعليين في كلا الإنائين لا يشكّل محذورا.

وأجاب السيد الخوئي عن هذا الكلام بأنّ نفس الترخيص الفعلي في ارتكاب المحرم الواقعي قبيح وإن لم يكن مؤدّيا إلى تحقّق المخالفة القطعية العملية خارجا ، فإنّ العقل يأبى ولا يقبل من المولى أن يقول لعبده أنت مرخّص في ارتكاب الإنائين الذين تعلم بأنّ أحدهما خمر وإن فرض عدم إمكان تحقّق المخالفة خارجا ، ولذا لو فرض انّ المكلّف علم بحرمة المكث عليه امّا في هذا البلد أو ذاك البلد وفرض أنّه لا يمكنه في وقت واحد المكث في كلا البلدين فإنّ الترخيص بالمكث في كلا البلدين قبيح وإن كان لا يمكنه المكث فيهما معا ولا

ص: 229

يتحقّق منه المخالفة القطعية خارجا.

دفع الوجه الأوّل

ويمكن دفع الجواب المذكور ببيانين : -

أحدهما

إنّ كل ترخيص من الترخيصين المشروطين حكم ظاهري بينما حرمة الإناء الخمري الموجود بين الإنائين حكم واقعي ، ونحن لا نرى تنافيا بين ذاك الحكم الظاهري وهذا الحكم الواقعي ، إذ التنافي بينهما يتصوّر بأحد أشكال ثلاثة : -

أ - أن يكون التنافي بينهما بلحاظ نفس الحكم والجعل فإنّ ذاك ترخيص وهذا تحريم ، والترخيص والتحريم أمران متضادّان لا يمكن اجتماعهما في شيء واحد ، فالإناء الخمري الثابت بين الإنائين لا يمكن أن يكون محرما ومرخصا فيه للتنافي الواضح بين الحرمة والترخيص.

وفيه : انّه لا مانع من ذلك لأنّ كلا من الترخيص والتحريم اعتبار ، والاعتبار سهل المؤونة فكما يمكن اعتبار الوجود والعدم في وقت واحد كذا يمكن اعتبار الرخصة والحرمة في شيء واحد.

ب - انّ يكون التنافي بينهما بلحاظ المبادئ ، فإنّ الإناء الخمري الثابت بين الإنائين إذا كان محرّما ومرخّصا فيه لزم اجتماع المفسدة والمصلحة فيه - لنشوء الحرمة عن مفسدة والترخيص عن مصلحة - وهو مستحيل.

ص: 230

وفيه : انّ السيد الخوئي ( دام ظلّه ) يختار - كما قرأنا في القسم الأوّل ص 26 من الحلقة الثالثة - قيام مبادئ الحكم الواقعي بالمتعلّق وقيام مبادئ الحكم الظاهري بنفس الجعل ، فمفسدة الحرمة الواقعية ثابتة في شرب الخمر بينما مصلحة الترخيص الظاهري ثابتة في نفس جعل الترخيص والحكم به لا بشرب الخمر فلا يلزم بناء على هذا اجتماع المصلحة والمفسدة في شيء واحد.

ج - أن يكون التنافي بينهما بلحاظ عالم الامتثال. وتصوير التنافي بينهما بلحاظ الامتثال بأحد النحوين التاليين : -

النحو الأوّل : انّ حرمة الإناء الخمري تقتضي في مقام الامتثال حرمة المخالفة القطعية ، وواضح انّ حرمة المخالفة القطعية تتنافى والترخيص الفعلي في ارتكاب كلا الإنائين.

وفيه : انّه اتّضح سابقا انّ اجتماع الترخيصين الفعليين في كلا الإنائين لا يؤدّي إلى حصول المخالفة القطعية خارجا بل ذلك مستحيل (1).

النحو الثاني : انّ حرمة الإناء الخمري تقتضي في مقام الامتثال وجوب الموافقة القطعية بترك كلا الإنائين ، وواضح انّ اجتماع الترخيصين الفعليين في كلا الإنائين وإن لم يلزم منه تحقّق المخالفة القطعية خارجا إلاّ أنّه يلزم منه تجويز ارتكاب أحد الإنائين الذي تفوت معه الموافقة القطعية.

وفيه : انّ العلم الإجمالي بحرمة أحد الإنائين وإن كان مستدعيا لوجوب الموافقة القطعية إلاّ ان استدعائه لذلك بنحو المقتضي لا بنحو العلّة التامّة ، فإنّ

ص: 231


1- هذا النحو الأوّل للتنافي لم يشر له في عبارة الكتاب واشير له في التقرير ج 5 ص 190.

ذلك هو المفروض في بحثنا هذا - فإنّ بحثنا هذا بحث عن إمكان استفادة الترخيص في أحد الطرفين من طريق الأصل العملي بعد الفراغ عن إمكان الترخيص في أحد الطرفين واقعا ، فبعد الفراغ عن إمكان الترخيص ثبوتا نبحث عن مدى إمكان استفادته إثباتا وبلحاظ الأدلة ، وإذا كان جعل الترخيص في أحد الطرفين ممكنا واقعا فلازمه انّ العلم الإجمالي مقتض لوجوب الموافقة وليس علّة تامّة ؛ إذ لازم العلّية التامة عدم إمكان الترخيص واقعا في أحد الطرفين - وما دام استدعائه لذلك بنحو المقتضى فالموافقة القطعية تكون واجبة فيما لو لم يرخّص الشارع في عدمها فإذا فرضنا إمكان استفادة الترخيص في عدمها ببركة أدلّة الاصول العملية فلا تكون واجبة.

والخلاصة : انّه لا تنافي بين الترخيصين الظاهريين المشروطين وبين التحريم الواقعي ؛ إذ التنافي امّا بلحاظ نفس الجعل أو بلحاظ المبادئ أو بلحاظ الامتثال ، وقد اتّضح انّه لا تنافي في جميع هذه المراحل. ولم يبق للسيّد الخوئي إلاّ أن يقول انّي ادّعي التنافي بشكل رابع (1) ، وهو انّ نفس اجتماع الترخيصين الفعليين في ارتكاب المحرم الواقعي قبيح وإن لم تلزم مخالفة عملية قطعية خارجا.

وجوابه : ان هذه دعوى عهدتها على مدعيها ، فانّا لا نرى محذورا في الترخيص الفعلي في ارتكاب المحرم الواقعي ما دام لا يؤدي إلى المخالفة القطعية خارجا.

ص: 232


1- التنافي بهذا الشكل الرابع لم يذكره السيد الشهيد في عبارة الكتاب مع انّ تمام نظر السيد الخوئي إليه فكان من المناسب الإشارة له.

والاستشهاد بمثال المكث في أحد المكانين قياس مع الفارق ، فان الترخيصين الفعليين في مقامنا يستحيل ان يؤديا إلى تحقق المخالفة القطعية خارجا ؛ إذ بمجرد ارتكاب أحد الإنائين يزول الترخيص من الثاني ، وهذا بخلافه في مثال المكث ، فان الترخيص بالمكث في كلا المكانين يمكن ان يؤدي إلى تحقق المخالفة القطعية خارجا.

بل يمكن ان نقول أكثر من هذا : ان الترخيصين الظاهريين في كلا الإنائين وان كانا بحسب اللفظ والصياغة ترخيصين إلاّ انهما بحسب الواقع والروح ترخيص واحد في ارتكاب أحد الإنائين ، ولا مانع عقلا من جعل ترخيصين في كلا الإنائين ما داما يرجعان روحا إلى جعل ترخيص واحد.

ثانيهما

ان اجتماع الترخيصات المشروطة لا يؤدي دائما إلى صيرورة الترخيصات المشروطة فعلية ، بل ذلك يلزم لو كان عدد الأواني اثنين ، وأمّا إذا فرضنا عددها ثلاثة وفرض ان الترخيص المشروط لم يجعل بالصياغة السابقة بل جعل بهذه الصياغة : ارخصك في ارتكاب الإناء الأوّل شريطة ترك أحد الإنائين الآخرين وارتكاب الثالث الآخر.

وبتعبير آخر : أنت مرخص في ارتكاب كل إناء بشرطين : عدم ارتكاب الثاني ، وعدم هجر الجميع. أنّه في هذه الحالة لا يلزم إجتماع الترخيصات الفعلية عند ترك الأواني الثلاثة إذ المفروض اشتراط كل ترخيص بإرتكاب أحد

ص: 233

الأواني وعدم هجر الجميع فاذا هجر الجميع لم يتحقق الترخيص الفعلي (1). الوجه الثاني

والجواب الثاني عن شبهه التخيير المشروط ما أشار له السيد الخوئي أيضا (2) من ان الترخيص المشروط كما يمكن حصوله بالشكل الذي اقترحه الشيخ العراقي - وهو جعل الترخيص في كل طرف مشروطا بترك الآخر - كذلك

ص: 234


1- ههنا نكتتان ترتبطان بالمقام نشير لهما : - ١ _ قد يقال ان لازم هذه الصياغة الجديدة ان المكلّف إذا ترك جميع الأواني الثلاثة فلا يكون مرخصا في ارتكاب أي واحد من الأواني ، فاذا اراد ان يمدّ يده لتناول أحد الأواني فلا يكون مرخصا في ذلك وإنما يكون مرخصا بعد الإرتكاب ، وهو باطل جزما فإنه لا يمكن ثبوت الإباحة لشرب الماء مثلا بعد الشرب لا قبله. ويمكن دفع ذلك بان الترخيص في كل طرف يؤخذ مشروطا بنحو الشرط المتأخر بترك أحد الإنائين الآخرين وفعل الآخر ، فاذا علم المكلّف بأنّه في عمود الزمان سوف يترك الثاني ويفعل الثالث جاز له ارتكاب الأوّل. وهذا وان كان ينفع في حالة علم المكلّف بانه سوف يترك الثاني ويفعل الثالث ولا ينفع في حالة عدم علمه بحالته المستقبلية إلاّ انه لا يشكّل محذورا لا يمكن الالتزام به. ٢ _ ما هي النكتة في إعتبار كون الأواني ثلاثة بدلا من كونها اثنين؟ ذلك لأجل انها لو كانت اثنين فاشتراط الترخيص في الأوّل بعدم هجر الاثنين وترك الثاني يرجع إلى كون الترخيص في الأوّل مشروطا بفعل نفس الأوّل ، فان عدم هجر الجميع المنضم الى ترك الثاني ينحصر مصداقه بفعل الأوّل. ومن الواضح ان جعل الترخيص في شيء مشروطا بفعل نفس ذلك الشيء أمر غير معقول.
2- هذا الجواب غير مذكور لا في الدراسات ولا في مصباح الاصول ، ويتعين حصول السيد الشهيد عليه من السيد الخوئي مشافهة.

يمكن حصوله بشكل ثاني بان يقيد جريان البراءة في كل إناء بكونه قبل ارتكاب الإناء الآخر ، فالإناء الأوّل تجري البراءة فيه شريطة ان يكون ارتكابه قبل ارتكاب الإناء الثاني ، وهكذا الإناء الثاني تجري البراءة فيه شريطة كون إرتكابه قبل ارتكاب الإناء الأوّل ، فالبراءة تجري في كل طرف بشرط ان يكون إرتكابه هو الأوّل والأسبق.

كما ويمكن الحصول على التقييد المشروط بشكل ثالث غير الشكلين السابقين بأن يكون جريان البراءة في كل طرف مشروطا بكون إرتكابه بعد ارتكاب الطرف الآخر ، فالإناء الأوّل تجري البراءة فيه شريطة كون ارتكابه بعد ارتكاب الإناء الثاني ، وهكذا الإناء الثاني تجري فيه البراءة مشروطة بكون ارتكابه بعد ارتكاب الإناء الأوّل ، فالبراءة في كل طرف تجري شريطة كون ارتكابه ثانيا.

وعلى ضوء هذا يكون ارتكاب الإناء الأوّل محرما وارتكاب الإناء الثاني هو السائغ فالمولى لا يرخص لا في ارتكاب الإناء الأوّل ولا في ارتكاب الإناء الثاني ولكنه يقول لو عصيت وارتكبت أحد الإنائين فالإناء الآخر منهما ارخصك في إرتكابه.

وإذا كان الترخيص المشروط يمكن حصوله بأحد هذه الإشكال الثلاثة فلا وجه لتقدم الشكل الأوّل الذي اقترحه الشيخ العراقي على الشكلين الآخرين بل تحصل المعارضة بين إشكال التقييد المذكورة ويتساقط الجميع.

مناقشة الوجه الثاني

ويمكن مناقشة الجواب المذكور بان اطلاق الدليل لا يصح تقييده بحالة

ص: 235

معينة إلاّ إذا فرض ان تلك الحالة ليس لها معارض ، اما إذا فرض ان لها معارضا - يمكن لو لا محذور المعارضة ان يشمله اطلاق الدليل - فلا يصح التقييد بها.

وفي مقامنا نقول ان تقييد دليل البراءة في كل طرف بحالة عدم ارتكاب الثاني تقييد ليس له معارض إذ المعارض ليس إلاّ جريان البراءة في كل طرف حتى في حالة ارتكاب الثاني ، وهذه الحالة لا يمكن ان يشملها اطلاق الدليل حتى لو قطع النظر عن المعارضة ، إذ البراءة في كل طرف حالة ارتكاب الطرف الآخر يعني الترخيص في المخالفة القطعية فان ارتكاب الأوّل بعد فرض ارتكاب الثاني موجب للقطع بإرتكاب المحرم ، وهذا بخلاف السبق واللحوق فان اطلاق دليل البراءة كما هو صالح لشمول السابق كذلك هو صالح لشمول اللاحق فهو صالح لشمول كل منهما في نفسه ، ومعه فيكون التقييد بأحدهما بالخصوص بلا وجه بعد ان كان اطلاق الدليل صالحا لشمول كل منهما فان التقييد كما قلنا لا يصح إلاّ بالحالة التي ليس لها معارض يمكن ان يشمله اطلاق الدليل.

وان شئت قلت : ان السيد الخوئي ذكر ان التقييد له أنحاء ثلاثة ولا مرجح لبعضها على الآخر فتتساقط جميعا ، ونحن نقول ان التقييد المقترح من الشيخ العراقي له مرجح حيث انه تقييد لدليل البراءة بحالة ليس لها معارض يمكن ان يشمله اطلاقه - دليل البراءة - بخلاف التقييد بشكليه الآخرين فانه تقييد بحالة لها معارض (1).

ص: 236


1- لا يخفى ان المعارضة يمكن بيانها بشكلين : - أ _ ان تقييد الإباحة في الأوّل الإناء مثلا بما إذا كان أسبق معارض بالاباحة الجارية في الإناء الأوّل نفسه فيما إذا كان متأخرا حيث ان اطلاق « كل شيء لك حلال » كما يشمل الإناء الأوّل حالة سبقه يشمله أيضا حالة تأخره. وهكذا يقال بالنسبة إلى الإناء الثاني. ب _ ان تقييد الإباحة في الإناء الأوّل بما إذا كان اسبق معارض بالاباحة الجارية في الإناء الثاني بعد ارتكاب الإناء الأوّل حيث ان اطلاق « كل شيء لك حلال » كما يشمل الإناء الأوّل حالة سبقه كذلك يشمل الإناء الثاني ويدل على اباحته بعد ارتكاب الأوّل. وعبارة الكتاب ظاهرة في إرادة البيان الثاني. ولعل الأوّل هو الأوجه.

الوجه الثالث والجواب الثالث عن شبهة الترخيص المشروط ما أفاده السيد الخوئي أيضا (1). وحاصله : ان دليل الأصل له اطلاقان : اطلاق افرادي واطلاق احوالي ، فحديث « كل شيء لك حلال » يشمل باطلاقه الافرادي الإناء الأوّل والإناء الثاني معا ، وباطلاقه الاحوالي يدل على ان الاناء الأوّل حلال سواء ترك المكلّف الإناء الثاني أم ارتكبه ، وهكذا الإناء الثاني حلال سواء ترك المكلّف الإناء الأوّل أم ارتكبه.

والشيخ العراقي حافظ على الاطلاق الافرادي - ومن هنا جعل دليل الأصل شاملا لكل واحد من الأطراف - وقيّد الاطلاق الاحوالي ، حيث جعل الأصل شاملا لكل طرف ودالا على الترخيص فيه مشروطا بترك الطرف الآخر.

والحفاظ على الاطلاق الافرادي في كل طرف وتقييد الاطلاق الاحوالي ليس باولى من إخراج أحد الطرفين من الإطلاق الإفرادي والاحوالي معا مع بقاء الطرف الآخر مشمولا لهما ، ولازم ذلك ثبوت الترخيص في أحد الإنائين

ص: 237


1- - في الإناء الأوّل نفسه فيما إذا كان متأخرا حيث ان اطلاق « كل شيء لك حلال » كما يشمل الإناء الأوّل حالة سبقه يشمله أيضا حالة تأخره. وهكذا يقال بالنسبة إلى الإناء الثاني.

سواء ارتكب الطرف الآخر أم لا ، بخلاف الطرف الآخر فلا يكون الترخيص ثابتا فيه حتى عند عدم ارتكاب صاحبه.

مناقشة الجواب الثالث

وفيه ما تقدم في مناقشة الجواب الثاني فنفس ما أوردناه هناك نورده هنا ونقول ان صيغة التقييد التي اقترحها الشيخ العراقي أولى إذ لا يلزم بناء عليها حصول معارضه ، حيث ان الاطلاق الافرادي يكون شاملا للطرفين والاطلاق الاحوالي ساقط عنهما جزما ، وهذا بخلافه على هذه الصيغة الجديدة فان إخراج هذا الطرف من الاطلاق الافرادي والاحوالي معا ليس باولى من إخراج ذلك الطرف الآخر منهما.

الوجه الرابع

والجواب الرابع عن شبهة الترخيص المشروط ما أفاده السيد الخوئي أيضا (1). وحاصله : ان كل واحد من الترخيصين المشروطين حكم ظاهري ، والحكم الظاهري لا يمكن جعله وتشريعه إلاّ إذا كان من المحتمل مطابقته للحكم الواقعي. ونحن لو لاحظنا الترخيص المشروط لوجدنا ان مطابقته للواقع غير محتملة إذ لو كان المحرم هو الإناء الأوّل فحرمته حرمة مطلقة - أي سواء ارتكب الإناء الثاني أم لا - ولو كان مباحا فاباحته إباحة مطلقة أيضا. وهكذا الحال في

ص: 238


1- كما في مصباح الاصول ج 2 ص 355 ولم يذكر فيه غير هذا الجواب.

الإناء الثاني.

فالترخيص المشروط إذن لا يحتمل مطابقته للواقع لا في هذا الإناء ولا في ذاك فلا يكون تشريعه معقولا.

مناقشة الجواب الرابع

وفيه : ان اللازم في الحكم الظاهري تواجد ركنين : -

أحدهما : الشكّ في الحكم الواقعي وعدم معلوميته ، إذ الغرض من جعل الحكم الظاهري هو التحفظ على الحكم الواقعي فاذا كان الحكم الواقعي معلوما فلا معنى للتحفظ عليه.

وتوفر هذا الركن واضح.

ثانيهما : كونه صالحا لتنجيز الحكم الواقعي أو التعذير عنه ولو ببعض المراتب. وهذا الركن متوفر أيضا ، فان الملاك اللزومي التحريمي لو كان ثابتا في الطرف المتروك كان الاجتناب عنه منجزا ، ولو كان ثابتا في الطرف المرتكب كان المكلّف معذورا.

هذا ما يعتبر توفره في الحكم الظاهري. وأكثر من ذلك - بان يكون محتمل المطابقة للحكم الواقعي - فغير لازم لعدم الدليل عليه (1).

ص: 239


1- لا يقال : ان جعل الحكم الظاهري مع العلم بمخالفته للواقع لغو وغير معقول. فانه يقال : ان اللغوية مسلمة لو لم يكن الحكم الظاهري قابلا لتنجيز الحكم الواقعي والتعذير عنه ولو ببعض المراتب وإلاّ كان معقولا.
الوجه الخامس

وتبنى السيد الشهيد قدس سره وجها آخر يرتكز على مبناه في تفسير حقيقة الحكم الظاهري ، فإنه يفسر الحكم الظاهري بالحكم الناشيء من تقديم الملاك الأهم.

وتوضيح الجواب المذكور الذي يرتكز على المبنى السابق يتم ضمن النقاط التالية : -

أ - ان الترخيص المشروط في كل طرف حكم ظاهري ، وما دام حكما ظاهريا فهو وليد عدم اهتمام المولى بالملاك اللزومي.

ب - ان الملاك الأهم لا يخلو واقعا من أحد اشكال ثلاثة. فاما ان يكون الأهم هو ملاك الحرام ، ولازم ذلك جعل الاحتياط وعدم الترخيص لا في هذا الإناء ولا في ذاك.

أو يكون الأهم هو ملاك المباح فيلزم جعل الترخيص في كلا الإنائين.

أو تكون الأهمية بلحاظ حرمة المخالفة القطعية دون وجوب الموافقة القطعية ، ولازم ذلك الترخيص في أحد الإنائين دون الآخر. ولا يوجد شكل رابع.

وبهذا نعرف ان الاحتمالات المتصورة في أهمية الملاك واقعا لا يتناسب شيء منها والترخيص المشروط ويرفض كل واحد منها الترخيص المشروط ، فان لازم الترخيص المشروط ان يكون عدم الاهتمام في كل طرف منوطا بترك الطرف الآخر وبالتالي يلزم عند ترك كلا الطرفين ان لا اهتمام راسا ، وذلك مما لا يتلائم مع الإشكال المحتملة في أهمية الملاك.

ص: 240

ج - ان مفاد حديث « كل شيء لك حلال » حلية كل واحد من الطرفين حلية مطلقة ثابتة حتى على تقدير ارتكاب الطرف الآخر. ومع التنزل وثلم الاطلاق تحصل حلية مشروطة ، والحلية المشروطة - على ما عرفنا - لا تتلائم مع أهمية الملاك بجميع اشكالها المحتملة واقعا إلاّ على تقدير ارجاع الحليتين المشروطتين الى الترخيص في الجامع ، ولكن ذلك لا يستفاد من دليل البراءة فان المستفاد منه الحلية المطلقة أو الحلية المشروطة دون حلية الجامع - إذ هو لا يقول أحد الإنائين حلال بل يقول كل شيء حلال ، أي كل إناء حلال بحلية مطلقة ، ومع التقييد يدل على حلية كل إناء حلية مشروطة - فما يمكن ان يستفاد منه لا يتلائم مع أهمية الملاك ، وما يتلائم وأهمية الملاك لا يستفاد منه (1).

قوله ص 89 س 3 : الاصول الشرعية المؤمنة : كأصالة البراءة وأصالة الطهارة. وإنما سميت بالمؤمنة لأنها تنفي وجوب الإجتناب وتؤمن منه.

والتقييد بالمؤمنة من جهة ان الاصول المنجزة - كاستصحاب النجاسة - قد تقدم إمكان جريانها في جميع الأطراف - خلافا للشيخ الأعظم - فضلا عن بعضها.

قوله ص 89 س 4 : في بعض الأطراف : بعد الفراغ عن عدم إمكان

ص: 241


1- لا يقال : انكم إذا قبلتم امكان استفادة الترخيص المشروط من الدليل الدال على الترخيص المطلق فاقبلوا إمكان استفادة الترخيص في الجامع أيضا لعدم الفرق. فإنه يقال : ان هذا قياس مع الفارق فان الترخيص المشروط يمكن استفادته من الدليل المطلق باعتبار انه يدور الأمر بين رفع اليد عن دليل البراءة راسا وبين رفع اليد عن إطلاقه مع الحفاظ على أصله ، ولا إشكال في ان الثاني هو الأرجح لقاعدة الضرورة تقدر بقدرها ، وهذا بخلاف الترخيص في الجامع فانه لا يمكن تطبيق البيان المذكور فيه. ثمّ ان عبارة الكتاب في هذا الموضع وما قبله لا تخلو من غموض وإبهام بيّن.

جريانها في جميع الأطراف للمحذور العقلي أو العقلائي.

قوله ص 89 س 7 : ثبوتا : أي واقعا بقطع النظر عن منأدلة الاصول وإلاّ فبلحاظها فالبحث اثباتي. وسيأتي ان الاصول متعارضة في الأطراف أحيانا وغير متعارضة أحيانا اخرى.

قوله ص 90 س 3 : في ذلك : أي في إمكان جريان الأصل المؤمن فى بعض الأطراف وعدمه.

قوله ص 90 س 7 : فان فعليته : أي فعلية استدعاء المقتضي لما يقتضيه.

قوله ص 92 س 10 : في مقام الحفظ : متعلق بقوله « لتقديم » ، فان ملاك الإباحة يريد التحفظ على نفسه وذلك بجعل الإباحة في كلا الطرفين وملاك الحرمة يريد التحفظ على نفسه أيضا وذلك بجعل الاحتياط في كلا الطرفين.

قوله ص 92 س 12 : فلا معنى للقول بان أحد اللسانين ممتنع دون الآخر : أي فلا معنى للتسليم بإمكان لسان قاعدة الفراغ وعدصم إمكان لسان أصالة البراءة بل إذا امكن الأوّل أمكن الثاني أيضا.

قوله ص 93 س 6 : على نحو واحد : أي ليس شموله لبعض الأطراف أولى من شموله للبعض الآخر.

قوله ص 94 س 6 : عل : الصواب : على.

قوله ص 94 س 8 : وان كان لا يؤدي إلى الترخيص : لا يخفى ما في العبارة من الاغلاق والغموض. والمناسب : وان كان لا يؤدي إلى تحقق المخالفة القطعية خارجا ولكنه يؤدي إلى الترخيص فيها.

قوله ص 95 س 10 : فقد يجري الأصل في كل طرف مقيدا بترك الآخر :

ص: 242

هذا إشارة إلى صيغة الشيخ العراقي.

قوله ص 95 س 11 : قبل الآخر : أي قبل ارتكاب الآخر.

قوله ص 95 س 13 : ان التقييد إنّما يراد لإلغاء : لعل العبارة الاوضح : ان التقييد لا يصح بلحاظ الحالة التي لها حالة معارضة في دليل الأصل وإنّما يصح بلحاظ الحالة التي لا معارض الخ.

قوله ص 95 س 15 : كذلك : أي من حالات الطرف الآخر.

قوله ص 96 س 8 : الدفع الأوّل : وهو رفع اليد عن الاطلاقين الاحواليين. والمراد من « الدفع الثاني » : رفع اليد عن الاطلاق الإفرادي والاحوالي في أحد الطرفين خاصة.

قوله ص 97 س 2 : ومدلوله التصديقي : عطف تفسير.

قوله ص 97 س 4 : كذلك : أي بعدم ارتكاب الآخر.

قوله ص 97 س 7 : مرتبة ناقصة : أي متوسطة فإنها ناقصة عن المرتبة العالية.

قوله ص 97 س 8 : تقتضي التحفظ الإحتمالي : والتحفظ الإحتمالي يحصل بالترخيص في الجامع فانّ من ترك طرفا وأتى بطرف يحتمل تحقق الملاك اللزومي ضمن الطرف الذي أتى به.

قوله ص 97 س 9 : واستفادة ذلك : أي المرتبة الناقصة من الإهتمام التي تقتضي التحفظ الإحتمالي.

قوله ص 97 س 10 : بإطلاق دليل الأصل : بعد تعذر العمل بالاطلاقين وإفتراض ان الضرورة تقدر بقدرها.

ص: 243

ص: 244

الثمرة بين مسلك العلية والاقتضاء

قوله ص 97 س 13 : وفي ضوء ما تقدم إلخ : إتضح من خلال ما سبق انّ شبهه الترخيص المشروط التي اقترحها الشيخ العراقي باطلة للوجه الخامس من الوجوه الخمسة المتقدمة.

وقد يقول قائل : لو قبلنا شبهة الترخيص المشروط أمكن تحقق الثمرة العملية بين مسلك العلية ومسلك الاقتضاء ، إذ على مسلك الاقتضاء الذي يتبناه الميرزا في فوائد الاصول يكون إجراء الاصول في جميع أطراف العلم الإجمالي بشكل مشروط أمرا ممكنا ، ونتيجته عدم وجوب الموافقة القطعية بينما على مسلك العلية لا يمكن اجراء الاصول ولو بشكل مشروط ونتيجته وجوب الموافقة القطعية بترك كلا الطرفين ، وكفى بهذا المقدار ثمرة بين المسلكين.

وأمّا إذا لم نقبل فكرة الترخيص المشروط - كما هو المفروض - فلا تبقى ثمرة عملية بين المسلكين.

والميرزا حيث لم يقبل الفكرة المذكورة انكر تحقق الثمرة العملية بين المسلكين وذكر انه على كلا المسلكين تجب الموافقة القطعية ولا يوجد فارق عملي يترتب عليهما.

هذا ولكن الشيخ العراقي ذكر ان هناك حالة يمكن جريان الأصل فيها في أحد الطرفين بلا معارض وتتحقق الثمرة العملية فيها بين المسلكين. وتلك هي

ص: 245

الحالة الاولى من الحالات الثلاث التي سنذكرها بعد قليل. والسيد الشهيد يضيف حالتين أخريين ويقول بان الثمرة بين المسلكين يمكن تحققها في بعض الحالات الثلاث التالية (1) التي يجمعها جريان الأصل في أحد الطرفين بلا معارض ، فإنه في هذه الحالات الثلاث إذا أخذنا مسلك العلية بعين الإعتبار فلا يمكن جريان الأصل في أحد الطرفين حتى وان لم يكن له معارض ، ونتيجة ذلك وجوب الموافقة القطعية بينما إذا اخذنا مسلك الاقتضاء بعين الاعتبار فلا تجب الموافقة القطعية بل يجوز ارتكاب الطرف الذي يجري فيه الأصل بلا معارض.

ص: 246


1- عبّرنا ببعض الحالات الثلاث دون جميعها لما ستأتي من عدم تمامية الحالة الاولى التي ذكرها الشيخ العراقي.

جريان الأصل في بعض الأطراف بلا معارض

اشارة

والحالات الثلاث هي كما يلي : -

الحالة الاولى

وهي الحالة التي ذكرها الشيخ العراقي. وحاصلها : إنّه لو فرضنا وجود إنائين : رقم (1) ورقم (2) ، وعلمنا بوقوع نجاسة في أحدهما وفرضنا ان اناء رقم (2) كنا نعلم بطهارته سابقا بينما إناء رقم (1) كنا نجهل حالته السابقة.

في مثل هذه الحالة تحصل لدينا ثلاثة اصول : أصل الطهارة في إناء رقم (1) وأصل الطهارة في إناء رقم (2) واستصحاب الطهارة في إناء رقم (2) ، وتثبت المعارضة بين أصلين من هذه الاصول ، وهما أصل الطهارة في رقم (1) واستصحاب الطهارة في رقم (2) ، فان أصل الطهارة في رقم (1) يقول ان إناء رقم (1) طاهر واستصحاب الطهارة في رقم (2) يقول ان إناء رقم (2) طاهر ، وحيث إنّه لا يمكن جريانهما معا للعلم بطرو النجاسة على أحد الإنائين فيحصل التعارض بينهما ويتساقطان. وبعد تساقطهما يبقى أصل الطهارة في إناء رقم (2) بلا معارض فنرجع إليه ونثبت ببركته طهارة إناء رقم (2).

وهنا تظهر الثمرة بين المسلكين إذ بناء على مسلك الاقتضاء يجري أصل الطهارة المذكور ويثبت بذلك طهارة إناء رقم (2) ، فان منجزية العلم الإجمالي

ص: 247

بناء على المسلك المذكور تتوقف على عدم ثبوت الترخيص في بعض الأطراف فاذا فرضنا ان الأصل يجري في بعض الأطراف بلا معارض لم يكن العلم الإجمالي منجزا بينما على مسلك العلية حيث يستحيل الترخيص في بعض الأطراف فأصل الطهارة المذكور لا يجري وان لم يكن له معارض ، وإذا لم يمكن جريانه فلا يمكن الحكم بطهارة إناء رقم (2).

وقد تسأل : لماذا افترض حصول المعارضة بين أصل الطهارة في رقم (1) واستصحاب الطهارة في رقم (2) ولم نفترض دخول أصل الطهارة رقم (2) في مجال المعارضة ليسقط بالمعارضة كما سقط صاحباه؟

والجواب : ان إناء رقم (2) يوجد فيه أصلان : استصحاب الطهارة وأصل الطهارة ، وواضح ان استصحاب الطهارة أصل حاكم على أصل الطهارة بمعنى أنه لو جرى استصحاب الطهارة تثبت طهارة إناء رقم (2) ويزول الشكّ في طهارته وبالتالي فلا يمكن جريان أصل الطهارة فيه لأنّ موضوع أصل الطهارة الشكّ (1) فاذا زال الشكّ لم يجر ، ومن هنا قيل ان أصل الطهارة هو في طول عدم جريان استصحاب الطهارة (2) بمعنى ان جريان أصل الطهارة يتوقف على عدم جريان استصحاب الطهارة ، إذ بجريانه يزول الشكّ الذي هو موضوع أصل الطهارة.

ص: 248


1- وزوال الشكّ حيث أنه ليس حقيقيا بل تعبديا سمي استصحاب الطهارة بالاصل الحاكم ، أي الرافع لموضوع الأصل الآخر رفعا تعبديا في مقابل الأصل الوارد الذي يرفع موضوع الأصل الآخر رفعا حقيقيا.
2- وقد يعبر عنهما بالاصلين الطوليين ، أي ان أحدهما وهو أصل الطهارة في طول عدم استصحاب الطهارة.

وبإتضاح هذه الطولية يتضح ان أصل الطهارة رقم (2) لا يمكن ان يدخل في مجال المعارضة مع صاحبيه فلا يمكن ان يقف إلى جانب صاحبه - وهو استصحاب الطهارة - في مقابل أصل الطهارة رقم (1) ، إذ استصحاب الطهارة ما دام حيا ولم يمت بالمعارضة مع أصل الطهارة رقم (1) فلا وجود لأصل الطهارة رقم (2) ليقف إلى جانب استصحاب الطهارة ويموت بالمعارضة مع أصل الطهارة رقم (1) بل لا بدّ وان يموت استصحاب الطهارة أوّلا بسبب المعارضة مع أصل الطهارة رقم (1) وبعد ذلك تتولد الحياة في أصل الطهارة رقم (2).

وقد سجل الشيخ العراقي هذه الحالة نقضا على مسلك الاقتضاء الذي اختاره الميرزا وقال إنّه بناء على المسلك المذكور يلزم الحكم بطهارة إناء رقم (2) في الحالة المذكورة لجريان أصل الطهارة فيه بلا معارض والحال ان الحس المتشرعي يأبى عن الحكم بجواز ارتكاب أحد طرفي العلم الإجمالي ، فالصناعة الاصولية وان لم تأب عن جواز ارتكاب إناء رقم (2) والحكم بطهارته طبقا لأصالة الطهارة الجارية فيه بلا معارض ولكن الحس المذكور يأبى عن ذلك.

وهذا ان دلّ على شيء فإنما يدل على بطلان مسلك الاقتضاء الذي لازمه إمكان الترخيص في بعض الأطراف (1) وبالتالي عدم وجوب الموافقة القطعية.

ص: 249


1- وهناك محاولات للتخلص من النقض المذكور لم يشر في الكتاب إلى شيء منها. وفي تعبير السيد الشهيد بكلمة « قد » حيث قال فقد يقال ... إشارة إلى تضعيف نقض الشيخ العراقي. والظاهر ان تمامية هذه الحالة لا تتوقف على افتراض الحكومة إذ استصحاب الطهارة ان لم يكن حاكما على أصالة الطهاره وقعت المعارضة بين أصلي الطهارة وابتلى بالإجمال في داخله ولم يدخل الاستصحاب في مجال المعارضة لأنّ أصلي الطهارة ما داما من سنخ واحد فدليل قاعدة الطهارة يكون قاصرا عن إثبات قاعدة الطهارة ويجري الاستصحاب بلا معارض. أجل بناء على الحكومة يكون الأصل الجاري بلا معارض هو قاعدة الطهارة في الإناء الثاني بينما بناء على عدم الحكومة يكون ذلك الأصل هو استصحاب الطهارة.

هذا على مسلك الاقتضاء. وأما على مسلك العلية فلا يجري الأصل المذكور وان لم يكن له معارض وبالتالي تجب الموافقة القطعية. وبهذا تظهر الثمرة بين المسلكين.

الحالة الثانية

وقبل توضيح الحالة الثانية نشير إلى مقدمة وهي ان الشكّ في نجاسة الشيء له شكلان ، فتارة يشك في نجاسته الذاتية واخرى يشك في نجاسته العرضية ، فنجاسة الماء الذي يشك في تنجسه بالبول نجاسة عرضية ، إذ الماء في نفسه طاهر وإنّما يشك في عروض النجاسة عليه بسبب البول ، وهذا بخلاف الشكّ في نجاسة الخمر فإنه ليس شكا في عروض نجاسة من الخارج عليه وإنّما يحتمل نجاسته في نفسه.

وبعض الفقهاء يرى انّ قاعدة الطهارة يختص جريانها بالموارد التي يشكّ في نجاستها العرضية ولا تشمل حالة الشك في النجاسة الذاتية ، فهي تجري لإثبات طهارة الماء الذي يشك في تنجسه بالبول مثلا ولا تجري لإثبات طهارة مثل الخمر (1).

ص: 250


1- بتقريب ان مدرك أصالة الطهارة اما موثقة عمار الساباطي التي تقول : « كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر » أو هو الروايات الخاصة الواردة في المجالات الخاصة من قبيل قول أمير المؤمنين عليه السلام : « لا أبالي أبول اصابني أو ماء ». وكلاهما لا يمكن التمسك به لاثبات الطهارة عند الشكّ في النجاسة الذاتية. أما الأوّل فلإحتمال ان « قذر » فعل ماض أي قذر أو بتعبير آخر حتى تعلم أنه تقذر ، وبناء عليه تكون الرواية خاصة بموارد الشك في التقذر الطارئ. وأمّا الثاني فلأن الروايات الخاصة واردة في موارد النجاسة الطارئة فان الشكّ في أصابة البول أو الماء للبدن شكّ في تنجس طارئ.

وباتضاح هذه المقدمة نقول في توضيح الحالة المذكورة : لو فرض لدينا سائلان نعلم اجمالا أما الأوّل منهما خل تحول إلى الخمر والثاني منهما ماء طاهر أو ان الثاني منهما ماء تنجس بالبول والأوّل منهما خل لم يتحول إلى خمر فأحدهما نجس حتما والآخر طاهر حتما ولكن النجس منهما ان كان هو الأوّل واقعا فنجاسته ذاتية (1) ، وان كان هو الثاني فنجاسته عرضية.

وفي مثل ذلك يجري في الإناء الأوّل استصحاب الطهارة - حيث إنّه كان خلا سابقا ويشك في تبدله إلى الخمرية - دون أصالة الطهارة لأنّ الشكّ ليس في طرو نجاسة عليه من الخارج بينما في الإناء الثاني يجري استصحاب الطهارة وأصالة الطهارة.

وإذا تجلت فرضيات المثال المذكور نقول : ان الاستصحاب لا يمكن جريانه في كلا الإنائين - للزوم الترخيص في المخالفة القطعية - ولا في أحدهما لكونه ترجيحا بلا مرجح. ومع عدم جريان الاستصحاب يجري أصل الطهارة في الإناء الثاني بلا معارض ، إذ المعارض أمّا استصحاب الطهارة في الإناء الأوّل ، والمفروض سقوطه بالمعارضة ، أو أصالة الطهارة في الإناء الأوّل ، والمفروض

ص: 251


1- لأن الخمر نجس في ذاته وليس بسبب طارئ.

قصوره في نفسه عن الجريان.

وينبغي ان يكون واضحا ان هذه الثمرة تتم حتى لو لم نقل بحكومة استصحاب الطهارة على أصل الطهارة - بخلافه في الثمرة الاولى فإنها لا تتم إلاّ بناء على الحكومة - والوجه في ذلك : ان الأصلين - وهما الاستصحابان - في هذه الحالة هما من سنخ واحد فيكون دليل الاستصحاب مبتلى بالإجمال في حدّ نفسه فيجري أصل الطهارة بلا حاجة إلى فرض الحكومة بخلافه في الحالة الاولى فإن أصل الطهارة والاستصحاب ليسا من سنخ واحد (1).

الحالة الثالثة

وفي هذه الحالة نفترض وجود انائين رقم (1) ورقم (2) نعلم إجمالا بطرو النجاسة على أحدهما ، ونفترض أيضا ان الحالة السابقة لكل منهما معلومة وهي

ص: 252


1- قد يقال : ذكر في هذه الحالة عدم الحاجة إلى افتراض الحكومة إذ الاستصحاب في هذا الإناء مع الاستصحاب في ذاك الإناء حيث انهما من سنخ واحد فدليل الاستصحاب يصبح مجملا لا يمكنه ان يشملها معا ، ومع إجماله يجري أصل الطهارة في الطرف الثاني دون معارض ، من دون فرق بين البناء على الحكومة وعدمه. هكذا ذكر. وقد يقال : ان نفس هذا يمكن تسريته إلى الحالة الاولى أيضا فيقال إنّه لا حاجة الى افتراض الحكومة فيها ، إذ أصل الطهارة في ذاك الإناء مع أصل الطهارة في هذا الإناء هما من سنخ واحد ، وبسبب وحدة السنخ يصبح دليل أصل الطهارة مجملا فيتمسك بالاستصحاب الجاري في أحد الطرفين دون مانع بلا حاجة إلى افتراض الحكومة. والجواب : ان هذا كلام وجيه ، ولكن حيث ان الحالة الاولى ذكرها الشيخ العراقي وقد بناها هو قدس سره على الحكومة لذا بناها السيد الشهيد أيضا على الحكومة ، وإذا لم يبنها على الحكومة صارت عين الحالة الثانية.

الطهارة ، أي انّ كلا منهما يجري فيه استصحاب الطهارة ، ونفترض فرضية ثالثة وهي ان إناء رقم (2) كان سابقا طاهرا ونجسا بحيث طرأت عليه حالتان : الطهارة والنجاسة ولا نعلم الحالة المتقدمة منهما على الاخرى.

في مثل ذلك يجري استصحاب الطهارة في إناء رقم (1) بلا ان يعارضه استصحاب آخر في إناء رقم (2) إذ استصحاب الطهارة في إناء رقم (2) مبتلى في نفسه بالمعارض وهو استصحاب النجاسة حيث ان المفروض ثبوت الطهارة والنجاسة في الإناء المذكور ، فكما يجري استصحاب الطهارة فيه يجري استصحاب النجاسة أيضا فيتعارضان ويسقطان (1) ويبقى استصحاب الطهارة في إناء رقم (1) جاريا بلا معارض.

وفي مثل هذه الحالة تظهر الثمرة بين مسلك العلية ومسلك الاقتضاء ، فعلى مسلك العلية لا يجري الاستصحاب المذكور وان لم يكن له معارض بينما على مسلك الاقتضاء يجري.

هذا بناء على ان استصحاب الطهارة في إناء رقم (2) لا يجري لمعارضة استصحاب النجاسة له فيجري استصحاب الطهارة في إناء رقم (1) بلا معارض. ولكن هناك رأي يقول ان استصحاب الطهارة في إناء رقم (2) ليس معارضا لاستصحاب النجاسة فقط بل يقف معارضا لاستصحاب الطهارة في إناء رقم (1)

ص: 253


1- التعبير بجريان استصحاب النجاسة والطهارة وتساقطهما فيه شيء من المسامحة إذ لا معنى لأن يعبدنا الشارع بجريان الاستصحابين المتعارضين ثم الحكم بتساقطهما. والتعبير الصحيح بلا مسامحة : ان دليل الاستصحاب قاصر عن شمول الاستصحابين لتعارضهما فلا يجر لان أصلا.

أيضا ، ومعه فيسقط الجميع بالمعارضة ولا يبقى لدينا أصل يجري بلا معارض. وبناء على هذا لا تظهر ثمرة عملية بين المسلكين وإنّما تظهر على الرأي الأوّل فقط.

وتحقيق ما هو الصحيح من هذين الرأيين يترك لبحث الخارج.

خلاصة ما تقدّم

والخلاصة من كل ما تقدم ان العلم الإجمالي : -

1 - يستدعي حرمة المخالفة القطعية - بمعنى حرمة ارتكاب كلا الإنائين معا - من دون فرق بين رأي المشهور القائل بقبح العقاب بلا بيان ورأي السيد الشهيد القائل بمنجزية الإحتمال.

2 - ويستدعي أيضا وجوب الموافقة القطعية ، بمعنى أنه يجب ترك كلا الإنائين ولا يجوز ارتكاب حتى الواحد منهما ، وذلك من جهة ان إحتمال الحرمة الثابت في كل إناء ينجز وجوب تركه فان إحتمال التكليف منجز على مسلك حق الطاعة.

أجل الإحتمال منجز في نظر العقل بشرط عدم ترخيص الشارع في ارتكاب كلا الإنائين وإلاّ لم يكن منجزا ، فان حكم العقل بمنجزية الإحتمال معلق على عدم ترخيص الشارع في مخالفة الإحتمال ، ومن هنا لم يكن الإحتمال منجزا إلاّ إذا تعارضت الاصول في الطرفين فإنّه بعد المعارضة والتساقط لا يبقى ترخيص في أحد الطرفين فيكون الإحتمال منجزا.

وبهذا نعرف ان توقف المنجزية على تعارض الاصول في الأطراف لا يختص

ص: 254

برأي الميرزا بل على رأي السيد الشهيد أيضا كي يصير الإحتمال منجزا.

أجل بناء على رأي الشيخ العراقي القائل بمسلك العلية لا يحتاج إلى افتراض تعارض الاصول.

لا يقال : بعد افتراض تعارض الاصول لماذا تنسب المنجزية إلى العلم الإجمالي بل المناسب على رأي السيد الشهيد نسبتها إلى الإحتمال بان يقال الإحتمال منجز ولا يقال العلم الإجمالي منجز؟

والجواب : ان العلم الإجمالي حيث انّه السبب لتعارض الاصول في الأطراف وتساقطها - إذ لولاه لم تتعارض الاصول وتتساقط - الموجب ذلك لصيرورة الإحتمال منجزا صح نسبة المنجزية إلى العلم الإجمالي.

العلم الإجمالي بأحد نوعي التكليف منجز

العلم الإجمالي تارة يتعلق بنوع واحد للتكليف واخرى يتعلق بثبوت أحد نوعين للتكليف.

مثال الأوّل : العلم الإجمالي بالحرمة الثابتة أمّا في هذا الإناء أو في ذاك ، فان الحرمة نوع واحد للتكليف.

ومثال الثاني : إذا علم المكلّف بأنّه نذر امّا ترك التدخين أو فعل قراءة القرآن ، فان التردد في النذر المذكور يوجب العلم اجمالا أما بحرمة التدخين أو وجوب القراءة.

والعلم الإجمالي منجز حتى في الحالة الثانية لأنّ أصالة البراءة عن حرمة التدخين ما دامت معارضة لأصالة البراءة عن وجوب القراءة يصير الإحتمال في

ص: 255

كلا الطرفين منجزا.

العلم الإجمالي بموضوع التكليف

العلم الإجمالي تارة يتعلق بالتكليف كالعلم بثبوت الوجوب اما للظهر أو للجمعة. ومثل هذا العلم لا إشكال في كونه منجزا.

واخرى يتعلق بموضوع التكليف كالعلم الإجمالي بنجاسة اما هذا الماء أو ذاك الماء - فان النجاسة ليست حكما تكليفيا وإنّما هي موضوع لحرمة الشرب التي هي حكم تكليفي - ومثل هذا العلم الإجمالي منجز أيضا ، إذ العلم بثبوت النجاسة في أحد الإنائين يستلزم العلم بثبوت حرمة الشرب لأحد الإنائين.

ومن هنا فلا فرق في منجزية العلم الإجمالي بين كونه متعلقا بنفس التكليف أو بالموضوع.

يلزم العلم بكامل الموضوع

والموضوع الذي يتعلق به العلم تارة يكون موضوعا كاملا للتكليف كالعلم بثبوت النجاسة لأحد المائين ، فان نجاسة الماء موضوع كامل لحرمة الشرب.

واخرى يكون جزء موضوع التكليف كالعلم الإجمالي بنجاسة أمّا هذه الحديدة أو تلك الحديدة ، فان نجاسة الحديدة ليست موضوعا كاملا لتكليف ، فلا يحرم حمل الحديدة النجسة ولا يحرم حفظها ولا ... أجل لو لاقت الحديدة الماء ثبتت حرمة شربه ، ولكن هذه الحرمة ليس موضوعها نجاسة الحديدة فقط

ص: 256

بل نجاسة الحديدة مع ملاقاتها للماء ، فنجاسة الحديدة جزء موضوع الحكم بحرمة الشرب وليست تمام الموضوع له.

وبإتضاح هذا نقول إنّ العلم الإجمالي بالموضوع إنّما يكون منجزا فيمّا لو كان الموضوع موضوعا كاملا دون ما إذا كان جزء الموضوع ، إذ العلم بتحقق الموضوع الكامل يستلزم العلم بثبوت التكليف دون العلم بجزء الموضوع فإنّه لا يستلزم ذلك (1).

كما وينبغي الالتفات إلى ان الموضوع الكامل يلزم ان يكون موضوعا كاملا على كلا التقديرين لا على أحد تقديرين دون آخر.

مثال الموضوع على كلا التقديرين : العلم بنجاسة أمّا هذا الماء أو ذاك الماء ، فإنّ النجاسة على تقدير ثبوتها لهذا الماء فهي موضوع كامل لحرمة شربه وعلى تقدير ثبوتها لذاك الماء فهي موضوع كامل لحرمة شربه أيضا.

ومثال الموضوع على أحد تقديرين : العلم الإجمالي بنجاسة أمّا هذا الماء أو تلك الحديدة ، فإنّ النجاسة على تقدير ثبوتها للماء هي موضوع كامل لحرمة شربه وعلى تقدير ثبوتها للحديدة هي جزء الموضوع.

والعلم الإجمالي بالموضوع إذا لم يكن علما إجماليا بالموضوع على كلا التقديرين فهو ليس بمنجز لأنّه لا يكون علما بثبوت التكليف الفعلي حتى يكون منجزا بل هو شكّ في ثبوته ، إذ على تقدير ثبوت النجاسة للماء تكون الحرمة ثابتة وأمّا على تقدير ثبوتها للحديدة فهي ليست بثابتة. والعلم الإجمالي إنّما

ص: 257


1- طبيعي فيما إذا لم يكن الجزء الثاني - وهو الملاقاة - معلوم التحقق.

يكون منجزا لو كان علما بثبوت التكليف الفعلي دون ما إذا كان مستلزما للشكّ في ثبوت التكليف لا العلم به.

الضابط العام

والضابط العام لمنجزية العلم الإجمالي هو أن يكون موجبا للعلم بتحقق التكليف الفعلي ، فمتى لم يكن موجبا لذلك - كالعلم بثبوت جزء الموضوع أمّا على كلا التقديرين أو على تقدير دون تقدير - فلا يكون منجزا ، ومع عدم منجزيته فلا مانع من جريان الاصول في أطرافه ، ولكن بقدر الحاجة لا أكثر. فمثلا العلم الإجمالي بنجاسة أمّا هذه الحديدة أو ذاك الماء ليس منجزا لأنّه ليس علما بالموضوع الكامل على كلا التقديرين بل على تقدير دون آخر ، ومعه فلا مانع من جريان أصل الطهارة بالنسبة إلى الماء ، ويترتّب على ذلك أثر عملي وهو جواز شربه ولا يجري بالنسبة إلى الحديدة لعدم ترتّب أثر عملي على نجاستها.

قوله ص 98 س 16 : انّ المقتضي لها إثباتا : وهو الشكّ في الطهارة فإنّه المقتضي لأصالة الطهارة إثباتا ، أي بحسب لسان الأدلة.

قوله ص 99 س 5 : الأصل الطولي : وهو أصالة الطهارة في الطرف الثاني ، وهي أصل طولي ، أي في طول عدم جريان استصحاب الطهارة.

قوله ص 100 س 2 : أن يكون الأصل المؤمن : أي يكون استصحاب الطهارة في إناء رقم 2 مبتلى باستصحاب النجاسة الذي هو أصل منجز لوجوب الاجتناب.

قوله ص 100 س 11 : المبتلى : أي الجاري في اناء رقم 2 الذي هو مبتلى

ص: 258

باستصحاب النجاسة.

قوله ص 100 س 17 : وانه كلما الخ : هذا اشارة إلى استدعاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية.

قوله ص 101 س 13 : على كل تقدير أو على بعض التقادير : سيأتي منه قدس سره في الصفحة التالية ذكر الامثلة لذلك.

قوله ص 101 س 17 : اما الأوّل : أي عدم منجزية العلم الإجمالي بنجاسة احدى الحديدتين.

قوله ص 102 س 3 : واما الثاني : أي منجزية العلم الإجمالي بنجاسة احد المائين أو بنجاسة احد الثوبين.

قوله ص 102 س 4 : ومثل الأوّل : هذا اشارة الى صورة كون العلم الاجمالي علما بالموضوع الكامل على احد تقديرين.

والمقصود : ان العلم الإجمالي بما يكون جزء الموضوع على كلا التقديرين هو مثل العلم الإجمالي بما يكون جزء الموضوع على احد تقديرين فكلاهما ليس منجزا.

ص: 259

ص: 260

أركان المنجزية

اشارة

قوله ص 103 س 1 : نستطيع ان نستخلص الخ : منجزية العلم الاجمالي لها اربعة اركان على ما قرأنا في الحلقة الثانية ، وكما اتضح من خلال الابحاث السابقة (1). وتلك الأركان هي : -

الركن الأوّل
اشارة

لا بدّ من تعلق العلم بالجامع ، فالمكلف لا بدّ وان يعلم مثلا بثبوت أحد وجوبين اما وجوب الظهر أو وجوب الجمعة ، إذ لو لم يعلم بذلك فأمّا ان يكون عالما بخصوص وجوب الظهر مثلا - وهذا معناه ان علمه تفصيلي وليس إجماليا ، وهو خلف الفرض - أو يكون شاكا في أصل ثبوت احد وجوبين ، وهذا معناه ان الشبهة بدوية - تجري فيها البراءة - وليست مقرونة بالعلم الاجمالي.

وهذا واضح. والذي نريد التحدث عنه هو ان العلم الإجمالي المنجز هل هو خصوص العلم الإجمالي الوجداني أو الأعم منه ومن العلم الإجمالي التعبدي ، فان العلم الإجمالي له شكلان ، فتارة يكون علما وجدانيا كما إذا حصل القطع بنجاسة احد انائين واخرى يكون علما تعبديّا ، كما لو لم يقطع المكلّف بنجاسة

ص: 261


1- كقوله قدس سره قوله ص 100 السطر الأخير : « وانه كلما تعارضت الاصول ... ». وقوله ص 102 س 6 : « والضابط العام للتنجير. .. »

احد الانائين وانما قامت البينة على ذلك ، فانّه بقيام البينة لا يحصل العلم الوجداني بنجاسة احد الانائين وانما الشارع عبّدنا بالتعامل مع البينة معاملة العلم الوجداني.

اما العلم الاجمالي الوجداني فلا إشكال في كونه منجزا ، وإنما الإشكال في العلم الإجمالي التعبديّ الحاصل بالبينة فهل هو منجز كالعلم الاجمالي الوجداني أو لا؟

وفي هذا المجال يوجد رأيان : -

أحدهما يقول : نعم البينة تنجز كالعلم الوجداني لأن الشارع بعد ان جعلها حجّة - والمفروض ان معنى جعل الحجّية هو جعل العلمية كما هو رأي الشيخ الأعظم والميرزا - تصير كالعلم الوجداني ، فكما ان من اثار العلم الوجداني المنجزية كذلك يصير من آثار البينة المنجزية. وإذا صارت البينة منجزة فلازم ذلك عدم جريان أصل الطهارة لا في هذا الأناء ولا في ذاك كما هو الحال في العلم الإجمالي الوجداني تماما.

وثانيهما يقول : انه لا محذور في اجراء أصل الطهارة في هذا الإناء وفي ذاك إذ المحذور في إجراء الأصليين ليس هو إلاّ لزوم المخالفة القطعية ، وهذا المحذور ليس ثابتا عند قيام البينة ، إذ من المحتمل خطؤها ، بان لا يكون هذا الإناء ولا ذاك نجسا ، ومع وجود هذا الاحتمال فلا يحصل القطع بالمخالفة باجراء الاصلين وارتكاب الانائين.

هذا ولكن كلا الرأيين ليس بصحيح من الوجهة الفنية كما سيتضح.

والمناسب ان يقال : ان البينة تارة تشهد بالجامع ، كما لو قالت ان احد

ص: 262

الانائين نجس ، واخرى تشهد بنجاسة اناء معين فتقول مثلا الإناء الموجود على اليمين نجس ثم يفرض اشتباهه واختلاطه بالشمالي بشكل لا يمكن التمييز.

الحالة الاولى

اما في الحالة الأولى - وهي ما إذا شهدت البينة بنجاسة أحد الانائين - فيوجد دليلان كل منهما يقتضي شيئا يتنافى وما يقتضيه الآخر.

والدليلان هما : دليل حجّية البينة ودليل أصل الطهارة ، فانّ دليل أصل الطهارة يقول ان كل واحد من الانائين حيث انّك تشك في طهارته فيمكنك اجراء أصل الطهارة فيه وارتكابه ، بينما دليل حجّية البينة يقول كلا لا يجوز اجراء الأصليين إذ البينة حجّة والمفروض شهادتها بنجاسة أحد الانائين.

وأصحاب الرأي الأوّل قدّموا الدليل الأوّل - أي دليل حجّية البينة - ولم يعيروا أهمية لدليل أصل الطهارة فطرحوه جانبا ، وعلى اساس ذلك قالوا بلزوم ترك كلا الانائين.

بينما أصحاب الرأي الثاني قدّموا الدليل الثاني - أي دليل أصل الطهارة - واجروا أصل الطهارة في كلا الانائين ولم يعيروا اهمية لدليل حجّية البينة.

وبهذا إتضح الوجه فيما قلناه سابقا ، حيث ذكرنا ان كلا هذين الوجهين ليس على صواب من الوجهة الفنية ، فإنّه بعد وجود دليلين معتبرين بايدينا لا وجه للأخذ بأحدهما وطرح الآخر بعد حجّيتهما معا ، فإنّ الدليل الحجّة لا وجه لطرحه دون مبرر.

والصحيح ان نجمع بين الدليلين ونوفق بينهما ونعمل بعد ذلك بالنتيجة التي

ص: 263

يقتضيها الجمع.

والصحيح في الجمع بين دليل حجّية البينة ودليل الأصل - كما سوف يأتي في بحث تعارض الأدلة ص 363 في هذا القسم من الحلقة - ان يقال : ان العرف يقدم البينة على الأصل من جهة الاخصية أو النصيّة حيث انه في الغالب لا يخلو مورد البينة من أصل من الاصول العملية ، فلو كانت حجّية البينة مختصة بغير مورد الأصل كان ذلك بمثابة الغاء البينة. وهذا معنى كون دليل البينة اخص. بل يمكن القول بان دليل حجّية البينة وأمثالها من الامارات الاخرى نص في الشمول لموارد جريان الأصل وواردة في مورد اجتماع البينة والأصل لتقول خذ بالبينة واطرح الأصل.

وإذا تم الجمع بتقديم دليل البينة للاخصيّة أو النصيّة فاللازم عدم جريان أصل الطهارة في الانائين ، لأن جريانه في كلا الانائين خلف تقدم دليل البينة للاخصيّة أو النصيّة ، وجريانه في أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح.

والنتيجة على ضوء هذا : لزوم التحرز عن كلا الانائين لعدم جريان أصل الطهارة في شيء منهما.

وهذه النتيجة وان وافقت الرأي الأوّل القائل بتقديم دليل البينة ولكنه تقديم بعد الجمع بين الدليلين أو بتعبير آخر : تقديم لدليل البينة لنكتة فنية وليس بلا مبرر.

لا يقال : لماذا لا نقول بتقدم دليل البينة على أصل الطهارة من جهة الحكومة - كما كان يقول أصحاب الرأي الأوّل حيث قالوا بان معنى حجّية الأمارة جعلها علما ، وما دامت علما فهي ترفع موضوع اصل الطهارة « وهو

ص: 264

الشكّ » بالتعبد - ولا داعي إلى الجمع بالاخصيّة أو النصيّة أو غير ذلك.

فانّه يقال : ان البينة حيث دلت على الجامع فالجامع يصير معلوما ، أي ان احدى النجاستين تصير معلومة لا نجاسة هذا الإناء بالخصوص أو نجاسة ذاك بالخصوص ، ومع عدم العلم بنجاسة هذا بالخصوص أو ذاك فلا مانع من جريان أصل الطهارة في الطرفين فان موضوعة - وهو الشكّ - محفوظ في خصوص هذا الاناء وخصوص ذاك ولم يرتفع بالتعبد وإنّما الذي ارتفع بالتعبد هو الشكّ في الجامع.

وعليه فالحكومة لا معنى لها بالنسبة الى الطرفين.

أجل لو فرض ان البينة دلّت على نجاسة هذا الإناء بالخصوص فالحكومة وجيهة ، لأن لازم حجّية البينة في هذا الإناء صيرورة نجاسته معلومة بالتعبد وارتفاع الشكّ الذي هو موضوع أصل الطهارة ، لكن المفروض في مقامنا دلالة البينة على الجامع ، فالجامع يصير معلوما لا نجاسة كل إناء بخصوصه ، فالحكومة تتم في جانب الجامع لا في كل واحد من الطرفين ، وبالتالي يلزم ان الجامع لا يجري فيه أصل الطهارة لا كل اناء بخصوصه.

الحالة الثانية

وأمّا في الحالة الثانية - وهي ما إذا شهدت البينة بنجاسة اناء معين ثم اشتبه - فالاناء الذي شهدت البينة بنجاسته لا يجري فيه أصل الطهارة من جهة الحكومة ، فان الحكومة هنا وجيهة باعتبار ان البينة لما شهدت بنجاسة الاناء المعين تصير نجاسته معلومة تعبدا ويرتفع الشكّ في طهارته تعبدا.

ص: 265

وبعد عدم جريان أصل الطهارة في الإناء المعين فاللازم عند اشتباهه بالاناء الآخر ان لا يجري أصل الطهارة لا في كلا الانائين - لأنّ المفروض عدم جريانه في أحدهما الذي شهدت البينة بنجاسته - ولا في أحدهما لأنّه بلا مرجح.

وبذلك يتنجز الطرفان ويلزم تركهما ، ويصير المورد نظير ما لو علم علما وجدانيا بنجاسة اناء زيد ثم فرض اشتباهه بإناء عمرو فكما يجب تركهما معا كذلك في المقام.

خلاصة ما تقدّم

وخلاصة ما تقدم هو لزوم الاجتناب عن كلا الانائين في كلتا الحالتين لعدم جريان أصل الطهارة لا في الانائين معا ولا في أحدهما.

اما إنّه في الحالة الأولى يلزم الاجتناب عنهما فلانّه بعد الجمع بين دليل البينة ودليل أصل الطهارة بتقديم دليل البينة يلزم عدم جريان الأصل لا في كلا الانائين لأنّه خلف تقدم البينة ولا في احدهما لأنه بلا مرجح.

وأمّا أنّه في الحالة الثانية يلزم الاجتناب عنهما فلانه بعد عدم جريان الأصل في الاناء الذي شهدت البينة بنجاسته من جهة الحكومة لا يمكن جريان الأصل لا في كلا الانائين ولا في أحدهما.

الركن الثاني
اشارة

والركن الثاني لمنجزية العلم الإجمالي ان يكون العلم واقفا على الجامع وغير سار الى الفرد ، إذ لو سرى إلى الفرد انقلب إلى علم تفصيلي بالفرد ، فاذا

ص: 266

علمنا بنجاسة أحد انائين كان ذلك علما إجماليا ، فاذا سرى العلم إلى الفرد بان علمنا ان تلك النجاسة ثابتة في الإناء الأوّل دون الثاني انحل ذلك العلم وتحول إلى علم تفصيلي بنجاسة الإناء الأوّل - فيجب الاجتناب عنه بالخصوص - وشك بدوي في نجاسة الاناء الثاني فتجري البراءة عنه.

وحالة السراية هذه تسمى بانحلال العلم الاجمالي بالعلم بالفرد.

وهذا شيء واضح. والذي نريد التحدث عنه هو ان العلم بالفرد له أربعة أنحاء : -

الأوّل

ان يعلم إجمالا مثلا بوجود انسان في المسجد مرددا بين كونه زيدا أو عمروا ثم يعلم بعد ذلك بانّه زيد.

وفي هذا النحو لا إشكال في انحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بوجود زيد وشك بدوي في وجود غيره.

الثاني

ان يعلم إجمالا مثلا بوجود انسان ما في المسجد ثم بعد ذلك يحصل العلم بوجود زيد في المسجد.

وفي هذا النحو لا إشكال ايضا في انحلال العلم الأوّل بالعلم الثاني ، إذ بعد العلم بوجود زيد في المسجد لا يبقى علم بوجود انسان غير زيد في المسجد.

والفرق بين هذا النحو وسابقه أنّه في السابق تعلق العلم الثاني بنفس ما

ص: 267

كان معلوما بالإجمال ، فبالعلم الثاني علم ان الانسان المعلوم وجوده في المسجد إجمالا هو زيد لا عمرو بخلافه في هذا النحو فانه لم يجزم ان زيدا هو نفس الانسان المعلوم بالإجمال بل هو احتمال لا أكثر.

الثالث

ان يعلم بان في المسجد انسانا له علامة خاصة ككونه طويلا مثلا ثم بعد ذلك علم بوجود زيد في المسجد ولكن لا يعلم ان زيدا طويل حتى يكون المعلوم بالإجمال منطبقا عليه أو ليس بطويل حتى لا يكون منطبقا عليه.

والفرق بين هذا النحو وسابقيه انه في السابق لم يفرض وجود علامة خاصة للمعلوم بالإجمال بينما في هذا النحو فرض ذلك.

والمثال الشرعي لذلك : ما لو علم المكلّف بأنّه محدث بحدث أكبر اما يوم السبت أو الاحد ثم علم بعد ذلك انه قد حصل منه الحدث يوم السبت ولكنه لا يدري هل هو حدث أكبر أو أصغر.

وهل يحصل الانحلال في هذا النحو؟ الصحيح عدمه ، فان الحدث الحاصل يوم السبت لو كان يجزم بكونه اكبر ويجزم بانطباق المعلوم بالاجمال عليه لحصل الانحلال كما حصل في النحو الثاني ولكنه لمّا لم يجزم بذلك فلا يحصل الانحلال.

اما لماذا لا يحصل الانحلال عند عدم الجزم؟ ذلك لأن العلم الاجمالي إنّما ينحل لو حصل علم تفصيلي بانطباق المعلوم بالإجمال على أحد الفردين مع الشكّ البدوي في انطباقه على الثاني ، ففي النحو السابق كان يجزم بكون زيد

ص: 268

مصداقا للانسان المعلوم حصوله في المسجد ، إذ المعلوم وجوده في المسجد اجمالا هو الإنسان ليس اكثر ، وزيد يصدق عليه انسان جزما وبالتالي يحصل لدى المكلّف علم تفصيلي بتحقق الانسان في المسجد ضمن زيد وشك بدوي في تحققه ضمن غيره ، فلو راجع نفسه لم ير فيها إلاّ علما تفصيليا بوجود انسان هو زيد وشكا بدويا في وجود فرد آخر غيره ، وهذا بخلافه في النحو الثالث فإنّه لا يوجد لدى المكلّف علم تفصيلي وشك بدوي بل لديه علم إجمالي أول بتحقّق حدث أكبر في أحد يومين وعلم إجمالي ثاني بتحقق حدث يوم السبت مردد بين الأصغر والأكبر ، فالذي حصل له بعد العلم الإجمالي الأوّل ليس إلاّ علما إجماليا آخر وليس علما تفصيليا ، ومن المعلوم ان العلم الإجمالي ينحل بالعلم التفصيلي لا بعلم إجمالي مثله.

الرابع

وقبل بيان هذا النحو نذكر مقدمتين.

الاولى : ان اثبات الحجّية للامارة الظنيّة تارة يكون من خلال عملية التنزيل ، بان يقول الشارع مثلا : جعلت الأمارة بمنزلة العلم ، واخرى من خلال عملية الاعتبار بان يقول : اعتبرت الامارة علما.

والفرق بين التنزيل والاعتبار هو انه في عملية التنزيل تبقى الامارة ظنا ولا تصير فردا من العلم غايته هي ظن تترتب عليه آثار العلم ، وهذا بخلافه في باب الاعتبار فانها تصير فردا من العلم ، وبعد صيرورتها علما يلحقها آثار العلم قهرا.

ص: 269

وبكلمة اخرى : في باب الاعتبار لا يرتب الشارع آثار العلم على الأمارة وإنّما يعتبرها فردا من العلم وبعد ذلك تلحقها آثار العلم قهرا بخلافه في باب التنزيل فإنّه ابتداء ترتب آثار العلم على الامارة من دون ان تعتبر فردا منه.

الثانية : ان المجازية تارة تكون في الكلمة واخرى في أمر عقلي ، فكلمة الأسد إذا استعملت في الشجاع كان ذلك مجازا في كلمة الأسد ، حيث استعملت في غير معناها الموضوع له ، اما إذا اعتبر الشجاع فردا من أفراد الحيوان المفترس بحيث عمم الحيوان المفترس للشجاع وجعل فردا من افراده كان استعمال كلمة الأسد في الشجاع استعمالا حقيقيا لاستعمالها في معناها الموضوع له وهو الحيوان المفترس غايته تلزم المجازية والعناية في الاعتبار ، أي في اعتبار الشجاع فردا من المفترس.

وعملية الاعتبار حيث انها أمر عقلي فالمجازية اللازمة مجازية في أمر عقلي.

وهناك رأي للسكاكي يدعي فيه ان جميع الاستعمالات المجازية ترجع الى استعمالات حقيقية ولا يوجد مجاز أصلا لأن كل مستعمل يعتبر أولا المعنى المجازي فردا من أفراد المعنى الحقيقي وبعد ذلك يستعمل اللفظ في المعنى.

وتسمى هذه الطريقة بالحقيقية الأدعائية أو المجاز العقلي. وقد مرت الاشارة الى هذا في الحلقة الثانية ص 88 تحت عنوان تحويل المجاز إلى حقيقة.

وبعد هاتين المقدمتين نأخذ ببيان النحو الرابع وهو ما لو علم إجمالا بنجاسة أحد انائين ثم شهد الثقة بنجاسة الاناء الأوّل.

وفي هذه الحالة لا إشكال بين الجميع في سقوط العلم الإجمالي عن

ص: 270

المنجزية ولا يجب ترك الاناء الثاني.

وبعد هذا الاتفاق وقع الكلام في التخريج الفني لزوال المنجزية.

وقد يقال ان ذلك للانحلال التعبدي ، بمعنى ان دليل حجّية خبر الثقة يعبدنا بإنحلال العلم الإجمالي بتقريب ان دليل الحجّية - بناء على مسلك جعل العلمية - يجعل خبر الثقة علما ويرتب عليه جميع آثار العلم التي احدها الانحلال.

هذا ولكن الصحيح عدم امكان استفادة ذلك لان استفادة الانحلال التعبدي يمكن ان تبين باحد بيانات ثلاثة : -

أ - ان دليل حجّية الخبر ينزّل الخبر منزلة العلم. ولازم التنزيل سراية حكم المنزل عليه وهو العلم إلى المنزل وهو الخبر - كما تسري أحكام الصلاة إلى الطواف حينما نزّل منزلتها في دليل الطواف بالبيت صلاة - وبما ان أحد احكام العلم وآثاره حصول انحلال العلم الإجمالي به فيلزم ثبوت هذا الأثر للخبر أيضا.

وفيه : ان دليل التنزيل لا يسرّي اللوازم القهرية التكوينية الثابتة للمنزل عليه بل يسرّي خصوص الآثار الشرعية - فبتنزيل الرجل الشجاع منزلة الأسد لا يمكن ان يسري بخر الفم إلى الرجل الشجاع ، فان بخر الفم لازم تكويني للاسد لا يمكن تسريته بالتنزيل إلى غيره - كالطهارة التي هي أثر شرعي للصلاة فإنها تسري الى الطواف ، وواضح ان حصول الانحلال الحقيقي بالعلم هو من اللوازم التكوينية القهرية الثابتة للعلم ، فان من علم بوقوع قطرة دم في أحد انائين ثم رآها وعلم بها في الإناء الأوّل انحل علمه السابق بقطع النظر عن الشريعة والتعبد لكونه مما فطر عليه الانسان. وما دام الانحلال هو من اللوازم التكوينية للعلم فلا يمكن تسريته إلى الخبر بالتنزيل.

ص: 271

وبكلمة اخرى : ان الشارع في عملية التنزيل لا يسرّي إلاّ الآثار الشرعية دون الآثار التكوينية ، إذ التكوينية ليست واقعة تحت حوزته كي يمكنه تسريتها وإنّما الواقع تحت حوزته هي الآثار الشرعية فتكون هي القابلة للتسرية.

ب - ان دليل حجّية الخبر يعتبر الخبر علما وفردا من أفراده كما قاله السكاكي في باب الحقيقة الادعائية ، فالخبر بعد اعتباره علما تسري إليه جميع آثار العلم التي احدها الانحلال.

والفرق بين هذه الطريقة وسابقتها : ان الشارع في عملية التنزيل يلاحظ ابتداء الآثار - التي احدها الانحلال - ويسرّيها إلى الخبر ، وهذا بخلافه في عملية الاعتبار فان الشارع لا يسرّي الآثار بل يعتبر الخبر علما ، وبعد ذلك تسري الآثار إلى الخبر سراية قهرية. وما دامت السراية قهرية فلا يرد ما اوردناه على عملية التنزيل من ان الشارع لا يمكنه تسرية إلاّ ما كان تحت حوزته.

وفيه : ان الامارة وان صارت بالاعتبار علما وفردا منه إلاّ أنها علم تعبدا وليست علما حقيقة وتكوينا ، فان الاعتبار لا يولّد إلاّ امرا اعتباريا لا أمرا حقيقيا ، ومعه فغاية ما يلزم هو ترتب آثار العلم الاعتباري التعبدي لا آثار العلم الحقيقي. والانحلال بما انه من خواص العلم الحقيقي فلا يترتب على الامارة عند اعتبارها علما.

ج - ان يقال انا لا نريد ان نثبت بصورة مباشرة التعبد بالانحلال الحقيقي بحيث يكون دليل حجّية الخبر مفيدا بالدلالة المطابقية التعبد بالانحلال الحقيقي ليقال بعدم إمكان تسرية اللوازم التكوينية عن طريق التعبد وإنّما نريد اثبات

ص: 272

التعبد بالانحلال الحقيقي بصورة غير مباشرة (1) بان يفرض ان دليل حجّية الخبر يدل - بناء على مسلك جعل العلمية - ابتداء على الغاء الشك وجعل الامارة علما فلو دلّت الامارة على نجاسة الاناء الأوّل يصير المكلّف عالما بنجاسته تعبدا ، وإذا صار عالما تفصيلا بنجاسته بالتعبد فلازم ذلك زوال العلم الإجمالي وانحلاله إذ بحصول العلم التفصيلي بأحد الطرفين يزول العلم الإجمالي وينحل.

وبتعبير آخر : ان الدليل ابتداء يعبدنا بعلة انحلال العلم الإجمالي - وهي العلم التفصيلي بأحد الطرفين - وبالملازمة يعبدنا بالمعلول ، أي بزوال العلم الاجمالي.

وهذه طريقة وجيهة ، إذ التعبد بحصول العلم التفصيلي أمر معقول ، وإذا ثبت التعبد بذلك ثبت الانحلال.

وفيه : -

أوّلا : ان التعبد بحصول العلم التفصيلي تعبد بعلة الانحلال ، والتعبد بالعلة لا يلزم منه التعبد بالمعلول فيما إذا لم يكن المعلول اثرا شرعيا للعلة بل كان اثرا عقليا كما في المقام إذ لا يوجد دليل شرعي يقول إذا حصل العلم التفصيلي بنجاسة الاناء الأوّل ترتب على ذلك شرعا زوال العلم الإجمالي وانحلاله وإنما ذلك لازم عقلي ، وواضح ان التعبد بالشيء لا يلزم منه التعبد بلوازمه العقلية -

ص: 273


1- قد يقال : لا حاجة إلى هذا التطويل إذ نقول ان دليل الحجّية يعبدنا بالانحلال التعبدي لا بالانحلال الحقيقي ليقال انه غير ممكن. فإنه يقال : ان التعبد بالانحلال التعبدي لا معنى له إذ مرجع ذلك إلى انه يعبدنا الشارع بالتعبد ، وهذا باطل ، فان المعقول اثبات الأمر الحقيقي بالتعبد لا إثبات الأمر التعبدي بالتعبد.

فالتعبد ببقاء حياة الولد لا يلزم منه التعبد بنبات لحيته - وإنّما يلزم منه التعبد بآثاره الشرعية كحصول طهارة الثوب فإنّه معلول لغسله بالماء الطاهر ومن آثاره الشرعية المترتّبة عليه ، فاذا عبدّنا الشارع بطهارة الماء الذي غسل فيه الثوب المتنجس لزم منه التعبد بحصول الطهارة للثوب وإلاّ كان التعبد بذاك دون هذا لغوا.

وثانيا : لو سلمنا التعبد بالعلة يلزم منه التعبد بالمعلول حتى ولو لم يكن المعلول من الآثار الشرعية للعلة فنقول ان التعبد بحصول الانحلال الحقيقي في مقامنا باطل في نفسه وغير ممكن ، إذ ما الفائدة من التعبد بالانحلال الحقيقي؟

ان الغاية لا تخلو اما ان تكون هي التأمين من ارتكاب الطرف الثاني بحيث يكون من السائغ للمكلّف ارتكاب الإناء الثاني وشرب مائه دون ان يجري أصل الطهارة فيه ، وهو باطل لأن الشبهة أيّا ما كانت لا يجوز للمكلّف ارتكابها حتى ولو كانت بدوية إلاّ بمؤمن كاصل الطهارة مثلا.

او تكون الغاية من التعبد بالانحلال هي ان يصير المكلّف متمكنا من اجراء أصل الطهارة في الطرف الثاني وشرب الماء بعد ذلك لا ان يرتكبه بلا اجراء اصل الطهارة فيه. وهذا باطل أيضا ، فان الشارع حتى ولو لم يعبّد المكلّف بانحلال علمه الإجمالي - كما لو فرض انّا لم نأخذ بمسلك جعل العلمية بعين الاعتبار بل بمسلك جعل المنجزية - فمع ذلك يمكن للمكلف اجراء أصل الطهارة في الإناء الثاني دون معارض لان الخبر ما دام قد دلّ على نجاسة الاناء الأوّل كان ذلك مانعا من اجراء أصل الطهارة فيه - إذ الامارة مانعة من جريان الأصل سواء بني على مسلك جعل العلمية أو مسلك جعل المنجزية أو أي مسلك آخر ، فان

ص: 274

عدم جريان الأصل عند وجود الامارة أمر مسلم لدى الجميع - ومع عدم جريان أصل الطهارة فيه يجري الأصل في الاناء الثاني بلا معارض وان لم نستفد من دليل حجّية الخبر التعبد بالانحلال.

وبهذا اتضح ان الوجه الفني لتخريج سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية عند قيام الأمارة في بعض اطرافه هو الانحلال الحكمي دون الانحلال التعبدي ، بمعنى ان دليل حجّية الامارة لا يمكن ان نستفيد منه جعل الشارع الامارة موجبة لحلّ العلم الإجمالي تعبدا وإنّما الإمارة حينما تقوم في طرف فالاصل حيث لا يجري فيه فيجري في الطرف الثاني بلا معارض.

وإنّما سمّي هذا بالانحلال الحكمي باعتبار ان العلم الإجمالي موجود حقيقة غايته ليس بمنجز باعتبار وجود مؤمن في بعض اطرافه.

الركن الثالث
اشارة

والركن الثالث لمنجزية العلم الإجمالي تعارض الاصول في الأطراف ، كما لو كان عندنا اناءان نعلم اجمالا بنجاسة احدهما فان أصل الطهارة في الإناء الأوّل يتعارض وأصل الطهارة في الثاني ويتساقطان ، وبعد ذلك يبقى كل اناء لا مسوغ لارتكابه فتجب الموافقة القطعية بترك كلا الانائين.

واما إذا لم تتعارض الاصول في الأطراف ، كما لو كان الاناء الأوّل مثلا معلوم الخمرية تفصيلا (1) أو كان يعلم بنجاسته سابقا ويشك في بقاءها فان أصل

ص: 275


1- أي يوجد اناءان احدهما خمر جزما والآخر ماء جزما وعلمنا بوقوع قطرة بول في أحدهما.

الطهارة لا يجري فيه لوجود حاكم عليه وهو استصحاب النجاسة ويجري في الطرف الآخر بلا معارض.

ومع عدم المعارضة بين الاصلين يسقط العلم الاجمالي عن المنجزية ويجوز ارتكاب الاناء الثاني لوجود المؤمن فيه بلا معارض (1) ، فان العلم الاجمالي انما يقتضي عقلا وجوب الاجتناب عن اطرافه فيما إذا لم يرخص الشارع نفسه بارتكاب بعض اطرافه.

ثمّ ان عدم منجزية العلم الإجمالي في صورة جريان الأصل في أحد الطرفين بلا معارض قضية مسلمة بين جميع الاصوليين ولا تخص بعضا دون آخر.

ولكن صياغة الركن المذكور بالشكل المتقدم - أي تعارض الاصول في الأطراف - تتم على مبنى الميرزا القائل بان العلم الإجمالي مقتض وليس علة تامة لوجوب الموافقة القطعية ، فانه بناء على ذلك إذا ثبت الترخيص في ارتكاب أحد الطرفين بواسطة الأصل المؤمن فلا يكون العلم الإجمالي منجزا ، فكما ان النار مقتض للاحراق وتاثيرها موقوف على عدم المانع كذلك العلم الإجمالي ما دام هو مقتض لوجوب الموافقة القطعية فتأثيره موقوف على عدم ثبوت الترخيص في أحد الطرفين ، فاذا ثبت الترخيص في أحد الطرفين من دون معارضة لم يكن العلم الإجمالي مستدعيا لوجوب الموافقة القطعية.

ص: 276


1- واما الاناء الأوّل فلا يجوز ارتكابه من جهة العلم التفصيلي بحرمته أو لاستصحاب النجاسة. ثمّ انّا عبرنا عن هذا الركن بتعارض الاصول في الأطراف ، وهو اوضح من تعبير الكتاب بشمول دليل الأصل لكل واحد من الطرفين لولا التعارض ، والمقصود واحد.

وهكذا الصياغة المذكورة لهذا الركن تتم على مسلك حق الطاعة القائل بان احتمال الحرمة في كل طرف هو منجز بقطع النظر عن العلم الإجمالي. انه بناء على هذا الرأي يلزم - لأجل أن يكون الاحتمال منجزا - تعارض الاصول في الأطراف ، إذ احتمال التكليف إنّما يكون منجزا عقلا فيما إذا لم يثبت الترخيص الشرعي في مخالفة الاحتمال ، فاذا ثبت الترخيص الشرعي بواسطة الأصل المؤمن الجاري بلا معارضة فلا يكون الاحتمال في كل طرف منجزا ولا تجب الموافقة القطعية بل يجوز ارتكاب الطرف الذي يجري فيه الأصل غير المعارض.

واما بناء على رأي الشيخ العراقي القائل بان العلم الإجمالي علة تامة فهي غير تامة لأنه بناء على المسلك المذكور يستحيل - كما تقدم - الترخيص حتى في الطرف الواحد ولا يجري الأصل - لأنّ المفروض أنّه علة بذاته لوجوب الموافقة القطعية - وهذه المنجزية السابقة تمنع من جريان الأصل حتى في الطرف الواحد وليس ثبوتها يتوقف على عدم جريان الأصل كما هو الحال على مسلك الاقتضاء.

وبكلمة اخرى : بناء على مسلك الميرزا نحتاج إلى اعدام المؤمن في الأطراف ، وهو لا يتم الاّ بالتعارض ، وهذا بخلافه على مسلك العراقي فانا وان كنّا بحاجة الى اعدام المؤمن - لاتفاق الكل على عدم كون العلم الإجمالي منجزا مع وجود المؤمن في بعض اطرافه - ولكن إعدامه لا يتوقف على تعارض الاصول بل نفس العلم الإجمالي بذاته يستلزم وبنحو العلية عدم جريان الأصل حتى في الطرف الواحد ولو لم يكن له معارض.

ومن هنا كان الشيخ العراقي بحاجة إلى طرح صياغة جديدة لهذا الركن يسقط فيها العلم الإجمالي عن المنجزية في المرتبة السابقة ليتاح للاصل الجريان

ص: 277

في الطرف الثاني بلا مانع.

والصياغة الجديدة هي : يشترط في منجزية العلم الإجمالي ان لا يكون أحد طرفيه قد تنجز بمنجز سابق بل تكون المنجزية في كل واحد من الطرفين حاصلة بسبب نفس العلم الإجمالي ، فمثلا إذا كان عندنا اناءان نعلم بنجاسة احدهما فالمنجز هو العلم الإجمالي على كلا التقديرين ، فان النجاسة على تقدير وجودها في الإناء الأوّل يتنجز وجوب الاجتناب عنها بسبب العلم الإجمالي لا بسبب آخر ، وعلى تقدير وجودها في الإناء الثاني يتنجز وجوب الاجتناب عنها بسبب العلم الإجمالي أيضا لا بسبب آخر ، فالنجاسة إذن على كلا التقديرين - أي على تقدير وجودها في هذا الإناء وعلى تقدير وجودها في ذاك الإناء - تكون منجزة بنفس العلم الإجمالي.

في مثل هذه الحالة قال الشيخ العراقي ان العلم الإجمالي يكون منجزا ويجب الاجتناب عن كلا الانائين.

وأمّا إذا فرض ان أحد الانائين كان منجزا بمنجز آخر فلا يكون العلم الإجمالي منجزا ، فمثلا إذا كان عندنا اناءان الأوّل منهما خمر جزما وعلمنا اجمالا بوقوع قطرة بول في أحدهما فهذا العلم الإجمالي لا يكون منجزا لان أحد طرفيه - وهو الإناء الخمري - قد تنجز بمنجز اسبق وهو العلم التفصيلي بخمريته ، وما دام قد تنجز بمنجز اسبق فلا يكون العلم الإجمالي منجزا لوجوب الإجتناب عن النجاسة لو كانت قد وقعت فيه واقعا ، إذ ما تنجز لا يمكن ان يتنجز ثانية ، فكما ان الأبيض لا يمكن ان يصير ابيض ثانية ، والموجود لا يمكن ان يوجد ثانية كذلك المنجز لا يمكن ان يتنجز ثانية.

ص: 278

ومن هنا فالعلم الإجمالي بوقوع قطرة بول في أحد انائين يعلم بخمرية الأوّل منهما - أو كان يجري فيه استصحاب النجاسة - لا يكون منجزا على رأي الشيخ العراقي لان العلم الإجمالي لا يكون منجزا لوجوب الاجتناب عن النجاسة على كلا التقديرين إذ على تقدير وقوعها في الإناء الأوّل يكون وجوب الاجتناب ثابتا بسبب العلم التفصيلي بخمريته أو استصحاب نجاسته وليس بسبب نفس العلم الإجمالي.

وبكلمة اخرى : ان العلم الإجمالي انّما يكونن منجزا لو كان محدثا للتكليف على سبيل الجزم. وفي الامثلة المذكورة لا يكون كذلك إذ على تقدير وقوع النجاسة في الإناء الأوّل فالمحدث للتكليف بوجوب الاجتناب هو الاستصحاب أو العلم التفصيلي لا العلم الإجمالي. أجل غاية ما يولّده العلم الإجمالي بوقوع القطرة هو الشكّ في حدوث وجوب الإجتناب دون العلم ، وواضح انّ الشكّ في حدوث التكليف ليس بمنجز وإنّما المنجز هو العلم بحدوث التكليف.

وباتضاح هذه الصياغة الجديدة تتضح النكتة في وجه جريان الأصل في أحد الطرفين على مسلك الشيخ العراقي ، ان النكتة هي ان العلم الإجمالي لمّا لم يكن منجزا في نفسه في المقام حيث لا يولّد علما بحدوث التكليف بوجوب الإجتناب فلا يكون مانعا من جريان الأصل في الطرف الثاني ، إذ المانع هو العلم الإجمالي بحدوث التكليف ، والمفروض عدمه في المقام.

الفارق العملي بين الصياغتين

وقد تسأل هل يوجد فارق عملي بين الصياغتين بحيث يفرض مورد

ص: 279

تجري فيه الصياغة الثانية فيكون العلم الإجمالي منجزا عند الشيخ العراقي ولا تجري فيه الصياغة الاولى فلا يكون منجزا عند الميرزا؟

نعم الفارق العملي يظهر فيما لو فرضنا شيئين علمنا إجمالا بطروّ النجاسة على أحدهما ولا يوجد منجز غير العلم الإجمالي لا في الشيء الأوّل ولا في الشيء الثاني بيد أنّه كان أحد الشيئين يجري فيه الأصل المؤمن دون الثاني.

في مثل هذه الحالة تظهر الثمرة العملية بين الصياغتين ، كما لو كان لدينا سائلان نعلم اما الأوّل منهما خمر أو الثاني منهما ماء وقعت فيه نجاسة. فهناك نجاسة معلومة بالاجمال مردده بين كونها نجاسة ذاتية في الأوّل أو نجاسة عرضيّة في الثاني.

وفي هذا المثال لا يوجد أصل منجز لا في السائل الأوّل ولا في الثاني ويوجد أصل مؤمن - وهو أصل الطهارة - يجري في الثاني دون الأوّل ، إذ النجاسة المحتملة في الأوّل نجاسة ذاتية ، وأصل الطهارة - بناء على رأي فقهي تقدمت الإشارة له ص 261 - لا يجري في موارد الشكّ في النجاسة الذاتية بخلاف ذلك في الثاني فان النجاسة المحتملة فيه عرضيّة يجري أصل الطهارة لنفيها.

ان العلم الإجمالي في المثال المذكور ليس منجزا على رأي الميرزا لعدم تعارض الاصول في الأطراف بل يجري أصل الطهارة في إناء الماء بلا معارضة ، وهذا بخلافه على رأي الشيخ العراقي فان العلم الإجمالي منجز لتماميّة الصياغة الثانية ، إذ المفروض عدم وجود منجز آخر في أحد الطرفين غير العلم الإجمالي (1).

ص: 280


1- لعل في عبارة الكتاب شيئا من الابهام إذ القارئ يفهم ان الأصل المنجز على منوال الأصل المؤمن ، فكما ان الأصل المؤمن يجري في أحد الطرفين دون الآخر كذلك الأصل المنجز يجري في أحدهما دون الآخر. وهذا غير مقصود جزما ، وإنّما المقصود ان الأصل المؤمن يجري في أحد الطرفين دون الآخر بخلاف الأصل المنجز فانه لا يجري لا في هذا ولا في ذاك.
مناقشة صياغة الشيخ العراقي

وصياغة الشيخ العراقي قابلة للمناقشة إذ هي تبتني على قاعدة ان المنجز لا يتنجز ثانية.

ووجه القاعدة المذكورة : ان لازم التنجز ثانية اجتماع علتين على معلول واحد ، فالتنجز معلول واحد اجتمعت عليه علتان احداهما العلم الإجمالي والاخرى هي العلم التفصيلي ونحوه ، واجتماع علّتين على معلول واحد أمر مستحيل.

هذا ويمكن مناقشة ذلك بان الابيض وان كان لا يمكن ان يصير ابيض ثانية والموجود لا يمكن ان يطرأ عليه الوجود ثانية إلاّ ان هذا صحيح في القضايا التكوينية كالبياض والوجود وليس بصحيح في القضايا الاعتبارية ، ومعلوم ان التنجز أمر اعتباري إذ هو عبارة اخرى عن ثبوت حق الطاعة للمولى ، ومن البيّن ان بالامكان ثبوت حق الطاعة للمولى في شيء واحد من ناحيتين ويصير بذلك اكيدا وإلاّ فماذا يقول الشيخ العراقي فيما لو كان عندنا اناء خمري وقعت فيه قطرات بول فهل يقول قدس سره ان التنجز الثابت في هذا تنجز من ناحية الخمر فقط دون البول؟ كلا ، انّه باطل جزما ، فان من شرب الخمر المذكور خالف حرمتين واستحق عقابين جزما.

ص: 281

وماذا يقول قدس سره أيضا فيمن نذر الاتيان بصلاة الظهر فهل يلتزم بعدم حصول وجوب ثاني من ناحية النذر؟ كلا ، ان هذا باطل جزما ، فان صلاة الظهر يحصل لها وجوب ثاني وتنجز ثاني بسبب النذر دون أي محذور ، وإذا تركها المكلّف استحق العقاب من ناحيتين.

الركن الرابع
اشارة

والركن الرابع من أركان منجزية العلم الإجمالي هو ان يكون جريان الأصل في جميع الأطراف موجبا لترخيص المكلّف في ارتكاب المخالفة القطعية مع تمكن المكلّف بالفعل من ذلك - المخالفة القطعية - فاذا لم يكن موجبا لذلك فلا يكون العلم الإجمالي منجزا.

فمثلا إذا كنّا نعلم بنجاسة أحد انائين فالعلم المذكور منجز لأنّه لو أجرينا أصل الطهارة في كلا الانائين لزم الترخيص في ارتكاب كلا الانائين وبالتالي الترخيص في المخالفة القطعية ، وهي - المخالفة القطعية - ممكنة للمكلف ، وذلك بتناول كلا الانائين.

اما إذا كنا نعلم بنجاسة واحد من أواني كثيرة غير محصورة فلا يكون العلم الإجمالي المذكور منجزا لأن جريان الأصل في جميع الأطراف لا يلزم منه تحقق المخالفة القطعية العملية (1) ، إذ الأطراف ما دامت غير محصورة فلا يمكن ارتكابها جميعا ، وإذا أمكن جريان الأصل في جميع الأطراف بلا محذور تحقق المخالفة

ص: 282


1- أجل اقصى ما يلزم هو المخالفة الالتزامية - لالتزام المكلّف بطهارة جميع الأواني التي يعلم بنجاسة بعضها - وهي مما لا ضير فيه.

القطعية العملية لم يكن العلم الإجمالي منجزا وجاز ارتكاب المكلّف لاي طرف اختاره.

وركنية هذا الركن تتم على مسلك الاقتضاء دون مسلك العلية ، إذ على مسلك الاقتضاء يكون استلزام العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية متوقفا على عدم ثبوت الترخيص في ارتكاب بعض الأطراف - فانّ تاثير المقتضي موقوف على عدم المانع - فاذا لزم محذور المخالفة القطعية من جريان الأصل في جميع الأطراف لم يجر. وإذا لم يجر ولم يثبت الترخيص فلا يجوز ارتكاب شيء من الأطراف لعدم وجود المؤمن فان ارتكاب أي طرف من الأطراف يحتاج الى مؤمن.

هذا بناء على مسلك الاقتضاء ، واما بناء على مسلك العلية فالاصول لا تجري في الأطراف حتى وان لم يلزم منها محذور المخالفة القطعية ، فجريان الاصول في أطراف الشبهة غير المحصورة باطل وان لم يلزم منه محذور المخالفة القطعية ، إذ بجريان الاصول في الأطراف سوف يرتكب المكلّف بعض الأطراف - وان لم يرتكبها جميعا لفرض عدم الانحصار - ويكون مرخصا في ذلك ، وواضح انه بناء على مسلك العلية لا يمكن الترخيص في الارتكاب حتى لبعض الأطراف إذ الترخيص في ذلك يتنافى وكون العلم الاجمالي علة لوجوب الموافقة القطعية.

وعليه فالشيخ العراقي رفض الحاجة إلى هذا الركن واختار ان العلم الإجمالي منجز وان لم يتواجد فيه هذا الركن.

صياغة جديدة

ثم ان السيد الخوئي ( دام ظله ) قبل هذا الركن - ولم يرفضه من أصله كما

ص: 283

فعل الشيخ العراقي - إلاّ أنّه صاغه بصياغة جديدة فقال اني اسلم ان منجزية العلم الإجمالي موقوفة على تعارض الاصول في الأطراف وعدم امكان جريانها في جميع الأطراف إلاّ ان السبب لتعارض الاصول في جميع أطراف ما هو؟

ان الصياغة السابقة كانت تقول ان السبب هو لزوم محذور المخالفة القطعية العملية خارجا ، وهو دام ظله قال ان جريان الاصول في جميع الأطراف غير ممكن لا لأجل ذلك حتى يقال بان جريان الاصول في جميع الأطراف الشبهة غير المحصورة لما لم يلزم منه المحذور المذكور فلا يكون العلم الإجمالي فيها منجزا بل ان ذلك غير ممكن من ناحية ان لازم جريانها في الجميع ثبوت ترخيصات فعلية متعددة بعدد الأطراف. وثبوت الترخيص في جميع الأطراف مع العلم بحرمة واحد منها قبيح في نفسه وان لم يلزم محذور تحقق المخالفة القطعية العملية خارجا ، فالاناء الخمري الموجود في المريخ يقبح الترخيص في ارتكابه وان لم يلزم من ثبوت الترخيص فيه تحقق المخالفة خارجا لعدم امكان الوصول الى المريخ.

وفي مقامنا لو جرى أصل الطهارة في جميع أطراف الشبهة غير المحصورة يلزم ثبوت ترخيصات فعلية بعدد الأطراف بما في ذلك الطرف المحرم ، وهذا بنفسه قبيح وان لم يمكن تحقق المخالفة العملية القطعية خارجا.

ومن هنا ذهب ( دام ظله ) إلى ان العلم الاجمالي منجز في كلتا الشبهتين : المحصورة وغير المحصورة ، إذ كما ان الاصول في أطراف الشبهة المحصورة لا يمكن ان تجري كذلك لا يمكن ان تجري في أطراف الشبهة غير المحصورة ، غاية الأمر إذا فرض ان الأطراف في الشبهة غير المحصورة بلغت من الكثرة حدا خرج بعضها

ص: 284

عن محل الابتلاء كان العلم الاجمالي غير منجز ولكن من هذه الناحية لا من تلك الناحية ، أي من ناحية خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء وليس من ناحية جريان الاصول في جميع الأطراف.

ومن هنا حدّد ( دام ظله ) الشبهة غير المحصورة بانها الشبهة التي بلغت اطرافها من الكثرة حدا خرج بعضها عن محل الابتلاء (1).

وباختصار : انه بناء على الصياغة السابقة تكون منجزية العلم الإجمالي متوقفة على تعارض الاصول في الأطراف ، وتعارضها يحصل بما إذا لزم من جريانها الترخيص في جميع الأطراف مع افتراض امكان تحقق المخالفة القطعية.

وأما على الصياغة الثانية فالمنجزية موقوفة على تعارض الاصول في الأطراف ، وتعارضها يحصل بنفس ثبوت الترخيص في جميع الأطراف وان لم يمكن تحقق المخالفة خارجا (2).

ونلفت النظر إلى انّ الصياغة السابقة للركن الرابع سيأتي تعديل لها في مبحث الشبهة غير المحصورة إنشاء اللّه تعالى فانتظر ذلك ص 368.

قوله ص 103 س 11 : العلم الطريقي : التقييد بالطريقي لأن المنجزيّة هي من اثار خصوص العلم الطريقي دون الموضوعي. ولعل حذف كلمة « الطريقي » اولى لأنها مشوشّة.

قوله ص 104 س 11 : والوجه الأوّل : أي القائل بتطبيق قاعدة منجزيّة

ص: 285


1- راجع منهاج الصالحين ، كتاب الطهارة ، الفصل الرابع من المبحث الأوّل.
2- تقدمت الأشارة إلى هذه الصياغة الثانية فيما سبق ص 94 من الحلقة وتقدمت المناقشة فيها.

العلم الاجمالي عند قيام البيّنة. والمقصود من الدليل الأوّل دليل حجّية الأمارة.

قوله ص 104 س 12 : والوجه الثاني : أي القائل بعدم تطبيق قاعدة منجزيّة العلم الاجمالي.

قوله ص 104 س 13 : لا محذور في جريانها : أي الاصول.

قوله ص 105 س 1 : الشك فيه : أي في كل من الطرفين.

قوله ص 105 س 5 : للتنافي بينهما : أي بين الامارة والاصل بسبب اتحاد موردهما.

قوله ص 105 س 12 : ولما : بالتخفيف وفتح اللام والميم.

قوله ص 106 س 3 : وفي حصول الانحلال : عطف على قوله : « في سراية العلم من ... ».

قوله ص 107 س 3 : لو كانت الخ : أي لو كانت الامارة مفيدة للعلم الوجداني ...

قوله ص 107 س 12 : اثار العلم الحقيقي .. : في التعبير مسامحة واضحة. والمناسب : الآثار الحقيقية للعلم. وهكذا قوله « أثار العلم الأعتباري » فيه مسامحة واضحة. والمناسب : الآثار الاعتباريّة للعلم. ولعل تبديل كلمة « الأعتباريّة » بكلمة « الشرعيّة » أولى.

قوله ص 107 س 16 : بل نريد استفادة التعبد بالانحلال الخ : لا يخفى ما في العبارة من الغموض والاجمال. والمناسب اضافة كلمة « بالملازمة » (1) فإنّها توضح المطلب.

ص: 286


1- كما اضيفت في التقرير ج 5 ص 252 س 1.

قوله ص 108 س 9 : وملاكه : أي ملاك التمكين من اجراء الأصل.

قوله ص 108 س 12 : ان يكون كل من الطرفين مشمولا الخ : التعبير الذي ذكرناه سابقا - أن تتعارض الاصول في الأطراف - أوضح.

قوله ص 108 س 15 : لسبب آخر : أي غير العلم الأجمالي وهو كالعلم التفصيلي بالنجاسة أو الامارة عليها أو استصحابها.

قوله ص 109 س 11 : على جميع تقادير : أي جميع تقادير معلومه. والمعلوم هو النجاسة مثلا. ولعل التعبير الايسر عن صياغة الشيخ العراقي هو : ان يكون العلم الاجمالي محدثا للعلم بالتكليف على كلا التقديرين ، أي على تقدير وجود النجاسة في الإناء الأوّل وعلى تقدير وجودها في الإناء الثاني.

قوله ص 110 س 7 : على كل حال : أي على كل تقدير من تقادير معلومه.

قوله ص 110 س 8 : في حالة عدم تواجد : ذكرنا سابقا ان في العبارة شيئا من الإبهام.

قوله ص 110 س 14 : وامكان وقوعها خارجا : هذا اشارة إلى قيد ثاني خلافا للسيد الخوئي حيث لم يعتبره كما تقدم ايضاح ذلك.

قوله ص 110 س 15 : على وجه مأذون فيه : أي إمكان تحقّق المخالفة القطعيّة خارجا على تقدير الاذن فيها.

قوله ص 110 س 15 : ممتنعة : كما في الشبهة غير المحصورة.

قوله ص 111 س 6 : وهناك صياغة اخرى : وسيأتي في الشبهة غير المحصورة ص 135 من الحلقة الفارق العملي بين الصياغتين.

ص: 287

ص: 288

تطبيقات منجزية العلم الإجمالي

اشارة

ص: 289

ص: 290

تطبيقات منجزية العلم الاجمالي

قوله ص 112 س 1 : عرفنا في ضوء ما تقدّم ... : إتّضح مما سبق أنّ أركان منجزية العلم الإجمالي أربعة. وهذه الأركان الأربعة متى ما توفرت كان العلم الإجمالي منجّزا ، ومتى ما اختل واحد منها لم يكن منجّزا.

وكلما واجهنا علما إجماليّا لم يكن منجّزا فلا بدّ وان يكون عدم تنجّزه ناشئا من اختلال احد الأركان الأربعة المذكورة فيه.

والآن نطرح عشر حالات لا يكون العلم الإجمالي فيها منجّزا لنرى أنّ أي ركن فيها مختل. وتلك الحالات هي : -

1 - زوال العلم بالجامع.

2 - الإضطرار إلى بعض الأطراف.

3 - إنحلال العلم الإجمالي بالتفصيلي.

4 - الإنحلال الحكمي بالامارات والاصول.

5 - إشتراك علمين إجماليين في طرف.

6 - حكم ملاقي أحد الأطراف.

7 - الشبهة غير المحصورة.

8 - عدم القدرة على ارتكاب بعض الأطراف.

9 - العلم الإجمالي في التدريجيات.

10 - الطوليّة بين طرفي العلم الإجمالي.

ص: 291

ص: 292

الحالة الأولى أو زوال العلم بالجامع

اشارة

وفي الحالة الاولى نفترض زوال العلم بالجامع. ولكن كيف يتحقّق ذلك؟

يتحقّق في صور ثلاث هي : -

أ - ان يفرض علم المكلّف بنجاسة احد انائين ثمّ بعد مدة يتّضح كونه مخطئا في علمه وأنّ الإنائين معا طاهران وليس أحدهما نجسا.

وفى هذه الصورة تزول المنجزيّة بسبب اختلال الركن الأوّل من الأركان الأربعة المتقدّمة ، وهو العلم بالجامع.

ب - أن يفرض علم المكلّف بنجاسة احد إنائين ثمّ بعد فترة يحصل له الشك في ذلك ، أي الشك في أصل نجاسة أحد الإنائين ويحصل له إحتمال عدم ثبوت النجاسة لا لهذا ولا لذاك.

وفي هذه الصورة تزول المنجزيّة عن العلم الإجمالي لنفس النكتة في الصورة السابقة ، حيث انّه بطروّ الشك لا يبقى علم بالجامع لتبقى المنجزية للعلم الإجمالي.

وهم ودفع
اشارة

ولربّما يقال انّ المنجزيّة تبقى بعد طروّ الشك ، إذ قبل طروّ الشك كان العلم الإجمالي ثابتا وكان ثبوته سببا لتعارض الاصول وتساقطها. وإذا سقطت الاصول في الإنائين فلا تعود بعد ذلك لأنّ الساقط لا يعود والميت لا يرجع إلى

ص: 293

الحياة. وإذا لم يجر أصل الطهارة في الإنائين لم يسغ ارتكابهما لأنّ المسوّغ هو أصل الطهارة ، والمفروض سقوطه.

والجواب : انّ الموضوع الذي اوجب تعارض الاصول وتساقطها زال وحدث بدله موضوع جديد ، فإنّ الموضوع الذي أوجب تعارض الاصول وتساقطها هو الشك في طهارة كل واحد من الإنائين المقترن بالعلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ، فإنّ الشك في إنطباق النجاسة المعلومة إجمالا على هذا الطرف أو ذاك هو الموضوع ، وهذا الموضوع زال وحدث بدله الشك في طهارة كل واحد من الإنائين شكّا بدويّا - أي بدون أن يقترن بالعلم الإجمالي بنجاسة أحدهما - وهذا الموضوع لا يوجب تعارض الاصول وتساقطها بل تجري فيه بلا تعارض.

ج - وفي هذه الصورة يفرض زوال العلم الإجمالي في مرحلة البقاء دون مرحلة الحدوث على خلاف الصورتين السابقتين حيث زال العلم الإجمالي فيها حدوثا وبقاء. ويمكن أن نصوّر ذلك في أنحاء أربعة : -

الأوّل

ان يفرض كون العلم الإجمالي محددا من الأوّل بفترة معينة فإذا انتهت الفترة زال - العلم الإجمالي - بقاء ، كما لو علم المكلّف اجمالا بأنه قد نذر نذرا واحدا ولكنه لا يدري هل نذر ترك شرب ماء البرتقال إلى الظهر أو نذر ترك شرب ماء الرمان إلى الظهر فهو قد نذر ترك أحدهما جزما ويجزم ان نذره كان متعلّقا بالترك الى الظهر لا أكثر.

في مثل هذا النحو يعلم المكلّف إجمالا ما دام لم يحل وقت الظهر بثبوت أحد

ص: 294

الوجوبين فاذا حلّ الظهر زال علمه الإجمالي لفرض تحدده بالظهر من الأوّل.

وبزوال العلم الإجمالي تزول المنجزية كما هو واضح.

الثاني

ان يفرض نذر المكلّف اما ترك ماء البرتقال أو ترك ماء الرمان كما في النحو الأوّل ، ولكن في النحو السابق كنا نفترض تقيد الترك المنذور بالظهر بينما في هذا النحو نفترض الشكّ في التقيد المذكور ، فالمكلف يعلم أنه قد نذر ولكنه لا يدري هل نذر ترك ماء البرتقال إلى الظهر أو مستمرا إلى المغرب ، وهكذا لا يدري هل نذر ترك ماء الرمان إلى الظهر أو مستمرا إلى المغرب.

وفي هذا النحو إذا حلّ الظهر يزول العلم الإجمالي كما هو واضح ، ولكنه مع ذلك يمكن اثبات بقاء الحرمة المعلومة اجمالا من ناحية اخرى غير العلم الإجمالي وهي الاستصحاب ، فباستصحاب الحرمة الثابتة قبل الظهر يثبت بقاءها الى ما بعد الظهر.

الثالث

ان يفرض علم المكلّف بتحقق أحد النذرين السابقين منه ، ويعلم أيضا بأنه لو كان قد نذر ترك ماء البرتقال فهو قد نذره إلى الظهر بينما لو كان قد نذر ترك ماء الرمان فهو قد نذره إلى المغرب ، فهو يعلم ان المتحقق منه لو كان هو النذر الأوّل فهو مقيد بالظهر ولو كان هو النذر الثاني فهو ممتد إلى المغرب ولكنه حيث لا يدري ان أيّ النذرين هو المتحقق منه فسوف يشك في بقاء الحرمة عليه

ص: 295

بعد حلول وقت الظهر.

وهنا نسأل هل العلم الإجمالي يبقى ثابتا بعد الظهر كما كان ثابتا قبل الظهر؟

وفي البداية قد يجاب بالنفي وأنه لا يبقى بعد الظهر. والصحيح بقاؤه إذ الفترة الى الظهر لو فرضناها بمقدار ساعة والى المغرب بمقدار خمس ساعات فالمكلف قبل الظهر يعلم اما بحرمة البرتقال عليه لفترة ساعة أو بحرمة الرمان عليه لفترة خمس ساعات.

وهذا ما يصطلح عليه بالعلم الإجمالي المردد بين الفرد القصير والفرد الطويل ، وواضح ان الفرد القصير إذا تحقق فهذا لا يعني زوال العلم الإجمالي بل هو باق غاية الأمر أحد فرديه - وهو القصير - قد انتهى أمده.

ولأجل ان تتضح الفكرة اكثر نذكر مثالا آخر : لو فرض ان شخصا نذر اما زيارة الامام الحسين علیه السلام ثم في كل يوم لمدة شهر أو زيارة الجامعة لمدة سنة فما هو حكمه؟

ان الحكم هو لزوم زيارة الامام الحسين علیه السلام لمدة شهر وزيارة الجامعة لمدة سنة لأنه يعلم اجمالا بوجوب احدهما عليه. وإذا فرض انتهاء فترة الشهر التي هي فترة زيارة الامام الحسين علیه السلام فذلك لا يعني انتهاء العلم الإجمالي بل يعني تحقق احد طرفيه ، وواضح ان تحقق أحد طرفي العلم الإجمالي لا يقتضي زوال العلم الإجمالي وإلاّ لزم سقوط كل علم إجمالي عن المنجزية بتحقق أحد طرفيه ، فمثلا يلزم إذا علم المكلّف اجمالا بوجوب اما الظهر أو الجمعة عليه زوال المنجزية عند الإتيان بالظهر حيث إنه بعد تحققها لا يقطع بتوجه وجوب إليه. وإذا قيل بكفاية العلم الإجمالي الثابت قبل الاتيان بالظهر في ثبوت المنجزية قلنا بذلك في

ص: 296

مقامنا أيضا (1).

الرابع :

ان يفرض علم المكلّف بتحقق أحد النذرين السابقين منه ويفرض أيضا

ص: 297


1- أجل أقصى ما نسلّمه في مثال النذر انّ الظهر متى ما حلّ فالمكلّف لا علم له بوجوب ترك اما البرتقال بعد الظهر أو ترك الرمان بعد الظهر ولكن هذا شيء والعلم الإجمالي بوجوب ترك اما البرتقال إلى الظهر أو ترك الرمان إلى المغرب شيء آخر. ولربّما يقع الخلط بين هذين العلمين الإجماليين ، والصواب التفرقة بينهما ، فالعلم الزائل بعد الظهر هو العلم بوجوب أحد التركين المقيدين بما بعد الظهر بينما المدعى بقاءه هو العلم بوجوب اما ترك البرتقال إلى الظهر أو ترك الرمان إلى المغرب فان هذا العلم لا يزول بتحقق الظهر. وما دام باقيا فهو ينجز كلا طرفيه. ومجرد تحقق أحد طرفيه لا يعني زوال العلم الإجمالي. لا يقال : ان الاصول في المقام ليست متعارضة بل تجري البراءة عن حرمة الرمان بلا معارضة بالبراءة عن البرتقال لانقضاء فترة حرمته المحتملة. فإنه يقال : انا لا ندعي المعارضة بين الاصلين الجاريين بعد الظهر ليقال ان أحدهما لا يجري بل ندعيها بين البراءة عن حرمة الرمان بعد الظهر والبراءة عن حرمة البرتقال قبل الظهر. وهذه المعارضة ثابتة ولا تزول بتحقق الظهر إذ حتى لو تحقق الظهر يبقى المكلّف عالما بان إحدى الحرمتين _ أي حرمة الرمان بعد الظهر وحرمة البرتقال إلى الظهر _ ثابتة ، ومع العلم بثبوت احداهما فلا يمكن ان يجري الأصل لنفيهما معا. وبهذا كله يتضح التأمل فيما اختاره المحقق الايرواني في حاشيته على الكفاية المسماة بنهاية النهاية ج ٢ ص ١٢٦ حيث اختار ان الفرد الطويل لا يتنجز على امتداده وإنّما التنجيز يبقى ما دامت فترة القصير لم تنته. ووجه التأمّل : انّ انتهاء أمد الفرد القصير لو كان يستلزم زوال العلم الإجمالي أو سقوطه عن المنجزية للزم مثل ذلك في صلاة الجمعة والظهر فيما لو أدّى المكلّف إحدى الصلاتين ، فإنّه بعد أداءه لإحداهما يحتمل أن انّ ما أدّاه هو الواجب واقعا وبالتالي يلزم عدم بقاء العلم الإجمالي.

علمه بانه لو كان قد نذر ترك شرب البرتقال فهو قد نذره إلى الظهر جزما لو كان قد نذر ترك الرمان فتقييده بالظهر مشكوك وليس مجزوم العدم كما كنا نفترض ذلك في النحو الثالث.

وفي هذا النحو لا إشكال في وجوب ترك كلا المائعين قبل حلول الظهر وإنّما الإشكال في وجوب ترك ماء الرمان ما بعد الظهر.

قد يقال بعدم وجوب ذلك باعتبار ان المكلّف من الابتداء - أي قبل الظهر - لا يعلم باكثر من وجوب الترك إلى حدّ الظهر ، فقبل الظهر يعلم بوجوب ترك احد المائعين عليه إلى حدّ الظهر ، واما الزائد على ذلك فهو غير معلوم.

وقد يجاب بإمكان اثبات وجوب الترك ما بعد الظهر بطريق آخر غير العلم الإجمالي وهو الاستصحاب ، حيث انه قبل الظهر كان يجب الترك فاذا شكّ في بقاء الوجوب إلى ما بعد الظهر استصحب.

وفيه : ان كان المقصود استصحاب وجوب ترك البرتقال فهو باطل لأن المفروض ان لنا قطعا بارتفاع ذلك ما بعد الظهر ، وان كان المقصود استصحاب وجوب ترك الرمان فهو باطل أيضا لأن ثبوت وجوب ترك الرمان ما بعد الظهر وان كان محتملا إلاّ أنّه لا يقين قبل الظهر بالوجوب المذكور ليستصحب بقاءه ، إذ من المحتمل ان النذر الذي حصل واقعا هو نذر ترك البرتقال لا نذر ترك الرمان (1)

والخلاصة : ان اثبات وجوب الترك ما بعد الظهر غير ممكن لا بالعلم الإجمالي ولا بالاستصحاب.

ص: 298


1- يمكن ان يقال باجراء استصحاب الجامع على حدّ استصحاب الكلي من القسم الثاني. وقد قبل قدس سره ذلك في النحو الثاني ومن المناسب قبوله هنا أيضا.

هكذا قد يقال.

ولكن في مقابل ذلك يمكن ان يقال بإمكان اجراء استصحاب وجوب ترك الرمان إلى ما بعد الظهر على تقدير ثبوته ما قبل الظهر فيقال ان ترك الرمان لو كان وجوبه ثابتا قبل الظهر فهو باق إلى ما بعد الظهر ، نظير ما يقال من ان زيدا لو كان عادلا قبل شهر مثلا فعدالته باقية إلى الآن فلو قبلنا جريان هذا الاستصحاب جرى ذاك الاستصحاب أيضا لعدم الفرق.

أجل ان جريان الاستصحاب بالشكل المذكور مبني على ان جريان الاستصحاب لا يتوقف على وجود يقين سابق بل على ثبوت الحالة سابقا وان لم تكن متيقنة. وستأتي الاشارة إلى تحقيق ذلك في باب الاستصحاب ، فبناء على ذلك يمكن جريان استصحاب بقاء وجوب ترك الرمان إلى ما بعد الظهر على تقدير ثبوته ما قبل الظهر.

وقد تقول : ان جريان الاستصحاب بهذا الشكل لغو وبلا فائدة ، إذ أي فائدة في استصحاب بقاء العدالة لزيد على تقدير ثبوتها له سابقا ، فان الاستصحاب المذكور لا يثبت بقاءها بالفعل لترتيب آثارها عليها - كجواز الإقتداء مثلا - وإنّما يثبت بقاءها على تقدير حدوثها.

ويمكن دفع محذور اللغوية المذكور بافتراض ضمّ ضميمة وهي أن نقول هكذا : بناء على جريان الإستصحاب بالشكل المذكور يحصل لنا علم إجمالي بأنّه يجب علينا امّا ترك ماء البرتقال إلى الظهر أو ترك ماء الرمّان إلى ما بعد الظهر بالإستصحاب. وهذا العلم الإجمالي منجّز لطرفيه أي لوجوب ترك البرتقال الى الظهر وترك الرمّان إلى المغرب.

ص: 299

قوله ص 112 س 5 : من خلال ذلك : أي من خلال انهدام أحد الأركان فيها.

قوله ص 112 س 8 : رأسا : أي حدوثا وبقاء. والاولى حذف الكلمة المذكورة لأنّ زوال العلم بالجامع رأسا يختص بالصورتين الاوليتين ولا يعم الثالثة ، إذ فيها يزول العلم بالجامع بقاء لا حدوثا.

قوله ص 113 س 2 : والأمر فيه كذلك أيضا : أي تسقط المنجّزيّة عن العلم الإجمالي لانعدام الركن الأوّل.

قوله ص 113 س 5 : تعارضت فيها : أي في الأطراف.

قوله ص 113 س 8 : وقد يجاب الخ : التعبير بقد - الدال على تضعيف ذلك - لعله من جهة أتحاد ذات الشكّين وعدم تعدّد الموضوع.

قوله ص 113 س 8 : أصله : أي أصله العملي.

قوله ص 113 س 9 : هو الشك في انطباق المعلوم بالإجمالي : أي هناك علم إجمالي وشك في انطباق معلومه على كل طرف ، وهذا قد زال جزما ، والذي حدث هو شك بدوي بلا علم إجمالي.

قوله ص 114 س 1 : بحيث يرتفع متى ما استوفاه : أي بحيث يرتفع الجامع متى ما استوفى الجامع أمده.

قوله ص 115 س 3 : وحكمه أنّه ينجّز الطويل على امتداده : تخصيص الطويل بالذكر لأنّ تنجيزه للقصير بمقدار أمده مسلّم. هذا ولكن نقلنا عن المحقّق الإيرواني فيما سبق المناقشة في ذلك فراجع.

قوله ص 115 س 5 : مشكوك البقاء : أي بينما الآخر - وهو وجوب ترك

ص: 300

البرتقال - متيقّن الإرتفاع.

قوله ص 115 س 11 : أمّا بثبوت الإستصحاب الخ : أي أمّا بثبوت إستصحاب حرمة الرمّان إلى ما بعد الظهر أو ثبوت حرمة البرتقال إلى الظهر.

ص: 301

ص: 302

الحالة الثانية او الاضطرار الى بعض الاطراف

اشارة

والحالة الثانية التي لا يكون العلم الإجمالي فيها منجّزا هي حالة الإضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف ، كما لو كان لدى المكلّف ماء برتقال وماء رمّان يعلم بنجاسة أحدهما واضطر إلى شرب ماء البرتقال بسبب وصفه الطبيب فلا إشكال في جواز شرب ماء البرتقال لقوله صلی اللّه علیه و آله : « رفع عن امّتي ما اضطروا إليه » وإنّما الإشكال في الإناء الثاني الذي لم يتعلّق به الإضطرار فهل يجوز شربه أيضا؟

فمحل الكلام على هذا هو الإناء الثاني ، وأمّا الإناء الأوّل المضطر إليه فلا إشكال في جواز ارتكابه.

والجواب : إنّ الإضطرار له صورتان فتارة يكون إضطرارا إلى طرف معيّن ، واخرى يكون إلى أحد الطرفين من دون تعيين.

مثال الأوّل : ما أشرنا له سابقا ، فإنّ المكلّف في المثال السابق بسبب وصفة الطبيب صار مضطرّا إلى تناول إناء معيّن من الإنائين وهو إناء البرتقال.

مثال الثاني : ما إذا كان لدى المكلّف إناءان كلاهما ماء برتقال يعلم بنجاسة أحدهما ، وقد اضطرّ بسبب وصفة الطبيب إلى تناول أحدهما فإنّ الإضطرار هنا إلى طرف غير معيّن لأنّ المفروض أنّ كليهما ماء برتقال.

الصورة الاولى
اشارة

وفي الصورة الاولى - وهي الإضطرار إلى ارتكاب طرف معيّن - لا إشكال

ص: 303

في جواز ارتكاب إناء البرتقال لقاعدة « رفع عن امّتي ما اضطرّوا اليه » ، وإنّما الإشكال في جواز ارتكاب الإناء الثاني.

والصحيح : جواز إرتكابه لأنّ كلّ حكم من الأحكام في التشريع الإسلامي مقيّد بعدم الإضطرار ، فالصوم واجب ، وهو مقيّد بعدم الإضطرار إلى تركه ، والسرقة محرّمة وهي مقيّدة بعدم الاضطرار إلى ارتكابها ، وهكذا بقيّة الأحكام.

ومن جملة الأحكام : حرمة تناول النجس في مقامنا ، فإنّها مقيّدة بعدم الاضطرار ، فإذا اضطرّ المكلّف إلى شرب ماء البرتقال في المثال السابق زال العلم الإجمالي بالحرمة إذ من المحتمل ثبوت النجاسة في إناء ماء البرتقال ، وعلى تقدير ثبوتها فيه تزول الحرمة بسبب الإضرار إلى تناوله ، ومعه يكون الشك في حرمة الإناء الثاني شكّا بدويّا فتجري البراءة فيه بلا معارض ، إذ إناء البرتقال لا يوجد بلحاظه شكّ حتّى يحتاج إلى إجراء البراءة فيه بل تجري في الإناء الثاني بلا معارض.

وبهذا نعرف أنّ الركن الذي انعدم في هذه الحالة هو الركن الأوّل من الأركان الأربعة المتقدّمة وهو العلم بجامع التكليف ، فإنّا عرفنا أنّ العلم بالجامع منعدم في هذه الحالة وإنّما هناك شكّ بدوي في ثبوت الحرمة بالنسبة إلى الإناء الثاني.

هذا ولكنّا نستدرك ونقول أنّ العلم الإجمالي إنّما يسقط عن المنجّزيّة بالنسبة إلى الإناء الثاني فيما لو فرض أنّ الاضطرار كان ثابتا قبل العلم الإجمالي ، وأمّا إذا كان ثبوته بعد العلم الاجمالي فيبقى العلم الإجمالي على المنجّزيّة بالنسبة

ص: 304

إلى الإناء الثاني.

ولتوضيح ذلك أكثر نقول : إنّ الاضطرار تارة يكون حادثا قبل العلم الاجمالي ، كما لو فرض أنّ المكلّف ذهب إلى الطبيب ووصف له أن يتناول ماء البرتقال ولمّا همّ أن يتناول وقعت قطرة بول في أحد الإنائين - أي إناء البرتقال وإناء الرمّان - فالاضطرار على هذا يكون ثابتا قبل حدوث العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإنائين.

وفي مثل هذا يتمّ ما ذكرناه سابقا من سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة بالنسبة إلى الإناء الثاني لأنّه في الآن الذي رأى فيه المكلّف وقوع القطرة في أحد الإنائين لا يحدث له علم إجمالي بحرمة أحد الإنائين إذ يحتمل وقوعها في ماء البرتقال الذي إفترضنا حلّيّة شربه بسبب الإضطرار إلى ارتكابه قبل حدوث العلم الإجمالي.

هذا كله فيما إذا كان الاضطرار حادثا قبل العالم الإجمالي.

واخرى يكون الإضطرار حادثا بعد العلم الإجمالي ، كما لو فرض أنّ المكلّف قبل ذهابه إلى الطبيب علم بنجاسة أحد الإنائين ثمّ ذهب إلى الطبيب ووصف له ماء البرتقال واضطر بسبب ذلك إلى شربه اضطرارا حاصلا بعد تحقّق العلم الإجمالي.

وفي هذا الافتراض اختار الشيخ الأعظم قدس سره في رسائله بقاء العلم الإجمالي على المنجّزيّة بالنسبة إلى الإناء الثاني وخالفه الآخوند في الكفاية ، فذهب إلى زوال منجّزيّته ولم يفرّق بين هذا الإفتراض وسابقه ، ففي كليهما حكم بسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة بالنسبة إلى الإناء الثاني لنفس النكتة المذكورة

ص: 305

في الإفتراض الاوّل دون أي فرق ، وقال : إنّ المكلّف لا يبقى له علم إجمالي بحرمة أحد الإنائين بعد اضطراره ، إذ لعلّ الإناء الذي وقع عليه اختياره هو النجس وبذلك يصير حلالا ولا يبقى لديه علم بحرمة أحد الإنائين.

هذا ولكن لنفس الآخوند حاشية على كفايته اختار فيها بقاء العلم الإجمالي على المنجزية بالنسبة إلى الإناء الثاني. وقربّ ذلك بما ذكره السيد الشهيد في عبارة الكتاب ، وهو أنّ المكلّف لمّا حصل له قبل الذهاب إلى الطبيب علم إجمالي بنجاسة أحد الإنائين فهذا العلم الإجمالي علم إجمالي بالفرد المردد بين القصير والطويل إذ المكلّف يمكنه ان يقول في نفسه قبل الذهاب إلى الطبيب : ان كانت النجاسة قد وقعت في إناء البرتقال فحرمة الشرب الحاصلة بسبب وقوع النجاسة فيه حرمة قصيرة تمتد إلى وقت الاضطرار وتزول بعده ، بينما إذا كانت قد وقعت في إناء الرمان فحرمة الشرب الحادثة حرمة طويلة تمتد إلى الأبد - لو فرض عدم اضطراره إلى شربه إلى الأبد - فالمكلف على هذا قبل ان يعرض له الاضطرار يحدث له علم إجمالي اما بحرمة قصيرة لأناء البرتقال أو بحرمة طويلة لإناء ماء الرمان.

وقد تقدم سابقا ان العلم الإجمالي بالفرد القصير والطويل ينجّز الطويل على امتداده حتى بعد انتهاء فترة الفرد القصير. فالعلم الإجمالي الحادث قبل طرو الاضطرار يحرك المكلّف نحو ترك الطرفين معا فيحرك إلى ترك البرتقال فترة طرو الاضطرار ويحرك نحو ترك الرمان إلى الأبد.

وهذه المحركية تبقى حتى بعد إنتهاء فترة الفرد القصير ، غاية الأمر بعد انتهاء فترة القصير تنتهي محركية القصير لا لقصور في محركية العلم الإجمالي بل

ص: 306

لقصور في نفس الطرف لأنه قصير في نفسه.

والخلاصة : انه يوجد لدينا افتراضان لا يكون العلم الإجمالي في الافتراض الأوّل منهما منجزا للطرف الثاني بينما في الإفتراض الثاني يكون منجزا.

ولدينا افتراض ثالث وهو ان يكون الاضطرار ثابتا قبل العلم الإجمالي بيد ان المعلوم بالإجمال يكون متقدما على الاضطرار ، كما لو فرض ان المكلّف حدث له الاضطرار إلى شرب ماء البرتقال ظهرا ، وبعد حلول الظهر علم إجمالا بوقوع نجاسة صباحا اما في ماء البرتقال أو في ماء الرمان ، فالنجاسة حاصلة صباحا إلاّ ان العلم بها حصل بعد الظهر ، أي ما بعد فترة طرو الاضطرار.

وفي هذا الافتراض لا يكون العلم الإجمالي منجزا للإناء الثاني ويكون حال ذلك حال الافتراض الأوّل.

والنكتة في ذلك هي اختلال الركن الثالث - تعارض الاصول - لأن ماء البرتقال بعد فرض الاضطرار إليه يكون المكلّف قاطعا بحليته ولا يكون بحاجة الى اجراء الأصل فيه وبالتالي يجري الأصل في إناء الرمان بلا معارض.

وهل الركن الأوّل - ثبوت العلم بالتكليف - مختل أيضا كما كان مختلا في الافتراض الأوّل؟ كلا أنّه ليس بمختل ، فالمكلف في الافتراض الأوّل وان لم يكن له علم بالتكليف إلاّ أنّه في هذا الافتراض له علم بذلك.

والنكتة الفارقة هي ان المكلّف في هذا الافتراض وان حصل له العلم الإجمالي بالنجاسة بعد طرو الاضطرار إلاّ ان متعلق العلم هو النجاسة الثابتة قبل الاضطرار ، فالمكلف بعد الظهر يحصل له العلم بتحقق وجوب الاجتناب في حقه

ص: 307

صباحا عن أحد الإنائين ، ولكن هذا العلم لا أثر له لأنّه حصل في وقت لا تتعارض الاصول في اطرافه.

تلخيص وأسئلة

اتضح من خلال ما تقدم ان صورة الاضطرار إلى ارتكاب طرف معين تشتمل على ثلاثة افتراضات هي : -

أ - ان يكون الاضطرار ثابتا قبل العلم الإجمالي. وفي مثله لا يحصل علم بالتكليف لأن العلم بالنجاسة يحدث للمكلف في وقت هو مضطر فيه إلى ارتكاب أحد الطرفين.

وقد تسأل : لماذا لا تفترض هنا مسألة الفرد الطويل والقصير؟

والجواب : إنّ الحرمة القصيرة لا يمكن تصورها في هذا الفرض لأن قطرة النجاسة وقعت حسب الفرض بعد طرو الاضطرار ، فقبل الاضطرار لم تقع القطرة حتى تحصل الحرمة بل الإناء طاهر ، وبعد طرو الاضطرار لا تحدث حرمة في إناء البرتقال حتى لو فرض القطع بوقوع القطرة فيه لفرض الاضطرار لارتكابه.

وعليه فلم تمر على إناء البرتقال فترة تكون الحرمة ثابتة فيها حتى تكون قصيرة.

ب - ان يكون الاضطرار حاصلا بعد العلم الإجمالي. وفي مثله يتصور العلم بالفرد الطويل والقصير إذ الحرمة ثابتة قبل طرو الاضطرار جزما ولكن لا يعلم هي طويلة أو قصيرة ، فعلى تقدير ثبوت النجاسة في إناء البرتقال هي

ص: 308

قصيرة وإلاّ فهي طويلة.

وقد تقول : ان الاصول في هذا الفرض ليست متعارضة إذ اناء ماء البرتقال بعد فرض طرو الاضطرار عليه يجزم بحليته ولا حاجة إلى اجراء الأصل فيه بل يجري في الإناء الآخر بلا معارض.

والجواب : ان هذا يتم لو كان العلم الإجمالي بالدوران بين الفرد القصير والطويل حادثا بعد الاضطرار ، اما إذا كان حادثا قبل الاضطرار - كما أوضحنا ذلك سابقا - فالأصول تبقى متعارضة لأن سبب تعارضها وهو العلم الإجمالي ثابت حتى بعد طرو الاضطرار ، فان تقضّي امد الفرد القصير لا يعني زوال العلم الإجمالي. وما دام ثابتا قبل الاضطرار وبعده فيكون سببا لتعارض الاصول قبل الاضطرار وبعده.

ج - ان يكون الاضطرار حاصلا قبل العلم الإجمالي ولكن المعلوم بالاجمال متقدم. وفي مثله لا تتعارض الاصول في الأطراف لأن سبب تعارضها هو العلم الإجمالي ، والمفروض حصوله بعد الاضطرار ، أي في فترة لا يجري فيها الأصل في إناء البرتقال للقطع بحليته.

وقد تقول : لماذا لا تجري مسألة الفرد القصير والطويل هنا؟

والجواب : ان العلم بالحرمة المرددة بين القصيرة والطويلة وان كان حاصلا إذ المكلّف بعد ان علم بثبوت نجاسة صباحا سابقة على الاضطرار سوف يعلم بتوجه وجوب الاجتناب إليه في الصباح ويتردد ذلك الوجوب الموجه بين ان يكون قصيرا ينتهي أمده بالاضطرار - على تقدير طرو النجاسة في إناء البرتقال - أو طويلا ، ولكن حيث انّ هذا العلم حدث بعد الاضطرار وذلك فلا

ص: 309

يكون منجزا إذ شرط المنجزية تعارض الاصول في الأطراف ، والعلم الإجمالي متى ما حصل بعد الاضطرار فلا تتعارض الاصول في اطرافه بل تجري البراءة في ماء الرمان بلا معارض ، فان التعارض يحصل عند تحقق العلم الإجمالي لا قبله ، وحيث ان تحقق العلم الإجمالي في المقام هو بعد الاضطرار فلا يكون سببا لتعارض الاصول.

طرو المسقطات الاخرى

هذا كله في الافتراضات الثلاثة لطرو الاضطرار.

وقد تسأل عن طرو المسقطات الاخرى ، كما اذا تلف أحد الإنائين أو طهر أو غير ذلك فما هو الحكم؟

ان الحكم هنا هو نفس الحكم في صورة طرو الاضطرار ، فكما ان الاضطرار لو طرأ بعد العلم الإجمالي يبقى على المنجزية في الطرف الآخر كذلك لو تلف أحد الإنائين بعد العلم الإجمالي يبقى على المنجزية في الطرف الآخر. وكما لو طرأ الاضطرار قبل العلم الإجمالي أو معه يسقط عن المنجزية كذلك هنا ، والنكتة هي نفس النكتة السابقة ، فان تلف أحد الطرفين لو كان حاصلا بعد العلم الإجمالي تشكّل لدى المكلّف علم إجمالي يتردد طرفاه بين القصير والطويل بخلاف ما اذا كان حاصلا قبله.

الصورة الثانية

والصورة الثانية من صورتي الاضطرار هي ان يكون الاضطرار إلى طرف غير معين.

ص: 310

وفي هذه الصورة لا إشكال أيضا في جواز ارتكاب أحد الطرفين لقاعدة « رفع عن امتي ما اضطروا إليه » وإنّما الاشكال بالنسبة إلى الطرف الثاني فهل يجوز ارتكابه؟

وبكلمة اخرى : لا إشكال في عدم وجوب الموافقة القطعية ، وإنّما الاشكال في جواز المخالفة القطعية وعدمه.

والشيخ الأعظم قدس سره في رسائله حكم بوجوب الاجتناب عن الطرف الثاني في هذه الصورة للعلم بثبوت الحكم بوجوب الاجتناب على كل تقدير ، فان النجاسة لو كانت في الطرف الأوّل وجب الاجتناب عنه لامكان دفع الاضطرار بارتكاب الطرف الآخر لفرض ان الاضطرار لم يتعلق بطرف معين بخصوصه. وهكذا لو كانت النجاسة ثابتة في الطرف الثاني فيجب الاجتناب عنه لامكان دفع الاضطرار بارتكاب الطرف الأوّل.

اذن المكلّف في هذه الصورة يعلم بثبوت الحكم بوجوب الاجتناب عليه على كل تقدير فيجب عليه الاجتناب عن أحد الطرفين وان جاز له ارتكاب أحدهما للاضطرار.

وهذا بخلافه في الصورة الأولى فان المكلّف لا علم له بوجوب الاجتناب على كل تقدير إذ على تقدير وقوع النجاسة في إناء الرمان فالاجتناب عنه وان كان واجبا إلاّ أنّه على تقدير وقوعها في إناء البرتقال لا يجب الاجتناب عنه لفرض الاضطرار إلى خصوص البرتقال.

هذا هو الفارق بين الصورتين في نظر الشيخ الأعظم (1).

ص: 311


1- ولا حاجة إلى تشقيق المسألة وفرض الاضطرار إلى غير المعين تارة قبل العلم واخرى بعده ووجه ذلك : ان الاضطرار إلى غير المعين سواء كان حادثا بعد العلم الإجمالي أو قبله فالمكلّف يعلم إجمالا بالتكليف الثابت على كل تقدير فيكون منجزا عليه سواء كان اضطراره قبلا أم بعدا.

والآخوند اختار في هذه الصورة عدم وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر أيضا كما اختار ذلك في الصورة السابقة. وذكر في الردّ على الشيخ الأعظم ان النجاسة لو كانت قد أصابت الإناء الأوّل فالاضطرار وان كان يندفع بإرتكاب الإناء الثاني ولكن المكلّف له حق اختيار الإناء الأوّل. وما دام له اختياره فاذا مدّ يده لتناوله ارتفع الحكم بوجوب الاجتناب عنه ولا يبقى لديه علم إجمالي بوجوب الاجتناب ، ومعه فيجوز له اجراء البراءة في الإناء الثاني بلا معارض.

والسيد الشهيد أوضح رأي الآخوند ضمن منهجة تتركب من مقدمات ثلاث (1) :

أ - ان العلم الإجمالي علة تامة لوجوب الموافقة القطعية ، بمعنى انه متى ما ثبت العلم الإجمالي ثبت وجوب موافقته القطعية ولا يمكن التفكيك بينهما.

ب - ان المعلول ساقط ، بمعنى ان وجوب الموافقة القطعية غير ثابت اذ المفروض جواز ارتكاب أحد الطرفين من جهة الاضطرار.

ج - ان المعلول اذا سقط كشف ذلك عن سقوط علته التامة - إذ لا يمكن سقوط المعلول مع ثبوت علته التامة - وهي العلم الإجمالي بثبوت التكليف الفعلي ، فالموافقة القطعية اذا لم تجب كشف ذلك عن عدم بقاء العلم الإجمالي

ص: 312


1- هذا الدليل بالمنهجة المذكورة وان لم يذكر في الكفاية ولكنه من حيث الروح هو نفس ما نقلناه عنها.

بالتكليف الفعلي.

ولكن كيف يزول العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي؟ ان زواله لا يكون الاّ بافتراض عدم وجوب الاجتناب عن النجاسة على تقدير اصابتها للإناء الذي يختاره المكلّف فانه على هذا التقدير يجري أصل البراءة في الطرف الآخر بلا معارضة إذ الإناء الذي يختاره يجزم بعدم وجوب الاجتناب عنه بسبب اختياره له فيبقى الطرف الآخر يشك في اصابة النجاسة له ووجوب الاجتناب عنه فيجري أصل البراءة فيه بلا معارض.

هذا ويمكن المناقشة من وجوه ثلاثة : -

1 - ان المقدمة الأولى غير مسلمة ، فلا نسلم ان العلم الإجمالي علة لوجوب الموافقة بل هو مقتض لذلك كما تقدم ص 92 من الحلقة ، فالعلم الإجمالي اذا كان علة لوجوب الموافقة القطعية فسقوط وجوب الموافقة كاشف عن سقوط العلة التامة إذ لا يمكن بقاء العلة التامة عند سقوط المعلول.

واما اذا بني على ان العلم الإجمالي مقتض فسقوط وجوب الموافقة لا يدل على زوال العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي ، إذ المقتضي يجوز ثبوته عند سقوط المعلول فالنار يمكن ثبوتها حالة عدم ثبوت الاحتراق.

2 - انه ذكر في المقدمة الثانية ان المعلول ساقط ، أي ان الموافقة القطعية لا تجب باعتبار انه يجوز ارتكاب أحد الطرفين لأجل الاضطرار. ويمكن ان نقول ان جواز ارتكاب أحد الطرفين من جهة الاضطرار لا يتنافى ووجوب الموافقة القطعية إذ المقصود من عليّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية ان العلم الإجمالي يمنع من جعل الترخيص في بعض الأطراف بواسطة الأصل العملي

ص: 313

المؤمن - إذ موضوع الأصل هو عدم البيان ، ومع العلم الإجمالي يكون البيان تاما فيمتنع جعل الترخيص بواسطة الأصل المؤمن - وليس المقصود انه يمنع من الترخيص ولو من جهة اخرى كالاضطرار ونحوه والاّ فاي عاقل يحتمل ان المقصود من عليّة العلم الإجمالي انه مع العلم بنجاسة أحد انائين لا يجوز للشارع الترخيص في ارتكاب أحدهما حتى مع الاضطرار والحاجة الملحة إلى التناول.

3 - لو سلمنا جميع المقدمات الثلاث فليست النتيجة تتفق وما رامه الآخوند من جواز المخالفة القطعية وارتفاع التكليف راسا بل مقتضى الجمع بين الحقين - حق عليّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية وحق الاضطرار المقتضي لجواز ارتكاب أحد الطرفين (1) - هو تغير التكليف بالاجتناب عن النجس وهبوطه من الدرجة العالية وصيرورته تكليفا متوسطا ، فان التكليف بالاجتناب عن النجس يتصور بثلاثة أشكال : -

أ - اذا كان الاناء النجس هو الإناء الأوّل واقعا حرم ارتكابه سواء كان - ارتكابه - منفردا أم منضما إلى ارتكاب الاناء الثاني. والتكليف في هذا الشكل تكليف بدرجة عالية.

ب - اذا كان الإناء النجس هو الأوّل واقعا فلا يحرم ارتكابه سواء كان منفردا أم منضما. والتكليف في هذا الشكل تكليف بدرجة واطئة وبالاحرى لا تكليف.

ج - اذا كان النجس هو الأوّل واقعا فلا يحرم ارتكابه ان كان منفردا ويحرم ان كان منضما إلى الإناء الآخر. والتكليف في هذا الشكل تكليف متوسط بين

ص: 314


1- لعل من المناسب اضافة افتراض ثالث وهو العلم بثبوت أصل التكليف.

الشكلين السابقين.

وباتضاح هذه الاشكال الثلاثة نقول : ان هذا البرهان لاثبات جواز المخالفة القطعية يبتني على ان يكون التكليف بالاجتناب عن النجس تكليفا بالشكل الاول ، ولكن الجمع بين الحقين يقتضي هبوط التكليف بالاجتناب عن النجس من درجته العالية إلى درجته المتوسطة أي يصير الإناء النجس محرم الإرتكاب في صورة ارتكاب كلا الإنائين وغير محرم الارتكاب على تقدير ارتكاب أحد الإنائين.

وبناء على هذا : اذا ارتكب المكلّف أحد الإنائين تكون الموافقة القطعية منه حاصله - لان المحرم عليه هو ارتكاب كلا الإنائين والمفروض لم يرتكبهما معا وإنّما ارتكب أحدهما - واذا ارتكبهما معا يكون قد خالف قطعا.

قوله ص 117 س 1 : قبل العم : الصواب : قبل العلم.

قوله ص 117 س 11 : بعده : متعلق بطرو. والضمير يرجع إلى العلم الإجمالي.

قوله ص 117 س 14 وإنّما الكلام في جواز المخالفة القطعية : هذا أمر مشترك بين الصورتين فكان من المناسب إضافة كلمة « أيضا » بعد كلمة « فلا شك ».

قوله ص 118 س 4 : بسقوط : الانسب التعبير بزوال.

قوله ص 118 س 5 : وذلك بارتفاع التكليف : أي وسقوط العلم الإجمالي يحصل بارتفاع التكليف فانه اذا ارتفع التكليف الفعلي على تقدير ثبوته في الإناء الذي يختاره المكلّف فسوف يزول العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي قهرا.

قوله ص 118 س 5 : فلا تكليف مع الاضطرار المفروض : في العبارة ايهام. والمقصود : لا تكليف على تقدير ثبوته في الطرف الذي اختاره.

قوله ص 119 س 7 : على الاطلاق : أي ابدا.

ص: 315

ص: 316

الحالة الثالثة أو انحلال العلم الاجمالي بالتفصيلي

اشارة

هناك حالات ينحل فيها العلم الإجمالي ويسقط عن المنجزية. وسبب ذلك اما الانحلال الحقيقي - الحاصل بسبب العلم التفصيلي - أو الانحلال الحكمي.

وهذه الحالة ناظرة إلى الانحلال الحقيقي واستعراض صوره بينما الحالة الرابعة من الحالات العشر ناظرة إلى الانحلال الحكمي.

ولتوضيح الحال في الانحلال الحقيقي نقول : ان لكل علم إجمالي سببا ولا يمكن ان يحصل علم إجمالي بلا سبب ، فمثلا من يرى قطرة دم تقع في واحد من أواني عشرة يحصل له علم إجمالي بنجاسة احدها. والسبب لهذا العلم الإجمالي هو وقوع القطرة فلولا وقوعها في أحد الأواني لم يحصل له هذا العلم الإجمالي.

وهذا شيء واضح بيد ان سبب العلم الإجمالي له حالتان ، إذ تارة يكون - سبب العلم الإجمالي - مختصا واقعا بطرف معين من الأطراف ، واخرى تكون نسبته إلى جميع الأطراف بدرجة واحدة دون اختصاص له ببعض الأطراف.

مثال الحالة الأولى : ما ذكرناه من العلم الإجمالي بنجاسة أحد الأواني الناشئ من وقوع قطرة دم في بعضها ، فان سبب هذا العلم الإجمالي - وهو وقوع القطرة - يختص بإناء واحد معين واقعا إلاّ أنّه حيث لم يتعين لدينا ذلك الإناء حصل العلم الإجمالي.

ولأجل اختصاص هذا السبب ببعض الأواني يمكن أخذ هذا السبب في

ص: 317

المعلوم بالاجمال فيصح ان نقول ان معلومنا الإجمالي هو نجاسة أحد الأواني نجاسة ناشئة من وقوع القطرة.

ومثال الحالة الثانية : ما اذا كان لدينا أواني عشرة وكان إلى جنبها كلب عطشان فإنه بعد مضي فترة يحصل لنا علم إجمالي بنجاسة واحد من الأواني على الأقل إذ من البعيد جدا ان الكلب مع عطشه لم يشرب من أحدها.

وسبب العلم الإجمالي المذكور الاستبعاد. وهذا السبب لا يختص بطرف دون آخر إذ الاستبعاد لا يختص واقعا بأحد الأطراف بل نسبته إلى جميع الأطراف بدرجة واحدة (1). ولأجل عدم اختصاصه واقعا بطرف معين فلا يصح اخذه قيدا في المعلوم بالاجمال فلا يمكن ان نقول ان المعلوم الاجمالي هو نجاسة أحد الأواني نجاسة ناشئة من الاستبعاد ، فان الاستبعاد لا يختص بأحد الأواني حتى يؤخذ قيدا فيه.

وبعد اتضاح هاتين الحالتين ناخذ الحالة الاولى أولا ونطرح فيها السؤال التالي : متى ينحل العلم الاجمالي بنجاسة أحد الأواني - نجاسة ناشئة من وقوع القطرة - بالعلم التفصيلي انحلالا حقيقيا؟

والجواب : انّه توجد في هذه الحالة شقوق ثلاثة هي : -

أ - ان يعلم إجمالا بنجاسة أحد الأواني نجاسة ناشئة من وقوع قطرة الدم ثم يحصل العلم التفصيلي بذلك الاناء الذي اصابته القطرة ، أي يتعلق العلم

ص: 318


1- أجل النجاسة الثابتة بسبب الاستبعاد وان كانت مختصة ببعض الأطراف إلاّ ان الاستبعاد الذي هو سبب العلم بالنجاسة لا يختص ببعض الأطراف. هذا ولكن سيأتي منّا فيما بعد التعليق على ذلك.

التفصيلي بنفس ما كان العلم الإجمالي متعلقا به.

وفي مثله لا إشكال في انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي انحلالا حقيقيا لأن المفروض ان المعلوم بالتفصيل هو نفس المعلوم بالاجمال جزما.

وبعد حصول الانحلال تزول المنجزية عن العلم الاجمالي لاختلال الركن الثاني من الاركان الأربعة للمنجزية - وهو عدم سراية العلم من الجامع إلى الفرد - إذ المفروض سراية العلم من الجامع إلى الفرد.

وهذه السراية سراية بالنحو الأوّل من الانحاء الأربعة المذكورة في الركن الثاني ، فان النحو الأوّل هو ان يكون العلم التفصيلي متعلقا بنفس المعلوم الإجمالي والمفروض ان الأمر في هذا الشق الأوّل كذلك ، أي ان العلم التفصيلي متعلق بنفس ما تعلق به العلم الإجمالي.

ب - ان يعلم إجمالا بنجاسة واحد من الأواني نجاسة ناشئة من وقوع القطرة ويفرض بعد ذلك انا علمنا تفصيلا بنجاسة الإناء الثاني مثلا نجاسة ناشئة من قطرة اخرى غير القطرة الاولى.

وفي هذا الشق لا إشكال في عدم حصول الانحلال لأن المفروض ان المعلوم التفصيلي ليس مصداقا للمعلوم الاجمالي بل هو مغاير له فلماذا الانحلال؟

ج - ان يعلم اجمالا بنجاسة أحد الأواني نجاسة ناشئة من وقوع القطرة ويفرض بعد ذلك انا علمنا تفصيلا بنجاسة الإناء الثاني مثلا نجاسة نحتمل انها نفس النجاسة السابقة كما ونحتمل انها غيرها.

وفي هذا الشق لا يحصل الانحلال لأنه يدخل تحت النحو الثالث من الانحاء الأربعة المذكورة في الركن الثاني - فإنه تقدم في النحو الثالث أنّا اذا علمنا

ص: 319

بوجود انسان طويل في المسجد ثم علمنا تفصيلا بوجود زيد في المسجد ولكن لم نعلم انّه طويل حتّى يكون مصداقا للمعلوم بالإجمال أو قصير فلا ينحل العلم الاجمالي لأنّ العلم الاجمالي إنّما ينحل بالعلم التفصيلي لا بعلم إجمالي آخر - إذ المفروض في هذا الشق أن المعلوم الاجمالي معلّم بعلامة خاصة ، وهي كون النجاسة ناشئة من وقوع القطرة ، والمفروض أيضا أنّ المعلوم التفصيلي لا يحرز تواجد العلامة المذكورة فيه.

هذا كله في الحالة الأولى.

وأمّا الحالة الثانية - وهي كون سبب العلم الاجمالي غير مختص بطرف دون آخر - فنطرح فيها السؤال السابق أيضا ، وهو أنه متى ينحل العلم الاجمالي بالنجاسة بالعلم التفصيلي؟

والجواب : ان الانحلال هنا لا يختص بشقّ دون شق ، بل هو حاصل مطلقا ، فمثلا اذا كان لدينا عشرة أواني ، وبسبب الاستبعاد علمنا اجمالا بأنّ الكلب قد شرب من بعضها ، فاذا فرضنا أنّا بعد ذلك علمنا تفصيلا بأنّ الاناء الثاني مثلا قد شرب منه الكلب (1) ، فلا اشكال في حصول الانحلال لأنّ المعلوم بالتفصيل مصداق جزما للمعلوم بالاجمال ، إذ المفروض أن المعلوم بالاجمال لم يؤخذ معلّما بعلامة حتّى يدخل في النحو الثالث - من الانحاء المذكورة في الركن الثاني - الذي لا يحصل فيه الانحلال بل هو داخل في النحو الثاني من تلك الانحاء

ص: 320


1- طبيعي هذا الاناء الثاني يحتمل أنه عين الاناء الذي ثبتت نجاسته بالاستبعاد ويحتمل كونه غيره.

الذي تقدّم حصول الانحلال فيه (1).

التعاصر بين العلمين أو المعلومين

وبعد ان عرفنا حصول الانحلال الحقيقي في موردين : الحالة الثانية والشقّ الاوّل من الحالة الاولى ، نطرح السؤال التالي : هل يلزم لحصول الانحلال الحقيقي التعاصر بين زمان حصول العلمين : الاجمالي والتفصيلي أو يلزم التعاصر بين زمان المعلومين أو لا يشترط هذا ولا ذاك؟

وتوضيح ذلك : انّا لو كنا نعلم اجمالا في الساعة الثانية بتنجس احد الانائين في الساعة الأولى ثم حصل لنا العلم تفصيلا في الساعة الثالثة بأنّ الاناء الذي تنجّس في الساعة الاولى هو الاناء الأوّل فسوف نجد بعد الالتفات إلى هذه الفرضيات أنّ زمان حصول العلم التفصيلي ليس معاصرا لزمان حصول العلم الاجمالي ، بل هو متاخر عنه ، فزمان حصول العلم الإجمالي هو الساعة الثانية وزمان حصول العلم التفصيلي هو الساعة الثالثة ، ولكنّا اذا نظرنا إلى المعلوم بالاجمال والمعلوم بالتفصيل - المعلوم بالاجمال هو نجاسة أحد الانائين ، والمعلوم بالتفصيل هو نجاسة الاناء الأوّل - وجدنا أنّ زمانهما واحد وهو الساعة الاولى ، فالنجاسة المعلومة بالاجمال ثابتة في الساعة الاولى ، والنجاسة المعلومة

ص: 321


1- ولا يدخل في النحو الأوّل ، إذ في النحو الأوّل يكون العلم التفصيلي متعلقا بنفس ما تعلق به العلم الإجمالي ، والمفروض في مقامنا انّ العلم التفصيلي لم يتعلق بنفس ذلك الاناء الذي ثبتت نجاسته بالاستبعاد ، بل تعلق بنجاسة إناء يحتمل كونه عين ما ثبتت نجاسته بالاستبعاد ويحتمل كونه غيره

بالتفصيل ثابتة في الساعة الاولى أيضا.

وباتضاح هذا يتجلّى أنّ اللازم لتحقّق الانحلال الحقيقي هو التعاصر بين زمان المعلوم بالاجمال وزمان المعلوم بالتفصيل ، فإذا كان زمان المعلومين واحدا - وهو الساعة الاولى - حصل الانحلال حتّى وإن كان زمان حصول العلمين مختلفا. وأمّا اذا لم يكن زمان المعلومين واحدا بل مختلفا - كما اذا علمنا بتنجس احد الانائين في الساعة الاولى ثمّ علمنا تفصيلا بأنّ الاناء الأوّل تنجس في ساعة اخرى بنجاسة اخرى جديدة - فلا يحصل الانحلال لأن المعلوم الاجمالي مغاير للمعلوم التفصيلي ، فالمعلوم الاجمالي هو تنجس احد الانائين بنجاسة في الساعة الاولى بينما المعلوم التفصيلي هو تنجس الاناء الأوّل بنجاسة اخرى في الساعة الثانية.

قوله ص 120 س 3 : بنفس سبب العلم الاجمالي : أي كان متعلّقا بنفس سبب العلم الاجمالي.

قوله ص 120 س 15 : فيه : الضمير يرجع إلى العلم الاجمالي. ولعل حذف كلمة « فيه » اولى لعدم الحاجة اليها بل وجودها مشوش.

قوله ص 120 س 17 : الاناءات : المناسب : الاواني ، فان المفرد : اناء ، والجمع : آنية ، وجمع الجمع : أوان.

قوله ص 121 س 1 : فإنّ هذا الاستبعاد نسبته إلى الأطراف على نحو واحد : يمكن أن يقال انّ ما هو على وزان الاستبعاد هو رؤية وقوع القطرة لا نفس وقوع القطرة إذ ما يكون على وزان وقوع القطرة هو ملاقاة الكلب لا الاستبعاد نفسه.

ص: 322

ومعه فكما لا يمكن أخذ الاستبعاد قيدا في المعلوم بالاجمال لعدم اختصاصه بطرف معين كذلك لا يمكن أخذ رؤية وقوع القطرة فيه لعدم اختصاص الرؤية بطرف معيّن. وكما يمكن أخذ وقوع القطرة قيدا فيه كذلك يمكن أخذ ملاقاة الكلب قيدا فيه.

وبالجملة لا نعرف وجها للفرق.

قوله ص 121 س 3 : لا يصلح : أي السبب.

قوله ص 121 س 7 : بقيد زائد : وهو الاستبعاد مثلا.

قوله ص 121 س 12 : حقيقة : أي لا ينحل انحلالا حقيقيا. والتقييد بذلك لا للاحتراز عن الانحلال الحكمي ، بل لأنّ محل الكلام انما هو في الانحلال الحقيقي إذ الكلام في الانحلال الحكمي يأتي في الحالة الرابعة.

قوله ص 121 س 14 : وانهدام الركن الثاني : وهذا اشبه بعطف التفسير على الانحلال الحقيقي. المقصود من انهدام الركن الثاني سراية العلم من الجامع إلى الفرد.

قوله ص 121 س 16 : اذا احرز الخ : أي ما دام المعلوم التفصيلي متّحدا ومصداقا للمعلوم الاجمالي.

ص: 323

ص: 324

الحالة الرابعة أو الانحلال الحكمي

اشارة

والحالة الرابعة من الحالات العشر التي لا يكون العلم الاجمالي فيها منجّزا هي حالة الانحلال الحكمي على خلاف الحالة السابقة حيث كان الحديث فيها عن الانحلال الحقيقي.

وقبل الدخول في البحث ، نستذكر مقدمتين :

1 - إنّ انحلال العلم الاجمالي له اقسام ثلاثة :

أ - الانحلال الحقيقي. ويقصد به زوال العلم الاجمالي من النفس زوالا حقيقيا ، كما اذا علم المكلّف بنجاسة احد انائين بسبب قطرة دم ثم نظر فيهما فرأى انّ القطرة قد اصابت الاناء الأوّل.

في هذه الحالة يزول العلم الاجمالي من النفس حقيقة ويتحول إلى علم تفصيلي بنجاسة خصوص الاناء الأوّل وشك بدوي في نجاسة الثاني.

ب - الانحلال الحكمي. ويقصد به بقاء العلم الاجمالي في النفس حقيقة إلاّ أنّ حكمه - وهو التنجيز - لا يكون ثابتا ، كما لو كان لدينا إناءان علمنا بوقوع قطرة دم في احدهما ونفرض انّ الإناء الأوّل كانت حالته السابقة هي النجاسة.

في مثل ذلك يحصل علم إجمالي بنجاسة أحد الإنائين إلاّ أنّ هذا العلم الإجمالي - مع كونه ثابتا في النفس حقيقة - لا يكون منجزا لأنّ الإناء الأوّل حيث انّ حالته السابقة هي النجاسة فيجري فيه استصحاب النجاسة ، وبجريان

ص: 325

الاستصحاب المذكور لا يجري أصل الطهارة في الإناء الأوّل - لأنّ الاستصحاب حاكم على أصل الطهارة - بل يجري في الإناء الثاني بلا معارض.

وإذا لم تتعارض الاصول في الأطراف وجرت في طرف دون آخر لم يكن العلم الإجمالي منجزا لأنّه تقدّم أنّ الركن الثالث من أركان منجزية العلم الإجمالي تعارض الاصول في الأطراف.

وعلى ضوء هذا نعرف أنّه كلّما كان في أحد الإنائين امارة تدل على النجاسة (1) أو استصحاب لم تتعارض الاصول في الأطراف ويرتفع تنجيز العلم الإجمالي.

وبالمقارنة بين الانحلال الحكمي والحقيقي يتّضح انّ الانحلال الحقيقي لا يتحقّق إلاّ في موارد حصول العلم التفصيلي بعد الإجمالي ولا يكفي حصول الامارة أو الأصل لتحققه ، بينما الانحلال الحكمي يتحقّق في موارد قيام الامارة أو الأصل.

ج - الانحلال التعبّدي. ويقصد به انّه لو كنّا نعلم إجمالا بنجاسة أحد إنائين ثمّ شهد الثقة بنجاسة الإناء الأوّل فإذا قلنا انّ دليل حجّية خبر الثقة يستفاد منه التعبّد بانحلال العلم الإجمالي ثبت الانحلال ، وسمّي ذلك بالانحلال التعبّدي لأنّه تعبّد بالانحلال استفيد من دليل حجّية خبر الثقة.

وهذه الاستفادة من دليل حجّية خبر الثقة إن تمّت ثبت الانحلال حتّى لو

ص: 326


1- طبيعي لا بدّ من فرض انّ الامارة التي شهدت بنجاسة الإناء لا تفيد العلم إذ لو أفادت العلم - كما قد يحصل ذلك أحيانا - فالانحلال حقيقي لا حكمي.

قطعنا النظر عن مسألة عدم تعارض الاصول في الأطراف.

وبكلمة ثانية : بناء على فكرة الانحلال التعبّدي يكون دليل حجّية الامارة قد عبّدنا وبلسان التعبّد بأنّ وجود العلم الإجمالي في حكم العدم ، فحينما يقول دليل حجّية الامارة خذ بالامارة واحكم بنجاسة هذا الطرف فمعناه انّي أحكم عليك بعدم السير على طبق علمك الإجمالي ولا يلزمك الاجتناب عن كلا الطرفين بل يكفيك الاجتناب عن هذا الطرف الذي دلت الامارة على نجاسته.

وهذا بخلافه في الانحلال الحكمي فإنّ الأصل حينما يجري في أحد الطرفين بلا معارضة يسقط العلم الإجمالي عن المنجزية بدون افتراض استفادة التعبّد بالانحلال من لسان دليل.

ثمّ انّه قد تقدّم ص 107 من الحلقة رفض فكرة الانحلال التعبدي وانّ دليل حجّية الامارة لا يستفاد منه ذلك ، ومعه يبقى الانحلال التعبّدي مصطلح بلا مصداق وفكرة بلا واقع.

2 - لمنجزية العلم الإجمالي أربعة أركان ، الثالث منها تعارض الاصول في الأطراف ، فلو لم تتعارض - كما إذا كان في أحد الطرفين امارة تدل على نجاسته أو استصحاب - لم يكن العلم الإجمالي منجزا.

وتقدّم انّ الركن المذكور بهذه الصياغة يتمّ على مسلك الاقتضاء ؛ إذ على المسلك المذكور يكون تأثير العلم الإجمالي في المنجزية مشروطا بعدم ثبوت الترخيص في بعض الأطراف - فكما انّ معنى كون النار مقتضية للاحراق ان تأثيرها مشروط بعدم وجود المانع كذلك معنى كون العلم الإجمالي مقتضيا للمنجزية ان تأثيره في المنجزية مشروط بعدم المانع أي بعدم الترخيص في بعض

ص: 327

الأطراف - ولأجل أن يزول احتمال ثبوت الترخيص في بعض الأطراف لا بدّ وأن نفترض تعارض الاصول في الأطراف.

وامّا على مسلك العلية فلا تكون المنجزية منوطة بعدم ثبوت الترخيص في بعض الأطراف ولا حاجة إلى افتراض تعارض الاصول.

ومن هنا صاغ الشيخ العراقي الركن المذكور بصياغة اخرى فقال : انّه يشترط في منجزية العلم الإجمالي أن لا يكون بعض الأطراف قد تنجز بمنجّز آخر غير العلم الإجمالي فلو كان قد تنجز بعض الأطراف بامارة أو استصحاب لم يكن العلم الإجمالي منجزا للطرف الآخر.

وقد تقدّم البرهان على هذه الصياغة العراقية. كما وتقدّم الفارق العملي بينها وبين الصيغة الميرزائية.

وبالجملة : ان للركن الثالث صياغتين : صياغة ميرزائية وصياغة عراقية.

وبعد اتضاح هاتين المقدّمتين نعود إلى الحالة الرابعة من الحالات التي لا يكون العلم الإجمالي فيها منجزا وهي حالة الانحلال الحكمي. ومثالها : ما لو كان لدينا إناءان نعلم إجمالا بنجاسة أحدهما وكان قبل العلم الإجمالي امارة أو استصحاب يدلاّن على نجاسة الإناء الأوّل مثلا ، انّ العلم الإجمالي في مثل ذلك ينحلّ انحلالا حكميا ، بمعنى انّ العلم الإجمالي وإن كان باقيا في النفس حقيقة إلاّ أنّ منجزيّته تزول بسبب زوال الركن الثالث من أركان المنجزية بكلتا صيغتيه.

أمّا زواله بالصيغة الميرزائية فلأنّه بعد وجود الامارة أو الاستصحاب في الإناء الأوّل لا يتعارض أصل الطهارة في الإنائين بل يجري في الإناء الثاني بلا معارض.

ص: 328

وأمّا زواله بالصيغة العراقية فلأنّه مع وجود الامارة أو الاستصحاب في الإناء الأوّل لا يكون العلم الإجمالي هو المنجز الوحيد لكلا الطرفين بل يكون الاناء الاول قد تنجز بمنجز آخر غير العلم الإجمالي.

وهذا واضح. والشيء الجديد الذي نريد أن نقوله هو ان قيام الامارة أو الاستصحاب وإن كان يوجب زوال المنجزية وانحلال العلم الإجمالي انحلالا حكميا إلاّ أنّ شرط زوال المنجزية والانحلال الحكمي امور ثلاثة لو تمّت حصل الانحلال الحكمي وإلاّ فلا ، وهي :

1 - أن يكون عدد الأطراف التي قامت الامارة على نجاستها يساوي عدد الأطراف المعلوم نجاستها إجمالا ولا يقلّ عنها ، فلو كان لدينا عشرة أواني نعلم إجمالا بنجاسة اثنين منها فمتى ما قامت الامارة على نجاسة اثنين منها انحل العلم الإجمالي لأنّه بعد قيام الامارة على النجاسة في الإنائين لا يجري أصل الطهارة فيهما ويجري في الأواني الثمانية الباقية بلا معارض. وأمّا إذا فرض انّ الامارة دلّت على نجاسة إناء واحد فلا تزول المنجزية عن العلم الإجمالي لأنّ الاصول تبقى متعارضة في الأواني التسعة الباقية.

2 - أن لا يكون التكليف الثابت بسبب الامارة مغايرا للتكليف الثابت بسبب العلم الإجمالي فلو كان مغايرا - كما لو كنّا نعلم بنجاسة أحد إنائين وقد دلت الامارة على غصبية الإناء الأوّل - بقي العلم الإجمالي على المنجزية لأنّ ما تنظر له الامارة وتنجزه يغاير ما ينظر له العلم الإجمالي وينجزه ، فالامارة تنجز وجوب الاجتناب عن المغصوب بينما العلم الإجمالي ينجز وجوب الاجتناب عن

ص: 329

النجس فلا ربط لأحدهما بالآخر حتّى يحصل الانحلال (1).

3 - أن يكون قيام الامارة أو الأصل ثابتا قبل حصول العلم الإجمالي ، وأمّا لو كان بعده فالعلم الإجمالي يبقى على المنجزية ، فلو فرض انّا علمنا إجمالا في الساعة الثانية بنجاسة أحد إنائين ثمّ قامت امارة في الساعة الثالثة على نجاسة الإناء الأوّل بقي العلم الإجمالي على المنجزية لأنّه بعد قيام الامارة وإن لم يجر أصل الطهارة في الإناء الأوّل ولكن المعارضة تبقى على حالها إذ أصل الطهارة في الإناء الأوّل في الساعه الاولى - أي قبل قيام الامارة - كان جاريا ، وما دام جاريا يصير معارضا لأصل الطهارة في الإناء الثاني في تمام الساعات.

وبتعبير ثاني : انّه بعد قيام الامارة في الساعة الثالثة يمكننا تشكيل علم إجمالي جديد بان نقول انا نعلم إجمالا بنجاسة اما الإناء الأوّل في الساعة الأولى او بنجاسة الإناء الثاني في تمام الساعات ، ومع ثبوت هذا العلم الإجمالي يتعارض أصل الطهارة فى طرفيه ، فاصل الطهارة في الإناء الأوّل في الساعة الاولى يتعارض مع أصل الطهارة الجاري في الإناء الثاني في تمام الساعات ، وبتعارض الأصل في الطرفين يكون العلم الإجمالي منجزا ويجب الاجتناب عن كلا طرفيه فيجب الاجتناب في الساعة الاولى عن الاناء الأوّل (2) ، كما ويجب

ص: 330


1- قد يقال في تقريب الانحلال الحكمي بأنّ أصل الطهارة يجري في الإناء الثاني دون أن يعارض بأصل الطهارة في الإناء الأوّل ، إذ بعد غصبيته لا معنى لجريان أصل الطهارة فيه لأنّه لغو وبلا فائدة لعدم إمكان شربه من جهة الغصبية. والجواب : انّه لا لغوية في جريان أصل الطهارة في الإناء الغصبي إذ بجريانه يثبت انّ المكلّف لو شربه عصيانا أو نسيانا أو مسّ ثوبه فلا يجب عليه التطهير.
2- واما ما بعد الساعة الاولى فإلاجتناب وان كان واجبا إلاّ انه بسبب الامارة لا بالعلم الاجمالي.

الاجتناب عن الإناء الثاني في تمام الساعات (1).

وهذا كله بخلاف ما لو كانت الأمارة قد قامت على نجاسة الاناء الأوّل قبل العلم الإجمالي فان العلم الإجمالي يسقط عن المنجزية ، فلو دلت الامارة في الساعة الاولى على نجاسة الاناء الأوّل ثم حصل العلم الإجمالي في الساعة الثانية بوقوع قطرة دم اما في الإناء الأوّل أو في الإناء الثاني فالعلم الإجمالي المذكور لا يكون منجزا لعدم تعارض الأصل في اطرافه إذ الاناء الأوّل لا يجري فيه أصل الطهارة ابدا لسقوطه قبل العلم الإجمالي (2).

ص: 331


1- ونفس هذا البيان يأتي فيما لو طهّر الاناء الأوّل أو خرج عن محل الابتلاء ونحو ذلك من الأسباب الموجبة لعدم جريان أصل الطهارة فان العلم الإجمالي يبقى على المنجزية لان أصل الطهارة في الإناء الأوّل وان لم يجر بعد خروجه عن محل الابتلاء إلاّ انه حيث كان جاريا قبل الخروج عن الابتلاء فيحصل تعارض بين هذا الأصل الجاري قبل الخروج عن الابتلاء وبين الأصل الجاري في الإناء الثاني في تمام الوقت. ومن الغريب ما اختاره المحقق الايرواني في كتابه نهاية النهاية ج ٢ ص ١٢٧ من عدم المنجزية في الحالات المذكورة.
2- وقد تقول ان هذا واضح على مسلك الاقتضاء ، ولكن كيف الحال على مسلك العلية؟ والجواب : ان النتيجة على مسلك العلية هي نفسها على مسلك الاقتضاء فان العلم الإجمالي بشكله الجديد الذي صورناه سابقا ثابت من دون فرق بين المسلكين ، فعلى كلا المسلكين يمكننا ان نقول انا نعلم اجمالا اما بنجاسة الإناء الأوّل في الساعة الاولى أو بنجاسة الإناء الثاني في تمام الوقت. وهذا العلم الاجمالي وجداني ولا يمكن لأحد انكاره ، ومع ثبوته ينجز كلا طرفيه _ وهما وجوب الاجتناب عن الإناء الأوّل في الساعة الاولى ووجوب الاجتناب عن الإناء الثاني في تمام الوقت _ فان أصل طهارة الإناء الأوّل في الساعة الاولى يتعارض مع أصل طهارة الإناء الثاني في تمام الوقت. هذا على مسلك الاقتضاء. وأما على مسلك العلية فيكون العلم الإجمالي المذكور منجزا أيضا لأن الإناء الأوّل في الساعة الاولى لا يوجد له منجز آخر غير العلم الإجمالي وإنما له منجز آخر فيما بعد الساعة الاولى ، وهكذا الإناء الثاني لا يوجد له منجز غير العلم الإجمالي ، ومعه فيجب هجر كلا الطرفين فيجب هجر الإناء الأوّل في الساعة الاولى كما ويجب هجر الإناء الثاني في تمام الوقت. وأما هجر الإناء الأوّل فيما بعد الساعة الاولى فهو واجب أيضا ولكن لا من جهة العلم الإجمالي بل من جهة الأمارة. هذا لو كانت الأمارة قد حصلت بعد العلم الإجمالي. وأمّا لو كانت حاصلة قبل العلم الإجمالي فلا يكون منجزا لأنه حينما يحصل _ العلم الإجمالي _ يحصل وأحد طرفيه قد تنجز بمنجز آخر. هذا مضافا إلى ان العلم الإجمالي بشكله الجديد الذي صورناه سابقا لا يمكن تشكيله هنا.
تقدم الامارة دون مؤداها

والخلاصة التي انتهينا إليها هي : ان حدوث الأمارة وحصولها لا بدّ وان يكون متقدما على العلم الإجمالي ، فمتى ما اخبرنا الثقة اولا بنجاسة الإناء الأوّل ثم حصل العلم الإجمالي بوقوع قطرة دم اما في الإناء الأوّل أو في الإناء الثاني لم يكن العلم الإجمالي منجزا لأنّ العلم الإجمالي يحدث في وقت لا تكون الأصول متعارضة في اطرافه.

وأمّا اذا انعكس الأمر بان كنّا نعلم إجمالا في الزمان السابق بنجاسة أحد الإنائين ثم اخبرنا الثقة بنجاسة الإناء الأوّل بعد مضي ساعة من حدوث العلم الإجمالي كان العلم الإجمالي باقيا على المنجزية حتى وان كانت النجاسة المخبر

ص: 332

عنها متقدمة - بان كان الثقة يشهد بحدوث النجاسة في الإناء الأوّل قبل زمان حصول العلم الإجمالي - فان تقدم مؤدى الخبر على العلم الإجمالي لا يكون سببا لارتفاع المنجزية عن العلم الإجمالي ، وانما المهم تقدم نفس الخبر.

ولكن لماذا ارتفاع المنجزية عن العلم الإجمالي موقوف على تقدم نفس الخبر ولا يكفي تقدم المؤدى؟

وبتعبير ثاني : لماذا جريان الأصل في الإناء الثاني بلا معارضة بالأصل في الإناء الأوّل موقوف على تقدم نفس الخبر؟

وبتعبير ثالث : لماذا يتوقف حصول الانحلال الحكمي على تقدم نفس الخبر؟

والجواب : ان ارتفاع المنجزية عن العلم الإجمالي وبالتالي جريان الأصل في الإناء الثاني بدون معارضة موقوف على ثبوت المنجز في الإناء الأوّل (1) ، وواضح ان المنجز لا يكون ثابتا إلاّ عند قيام الخبر ، فمتى ما قام الخبر وشهد بالنجاسة حدث المنجز وسقط أصل الطهارة من ذاك الحين ، فاذا شهد الثقة بنجاسة الإناء الأوّل بعد مضي ساعة من العلم الإجمالي سقط أصل الطهارة من

ص: 333


1- فانه متى ما ثبت المنجز في الإناء الأوّل لم يكن العلم الإجمالي منجزا اذ بعد حصول المنجز في الإناء الأوّل لا يجري الأصل فيه ويجري في الإناء الثاني بلا معارض. هذا بناء على مسلك الاقتضاء. وأما على مسلك العلية فلأنه بعد حصول المنجز في الإناء الأوّل يصير أحد طرفي العلم الإجمالي قد تنجز بمنجز آخر غير العلم الإجمالي ، والشيخ العراقي يقول في صياغته للركن الثالث : يشترط في منجزية العلم الإجمالي عدم وجود منجز آخر في أحد طرفي العلم الإجمالي.

حين شهادته ولم يسقط في الساعة السابقة حتى وان كانت النجاسة المشهود بها متقدمة. واذا لم يسقط في الساعة السابقة كان الأصل الجاري في تلك الساعة السابقة معارضا لأصل الطهارة الجاري في الإناء الثاني في تمام الوقت. وما دامت الاصول متعارضة يكون العلم الإجمالي منجزا.

مقارنة بين الانحلالين

وبالمقارنة بين الانحلال الحكمي والانحلال الحقيقي يمكن ان نخرج بهذه النتيجة : يلزم في الانحلال الحكمي تقدم وجود المنجز - كخبر الثقة مثلا - على العلم الإجمالي أو مقارنته معه. والتعبير الجامع ان لا يتاخر وجود المنجز عن العلم الإجمالي.

واما في الانحلال الحقيقي فاللازم المقارنة بين المعلومين ، فالنجاسة المعلومة بالاجمال يلزم ان تكون مقارنة للنجاسة المعلومة بالتفصيل من حيث الزمان ولا يلزم تقدم حدوث العلم التفصيلي على زمان حدوث العلم الإجمالي.

والنكتة في ذلك تكمن في ان معنى الانحلال الحقيقي عبارة اخرى عن سراية العلم من الجامع إلى الفرد ، والسراية تحتاج إلى اتحاد المعلومين ليصير المعلوم التفصيلي مصداقا للمعلوم الإجمالي فلو لا الاتحاد بين المعلومين من حيث الزمان لم ينطبق المعلوم بالاجمال على المعلوم بالتفصيل ولم يصر المعلوم بالتفصيل مصداقا للمعلوم بالاجمال وبالتالي لم يسر العلم من الجامع إلى الفرد حتى يتحقق الانحلال الحقيقي.

فالمهم اذن اتحاد المعلومين من حيث الزمان حتى تتحقق السراية ، واما

ص: 334

تقدم حدوث العلم التفصيلي على حدوث العلم الإجمالي فهو غير مهم لأنّه لا يؤثر على قضية السراية اللازمة في تحقق الانحلال الحقيقي.

قوله ص 122 س 6 : فلا انحلال حقيقي ولا تعبدي : اما إنه لا انحلال حقيقي فلأن شرطه حصول العلم التفصيلي في بعض الأطراف ، والمفروض عدم وجوده وانما الموجود هو الأمارة أو الأصل.

واما أنّه لا انحلال تعبدي فلما تقدم ص 107 من الحلقة من عدم استفادة التعبد بالانحلال من دليل حجّية خبر الثقة وان الانحلال التعبدي مصطلح بلا مصداق.

قوله ص 123 س 3 : على كل تقدير : حيث ينجز وجوب الاجتناب عن الإناء الثاني على تقدير وجود النجاسة فيه ولا ينجز وجوب الاجتناب عن الاناء الأوّل على تقدير وجود النجاسة فيه وانما يتنجز بالامارة.

قوله ص 123 س 8 : بلحاظه : أي بلحاظ العدد الزائد وهو التسعة.

قوله ص 123 س 9 : في مورد الامارة : وهو الإناء الأوّل. وما ينجزه العلم الإجمالي في الإناء الأوّل هو وجوب الاجتناب عن النجس ، وما تنجزه الأمارة هو وجوب الاجتناب عن المغصوب.

قوله ص 123 س 12 : في غير مورد الامارة الخ : أي غير الاناء الأوّل. والتقدير : إنّ أصل الطهارة الجاري في الإناء الثاني - الذي هو ليس موردا للامارة ولا موردا لاستصحاب النجاسة الذي هو أصل منجز - معارض باصل الطهارة الجاري في الساعة الأولى في الإناء الأوّل.

قوله ص 123 س 14 : من مورد المنجز الشرعي : المنجز الشرعي هو مثل

ص: 335

الامارة. ومورده هو الإناء الأوّل. والتقدير : انه لو اخذنا من الإناء الأوّل الساعة الاولى ومن الإناء الثاني تمام الوقت حصلنا على علم إجمالي بشكل جديد حيث نعلم إجمالا بالنجاسة اما في الإناء الأوّل في الساعة الاولى أو في الإناء الثاني في تمام الوقت.

قوله ص 123 س 17 : ان انهدام الركن الثالث : أي ان حصول الانحلال الحكمي وبتعبير ثاني جريان الأصل في الإناء الثاني بلا معارضة.

قوله ص 124 س 1 : مثلا : أي ان ذكر الامارة من باب المثال والاّ فالكلام يجري نفسه لو كان المنجز شيئا آخر غير الامارة.

قوله ص 124 س 3 : في حالات قيام المنجز الشرعي : أي في حالة قيام الامارة في الإناء الأوّل.

قوله ص 124 س 4 : باحدى الصيغتين السابقتين : أي صيغة الميرزا المبنية على مسلك الاقتضاء وصيغة الشيخ العراقي المبنية على مسلك العلية.

قوله ص 124 س 12 : وهي لازم قهري : أي والسراية لازم قهري الخ.

ص: 336

الحالة الخامسة أو اشتراك العلمين في طرف

نمثل للحالة الخامسة من الحالات التي يكون العلم الاجمالي فيها ساقطا عن المنجزية بما اذا كان لدينا ثلاثة أواني احدها مرقم برقم (1) والثاني برقم (2) والثالث برقم (3). ثم راينا قطرة بول قد وقعت اما في إناء رقم (1) أو في إناء رقم (2) ، وراينا قطرة ثانية قد وقعت اما في إناء رقم (2) أو في إناء رقم (3).

في هذا المثال سوف يتشكل علمان اجماليان اولهما : العلم اجمالا بوقوع القطرة الاولى اما في إناء رقم (1) أو في إناء رقم (2). وثانيهما : العلم اجمالا بوقوع القطرة الثانية اما في إناء رقم (2) أو في إناء رقم (3).

واذا توجهنا قليلا إلى هذين العلمين وجدنا ان الاناء رقم (2) طرف مشترك في العلمين.

ونحن في هذه الحالة نريد ان نبحث عن حكم هذين العلمين الاجماليين فهل المنجز خصوص الأوّل منهما أو كلاهما.

وتوضيح الحال في ذلك : ان العلمين الإجماليين المذكورين تارة يحصلان دفعة واحدة وفي وقت واحد - كما لو رؤي وقوع القطرة الاولى في إناء رقم (1) وإناء رقم (2) في نفس زمان وقوع القطرة الثانية في إناء (2) وإناء (3).

واخرى يحصل العلم الثاني متأخرا عن العلم الأوّل.

فان حصلا في وقت واحد كانا منجزين معا ووجب ترك جميع الأواني

ص: 337

الثلاثة ، فان العلمين المذكورين يرجعان روحا إلى علم إجمالي واحد ذي اطراف ثلاثة فيعلم بوجوب الاجتناب اما عن الإناء الأوّل أو عن الإناء الثاني أو عن الإناء الثالث (1) فيجب ترك جميع الأواني الثلاثة.

اجل إناء (2) له ميزة يمتاز بها عن إناء (1) وإناء (3) وهي ان إناء (2) يثبت له التنجز من ناحية كلا العلمين إذ المفروض حصولهما معا في وقت واحد فتنجزه باحدهما دون الآخر بلا مرجح.

هذا لو حصل العلمان دفعة واحدة.

واما اذا حصل العلم الثاني متاخرا عن العلم الأوّل فذهب جماعة منهم الميرزا والسيد الخوئي (2) إلى تنجز خصوص العلم الأوّل دون الثاني فاناء (1) وإناء (2) يجب تركهما دون إناء (3).

والوجه في ذلك هو اختلال الركن الثالث - من الأركان الأربعة المتقدمة

ص: 338


1- العبارة التي ذكرناها اوضح من عبارة الكتاب التي نصها : « لأن مرجع العلمين إلى العلم بثبوت تكليف واحد في الطرف المشترك أو تكليفين في الطرفين الآخرين ». ومضمون العبارتين واحد. وأولى من ذلك ان يجعل العلم الاجمالي الواحد ذا اطراف أربعة بان يقال هكذا : ان العلمين السابقين يرجعان إلى علم إجمالي بوجوب الاجتناب اما عن (٢) فقط أو عن مجموع ( ١ ، ٣ ) أو عن مجموع ( ١ ، ٢ ) أو عن مجموع ( ٢ ، ٣ ). انه على هذا نكون قد استقصينا جميع الاحتمالات الثابتة واقعا. والسبب في اقتصار عبارة الكتاب على الاحتمالين الأولين وعدم ذكر الأخيرين هو ان ضمهما ليس له زيادة تاثير بحسب النتيجة إذ بالاحتمالين الأولين يثبت وجوب الاجتناب عن جميع الأواني الثلاثة سواء ضممنا الاحتمالين الأخيرين أم لا.
2- اجل الميرزا يشترط تأخر المعلوم بالعلم الثاني ولا يكتفي بتأخر نفس العلم بينما السيد الخوئي يكتفي بتأخر نفس العلم.

لمنجزية العلم الإجمالي - في العلم الثاني بكلتا صيغتيه (1).

اما اختلاله على صيغة الميرزا فلأن العلم الثاني لا يتعارض أصلا الطهارة في طرفيه بل يجري أصل الطهارة في إناء (3) دون معارضة بجريانه في إناء رقم (2) ، إذ أصل الطهارة في إناء (2) قد سقط في الزمان السابق بسبب معارضته مع أصل الطهارة في إناء (1) ، وما دام قد سقط سابقا ، والمفروض ان الساقط لا يعود فلا يمكن ان يقع من جديد طرفا للمعارضة مع أصل الطهارة في إناء (3).

وأمّا اختلاله على صيغة الشيخ العراقي فلأن العلم الثاني - حينما يحدث - يحدث وأحد طرفيه قد تنجز بمنجز سابق إذ طرفه الأوّل وهو إناء (2) قد تنجز تركه بسبب العلم الإجمالي الأوّل.

هذه حصيلة توجيه عدم منجزية العلم الإجمالي الثاني.

والصحيح منجزية كلا العلمين لبطلان كلا التوجيهين.

اما توجيه الشيخ العراقي فلأن العلم الإجمالي الأوّل حينما حدث في الساعة الاولى مثلا لم يكن منجزا لطرفيه إلى الأبد بل هو في كل آن ينجز في خصوص ذاك الآن ، ففي الدقيقة الاولى من الساعة الاولى حيث كان ثابتا فهو ينجز في خصوص الدقيقة المذكورة ولا ينجز في الدقيقة الثانية وما بعدها. واذا حلت الدقيقة الثانية وكان موجودا فيها نجّز طرفيه في خصوص الدقيقة المذكورة ولم ينجز في الدقيقة الثالثة وما بعدها ، وهكذا حتى الدقيقة الاولى من الساعة الثانية

ص: 339


1- أي صيغة الميرزا التي تقول ان شرط منجزية العلم الإجمالي تعارض الأصول في الأطراف ، وصيغة الشيخ العراقي التي تقول ان شرط منجزية العلم الإجمالي عدم تنجز أحد طرفيه بمنجز آخر.

التي نفترض حصول العلم الإجمالي فيها - الساعة الثانية - ، وفي الدقيقة الاولى المذكورة حيث كان العلم الإجمالي الأوّل ثابتا فيها فيكون منجزا لإناء (2) ، وحيث كان العلم الإجمالي الثاني ثابتا فيها أيضا فيكون منجزا أيضا لإناء (2) إذ العلمان حيث انهما ثابتان معا في الدقيقة المذكورة فمنجزية الإناء المذكور تكون ثابتة بهما معا ولا معنى لنسبة المنجزية إلى العلم الأوّل فقط إذ العلم الثاني حينما حدث لم يحدث في حالة تنجز أحد طرفيه - أي إناء (2) - بالعلم الأوّل فان العلم الأوّل في الدقيقة الأخيرة من الساعة الاولى لم يكن منجزا إلاّ في خصوص الدقيقة المذكورة دون الدقيقة الاولى من الساعة الثانية. هذا على صيغة الشيخ العراقي.

وأمّا على صيغة الميرزا فلأن الأصل في كل دقيقة يجري في خصوص تلك الدقيقة ، ففي الدقيقة الاولى من الساعة الاولى يجري أصل الطهارة في إناء (2) ولكن حيث أنّ له معارضا - وهو أصل الطهارة في إناء (1) - فلا يترتب عليه أثر ، وفي الدقيقة الثانية يجري أيضا ولكن حيث ان له معارضا أيضا فلا يترتب عليه اثر ، وهكذا حتى نصل إلى الدقيقة الاولى من الساعة الثانية.

وفي هذه الدقيقة يجري أصل الطهارة في إناء (2) أيضا بيد انه يواجه معارضين : أصل الطهارة في إناء (1) وأصل الطهارة في إناء (3) ، وبالتعارض يسقط الكل ويجب الاجتناب عن جميع الأواني الثلاثة.

وان شئت قلت : ان تساقط الأصلين في كل دقيقة ينشأ من وجود العلم الإجمالي المنجز في تلك الدقيقة ، وحيث ذكرنا فيما سبق ان العلم الإجمالي الموجود في كل دقيقة ينجز في تلك الدقيقة دون غيرها فالأصول تسقط في تلك الدقيقة دون ما بعدها ، ففي الدقيقة الأخيرة من الساعة الاولى يسقط الأصلان في هذه

ص: 340

الدقيقة دون ما بعدها.

وكأن القائل بعدم منجزية العلم الثاني يتخيل ان سقوط الأصلين في العلم الأوّل سقوط حقيقي لا يمكن معه العود ولكنه تخيل باطل كما أوضحنا.

قوله ص 125 س 11 ادن : الصواب اذن.

قوله ص 125 س 12 : على كل تقدير : فعلى تقدير كون النجاسة ثابتة في إناء (3) يكون العلم الإجمالي الثاني منجزا لوجوب تركها وأما على تقدير ثبوتها في إناء (2) فلا يكون منجزا لوجوب تركها لأن وجوب تركها قد تنجز بالعلم الإجمالي الأوّل.

قوله ص 125 س 15 : وتعارض الأصول في الأطراف كذلك : هذا عطف على قوله « التنجيز ».

ثم ان قوله « لا يوجب التنجيز في كل زمان » ناظر إلى صيغة الشيخ العراقي. وقوله « وتعارض الاصول ... » ناظر إلى صيغة الميرزا. وقوله « كذلك » أي في كل زمان.

ص: 341

ص: 342

الحالة السادسة أو حكم الملاقي

اشارة

وفي الحالة السادسة يراد البحث عن حكم الملاقي لأحد أطراف العلم الإجمالي.

وتوضيح ذلك : انه إذا كان لدينا إناءان أحدهما رقم (1) وثانيهما رقم (2) ، وكنّا نعلم اجمالا بنجاسة أحدهما. ونفترض ان ثوبا مثلا لاقى إناء (1) ، فالثوب يسمى بالملاقي لأحد طرفي العلم الإجمالي.

والسؤال المطروح هو : ان الثوب هل يجب الاجتناب عنه أيضا كما يجب الاجتناب عن الإنائين أو أنه لا يجب الاجتناب عنه وإنّما يجب الاجتناب عن خصوص الانائين؟

والقائل بوجوب الاجتناب عنه يستند في ذلك إلى ان ملاقاة الثوب للإناء الأوّل تولّد علما إجماليا جديدا غير العلم الإجمالي السابق. والطرفان في هذا العلم الجديد هما : الثوب والإناء الثاني ، فبعد الملاقاة يحصل علم إجمالي بنجاسة اما الثوب - وذلك على تقدير كون النجس واقعا هو الإناء الأوّل - أو الإناء الثاني (1). وهذا العلم الإجمالي ينجز وجوب هجر طرفيه الذين أحدهما الثوب ،

ص: 343


1- ويمكن صياغة العلم الجديد بشكل آخر فيقال : نعلم إجمالا بنجاسة اما مجموع الثوب والإناء الأوّل أو خصوص الإناء الثاني. وإنّما لم تذكر هذه الصياغة باعتبار ان المقصود الآن اثبات وجوب الاجتناب عن الثوب لا وجوب الاجتناب عن مجموع الثوب والإناء الأوّل.

وهو المطلوب.

وكلام الأصوليين في هذا المبحث يدور حول هذا العلم الإجمالي الجديد هل هو منجز أو لا؟

وهناك تقريبان لإثبات عدم منجزية العلم المذكور

هما : -

الأوّل :

ان نطبق القاعدة المتقدمة في الحالة الخامسة ، وهي أنه كلما كان لدينا علمان اجماليان يشتركان في طرف واحد فالعلم الإجمالي الثاني منهما لا يكون منجزا فيما اذا لم يكونا متعاصرين بان كان حصول العلم الثاني متأخرا عن العلم الأوّل (1).

وبتطبيق ذلك على المقام نقول : ان العلم الإجمالي الثاني في مقامنا - الذي هو علم بنجاسة اما الثوب أو الإناء الثاني - يشترك مع العلم الأوّل في أحد الطرفين ، أي في الإناء الثاني فلا يكون - العلم الإجمالي الثاني - منجزا ، واذا لم يكن منجزا فلا يجب هجر الثوب ، وهو المطلوب.

اجل الإناء الثاني يجب هجره من جهة العلم الإجمالي الأوّل.

ويمكن الايراد على هذا التقريب بوجهين : -

أ - ان القاعدة التي يستند اليها هذا التقريب مرفوضة كما تقدم سابقا.

ب - ان التقريب المذكور لو تم فهو اخص من المدعى لأنّه يتم في حالة

ص: 344


1- وأما اذا كانا متعاصرين فالطرف المشترك يتلقى التنجز من كلا العلمين معا لا من أحدهما لأنّه بلا مرجح كما تقدم.

كون ملاقاة الثوب قد حصلت في زمان متأخر عن العلم الإجمالي الأوّل. ولا أقل يمكننا ان نقول انّه يتم في خصوص حالة ما اذا كان العلم بالملاقاة قد حصل متأخرا عن العلم الأوّل - وان كانت نفس الملاقاة قد حصلت مقارنة للعلم الأوّل - وأما اذا كان العلم بالملاقاة قد حصل مقارنا للعلم الأوّل فلا يتم التقريب المذكور ولا يثبت عدم منجزية العلم الثاني لأن قاعدة عدم منجزية العلم الثاني من العلمين المشتركين في طرف واحد لو تمت فهي تتم - كما تقدم - في خصوص حالة ما اذا كان العلم الثاني متأخرا زمانا عن العلم الأوّل إذ لو كانا متعاصرين كان كلاهما منجزا للطرف المشترك لأن حصول التنجيز بالعلم الأوّل دون الثاني بلا مرجح بعد فرض حصولها في زمان واحد.

الثاني

انّه بعد ملاقاة الثوب للإناء الأوّل وحصول العلم الإجمالي الجديد بين الثوب والإناء الثاني يمكن الحكم بطهارة الثوب ببركة أصالة الطهارة الجارية فيه ، ولا يعارض ذلك بأصالة الطهارة في الإناء الثاني إذ الأصل المذكور معارض بأصالة الطهارة في الإناء الأوّل ، وبعد المعارضة بين الأصلين المذكورين - أصالة الطهارة في الإناء الأوّل مع أصالة الطهارة في الإناء الثاني - يتساقطان ونرجع إلى أصالة الطهارة في الثوب دون أي معارض ، وبهذا يثبت المطلوب ، إذ اردنا إثبات عدم منجزية العلم الإجمالي الجديد وقد ثبت.

وقد يقال : لماذا التعارض يحصل بين خصوص أصل الطهارة في الإناء الأوّل وأصل الطهارة في الإناء الثاني ولا يدخل أصل طهارة الثوب في هذه

ص: 345

المعارضة لتسقط جميع الأصول الثلاثة لا خصوص الأصلين الجاريين في الانائين؟

والجواب : ان أصل طهارة الثوب أصل مسببي بينما أصل الطهارة في الإناء الأوّل أصل سببي (1) ، والأصل المسببي لا يجري ما دام الأصل السببي موجودا بل لا بدّ وان يسقط الأصل السببي اوّلا بالمعارضة ، وبعد ذلك تصل النوبة إلى أصل طهارة الثوب ، فانّ الأصل المسببي لا حياة له مع الأصل السببي ليقف إلى جانبه في مجال المعارضة.

اذن المعارضة تقع بين الأصلين العرضيين الجاريين في الإنائين ، وبعد تعارضهما وسقوطهما يرجع إلى الأصل الطولي ، وهو أصالة الطهارة في الثوب ويحكم بطهارته.

وقد تقدمت الإشارة إلى هذا المطلب ص 98 من الحلقة عند البحث عن الحالات التي يجري فيها الأصل في أحد الطرفين ، فإنّه تقدم ان الحالة الاولى من تلك الحالات الثلاث هي ان يكون في الإناء الأوّل أصلان احدهما في طول الآخر - كاستصحاب الطهارة وأصالة الطهارة - وفي الإناء الثاني أصل واحد وهو أصل الطهارة ، فاصل الطهارة في الإناء الثاني يتعارض مع استصحاب الطهارة في

ص: 346


1- إذ الشك في طهارة الثوب مسبب عن الشكّ في طهارة الإناء الأوّل ، فالشكّ في طهارة الثوب شكّ مسببي بينما الشكّ في طهارة الإناء الأوّل شكّ سببي ، والأصل الجاري في الشكّ السببي أصل حاكم على الأصل الجاري في الشكّ المسببي لأن الأصل الحاكم اذا جرى واثبت طهارة الإناء الأوّل ارتفع الشكّ في طهارة الثوب وحصل اليقين التعبدي بطهارته ، ومع حصول اليقين لا يجري الأصل لأن موضوعه الشكّ.

الإناء الأوّل ، وبعد المعارضة والتساقط يرجع إلى أصل الطهارة في الإناء الأوّل لأنّه أصل محكوم والأصل المحكوم لا يقف إلى جنب حاكمه ليعارض الأصل في الإناء الثاني بل تتولد الحياة فيه بعد سقوط حاكمه بالمعارضة.

هذا هو التقريب الثاني.

ولو تم هذا التقريب فهو يتم حتى في صورة كون ملاقاة الثوب والعلم بها قد حصل مقارنا للعلم الأوّل ولا يتوقف على حصول الملاقاة أو العلم بها متأخرا عن العلم الأوّل - كما هو الحال في التقريب الأوّل - إذ العلم الثاني سواء حصل متأخرا عن العلم الأوّل أم مقارنا له فالمعارضة على كلا التقديرين تحصل بين خصوص أصلي الطهارة في الإنائين ولا يدخل أصل طهارة الثوب في مجال المعارضة لأنّه محكوم ، وبعد تساقطهما تصل النوبة إلى أصل الطهارة في الثوب دون معارض.

حالات يجب فيها الاجتناب عن الملاقي

وبعد اتضاح التقريبين السابقين لأثبات عدم منجزية العلم الإجمالي الثاني نضيف : ان التقريبين المذكورين قد يقال بعدم تماميتهما في بعض الحالات - أي يكون العلم الإجمالي الثاني منجزا ويجب الإجتناب عن الملاقي - كما لو فرض ان الثوب لاقى واقعا الإناء الأوّل في الساعة الاولى من دون علم المكلّف بذلك ، وأيضا مع افتراض عدم ثبوت العلم الإجمالي في هذه الساعة بنجاسة اما الإناء الأوّل أو الثاني ، ثم نفترض ان الإناء المذكور تلف في الساعة الثانية ، وبعد ان حلت الساعة الثالثة حصل للمكلف علم إجمالي بتنجس أما الإناء الأوّل التالف

ص: 347

أو الاناء الثاني ، وحينما جاءت الساعة الرابعة حصل علم بملاقاة الثوب للاناء الأوّل في الساعة الاولى.

في مثل هذه الفرضية قد يقال بعدم تمامية كلا التقريبين السابقين ، أي يقال بمنجزية العلم الإجمالي الثاني ووجوب الاجتناب عن الملاقي.

اما التقريب الأوّل - الذي كان حاصله ان العلم الإجمالي الثاني لا يكون منجزا بعد اشتراكه مع العلم الإجمالي الأوّل في الإناء الثاني - فلأن العلم الإجمالي الأوّل حينما حصل في الساعة الثالثة لم يكن منجزا لأن أحد طرفيه وهو الإناء الأوّل كان تالفا حين حصوله ، وواضح ان شرط منجزية كل علم إجمالي ان يكون كلا طرفيه موجودين حين حصوله ولا يكون أحدهما تالفا قبل حصول العلم الإجمالي (1) ، ومع عدم منجزيته فلا مانع من ثبوت المنجزية للعلم الإجمالي الثاني فان المانع منحصر بمنجزية العلم الأوّل (2) ، فاذا لم يكن منجزا نّجز العلم الثاني وجوب هجر طرفيه الذين أحدهما الثوب.

وأمّا التقريب الثاني - وهو انّه يرجع بعد تعارض اصلي الطهارة في الانائين إلى أصل طهارة الثوب بلا مانع - فلأن الأصل في الانائين ليسا متعارضين ليرجع بعد تعارضهما وتساقطهما إلى أصل طهارة الثوب بل ان أصل الطهارة في الإناء

ص: 348


1- إذ لو كان تالفا فلا تتعارض الأصول فى اطرافه. هذا على صيغة الميرزا. وعلى صيغة الشيخ العراقي لا يكون منجزا للمعلوم بالاجمال على كلا التقديرين.
2- إذ العلم الإجمالي الأوّل حينما كان منجزا تتعارض الاصول في اطرافه فتصل النوبة إلى أصل الطهارة في الثوب بلا معارض. هذا على صيغة الميرزا. وعلى صيغة الشيخ العراقي يكون أحد طرفي العلم الإجمالي الثاني - وهو الإناء الثاني - قد تنجز بمنجز آخر وهو العلم الاجمالي الأوّل.

الأوّل لا يجري في نفسه لفرض تلف موضوعه - وهو الإناء الأوّل - قبل العلم الإجمالي فيكون جريانه لغوا وبلا فائدة ، ومع عدم جريان الأصل المذكور لا يكون الأصل في الإناء الثاني ساقطا لتصل النوبة إلى أصل طهارة الثوب بل تحصل المعارضة بين الأصلين المذكورين ، أي بين أصل الطهارة في الإناء الثاني مع أصل الطهارة في الثوب ويجب بذلك هجر الثوب.

وان شئت قلت : ان العلم الإجمالي الأوّل في الساعة الثالثة ما دام لم تتعارض الاصول في أطرافه فعند ما يحصل العلم الإجمالي الثاني في الساعة الرابعة (1) يكون بمثابة الحاصل ابتداء من دون أن يسبقه علم إجمالي ، وإذا كان بهذه المثابة فتتعارض الاصول في أطرافه ويتنجز وجوب الاجتناب عن طرفيه الذين احدهما الثوب.

تمامية التقريب الثاني

هذا وبالامكان الحكم بتمامية التقريب الثاني لعدم منجزية العلم الإجمالي الثاني وبالتالي يمكن الحكم بعدم وجوب هجر الثوب في الفرضية المذكورة ، أي نختار عدم كون العلم الإجمالي الثاني منجزا.

والوجه في ذلك : ان أصل الطهارة في الإناء الأوّل يمكن جريانه حتى مع افتراض تلفه من دون لزوم محذور اللغوية ، فان جريان أصل الطهارة بعد زمان

ص: 349


1- فان الساعة الرابعة التي حصل فيها العلم بالملاقاة يحصل فيها بسبب العلم بالملاقاة العلم بنجاسة اما الثوب أو الإناء الثاني

التلف يثبت ان الإناء الأوّل كان طاهرا قبل تلفه فيترتب على ذلك طهارة ملاقيه وهو الثوب. واذا كان أصل الطهارة في الإناء الأوّل قابلا للجريان كان معارضا لأصل الطهارة في الإناء الثاني (1) ، وبعد تعارضهما يرجع إلى أصل طهارة الثوب بلا مانع.

قوله ص 126 س 16 : أحدهما المعين : إنما افترض تعين الإناء الذي لاقاه الثوب لأنه بدونه لا يحصل العلم الإجمالي الثاني الجديد.

قوله ص 127 س 2 : وان وجب الاجتناب عن المائعين : لإجل العلم الإجمالي الأوّل.

قوله ص 127 س 9 : كما تقدم : أي ص 125 من الحلقة.

قوله ص 127 س 10 : ان الركن الثالث : وهو تعارض الاصول في الأطراف. والمقصود انهدامه في العلم الإجمالي الثاني حيث يجري أصل الطهارة في الثوب بلا معارضة أصل الطهارة في الإناء الثاني.

قوله ص 128 س 6 : لاقن : الصواب : لاقى.

ص: 350


1- أجل اذا فرض ان الأصل الجاري بعد التلف لا اثر له - كما اذا كان الأصل أصل البراءة - لم يكن جاريا لمحذور اللغوية.

الحالة السابعة أو الشبهة غير المحصورة

اشارة

اذا كانت اطراف العلم الاجمالي قليلة سمّيت الشبهة بالشبهة المحصورة. والمعروف فيها كون العلم الاجمالي منجّزا. والحديث كله سابقا كان يدور حولها.

وأما اذا كانت الأطراف كثيرة سمّيت بالشبهة غير المحصورة.

وفي هذه الحالة يراد التكلّم عن هذه الشبهة ، أي الشبهة غير المحصورة.

وفي البداية نطرح السؤالين التاليين :

أ - هل تجب الموافقة القطعية أو لا؟ وبكلمة أخرى هل يجب ترك جميع الأطراف أو لا؟

والجواب : ذهب المشهور من الاصوليين إلى عدم وجوب ذلك فيجوز للمكلّف ارتكاب بعض الأطراف ولا يلزم هجر جميعها.

ب - واذا جاز ارتكاب بعض الأطراف ولم يلزم هجر جميعها فهل يجوز ارتكاب جميع الأطراف أو لا؟ وبكلمة أخرى : هل تجوز المخالفة القطعيّة أو لا؟

والجواب : ذهب البعض إلى جواز المخالفة القطعيّة.

تحديد الشبهة غير المحصورة

ذكر السيّد الخوئي ( دام ظله ) (1) : ان الضابط في الشبهة غير المحصورة كثرة

ص: 351


1- منهاج الصالحين : كتاب الطهارة ، المبحث الأوّل ، الفصل الرابع.

الأطراف إلى حدّ يكون بعضها خارجا عن محل الابتلاء ، فالمعتبر في الشبهة غير المحصورة قيدان : كثرة الأطراف وخروج بعضها عن محل الابتلاء ، فاذا كانت الأطراف كثيرة وكان جميعها داخلا تحت محل الابتلاء - ككيس ارز كبير يعلم بحرمة حبة واحدة منه - فالشبهة محصورة.

ويمكن التعليق على ذلك : بأنّ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء وإن كان يسقط العلم الاجمالي عن المنجزيّة الاّ أنّه لا اختصاص لذلك بالشبهة غير المحصورة بل العلم الاجمالي في الشبهة المحصورة لا يكون منجّزا أيضا اذا كان بعض اطرافها خارجا عن محل الابتلاء ، فاللازم إذن النظر إلى العامل الكمّي فقط ، أي عامل كثرة الأطراف إذ هذا العامل هو العامل الذي يختص بالشبهة غير المحصورة ، وأمّا العوامل الاخرى فهي لا تختص بالشبهة غير المحصورة.

تقريبات لعدم منجّزية العلم الاجمالي في الشبهة غير المحصورة
اشارة

ويوجد تقريبان يمكن التمسّك بهما لاثبات عدم منجّزية العلم الاجمالي في الشبهة غير المحصورة لوجوب الموافقة القطعية ، وبكلمة اخرى تقريبان لجواز ارتكاب بعض الأطراف. وهما :

التقريب الأوّل
اشارة

انّ كثرة الأطراف تصير سببا لضعف احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على كل طرف إلى درجة يحصل الاطمئنان بعدم الانطباق وبالتالي لا يهجر العقلاء الطرف لأنّ احتمال الانطباق عليه وان كان ثابتا الاّ انه لضعفه الشديد لا يعتنون

ص: 352

به. وحيث انّ مثل هذا البناء العقلائي لم يرد ردع عنه من الشارع فيكون ممضيا.

ولأجل استيضاح المطلب أكثر نقول : لو كان لدينا إناءان نعلم بنجاسة أحدهما فما هي قيمة احتمال انطباق النجاسة المعلومة بالاجمال على الاناء الأوّل؟

والجواب : حيث يوجد لدينا يقين بالنجاسة ، ورقم اليقين يتمثل في رقم (1) فاذا اردنا ان نعرف قيمة احتمال ثبوت النجاسة في كل طرف قسّمنا الواحد على عدد الأطراف. وعلى هذا الاساس فالقيمة الإحتماليّة لانطباق المعلوم بالاجمال على الاناء الأوّل - 2 / 1. واذا كان عدد الأطراف ثلاثة فالقيمة الإحتماليّة في كل طرف - 3 / 1. واذا كان عدد الأطراف 10 فالقيمة الإحتماليّة في كل طرف - 10 / 1. واذا كان عدد الأطراف 1000 فالقيمة الإحتماليّة في كل طرف - 1000 / 1 ، أي أنّ قيمة إحتمال كون الاناء الأوّل هو النجس يساوي إحتمالا واحدا من بين ألف إحتمال. وحيث انّ هذا الإحتمال ضئيل لا يعتني له العقلاء جاز ارتكاب كل واحد من الأطراف بعد افتراض عدم الردع عن مثل هذا البناء (1).

ص: 353


1- قد يخطر للذهن الاشكال التالي : إنّ هذا التقريب يجدي فيما لو اراد المكلّف ارتكاب إناء واحد من الاواني الالف إذ القيمة الإحتماليّة في الإناء الواحد ضئيلة ، وأمّا اذا اراد ارتكاب نصف المجموع فالقيمة الاحتماليّة لا تبقى ضئيلة بل تأخذ بالارتفاع إلى النصف أي 1000 / 500 ، واللازم على هذا عدم جواز ارتكاب النصف لأنّ قيمته الإحتماليّة كبيرة ، والحال أنّ المشهور القائل بعدم منجّزية العلم الاجمالي في الشبهة غير المحصورة يقول بجواز ارتكاب النصف بل يقول بجواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام أي يجوّز ارتكاب 999 إناء. والجواب : إنّ القيمة الإحتماليّة لا تأخذ بالارتفاع عند ارتكاب اطراف كثيرة ، فالقيمة الإحتماليّة لكون الاناء الأوّل هو النجس _ ١٠٠٠ / ١ ، واحتمال كون الاناء الثانى هو النجس ١٠٠٠ / ١ أيضا ، وهكذا حتّى نصل إلى الاناء الالف فإنّ قيمة احتمال كونه النجس _ ١٠٠٠ / ١ أيضا. أجل بعد ارتكاب كل إناء ترتفع القيمة الإحتماليّة لإحتمال ارتكاب المكلّف للنجس خلال الاواني السابقة ، فبعد ارتكاب الاناء الثاني ترتفع القيمة الإحتماليّة لإحتمال ارتكاب النجس فيما سبق إلى ١٠٠٠ / ٢ ، وبعد ارتكاب الاناء الثالث ترتفع إلى ١٠٠٠ / ٣ ، واذا ارتكب الاناء الالف ارتفعت إلى ١٠٠٠ / ١٠٠٠ ، ولكن من الواضح أنّ تحصيل الظن أو الاطمئنان بل القطع بارتكاب المحرّم فيما سبق ليس بمحرّم ، فإنّ المحرّم هو ارتكاب الحرام بالفعل لا تحصيل العلم بارتكاب الحرام فيما سبق ، ولذا إنّ الانسان اذا فكّر في أعماله السابقة وحصل له العلم بارتكابه محرّما من المحرّمات لم يكن تفكيره محرّما.

هذا هو التقريب الأوّل. ولعل أول من ذكره وتمسّك به هو الشيخ الأعظم في رسائله ، حيث تمسّك بعدّة وجوه لإثبات جواز الارتكاب في الشبهة غير المحصورة ، وكان الوجه الخامس منها هو هذا الوجه ، فقال : إنّه مع كثرة الأطراف يضعف احتمال انطباق المعلوم بالاجمال على كل طرف ، فمن شتم احد شخصين وقال لهما : احدكما انسان فاسق منحرف تألّم كل واحد منهما بينما لو قال : أحد اهالي النجف الاشرف منحرف لم يتألّم احد منهم ، وما ذاك الاّ لقوّة الإحتمال في الحالة الاولى وضعفه في الحالة الثانية.

اشكالات على التقريب الأوّل
اشارة

وقد اشكل الشيخ العراقي وغيره على هذا التقريب بإشكالين : أوّلهما صغروي وثانيهما كبروي.

الاشكال الأوّل
اشارة

وهو اشكال صغروي ادّعي فيه عدم حصول الاطمئنان الفعلي في كل

ص: 354

طرف وبرهن على ذلك بأنّ الاناء الأوّل لو حصل الاطمئنان بعدم كونه هو النجس المعلوم بالاجمال ، وهكذا الاناء الثاني حصل فيه الاطمئنان المذكور ، وهكذا إلى أن نصل إلى الاناء الالف فلازم ذلك حصول الاطمئنان بالسالبة الكلّية ، أي حصول الاطمئنان بأنّ لا شيء من الاواني بنجس ، وواضح انّ هذا الاطمئنان بالسالبة الكلّية يتنافى مع اليقين بالموجبة الجزئيّة ، أي اليقين بنجاسة واحد من الاواني ، فإنّ السالبة الكليّة نقيض للموجبة الجزئيّة ، ولا يمكن مع اليقين بالموجبة الجزئيّة وأنّ أحد الاواني نجس الاطمئنان بالسالبة الكليّة وان لا شيء من الاواني بنجس.

وفيه : انّ الاطمئنان في الأطراف لو اورثت بعد جمعها وضم بعضها إلى بعض الاطمئنان بالسالبة الكلّية فإشكال الشيخ العراقي تام ومتين ، فالاطمئنان بعدم كون الاناء الأوّل هو النجس + الاطمئنان بعدم كون الاناء الثاني هو النجس + الاطمئنان بعدم كون الاناء الثالث هو النجس ، وهكذا لو كان يورث الاطمئنان بعدم كون شيء من الاواني نجسا فالحق مع الشيخ العراقي ، ولكنّا لا نسلّم إن ضم الاطمئنانات الثابتة في الأطراف ينتج الاطمئنان بالسالبة الكلّية.

وقد تقول : كيف لا تكون الاطمئنانات الثابتة في الأطراف منتجة للاطمئنان بالسالبة الكلّية والحال نحن ندرك بالوجدان أنّه لو حصل لنا الاطمئنان بورود زيد إلى المسجد وحصل الاطمئنان أيضا بورود عمرو إلى المسجد كانت النتيجة هي الاطمئنان بالمجموع ، أي الاطمئنان بورود زيد وعمرو إلى المسجد ، فضم الاطمئنان الثابت في هذا الطرف إلى الاطمئنان الثابت في ذاك الطرف يورث الاطمئنان بحصول المجموع ، فمن اطمأن بحصول أو اطمأن بحصول

ص: 355

ب يلزم ان يحصل له الاطمئنان بحصول مجموع أ و ب. ان هذا مطلب وجداني لا يقبل الانكار.

وعلى ضوء هذه الامثلة يمكننا ان نخرج بهذه القاعدة ، وهي ان درجة احراز تحقق المجموع تتعادل دائما مع درجات الاحراز الثابتة في الأطراف.

والجواب عن ذلك بالنقض تارة وبالحل اخرى.

النقض

وفي النقض نقول للشيخ العراقي انك حينما انكرت تحقق الاطمئنان في كل طرف وقلت لا يمكن تحقق الاطمئنان بعدم انطباق النجس على الإناء الأوّل ، وهكذا لا يمكن تحققه في الإناء الثاني وبقية الأواني فمن حقنا ان نقول لك ان الاطمئنان في كل طرف اذا لم يكن متحققا فلا أقل من احتمال عدم الانطباق فيحتمل ان الأوّل ليس هو النجس ويحتمل في الثاني ذلك أيضا وهكذا ، فيلزم بجمع الاحتمالات حصول احتمال ان لا شيء منها بنجس ، ومن الواضح ان احتمال عدم نجاسة شيء منها يتنافى والقطع بنجاسة واحد منها. وما يجيب به الشيخ العراقي هنا يكون بنفسه جوابا في الاطمئنان المدعى.

الحل

وفي حلّ الإشكال نقول : ان الاطمئنان على قسمين : إطمئنان مطلق واطمئنان مشروط (1). والقاعدة المتقدمة - وهي ان درجة الاحراز في المجموع

ص: 356


1- لم تذكر عبارة الكتاب مصطلح الاطمئنان المطلق والاطمئنان المشروط ، وكان من المناسب الاستعانة بذلك.

تتعادل دائما مع درجة الإحراز الثابتة في الأطراف - تتم في الاطمئنان المطلق دون الاطمئنان المشروط ، فمن اطمأن بدخول زيد إلى المسجد سواء دخل عمرو أم لا ، واطمأن أيضا بدخول عمرو إلى المسجد سواء دخل زيد أم لا حصل له الاطمئنان بالمجموع ، أي بدخول زيد ودخول عمرو إلى المسجد.

ومثل هذا الاطمئنان نصطلح عليه بالاطمئنان المطلق لأنه اطمئنان ثابت على كلا تقديري دخول الفرد الثاني وعدمه (1).

وأمّا اذا حصل الاطمئنان بدخول زيد إلى المسجد ان لم يكن قد دخل عمرو إليه ، وحصل الاطمئنان بدخول عمرو ان لم يكن قد دخل زيد فلا ينتج ضم أحد هذين الاطمئنانين إلى الآخر الاطمئنان بالمجموع ، أي بدخول زيد وعمرو إلى المسجد وإنما ينتج الاطمئنان بدخول احدهما الى المسجد.

ومثل هذا الاطمئنان يصح ان نصطلح عليه بالاطمئنان المشروط لأن حصول الاطمئنان بدخول أحد الفردين مشروط بعدم دخول الفرد الآخر.

وبعد اتضاح هذا نقول : ان الاطمئنان في مقامنا الثابت في كل طرف هو اطمئنان مشروط وليس اطمئنانا مطلقا ، وما دام هو اطمئنانا مشروطا فلا يمكن تطبيق القاعدة المتقدمة عليه ، أي لا يمكن ان يقال ان ضم الاطمئنان في هذا الطرف إلى الاطمئنان في الطرف الثاني يولّد اطمئنانا بالسالبة الكلية وأنه لا شيء من الأطراف بنجس.

ولكن لماذا الاطمئنان في المقام اطمئنان مشروط وليس مطلقا؟

ان النكتة في ذلك تكمن في ان الاطمئنان بعدم انطباق النجس على الإناء

ص: 357


1- وعبر عنه قدس سره بالاطمئنان على نهج القضية الشرطية باعتبار ان الاطمئنان بدخول زيد في المسجد ثابت اذا دخل عمرو وثابت أيضا اذا لم يدخل.

الأوّل مثلا تولد بسبب احتمال كون النجاسة المعلومة بالاجمال ثابتة في بقية الأواني ، فلإجل انا نحتمل ثبوت النجاسة في الإناء الثاني ونحتمل ثبوتها في الإناء الثالث ونحتمل ثبوتها في الإناء الرابع وهكذا لأجل هذه الاحتمالات حصل لنا الاطمئنان بعدم انطباق النجس على الإناء الأوّل.

اذن الاطمئنان بعدم انطباق النجس على الإناء الأوّل مشروط بثبوت النجاسة وانطباقها على بقية الأواني وليس اطمئنانا مطلقا ثابتا حتى في حالة عدم ثبوت النجاسة في بقية الأواني ، وهكذا الحال بالنسبة إلى الاطمئنان في الإناء الثاني فهو اطمئنان مشروط ، أي مشروط بوجود النجاسة في بقية الأواني ، وهكذا الاطمئنان في الإناء الثالث هو اطمئنان مشروط بثبوت النجاسة في الأواني الاخرى وهكذا.

وما دامت هذه الاطمئنانات اطمئنانات مشروطة فضم بعضها إلى بعض لا يولّد اطمئنانا بالسالبة الكلية وانه لا شيء من الأطراف بنجس.

الاشكال الثاني

واما الإشكال الثاني - وهو الكبروي - فمحصله : انه لو سلمنا حصول الاطمئنان في كل طرف بعدم كونه النجس المعلوم بالاجمال فيمكن ان يقال بعدم حجيته لانا نعلم اجمالا بكذب واحد من الاطمئنانات لفرض العلم بثبوت النجاسة في أحد الأواني ، ومع العلم بكذب واحد من الاطمئنانات يحصل التعارض بينها ومن ثم التساقط لأن شمول دليل الحجّية لجميعها غير ممكن بعد فرض العلم بكذب واحد منها ، وشموله لبعض دون بعض ترجيح بلا مرجح.

ص: 358

وفيه : ان التعارض بين الاطمئنانات - بل بين مطلق الامارات وان لم تكن اطمئنانا - ينشأ من أحد سببين كلاهما مفقود في المقام : -

1 - ان يكون كل اطمئنان مكذبا للاطمئنان الآخر بالدلالة الإلتزامية ، فالاطمئنان في الإناء الأوّل مثلا بعدم كونه النجس يستلزم ثبوت النجاسة في بقية الأواني وبالتالي يستلزم كذب بقية الاطمئنانات.

وما دام كل اطمئنان مكذبا بالالتزام للاطمئنان الآخر فلا يمكن ان يشملهما معا دليل الحجّية فان دليل الحجّية لا يمكن ان يعبّدنا بحجّية المتكاذبين.

2 - ان لازم شمول دليل الحجّية لجميع الاطمئنانات حجّية جميعها ، ولازم حجّية جميع الاطمئنانات جواز ارتكاب جميع الأواني ، ولازم جواز ارتكاب جميع الأواني جواز المخالفة القطعية.

اذن دليل الحجّية لا يمكن ان يشمل جميع الاطمئنانات لمحذور لزوم الترخيص في المخالفة القطعية. وكلا هذين السببين مفقود في المقام.

اما السبب الأوّل فلأن في المقصود من تكذيب كل واحد من الاطمئنانات لبقية الاطمئنانات بالدلالة الالتزامية احتمالين : -

أ - ان يكون الاطمئنان في الإناء الأوّل مكذّبا لخصوص الاطمئنان في الإناء الثاني مثلا بتقريب ان الاطمئنان في الإناء الأوّل يدل بالمطابقة على عدم نجاسة الإناء الأوّل وبالالتزام على ثبوت النجاسة في الإناء الثاني وبالتالي يدل على كذب الاطمئنان في الإناء الثاني.

وهذا البيان مردود باعتبار ان الاطمئنان في الإناء الأوّل والاطمئنان في الإناء الثاني يمكن ان يكونا صادقين معا لإمكان عدم ثبوت النجاسة في الإناء

ص: 359

الأوّل ولا في الإناء الثاني بان تكون ثابتة في الإناء الثالث أو في الإناء الرابع أو في بقية الأواني الاخرى.

ودعوى ان الاطمئنان في الإناء الأوّل يدل بالالتزام على ثبوت النجاسة في الإناء الثاني مدفوعة بان الاطمئنان في الإناء الأوّل يدل على ثبوت النجاسة في الأواني الاخرى ولا يدل على ثبوتها في الإناء الثاني بالخصوص.

ب - ان يكون الاطمئنان في الإناء الأوّل مكذبا لمجموع الاطمئنانات الثابتة في بقية الأواني ، فاذا كان مقدار الأواني الفا فالاطمئنان في الإناء الأوّل يكذب مجموع 999 اطمئنانا من الاطمئنانات الثابتة في بقية الأواني.

وطرفا المعارضة هما : الاطمئنان في الإناء الأوّل ، ومجموع 999 اطمئنانا. وهذا بخلافه فيما سبق فان المعارضة فرضت بين الاطمئنان في الإناء الأوّل وخصوص الاطمئنان في الإناء الثاني مثلا.

ولكن كيف نقرّب المعارضة بين الاطمئنان في الإناء الأوّل وبين مجموع الاطمئنانات في 999 إناء؟

ان تقريب المعارضة يمكن ان يوضح بهذا الشكل : ان الاطمئنانات في الأواني 999 لو ضممنا بعضها إلى بعض انتجت الاطمئنان بعدم انطباق النجس على شيء منها ، ولازم ذلك انطباقه على الإناء الأوّل ، وبذلك يكون مجموع الاطمئنانات 999 مكذبا للاطمئنان الثابت في الإناء الأوّل.

ويردّ هذا التقريب : ان ضم الاطمئنانات 999 بعضها إلى بعض لا ينتج الاطمئنان بالمجموع ، أي بعدم ثبوت النجاسة في الأواني 999 فان الاطمئنانات

ص: 360

في المقام اطمئنانات مشروطة وليست مطلقة (1) ليكون ضم بعضها إلى بعض منتجا للاطمئنان بالمجموع ، أي بعدم ثبوت النجاسة في الأواني 999 وبالتالي ليكون مستلزما لثبوت النجاسة في الإناء الأوّل.

هذا كله بالنسبة إلى مناقشة السبب الأوّل.

وأمّا السبب الثاني - وهو ان حجّية مجموع الاطمئنانات يؤدي إلى جواز المخالفة القطعية - فيمكن مناقشته بان دليل حجّية الاطمئنان لو كان يثبت الحجّية لكل اطمئنان اطمئنان فما افيد من لزوم محذور جواز المخالفة القطعية يكون تاما ، ولكن بالامكان ان يدعى ان دليل حجّية الاطمئنان ليس هو الاّ السيرة العقلائية ، والعقلاء لا يثبتون الحجّية لكل اطمئنان اطمئنان بل يثبتونها لبعض الاطمئنانات على سبيل التخيير ، فبعض الاطمئنانات - وهو الاطمئنان الأوّل والثاني والثالث مثلا - حجّة دون البقية ، وبناء على هذا لا يلزم محذور جواز المخالفة القطعية (2).

ص: 361


1- ويصطلح قدس سره على الاطمئنانات المطلقة بالاطمئنانات على نهج القضية الشرطية. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك فيما سبق.
2- وقد تسأل عن نكتة حكم العقلاء بحجّية بعض الاطمئنانات دون جميعها. والجواب : ان الاطمئنان في الإناء الأوّل مثلا انما يأخذ العقلاء به من جهة ان الاحتمال المقابل الذي هو احتمال النجاسة احتمال ضعيف جدا فلإجل ضعف احتمال النجاسة وكون قيمته ١٠٠٠ / ١ مثلا يرتكب العقلاء الإناء الأوّل ، فاذا اراد المكلّف ارتكاب الإناء الثاني صار احتمال تحقق ارتكاب النجس ضمن أحد الإنائين السابقين ١٠٠٠ / ٢ ، واذا اريد ارتكاب الإناء الثالث ارتقى الإحتمال إلى ١٠٠٠ / ٣ ، واذا اريد ارتكاب عشرة أواني ارتقى إلى ١٠٠٠ / ١٠ ، وحيث ان هذا الإحتمال احتمال يعتد به العقلاء كان اللازم عندهم حجّية تسعة اطمئنانات مثلا على سبيل التخيير لا أكثر. ثم ان ذكر التسعة إنّما هو من باب المثال والاّ فقد تكون الحجية التخييرية ثابتة لاقل من التسعة او لأكثر منها ، بل قد يقال ان العقلاء يرون حجّية جميع الاطمئنانات ما عدا الأخير الذي منها يلزم من السير على طبقه القطع بارتكاب الحرام. وعلى أي حال لا يحكم العقلاء بحجّية جميع الاطمئنانات.
التقريب الثاني
اشارة

تقدم سابقا ان عدم منجزية العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة يمكن ان يقرب بأحد تقريبين. ولحدّ الآن كان الكلام يدور حول التقريب الأوّل.

وأمّا التقريب الثاني فاستيضاحه يتوقف على استذكار مقدمة سبق مضمونها ، وهي ان منجزية العلم الإجمالي تتوقف على أربعة أركان ، رابعها ان يكون جريان الأصول في الأطراف موجبا لجواز المخالفة القطعية العملية ، فاذا لم يكن جريان الاصول موجبا لذلك لم يكن العلم الإجمالي منجزا.

مثال ذلك : دوران الأمر بين المحذورين ، فاذا علم المكلّف اجمالا بأنه نذر اما شرب ماء البرتقال أو ترك شربه فالعلم الإجمالي المذكور لا يكون منجزا لأن جريان أصل البراءة عن الوجوب وعن الحرمة لا يستلزم جواز المخالفة القطعية اذ المكلّف اما ان يشرب ، وفي ذلك احتمال الموافقة ، أو يترك ، وفي ذلك احتمال الموافقة أيضا.

هذه هي الصياغة المشهورة للركن الرابع.

ص: 362

وهناك صياغة ثانية تبنّاها السيد الخوئي ( دام ظله ) ، وهي ان يكون جريان الاصول في الأطراف موجبا للترخيص في المخالفة وان لم تتحقق المخالفة القطعية خارجا ، فان نفس الترخيص في إرتكاب الحرام قبيح وان لم يمكن تحقق الحرام خارجا ، فاذا كان لدى المكلّف إناء خمري لا يمكنه تناوله - كما اذا كان في صندوق مقفل لا يمكن فتحه - فالترخيص في إرتكابه قبيح بالرغم من عدم امكان تناوله.

وبعد هذه المقدمة نعود إلى التقريب الثاني لعدم منجزية العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة.

وحاصله : ان الأطراف اذا كانت كثيرة لم يكن العلم الإجمالي منجزا فيها لاختلال الركن الرابع من أركان المنجزية حيث ان جريان الاصول في جميعها لا يستلزم جواز المخالفة القطعية باعتبار ان الأطراف اذا كانت كثيرة فلا يمكن عادة ارتكابها جميعا حتى يكون جريان الاصول فيها مستلزما لتحقق المخالفة القطعية خارجا.

وهذا التقريب كما هو واضح يتم على الصياغة المشهورة للركن الرابع.

وأمّا على الصياغة الثانية التي تبناها السيد الخوئي فهو ليس بتام لأن جريان الاصول في جميع الأطراف وان لم يلزم منه تحقق المخالفة القطعية إلاّ انه يلزم منه اجتماع الترخيصات التي يعلم بان واحدا منها ترخيص في ارتكاب الحرام.

الفارق العملي

ثم ان الفارق العملي بين الصياغتين - الصياغة المشهورة وصياغة السيد

ص: 363

الخوئي - تظهر في هذا التقريب ، فانه على الصياغة المشهورة يتم التقريب المذكور وبالتالي لا يجب ترك اطراف الشبهة غير المحصورة بينما على صياغة السيد الخوئي لا يكون تاما وبالتالي يجب ترك اطراف الشبهة غير المحصورة - لعدم جريان الأصل المؤمن في اطرافها - إلاّ اذا فرض خروج بعض اطرافها عن محل الابتلاء.

نقض السيد الخوئي

ثم ان السيد الخوئي نقض على الصياغة المشهورة بان لازمها ان الشبهة حتى لو كانت محصورة وذات طرفين مثلا ولكن ما دام لا يمكن ارتكابهما معا لسبب وآخر فلا يكون العلم الإجمالي منجزا ، فلو فرض ان المكلّف علم بانه يحرم عليه المكث في وقت واحد في أحد بلدين متباعدين فالمخالفة القطعية حيث لا يمكن تحققها - لأن الإنسان لا يمكنه في آن واحد الكون في مكانين - فاللازم ان لا يكون العلم الإجمالي منجزا لان جريان البراءة عن حرمة الكون في هذا المكان وعن حرمة الكون في ذلك المكان لا يلزم منه تحقق المخالفة القطعية مع أنه لا إشكال بين الجميع في تنجيز مثل العلم الإجمالي المذكور ولا يجوز للمكلف الذهاب إلى أحد البلدين والكون فيه.

تعديل الصياغة المشهورة

ودفعا للنقض المذكور نقول : ان الصياغة المشهورة للركن الرابع يمكن ايضاحها بأحد بيانين على احدهما يتم النقض المذكور وعلى الآخر لا يتم. والبيانان هما : -

ص: 364

1 - وهو نفس ما نقلناه عن المشهور فيما تقدم من ان شرط منجزية العلم الإجمالي ان يكون جريان الاصول في جميع الأطراف موجبا لجواز المخالفة القطعية خارجا فلو لم يمكن تحقق المخالفة القطعية خارجا ولم يقدر عليها المكلّف - مهما كان سبب عدم القدرة - فلا يكون العلم الإجمالي منجزا.

وبناء على هذا البيان يتم النقض السابق ، ففي المثال السابق للمكث حيث لا يمكن تحقق المخالفة القطعية فيلزم ان لا يكون العلم الإجمالي منجزا.

ولكن يمكن ان يقال ان أصل البيان المذكور مرفوض حيث ان لازم جريان الاصول في جميع الأطراف في صورة عدم امكان تحقق المخالفة القطعية خارجا ثبوت الترخيص الشرعي في جميع الأطراف مع فرض ان الغرض اللزومي قد وصل بيانه إلى المكلّف بسبب علمه الإجمالي بحرمة أحد الطرفين ، وواضح ان رجحان الغرض غير اللزومي على اللزومي أمر بعيد في الحياة العقلائية ، فان العقلاء متى ما علموا بتحقق غرض لزومي وغرض غير لزومي (1) واشتبه أحدهما بالآخر ولم يمكن تمييزهما رجحوا الغرض اللزومي على غير اللزومي دون العكس ، فلو فرض ان العاقل واجه طعامين يعلم ان احدهما مضر بصحته بينما الآخر حيادي - فلا هو مضر ولا نافع - فلا يرتكب أحدهما بل يتركهما ترجيحا للغرض اللزومي الموجود في الطعام المضر على الغرض غير اللزومي الموجود في الطعام الآخر.

ص: 365


1- واما اذا لم يعملوا بتحقق الغرض اللزومي كما لو فرض ان الشبهة كانت بدوية يحتمل ان يكون الغرض المتحقق فيها تحريميا لزوميا كما ويحتمل كونه ترخيصيا غير لزومي فليس من اللازم عندهم ترجيح الغرض اللزومي والحكم بالحرمة.

هذا ما جرت عليه سيرة العقلاء. ونفس هذه السيرة تصير سببا لانصراف أدلة الاصول العملية عن الشمول لاطراف العلم الإجمالي واختصاصها بموارد الشبهة البدوية.

ولرب قائل يقول : ان المخالفة القطعية للعلم الإجمالي ما دامت غير ممكنة فاي محذور في جريان الاصول في جميع الأطراف؟

والجواب : ذكرنا ان لازم جريان الاصول في جميع الأطراف وثبوت الترخيص فيها تقدم الغرض غير اللزومي على الغرض اللزومي ، وواضح ان هذا المحذور لازم حتى لو فرض ان المخالفة القطعية لا يمكن تحققها في الخارج.

والبيان الجديد للركن الرابع ان يقال (1) : ان شرط منجزية العلم الإجمالي عدم كثرة اطرافه إلى حدّ لا يمكن للمكلف عادة ارتكابها جميعا وبالتالي لا يمكن تحقق المخالفة القطعية منه عادة فان الأطراف متى ما بلغت من الكثرة إلى هذا الحدّ جرت الاصول فيها جميعا حيث ان جريانها لا يستوجب تحقق المخالفة القطعية خارجا إذ كثرة الأطراف تمنع من تحقق ذلك.

لا يقال : ان نفس ما أورد على البيان الأوّل يرد على هذا أيضا ، حيث يقال ان الأطراف وإن فرض كثرتها ولكن متى ما جرت الاصول فيها جميعا فلازمه ثبوت الترخيص في جميعها ، ولازم ثبوت الترخيص في جميعها تقدم الغرض غير اللزومي على اللزومي.

والجواب : انّه وان لزم تقدم الغرض غير اللزومي على اللزومي إلاّ أنه

ص: 366


1- وهو البيان الذي تقدم الوعد به سابقا وانه سيأتي تعديل لصيغة الركن الرابع في مبحث الشبهة غير المحصورة.

ما دامت الأطراف كثيرة جدا فالعقلاء لا يأبون من تقدم الغرض غير اللزومي اذ الأطراف لو كانت الفا مثلا وكان واحد منهما محرما ذا غرض لزومي والبقية المتبقاة ذات غرض ترخيصي فتقديم الغرض الترخيصي عقلائي أيضا لأن ترجيح الغرض اللزومي يستلزم تفويت 999 غرضا غير لزومي ، فللحفاظ على هذه المجموعة الكبيرة من الاغراض غير اللزومية لا بأس عقلائيا بتقديم الغرض غير اللزومي.

ومع عدم وجود البناء العقلائي في هذه الحالة على تقدم الغرض اللزومي فلا موجب لانصراف أدلة الاصول عن الشمول لاطراف الشبهة فيما اذا كانت غير محصورة.

فارق بين البيانين

والفارق بين البيانين هو أن البيان الثاني يقول ان عدم القدرة على المخالفة القطعية اذا نشأ من خصوص كثرة الأطراف - لا من أي منشأ كان - فلا مانع من جريان الاصول في جميع الأطراف ، وبذلك يسقط العلم الإجمالي عن المنجزية ، بينما البيان الأوّل يقول ان عدم القدرة على المخالفة القطعية اذا نشأ من أي منشأ كان - وان لم يكن كثرة الأطراف - فلا مانع من جريان الاصول في جميع الأطراف ويسقط بذلك العلم الإجمالي عن المنجزية.

لا يرد نقض السيد الخوئي

ثم ان نقض السيد الخوئي السالف الذكر لا يرد على البيان الثاني حيث انّه

ص: 367

يختص بما اذا كانت الأطراف كثيرة ويقول انه متى ما كثرت الأطراف جرى الأصل في جميعها وسقط العلم الإجمالي عن المنجزية ولا يعم ما اذا كانت الشبهة محصورة وذات اطراف قليلة ، كما اذا علم بحرمة المكث في آن واحد في أحد مكانين.

خلاصة ما تقدم

ثم ان الخلاصة من كل ما تقدم ان عدم منجزية العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة له تقريبان : -

1 - ان كثرة الأطراف توجب الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالاجمال على كل طرف.

2 - انّه مع كثرة الأطراف لا مانع من جريان الاصول في جميعها.

والفارق بين التقريبين : هو ان الأوّل يتم حتى في حالات عدم جريان الأصل في الأطراف - كما اذا كان دليل الأصل قاصرا في نفسه عن الشمول لاطراف العلم الإجمالي ولو كانت كثيرة - إذ مستند عدم التنجز هو الاطمئنان دون الأصل ، بينما التقريب الثاني لا يتم عند عدم جريان الأصل في الأطراف (1).

ص: 368


1- ثم انه بقي مطلبان كان من الجدير الإشارة لهما. وهما : - ١ _ ما هو الضابط لكون الشبهة شبهة غير محصورة؟ قد يقال : ان المناط في ذلك هو العرف ، فما عدّه العرف مصداقا للشبهة غير المحصورة فهو مصداق لها والاّ فلا. وفيه : ان عنوان الشبهة غير المحصورة لم يرد في آية أو رواية ليرجع في تحديده إلى العرف. وعليه فلا بدّ من الرجوع إلى نفس التقريبين المتقدمين وعلى ضوئهما تحدد الشبهة غير المحصورة. اما على التقريب الأوّل فالضابط للشبهة غير المحصورة هو ان تكثر الأطراف إلى حدّ يتولد الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على كل طرف. واما على التقريب الثاني فالضابط ان تكثر الأطراف إلى حدّ لا يرى العقلاء مانعا من شمول أدلة الاصول لجميع الأطراف. ٢ _ ما هو مقدار الأطراف الذي يجوز ارتكابه فهل يجوز ارتكاب جميع الأطراف أو ما عدا مقدار الحرام أو غير ذلك؟ والجواب : ان ذلك يختلف باختلاف التقريبين السابقين ، فعلى التقريب الأوّل يجوز ارتكاب بعض قليل من الأطراف _ كطرفين أو ثلاثة مثلا _ الذي لا يكون احتمال تحقق الحرام ضمنه احتمالا معتدا به عند العقلاء إذ انهم يبنون على حجّية الاطمئنان في هذه الحدود. بينما على التقريب الثاني يحق للمكلف ارتكاب أي مقدار اراده من الأطراف.

قوله ص 129 س 8 : ينجم : أي يحصل.

قوله ص 129 س 12 : وعلى هذا الاساس : أي افتراض عامل الكثرة فقط.

قوله ص 130 س 6 : بهذا النحو : أي بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على الطرف المقتحم.

قوله ص 130 س 9 : مثلا : أي ان فرض كون المعلوم بالإجمال هو النجس إنّما هو من باب المثال والاّ فيمكن افتراض كون المعلوم بالإجمال شيئا آخر.

قوله ص 130 س 17 : ان كل مجموعة من الاحرازات : المراد من الإحراز مطلق الإحراز الشامل لليقين والاطمئنان والظن والإحتمال.

والمعنى ان كل مجموعة من الاحرازات الثابتة في الأطراف تنتج بعد ضم

ص: 369

بعضها إلى بعض إحراز حصول مجموع المتعلقات - متعلق الإحراز الأوّل أ ، ومتعلق الإحراز الثاني ب - بنفس تلك الدرجة من الإحراز ، فاذا كانت درجة الإحراز في الأطراف هي الظن كانت درجة الإحراز في المجموع هي الظن أيضا ، واذا كانت هي الاطمئنان كانت الاطمئنان أيضا وهكذا.

قوله ص 131 س 1 : ووجودها : عطف تفسير.

قوله ص 131 س 11 : القاعدة المذكورة : أي المشار لها بقوله سابقا « وكقاعدة عامة ان كل مجموعة ... ».

قوله ص 131 س 13 : إحراز وجوده : أي وجود متعلقه.

قوله ص 131 س 13 : على تقدير : المناسب اضافة كلمة « حتى » ، أي حتى على تقدير وجود الخ.

قوله ص 131 س 14 : على نهج القضية الشرطية : متعلق بقوله « إحراز وجوده ». وصورة القضية الشرطية بهذا الشكل : إن كان ب موجودا ف أ يطمأن بوجوده أيضا ، وان كان أ موجودا ف ب يطمأن بوجوده أيضا.

وقد تقدم ان الأنسب التعبير بالاطمئنان المطلق بدل التعبير بالاطمئنان على نهج القضية الشرطية.

قوله ص 132 س 4 : واجماع .. : عطف تفسير لقوله « حساب الإحتمالات ».

قوله ص 132 س 5 : على نفي الانطباق : متعلق بقوله « إجماع ».

قوله ص 132 س 13 : معارضه : المناسب : متعارضة.

قوله ص 132 س 14 : والمعذرية : عطف تفسير للحجّية. وإنّما خصص المعذرية بالذكر دون المنجزية لأن المفروض كون الاطمئنان اطمئنانا بعدم

ص: 370

انطباق النجاسة على كل طرف وليس اطمئنانا بالانطباق.

قوله ص 133 س 5 : والحالة هذه : أي ان لنا علما إجماليا بكذب بعض الامارات.

قوله ص 133 س 10 : واذا اخذنا مجموعة الاطمئنانات الاخرى : أي مع الاطمئنان الاوّل ونسبناها له.

قوله ص 133 س 12 : بمجموع متعلقاتها : أي الاطمئنان بعدم انطباق النجس على 999 إناء.

قوله ص 133 س 13 : على سائر : أي جميع. والمقصود جميع 999 إناء.

قوله ص 133 س 13 : المساوق : أي الملازم. وهو صفة للاطمئنان بعدم الانطباق.

قوله ص 133 س 14 : على غيرها : وهو الإناء الأوّل. والمراد من الانطباق انطباق المعلوم بالإجمال ، أي النجس.

قوله ص 134 س 8 : عمليا : الأنسب : عملا.

قوله ص 134 س 13 : فيما تقدم : أي ص 110.

قوله ص 134 س 14 : السالفة الذكر : أي ص 111.

قوله ص 135 س 10 : وجود : الصحيح : وجوب.

قوله ص 135 س 15 : والحالة هذه : أي فرض عدم القدرة على المخالفة القطعية.

قوله ص 136 س 1 : على كل حالات العجز : أي وان لم يكن سبب العجز كثرة الأطراف.

ص: 371

قوله ص 136 س 5 : الواصلة بالعلم الإجمالي : واما اذا لم تكن واصلة ، كما اذا كانت الشبهة بدوية فلا بأس بتقديم الغرض غير اللزومي على اللزومي.

قوله ص 136 س 5 : كما تقدم توضيحه سابقا : أي في القسم الأوّل من الحلقة الثالثة ص 58.

قوله ص 136 س 6 : يعني ذلك : أي تقديم الأغراض الترخيصية على الاغراض اللزومية.

قوله ص 136 س 7 : مفاد الدليل : أي دليل الأصل العملي.

قوله ص 136 س 8 : كذلك : أي لجميع الأطراف.

قوله ص 136 س 11 : بوصول .. : هذا تفسير لكلمة « كذلك ».

قوله ص 136 س 13 : وعليه : أي على الغرض اللزومي.

ص: 372

الحالة الثامنة أو عدم القدرة على بعض الأطراف

اشارة

ويتوقف بيان الحالة الثامنة من الحالات العشر على استذكار مقدّمة حاصلها. انّ الركن الثالث من أركان منجزية العلم الإجمالي له صياغتان : صياغة مشهورة وصياغة للشيخ العراقي. فالصياغة المشهورة تقول انّ شرط منجزية العلم الإجمالي تعارض الاصول في أطرافه فلو لم تتعارض - بأن جرت في بعضها دون بعض - لم يكن منجزا. وأمّا الصياغة الثانية فتقول انّ شرط منجزية العلم الإجمالي أن يكون العلم الإجمالي صالحا لتنجيز جميع أطرافه مع عدم وجود منجز آخر له غيره.

وبعد هذا نأخذ في بيان الحالة الثامنة. وحاصلها : لو كنّا نعلم إجمالا مثلا بوقوع نجاسة في أحد انائي حليب وأحدهما كان لا يمكن ارتكابه فلا يكون العلم المذكور منجزا ، فالإناء الآخر الذي يمكن ارتكابه يجوز تناوله بلا مانع.

هذا على سبيل الإجمال.

والتفصيل ان يقال : ان عدم إمكان ارتكاب أحد الإنائين له حالتان : -

1 - ان يكون ارتكابه غير ممكن عقلا ، كما لو فرض ان المكلّف علم إجمالا بنجاسة أحد كأسي الحليب وكان أحدهما في المريخ مثلا فان الإناء المذكور لا يمكن ارتكابه عقلا (1).

ص: 373


1- ليس المقصود من عدم إمكان الإرتكاب عقلا عدم الإمكان بالمعنى الحقيقي الدقيق - إذ الوصول إلى المريخ وتناول الإناء الموجود فيه ممكن عقلا - وإنّما المقصود عدم الإمكان بمقتضى العادة

2 - ان يكون ارتكابه ممكنا عقلا بيد انّه لا يرتكب عادة كالإناء الموجود في بيت السلطان أو في بلد بعيد لا يذهب إليه المكلّف عادة. ويصطلح على الحالة المذكورة بالخروج عن محل الإبتلاء.

وبعد اتضاح هاتين الحالتين نأخذ أوّلا بالتكلم عن الحالة الاولى.

الحالة الاولى
اشارة

وهي ما إذا كان أحد الإنائين لا يمكن ارتكابه عقلا. ولا إشكال في عدم منجزية العلم الإجمالي في الحالة المذكورة. ولكن ما هي النكتة في ذلك؟

ان المشهور عللوا عدم المنجزية باختلال الركن الأوّل - وهو تعلق العلم بالجامع - فقالوا انّ المكلّف في الحالة المذكورة لا علم له بحرمة ارتكاب أحد الإنائين إذ من المحتمل وقوع النجاسة في الإناء الخارج عن القدرة ، وعلى التقدير المذكور لا تثبت حرمة الارتكاب لأن شرط ثبوت التكليف القدرة على متعلقه.

وان شئت قلت : انّه تقدم في الحالة الثانية من الحالات العشر انّ المكلّف لو كان لديه إناء ماء برتقال وإناء ماء رمان ويعلم بنجاسة أحدهما وكان مضطرا لسبب وآخر لتناول ماء البرتقال فالعلم الإجمالي لا يكون منجزا لعدم تحقق العلم بالجامع - أي ثبوت حرمة احدهما - لإحتمال وقوع النجاسة في إناء البرتقال الذي لا يحرم ارتكابه - لو كان نجسا - بسبب الاضطرار فان الاضطرار يرفع الحكم الشرعي.

هذا ما تقدم في الحالة الثانية ، والمشهور كأنهم أرادوا قياس مقامنا على

ص: 374

الحالة المذكورة ، فكما ان المكلّف لو اضطر إلى فعل المحرم - كشرب ماء البرتقال - ترتفع حرمته كذلك لو اضطر إلى ترك ارتكاب المحرم ترتفع حرمته فالاضطرار إلى الترك قيس على الاضطرار إلى الفعل وحكم في كليهما بارتفاع الحرمة.

وفي مقام الجواب نقول : ان هذا القياس مع الفارق فلا وجه لقياس الاضطرار إلى الترك على الاضطرار إلى الفعل ، فان من اضطر إلى شرب ماء البرتقال يمكن ان يقال بسقوط علمه الإجمالي - بنجاسة إمّا ماء البرتقال أو ماء الرمان - عن المنجزية إذ مع الاضطرار لا يمكن توجيه الخطاب بالحرمة إليه فإن التكليف بغير المقدور لغو وقبيح ، وما دام لا يمكن التكليف بغير المقدور فلا يتشكل علم إجمالي بالتكليف فلا يمكن للمكلف ان يقول انّي اعلم بحرمة ثابتة اما في ماء البرتقال أو في ماء الرمان.

وهكذا لا يتشكل علم اجمالي من حيث الملاك - أي المبغوضية والمفسدة - فلا يمكن ان يقول المكلّف إنّي علم بثبوت المبغوضية إمّا في تناول ماء البرتقال أو في تناول ماء الرمان ، إذ كما ان الاضطرار يرتفع بسببه الخطاب بالحرمة كذلك من المعقول ان ترتفع بسببه المغوضية.

واذا لم نجزم بان الاضطرار إلى شرب النجس يزيل بغض المولى عن تناوله فلا أقل من احتمال ذلك (1) ، فان شرب النجس بسبب طرو عنوان الاضطرار عليه يحصل له فردان : شرب النجس غير المضطر إليه وشرب النجس المضطر إليه ، ومن المعقول ان تكون المبغوضية ثابتة في أحد الفردين - وهو شرب

ص: 375


1- واكتفي في عبارة الكتاب بابراز الإحتمال حيث قيل : « فيمكن ان يفترض إلخ » ولم يجزم بانتفاء الملاك باعتبار ان مجرد احتمال انتفاء الملاك يكفي لعدم تشكل العلم الإجمالي بلحاظ الملاك.

النجس غير المضطر إليه - دون الفرد الثاني ، وما دمنا نحتمل زوال المبغوضية بسبب الاضطرار فلا يمكن حصول علم إجمالي بوجود المبغوضية.

وبالجملة إذا اضطر المكلّف إلى ارتكاب أحد الطرفين - كشرب ماء البرتقال - فلا يمكنه تشكيل علم إجمالي لا بلحاظ التكليف ولا بلحاظ الملاك.

هذا كله إذا اضطر المكلّف إلى الفعل.

وأمّا إذا اضطر إلى ترك ارتكاب أحد الطرفين - كالاضطرار إلى ترك الإناء الموجود في مكان غير مقدور - فالعلم الإجمالي من حيث التكليف وان كان لا يمكن تشكيله - إذ توجيه الخطاب بالحرمة نحو الإناء الذي لا يمكن ارتكابه قبيح ولغو ، وحيث ان المكلّف يحتمل وقوع النجاسة في الإناء الذي لا يمكنه ارتكابه فلا يجزم بتوجه الخطاب بالحرمة إليه - الاّ انّ العلم الإجمالي من حيث الملاك يمكن تشكيله فان مبغوضية شرب النجس ثابتة حتى في حالة عدم إمكان ارتكابه فمجرد ابتعاد الإناء النجس ووجوده في مكان بعيد لا يمكن ان تصل له يد المكلّف لا يزيل مبغوضية ارتكابه ، ولذا لو فرض ولو من باب المحال تحقق ارتكابه بالفعل كان مبغوضا.

اذن هناك فرق واضح بين الاضطرار إلى شرب النجس فتزول المبغوضية عنه وبين الاضطرار إلى ترك شربه فلا تزول المبغوضية عنه (1).

وما دامت المبغوضية لا تزول بالاضطرار إلى الترك فيمكن للمكلف

ص: 376


1- ومثال ثاني لذلك أكل لحم الخنزير ، فان الإنسان إذا اضطر إلى أكله زالت عنه المبغوضية والحرمة معا. وأمّا إذا كان موجودا في مكان بعيد ولم يمكن تناوله فلا تزول المبغوضية عنه فان بعد مكان الخنزير لا يزيل المبغوضية عن أكله.

تشكيل علم إجمالي بلحاظ الملاك - المبغوضية - بان يقول اني أعلم بثبوت المبغوضية امّا في تناول هذا الإناء الموجود أمامي أو في الإناء الموجود في المريخ.

واذا أمكن تشكيل مثل هذا العلم الإجمالي وجب الإجتناب عن كلا الإنائين فان العلم المنجز ليس هو خصوص العلم الإجمالي بالتكليف بل العلم الإجمالي بروح التكليف وملاكه منجز أيضا.

وأكثر من هذا نقول : انّ التكليف لو لاحظناه بقطع النظر عن ملاكه لم يكن ذا أهمية ولا يثبت التنجز له وإنّما المهم هو الملاك ، فبه تتحقق روح التكليف وحقيقته.

التعليل المناسب

وبهذا كله إتضح انّه ليس من الصحيح تعليل عدم منجزية العلم الإجمالي في حالة عدم التمكن من ارتكاب أحد الطرفين بفقدان الركن الأوّل ، وإنّما الصحيح التعليل بفقدان الركن الثالث بكلتا صيغتيه.

أمّا فقدانه بالصيغة الاولى المشهورة - وهي انّه لا بدّ من تعارض الاصول في الأطراف - فلأن أصل الإباحة في الإناء الخارج عن القدرة لا يجري في نفسه اذ المقصود من التعبد بالإباحة هو جعل المكلّف مطلق العنان ومرخصا في ارتكاب الشيء ، ومن الواضح ان المكلّف إذا لم يمكنه ارتكاب الإناء الموجود في المريخ وكان مقيدا تقيدا تكوينيا وقهريا فلا معنى لإثبات إطلاق العنان له تشريعا ، فانّ تشريع إطلاق العنان إنّما يعقل فيما إذا كان المكلّف مطلق العنان تكوينا دون ما إذا كان مقيدا.

ص: 377

وأمّا فقدانه بالصيغة الثانية التي تبناها الشيخ العراقي - وهي انه يشترط في منجزية العلم الإجمالي ان يكون صالحا لتنجيز كلا طرفيه بلا وجود منجز آخر - فلأن النجاسة لو كانت ثابتة في الإناء الموجود في المريخ فلا يكون العلم الإجمالي منجزا لتركها إذ المقصود من تنجز تركها هو اشتغال الذمة والعهدة بالترك ، وواضح ان تناول الإناء إذا لم يكن مقدورا فلا يعقل اشتغال العهدة بتركه.

الحالة الثانية
اشارة

ذكرنا فيما سبق ان عدم إمكان ارتكاب أحد الطرفين له حالتان فتارة لا يمكن ارتكابه لخروجه عن القدرة واخرى لخروجه عن محل الابتلاء.

وفيما سبق كان حديثنا ناظرا إلى الحالة الاولى ، ومن الآن نأخذ بالتحدث عن الحالة الثابتة وهي ما إذا كان أحد الطرفين خارجا عن محل الابتلاء ، كما إذا كان أحد الإنائين إناء بيت السلطان.

وفي هذه الحالة ذهب المشهور إلى عدم حجّية العلم الإجمالي أيضا لنفس النكتة المتقدمة فيما سبق ، فكما ان التكليف مشروط بالقدرة على متعلقه كذلك هو مشروط بكونه داخلا في محل الإبتلاء ، فاذا لم يكن أحد الإنائين داخلا في محل الإبتلاء فلا يحصل علم بوجوب الإجتناب عن أحد الإنائين ، إذ لعل النجس هو إناء بيت السلطان الذي لا يجب الإجتناب عنه - على تقدير كونه هو النجس - لخروجه عن محل الإبتلاء.

أمّا لماذا كان التكليف مشروطا بدخول متعلقه في محل الإبتلاء؟

ان الشيخ الأعظم قدس سره علّل ذلك : بان توجيه التكليف مع عدم الإبتلاء

ص: 378

بمتعلقه قبيح ، ولذا تجد ان العرف يستهجن ان يقول المولى لعبده تجنب عن إناء بيت السلطان ، وما ذاك الاّ لخروجه عن محل الإبتلاء.

وفي الجواب نقول : لو سلمنا اشتراط التكليف بدخول متعلقه في محل الإبتلاء فمع ذلك يمكن تشكيل علم إجمالي جديد بلحاظ الملاك بالنحو الذي تقدم تشكيله في الحالة السابقة ، فان خروج الشيء عن القدرة إذا لم يعدم عنه المبغوضية فبالاولى الخروج عن محل الابتلاء لا يعدم المبغوضية ، ومع بقاء المبغوضية في الشيء الخارج عن محل الإبتلاء فبالإمكان تشكيل علم إجمالي بلحاظ ذلك فيقول المكلّف إنّي أعلم بوجود مبغوضية إمّا في الإناء الداخل في محل ابتلائي أو في الإناء الخارج.

بل هنا يمكن تشكيل العلم الإجمالي بلحاظ التكليف أيضا فانا لا نسلم ان الإبتلاء شرط في صحّة التكليف بل يصح حتى مع خروج الشيء عن محل الإبتلاء (1) فإنّ الشيء إذا كان داخلا تحت القدرة فبالامكان تعلق التكليف به والزجر عنه وإن كان خارجا عن محل الابتلاء.

فان قيل : ان النهي عن الإناء الخارج عن محل الابتلاء - كاناء السلطان - لغو ، إذ الغرض من النهي هو الترك ، ومعلوم ان ترك إناء السلطان حاصل بنفس عدم الابتلاء به حتى لو لم ينه عنه ، ومعه فيكون الرجز عن ارتكابه طلبا لما هو حاصل ومن دون فائدة.

قلت : انّه مع النهي عن إناء بيت السلطان يمكن للمكلف التقرب إلى اللّه

ص: 379


1- وفاقا للسيد الخوئي ( دام ظلّه ) في مصباح الاصول ج 2 ص 395 فانّه اختار عدم اشتراط صحة التكليف بالابتلاء.

سبحانه بتركه بينما لو لم ينه عنه لما أمكن للمكلف التقرب بتركه فالنهي عن تركه حينئذ يكون ذا فائدة وهي التقرب بتركه ولا يكون لغوا ومن قبيل تحصيل ما هو حاصل (1).

ص: 380


1- البيان المذكور ناقص وبحاجة إلى توضيح. ويمكن في توضيحه ان يقال : ان محذور اللغوية يلزم في النواهي العرفية دون النواهي الشرعيّة ، فانّه في النواهي العرفية - كنهي الأب ولده عن التدخين - يكون المطلوب هو الترك ، فالترك هو النتيجة المطلوبة من وراء النهي ، فاذا كان الترك حاصلا من أي سبب كان فردع الولد عن التدخين يكون لغوا. وهذا بخلافه في النواهي الشرعية فان المطلوب من النهي عن السرقة مثلا ليس مجرد ترك السرقة حتى يقال انّه مع انصراف العبد عنه يكون النهي عن فعلها لغوا ، وإنّما المطلوب إيصال العبد إلى مدارج الكمال ، فإحكام الشريعة جميعا بما فى ذلك الأحكام التوصلية شرعت لتكميل العباد ، ومن الواضح ان الوصول إلى الكمال لا يحصل بمجرد الترك وإنّما يحصل فيما إذا كان الترك بداعي القربة والإمتثال ، قال اللّه عز وجل : ( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) ، وبتجلي هذا يتجلي ان النهي عن الإناء الخارج عن محل الإبتلاء ليس لغوا إذ من دون النهي وإن كان الترك حاصلا إلاّ انه لا يمكن ان يحصل بداعي القربة بل حصول الترك بداعي القربة يتوقف على وجود النهي. ان قلت : ان الإناء إذا كان خارجا عن محل الإبتلاء فتركه لا يمكن ان يكون بقصد القربة حتى مع وجود النهي إذ المكلف يترك الإناء من جهة خروجه عن محل الإبتلاء وليس من جهة وجود النهي. قلت : ان هذا البيان يثبت وجود داعي آخر للترك _ وهو الخروج عن الإبتلاء _ غير داعي التقرب ولا ينفي وجود داعي التقرب ، فالمكلف يوجد له داعيان إلى الترك ، فهو يترك إناء السلطان لأجل عدم الإبتلاء حتى وإن لم يكن هناك نهي ، ويتركه لأجل النهي حتى وان لم يكن خارجا عن محل الإبتلاء. وبعبارة اخرى كل من الخروج عن محل الإبتلاء والنهي داع مستقل للترك ، وقد تقرر في الفقه لدى بعض الفقهاء ان النهي إذا كان داعيا مستقلا تحقق التقرب وإن كان إلى جنبه داع مستقل آخر ، نظير من كان له داعيان مستقلان إلى الوضوء : امتثال الأمر والتبريد ، فان التقرب يحصل ما دام امتثال الأمر داعيا مستقلا وان كان إلى جنبه داعي التبريد الذي هو داع مستقل أيضا. ثم ان للسيد الشهيد في بحوثه الفقهية تعبيرا أوضح من الموجود هنا ، ففي الجزء الرابع من تقريره الفقهي ص ١٠١ ما نصّه : « يكفي فائدة للتكليف انّه يحقق صارفا ثانيا للمكلف في عرض الصارف الطبيعي يمكن المكلّف التعبد والتقرب على أساسه ». وأوضح من ذلك تعبير السيد الخوئي في مصباح الاصول ج ٢ ص ٣٩٥.
الأفضل في التعليل

ومن المفضل تعليل عدم منجزية العلم الإجمالي في حالة خروج بعض - الأطراف عن محل الإبتلاء باختلال الركن الثالث - وهو تعارض الاصول في الأطراف - باعتبار ان الأصل يجري في الإناء المبتلى به من دون معارضة بالأصل في الإناء الخارج عن محل الابتلاء.

وقد تسأل عن نكتة عدم جريان الأصل في الطرف الخارج عن محل الابتلاء مع أنّ المفروض ان السيد الشهيد يرى إمكان ثبوت التكليف في حالة عدم الابتلاء ، فانّه بناء على هذا الرأي يكون ثبوت التكليف في الإناء الخارج عن محل الابتلاء محتملا ، ومع واحتمال ثبوت التكليف يكون جريان الأصل لنفيه وجيها.

والجواب : ان الأصل العملي ليس قاعدة مقرره لنفي التكليف عند احتماله حتى يقال بان التكليف في الإناء الخارج عن محل الإبتلاء حيث انه محتمل

ص: 381

فجريان الأصل لنفيه وجيه وإنّما يجريه العقلاء عند تزاحم الغرضين في مقام الحفظ ، بمعنى انه عند احتمال وجود الغرض اللزومي والغرض الترخيصي في الشيء المشكوك فالغرض اللزومي يطلب حفاظا على نفسه تحريم الشيء المشكوك بينما الغرض الترخيصي يطلب حفاظا على نفسه عكس ذلك أي يطلب الترخيص في الشيء المشكوك ، والأصل العملي تعبير عن تقديم أقوى الملاكين عند التزاحم بين الحفظين.

اذن الأصل العملي قاعدة تفترض عند التشاجر والتزاحم بين الحفظين فاذا لم يكن تشاجر وتزاحم بين الحفظين لم يكن معنى للاصل العملي.

وعلى هذا فالاناء الخارج عن محل الابتلاء لا معنى لجريان الأصل فيه إذ ثبوت كل من الغرض اللزومي والترخيصي وان كان محتملا إلاّ انّه لا تشاجر بينهما في مقام الحفظ ، فإنّ الغرض اللزومي الثابت في الحرمة محفوظ بنفس عدم الابتلاء ، فان نفس عدم الابتلاء بإناء السلطان يفترض عدم ارتكابه ، وبالتالي يحصل التحفظ على الغرض اللزومي ، وبتحقق التحفظ عليه لا يقع تزاحم بين حفظه وحفظ الغرض الترخيصي ليجري العقلاء الأصل العملي.

قوله ص 137 س 15 : كاستعمال كأس من الحليب الخ : أي كما إذا دار أمر النجس بين أن يكون هو كأس الحليب الموضوع على مائدته أو الكأس في بلد لا يصل اليه كما عبّر بذلك في الحلقة الثانية.

قوله ص 138 س 12 : على كل تقدير : أي على تقدير نجاسة الاناء المقدور وعلى تقدير نجاسة الاناء غير المقدور بل يكون ثابتا على تقدير نجاسة الاناء المقدور ولا يكون ثابتا على تقدير نجاسة الاناء غير المقدور.

ص: 382

قوله ص 138 س 17 : من المفسدة والمبغوضية : تفسير لمبادئ النهي.

قوله ص 139 س 7 : إنّ الفعل المقدور : الصواب : انّ الفعل غير المقدور.

قوله ص 139 س 9 : إنّ فرض وجوده مساوق الخ : أي لو فرض وجوده كان وجوده ذا مفسدة.

قوله ص 140 س 3 : كما في الحالة الثانية المتقدمة : أي ص 115 من الحلقة.

قوله ص 140 س 7 : على كل حال : أي على كل تقدير من تقديري نجاسة الاناء المقدور ونجاسة الاناء غير المقدور.

قوله ص 141 س 12 : لبعده وصعوبته : أي لبعد الصدور وصعوبته.

قوله ص 141 س 14 : من التعبد بتركه : أي قصد التقرب بتركه ، فالتعبد هو بمعنى التقرب.

قوله ص 142 س 1 : من هذا القبيل : أي التزاحم بين الحفظين.

قوله ص 142 س 3 : بدون تفريط بالغرض الترخيصي : فانّه في سائر الموارد لا بدّ من التضحية بالغرض الترخيصي للحفاظ على الغرض اللزومي. وأمّا في المقام فالغرض اللزومي محفوظ بنفس عدم الابتلاء بلا حاجة إلى التضحية بالغرض الترخيصي.

ص: 383

ص: 384

الحالة التاسعة أو العلم الاجمالي في التدريجيات

اشارة

طرفا العلم الاجمالي تارة يكونان حكمين فعليين ، واخرى يكون أحدهما فعليّا والآخر غير فعلي.

مثال الأوّل : العلم الاجمالي بنجاسة أحد إنائين موجودين بالفعل فإنّ النجاسة إذا كانت ثابتة في الاناء الأوّل فوجوب الاجتناب عنه فعلي ، وإذا كانت في الاناء الثاني فوجوب الاجتناب عنه فعلي أيضا. ومثل هذا العلم الاجمالي يسمّى بالعلم الاجمالي في الأطراف الدفعيّة.

ومثال الثاني : ما إذا فرض انّ امرأة كان يسيل منها الدم طيلة شهر لعارض من العوارض ، وكانت ذات عادة عدديّة لا وقتيّة (1) ، بأن كانت تعلم إنّ مدّة حيضها ثلاثة أيام ، ولكنها لم تعلم انّها الثلاثة الاولى أو الثانية أو الثالثة ، وهكذا. في مثل هذه الحالة يحصل لها علم اجمالي بأنّ واحدة من الثلاثة أيام حيض ، فإن كانت الثلاثة الاولى هي الحيض فيجب عليها التجنّب عن دخول المساجد وجوبا فعليا ، وإن كانت هي الثلاثة الثانية فوجوب التجنّب ليس فعليا بل هو استقبالي منوط بمجيء الثلاثة الثانية.

ومثل هذا العلم يسمّى بالعلم الاجمالي في الأطراف التدريجية لأنّ الثلاثة الثانية لا تتولّد إلاّ بعد انعدام الثلاثة الاولى ، والثلاثة الثالثة لا تتولّد إلاّ بعد

ص: 385


1- أو كانت ذات عادة وقتيّة وعدديّة ولكنها نست الوقت وبقيت متذكرة للعدد فقط.

انعدام الثانية ، وهكذا.

وفي هذا المقام نريد البحث عن حجّية مثل العلم الاجمالي المذكور ، فهل هو منجّز كالعلم الاجمالي في الأطراف الدفعيّة أو لا؟

وقد استشكل في حجّية العلم المذكور بوجهين : -

1 - إنّ الركن الأوّل من أركان منجّزية العلم الاجمالي - وهو العلم بالجامع - مفقود لأنّ الحيض إن كان ثابتا في الثلاثة الاولى فوجوب التجنّب عن دخول المسجد فعلي ، وأما إذا كان في الثلاثة الثانية فهو ليس بفعلي ، وعليه فالمرأة لا تعلم بتوجّه تكليف فعلي إليها ، بل تشك في توجهه إليها.

2 - إنّ الركن الثالث مختل بكلتا صيغتيه : صيغة المشهور وصيغة الشيخ العراقي.

أمّا صيغة المشهور - وهي تعارض الاصول في الأطراف - فتقريب اختلالها أنّ وجوب الاجتناب في الثلاثة الاولى حيث انّه محتمل فيمكن اجراء أصل البراءة لنفيه ، وأمّا وجوب الاجتناب في الثلاثة الثانية فحيث انّه لا يحتمل ثبوته قبلها - أي قبل مجيء الثلاثة الثانية - بل لا يثبت الاّ بعد حلولها فلا يمكن إجراءه لنفيه في الثلاثة الاولى ، ومعه فيجري الأصل الأوّل دون معارض.

وأمّا اختلال صيغة الشيخ العراقي - وهي أن يكون العلم الاجمالي صالحا لتنجيز طرفيه بلا منجّز آخر - فباعتبار أنّ وجوب الاجتناب في الثلاثة الثانية حيث انّه لا يحتمل ثبوته في الثلاثة الاولى فلا يمكن أن يكون العلم الاجمالي منجّزا له - فإن تنجّز التكليف فرع ثبوته - وإنّما يصلح فقط لتنجيز وجوب الاجتناب الثابت في الثلاثة الاولى.

ص: 386

وبكلمة اخرى : إنّ وجوب الاجتناب إن كان ثابتا في الثلاثة الاولى امكن تنجّزه بالعلم الاجمالي ، وامّا إذا كان ثابتا في الثلاثة الثانية فلا يمكن تنجّزه به. وعليه فالعلم الاجمالي يكون صالحا للتنجيز على أحد تقديرين لا على كليهما.

مناقشة الوجهين

هذا ويمكن المناقشة في كلا الوجهين.

أمّا الوجه الأوّل - وهو عدم وجود العلم بالتكليف الفعلي - فباعتبار انّه ليس المقصود من التكليف الفعلي التكليف الثابت الآن - أي عند بداية الثلاثة الاولى - بل المقصود منه أن يكون جميع أجزاء الموضوع متوفرة في مقابل ما إذا كان بعضها مفقودا فانّه لا يكون التكليف فعليّا ، فمثلا موضوع وجوب الحج هو الاستطاعة والبلوغ والعقل والقدرة ، وهذه الأجزاء الاربعة متى توفرت فالوجوب يكون فعليّا ، ومتى ما اختل واحد منها زالت الفعليّة ، وفي مقامنا بما أنّ أجزاء الموضوع (1) تامّة فى كلا التكليفين فهما فعليّان ، غاية الأمر أحدهما تكليف فعلي في الثلاثة الاولى وثانيهما تكليف فعلي في الثلاثة الثانية ، وهذا المقدار يكفي لتنجيز العلم الاجمالي ، فإنّ كلا الطرفين إذا كانا فعليين بهذا المعنى للفعليّة كان العلم الاجمالي منجّزا حتّى وإن كان ثبوت أحدهما في الثلاثة الاولى وثبوت ثانيهما في الثلاثة الثانية فانّه لا يشترط في منجّزية العلم الاجمالي ثبوت كلا التكليفين الفعليين في الثلاثة الاولى إذ مولوية اللّه سبحانه - المقصود من المولوية

ص: 387


1- وهي مثل البلوغ والعقل وعدم الإضطرار وكون الدم حيضا

حق الطاعة - لا تختص بخصوص الثلاثة الاولى بل له حق الإطاعة بالنسبة إلى وجوب التجنّب الثابت في الثلاثة الثانية حتى قبل مجيئها - الثلاثة الثانية - ولا يتوقف ثبوته - حق الاطاعة - على مجيء الثلاثة الثانية ، ومعه فالمكلف يمكنه تشكيل علم اجمالي فيقول إنّي أعلم بثبوت حق الاطاعة الآن أمّا بالتجنب في الثلاثة الاولى أو في الثلاثة الثانية.

هذا كله في مناقشة الوجه الأوّل.

وأمّا الوجه الثاني - وهو عدم توفر الركن الثالث بكلتا صيغتيه - فباعتبار أنّ الصيغة المشهورة للركن الثالث متوفرة ، فالاصل يمكن إجراؤه لنفي التكليف في الثلاثة الاولى ، ومتى ما حلّت الثلاثة الثانية وصار ثبوت التكليف الفعلي فيها محتملا أمكن اجراؤه لنفيه في فيها ، وبهذا يحصل التعارض بين الاصلين ، فإنّ التعارض بين الاصلين لا يتوقف على جريانهما في وقت واحد بل يكفي لتحقّق التعارض جريان أحد الاصلين في الثلاثة الاولى وجريان الاصل الثاني في الثلاثة الثانية ، إذ التعارض بين الاصلين ليس هو كالتعارض بين السواد والبياض الذي يتوقف على ملاحظة زمان واحد ، بل هو بمعنى عدم إمكان شمول دليل الحجّية لكلا الاصلين ، ومن الواضح انّ دليل الاصل لا يمكن أن يشمل الاصل الجاري في الثلاثة الاولى والاصل الجاري في الثلاثة الثانية ، إنّ هذا هو المقصود من التعارض في مقامنا وهو متوفر في المقام.

وأمّا صيغة الشيخ العراقي فهي متوفرة أيضا ، فإنّ العلم الاجمالي ينجّز كلا من الطرفين في ظرفه المناسب له ، فالتكليف في الثلاثة الاولى ينجّزه في الثلاثة الاولى ، والتكليف في الثلاثة الثانية ينجّزه في الثلاثة الثانية فهو صالح لتنجيز كل

ص: 388

من طرفيه في الوقت المناسب للطرفين.

وبعبارة أخرى : لا يشترط تنجيز العلم الاجمالي لكل من طرفيه في الثلاثة الاولى بل يكفي أن يكون صالحا لتنجيزهما ولو بلحاظ عمود الزمان وعلى طوله.

ص: 389

ص: 390

وهكذا يتضح :

وبهذا كله اتضح ان العلم الإجمالي في الأطراف التدريجية منجز لأن كلا الوجهين المستدل بهما على عدم المنجزية باطلان.

هذا ولكن البعض حيث يرتئي صحة الوجهين أو أحدهما ذهب إلى عدم المنجزية وقال ان المرأة في الثلاثة الاولى يجوز لها الدخول في المسجد لعدم منجزية العلم الإجمالي باعتبار تأخر أحد طرفيه ، واذا حلت الثلاثة الثانية جاز لها الدخول في المسجد أيضا وهكذا في كل ثلاثة متأخرة.

وذهب الشيخ العراقي قدس سره إلى منجزية العلم الإجمالي في التدريجيات كما اخترناه ولكن عن طريق ابراز علم إجمالي جديد يكون كلا طرفيه حكما فعليا - لا كالعلم السابق الذي كان أحد طرفيه فعليا والآخر غير فعلي - وذلك بان يقال انه إمّا ان تكون الثلاثة الاولى حيضا فيجب الاجتناب فيها عن دخول المساجد وجوبا فعليا أو تكون الثلاثة الثانية حيضا فالاجتناب وان لم يجب وجوبا فعليا ولكنه يجب حفظ القدرة من الآن على امتثال التكليف المتأخر ، فالمرأة تعلم إجمالا بوجوب فعلي مردد بين وجوب التجنب في الثلاثة الاولى وبين وجوب حفظ القدرة من الآن على امتثال التكليف في الثلاثة الثانية (1).

ص: 391


1- فلو فرض ان الوقوف عند باب المسجد في الثلاثة الاولى سبب لاضطرار المرأة إلى الدخول فيه في الثلاثة الثانية بحيث كان عدم الدخول فيه في الثلاثة الثانية موقوفا على عدم الوقوف إلى جنب بابه في الثلاثة الاولى ، ففي مثل هذه الحالة يتشكل لها علم إجمالي إمّا بحرمة الدخول إلى المسجد في الثلاثة الاولى وإمّا بحرمة الوقوف إلى جنب بابه في الثلاثة الاولى ، وكلا هذين التكليفين - كما ترى - فعلي ثابت في الثلاثة الاولى.

وباختصار يمكننا ان نقول ان الشيخ العراقي حوّل كل علم إجمالي في الأطراف التدريجية إلى علم إجمالي في اطراف فعلية.

ويمكن التعليق على هذه المحاولة بثلاثة وجوه : -

1 - لا حاجة إلى اتعاب الشيخ العراقي نفسه الزكية بتحويل العلم الإجمالي من كونه علما في أطراف تدريجية إلى كونه علما في أطراف دفعية إذ تقدم في جواب الوجه الأوّل من الوجهين المتقدمين ان العلم الإجمالي منجز حتى فيما إذا كان أحد طرفيه تكليفا ثابتا الآن والآخر تكليفا ثابتا في الاستقبال ، فان مولوية اللّه سبحانه لا تختص بالتكاليف الثابتة الآن بل تعم التكاليف الثابتة في المستقبل أيضا ، فاللّه سبحانه له علينا الحق في اطاعته في التكاليف المستقبلية كما له الحق في اطاعته في التكاليف الثابتة الآن.

2 - ذكر قدس سره ان الثلاثة الثانية إذا كانت هي الحيض فيجب في الثلاثة الاولى حفظ القدرة على امتثال التكليف الثابت في الثلاثة الثانية ، وهذا المطلب إنّما يتم فيما لو فرض ان التكليف في الثلاثة الثانية على تقدير ثبوته فيها منجز ، فمتى ما كان منجزا في ظرفه وجب في نظر العقل في الثلاثة الاولى حفظ القدرة على امتثاله - وهذا نظير وجوب الغسل قبل الفجر في شهر رمضان فانّه إنّما يثبت فيما لو فرض ان وجوب الصوم ثابت ومنجز بعد الفجر ، فالمريض وغيره ممن لا يتنجز وجوب الصوم في حقه بعد الفجر لا يجب عليه عقلا حفظ القدرة على

ص: 392

الاغتسال قبل الفجر - ، ومعه فنحن نسأل عن ذلك المنجز لوجوب التجنب في الثلاثة الثانية ، وهو ليس الاّ العلم الإجمالي السابق ، أي العلم الإجمالي في باب التدريجيات - وبتعبير آخر علم المرأة إجمالا بانّه يجب عليه إمّا التجنب في الثلاثة الاولى أو التجنب في الثلاثة الثانية - الذي اخترنا كونه منجزا.

فإن قبله الشيخ العراقي كان هو المنجز بلا حاجة إلى التشبث بالعلم الإجمالي الجديد الذي اقترحه ، وان لم يقبله لم يكن المنجز للتكليف في الثلاثة الثانية ثابتا ليجب حفظ القدرة على امتثاله.

3 - ان العلم الإجمالي الذي اقترحه قدس سره لا ينجز الاّ طرفيه - وهو وجوب التجنب في الثلاثة الاولى ووجوب حفظ القدرة في الثلاثة الاولى - ولا ينجز ما هو أكثر منهما ، فالتجنب في الثلاثة الثانية لا يثبت تنجزه إذ العلم الإجمالي المقترح كان يقول هكذا : ان المرأة تعلم إجمالا إمّا بحرمة دخولها المسجد في الثلاثة الاولى أو بحرمة الوقوف عند باب المسجد في الثلاثة الاولى (1) ، فالذي يتنجز به هو حرمة الدخول في الثلاثة الاولى وحرمة الوقوف عند باب المسجد في الثلاثة الاولى ، وامّا حرمة الدخول في المسجد في الثلاثة الثانية فليست طرفا له لتتنجز به وانما تتنجز الحرمة المذكورة بالعلم الاجمالي السابق ، فان قبله الشيخ العراقي كان هو المنجز بلا حاجة الى العلم الاجمالي الجديد الذي اقترحه وإن لم يقبله فلا يثبت تنجز الحرمة المذكورة.

ص: 393


1- فان حفظ القدرة على عدم الدخول في الثلاثة الثانية يتحقق بعدم الوقوف عند باب المسجد فى الثلاثة الاولى لأن من وقف عند باب المسجد فقد يدخل فيه. وإنّما ذكرنا هذا تسهيلا لهضم المادة والاّ فقد لا يخلو ذلك من تأمّل.

قوله ص 142 س 16 : على كل تقدير : بل على تقدير كون الثلاثة الاولى حيضا يجب عليها بالفعل التجنب عن دخول المسجد وامّا على تقدير كون الثلاثة الثانية حيضا فليس عليها وجوب فعلي بالتجنب.

قوله ص 143 س 13 : وفعليته : عطف تفسير لثبوته.

قوله ص 143 س 14 : على كل تقدير : بل يكون منجزا على تقدير ثبوته في بداية الشهر ولا يكون منجزا على تقدير ثبوته في منتصفه.

قوله ص 144 س 3 : ولو في زمان : الصواب : ولو في عمود الزمان.

قوله ص 144 س 8 : عن الطرف الفعلي بالاصل الخ : الصواب : عن الطرف الفعلي بالاصل الخ.

قوله ص 144 س 12 : بالنحو المناسب الخ : فزمان الاصل الاول هو الثلاثة الاولى وزمان الاصل الثاني هو الثلاثة الثانية ، ودليل الاصل لا يمكن ان يشمل كلا من الاصل الاول في وقته المناسب - وهو الثلاثة الاولى - والاصل الثاني في وقته المناسب له وهو الثلاثة الثانية.

قوله ص 145 س 10 : لما يعرف من مسألة إلخ : تقدم البحث عن وجوب المقدمة المفوتة في القسم الأوّل من الحلقة الثالثة ص 347 وهي كل مقدمة يفوت إمكان امتثال الواجب في ظرفه لو لم يؤت بها قبله كالغسل قبل الفجر في شهر رمضان حيث انّه لو لم يؤت به قبل الفجر يفوت إمكان الإتيان بالصوم بعد الفجر.

قوله ص 146 س 3 : كذلك : أي في المرتبة السابقة على وجوب حفظ القدرة.

ص: 394

قوله ص 146 س 7 : ما يكلف به في ظرفه المتأخر : وهو التجنب عن دخول المسجد في الثلاثة الثانية.

قوله ص 146 س 10 : ثبت تنجيزه لكلا طرفيه : أي من دون حاجة إلى إبراز العلم الجديد.

ص: 395

ص: 396

الحالة العاشرة أو الطولية بين طرفي العلم

اشارة

والحالة العاشرة والأخيرة من الحالات العشر هي : ان يتعلق العلم الإجمالي بطرفين ويفرض ان بينهما طولية بمعنى ان أحدهما يترتب على عدم الآخر ، كما لو فرض ان شخصا حصل على ألف دينار وكانت الألف بمقدار يفي بالاستطاعة إلى الحج ، وفرض أيضا انه كان يشك في وجود دين عليه لزيد (1) فانّه في مثل هذه الحالة سوف يتولد له علم إجمالي إمّا بوجوب الحج عليه - على تقدير عدم ثبوت الدين - أو بوجوب قضاء الدين.

والطرفان هما : وجوب الحج ، ووجوب قضاء الدين. ووجوب الحج في طول وجوب قضاء الدين بمعنى انّه مترتب على عدم وجوب قضاء الدين ، فمن لم يجب عليه قضاء الدين يجب عليه الحج دون من وجب عليه.

والسؤال المطروح في هذه الحالة هو : انّ العلم الإجمالي المذكور هل هو منجز؟ والجواب : انّه توجد في الحالة المذكورة صورتان : -

1 - ان يكون وجوب الحج مترتبا على عدم وجوب قضاء الدين ولو كان - عدم وجوب قضاء الدين - ثابتا ثبوتا ظاهريا ، أي بأصل عملي.

2 - ان يكون مترتبا على عدم وجوب قضاء الدين فيما إذا كان عدم وجوب

ص: 397


1- ولا بدّ من افتراض ان الدين على تقدير ثبوته ممّا يطالب صاحبه بوفائه ، إذ لو لم يطالب به لم يمنع من وجوب الحج.

قضاء الدين ثابتا واقعا ولا يكفي ثبوته الظاهري.

الاولى

أمّا الصورة الاولى فالعلم الإجمالي فيها ليس منجزا لاختلال الركن الأوّل من أركان المنجزية - وهو تعارض الاصول في الأطراف - فيه ، إذ الأصل يجري لنفي وجوب قضاء الدين من دون معارضة بالأصل لنفي وجوب الحج ، اذ بجريان الأصل لنفي وجوب قضاء الدين يثبت العلم بوجوب الحج ، ومع حصول العلم بوجوب الحج لا يجري الأصل لنفيه - فإنّ الأصل لا يجري حالة العلم وإنّما يجري حالة الشكّ - ، وهذا بخلاف إجراء الأصل لنفي وجوب الحج فانّه لا يحصل به العلم بوجوب قضاء الدين فان وجوب قضاء الدين ليس اثرا شرعيا لعدم وجوب الحج.

ان قلت : ان جريان الأصل في أحد الطرفين - أي لنفي وجوب قضاء الدين - بلا معارضة يتم بناء على مسلك الاقتضاء القائل بأنّ منجزية العلم الإجمالي فرع تعارض الاصول ، فاذا لم تتعارض - بان جرى الأصل في أحد الطرفين بلا ان يعارض بجريانه في الآخر - فلا منجزية ، وإمّا بناء على مسلك العلية فلا يمكن ان يجري الأصل لنفي وجوب قضاء الدين ، إذ بناء على المسلك المذكور يكون العلم الإجمالي منجزا في ذاته ، وبسبب هذا التنجيز الذاتي يمتنع جريان الأصل في أحد الطرفين ولو لم يكن له معارض.

قلت : ان مسلك العلية إنّما يمنع من جريان الأصل في الطرف الواحد فيمّا لو فرض ان العلم الإجمالي كان ثابتا ، فانّه بعد ثبوته يكون مانعا من جريان الأصل

ص: 398

حتى في الطرف الواحد ، وفي مقامنا بعد جريان الأصل لنفي وجوب قضاء الدين يزول العلم الإجمالي ويتبدل إلى علم تفصيلي بوجوب الحج لأن وجوب الحج موقوف على عدم وجوب قضاء الدين عدما ظاهريا.

وبتعبير أوضح : ان تحقق العلم الاجمالي موقوف على عدم جريان الأصل لنفي وجوب قضاء الدين فاذا جرى الأصل لنفيه تحقق موضوع وجوب الحج تحققا وجدانيا لا تعبديا لأن جريان الأصل الذي يتوقف عليه وجوب الحج ثابت وجدانا.

وإن شئت قلت : ان حصول العلم الإجمالي موقوف على عدم جريان الأصل لنفي وجوب الوفاء - إذ بجريانه يثبت موضوع وجوب الحج ثبوتا وجدانيا ويحصل العلم التفصيلي بوجوبه - وما دام موقوفا على عدم جريانه فلا يكون مانعا منه ، فإنّ ما يتوقف ثبوته على عدم شيء لا يكون مانعا من تحقق ذلك الشيء.

الثانية

وأمّا الصورة الثانية - وهي ما إذا كان وجوب الحج موقوفا على عدم وجوب الوفاء عدما واقعيا - فالعلم الإجمالي فيها ليس منجزا أيضا لنفس النكتة المتقدمة في الصورة الاولى أي لاختلال الركن الثالث من أركان المنجزية ، فالأصل الثاني لوجوب الوفاء يجري دون معارضة.

ولعلك تستغرب وتسأل ان وجوب الحج إذا كان مترتبا على العدم الواقعي لوجوب الوفاء فكيف يجري الأصل لنفي وجوب الوفاء بعد وضوح ان

ص: 399

الأصل ناظر إلى مرحلة الظاهر لا الواقع؟

والجواب : إنّ الأصل إذا جرى فهو يحرز الواقع إحرازا ظاهريا ، فاستصحاب الطهارة السابقة مثلا يحرز الطهارة الواقعية السابقة إحرازا ظاهريا ، ومعه فاذا جرى الأصل لنفي وجوب الوفاء ثبت به ظاهرا وبالتعبد ان لا وجوب واقعي للوفاء ، وبجريان هذا الأصل لا يجري الأصل لنفي وجوب الحج ، فإنّ الشك في وجوب الحج مسبب عن الشك في وجوب الوفاء ، والشك في وجوب الوفاء سبب للشكّ في وجوب الحج ، والأصل الجاري لنفي وجوب الوفاء أصل سببي بينما الأصل الجاري لنفي وجوب الحج أصل مسببي ، والأصل السببي متى ما جرى كان حاكما ومقدما على الأصل المسببي.

فرقان بين الصورتين

وقد اتضح من خلال هذا ان الصورتين تتفقان من حيث النتيجة العملية ، فالحكم العملي في كليهما واحد وهو عدم منجزية العلم الإجمالي لأن الأصل لنفي وجوب الوفاء يجري دون معارض ، ولكن بالرغم من ذلك يوجد فارقان بين الصورتين هما : -

1 - انّه في الصورة الأولى ينحل العلم الإجمالي انحلالا حقيقيا بجريان الأصل ، إذ به - أي الأصل لنفي وجوب الوفاء - يحصل العلم الوجداني بتحقق موضوع وجوب الحج ، وبالتالي يحصل العلم الوجداني بوجوب الحج ، وبحصول العلم الوجداني بأحد الطرفين يزول العلم الإجمالي زوالا حقيقيا. ومن هنا ذكرنا ان ثبوت العلم الإجمالي موقوف على عدم جريان الأصل ، وما دام

ص: 400

موقوفا على عدم جريانه فلا يمكن ان يكون مانعا من جريانه.

وهذا كله بخلافه في الصورة الثانية فإنّ جريان الأصل لا يحقق موضوع وجوب الحج ولا يحرزه وجدانا وإنّما يحرزه تعبدا إذ المفروض توقف وجوب الحج على العدم الواقعي لوجوب الوفاء لا على العدم الظاهري ، وواضح إن الأصل لا يحرز العدم الواقعي إحرازا وجدانيا وإنّما يحرزه ظاهرا وتعبدا. ومن هنا يتضح ان تحقق العلم الإجمالي وثبوته حقيقة في هذه الصورة لا يتوقف على عدم جريان الأصل لأنّ جريانه لا يزيله حقيقة حتى يكون ثبوته الحقيقي موقوفا على عدم جريانه.

وفي هذه الصورة الثانية يمكن ان تتم الشبهة المتقدمة - التي كانت تقول انّه بناء على مسلك العلية لا يمكن جريان الأصل حتى في الطرف الواحد - لأن العلم الإجمالي ما دام باقيا حقيقة حتى بعد جريان الأصل فيمكن ان يكون مانعا من جريانه.

2 - انّه في الصورة الاولى إذا جرى الأصل ثبت العدم الظاهري لوجوب الوفاء ويزول به العلم الإجمالي زوالا حقيقيا من دون فرق بين ان يكون الأصل تنزيليا أو لا (1) ، إذ على كلا التقديرين يتحقق العدم الظاهري لوجوب الوفاء ،

ص: 401


1- المقصود من الأصل التنزيلي ما يعم الأصل المحرز ، أي الذي به يحرز به الواقع تعبدا كالاستصحاب مثلا فانه ناظر إلى الواقع ويحرزه تعبدا وليس المقصود منه خصوص المعنى المصطلح للأصل التنزيلي وهو ما ينزل الظاهر منزلة الواقع ، كأصالة الحلية ، حيث إنّ مفادها في رأي بعض تنزيل الحلية الظاهرية منزلة الحلية الواقعية. ومما يؤكد ما نقول تفسيره قدس سره للأصل التنزيلي بما كان « مفاده التعبد بعدم التكليف المشكوك واقعا » وواضح ان هذا تفسير للاصل المحرز لا للتنزيلي بالمعنى المصطلح. ولمزيد الاطلاع على مصطلح الأصل التنزيلي والمحرز يمكن مراجعة القسم الثاني من الحلقة الثالثة ص ١٦.

وهذا بخلافه في الصورة الثانية فإنّ الأصل الجاري لنفي وجوب الوفاء لا بدّ ان يكون تنزيليا حتى يحرز به العدم الواقعي لوجوب الوفاء ، وأمّا إذا لم يكن تنزيليا فلا يكون جريانه نافعا لزوال العلم الإجمالي زوالا حكميا لأنّ وجوب الحج في الصورة الثانية مترتب على العدم الواقعي لوجوب الوفاء فلا بدّ وإن يكون الأصل ناظرا إلى الواقع ومحرزا له حتى يكون حاكما على الأصل المسببي الجاري في وجوب الحج.

قوله ص 146 س 15 : بأحد الأمرين : أي إمّا وجوب الحج أو وجوب الوفاء بالدين.

قوله ص 147 س 10 : واستناد عدم جريان الأصل إلخ : عطف تفسير لسابقه.

قوله ص 148 س 6 : ينقح بالتعبد : أي يثبت بسبب التعبد.

قوله ص 148 س 8 : والأصل السببي مقدّم إلخ : علل المشهور تقدم الأصل السببي على المسببي بإنّ الأصل السببي إذا جرى زال الشكّ المسببي ، واذا زال لم يجر الأصل فيه لأنّ جريان الأصل موقوف على الشكّ فاذا زال لم يجر ، فالأصل إذا جرى لنفي وجوب الوفاء زال الشكّ في وجوب الحج وتبدل إلى العلم تعبدا بوجوبه.

قوله ص 149 س 2 : ومن أجل ذلك : أي من أجل انّ جريان الأصل لا

ص: 402

يوجب انحلال العلم الإجمالي انحلالا حقيقيا.

قوله ص 149 س 7 : عن وجوب الحج : الصواب : عن وجوب الوفاء.

قوله ص 149 س 15 : بل معارضا : فإنّ الأصلين في الطرفين إذا لم يكن أحدهما حاكما على الآخر فهو معارض له.

ص: 403

ص: 404

الدوران بين الوجوب والحرمة

اشارة

ص: 405

ص: 406

الوظيفة عند الشك في الوجوب والحرمة معا

قوله ص 155 س 1 : حتى الآن كنا نتكلم :

الشك في التكليف له حالات أربع : -

1 - الشكّ في أصل ثبوت التكليف وعدمه كالشكّ في حرمة التدخين وعدمها مثلا. وهذا ما يصطلح عليه بالشك البدوي في ثبوت التكليف. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك ص 29 من الحلقة ، واتضح ان حكمها بحسب الوظيفة العقلية يختلف فيه السيد الشهيد مع المشهور ، فالمشهور يرى البراءة تمسكا بقاعدة قبح العقاب بلا بيان بينما هو قدس سره يرى الاشتغال لمنجزية الإحتمال. وأما بحسب الوظيفة الشرعية فالكل متفق على البراءة.

ثم ان حالة الشكّ البدوي في ثبوت التكليف هي عبارة اخرى عن مبحث أصل البراءة.

2 - ان يعلم بثبوت التكليف ويشكّ في متعلقه ، كما إذا علم يوم الجمعة بثبوت وجوب الصلاة وشكّ في تعلقه بصلاة الظهر أو بصلاة الجمعة. وهذا ما يصطلح عليه بالعلم الإجمالي بالتكليف. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك ص 73 من الحلقة.

وهذه الحالة هي عبارة اخرى عن مبحث أصالة الاشتغال.

3 - ان يعلم بثبوت التكليف ولكنه لا يعلم هل هو الوجوب أو الحرمة ،

ص: 407

فالأمر يدور بين الوجوب والحرمة ، بينما في الحالة الاولى كان الأمر يدور بين الوجوب والإباحة مثلا ، فثبوت التكليف ليس جزميا لإحتمال ثبوت الإباحة بخلافه في هذه الحالة فإنّ ثبوت التكليف معلوم ولكنّه يشكّ في كونه وجوبا أو حرمة. وهذه الحالة هي محل بحثنا الآن (1).

ثم انّ هذه الحالة لها شكلان ، إذ تارة يفرض وجود احتمال ثالث - مضافا إلى احتمال الوجوب والحرمة - وهو احتمال الرخصة ، بأن يعلم ان الشيء إمّا واجب أو حرام أو مباح ، واخرى يفرض عدم وجود الإحتمال الثالث المذكور بان ينحصر أمر الشيء بين الحرمة والوجوب فقط.

والشكل الأوّل - ومثاله أن يحتمل المكلّف نذره لشرب الماء ويحتمل نذره لترك شربه ويحتمل عدم تعلق النذر به مطلقا - يمكن ان يصطلح عليه بالشكّ في ثبوت الحرمة والوجوب بنحو الشكّ البدوي.

والشكل الثاني - ومثاله ان يعلم المكلّف بصدور النذر منه جزما ولكنه لا يعلم هل هو نذر الشرب أو نذر تركه - يصطلح عليه بحالة دوران الأمر بين المحذورين.

وعلى هذا فبحثنا يدور حول هذين الشكلين ، فتارة نتكلم عن حالة دوران الأمر بين الوجوب والحرمة بنحو الشكّ البدوي واخرى نتكلم عن حالة الدوران بين المحذورين.

ص: 408


1- وأمّا الحالة الرابعة فتأتي الإشارة لها ص 163 من الحلقة.

الشك البدوي في الوجوب والحرمة

والشك البدوي في الوجوب والحرمة يعني وجود احتمال الترخيص مضافا إلى احتمال الوجوب والحرمة.

والبحث عن حكم هذا الشكّ تارة يقع بلحاظ تشخيص الوظيفة العقلية ، واخرى بلحاظ تشخيص الوظيفة الشرعية.

أمّا الوظيفة العقلية فالعقل يحكم بالبراءة حتى على مسلك حق الطاعة ، أي منجزية الإحتمال فضلا عن مسلك المشهور القائل بقبح العقاب بلا بيان.

أمّا على مسلك المشهور فحكم العقل بالبراءة واضح لأنّ الوجوب حيث انّه غير معلوم فالعقل يحكم بقبح العقاب عليه بلا بيان ، وهكذا الحرمة حيث انّها غير معلومة فالعقل يحكم بقبح العقاب عليها بلا بيان.

وأمّا على مسلك حق الطاعة فلأنّ العقل إنّما يحكم بمنجزية الإحتمال فيما إذا لم يكن معارضا ، أما مع المعارضة - كما في مقامنا حيث إنّ احتمال الوجوب معارض باحتمال الحرمة - فلا منجزية ، لأنّ منجزيتهما معا غير ممكنة ، ومنجزية أحدهما دون الآخر باطلة لأنها بلا مرجح. هذا كله في الوظيفة العقلية.

وأمّا الوظيفة الشرعية فمقتضى مثل حديث « رفع عن أمتي ما لا يعلمون » البراءة من الوجوب والحرمة معا لأنّ الوجوب حيث انّه غير معلوم فهو مرفوع ، وهكذا الحرمة حيث انّها غير معلومة فهي مرفوعة.

ص: 409

وبهذا اتضح الفرق بين هذه الحالة والحالة الاولى (1) فانّه في هذه الحالة تجري البراءة العقلية على كلا المسلكين : مسلك المشهور ومسلك السيد الشهيد ، بينما في الحالة الاولى لا تجري البراءة العقلية على رأي السيد الشهيد وإنّما تجري على رأي المشهور.

ص: 410


1- المقصود من الحالة الاولى : ما اذا احتمل الوجوب مع الترخيص من دون احتمال الحرمة ، وهكذا اذا احتملت الحرمة مع الترخيص من دون احتمال الوجوب. والمقصود من هذه الحالة : ما اذا احتمل الوجوب والحرمة والترخيص جميعا.

دوران الأمر بين المحذورين

اشارة

وأمّا الشكل الثاني - أي حالة احتمال الحرمة والوجوب بدون انضمام احتمال الترخيص - المصطلح عليه بحالة دوران الأمر بين المحذورين فلا إشكال بين الاصوليين في عدم كون العلم الإجمالي منجّزا لأنّ كلاّ من مخالفته القطعية وموافقته القطعية غير ممكنة ، فإنّ الانسان امّا أن يشرب الماء ، وفي ذلك احتمال الموافقة كما فيه احتمال المخالفة ، وامّا أن يترك الشرب ، وفي ذلك احتمال الموافقة واحتمال المخالفة أيضا ، ولا يمكن فعل الشرب وتركه معا لتحصل المخالفة القطعية أو الموافقة القطعية.

إذن تنجيز العلم الاجمالي لكلا الإحتمالين غير ممكن ، كما وإن تنجيزه لأحدهما دون الآخر بلا وجه لأنّه ترجيح بلا مرجح.

وهذا كله مما لا إشكال فيه ، وإنما الإشكال بين الاصوليين وقع في أنّ العلم الاجمالي بعد الفراغ عن عدم منجّزيته هل يمنع من جريان أصل البراءة العقلي والنقلي لنفي احتمال الوجوب واحتمال الحرمة أو لا يمنع؟ فهناك من قال بانّه لا يمنع ، إذ بعد عدم كونه منجّزا لا يبقى مانع يمنع من جريان الأصل لنفي احتمال الوجوب واحتمال الحرمة ، كما وهناك : من قال بانّه يمنع حتى وإن لم يكن منجّزا.

ثمّ إنّ القائل بعدم المانع من جريان الاصل وجّهت له عدة اعتراضات.

والاعتراضات الموجهة على ثلاثة أشكال ، فبعضها اعتراض على البراءة

ص: 411

العقلية ، وبعضها اعتراض على البراءة الشرعية ، وبعضها اعتراض على بعض ادلّة البراءة الشرعية دون بعضها الآخر. وفيما يلي نوضح هذه الاعتراضات.

الاعتراض الأوّل

وهذا الاعتراض للشيخ العراقي ويختص بالبراءة العقلية. وحاصله : إنّا نسلّم أنّ العلم الاجمالي في موارد دوران الأمر بين المحذورين ليس منجّزا لعدم إمكان موافقته القطعية ولا مخالفته القطعية ، وعدم كونه منجّزا ليس الا عبارة اخرى عن كون المكلّف مرخّصا في الفعل والترك.

وقد تقول إذا سلّمتم بكون المكلّف مرخّصا في الفعل والترك فهذا معناه الاعتراف بجريان البراءة العقلية في موارد دوران الأمر بين المحذورين ، لأنّ البراءة العقلية ليست هي الا عبارة عن الترخيص في الفعل والترك ، وبهذا يثبت أنّ الشيخ العراقي من المسلّمين لإمكان جريان البراءة العقلية في موارد دوران الأمر بين المحذورين وليس من المعترضين والمنكرين.

هكذا قد تقول ، ولكنه توهّم باطل ، فانّه ليس مطلق الترخيص في الفعل والترك براءة عقلية ، وإنّما البراءة العقلية هي حصّة خاصة من الترخيص وهي الترخيص في الفعل الناشئ من عدم البيان على التكليف ، ومن الواضح أنّ الترخيص في مقامنا لم ينشأ من عدم البيان وإنّما نشأ من عدم تمكن المكلّف من الامتثال عند دوران الأمر بين المحذورين ، أي نشأ من عدم إمكان إدانة العاجز.

وما دام الترخيص المذكور ليس براءة عقلية فلو أردنا إجراء البراءة العقلية فلا بدّ من إجرائها بعد هذا الترخيص الثابت بملاك قبح إدانة العاجز ، وهو غير ممكن

ص: 412

لعدم وجود الفائدة في إجرائها حينذاك.

وقد تقول إنّ الفائدة هي إسقاط العلم الاجمالي عن المنجّزية ، ففائدة البراءة العقلية هي أنّ العلم الاجمالي بثبوت الوجوب أو الحرمة يسقط عن المنجّزية ، أي يسقط عن كونه بيانا ، فانّه إذا سقط عن كونه منجّزا فلازمه انّه ليس بيانا والاّ كان منجّزا.

ولكن هذا توهّم باطل فإنّ البراءة العقلية أي قاعدة قبح العقاب بلا بيان تقول متى ما كان المورد لا بيان فيه فالعقاب فيه قبيح ولا تقول إنّ العلم الاجمالي بيان أو لا ، فإنّ القاعدة لا تثبت موضوع نفسها والحكم لا يثبت موضوع نفسه (1).

وعليه فقاعدة قبح العقاب لا يمكن التمسّك بها إلاّ في موارد الشك الوجداني حيث انّ عدم البيان يكون ثابتا بالوجدان ، وأمّا في موارد العلم الاجمالي بثبوت أحد الحكمين فلا يمكن التمسّك بها ، فإنّ القاعدة المذكورة كسائر القواعد الاخرى لا تثبت موضوع نفسها.

وبهذا يتّضح انّه لا بد من إسقاط العلم الاجمالي عن البيانية في مرحلة سابقة على إجراء البراءة العقلية ، وإذا تمسّكنا بقاعدة قبح إدانة العاجز سقط العلم الاجمالي عن البيانية ، وحينئذ يصير موضوع قاعدة قبح العقاب متحقّقا ، فإذا تحقّق فقد يتوهّم حينذاك إمكان التمسّك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ولكنّه توهّم فاسد أيضا ، فحتى في هذه الحالة لا يمكن التمسّك بقاعدة قبح العقاب ، فانّه

ص: 413


1- فلو قيل أكرم العالم فهو لا يثبت أنّ هذا الشخص عالم أو لا ، وإنّما يقول لو كان هذا أو ذاك عالما فأكرمه.

إذا تمسّكنا بقاعدة قبح إدانة العاجز في مرحلة سابقة وثبت الترخيص في الفعل والترك صار التمسّك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان لإثبات الترخيص لغوا إذ إثبات الترخيص من جديد بعد ثبوته سابقا يكون إثباتا لما هو ثابت.

والخلاصة : إنّ التمسّك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان فرع إحراز عدم البيان ، ولكن كيف يحرز عدم البيان مع فرض وجود العلم الاجمالي!! إنّ من اللازم اسقاط العلم الاجمالي عن المنجّزية ليتحقّق بذلك عدم البيان ، واسقاطه عن المنجّزية إن كان بنفس قاعدة قبح العقاب فهو غير ممكن لما تقدّم ، وإن كان بقاعدة قبح إدانة العاجز يلزم اللغوية (1).

ويمكن ردّ الاعتراض المذكور بأنّا نختار اجراء البراءة العقلية بعد سقوط العلم الاجمالي عن البيانية بقاعدة قبح إدانة العاجز ، ولا يلزم ما ذكر من محذور اللغوية لأنّ ما يمكن أن يكون منجّزا في مقامنا أمران : العلم الاجمالي بثبوت الوجوب أو الحرمة ، واحتمال الوجوب والحرمة ، فانّه بقطع النظر عن العلم

ص: 414


1- اعتقد انّ عبارة الشيخ العراقي في نهاية الافكار ج 3 ص 239 أخصر وأوضح ، حيث قال : « لا مجال لجريان ادلّة البراءة ... من جهة اختصاص جريانها بما إذا لم يكن هناك ما يقتضي الترخيص في الفعل أو الترك بمناط آخر من اضطرار ونحوه غير مناط عدم البيان ... وإن شئت قلت إنّ الترخيص الظاهري بمناط عدم البيان إنّما هو في ظرف سقوط العلم الاجمالي عن التأثير ، والمسقط له حينما كان هو حكم العقل بمناط الاضطرار فلا يبقى مجال لجريان أدلّة البراءة العقلية والشرعية نظرا إلى حصول الترخيص حينئذ في الرتبة السابقة ». ثمّ أنّ ما نسبه السيد الشهيد إلى الشيخ العراقي من اختصاص اعتراضه بالبراءة العقلية لم نعرف وجهه بعد تصريح الشيخ العراقي في العبارة المذكورة بقوله فلا مجال لجريان أدلّة البراءة العقلية والشرعية.

الاجمالي يوجد لدينا احتمال الوجوب واحتمال الحرمة.

وقاعدة قبح إدانة العاجز تسقط العلم الاجمالي عن المنجّزية والبيانية ، وبعد سقوطه عن المنجّزية يبقى احتمال الوجوب والحرمة ، أي نصير وكانّه لا علم إجمالي لنا أبدا ، بل لنا احتمال الوجوب والحرمة فقط ، فنحتاج إلى ما يسقط هذا الاحتمال عن المنجّزية وهو ليس الا قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وبكلمة اخرى إنّ الدور الذي تقوم به قاعدة قبح إدانة العاجز يغاير الدور الذي تقوم به قاعدة قبح العقاب ، فتلك تسقط العلم الاجمالي عن المنجّزية وهذه تسقط الاحتمال عن المنجّزية ، وليس كل واحدة تقوم بنفس ما تقوم به الاخرى من دور حتى يلزم محذور اللغوية.

الاعتراض الثاني

والاعتراض الثاني - الذي هو للميرزا - خاص بالبراءة الشرعية ببعض السنتها وليس اعتراضا على جميع ألسنة البراءة الشرعية.

وحاصله : انّا لو نظرنا إلى مثل لسان « كل شيء لك حلال حتى تعرف انّه حرام » فلا يمكن التمسّك به في المقام لأنّ الحديث المذكور يثبت الحليّة ظاهرا في المورد الذي يكون ثبوت الحليّة واقعا فيه أمرا محتملا ، ومن الواضح انّ الحليّة واقعا في مقامنا ليست محتملة ، إذ المحتمل امّا الوجوب أو الحرمة دون الحليّة.

ولو نظرنا إلى مثل لسان « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » فلا يمكن التمسك به في المقام أيضا لأنّ الحديث المذكور يرفع الحكم رفعا ظاهريا - والمقصود من الرفع الظاهري هو رفع وجوب الاحتياط - وواضح انّ الرفع الظاهري إنّما يعقل

ص: 415

في المورد الذي يعقل فيه الوضع الظاهري ، فمتى ما كان الوضع الظاهري - أي ثبوت وجوب الاحتياط - أمرا ممكنا كان الرفع الظاهري - أي رفع وجوب الاحتياط - ثابتا بمقتضى الحديث. وفي مقامنا بما انّه لا يمكن الوضع الظاهري - حيث لا يمكن إثبات وجوب الاحتياط لأجل الوجوب المشكوك أو لأجل الحرمة المشكوكة لفرض دوران الأمر بين محذورين - فلا يمكن التمسك بالحديث لإثبات الرفع الظاهري. هذا حاصل ما افاده الميرزا.

ويرده : -

أ - ان بامكاننا التمسك باللسان الأوّل للبراءة الشرعية ، أي لسان « كل شيء لك حلال ». ودعوى ان الحديث لا يمكن التمسك به الاّ في المورد الذي تكون الحلية فيه واقعا مشكوكة ومحتملة مرفوضة ، فإنّ الحديث لم يقيد إثبات الحلية ظاهرا بما إذا كانت الحلية واقعا محتملة ، فلم يقل كل شيء لك حلال فيما اذا كانت حليته واقعا محتملة بل أطلق وقال كل شيء لك حلال.

وقد تقول : انّه توجد لدينا قرينة على التقييد المذكور وهي إنّ الحلية الظاهرية حيث انّها حكم ظاهري ، والحكم الظاهري متقوم بالشكّ فلا بدّ وأن نفترض الشكّ في الحلية الواقعية ليمكن إثبات الحكم الظاهري بالحلية ، إذ الحلية الواقعية إذا لم تكن مشكوكة فلا يمكن إثبات الحلية الظاهرية لأنّ الحكم الظاهري متقوم بالشكّ.

والجواب : ان الحكم الظاهري بالحلية وإن كان متقوما بالشكّ ولكنه ليس متقوما بخصوص الشكّ في الحلية الواقعية بل هو متقوم بأصل الشكّ. وبكلمة اخرى : ليس هو متقوما بتعلق الشكّ بالحلية التي هي مماثلة للحلية

ص: 416

الظاهرية بل يكفي أصل وجود الشكّ ، وهو متوفر في مقامنا حيث إنه يشكّ في ثبوت الوجوب ويشك في ثبوت الحرمة.

ب - ان بالإمكان الأخذ باللسان الثاني ، أي لسان « رفع عن أمتي ما لا يعلمون ». ودعوى ان الرفع الظاهري لا يعقل الاّ إذا أمكن الوضع الظاهري دعوى صحيحة ، ولكننا نقول إنّ الوضع الظاهري في مقامنا معقول فانا ننظر إلى احتمال الوجوب وحده ونقول ان وضع الوجوب حيث انّه معقول فرفعه يكون معقولا أيضا. وهكذا ننظر إلى احتمال الحرمة وحده ونقول حيث ان وضع الحرمة معقول فرفعها معقول أيضا. أجل وضع الحرمة والوجوب معا غير معقول ولكن ذلك ليس مهما فإنّ رفع الوجوب يقابل وضع الوجوب فقط ولا يقابل مجموع كلا الوضعين ، وهكذا رفع الحرمة يقابل وضع الحرمة فقط ولا يقابل مجموع الوضعين.

الاعتراض الثالث

ما أفاده السيد الشهيد قدس سره وهو خاص بإجراء البراءة الشرعية ولكن بكافة ألسنتها.

وحاصله : انّ ظاهر أدلة البراءة الشرعية إثبات البراءة عند ما يدور الأمر بين احتمال ثبوت التكليف واحتمال ثبوت الرخصة - كما اذا دار الأمر بين الحرمة والإباحة أو دار بين الوجوب والإباحة - وليس ظاهرها إثبات البراءة عند ما يدور الأمر بين ثبوت تكليف وتكليف آخر ، كما إذا دار بين ثبوت الوجوب أو الحرمة.

ص: 417

وبكلمة اخرى : ان ظاهر أدلة البراءة إثبات البراءة عند دوران الأمر بين غرضين أحدهما لزومي والاخر ترخيصي وليس ظاهرها إثبات البراءة عند دوران الأمر بين غرضين إلزاميين (1).

توهم ودفع

قد يقال انّ البراءة الشرعية إذا لم تجر لنفي منجزية احتمال الوجوب واحتمال الحرمة والمفروض ان السيد الشهيد ينكر البراءة العقلية فيلزم ثبوت احتمال الوجوب والحرمة بدون وجود ما ينفي منجزيتهما.

وفيه : ان السيد الشهيد وان كان ينكر البراءة العقلية ويرى منجزية الإحتمال ولكن ذلك في خصوص ما إذا لم يكن الاحتمال معارضا ، أمّا عند المعارضة كما في المقام فلا يراه منجزا كما أشار إلى ذلك قدس سره في ص 156 من الحلقة.

تعدد الواقعة ووحدتها

وقد اتضح لحدّ الآن انّ العلم الإجمالي في موارد دوران الأمر بين المحذورين ليس منجزا لعدم إمكان موافقته ولا مخالفته القطعية. بيد ان هذا

ص: 418


1- ما أفاده قدس سره يتم في مثل حديث « كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام » حيث ان ظاهره إثبات الحلية عند دوران الأمر بين الحلية والحرمة ، ولا يتم في مثل حديث « رفع عن أمتي ما لا يعلمون » أو « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » فانهما يدلان على ان كل ما لا يعلم فهو مرفوع حتى وإن كان المشكوك هو الحرمة والوجوب من دون احتمال الإباحة

واضح في صورة وحدة الواقعة ، وأمّا عند تعددها فهل يبقى العلم الإجمالي على عدم المنجزية أو ينقلب منجزا.

مثال وحدة الواقعة : ما إذا علم المكلّف مثلا بحرمة شرب ماء البرتقال أو وجوبه عليه يوم الجمعة ، فإنّ من الواضح كون يوم الجمعة يوما واحدا وواقعة واحدة فامّا أن يحصل الشرب فيه أو يحصل تركه فيه ، ولا يمكن فعلهما معا ولا تركهما معا ، فالموافقة القطعية والمخالفة القطعية كلتاهما غير ممكنة. وهذا هو ما كان كلامنا فيه لحدّ الآن.

ومثال تعدد الواقعة : ما إذا علم المكلّف بانّه امّا يحرم عليه شرب ماء البرتقال لمدة شهر أو يجب عليه ذلك لمدة شهر. والشهر بما انّه مركب من ثلاثين يوما ، وكل يوم يمكن ان يقع فيه الشرب أو تركه فمجموع الوقائع على هذا ثلاثون بعدد أيام الشهر.

وفي هذه الحالة - أي حالة تعدد الواقعة - يمكن للمكلف المخالفة القطعية (1) وذلك بأن يشرب ماء البرتقال في يوم ويتركه في يوم ثان ، فانه بذلك يقطع بحصول المخالفة منه اذ لو كان الشرب حراما فالمفروض قد صدر في يوم ، وإن كان واجبا فالمفروض قد ترك في يوم.

وبعد اتضاح هذا نطرح هذا السؤال التالي : ذكرنا في صورة وحدة الواقعة ان العلم الإجمالي بالوجوب والحرمة ليس منجزا لعدم إمكان مخالفته ولا موافقته القطعية ، ولكن في صورة تعدد الواقعة هل يبقى العلم الإجمالي على عدم

ص: 419


1- وإن بقيت الموافقة القطعية غير ممكنة له.

المنجزية مع ان المفروض إمكان مخالفته القطعية أو ينقلب منجزا لإمكان مخالفته القطعية؟ ان هذا سؤال يترك جوابه إلى بحث الخارج.

قوله ص 155 س 2 : سواء كان شكا بدويا : وهو إشارة إلى الحالة الاولى من حالات الشكّ الأربع التي مرّ البحث عنها ص 29 من الحلقة. وقوله « أو مقرونا بالعلم الإجمالي » إشارة إلى الحالة الثانية من حالات الشكّ التي مرّ البحث عنها ص 73 من الحلقة.

قوله ص 155 س 4 : وهما احتمال إلخ : أي إنّ أحد الاحتمالين احتمال التكليف والاحتمال الآخر احتمال الترخيص من دون أن يكون كلا الإحتمالين احتمال التكليف.

قوله س 155 س 8 : بالعلم الإجمالي بالجامع إلخ : المراد من الجامع عنوان أحدهما. وتقدير العبارة : واخرى يكون مقرونا بالعلم الإجمالي بأحد التكليفين : الوجوب أو الحرمة.

قوله ص 156 س 3 : منجزا في نفسه : أي بقطع النظر عن معارضته بالاحتمال الآخر.

قوله ص 156 س 8 : بإطلاقها : حيث لم تقيد بما إذا دار الأمر بين احتمالين لا أكثر : احتمال التكليف واحتمال الترخيص ، بل هي تشمل بإطلاقها المورد ، أي حالة دوران الأمر بين احتمالات ثلاثة.

قوله ص 156 س 9 : وما سبق من شكّ : أي الشكّ في التكليف المتقدم في الحالة الاولى من حالات الشكّ الأربع.

قوله س 156 س 13 : بجنس الإلزام : أي الشامل للالزام الوجوبي

ص: 420

والالزام التحريمي.

قوله ص 157 س 9 : ويختص بعض هذه الاعتراضات بالبراءة العقلية : كالاعتراض الأوّل. ولكن تقدم في عبارة الشيخ العراقي انه عام للبراءة الشرعية أيضا.

قوله ص 157 س 9 : وبعضها بالبراءة الشرعية : كالاعتراض الثالث.

قوله ص 157 س 9 : وبعضها ببعض ألسنة البراءة الشرعية : كالاعتراض الثاني.

قوله ص 157 س 11 : الاعتراض على البراءة العقلية : بل تقدم عن الشيخ العراقي انه عام للبراءة الشرعية أيضا.

قوله ص 158 س 7 : وهذا ما يتحقق : أي ثبوت عدم البيان في الرتبة السابقة.

قوله : ص 158 س 7 : وتكوينا : عطف تفسير على وجدانا

قوله ص 158 س 10 : لا بد من تطبيق قاعدة عقلية : وهي قاعدة قبح إدانة العاجز على ما سيأتي.

قوله ص 158 س 16 : بالقاعدة المشار إليها : أي قاعدة قبح إدانة العاجز.

قوله ص 159 س 6 : في نفسه : أي بقطع النظر عن العلم الإجمالي.

قوله س 160 س 4 : باحتمال مماثله الخ : لعل الأوضح ان يقال : باحتمال حكم واقعي مماثل له الخ.

قوله س 160 س 13 : عن المورد : أي عن موردنا ، وهو دوران الأمر بين محذورين.

ص: 421

قوله س 161 س 2 : بإن يعلم الخ : هذا بيان لصورة كثرة الواقعة.

قوله ص 161 س 3 : فيها جميعا : أي في أيام الشهر جميعا.

قوله ص 161 س 7 : على الموقف : وهو عدم منجزية العلم الإجمالي الذي قلنا به في صورة وحدة الواقعة.

ص: 422

الدوران بين الأقل والأكثر

اشارة

ص: 423

ص: 424

الدوران بين الأقل والأكثر

اشارة

قوله ص 163 : الوظيفة عند الشكّ في الأقل والأكثر : تقدم ان حالات الشكّ في التكليف أربع هي : -

1 - الشكّ في أصل التكليف بنحو الشكّ البدوي. وقد تقدمت ص 29 من الحلقة.

2 - العلم بثبوت الوجوب مع الشكّ في تعلقه بالظهر أو الجمعة مثلا. وقد تقدمت ص 73 من الحلقة.

3 - دوران الأمر بين المحذورين. وقد تقدمت ص 155 من الحلقة.

وهذه الحالات الثلاث انتهى الحديث عنها ، وبقي علينا التحدث عن الحالة الرابعة وهي.

4 - العلم بثبوت التكليف مع الشكّ في تعلقه بالأقل أو بالاكثر ، كما لو علم بثبوت وجوب صلاة الظهر وشك في تعلقه بتسعة أجزاء - فيما إذا لم تكن جلسة الاستراحة جزء - أو بعشرة فيما إذا كانت جزء.

وفرق هذه الحالة عن الحالة الثانية ان متعلق الوجوب في الحالة الثانية مردد بين شيئين متباينين ، فإنّ صلاة الظهر مباينة لصلاة الجمعة وليست أقل بالنسبة إليها ولا أكثر بينما متعلق الوجوب في هذه الحالة مردد بين الأقل والأكثر ، فإنّ نسبة التسعة إلى العشرة نسبة الأقل إلى الأكثر وليست نسبة المبائن إلى

ص: 425

المبائن.

وهذه الحالة الرابعة هي التي يراد التحدث عنها في هذا المبحث. ويمكن منهجة البحث فيها إلى نقاط ست أولها في تقسيم الأقل والأكثر إلى قسمين : ارتباطيين واستقلاليين.

الارتباطيان والاستقلاليان

إنّ الأقل والأكثر تارة يكونان استقلاليين واخرى ارتباطيين.

مثال الأوّل : ما إذا علم المكلّف بانّه مدين لغيره امّا بتسعة دراهم أو بعشرة. في هذا المثال لو فرض ان المكلّف دفع تسعة دراهم وكان في الواقع مدينا بعشرة فبمقدار تسعة دراهم يحصل الامتثال وبمقدار الدرهم العاشر يحصل عصيان ، وما هذا الاّ لأجل تعدد الأوامر بعدد الدراهم فلكل درهم أمر مستقل بتسديده ، وحيث تم تسديد تسعة دراهم فقط حصل امتثال تسعة أوامر وعصيان لأمر الدرهم العاشر.

وبهذا اتضحت نكتة تسمية الأقل والأكثر في هذه الحالة بالأقل والأكثر الاستقلاليين ، ان النكتة هي تعدد الأوامر واستقلال بعضها عن البعض الآخر في الامتثال والعصيان.

ثم انّه لا إشكال بين الإعلام في إنحلال العلم الإجمالي في هذا القسم ، فاشتغال الذمة بمقدار تسعة دراهم معلوم ، وبمقدار الدرهم العاشر مشكوك فتجري البراءة الشرعية والعقلية عن الدرهم العاشر - على مسلك المشهور - أو البراءة الشرعية فقط على مسلك حق الطاعة.

ص: 426

ومثال الثاني : الشكّ في عدد اجزاء الصلاة وانها تسعة أو عشرة ، فإنّ الواجب واقعا لو كان هو عشرة وأتى المكلّف بتسعة أجزاء لم يحصل امتثال بمقدار تسعة أجزاء بل ليس هناك الاّ العصيان ، وما ذاك الاّ لأجل ان الأمر المتعلق بالصلاة واحد فامّا أن يحصل امتثاله أو يحصل عصيانه ولا يمكن إجتماع عصيانه وامتثاله في آن واحد. ومن هنا سمّي الأقل والأكثر في هذه الحالة بالارتباطيين لأجل وحدة الأمر وارتباط امتثال أمر بعض الاجزاء بامتثال أمر الاجزاء الاخرى.

والاختلاف بين الاعلام ينحصر بالارتباطيين والاّ فالاستقلاليان لا إشكال في انحلال العلم الإجمالي فيهما.

الارتباطيان على أقسام

ثمّ إنّ الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين له مصاديق متعددة.

1 - الشكّ في الجزئية ، كالشكّ في أنّ جلسة الاستراحة جزء من الصلاة أو لا.

2 - الشكّ في الشرطية ، كالشكّ في أنّ الطمأنينة شرط في الصلاة أو لا ، فلو كانت شرطا صارت الصلاة مركبة من عشرة مثلا بينما لو لم تكن شرطا صارت مركبة من تسعة.

3 - دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، كما يأتي إيضاح ذلك.

وبهذا يتضح أنّ دوران الأمر بين الأقل والأكثر الإرتباطيين هو تعبير آخر عن الشكّ في الجزئية أو في الشرطية أو في الدوران بين التعيين والتخيير.

ص: 427

ونتكلم أوّلا عن المصداق الأوّل وهو الشكّ في الجزئية ، ثم عن الثاني ، وهو الشكّ في الشرطية ثم عن دوران الأمر بين التعيين والتخيير. ومن هنا يقع الكلام ضمن مسائل ، الاولى الشكّ في الجزئية.

ص: 428

الدوران بين الأقل والأكثر في الاجزاء

اشارة

والمصداق الأوّل من مصاديق الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين هو الشكّ في الجزئية ، كما لو دار أمر أجزاء الصلاة بين التسعة والعشرة.

وقد وقع الكلام بين الاصوليين في أنّ الشك المذكور هل يرجع إلى دوران الأمر بين المتباينين - بتقريب يأتي فيما بعد انشاء اللّه - الذي كان الحالة الثانية من حالات الشكّ الأربع المتقدمة ، ولازمه وجوب الإحتياط بالإتيان بالأكثر أو يرجع إلى دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين ، ولازمه عدم وجوب الاحتياط.

والاقوال في المسألة ثلاثة : -

1 - جريان البراءة العقلية والشرعية عن وجوب الأكثر. وهو مختار الشيخ الأعظم قدس سره في الرسائل.

2 - عدم جريان البراءة بكلا قسميها الشرعية والعقلية ولزوم الاحتياط.

وهو مختار الآخوند الخراساني في حاشيته على الرسائل.

3 - جريان البراءة الشرعية دون العقلية ، وهو مختار الآخوند في كفايته.

وقد يقال - وهو ما يسبق إلى الذهن بادئ الأمر - ان الحكم في هذا القسم هو الحكم في القسم السابق الذي كان الأمر فيه يدور بين الأقل والأكثر الاستقلاليين ، فيحكم ان التسعة حيث إنها معلومة الوجوب فيلزم الإتيان بها

ص: 429

بينما الجزء العاشر حيث انه مشكوك الوجوب فتجري البراءة عنه.

وفي مقابل هذا قد تطرح عدة براهين لإثبات أنّ الصحيح لزوم الإحتياط ولا تجري البراءة. وفيما يلي نذكر تلك البراهين تباعا.

البرهان الأوّل
اشارة

ان لنا علما إجماليا بثبوت وجوب متعلق امّا بالتسعة أو بالعشرة ، وحيث انه منجز فيلزم الإحتياط بإتيان العشرة. هكذا يقال في تصوير العلم الإجمالي ، ولا يقال في تصويره إن لنا علما إجماليا بوجوب امّا التسعة أو الجزء العاشر ، إنّ هذا التصوير باطل فإنّ الأمر النفسي الصادر من المولى متعلق امّا بالتسعة أو بالعشرة ، ولا معنى للقول بتعلقه امّا بالتسعة أو بالجزء العاشر ، إذ البديل للتسعة الذي يحتمل تعلق الأمر به هو مجموع العشرة لا الجزء العاشر بالخصوص ، ومعه فلا معنى لجعل الجزء العاشر طرفا للعلم الإجمالي بل الطرف هو العشرة.

اذن التصوير الصحيح هو الأوّل دون الثاني ، وما دام التصوير الصحيح هو الأوّل فلا يرد ان التسعة معلومة الوجوب بينما الجزء العاشر مشكوك الوجوب فتجري البراءة عنه ، ان هذا لا معنى له لأن طرق العلم الاجمالي في التصوير الاول ليس هو الجزء العاشر لتجري البراءة عن وجوبه وإنّما هو العشرة ، والجزء العاشر جزء من العشرة أي جزء من طرف العلم الإجمالي وليس بنفسه طرفا له ، وتعلق الوجوب النفسي بمجموع العشرة وإن كان مشكوكا الاّ ان تعلقه بالتسعة مشكوك أيضا ، وجريان البراءة عن تعلقه باحدهما معارض بالبراءة عن تعلقه بالآخر.

ص: 430

مناقشة البرهان الأوّل
اشارة

وقد نوقش البرهان المذكور بعدة مناقشات.

الاولى

وهي للشيخ الأعظم قدس سره في الرسائل. وحاصلها : إنّ العلم الإجمالي المذكور منحل بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل ، فإنا نعلم تفصيلا بان التسعة واجبة امّا بالوجوب النفسي أو بالوجوب الغيري ، فإنّ وجوب الصلاة ان كان منصبا على التسعة صارت واجبة بالوجوب النفسي وإن كان منصبا على العشرة فحيث ان التسعة مقدمة لحصول العشرة فهي واجبة بالوجوب الغيري المقدمي. واذا صار الأقل معلوم الوجوب بالتفصيل والأكثر مشكوك الوجوب انحل العلم الإجمالي.

ويمكن الجواب عن هذه المناقشة بأن في مقصود الشيخ الأعظم قدس سره احتمالين : -

أ - ان يكون مقصوده ان الأقل لما كان معلوم الوجوب بالتفصيل يحصل انحلال العلم الإجمالي من جهة ان شرط منجّزية العلم الإجمالي عدم سراية العلم من الجامع إلى الفرد - على ما تقدم في الركن الثاني من أركان منجّزية العلم الاجمالي الاربعة ص 105 من الحلقة - فإذا سرى انحلّ ، نظير ما إذا كنا نعلم اجمالا بوقوع نجاسة في احد انائين ثم فحصنا فإذا هي في الاناء الموجود على اليمين ، فإنّ العلم الاجمالي ينحل حيث لا يبقى العلم ثابتا على الجامع بل يسري إلى الفرد.

وفيه : انّ شرط الانحلال سراية العلم من الجامع إلى الفرد بحيث يكون المعلوم بالتفصيل مصداقا للمعلوم بالاجمال كما هو الحال في نجاسة الاناء

ص: 431

الموجود على اليمين ، فانّها معلومة بالتفصيل ومصداق للنجاسة المعلومة بالاجمال - أمّا إذا لم يكن مصداقا فلا يحصل الانحلال ، ومقامنا من قبيل النحو الثاني ، أي أنّ المعلوم بالتفصيل ليس مصداقا للمعلوم بالاجمال ، فإنّ الذي نعلم به على سبيل الاجمال هو ثبوت الوجوب النفسي امّا للأقل أو للأكثر ، بينما المعلوم بالتفصيل ليس هو الوجوب النفسي بل الوجوب المردّد بين النفسي والغيري.

ب - أن يكون مقصوده إنّ الأقل لمّا كان معلوم الوجوب بالتفصيل يحصل الانحلال من جهة انّه يصير منجّزا على سبيل القطع ، فلا تجري البراءة عنه وتجري عن وجوب الأكثر حيث انّه مشكوك ، فيسقط العلم الاجمالي عن المنجّزية لأنّ الركن الثالث من أركان المنجّزية على ما تقدّم ص 108 من الحلقة تعارض الاصول في الأطراف فإذا لم تتعارض وجرى أصل البراءة في طرف بلا معارضة بجريانه في الطرف الثاني سقط العلم الاجمالي عن المنجّزية.

وفيه : انّ الأقل لا يقطع بتنجّزه على كل تقدير ، فإنّ وجوبه إذا كان نفسيّا فهو منجّز ، وأمّا إذا كان غير نفسيّ فهو غير منجّز ، لأنّ الوجوب القابل للتنجّز هو الوجوب النفسي دون الوجوب الغيري ، ولذا لا يعاقب التارك للحج بما له من مقدمات كثيرة الا عقابا واحدا على ترك الحج الذي هو واجب نفسي ولا يعاقب على ترك المقدمات ، وما ذاك إلاّ لأنّ وجوبها غيري لا يقبل التنجّز.

وعليه فلا يمكن أن يقال انّ الأقل يعلم بتنجّزه جزما فلا تجري البراءة عنه ، ووجه ذلك : أنّ المعلوم ثبوته للأقل هو الوجوب الجامع بين ما يقبل التنجّز وما لا يقبله ومثل الجامع المذكور لا يقبل التنجّز.

ص: 432

الثانية

وهي ما قد تستفاد من كلمات الشيخ الأعظم قدس سره في الرسائل أيضا ، وحاصلها : انّ الأقل معلوم الوجوب بالتفصيل ولكن لا من جهة تردّده بين الوجوب النفسي والغيري ليقال إنّ ذلك لا ينفع في الانحلال كما تقدّم في ردّ المناقشة الاولى ، بل لتردّده بين الوجوب النفسي الإستقلالي والوجوب النفسي الضمني ، فإنّ وجوب الصلاة إن كان منصبّا على التسعة فوجوبها - التسعة - نفسي إستقلالي ، وإن كان منصبّا على العشرة فوجوب التسعة نفسي أيضا ، غاية الأمر هو نفسي ضمني ، فإنّ الوجوب النفسي المنصب على العشرة ينحلّ إلى وجوبات نفسيّة ضمنيّة بعدد الاجزاء ، وكلّ جزء يصيبه وجوب نفسي ضمني.

وإذا كان الأقل يعلم وجوبه بالوجوب النفسي المردّد بين الإستقلالي والضمني حصل بذلك الانحلال لأنّ المعلوم بالاجمال هو الوجوب النفسي والمعلوم بالتفصيل هو الوجوب النفسي أيضا ، فالمعلوم بالتفصيل مصداق للمعلوم بالاجمال.

وقد ردّت هذه المناقشة بعدّة أجوبة نذكر منها جوابين : -

1 - إنّ المعلوم بالتفصيل ليس مصداقا للمعلوم بالاجمال ، فإنّ المعلوم بالاجمال هو الوجوب النفسي الإستقلالي لا مطلق الوجوب النفسي ، بل الوجوب النفسي المقيّد بقيد الإستقلاليّة ، بينما المعلوم بالتفصيل ليس هو الوجوب النفسي الإستقلالي ، بل الوجوب النفسي المردّد بين الإستقلالي والضمني.

ص: 433

وبكلمة اخرى إنّا لو قطعنا النظر عن وصفي الإستقلاليّة والضمنيّة كان المعلوم بالتفصيل مصداقا للمعلوم بالاجمال ، أمّا إذا لاحظناهما فليس ذاك مصداقا لهذا.

ويمكن ردّ هذا الجواب الأوّل بأنّا لو لاحظنا وصفي الإستقلاليّة والضمنيّة فلا انحلال كما ذكر ، ولكن النظر إلى الوصفين المذكورين غير صحيح.

والوجه فى ذلك : انّ الذمّة لا تشتغل بذات الواجب النفسي وبقيد الإستقلاليّة ، فإنّ قيد الإستقلاليّة ليس من الأوصاف القابلة لاشتغال الذمّة به ، إذ هو يعني عدم شمول الوجوب للغير ، فحينما يقال إنّ الوجوب المتعلّق بالتسعة إستقلالي فالمقصود عدم شمول الوجوب للجزء العاشر ووقوفه على الأجزاء التسعة ، وواضح ان وصف عدم شمول الوجوب للغير ليس معنى قابلا لاشتغال الذمّة به.

وبكلمة اخرى إنّ الإستقلاليّة حدّ للوجوب - حيث يراد بها انّ وجوب التسعة نحو وجوب لا يشمل الجزء العاشر - وواضح أنّ الحد هو من الأوصاف التي لا يمكن اشتغال الذمّة بها ، وإنّما هي تشتغل بالمحدود وهو ذات الواجب النفسي.

2 - ما ذكره الميرزا (1) من أنّ انحلال العلم التفصيلي بوجوب الأقل وجوبا نفسيّا أمّا إستقلاليا أو ضمنيّا ليس وجيها ، فإنّ العلم التفصيلي المذكور - أي العلم بوجوب الأقل إستقلاليّا أو ضمنيّا - ليس علما تفصيليا بحسب الروح والحقيقة ،

ص: 434


1- أجود التقريرات ج 2 ص 288. ونقل في مصباح الاصول ج 2 ص 432.

وإنّما هو عين علمنا الاجمالي وليس شيئا مغايرا له ليحصل به الانحلال.

والوجه في ذلك : إنّ وجوب الأقل وجوبا ضمنيا يعني وجوب التسعة وجوبا مقيّدا بضم الجزء العاشر ، أي هو وجوب بشرط شيء ، بينما وجوب الأقل وجوبا إستقلاليّا يعني وجوب التسعة بلا حاجة إلى ضم الجزء العاشر ، أي هو وجوب مطلق ولا بشرط من حيث ضم الجزء العاشر (1).

وعليه فعلمنا التفصيلي بوجوب الأقل إستقلالا أو ضمنا هو في الحقيقة علم اجمالي بوجوب امّا التسعة بشرط شيء أو التسعة لا بشرط ، ومعه فلا معنى للانحلال ما دام لا يوجد علم تفصيلي في مقابل العلم الاجمالي.

إن قلت : إنّ العلم الاجمالي المبرز في البرهان الأوّل لم يكن هو العلم بوجوب امّا التسعة بشرط شيء أو التسعة لا بشرط حتى يقال بانّه عين العلم التفصيلي ولا معنى لحصول الانحلال به وإنّما هو العلم بوجوب امّا الأكثر أو الأقل ، وهذا العلم الاجمالي بما انّه مغاير للعلم التفصيلي بوجوب التسعة استقلالا أو ضمنا فلا بأس بحصول الانحلال به.

قلت : إنّ العلم الاجمالي المبرز وإن كان هو العلم بوجوب امّا الأقل أو الأكثر ولكنه ليس شيئا يتغاير والعلم الاجمالي بوجوب امّا التسعة بشرط انضمام الجزء العاشر أو التسعة المطلقة بل هو هو وإن اختلفت الألفاظ فإنّ وجوب الأقل عبارة اخرى عن وجوب التسعة المطلقة ووجوب الأكثر عبارة اخرى

ص: 435


1- وإنّما نقل بشرط لا لأنّه لا يحتمل حرمة إضافة جلسة الاستراحة على تقدير عدم جزئيتها ، فإنّ المفروض دوران أمر المشكوك بين كونه جزءا واجبا أو جزءا مستحبّا ، ولا يحتمل حرمته.

عن وجوب التسعة المقيدة.

والخلاصة : انّه ادعي وجود علمين احدهما علم إجمالي بوجوب اما الأقل أو الأكثر ، وثانيهما تفصيلي ، وهو العلم بوجوب الأقل امّا استقلالا أو ضمنا. والشيخ الاعظم كان يقول ان الثاني يحلّ الأوّل. والميرزا يقول لا يمكن الانحلال ، لأن العلم الثاني هو إجمالي أيضا وليس تفصيليا بل هو عين العلم الإجمالي الأوّل (1).

ويمكن ردّ كلام الميرزا هذا بان حصيلته ترجع إلى انا لا نملك الاّ علما إجماليا واحدا غير قابل للانحلال غايته يمكن التعبير عنه بعبارتين ، فيمكن ان نعبر عنه بالعلم الإجمالي بوجوب اما الأقل أو الأكثر كما ويمكن التعبير عنه بوجوب اما التسعة المطلقة أو التسعة المقيّدة ، ونحن نجيب عن ذلك بنفس ما ناقشنا به الجواب السابق بأن نقول ان هذا العلم الإجمالي انّما تحقق بسبب ادخال وصف اطلاق التسعة وتقييدها في الحساب فقيل نحن نعلم بوجوب اما التسعة المطلقة أو المقيدة ، ولكن إدخال وصف الاطلاق في الحساب لا معنى له فانّه وصف لا يقبل التنجز بالعلم الإجمالي كما سنبين ، وإنما الذي يدخل في العهدة ويمكن اشتغال الذمة به هو ذات المحكي بوصف الاطلاق - وذات المحكي هو وجوب التسعة - وذات المحكي يعلم بوجوبه تفصيلا لا إجمالا.

واذا رجعنا إلى وجداننا وجدنا صدق ما نقول فانه قاض بانا نعلم

ص: 436


1- لا يخفى ان عبارة الحلقة في المقام غامضة. وأشد منها غموضا عبارة التقرير ج 5 ص 330. أجل عبارة الحلقة الثانية ص 376 جيدة. وعبارة أجود التقريرات ومصباح الاصول أجود.

بوجوب التسعة من دون إجمال بل بنحو التفصيل ، ومهما اراد الميرزا إدخال التشكيك علينا نبقى نشعر بالوجدان المذكور. اجل حينما ادخل الميرزا في الحساب وصف الاطلاق والتقييد تشكّل لنا علم إجمالي يدور طرفاه بين المتباينين ولم نبق نملك علما تفصيليا ، ولكن إدخال ذلك في الحساب أمر مرفوض.

أمّا لماذا لا يجوز إدخال وصف الاطلاق في الحساب؟ ذلك باعتبار انّه يعني عدم لحاظ التقييد بالجزء العاشر ، وواضح ان عدم لحاظ التقييد ليس أمرا وجوديا قابلا لاشتغال الذمة به ، فإنّ الذمة تشتغل بالشيء لا باللا شيء (1).

أجل وصف التقييد يختلف عن وصف الاطلاق فهو - التقييد - قابل لاشتغال الذمة به لأنّه يعني ملاحظة الجزء العاشر ، ومع ملاحظة التقييد بالجزء العاشر تكون الذمة مشغولة بالإتيان به.

إذن مع إدخال وصف الاطلاق والتقييد في الحساب يتشكل علم إجمالي ولا يكون منحلا ، ولكن ذلك غير صحيح بإعتبار ان وصف الاطلاق غير قابل بالاشتغال الذمة به. ومع عدم إدخال وصف الإطلاق يكون العلم الإجمالي منحلا أو بالاحرى يكون لدينا علم تفصيلي بوجوب الأقل لا انّه يتشكل علم إجمالي أولا بوجوب امّا الأقل أو الأكثر ثم ينحل. وسنوضح ذلك في الوجه الثالث.

الثالثة

وحاصل المناقشة الثالثة للبرهان الأوّل : انّا لو أردنا أن ندخل في الحساب

ص: 437


1- هذا بناء على أنّ الاطلاق أمر عدمي كما هو مختار السيد الشهيد. وهكذا لو فسرناه بالأمر الوجودي ، أي بلحاظ عدم التقييد ، فان لحاظ عدم إعتبار الجزء العاشر ليس أمرا قابلا لاشتغال الذمة به.

وصف الإطلاق والتقييد أو وصف الاستقلالية والضمنية فالعلم الإجمالي حاصل ويدور أمر متعلقه بين المتباينين ، ولكن ذكرنا فيما سبق عدم صحة أخذ الأوصاف المذكورة بعين الإعتبار لعدم قابلية إشتغال الذمة بها ، واذا لم ندخلها في الحساب فلا يتشكل لدينا علم إجمالي أصلا - لا انّه يتشكل وينحل بالعلم التفصيلي - فإنّ الحاصل لنا علم تفصيلي وشكّ بدوي فلنا علم تفصيلي بوجوب الأقل وشكّ بدوي في وجوب الزائد ، وواضح ان انضمام الشكّ البدوي إلى العلم التفصيلي لا يتشكل منه علم إجمالي ، فإنّ العلم الإجمالي يعني تردد الجامع بين الطرفين ولا يعني تحقق الجامع في طرف جزما والشكّ في تحققه في الطرف الثاني.

وقد تقول : انّه بناء على هذا فكيف يتحقق العلم الإجمالي بين الأقل والأكثر.

فانه يقال : إنّ العلم الإجمالي لا يمكن تحققه بين الأقل والأكثر - لأنّ الأقل معلوم الوجوب بالتفصيل والأكثر مشكوك الوجوب - وينحصر تحققه بالمتباينين. ولذا حاول البعض - كالميرزا كما تقدم - ارجاع العلم الاجمالي بالاقل والاكثر الى العلم الاجمالي بالمتباينين فقال ان العلم الاجمالي بوجوب اما التسعة او العشرة يرجع الى العلم الاجمالي بوجوب اما التسعة المطلقة او التسعة المقيدة.

وقد اشير إلى كل هذه النكات في الحلقة الثانية ص 377.

الرابعة

إنّ العلم الإجمالي بوجوب امّا الأقل أو الأكثر المذكور في البرهان الأوّل

ص: 438

ليس منجزا من ناحية عدم تعارض الأصول في أطرافه ، وشرط المنجزية - كما تقدم في الركن الثالث من أركان المنجزية الأربعة - تعارض الأصول في الأطراف.

والوجه في عدم تعارض الاصول : ان أصل البراءة يجري بالنسبة إلى وجوب الأكثر ولكنه لا يجري بالنسبة إلى وجوب الأقل إذ الغرض من اجراء البراءة عن وجوب الأقل فيه احتمالان كلاهما باطل.

فإن كان الغرض هو الترخيص في ترك الأقل شريطة الأتيان بالأكثر فهذا واضح الاستحالة ، إذ كيف يمكن للأنسان ان يأتي بالعشرة بلا إتيان بالتسعة.

وإن كان الغرض هو الترخيص في ترك الأقل وترك الأكثر معا فهذا واضح البطلان أيضا فإنّ ذلك مخالفة قطعية ولا معنى لإجراء الأصل لترخيصها.

هذا حاصل المناقشة الرابعة. وهي وإن كانت جيدة بيد انّها تتضمن الإعتراف بأصل وجود العلم الإجمالي وتدعي انحلاله بسبب عدم تعارض الاصول في أطرافه بينما اتضح مما سبق انّ العلم الإجمالي غير ثابت أصلا وإنّما الثابت هو العلم التفصيلي المنضم إلى الشكّ البدوي.

قوله ص 169 س 10 : لينفي : الصواب : لينفى.

قوله ص 171 س 10 : وعدم شموله إلخ : عطف تفسير لحدّ الوجوب.

قوله ص 171 س 13 : ولكن معلوم هذا العلم : وهو الوجوب النفسي المقيد بوصف الاستقلالية.

قوله ص 172 س 5 : والمقيد يباين المطلق : لا يكون المورد من موارد العلم الإجمالي الاّ إذا كان طرفاه مرددين بين فردين متباينين وليسا مرددين بين الأقل

ص: 439

والأكثر إذ المردد بين الأقل والأكثر يرجع إلى علم تفصيلي بالأقل وشكّ بدوي في الأكثر ، وحيث ان الميرزا يدعي انّ العلم التفصيلي بوجوب الأقل أمّا استقلالا أو ضمنا يرجع في حقيقته إلى علم إجمالي بوجوب التسعة المطلقة أو المقيدة فلا بدّ وان يدعي ان التسعة المطلقة والتسعة المقيدة هما من قبيل المتباينين كي يتحقق بأيدينا علم إجمالي وبالتالي كي يصدق ان ذلك العلم التفصيلي يرجع في حقيقته إلى علم اجمالي ، أمّا إذا كانا من قبيل الأقل والأكثر فلا يتحقق علم إجمالي ويبقى العلم التفصيلي بوجوب الأقل علما تفصيلا بلا أن يرجع إلى علم إجمالي.

قوله ص 172 س 6 : على الإجمال : أي امّا استقلالا أو ضمنا.

قوله ص 172 س 6 : ليس الاّ نفس ذلك العلم الإجمالي : أي العلم الإجمالي بوجوب امّا الأقل أو الأكثر.

قوله ص 172 س 6 : بعبارة موجزة : فعبارة العلم الإجمالي السابق كانت عبارة موجزة حيث كان يقال « يعلم إجمالا بوجوب امّا الأقل أو الأكثر » ، وهذا بخلاف عبارة العلم التفصيلي المدعى فانّها مطولة معنى بالنسبة لتلك حيث تقول « يعلم تفصيلا بوجوب التسعة اما المطلقة أو المقيدة ».

قوله ص 172 س 8 : ويلاحظ هنا ... : هذا ردّ على الجواب الثاني ، وهو نفس مضمون الرد المتقدم على الجواب الأوّل.

قوله ص 172 س 10 : لأنّه يقوّم الصورة إلخ : فإنّ الصورة الذهنية لوجوب التسعة تارة تتقوم وتتميز بعدم لحاظ الجزء العاشر واخرى تتقوم بلحاظه معها ، فاللحاظ وعدم اللحاظ إذن حدّان تتحدد بهما الصورة الذهنية لوجوب التسعة. وما دام الاطلاق حدا للصورة الذهنية لوجوب التسعة ، وهذا

ص: 440

الحدّ ليس له محكي وما بازاء في الخارج - فإن المحكي في الوجوب المطلق ذات الطبيعة لا أكثر - فلا يتنجز ولا تشتغل به الذمة.

قوله ص 172 س 11 : بخلاف التقييد : حيث ان له محكيا يراد إيجابه زائدا على ذات الطبيعة فيمكن دخوله في العهدة.

قوله ص 172 س 11 : فإن اريد ... : أي وباتضاح هذا نقول ...

قوله ص 172 س 12 : لأنّ الاطلاق لا يقبل التنجيز : أي والتقييد وإن قبل التنجيز الاّ ان الجامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبله لا يقبل التنجز.

قوله ص 172 س 15 : ولكن سيظهر ... : أي في الجواب الثالث الآتي بقوله « ومنها : إنّه لو لوحظ ... ».

قوله ص 173 س 13 : بتركه رأسا : أي بترك الأكثر رأسا ، فان ترك الاكثر تارة يحصل مع فرض الاتيان بالاقل واخرى يتحقق بترك الاقل ايضا بأن لا يؤتى بشيء من الاجزاء رأسا. والمقصود الاشارة الى هذه الحالة الثانية ، وامّا الحالة الاولى - وهي ترك الاكثر مع افتراض الاتيان بالاقل - فهي لا تتلائم مع اجراء اصل البراءة.

قوله ص 173 س 17 : وهذا بيان صحيح : أي كالبيان السابق.

قوله ص 174 س 1 : الاول والثاني : الركن الاول هو اعتبار وجود علم متعلق بالجامع ، والركن الثاني هو عدم سراية العلم من الجامع الى الفرد ، والركن الثالث هو تعارض في الاطراف.

البرهان الثاني

تقدم ان المكلّف لو شك في جزئية بعض الأشياء - كما إذا شكّ في جزئية

ص: 441

جلسة الاستراحة للصلاة - دار الأمر عنده بين وجوب الأقل ووجوب الأكثر. وفي مثل ذلك قد يقال بوجوب الاحتياط ولزوم الإتيان بالجزء المشكوك ويستدل على ذلك بعدة براهين.

وقد فرغنا من البرهان الأوّل مع مناقشاته الأربع. والآن يقع الكلام في البرهان الثاني على ذلك. وهو مركب من نقاط أربع هي (1) : -

1 - ان وجوب أي واجب من الواجبات ينشأ من وجود غرض معين يدعو الى وجوبه ، فإنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد في رأي العدلية خلافا للاشاعرة حيث قالوا بعدم لزوم نشوء الأحكام من المصالح والمفاسد.

2 - ان العقل يحكم بلزوم تحصيل الغرض بعد العلم بثبوته واقعا وعدم تردده وإن كنّا لا نشخصه ، فكما ان تحصيل متعلق الوجوب لازم كذلك تحصيل الغرض لازم بنظر العقل لأنّه روح الحكم وحقيقته.

3 - انّ الواجب وان أمكن ان يدور أمره بين الأقل والأكثر إلاّ ان الغرض لا يدور أمره بين الأقل والأكثر بل هو دائما أمر وحداني غاية الأمر يشكّ في حصوله بالأقل أو بالأكثر (2).

4 - انه إذا شكّ في حصول الغرض بالأقل أو بالأكثر كان المورد من موارد الشكّ في المحصل للغرض. وفي موارد الشكّ في المحصل يحكم العقل بلزوم

ص: 442


1- جعل السيد الشهيد النقاط ثلاثا ، ونحن جعلناها أربعا حيث نرى المناسب جعل النقطة الثانية نقطتين. ثمّ انّ هذا البرهان مذكور في كلمات جماعة منهم الآخوند في كفايته.
2- سيتضح من خلال مناقشة هذا البرهان وجه الحاجة الى هذه النقطة.

الاحتياط والإتيان بالأكثر ليحصل اليقين بتحقق الغرض. وهذا هو المطلوب.

ويمكن مناقشة هذا البرهان تارة بلحاظ النقطة الثالثة واخرى بلحاظ النقطة الثانية.

أمّا بلحاظ النقطة الثالثة فباعتبار انّا لا نسلم ان الغرض أمر وحداني دائما بل من الممكن دورانه بين الأقل والأكثر ، فأكل الطعام مثلا له غرض وهو سدّ الرمق والتلذذ ، وسدّ الرمق يحصل بتناول الطعام بجميع أنواعه بينما التلذذ لا يحصل إلاّ ببعض الأطعمة. إذن المرتبة الأقل من الغرض تحصل بالطعام بأي أنواعه بينما المرتبة العالية منه لا تحصل إلاّ ببعض معين من الطعام.

واذا أمكن دوران أمر الغرض بين الأقل والأكثر. فنحتمل في غرض الصلاة وكل واجب من الواجبات الاخرى ان يكون كذلك فالمرتبة الأقل منه تحصل بالاجزاء التسعة بينما المرتبة العالية منه تحصل بالأجزاء العشرة. ومع وجود هذا الإحتمال صح ان نقول نحتمل ان الغرض من الصلاة ذو مراتب ، وبمرتبته الأقل نجزم بوجوده فيلزم تحصيله بالإتيان بالأجزاء التسعة وبمرتبته العالية نشكّ في أصل وجوده ، والأصل عدم وجوده فلا يلزم تحصيله بالإتيان بالأكثر.

وأمّا بلحاظ النقطة الثانية فباعتبار انّه وإن اشتهر على الألسن ان الغرض يجب تحصيله وعند دوران أمر محصّله بين الأقل والأكثر يلزم الاحتياط إلاّ ان هذا بلا مستند ، فإنّ العقل لا يلزم بتحصيل غرض المولى مطلقا وإنّما يحكم بلزوم تحصيله بعد علم المكلّف به ووصوله إليه بالمقدار الذي تصدى المولى لحفظه ، أي بمقدار ما جعل على طبقه حكما ، فلو علمنا بوجود غرض للمولى وفرض انه لم يجعل على طبقه حكما فلا يلزم تحصيله.

ص: 443

وباتضاح هذا نقول إنا وان كنا نجزم بوجود غرض في الحكم بوجوب الصلاة ونفرض ان ذلك الغرض أمر وحداني ولكن نقول إنّه بمقدار الأجزاء التسعة يلزم تحصيله حيث تصدى المولى لحفظه بهذا المقدار باعتبار الجزم بجعل الوجوب للأقل ، وأمّا بمقدار الجزء العاشر فلم يثبت تصدي المولى لحفظه وجعل حكم على طبقه فلا يحكم العقل بلزوم تحصيله.

البرهان الثالث

إنّا نسلم عدم العلم إلاّ بوجوب الاجزاء التسعة ولكن مع ذلك يجب الإتيان بالجزء العاشر حيث نحتمل انّ وجوب الاجزاء التسعة وجوب ضمني - فإنّ الوجوب إذا كان ثابتا للأكثر فوجوب الأقل يصير وجوبا ضمنيا - ونحن نعرف ان امتثال الواجبات الضمنية ترابطي بمعنى أنّه لا يحصل امتثال وجوب أحد الأجزاء إلاّ بامتثال وجوب بقية الاجزاء. فلاجل ان يقطع المكلّف بسقوط وجوب الأقل عنه وفراغ ذمته منه يلزمه الإتيان بالجزء العاشر لا لأجل الشكّ في وجوبه - الجزء العاشر - ليقال ان ذلك شكّ في أصل التكليف وهو مجرى للبراءة بل لعدم الجزم بسقوط الوجوب اليقيني للأقل بدون ذلك ، ومن الواضح ان العقل يحكم في موارد الشكّ في سقوط الوجوب المعلوم بلزوم تحصيل اليقين بسقوطه فإنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

وفيه : ان الشكّ في سقوط الوجوب اليقيني ليس مجرى للاحتياط مطلقا بل ينبغي التفصيل بين حالتين ، فمتى ما كان الشكّ في سقوط الوجوب ناشئا من الشكّ في الإتيان بمتعلقه لزم الإحتياط - كمن شكّ في الإتيان بصلاة الظهر

ص: 444

وعدمه ، فإنّ الشكّ المذكور يستتبع الشكّ في سقوط وجوب صلاة الظهر فيلزم العقل بالاحتياط - وأمّا إذا جزم المكلّف بالإتيان بمتعلق الوجوب ومع ذلك شكّ في سقوط الوجوب فلا يحكم العقل بلزوم الإحتياط ، وهذا كما هو الحال في مقامنا فإنّ وجوب الأقل متعلق بالأقل جزما. والمفروض أنّ المكلّف اتى به ولكن مع ذلك يشكّ في سقوط الوجوب - أي وجوب الأقل - عنه من حيث انّه يحتمل كون وجوبه وجوبا ضمنيا يرتبط امتثاله بالإتيان بالجزء العاشر ، وفي مثل ذلك إذا جرى أصل البراءة عن وجوب الجزء العاشر صار المكلّف في أمان من احتمال العقوبة على عدم سقوط الأمر بالأقل الناشىء من إحتمال كون وجوبه وجوبا ضمنيا مرتبطا بالإتيان بالجزء العاشر ، وبعد الحصول على ورقة الأمان هذه من الشارع بوساطة أصل البراءة لم يعد العقل حاكما بلزوم الإحتياط والإتيان بالجزء العاشر ويكتفي بالإتيان بالأقل.

وان شئت قلت : إنّ مخالفة الوجوب المتعلق بالأقل تحصل جزما بترك الأقل ولكنا نشكّ في حصولها بترك الجزء العاشر أيضا فإحدى المخالفتين معلومة والمخالفة الثانية مشكوكة فنجري أصالة البراءة عن أصل ثبوت المخالفة الثانية لأنّ ثبوتها يلزم منه الضيق على المكلّف فاذا شكّ في ثبوت الضيق المذكور أمكن نفيه بالبراءة.

البرهان الرابع

وهذا البرهان للشيخ العراقي ذكره لا في مطلق الموارد التي يشكّ فيها في وجوب الزائد بل في خصوص الواجبات التي يحرم قطعها مثل الصلاة بناء على

ص: 445

حرمة قطعها.

وحاصل البرهان : ان المكلّف لو شرع في الصلاة بتكبيرة ملحونة وشكّ في إجزائها عن التكبيرة الصحيحة حصل له علم إجمالي امّا بوجوب الإتيان بالزائد ، أي تكبيرة جديدة صحيحة (1) أو بوجوب الإستمرار في الصلاة وحرمة قطعها بالتكبيرة الجديدة. وحيث إنّ أصل البراءة عن وجوب الإتيان بالتكبيرة الجديدة معارض بأصل البراءة في الطرف الثاني فيكون العلم الإجمالي المذكور منجزا ويثبت بذلك وجوب الإحتياط والإتيان بالتكبيرة الجديدة ولا يمكن اجراء البراءة عن وجوبه لفرض المعارضة.

وقد تسأل : كيف يتحقق الإحتياط في المقام ، فإنّ الإتيان بالتكبير الجديد وبالتالي قطع الصلاة كما يحتمل وجوبه كذلك يحتمل حرمته؟ أجاب الشيخ العراقي عن هذا السؤال في نهاية الأفكار (2) ج 3 ص 418 بإنّ الاحتياط يتحقق باتمام الصلاة والشروع بصلاة جديدة.

والنتيجة من خلال هذا البيان كله : انا كنا بصدد إثبات وجوب الإتيان بالزائد عند الشكّ في جزئيته (3) ، وقد ثبت ذلك بهذا البرهان.

وفيه : انّه لم يتم دليل على حرمة قطع الصلاة مطلقا وإنّما ثبت بالدليل

ص: 446


1- وهذا معناه بعبارة اخرى وجوب قطع الصلاة.
2- وهو كتاب يتضمن تقرير درسه الشريف.
3- وبهذا اتضح كيفية كون المقام من موارد التردد بين الأقل والأكثر ، فإنّ وجوب الإتيان بالتكبير الجديد معناه وجوب الأكثر بينما عدم وجوب الإتيان بها - أي وجوب الإستمرار في الصلاة وحرمة قطعها - عبارة اخرى عن وجوب الأقل.

حرمة القطع في حالة واحدة ، وهي ما إذا كانت الصلاة محكومة ظاهرا وفي نظر الشارع بالصحة وعدم لزوم إعادتها من جديد.

وبناء على هذا لا تكون الاصول متعارضة في الطرفين بل يجري الأصل لنفي وجوب الزائد - أي التكبير الجديد - دون أن يعارض بالأصل في الطرف الثاني.

والوجه في ذلك : ان موضوع حرمة القطع ما دام هو الصلاة المحكومة بالصحة ظاهرا فلا بدّ في المرحلة الاولى من إجراء أصل البراءة عن وجوب الإتيان بالتكبير الجديد ، فاذا جرى الأصل المذكور ثبتت صحة الصلاة في الظاهر ووجوب الاستمرار فيها ، وبعد ثبوت صحة الصلاة ظاهرا بالأصل يثبت حرمة قطعها. إذن حرمة القطع على ضوء هذا البيان موقوفة وفي طول جريان البراءة عن وجوب الزائد ، وما دامت موقوفة على جريان البراءة عن وجوب الزائد فلا معنى لأن يعارض أصل البراءة عن حرمة القطع أصل البراءة عن وجوب الزائد إذ بجريان البراءة عن وجوب التكبير الجديد يثبت وجوب الصلاة وحرمة قطعها فكيف تجري البراءة بعد ذلك عن حرمة القطع ، إنّ لازم ذلك ثبوت حرمة القطع وانتفاؤها معا فهي ثابتة لفرض جريان البراءة عن وجوب التكبير الجديد ، وهي منتفية لفرض جريان البراءة عن الحرمة (1).

ص: 447


1- ويمكنك ذكر بيان آخر بان تقول ان جريان أصل البراءة عن حرمة القطع يلزم من وجوده عدمه ، فإنّه بجريانه يثبت جواز قطع الصلاة وعدم صحتها وبثبوت ذلك لا يبقى إحتمال لحرمة القطع - بل يكون القطع جائزا جزما - حتى تجري البراءة لنفيه.
البرهان الخامس

وقبل عرض هذا البرهان نذكر مقدمة حاصلها : إنّ المكلّف لو أتى بالأكثر وكان الواجب واقعا الأقل فهل يقع عمله صحيحا أو لا؟ والجواب : إنّ في ذلك ثلاث حالات : -

أ - الإتيان بالأكثر بقصد امتثال الأمر الواقعي الموجه إليه. وفي هذه الحالة لا إشكال في الاجزاء.

ب - الإتيان بالأكثر بقصد إمتثال الأمر بالأكثر بتخيل أنه هو الأمر الواقعي اشتباها. وفي هذه الحالة لا إشكال في الإجزاء أيضا.

ج - الإتيان بالأكثر بقصد امتثال أمر الأكثر على وجه التقييد ، بمعنى تقييد قصد امتثاله بما إذا كان الأمر أمرا بالأكثر بحيث لو كان الامر أمرا بالأقل فلا يكون قاصدا لأمتثاله. وفي هذه الحالة ذهب مشهور الفقهاء الى عدم صحة العمل لعدم قصد امتثال الأمر بالاقل. بيد أنّه يمكن الحكم بصحة العمل أيضا ببيان يأتي فيمّا بعد انشاء ..

وباتضاح هذه المقدمة نعود الى البرهان الخامس. إنّ هذا البرهان مركب من مقدمتين : -

1 - ان تردد الواجب له ثلاث حالات : -

أ - ان يكون مترددا بين المتباينين ، كتردد الواجب يوم الجمعة بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر. وفي هذه الحالة لا إشكال في وجوب الاحتياط بالأتيان بكلتا الصلاتين.

ص: 448

ب - ان يكون مترددا بين الأقل والأكثر كتردد اجزاء الصلاة بين التسعة والعشرة. وهذه الحالة هي محل النزاع والكلام في أنّه هل يجب فيها الإحتياط بإتيان الأكثر أو لا.

ج - ان يكون مترددا بين عامين من وجه ، كما إذا أمر المولى بالإكرام وتردد بين كونه إكرام العادل أو إكرام الهاشمي ، فإنّ بين إكرام العادل وإكرام الهاشمي عموما من وجه ، إذ قد يجتمعان معا كاكرام شخص واحد يجمع العدالة والهاشمية ، وقد يتحقق أحدهما دون الثاني.

وفي هذه الحالة لا إشكال أيضا في وجوب الإحتياط بالإتيان بكلا الإكرامين ، وذلك بإكرام شخص واحد يجمع العنوانين أو اكرام شخصين أحدهما عادل والآخر هاشمي.

ولكن لماذا يجب الاحتياط؟ النكتة واضحة حيث يوجد علم إجمالي بوجوب أحد الإكرامين فامّا أنّه يجب إكرام العادل أو إكرام الهاشمي فيجب الاحتياط لمنجزية العلم الإجمالي ، وذلك شبيه بالعلم بثبوت الوجوب يوم الجمعة أمّا للظهر أو للجمعة.

وبهذا تنتهي النقطة الاولى. والمقصود منها بيان الحالة الثالثة أي حالة تردد الواجب بين العامين من وجه وبيان أن الإحتياط فيها واجب.

2 - وفي هذه النقطة يراد إثبات ان التردد بين الأقل والأكثر يرجع الى التردد بين العامين من وجه ، ويلزم من ذلك وجوب الاحتياط حيث ذكر في النقطة الاولى ان الإحتياط عند التردد بين العامين من وجه لازم.

ولإثبات ذلك نقول : حيث إنّ امتثال الأمر بالأقل وامتثال الأمر بالأكثر

ص: 449

قد يجتمعان وقد ينفرد أحدهما بالتحقق دون الآخر فالنسبة بينهما على هذا هي العموم من وجه.

أمّا انهما يجتمعان احيانا فكما لو أتى المكلّف بالأكثر بقصد امتثال الأمر الواقعي. وأمّا تحقق امتثال الأمر بالأقل فقط فكما لو أتى بالأقل بقصد أمره.

وأمّا تحقق امتثال الأمر بالأكثر فقط ففي ذلك شيء من الخفاء باعتبار ان الآتي بالأكثرات بالأقل جزما فكيف يتحقق امتثال الأكثر بدون امتثال الأقل؟

هذا ولكن يمكن تصوير ذلك بناء على المبنى الفقهي لمشهور الفقهاء المشار له في المقدمة ، وهو أن يأتي المكلّف بالأكثر بقصد إمتثال أمره على وجه التقييد بحيث لو كان الواجب هو الأقل فلا يكون قاصدا لامتثاله ، إنّه بناء على هذا يتحقق امتثال الأمر بالأكثر بدون امتثال الأمر بالأقل.

وبعد الفراغ من المقدمة الثانية نقول : إذا ثبت أنّ النسبة بين امتثال الأمر بالأكثر وامتثال الأمر بالأقل هي نسبة العامين من وجه بمقتضى المقدمة الثانية يثبت وجوب الاحتياط بالإتيان بالأكثر بمقتضى المقدمة الاولى.

ويمكن مناقشة البرهان المذكور من حيث المبنى الفقهي بان يقال لا نسلم عدم تحقق الأمتثال في صورة التقييد ، فإنّ اللازم في صحة العبادة اقترانها بالمقربية ، وواضح انّه مع انبعاث المكلّف عن الأمر بالأكثر تكون المقربية منه حاصله بشكل من الإشكال ، وهذا المقدار من المقربية يكفي في وقوع العمل صحيحا ويتحقق امتثال الأمر بالأقل وإن لم ينبعث المكلّف منه بل من الأمر بالأكثر.

وبإنكار المبنى الفقهي المتقدم لا تتم المقدمة الثانية التي اريد فيها ارجاع

ص: 450

التردد بين الأقل والأكثر الى التردد بين العامين من وجه ، وبالتالي يسقط البرهان عن صلاحية اثبات وجوب الاحتياط.

البرهان السادس

وهذا البرهان يتم في الواجبات التي تكون الزيادة فيها مبطلة للعمل.

وحاصله : لو فرض أنّ المجتهد شكّ في وجوب السورة في الصلاة ، تشكّل لديه علم اجمالي امّا بوجوب الاتيان بها أو بحرمة الاتيان بها بقصد الجزئيّة (1) ، لأنّه على تقدير جزئيتها يجب الاتيان بها ، وعلى تقدير عدم جزئيتها يحرم الاتيان بها بقصد الجزئية لأنّه حينئذ يكون الاتيان بها بقصد الجزئية زيادة مبطلة. وحيث انّ الاصول متعارضة في العلم الاجمالي المذكور يكون منجّزا ويجب الاحتياط.

وكيفية الاحتياط تتحقّق بالاتيان بالصلاة مشتملة على السورة بدون قصد الجزئية بل امّا برجاء كونها واجبة أو لمطلوبيّتها الجزميّة الأعم من الوجوبيّة والاستحبابيّة فانّ السورة مع عدم قصد الجزئية بها إن لم تكن واجبة كانت مستحبّة.

ويمكن المناقشة بعدم تعارض الاصول بل يجري أصل البراءة عن وجوب الاتيان بالسورة بلا معارضة بالبراءة عن حرمة الاتيان بها بقصد الجزئية ، فإنّ الاتيان بها بقصد الجزئية حرام بلا شك وزيادة مبطلة بلا ريب ، ومع العلم

ص: 451


1- التقييد بقصد الجزئيّة باعتبار أنّ الزيادة لا تتحقّق الاّ على تقدير الاتيان بالشيء بقصد كونه جزء

بحرمته لا معنى لجريان أصل البراءة لنفي الحرمة إذ الاصل يجري حالة الشك دون حالة العلم.

أمّا لماذا كان الاتيان بالسورة بقصد الجزئية محرّما حتما؟ إنّ ذلك باعتبار صدق التشريع إذ مع عدم العلم بجزئية السورة يكون الاتيان بها بقصد الجزئية تشريعا محرّما حتى على تقدير ثبوت الجزئية واقعا

النتيجة النهائيّة

ومن خلال استعراض البراهين الستّة على وجوب الاحتياط عند الشكّ في الجزئية ومناقشتها اتّضح أنّه لا يجب الاحتياط عند الشكّ في الجزئية وأنّ الصحيح هو البراءة.

قوله ص 174 س 12 : يتبيّن مما تقدّم : أي من خلال النقطة الاولى والثانية.

قوله ص 174 س 13 : كما تقدّم : في موارد منها القسم الأوّل من هذه الحلقة في مبحث امكان تعلّق الأمر بقصد القربة ص 365 من الحلقة.

قوله ص 175 س 4 : فيجري عليه نفس ما جرى على الواجب : أي فكما قيل في الواجب انّه بمقدار الأقل معلوم وبمقدار الأكثر مشكوك تجري البراءة عنه كذلك يقال في الغرض انّه بمقدار الأقل معلوم وبمقدار الزائد حيث انّه مشكوك فيجري الأصل لنفيه.

قوله ص 175 س 6 : بالوصول إذا وصل الخ : أي شرط تنجّز الغرض

ص: 452

أمران : علم المكلّف به ، وتصدّي المولى لحفظه بجعل حكم على طبقه.

قوله ص 175 س 8 : أو نحو ذلك : كطلب تحصيله.

قوله ص 175 س 16 : ثبوتا وسقوطا : فلا يثبت بعضها الاّ عند ثبوت البعض الآخر ولا يسقط بعضها بالامتثال الاّ عند سقوط بعضها الآخر بالامتثال.

قوله ص 176 س 16 : لا بمعنى أنّ ذلك الأصل الخ : حتى يقال بأنّ ذلك أصل مثبت - وهو ليس حجّة - باعتبار أنّ لازم البراءة عن وجوب الزائد سقوط وجوب الأقل ، والملازمة المذكورة عقليّة وليست شرعيّة ، فإنّه لا توجد آية ولا رواية تقول إذا لم يكن وجوب للزائد المشكوك فوجوب الأقل ساقط بالاتيان بالأقل وإنما هي عقليّة ، ومتى ما اجري الأصل لاثبات لازم عقلي فهو أصل مثبت.

هذا مضافا الى أنّا لسنا بحاجة الى اثبات سقوط وجوب الأقل فإنّ اللازم على المكلّف الاتيان بالأقل - على تقدير وجوبه - لا تحقيق عنوان سقوط الأمر بالأقل.

قوله ص 178 س 1 : أن يستتبع : أي احتمال حرمة القطع.

قوله ص 178 : س 2 : له : أي لجريان البراءة عن الزائد.

قوله ص 178 س 11 : وتنجّزه : عطف على « تنجيز »

قوله ص 179 س 11 : على كل حال : أي حتى للأمر بالأقل. وعلى هذا فجملة « حتى للأمر ... » تفسير لقوله « على كل حال ».

قوله ص 179 س 11 : ما دام الانبعاث عن الأمر : أي عن الأمر بالأكثر حاصلا بالفعل.

ص: 453

قوله ص 179 س 15 : ومبطلة : عطف تفسير لقوله مانعة.

قوله ص 179 ص 17 : مع عدم وقوعه : المناسب : مع كونه الخ.

قوله ص 180 س 3 : حقّا : أي واقعا.

قوله ص 180 س 10 : فيكون محرّما : أي الاتيان بالسورة بقصد الجزئية.

قوله ص 180 س 10 : ولا يشمله الخ : فإنّ الأمر النفسي المتعلّق بالصلاة ينحل الى أوامر ضمنيّة نفسيّة بعدد الأجزاء ، فكل جزء يلحقه وجوب نفسي ضمني. والمقصود أنّ الاتيان بالسورة بقصد الجزئية لا يتعلّق به جزما أحد تلك الوجوبات الضمنيّة لأنّ الاتيان بالسورة بقصد الجزئية تشريع محرّم فكيف يحتمل تعلّق الوجوب به.

قوله ص 180 س 11 : وهذا يعني كونه زيادة : أي هو زيادة مبطلة جزما على تقدير الاتيان بقصد الجزئية.

ص: 454

الدوران بين الأقل والأكثر في الشرائط

اشارة

قوله ص 181 س 1 : والتحقيق فيها الخ : ذكرنا فيما سبق أنّ الدوران بين الأقل والأكثر له عدّة مصاديق : -

1 - الشك في الجزئية.

2 - الشك في الشرطية.

3 - الشك في التعيين والتخيير.

ولحدّ الآن كنا نتكلّم في الشك في الجزئية وقد فرغنا منه.

والآن نريد التحدّث عن الشك في الشرطية ، كما لو فرض الشك في شرطية الطمأنينة للصلاة.

ويمكن منهجة المباحث المتعرّض لها في المقام ضمن مطالب خمسة : -

1 - اخترنا في مسألة الشك في الجزئية البراءة باعتبار انحلال العلم الاجمالي ، فالاجزاء التسعة نعلم بوجوبها بينما الجزء العاشر نشك في وجوبه فتجري البراءة عنه.

ونفس هذا نختاره هنا أيضا ، أي في مسألة الشك في الشرطية ، فحينما نشك في شرطية الطمأنينة ففي الحقيقة نحن نشك في تعلّق وجوب زائد بتقيد الصلاة بالطمأنينة (1) ، فإذا كانت شرطا كان هناك وجوب آخر - غير وجوب بقية

ص: 455


1- إنّما قلنا بتعلّق الوجوب الزائد بالتقيد بالطمأنينة لا بنفس الطمأنينة باعتبار أنّه لو تعلّق بنفس الطمأنينة كانت جزء لا شرطا ، فإنّ الفارق بين الجزء والشرط انّ الأمر بالصلاة مثلا يكون متعلّقا بنفس الجزء ولا يكون متعلّقا بنفس الشرط بل يكون متعلّقا بالتقييد بالشرط ، كما تقدّمت الاشارة الى ذلك في الحلقة الثانية في مبحث قاعدة تنوّع القيود ص 245.

الأجزاء والشرائط - متعلّق بالتقيد ، وإذا لم تكن شرطا لم يكن هذا الوجوب ، ومعه نكون على علم تفصيلي - بوجوب الأجزاء والشرائط التسعة - وشك بدوي في وجوب التقيد بالطمأنينة فتجري البراءة عنه.

2 - قد يقال انّ الشك في الشرطية داخل في تردّد الواجب بين المتباينين وليس داخلا في التردّد بين الأقل والأكثر باعتبار أنّ فاقد الشرط وواجده يعدّان أمرين متباينين ولا يعدّ أحدهما أقل والآخر أكثر ، فمثلا الصلاة الواجدة للطهارة تعدّ مباينة للصلاة الفاقدة لها لا انها أكثر وهذه أقل ، وهكذا الرقبة الكافرة تعدّ مباينة للرقبة المؤمنة لا انها اقل وهذه أكثر.

والجواب : ان هذا صحيح لو لاحظنا حدّ الواجب أو الوجوب ، فإنّ التقييد بالطهارة وعدمه حدان للواجب ، فالواجب - كالصلاة مثلا - قد يتحدد مرة بالتقييد بالطهارة وقد يتحدد اخرى بعدم ذلك ، أمّا إذا قطعنا النظر عن هذين الحدين ونظرنا الى عالم العهدة وجدنا التردد ترددا بين الأقل والأكثر حيث نعلم باشتغال الذمة بأصل الصلاة ونشكّ في اشتغالها بالتقييد بالطهارة. إذن عدّ مسألة الشكّ في الشرطية من دوران الأمر بين الأقل والأكثر مبني على النظر الى عالم العهدة دون حدّ الوجوب أو الواجب.

3 - ان الشروط على قسمين فبعضها يرجع الى متعلق الحكم وبعضها الآخر يرجع الى متعلق المتعلق المعبر عنه بالموضوع (1).

ص: 456


1- فاذا قيل يجب عتق الرقبة كان الوجوب هو الحكم ، والعتق هو المتعلق ، والرقبة هي المتعلق للمتعلق حيث انّ العتق الذي هو المتعلق تعلق بالرقبة فهي متعلق للمتعلق. ويختلف المتعلق عن الموضوع من حيث الحكم ، فإنّ المتعلق يكون المكلّف ملزما بإيجاده أو باعدامه ، بينما الموضوع لا يكون المكلّف ملزما بإيجاده أو اعدامه وإنّما يثبت الحكم على تقدير وجوده ، ففي المثال السابق يكون المكلّف ملزما بإيجاد العتق بينما لا يكون ملزما بإيجاد الرقبة وإنّما يكون ملزما بعتقها على تقدير وجودها. ومثال آخر لذلك : يحرم شرب الخمر ، فالشرب متعلق والمكلّف ملزم باعدامه بينما الخمر موضوع ولا يكون المكلّف ملزما بإيجاده أو اعدامه وإنّما يكون ملزما بترك شربه على تقدير وجوده.

مثال الشرط الراجع الى المتعلق : تجب الصلاة مع الطهارة ، فإنّ الوجوب حكم ، والصلاة متعلقه ، والطهارة شرط راجع الى الصلاة التي هي المتعلق.

ومثال ثان لذلك : يجب العتق بالصيغة العربية ، فإنّ الوجوب حكم والعتق متعلق له ، والصيغة العربية شرط راجع الى العتق الذي هو المتعلق.

ومثال الشرط الراجع الى متعلق المتعلق : يجب عتق الرقبة المؤمنة ، فإنّ الوجوب حكم والعتق متعلقه ، والرقبة متعلق المتعلق ، والإيمان شرط راجع الى الرقبة التي هي متعلق المتعلق.

ومثال ثان لذلك : يجب إطعام الفقير الهاشمي ، فإنّ الوجوب حكم ، والاطعام متعلق ، والفقير متعلق المتعلق ، والهاشمية شرط للفقير الذي هو متعلق المتعلق.

وباتضاح هذا نقول إنّ الشرط المشكوك تارة يشك في شرطيته للمتعلق ، واخرى يشكّ في شرطيته لمتعلق المتعلق. وقد قرأنا في الحلقة الثانية ص 381 احتمال التفصيل بينهما فيقال إنّه إذا كان يشكّ في ثبوت شرط للمتعلق جرت

ص: 457

البراءة لنفيه وإذا كان يشكّ في ثبوت شرط لمتعلق المتعلق لم يمكن جريان البراءة لنفيه (1). هذا تفصيل قرأناه ولكن الصحيح جريان البراءة على كلا التقديرين.

4 - وللشيخ العراقي قدس سره تفصيل في باب الشكّ في الشرطية ، فالشكّ في بعض الشرائط تجري البراءة لنفيه بينما الشكّ في بعض الشرائط الاخرى لا تجري البراءة لنفيه.

وتوضيح ذلك : إنّ الشرائط على قسمين ، ففي بعض الشرائط لو فرض أنّ المكلّف أتى بفاقد الشرط أو أراد أن يأتي به لم يقع منه لغوا رأسا بل لزمه تكميله بضم الشرط إليه ، وبعضها الآخر لو أتى المكلّف بفاقد الشرط وقع منه لغوا رأسا.

مثال الأوّل : الإيمان بالنسبة الى الرقبة فإنّه لو كان شرطا وفرض أنّ

ص: 458


1- وتوجيه التفصيل المذكور : انّ المولى لو قال تجب الصلاة وشككنا في شرطية الطمانينة للصلاة كانت البراءة جارية لنفيها ، فإنّ الطهارة على تقدير كونها شرطا تكون شرطا للصلاة التي هي المتعلق للحكم ، وحيث ان المتعلق يكون المكلّف ملزما بإيجاده فاذا شكّ في وجود شرط له كان ذلك مستلزما للشكّ في الالزام بإيجاد ذلك الشرط ، وهذا الشكّ بما أنّه شكّ في أصل التكليف فالبراءة تجري لنفيه. أمّا إذا قيل يجب عتق رقبة وشك في شرطية الإيمان للرقبة لم تجر البراءة لنفي شرطية الشرط المذكور ، فان الرقبة حيث انّه لا يكون المكلّف ملزما بإيجادها باعتبار أنّها متعلق المتعلق ، وقد تقدم أنّ متعلق المتعلق لا يكون المكلّف ملزما بإيجاده _ فالشرط الراجع إليها لا يكون ملزما بإيجاده أيضا ، ومعه فالشكّ في ثبوت شرط للموضوع لا يكون شكا في ثبوت التكليف كي تجري البراءة لنفيه. والجواب عن ذلك : انّه في الحالة الثانية يكون الشكّ شكا في ثبوت التكليف أيضا ، فإنّ الإيمان لو كان شرطا للرقبة كان الواجب على المكلّف إيجاد العتق المتقيد بإيمان الرقبة المعتوقة ، والشكّ في كونه شرطا شكّ في ثبوت تحصيل العتق المقيّد بذلك فتجري البراءة عنه.

المكلّف أراد عتق الرقبة الكافرة لم يقع عتقه لغوا بل يقال له حاول جعلها مؤمنة ثم اعتقها.

ومثال الثاني : لو قيل أطعم فقيرا هاشميا فلو فرض أنّ المكلّف أطعم أو أراد أن يطعم فقيرا غير هاشمي فلا يقال له يلزمك تكميل ما أتيت به بجعل الفقير غير الهاشمي هاشميا ، إنّ هذا أمر غير ممكن بل ما أتى به أو أراد الإتيان به يقع لغوا رأسا.

وبعد اتضاح هاتين الحالتين ذكر الشيخ العراقي إنّ الشرط المشكوك لو كان من قبيل الحالة الاولى جرت البراءة لنفيه ، وأمّا لو كان من قبيل الحالة الثانية لم تجر البراءة لنفيه.

والوجه في ذلك انّه في الحالة الاولى يمكن للمكلّف أن يشير الى الرقبة الكافرة ويقول انّ عتقها مطلوب جزما وأشك في وجوب تكميلها بارشادها الى الإيمان فتجري البراءة لنفي وجوب التكميل ، بينما في الحالة الثانية لا يمكن للمكلّف أن يشير الى إكرام الفقير غير الهاشمي ويقول بإنّه مطلوب جزما وأشكّ في وجوب تكميله بالهاشمية ، إنّ هذا غير ممكن لأنّ التكميل بالهاشمية حيث انّه غير ممكن فلا يحتمل وجوبه حتى تجري البراءة لنفيه.

هذه حصيلة التفصيل المذكور ، ولكنّه قابل للتأمل باعتبار انّ الشيخ العراقي - لاحظ عالم الخارج والتطبيق فأشار الى الرقبة الكافرة خارجا وقال إنّ هذه واجدة لطبيعي العتق المطلوب ويشك في وجوب تكميلها بالإيمان. وفي المثال الآخر كان يشير الى الفقير غير الهاشمي ويقول ان إطعام هذا واجد لطبيعي الإطعام المطلوب والتكميل بالهاشمية لا يحتمل وجوبه حتى ينفى بالبراءة.

ص: 459

هذا ولكن الصحيح ملاحظة عالم جعل الوجوب والعهدة ، وبملاحظة هذا العالم يكون الشكّ في كلتا الحالتين شكا في أصل التكليف فينفى بالبراءة فإنّ الوجوب يجزم بجعله على طبيعي العتق وطبيعي إطعام الفقير ، والتقييد بالإيمان والهاشمية يشكّ في جعل الوجوب عليه فينفى بالبراءة.

الشكّ في المانعية

5 - والمطلب الخامس الذي تكفله هذا المبحث حالة الشكّ في المانعية ، كما إذا شكّ في مانعية البكاء من صحة الصلاة فهل الأصل يقتضي البراءة من ثبوت المانعية المشكوكة كما كان يقتضي البراءة من ثبوت شرطية الشرط المشكوك أو لا يقتضي ذلك؟

والجواب : نعم إنّ الأصل يقتضي البراءة عن المانعية المشكوكة ، فإنّ الشكّ في المانعية شكّ في الشرطية - إذ الأمر الوجودي تارة يكون ثبوته شرطا واخرى يكون عدمه شرطا فالطهارة أمر وجودي وثبوتها معتبر في الصلاة فتسمى بالشرط وأمّا الحدث فهو أمر وجودي أيضا إلاّ ان عدمه شرط في الصلاة ويسمى بالمانع ، فالشكّ في المانعية إذن شكّ في الشرطية أيضا غاية الأمر شكّ في شرطية العدم - وقد عرفنا إنّ حكم الشكّ في الشرطية هو البراءة.

قوله ص 181 س 3 : كما تقدم في موضعه : وذلك في موارد منها ، الحلقة الثانية ص 245.

قوله ص 182 س 2 : في بعض الحالات : أي حالات الشكّ في الشرطية.

قوله ص 182 س 2 ومرد دعواه إلخ : الشيخ العراقي وان فصّل بين الشرط

ص: 460

الراجع للمتعلق والشرط الراجع الى متعلق المتعلق ولكنه بعد التأمل يظهر رجوعه الى التفصيل الموضح سابقا. ومن هنا ذكر في عبارة الكتاب : ومرد دعواه إلخ.

قوله ص 182 س 5 : في الحالة المذكورة : أي حالة إرادته الإتيان بالأقل.

قوله ص 182 س 16 : الى ما أتى به إلخ : كان من المناسب إضافة : « أو ما يريد أن يأتي به » كما في التقرير ج 5 ص 252.

قوله س 183 س 3 : محفوظ : أي متحقق وثابت في المأتي به. وقوله : « على كل حال » أي سواء كان الزائد مطلوبا أم لا.

قوله ص 183 س 15 : ولا يختلف إلخ : هذا تعرض لحالة الشكّ في المانعية. وكان من المناسب كتابة « الشكّ في المانعية » كعنوان صغير ليكون الطالب على بصيرة.

ص: 461

ص: 462

دوران الواجب بين التعيين والتخيير العقلي

قوله ص 185 س 1 : وذلك بإنّ يعلم الخ : ذكرنا سابقا إنّ الدوران بين الأقل والأكثر له عدة مصاديق تقدم مصداقان منها وهما : الشكّ في الجزئية والشكّ. في الشرطية. وبقي علينا التحدث عن مصداقين آخرين وهما دوران الواجب بين التعيين والتخيير العقلي ، ودوران الواجب بين التعيين والتخيير الشرعي.

وقبل التحدث عن مطالب الكتاب لا بدّ من التعرف المسبق على مطلبين : -

1 - ما هو الفرق بين التخيير العقلي والتخيير الشرعي؟ والجواب : إنّ الحاكم بالتخيير إن كان هو العقل فالتخيير عقلي وإن كان هو الشارع فالتخيير شرعي.

فاذا قال المولى أعتق رقبة وكان للرقبة مصاديق متعددة ولم يحدد مصداقا معينا منها فالتخيير عقلي إذ العقل يحكم بالتخيير بين تلك المصاديق ويقول ما دام المولى لم يحدد مصداقا معينا منها فأنت بالخيار في اختيار أي فرد شئت.

وأمّا إذا قال الشارع : اعتق أو أطعم أو صم فالتخيير بين هذه الشقوق الثلاثة شرعي لأنّ الشارع هو الذي تصدى لإثبات التخيير.

2 - كيف صار باب دوران الأمر بين التعيين والتخيير من مصاديق التردد بين الأقل والأكثر؟ الوجه في ذلك انّ الثابت على العبد لو كان هو تحصيل عنوان

ص: 463

عتق الرقبة بلا زيادة شيء على ذلك - ومقتضاه حكم العقل بالتخيير بين الأفراد - فهذا معناه وجوب الأقل ، وأمّا إذا كان الثابت تحصيل عنوان عتق الرقبة وضم عنوان آخر معه كعنوان الإيمان أو أي عنوان آخر - الذي مقتضاه تعيين فرد خاص - فهذا معناه وجوب الأكثر.

وبعد هذا نعود للكتاب للتحدّث عن حالة دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقلي.

وقد تعرّض الى مطلبين : -

1 - متى يتحقّق دوران أمر الواجب بين التعيين والتخيير العقلي؟ للتعرف على ذلك نأخذ المثال التالي : لو علمنا أنّ المولى قال أطعم ولم ندر أنّه قال أطعم حيوانا - حتى يثبت التخيير عقلا بين إطعام أي فرد من أفراد الحيوان - أو قال أطعم إنسانا ليتعين إطعام خصوص الإنسان من بين أفراد الحيوان. ففي مثل ذاك تكون الحالة من الدوران بين التعيين والتخيير العقلي.

إذن الضابط لتحقّق الدوران بين التعيين والتخيير العقلي هو العلم بتحقّق وجوب - كوجوب الإطعام - مردّد بين عنوان خاص كعنوان الإنسان وعنوان عام كعنوان الحيوان مع افتراض تغاير بين العنوانين في عالم المفهوميّة بينما في عالم الصدق الخارجي بينهما أعميّة وأخصيّة ، فعنوان الحيوان والإنسان لو نظرنا لهما في عالم المفهوميّة بما هما مفهومان وجدنا أنّ أحدهما مفهوم مغاير لمفهوم الآخر ولكنّهما في عالم الخارج والإنطباق أحدهما أعم صدقا والآخر أضيق صدقا.

2 - وبعد التعرّف على الحالة التي يتحقّق فيها الدوران بين التعيين والتخيير العقلي نأتي الآن للتعرّف على حكم الدوران المذكور فهل يجب فيه الإحتياط أو

ص: 464

البراءة؟

إنّ بالإمكان إبداء تفصيل حاصله : إنّا عرفنا أنّ الدوران بين التعيين والتخيير يحتاج إلى وجود مفهومين بينهما تغاير في عالم المفهوميّة. وتغاير المفهومين له حالتان : -

أ - أن يكون التغاير بينهما ثابتا بسبب اختلاف كيفية اللحاظ. مثال ذلك : مفهوم الحيوان ومفهوم الإنسان ، فإنّ مفهوم الحيوان على الرغم من كونه جزء من مفهوم الإنسان ، نشعر بوجود تغاير بينهما ، فمن أين نشأ هذا التغاير؟ إنّه نشأ من كيفية اللحاظ فإنّا لا نلحظ مفهوم الإنسان بما هو مركّب من مفهومين : الحيوان وزيادة ، كلاّ ، وإنّما نلحظه بما هو شيء واحد ، إنّ هذه الملاحظة هي التي صارت سببا للتغاير بين مفهوم الحيوان ومفهوم الإنسان.

وإن شئت استيضاحها أكثر فخذ بالمقارنة بين أربعة مفاهيم ، فقارن بين مفهوم الحيوان ومفهوم الحيوان الناطق ، هذا من ناحية ، وبين مفهوم الحيوان ومفهوم الأنسان من ناحية اخرى. هل تجد بعد التأمل في المقارنتين وجود فارق بينهما؟

أجل في المقارنة الاولى لا نجد تغايرا بين مفهوم الحيوان ومفهوم الحيوان الناطق ، فإنّ المفهوم الثاني نفس المفهوم الأوّل مع زيادة إلاّ ان إنضمام الزيادة لا يستوجب تغايرا ، نظير ما إذا كان أمامنا كتاب المكاسب وحده ثم وضعنا الى جنبه كتاب الكفاية فهل بوضع كتاب الكفاية الى جانب المكاسب يتغير كتاب المكاسب؟ كلا لا يحصل تغير فيه ، كذلك الحال في مفهوم الحيوان الناطق فإنّه نفس مفهم الحيوان مع زيادة وليس بينهما تغاير.

ص: 465

وهذا بخلافه في المقارنة الثانية حيث يقضي وجداننا بوجود تغاير بين مفهوم الحيوان ومفهوم الأنسان. ولكن من أين نشأ هذا التغاير والحال أنّ مفهوم الإنسان هو مفهوم الحيوان الناطق؟ ولماذا لم تتحقق المغايرة في المقارنة الاولى وتحققت في خصوص المقارنة الثانية؟ إنّ ذاك يعود الى أنّ مفهوم الأنسان وإن كان مركبا من مفهومين : مفهوم الحيوان ومفهوم الناطق إلاّ أنهما لم يلحظا بما هما مفهومان بل بما هما مفهوم واحد البس لباس الوحدة ، لوحظا بما هما مندمجان ، فالإنسان مفهوم واحد لوحظ فيه مفهوم الحيوان والناطق بنحو الوحدة واللف والإندماج والإجمال. إنّ هذه الملاحظة هي التي صارت سببا للتغاير بين المفهومين.

ب - أن يكون الإختلاف بين المفهومين ثابتا بلحاظ ذاتهما لا بسبب اختلاف كيفية الملاحظة.

ومثال ذلك : ما لو علمنا أنّ المولى أصدر في حق زيد حكما معينا ولكن لا ندري هل هو أكرم زيدا أو أطعم زيدا ، فإن كان هو الأكرام فنحن بالخيار بين الإطعام وغيره من أفراد الإكرام ، وإن كان هو الإطعام فلا خيار في الأفراد الاخرى للإكرام.

واذا لا حظنا مفهوم الإكرام ومفهوم الإطعام لم نجد مفهوم الإكرام جزء من مفهوم الإطعام بحيث يكون مفهوم الإطعام مركبا من جزئين - أحدهما مفهوم الإكرام لوحظا بنحو الوحدة والإندماج حتى يكون التغاير بينهما ناشئا من اختلاف كيفية الملاحظة وإنّما هما مختلفان بلحاظ ذاتهما ، فمفهوم الإكرام في ذاته مغاير لمفهوم الإطعام وإن لم يكونا في عالم الخارج والإنطباق كذلك بل أحدهما

ص: 466

أعم والآخر أخص.

وبعد اتضاح شكلي التغاير هذين نقول : الدوران في الشكل الأوّل هو من الدوران بين الأقل والأكثر لانا لو لاحظنا عالم الذمة حصل لنا يقين باشتغال ذمتنا بإطعام الحيوان وشكّ في لزوم خصوصية الناطقية فتنفى بالبراءة حيث إنّ الإنسان مركب من جزئين : الحيوان والناطق ، وتوجه الوجوب الى الجزء الأول قطعي بينما توجهه الى الثاني مشكوك.

وقد تقول : المفروض في الشكل الأوّل ملاحظة الإنسان بما هو مفهوم واحد اندمجت فيه الحيوانية والناطقية ولا نلحظ الحيوانية متميزة عن الناطقية لنقول إنّ اشتغال الذمة بالحيوانية قطعي وبالناطقية مشكوك.

والجواب : إنّ خصوصية الإندماج والتفصيل من الخصوصيات الثابتة في عالم اللحاظ وليست من خصوصيات عالم الذمة ، فإنا لو لا حظنا الذمة لم نجدها مشغولة بنحو اليقين إلاّ بأحد الجزئين ، وهو الحيوانية ، فإنّ وجوب إطعامها ثابت يقينا سواء كان الثابت واقعا وجوب إطعام الإنسان أم وجوب إطعام الحيوان ، وهذا بخلاف الجزء الثاني ، فإنّه لم يعلم تعلق التكليف به فتجري البراءة عنه. هذا كله في الشكل الأوّل.

وأمّا الشكل الثاني فالدوران فيه دوران بين المتباينين والعلم الإجمالي فيه علم إجمالي بين المتباينين لا بين الأقل والأكثر ، فإنّ التباين بين مفهوم الإكرام ومفهوم الإطعام ليس بخصوصيات ثابتة في عالم اللحاظ حتى يقال بعدم اشتغال الذمة بها بل تباينهما بلحاظ ذاتهما ، فامّا ذات مفهوم الإطعام داخلة في الذمة أو ذات مفهوم الإكرام ، وحيث انّ المفهومين المذكورين بينهما تباين في عالم

ص: 467

المفهومية - وإن لم يكن بينهما تباين بلحاظ عالم الخارج بل بينهما أعمية وأخصية - فالعلم الإجمالي المتردد بينهما علم إجمالي بين المتباينين (1).

هذا ولكن العلم الإجمالي المذكور وإن كان ثابتا إلاّ أنّه ليس منجزا لعدم تعارض الاصول في أطرافه ، فانّ أصل البراءة عن وجوب خصوص الإطعام يجري بلا أن يعارض بأصل البراءة عن وجوب الإكرام ، إذ الغرض من إجراء البراءة عن وجوب الإكرام إن كان إثبات الترخيص في ترك الإكرام مع فرض الإتيان بالإطعام فهذا مستحيل إذ مع ترك الإكرام لا بدّ من ترك الإطعام لعدم إمكان الإتيان بالأخص عند ترك الأعم ، وإن كان لاثبات الترخيص في ترك الإكرام مع فرض ترك الإطعام أيضا فهذا ترخيص في المخالفة القطعية ، والأصل لا يمكن أن يعبدنا الشارع به لإثبات الترخيص في المخالفة القطعية.

قوله ص 185 س 11 : فان مفهوم الإكرام ليس إلخ : فليس بينهما في عالم المفهومية عمومية وخصوصية وإنّما ذلك بلحاظ عالم الخارج.

قوله ص 186 س 12 : وفقا للجواب الأخير إلخ : المتقدم ص 173 من الحلقة.

ص: 468


1- ما ذكر قد يتأمل فيه باعتبار انه يمكن إذا نظرنا الى عالم الذمة دعوى أنّ الذمة مشغولة يقينا بما ينطبق عليه عنوان الإكرام - وهو الاطعام - والزيادة على ذلك مشكوكة فتجري البراءة عنها. وعليه يكون حال الشكل الثاني حال الشكل الأوّل تماما دون أي فرق.

دوران الواجب بين التعيين والتخيير الشرعي

اشارة

قوله ص 188 س 1 : ونتكلم في حكم هذا الدوران إلخ : ذكرنا سابقا انّ مصاديق دوران الأمر بين الأقل والأكثر أربعة وهذا رابعها ، وهو الدوران بين التعيين والتخيير الشرعي (1) ، كما لو شكّ أن الشارع قال في حق المفطر متعمدا : أعتق أو قال : أعتق أو أطعم ، فانّه إن قال أعتق فمعناه أنّ الكفارة متعينة في العتق (2) وإن قال أعتق أو أطعم فمعناه أنّ الكفارة مخيرة بتخيير شرعي بين العتق والإطعام (3).

وقبل إيضاح حكم هذه الحالة وأنّه البراءة أو الإحتياط نذكر مقدمة حاصلها : تقدم في القسم الأوّل من هذه الحلقة انّ في حقيقة الوجوب التخييري الشرعي عدة آراء (4) نذكر منها : -

ص: 469


1- تقدم الفرق بين التخيير الشرعي والتخيير العقلي ، ففي الأوّل يكون الحاكم بالتخيير بين الأفراد الشارع ، بان يتصدى الشارع نفسه لبيان أفراد التخيير فيقول مثلا : اعتق أو أطعم ، بينما في الثاني يكون الحاكم بالتخيير بين الأفراد هو العقل
2- ونتيجة هذا أن الواجب هو الأكثر حيث انّ خصوصية العتق التي هي خصوصية زائدة تكون واجبة
3- ونتيجة هذا ان الواجب هو الأقل حيث إنّ خصوصية العتق لا تكون واجبة. وبهذا يتضح الوجه في كون دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي من مصاديق دوران الأمر بين الأقل والأكثر
4- وأمّا حقيقة الوجوب التخييري العقلي فلم يقع فيها اختلاف وانّها عبارة عن وجوب الجامع الانتزاعي وهو عنوان الأحد فحينما يقول المولى آتني بكتاب ويفرض أنّ له عدة أفراد فالعقل يحكم بوجوب الإتيان باحدها.

1 - إنّ مرجع التخيير الشرعي الى وجوبات مشروطة بعدد الأفراد ويكون وجوب كل واحد منها مشروطا بترك بقية الأفراد ، فحينما يقال : أعتق أو أطعم فالمقصود العتق واجب ان لم تطعم ، والإطعام واجب إن لم تعتق.

وتوجيه هذا الاحتمال : انّه ما دام يوجد للمولى غرض واحد يتحقق بكل واحد من الأفراد فاللازم صيرورة كل واحد من الأفراد واجبا عند ترك بقية الأفراد تحصيلا لذلك الغرض الواحد.

2 - إنّ التخيير الشرعي لا يختلف عن التخيير العقلي بل هو هو ، فكما أنّ الوجوب في التخيير العقلي يكون متعلقا بعنوان أحد الأفراد كذلك في التخيير الشرعي يكون الوجوب متعلقا بعنوان أحد الأفراد ، فحينما يقال أعتق أو أطعم فالمقصود يجب أحدهما (1).

3 - إنّ مرجع التخيير الشرعي الى وجوبات بعدد الأفراد ويكون كل واحد منها مشروطا بترك بقية الأفراد ولكن لا لأجل وجود غرض واحد يحصل بكل واحد من الفردين كما كان يفترض ذلك في الرأي الأوّل بل لوجود اغراض متعددة بعدد الأفراد ، فالعتق له غرضه الخاص المستقل به والإطعام له غرضه الخاص أيضا إلاّ ان الغرضين متضادان بحيث لا يمكن عند حصول أحدهما تحصيل الآخر (2) ، ولأجل فرض هذا التضاد لم يأمر المولى بكل واحد

ص: 470


1- ممن بنى على هذا الرأي السيد الخوئي ( دام ظله ).
2- وهذا نظير شرب الشاي وأكل الرقي البارد فإنّ الإنسان لا يتناولهما عادة في وقت واحد ، وما ذاك إلاّ لأجل أن الغرض المقصود من شرب الشاي لا يجتمع مع الغرض من أكل الرقي البارد ، فلكل منهما غرض خاص به.

من الفردين أمرا تعيينيا بل أمر به مشروطا بترك الفرد الآخر (1).

وبعد عرض هذه المقدمة نأخذ ببيان حكم دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي وانّ الأصل هل يقتضي البراءة أو الإحتياط؟

إنّ التعرف على ذلك يرتبط بالمباني الثلاثة المتقدمة في حقيقة التخيير الشرعي : -

الحكم على المبنى الأوّل

1 - فإن أخذنا بالمبنى الأوّل القائل بانّ مرجع التخيير الشرعي الى وجوب كل فرد مشروطا بترك بقية الأفراد فالأصل يقتضي البراءة من وجوب العتق تعيينا لأنّ المكلّف عند تركه للإطعام وإن جزم بوجوب العتق إلاّ أنّه عند إتيانه بالإطعام يحصل له الشكّ في وجوب العتق - لاحتمال أنّ وجوبه تخييري ، وقد فرضنا على هذا المبنى أنّ الوجوب التخييري يرجع الى وجوب العتق مشروطا بترك الإطعام فعند الإتيان بالإطعام يزول وجوب العتق - فينفى وجوبه بأصل البراءة ، وهذا معناه بحسب النتيجة العملية التخيير بين العتق والإطعام لأنّ المكلّف إذا أعتق كان ممتثلا جزما - سواء كان وجوب العتق تعيينيا أم تخييريا - وإن أطعم كفاه أيضا لأنّ الشكّ في لزوم الإتيان بالعتق بعد تحقق الاطعام شكّ في أصل التكليف فينفى بالبراءة كما قلنا.

ص: 471


1- هذا الرأي لم تتقدم الإشارة له في القسم الأوّل.
شبهة الشيخ العراقي وجوابها

والشيخ العراقي قدس سره اختار لزوم الإحتياط (1) عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، بدعوى أنّه كما توجد في الوجوب التعييني حيثية إلزامية يقتضي أصل البراءة عدمها كذلك توجد في الوجوب التخييري حيثية إلزامية يقتضي أصل البراءة عدمها.

أمّا الحيثية الإلزامية في الوجوب التعييني فواضحة فإنّ العتق لو كان واجبا على سبيل التعيين فلازم ذلك عدم الإكتفاء بالإطعام وتحتم تحصيل العتق حتى في حالة إيجاد الإطعام. وهذه الحيثية حيثية إلزامية يشكّ في ثبوتها فتنفى بأصل البراءة فتجري البراءة لنفي تعين العتق في حق من أطعم.

وأمّا الحيثية الإلزامية في الوجوب التخييري فهي انّ التارك للعتق يحرم عليه ترك الإطعام لأنّه بترك الإطعام يتحقق ترك كلا فردي الواجب التخييري.

وهذه الحيثية ثابتة في الوجوب التخييري بالخصوص ، إذ على تقدير الوجوب التعييني للعتق يكون ترك العتق بنفسه محرما سواء انضم إليه ترك الإطعام أم لا ، إذ ترك الإطعام يكون مباحا ، وضمه الى ترك العتق يكون من باب ضم المباح الى الحرام.

وهذه الحيثية الإلزامية الثابتة على تقدير الوجوب التخييري حيث يشكّ

ص: 472


1- ليس المقصود من لزوم الإحتياط وجوب الإتيان بكلا الفردين : العتق والإطعام ، بل المقصود أحد أمرين : إمّا الإتيان بالعتق فقط أو الإتيان بالعتق بعد الإطعام لو فرض سبق الإطعام ، هذا هو المقصود من الإحتياط لأنّه بذلك يحصل اليقين ببراءة الذمة.

في ثبوتها فأصل البراءة يقتضي نفيها كما اقتضى نفي الحيثية الإلزامية الثابتة على تقدير الوجوب التعييني. وبتعارض أصلي البراءة في نفي الحيثيتين يكون العلم الإجمالي منجزا ويلزم الإحتياط ، وذلك امّا بان يأتي المكلّف بالعتق فقط أو بالعتق بعد الإطعام.

والخلاصة : انّه اتضح انّ الحكم على المبنى الأوّل من المباني الثلاثة في حقيقة التخيير الشرعي هو تخير المكلّف في مقام العمل بين العتق والإطعام واستندنا في ذلك الى أنّ المكلّف لو أطعم فسوف يشك في وجوب العتق ، وأصل البراءة يقتضي نفي وجوب العتق المشكوك. إننا بأصل البراءة هذا نفينا الحيثية الإلزامية للوجوب التعييني ، والشيخ العراقي حاول ابراز الحيثية الإلزامية للوجوب التخييري ونفيها بأصل البراءة ليكون ذلك معارضا لأصل البراءة الأوّل (1).

هذا حصيلة ما أفاده العلم المذكور وهو وإن كان مطلبا لطيفا إلاّ أنّه قابل للمناقشة ، فإنّ الأصل الذي أبرزه لا يمكن أن يجري حتى يكون معارضا للأصل الأوّل ، فإنّ الأصل الذي ابرزه لو جرى لكان لازمه الترخيص في ترك الإطعام في حق من ترك العتق ، وهذا ترخيص في ارتكاب المخالفة القطعية - فان ترك الإطعام في حق التارك للعتق مخالفة قطعية - وواضح أنّ الأصل لا يجري للترخيص في ارتكاب المخالفة القطعية.

وهذا بخلاف الأصل الأوّل الذي تمسكنا به وهو البراءة عن وجوب العتق في حق من أطعم فإنّ أقصى ما يلزم من جريانه المخالفة الإحتمالية لا المخالفة

ص: 473


1- والإلتفات الى هذا المطلب بحق التفات جميل وموضع للتقدير.

القطعية.

وعليه فالعلم الإجمالي بثبوت إحدى الحيثيتين الإلزاميتين وإن كان ثابتا إلاّ أنّه منحل حكما ، بمعنى عدم كونه منجزا لعدم تعارض الاصول في أطرافه.

الحكم على المبنى الثاني

2 - وإن أخذنا بالمبنى الثاني - القائل بأنّ التخيير الشرعي والتخيير العقلي ذو حقيقة واحدة حيث انّ الوجوب فيهما معا يكون متعلقا بالجامع الانتزاعي ، أي عنوان أحد الطرفين أو الأطراف - فالأمر يكون دائرا بين تعلق الوجوب امّا بمفهوم أحد الطرفين أو بخصوص العتق ، إذ على تقدير الوجوب التخييري يكون التكليف متعلقا بمفهوم أحد الطرفين وعلى تقدير الوجوب التعييني للعتق يكون التكليف متعلقا بخصوص العتق. وهذا معناه حصول علم إجمالي بين المتباينين ، فإنّ العتق مباين لمفهوم أحد الطرفين وليس أحدهما أقل والآخر أكثر.

ولكن هذا العلم الإجمالي رغم أنّه مردد بين المتباينين لا يكون منجزا لعدم تعارض الاصول في طرفيه ، فإنّ أصالة البراءة عن وجوب العتق تجري ولا تعارض بأصالة البراءة من وجوب مفهوم أحدهما ، إذ الغرض من إثبات البراءة عن أحدهما إن كان هو إثبات الترخيص في ترك مفهوم أحدهما في حق من أتى بالعتق فهذا مطلب غير معقول ، فإنّ الآتي بالعتق ات بمفهوم أحدهما ولا يمكن أن يكون تاركا له.

وإن كان الغرض هو إثبات الترخيص في ترك مفهوم أحدهما في حق من لم يأت بالعتق فهذا إثبات للترخيص في المخالفة القطعية ، والأصل لا يجري لإثبات

ص: 474

الترخيص في المخالفة القطعية.

اذن العلم الإجمالي بين المتباينين ثابت ولكنه ليس منجزا لعدم تعارض الاصول في أطرافه. وهذا نظير ما تقدم في المبحث السابق - دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي - عند الشكّ في ثبوت الوجوب لإكرام زيد أو لخصوص إطعامه ، حيث إتضح هناك تشكل علم إجمالي بين المتباينين لكنه ليس بمنجز لعدم تعارض الاصول في أطرافه.

الحكم على المبنى الثالث

3 - وإن أخذنا بالمبنى الثالث - القائل برجوع التخيير الشرعي الى وجوب كل فرد مشروطا بترك الآخر لأجل وجود غرضين لا يمكن مع حصول أحدهما تحصيل الآخر - فالمكلّف قبل إتيانه بالإطعام يعلم بقدرته على تحصيل الغرض من العتق وتعلق وجوب العتق به ولكن بعد إتيانه بالإطعام يشكّ في بقاء قدرته على تحصيل الغرض من العتق وإمكان امتثاله للتكليف ، ومعه يكون المورد من موارد الشكّ في طرو العجز وانتفاء القدرة ، وفي مثله يحكم العقل بالاشتغال ، فإنّ القدرة على إمتثال الحكم والإتيان بالملاك متى ما كانت متحققة في زمان وشكّ في انتفائها بعد ذلك فلا محيص عن الاحتياط عقلا.

قوله ص 188 س 9 : بعض إفادات إلخ : أي تقريرات درسه الشريف.

قوله ص 189 س 11 : فالبراءة عن وجوب العتق ممن أطعم : وهي البراءة التي تمسك بها السيد الشهيد على المبنى الأوّل المشار لها ص 188 س 7 من الحلقة.

قوله ص 190 س 4 : مطلقا : أي بالإطعام أو بغيره.

ص: 475

قوله ص 190 س 5 : وثالثا : نأخذ المبنى إلخ : هذا المبنى لم يشر له في القسم الأوّل من الحلقة الثالثة ، إلاّ أنّه مشار له في كلمات الآخوند في مبحث الوجوب التخييري.

ثم انّه أشرنا فيما سبق الى الفرق بين هذا المبنى والمبنى الأوّل ، وهو أنّه على الأوّل يوجد غرض واحد بينما على الثالث يوجد غرضان.

وهناك فرق آخر وهو انّه على الأوّل يكون عدم الإتيان بأحد الطرفين شرطا في إتصاف الطرف الآخر بالملاك فعلا ، بينما على الثالث يكون الملاك ثابتا بالفعل في كلا الطرفين حتى مع الإتيان بالطرفين معا غاية الأمر يكون المكلّف عاجزا عن تحصيل أحد الملاكين مع الإتيان بالطرف الآخر.

قوله ص 190 س 11 : هل يعجز : بتشديد الجيم.

ص: 476

ملاحظات عامة حول الأقل والأكثر

اشارة

قوله ص 191 س 1 : فرغنا من المسائل الأساسية إلخ : بعد فراغه قدس سره من المباحث الأساسية (1) في حالة تردد الواجب بين الأقل والأكثر أخذ في بيان بعض المطالب الجانبية التي ترتبط بذلك تحت عنوان ملاحظات عامة حول الأقل والأكثر (2).

الملاحظة الأولى أو دور الاستصحاب في هذا الدوران
اشارة

والملاحظة الاولى من هذه الملاحظات هي أنّ بعض الاعلام تمسك بالاستصحاب عند الدوران بين الأقل والأكثر.

والتمسك بالاستصحاب له شكلان فمرة يتمسك به لإثبات الاحتياط ولزوم الاتيان بالأكثر واخرى يتمسك به لإثبات البراءة وجواز الاكتفاء بالأقل.

وقبل استعراض هذين الشكلين للاستصحاب نذكر مقدمتين : -

1 - إنّ الاستصحاب ذو شكلين فتارة يكون استصحابا لأمر جزئي واخرى لأمر كلي.

ص: 477


1- كبيان أنّ حالة التردد بين الأقل والأكثر ذات مصاديق أربعة وبيان حكم كل مصداق.
2- والكتب القديمة تطلق على مثل هذه الملاحظات اسم التنبيهات.

أمّا استصحاب الجزئي فمثاله اليقين بحياة زيد سابقا والشكّ في بقائه على قيد الحياة بعد ذلك فيجري استصحاب بقائه. وهو استصحاب لأمر جزئي فإنّ حياة زيد أمر جزئي.

وأمّا استصحاب الكلي فهو على أقسام ثلاثة : -

أ - أن يتيقن من وجود كلي الإنسان في المسجد بسبب وجود زيد فيه ثم يشكّ في بقاء الكلي فيه بسبب الشكّ في بقاء زيد.

وفي هذه الحالة اتفق الاصوليون على صحة جريان استصحاب بقاء الكلي كما ويصح استصحاب بقاء الجزئي ، فإذا كان يترتب على بقاء كل منهما أثر صح استصحابها معا ، وإذا كان الأثر مترتبا على أحدهما فقط صح استصحاب ما يترتب عليه الأثر خاصة.

ومثاله الشرعي : ما إذا صار الإنسان محدّثا بسبب البول فإنّه يصح له استصحاب كلي الحدث وترتيب أثره إن كان له أثر خاص به كما ويصح استصحاب الحدث الجزئي الحاصل بسبب البول.

ب - ان يتيقن من وجود الكلي سابقا ضمن أحد فردين أحدهما طويل العمر والآخر قصير العمر ، كما إذا علم بوجود حيوان ذي خرطوم في الغرفة وشكّ أنّه البق أو الفيل - حيث إنّ كلا منهما له خرطوم - وبعد مضي يوم أو يومين شكّ في بقاء كلي الحيوان بسبب التردد في المصداق ، فإنّه إذا كان ذو الخرطوم هو الفيل فهو باق جزما وإن كان هو البق فهو ميت جزما فلتردد مصداق الكلي بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الإرتفاع يحصل الشك في بقاء الكلي.

ومثاله الشرعي : ما إذا أحدث الإنسان بحدث مردد بين الأصغر والأكبر

ص: 478

ثم توضأ فسوف يشكّ في بقاء كلي الحدث ، فإنّه إن كان حدثه أكبر فهو باق جزما وإن كان أصغر فهو مرتفع جزما.

والمشهور في هذا القسم جريان استصحاب الكلي. أجل لا يصح استصحاب الجزئي لأنّه إن كان المقصود استصحاب الحدث الأصغر فهو متيقن الإرتفاع بسبب الوضوء وإن كان المقصود استصحاب الحدث الأكبر فهو مشكوك الحدوث منذ البداية فلا معنى لاستصحابه.

ج - ان يتيقن من وجود الكلي ضمن فرد ثم يتيقن من ارتفاع الفرد ولكن يحتمل حدوث فرد آخر مقارن لارتفاع الأوّل ، كما إذا علم بوجود إنسان في المسجد ضمن زيد ثم علم بخروج زيد ولكن احتمل دخول عمرو حين خروج زيد.

ومثاله الشرعي ما إذا علم المكلّف بصدور كلي الحدث منه بسبب صدور الحدث الأصغر ثم توضأ وحصل له العلم بارتفاع الحدث الأصغر ولكنه شكّ في بقائه على كلي الحدث بسبب احتمال صدور الحدث الأكبر منه مقارنا لارتفاع الحدث الأصغر أو حينما كان الحدث الأصغر ثابتا.

والمشهور في هذا القسم عدم جريان استصحاب الكلي كما أنّ الجزئي لا يجري استصحابه ، فإنّ زيدا يعلم بخروجه فلا معنى لاستصحاب بقائه ، وعمروا لا يقين بحدوثه كي يستصحب. هذا حاصل المقدمة الاولى (1).

2 - إنّ المعروف بين الاصوليين عدم حجّية الأصل المثبت.

ص: 479


1- ويأتي مضمون هذه المقدمة في مبحث الاستصحاب إنشاء اللّه تعالى.

والمقصود منه إجراء الأصل في شيء لا لغرض اثبات ذلك الشيء ولا لاثبات لازمه الشرعي بل لإثبات لازمه غير الشرعي. فالأصل المثبت على هذا يعني إجراء الأصل في شيء لإثبات لازمه غير الشرعي ، كمن يستصحب بقاء ولده على قيد الحياة لا لغرض إثبات نفس الحياة ولا إثبات اللازم الشرعي للحياة - كارثه لو مات أحد أقربائه - بل لأثبات نبات لحيته الذي هو لازم غير شرعي ، إذ لا توجد آية أو رواية تقول من كان باقيا على قيد الحياة فلحيته نابتة. هذا حاصل المقدمة الثانية. وبعد ذلك نرجع الى ما كنا بصدده.

ذكرنا أنّ الاستصحاب اجري بشكلين فتارة اجري لاثبات وجوب الاحتياط واخرى لإثبات البراءة.

الاستصحاب لاثبات الاحتياط

أمّا الاستصحاب لإثبات الإحتياط فيمكن أن يقال في تقريبه انّ المكلّف قبل أن يشرع في الصلاة يعلم بثبوت وجوب عليه مردد بين وجوب تسعة أجزاء أو عشرة أجزاء ، فاذا أتى بتسعة أجزاء ولم يأت بالجزء العاشر فسوف يشكّ في بقاء وجوب الصلاة عليه لاحتمال أنّ الوجوب كان متعلقا بعشرة أجزاء والمفروض عدم امتثاله.

وفي هذه الحالة يمكن استصحاب الوجوب ولكن لا وجوب التسعة ليقال انّه ساقط جزما بسبب الاتيان بالأجزاء التسعة ولا وجوب العشرة ليقال بأنّ وجوبها ليس متيقنا سابقا كيما يستصحب ، بل يستصحب كلي الوجوب المردد بين وجوب التسعة ووجوب العشرة الذي هو من قبيل استصحاب الكلي من

ص: 480

القسم الثاني ، حيث إنّ الوجوب مردد بين ما هو باق قطعا وبين ما هو مرتفع قطعا فإنّ الوجوب الثابت إن كان وجوب التسعة فهو مرتفع جزما وإن كان وجوب العشرة فهو باق جزما.

وحيث انّ المفروض في استصحاب الكلي من القسم الثاني جريانه فيجري استصحاب كلي الوجوب ويثبت بذلك لزوم الاحتياط.

وقد نوقش هذا الاستصحاب بعدة مناقشات. ونحن نذكر هذه المناقشة : ما الغرض من استصحاب بقاء كلي الوجوب؟ فهل الغرض إثبات وجوب الجزء العاشر - أو بكلمة اخرى إثبات تعلق الوجوب بالأكثر - بتقريب أنّ وجوب الصلاة إذا كان باقيا ولم يسقط بالإتيان بالاجزاء التسعة فهذا معناه تعلق الوجوب بالأكثر ، أو أنّ الغرض مجرد إثبات بقاء الوجوب الكلي بلا إثبات تعلقه بالأكثر.

فإن كان الغرض هو الأوّل كان الاستصحاب أصلا مثبتا - وهو ليس بحجّة - اذ لا توجد آية أو رواية تقول اذا كان الوجوب الكلي باقيا بعد الاتيان بالاقل فلازم ذلك شرعا تعلق الوجوب بالأكثر وإنّما هي ملازمة عقلية.

وإن كان الغرض هو الثاني - أي مجرد إثبات بقاء كلي الوجوب - فالاستصحاب لا يكون مثبتا ولكنه ليس بنافع لأنّ الوجوب الكلي كان ثابتا على سبيل الجزم واليقين قبل الأشتغال بالصلاة ولم يكن مجديا في إثبات وجوب الاحتياط بل كانت البراءة تجري عن وجوب الأكثر - ولذا احتيج الى التمسك بالاستصحاب لأثبات وجوب الاحتياط - فكيف بثبوته الاستصحابي فإنّه أولى بعدم اقتضائه لوجوب الاحتياط.

ص: 481

الاستصحاب لإثبات البراءة

ويمكن أن يقال في تقريب الاستصحاب لإثبات البراءة انّه لو نظرنا الى زمان ما قبل دخول الوقت أو ما قبل التشريع الاسلامي أو الى صدر التشريع لجزمنا بعدم ثبوت الوجوب لا للتسعة أجزاء ولا للعشرة ، فإذا دخل الوقت جزمنا بانتقاض عدم ثبوت الوجوب للتسعة الى اليقين بثبوت الوجوب لها ، وأمّا عدم ثبوت الوجوب للعشرة - أو بالأحرى عدم ثبوت الوجوب للجزء للعاشر - فلا نجزم بانتقاضه بل نحتمل بقائه على العدم فيجري استصحاب بقائه. وبذلك تثبت نتيجة البراءة ، أي انتفاء وجوب العشرة أو بعبارة اخرى انتفاء وجوب الجزء العاشر ، وهو المطلوب.

وقد يقال انّ هذا الاستصحاب معارض باستصحاب آخر وهو استصحاب عدم تعلق الوجوب الاستقلالي بالتسعة ، فإنّه قبل دخول الوقت كنا نجزم بعدم تعلق الوجوب الاستقلالي بالتسعة ، فإذا دخل الوقت حصل الشكّ في تعلق الوجوب الاستقلالي بالتسعة - فإنّ التسعة بعد دخول الوقت وإن كنا نجزم بوجوبها ولكن بوجوب أعم من الاستقلالي والضمني ، وأمّا خصوص الوجوب الاستقلالي فلا نجزم بثبوته لها - فيجري استصحاب بقائه على العدم.

والجواب عن هذه المعارضة : إن استصحاب عدم تعلّق الوجوب الاستقلالي بالتسعة لا يجري ، إذ الغرض منه إن كان هو إثبات تعلّق الوجوب الاستقلالي بالعشرة أو بالأحرى ثبوت الوجوب للجزء العاشر ، فهذا أصل مثبت إذ لم تدلّ آية ولا رواية على أنّ الوجوب الاستقلالي إذا لم يثبت للتسعة

ص: 482

فالجزء العاشر واجب.

وإن كان الغرض إثبات الترخيص في ترك التسعة فهذا إثبات للترخيص في المخالفة القطعيّة ، فإنّ ترك التسعة معناه ترك الأقل وترك الأكثر ، وهو مخالفة قطعيّة للوجوب ، والأصل لا يجري للتأمين عن المخالفة القطعية.

ومن خلال بطلان هذا الأصل المعارض يتّضح صحّة جريان استصحاب عدم تعلّق الوجوب بالجزء العاشر الثابت قبل دخول الوقت لإثبات البراءة.

قوله ص 191 س 5 : لإثبات نتيجة البراءة : أي انتفاء الوجوب عن الجزء العاشر أو انتفاء تعلّق الوجوب بالأكثر.

قوله ص 192 س 2 : لأنّ ذلك هو لازم بقائه : أي لأنّ ثبوت الوجوب للعشرة هو لازم بقاء كلّي الوجوب.

قوله ص 192 س 3 : لأنّه لازم عقلي أي ثبوت الوجوب للعشرة لازم عقلي لبقاء كلّي الوجوب.

قوله ص 192 س 9 : الثابت : صفة لعدم وجوب لا لوجوب.

قوله ص 192 س 9 : أو في صدر عصر التشريع : أو قبل البلوغ أو قبل عصر التشريع أو عند الجنون - إن كانت هناك حالة جنون سابقة - فإنّه في كلّ هذه الحالات لم يكن وجوب للجزء العاشر فيجري استصحاب بقائه.

ص: 483

ص: 484

الملاحظة الثانية أو الدوران بين الجزئيّة والمانعيّة

قوله ص 192 س 16 : إذا تردّد أمر شيء إلخ : والملاحظة الثانية من الملاحظات المرتبطة ببحث الأقل والأكثر هي أنّه إذا دار أمر الشيء بين أن يكون جزء أو مانعا فما هو الموقف؟

مثال ذلك : ما إذا شكّ المصلّي في قراءة السورة بعد دخوله في القنوت الذي هو جزء مستحب ، فإنّ الشكّ المذكور إن كان يصدق عليه عنوان الشكّ بعد تجاوز المحل - بناء على أنّ التجاوز عن المحل يتحقّق بالدخول في الجزء المستحب أيضا - فلا يجب الاتيان بالسورة بل يكون الاتيان بها مانعا من صحّة الصلاة ، لأنّه زيادة مبطلة ، وإن لم يصدق عنوان الشكّ بعد تجاوز المحل فالاتيان بها واجب ويكون جزء من الصلاة. اذن الاتيان بالسورة في هذه الحالة يدور أمره بين الجزئيّة والمانعيّة ، فما هو الموقف؟

والجواب : انّه في الحالة المذكورة يحصل علم اجمالي امّا بوجوب الاتيان بالسورة أو بوجوب عدمه. وأصل البراءة عن الطرف الأوّل حيث انّه معارض بأصل البراءة عن الطرف الثاني فيكون العلم الاجمالي منجّزا ويجب الاحتياط بمعنى وجوب إكمال الصلاة بلا تكرار السورة ثمّ إعادتها مع السورة من جديد.

هذا إن كان في الوقت سعة ، وإلاّ اكتفي بإكمال الصلاة لمنجزيّة العلم الاجمالي.

ص: 485

وفي مقابل هذا قد يقال بأنّ العلم الاجمالي السابق ليس منجّزا لأنّ الركن الرابع من أركان منجّزيّة العلم الاجمالي - على ما مر ص 110 من الحلقة - يقول إنّ العلم الاجمالي لا يكون منجّزا إلاّ إذا كان جريان الاصول في الأطراف موجبا للترخيص في المخالفة القطعيّة (1) ، وواضح أنّ الركن المذكور غير متوفر لأنّ جريان الاصول لا يثبت جواز المخالفة القطعيّة ، إذ المكلّف امّا أن يأتي بالسورة ، وفي ذلك احتمال الموافقة واحتمال المخالفة - ولا يحصل القطع بالمخالفة ، أو يتركها ، وفي ذلك أيضا احتمال الموافقة والمخالفة ولا يقطع بالمخالفة.

فإن قيل : إن جريان الاصول في الأطراف يلزم منه المخالفة القطعيّة ، فإنّ المكلّف إذا ترك الصلاة ولم يأت بها أصلا تحقّقت بذلك المخالفة القطعيّة.

قلنا : صحيح انّه بترك الصلاة رأسا تتحقّق المخالفة القطعيّة ، ولكن مثل هذه المخالفة القطعيّة لم تنشأ من جريان الاصول في الأطراف - فإنّ أقصى ما ينشأ من جريان الاصول في الأطراف الترخيص في فعل السورة وفي تركها ، ولا ينشأ منه جواز ترك الصلاة رأسا - بل ذاك ناشىء من ترك الاجزاء معلومة الوجوب.

أجل يمكن أن يكون جريان الاصول في الأطراف في مقامنا موجبا للترخيص في المخالفة القطعيّة فيما إذا كان الجزء المشكوك ممّا يعتبر فيه قصد القربة على تقدير جزئيته كما هو الحال في السورة ، فإنّه على تقدير وجوب الاتيان بها

ص: 486


1- هذا بناء على صيغة الميرزا للركن الرابع. وأمّا على صيغة السيّد الخوئي القائلة بأنّ شرط منجّزيّة العلم الاجمالي أن يكون جريان الاصول موجبا لترخيص الشارع في المخالفة وإن لم تلزم المخالفة القطعيّة بالفعل ، فالركن الرابع متوفر لأنّه بجريان أصل البراءة في الطرفين يقطع بترخيص الشارع في المخالفة وإن لم تلزم المخالفة القطعيّة بالفعل.

يلزم الاتيان بها بقصد القربة ، فإذا جرى الاصل عن وجوب الاتيان بالسورة وعن وجوب عدمه جاز للمكلّف الاتيان بها ولو من دون قصد القربة ، وبذلك تتحقّق المخالفة القطعيّة ، فإنّه على تقدير جزئيّة السورة فالمفروض أنّه لم يأت بها بقصد القربة ، وعلى تقدير المانعيّة فالمفروض أنّه لم يتركها (1).

ص: 487


1- هذا ويمكن ان يقال انّ جريان الأصلين لا يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعيّة ، أذ جريانهما يقتضي جواز الاتيان بالسورة بقصد القربة وجواز ترك السورة ولا يقتضي جواز الاتيان بها بدون قصد القربة حتى تتحقّق المخالفة القطعيّة.

ص: 488

الملاحظة الثالثة أو الأقل والأكثر في المحرّمات

التردّد بين الأقل والأكثر تارة يكون في باب الواجبات ، واخرى في باب المحرّمات.

مثال التردّد في الواجبات : تردّد أجزاء الصلاة بين التسعة والعشرة.

ومثال التردّد في المحرّمات : ما إذا فرض حرمة تصوير الإنسان وحصل التردّد في أنّ المحرّم هل تصوير الإنسان بكامل أجزائه أو المحرّم تصوير رأسه بالخصوص وإن لم يضم له تصوير باقي الأجزاء.

وحرمة تصوير الإنسان الكامل معناها بعبارة اخرى تعلّق الحرمة بالأكثر ، بينما حرمة تصوير الرأس بالخصوص معناها بعبارة اخرى تعلّق الحرمة بالأقل فيكون الحرام مردّدا بين الأقل والأكثر.

وكلامنا إلى الآن كان في تردّد الواجب بين الأقل والأكثر. وأمّا تردّد الحرام بين الأقل والأكثر فهل فيه موضع اختلاف مع تردّد الواجب أو أنّ التردّد في كلا البابين من واد واحد ولا يوجد أي اختلاف بينهما؟

والميرزا نفى وجود امتياز بين البابين. هذا ولكن بالإمكان إبراز فرقين : -

1 - لو نظرنا إلى تردّد الواجب وجدنا أنّ تعلّق الوجوب بالأكثر فيه تضييق ومؤونة على المكلّف أكبر ممّا لو كان الوجوب متعلّقا بالأقل ، فإنّ تعلّق الوجوب بالأكثر يعني لزوم الاتيان بعشرة أجزاء بينما تعلّقه بالأقل يعني لزوم

ص: 489

الاتيان بتسعة ، ومن الواضح انّ الاتيان بالعشرة يشتمل على مشقّة أكبر لاشتمال العشرة على زيادة مفقودة في التسعة.

بينما لو نظرنا إلى تردّد الحرام وجدنا القضيّة بالعكس ، فحرمة الأقل فيها تضييق على المكلّف أكبر ممّا لو كانت الحرمة متعلّقة بالأكثر إذ حرمة الأقل تعني حرمة رسم الرأس حتى مع عدم ضم بقية الأجزاء ، بينما حرمة الأكثر تعني عدم حرمة رسم الرأس وحده وإنّما يحرم لو انضمّ رسمه إلى رسم بقيّة الأجزاء.

2 - إنّ التردد بين الأقل والأكثر في باب الواجبات كانت له مصاديق متعددة ، فمنها الشكّ في الجزئية ، ومنها الشكّ في الشرطية ، ومنها التردد بين التعيين والتخيير.

وأمّا التردد بين الأقل والأكثر في باب المحرمات فليست له جميع هذه المصاديق بل ينحصر في مصداق واحد ، وهو التردد بين التعيين والتخيير ، فحينما تتردد حرمة التصوير بين الرأس وكامل الجسم فهذا معناه تردد الحرام بين التعيين والتخيير ، فإنّ حرمة تصوير كامل الجسم تعني أنّ المكلّف يجب عليه ترك تصوير بعض الإجزاء فهو امّا ان يترك تصوير الرأس أو يترك تصوير اليد ، وهكذا ، إنّه يجب عليه على سبيل التخيير ترك رسم أحد الأجزاء ، بينما حرمة تصوير الرأس تعني وجوب ترك تصوير خصوص الرأس وتعين ذلك بالخصوص عليه.

إذن تردد حرمة التصوير بين كامل الجسم وخصوص الرأس تعني بعبارة اخرى التردد بين التخيير والتعيين.

وما دام التردد بين الأقل والأكثر في باب المحرمات يعني التردد بين التعيين

ص: 490

والتخيير فما ذكرنا من الحكم حالة التردد بين التعيين والتخيير يجري نفسه حالة تردد المحرم بين الأقل والأكثر.

وقد ذكرنا حالة تردد الواجب بين تعين العتق والتخيير بين العتق والإطعام انّ الأصل يجري لنفي تعين العتق ، إذ في تعينه كلفة وضيق زائد على المكلّف فينفى بالأصل ، وهذا بخلاف التخيير بين العتق والإطعام فإنّ الأصل لا يجري لنفيه إذ الحيثية الإلزامية الثابتة للوجوب التخييري هي حرمة ضم ترك الإطعام الى ترك العتق ، وواضح أنّ مثل هذه الحرمة لا تجري البراءة لنفيها لأن لازمها الترخيص في المخالفة القطعية.

إنّ هذا نفسه يجري حالة تردّد الحرام بين الأقل والأكثر ، فحرمة الأقل حيث تشتمل على ضيق زائد على المكلّف فالأصل يجري لنفيها ، وأمّا حرمة الأكثر فلا تجري البراءة عنها إذ حرمة تصوير الجسم بكامله قضية جزمية فجريان البراءة عنها يعني الترخيص في المخالفة القطعية ، والأصل لا يجري إذا لزم منه ذلك.

ص: 491

ص: 492

الملاحظة الرابعة أو الشبهة الموضوعية للأقل والأكثر
اشارة

إنّ التردد بين الأقل والأكثر له حالتان فتارة يكون في شبهة حكمية واخرى في شبهة موضوعية ، فالمكلّف إذا شكّ في شرطية عدم لبس الثوب المصنوع من حيوان لا يحل أكل لحمه شرعا ولم يحصل له اليقين بجعل الشرطية المذكورة حصل له التردد بين الأقل والأكثر ، فإن كانت الشرطية ثابتة فمعناه وجوب الأكثر وإن لم تكن ثابتة فمعناه تعلق الوجوب بالأقل.

وهذا التردد كما نراه نشأ من الشكّ في أصل الجعل فلم يعلم أنّ الشارع جعل الشرطية المذكورة أو لا.

إنّ مثل هذه الشبهة شبهة حكمية حيث انّ الشكّ فيها شكّ في أصل الجعل والحكم الكلي ، ومتى ما كان الشكّ في أصل الجعل والحكم الكلي كانت الشبهة حكمية.

أمّا إذا فرض انّا على يقين من جعل شرطية عدم لبس الثوب المصنوع من حيوان لا يحل أكل لحمه ولم نكن على شكّ من ذلك حتى تكون الشبهة حكمية وإنّما كان الشكّ في المصداق الخارجي ، كما لو أهدي لنا ثوب ولم نعلم انّه مصنوع من حيوان لا يحل أكل لحمه حتى تكون صحة الصلاة مشروطة بعدم لبسه أو هو غير مصنوع من ذلك حتى لا تكون صحة الصلاة مشروطة بذلك ، ففي هذا المثال يحصل الشكّ في شرطية عدم لبس الثوب المذكور ، وهذا شكّ في الشرطية في

ص: 493

شبهة موضوعية حيث يشكّ في شرطية عدم لبس هذا الثوب بالخصوص ولا يشكّ في أصل جعل الشرطية.

ونحن قد عرفنا سابقا أنّ الشكّ في الشرطية في الشبهة الحكمية مجرى للبراءة ، فالأقل معلوم الوجوب والشرطية المشكوكة تجري البراءة لنفيها.

وعلينا الآن أن نعرف حكم الشكّ في الشرطية في باب الشبهة الموضوعية ، فاذا شك في شرطية عدم لبس هذا الثوب المهدى فهل تجري البراءة أيضا أو لا (1)؟ نعم تجري البراءة حيث انّ الأجزاء والشرائط الأقل يعلم بوجوبها فإذا شكّ في الشرطية الزائدة جرت البراءة لنفيها ، فيقال إنّ لبس هذا الثوب المهدى يشكّ في مانعيته أو بعبارة اخرى يشكّ في شرطية عدمه أو بعبارة ثالثة يشكّ في تقيد الصلاة بعدمه ، والأصل يقتضي البراءة من ذلك.

سؤال وتوضيح

إنّ الشرط الواجب في الصلاة أو الجزء الواجب فيها له حالتان ، فتارة يكون له موضوع في الخارج يتعلق به ، واخرى لا يكون له ذلك.

مثال الأوّل : لبس الثوب المصنوع ممّا يحل أكل لحمه ، فإنّ اللبس شرط في

ص: 494


1- وهذه هي المسألة المعروفة بمسألة اللباس المشكوك ، فإنّ من إحدى المسائل التي بحثها الفقهاء ووقعت معتركا لآرائهم هي المسألة المذكورة. وحاصلها : إنّ من كان يلبس لباسا يشكّ في كونه من حيوان يحل أكل لحمه أو لا ، أو فرض ان على بدنه شعرة يشكّ هي من حيوان يحل أكل لحمه أو لا فما هو الموقف؟ والفقهاء حينما عالجوا المسألة المذكورة من زاوية الاصول العملية قالوا إنّ الأصل يقتضي عدم مانعية لبس الثوب المذكور أو بتعبير آخر عدم شرطية عدم لبسه.

صحّة الصلاة وهو واجب ضمني فيها - فإنّ كل شرط واجب ضمني - واذا لاحظناه وجدناه متعلقا بموضوع خارجي فلا بدّ من وجود ثوب في الخارج ليكون لبسه شرطا في صحّة الصلاة ، فالواجب الضمني المذكور - وهو اللبس - له تعلق بموضوع خارجي.

ومثال الثاني : السورة في الصلاة ، فإنّها جزء وواجب ضمني في الصلاة - فإنّ كل جزء واجب ضمني - إلاّ أنّه ليس لها تعلق بموضوع خارجي فلا يوجد موضوع في الخارج تكون السورة متعلقة به.

وباتضاح هذا نقول : إنّ تحقق التردد بين الأقل والأكثر في الشبهة الموضوعية واضح في الحالة الاولى ، أي حالة تعلق الواجب الضمني بموضوع خارجي فيمكننا بوضوح تصور الأقل والأكثر ، حيث يشار الى الثوب الخارجي المهدى ويقال إنّ شرطية عدم لبسه مشكوكة ، فإن كان عدم لبسه شرطا فمعناه وجوب الأكثر وإن لم يكن شرطا فمعناه وجوب الأقل. إنّ هذا تردد بين الأقل والأكثر في شبهة موضوعية ، وهو واضح.

والسؤال الذي نريد طرحه هو : انّ الحالة الثانية - التي لا يوجد فيها موضوع خارجي يتعلق به الواجب الضمني - هل يمكن فيها أيضا تصور التردد بين الأقل والأكثر أو لا؟ أجاب الميرزا عن هذا السؤال بالنفي وقال إنّه لا يمكن التردد بين الأقل والأكثر في الحالة الثانية.

والنكتة في ذلك تكاد أن تكون واضحة إذ لا يوجد موضوع في الخارج ليشار له ويقال إنّا نشكّ في شرطيته أو جزئيته حتى يحصل بذلك التردد بين الأقل والأكثر ، وهذا بخلافه في الحالة الاولى إذ يوجد ثوب خارجي يمكن أن

ص: 495

يشار له ويقال إنّا نشكّ في أنّ عدم لبسه شرط أو لا فيحصل التردد بين الأقل والأكثر.

هذا ما أفاده الميرزا.

هذا والصحيح إمكان تصور التردد بين الأقل والأكثر في الحالة الثانية أيضا ، كما لو فرضنا أنّ الشارع جعل السورة جزءا في حق غير المريض وشكّ المكلّف أنّه مريض أو لا ، إنّ شكه في حالته وانّه مريض أو لا يستلزم الشكّ في ثبوت جزئية السورة في حقه ، فإن كان مريضا فالسورة لا تكون جزءا في حقه ويكون الواجب حينذاك هو الأقل ، وإن لم يكن مريضا فالسورة جزء في حقه ويكون الواجب حينذاك هو الأكثر.

قوله ص 196 س 1 : للواجب الضمني : أي الجزء أو الشرط ، فإنّ كلا منهما واجب بوجوب ضمني.

قوله ص 196 س 3 : كما في هذا المثال : أي مثال الشكّ في أنّ هذا اللباس هل هو ممّا لا يؤكل لحمه أو لا.

ص: 496

الملاحظة الخامسة أو الشكّ في اطلاق دخالة الجزء أو الشرط
اشارة

قوله ص 196 س 9 : كنا نتكلم عمّا إذا شكّ إلخ : الشكّ في جزئية شيء أو شرطيته له حالتان ، فتارة يشكّ في أصل ثبوت الجزئية والشرطية فلا يعلم أن الشارع هل جعل السورة جزءا أو لا ، واخرى يفرض العلم بجعل السورة جزءا ولكن يشك في ضيق الجعل وسعته ، فلا يعلم هل جعلت السورة جزءا حتى في حالة السفر والمرض مثلا أو أن يد الجعل لم تمتد الى هذه الحالات.

وحديثنا السابق كان كله ناظرا الى الحالة الاولى ، أي حالة الشكّ في أصل جعل الجزئية أو الشرطية ، وكنا نقول انّ الأقل حيث انّه متيقن الوجوب فتجري البراءة عن وجوب الجزء الزائد المشكوك.

وأمّا الحالة الثانية - أي الشك في شمول الجزئية لحالة المرض مثلا - فهي محط بحثنا الآن.

والحكم فيها هو الحكم في الحالة الاولى ، إذ في هذه الحالة يشك أيضا في جعل الجزئية للسورة ، فالأقل معلوم الوجوب ، والجزء الزائد وهو السورة يشكّ في وجوبه فتجري البراءة عنه.

أجل الفرق بين الحالتين انّه في الحالة الاولى يشكّ في جعل الجزئية للسورة لا في حالة معينة بل في جميع الحالات ، وأمّا في الحالة الثانية فيشكّ في جعل الجزئية في حالة معينة ، وهي حالة المرض فيحصل التردد بين الأقل

ص: 497

والأكثر بلحاظ حالة المرض ، ففي حالة المرض تتردد الأجزاء بين العشرة والتسعة ويشكّ في أن السورة جزء أو لا ، فتجري البراءة عن وجوب السورة بعد أن كان وجوب بقية الأجزاء معلوما.

هذا إذا لم يكن لدليل جزئية السورة إطلاق يثبت بواسطته عموم جعل الجزئية لحالة المرض ، وأمّا مع وجود الإطلاق فيؤخذ بالإطلاق وتثبت به جزئية السورة في حالة المرض أيضا (1).

وهذا كله على العموم مما لا اشكال فيه. وإنّما وقع الإشكال في حالتين : حالة نسيان بعض الأجزاء ، حيث يوجد للشيخ الأعظم اشكال فيها وحالة تعذر بعض الأجزاء. وسوف نأخذ بالتكلم عن هاتين الحالتين.

الحالة الاولى
اشارة

اذا علم المكلّف بأنّ السورة جزء ولم يكن له شكّ في ذلك ولكنه لم يأت بها نسيانا ثم التفت الى نفسه بعد الصلاة وتذكر عدم الإتيان بها فما هو الموقف في هذه الحالة؟

ومن الطبيعي حينما نطرح هذا السؤال نقطع النظر عن الروايات الخاصة

ص: 498


1- أجل لئن كان هناك فارق بين الحالتين فالفارق هو أنّه في الحالة الثانية لا بدّ من ملاحظة دليل جزئية السورة ليرى هل فيه إطلاق يدل على جعل الجزئية حتى في حالة المرض أو لا ، فان كان له إطلاق فلا تصل النوبة الى إجراء البراءة وإلاّ تمسك بالبراءة. وهذا بخلافه في الحالة الاولى فإنّه يتمسك بالبراءة ابتداء ومباشرة ، إذ الشكّ ليس في سعة الجزئية وضيقها ليتمسك بالإطلاق لإثبات سعتها بل في أصل ثبوتها.

التي قد يستفاد منها صحّة الصلاة وعدم وجوب الإعادة مثل حديث لا تعاد (1) وغيره. إنّا نريد التعرف على الموقف بمقتضى القاعدة الأولية وبقطع النظر عن الروايات الخاصة.

وقد قال المشهور في تحديد الموقف حالة النسيان : إنّه لا بدّ من ملاحظة دليل جزئية السوره مثلا فإن كان له إطلاق يدل على ثبوت الجزئية وشمولها لحالة النسيان فاللازم الحكم ببطلان الصلاة ، فإنّ السورة إذا كانت جزء ولم يات بها المكلّف فلازمه اختلال المركب - فإنّ المركب عدم عند عدم بعض اجزائه - واختلاله عبارة اخرى عن بطلانه.

والحكم بالبطلان لا يفرق فيه بين أن يكون التذكر وارتفاع النسيان أثناء الوقت أو بعد انتهاءه (2). هذا إذا كان لدليل الجزئية إطلاق.

وإن لم يكن له إطلاق يدل على ثبوت الجزئية للسورة حالة النسيان

ص: 499


1- وهو ما رواه الشيخ الصدوق بسنده الصحيح الى زرارة عن أبي جعفر علیه السلام قال : « لا تعاد الصلاة الاّ من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود. ثم قال علیه السلام : « القراءة سنّة والتشهد سنّة والتكبير سنّة ، ولا تنقض السنّة الفريضة » الوسائل باب 1 من أبواب أفعال الصلاة حديث 14.
2- والحكم ببطلان الصلاة عند ترك السورة نسيانا عبارة اخرى عن ركنية السورة ، فإنّ أجزاء الصلاة على قسمين فبعضها أركان وبعضها الآخر ليس بأركان. والمراد من الركن ذلك الجزء الذي لو ترك نسيانا بطلت الصلاة في مقابل غير الركن الذي لا تبطل الصلاة بتركه نسيانا. ودليل الجزئية إذا كان له إطلاق يدل على ثبوت الجزئية حالة النسيان فلازمه كون الجزء ركنا ، أي أنّه جزء حالة النسيان وتبطل الصلاة بتركه نسيانا ، فالإطلاق اللفظي لو كان ثابتا فهو يقتضي الركنية.

فالموقف ينتهي الى الأصل العملي وهو يقتضي البراءة حيث يشكّ في جزئية السورة حالة النسيان ويتردد الأمر بين الأقل والأكثر ، فالأجزاء الأقل معلومة الوجوب والجزء الزائد - وهو السورة - يشكّ في وجوبه فتجري البراءة عنه.

هذه مقالة المشهور في تحديد الموقف عند ترك الجزء نسيانا.

التعليق على مقالة المشهور

ويمكن التعليق على مقالة المشهور هذه بأنّ النسيان تارة يكون مستوعبا لتمام الوقت واخرى يرتفع أثناءه.

فاذا كان مستوعبا لجميع الوقت فالمكلّف يعلم بأنّه لم يكلف بعشرة أجزاء بما في ذلك السورة بل هو مكلّف بالأقل أي بما عدا السورة. وكيف يكلف بالعشرة مع عدم تمكنه من الإتيان بها - العشرة - لفرض النسيان ، بل تكليفه متعلق جزما بالتسعة ، والمفروض قد امتثله وسقط ولكنه يشكّ في حدوث تكليف جديد له بالقضاء بعد ارتفاع نسيانه خارج الوقت ، وهذا شكّ في حدوث تكليف جديد فتجري البراءة منه.

هكذا ينبغي أن يقال في صورة استيعاب النسيان لجميع الوقت. ولا وجه لما قاله المشهور من أنّه مع افتراض وجود إطلاق لدليل جزئية السورة يأخذ به ويحكم ببطلان الصلاة ، انّ هذا لا معنى له ، إذ بعد استيعاب النسيان لجميع الوقت لا يمكن التكليف بالعشرة حتى يقال بأنّ الإتيان بالتسعة باطل بل التكليف - ان كان - فهو متعلق بالتسعة جزما ، غاية الأمر يشكّ في وجوب القضاء بعد الوقت

ص: 500

فتجري البراءة منه حتى ولو لم نقبل جريان البراءة عند الشكّ في الجزئية (1) ، إنّ البراءة تجري حتى على التقدير المذكور إذ الفرض إجراء البراءة عن وجوب القضاء المشكوك لا عن جزئية بعض الأجزاء.

هذا كله حالة استيعاب النسيان لتمام الوقت.

وأمّا حالة إرتفاع النسيان داخل الوقت فالمكلّف يحصل له علم إجمالي بانّه امّا مكلف بإحدى الصلاتين - الناقصة أو التامّة - أو أنّه مكلّف بخصوص الصلاة التامة ، وهذا من الدوران بين الأقل والأكثر ، فوجوب الجامع - أي إحدى الصلاتين - معناه وجوب الأقل إذ لا يكون المكلّف ملزما بخصوص الصلاة التامّة بينما الطرف الثاني وهو وجوب خصوص الصلاة التامة يمثل وجوب الأكثر. وحيث انّ وجوب الأقل معلوم فلا تجري البراءة لنفيه وتجري لنفي وجوب الأكثر بلا معارضة.

ثم لا يخفى أنّ لازم وجوب الجامع - أي إحدى الصلاتين - عدم ثبوت جزئية السورة في حق الناسي إذ لو كانت ثابتة لكان لازم ذلك عدم الإكتفاء بإحدى الصلاتين بل تعين الصلاة التامة ، بينما لازم وجوب خصوص الصلاة التامّة ثبوت جزئية السورة في حق الناسي أيضا.

إشكال الشيخ الأعظم في الناسي

ذكرنا أخيرا ان لازم وجوب الجامع - أي إحدى الصلاتين - اختصاص

ص: 501


1- وإن شئت قلت : يتشكل لدى المكلّف علم إجمالي إمّا بصحّة التسعة التي أتى بها أو بوجوب القضاء عليه ، وحيث انّ صحّة التسعة لا معنى لإجراء البراءة عنها لعدم كونها تكليفا فتجري عن وجوب القضاء بلا معارض.

جزئية السورة بالمتذكر وعدم عموميتها للناسي.

والشيخ الأعظم قدس سره ذكر أنّ اختصاص الجزئية بالمتذكر وعدم عموميتها للناسي أمر مستحيل ، إذ لا يمكن أن يقال للناسي انّ الواجب في حقك الأقل ولست ملزما بالسورة لأنّ الناسي لا يلتفت الى كونه ناسيا حتى يتقبل مثل الخطاب المذكور بل يرى نفسه متذكرا وليس ناسيا ، وبمجرد أن يتوجه الى كونه ناسيا يصير متذكرا ويكون الثابت في حقه الأكثر لا الأقل.

واذا قال قائل إنّ المحذور يتم لو فرض توجيه الخطاب الى عنوان الناسي لكن لم لا يوجه الى عنوان المكلّف من دون أخذ عنوان الناسي.

فجوابه ان لازم هذا ثبوت الأقل في حق المتذكر أيضا ، فالمتذكر لا يكون مطالبا إلاّ بالأقل ، وهو باطل لأنّه مطالب بالأكثر.

والخلاصة : إنّ تكليف الناسي بالأقل غير ممكن لعدم إمكان إيصال الخطاب له ، إذ الخطاب المشتمل على عنوان الناسي لا يراه متوجها إليه ، والخطاب المشتمل على عنوان المكلّف لازمه ثبوت الأقل في حق المتذكر أيضا.

والشيخ الأعظم بعد عرضه لهذا الإشكال خرج بهذه النتيجة : انّه متى ما كانت السورة - أو غيرها من الاجزاء - جزء فمن اللازم أن تكون جزء في حق جميع المكلفين المتذكر منهم والناسي ، غاية الأمر من المحتمل إجزاء الأقل الذي أتى به الناسي عن الأكثر الثابت في حقه ، فهو مكلف بالعشرة ولكنه يحتمل سقوط ذلك بالإتيان بالتسعة ، وهذا حيث إنّه شكّ في سقوط التكليف فيكون موردا للاشتغال ، إذ بعد ثبوت التكليف بالعشرة في حق الناسي فمن اللازم تحصيل اليقين بسقوط التكليف المذكور عن ذمته ولا يكتفى باحتمال سقوطه

ص: 502

بالاتيان بالتسعة ، فإنّ الإشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

وعلى هذا فالنتيجة التي انتهى إليها الشيخ الأعظم تغاير النتيجة التي انتهى إليها غيره من الاعلام فهو قد انتهى الى أنّ الناسي تلزمه الصلاة مع السورة بعد ارتفاع نسيانه بينما غيره انتهى الى البراءة.

هذا ويمكن ردّ الشيخ الأعظم بأنّ بالإمكان تكليف الناسي بنحو لا يرد عليه أي محذور وذلك بالشكل التالي : يا أيها المكلّف تجب عليك إمّا التسعة المقرونة بالنسيان أو العشرة (1). إنّ خصوصيات هذا الخطاب متعددة : -

أ - فهو موجه الى عنوان المكلّف دون عنوان الناسي.

ب - ووجوب التسعة ليس مطلقا بل مقيد بالنسيان.

ج - والتكليف فيه لم يتعلق بخصوص العشرة بل بالجامع بينهما ، فالوجوب متعلق باحدهما والمكلّف مخير بين الإتيان بالتسعة شريطة أن يكون ناسيا وبين الإتيان بالعشرة.

وبناء على تصوير التكليف بهذا الشكل لا يرد إشكال لزوم اكتفاء المتذكر بالتسعة لأنّ المفروض أنّ التكليف لم يتعلق بالتسعة مطلقا بل شريطة النسيان ، فالمتذكر لا يكتفى منه بالتسعة على هذا.

كما ولا يرد إشكال أنّ الناسي كيف يوجه له الخطاب مع عدم التفاته الى نسيانه لأنّ المفروض تعلق التكليف بعنوان المكلّف دون الناسي.

أجل غاية ما يمكن أن يقال انّ الناسي حينما يأتي بالتسعة يتخيل أنّه لم ينس

ص: 503


1- والجامع بهذا الشكل مرت الإشارة له في الحلقة ص 198 س 10.

شيئا وأتى بالمركب بكامل أجزائه. وبكلمة اخرى يتخيل أنّه قد أتى بأفضل الحصتين والحال أنّه قد أتى بأقلهما فضلا ، إذ قد أتى بالتسعة ولم يأت بالعشرة.

وهذا وإن كان صحيحا إلاّ أنّه لا يشكّل محذورا وإشكالا.

جواب الآخوند الخراساني

والجواب المتقدم أولى من جواب جملة من المحققين كالشيخ الخراساني والنائيني فإنهم ذكروا في ردّ الشيخ الأعظم انّ بالإمكان تكليف الناسي بالأقل بوسيلة أمرين ، فيصدر المولى أوّلا أمرا بالاجزاء التسعة موجها الى طبيعي المكلّف الأعم من المتذكّر والناسي ثم يصدر أمرا ثانيا بالجزء العاشر في حق المتذكر خاصة ، فيقول أوّلا : يا أيها المكلّف يجب عليك تسعة أجزاء ويقول ثانيا : يا أيها المتذكر يجب عليك الجزء العاشر.

وهذا الجواب قابل للتأمل ، إذ ما المقصود من تعلق الوجوب بالأقل في الخطاب الأوّل : -

1 - فهل المقصود تعلق الوجوب بالتسعة مقيدة بالجزء العاشر.

وهذا باطل إذ لازمه أنّ الناسي لم يكلف بالتسعة بل بالعشرة فيلزم خلف الفرض.

2 - أو انّ المقصود تعلق الوجوب بالتسعة بدون تقييد بالجزء العاشر.

وهذا باطل أيضا ، لأن لازمه أن المتذكر إذا أتى بالتسعة سقط عنه الخطاب الأوّل ولم يجب عليه سوى الإتيان بالجزء العاشر ، وهذا لا يحتمله أحد. وكيف يحتمل أنّ المكلّف المتذكر إذا أتى بتسعة أجزاء حصل منه الإمتثال بمقدار تسعة

ص: 504

أجزاء ، بحيث إذا سلّم وأنهى صلاته لم يجب عليه إلاّ قراءة السورة المنسية امتثالا للأمر الثاني!!!

3 - أو أنّ المقصود تعلق التكليف بالتسعة مقيدة بالجزء العاشر في حق المتذكر ومن غير تقييد بالجزء العاشر في حق الناسي.

وهذا احتمال وجيه ، ولكنه ليس احتمالا مقابلا لمّا اقترحناه سابقا - حيث اقترحنا أن يكون التكليف متعلقا بالجامع بين الصلاة الناقصة المقيّدة بالنسيان وبين الصلاة التامّة - بل هو هو وان اختلف عنه في بعض الألفاظ ، ومعه فلا حاجة الى الخطاب الثاني المتكفل لإثبات وجوب الجزء الزائد في حق المتذكر ، فإنّ الخطاب الأوّل يتكفل إثبات ذلك بلا حاجة الى الخطاب الثاني.

4 - أو أنّ المقصود تعلق التكليف بالتسعة من دون أن تكون مقيدة بالجزء العاشر ولا مطلقة بل مهملة من هذه الناحية.

وهذا الإحتمال باطل إذ لا معنى للإهمال في عالم الجعل ، فان المولى إمّا أن يجعل وجوب التسعة مقيدة بالجزء العاشر أو أن يجعل الوجوب لها مطلقة من حيث الجزء العاشر ولا يمكن جعله مهملا ، فإنّ الإهمال لا يعقل إلاّ في الدليل المبرز والكاشف عن الجعل ولا يعقل في نفس الجعل ، وهذا معناه أنّ التقابل بين التقييد والإطلاق في عالم الجعل تقابل التناقض فلا يمكن ارتفاعهما وصيرورة الجعل مهملا.

أولوية المقام بالبراءة

وبعد أن اتضح إمكان تكليف الناسي بالأقل بالطريقة الآنفة الذكر يتضح

ص: 505

أن تكليف الناسي مردد بين الأقل والأكثر ، وبما أنّه مكلّف جزما بالتسعة التي أتى بها ويشك في تكليفه بالجزء العاشر فتجري البراءة لنفيه.

بل إنّ جريان البراءة في المقام أولى من جريانها في الحالات الاخرى كحالة التردد في أصل جعل الجزئية والشرطية ، فإنّ المتردد في أصل جعل جزئية السورة في التشريع الإسلامي يتشكل لديه علم إجمالي امّا بوجوب التسعة أو بوجوب العشرة ، ولربما يقال بمنجزية العلم الإجمالي المذكور. ولكن لئن سلمنا بمنجزية العلم الإجمالي المذكور فلا يمكن التسليم بمنجزيته حالة النسيان ، فإنّ الناسي يتشكل لديه العلم الإجمالي بعد الإتيان بأحد الطرفين - أي بعد الإتيان بالأقل - ، فبعد ارتفاع النسيان عنه يحصل له علم إجمالي امّا بوجوب التسعة التي أتى بها أو بوجوب العشرة ، ومثل العلم الإجمالي المذكور لا يمكن أن يكون منجزا لعدم تعارض الاصول في اطرافه ، فإنّه بعد الإتيان بالتسعة لا معنى لإجراء البراءة عن وجوبها بل تجري عن وجوب العشرة فقط بلا معارض.

وباختصار : إنّ العلم الإجمالي حالة النسيان بما أنّه يتولد بعد الإتيان بأحد طرفيه فلا يكون منجزا ، بخلافه في صورة الشكّ ، فإنّ العلم الإجمالي يتولد قبل الإتيان بأحد طرفيه فيمكن أن يقال بمنجزيته وإن كنا لا نقبل ذلك باعتبار أنّ وجوب الأقل متيقن ووجوب الزائد منفي بالبراءة.

الحالة الثانية
اشارة

اذا فرض العلم بجزئيّة جزء معين أو شرطيّته وتعذّر على المكلّف الإتيان به - كما لو تعذر تحصيل الطهارة للصلاة بكلا فرديها المائيّة والترابيّة - فهل يسقط

ص: 506

عنه الواجب أو يلزمه الإتيان بالميسور؟ إنّ هذا يرتبط بشمول الجزئيّة والشرطية لحالة التعذر وعدمه ، فإن فرض أنّ الطهارة مثلا باقية على الشرطية حتى في حالة تعذرها فلازم ذلك سقوط وجوب الصلاة ، إذ شرطية الطهارة ما دامت ثابتة - والمفروض تعذر تحصيلها - فلازم ذلك سقوط وجوب الصلاة إذ المشروط عدم عند عدم شرطه (1).

وأمّا إذا فرض سقوط شرطية الطهارة حالة التعذر فلازم ذلك وجوب الإتيان بالصلاة بدون الطهارة لأنّ الشرطية ما دامت ساقطة حالة التعذر فالمكلّف يكون متمكنا من الإتيان بجميع الأجزاء والشرائط الثابتة في حقّه ، فيستقر الوجوب عليه.

ونحن إذا كنّا نعرف حال الجزئيّة والشرطيّة فلا يبقى لدينا تحيّر في الموقف ، فإذا كنّا نعرف أنّ جزئيّة الجزء أو شرطيّة الشرط ثابتة حتى حالة التعذّر كان علينا الجزم بسقوط وجوب الصلاة ، وإذا كنّا نعرف أنّها غير ثابتة حالة التعذّر كان علينا الجزم بعدم سقوطه.

أمّا إذا لم نعرف هذا ولا ذاك فما هو الموقف؟ هنا يمكن تقديم التفصيل التالي :

إنّ التعذّر تارة لا يكون مستوعبا لتمام الوقت ، واخرى يكون مستوعبا.

فإن لم يكن مستوعبا تشكّل لدى المكلّف علم اجمالي امّا بوجوب إحدى الصلاتين عليه - أي الناقصة حالة العذر أو التامّة بعد ارتفاعه - على تقدير

ص: 507


1- وفي الجزء المتعذر يقال : انّ المركب عدم عند عدم جزئه.

سقوط الجزئيّة ، أو وجوب خصوص الصلاة التامّة بعد ارتفاع العذر على تقدير عدم سقوط الجزئيّة. وحيث انّ هذا من موارد الدوران بين الأقل والأكثر - فإنّ وجوب احدى الصلاتين يمثّل الأقل ووجوب خصوص الصلاة التامّة يمثّل الأكثر - فتجري البراءة عن الأكثر.

ثمّ انّ هنا نكتة وهي أنّ العلم الإجمالي بين الأقل والأكثر يحصل في هذه الحالة - أي حالة تعذّر بعض الأجزاء - قبل الإتيان بأحد الطرفين بخلافه في حالة النسيان ، فإنّه يحصل بعد ذلك. ويترتّب على ذلك أن العلم الاجمالي في مقامنا يمكن أن يكون منجّزا بخلافه في حالة النسيان.

وإن كان العذر مستوعبا لتمام الوقت تشكّل لدى المكلّف علم اجمالي امّا بوجوب الصلاة الناقصة داخل الوقت على تقدير سقوط الجزئيّة ، أو بوجوب الصلاة التامّة خارجه على تقدير عدم سقوط الجزئيّة ، وحيث يتعارض أصل البراءة في الطرفين يكون منجّزا ويجب على المكلّف الإتيان بالصلاة الناقصة داخل الوقت وبالصلاة التامّة خارجه.

قطع النظر عن الروايات الخاصّة

إنّ حديثنا السابق كان كلّه ناظرا إلى مقتضى القاعدة وبقطع النظر عن الروايات الخاصّة ، وكانت القاعدة تقتضي البراءة عن الأكثر المشكوك ، أمّا بمقتضى الروايات فالموقف يتحدّد على طبق ما تدلّ عليه.

وفيما يلي نوضّح الموقف طبق الروايات : -

1 - أن يستفاد من دليل خاص شمول الجزئيّة لجميع الحالات أو

ص: 508

اختصاصها بحالة عدم النسيان والتعذّر ، من قبيل حديث : « لا تعاد الصلاة الاّ من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود » (1) ، حيث يدلّ على ثبوت الجزئيّة للخمسة المذكورة في جميع الحالات فلا مجال للبراءة فيها بخلاف غيرها ، فإنّ جزئيتها ليست شاملة لجميع الحالات.

2 - أن يستفاد من اطلاق دليل جزئية الجزء شمول الجزئيّة لجميع الحالات. ولا مجال لإعمال البراءة حينئذ لانتفاء الشكّ في ثبوت الجزئيّة بعد وجود الإطلاق.

وفرق هذا عن سابقه أنّه في هذه الحالة يلاحظ دليل الجزء نفسه ويتمسّك بإطلاقه بخلافه في الحالة السابقة ، فإنّه يتمسّك بدليل آخر - غير دليل الجزء - كحديث لا تعاد.

3 - أن يفرض عدم ثبوت إطلاق في دليل جزئيّة السورة مثلا ، بأن كان مجملا ولكن يفرض أنّ دليل أقيموا الصلاة فيه إطلاق يدلّ على وجوب الصلاة من دون اشتراط بالسورة فيؤخذ بإطلاقه ويحكم بوجوب الصلاة حتى مع عدم قراءة السورة لنسيان أو عذر آخر.

لا تقل : إذا كان دليل أقيموا الصلاة مطلقا وغير مقيّد بالسورة فلماذا لا يؤخذ بإطلاقه ويحكم بعدم إشتراط السورة في جميع الحالات بما في ذلك حالات الإختيار وعدم العذر؟

فإنّه يقال : إنّ الإطلاق المذكور وإن كان ثابتا لكنّه مقيّد بدليل جزئيّة

ص: 509


1- الوسائل باب 1 من أبواب أفعال الصلاة حديث 14.

السورة ، فإنّه بعد إجماله - دليل جزئيّة السورة - يؤخذ بالمقدار المتيقّن منه وهو ثبوت الجزئيّة في حالات عدم العذر ، ويكون مقيّدا لإطلاق أقيموا الصلاة بالمقدار المذكور ويحكم بجزئيّة السورة في خصوص حالة عدم العذر ، وأمّا في حالة العذر فحيث لا دليل على ثبوت الجزئيّة - لإجمال الدليل على الفرض - فيؤخذ باطلاق أقيموا الصلاة لنفي الجزئيّة وثبوت الوجوب للصلاة مع عدم الاتيان بالسورة.

قوله ص 196 س 9 : كنّا نتكلّم عمّا إذا شكّ إلخ : هذا إشارة إلى الحالة الاولى. وقوله « وقد يتّفق إلخ » إشارة إلى الحالة الثانية.

قوله ص 196 س 11 : بوجه من الوجوه : متعلّق بقوله « دخالته » ، فإنّ دخالة الشيء في الواجب تكون تارة بنحو الجزئيّة ، واخرى بنحو الشرطيّة ، وثالثة بنحو المانعيّة.

قوله ص 197 س 2 : حالة الشكّ في إطلاق الجزئيّة لصورة نسيان الجزء. وهي الحالة التي أشكل فيها الشيخ الأعظم وذكر أنّه لا يمكن التمسّك بالبراءة فيها لعدم إمكان اختصاص الجزئيّة بحالة التذكّر.

قوله ص 197 س 11 : إنّ الأصل اللفظي : أي الإطلاق.

قوله ص 198 س 4 : على أي حال : أي أبدا. أو أي جزء كان.

قوله ص 198 س 11 : والأوّل : أي تعلّق التكليف بالجامع. وقوله « والثاني » : أي تعلّق التكليف بالصلاة التامّة فقط.

قوله ص 198 س 14 : هو من أنحاء الدوران إلخ : إذ تقدّم أنّ للأقل والأكثر مصاديق أربعة أحدها الدوران بين التعيين والتخيير.

ص: 510

قوله ص 198 س 17 : افادات الشيخ الانصاري : وهي فرائد الاصول المسماّة بالرسائل.

قوله ص 199 س 8 : في الأصل : أي منذ البداية.

قوله ص 199 س 11 : ان التكليف بالجامع : أي المشار له ص 198 س 10.

قوله ص 200 س 6 : أو مقيد بلحاظ المتذكّر : أي مقيد بالجزء الزائد ولكن بلحاظ المتذكّر الخ.

قوله ص 200 س 8 : والثاني كذلك : أي خلف.

قوله ص 200 س 13 : فلا يمكن انتفاؤهما معا : الذي هو معنى اهمال الجعل.

قوله ص 200 س 14 : وعلى هذا الأساس : أي على أساس إمكان تكليف الناسي بالأقل.

قوله ص 200 س 17 : المذكور : أي بين الأقل والأكثر كما في حالات التردّد والشكّ في أصل جعل الجزئية.

قوله ص 203 س 3 : الأدلة المحرزة : أي الأدلة الاجتهادية - كحديث لا تعاد وغيره - في مقابل الاصول العملية التي هي أدلة فقاهتية.

ص: 511

ص: 512

محتويات الكتاب

الموضوع / الصفحة

المقدمة... 3

منهجة أبحاث القسم الثاني من الحلقة الثالثة... 5

الفارق بين الامارات والاصول... 7

خصائص الأصول العملية... 9

ثمرة التقسيم... 11

التعليق على الفرق الأوّل... 11

الفرق الثاني... 13

الفرق الثالث... 15

الفرق الرابع... 18

الأصول العملية الشرعية... 23

الأصول التنزيلية والمحرزة... 33

ثمرة الأصل التنزيلي... 33

ثمرة الأصل التنزيلي... 34

الأصل المحرز... 35

ص: 513

ثمرة الأصل المحرز... 36

الأصل المحرز عند السيد الشهيد... 36

لا أصل تنزيلي عند السيد الشهيد... 39

مورد جريان الأصول العملية... 41

الاستصحاب في الأحكام الظاهرية... 48

الاصول العملية الأربعة... 49

الوظيفة العملية حالة الشكّ... 51

الوظيفة حالة الشكّ البدوي... 53

مسلك قبح العقاب بلا بيان... 54

الدليل الأوّل... 55

الدليل الثاني... 56

الدليل الثالث... 57

الجواب عن دليل الأصفهاني... 59

الدليل الرابع... 60

مناقشة الدليل الرابع... 62

بطلان قاعدة قبح العقاب... 64

مسلك حق الطاعة... 64

حكم العقل تعليقي... 65

الوظيفة الثانوية حالة الشكّ... 67

ص: 514

المبحث الأوّل... 68

الآية الاولى... 68

اعتراض الشيخ الأعظم... 70

جوابان عن اعتراض الشيخ الأعظم... 71

هل دليل الإخباري مقدّم على الآية؟... 74

شمول الآية للشبهات الوجوبية والتحريمية... 76

وهل تشمل الآية حالة ما قبل الفحص؟... 78

الآية الثانية... 78

مناقشة الاستدلال... 81

وهل دليل الإخباري مقدّم؟... 82

الآية الثالثة... 83

الآية الرابعة... 85

أدلة البراءة من السنّة... 89

البيان الأوّل... 90

مناقشة البيان الأوّل... 93

البيان الثاني... 94

الحديث الثاني... 98

المرحلة الاولى... 98

المرحلة الثانية... 111

ص: 515

هل الرفع ظاهري أو واقعي؟... 115

المرحلة الثالثة... 121

تصوير الجامع... 122

لا قرينة... 125

روايات اخرى... 127

التعويض بالاستصحاب... 127

الاعتراضات العامة... 133

الجواب عن الاعتراض الأوّل... 134

الصحيح انّ المعارضة بنحو العموم من وجه... 137

الجواب الأوّل عن الاعتراض الثاني... 140

الجواب الثاني عن الاعتراض الثاني... 145

توجيه آخر للانحلال... 147

تحديد مفاد البراءة... 151

ما هو الميزان؟... 153

ميزانان للشكّ في ثبوت التكليف والامتثال... 157

كلام للميرزا... 157

تصحيح مدّعى الميرزا بطريقة اخرى... 158

صياغة الميزان الأوّل من جديد... 159

أخذ المتعلّق قيدا في الحكم... 160

ص: 516

الصياغة النهائية لميزان الشكّ في التكليف... 161

استحباب الاحتياط... 165

مناقشة الوجه الأوّل... 168

مناقشة الوجه الثاني... 170

النقطة الثانية... 171

مناقشة الشبهة... 173

الأولى في الجواب... 174

مباحث العلم الإجمالي... 177

ثلاثة أبحاث في العلم الإجمالي... 179

منجزية العلم الإجمالي... 180

بحث الأمر الأول... 181

جواب السؤال الأوّل... 183

جواب السؤال الثاني... 184

الاتجاهات في حقيقة العلم الإجمالي... 185

الأوّل... 185

الثاني... 187

المناقشة على ضوء مقدّمات ست... 187

الثالث... 190

تخريجات وجوب الموافقة القطعية... 192

ص: 517

عودة لصلب الموضوع... 193

التقريب الأوّل... 194

التقريب الثاني... 195

مناقشة التقريب الثاني... 196

نقض على قاعدة قبح العقاب... 199

الثمرة بين المسلكين... 200

التفصيل بين الشبهات الحكمية والموضوعية... 200

بحث الأمر الثاني... 204

الأصول المؤمنة والمنجزة... 207

المحذور الثبوتي... 208

المحذور الإثباتي... 210

مناقشة محذور التهافت... 211

تعبير اصولي... 213

بحث الأمر الثالث... 216

عالم الثبوت... 217

الفارق الواضح... 220

الاستدلال على مسلك العلّية... 220

اعتراض الميرزا على مسلك العلّية... 221

جواب الشيخ العراقي... 222

ص: 518

مناقشة كلام العراقي... 223

ترجيح مسلك الاقتضاء... 223

عالم الإثبات... 224

العراقي وشبهة الترخيص المشروط... 225

تنبيه... 227

مناقشة شبهة الترخيص المشروط... 228

الوجه الأوّل... 228

دفع الوجه الأوّل... 230

أحدهما... 230

ثانيهما... 233

الوجه الثاني... 234

مناقشة الوجه الثاني... 235

الوجه الثالث... 237

مناقشة الجواب الثالث... 238

الوجه الرابع... 238

مناقشة الجواب الرابع... 239

الوجه الخامس... 240

الثمرة بين مسلك العلية والاقتضاء... 245

جريان الأصل في بعض الأطراف بلا معارض... 247

ص: 519

الحالة الاولى... 247

الحالة الثانية... 250

الحالة الثالثة... 252

خلاصة ما تقدّم... 254

العلم الإجمالي بأحد نوعي التكليف منجز... 255

العلم الإجمالي بموضوع التكليف... 256

يلزم العلم بكامل الموضوع... 256

الضابط العام... 258

أركان المنجزية... 261

الحالة الاولى... 263

الحالة الثانية... 265

خلاصة ما تقدّم... 266

الأوّل... 267

الثاني... 267

الثالث... 268

الرابع... 269

الركن الثالث... 275

الفارق العملي بين الصياغتين... 279

ص: 520

مناقشة صياغة الشيخ العراقي... 281

الركن الرابع... 282

صياغة جديدة... 283

تطبيقات منجزية العلم الإجمالي... 289

تطبيقات منجزية العلم الاجمالي... 291

الحالة الأولى أو زوال العلم بالجامع... 293

وهم ودفع... 293

الأوّل... 294

الثاني... 295

الثالث... 295

الرابع :... 297

الحالة الثانية او الاضطرار الى بعض الاطراف... 303

تلخيص وأسئلة... 308

طرو المسقطات الاخرى... 310

الصورة الثانية... 310

الحالة الثالثة أو انحلال العلم الاجمالي بالتفصيلي... 317

التعاصر بين العلمين أو المعلومين... 321

الحالة الرابعة أو الانحلال الحكمي... 325

تقدم الامارة دون مؤداها... 332

ص: 521

مقارنة بين الانحلالين... 334

الحالة الخامسة أو اشتراك العلمين في طرف... 337

الحالة السادسة أو حكم الملاقي... 343

الأوّل :... 344

الثاني... 345

حالات يجب فيها الاجتناب عن الملاقي... 347

تمامية التقريب الثاني... 349

الحالة السابعة أو الشبهة غير المحصورة... 351

تحديد الشبهة غير المحصورة... 351

تقريبات لعدم منجّزية العلم الاجمالي في الشبهة غير المحصورة... 352

التقريب الأوّل... 352

اشكالات على التقريب الأوّل... 354

الاشكال الأوّل... 354

النقض... 356

الحل... 356

الاشكال الثاني... 358

التقريب الثاني... 362

الفارق العملي... 363

نقض السيد الخوئي... 364

ص: 522

تعديل الصياغة المشهورة... 364

فارق بين البيانين... 367

لا يرد نقض السيد الخوئي... 367

خلاصة ما تقدم... 368

الحالة الثامنة أو عدم القدرة على بعض الأطراف... 373

الحالة الاولى... 374

التعليل المناسب... 377

الحالة الثانية... 378

الأفضل في التعليل... 381

الحالة التاسعة أو العلم الاجمالي في التدريجيات... 385

مناقشة الوجهين... 387

وهكذا يتضح :... 391

الحالة العاشرة أو الطولية بين طرفي العلم... 397

الاولى... 398

الثانية... 399

فرقان بين الصورتين... 400

الدوران بين الوجوب والحرمة... 405

الوظيفة عند الشك في الوجوب والحرمة معا... 407

الشك البدوي في الوجوب والحرمة... 409

ص: 523

دوران الأمر بين المحذورين... 411

الاعتراض الأوّل وهذا الاعتراض للشيخ العراقي... 412

الاعتراض الثاني... 415

الاعتراض الثالث... 417

توهم ودفع... 418

تعدد الواقعة ووحدتها... 418

الدوران بين الأقل والأكثر... 423

الدوران بين الأقل والأكثر... 425

الارتباطيان والاستقلاليان... 426

الارتباطيان على أقسام... 427

الدوران بين الأقل والأكثر في الاجزاء... 429

البرهان الأوّل... 430

مناقشة البرهان الأوّل... 431

الاولى... 431

الثانية... 433

الثالثة... 437

الرابعة... 438

البرهان الثاني... 441

البرهان الثالث... 444

ص: 524

البرهان الرابع... 445

البرهان الخامس... 448

البرهان السادس... 451

النتيجة النهائيّة... 452

الدوران بين الأقل والأكثر في الشرائط... 455

الشكّ في المانعية... 460

دوران الواجب بين التعيين والتخيير العقلي... 463

دوران الواجب بين التعيين والتخيير الشرعي... 469

الحكم على المبنى الأوّل... 471

شبهة الشيخ العراقي وجوابها... 472

الحكم على المبنى الثاني... 474

الحكم على المبنى الثالث... 475

ملاحظات عامة حول الأقل والأكثر... 477

الملاحظة الأولى أو دور الاستصحاب في هذا الدوران... 477

الاستصحاب لاثبات الاحتياط... 480

الاستصحاب لإثبات البراءة... 482

الملاحظة الثانية أو الدوران بين الجزئيّة والمانعيّة... 485

الملاحظة الثالثة أو الأقل والأكثر في المحرّمات... 489

الملاحظة الرابعة أو الشبهة الموضوعية للأقل والأكثر... 493

ص: 525

سؤال وتوضيح... 494

الملاحظة الخامسة أو الشكّ في اطلاق دخالة الجزء أو الشرط... 497

الحالة الاولى... 498

التعليق على مقالة المشهور... 500

إشكال الشيخ الأعظم في الناسي... 501

جواب الآخوند الخراساني... 504

أولوية المقام بالبراءة... 505

الحالة الثانية... 506

قطع النظر عن الروايات الخاصّة... 508

محتويات الكتاب... 513

ص: 526

المجلد 4

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الناشر: المحبين للطباعة والنشر

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 2007 م

ISBN (ردمك): 964-8991-28-6

المكتبة الإسلامية

الحلقة الثالثة في اسلوبها الثاني

الجزء الرابع

بقلم: باقر الايرواني

ص: 1

اشارة

سرشناسه : ایروانی، باقر، 1328 -

عنوان قراردادی : دروس فی علم الاصول . برگزیده . شرح

عنوان و نام پديدآور : الحلقه الثالثه فی اسلوبهاالثانی/ بقلم باقر الایروانی.

مشخصات نشر : قم: محبین، 14ق. = 20م .= 13 -

مشخصات ظاهری : ج.

شابك : دوره 964-8991-29-4 : ؛ ج.4 964-91029-6-5 :

وضعیت فهرست نویسی : برون سپاری

يادداشت : كتاب حاضر شرح، برگزیده " دروس فی علم الاصول "، محمدباقر صدر می باشد.

يادداشت : فهرستنویسی بر اساس جلد چهارم، 2007م = 1386).

يادداشت : عربی.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : صدر،محمدباقر،1931-1979م . دروس فی علم الاصول -- نقد و تفسیر

موضوع : تعارض ادله

اصول فقه شیعه

ادله و شواهد (فقه)

شناسه افزوده : صدر،محمدباقر،1931-1979م .دروس فی علم الاصول برگزیده

رده بندی كنگره : BP159/8/ص 4د40214 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 1298423

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

ص: 2

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين. والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمّد وأهل بيته الطيبين الطاهرين.

ص: 3

ص: 4

الاستصحاب

اشارة

ص: 5

ص: 6

تحديد الاستصحاب

اشارة

قوله ص 209 س 1 : الاستصحاب قاعدة الخ : تكلّم قدس سره في الاستصحاب في نقاط ستّ أوّلها في أدلة الاستصحاب. وقبل الخوض فيها نذكر ثلاث مقدّمات - لتّتضح بذلك عبارة الكتاب - قرآناها في الحلقة الثانية.

1 - عرّف الشيخ الأعظم في الرسائل الاستصحاب بأنّه عبارة عن « الحكم ببقاء ما كان » ، فالحكم ببقاء الطهارة - التي كانت سابقا - عند الشكّ في بقائها في الزمان اللاحق عبارة اخرى عن الاستصحاب. وقد وجهت بعض الاعتراضات إلى هذا التعريف كما قرأناها في الحلقة الثانية فراجع.

قاعدة اليقين والمقتضي والمانع

2 - هناك ثلاثة مصطلحات لا بدّ من التمييز بينها : الاستصحاب ، قاعدة اليقين ، قاعدة المقتضي والمانع.

ففي الاستصحاب يفترض اليقين بحدوث شيء سابقا والشكّ في بقائه لاحقا ، بينما في قاعدة اليقين يفترض اليقين بحدوث شيء سابقا والشكّ لا حقا في نفس الحدوث السابق. فمثلا إذا حصل اليقين صباحا بطهارة الثوب ثمّ شكّ مساء في بقائها كان ذلك موردا للاستصحاب. أمّا إذا حصل اليقين صباحا بطهارة الثوب ثمّ شكّ مساء في نفس الطهارة الصباحية بأن احتمل بطلان اليقين السابق وكون الثوب نجسا صباحا فهذا مورد قاعدة اليقين. وقد تسمّى بقاعدة الشكّ الساري أيضا حيث إنّ الشكّ عند حدوثه مساء يسري إلى نفس اليقين السابق ويزلزله

ص: 7

بخلافه في الاستصحاب فإنّ اليقين السابق يبقى على حاله ولا يتزلزل بالشكّ.

ثمّ انّ هناك فارقا بارزا بين الاستصحاب وقاعدة اليقين ، ففي الاستصحاب يختلف متعلق اليقين عن متعلّق الشكّ ، فمتعلّق اليقين حدوث الطهارة سابقا ومتعلّق الشكّ بقاء الطهارة لاحقا ، بينما في قاعدة اليقين يكون متعلّق اليقين والشكّ واحدا ، فاليقين متعلّق بحدوث الطهارة صباحا والشكّ متعلّق بنفس حدوث الطهارة صباحا.

ثمّ انّه إذا كان الاستصحاب حجّة فلا بدّ من الحكم ببقاء الطهارة مساء بينما لو كانت قاعدة اليقين حجّة فلا بدّ من الحكم بحدوث الطهارة صباحا ، وأمّا بقائها مساء فلا يرتبط بقاعدة اليقين ؛ إذ المشكوك في قاعدة اليقين حدوث الطهارة صباحا لا بقائها إلى المساء.

هذا كلّه في الاستصحاب وقاعدة اليقين.

وأمّا قاعدة المقتضي والمانع فاليقين فيها متعلّق بوجود المقتضي والشكّ متعلّق بوجود المانع ، فإذا رأينا شخصا في منطقة الحرام من المعركة فلنا يقين بثبوت المقتضي - بكسر الضاد - لموته ، فإذا شكّ في وجود حاجز يمنع من وصول الطلقات إليه كان ذلك شكّا في تحقّق المانع ، فإذا قيل بحجّية قاعدة المقتضي والمانع فلا بدّ من الحكم بتحقّق المقتضى - بفتح الضاد - أي الحكم بموت الشخص المذكور ولا يلزم جلب الطعام والشراب له. والقاعدة المذكورة لم يثبت حجّيتها لا من الروايات كما هو واضح ولا من العقلاء ؛ إذ لم تجر سيرتهم على الحكم بتحقّق المقتضى (1) عند اليقين بتحقّق مقتضيه والشكّ في مانعه.

ص: 8


1- كموت الشخص في المثال السابق.

أدلة الاستصحاب

اشارة

3 - انّ الأدلة المطروحة لإثبات حجّية الاستصحاب ثلاثة : -

أ - سيرة العقلاء حيث ادّعي انّ سيرتهم جرت على الحكم ببقاء الشيء عند اليقين بحدوثه سابقا والشكّ في بقائه لا حقا.

وهذه السيرة لم تثبت عندنا ، وعهدتها على مدّعيها.

ب - حكم العقل ، بمعنى انّ من تيقّن بحدوث شيء سابقا حصل له الظنّ ببقائه ولا بدّ له من الحكم ببقائه لأجل الظنّ المذكور.

والردّ على هذا الدليل واضح فإنّ الظنّ بالبقاء لو سلّم حصوله فلا دليل على حجّيته.

ج - الروايات الكثيرة.

والمهمّ من هذه الأدلة هو الروايات.

وقد تقدّم الحديث في الحلقة الثانية عن صحيحة زرارة الاولى (1) فقط بالتفصيل. وفي هذه الحلقة نمرّ على هذه الصحيحة مرّ الكرام ونأخذ بالتحدّث عن بقيّة الروايات بشيء من التفصيل.

ص: 9


1- لزرارة في باب الاستصحاب ثلاث روايات صحاح عبّر عنها بصحيحة زرارة الاولى أو الثانية أو الثالثة.
الرواية الاولى

استدل الاصوليون على حجّية الاستصحاب بصحيحة زرارة الاولى « قلت له (1) : الرجل ينام وهو على وضوء ... ». وتقدّم الحديث عنها في الحلقة الثانية في ثلاث جهات : -

1 - في فقه الرواية بمعنى توضيح المقصود منها. ويمكن الإشارة إلى نقطتين في ذلك : -

أ - كيف حكم الإمام علیه السلام بأنّ عدم البناء على بقاء الوضوء في زمان الشكّ نقض لليقين بحدوث الطهارة والحال انّ الحكم بارتفاع الوضوء بقاء لا يتنافى واليقين بحدوثه سابقا ، وبالتالي كيف يسند نقض اليقين إلى الشكّ؟

ب - انّ قوله علیه السلام : « وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه » يشتمل على أداة شرط ، فإنّ كلمة « وإلاّ » مركّبة من أداة شرط وأداة نفي ، أي : وإن لا. وتقدير فعل الشرط واضح أي : وإن لم يستيقن انّه قد نام. وأمّا جواب الشرط ففيه احتمالات ثلاثة يمكن مراجعتها في الحلقة الثانية.

2 - في تقريب الاستدلال بالرواية على حجّية الاستصحاب.

انّ دلالة الرواية على حجّية الاستصحاب وإن كانت واضحة حيث حكم

ص: 10


1- لم يذكر زرارة في الرواية انّ الموجّه له السؤال هو الإمام علیه السلام حيث قال : قلت له ولم يقل قلت للإمام علیه السلام ، ومثل هذه الرواية تسمّى بالمضمرة حيث اضمر ذكر الإمام فيها. والمعروف عدم حجّية المضمرات ، ولكن حيث انّ المضمر في هذه الرواية هو زرارة الذي لا يليق به السؤال من غير الإمام علیه السلام لم يكن ذلك مضرّا بحجّيتها.

الإمام علیه السلام بلزوم الحكم ببقاء الوضوء معلّلا بالاستصحاب وأنّه على يقين سابقا وشكّ لا حق ولا يجوز نقض اليقين بالشكّ ، إلاّ أنّ هناك شبهة تقول : انّ من المحتمل نظر الرواية إلى قاعدة المقتضي والمانع لا الاستصحاب. ويمكن مراجعة الحلقة الثانية لاستيضاح ذلك.

3 - في عمومية كبرى الاستصحاب ؛ إذ قد يقال بأنّ الرواية المذكورة لا يستفاد منها حجّية الاستصحاب في جميع الموارد بل في خصوص باب الوضوء حيث انّ الإمام علیه السلام قيّد اليقين وقال : « وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه » ، ومن المحتمل أن تكون الألف واللام في كلمة اليقين في قوله : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » عهدية ، أي إشارة إلى اليقين بالوضوء خاصّة وليست جنسية. وبكلمة اخرى : من المحتمل أن يكون المقصود : لا ينقض اليقين في خصوص باب الوضوء بالشكّ في باب الوضوء وليس المقصود ولا ينقض مطلق اليقين بمطلق الشكّ.

ويمكن الجواب : بأنّ ظاهر قول الإمام علیه السلام : « وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ... » التعليل بأمر ارتكازي (1) ، فكأنّ الإمام علیه السلام يريد أن يقول كيف تنقض اليقين بالشكّ والحال انّ المرتكز في أذهان العقلاء عدم نقض اليقين بالشكّ. وما دام التعليل بأمر ارتكازي فيمكن أن يقال انّ المرتكز في أذهان العقلاء عدم جواز نقض مطلق اليقين بمطلق الشكّ لا خصوص اليقين في باب الوضوء بالشكّ في باب الوضوء خاصة.

ويؤيّد العمومية قول الإمام علیه السلام : « ابدأ » كما هو واضح.

قوله ص 209 س 6 : كقاعدة عامّة : أي لا في خصوص باب الوضوء مثلا

ص: 11


1- إذ التعليل لشخص عاقل لا يصحّ إلاّ بأمر عقلائي وإلاّ لم يستفد من التعليل وكان لغوا.

بل في جميع الأبواب.

قوله ص 209 س 8 : الخفقة : هي النعاس الذي يحصل للإنسان قبل أن يستمكن النوم منه.

قوله ص 210 س 4 : الملحوظ فيه : أي في التعليل المشار إليه بقول الإمام علیه السلام : « وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه الخ ».

الرواية الثانية
اشارة

لزرارة في باب الاستصحاب روايات ثلاث ، وقد تقدّمت روايته الاولى. وهذه روايته الثانية ، وهي مضمرة أيضا حيث لم يصرّح فيها بكون الشخص المسؤول هو الإمام علیه السلام . وتمتاز هذه الرواية بدقّتها وطولها ، فهي تشتمل على ستة أسئلة وستة أجوبة. وموطن الاستدلال جواب السؤال الثالث والسادس. ونأخذ بعرض تلك الأسئلة وأجوبتها : -

الأوّل

وفي السؤال الأوّل سأل زرارة عن حكم من علم بنجاسة ثوبه قبل الصلاة ثمّ طرأ عليه نسيانها وتذكّر ذلك بعد الفراغ.

وقد حكم علیه السلام في هذه الصورة بغسل الثوب وإعادة الصلاة من جديد.

الثاني

وفي السؤال الثاني فرض زرارة علمه بإصابة النجاسة لثوبه ولكنّه لم

ص: 12

يتمكّن من تشخيص موضعها فلم يدر هي في أي موضع من الثوب ، وبعد أن دخل في صلاته وفرغ منها رآها.

وقد حكم علیه السلام في هذه الصورة بغسل الثوب وإعادة الصلاة من جديد أيضا.

ثمّ إنّ زرارة ذكر في هذا السؤال انّه طلب موضع النجاسة فلم يقدر عليه حيث قال : « فطلبته فلم أقدر عليه ». وقد يتوهّم انّ المستفاد من هذه العبارة إبداء زرارة تشكيكه في يقينه السابق فكأنّه يريد القول بأنّي حيث طلبت موضع النجاسة ولم أره حصل لي الشكّ في أصل حدوثها السابق وسرى شكّي إلى اليقين السابق. وبناء على هذا يكون مورد الرواية قاعدة اليقين ، ويستفاد من جواب الإمام علیه السلام حجّية القاعدة المذكورة ، حيث حكم علیه السلام بوجوب إعادة الصلاة أخذا باليقين السابق الذي فرض تزلزله.

وهذا توهّم باطل ، فإنّ عدم تشخيص موضع النجاسة وعدم القدرة عليه لا يدلّ على تزلزل اليقين السابق بالنجاسة.

والصحيح في وجه ذكر جملة : « فطلبته فلم أقدر عليه » تخيّل زرارة انّ عدم عثوره على موضع إصابة النجاسة مسوّغ له في الدخول في الصلاة ، فأجابه الإمام علیه السلام بأنّ ذاك لا يكون مسوّغا للدخول فيها ومبرّرا لصحّتها.

الثالث

وفي السؤال الثالث المتضمّن للفقرة الاولى للاستدلال افترض زرارة ثلاثة امور ، فأوّلا افترض ظن إصابة النجاسة لثوبه ولم يتيقّن بها ، وثانيا افترض الفحص عن النجاسة فلم يجدها ، وثالثا ذكر انّه وجد بعد فراغه من

ص: 13

الصلاة نجاسة ولكنّه لم يفترض انّها نفس النجاسة السابقة ، حيث قال : « فرأيت فيه » ولم يقل « فرأيته » أو « فرأيتها فيه » ، فإنّ عدم ذكره للضمير يفتح مجالا لأن يكون مقصوده رؤيته بعد الفراغ نجاسة يحتمل مغايرتها للنجاسة السابقة.

وعلى ضوء فرض هذه الامور الثلاثة أجاب الإمام علیه السلام بصحّة الصلاة معلّلا بأنّه كان على يقين سابق بالطهارة وشكّ لا حق في زوالها ولا ينبغي نقض اليقين بالشكّ أبدا.

وفي مقصود زرارة من هذا السؤال توجد أربع فرضيات محتملة نستعرضها لنرى انّ أي واحدة منها تصلح للاستدلال على حجّية الاستصحاب.

أ - أن يكون مقصود زرارة انّي حينما ظننت بالإصابة وفحصت ولم أجد النجاسة حصل لي القطع بعدم إصابة النجاسة - فيكون قول زرارة : « فلم أر شيئا » كناية عن حصول القطع له بعدم إصابة النجاسة - ولمّا صلّى ووجد نجاسة حصل له القطع بأنّ هذه النجاسة عين النجاسة السابقة التي ظنّ أصابتها للثوب ، فهو قبل الصلاة قاطع بعدم إصابة النجاسة لثوبه وبعد الفراغ قاطع بأنّ ما رآه هو عين ما ظنّ إصابته سابقا.

وهذه الفرضية لا يحتمل أن تكون هي المقصودة لزرارة ، فإنّ الإمام علیه السلام افترض في جوابه وجود شكّ لزرارة وطبّق الاستصحاب أو قاعدة اليقين (1) ، وذلك لا يتمّ بناء على هذه الفرضية ؛ إذ لا يوجد فيها شكّ ليقول علیه السلام انّك كنت على يقين سابق وشكّ لا حق ، كلا انّ هذا لا معنى له فإنّ زرارة لم يكن له شكّ بل

ص: 14


1- حيث انّ قول الإمام علیه السلام : لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت وليس ينبغي الخ يحتمل الاثنين.

كان على يقين قبل الصلاة من عدم الإصابة ، كما وكان على يقين بعد الفراغ من الصلاة من كون النجاسة المرئية عين السابقة.

وعليه فهذه الفرضية لا بدّ من حذفها من الحساب لعدم احتمال أن تكون هي المقصودة.

ب - أن يكون مقصود زرارة انّي حينما فحصت ولم أر نجاسة حصل لي القطع بعدم الإصابة كما كنّا نفترض ذلك في الفرضية الاولى ، بيد انّه في هذه الفرضية لما رأى زرارة نجاسة بعد الفراغ من الصلاة لم يحصل له القطع بأنّها نفس السابقة بل كان على شكّ من ذلك.

وهذه الفرضية تصلح أن تكون موردا لجريان الاستصحاب كما وتصلح أن تكون موردا لقاعدة اليقين.

امّا أنّها مورد للاستصحاب فباعتبار انّ زرارة كان قاطعا من طهارة ثوبه في الزمان السابق على ظنّ الإصابة وبعد فراغه من صلاته حصل له الشكّ في أنّ ما رآه نجاسة جديدة أو سابقة فيمكن أن يجري استصحاب الطهارة السابقة الثابتة قبل ظنّ الإصابة ويثبت به طهارة الثوب إلى اللحظة التي رأى فيها النجاسة بعد الصلاة.

وطبيعي انّ هذا الاستصحاب لا يجري في حقّ زرارة قبل الصلاة ولا حينها وإنّما يجري بعدها ، أي حين سؤاله من الإمام علیه السلام ورؤيته النجاسة التي يحتمل طروّها المتأخّر ، وأمّا قبل الصلاة وحينها فقد كان قاطعا حسب الفرض بعدم إصابة النجاسة ثوبه ولم يكن شاكّا ليجري الاستصحاب في حقّه.

وأمّا انّها مورد لقاعدة اليقين فلأنّ قاعدة اليقين تفترض وجود يقين طرأ

ص: 15

عليه التزلزل عند حدوث الشكّ ، وعلى هذه الفرضية يوجد مثل هذا اليقين المتزلزل ؛ إذ المفروض عند الفحص وعدم رؤية النجاسة حصول اليقين بعدم إصابة النجاسة للثوب ، وبعد الفراغ من الصلاة ورؤية نجاسة يحتمل أنّها عين السابقة سيطرأ التزلزل على يقينه الحاصل بالفحص وسيحتمل أنّ يقينه كان مخطئا وغير مصيب للواقع (1).

وإذا كانت الرواية على هذه الفرضية صالحة للاستصحاب ولقاعدة اليقين فقول الإمام علیه السلام : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك وشككت ... » من المحتمل أن يراد به تطبيق الاستصحاب كما وانّ من المحتمل أن يراد به تطبيق قاعدة اليقين.

وما دامت الرواية صالحة لهذين الاحتمالين فلا يمكن التمسّك بها للاستدلال على حجّية الاستصحاب إلاّ إذا استظهرنا منها إرادة تطبيق الاستصحاب لا قاعدة اليقين.

ج - وهذه الفرضية عكس الفرضية السابقة ، ففي السابقة كنّا نفترض انّ

ص: 16


1- قد تسأل لماذا حين إجراء الاستصحاب لا حظنا اليقين الثابت قبل ظنّ الإصابة بينما عند تطبيق قاعدة اليقين لا حظنا اليقين الثابت بسبب الفحص؟ والجواب واضح حيث انّ قاعدة اليقين تحتاج إلى افتراض يقين طرء عليه التزلزل ، واليقين المذكور ليس هو إلاّ اليقين الحاصل بالفحص فإنّه القابل للتزلزل عند رؤية النجاسة بعد الصلاة. وأمّا الاستصحاب فحيث انّه يحتاج إلى يقين غير متزلزل ، واليقين المذكور بما انّه ليس إلاّ اليقين الثابت قبل ظنّ الإصابة لذا لا حظنا عند تطبيق الاستصحاب اليقين السابق على ظنّ الإصابة.

الفحص ولّد اليقين بعدم إصابة النجاسة ، وبعد الفراغ ورؤية النجاسة تولّد الشكّ في أنّها نفس السابقة أو لا ، وأمّا في هذه الفرضية فيفرض انّ الفحص لم يولّد اليقين بعدم الإصابة بل ولّد الشكّ في الإصابة وبعد الفراغ تولّد اليقين بأنّ النجاسة المرئيّة هي عين السابقة.

وهذه الفرضية لا تصلح لقاعدة اليقين بل تصلح للاستصحاب فقط.

امّا أنّها لا تصلح لقاعدة اليقين فلأنّ قاعدة اليقين تحتاج إلى يقين طرأ عليه التزلزل ، وعلى هذه الفرضية لا يوجد مثل هذا اليقين ؛ إذ لم يحصل بالفحص يقين يمكن تزلزله برؤية النجاسة بعد الصلاة ، بل اليقين الثابت هو اليقين قبل ظنّ الإصابة ، ومثل هذا اليقين لا يطرأ عليه التزلزل برؤية النجاسة بعد الصلاة.

وأمّا أنّها تصلح للاستصحاب فلأنّه يوجد يقين بالطهارة ثابت قبل ظنّ الإصابة فتستصحب الطهارة حين ظنّ الإصابة والفحص وتثبت بذلك صحّة الصلاة.

وهذا الاستصحاب يجري - كما قلنا - حين ظنّ الإصابة والفحص ؛ إذ في هذا الحين يوجد شكّ في إصابة النجاسة للثوب ، ولا يجري بعد الفراغ من الصلاة ؛ إذ بعد الفراغ فرضنا حصول اليقين بأنّ النجاسة المرئية هي النجاسة السابقة ولا يوجد شكّ حتّى يمكن جريان الاستصحاب.

إذن على هذه الفرضية يتعيّن كون مقصود الإمام علیه السلام إجراء الاستصحاب لا قاعدة اليقين ، ويتمّ الاستدلال بالرواية على حجّية الاستصحاب ، كما ويتعيّن أن يكون إجراء الاستصحاب بلحاظ حال الفحص لا بلحاظ حال الفراغ من الصلاة الذي هو وقت السؤال.

ص: 17

د - وفي الفرضية الرابعة نفترض عكس الفرضية الاولى تماما ، ففي الفرضية الاولى كنّا نقول انّ زرارة حصل له بالفحص قبل الصلاة اليقين بعدم إصابة النجاسة ، كما وحصل له بعد الفراغ من الصلاة ورؤية النجاسة اليقين بأنّها النجاسة السابقة. وفي هذه الفرضية نفترض حصول الشكّ في كلتا الحالتين فقبل الصلاة حينما فحص زرارة حصل له الشكّ في الإصابة ، كما وأنّه بعد الفراغ من الصلاة ورؤية النجاسة حصل له الشكّ في أنّها عين السابقة.

ومثل هذه الفرضية لا تصلح أن تكون موردا لقاعدة اليقين بل للاستصحاب فقط.

أمّا انّها لا تصلح موردا لقاعدة اليقين فلأنّ قاعدة اليقين تحتاج إلى افتراض يقين طرأ عليه التزلزل ، ومثل هذا اليقين لا يوجد على هذه الفرضية ؛ إذ لا يوجد عندنا إلاّ اليقين الثابت قبل ظنّ الإصابة ومثله لا يتزلزل برؤية النجاسة بعد الصلاة.

وأمّا انّها تصلح للاستصحاب فلأنّه يوجد قبل ظنّ الإصابة يقين بطهارة الثوب فيجري استصحاب تلك الطهارة.

وإذا سألت عن زمان جريان الاستصحاب هل هو قبل الصلاة - أي حين الفحص - أو بعدها الذي هو وقت السؤال.

فالجواب انّ بالإمكان إجراء الاستصحاب بلحاظ كلا الحالين : حال الفحص التي هي قبل الصلاة وحال السؤال التي هي ما بعد الصلاة ؛ إذ في كلا الحالين فرض الشكّ وعدم اليقين.

وعليه فالرواية على هذه الفرضية صالحة للاستدلال بها على حجّية

ص: 18

الاستصحاب.

ومن كل هذا تجلّى انّ الفرضية الاولى لا بدّ من حذفها من الحساب لعدم احتمال انطباق السؤال والجواب عليها. ونبقى نحن والفرضيات الثلاث الاخرى ، وعلى تقدير جميعها تكون الرواية دالّة على حجّية الاستصحاب ، غاية الأمر على الفرضية الثانية تحتمل الرواية إرادة الاستصحاب وإرادة قاعدة اليقين فلا بدّ من استظهار إرادة الاستصحاب منها ليتمّ بها الاستدلال.

الرابع

وفي السؤال الرابع ذكر زرارة للإمام علیه السلام انّه علم إجمالا بإصابة النجاسة ثوبه ولكنّه لم يعرف موضعها فما هو حكمه؟ فأجابه علیه السلام بأنّ النجاسة إذا كان يحتمل إصابتها للطرف الأعلى من الثوب مثلا فيلزم غسل جميع الطرف الأعلى كيما يكون على يقين من الطهارة (1).

الخامس

وفي السؤال الخامس ذكر زرارة انّه لو احتمل إصابة النجاسة للثوب ولم يجزم بذلك فهل عليه الفحص عن تحقّقها أو يبني على الطهارة؟ فأجابه الإمام علیه السلام

ص: 19


1- وقد استفاد البعض من قول الإمام علیه السلام : « حتّى تكون على يقين من طهارتك » حجّية الاستصحاب أيضا ، حيث يدلّ على أنّ المكلّف ما دام قد حصل له العلم بنجاسة الثوب فليس له حقّ الاعتناء بالشكّ بل لا بدّ من تحصيل اليقين بالطهارة وما ذاك إلاّ لأنّ اليقين لا ينقض بالشكّ بل باليقين.

بعدم لزوم الفحص وإن كان الفحص جائزا لإزالة الوساوس والشكوك.

السادس

والسؤال السادس يتضمّن الفقرة الثانية من فقرتي الاستدلال على حجّية الاستصحاب. وفي هذا السؤال لم يفترض زرارة ظنّ الإصابة قبل الصلاة بل فرض انّه شرع في الصلاة وفجأة رأى نجاسة أثناء الصلاة فما هو الموقف؟ وأجابه علیه السلام بالتفصيل بين حالتين :

أ - أن يكون قد شكّ قبل الصلاة في موضع من الثوب ثمّ رأى أثناء الصلاة النجاسة التي كان يشكّ في موضعها قبل الصلاة. وفي هذه الحالة تجب إعادة الصلاة حيث قال علیه السلام : « تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته » (1).

ب - أن لا يكون شاكّا قبل الصلاة وإنّما رأى النجاسة أثناء الصلاة طرية لا جافة وفي هذه الحالة ينقطع عن مواصلة الصلاة قليلا ليغسل الثوب ويكملها بعد ذلك ، وعلّل علیه السلام ذلك بأنّ النجاسة الطرية التي رآها يحتمل أن تكون عارضة أثناء الصلاة وليست سابقة ، ومع وجود هذا الاحتمال لا بدّ وأن يبني على يقينه بالطهارة الثابت قبل الصلاة ولا ينقضه بالشكّ ، وقد أشار علیه السلام إلى هذه الحالة بقوله : « وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصلاة لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ ».

ويوجد في مقصود الإمام علیه السلام من هاتين الحالتين احتمالان : -

ص: 20


1- الإتيان بالهاء يدلّ على أنّ النجاسة المرئية هي عين النجاسة السابقة المشكوكة جزما.

1 - أن يكون مقصود الإمام علیه السلام من الحالة الاولى الإشارة إلى صورة العلم الإجمالي ومن الحالة الثانية الإشارة إلى صورة الشكّ البدوي ، فكأنّه علیه السلام يريد القول انّك إن علمت إجمالا قبل الصلاة بإصابة النجاسة للثوب ولكن شككت في موضع الإصابة فعليك بإعادة الصلاة إذا رأيتها في الأثناء ، وأمّا إذا لم تعلم إجمالا بالإصابة وإنّما كنت تشكّ بدوا في ذلك وتحتمل طروّها في الأثناء فتطهر الثوب بلا حاجة إلى استئناف الصلاة من جديد.

2 - أن يكون مقصود الإمام علیه السلام من الحالة الاولى الإشارة إلى حالة الشكّ البدوي ومن الحالة الثانية الإشارة إلى حالة عدم الشكّ البدوي ، فكأنّه علیه السلام يقول إن شككت بدوا قبل الصلاة بالإصابة ثمّ رأيت النجاسة أثناء الصلاة فعليك باستئناف الصلاة وإن لم تشكّ بدوا في ذلك بل كنت جازما بالطهارة قبل الصلاة ثمّ رأيت النجاسة أثناء الصلاة فليس عليك استئناف ؛ إذ لعلّه شيء اوقع عليك.

إذن في مقصود الإمام علیه السلام من التفصيل احتمالان (1) ، ولكن هذا التردّد بين الاحتمالين لا يضرّ بما نريد تحصيله من الرواية ، وهو إثبات دلالتها على حجّية الاستصحاب ؛ إذ هي تدل على كلا الاحتمالين على أنّ المكلّف إذا رأى النجاسة فى

ص: 21


1- لكل من الاحتمالين ما يؤيّده ، فممّا يؤيد الاحتمال الأوّل ، أي كون المقصود من الحالة الاولى الإشارة إلى حالة العلم الإجمالي تعبير الإمام علیه السلام : « فشككت في موضع منه » حيث اضيف الشكّ إلى الموضع لا إلى الإصابة فلم يقل علیه السلام إذا شككت في الإصابة بل قال إذا شككت في موضع منه ، وهذا معناه انّ أصل الإصابة مقطوع وإنّما الشكّ والتردّد في الموضع. وممّا يؤيّد الاحتمال الثاني ، أي كون المقصود من الحالة الاولى الشكّ البدوي تعبير الإمام عليه السلام بالشكّ دون العلم فلم يقل إذا علمت بل قال إذا شككت.

الأثناء ولم يقطع بوجودها قبل الصلاة فاستصحاب الطهارة جار فى حقّه - وهو حجّة وهذا هو المقصود - أمّا إذا قطع بوجودها قبل الصلاة - سواء كان على علم إجمالي قبل الصلاة أو على شكّ بدوي - فعليه إعادتها ولا يجري الاستصحاب في حقّه.

إذن دلالة الرواية على حجّية الاستصحاب واضحة سواء كان مقصود الإمام علیه السلام الاحتمال الأوّل أو الاحتمال الثاني فإنّ ذلك لا يؤثّر من هذه الناحية.

إشكال وجواب

ذكر الشيخ الأعظم في الرسائل انّ جواب الإمام علیه السلام عن السؤال السادس يتنافى وجوابه عن السؤال الثالث ، فإنّه في جواب السؤال السادس الناظر إلى صورة الالتفات للنجاسة أثناء الصلاة فصّل علیه السلام بين شقّين ، ففي الشقّ الأوّل ذكر انّ من شكّ في موضع النجاسة قبل الصلاة ثمّ التفت إليها أثناء الصلاة وحصل له القطع بأنّها النجاسة المشكوكة الموجودة قبل الصلاة (1) تجب عليه إعادة الصلاة من جديد حيث قال علیه السلام : « تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته ». والخصوصيات المذكورة في جواب الإمام هذا :

أ - الشكّ في وجود الدم قبل الصلاة.

ب - والقطع أثناء الصلاة بأنّه الدم السابق.

وعلى ضوء هاتين الخصوصيتين حكم الإمام علیه السلام بلزوم الإعادة.

ص: 22


1- استفدنا قطع زرارة بأنّ النجاسة المرئية أثناء الصلاة هي عين النجاسة السابقة من ذكر الضمير في قوله : « ثمّ رأيته » ، فإنّ الهاء راجعة إلى الدم المشكوك وجوده سابقا.

وإذا رجعنا إلى السؤال الثالث وتأمّلنا فى فرضياته الأربع وجدنا انّ الفرضية المشتملة على الشكّ السابق واليقين اللاحق هي الفرضية الثالثة (1) حيث فرض فيها حصول الشكّ في إصابة الدم عند الفحص وعدم رؤية النجاسة ، وفرض أيضا حصول القطع - عند رؤية الدم بعد الصلاة - بكونه عين الدم السابق المشكوك ، وقد حكم علیه السلام بعدم لزوم الإعادة. انّ حكم الإمام علیه السلام بعدم لزوم الإعادة عند انكشاف النجاسة بعد الفراغ من الصلاة واليقين بسبقها عليها يتنافى وحكمه بلزوم الإعادة عند انكشاف النجاسة أثناء الصلاة واليقين بسبقها عليها ، فإن كلا الموردين يتفق في خصوصيات مشتركة ، ففي كليهما يوجد شكّ سابق على الصلاة ويقين لا حق بسبق النجاسة على الصلاة ، غاية الأمر في أحد الموردين انكشف أثناء الصلاة سبق النجاسة وفي المورد الآخر انكشف بعد تمام الصلاة سبق النجاسة ، فإذا كانت الإعادة لازمه فمن المناسب الحكم بلزومها في كلا الموردين وإذا لم تكن لازمه فمن المناسب الحكم بعدم لزومها في كلا الموردين ، إذ التفرقة بينهما بعد الاتحاد في الخصوصيات لا يعرف لها وجه. وكون الانكشاف في أحد الموردين حاصلا أثناء الصلاة وفي المورد الثاني بعد الفراغ من الصلاة لا يصلح فارقا.

هذا حصيلة ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سره .

والجواب عن ذلك واضح حيث يقال انّ الانكشاف في الأثناء يمكن أن

ص: 23


1- وأمّا الاولى فقد فرض عدم وجود شكّ فيها ، وأمّا الثانية فقد فرض انّ السابق هو اليقين بعدم إصابة الدم واللاحق هو الشكّ ، وهذا عكس ما نطلبه ، وأمّا الرابعة فالمفروض فيها وجود الشكّ سابقا ولا حقا .

يكون له مدخلية في لزوم الإعادة بينما الانكشاف بعد الفراغ يكون له مدخلية في عدم لزوم الإعادة. إنّ هذا احتمال وجيه ولا يمكن الجزم بعدمه. والأعراف العقلائيّة شاهد صدق على ما نقول ، فمن هيّأ له طعام لا يرغب فيه ، وبعد الفراغ من صنعه اطلع على أنّه ذلك الطعام الذي لا يرغب فيه فقد لا يأمر بتهيئة طعام جديد له بينما لو اطّلع على ذلك في الأثناء فقد يأمر بالعدول إلى صنع طعام آخر له الرغبة الكاملة فيه.

تفصيل الكلام في فقرتي الاستدلال
اشارة

إنّ ما سبق كان كلّه ناظرا إلى فقه الرواية ومعناها. والآن نريد التحدّث عن فقرتي الاستدلال بشيء من التفصيل وعرض بعض النكات المرتبطة بهما.

الفقرة الاولى
اشارة

والحديث في الفقرة الاولى - قلت : فإن ظننت انّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثمّ صلّيت فرأيت فيه؟ قال : تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت : ولم ذلك؟ قال : لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت وليس لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا - يقع في جهات :

الجهة الاولى

ذكرنا انّ الفقرة المذكورة تحتمل فرضيات أربع ، وبعد حذف الاولى من الحساب نبقى نحن والفرضيات الثلاث الأخيرة. وفي الفرضية الثانية كان المورد

ص: 24

يتحمّل الاستصحاب وقاعدة اليقين معا. والاستدلال بالرواية على حجّية الاستصحاب يتوقف على استظهار كون مقصود الإمام علیه السلام من قوله : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك ... » الاستصحاب دون قاعدة اليقين. وفي هذه الجهة يراد تقريب هذا الاستظهار.

وحاصل ذلك : انّ كون المقصود الاستصحاب يتوقّف على تمامية أركانه ، وهكذا كون المقصود قاعدة اليقين يتوقّف على تمامية أركانها. ونحن لو تأمّلنا في الفقرة المذكورة وجدنا انّ أركان قاعدة اليقين غير متوفّرة بينما أركان الاستصحاب متوفّرة فيتعيّن حمل الفقرة المذكورة على الاستصحاب.

أمّا عدم توفّر أركان قاعدة اليقين فلأنّها - أركان قاعدة اليقين - عبارة عن اليقين المتزلزل والشكّ الساري. والركن الأوّل - أي اليقين المتزلزل - غير متوفر ؛ إذ لا يوجد ما يدلّ عليه سوى قول زرارة « فنظرت فلم أر شيئا » ، ومن الواضح انّ إخبار زرارة بعدم رؤيته للدم بعد النظر لا يدلّ على أنّ مقصوده حصول اليقين له بعدم إصابة الدم للثوب ، فإنّا كثيرا ما نفحص عن شيء ولا نعثر عليه ومع ذلك لا يحصل لنا اليقين بعدم حصوله ، فقطرة البول قد نحسّ بإصابتها للقدم عند التبوّل ونفحص عنها ولا نراها ومع ذلك لا يحصل لنا اليقين بعدمها ، فالتعبير المذكور - فنظرت فلم أر شيئا - لا يدل إذن على توفر الركن الأوّل حتّى على تقدير تسليم دلالة قوله : - فرأيت فيه - على الركن الثاني ، أي حصول الشكّ الساري.

وبكلمة مختصرة : انّ ما يمكن أن يكون دالاّ على الركن الأوّل قوله : « فنظرت فلم أر شيئا » ، وما يمكن أن يكون دالا على الركن الثاني قوله : « فرأيت

ص: 25

فيه » ، ولئن سلّمنا بدلالة العبارة الثانية على الركن الثاني (1) فلا يسعنا التسليم بدلالة العبارة الاولى على الركن الأوّل.

هذا كلّه بالنسبة إلى أركان قاعدة اليقين. وقد اتّضح عدم توفّرها فلا يمكن حمل الرواية عليها.

وأمّا توفّر أركان الاستصحاب فلأنّ لزرارة يقينا حاصلا له قبل ظنّ إصابة الدم ، كما ويوجد له شكّ في بقاء الطهارة حصل له عند فراغه من الصلاة ورؤيته دما يحتمل انّه السابق. وما دامت أركان الاستصحاب متوفّرة بخلاف أركان قاعدة اليقين فيلزم حمل الرواية على الاستصحاب.

الجهة الثانية

بعد أن اتّضح في الجهة الاولى أنّ الرواية ناظرة إلى الاستصحاب دون قاعدة اليقين ينفتح مجال لحديث آخر ، وهو انّ الاستصحاب الذي أجراه الإمام علیه السلام لزرارة هل أجراه بعد فراغ زرارة من صلاته وسؤاله من الإمام علیه السلام عن تحديد موقفه أو إجراه له قبل دخوله في صلاته أي حينما فحص ولم ير النجاسة (2)؟

ص: 26


1- مع أنّه يمكن التشكيك في ذلك أيضا ؛ إذ قد يقول قائل انّ المقصود من « فرأيت فيه » رؤية نفس النجاسة السابقة لا رؤية نجاسة يشكّ في أنّها السابقة. وهذا الكلام وإن لم يكن مقبولا لدى السيّد الشهيد كما سيأتي في الجهة الثانية ولكنّه كلام قد يقال. وبناء عليه يلزم أن يكون الشكّ الذي يتطلّبه الاستصحاب هو الشكّ الحاصل قبل الصلاة عند الفحص وعدم رؤية النجاسة.
2- وقد تسأل عن ثمرة هذا البحث وانّه ما فائدة البحث عن كون الاستصحاب هل أجراه الإمام علیه السلام بلحاظ ما قبل الصلاة أو بلحاظ ما بعدها؟ انّ ثمرة ذلك تظهر في البحث المطروح في الجهة الثالثة كما سيأتي.

انّ الجواب عن هذا السؤال يحتاج إلى الرجوع للرواية والتأمّل في التعبيرات الواردة فيها. فزرارة بعد فراغه من الصلاة ذكر التعبير التالي : « فرأيت فيه ». انّ هذا التعبير لو كان يقصد منه زرارة انّي رأيت نفس النجاسة المظنون إصابتها لثوبي سابقا فالاستصحاب لا يمكن إجراؤه بعد الصلاة ؛ إذ المفروض انّه بعد الصلاة رأى في ثوبه النجاسة التي يقطع بسبقها على الصلاة ، والاستصحاب لا يجري إلاّ إذا كان في الزمان اللاحق شكّ. ويتعيّن بناء على هذا أن يكون الإمام علیه السلام قد أجرى الاستصحاب بلحاظ ما قبل الصلاة ، أي حين الفحص وعدم رؤية النجاسة ، فإنّ هذا الحين يوجد فيه شكّ ويمكن إجراء الاستصحاب بلحاظه.

هذا كلّه لو نظرنا إلى التعبير الذي ذكره زرارة بعد فراغه من الصلاة.

أمّا إذا نظرنا إلى التعبير الآخر الذي يحكي حالة زرارة قبل شروعه في الصلاة - فنظرت فلم أر شيئا - واستفدنا منه انّ زرارة قد حصل له اليقين - قبل الصلاة وبعد الفحص - بعدم إصابة الدم ثوبه ، بناء على هذا لا يمكن إجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل الصلاة ؛ إذ لا يوجد في الزمان المذكور شكّ حسب الفرض حتّى يجري الاستصحاب ، ويتعيّن كون مقصود الإمام علیه السلام إجراء الاستصحاب بلحاظ ما بعد الصلاة.

إذن الجواب عن السؤال المطروح في هذه الجهة يرتبط بالتأمّل في هذين التعبيرين.

وبالرجوع إلى التعبيرين من جديد والتأمّل في قوله : « فرأيت فيه » لا نجد فيه دلالة على أنّ مقصود زرارة انّي رأيت فيه نفس الدم السابق ، إنّ هذا لو كان

ص: 27

هو المقصود لزرارة فمن المناسب له ذكر الضمير فيقول : « فرأيته فيه » ، فإنّ الإنسان العرفي إذا أراد التعبير عن رؤية الدم السابق يقول : « رأيته فيه » فيأتي بالهاء ولسانه لا يطاوعه على تركها.

ولا يمكن أن يقال انّ ترك الضمير من قبل زرارة لعلّه قد حصل عفوا وبلا التفات إلى النكتة التي أشرنا إليها ، إنّ هذا بعيد. كيف ذا وزرارة ذلك العالم النحرير!! خصوصا ونحن نرى انّه ذكر الضمير في الفقرة الثانية حيث قال فيها : « فلمّا صلّيت وجدته » ، إنّ ذكر الضمير تارة وحذفه اخرى يدلّ على وجود نكات يريد زرارة من وراء ذلك الإشارة لها.

وباختصار : ما دام قول زرارة : « فرأيت فيه » لا يدلّ على رؤية الدم السابق ، وما دام زرارة بعدم ذكره للضمير يريد القول بأنّي رأيت دما احتمل انّه السابق ولا أقطع بأنّه هو فجريان الاستصحاب بلحاظ ما بعد الصلاة يكون وجيها جدّا.

وقد تقول : انّ هذا المقدار لا ينفي وجاهة إجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل الصلاة.

والجواب : انّ كون المقصود إجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل الصلاة بعيد ، فإنّ التعبير الذي حكى به زرارة حالته قبل الصلاة - فنظرت فلم أر شيئا - وإن كان لا يدلّ على حصول اليقين له بعدم إصابة الدم لثوبه ، ولازم ذلك إمكان إجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل الصلاة ، إلاّ أنّ إرادة ذلك منه أمر محتمل ، فمن المحتمل أن يكون زرارة قد قصد من التعبير المذكور انّي بالفحص وعدم رؤية الدم حصل لي القطع بعدم إصابة الدم ثوبي. وما دام هذا الاحتمال ثابتا ووجيها

ص: 28

فلا معنى لإلزام الإمام علیه السلام زرارة بإجراء الاستصحاب قبل الصلاة ، إنّ الالزام بذلك فرع أن يفرض زرارة شكّه في الإصابة بعد أن قام بالفحص ، وحيث انّ هذا الفرض لم يتحقّق من زرارة افتراضه فلا يمكن للإمام علیه السلام أن يلزمه بإجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل الصلاة.

وبهذه الكيفية من البيان ينفى احتمال إجراء الإمام علیه السلام للاستصحاب بلحاظ ما قبل الصلاة ويتعيّن أن يكون إجراؤه بلحاظ ما بعد الصلاة.

ولربّ قائل يقول انّ هذا البيان لاستفادة كون إجراء الاستصحاب قد تمّ بلحاظ ما بعد الصلاة وإن كان وجيها بيد أنّه توجد قرينة تقتضي كون جريان الاستصحاب قد لو حظ فيه حالة ما قبل الصلاة ، وهي استغراب زرارة ، فإنّ الإمام علیه السلام لمّا حكم بصحّة الصلاة استغرب زرارة وقال للإمام علیه السلام : ولم ذاك. وهذا الاستغراب لا وجه له ما دام إجراء الاستصحاب قد تمّ بلحاظ ما بعد الصلاة ؛ فإنّ الاستصحاب بعد الصلاة لا يجري إلاّ مع الشكّ في سبق النجاسة ، أي لا بدّ وأن يكون مقصود زرارة من قوله : « ثمّ صلّيت فرأيت فيه » انّي رأيت نجاسة بعد الصلاة احتمل أنّها السابقة ولا أجزم بذلك ، إذ لو كان جازما بأنّها السابقة فلا يمكن جريان الاستصحاب في حقّه فإنّ جريان الاستصحاب فرع الشك ، ومع جريان الاستصحاب فلا وجه للاستغراب من حكم الإمام علیه السلام بصحّة الصلاة ، فاستغرابه دليل على أنّه كان قاطعا بأنّ النجاسة التي رآها بعد الصلاة هي السابقة وأنّ صلاته قد وقعت في النجس جزما ، ومع جزمه هذا فلا يمكن جريان الاستصحاب في حقّه بلحاظ ما بعد الصلاة ويتعيّن أن يكون بلحاظ ما قبل الصلاة وهو ما قلناه.

ص: 29

هذا ولكن يمكن ردّ هذه القرينة بأنّ استغراب زرارة يمكن أن يكون من جهة اخرى ، فهو كان يعتقد أنّ المبرر لدخوله في الصلاة - مع الالتفات إلى أنّه كان يحتمل إصابة النجاسة ثوبه - هو ظنّه بعدم الإصابة الحاصل بسبب الفحص وعدم رؤية النجاسة ، وحيث انّ هذا الظنّ زال بعد الصلاة لأنّه رأى نجاسة يشكّ أنّها السابقة - ومع طروّ هذا الشكّ يزول الظنّ السابق بعدم إصابة النجاسة ثوبه - فكان يتوقع من الإمام علیه السلام أن يحكم ببطلان الصلاة. ولمّا لم يحكم علیه السلام بذلك استغرب.

ثمّ انّك إذا قبلت هذا التوجيه للاستغراب فبها. وإن لم تقبله وكنت جازما بأنّ استغراب زرارة دليل واضح على جزمه بكون النجاسة التي رآها هي السابقة فيتعين أن يكون إجراء الاستصحاب قد تمّ بلحاظ ما قبل الصلاة. وحينئذ يتولّد إشكال نذكره في الجهة الثالثة.

الجهة الثالثة

إنّ إجراء الاستصحاب إذا كان قد تمّ بلحاظ ما قبل الصلاة فسيتولّد إشكال حاصله : انّ لازم إجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل الصلاة وعدم إجرائه بلحاظ ما بعد الصلاة أنّ زرارة كان قاطعا عند رؤيته للنجاسة بعد الصلاة أنّها نفس النجاسة السابقة وليس شاكا في ذلك. وقطعه هذا - أي بأنّ النجاسة المشاهدة بعد الصلاة هي عين السابقة - معناه القطع بمخالفة استصحاب الطهارة الجاري قبل الصلاة للواقع. ومع هذا القطع بالمخالفة كيف يستند له الإمام علیه السلام ويحكم لأجله بصحة الصلاة ، انّه غير ممكن لأنّ الحكم الظاهري حجّة ما دام لم

ص: 30

ينكشف مخالفته للواقع. هذا سؤال قد يطرح.

وقد أجاب الأعلام عنه بأحد جوابين : -

أ - إنّ كلام الإمام علیه السلام يشتمل على مقدّمة مضمرة لم يصرّح بها ، وهي إجزاء الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي ، فإنّ الاستصحاب إذا كان جاريا قبل الصلاة تولّد منه حكم ظاهري بطهارة الثوب. وهذا الحكم الظاهري وإن انكشف خطأه ولكنّه يكفي لتصحيح الصلاة وعدم وجوب إعادتها إذ امتثال الحكم الظاهري يجزي عن امتثال الحكم الواقعي.

ب - إنّا وإن لم نقل باجزاء امتثال الحكم الظاهري عن امتثال الحكم الواقعي فبالإمكان الحكم أيضا بصحّة الصلاة باعتبار انّ شرط صحّة الصلاة ليس هو خصوص طهارة الثوب طهارة واقعية بل طهارة الثوب طهارة أعمّ من الواقعية والظاهرية ، فإذا جرى الاستصحاب ما قبل الصلاة تثبت طهارة الثوب طهارة ظاهرية وكان شرط صحّة الصلاة ثابتا حقيقة حتّى وإن انكشف بعد ذلك مخالفته للواقع ، فإنّ انكشاف مخالفته للواقع لا يعني عدم ثبوت الطهارة الظاهرية في زمان ما قبل الانكشاف. وما دام الشرط متحقّقا حقيقة فالحكم بصحّة الصلاة يكون على مقتضى القاعدة.

الجهة الرابعة

وبعد أن ثبتت دلالة المقطع المذكور على الاستصحاب لا على قاعدة اليقين قد تسأل هل المستفاد منه حجّية الاستصحاب في خصوص مورده - وهو الشكّ في طروّ النجاسة على الثوب - أو في جميع الموارد؟

ص: 31

والجواب : انّ المستفاد منه حجّية الاستصحاب في جميع الموارد لنفس النكتة التي أشرنا إليها في صحيحة زرارة الاولى ، وهي التمسّك بظهور التعليل في كونه تعليلا بأمر ارتكازي. بل انّ تمامية هذه النكتة في هذه الرواية أوضح منه في الرواية السابقة ، إذ في هذه الرواية صرّح بالتعليل ولم يؤت باللام حيث قال الإمام علیه السلام : « وإلاّ فإنّه على يقين ... ». والتعليل ظاهر في كونه تعليلا بأمر ارتكازي إذ التعليل عادة لا يكون إلاّ بأمر ارتكازي.

وهكذا صرّح في هذه الرواية بجمله « وليس ينبغي » الظاهرة في ارتكازية المطلب. ومن الواضح انّ المرتكز في أذهان العقلاء عدم جواز نقض مطلق اليقين بمطلق الشكّ ولا خصوصية لليقين بطهارة الثوب.

هذا كلّه في الفقرة الاولى من فقرتي الاستدلال بصحيحة زرارة الثانية.

الفقرة الثانية

والفقرة الاخرى في صحيحة زرارة الثانية التي تصلح أن تكون دليلا على حجّية الاستصحاب ما ذكره الإمام علیه السلام في جواب السؤال السادس ، فإنّه علیه السلام فصّل بين شقّين. وموضع الاستشهاد يكمن في الشقّ الثاني حيث قال علیه السلام : « وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا ... ثمّ بنيت على الصلاة لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ ».

وتقريب الاستشهاد بهذه الفقرة على حجّية الاستصحاب أن يقال : ماذا يراد من قوله علیه السلام : وإن لم تشكّ ... الخ؟ إنّ فيه احتمالين ، فلربّما يراد به القطع بالطهارة ، أي انّ لم تشك في إصابة الدم للثوب بل كنت قاطعا بالطهارة فلا تجب

ص: 32

عليك الإعادة.

وقد يراد به حالة الذهول ، أي وإن لم تشكّ في إصابة الدم بأن كنت ذاهلا عن ثوبك.

فإن كان المقصود هو الأوّل - أي إن كنت قاطعا بعدم إصابة الدم ثوبك فليس عليك إعادة - فالمورد يكون قابلا لجريان الاستصحاب وجريان قاعدة اليقين معا لتوفّر أركان كل واحد منهما.

أمّا توفّر أركان قاعدة اليقين - التي هي عبارة عن اليقين السابق القابل للتزلزل والشكّ اللاحق الساري إلى اليقين - فباعتبار انّ المكلّف إذا كان قاطعا قبل الصلاة بعدم إصابة الدم ثوبه - حيث فرضنا أنّ قوله علیه السلام : « وإن لم تشكّ » يراد به القطع بعدم إصابة الدم للثوب - فحينما يرى الدم في أثناء الصلاة تصير رؤية الدم هذه سببا لشكّه في صحّة يقينه سابقا وطروّ التزلزل عليه.

وأمّا توفّر أركان الاستصحاب فلأنّ زرارة حينما اشترى الثوب من بائع الأقمشة مثلا كان على يقين من طهارته وعدم وجود قطعة الدم فيه فإذا رأى قطعة الدم بعد ذلك أثناء الصلاة وشكّ في سبق وجودها لم تكن الرؤية موجبة لشكّه في صحّة يقينه السابق ، وإذا كان يقينه السابق باقيا على القوة ولم يطرأ عليه تزلزل صحّ استصحابه إلى حين رؤية النجاسة أثناء الصلاة.

وبعد أن عرفنا انّ مورد الرواية صالح للاستصحاب وقاعدة اليقين معا فبالإمكان تعيين إرادة الإمام علیه السلام وتوجّه نظره إلى الاستصحاب بقرينتين : -

أ - انّ الرواية صريحة في ذكر التعليل قال علیه السلام : « لأنّك لا تدري ... » ، وقد تقدّم انّ التعليل لا يصحّ عرفا إلاّ بأمر ارتكازي ، مضافا إلى أنّ ذكر جملة « فليس

ص: 33

ينبغي » له ظهور جلي في كون المطلب أمرا ارتكازيا ، ومن الواضح انّ المرتكز في أذهان العقلاء هو الاستصحاب دون قاعدة اليقين ، فإنّ العقلاء لا يبنون على الأخذ باليقين بعد تزلزله وزواله بالشكّ.

ب - ان التعبير الوارد في كلتا الفقرتين الثالثة والسادسة واحد وهو « ليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ » ، وحيث أثبتنا سابقا أنّ المقصود من التعبير المذكور في الفقرة الثالثة هو الاستصحاب دون قاعدة اليقين فيثبت أنّ المقصود منه في الفقرة السادسة ذلك أيضا بقرينة وحدة سياق مجموع الرواية.

هذا كلّه لو كان المقصود هو الأوّل.

وأمّا لو كان المقصود هو الثاني ، أي كان المقصود من قوله : « وإن لم تشك » حالة الذهول فدلالة الرواية على حجّية الاستصحاب أوضح لأنّ المورد لا يكون قابلا لقاعدة اليقين بل يختص بالاستصحاب.

أمّا عدم جريان قاعدة اليقين فلعدم وجود يقين سابق قبل الصلاة يمكن تزلزله برؤية الدم أثناء الصلاة ، إذ المفروض انّ قوله : « وإن لم تشكّ » لم يرد به اليقين بعدم النجاسة.

وأمّا جريان الاستصحاب فلتوفر أركانه ، إذ حين شراء الثوب من بائع الأقمشة مثلا كان لزرارة يقين بطهارته وعدم وجود قطعة الدم فيه فإذا رأى الدم أثناء الصلاة وشكّ في سبقه جرى استصحاب الطهارة الثابتة حين شراء الثوب ، فإن اليقين المذكور لا يقبل التزلزل برؤية الدم أثناء الصلاة.

وبهذا كلّه يتّضح تمامية دلالة صحيحة زرارة الثانية بكلا مقطعيها الثالث والسادس على حجّية الاستصحاب.

ص: 34

قوله ص 210 س 10 دم رعاف : دم الرعاف هو الدم الخارج من الأنف.

قوله ص 210 س 10 : أو غيره : هذه الكلمة موجودة في بعض نسخ الحديث ، ومن هنا وضعت في الكتاب بين قوسين.

ثمّ انّ الظاهر انّ كلمة « غيره » عطف على رعاف - أي دم رعاف أو غير رعاف - وليست عطفا على دم وإلاّ كان المقصود أصاب ثوبي دم أو غير دم وهو ضعيف لأنّ غير الدم قد صرّح زرارة بذكره بقوله : أو شيء من المني.

وعلى أي حال تحقيق حال العطف المذكور ليس له أي تأثير في الاستدلال بالرواية.

قوله ص 210 س 11 : فعلّمت : بتشديد اللام ، أي جعلت عليه علامة.

قوله ص 210 س 13 : بعد ذلك : أي بعد الفراغ من الصلاة.

قوله ص 210 س 13 : وتغسله : الواو لمطلق الجمع ولا يقصد بها الترتيب فلا يشكل بأنّ المناسب أن يقول الإمام علیه السلام : تغسله وتعيد الصلاة.

قوله ص 211 س 6 : على يقين من طهارتك : أي الثابت قبل ظنّ الإصابة على تقدير كون المقصود الاستصحاب ، أو الثابت حين النظر وعدم رؤية شيء بناء على كون المقصود قاعدة اليقين.

قوله ص 211 س 10 : حتّى تكون على يقين من طهارتك : استدل البعض بهذه الفقرة أيضا على حجّية الاستصحاب كما أشرنا لذلك سابقا.

قوله ص 211 س 14 : وانا في الصلاة : بخلاف ذلك فيما سبق حيث كانت رؤية الدم بعد الفراغ من الصلاة.

قوله ص 211 س 15 : إذا شككت في موضع الخ : أي قبل الصلاة.

ص: 35

قوله ص 211 س 16 : قطعت الصلاة : أي قطعت مواصلة الصلاة قليلا ، وليس المراد إبطال الصلاة.

قوله ص 212 س 4 : فقه الأسئلة : أي المقصود منها ومعناها.

قوله ص 212 س 14 : إنّما يدلّ على ذلك : أي على اعتقاد انّ عدم تشخيص موضع النجاسة مسوّغ للدخول في الصلاة.

قوله ص 213 س 15 : وطبق قاعدة من قواعد الشكّ : أي امّا الاستصحاب أو قاعدة اليقين.

قوله ص 214 س 2 : في ظرف السؤال : هذا تفسير كلمة « فعلا ». وكان من المناسب إضافة كلمة « أي » ليصير التقدير : أي في ظرف السؤال.

قوله ص 214 س 4 : في ظرف : المناسب إضافة كلمة « أي » كما سبق.

قوله ص 214 س 9 : ما فحص عنه : كلمة « ما » موصولة وليست نافية.

قوله ص 215 س 10 : إن كان قد شكّ في موضع منه : أي قبل الصلاة.

قوله ص 216 س 2 : والنتيجة المفهومة واحدة الخ : أي التردّد بين الاحتمالين السابقين لا يؤثّر على الاستدلال بالرواية لأنّ المفهوم منها على كلا الاحتمالين انّ المكلّف في صورة عدم وجود الشكّ له ان يستصحب الطهارة.

قوله ص 216 س 15 : كذلك : أي أثناء الصلاة.

قوله ص 217 س 5 : في حالته : أي حالة السائل.

قوله ص 217 س 17 : فعلا : أي بلحاظ حال السؤال.

قوله ص 217 س 15 : حينئذ : أي حين رؤية الدم بعد الفراغ من الصلاة.

قوله ص 217 س 15 : لأنّ فرض ذلك : أي فرض إجراء الاستصحاب

ص: 36

بلحاظ حال السؤال.

قوله ص 218 س 5 : بل حذف المفعول الخ : لعلّ جودة سبك العبارة أضفى عليها شيئا من الغموض. والمقصود : انّ حذف المفعول وعدم ذكره ضميرا راجعا إلى النجاسة الخ.

الرواية الثالثة
اشارة

ولزرارة رواية ثالثة ترتبط بمسألة الاستصحاب إلاّ أنّها ليست مضمرة - كما كان الحال كذلك في الروايتين السابقتين - حيث ينقلها عن أحدهما علیه السلام ، أي الإمام الصادق أو الإمام الباقر علیهماالسلام .

وفي هذه الرواية يسأل زرارة عمّن شكّ في صلاته بين الثنتين والأربع فأجاب علیه السلام بلزوم الإتيان بركعتي الاحتياط من قيام يقرأ في كل واحدة منهما سورة الفاتحة. ثمّ تبرّع الإمام علیه السلام ومن دون سؤال من زرارة ببيان حكم من شكّ بين الثلاث والأربع وانّه يلزمه الإتيان بركعة احتياط واحدة من قيام ، وعلّل علیه السلام الحكم المذكور بقوله : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » واكّد ذلك بتأكيدات متعدّدة حيث قال علیه السلام : « ولا يدخل الشكّ في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكن ينقض الشكّ باليقين ... ».

والفقرة التي يراد الاستشهاد بها قوله : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » بتقريب انّ المراد من اليقين هو اليقين بعدم الإتيان بالركعة الرابعة حيث إنّ كل مصل في بداية شروعه في الصلاة له يقين بعدم الإتيان بالركعة الرابعة فإذا شكّ في الإتيان بها بعد فراغه من الثلاث استصحب عدم الإتيان بها.

ص: 37

هذا ولكن في النفس شيء من كون مقصود الرواية الاستصحاب حيث انّ ذلك لو كان هو المراد فلا داعي إلى ذكر التأكيدات المتكرّرة فكان بإمكان الإمام علیه السلام الاقتصار على قوله : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » بلا حاجة لتأكيد ذلك بقوله : « ولا يدخل الشكّ في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكن .. ».

إنّ هذه التأكيدات المتكرّرة تدعو إلى ولادة احتمال جديد في مقصود الرواية ، وهو الإرشاد إلى قاعدة « الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني » ، فكأنّها تريد أن تقول انّ الشاكّ في الاتيان بالركعة الرابعة يلزمه تحصيل اليقين بفراغ ذمّته بعد علمه باشتغالها ولا يحقّ له الاكتفاء باحتمال الفراغ.

ولكن كيف يتمّ تحصيل اليقين بفراغ الذمّة؟ انّه يتمّ بإكمال الصلاة ثمّ الإتيان بركعة احتياط بعد الصلاة خلافا للعامّة حيث يقولون بأنّ ركعة الاحتياط يلزم الاتيان بها متّصلة قبل التسليم. وحيث إنّ جانب التقية يمنع الإمام علیه السلام من التصريح بالاتيان بها منفصلة بعد التسليم أخذ علیه السلام بذكر تأكيدات متكرّرة تلميحا إلى لزوم الفصل وعدم جواز الوصل فانظر إلى قوله علیه السلام : « ولا يدخل الشكّ في اليقين ولا يخلط أحدهما في الآخر » تراه واضحا في ذلك.

اعتراضات على الرواية الثالثة
اشارة

وقد وجهت عدّة اعتراضات على التمسّك بالرواية لاثبات حجّية الاستصحاب نذكر منها ثلاثة : -

الاعتراض الأوّل

ما ذكره الشيخ الأعظم في الرسائل وهو انّ من المحتمل أن لا تكون الرواية

ص: 38

ناظرة إلى الاستصحاب بل إلى قاعدة « الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني » على ما أشرنا له قبل قليل. وعلى هذا يكون المراد من اليقين اليقين بفراغ الذمّة ومن الشكّ الشكّ في فراغ الذمّة ، فكأنّه علیه السلام يريد أن يقول إنّه لا بدّ من تحصيل اليقين بفراغ الذمّة ولا ينبغي الاكتفاء بالشكّ في فراغ الذمّة. وبناء عليه تكون الرواية أجنبية عن الاستصحاب.

هذا ولكن يرد على ذلك : -

أ - انّ ظاهر جملة « ولا ينقض اليقين بالشكّ » وجود اليقين لدى المكلّف بالفعل ، فاليقين الثابت بالفعل لا يجوز نقضه بالشكّ ، ومن الواضح أنّه لو كان المراد الإشارة إلى قاعدة « الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني » لم يكن اليقين ثابتا بالفعل بل المكلّف يلزمه السعي لتحصيله بعد ان لم يكن.

ب - انّ ظاهر جملة « ولا ينقض اليقين بالشكّ » انّ الأخذ بالشكّ والركون له يستلزم نقض اليقين وطرحه ، ومن الواضح انّه بناء على إرادة قاعدة الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني لا يلزم ذلك - أي لا يلزم من الركون إلى الشكّ نقض اليقين - وإنّما يلزم إهمال حكم العقل بلزوم تحصيل اليقين بفراغ الذمّة.

الاعتراض الثاني
اشارة

ما ذكره الشيخ الأعظم في الرسائل أيضا. وحاصله : انّ تطبيق الرواية على الاستصحاب متعذّر ، إذ المقصود من إجراء استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة إن كان هو إثبات لزوم الإتيان بركعة اخرى متصلة بالركعات السابقة بدون فصل بالتسليم فهذا مخالف لمذهب الشيعة القاضي بلزوم الإتيان بالركعة

ص: 39

القاضي بلزوم الإتيان بالركعة المشكوكة منفصلة بعد التسليم.

وإن كان المقصود إثبات لزوم الإتيان بالركعة المشكوكة مفصولة بعد التسليم فهذا وإن كان موافقا لمذهب الشيعة إلاّ أنّه مخالف للاستصحاب ، فإنّ استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة المتّصلة يقتضي لزوم الإتيان بها متّصلة قبل التسليم ، وأمّا الإتيان بها منفصلة فليس هو نفس المستصحب ولا لازما شرعيا له ، ومن الواضح انّ الاستصحاب لا يثبت به إلاّ نفس المستصحب أو لوازمه الشرعية.

أجل الإتيان بالركعة المشكوكة بنحو الانفصال بعد التسليم من لوازم الشكّ ، فإنّ من شكّ في الإتيان بالركعة الرابعة فمن اللازم الإتيان بها منفصلة إذ بذلك يحصل اليقين بفراغ الذمّة (1) ، فالإتيان بالركعة منفصلة من لوازم نفس الشكّ وليس من لوازم المستصحب - عدم الإتيان بالركعة الرابعة المتّصلة - لتثبت بالاستصحاب ، فإنّ الاستصحاب يترتّب عليه المستصحب أو لوازمه الشرعية دون لوازم نفس الشكّ ، فإنّ لوازم الشكّ تثبت بنفس الشكّ بلا حاجة إلى الاستصحاب (2). ولأجل هذا الإشكال ذكر الشيخ الأعظم انّه لا بدّ من حمل

ص: 40


1- بخلاف الإتيان بها متّصلة فإنّه لا يحصل به اليقين بالفراغ لاحتمال الإتيان بها وبذلك يكون الإتيان بها من جديد زيادة في أركان الصلاة فتبطل بخلاف الإتيان بها منفصلة فإنّه لا يلزم إلاّ محذور زيادة التشهّد والتسليم وهي غير مخلّة بصحّة الصلاة لأنّهما ليسا من الأركان.
2- قد يقال في تقريب انّ الإتيان بالركعة المشكوكة بنحو الانفصال من لوازم نفس الشكّ انّ وجوب الإتيان بالركعة الرابعة حكم ظاهري موضوعه الشكّ ، فمن شكّ في الإتيان بالرابعة لزمه الإتيان بها ظاهرا حتّى على تقدير تحقّقها واقعا ، نظير من شكّ في الإتيان بصلاة الظهر ، فكما انّ نفس الشكّ يقتضي لزوم الإتيان بها بلا حاجة إلى استصحاب كذلك الحال في المقام. ويرده : انّ هذا البيان لا يثبت لزوم الإتيان بالركعة الرابعة بنحو الانفصال بل يقتضي لزوم الإتيان بها بنحو الاتصال ، حيث انّ الواجب على المكلّف الركعة المتصلة فإذا شكّ في تحقّقها لزمه الإتيان بها بنحو الاتصال.

الرواية على قاعدة « الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني » لا على الاستصحاب.

ردود على الاعتراض الثاني
اشارة

وقد ردّ هذا الاعتراض بعدّة ردود نذكر منها ثلاثة : -

الردّ الأوّل

ما ذكره الشيخ العراقي من اختيار الشقّ الأوّل ، أي كون المقصود إجراء الاستصحاب لاثبات وجوب الركعة المتّصلة. وهذا وإن كان مخالفا لمذهب الشيعة ومشتملا على التقية إلاّ أنّه لا مقتضي لحمل كبرى لا تنقض اليقين بالشكّ على التقية بل يحمل تطبيقها في المورد على التقية.

وبكلمة اخرى : انّ الإمام علیه السلام صدر منه مطلبان : كبرى لا تنقض اليقين بالشكّ ، وتطبيق الكبرى المذكورة على مورد الشكّ بين الثلاث والأربع لإثبات وجوب الركعة المتّصلة ، والمطلب الثاني وإن كان من اللازم حمله على التقية إلاّ أن المطلب الأوّل لا يلزم فيه ذلك لعدم مخالفة أصل كبرى لا تنقض لمذهب الشيعة ، ومعه فيؤخذ بالكبرى ويهجر تطبيقها على المورد.

ثمّ إنّ الشيخ العراقي نفسه أورد على هذا الردّ المقترح من قبله بأنّ الأمر

ص: 41

يدور بين احتمالين فأمّا أن تكون كبرى لا تنقض غير مشتملة على التقيّة ، وبذلك تكون التقية ثابتة في تطبيقها لإثبات وجوب الركعة المتّصلة ، أو تكون الكبرى هي المشتملة على التقية دون التطبيق ، فإنّ الكبرى إذا كان الإمام علیه السلام قد ذكرها لأجل التقية فتطبيقها على المورد لا يكون مشتملا على تقية ثانية زائدة على التقية الثابتة في نفس الكبرى.

وإذا دار الأمر بين الاحتمالين المذكورين : أي بين كون التقية في التطبيق دون أصل الكبرى وبين كونها - التقية - في الكبرى دون التطبيق فالتمسّك بأصالة عدم التقية في الكبرى الذي لازمه ثبوت التقية في التطبيق (1) معارض بأصالة عدم التقية في التطبيق الذي لازمه ثبوت التقية في الكبرى.

وأجاب الشيخ العراقي عن إشكال المعارضة هذا : بأنّ أصالة عدم التقية في التطبيق لا تجري لتكون معارضة لأصالة عدم التقية في الكبرى ؛ إذ عدم التقية في التطبيق لا أثر له حتّى يجري الأصل لإثباته ، فإنّ التطبيق يدور أمره بين احتمالين : بين أن يكون غير جدي ومشتملا على التقية ، وبين أن يكون جديا لا تقية فيه والتقية في الكبرى ، وعلى كلا التقديرين لا يكون - التطبيق - ذا أثر فيما لو كان جدّيا لكبرى جدية ، بأن كان التطبيق والكبرى معا جدّيين إذ حينذاك يمكن الانتفاع به ، امّا إذا كان ذا تقية أو كان جدّيا والتقية في الكبرى فلا يكون نافعا إذ ما الفائدة في تطبيق غير جدّي ، وعليه فأصالة عدم التقية في الكبرى تجري دون معارضة ، وذاك هو المطلوب.

ص: 42


1- وهذا الاحتمال هو النافع في المقام إذ المهم أن تكون الكبرى صادرة من الإمام علیه السلام لا للتقية وإن كان تطبيقها مشتملا على ذلك

هذا تمام الكلام في ردّ الشيخ العراقي على الاعتراض الثاني.

ويمكن مناقشته بأنّ حمل الرواية على التقية بعيد جدّا ومخالف للظاهر من ناحيتين : -

1 - انّ فقرة لا تنقض اليقين بالشكّ وردت في الفرع الثاني الذي تبرّع الإمام علیه السلام ببيانه (1) دون طلب مسبق من زرارة ، وواضح انّ التبرّع لا يلتئم والتقية ، إذ لو كان علیه السلام يتقي فيما ذكره في الفرع الثاني لما كان يتبرّع ببيانه بل يسكت عنه ، فتبرّع الإمام علیه السلام به دليل على عدم اشتماله على التقية.

2 - انّ الإمام علیه السلام أخذ بتكرار الفقرات في الفرع الثاني ، الأمر الذي يدلّ على وجود مزيد اهتمام - فإنّ المتكلّم إذا كان له اهتمام بمطلب معيّن يأخذ ببيانه بعبارات مختلفة وبأساليب متنوعة - ومن الواضح انّ التقية لا تتناسب ومزيد الاهتمام ؛ إذ الاهتمام يكون بالمطلب الواقعي ، فالمطلب الواقعي يستحق مزيد الاهتمام دون غير الواقعي الصادر للتقية.

الرد الثاني

ما ذكره الآخوند. وحاصله : انّ استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة يترتّب عليه أثران : -

أ - وجوب الإتيان بركعة رابعة.

ب - أن يكون الإتيان بالركعة الرابعة متّصلا بالصلاة. وبكلمة ثانية : يلزم

ص: 43


1- المراد من الفرع الثاني ما ذكره الإمام علیه السلام بقوله : وإذا شكّ بين الثلاث والأربع وقد أحرز الثلاث الخ.

أن يكون الإتيان بالركعة الرابعة قبل التشهّد والتسليم. وبكلمة ثالثة : انّ التشهّد والتسليم الحاصل قبل الإتيان بالركعة المشكوكة مانع ومبطل للصلاة.

ومقتضى إطلاق لا تنقض اليقين بالشكّ وجوب ترتيب كلا الأثرين ؛ إذ لم يقيد الإمام علیه السلام إجراء الاستصحاب بلحاظ خصوص الأثر الأوّل بل أطلق وقال لا تنقض اليقين بالشكّ ، ومقتضى إطلاقه لزوم ترتيب كلا الأثرين فيلزم الإتيان بركعة رابعة ، كما ويلزم أن تكون متّصلة إلاّ أنّ ترتيب الأثر الثاني - أي الإتيان بالركعة الرابعة متّصلة بسابقها - حيث انّه مخالف لمذهب الشيعة فيخصص إطلاق لا تنقض بلحاظ خصوص الأثر الأوّل.

إذن إجراء الاستصحاب في المورد ممكن ولكن بلحاظ خصوص الأثر الأوّل لا كلا الأثرين ، وهو معنى معقول وصحيح.

وأشكل غير واحد على كلام الآخوند هذا بأنّ الإتيان بالتشهّد والتسليم ما بين الركعة الثالثة والركعة لا إشكال في كونه مانعا ومبطلا للصلاة إلاّ أنّ هذه المانعية فيها احتمالان : أن تكون مانعية واقعية ، وأن تكون مانعية علمية.

والمراد من المانعية العلمية انّ الإتيان بالتشهّد والتسليم قبل الركعة الرابعة مانع ومبطل للصلاة فيما إذا علم المصلّي انّه لم يأت بعد بالركعة الرابعة ، امّا إذا لم يعلم بذلك وكان شاكّا فلا يكون مبطلا حتّى وإن فرض واقعا أنّه لم يأت بالركعة الرابعة.

والمراد من المانعية الواقعية انّ الإتيان بالتشهّد والتسليم قبل الركعة الرابعة مبطل للصلاة سواء علم المكلّف بأنّه في الركعة الثالثة ولم يأت بالركعة الرابعة أم كان غير عالم بذلك.

ص: 44

وباتّضاح الاحتمالين نقول : انّ بني على أنّ المانعية مانعية واقعية فما ذكره الآخوند من إجراء الاستصحاب لترتيب خصوص الأثر الأوّل دون الأثر الثاني - أي إجراء الاستصحاب لإثبات أصل وجوب الإتيان بركعة اخرى بلا قيد الاتصال - أمر غير معقول وليس بصحيح ؛ إذ الإتيان بركعة رابعة متّصلة يعلم بعدم مطلوبيته ، فإنّ المكلّف إن كان قد أتى واقعا بأربع ركعات فالإتيان بالركعة الاخرى المشكوكة يكون إتيانا بركعة خامسة ، والخامسة غير مطلوبة جزما ، وإن كان قد أتى بثلاث فالإتيان بالرابعة وإن كان مطلوبا ولكن شريطة اتصالها بالركعات السابقة وعدم الفصل بالتشهّد والتسليم امّا مع الفصل بالتشهّد والتسليم فهي باطلة وغير مطلوبة ، إذ الإتيان بالتشهّد والتسليم قبل الركعة الرابعة مبطل للصلاة حتّى في صورة شكّ المكلّف وعدم علمه بأنّ تشهّده وتسليمه واقع قبل الإتيان بالركعة الرابعة.

هذا على تقدير كون المانعية مانعية واقعية.

وانّ بني على أنّ المانعية علمية فالإتيان بركعة اخرى منفصلة بالتشهّد والتسليم وإن كان من المحتمل مطلوبيته ولكن بناء على هذا الاحتمال لا يلزم التبعيض في آثار الاستصحاب وتخصيص دليل الاستصحاب بخصوص الأثر الأوّل ، إذ بناء على المانعية العلمية يكون استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة ذا أثر واحد ، وهو الأثر الأوّل فقط وليس له أثران - لأنّه بناء على هذا الاحتمال لا يكون وصل الركعة المشكوكة وعدم فصلها بالتشهّد والتسليم لازما ، فإنّ الوصل لازم في صورة العلم وأمّا عند الشكّ وإجراء الاستصحاب فلا يكون لازما - حتّى يقال بأنّ الاستصحاب يجري ولكن يلزم تخصيصه بلحاظ الأثر

ص: 45

الأول ، كلا بناء على هذا الاحتمال لا يلزم ذلك بل يلزم التصرّف في الدليل المانع من الإتيان بالتشهّد والتسليم قبل الركعة الرابعة ، إنّ ذلك الدليل يلزم تقييده بخصوص العالم ، فالعالم بأنّه لم يأت بالركعة الرابعة يكون الإتيان بالتشهّد والتسليم في حقّه مبطلا للصلاة دون الشاكّ.

والخلاصة : انّه على تقدير كون المانعية واقعية فالاستصحاب وإن كان له أثران إلاّ أنّ تخصيصه بخصوص الأثر الأوّل أمر غير معقول للعلم بعدم مطلوبية الإتيان بالركعة المشكوكة المنفصلة ، وعلى تقدير كون المانعية علمية فلا يلزم ما ذكره من تخصيص دليل الاستصحاب بخصوص الأثر الأوّل بل المحذور اللازم هو تخصيص الدليل المانع من التشهّد والتسليم قبل الركعة الرابعة بخصوص العالم (1).

الرد الثالث

ما ذكره الميرزا ، وهو انّ وصل الركعة الرابعة بالثالثة لا يجب واقعا في حقّ كل مصل لم يأت بالركعة الرابعة بل هو واجب واقعا في حقّ من لم يأت بالرابعة شريطة علمه بذلك ، فموضوع الحكم بوجوب الركعة الرابعة المتّصلة هو عدم الإتيان بالرابعة+ العلم بعدم الإتيان بها. وأمّا من لم يأت بالرابعة واقعا وكان شاكا في ذلك فهو موضوع للحكم واقعا بوجوب الركعة المنفصلة ، فموضوع

ص: 46


1- إن قلت : ما المحذور في الالتزام بتخصيص دليل المانعية بخصوص العالم؟ قلت : انّ هذا إذا كان هو المقصود للآخوند فهو نفس ما سننقله عن الشيخ النائيني في الردّ الثالث ، وما نناقشه به يكون مناقشة له أيضا.

الحكم بوجوب الركعة الرابعة المنفصلة واقعا هو عدم الإتيان بالرابعة+ الشكّ في الإتيان بها.

والإمام علیه السلام في الرواية كأنّه يريد أن يقول لزرارة انّ الواجب عليك واقعا الركعة الرابعة المنفصلة لأنّ كلا جزئي موضوعها ثابت في حقّك ، أمّا الشكّ فهو ثابت بالوجدان ، وأمّا عدم الإتيان بالركعة الرابعة فهو ثابت بالاستصحاب. فالإمام علیه السلام أجرى الاستصحاب ليثبت به الجزء الأوّل من الموضوع ، وبالتالي ليثبت به - بعد انضمام الشكّ الوجداني إليه - وجوب الإتيان بركعة رابعة منفصلة.

وإن شئت قلت : انّ الاعتراض الثاني الذي نحن بصدد الردّ عليه كان يقول انّ إجراء الاستصحاب لإثبات الركعة المتّصلة مخالف لمذهب الشيعة ، وإجرائه لإثبات المنفصلة لا يقوى عليه لأنّ الأثر الشرعي لعدم الإتيان بالركعة الرابعة المتّصلة هو وجوب الركعة الرابعة المتّصلة لا المنفصلة. والميرزا في الجواب يقول إنّا نختار الشقّ الثاني ، أي يجري الاستصحاب لإثبات الركعة المنفصلة. والإشكال بأنّه لا يقوى على ذلك حيث انّه يثبت وجوب المتّصلة دون المنفصلة مدفوع بأنّه لا يراد من الاستصحاب إثبات وجوب الركعة المنفصلة بل يراد إثبات أحد جزئي موضوع وجوب الركعة المنفصلة وهو عدم الإتيان بالرابعة.

وهذا البيان من الميرزا وإن كان وجيها ومعقولا في نفسه إلاّ أنّه يمكن مناقشته بأنّه خلاف ظاهر الرواية ، فإنّه لو كان مقصودا لاحتاج إلى بيان أكبر فيلزم بيان انّ الشاكّ تلزمه الركعة المنفصلة فيما إذا لم يأت بالرابعة مع انّا نلاحظ انّ الإمام علیه السلام لم يبيّن ذلك ولم يقل انّ الركعة المنفصلة واجبة في حقّ الشاكّ إذا لم يأت

ص: 47

بالرابعة إنّما وأخذ ببيان جريان الاستصحاب فقط والحال انّ اللازم للإمام علیه السلام لو كان ما ذكره الميرزا مقصودا له بيان ذلك فإنّ تمام النكتة كامنة في ذلك - أي كون الشاكّ يجب عليه الركعة المنفصلة فيما إذا لم يأت بالرابعة - وليس لجريان الاستصحاب أثر كبير ، إذ لو كان واقعا تجب الركعة المنفصلة في حقّ الشاكّ الذي لم يأت بالركعة الرابعة فيمكن إحراز كلا جزئي الموضوع بلا حاجة إلى استصحاب ، فإنّ الجزء الأوّل وهو الشكّ محرز بالوجدان والجزء الثاني وهو عدم الإتيان بالركعة الرابعة يمكن إحرازه بأصالة الاشتغال بلا حاجة إلى استصحاب ؛ إذ الإتيان بالركعة الرابعة واجب ، وإذا شكّ المكلّف في إتيانه بالواجب فمقتضى أصالة الاشتغال عدم إتيانه به ، نظير من شكّ في أنّه صلّى صلاة الظهر أو لا ، فإنّه لا يحتاج لإثبات وجوب الإتيان بها إلى إجراء الاستصحاب بل قاعدة الاشتغال تحكم عليه بلزوم الإتيان بها ولو لم نقل بحجّية الاستصحاب.

حمل الرواية على قاعدة الاشتغال اليقيني

وبعد أن اتّضح انّ الردود الثلاثة على الاعتراض الثاني قابلة للمناقشة يتجلّى انّ الاعتراض الثاني - الذي كان يقول بأنّه لا يمكن إرادة الاستصحاب من الرواية إذ إجراء الاستصحاب لإتيان الركعة المتصلة مخالف لمذهب الشيعة وإجراؤه لإثبات الركعة المنفصلة لا يقوى عليه - تامّ ، وإذا كان تاما فلا يمكن حمل الرواية على الاستصحاب ويتعيّن حملها على ما ذكر في الاعتراض الأوّل ، أي حملها على إرادة قاعدة « الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني » ، فإنّ إرادة هذه القاعدة من الرواية وإن كان مخالفا لظاهر الرواية من ناحيتين أشرنا

ص: 48

لهما عند ردّ الاعتراض الأوّل إلاّ أنّ ذلك متعيّن بعد عدم إمكان إرادة الاستصحاب.

وإذا حملنا الرواية على قاعدة « الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني » تنحل مشكلة تكرار الإمام علیه السلام للفقرات ونحصل على تفسير وجيه لها ، فالإمام علیه السلام بعد أن أمر زرارة بتحصيل الفراغ اليقيني أراد أن يلمّح من بعيد إلى كيفية حصول الفراغ اليقيني ، فهو باللسان الصريح حيث لا يمكنه أن يقول ابن على الأكثر وأت بركعة منفصلة لمخالفة ذلك للعامة - حيث يذهبون إلى لزوم البناء على الأقل والإتيان بركعة متّصلة - أخذ بذكر إشارات وتلمحيات لذلك فقال ولا يدخل الشكّ في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر ... كل ذلك تنبيها لزرارة على لزوم الإتيان بالركعة المشكوكة منفصلة لا متّصلة (1).

ص: 49


1- ولربّ قائل يقول انّ الشيخ العراقي حينما ذكر في الردّ الأوّل انّ تطبيق الاستصحاب لإثبات الركعة المتّصلة محمول على التقية دون أصل الكبرى أورد عليه السيد الشهيد بأنّ الحمل على التقية مخالف لظاهر الرواية من ناحيتين : اولاهما انّ الإمام قد تبرّع بالفرع الثاني ، والتبرّع يتنافى والتقية. وثانيتهما : انّ الإمام علیه السلام أبدى مزيد اهتمام بالمطلب ، وهو لا يتناسب والتقية لأنّ في التقية بيانا لمطلب غير واقعي ، وبيان المطلب غير الواقعي لا يستحقّ مزيد اهتمام. هذا ما ذكره السيد الشهيد سابقا فكيف رجع الآن وعاد يقول بأنّ التكرار في الجمل قد حصل بسبب التقية. والجواب : انّ حمل التطبيق على التقية الذي قال به الشيخ العراقي معناه انّ الإمام عليه السلام قد ذكر مطلبا غير واقعي _ حيث انّ تطبيق الاستصحاب لإثبات وجوب الركعة المتّصلة مطلب غير واقعي ذكر للتقية _ تبرّعا واهتم به بالتكرار ، والإيراد على مثل هذه المقالة بأنّ بيان المطلب غير الواقعي لا يتناسب والتبرّع كما ولا يتناسب والاهتمام بالتكرار ايراد صحيح. وهذا بخلافه فيما ذكره السيد الشهيد ، فإنّ حمل الرواية على بيان قاعدة الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني حمل لها على مطلب واقعي ، ومن الواضح انّ بيان المطلب الواقعي لا يتنافى والتبرّع به كما ولا يتنافى ومزيد الاهتمام.
الاعتراض الثالث ما ذكره الشيخ العراقي. وحاصله : لو فرضنا انّ الشيعة تقول بوجوب الركعة المتصلة فمع ذلك لا يمكن إجراء الاستصحاب لإثبات وجوب الركعة المتّصلة وتصحيح الصلاة به إذ اللازم على المصلّي الإتيان بالتشهّد والتسليم في آخر الركعة الرابعة ، ومن الواضح ان استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة لا يقول انّ هذه الركعة المشكوكة المأتي بها هي رابعة ليكون التشهّد والتسليم واقعا في الرابعة بل أقصى ما يقول انّ الشاكّ لم يأت بالرابعة فيترتّب على ذلك الأثر الشرعي وهو وجوب الاتيان بركعة رابعة ، وامّا انّ الركعة المأتي بها هي رابعة فذاك ليس أثرا شرعيا - إذ لا توجد آية أو رواية تقول من لم يأت بالرابعة فالركعة التي يأتي بها هي رابعة - وإنّما ذلك أثر عقلي ، فإنّ العقل يحكم بأنّ من لم يأت بالرابعة فما يأتي به هو الرابعة.

إذن استصحاب عدم الإتيان بالرابعة لإثبات أنّ الركعة المأتي بها هي رابعة وأنّ التسليم والتشهّد فيها واجب أصل مثبت (1) وهو ليس بحجّة.

والسيد الخوئي ( دام ظلّه ) أجاب عن الإشكال المذكور بأنّ بالإمكان إثبات أنّ الركعة المأتي بها رابعة وأنّ التشهّد والتسليم واقع في الرابعة ، وذلك بأنّ

ص: 50


1- المراد بالأصل المثبت : كل أصل يجرى لإثبات لازم غير شرعي لمتعلّقه.

يقال انّ المكلّف بعد أن يأتي بالركعة المشكوكة يحصل له العلم بأنّه قد تلبس جزما بالركعة الرابعة أمّا الآن أو قبل قليل - حيث انّه لو كان قد أتى سابقا بأربع ركعات فالتلبّس بالركعة الرابعة حصل سابقا ، ولو كان قد أتى سابقا بثلاث ركعات فالتلبّس بالركعة الرابعة يحصل الآن أي حينما يأتى بالركعة المشكوكة - فإذا شكّ في انتفاء تلبّسه بالركعة الرابعة استصحب بقائه على التلبّس بالركعة الرابعة. وبذلك يثبت أنّه باق على التلبّس بالركعة الرابعة ويتمّ المطلوب.

وفيه : إنّا نسلّم انّ المكلّف له يقين بتلبّسه بالركعة الرابعة أمّا الآن أو قبل قليل ، ولكنّه في نفس الوقت له يقين بعدم تلبّسه بالركعة الرابعة أمّا الآن أو قبل قليل - إذ لو كان قد أتى سابقا بأربع ركعات فهو الآن غير متلبّس بالرابعة وإن كان قد أتى سابقا بثلاث ركعات فهو سابقا غير متلبّس بالرابعة - وهذان اليقينان متلازمان ، فمن له ذاك اليقين له هذا اليقين أيضا. وكما أنّ استصحاب بقاء التلبس بالرابعة يجري كذلك استصحاب بقاء عدم التلبس بالرابعة يجري فيتعارض الاستصحابان ويتساقطان (1).

وبعد بطلان جواب السيد الخوئي عن الاعتراض الثالث فالصحيح في الجواب أن يقال : إنّ إجراء استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة لإثبات أنّ الركعة المأتي بها هي الرابعة وإن كان أصلا مثبتا إلاّ أنّ ثبوت اللوازم العقلية

ص: 51


1- عبارة الكتاب لم توضح المطلب بشكل كامل كما أوضحناه. ثمّ إنّه يمكن الإيراد على السيد الخوئي أيضا بأنّ استصحاب بقاء التلبس بالرابعة لا ينفع إذ أقصى ما يثبت انّ التلبس بالرابعة باق ولا يثبت انّ هذه الركعة المأتي بها هي الركعة الرابعة وأنّ التشهّد والتسليم المأتي بهما واقعان في آخر الركعة الرابعة.

بالاستصحاب ليس قضية مستحيلة عقلا بل متى ما دلّ الدليل على ثبوت اللوازم العقلية بالاستصحاب في بعض الموارد قبلنا ذلك ورضخنا له. وفي المقام يقال بما انّ جريان استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة لا ينفع إلاّ بعد ثبوت اللازم العقلي فهذا بنفسه دليل على ثبوت اللازم العقلي في مورد الرواية ، ففي مورد الرواية بالخصوص يقال بثبوت اللازم العقلي - أي أنّ الركعة المأتي بها هي الرابعة - بدليل انّ إجراء الإمام علیه السلام لاستصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة لا ينفع إلاّ بثبوت اللازم العقلي.

قوله ص 223 س 10 : فإنّ ذلك يبدو غامضا بعض الشيء : ولا يرتفع هذا الغموض إلاّ بحمل الرواية على قاعدة الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني كما تأتي الإشارة لذلك ص 228 س 7 من الحلقة.

قوله ص 224 س 9 : كما هو الحال في غير الشاك : أي العالم بأنّه لم يأت بالرابعة حيث يجب عليه الإتيان بركعة رابعة متّصلة.

قوله ص 225 س 11 : على أي حال : أي سواء كان التطبيق جديا أم لم يكن جديا ، فإنّه على كلا التقديرين لا يصدق على التطبيق أنّه جدي لكبرى جدية بل أمّا هو غير جدي أو انّ كبراه غير جدية.

قوله ص 226 س 5 : فإجراء الخ : الأولى : وإجراء الخ.

قوله ص 226 س 11 : للواجب الواقعي : وهي الركعة الرابعة المتّصلة.

قوله ص 227 س 1 : إلى نقيضها : أي إلى عدم المانعية ، فالشاكّ لا يكون إتيانه بالتشهّد والتسليم قبل الركعة الرابعة مبطلا لصلاته.

ص: 52

قوله ص 227 س 1 : وذلك تخصيص في دليل المانعية الواقعية : وإذا كان هذا هو مقصود الآخوند - وإن كان تعبيره لا يساعد عليه ، حيث انّه عبّر : يلزم التخصيص في دليل الاستصحاب - فهو نفس ما ذكره الميرزا ويرد عليه نفس ما أورد عليه.

قوله ص 227 س 11 : بعد افتراض كونه إلخ : أي بعد افتراض كون وجوب الركعة المفصولة ثابتا للموضوع المركب من عدم الإتيان بالرابعة+ الشكّ.

قوله ص 229 س 14 : كانت بنفسها : أي الرواية.

الرواية الرابعة

والرواية الرابعة من الروايات التي يستدل بها على حجّية الاستصحاب رواية عبد اللّه بن سنان ، حيث يقول انّ أبي - أي سنان - سأل الإمام الصادق علیه السلام عمّا إذا أعار شخص ثوبه للذمّي وهو يعلم بأنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فهل يجب عليه غسله للصلاة إذا استرجعه؟ فأجاب علیه السلام بعدم وجوب ذلك معلّلا بقوله : « فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن انّه نجس » (1).

وقد يقال انّ الرواية لا يمكن استفادة حجّية الاستصحاب منها ، إذ لعلّ الإمام علیه السلام كان ناظرا عند حكمه بطهارة الثوب وعدم وجوب غسله إلى قاعدة الطهارة لا إلى الاستصحاب ، ومع وجود هذا الاحتمال يبطل الاستدلال بالرواية.

والجواب : انّ في الرواية قرينة تدل على أن نظر الإمام علیه السلام متوجّه إلى

ص: 53


1- وسائل الشيعة : باب 74 من أبواب النجاسات ، حديث 1.

الاستصحاب دون قاعدة الطهارة. والقرينة هي قوله : « انّك أعرته إيّاه وهو طاهر » فلو كان النظر متوجها إلى قاعدة الطهارة فلا موجب لملاحظة الحالة السابقة للثوب وأنّك أعرته إيّاه وهو طاهر بل كان من المناسب الاقتصار على قوله : « انّك ما دمت لم تستيقن أنّه نجّسه فلا بأس أنّ تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجّسه » إذ في قاعدة الطهارة لا يحتاج إلى النظر للحالة السابقة بل يحكم بالطهارة ما دام لا يعلم بالنجاسة فعلا.

وقد يقال في حقّ هذه الرواية إنّها وإن دلّت على حجّية الاستصحاب بالبيان السابق ولكن ليس في لفظها ما يستفاد منه عموم حجّية الاستصحاب في جميع الأبواب ، ففي الروايات السابقة كان يوجد ذلك ، حيث كان علیه السلام يقول : « لا تنقض اليقين بالشكّ » ، والألف واللام في كلمة اليقين والشكّ حيث انّها استغراقية فتدلّ على أنّ كل يقين لا ينقض بكل شكّ ، أمّا هذه الرواية فهي لا تشتمل على كلمة اليقين والشكّ كي يستفاد منها العموم. هذا ما قد يقال.

ويمكن الجواب بأنّ الرواية اشتملت على التصريح بالتعليل حيث قالت : « فإنّك أعرته إيّاه وهو ... » ، والتعليل عادة لا يكون عرفا إلاّ بالمطلب الارتكازي ، وواضح انّ المرتكز في الذهن انّ كل يقين لا ينقض بالشكّ لا خصوص اليقين بطهارة الثوب ، فهي بالتعليل تريد الإشارة إلى ذلك المطلب الارتكازي الذي يعمّ كل يقين.

روايات اخرى

ثمّ انّ الاصوليين ذكروا للاستدلال على حجّية الاستصحاب روايات

ص: 54

اخرى غير هذه الروايات الأربع إلاّ أنّه لا حاجة إليها بعد وفاء هذه الأربع بالمطلوب.

مقامات خمسة

وبعد أن ثبتت كبرى حجّية الاستصحاب يقع الكلام في مقامات خمسة : -

1 - هل الاستصحاب امارة أو أصل. وفي هذا المقام نتكلّم أيضا عن مبحث بعنوان « كيفية الاستدلال بالاستصحاب ».

2 - ما هي أركان الاستصحاب.

3 - ما هي الآثار الثابتة بالاستصحاب ، فهل تثبت به خصوص الآثار الشرعية أو تثبت به الآثار العقلية أيضا؟

4 - هل الاستصحاب حجّة مطلقا ومن دون تفصيل أو هو حجّة في خصوص موارد الشكّ في الرافع كما ذهب إليه الشيخ الأعظم قدس سره أو في خصوص موارد الشبهات الموضوعية دون الشبهات الحكمية كما ذهب إليه الشيخ النراقي والسيد الخوئي؟

5 - التحدّث عن بعض مصاديق الاستصحاب وتطبيقاته ، كاستصحاب الحكم التعليقي أو استصحاب عدم النسخ أو استصحاب الكلي.

قوله ص 229 س 15 : سأل أبي : وهو سنان. وسنان وإن لم تثبت وثاقته إلاّ أنّ ذلك ليس بمهم ؛ إذ ولده وهو عبد اللّه بن سنان من الأجلّة الأعاظم وهو يقول انّ أبي حينما سأل كنت حاضرا في المجلس وينقل بنفسه الحوار فلسنا بحاجة بعد هذا إلى ثبوت وثاقة الوالد.

ص: 55

قوله ص 230 س 1 : وأنا أعلم أنّه يشرب إلخ : يمكن أن يستفاد من هذه الفقرة طهارة الكتابي ؛ إذ على تقدير نجاسته لا حاجة إلى ذكر الفقرة المذكورة ؛ لكفاية نجاسته الذاتية للشكّ في بقاء الثوب على الطهارة. والفقرة المذكورة وإن وردت في كلام السائل لا في كلام الإمام علیه السلام إلاّ أنّ سكوت الإمام علیه السلام وإمضائه يكفي لتقرير الارتكاز. وهذا مطلب لا يرتبط بالمقام ذكرناه كفائدة جانبية.

قوله ص 230 س 10 : فقرة الاستدلال : وهي قوله : « فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ... ».

قوله ص 230 س 11 : وانصراف فحواها : الضمير راجع إلى فقرة الاستدلال. والفحوى : المعنى.

قوله : ص 230 س 15 : وسنخها : هذا عطف تفسير لروح.

ص: 56

الاستصحاب أصل أو امارة

اشارة

ص: 57

ص: 58

الاستصحاب أصل أو امارة

قوله ص 232 س 1 : قد عرفنا سابقا الخ : وقع الحديث بين الاصوليين في أنّ الاستصحاب يرجع في حقيقته إلى الامارة أو إلى الأصل.

ويقوى هذا التساؤل على مبنى السيد الشهيد في حقيقة الامارة والأصل حيث يشكل بناء عليه عدّ الاستصحاب من الامارات كما ويشكل عدّه من الاصول العملية.

وقبل عرض وجه المشكلة نذكر نقاطا ثلاث تقدّمت في القسم الأوّل من الحلقة الثالثة يتجلّى باتّضاحها البحث. وهي : -

1 - ما هي حقيقة الحكم الظاهري في نظر السيد الشهيد؟ لتوضيح حقيقة الحكم الظاهري نقول انّ الشارع المقدّس شرّع الحرمة للخمر فقال شرب الخمر حرام ، وشرّع الإباحة للخل فقال : شرب الخل مباح ، ولكن إذا اشتبه حال المائع فلم يعلم انّه خمر أو خلّ فماذا يحكم الشارع عليه؟ لا يمكن للشارع أن يترك مثل هذه الحالة بلا تشريع حكم لها بل امّا أن يحكم بحرمة السائل المشتبه أو يحكم بإباحته. ولكن بماذا يحكم هل يحكم بالحرمة أو بالإباحة؟

انّ الشارع في مثل هذه الحالة يأخذ بالمقارنة بين مفسدة الخمر ومصلحة الخل ، فإذا كانت المفسدة هي الأهمّ في نظره من مصلحة الخلّ فللحفاظ عليها يصدر حكما عاما بوجوب الاحتياط وترك كل سائل مشتبه ، وإن كانت

ص: 59

المصلحة هى الأهم في نظره من مفسدة الخمر يصدر حكما عاما بإباحة كل مشتبه.

وإن شئت قلت : انّ المصلحة والمفسدة يقع بينهما التزاحم في مقام الحفظ ، فمفسدة الخمر تقول بلسان للحفاظ عليّ احكم على كل مشتبه بالحرمة ، بينما مصلحة الخل تقول بالعكس ، فهي تقول بلسان حالها للحفاظ عليّ احكم بإباحة كل مشتبه.

وبعد وقوع هذا التزاحم في مقام الحفظ يأخذ المولى بالمقارنة بين المصلحة والمفسدة ، فإن رأى المصلحة أهم أصدر حكما بإباحة كل مشتبه ، وإن رأى المفسدة أهم أصدر حكما بحرمة كل مشتبه.

إذن على ضوء هذا يمكننا أن نقول في تحديد حقيقة الحكم الظاهري انّه حكم ناشىء للحفاظ على الملاك الأهمّ عند تزاحم الملاكين في مقام الحفظ.

2 - ما الفرق بين الامارة والأصل؟ هناك فرق بين الأصل والامارة في نظر الميرزا قرأناه في القسم الأوّل نعرض عن ذكره الآن ونأخذ بعرض الفرق في نظر السيد الشهيد.

انّه يرى أنّ كلا من حجّية الامارة وحجّية الأصل حكم ظاهري وليد الملاك الأهمّ. هذه نقطة اشتراك بينهما ويفترقان في أنّ قوة الملاك في باب حجّية الامارة ناشئة من قوة الكشف والاحتمال بينما قوة الملاك في حجّية الأصل ناشئة من قوة المحتمل والمنكشف.

فمثلا حينما يخبر الثقة عن قضيّة معيّنة فإخباره له كشف بدرجة 70% ، وبسبب قوّة الكشف هذه ثبتت الحجّية لخبره بقطع النظر عن نوعية القضية التي

ص: 60

يخبر عنها فسواء كان يخبر عن الوجوب أو الحرمة أو الزوجية أو الطهارة أو الصحة أو البطلان أو غير ذلك فهو - الخبر - حجّة لقوة الكشف ولا أثر لنوعية المنكشف. انّ مثل هذه الحالة يكون الحكم الظاهري فيها امارة.

وأمّا في الأصل العملي فقوّة الملاك ناشئة من قوة المحتمل بقطع النظر عن درجة الكشف ، فحينما يدور الأمر بين احتمال الحرمة واحتمال الإباحة يقدّم احتمال الإباحة مثلا لا لأنّ درجة الكشف عنه قويّة ، إنّ هذا لا معنى له ، إذ ليس الأصل طريق له كاشفية قويّة عن الإباحة بل تقدّم الإباحة لأنّها بنفسها عند المقارنة بالحرمة أهم في نظر المولى.

ثمّ إنّ هناك حالة ثالثة ، وهي أن يلحظ الشارع قوة الاحتمال وقوة المحتمل معا ويشرّع الحكم الظاهري على ضوء مجموع القوّتين. ومثل هذه الحالة تسمّى بالأصل المحرز أو الأصل التنزيلي (1).

ومثال ذلك قاعدة الفراغ ، فإنّ الشارع حكم على المصلّي بعد فراغه من الصلاة بعدم اعتداده بالشكّ لو عرض - الشكّ - له بعد الفراغ ، وذلك لقوة الكاشفية ؛ إذ الفراغ نفسه له كاشفية عن الإتيان بالعمل بكامل أجزائه دون نقيصة أو زيادة ، ولكن هذه القوة في الكاشفية ليست وحدها صاحبة الدور الفعال وإلاّ فقد يحصل للمكلّف كاشفية قويّة أيضا لو طرء له الشكّ أثناء الصلاة - فقد يحصل له التردّد في الإتيان بالركوع أثناء الصلاة ويفرض حصول الظنّ القوي له بإتيانه وبالرغم من ذلك يجب عليه الإتيان به من جديد ما دام التردّد في المحل وان فرض حصول ظنّ قوي له بإتيانه - بيد أنّه لا تنفعه الكاشفية القوية

ص: 61


1- لا فرق بين الأصل التنزيلي والمحرز في نظر السيد الشهيد وإن فرّق بينهما الميرزا.

هذه ما دام لم يفرغ من صلاته.

إذن نفس الفراغ من الصلاة المنضمّ له قوّة الكاشفية يشكّلان بمجموعهما معا الأرضية لقاعدة الفراغ.

من خلال كل هذا نعرف : انّ حجّية الامارة حكم ظاهري وليد قوة الكشف. وحجّية الأصل حكم ظاهري وليد قوّة المحتمل. والأصل المحرز أو التنزيلي حكم ظاهري وليد قوة الاحتمال والمحتمل معا.

3 - انّ الامارة حجّة في لوازمها غير الشرعية بينما الأصل لا يكون حجّة في إثبات لوازمه غير الشرعية. هذا هو المعروف بين الاصوليين. ونريد أن نعرف نكتة ذلك ، فلما ذا صارت الامارة حجّة في لوازمها غير الشرعية ولم يصر الأصل كذلك؟

ذكر صاحب الكفاية نكتة مرّت الإشارة في القسم الأوّل إلى عدم تماميتها.

والصحيح أن يقال : انّ حجّية الامارة بما أنّها نشأت من قوّة الكشف فمن اللازم حجّيتها في لوازمها غير الشرعية أيضا لأنّ درجة كشف خبر الثقة عن نبات لحية الولد مثلا التي هي المدلول الالتزامي تساوي درجة كشفه عن حياته التي هي المدلول المطابقي ، فدرجة الكشف في كليهما تساوي 70% مثلا. وهذه الدرجة لئن كانت سببا لحجّية خبر الثقة في مدلوله المطابقي فيلزم أن تكون سببا لحجّيته في مدلوله الالتزامي أيضا. هذا كلّه في الامارة.

وأمّا الأصل فحيث انّ حجّيته لم تنشأ من قوّة الكشف بل نشأت من قوّة المحتمل فلا وجه لأن يكون حجّة في لوازمه غير الشرعية إذ من الممكن اختصاص قوّة المحتمل بالمدلول المطابقي دون المدلول الالتزامي.

ص: 62

عود إلى عرض المشكلة

بعد الفراغ من النقاط الثلاث السابقة نعود لعرض المشكلة في حقيقة الاستصحاب.

انّ الاستصحاب لا يمكن أن يكون امارة لأنّ حجّية الامارة حكم ظاهري ناشىء من قوة الكشف ، ومن الواضح انّ ثبوت الحالة السابقة في باب الاستصحاب ليس له كاشفية قويّة عن البقاء ، ولذا لا يحصل من ثبوت الشيء سابقا الظنّ ببقائه لا حقا وإن ادّعى البعض ذلك.

وأمّا انّ الاستصحاب لا يمكن أن يكون أصلا عمليا فلأنّ حجّية الأصل حكم ظاهري ناشىء من قوّة المحتمل ، ومن الواضح انّه لا تحدّد لنوعية الحكم في الحالة السابقة المتيقنة ولا لنوعية الحكم المحتمل حدوثه في الحالة اللاحقة ، ومع عدم تحدّده فلا يمكن تحديد أهمية المحتمل ، أجل في مثل أصالة الإباحة حيث يدور الأمر بين احتمالين الإباحة والحرمة فالتقديم بأهمية المحتمل وجيه بخلافه في المقام.

هذا توضيح المشكلة.

والحل أن يقال : انّ الحكم الظاهري هو الحكم الناشئ من التزاحم بين الحكمين أو بين الملاكين ، وفي باب الاستصحاب يوجد مثل هذا التزاحم ، حيث انّ احتمال البقاء يزاحم احتمال عدم البقاء ، غاية الأمر لا يمكن تقديم أحد الاحتمالين لقوّة الاحتمال لعدم ثبوتها - كما تقدّم - ولا لقوة المحتمل لعدم تحدّد المحتمل ولكن من الممكن تقديم أحد الاحتمالين لنكتة اخرى كنكتة العادة والالفة

ص: 63

وميل الطبع ، فإنّ طبع كل إنسان يميل إلى بقاء الحالة السابقة وعادته تقتضي ذلك أيضا ، فلو كان لشخص احتفال سنوي يقيمه كل سنة في يوم معيّن ففي السنوات الجديدة نذهب إلى ذلك الاحتفال في اليوم المقرّر دون فحص عن انعقاده وعدمه وما ذاك إلاّ لاقتضاء العادة والطبع.

وقد تقول : انّ حكم المولى بالاستصحاب إذا كان وليد النكتة المذكورة فلا يكون حكما ظاهريا لأنّ الحكم الظاهري هو الحكم الناشئ من التزاحم بين الحكمين أو الملاكين ، وهنا نشأ الحكم بالبقاء من النكتة المذكورة.

والجواب : انّ الحكم ببقاء الحالة السابقة لم ينشأ من النكتة المذكورة بل نشأ من التزاحم بين الاحتمالين : احتمال البقاء واحتمال الارتفاع. أجل النكتة المذكورة سبب لتقديم احتمال البقاء وترجيحه على احتمال الارتفاع. هذا هو دور النكتة المذكورة وليست هي السبب المباشر للحكم بالاستصحاب.

وعليه فالاستصحاب حكم ناشئ من التزاحم بين الحكم السابق والحكم اللاحق المحتمل حدوثه مع افتراض ترجيح الحكم السابق للنكتة المتقدّمة.

وماذا يكون الاستصحاب بعد هذا

وبعد أن عرفنا انّ الاستصحاب حكم ظاهري يبقى علينا أن نعرف انّه من أي القسمين للحكم الظاهري فهل هو امارة أو أصل؟

الصحيح انّه أصل ، إذ الأصل مصطلح يطلق على كل حكم ظاهري لا يكون حجّة في إثبات لوازمه فليس هو امارة بل أصل. أمّا لماذا لم يكن الاستصحاب حجّة في إثبات لوازمه غير الشرعية ، وبما انّ الاستصحاب

ص: 64

لا يكون حجّة في إثبات لوازمه غير الشرعية؟ انّ الجواب واضح ، حيث انّ النكتة التي على ضوئها رجّح الشارع احتمال البقاء على احتمال الارتفاع يمكن اختصاصها بالمدلول المطابق دون المدلول الالتزامي ، فحياة الولد مثلا بما أنّها ثابتة سابقا فمن الوجيه أن نقول انّ الطبع الإنساني يميل إلى بقائها في الزمان اللاحق ، وأمّا نبات اللحية فحيث انّه لم يكن ثابتا سابقا فلا معنى لأن يقال انّ الطبع الإنساني والعادة يقتضيان ثبوته في الزمان اللاحق.

وإن شئت قلت : انّ ثبوت المدلول المطابقي إذا كان لأجل قوّة في الكشف فمن الحقّ ثبوت المدلول الالتزامي أيضا لأنّ قوّة الكشف في المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي واحدة. أمّا إذا لم يكن ثبوت المدلول المطابقي لقوّة في الكشف بل كان لقوّة المحتمل أو للنكتة السابقة فلا معنى لثبوت المدلول الالتزامي لإمكان اختصاص النكتة بخصوص المدلول المطابقي دون المدلول الالتزامي.

قوله ص 232 س 1 : قد عرفنا سابقا الخ : في القسم الأوّل ص 34 - 35 من الحلقة وفي هذا القسم ص 11 - 13.

قوله ص 232 س 4 : وكاشفيّته : عطف تفسير على قوّة الاحتمال.

قوله ص 232 س 11 : وإدخالها : بالنصب عطفا على « إدخالها » في السطر الثامن.

قوله ص 233 س 11 : تقرّر نتائج التزاحم : فإنّه إذا وقع تزاحم بين احتمال الإباحة واحتمال الحرمة وكانت نتيجة التزاحم هي تقدّم الإباحة لاهميّتها فالمولى يصدر قانون أصالة الإباحة الذي هو قانون يحكم بالإباحة التي هي النتيجة الثابتة بعد وقوع التزاحم بين الحرمة والإباحة.

ص: 65

قوله ص 233 س 11 : والملاكات : أشبه بعطف التفسير على الأحكام ؛ إذ لك الحقّ أن تقول انّ التزاحم يقع بين الأحكام كما ولك الحقّ أن تقول انّه يقع بين ملاكات الأحكام فكلاهما صحيح.

قوله ص 233 س 12 : في مقام الحفظ : حيث انّ كل واحد من الملاكين يريد حفظ نفسه بتشريع حكم على طبقه عند الاختلاط ، أي عند وقوع الاشتباه بين المصلحة والمفسدة أو قل بين الحرمة والإباحة.

قوله ص 233 س 15 : نكتة نفسية : وهي كل نكتة ترتبط بالنفس ، كاقتضاء طبع كل إنسان وميله إلى بقاء الشيء الذي له ثبوت سابق.

قوله ص 234 س 5 : في تعيين كيفية جعله : فترجيح الحكم على طبق الحالة السابقة نشأ من تلك النكتة ، وأمّا أصل جعل الحكم الظاهري فهو وليد التزاحم بين الاحتمالين احتمال البقاء واحتمال الارتفاع.

قوله ص 234 س 7 : على القاعدة : فإنّ القاعدة الأوليّة في الأصل تقتضي عدم حجّيته في لوازمه غير الشرعية.

قوله ص 234 س 8 : محضا : إذا لو حظت قوّة الاحتمال فقط كان المورد امارة ، وإذا لو حظت قوّة المحتمل فقط فالمورد أصل عملي ، وإذا لو حظت قوّة الاحتمال وقوّة المحتمل فالمورد أصل تنزيلي. واللوازم غير الشرعية تثبت في الحالة الاولى فقط ، أي في حالة قوة الاحتمال فقط دونه في بقية الحالات.

كيفية الاستدلال بالاستصحاب

قوله ص 234 س 12 : وقد يتوهّم انّ النقطة السابقة الخ : لاستيضاح

ص: 66

المقصود من هذا المبحث نطرح السؤال التالي : لو كان مورد من الموارد مشتملا على الاستصحاب وأصالة الحلّ - كما إذا كان حيوان معيّن محرما سابقا لكونه جلاّلا وشكّ في بقائه على الحرمة لا حقا لاحتمال زوال الجلل عنه ، فإنّ مقتضى الاستصحاب بقاؤه على الحرمة بينما مقتضى أصالة الحل كونه حلالا - واريد التعرّف على النسبة بينهما وأنّها نسبة العموم والخصوص المطلق حتّى يطبق قانون التخصيص ، أو نسبة العموم من وجه أو نسبة التباين حتّى يطبق قانون التعارض فهل النسبة تلحظ بين نفس الاستصحاب وأصالة الحلّ أو تلحظ بين دليل الاستصحاب - وهو رواية زرارة التي تقول « لا تنقض اليقين بالشكّ » - وأصالة الحلّ ، فإنّها قد تختلف باختلاف الحالتين المذكورتين ، إذ لو لوحظ نفس الاستصحاب وأصالة الحل كانت النسبة هي العموم والخصوص المطلق ، فإنّ أصالة الحلّ كما تشمل الحيوان الذي حالته السابقة الجلل تشمل غيره من الموارد التي لا يكون فيها حالة سابقة متيقّنة ، بينما استصحاب حرمة الحيوان المذكور يختصّ بالحيوان المذكور ولا يشمل بقية الموارد ، فإنّ كبرى الاستصحاب الكلية وإن كانت لا تختص بالحيوان المذكور إلاّ أنّ الاستصحاب الجاري في الحيوان المذكور يختص بالحيوان المذكور ولا يشمل غيره فإنّ بقية الموارد لئن كان يجري فيها الاستصحاب فذاك استصحاب آخر غير الاستصحاب الجاري في الحيوان المذكور.

هذا كلّه لو لا حظنا نفس الاستصحاب وأصالة الحل.

وأمّا لو لا حظنا دليل الاستصحاب وأصالة الحلّ فالنسبة هي العموم من وجه ، إذ رواية زرارة التي تقول « لا تنقض اليقين بالشكّ » تشمل جميع الموارد

ص: 67

التي فيها يقين سابق وشكّ لاحق بلا فرق بين أن يكون المورد ممّا يشكّ فيه في ثبوت الحلية أو لا يشكّ فيه في الحلية وإنّما يشكّ في قضايا اخرى ليست موردا لأصالة الحل ، كما لو شكّ في بقاء الكرية أو العدالة أو غير ذلك. وهكذا أصالة الحل تشمل موارد اليقين بالحالة السابقة التي يجري فيها الاستصحاب والموارد التي ليس فيها يقين سابق.

والخلاصة انّه في موارد اجتماع الاستصحاب وأصالة الحلّ هل تؤخذ النسبة بين نفس الاستصحاب وأصالة الحل أو تؤخذ النسبة بين دليل الاستصحاب وأصالة الحل؟

نقل الشيخ الأعظم في رسائله (1) عن السيد بحر العلوم قدس سره انّ النسبة تلحظ بين نفس الاستصحاب وأصالة الحلّ باعتبار انّ الاستصحاب دليل على الحكم كخبر الثقة ، فكما انّ خبر الثقة دليل على الحكم وتؤخذ النسبة بينه وبين معارضه لا بين آية النبأ الدالّة على حجّية خبر الثقة وبين المعارض كذلك الحال في الاستصحاب تؤخذ النسبة بينه وبين المعارض لا بين دليل حجّية الاستصحاب والمعارض.

والسيد الخميني قدس سره في رسائله (2) فصّل فوافق بحر العلوم على تقدير وخالفه على تقدير آخر ، حيث ذكر انّ الاستصحاب على تقدير كونه امارة على الحكم - بتقريب انّ حدوث الحالة السابقة في الزمان السابق امارة على بقائها في الزمان اللاحق - يكون حاله حال خبر الثقة ويلزم أخذ النسبة بينه وبين أصالة

ص: 68


1- راجع ص 320 طبع رحمت اللّه.
2- راجع : ج 1 ، ص 74.

الحلّ كما قال السيد بحر العلوم.

وأمّا إذا قيل بأنّ الاستصحاب أصل عملي عبّدنا به الشارع بمقتضى لا تنقض اليقين بالشكّ دون أن يكون له أي امارية على البقاء فمن المناسب أخذ النسبة بين دليل الاستصحاب وبين أصالة الحلّ ، إذ بناء على هذا التقدير لا يكون نفس الاستصحاب دليلا على الحكم وإنّما الدليل على الحكم هو رواية لا تنقض اليقين بالشكّ فيلزم أخذ النسبة بين رواية لا تنقض وأصالة الحل.

إذن باختصار يمكننا أن نقول : انّ السيد الخميني قدس سره قد ربط بين المسألتين بين مسألتنا - وهي مسألة أخذ النسبة - وبين المسألة السابقة ، وهي أنّ الاستصحاب أصل أو امارة.

وفيه : انّ نسبة العموم والخصوص حينما يراد أخذها بين الدليلين فمن اللازم ملاحظة الكلامين الصادرين من المتكلّم الواحد ويقارن بين نفس الكلامين وتؤخذ النسبة بينهما بعد المقارنة.

وفي مقامنا حيث انّ الكلام الصادر من الشارع المرتبط بالاستصحاب هو قوله « لا تنقض اليقين بالشكّ » والكلام الصادر منه المرتبط بأصالة الحلّ هو قوله « كل شيء لك حلال » فلا بدّ من ملاحظة النسبة بين هذين الكلامين.

وهذا من دون فرق بين أن نبني على أنّ الاستصحاب أصل أو امارة. ولا معنى لملاحظة النسبة بين نفس الاستصحاب وأصالة الحلّ ، إذ نفس الاستصحاب ليس هو الكلام الصادر من الشارع لتؤخذ النسبة بينه وبين أصالة الحل وإنّما الصادر منه « لا تنقض اليقين بالشكّ ».

والخلاصة انّ النسبة بما أنّه يراد ملاحظتها بين كلامي الشخص الواحد

ص: 69

فلا بدّ من ملاحظة نفس كلامي الشخص الواحد (1) ولا معنى لملاحظتها بين أمر لم يصدر منه - وهو نفس الاستصحاب في مقامنا - وبين المعارض.

قوله ص 234 س 14 : وانّ المعول فيه : أي في الاستصحاب. ثمّ انّ هذا تقريب لا مارية الاستصحاب.

قوله ص 234 س 15 : هو الحالة السابقة : أو قل استصحاب الحالة السابقة ، وهي استصحاب حالة الحرمة في الحيوان الجلاّل.

قوله ص 235 س 3 : انسياقا مع هذا التصوّر : أي انّ السيد بحر العلوم

ص: 70


1- إنّما قيّدنا الكلامين بكونهما كلامين لشخص واحد باعتبار انّ الخاصّ لا يتقدّم على العامّ إلاّ من جهة كونه قرينة على التصرّف فيه ، ومن الواضح انّ الخاصّ لا يكون قرينة على التصرّف في العالم إلاّ في حالة صدور الكلامين من شخص واحد ، أمّا إذا صدرا من شخصين فلا يكون الخاص قرينة على التصرّف في العام بل يقع بينهما التعارض ، فمثلا إذا قال الثقة انّ كل نقطة من نقاط الدار نجسة وقال ثقة آخر انّ نقطة رقم (2) من الدار طاهرة فمضمون خبر الثقة الثاني وإن كان أخص من مضمون خبر الثقة الأوّل إلاّ أنّه لا يطبّق عليهما قانون التخصيص إذ ما دام لم يصدرا من متكلّم واحد فلا يكون الخاص قرينة على التصرّف في العام. إن قلت : بناء على لزوم صدور الكلامين من شخص واحد يلزم عدم تطبيق قانون التخصيص على الروايات الصادرة من أهل البيت عليهم السلام حيث انّ العام قد يصدر من إمام والخاصّ يصدر من إمام آخر. قلت : كل الأئمّة عليهم السلام نور واحد ويعدّون بمثابة الشخص الواحد. هذا توضيح ما أفاده السيد الشهيد. ويمكن أن نقول انّ ما أفاده قدس سره من اشتراط صدور الكلامين من متكلّم واحد وإن كان متينا إلاّ أنّ التأكيد عليه غير ضروري فإنّ دفع التفصيل السابق لا يتوقّف على ذلك وإنّما يتوقّف على نكتة أنّ النسبة تؤخذ بين الكلامين الصادرين من الشخص لا بين ما لم يصدر منه والمعارض.

حينما قال ان النسبة تؤخذ بين نفس الاستصحاب وأصالة الحل كان ذلك منه مبنيا على اعتقاده بأنّ الاستصحاب امارة كخبر الثقة.

قوله ص 235 س 16 : في غير مجال القرينية : ومجال القرينية هو ما إذا كان الكلامان صادرين من شخص واحد.

قوله ص 236 س 7 : لأنّ مفاد الأدلة كلام الشارع : فمفاد لا تنقض اليقين بالشكّ - وهو عدم جواز نقض اليقين بالشكّ بشكل عام - هو الصادر من الشارع وليس الاستصحاب في شخص المورد هو الصادر من الشارع.

ص: 71

ص: 72

أركان الاستصحاب

اشارة

ص: 73

ص: 74

أركان الاستصحاب

قوله ص 237 س 1 : وللاستصحاب على الخ : للاستصحاب أركان أربعة على ما يستفاد من روايات « لا تنقض اليقين بالشك » : -

1 - اليقين السابق. والوجه في ركنيّته واضح حيث انّ الروايات اعتبرت اليقين وقالت لا تنقض اليقين.

2 - الشكّ اللاحق. والوجه في ركنيّته واضح أيضا لأنّ الروايات عبّرت بكلمة الشكّ وقالت لا تنقض اليقين بالشكّ.

3 - أن يكون المشكوك عين المتيقن ، كما إذا علمنا بعدالة زيد سابقا ثمّ شككنا في بقاء عدالته. أمّا إذا علمنا بعدالة زيد سابقا ثمّ شككنا في عدالة عمرو فلا يجري الاستصحاب.

والوجه في ذلك : انّه بدون فرض الاتحاد لا يصدق عنوان النقض فلا يصدق أنّ الشكّ نقض اليقين أو لم ينقضه إلاّ مع اتحاد متعلّقهما.

4 - وجود الأثر الشرعي للحكم بالبقاء. وركنيّة هذا يمكن أن تبيّن ببيانات مختلفة كما سيأتي ، منها أنّه إذا لم يترتّب أثر شرعي على بقاء الشيء فالحكم ببقائه يكون لغوا.

هذه هي أركان الاستصحاب على سبيل الاجمال. والتفصيل أن يقال : -

ص: 75

ص: 76

الركن الأول أو اليقين السابق

اشارة

الوجه في اعتبار اليقين السابق واضح حيث انّ الروايات اعتبرت ذلك. وعلى هذا فمجرّد ثبوت الحالة السابقة بدون يقين بها لا يكفي في جريان الاستصحاب.

لا يقال : انّ الروايات وإن اعتبرت اليقين السابق إلاّ أنّ ذلك من باب أنّه مرآة لحدوث الحالة السابقة ولا خصوصية له.

فإنّه يقال : هذا خلاف الظاهر ، فإنّ ظاهر كل عنوان مأخوذ في الدليل أنّه مأخوذ فيه على نحو الموضوعية لا الطريقية والمرآتية.

أجل إذا نظرنا إلى رواية عبد اللّه بن سنان التي هي الرواية الرابعة من الروايات الأربع السابقة لم نجد فيها ذكرا لليقين ، فالإمام علیه السلام لم يقل انّك أعرته الثوب وأنت على يقين من طهارته وإنّما علّل بنفس الحالة السابقة حيث قال انّك أعرته إيّاه وهو طاهر. وعلى هذا فالرواية المذكورة يمكن أن يستفاد منها أنّ المناط في جريان الاستصحاب هو حدوث الحالة السابقة ، فمتى ما كانت الحالة حادثة سابقا جرى استصحابها وإن لم يكن المكلّف على يقين من حدوثها.

وإذا تمّت دلالة هذه الرواية على الاكتفاء بحدوث الحالة السابقة بلا اشتراط اليقين أمكن أن تكون قرينة على التصرّف في بقية الروايات فتحمل كلمة اليقين المذكورة في بقية الروايات على أنّها مرآة لحدوث الحالة السابقة

ص: 77

وليست ملحوظة بنحو الموضوعية.

والباعث لهذا الكلام الطويل هو الإشارة إلى أنّ اليقين لو كان معتبرا في جريان الاستصحاب بلا اكتفاء بحدوث الحالة السابقة تتولّد مشكلة حاصلها أنّ الثقة لو شهد صباحا بطهارة الثوب مثلا فلا إشكال في الحكم بالطهارة ، فإذا حدث عند المساء شكّ في بقاء تلك الطهارة فمن المتفق عليه فقهيّا جريان الاستصحاب فيقال انّ الطهارة كانت ثابتة صباحا وعند الشكّ في بقائها مساء يجري استصحابها.

وجريان هذا الاستصحاب وقع موردا للإشكال حيث انّ الطهارة حينما شهد بها الثقة صباحا لم يحصل اليقين بثبوتها إذ خبر الثقة لا يفيد اليقين بل يفيد الظنّ ، ومع عدم حصول اليقين بالطهارة فكيف تستصحب إلى المساء.

هذا حاصل الإشكال فيما يرتبط بركنية هذا الركن. وقد سجّل في الكتاب من أجوبة الأعلام ثلاثة : أولها للميرزا وثانيها للآخوند وثالثها لجملة من المحقّقين.

جواب الميرزا

1 - وأجاب الميرزا مستفيدا من مسلكه مسلك جعل العلمية بأنّ الامارة حينما تقوم على طهارة الثوب صباحا نحصل لنا العلم بالطهارة - حيث انّ الامارة على مسلك جعل العلمية تفيد العلم - وبعد حصول العلم بالطهارة فبالإمكان استصحابها ويرتفع الإشكال.

وإن شئت قلت : انّ حديث لا تنقض اليقين بالشكّ أخذ في موضوعه

ص: 78

اليقين ، وبعد قيام الامارة على طهارة الثوب تحصل ببركة دليل حجّية الامارة على يقين تعبّدي بالطهارة ، وبذلك يتّسع موضوع اليقين المأخوذ في حديث لا تنقض ، فبعد أن كان اليقين منحصرا بفرد واحد وهو اليقين الوجداني يصبح شاملا لفرد ثان وهو اليقين التعبّدي الحاصل من طريق الامارة. واتّساع الموضوع هذا هو ما يعبّر عنه بالحكومة فإنّها تعني كون أحد الدليلين موجبا لتوسعة أو تضييق موضوع الدليل الآخر تعبّدا.

وفيه : إنّا حتّى لو سلّمنا بمسلك جعل العلمية فلا نسلّم بحكومة دليل حجّة الامارة على دليل الاستصحاب فإنّ اليقين المأخوذ في دليل الاستصحاب يقين موضوعي - أي هو مأخوذ في موضوع الاستصحاب حيث قيل لا تنقض اليقين .. ودليل حجّية الامارة لا ينزل الامارة منزلة العلم بكلا قسميه بل ينزله منزلة العلم الطريقي فقط دون الموضوعي (1) إذ المدرك لحجّية خبر الثقة هو السيرة العقلائية ، والعقلاء حينما يعتبرون خبر الثقة علما وينزلونه منزلة العلم فمقصودهم تنزيله منزلة العلم الطريقي في المنجزية والمعذرية لا تنزيله منزلة العلم الموضوعي ، إذ العلم الموضوعي لا تداول له في حياة العقلاء ولم نجد حتّى مثالا

ص: 79


1- العلم الطريقي هو العلم الذي لا يؤخذ في موضوع الحكم وإنّما دوره دور الطريق إلى الواقع فينجز عند الإصابة ويعذّر عند الخطأ ، فمثلا إذا كان لدينا سائل هو خمر في الواقع ولكن لم نعلم بذلك فهو حرام واقعا ، غاية الأمر حيث لا نعلم بحرمته فلا تكون حرمته منجزة أي لا نستحق العقوبة لو تناولناه. وأمّا العلم الموضوعي فهو العلم المأخوذ في موضوع الحكم ومن دونه حصوله لا يكون الحكم ثابتا واقعا لا أنّه ثابت ولكنّه غير منجز. ومثاله اليقين المأخوذ في باب الاستصحاب فإنّه من دونه لا يجري الاستصحاب واقعا.

واحدا له وإنّما المتداول بينهم هو العلم الطريقي فيتمسّكون بالعلم بما أنّه طريق إلى الواقع ومنجز ومعذر.

وما دام العلم الموضوعي لا تداول له في حياة العقلاء فحينما ينزّل العقلاء خبر الثقة منزلة العلم فمرادهم تنزيله منزلة العلم الطريقي إذ هو الشايع عندهم لا تنزيله منزلة العلم الموضوعي لعدم شيوعه عندهم.

وعليه فدليل حجّية الامارة وهو السيرة العقلائية لا يكون حاكما على دليل حجّية الاستصحاب الذي أخذ في موضوعه القطع لأنّ الحكومة فرع نظر الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم ، وقد اتّضح أنّه لا نظر لدليل حجّية خبر الثقة إلى القطع الموضوعي لعدم شيوعه في حياة العقلاء. وقد تقدّم سابقا توضيح هذا المطلب في القسم الأوّل من هذه الحلقة ص 82.

جواب الآخوند

2 - وأجاب الآخوند بأن جريان الاستصحاب لا يتوقّف على وجود اليقين ، فاليقين ليس ركنا من أركان الاستصحاب.

والوجه في ذلك : انّ مضمون دليل الاستصحاب جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء ، فكأنّه يقول انّ الشيء إذا كان حادثا سابقا فهو باق.

وقد تقول : انّ مجرّد جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء لغو وبلا فائدة ، إذ ما الفائدة في أن يقال إذا كانت الطهارة مثلا ثابتة صباحا فهي باقية إلى المساء ، إنّ هذا غير نافع حيث لا يمكن الحكم في المساء ببقاء الطهارة إذ هي محكومة بالبقاء على تقدير حدوثها صباحا ، وحيث لا يعلم بحدوثها صباحا فلا يمكن الحكم

ص: 80

ببقائها مساء.

والجواب : انّ المفروض في المقام دلالة خبر الثقة صباحا على ثبوت الطهارة فإذا ضممنا إلى هذه الامارة على الحدوث الملازمة بين الحدوث والبقاء المستفادة من دليل الاستصحاب فسوف تكون تلك الامارة على الحدوث امارة على البقاء.

وأشكل السيد الخوئي على الآخوند بأنّه ما المراد من الملازمة المجعولة في دليل الاستصحاب؟ فإن كان المقصود منها الملازمة الواقعية - بمعنى أنّ دليل الاستصحاب يقول انّ الشيء إذا كان حادثا فيما سبق واقعا فهو باق واقعا - فهو باطل إذ لازمه أن يكون الاستصحاب امارة حيث انّه ينظر إلى الواقع ويحكم بالبقاء واقعا ويقول انّ الشيء باق واقعا ويكون نظير خبر الثقة ، فكما أنّه امارة لنظره إلى الواقع غاية الأمر قد يصيبه وقد لا يصيبه كذلك الاستصحاب يكون ناظرا إلى الواقع وبذلك يكون امارة لا أصلا عمليا.

وإن كان المقصود منها الملازمة في مرحلة التنجز ، بمعنى انّ الاستصحاب يقول انّ الشيء إذا كان منجزا في الزمان السابق فهو باق على المنجزية لا حقا فلازمه عند العلم إجمالا بنجاسة أحد الإنائين والعلم بعد ذلك تفصيلا بأنّ النجس هو الإناء الأوّل الحكم بتنجز الاجتناب عن الإناء الثاني أيضا ، حيث انّه حين حصول العلم الإجمالي تنجز وجوب الاجتناب عن كلا الإنائين فإذا زال العلم الإجمالي وعلم تفصيلا بنجاسة الإناء الأوّل زال التنجز الثابت بسبب العلم الإجمالي عن الإناء الثاني ويحدث تنجز بسبب الاستصحاب ، فالاستصحاب يقول عند ذلك : ما دام الإناء الثاني قد ثبت التنجز له في الزمان السابق بسبب

ص: 81

العلم الإجمالي فأنا أحكم ببقاء التنجز له في الزمان اللاحق (1) ، حيث انّي أجعل ملازمة بين حدوث التنجز وبقائه.

وواضح انّ هذا لا يمكن الالتزام به إذ لم يقل أحد انّ التنجز يبقى في أطراف العلم الإجمالي حتّى بعد زواله - العلم الإجمالي - بسبب العلم التفصيلي.

ويمكن الجواب عن كلام السيد الخوئي هذا بأنّ هناك احتمالا ثالثا في الملازمة ، فالاستصحاب لا يجعل الملازمة الواقعية ولا الملازمة في التنجز وإنّما يجعل الملازمة بين الحدوث الواقعي والبقاء الظاهري فهو يقول إن كان الشيء حادثا واقعا فهو باق في مرحلة الظاهر. وبناء على هذا لا يلزم أي إشكال.

وإذا بطل جواب السيد الخوئي فلا بدّ وأن نتصدّى نحن للردّ على ما ذكره الآخوند فنقول : انّ ما ذكره الآخوند يرجع إلى إنكار ركنية اليقين وأنّ اليقين ليس ركنا في باب الاستصحاب. ومثل هذه الدعوى لا بدّ للآخوند من إثباتها إذ كيف ينكر ركنية اليقين والحال أنّ حديث لا تنقض اليقين قد أخذ كلمة اليقين ، وظاهر ذلك أنّ اليقين معتبر بنحو الموضوعية لا المرآتية لحدوث الحالة السابقة.

والآخوند قد تصدّى لإثبات هذه الدعوى وقال انّ اليقين بما أنّه يصلح أن يكون كاشفا ومرآتا عن المتيقّن فأخذه في دليل الاستصحاب يكون بهذا الاعتبار ، أي بما أنّه طريق ومرآة لحدوث الحالة السابقة ولا يكون معتبرا بنحو الموضوعية.

ويعلّق السيد الشهيد على كلام الآخوند هذا قائلا : انّ كلام الآخوند لا بدّ

ص: 82


1- طبيعي هذا يتمّ فيما لو كان الإناء الثاني يحتمل نجاسته بنحو الشبهة البدوية وأمّا إذا كان يقطع بعدم نجاسته بعد حصول العلم التفصيلي فلا مجال لجعل الملازمة بين الحدوث والبقاء في التنجز.

من إصلاحه أوّلا وبعد ذلك نأخذ بمناقشته.

أمّا إصلاحه فالآخوند ذكر أنّ اليقين يصلح أن يكون مرآة ، وهذا صحيح ولكن مجرّد صلاحية اليقين لذلك لا يثبت به أنّه قد أخذ بالفعل بنحو المرآتية. بل لا بدّ من إثبات ذلك من طريق الظهور بأن يقال انّ ظاهر حديث لا تنقض انّ اليقين قد أخذ بما هو مرآة إلى حدوث الحالة السابقة ولا يكفي مجرّد الصلاحية بلا ضمّ دعوى الظهور ، إذ يبقى كل من احتمال الموضوعية واحتمال المرآتية ثابتا ومع ثبوتهما فلا يمكن جريان الاستصحاب في موارد قيام الامارة لاحتمال أنّ اليقين معتبر بنحو الموضوعية.

وبعد هذا الاصلاح يأخذ قدس سره بمناقشة الآخوند قائلا : انّه ما المقصود من أخذ اليقين في حديث لا تنقض بما هو مرآة للمتيقن؟ إنّ في ذلك احتمالين : -

أ - أن يكون المقصود من المرآتية المرآتية الواقعية ، بمعنى أنّ اليقين مرآة واقعا وحقيقة للمتيقن. وهذا وإن كان صحيحا ولكن في خصوص اليقين القلبي - فاليقين القائم في قلب الشخص مرآة للمتيقّن ولذا لا يلتفت الإنسان حين حصول اليقين له إلى صفة اليقين بل إلى المتيقن - وليس تامّا في مفهوم اليقين المأخوذ في حديث لا تنقض فإنّه ليس مرآة حقيقة إلى المتيقّن وإنّما هو مرآة لأفراد اليقين.

ب - وإن كان المقصود من المرآتية أنّ العرف قد يستعمل أحيانا كلمة اليقين ويريد منها المتيقّن فهذا وإن كان صحيحا ولكنّه يحتاج إلى قرينة ، فإنّ كلمة اليقين المأخوذة في حديث لا تنقض ظاهرة في موضوعية اليقين وحملها على المرآتية يحتاج إلى قرينة خاصّة أو قرينة عامة ، وكلتاهما مفقودة.

أمّا فقدان القرينة الخاصّة فواضح حيث لم تقترن قرينة خاصّة بكلمة اليقين

ص: 83

تدل على أنّ المراد منها المتيقن.

وأمّا فقدان القرينة العامّة فلأنّ القرينة العامّة ليست هي إلاّ مناسبات الحكم والموضوع ، ومن الواضح انّها - مناسبات الحكم والموضوع - لا تأبى عن دخالة اليقين بنحو الموضوعية في جريان الاستصحاب.

ثمّ ذكر السيد الشهيد انّه كان من المناسب للآخوند لإثبات عدم ركنية اليقين بنحو الموضوعية في الاستصحاب التمسّك برواية عبد اللّه بن سنان حيث لم يعلل الإمام علیه السلام الحكم بعدم وجوب غسل الثوب باليقين السابق بل بنفس الحالة السابقة حيث قال : انّك أعرته إيّاه وهو طاهر. هذا هو المناسب لا ما ذكره من أنّ ظاهر كلمة اليقين في الروايات اعتبار اليقين بما هو مرآة إلى المتيقن فإنّ هذا غير مقبول بعد عدم مساعدة القرينة الخاصّة والعامة عليه.

جواب جملة من المحقّقين

3 - وقد ذكر جملة من المحقّقين في دفع الإشكال انّ كلمة اليقين المذكورة في قوله علیه السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » يراد بها مطلق الحجّة على ثبوت الحالة السابقة فكأنّه قيل لا تنقض الحجّة على الحالة السابقة بالشكّ ، وتخصيص اليقين بالذكر من باب أنّه أحد مصاديق الحجّة وإلاّ فلا خصوصية له.

وبناء على هذا متى ما قامت الامارة صباحا على طهارة الثوب جرى الاستصحاب عند طروّ الشكّ في بقاء النجاسة مساء لأنّ جريان الاستصحاب لا يتقوّم بوجود خصوص اليقين حتّى يقال بعدم ثبوته في موارد الامارة وإنّما يتقوّم بقيام الحجّة سابقا ، والمفروض انّ الحجّة ثابتة سابقا لأنّ دليل حجّية الامارة يحقّق

ص: 84

مصداقا حقيقيا من مصاديق الحجّة.

وهذا الجواب يختلف عن الجواب السابق للآخوند ، ففيما سبق كان ينكر الآخوند ركنية اليقين ويقول انّ دليل الاستصحاب يريد جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء ولا يريد الحكم بالبقاء عند اليقين بالحدوث ، وأمّا في هذا الجواب فيسلم بركنية اليقين ولكن يفسّر اليقين بمطلق الحجّة.

كما ويختلف هذا الجواب عن الجواب الأوّل للميرزا في أنّ قيام الامارة على الجواب الأوّل يكون حاكما على دليل الاستصحاب لأنّه بقيام الامارة يتحقّق فرد تعبّدي لليقين وتتّسع دائرة اليقين المعتبر في الاستصحاب اتساعا تعبّديا لا حقيقيا بينما على هذا الجواب يكون قيام الامارة واردا على دليل الاستصحاب إذ بقيام الامارة يتحقّق فرد حقيقي للحجّة وتتّسع دائرة اليقين اتساعا حقيقيا. ونحن نعرف أنّ الفرد المتحقّق إن كان فردا تعبّديا فالباب باب الحكومة وإن كان فردا حقيقيا فالباب باب الورود.

هذا حصيلة الجواب الثالث.

ويرده : انّ حمل كلمة اليقين على مطلق الحجّة الجامعة بين اليقين والامارة حمل على خلاف الظاهر وبحاجة إلى قرينة وهي مفقودة.

جواب السيد الشهيد

وبعد أن اتّضح الخلل في الأجوبة الثلاثة السابقة يبقى على السيد الشهيد التصدّي بنفسه للجواب عن المشكلة. وحاصل ما ذكره انّ المشكلة يمكن حلّها في بعض موارد الامارات وتبقى ثابتة في بعض آخر من الموارد.

ص: 85

موارد العلاج
اشارة

أمّا الموارد التي يمكن فيها علاج المشكلة فهي الصور الأربع التالية. وفي هذه الصور الأربع يسلّم قدس سره بأنّ استصحاب الحالة السابقة الثابتة بالامارة لا يمكن جريانه بيد أنّه يمكن إبراز بديل عنه يمكن الاستعانة به عوضا عنه.

ولتوضيح الصور الأربع نقول : انّ الامارة تارة تكون ثابتة في شبهة موضوعية واخرى في شبهة حكمية.

مثال الأوّل : الامارة الدالّة على نجاسة ثوب معيّن صباحا ، فإنّ الثوب المعيّن موضوع خارجي جزئي ، ومتى ما كان الموضوع جزئيا فالشبهة موضوعية.

مثال الثاني : خبر زرارة الحاكم بنجاسة الماء المتغيّر ، فإن الماء الكلّي - لا الماء الخارجي المعيّن - موضوع كلّي ، ومتى ما كان الموضوع كلّيا فالشبهة حكمية.

ثمّ انّ الشكّ في البقاء تارة يكون شكّا في البقاء بنحو الشبهة الموضوعية واخرى بنحو الشبهة الحكمية.

مثال الأوّل : أن يشكّ في المثال الأوّل السابق في عروض الغسل على الثوب المتنجس أو يشكّ في المثال الثاني في زوال التغيّر ، فإنّ الشكّ في هذين المثالين شكّ في البقاء بنحو الشبهة الموضوعية ، إذ الحكم الكلّي معلوم ولا شكّ فيه فيعلم انّ الثوب لو غسل طهر ولكن يشكّ في الموضوع الخارجي فلا يعلم هل طرأ الغسل خارجا أو لا. وهكذا في مثال الماء المتغير يعلم مثلا بأنّ زوال التغيّر مطهّر ولكن يشكّ في تحقّق زوال التغيّر وعدمه.

ص: 86

ومثال الثاني : تطهير الثوب المتنجس بالماء المضاف أو الشكّ في أنّ زوال التغير عن الماء بنفسه - أي لا بإلقاء كر عليه - مطهر أو لا ، فإنّ الشكّ في البقاء في هذين المثالين ناشىء من الشكّ في الحكم الكلّي فلا يعلم أنّ الغسل بالماء المضاف مطهر أو لا ، وهكذا لا يعلم أنّ زوال التغيّر بنفسه عن الماء مطهر أو لا.

ثمّ إنّ مجموع الصور على هذا أربع حاصلة من ضرب الصورتين الاوليتين في الصورتين الأخيرتين. وبعد هذا نأخذ باستعراض حال هذه الصور بالتفصيل.

الصورة الاولى

وفي هذه الصورة نفترض انّ الامارة امارة في شبهة موضوعية وأنّ الشكّ في البقاء شكّ بنحو الشبهة الموضوعية أيضا.

ومثال ذلك : ما إذا أخبر الثقة صباحا بأنّ الثوب قد تنجّس وشككنا مساء في طروّ الغسل عليه.

وفي هذه الحالة نعترف بأنّ استصحاب بقاء التنجس لا يجري ، إذ بقيام الامارة لا يحصل اليقين بثبوت التنجّس كي يستصحب ولكن يمكن التعويض عن ذلك باستصحاب آخر ، وذلك بأحد الشكلين التاليين : -

أ - أن نقول ما هو الغرض من إجراء استصحاب بقاء التنجّس مساء في الثوب؟ ليس الغرض إلاّ إثبات بقاء تنجّسه ، ونحن في هذا الشكل سوف نثبت بقاء التنجس مساء بلا اعتماد على استصحاب التنجّس السابق ، بأن يقال : انّ ثبوت التنجس مساء يحتاج إلى ركنين : أحدهما : ملاقاة النجاسة للثوب ، وثانيهما عدم طرو الغسل عليه. وكلاهما متوفّر فيثبت بقاء التنجس مساء.

ص: 87

أمّا توفّر الركن الأوّل فباعتبار الامارة حيث فرضنا انّ الثقة شهد بملاقاة النجاسة للثوب.

وامّا توفّر الركن الثاني فبتوسّط الاستصحاب حيث انّه توجد لحظة سابقة نجزم فيها بعدم غسل الثوب. وهذه اللحظة إن لم تكن قبل يوم أو يومين فهي لا أقل موجودة قبل سنة أو سنتين حين شراء الثوب من بائع الأقمشة. وإذا كان اليقين بعدم طروّ الغسل ثابتا في تلك اللحظة فنستصحبه إلى زمان الشكّ.

وبذلك يتوفر كلا الركنين وتثبت نجاسة الثوب مساء ، غاية الأمر أحد الركنين ثابت بالامارة والآخر ثابت بالاستصحاب (1).

والخلاصة : انّه لئن تعذّر علينا إجراء استصحاب التنجس السابق ومن ثمّ إثبات بقاء التنجّس في الثوب مساء فبإمكاننا إثبات ذلك بالطريق المتقدّم.

ب - انّ الامارة التي أخبرتنا صباحا بتنجّس الثوب هي في الحقيقة تخبر عن مطلبين : أحدهما ملاقاة النجاسة للثوب. وثانيهما انّ ذلك التنجس باق إلى الأبد ما لم يطرء الغسل.

ويمكن أن نصطلح على المطلب الأوّل بالمدلول المطابقي للامارة وعلى المطلب الثاني بالمدلول الالتزامي.

والامارة كما هي حجّة في الأوّل حجّة في الثاني أيضا. وعند قيام الامارة لئن لم يحصل لنا يقين بالمطلب الأوّل - أي بملاقاة النجاسة للثوب - فلا يجري

ص: 88


1- ويصطلح على مثل استصحاب عدم طرو الغسل بالاستصحاب الموضوعي ، لأنّ عدم طرو الغسل موضوع - أو بالأحرى جزء لموضوع الحكم بالتنجيس - وليس حكما شرعيا فالاستصحاب الجاري فيه استصحاب موضوعي.

استصحابه فلنا يقين بالمطلب الثاني ؛ إذ نجزم بعد قيام الامارة بحكم الشارع ببقاء التنجس في الثوب ما دام لم يغسل. ونحن نستصحب هذا البقاء التعبّدي المتيقّن فنقول هكذا : انّ الثوب كان محكوما صباحا جزما ببقاء التنجس فيه تعبّدا ما دام لم يغسل فإذا شكّ في طروّ الغسل فهذا معناه الشكّ في بقاء ذلك التعبّد الشرعي بالبقاء فنجري الاستصحاب فيه أي في البقاء التعبّدي.

وإن شئت قلت : إنّ لنا شكّين : شكّا في بقاء التعبّد بالنجاسة ، وشكّا في طرو الغسل ، والشكّ الأوّل مسبب عن الشكّ الثاني. وفي الشكل الأوّل اجري الاستصحاب في الشكّ الثاني بينما في الشكل الثاني اجري في الشكّ الأوّل.

الصورة الثانية

وفي هذه الصورة نفترض انّ الامارة امارة في شبهة حكمية بينما الشكّ في البقاء شكّ بنحو الشبهة الموضوعية.

ومثال ذلك : ان يدلّ خبر زرارة على نجاسة الماء المتغيّر. وهذه شهادة على مطلب كلّي. ونفترض انّ لدينا صباحا في الخارج ماء معيّنا متغيّرا ونشك في زوال تغيّره مساء. وفي هذه الصورة يجري الاستصحابان السابقان دون أي فرق.

أمّا الاستصحاب بشكله الأوّل فبأن يقال انّ بقاء النجاسة في المساء تحتاج إلى ركنين : أحدهما : ثبوت النجاسة عند تغيّر الماء ، وثانيهما بقاء التغير. والركن الأوّل ثابت بالامارة والركن الثاني ثابت بالاستصحاب فيستصحب بقاء التغيّر ، فإنّ التغيّر كان ثابتا على سبيل اليقين صباحا فإذا شكّ في بقائه مساء جرى استصحابه.

ص: 89

وامّا الاستصحاب بشكله الثاني فبأن يقال انّ الامارة على نجاسة الماء المتغيّر تدل بالالتزام على بقاء النجاسة تعبّدا ما دام لم يزل التغير فإذا شكّ في بقاء التعبّد بالنجاسة بسبب الشكّ في زوال التغير استصحب البقاء التعبّدي السابق.

الصورة الثالثة

وفي هذه الصورة نفترض انّ الامارة امارة في شبهة موضوعية بيد انّ الشكّ في البقاء شكّ بنحو الشبهة الحكمية.

مثال ذلك : أن تدل الامارة على نجاسة ثوب معيّن صباحا ثمّ في المساء يغسل بمائع مضاف. انّ المشكوك في المثال المذكور بما أنّه شيء خارجي معيّن وهو الثوب فالامارة المتعلّقة به امارة في شبهة موضوعية ولكن الشكّ في بقاء نجاسته حيث انّه ناشئ من الشكّ في الحكم الشرعي - حيث انّ الشكّ في حصول التطهير بالمائع المضاف شكّ في حكم كلي - فالشبهة من حيث البقاء شبهة حكمية.

وفي هذه الصورة لا يجري الاستصحاب بشكله الأوّل السابق ويجري بشكله الثاني.

امّا انّه لا يجري بشكله الأوّل فلأنّ المطهر شرعا إن كان هو الغسل بالمطلق فهو ممّا يقطع بعدم حصوله على الفرض فلا معنى لإجراء استصحاب عدم حصوله فإنّ جريان الاستصحاب فرع الشكّ ، وإن كان هو الغسل بالمائع الأعمّ من المطلق والمضاف فهو ممّا يقطع بحصوله فلا معنى لجريان الاستصحاب فيه أيضا (1).

ص: 90


1- وقد تقول لماذا لا يجري الاستصحاب في عنوان المطهر الشرعي فيقال انّ المطهّر الشرعي نشكّ في طروّه فنستصحب عدمه ونقطع النظر عن حيثية الإطلاق والإضافة؟ والجواب : انّ المزيل للنجاسة شرعا امّا الغسل بالمطلق أو الغسل بمطلق المائع ، وأمّا عنوان المطهر فليس مركزا للأثر كي يجري الاستصحاب فيه ، وإذا كنّا نعبّر بعنوان المطهر أحيانا ونقول نستصحب عدم طروّ المطهر فذاك مرآة إلى عدم الغسل بالماء المطلق.

وأمّا انّه يجري بشكله الثاني فلأنّ الامارة حينما دلّت صباحا على نجاسة الثوب فقد دلّت على نجاسته الظاهرية وبقائها تعبّدا إلى أن يطرأ المطهر الواقعي ، وحيث إنّنا نشكّ في حصول المطهر الواقعي - للشكّ في حصول التطهير واقعا بالغسل بالمائع المضاف - فيجري استصحاب بقاء النجاسة الظاهرية أو بكلمة اخرى يجري استصحاب البقاء التعبّدي.

الصورة الرابعة

وهذه الصورة عكس الصورة الاولى ، أي تكون الامارة امارة في شبهة حكمية ويكون الشكّ في البقاء شكّا بنحو الشبهة الحكمية.

مثال ذلك : ان تدلّ الامارة على حصول التنجس بملاقاة الشيء المتنجّس (1) ويفرض انّ لدينا ثوبا معيّنا صباحا لاقى اليد المتنجّسة ، وعند المساء غسلناه بالمائع المضاف. انّ حصول التنجس بملاقاة المتنجّس حيث انّه حكم شرعي كلّي فالامارة الدالة عليه امارة في شبهة حكمية ، والشكّ في البقاء حيث انّه ناشىء من الشكّ في حكم الشارع بمطهريّة الغسل بالمائع المضاف فالشبهة من

ص: 91


1- حصول التنجّس بملاقاة العين النجسة كالدم والبول ممّا لا إشكال فيه ولا كلام وإنّما الكلام بين الفقهاء في أنّ البول إذا لاقى اليد وجفّ لسبب وآخر ولاقت اليد الحاملة لرطوبة العرق بعد ذلك ثوبا أو أي شيء آخر فهل يتنجس الثوب أو لا. وهذا هو المبحث المعروف بأنّ المتنجس ينجس أو لا.

حيث البقاء شبهة حكمية أيضا.

وهذه الصورة لا تختلف من حيث الحكم عن الصورة الثالثة المتقدّمة فالاستصحاب بشكله الأوّل لا يجري وبشكله الثاني يجري.

اما انّه بشكله الأوّل لا يجري فلنفس ما سبق حيث انّ المطهّر الشرعي إن كان هو الغسل بالماء المطلق فذاك ممّا يقطع بعدم حصوله فلا معنى لإجراء استصحاب عدمه ، وإن كان هو الغسل بالسائل الأعمّ من المطلق والمضاف فذاك ممّا يقطع بحصوله ولا معنى أيضا لجريان الاستصحاب فيه.

وامّا انّه بشكله الثاني يجري فلأنّ الامارة حينما دلّت على حصول التنجّس بملاقاة المتنجّس وفرض انّ الثوب لاقى اليد المتنجّسة فقد حصل القطع بالتنجّس الظاهري وحصل القطع ببقائه تعبّدا ما لم يطرأ المطهر الشرعي الواقعي فإذا شكّ في طروّه - للشكّ في أنّ الغسل بالمضاف مطهر أو لا - جرى استصحاب التنجس الظاهري أو بكلمة اخرى البقاء التعبّدي للتنجس.

الخلاصة

والخلاصة التي اتّضحت بعد استعراض هذه الصور الأربع انّ النجاسة الواقعية التي دلت الامارة عليها وإن لم يمكن استصحابها لعدم حصول القطع بها - إذ الامارة لا تفيد القطع - إلاّ أنّه يمكن التعويض عن ذلك باستصحاب آخر ، فإنّ النجاسة الظاهرية لمّا كان بقاؤها مغيى بعدم طروّ المطهر فالاستصحاب يمكن إجراؤه بشكلين ، فامّا أن يجرى في عدم طرو المطهر وهو استصحاب موضوعي ، أو يجرى في نفس النجاسة الظاهرية.

ص: 92

وإن شئت قلت انّ الاستصحاب امّا أن يجري لإثبات عدم تحقّق الغاية أو لإثبات بقاء الحكم المغيى. وعرفنا انّ الاستصحاب بشكله الثاني - أي استصحاب المغيّى - يجري في جميع الصور الأربع وأمّا بشكله الأوّل فيجري في الصورة الاولى والثانية فقط.

بعض الصور لا يجري فيها الاستصحاب البديل

وقد عرفنا انّ الاستصحاب البديل يجري في صور أربع. ويمكن أن نقدّم جامعا للصور الأربع المذكورة فإنّه في جميعها يفرض وجود حكم له قابلية الاستمرار إلى الأبد ما لم تطرأ الغاية الرافعة له ، فإنّ نجاسة الثوب أو الماء قابلة شرعا للبقاء إلى يوم القيامة ما دام لم تحصل الغاية الرافعة لها. هذا هو الجامع. وقد اتّضح انّ الاستصحاب يجري بأحد شكلين.

وهناك صورة لا يمكن فيها جريان الاستصحاب البديل ، وهي ما لو فرض انّ الحكم ليست له قابلية البقاء إلى الأبد ولم يتحدّد استمراره بغاية معيّنة.

مثال ذلك : ما لو قال المولى لعبده اجلس في المسجد إلى زوال الشمس ، فإذا امتثل العبد ذلك وجلس إلى الزوال ولكنّه شكّ بعد ذلك في استمرار الوجوب - من جهة احتمال انّ التقييد بالزوال لبيان الفرد الأفضل لا لارتفاع الوجوب حقيقة بعده - فلا يجري الاستصحاب ؛ إذ لا توجد غاية يشكّ في حصولها ليستصحب عدمها كما ولا يوجد حكم مغيى ليستصحب بقاؤه.

وفي هذه الصورة يبقى الإشكال - وهو أنّه كيف يجري الاستصحاب في مورد الامارة - مستحكما ؛ إذ لا يمكن استصحاب الحكم الواقعي لعدم حصول

ص: 93

اليقين به ولا استصحاب الحكم الظاهري لأنّ الامارة في هذه الصورة لا تدلّ على حكم ظاهري مغيى بغاية معينة إذ لا تدلّ على بقاء الوجوب ظاهرا ما لم تحصل الغاية الرافعة له.

ولا يمكن التخلّص من الإشكال إلاّ برفض ركنية اليقين كما رفضها من قبل الآخوند ولكن لا لما ذكره من الوجه - وهو أنّ التعبير باليقين في الروايات اريد به المرآتية لحدوث الحالة السابقة ، انّ هذه الدعوى خلاف ظاهر كلمة اليقين في الموضوعية وتحتاج إلى قرينة وهي مفقودة - بل للاستناد إلى رواية عبد اللّه بن سنان المتقدّمة حيث علّل الإمام علیه السلام عدم وجوب غسل الثوب الذي أعاره للذمي بحدوث الحالة السابقة دون اليقين بها ، إذ قال علیه السلام انّك أعرته إيّاه وهو طاهر ولم يقل انّك أعرته إيّاه وأنت مستيقن بطهارته.

قوله ص 237 س 1 : من أدلّته المتقدّمة : وهي روايات لا تنقض اليقين بالشكّ.

قوله ص 237 س 4 : مصحّح للتعبّد بها : إذ بدون الأثر العملي لا يصحّ التعبّد ببقاء الحالة السابقة.

قوله ص 238 س 4 : إذا تمّ الاستدلال الخ : وقد كان تامّا في نظر السيد الشهيد.

قوله ص 238 س 10 : في الجملة : أي على نحو القضية المهملة فلم تدلّ على أنّها تبقى بعد زوال التغيّر أو لا.

قوله ص 238 س 11 : بعد زوال التغيّر : أي من قبل نفسه ، فإنّ تغيّر الماء تارة يزول بإلقاء كرّ عليه ، وهذا لا إشكال في حصول الطهارة به ، واخرى يزول

ص: 94

بنفسه بدون إلقاء كرّ طاهر عليه ، وهذا هو محلّ الشكّ.

ثمّ انّ المقصود من الماء المتغيّر في المثال المذكور هو الماء البالغ قدر كرّ ، وأمّا غير البالغ فلا إشكال في تنجّسه وإن لم يتغيّر ، كما ولا إشكال في بقاء نجاسته عند زوال تغيّره من قبل نفسه.

قوله ص 238 س 15 : وإلغاء احتمال الخلاف : عطف تفسير للطريقيّة.

قوله ص 238 س 15 : وبهذا : أي بسبب صيرورة الامارة علما وطريقا ببركة دليل حجّيتها.

قوله ص 238 س 15 : القطع الموضوعي : كالقطع المأخوذ في روايات الاستصحاب فإنّه قطع مأخوذ في موضوع الاستصحاب حيث قيل : « لا تنقض اليقين بالشكّ ».

قوله ص 238 س 16 : على الدليل المتكفّل الخ : وهو دليل الاستصحاب حيث جعل الحكم بالبقاء مرتّبا على القطع بالحالة السابقة.

قوله ص 239 س 1 : ومعنى الحكومة هنا : أي انّ الحكومة في محل كلامنا موسّعة وإن كانت في مورد آخر مضيقه.

قوله ص 239 س 2 : ومن مصاديق ذلك : أي من مصاديق الحكومة.

قوله ص 239 س 3 : وحكومة دليل الخ : عطف تفسير لسابقه.

قوله ص 239 س 5 : وقد تقدّم الخ : هذا ردّ على كلام النائيني. وقد تقدّم ذلك في القسم الأوّل ص 82.

قوله ص 239 س 10 : على ما قيل في تفسيره : التعبير بذلك لتعدّد الاحتمالات في مقصود الآخوند.

ص: 95

قوله ص 240 س 6 : انّ مردّ هذا الوجه : أي الوجه الثاني الذي ذكره الآخوند.

قوله ص 240 س 8 : فلا بدّ له : أي لهذا الوجه.

قوله ص 243 س 5 : أركانه فيه : أي في الجزء الآخر.

قوله ص 245 س 8 : والغسل بالمضاف : الصواب : والغسل بالمطلق.

قوله ص 245 س 12 : نفس المجعول : وهو البقاء التعبّدي.

قوله ص 245 س 14 : ورافعا : عطف تفسير لغاية.

قوله ص 246 س 7 : المستفاد من دليل الحجّية : وهو الحكم بوجوب البقاء إلى الزوال.

ص: 96

الركن الثاني أو الشكّ في البقاء

اشارة

قوله ص 247 س 1 : والشكّ في البقاء الخ : والركن الثاني من أركان الاستصحاب الشكّ في البقاء. ويمكن تقريب ركنية هذا الركن بأحد بيانين : -

أ - أن نقطع النظر عن الروايات التي أخذت الشكّ في لسانها ونستدل على ذلك بالبرهان التالي (1) :

انّ الاستصحاب بما انّه حكم ظاهري فيعتبر في موضوعه الشكّ. والشكّ المذكور حيث انّه لا يمكن أن يكون هو الشكّ في أصل حدوث الحالة السابقة - وإلاّ كان المورد من موارد قاعدة اليقين لا الاستصحاب - فلا بدّ وأن يكون هو الشكّ في بقائها ، وهذا هو المطلوب.

ب - انّ نتوجّه إلى الروايات ونقول انّ الشكّ في البقاء معتبر في الاستصحاب لأنّ الروايات أخذته في لسانها وقالت لا تنقض اليقين بالشكّ.

وهل يوجد فارق عملي بين هذين البيانين أو هما واحد من هذه الناحية؟ نعم يوجد فارق عملي في موردين : -

المورد الأوّل

انّه بناء على البيان الأوّل يمكن جريان الاستصحاب في الفرد المردّد بينما

ص: 97


1- هذا البيان الأوّل ذكر في عبارة الكتاب ثانيا وما ذكرناها ثانيا ذكر أوّلا ، وذاك غير مهمّ.

على البيان الثاني لا يمكن ذلك. ولأجل ان يتجلّى ذلك لا بدّ أوّلا من إيضاح المقصود من استصحاب الفرد المردّد ، وإيضاح الفرق بينه وبين استصحاب الكلّي من القسم الثاني.

انّ استصحاب الكلّي من القسم الثاني يعني اليقين بوجود الكلّي سابقا ضمن أحد فردين أحدهما متيقن الارتفاع والآخر مشكوك الارتفاع (1) ، كما لو علم بوجود كلي الإنسان في المسجد امّا ضمن زيد أو ضمن خالد ، ونفرض إنّا نعلم انّه لو كان ضمن زيد فهو مرتفع جزما زمان الشكّ لأنّ زيدا نفرض رؤيته خارج المسجد زمان الشكّ ، وإن كان ضمن خالد فهو محتمل البقاء لأنّ خالدا نحتمل بقائه في المسجد إلى زمان الشكّ ، انّ تردّد الفردين بهذا الشكل يوجب التردّد في بقاء الكلّي. وهذا ما يسمّى باستصحاب الكلّي من القسم الثاني. والمعروف فيه جريان الاستصحاب في الكلّي لليقين بحدوثه والشكّ في بقائه. أجل الفردان لا يجري فيهما الاستصحاب لأنّ زيدا معلوم الارتفاع وخالدا مشكوك الحدوث.

وامّا استصحاب الفرد المردّد فيقصد منه إجراء الاستصحاب في الفرد الواقعي فيقال انّا لا نستصحب كلّي الإنسان ولا زيدا ليقال انّه معلوم الارتفاع ولا خالدا ليقال انّه مشكوك الحدوث بل نستصحب بقاء ذلك الفرد الداخل في المسجد واقعا ، فذاك الفرد المعيّن الذي دخل المسجد واقعا وفي علم اللّه سبحانه والذي هو مردّد بحسب علمنا نستصحب بقائه.

وقد تسأل متى يحقّ لنا استصحاب الكلّي دون الفرد المردّد ومتى يحقّ

ص: 98


1- أو متيقن البقاء فإنّ ذلك لا يؤثّر في حقيقة استصحاب الكلي من القسم الثاني.

العكس؟ والجواب : انّ الأثر الشرعي تارة يكون مترتّبا على الكلّي - كما لو دلّ الدليل متى ما كان إنسان في المسجد فيجب إكرامه - واخرى يكون مترتّبا على الفرد كما لو دلّ الدليل متى ما كان زيد في المسجد فيجب إكرامه ومتى ما كان خالد في المسجد فيجب إكرامه.

فإن كان الأثر الشرعي مترتّبا على الكلّي فلا بدّ من إجراء الاستصحاب في الكلّي لأنّ الفرد لا أثر له ليجري الاستصحاب فيه ، وإن كان الأثر الشرعي مترتّبا على كل واحد من الفردين فلا بدّ من إجراء الاستصحاب في الفرد دون الكلّي لعدم ترتّب الأثر عليه.

وبهذا اتّضح الفارق بين استصحاب الكلّي واستصحاب الفرد المردّد.

والمعروف عدم جريان الاستصحاب في الفرد المردّد. ولكن ما هي النكتة في ذلك؟

انّ النكتة هي انّ ذلك الفرد الواقعي الذي يراد استصحابه امّا أن يلحظ بما هو مرآة لذلك الفرد الثابت واقعا في علم اللّه سبحانه - فإذا كان الداخل في المسجد واقعا زيدا فالاستصحاب يكون جاريا في زيد وإن كان الداخل واقعا خالدا فالاستصحاب يكون جاريا في خالد - أو أن يلحظ الفرد بما هو عنوان الفرد وبقطع النظر عن المرآتية. وكلاهما باطل.

أمّا الأوّل فلأنّ إجراء الاستصحاب في عنوان الفرد بما هو مرآة لزيد وعمر لا يكون ممكنا إلاّ فيما إذا كان كلا الفردين - زيد وعمرو - مشكوك البقاء ولا يمكن جريانه فيما إذا كان أحد فرديه لا يوجد شكّ في بقائه بل يقطع بارتفاعه ، كما هو الحال في المقام حيث انّ عنوان الفرد لو كان مرآة لزيد فيقطع بارتفاعه.

ص: 99

وامّا الثاني فلأنّ إجراء الاستصحاب في عنوان الفرد بما هو عنوان الفرد وبقطع النظر عن مرآتيته غير ممكن بعد ما كان الأثر الشرعي مترتّبا على عنوان زيد وخالد دون عنوان الفرد (1).

وإن شئت قلت : انّ الاستصحاب في عنوان الفرد بما هو مرآة لا يجري من جهة انّ الشكّ في البقاء لا يكون متحقّقا على كلا التقديرين بل على أحد التقديرين دون الآخر. والاستصحاب في عنوان الفرد بما هو عنوان الفرد لا يجري من جهة انّ الشكّ في البقاء وإن كان متحقّقا إلاّ أنّ الركن الرابع وهو ترتّب الأثر الشرعي ليس بمتوفّر.

وبعد اتّضاح الوجه في عدم جريان الاستصحاب في الفرد المردّد نعود إلى بيان الفارق العملي بين البيانين السابقين.

انّ الفارق العملي هو انّه بناء على البيان الأوّل يمكن إجراء الاستصحاب في الفرد المردّد دون أي محذور بخلافه بناء على البيان الثاني فإنّه لا يمكن جريانه.

امّا انّه يمكن جريانه على البيان الأوّل فلأنّ البيان الأوّل كان يقول انّ الشكّ في البقاء يعتبر ركنا في الاستصحاب من جهة أنّه - الاستصحاب - حكم ظاهري ، انّ هذا البيان وإن كان لازمه اعتبار الشكّ لتقوّم الحكم الظاهري بالشكّ إلاّ أنّه لا يلزم في الشكّ الذي يتطلّبه الحكم الظاهري أن يكون شكّا في

ص: 100


1- هذا مضافا إلى أنّه لو فرض ترتّب الأثر على عنوان الفرد بما هو عنوان الفرد فالاستصحاب فيه وإن جرى إلاّ أنّه من قبيل استصحاب الكلّي فإنّ عنوان الفرد هو من قبيل عنوان الإنسان فكما انّ الاستصحاب في عنوان الإنسان استصحاب في الكلّي لا في الفرد المردّد كذلك الاستصحاب في عنوان الفرد دون أي فرق.

البقاء على كلا التقديرين بل يكفي أن يكون الشكّ في البقاء ثابتا ولو على أحد التقديرين كما هو الحال في المقام فإنّ عنوان الفرد على تقدير كونه مرآة لخالد مشكوك البقاء وإن كان على تقدير كونه مرآة لزيد مقطوع الارتفاع إلاّ أنّ هذا غير مهمّ لأنّ الحكم الظاهري لا يتطلّب أكثر من وجود الشكّ ولو على أحد التقديرين.

وأمّا انّه لا يمكن جريانه على البيان الثاني - أي لو كان المستند في اعتبار الشكّ في البقاء هو الروايات - فلأنّ الروايات وإن لم تصرّح باعتبار عنوان الشكّ في البقاء إلاّ أنّ ذكر كلمة الشكّ بعد كلمة اليقين في قوله علیه السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » يدلّ على أنّ الشكّ واليقين لا بدّ وأن يكون متعلّقهما واحدا ، فالشكّ يلزم أن يكون متعلّقا بنفس ما تعلّق به اليقين ، ومن الواضح انّ عنوان الفرد لو كان مرآة لخالد فالشكّ واليقين وإن كانا متعلّقين بواحد حيث ان خالدا متيقن ونفسه مشكوك ولكنّه لو كان مرآة لزيد فلا يكون الشكّ واليقين متعلّقين بواحد فإنّ المفروض انّ زيدا على تقدير كونه هو الحادث ممّا يقطع بارتفاعه ولا يشك في ذلك. هذه هي حصيلة الثمرة بين البيانين.

المورد الثاني

والمورد الثاني الذي تظهر فيه الثمرة بين البيانين هي كما يلي : انّ زمان المشكوك تارة يكون متأخّرا عن زمان المتيقّن ومتصلا به (1) واخرى يكون من

ص: 101


1- ينبغي الالتفات إلى إنّا لم نقل بأنّ زمان الشكّ قد يكون متأخّرا عن زمان اليقين بل قلنا انّ زمان المشكوك قد يكون متأخّرا عن زمان المتيقن. والمراد من المشكوك والمتيقن ما هو المتعلّق للشكّ واليقين ، وبين المطلبين فرق

المحتمل اتّحاده معه.

مثال الأوّل : ما هو المتداول في حالات الاستصحاب المتعارفة كما لو علم بنجاسة الثوب صباحا ثمّ شكّ عند المساء في بقاء النجاسة ، فإنّ زمان المشكوك - وهو المساء - متأخّر عن زمان المتيقّن - وهو الصباح - ومتّصل به.

ومثال الثاني : ما إذا كان الزمان الذي فيه المكلّف هو الساعة الثانية ، وعلم انّ ثوبه قد لاقى النجاسة امّا في الساعة الثانية التي هو فيها أو في الساعة الاولى ، ونفرض انّه كان يحتمل انّ النجاسة على تقدير إصابتها للثوب في الساعة الاولى قد زالت وطهر الثوب في الساعة الثانية بينما على تقدير حدوثها في الساعة الثانية فهي باقية ولم يطهر الثوب منها.

في هذه الحالة نرى انّ زمان المشكوك هو الساعة الثانية ، إذ في الساعة الثانية يشكّ في بقاء النجاسة ، كما وانّ المتيقّن - وهو النجاسة الحادثة امّا في الساعة الاولى أو الثانية - يحتمل حدوثه في الساعة الثانية أيضا. فالساعة الثانية إذن هي زمان المشكوك وهي ممّا يحتمل أن تكون زمانا للمتيقّن حيث انّ النجاسة المتيقّنة يحتمل حدوثها في الساعة الثانية.

وفي مثل هذه الفرضية لا يكون الشكّ في البقاء - الذي هو الركن الثاني في الاستصحاب - محرزا ، فإنّ الشكّ في البقاء يصدق فيما لو كان زمان المتيقّن الساعة الاولى ، أي فيما لو كانت النجاسة المعلومة بالإجمال قد حدثت في الساعة الاولى ، وأمّا إذا كان زمان المتيقّن الساعة الثانية الذي هو زمان المشكوك أيضا على الفرض فلا يصدق الشكّ في البقاء. وعليه فصدق الشكّ في البقاء وإن كان محتملا ولكنّه ليس محرزا على سبيل الجزم.

ص: 102

وفي هذا المثال وما يضاهيه تظهر الثمرة بين البيانين فإنّه على البيان الثاني الذي يلاحظ فيه لسان الروايات يمكن الإشكال في جريان الاستصحاب باعتبار عدم إحراز صدق عنوان الشكّ في البقاء ، وأمّا على البيان الأوّل فليس تامّا لأنّ البيان الأوّل كان يقول انّ الاستصحاب حكم ظاهري يعتبر في موضوعه الشك ، ومن الواضح انّ الحكم الظاهري يكفي لإشباع حاجته وجود أصل الشكّ ولا يتوقّف على أن يكون الشكّ شكّا في البقاء بل يكفي أن يكون الشكّ في البقاء صادقا ولو على تقدير دون تقدير آخر ، وهذا في المقام صادق فإنّ عنوان الشكّ في البقاء صادق على تقدير حدوث النجاسة المتيقّنة في الساعة الاولى وإن لم يكن صادقا على تقدير حدوثها في الساعة الثانية.

ثمّ يضيف السيد الشهيد بعد ذلك قائلا : انّه يمكن أن يقال بصحّة جريان الاستصحاب حتّى على تقدير الأخذ بالبيان الثاني الناظر إلى لسان الروايات ، فإنّ الروايات لم تعبّر بالشكّ في البقاء حتّى يقال بعدم جريان الاستصحاب وإنّما ذكرت كلمة « الشكّ » بعد كلمة « اليقين » حيث قالت : « لا تنقض اليقين بالشكّ » ، وهذا أقصى ما يستفاد منه انّ متعلّق الشكّ لا بدّ وأن لا يتغاير مع متعلّق اليقين - فإذا كان اليقين متعلّقا بعدالة زيد صباحا فلا بدّ وأن يكون الشكّ مساء متعلّقا بعدالة زيد أيضا ولا يكفي تعلّق الشكّ بعدالة خالد (1) - سواء صدق عنوان الشكّ في البقاء أو لا ، فإنّ ذلك غير مهم ، ومن الواضح انّ متعلّق اليقين والشكّ في مقامنا واحد ، فإنّ الشكّ في الساعة الثانية متعلّق بنجاسة الثوب ، واليقين أيضا

ص: 103


1- هذا هو المقصود من وحدة متعلّق اليقين والشكّ وليس المقصود تعلّق الشكّ بنفس حدوث المتيقّن حتّى يقال بأنّ ذلك مورد قاعدة اليقين.

متعلّق بنجاسة الثوب.

وإذا كان الاستصحاب جاريا حتّى على تقدير الأخذ بلسان الروايات فهذا معناه بطلان الثمرة الثانية وانّ الصحيح هو الثمرة الاولى فقط.

ثمّ إنّ الإشكال في جريان الاستصحاب في المثال السابق إذا لم يندفع بالنكتة المتقدّمة - وهي انّ الروايات لم تعبّر بالشكّ في البقاء بل أقصى ما يستفاد منها اعتبار وحدة متعلّق اليقين والشكّ - وبقي مستحكما لزم في موارد توارد الحالتين المتضادّتين أن لا يجري الاستصحاب في كل طرف حتّى مع فرض عدم معارضته بالاستصحاب في الطرف الآخر ، والحال انّ المعروف بين الأعلام انّ الاستصحاب في كل طرف قابل للجريان لو لم يكن معارضا بالاستصحاب في الطرف الآخر.

ولاستيضاح ذلك لا بدّ من التعرّف أوّلا على المقصود من موارد توارد الحالتين ثمّ التعرّف على وجه عدم قابلية كل طرف لجريان الاستصحاب فيه حتّى بقطع النظر عن المعارضة.

أمّا توارد الحالتين فالمقصود منه ما إذا كان لدينا موضوع واحد علمنا بطرو حالتين متضادّتين عليه ولم نعلم المتقدّم منهما والمتأخّر ، كما لو فرض انّ المكلّف في الساعة الثانية علم إجمالا بأنّه قد صدر منه الحدث والوضوء جزما ، ولكنّه لا يدري هل صدر منه الحدث أوّلا حتّى يكون على وضوء في الساعة الثانية أو صدر منه الوضوء أوّلا حتّى يكون على حدث في الساعة الثانية.

والمعروف بين الأصحاب في هذه الحالة انّ استصحاب الوضوء في نفسه قابل للجريان لو لا معارضته باستصحاب الحدث ، وهكذا استصحاب الحدث في

ص: 104

نفسه قابل للجريان لو لا معارضته باستصحاب الوضوء. بينما لو كان صدق عنوان الشكّ في البقاء معتبرا في جريان الاستصحاب ولم يكف اتحاد متعلّق الشكّ واليقين فاللازم أن لا يجري الاستصحاب في الحدث حتّى لو لم يكن معارضا بالاستصحاب في الوضوء وهكذا يلزم أن لا يجري الاستصحاب في الوضوء حتّى لو لم يكن معارضا بالاستصحاب في الحدث.

والوجه في ذلك : انّ المكلّف يشكّ في الساعة الثانية في صدور الحدث منه فزمان الحدث المشكوك هو الساعة الثانية ، وحيث انّه يحتمل كون الحدث المعلوم بالإجمال قد حصل في الساعة الثانية فهذا معناه انّه يحتمل اتّحاد زمان المتيقّن مع زمان المشكوك ، ولازمه عدم إحراز صدق عنوان الشكّ في البقاء وبالتالي يلزم عدم جريان الاستصحاب في الحدث حتّى بقطع النظر عن استصحاب الوضوء.

وهكذا الكلام نفسه يأتي في استصحاب الوضوء ، أي يلزم عدم جريانه في نفسه حتّى بقطع النظر عن المعارضة لأنّ زمان الوضوء المشكوك هو الساعة الثانية ، وحيث انّ من المحتمل وقوع الوضوء المتيقّن في الساعة الثانية يلزم عدم إحراز صدق عنوان الشكّ في البقاء.

ولعلّ ما ورد في بعض تعابير صاحب الكفاية من تعليل عدم جريان الاستصحاب في بعض الموارد بعدم إحراز اتصال زمان الشكّ بزمان اليقين (1) يراد به هذا المعنى ، أي أنّ زمان المشكوك لمّا كان هو الساعة الثانية وزمان المتيقّن

ص: 105


1- يأتي نقل هذا التعبير عند البحث عن جريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ ص 313 من الحلقة وينقل السيد الشهيد لذلك تفسيرين ليس هذا واحدا منهما.

حيث انّه يحتمل أن يكون الساعة الثانية أيضا فلا يحرز صدق عنوان الشكّ في البقاء ، أي لا يحرز اتصال زمان الشكّ بزمان اليقين.

صياغة جديدة للركن الثاني

ثمّ انّ الصيغة السابقة للركن الثاني كانت تعبّر بالشكّ في البقاء كما تقدّم.

وقد يصاغ الركن المذكور بصياغة اخرى فيقال : يعتبر في الاستصحاب إحراز صدق عنوان نقض اليقين بالشكّ فيما لو اريد رفع اليد عن اليقين السابق فلو لم يحرز ذلك لم يجر الاستصحاب.

أمّا مثال الحالة التي يحرز فيها صدق عنوان نقض اليقين بالشكّ فواضح حيث انّ ذلك هو الحالة المتعارفة فالثوب إذا كنّا نحرز طهارته صباحا ثمّ شككنا مساء في بقائها فلو لم نرتّب آثار بقائها كان ذلك نقضا لليقين السابق بالشكّ.

وأمّا مثال الحالة التي لا يحرز فيها ذلك فكما لو فرضنا انّ لدينا ثوبين غسلناهما صباحا وتيقّنّا بطهارة كل واحد منهما تفصيلا ، وفي المساء حصل لنا علم إجمالي بأنّ نجاسة قد أصابت - أي في المساء - أحد الثوبين. فلو أخذنا بالصياغة السابقة وأخذنا عنوان الشكّ في البقاء بعين الاعتبار كان كل واحد من الثوبين قابلا لجريان الاستصحاب لو لا المعارضة إذ كل واحد من الثوبين معلوم الطهارة صباحا ويشك في بقائها مساء.

وأمّا إذا أخذنا بالصياغة الجديدة فلا يقبل الثوبان لجريان الاستصحاب حتّى بقطع النظر عن المعارضة إذ الثوب رقم (1) مثلا حينما نلاحظه نجد الشكّ فيه وإن كان ثابتا ولكنّه في نفس الوقت نحتمل أنّه هو ذاك الثوب الذي علم إجمالا

ص: 106

بطروّ النجاسة عليه ، ومع وجود هذا الاحتمال فلا نحرز انّ رفع اليد عن الطهارة السابقة هو من باب نقض اليقين بالشكّ بل يحتمل أن يكون من باب نقض اليقين باليقين.

ويمكن أن نورد على هذا بإيرادين : -

أ - انّ ما ذكر مبني على تعلّق العلم الإجمالي بالواقع لا بالجامع وهو مرفوض.

وتوضيح ذلك : انّه لو قلنا بتعلّق العلم الإجمالي بالواقع كما ذهب إلى ذلك الشيخ العراقي - وقد مرّ ذلك ص 79 من هذه الحلقة - فما ذكر تام ، حيث انّ النجاسة المعلوم طروها بالإجمال إن كانت طارئة واقعا على الثوب رقم (1) فيلزم أن يكون العلم الإجمالي متعلقا بنجاسة الثوب المذكور ، ومعه فلا يكون رفع اليد عن اليقين السابق بالطهارة نقضا له بالشكّ بل باليقين بالنجاسة. ولكنا نرفض هذا المسلك ونقول ان العلم الإجمالي يتعلق بالجامع ، أي بعنوان أحد الثوبين ، فاذا كانت النجاسة واقعا طارئة على الثوب رقم (1) فلا يكون العلم الإجمالي متعلقا به حتى يلزم عدم صدق نقض اليقين بالشكّ بل هو متعلق بنجاسة أحد الإنائين ، فاليقين بالطهارة متعلق بالإناء رقم (1) بينما اليقين الاجمالي بالنجاسة لم يتعلق به بل بأحد الإنائين.

ب - إنا لو سلمنا تعلق العلم الإجمالي بالواقع فمع ذلك لا يتم ما ذكر ، اذ حينما يقال بتعلق العلم الإجمالي بالواقع فليس المقصود إنّه يتعلق بالواقع بلا أن يشوبه شكّ ، كلا إنّ هذا غير مقصود وإلاّ يلزم عدم الفرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيلي.

ص: 107

واذا كان العلم المتعلق بالواقع يعيش الى جانبه الشكّ فالاستصحاب في كل واحد من الثوبين يكون قابلا للجريان لو لا المعارضة ، اذ كل طرف مادام يحتوي على الشكّ فلو لم يؤخذ باليقين السابق صدق نقض اليقين في المورد الذي يكون بقاء المتيقن فيه مشكوكا.

إن قلت : ان كل طرف اذا كان يحتوي على العلم والشكّ معا فاللازم عدم جريان الاستصحاب لأنا حينما نرفع اليد عن اليقين السابق بالطهارة فلا نرفعها بسبب الشكّ بل بسبب اليقين بالنجاسة فإنّ العاقل لا يقدم على نقض يقينه السابق بالشكّ ما دام يوجد الى جانبه - الشكّ - اليقين بل يرفع اليد عن اليقين السابق باليقين اللاحق.

قلت : إنّ هذا الكلام صحيح لو حملنا الباء في قوله علیه السلام « بالشكّ » على السببية ، أمّا لو حملناها على الباء بمعنى المورد والمحل فلا يتم ، حيث يصير المعنى لا تنقض اليقين في المورد الذي يوجد فيه شكّ ، وحيث إنّ في كل واحد من الثوبين شكا فيشملهما حديث لا تنقض ويكون الاستصحاب فيهما قابلا للجريان لو لا المعارضة.

وقد تقول : ما هو الدليل على أنّ الباء موردية وليست سببية.

والجواب : انّ الباء لو كانت سببية فلازم ذلك أن يكون المنهي عنه حصة خاصة من النقض ، وهي نقض اليقين بسبب الشكّ ، وأمّا نقض اليقين بسبب آخر كالاستخارة أو القرعة فلا (1) ، وهذا ممّا لا يمكن الإلتزام به فإنّ اليقين السابق

ص: 108


1- يمكن أن يقال ان النقض بالاستخارة أو القرعة نقض بسبب الشكّ أيضا لأنّ الاستخارة والقرعة لا يفيدان إلاّ الشكّ.

لا يجوز رفع اليد عنه حتى بالاستخارة والقرعة ما دام لم يحصل يقين طارىء معارض له.

قوله ص 247 س 6 : ولكن سيظهر إلخ : وذلك بعد سطرين بقوله : وتتفرع على ركنية الشكّ إلخ.

قوله ص 247 س 6 : آثار إضافية : ذكر منها قدس سره أثرين أشار الى الأوّل تحت عنوان القضية الاولى والى الثاني تحت عنوان القضية الثانية.

قوله ص 247 س 7 : فانتظر : الاولى حذف كلمة « فانتظر » لأنها تدل على المدى البعيد والحال انّه سيذكر ذلك في السطر الآتي بقوله : وتتفرع على ركنية إلخ.

قوله ص 247 س 8 : وتتفرع على ركنيه إلخ : هذا إشارة الى الثمرة العملية بين البيانين. والقضيتان هما نفس ما عبرنا عنه سابقا بالموردين.

قوله ص 247 س 11 : جامع الإنسان : أي كلي الإنسان.

قوله ص 248 س 1 : كما تقدم في الحلقة السابقة : ويأتي في هذه الحلقة ص 295.

قوله ص 248 س 3 : بما هي أفراد : أي لا بما هي إنسان مثلا وإلاّ كان ذلك من استصحاب كلي الإنسان.

قوله ص 248 س 8 : لأننا حينما نلحظ الأفراد إلخ : في التعبير المذكور تأمل والمناسب : لأننا حينما نلحظ الفرد المردد بما هو مرآة للأفراد بعناوينها التفصيلية.

قوله ص 248 س 9 : على كل تقدير : بل على تقدير دون آخر.

قوله ص 248 س 10 : وإذا لا حظناها بعنوان إجمالي : التعبير المناسب هكذا :

وإذا لا حظناه - عنوان الفرد المردد - لا بما هو مرآة بل نقصر النظر على الفرد أو

ص: 109

الإنسان الذي دخل المسجد واقعا.

قوله ص 248 س 11 : فالشكّ في البقاء ثابت : أي ولكن الركن الرابع - وهو ترتب الأثر العملي - غير متوفر.

وكان من المناسب ذكر هذه التكلمة هنا بدل ذكرها بعد أربعه أسطر ليستغنى عن ذكر الأسطر الستة الآتية.

قوله ص 248 س 12 : فإن اريد باستصحاب الفرد المردد إلخ : هذه العبارة الى نهاية الصفحة تكرار واضح وكان بالإمكان الإستغناء عنها بالطريقة التي أشرنا إليها في التعليق السابق.

قوله ص 249 س 1 : ومن هنا نعرف إلخ : هذا شروع في بيان الثمرة بين البيانين.

قوله ص 249 س 4 : مع احتمال قطعنا بخروجه : أوضح من هذا التعبير أن يقال : مع احتمال بقائه على أحد التقديرين.

قوله ص 249 س 11 : وطهر : أي واحتمل أنّه طهر. ولا يلزم فرض القطع بالتطهير بل لعل ذلك مخل ، اذ مع فرض القطع بالتطهير يكون عدم صدق عنوان الشكّ في البقاء مجزوما به لا محتملا كما فرض ذلك قدس سره بعد أسطر.

قوله ص 249 س 12 : أساسا : أي حدوثا.

قوله ص 250 س 2 : وما قبله : كان من المناسب الإشارة بعد هذه العبارة الى الثمرة بين البيانين كما صنع ذلك في القضية الاولى.

قوله ص 250 س 8 : لا من أجل التعارض : هذا بيان لقوله « في نفسه ».

ص: 110

الشبهات الحكمية في ضوء الركن الثاني

قوله ص 252 س 6 : وقد يقال إنّ الركن الثاني إلخ : عرفنا سابقا إنّ الركن الثاني للاستصحاب هو الشكّ في البقاء أو ما يقرب من ذلك من صياغات اخرى.

وهنا نقول انّ هذا الركن بجميع صيغه قد يسبب الإشكال في إمكان جريان الاستصحاب في باب الشبهات الحكمية.

ومثال ذلك : المرآة الحائض فان الدم ما دام لم ينقطع عنها أيام العادة يحرم على زوجها الإتصال الجنسي بها فإذا انقطع ولم تغتسل بعد فهل يجوز لزوجها الإتصال بها أو لا؟ إنّ هذه شبهة حكمية حيث انّ المشكوك هو الحكم الشرعي الكلي.

والمعروف صحة جريان الاستصحاب في الشبهة المذكورة (1) فيقال إنّ الحرمة كانت ثابتة سابقا عند نزول الدم فإذا شكّ في إنقطاعها عند انتهاء الدم جرى استصحابها. والإشكال يقول ان لازم الركن الثاني السابق عدم جريان

ص: 111


1- وخالف في ذلك الشيخ النراقي قدس سره والسيد الخوئي ( دام ظلّه ) حيث ذهبا الى عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية كما يأتي ذلك فيما بعد انشاء اللّه تعالى. ثم إنّه يمكن التمثيل أيضا للشبهة الحكمية بمثال الماء المتغير فإنّ ماء الكر اذا تغير بالنجاسة فلا إشكال في تنجسه ، وأمّا إذا زال تغيره من قبل نفسه بدون إلقاء كر عليه ففي ثبوت الطهارة له وزوال النجاسة عنه كلام وإشكال. وقد قيل ببقائه على النجاسة تمسكا باستصحاب نجاسته السابقة. وهذا استصحاب في شبهة حكمية.

الإستصحاب المذكور حيث انّه - الركن الثاني - يعتبر الشك في البقاء ، وفي الشبهات الحكمية لا يوجد شكّ في البقاء إذ المجال لثبوت الحكم الشرعي ليس هو إلاّ عالم الجعل والتشريع ، فحرمة الاتّصال الجنسي لا وجود لها إلاّ في عالم الجعل والتشريع ، وإذا رجعنا الى هذا العالم نجد انّ الأحكام الثابتة فيه ثابتة في آن واحد بلا تقدم لبعضها وتأخر للآخر ، ففي ذلك العالم ثبت في آن واحد حرمة الإتصال إن كان الدم ينزل والحرمة لو إنقطع الدم قبل الإغتسال والجواز بعد حصول الإغتسال ، إنّ هذا الأحكام شرعها اللّه سبحانه في آن واحد لا انّه شرع الحرمة الاولى وبقي تشريع الحرمة الثانية ينتظر انقطاع الدم وتشريع الجواز منتظرا حصول الاغتسال.

واذا كان تشريع هذه الأحكام الثلاثة قد حصل في وقت واحد فلا يمكن صدق الشكّ في بقاء الحرمة ، إنّ الحرمة الاولى لم تشرع أوّلا ليكون الشكّ في ثبوت الحرمة بعد إنقطاع الدم شكا في بقاء تلك الحرمة. وعليه فالشكّ في الحرمة الاولى ليس شكا في البقاء بل هو شكّ في أصل الحدوث فلا يجري الاستصحاب فيها ، فإنّ جريان الاستصحاب يحتاج الى يقين سابق وشكّ في البقاء ، وكلا هذين غير ثابت. أمّا الأوّل فلأنّ الحرمة المتيقنة هي الحرمة الاولى دون الحرمة الثانية. وأمّا الثاني فلان الحرمة الثانية لا يوجد شكّ في بقائها بل يشكّ في أصل حدوثها.

والجواب عن هذه الشبهة : إنّ موطن ثبوت الحكم لا ينحصر في عالم الجعل ليقال بعدم تحقق الشكّ في البقاء في هذا العالم بل له موطن ثان وهو عالم المجعول والفعلية ، أي عالم الخارج ، فإنّه في الخارج تتصف المرأة الحائض بالحرمة أيضا

ص: 112

فيشار الى المرأة خارجا ويقال هذه يحرم الإتصال الجنسي بها. ومثل هذه الحرمة الثابتة في عالم الخارج لها حدوث واستمرار وتقبل ذلك - لا كالحرمة في عالم الجعل - فيقال إنّ هذه المرأة كانت متصفة حين نزول الدم منها بالحرمة فإذا شكّ الآن في بقاء الحرمة لها جرى استصحابها.

وإن شئت قلت : إنّ الإشكال السابق يبتني على حصر موطن ثبوت الحرمة في عالم الجعل ، وهذا مطلب غير صحيح - فإنّ الحرمة لو انحصر موطنها في عالم الجعل لزم عدم ثبوت الحرمة للمرأة في عالم الخارج وكان من الجائز الإتصال الجنسي بها حالة نزول الدم لأنّ الحرمة مختصة بعالم الجعل وليست ثابتة في غيره - فإنّ الحرمة تثبت للموضوع الخارجي وتقبل الإتصاف بالحدوث والبقاء ويجري الاستصحاب بلحاظ هذا العالم وإن لم يمكن جريانه بلحاظ عالم الجعل.

قوله ص 252 س 6 : ان الركن الثاني : مهما كانت صيغته.

قوله ص 252 س 8 : بعد زوال التغير : أي من قبل نفسه.

قوله ص 252 س 10 : فكل المجعول : ليس المقصود من المجعول هنا الحكم الفعلي بل الحكم الذي جعله اللّه سبحانه وشرّعه.

قوله ص 253 س 1 : فإن حصص المجعول فيه : أي الحكم الذي جعل في عالم الجعل.

قوله ص 253 س 2 : عالم المجعول : المراد من عالم المجعول هنا عالم الحكم الفعلي.

ص: 113

ص: 114

الركن الثالث أو وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة

اشارة

قوله ص 253 س 7 : وهذا هو الركن الثالث : والركن الثالث من أركان الاستصحاب على ما تقدمت الإشارة له هو اتّحاد المشكوك مع المتيقن.

والوجه في ركنيته : انّه بدونه لا يصدق الركن الثاني ، فبدون إتّحاد المشكوك والمتيقن لا يصدق الشكّ في البقاء ، فاذا كنّا على يقين من عدالة زيد صباحا وحصل الشكّ في عدالة خالد مساء لم يكن الشكّ المذكور شكا في بقاء العدالة السابقة بل شكّ في عدالة اخرى.

ومن خلال هذا يتضح انّ هذا الركن الثالث ليس ركنا مستقلا في مقابل الركن الثاني بل هو أمر متفرع عليه ولا يستحق الذكر مستقلا تحت عنوان الركن الثالث.

ثم إنّ هذا الركن له صياغتان : صياغة للشيخ الآخوند - وهي اتحاد المشكوك والمتيقن ، وبكلمة اخرى وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة (1) - وصياغة للشيخ الأنصاري ، وهي إحراز بقاء الموضوع.

وقد واجه هذا الركن بصيغته الثانية إشكالا في الشبهات الموضوعية وبكلتا صيغتيه إشكالا في الشبهات الحكمية.

ص: 115


1- وهذه الصياغة هي التي ذكرها السيد الشهيد في العنوان حيث كتب في العنوان « وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة ».
الإشكال في الشبهات الموضوعية

ذكر الشيخ الأعظم قدس سره في كتابه الرسائل الصياغة التالية للركن الثالث : يشترط في الاستصحاب إحراز بقاء الموضوع اذ بدون إحراز بقائه لا يكون الشكّ شكا في البقاء. وعلى هذا فلو كان عندنا خشب متنجس وتبدل بالاحتراق الى الرماد وشكّ في بقاء نجاسته لم يجر استصحابها لأنّ موضوع النجاسة وهو الخشب إن لم ينعدم جزما عند صيرورته رمادا فلا أقل من احتمال ذلك.

والركن الثالث بهذه الصياغة يلزم منه عدم جريان الاستصحاب في بعض الموارد نذكر منها اثنين : -

أ - اذا كان عندنا شيء موجود ثم شكّ في بقائه على الوجود فلا إشكال في صحة جريان استصحاب وجوده ، مع أنّ لازم الركن الثالث عدم جريانه لأنّ المستصحب هو الوجود ، وموضوعه هو الماهية ، ولازم الشكّ في بقاء الوجود الشكّ في بقاء الماهية لأنّ الماهية لا تتحقق إلاّ بالوجود فعند الشكّ في بقائه يشك في بقاء الماهية فيلزم عدم إحراز بقاء الموضوع فلا يجري الاستصحاب.

ب - إذا كان زيد عادلا في الزمان السابق ثم شكّ في بقاء عدالته فتارة يحرز بقائه على قيد الحياة ويشكّ في بقاء عدالته ، وفي هذه الحالة لا إشكال في صحة جريان استصحاب العدالة لأنّ الموضوع وهو حياة زيد محرز التحقق ، واخرى يفرض الشكّ في بقائه على قيد الحياة فيلزم عدم جريان استصحاب العدالة لعدم إحراز تحقق موضوعها وهو الحياة (1).

ص: 116


1- أجل يمكن استصحاب الحياة أوّلا ليحرز بذلك الموضوع ثم يجرى استصحاب العدالة بعد ذلك. وقد صرح بذلك الشيخ الأعظم نفسه في الرسائل ص ٤٠٠ س ١٣ طبع رحمة اللّه.

والإشكال في الموردين المذكورين نشأ من صياغة الركن الثالث المقترحة من قبل الشيخ الأعظم حيث عبّر بأنّه يلزم في جريان الاستصحاب احراز بقاء الموضوع ، وفي هذين الموردين حيث لا يحرز بقاء الموضوع فيرد الإشكال. وحيث انّه لا وجه صحيح لهذه الصياغة - اذ الأخبار عبّرت بلا تنقض اليقين بالشكّ ، وهذا لا يستفاد منه الصياغة المذكورة بل أقصى ما يستفاد منه أنّ المشكوك لا بدّ من اتحاده مع المتيقن بقرينه ذكر الشكّ بعد اليقين ، والتعبير بالنقض اذ بدون ذلك لا يصدق النقض - عدل الشيخ الآخوند الى صياغة اخرى للركن الثالث ، وهي أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب اتحاد المشكوك مع المتيقن.

وبناء على هذه الصياغة لا مانع من جريان الاستصحاب في الموردين السابقين ، ففي المورد الأوّل حيث انّ متعلق الشكّ هو وجود الماهية ومتعلق اليقين هو وجود الماهية أيضا فاستصحاب الوجود يجري وإن كان موضوعه وهو الماهية غير محرز البقاء. وهكذا في المورد الثاني لا مانع من جريان الاستصحاب إذ متعلّق الشكّ هو عدالة زيد ومتعلق اليقين هو عدالة زيد أيضا فيجري استصحاب بقائها وإن كان موضوعها وهو حياة زيد ليس محرزا.

والخلاصة إنّ ما ذكره الشيخ الأعظم من افتراض أنّ المستصحب عرض كالعدالة مثلا - حيث إنها هي المستصحب في المورد الثاني وهي عرض - وافتراض موضوع لها ، وهو حياة زيد ، وافتراض لزوم إحراز بقاء الموضوع لا مبرر له.

ص: 117

قوله ص 253 س 14 : وواجه في كلا المجالين إلخ : ولكن الإشكال في الشبهة الموضوعية لم ينشأ من صياغة الركن الثالث بالشكل المذكور في العنوان ، أي « وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة » وإنّما نشأ من الصياغة الاخرى المقترحة من قبل الشيخ الأعظم ، فكان من المناسب الإشارة الى أنّه واجه الإشكال في الشبهات الموضوعية على صياغة الشيخ الأعظم وواجهه بكلتا صيغتيه في الشبهات الحكمية.

قوله ص 254 س 12 : من الصفات الثانوية : كالعدالة فإنّها صفة ثانية متأخرة عن الوجود.

الإشكال في الشبهات الحكمية

قوله ص 255 س 9 : وعند تطبيق هذا الركن إلخ : ذكرنا انّه بناء على الركن الثالث بكلتا صيغتيه يرد الإشكال على الاستصحاب في الشبهات الحكمية. ولنذكر أولا مثالا للاستصحاب في الشبهات الحكمية ثم نوضح كيفية ورود الإشكال عليه.

مثال ذلك : الماء المتغير بالنجاسة ، فإنّه نجس بلا إشكال ولكن اذا زال تغيره من قبل نفسه يحصل الشكّ في بقاء نجاسته. والمعروف التمسك لإثبات بقاء نجاسته بالاستصحاب فيقال انه كان نجسا حالة التغير فاذا شكّ في زوالها استصحب.

وهذا الاستصحاب يمكن الإشكال عليه بناء على صياغة الشيخ الآخوند للركن الثالث - وهي اشتراط اتحاد المشكوك والمتيقن - بأنّ الشكّ في بقاء الحكم

ص: 118

السابق لا يمكن حصوله الاّ إذا إفترض زوال بعض الخصوصيات السابقة الثابتة حالة اليقين اذ مع بقاء الخصوصيات بكاملها لا يتصور الشكّ كي يجري الإستصحاب ، فخصوصية الماء وخصوصية التغير إذا كانتا باقيتين ولم تنعدم إحداهما كان بقاء النجاسة قطعيا ولا يمكن جريان الاستصحاب. ومع افتراض زوال بعض الخصوصيات - كما لو افترض زوال خصوصية التغير - فلا يكون المشكوك متحدا مع المتيقن اذ المتيقن هو نجاسة الماء المتغير بينما المشكوك هو نجاسة الماء غير المتغير.

أجل هناك صورة واحدة يمكن فيها افتراض بقاء الخصوصيات بكامل حذافيرها ورغم ذلك يحصل الشكّ في بقاء الحكم ، وهذا كما في حالة احتمال النسخ ، فإنّ خصوصية الماء وخصوصية التغير قد تكونان باقيتين ومع ذلك يحتمل ارتفاع النجاسة من جهة احتمال نسخ الحكم بالنجاسة ورفعه عن الماء المتغير في التشريع الإسلامي فيجري استصحاب بقاءه بلا اختلال للركن الثالث.

ولكن هذا لا يمكن افتراضه الاّ في زمان النبي صلی اللّه علیه و آله حكم ، إذ في زمانه يمكن احتمال النسخ ، وأمّا في زماننا الذي نعيش فيه وهو ما بعد زمان النبيّ صلی اللّه علیه و آله فحيث لا يحتمل فيه النسخ فلا يمكن تصور الشكّ في بقاء الحكم الاّ مع انتفاء بعض الخصوصيات (1).

ص: 119


1- الخصوصية الزائلة على نحوين فتارة تكون مدخليتها في ثبوت الحكم سابقا متيقنة - كما في مثال الماء المتغير ، فإنّ خصوصية التغير لها مدخلية في ثبوت النجاسة ولولاها لم تثبت النجاسة سابقا - ويشكّ في مدخليتها بقاء ، واخرى تكون مدخليتها في ثبوت الحكم سابقا محتملة كما هو الحال في خصوصية الحضور زمن المعصوم علیه السلام ، فإنّ المكلّف إذا كان يعيش زمن المعصوم فيتيقن بثبوت وجوب صلاة الجمعة عليه وإذا عاش زمن الغيبة شك في بقاء ذاك الوجوب عليه لاحتماله مدخلية خصوصية الحضور في ثبوت الوجوب سابقا.

هذا على صياغة الشيخ الآخوند للركن الثالث.

وأمّا على صياغة الشيخ الأنصاري - وهي أنّه لا بدّ من إحراز بقاء الموضوع - فوجه الإشكال انّ الموضوع ليس الاّ عبارة عن خصوصية الماء وخصوصية التغير ، اذ الموضوع ليس الاّ عبارة عن مجموع الخصوصيات التي يفترضها المولى عند تشريعه للحكم ، فالمولى عند جعله للحكم بالنجاسة يفترض الماء والتغير ويقول لو كان هناك ماء وكان متغيرا بالنجاسة فهو نجس. واذا فرضنا تركب الموضوع من خصوصية الماء وخصوصية التغير وافترضنا انتفاء خصوصية التغير - ليحصل الشكّ في البقاء - فلازم ذلك عدم إحراز بقاء الموضوع لاحتمال مدخلية خصوصية التغير في موضوع الحكم بالنجاسة.

هذا هو حصيلة الإشكال على كلتا الصياغتين للركن الثالث.

وقبل الجواب عنه نذكر مقدمة حاصلها : إنّ كل عرض من الأعراض يحتاج الى موضوع والى سبب. وهو - العرض - يتعدد بتعدد موضوعه ولا يتعدد بتعدد سببه. فمثلا الحرارة عرض من الأعراض ، وتحتاج الى موضوع كالماء أو الخشب ، وأمّا مع افتراض وحدة الموضوع فالحرارة واحدة وإن تعدد سببها ، فالماء الواحد إذا حدثت له الحرارة سابقا بسبب النار ثم بقت بسبب الشمس لم يكن ذلك سببا لتعددها بل هي واحدة وإن كانت ذات سببين.

وباتضاح هذه المقدمة نأخذ بعرض الجواب. وحاصله : إنّ النجاسة مثلا عرض تحتاج الى موضوع وهو الماء أو البول ، وتحتاج الى سبب كالتغير مثلا.

ص: 120

والشكّ في بقاء الحكم السابق وإن كان يحتاج الى افتراض زوال بعض الخصوصيات وإلاّ لم يحصل الشكّ غير أنّ الخصوصية إذا كانت من قبيل السبب - ويعبر عن السبب بالحيثية التعليلية - فزوالها لا يوجب تغير الحكم بل هو واحد ، غاية الأمر حصل التغير في سببه. وأمّا إذا كانت الخصوصية الزائلة خصوصية راجعة الى الموضوع - كما إذا تحول البول الى بخار فإنّ البولية خصوصية معتبرة في الموضوع فإذا زالت لم يمكن استصحاب الحكم بالنجاسة ، لأنّ الخصوصية الراجعة الى الموضوع - وتسمى بالحيثية التقييدية - إذا تبدلت أوجب ذلك تغير الحكم بالنجاسة وكانت النجاسة السابقة المتيقنة غير النجاسة المشكوكة فلا يجري الاستصحاب.

وخلاصة الجواب : إنّ افتراض زوال بعض الخصوصيات وإن كان أمرا لازما الاّ أنّ الخصوصية الزائلة متى ما كانت حيثية تعليلية لم يضر ذلك في وحدة الحكم ويصدق أنّ المتيقن عين المشكوك كما ويصدق أنّ الموضوع محرز البقاء ، ومتى كانت حيثية تقييدية لم يجر الاستصحاب.

وبعد ان عرفنا هذا نطرح السؤال التالي : متى نعرف انّ الخصوصية هي من قبيل الحيثية التعليلية للحكم كيما لا يضر زوالها بجريان الاستصحاب أو من قبيل الحيثية التقييدية ليمتنع جريان الاستصحاب؟

والجواب : قد يقال إنّ الميزان في ذلك ملاحظة لسان الدليل ، فإن كان يعبر : الماء نجس إنّ تغير فحيثية التغير حيثية تعليلية ، وإن كان يعبر : الماء المتغير نجس فحيثية التغير حيثية تقييدية ، فإن أخذ الحيثية في الحكم حق للشارع ، كما وإن اخذها بنحو التعليل أو بنحو التقييد حق له أيضا ، وما دام ذاك حقا له فلا بدّ

ص: 121

من مراجعة لسان الدليل للاطلاع على كيفية أخذ الخصوصية.

وهذا الكلام يمكن مناقشته بإنّ أصل أخذ الحيثية في مقام الجعل ، وهكذا اخذها بهذا النحو دون ذاك وإن كان حقا للشارع - حيث انّ المولى في مقام الجعل يستحضر مفهوم الماء ومفهوم التغير ومفهوم النجاسة ، ومن حقه جعل التغير علة فيقول الماء نجس ان تغير ، كما وإنّ من حقه أخذه بنحو التقييد فيقول الماء المتغير نجس - الاّ أنّ الدليل ناظر الى عالم الجعل فهو يشخّص جعل المولى وانّه بهذا النحو أو بذاك ولكن تقدم ص 253 من الحلقة انّ الاستصحاب لا يجري بلحاظ عالم الجعل اذ بلحاظ هذا العالم لا يتصور اليقين السابق والشكّ اللاحق ، وإنّما يجري بلحاظ عالم الفعلية والخارج ، ومعه فاللازم لتشخيص حال الخصوصية وانّها حيثية تعليلية أو تقييدية من ملاحظة هذا العالم ، فإن كانت الخصوصية في هذا العالم علة جرى الاستصحاب ، كما هو الحال فى خصوصية التغير فإنها علة لثبوت النجاسة وليست جزء من الموضوع ، إذ من الواضح انّ النجاسة لا تنصب خارجا على التغير بل على ذات الماء ، فإنّه لا يقال التغير نجس بل يقال الماء نجس وما دامت خصوصية التغير علة خارجا فالاستصحاب يجري حتى وان فرض أخذها في لسان الدليل بنحو الحيثية التقييدية.

وإن كانت الخصوصية قيدا في الموضوع لم يجر الاستصحاب حتى وإن فرض أخذها في لسان الدليل بنحو الحيثية التعليلية ، كما هو الحال في خصوصية الإجتهاد ، فإنّ الحكم بجواز التقليد ينصب على الإجتهاد ، فالمجتهد يجوز تقليده فإذا زال الإجتهاد عن الشخص وشكّ في بقاء الحكم بجواز تقليده لم يجر استصحابه حتى ولو فرض أنّ لسان الدليل اخذ خصوصية الإجتهاد بنحو العلة ،

ص: 122

كما لو قال قلد العادل ان كان مجتهدا.

ثم بعد أن عرفنا انّ الميزان في تشخيص حال الحيثية لا يرجع فيه الى لسان الدليل بل المدار على لحاظ عالم الفعلية والخارج سوف نواجه السؤال التالي : هل المدار في تشخيص الموضوع بلحاظ عالم الخارج على النظر العرفي المسامحي أو المدار على النظر الدقي ، فإنّ النظرين قد يختلفان أحيانا.

مثال ذلك : إذا كان عندنا ماء بقدر كر وأخذنا منه كفا من الماء وشككنا بعد ذلك في بقائه على الكرية (1) فلو كان المدار في تحديد الموضوع على النظر الدقي فلا يجري استصحاب بقائه على الكرية إذ المتصف بالكرية سابقا مغاير للماء الموجود بالفعل ، فإنّ الماء السابق هو الماء الذي لم يؤخذ منه مقدار كف بينما الماء الموجود هو الماء الذي اخذ منه مقدار كف.

ص: 123


1- لا يخفى أنّ الشكّ في بقاء الماء على الكرية بعد أخذ مقدار كف منه مثلا تارة يكون بنحو الشبهة الموضوعية واخرى بنحو الشبهة الحكمية. مثال الأوّل : أن نعرف انّ مقدار الكر مثلا يساوي ٢٧ شبرا ويفرض انّ لدينا ماء معينا لا نعرف انّه بمقدار ٢٧ بلا زيادة أو هو بمقدار ٢٧ مع الزيادة ، فعلى التقدير الأوّل يكون أخذ مقدار كف منه موجبا لزوال الكرية عنه بخلافه على الثاني ، ففي هذه الحالة لا يكون الشكّ في بقاء الكرية ناشئا من عدم المعرفة بالحكم الشرعي في تحديد الكر بل هو ناشئ من الشكّ في الموضوع خارجا وانه يزيد على ٢٧ أو لا. ومثال الثاني : أن نعرف مقدار الماء خارجا وأنّه ٢ / ١ ٣* ٢ / ١ ٣* ٢ / ١ ٣ ، بيد أنّه نجهل تحديد الكر في التشريع الإسلامي وانّه = ٢ / ١ ٣* ٢ / ١ ٣* ٢ / ١ ٣ أو _ ٣* ٣* ٣. في مثل هذه الحالة إذا أخذنا مقدارا قليلا من الماء فسوف نشكّ في بقاء الكرية لاحتمال أنّ الشارع حدّد الكر بالتحديد الأوّل فتكون منعدمة ولاحتمال أنّه حددّه بالتحديد الثاني فتكون باقية. إنّ هذا شكّ في بقاء الكرية بنحو الشبهة الحكمية.

أمّا لو كان المدار على النظر العرفي فالاستصحاب يجري لأنّ العرف يرى أنّ ذاك الماء وهذا الماء شيء واحد ، غاية الأمر تغير بعض عوارضه ، كالإنسان حالة لبسه لثيابه وحالة نزعها فإنّه هو هو وليس هو غيره.

والخلاصة انّه بعد عدم كون المدار على ملاحظة لسان الدليل فهل المدار على النظر الدقي أو على النظر العرفي؟

والصحيح : إنّ المدار على ملاحظة النظر العرفي ، اذ دليل الاستصحاب وهو « لا تنقض اليقين بالشكّ » خطاب عرفي صدر من إنسان عرفي الى إنسان عرفي فالميزان ليس الاّ النظر العرفي.

قوله ص 255 س 14 : أي النسخ بمعناه الحقيقي : مرّ في الحلقة الثانية ص 300 انّ المعنى الحقيقي لنسخ الحكم هو أن يجعل الحكم في لسان دليله مستمرا في جميع الأزمنة ولا يحدد بفترة معينة ثم يأتي الدليل الناسخ ويرفعه ، ومثل هذا النسخ نسخ بالمعنى الحقيقي. ومثال ذلك التوجه الى بيت المقدس في الصلاة فإنّ دليله لم يحدد وجوب التوجه بفترة زمنية معينة فحينما نسخ كان ذلك نسخا بالمعنى الحقيقي. وأمّا إذا كان الحكم منذ البداية محددا بفترة زمنية معينة فبانتهاء تلك الفترة يرتفع الحكم. وهذا ليس نسخا بحسب الحقيقة وإنّما هو نسخ مجازا.

قوله ص 255 س 15 : وأمّا حيث لا نحتمل النسخ : كما هو الحال في زماننا زمان الغيبة ، فإنّ النسخ يختص بزمان النبي صلی اللّه علیه و آله .

قوله ص 255 س 17 : حينئذ : أي حين عدم احتمال النسخ.

قوله ص 255 س 17 : المأخوذة فيها : أي في القضية المتيّقنة.

قوله ص 255 س 18 : وذلك بأحد نحوين : الإشارة إلى هذين النحوين

ص: 124

ليست مهمة.

قوله ص 256 س 11 : ينشأ من الشكّ في انحفاظ تمام الخصوصيّة إلخ : فإنّ خصوصية التغير التي فرض زوالها وإن كنّا نجزم بأخذها مفروضة الوجود في مقام الجعل ولكنّا نحتمل أنّ أخذها كذلك هو بلحاظ مرحلة الحدوث فقط دون مرحلة البقاء ، ولإجل هذا الإحتمال يكون زوالها سببا للشكّ في بقاء الحكم.

قوله ص 256 س 17 : والحيثيّات الفعلية : عطف تفسير على الأسباب.

قوله ص 257 س 3 : فإنّ لها معروض : الصواب : فإنّ لها معروضا.

قوله ص 257 س 7 : العلّة والشرط : المراد من العلّة والشرط هنا واحد.

قوله ص 257 س 13 : من الموضوع أو من القضيّة المتيقّنة : التعبير بالموضوع ناظر الى صياغة الشيخ الأعظم ، والتعبير بالقضيّة المتيقّنة ناظر الى صياغة الشيخ الآخوند.

قوله ص 258 س 16 : كما تقدم : أي ص 253.

قوله ص 259 س 6 : ودليلا : عطف تفسير ل- « جعلا ».

قوله ص 259 س 8 : المفروض واقعا : أي خارجا.

قوله ص 295 س 10 : في الشبهة الحكميّة : وأمّا الشكّ في بقاء الكرّيّة بنحو الشبهة الموضوعيّة فتأتي الإشارة له ص 260 س 1 من الحلقة.

قوله ص 259 س 10 : اعتصام الكر : المقصود من الاعتصام الكرّيّة ، فإنّ الكرّيّة ملازمة للاعتصام. وتفسير العبارة : إذا أردنا أن نستصحب كرية الكرّ بعد ...

والمقصود من الكرّ : الماء الخارجي الذي كان متّصفا سابقا بالكرّيّة.

قوله ص 260 س 4 : وصدقه كذلك : أي صدق النقض عرفا.

ص: 125

ص: 126

الركن الرابع أو الأثر العملي

اشارة

قوله ص 260 س 7 : والركن الرابع من أركان الإستصحاب إلخ : هذا هو الركن الرابع والأخير من أركان الإستصحاب. ولكن ما هو المقصود من هذا الركن؟ إنّ في المقصود منه ثلاثة احتمالات ، أو بتعبير آخر : يمكن بيانه بأحدى صيغ ثلاث.

وسوف نبدأ بالصيغة الثالثة ثمّ الثانية باختصار ثمّ بالصيغة الاولى بالتفصيل ، ونعود بعد ذلك من جديد إلى الصيغة الثانية والثالثة ، فإنّ هذه الطريقة أقرب إلى استيعاب مباحث الكتاب.

الصيغة الثالثة

يشترط في صحّة جريان الاستصحاب كون المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي.

مثال الأوّل : استصحاب بقاء وجوب صلاة الجمعة زمان الغيبة ، فإنّ المستصحب وهو وجوب الجمعة حكم شرعي.

مثال الثاني : استصحاب بقاء عدالة زيد ، فإنّ العدالة ليست حكما شرعيّا ، وإنّما هي موضوع لجواز الائتمام أو لقبول الشهادة أو ...

وهذه الصيغة هي الظاهرة من بعض تعابير صاحب الكفاية. وبناء عليها

ص: 127

يرد الإشكال في مثل استصحاب الطهارة ، فإنّ طهارة الثوب لا إشكال في إمكان جريان الإستصحاب فيها ، كيف لا والإمام الصادق علیه السلام في صحيحة زرارة الثانية أجرى الإستصحاب فيها ، والحال ليست هي حكما شرعيّا كما هو واضح وليست موضوعا لحكم شرعي بل هي متعلّق للحكم الشرعي.

والفاق بين المتعلّق والموضوع على ما اشير إليه سابقا هو أنّ كل ما يلزم إيجاده أو تركه يسمّى بالمتعلّق ، وكل ما يثبت الحكم على فرض وجوده يسمّى بالموضوع ، فالموضوع في باب الصلاة مثلا هو البالغ العاقل ودخول الوقت والقدرة ، فإنّ الحكم بوجوب صلاة الظهر يتوجّه لو فرض وجود بالغ عاقل قادر قد دخل عليه الوقت ، بينما طهارة الثوب وأخواتها من ركوع وسجود وتشهّد و ... هي متعلّق ، فإنّ طهارة الثوب يجب تحصيلها لا أنّ وجوب الصلاة يثبت لو فرض حصول طهارة الثوب إتّفاقا. وما دامت طهارة الثوب متعلّقا للتكليف وليست موضوعا فكيف يجري الإستصحاب فيها. إنّ هذا إشكال يتوجّه على الصيغة الثالثة.

الصيغة الثانية

إنّ شرط جريان الإستصحاب أن يكون المستصحب قابلا للتنجيز أو التعذير ، فكلّما كان الإستصحاب قابلا لتنجيز المستصحب أو للتعذير عنه جرى وإن لم يكن - المستصحب - حكما ولا موضوعا لحكم شرعي.

وعلى ضوء هذه الصيغة يمكن جريان الإستصحاب في الحكم الشرعي وفي موضوعه وفي متعلّقه ، بل وفي عدم الحكم الشرعي أيضا ، فإنّ جميع هذه

ص: 128

الأربعة ما دام قابلا للتنجّز أو للتعذير فالإستصحاب يجري فيها.

مثال الأوّل : استصحاب بقاء وجوب الجمعة ، فإنّ وجوب الجمعة حكم شرعي وباستصحابه يصير منجّزا ، أي يستحق المكلّف العقاب على عدم امتثاله لو كان ثابتا واقعا.

مثال الثاني : استصحاب عدالة زيد ، فإنّ العدالة موضوع للائتمام ، فلو استصحبها المكلّف وصلّى خلف زيد وكان فى الواقع فاسقا فهو معذور ولا يستحق العقوبة على الصلاة خلفه.

مثال الثالث : استصحاب طهارة الثوب ، فإنّ طهارة الثوب متعلّق ، فلو استصحبها المكلّف وصلّى في الثوب وكان في الواقع نجسا فهو معذور.

مثال الرابع : استصحاب عدم حرمة التدخين ، فإنّ عدم الحرمة ليست حكما ، بل هي عدم حكم شرعي ، فإذا شكّ المكلّف في حرمة التدخين عليه أمكنه استصحاب عدم الحرمة الثابت حالة الصغر ، فلو دخّن وكان التدخين في الواقع محرّما فهو معذور.

الصيغة الاولى

وهذه الصيغة أوسع الصيغ فهي لا تعتبر في المستصحب أن يكون حكما أو موضوعا - كما على الصيغة الثالثة - كما ولا تعتبر أن يكون قابلا للتنجيز والتعذير - كما على الصيغة الثانية - وإنّما تعتبر ترتب الأثر الشرعي ولو بعد جريان الاستصحاب ، فلو فرض أنّ الاستصحاب لم يكن استصحابا لحكم شرعي ولا لموضوع حكم ، وهكذا لم يكن قابلا للتنجيز والتعذير بل كان يترتّب عليه الأثر

ص: 129

الشرعي بعد جريانه كفى ذلك في صحّة جريانه.

ولكن كيف نتصوّر مثل هذه الحالة؟ أي كيف نتصوّر استصحابا لا ينجّز ولا يعذّر ولكنه ممّا يترتّب عليه الأثر الشرعي!!!

إنّ مثل هذا يمكن تصوّره فيما لو كان لدينا موضوع خارجي معيّن لا يترتّب عليه أي حكم شرعي ولكن كان القطع به ممّا يترتّب عليه حكم شرعي ، كما في نزول ماء المطر ، فإنّه لا يترتّب عليه حكم شرعي ، بيد أنّ الشارع لو قال أنّ قطعت بنزول المطر يوم السبت وجب عليك التصدّق (1).

في مثل هذه الحالة لو فرض أنّ المكلّف لم يحصل له قطع يوم السبت بنزول المطر - كما لو فرض أنّه كان في غرفة لا يستطيع النظر إلى الخارج ليقطع بنزول المطر - ولكنّه كان على يقين من نزول المطر يوم الجمعة فيستصحب نزول المطر الثابت يوم الجمعة.

وهل بعد جريان الاستصحاب المذكور يثبت وجوب التصدّق؟

إنّ الجواب عن هذا يرتبط بالتعرّف على المجعول في باب الاستصحاب ، فإنّ قلنا بأنّ المجعول في الاستصحاب هو الطريقيّة والعلميّة (2) - بمعنى أنّ من

ص: 130


1- القطع في هذا المثال يسمّى بالقطع الموضوعي لأنّه اخذ موضوعا لوجوب التصدّق فلم يترتّب وجوب التصدّق على ذات نزول المطر ليكون القطع طريقيا بل على القطع بنزوله.
2- كما هو الحال على رأي السيّد الخوئي الذي مرّت الإشارة له ص 17 من هذه الحلقة حيث كان يرى أنّ الاستصحاب أمارة من الأمارات كخبر الثقة باعتبار أنّ المجعول في كليهما هو الطريقيّة والعلميّة. أمّا كيف نستفيد من روايات لا تنقض اليقين بالشكّ أنّ المجعول في الاستصحاب هو العلميّة فهذا ما سيأتي توضيحه عند مناقشة الصيغة الثانية.

استصحب نزول المطر يصير عالما ومتيقّنا بنزول المطر ، غاية الأمر هو متيقّن تعبّدا واعتبارا لا حقيقة - فالتصدّق واجب بعد جريان الاستصحاب ، إذ بعد جريانه وصيرورة المكلّف عالما تعبّدا بنزول المطر يترتّب الحكم بوجوب التصدّق. إنّ مثل هذا الاستصحاب لا يترتّب عليه التنجيز والتعذير ولكنه ممّا يترتّب عليه حكم شرعي.

أمّا أنّه لا يترتّب عليه التنجيز والتعذير فلأنّ المستصحب ليس هو إلاّ نفس نزول المطر ، وبعد أن فرضنا أنّ نزول المطر لا يترتّب عليه حكم شرعي فلا معنى لتنجّزه بالاستصحاب أو للتعذير عنه.

وأمّا أنّه ممّا يترتّب عليه حكم شرعي فلأنّه بعد الاستصحاب يصير المكلّف عالما بنزول المطر - بناء على أنّ المجعول في باب الاستصحاب العلميّة - فيترتّب عليه حكم العالم بنزول المطر وهو وجوب التصدّق.

وبهذا البيان اتّضح ما يقال من أنّ الاستصحاب في بعض الموارد لا يقوم مقام القطع الطريقي - أي لا يكون منجّزا ولا معذّرا - ولكنّه يقوم مقام القطع الموضوعي. إنّ مثال هذا الاستصحاب قد يبدو غامضا لأوّل وهلة ، ولكنّه من خلال ما ذكرنا اتّضح مثاله وهو مثال وجوب التصدّق المترتّب على القطع بنزول المطر.

والخلاصة : إنّ الصيغة الاولى للركن الرابع هي أن يكون الاستصحاب ممّا يترتّب عليه أثر شرعي ولو بعد جريانه ، ولا يلزم فيه قابليّته للتنجيز والتعذير ولا أن يكون المستصحب حكما أو موضوعا لحكم شرعي.

وقد تسأل : لماذا يكفي ترتّب الأثر ولو بعد جريان الاستصحاب؟

ص: 131

والجواب : انّه بفرض ترتّب الأثر الشرعي ولو بعد جريان الاستصحاب لا يلزم محذور اللغويّة من التعبّد بالاستصحاب ، فإنّ التعبّد بجريانه بدون أن يترتّب عليه أثر أصلا تعبّد قبيح ولغو ، أمّا إذا كان يترتّب عليه الأثر ولو بعد جريانه فلا لغويّة.

عود إلى الصيغة الثانية

والصيغة الثانية للركن الرابع تعتبر أن يكون المستصحب قابلا للتنجيز أو للتعذير - بلا فرق بين أن يكون حكما أو عدم حكم أو موضوعا أو متعلّقا - ولا يكفي مجرّد ترتّب الأثر الشرعي بعد جريان الاستصحاب.

وهذه الصيغة كما هو واضح أضيق دائرة من الصيغة السابقة. ولكن ما هو المدرك لها الذي يعيّنها في مقابل الصيغة الاولى؟

إنّ المدرك لذلك هو نفس التعبير الوارد في روايات لا تنقض اليقين بالشكّ ، فإنّ المراد من النقض حيث لا يمكن أن يكون هو النقض الحقيقي - وعلى تقدير إرادة النقض الحقيقي يصير المعنى : يجب إبقاء اليقين في النفس ويحرم إزالة صفة اليقين وتبديلها إلى صفة الشكّ - لأنّه تكليف بغير المقدور إذ اليقين انتقض وتبدّل إلى الشكّ ولا يمكن للشاكّ بعد طرو الشكّ له الحفاظ على يقينه السابق وإبقائه في نفسه فيتعيّن أن يكون المراد النقض العملي ، أي يجب على الشاكّ أن يتعامل حالة شكّه معاملة المتيقّن في مقام العمل ، فإذا كان المتيقّن بطهارة ثوبه يدخل في الصلاة بلا توقّف وتردّد يلزم على الشاك في بقاء طهارة ثوبه الدخول في الصلاة أيضا.

ص: 132

وإذا كان المراد النقض العملي فهذا معناه افتراض أنّ اليقين سنخ يقين يقتضي جريا عمليّا معيّنا حتى يطبّق ذاك الجري العملي حالة الشكّ ، وواضح أنّ اليقين الذي يقتضي الجري العملي ليس هو إلاّ اليقين الطريقي دون الموضوعي ، فإنّ اليقين الطريقي حيث انّه متعلّق بالواقع وكاشف عنه فيمكن أن ينجزه أو يعذر عنه ، وهذا بخلافه في اليقين الموضوعي فإنّه لا يقتضي جريا عمليا حيث هو لا ينجز شيئا ولا يعذر ، فاليقين في مثال المطر - أي إن قطعت بنزول المطر وجب عليك التصدق - يقين موضوعي وهو ولا ينجز شيئا ولا يقتضي جريا عمليا اذ لو حصل القطع بنزول المطر فالتصدق وان تنجز الاّ أنّ ذلك ليس بسبب حصول القطع بل بسبب الدليل الذي رتّب وجوب التصدق على نزول المطر.

وبهذا يثبت أنّ الصيغة الاولى لا يمكن الأخذ بها اذ بناء عليها يلزم حمل اليقين على اليقين الموضوعي فالشاكّ في نزول المطر يصير بعد جريان الاستصحاب متيقنا بنزول المطر وقاطعا قطعا موضوعيا بذلك فيترتب عليه وجوب التصدق ، وهذا ما لا تفي به روايات لا تنقض اليقين بالشكّ فإنّها ناظرة الى اليقين الطريقي دون اليقين الموضوعي إذ الذي يقتضي الجري العملي ليس هو الاّ اليقين الطريقي.

إذن نحن من ناحية نفينا الصيغة الاولى ومن ناحية اخرى اثبتنا الصيغة الثانية ولم نعين الصيغة الثالثة.

أمّا إنّه نفينا الصيغة الاولى فلأنّه عليها - الصيغة الاولى - يصير الشاك في نزول المطر بمثابة القاطع قطعا موضوعيا ، وهذا ما لا تفي به روايات لا تنقض اليقين بالشكّ ، لأنّ المراد منها النهي عن النقض العملي ولازمه افتراض أنّ اليقين

ص: 133

ممّا له اقتضاء الجري العملي لو لا الشكّ ، والجري العملي من خصائص اليقين الطريقي دون الموضوعي.

وأمّا أنّه اكتفينا بالصيغة الثانية ولم نعين الثالثة فلأنّ اليقين يقتضي الجري العملي كلما كان المتيقن صالحا للتنجيز والتعذير ولا يختص بما إذا كان المتيقن حكما أو موضوعا لحكم.

هذه حصيلة توضيح مدرك الصيغة الثانية.

ويرده : انّ تعين حمل النقض على النقض العملي لا يتم إلاّ إذا كان النهي في لا تنقض نهيا تكليفيا - فإنّ التكليف لا يمكن تعلقه بالنقض الحقيقي بعد خروجه عن اختيار النفس - ولكن من المحتمل أن يكون المقصود من النهي المذكور الإرشاد إلى عدم إمكان حصول نقض اليقين فالروايات تنهى عن النقض إرشادا الى عدم إمكان حصوله باعتبار انّ الشارع ينزل الشاكّ منزلة المتيقن ويعتبره متيقنا.

وإن شئت قلت : كما انّ نهي الحائض عن الصلاة بلسان دعي الصلاة أيام اقرائك يراد به الإرشاد الى عدم قدرة الحائض على الصلاة كذلك النهي في لا تنقض اليقين بالشكّ إرشاد الى أنّ الشارع يعتبر الشاكّ متيقنا فلا يمكن حصول نقض اليقين منه (1) ، غاية الأمر أن الحائض لا تقدر على الصلاة حقيقة بينما الشاكّ

ص: 134


1- وبهذا يتضح الوجه فيما أفاده السيد الخوئي ( دام ظله ) حينما قال إنّ المجعول في باب الاستصحاب هو العلمية والطريقية ، أي هو من الامارات ، إنّ الوجه في ذلك هو أنّه يفهم من روايات لا تنقض اليقين بالشكّ الإرشاد الى أنّ الشارع يعتبر الشاكّ متيقنا وذا علم بالحالة السابقة.

لا يمكن النقض منه اعتبارا ، أي لإجل أنّ الشارع اعتبره متيقنا.

وباختصار : انّه بعد احتمال كون المقصود من النهي هو الإرشاد إلى عدم امكان تحقق النقض لا يتعين تفسير النقض بالنقض العملي ، ومعه فلا يتم التوجيه السابق للصيغة الثانية.

ولكن نحن وإن أبطلنا المدرك لتوجيه الصيغة الثانية الاّ أنّه تبقى نتيجة الصيغة الثانية هي المتعينة في مقابل الصيغة الاولى ، اذ بعد وجود احتمالين في روايات لا تنقض : إحتمال النهي عن النقض العملي الذي يتناسب ونتيجة الصيغة الثانية ، واحتمال الارشاد إلى اعتبار الشارع الشاك متيقنا الذي يتناسب ونتيجة الصيغة الاولى يتعين الحمل على ما يتناسب ونتيجة الصيغة الثانية فإنّه بعد احتمال الروايات لكلتا الصيغتين وإجمالها من هذه الناحية يتعين الأخذ بالقدر المتيقن ، وهو نتيجة الصيغة الثانية لأنّها - نتيجة الصيغة الثانية - أخص من نتيجة الصيغة الاولى.

عود إلى الصيغة الثالثة

والصيغة الثالثة تعتبر في المستصحب أن يكون حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي. وبناء على هذه الصيغة يرد الإشكال على استصحاب طهارة الثوب الذي أجراه الإمام علیه السلام في صحيحة زرارة الثانية ، فإنّ طهارة الثوب متعلق وليست موضوعا.

وحاول البعض التخلص من هذا الإشكال بتحويل الطهارة من كونها متعلقا الى موضوع وذلك بالبيان التالي : إنّ الوجوب بعد تعلقه بطهارة الثوب

ص: 135

فالطهارة وإن صارت متعلقا لأنه يجب تحصيلها الاّ أنّ المكلف لو أتى بالطهارة وأوجدها سقط عنه الأمر ، فسقوط الأمر إذن معلق على الإتيان بالطهارة ويصير الإتيان بالطهارة موضوعا لزوال الأمر وسقوطه - اذ يصير المعنى : يسقط الأمر إن فرض حصول الطهارة - وبذلك يصح إجراء الاستصحاب في الطهارة.

ويرد على هذا التوجيه : -

أ - انّه لا يتم الاّ بعد تعميم الحكم لعدم الحكم - فإنّه في هذا التوجيه صار الإتيان بالطهارة موضوعا لعدم الوجوب ولسقوطه - مع أنّ ظاهر كلمة الحكم في الصيغة الثالثة القائلة بأنّه يشترط في المستصحب أن يكون حكما أو موضوعا لحكم هو الحكم بمعنى وجود الحكم لا بالمعنى الشامل لعدم الحكم.

ب - إنّا لا نسلم انّ الإتيان بالمتعلق موجب لسقوط الأمر ، فالإتيان بالصلاة مثلا لا يوجب سقوط وجوب الصلاة وإنّما يوجب سقوط فاعليته لا فعليته.

والوجه في ذلك : انّ الوجوب مثلا يرجع في روحه وجوهره الى حبّ الشيء ، والحبّ لا يزول عند الإتيان بالمحبوب ، فمن أحبّ الطعام واشتاق إليه لا يزول حبّه وشوقّه عند تحقق الطعام بل يبقى الطعام محبوبا حتى بعد تناوله غاية الأمر لا يكون الحبّ محركا الى تناول الطعام من جديد.

فالحب إذن بعد تناول الطعام يبقى فعليا إلاّ أنّه تسقط فاعليته وتاثيره (1).

وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في الحلقة الثانية عند البحث عن مسقطات

ص: 136


1- لا يقال إنّ الوجوب ليس هو مجرد الحبّ بل هو اعتبار خاص زائد على الحب. فإنّه يقال : هذا صحيح الاّ أنّ روح الحكم وجوهره هو الحب والشوق.

الحكم.

وبعد بطلان التوجيه المذكور يبقى الإشكال المورد على استصحاب طهارة الثوب مستحكما. ولا يمكن الجواب عنه الاّ برفض أصل الصيغة الثالثة من الأساس ، فإنّ الصيغة المذكورة هي السبب لورود الإشكال ، ولا داعي للإلتزام بها ، فإنّ المدرك لها لا يخلو من أحد أمرين كلاهما قابل للمناقشة : -

1 - إنّ المستصحب إذا لم يكن حكما ولا موضوعا لحكم فالتعبد ببقاء الحالة السابقة يكون لغوا ، فلإجل أن لا يلزم محذور اللغوية من الحكيم لا بدّ من فرض المستصحب حكما أو موضوعا لحكم.

ويرده : انّ كل مستصحب إذا كان قابلا للتنجيز والتعذير فالتعبد ببقائه لا يكون لغوا لأنّ فائدة التعبد ببقائه هي التنجيز أو التعذير ، ومن الواضح انّ قابلية المستصحب للتنجيز والتعذير لا تختص بالموارد التي يكون المستصحب فيها حكما أو موضوعا لحكم بل تعم الموارد الاخرى التي لا يكون المستصحب فيها حكما ولا موضوعا ، كما إذا كان المستصحب متعلقا لحكم شرعي كالمثال السابق لطهارة الثوب ، فإنّ الطهارة متعلق وليست حكما ولا موضوعا لحكم شرعي ومع ذلك يجري استصحابها ولا يكون لغوا لأنّه باستصحابها يصير المكلف معذورا لو لم تكن ثابتة واقعا.

2 - إنّ مفاد لا تنقض اليقين بالشكّ هو جعل حكم مماثل ففي حالة الشكّ في بقاء وجوب الجمعة يجري الاستصحاب ويكون مفاد رواية لا تنقض اليقين بالشكّ إني أجعل في حالة الشكّ الذي هو زمان الغيبة وجوبا مماثلا للوجوب السابق المتيقن. وما دام مفاد دليل الاستصحاب ذلك فمن اللازم أن يكون

ص: 137

المستصحب حكما أو موضوعا لحكم فإنّه إذا كان حكما أو موضوعا فجعل الحكم المماثل يكون معقولا ، أمّا إذا لم يكن كذلك فلا يمكن جعل الحكم المماثل وبالتالي فلا يمكن جريان الاستصحاب (1).

ويرده : انّا لا نفهم من حديث « لا تنقض اليقين بالشكّ » جعل الحكم المماثل لينحصر جريان الإستصحاب بما إذا كان المستصحب حكما أو موضوعا لحكم. ودعوى فهم ذلك عهدته على مدعيه ، وإنّما المفهوم من حديث لا تنقض أحد احتمالات ثلاثة : -

أ - تنزيل الشاكّ منزلة المتيقن ، أي جعل الشاكّ في بقاء الحالة السابقة بمنزلة العالم ببقائها.

والمجعول في الاستصحاب بناء على هذا هو الطريقية والعلمية ويصير - الاستصحاب - من الامارات كما أفاد السيد الخوئي ( دام ظله ).

ب - الإرشاد الى تنزيل المشكوك منزلة المتيقن ، فالطهارة زمان الشك منزلة الطهارة المتيقنة السابقة.

وبناء على هذا لا يصير الاستصحاب من الامارات حيث لم يجعل الشاكّ متيقنا ولكنّه يصير من الاصول التنزيلية.

ص: 138


1- مثال المستصحب الذي يكون حكما : استصحاب بقاء وجوب الجمعة ، فإنّ الاستصحاب يجعل وجوبا مماثلا زمن الغيبة. ومثال المستصحب الذي يكون موضوعا لحكم : استصحاب بقاء عدالة زيد ، فإنّه بالاستصحاب يجعل المولى حكما مماثلا للحكم السابق الثابت للعدالة ، فإنّ العدالة وإن لم تكن حكما حتى يجعل الحكم المماثل له بيد أنّ لها حكما وهو جواز الائتمام ، ودليل الاستصحاب يجعل في زمان الشكّ حكما بجواز الائتمام مماثلا للحكم بالائتمام الثابت سابقا للعدالة.

ج - أن يكون مفاده النهي المولوي ، وحيث إنّه لا يعقل توجه النهي المولوي إلى النقض الحقيقي فلا بدّ وأن يكون المقصود النهي عن النقض العملي.

وسواء كان مفاد حديث لا تنقض هو الإحتمال الأوّل أو الثاني أو الثالث فعلى تقدير جميعها لا ملزم لكون المستصحب حكما أو موضوعا لحكم بل يكفي أن يكون قابلا للتنجيز والتعذير - كما كانت تقرره الصيغة الثانية - فإنّه إذا كان قابلا لذلك فيمكن للشارع أن يعبدنا ببقاء اليقين أو ببقاء المتيقن أو بعدم النقض العملي.

وعليه فالصحيح هو ما تقرره الصيغة الثانية ، أي أن يكون المستصحب قابلا للتنجيز ولا يلزم أن يكون حكما أو موضوعا لحكم.

قوله ص 260 س 6 : يمكن بيانه : أي بيان المراد وليس المقصود بيان الإستدلال عليه.

قوله ص 260 س 10 : وقرينه الحكمة : ليس المراد من قرينه الحكمة مقدمات الحكمة بل صون كلام الحكيم عن اللغوية.

قوله ص 260 س 13 : سوى ما ذكرناه : وهو ترتب الأثر العملي الشرعي ولو بعد الاستصحاب حتى لا تلزم اللغوية.

قوله ص 261 س 2 : به : أي بالمستصحب. والاولى حذفه.

قوله ص 261 س 8 : في بعض الموارد : والمراد به هو المورد المتقدم المشار له بقوله : كما إذا أخذ القطع بموضوع خارجي لا حكم له إلخ.

قوله ص 261 س 14 : كالاستصحابات الجارية إلخ : هذا راجع للأخير ، أي لقوله أو دخيلا في متعلق الحكم.

ص: 139

وقوله لتنقيح : أي لإثبات.

قوله ص 261 س 14 : شرط الواجب : كطهارة الثوب التي هي شرط في الصلاة.

قوله ص 261 س 14 : اثباتا ونفيا : استصحاب بقاء الطهارة الذي أشرنا له سابقا هو مثال للإثبات ، أي مثال لتحقق شرط الواجب. وأمّا مثال النفي فهو كاستصحاب عدم طهارة الثوب فيما إذا كانت الحالة السابقة هي عدم الطهارة.

قوله ص 262 س 4 : وهذا يفترض : أي الإقتضاء العملي لليقين.

قوله ص 262 س 16 : غير أنّه يكفي : هذا رجوع إلى إثبات لزوم الأخذ بنتيجة الصيغة الثانية بعد مناقشة مدركها.

قوله ص 263 س 7 : قيدا : أي شرطا.

قوله ص 264 س 3 : وهذا لا يختص إلخ : أي إنتهاء التعبد الى التنجيز والتعذير.

قوله ص 264 س 3 : بما ذكر : أي بما إذا كان المستصحب حكما أو موضوعا لحكم.

قوله ص 264 س 4 : فإنّ التعبد بوقوع الامتثال : كما هو الحال في استصحاب بقاء الطهارة في الثوب فإنّه يعبدنا بحصول امتثال الأمر بطهارة الثوب.

قوله ص 264 س 4 : ينتهي الى ذلك أيضا : أي الى التنجيز والتعذير ، فإنّه باستصحاب طهارة الثوب يثبت العذر للمكلّف لو كان الثوب في الواقع نجسا.

قوله ص 264 س 7 : ظاهرا : مرتبط بجعل ، أي يجعل ظاهرا الحكم المماثل.

ص: 140

قوله ص 264 س 10 : بعنوانه : أي بعنوان جعل الحكم المماثل. والمقصود : أنّ الحكم المماثل لئن ثبت أحيانا حالة الشكّ فذاك من باب تنزيل المشكوك منزلة المتيقن وليس من باب جعل الحكم المماثل بعنوانه.

قوله ص 264 س 14 : وعلى كل حال : أي سواء كان مفاد حديث لا تنقض هو الإرشاد الى بقاء اليقين أو المتيقن أو النهي عن النقض العملي.

قوله ص 264 س 16 : على أحد هذه الانحاء : أي امّا التعبد ببقاء اليقين أو التعبد ببقاء المتيقن أو التعبد بعدم النقض العملي.

ص: 141

ص: 142

الأصل المثبت

اشارة

ص: 143

ص: 144

مقدار ما يثبت بالاستصحاب

قوله ص 265 س 1 : لا شكّ في أنّ المستصحب : هذا هو المبحث المعروف بمبحث الأصل المثبت. وكان من المناسب الإشارة لذلك في العنوان.

وقبل توضيح مطالب الكتاب نشير الى مقدمات أربع : -

1 - في توضيح مصطلح مفاد كان التامة ومفاد كان الناقصة.

ومفاد كان التامة يعني ثبوت وجود الشيء بينما مفاد كان الناقصة يعني ثبوت شيء لشيء ، فثبوت الوجود لزيد هو مفاد كان التامة بينما ثبوت العلم لزيد هو مفاد كان الناقصة.

2 - إنّ التنزيل على قسمين : -

أ - تنزيل واقعي. ومثاله الطواف بالبيت صلاة. وإنّما كان التنزيل المذكور واقعيا لانّه لم ينط بالشكّ.

ب - تنزيل ظاهري. ومثاله لا تنقض اليقين بالشكّ بناء على افادته لتنزيل المشكوك منزلة المتيقن ، وإنّما كان التنزيل المذكور ظاهريا لأنّه منوط بحالة الشكّ.

وفي كلا التنزيلين تسري أحكام المنزل عليه الى المنزل. ولكن هل تسري جميع الأحكام الى المنزل أو بعضها؟ إنّ التنزيل إذا كان مطلقا ولم يقيد ببعض الآثار فجميع الآثار تسري الى المنزل وإلاّ فبحدود التقييد.

ص: 145

3 - إنّ في مفاد دليل الاستصحاب - أي لا تنقض اليقين بالشكّ - ثلاثة احتمالات كما تقدّم هي : -

أ - تنزيل الشاكّ منزلة المتيقن. والمجعول في باب الاستصحاب على اساس هذا الإحتمال هو العلمية ويصير من الامارات كما اختار ذلك السيد الخوئي.

ب - تنزيل الشيء المشكوك منزلة المتيقن. وبناء على هذا يصير الاستصحاب من الاصول التنزيلية.

ج - النهي عن النقض العملي.

4 - إنّ اليقين إذا تعلق بشيء صار منجزا لذلك الشيء. والنكتة في تنجيزه له أنّ اليقين طريق وكاشف عن الواقع فمتى ما تعلق بشيء تنجز ذلك الشيء بسبب انكشافه.

ولكن هل يتنجز خصوص ذلك الشيء الذي تعلق به اليقين أو ما هو أوسع منه؟ الصحيح هو الأوّل لأنّ سبب التنجيز هو الإنكشاف ، وواضح ان المنكشف باليقين هو خصوص ذلك الشيء الذي تعلق به اليقين دون الزائد عليه فالزائد على المتيقن لا يتنجز لعدم انكشافه.

وبعد الفراغ من هذه المقدمات الأربع نعود الى مباحث الكتاب.

إنّ استصحاب حياة الولد لا إشكال في أنّه يترتب على جريانه ثبوت المستصحب أي ثبوت الحياة. ولكن ليس المقصود من ثبوتها هو ثبوتها حقيقة بل تعبدا وعلى مستوى العمل. وإنّما السؤال والبحث عن آثار الحياة هل تثبت أو لا؟ والآثار على قسمين : أحكام شرعية وأحكام غير شرعية.

1 - أمّا الأحكام الشرعية فهي على ثلاثة أشكال : -

ص: 146

أ - أن يكون المستصحب موضوعا وله حكم شرعي ، كاستصحاب العدالة فإنّها موضوع ولها حكم شرعي ، وهو جواز الائتمام مثلا.

ب - أن يكون المستصحب حكما شرعيا وقد وقع بنفسه موضوعا لحكم شرعي آخر ، كوجوب الوفاء بالدين فإنّه حكم شرعي وله حكم شرعي وهو عدم وجوب الحج ، فإنّ من كان يجب عليه الوفاء بالدين سابقا ويشكّ في الزمان اللاحق في ذلك يستصحب بقائه وبذلك يثبت عدم وجوب الحج عليه.

ج - أن يكون المستصحب حكما شرعيا وله حكم شرعي وللحكم الشرعي الثاني حكم شرعي ثالث ، كما لو كان لدينا ماء طاهر في زمان سابق وشككنا في بقاء طهارته في زمان لاحق فباستصحاب بقائه على الطهارة تثبت طهارته الآن فإذا غسلنا به طعاما متنجسا تثبت بذلك طهارته ، وبثبوت طهارته تثبت حلية أكله. فطهارة الماء إذن حكم شرعي ولها حكم شرعي ، وهو طهارة الطعام المغسول به ، ولطهارة الطعام حكم شرعي وهو حلية الأكل.

وأمّا الأحكام غير الشرعية فقد ذكر لها قدس سره ثلاثة أمثلة : -

أ - استصحاب حياة الولد فإنّ لها - حياة الولد - اثرا غير شرعي وهو نبات اللحية.

ب - إذا كان جدار على وشك الانهدام والى جانبه شخص جالس ، وبعد مضي فترة علمنا بانهدام الجدار وشككنا في بقاء ذلك الشخص إلى جانبه حين انهدامه حتى يلزم موته. في مثل هذه الحالة قد يقال بإنا نستصحب بقاء الشخص إلى جانب الجدار لحين الانهدام وبذلك يثبت موته. انّ المستصحب في هذا المثال هو بقاء الشخص إلى جانب الجدار ، وأثره وهو الموت أثر غير شرعي إذ لا توجد

ص: 147

آية أو رواية تقول من كان باقيا إلى جنب الجدار وقت انهدامه فهو ميت.

ج - إذا كان لدينا حوض فيه كر من ماء وأخذنا منه مقدارا قليلا من الماء ، وبعد الأخذ منه شككنا في بقائه على الكرية فلا إشكال في جريان استصحاب بقائه على الكرية. ولكن جريان الاستصحاب له شكلان لا بدّ من التمييز بينهما : -

أحدهما : أن نشير إلى الحوض - لا إلى الماء الموجود فيه - ونقول كان فيه مقدار كر والآن كذلك. إنّ هذا الاستصحاب لا ينفع ، لأنّ أقصى ما يثبت به بقاء الكر في الحوض ولا يثبت به أنّ الماء الموجود فيه هو بمقدار كر. والمهم هو الثاني ، أي إثبات ان الماء الموجود فيه هو بمقدار كر لا إثبات أن الحوض يشتمل على الكر ، اذ اليد لو كانت متنجسة واريد تطهيرها فتطهيرها يترتب على وجود الكر في الحوض بل على كون الماء الذي يراد غسلها به بمقدار كر. ومن المعلوم انّ كون الحوض مشتملا على الكر شيء وكون الماء الموجود فيه بمقدار كر شيء آخر فإنّ ذاك - أي وجود الكر في الحوض - مفاد كان التامة بينما هذا - أي كون الماء يساوي كرا - مفاد كان الناقصة ، وأحدهما ليس عين الآخر. أجل بينهما ملازمة عقلية حيث إنّ الحوض إذا كان مشتملا على الكر فلازم ذلك عقلا كون الماء الموجود فيه بمقدار كر ، وليس بينهما ملازمة شرعية إذ لا توجد آية أو رواية تقول إذا كان الحوض مشتملا على الكر فالماء الموجود فيه لا بدّ وان يكون بمقدار كر. وما دامت الملازمة عقلية لا شرعية فالاستصحاب يكون من قبيل الأصل المثبت.

ثانيهما : أن نشير إلى الماء - لا إلى الحوض - ونقول هذا الماء كان بمقدار كر والآن كذلك. وهذا الاستصحاب لا محذور فيه لانّه من الأوّل استصحاب لمفاد

ص: 148

كان الناقصة وليس استصحابا لمفاد كان التامّة لإثبات مفاد كان الناقصة.

الآثار الشرعية

أمّا الآثار الشرعية فلا إشكال في ثبوتها بالاستصحاب. وهذا من دون فرق بين أن يكون مفاد دليل الاستصحاب الإرشاد إلى تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن أو الإرشاد إلى تنزيل الشاكّ منزلة المتيقّن أو النهي التكليفي عن النقض العملي ، فإنّه على جميع الإحتمالات الثلاثة تثبت الآثار الشرعية.

الكلام على الإحتمال الأوّل

أمّا على تقدير الإحتمال الأوّل - أي كون المراد تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن - فالأمر واضح لأنّه بعد تنزيل الطهارة المشكوكة منزلة الطهارة المتيقنة يتمسك بإطلاق التنزيل لتسرية جميع الآثار الشرعية الثابتة للمنزل عليه إلى المنزل ، فكما انّ في التنزيل الواقعي - مثل الطواف البيت صلاة - يتمسك بإطلاق التنزيل لتسرية آثار الصلاة إلى الطواف كذلك في التنزيل الظاهري - وهو كالتنزيل في المقام ، حيث انّ دليل الاستصحاب ينزّل في حالة الشكّ المشكوك منزلة المتيقن - يتمسك بإطلاق التنزيل لتسرية جميع آثار الطهارة المتيقنة إلى الطهارة المشكوكة.

فإن قيل : إن لا تنقض اليقين بالشكّ إذا كان يستفاد منه تنزيل المشكوك منزلة المتيقن بلحاظ جميع الآثار الشرعية بما في ذلك الآثار الشرعية غير المباشرة فذاك هو المطلوب ، وأمّا إذا لم يستفد ذلك منه وقلنا بأنّ القدر المتيقن منه

ص: 149

هو التنزيل بلحاظ الآثار الشرعية المباشرة فقط ، فيشكل الأمر حينئذ في ترتب الآثار غير المباشرة.

ووجه الإشكال : انّ حديث لا تنقض ما دام لا يستفاد منه التنزيل بلحاظ جميع الآثار بما في ذلك الآثار غير المباشرة فالآثار غير المباشرة لا يمكن القول بثبوتها إلاّ إذا ثبت موضوعها وهو الأثر المباشر ، وبما أن الأثر المباشر لم يثبت حقيقة - حيث انّ تنزيل المشكوك منزلة المتيقن لم يكن تنزيلا حقيقيا حتى يثبت أثره المباشر حقيقة وإنما كان تنزيلا ظاهريا فلا يكون الأثر المباشر ثابتا - فلا يمكن الحكم بثبوت ما ترتّب عليه وهو الأثر غير المباشر.

كان الجواب : إنّ حديث لا تنقض يستفاد منه تنزيلات متعدّدة بعدد الآثار ، وكل تنزيل يثبت به الأثر المباشر فقط ، فإذا أردنا مثلا استصحاب طهارة الماء الذي غسل به الطعام المتنجّس فالمستصحب هو طهارة الماء ، وحديث لا تنقض ينزّل طهارة الماء منزلة الطهارة المتيقّنة ، وهذا التنزيل تنزيل بلحاظ الأثر المباشر فقط - لأنّا فرضنا أنّ دليل التنزيل لا يستفاد منه إلاّ التنزيل بلحاظ الأثر المباشر باعتبار أنّ ذلك هو القدر المتيقّن - وبذلك يثبت الأثر المباشر ، أي طهارة الطعام ويكون - الطعام - منزّلا منزلة الطاهر الواقعي. وإذا صارت طهارة الطعام التي هي الأثر المباشر منزّلة منزلة الطاهر الواقعي نحصل على تنزيل جديد ولنسمّه بتنزيل رقم (2) (1). وهذا التنزيل رقم (2) لا بدّ وأن

ص: 150


1- قد تقول انّ دليل التنزيل أقصى ما يستفاد منه تنزيل المستصحب وهو طهارة الماء منزلة الطاهر الواقعي ولا يستفاد منه تنزيل الأثر المباشر وهو طهارة الطعام منزلة الطاهر الواقعي لنحصل على تنزيل جديد رقم (2) وبالتالي على تنزيلات جديدة متعدّدة. والجواب : إنّ الأثر المباشر وهو حلّيّة الطعام إذا لم ينزّل منزلة الحلال الواقعي فتنزيل طهارة الماء منزلة الطاهر الواقعي يكون لغوا.

يكون بلحاظ أثره المباشر أيضا ، وهو حلّيّة الأكل ، فتكون حلّيّة الأكل منزّلة منزلة الحلّيّة الواقعيّة ، وبذلك نحصل على تنزيل جديد ولنسمّه تنزيل رقم (3). وهذا التنزيل لا بدّ وأن يكون بلحاظ أثره المباشر أيضا وهكذا. وبهذا نحصل على تنزيلات متعدّدة كل واحد منها يكون بلحاظ الأثر المباشر.

الكلام على الإحتمال الثاني

وأمّا بناء على الاحتمال الثاني ، وهو تنزيل الشاك منزلة المتيقّن فقد يستشكل في تنجيز الآثار المباشرة فضلا عن غير المباشرة.

والوجه في ذلك : انّ استصحاب طهارة الماء حينما يجري يصير المكلّف بناء على الاحتمال الثاني بمنزلة المتيقّن بطهارة الماء ، ولكن هذا اليقين بما أنّه متعلّق بطهارة الماء فالمنكشف به هو طهارة الماء فقط دون آثارها - أي دون طهارة الطعام المتنجّس - لأنّ كل يقين لا يكشف إلاّ عن متعلّقه ولا يكشف عن آثار متعلّقه ، وما دام المنكشف هو المتعلّق فقط فالذي يتنجّز بسبب اليقين بطهارة الماء هو طهارة الماء فقط دون طهارة الطعام. وعلى هذا فآثار المتيقّن لا تتنجّز وإنّما الذي يتنجّز هو المتيقّن فقط.

إن قلت : إنّ استصحاب طهارة الماء إذا جرى وصار المكلّف بناء على الاحتمال الثاني متيقّنا بطهارة الماء فسوف يصير متيقّنا بطهارة الطعام أيضا لأنّ اليقين بشيء يستلزم حصول اليقين بآثاره. وإذا حصل اليقين بطهارة الطعام

ص: 151

فسوف تثبت طهارة الطعام بسبب هذا اليقين الثاني المتعلّق بها وإن لم تثبت باليقين الأوّل المتعلّق بطهارة الماء.

قلت : إنّ اليقين بشيء إنّما يستلزم اليقين بآثاره في خصوص اليقين التكويني الوجداني دون اليقين التعبّدي ، فاليقين الوجداني بوجود النار يولّد اليقين بالحرارة والإحراق ، وأمّا اليقين التعبّدي بالنار فهو لا يولّد اليقين التعبّدي بالإحراق والحرارة ، فإنّ التعبّد لا بدّ من الاقتصار فيه على حدوده ولا يحقّ تجاوزها ، فزيد إذا اعتبرناه أسدا من حيث الشجاعة فلا يحقّ له الإفتراس لأنّا وإن اعتبرناه أسدا ومن حقّ الأسد الإفتراس إلاّ أنّا لم نعتبره أسدا إلاّ في حدود الشجاعة ولم نعتبره أسدا بلحاظ الإفتراس فلا بدّ من الإقتصار على مقدار الإعتبار وهو حيثيّة الشجاعة لا أكثر.

وفي المقام الأمر كذلك أيضا فإنّ الشارع وإن عبّد المكلّف بعد استصحاب طهارة الماء بأنّه عالم بطهارة الماء الاّ أنّ هذا لا يستلزم العلم بطهارة الطعام إذ التعبّد لا بدّ من الإقتصار فيه على حدوده.

والخلاصة انه على الاحتمال الثاني قد يستشكل في تنجّز الآثار المباشرة فضلا عن غيرها.

والجواب : إنّ تنجّز الحكم لا يتوقّف على اليقين التعبّدي به ليقال انّ اليقين التعبّدي بطهارة الماء لا يستلزم اليقين التعبّدي بطهارة الطعام بل يكفي في التنجّز العلم بتشريع الحكم المنضم إلى العلم بتحقّق الموضوع. فمثلا حرمة شرب الخمر تتنجّز فيما لو علم المكلّف بتشريع الحرمة لشرب الخمر وعلم أنّ شرب السائل الذي يريد شربه هو شرب للخمر لا شرب لعصير البر تقال ، أمّا إذا علم بتشريع

ص: 152

حرمة شرب الخمر ولم يعلم بأنّ شربه للسائل المشكوك شرب للخمر أو علم بأنّ شربه شرب للخمر ولكن لم يعلم بتشريع حرمة الخمر فلا تتنجّز عليه حرمة شرب السائل. وفي المقام نقول ذلك أيضا ، أي نقول انّ ثبوت طهارة الطعام يتوقّف على العلم بتشريع الحكم - أي العلم بأنّ طهارة الماء توجب طهارة الطعام المغسول به - والعلم بالموضوع ، أي أنّ الطعام مغسول بالماء الطاهر. وكلا الأمرين متحقّق. أمّا العلم بتشريع الحكم فذاك ثابت بالسنّة الشريفة ، حيث ثبت بالروايات أنّ غسل الشيء المتنجّس بالماء الطاهر يوجب طهارته. وأمّا العلم بالموضوع فهو ثابت بالاستصحاب حيث انّ استصحاب طهارة الماء يولّد العلم التعبّدي بأنّ الماء طاهر وأنّ غسل الطعام به غسل بالماء الطاهر (1).

هذا كلّه على الاحتمال الثاني.

ص: 153


1- يمكن الجواب عن الاشكال بشكل آخر وهو أن يقال انّه في الاحتمال الثاني حينما ينزل الشاك في بقاء الطهارة منزلة المتيقّن بها فاليقين التعبّدي وإن كان يختص بخصوص متعلّقه وهو طهارة الماء ولا يتعدّى إلى طهارة الطعام ولكن نفس تنزيل الشك في بقاء الطهارة منزلة اليقين ببقائها لا بدّ وأن يكون بلحاظ الأثر الشرعي وهو طهارة الطعام إذ بدون ذلك يكون التنزيل لغوا وبلا فائدة. ولئن قال قائل بعدم لزوم اللغويّة عقلا باعتبار انّه يكفي في عدم لزوم اللغويّة ثبوت أثر ما ولو كان هو المنجّزيّة كما هو الحال في المقام ، فإنّه بعد العلم بتشريع الحكم يكون استصحاب طهارة الماء مفيدا لاثبات تنجّز طهارة الطعام. فجوابه انّه يمكن التمسّك بالفهم العرفي فيقال ان العرف يفهم من تنزيل شيء منزلة شيء آخر كون التنزيل بلحاظ التعبّد بالآثار.
الكلام على الاحتمال الثالث

وأمّا على الاحتمال الثالث - وهو كون المراد من النهي عن النقض النهي عن النقض العملي - فباستصحاب طهارة الماء يلزم ترتيب الأثر وهو طهارة الطعام ، إذ المكلّف حينما كان متيقّنا بطهارة الماء في الزمان السابق فيقينه المذكور منجّز للأثر وهو طهارة الطعام - لأنّا ذكرنا قبل قليل أنّ اليقين بالموضوع بعد العلم بالتشريع موجب لتنجّز الحكم - ، وما دام منجّزا فيكون مقتضيا للتعامل مع الطعام معاملة الطاهر ، ومعه فيلزم بقاء التعامل المذكور على حاله في زمان الشك أيضا إذ على الاحتمال الثالث يلزم التعامل حالة الشك بنفس التعامل السابق الثابت حالة اليقين ، وما دام اليقين السابق منجّزا ومقتضيا لطهارة الطعام فيلزم بقاء الاقتضاء المذكور حالة الشكّ أيضا.

عودة إلى الإحتمال الثاني

فإن قيل انّه على الاحتمال الثاني وإن لزم باستصحاب طهارة الماء حصول اليقين التعبّدي بذلك - أي بطهارة الماء - ، وبالتالي يلزم تنجّز الأثر وهو طهارة الطعام إلاّ انّه يرد الاشكال في حلّيّة الطعام التي هي الحكم الثاني للمستصحب (1) ، فإنّه كيف يترتّب الحكم المذكور والحال انّ موضوعه لم يحصل يقين تعبّدي به وإنّما تنجّز لا أكثر.

ص: 154


1- فإنّ المستصحب هو طهارة الماء وحكمه الأوّل هو طهارة الطعام وحكمه الثاني حلّيّة الأكل.

وبكلمة اخرى انّ تنجّز الحكم الأوّل - وهو طهارة الطعام - إنّما ثبت باعتبار انّه باستصحاب طهارة الماء حصل علم تعبّدي بطهارة الماء التي هي الموضوع للحكم الأوّل ، وأمّا بالنسبة إلى الحكم الثاني - وهو حلّيّة الأكل - فلا وجه لتنجّزه إذ لم يحصل يقين تعبّدي بموضوعه ، فإنّه باستصحاب طهارة الماء حصل يقين تعبّدي بطهارة الماء فقط ولم يحصل علم تعبّدي بطهارة الطعام - وإنّما تنجّزت طهارة الطعام لا أكثر - حتى يتنجّز الحكم بحلّيّة الأكل.

قلنا : إنّ المستفاد من دليل حلّيّة الأكل أنّ المدار في ثبوت حلّيّة الأكل إنّما هو على ثبوت الحكم بطهارة الطعام ، فمتى ما ثبت تشريع الحكم بطهارة الطعام عند غسله بالماء الطاهر ثبت بعد ذاك الحكم بالحلّيّة.

إذن ثبوت الحكم بالحلّيّة موقوف على ثبوت تشريع الحكم الأوّل وثبوت موضوعه ، وحيث انّ تشريع الحكم الاوّل ثابت بالسنّة الشريفة - لدلالة الروايات على أنّ غسل الطعام بل وأي شيء من الأشياء بالماء الطاهر موجب لطهارته - وموضوعه ثابت أيضا ببركة الاستصحاب - حيث انّ استصحاب طهارة الماء ينجّز طهارة الطعام على ما تقدّم (1) - فتثبت حينئذ حلّيّة الأكل.

وإن شئت قلت : إنّا نسلّم أنّ الحكم بحلّيّة الطعام لا يتنجّز إلاّ بعد اليقين بموضوعه ولكن ليس المراد من اليقين بموضوعه إلاّ ما ذكرناه ، أي ثبوت تشريع الحكم الأوّل وتنجز موضوعه ، وكلاهما ثابت كما أوضحنا.

ص: 155


1- في عبارة الكتاب ذكر ما مضمونه : إنّ طهارة الطعام محرزة. ولا بدّ وأن يكون المراد من الإحراز التنجز ، إذ باستصحاب طهارة الماء يحصل يقين تعبدي بطهارة الماء ولا يحصل يقين تعبدي بطهارة الطعام بل تتنجز طهارة الطعام لا أكثر.
الآثار غير الشرعية

وما تقدم كان كله حديثا عن الآثار الشرعية.

وأمّا الآثار غير الشرعية فالمعروف بين الاصوليين عدم ثبوتها بالاستصحاب ، فمثلا باستصحاب حياة الولد لا يثبت نبات اللحية كما ولا يثبت الأثر الشرعي المترتب على ذلك كوجوب التصدق.

والوجه في ذلك : انّه إن كان المقصود باستصحاب حياة الولد اثبات الأثر العقلي فقط أي اثبات نبات اللحية فقط بلا التفات الى الأثر الشرعي المترتب على ذلك فيرد عليه أنّ الأثر العقلي حيث لا يرتبط بالشارع فالتعبد ببقاء حياة الولد لترتيب الأثر المذكور لغو وبلا فائدة.

وإن كان المقصود اثبات اللازم العقلي وما يترتب عليه من أثر شرعي فهذا معقول ولا تلزم اللغوية منه ، إذ من الوجيه التعبد ببقاء الحياة لإثبات نبات اللحية ومن ثم إثبات وجوب التصدق بيد أنّ هذا لا يستفاد من دليل الاستصحاب ، فإنّ القدر المتيقن من حديث لا تنقض هو التعبد ببقاء المستصحب بلحاظ آثاره الشرعية المباشرة ولا يستفاد منه التعبد بالبقاء بلحاظ الآثار العقلية ولا الآثار الشرعية المترتبة على الآثار العقلية.

هذا هو الوجه - على سبيل الإختصار - في عدم حجّية الأصل المثبت ، أي عدم ثبوت الآثار العقلية ولا الشرعية المترتبة عليها.

وإن أحببنا شيئا من التفصيل فيمكن أن نقول : تقدّم إنّ الإحتمالات في المراد من حديث لا تنقض ثلاثة : الإرشاد الى تنزيل المشكوك منزلة المتيقن ،

ص: 156

والإرشاد الى تنزيل الشكّ في البقاء منزلة اليقين بالبقاء ، والنهي التكليفي عن النقض العملي.

فإن كان المقصود تنزيل الحياة المشكوكة منزلة الحياة المتيقنة فمن الواضح انّ القدر المتيقن من التنزيل المذكور والمنصرف إليه عرفا هو التنزيل بلحاظ الآثار الشرعية المباشرة دون الآثار العقلية ودون الآثار الشرعية المترتبة عليها.

وإن كان المقصود تنزيل الشكّ في الحياة منزلة اليقين ببقاء الحياة فمن الواضح انّ التنزيل المذكور أقصى ما يفيد هو اليقين التعبدي بالحياة التي هي المستصحب ولا يلزم منه اليقين التعبدي بنبات اللحية ، ومع عدم حصول اليقين التعبدي بنبات اللحية فلا يتنجز الأثر الشرعي المترتب على ذلك وهو وجوب التصدق ، فإنّ تنجز الأثر الشرعي فرع اليقين التعبدي بموضوعه فإذا لم يحصل يقين تعبدي بنبات اللحية فلا يتنجز وجوب التصدق المترتب عليه (1).

وإن كان المقصود النهي التكليفي عن النقض العملي فمن الواضح أنّ اليقين السابق بالحياة حيث انّه لا ينجز نبات اللحية - بإعتبار انها أثر عقلي والآثار العقلية لا تقبل التنجز - فلا يكون مقتضيا للعمل على وفق نبات اللحية ، ومع عدم اقتضائه له فلا يكون دليل الإستصحاب دالا على ثبوته وتنجزه إذ حديث لا

ص: 157


1- لا يقال انّ تنجز وجوب التصدق لا يتوقف على اليقين التعبدي بنبات اللحية بل يكفيه تنجز نبات اللحية بعد إحراز الجعل كما تقدم ذلك سابقا حيث ذكر سابقا انّ تنجز حلية الطعام لا يتوقف على اليقين التعبدي بطهاره الطعام بل يكفيه العلم بالجعل المنضم الى تنجز الموضوع. فإنّه يقال انّ ثبوت التنجز للأثر العقلي لا معنى له فإنّ التنجز يختص بالآثار الشرعية.

تنقض على الإحتمال الثالث يقول انّ كل ما يقتضيه اليقين السابق في مقام العمل فلا بدّ من ابقائه حالة الشكّ ، وحيث إنّ اليقين السابق لا يقتضي في مقام العمل نبات اللحية فلا يكون دالا على ثبوت الأثر المذكور وتنجزه ، وبالتالي لا يتنجز وجوب التصدق فإنّ تنجزه فرع ثبوت موضوعه - وهو نبات اللحية - وتنجزه ، والمفروض عدمه.

إتضح مما سبق

وبهذا كله اتضح الوجه في عدم حجّية الأصل المثبت ، أي عدم ثبوت اللوازم العقلية ولا اللوازم الشرعية المترتبة عليها. وفذلكة النكتة بإختصار : انّ التعبد بالاستصحاب بلحاظ الآثار العقلية فقط لغو ، والتعبد بلحاظ الآثار العقلية وما يترتب عليها من آثار شرعية وإن كان وجيها لكنه لا يستفاد من حديث لا تنقض فإنّ القدر المتيقن والمنصرف إليه عرفا هو التعبد بلحاظ الآثار الشرعية المباشرة لا أكثر.

استثناء مما تقدم

ويستثنى من عدم ثبوت اللوازم العقلية ما كان لازما عقليا لنفس الاستصحاب دون المستصحب ، فإنّ اللازم العقلي تارة يكون لازما عقليا للمستصحب ، كما هو الحال في نبات اللحية فإنّه لازم عقلي للمستصحب أي الحياة ، واخرى يكون لازما عقليا للاستصحاب ، كما هو الحال في استصحاب بقاء وجوب صلاة الجمعة ، فإنّ لازم الاستصحاب المذكور تنجز وجوب الجمعة

ص: 158

واستحقاق العقوبة على مخالفته ، وهو لازم عقلي يحكم به العقل وليس لازما شرعيا كما وانّه ليس لازما للمستصحب أي لوجوب الجمعة ، فإنّ وجوب صلاة الجمعة لا يتنجز بثبوته الواقعي وإنّما يتنجز بسبب استصحابه. ومثل هذا الأثر العقلي يثبت ولا يكون من الأصل المثبت الذي هو غير حجّة.

والوجه في ذلك : أنّ اللازم العقلي المذكور لازم لحديث لا تنقض - لأنّ حديث لا تنقض بعد ما كان دالا على حجّية الاستصحاب ، والمفروض أنّ الأثر المذكور لازم لنفس الاستصحاب فيكون ثبوت الأثر المذكور لازما عقليا لنفس الحديث - وبما أنّ حديث لا تنقض امارة ودليل محرز وليس أصلا عمليا فيثبت اللازم العقلي المذكور لأنّ الامارة حجّة في لوازمها العقلية.

بناء على امارية الاستصحاب

ثم إنّ ما ذكر من عدم كون الاستصحاب حجّة في إثبات لوازمه العقلية مبني على كون الاستصحاب أصلا عمليا. وأمّا بناء على كونه أمارة - كما هو مختار السيد الخوئي حيث يرى أنّ المجعول في باب الاستصحاب هو العلمية والطريقية - فتثبت لوازمه العقلية لما تقدم - في القسم الأوّل من هذه الحلقة ص 72 - من حجّية الأمارة في لوازمها العقلية (1) وفاقا للمشهور.

ص: 159


1- وقد تقول انّه بناء على ذلك يلزم أن يقول السيد الخوئي بحجّية الاستصحاب المثبت لانّه يعتقد بأمارية الاستصحاب. والجواب : أن السيد الخوئي لا يوافق المشهور في حجّية الأمارة في إثبات لوازمها العقلية كما تقدم ذلك في هذا القسم من الحلقة ص ٧٢.

قوله ص 265 س 1 : وعمليا : الأنسب التعبير : عملا.

قوله ص 265 س 2 : ولوازمه : عطف تفسير لآثار.

قوله ص 266 س 13 : وأناطته بالشكّ : عطف تفسير لظاهريته.

قوله ص 267 س 5 : كان : الاولى حذفها.

قوله ص 267 س 7 : وهكذا : أي تثبت تنزيلات متعددة بعدد الآثار.

قوله ص 267 س 12 : وإنّما يقع : الأولى حذف الجملة المذكورة الى قوله « وما دامت طريقية إلخ » ، لأنّ مضمون الجملة المذكورة ياتي بداية ص 268 بقوله فانّ قيل أليس إلخ.

قوله ص 268 س 9 : والحكم : عطف تفسير للأثر.

قوله ص 268 س 10 : وإن لم يسر إلى الحكم : أي وإن لم يسر اليقين التعبدي إلى الحكم.

قوله ص 268 س 10 : ومنه يعرف إلخ : أي من تنجز الحكم بسبب اليقين التعبدي بموضوعه.

قوله ص 268 س 12 : فيلزم : أي الجري على طبق حكمه.

قوله ص 268 س 14 : فان قيل إلخ : هذا يرتبط بالإحتمال الثاني ورجوع اليه.

قوله ص 269 س 4 : وصغرى : لا بدّ من تفسير إحراز الصغرى بتنجيزها وإلاّ فهي ليست محرزة بالاستصحاب وإنّما المحرز هو المستصحب فقط دون الحكم الأوّل.

قوله ص 269 س 4 : جعلا وموضوعا : المراد من الجعل هو الكبرى ومن

ص: 160

الموضوع هو الصغرى.

قوله ص 269 س 8 : بما هي : أي بقطع النظر عن الآثار الشرعية المترتبة عليها.

قوله ص 269 س 12 : كما تقدم في الحلقة السابقة : ص 418.

قوله ص 270 س 1 : وعلى هذا الأساس : أي على أساس البيان السابق.

قوله ص 270 س 8 : واستظهرنا إلخ : هذا عطف تفسير وتوجيه لامارية الاستصحاب.

قوله ص 270 س 11 : وأحكامها : أي الأحكام الشرعية للوازم العقلية. وهو عطف على اللوازم.

قوله ص 270 س 11 : على ما تقدم سابقا : في القسم الأوّل من هذه الحلقة ص 72.

ص: 161

ص: 162

تفصيل الشيخ الأعظم والنراقي

اشارة

ص: 163

ص: 164

عموم جريان الاستصحاب

اشارة

قوله ص 271 س 1 : بعد ثبوت كبرى إلخ : وبعد إتضاح أنّ الاستصحاب حجّة للروايات الأربع السابقة يمكن طرح السؤال التالي : هل الاستصحاب حجّة بلا تفصيل أو هو حجّة في بعض الموارد دون بعض؟ هناك عدة تفاصيل في حجّية الاستصحاب. وقد نقل الشيخ الأعظم في رسائله أحد عشر قولا في هذا المجال. ونحن لا ننقل سوى قولين لأنهما المعروفان على الساحة الاصولية المعاصرة.

القول الأوّل

وهو للشيخ الأعظم وتبعه على ذلك الشيخ النائيني قدّس اللّه سرّه الشريف. وحاصله التفصيل بين موارد الشكّ في المانع فيكون الاستصحاب حجّة وبين موارد الشكّ في المقتضي فلا يكون حجّة.

توضيح ذلك : انّ الشكّ في بقاء المستصحب له أحد منشأين : -

1 - أن يكون المستصحب ذا قابلية واستعداد كامل للبقاء بيد أنّه يشكّ في بقائه من ناحية احتمال طرو المانع ، كما هو الحال في طهارة الثوب ، فإنّ الثوب لو كان طاهرا فطهارته قابلة للبقاء إلى يوم القيامة وإنّما يشكّ في بقائها أحيانا من ناحية احتمال طرو الرافع لها وهو اصابة النجاسة. والشكّ في البقاء في مثل هذا المورد يسمى بالشكّ في الرافع.

ص: 165

2 - ان لا يكون المستصحب ذا استعداد للبقاء ، ومن أجل عدم ثبوت الاستعداد الكامل له يشكّ في بقائه كما هو الحال في الشمعة ذات اللّهب ، فإنّه قد يشكّ أحيانا في بقاء نورها لا من ناحية احتمال هبوب الريح الموجب لإخمادها وإنما من ناحية احتمال ذوبانها وانعدامها بالكامل.

والمثال الشرعي لذلك : خيار الغبن بعد اتضاح الغبن ، فإنّه بعد مضي فترة قصيرة على اتضاح الغبن يشكّ في بقاء الخيار وليس ذاك من جهة احتمال الرافع إذ المفروض أنّ المغبون لم يقل اسقطت الخيار بل من ناحية احتمال ان نفس خيار الغبن ليس له استعداد للبقاء أكثر من ذلك. والشكّ في البقاء في الحالة المذكورة يسمى بالشكّ في المقتضي.

وبعد اتضاح هذا التفصيل قد تسأل عن توجيهه وأنّه لماذا كان الاستصحاب حجّة في موارد الشكّ في الرافع دونه في موارد الشكّ في المقتضي؟

والجواب : يمكن بيان ذلك بأحد وجهين : -

1 - إنّ حديث لا تنقض الذي ورد في الروايات السابقة ورد في موارد خاصة مثل الوضوء وطهارة الثوب ولم يرد كقاعدة كلية في جميع الموارد ولا يستفاد ذلك من مدلوله اللفظي. أجل استفدنا شموله لجميع الموارد من ناحية التعليل وكلمة « لا ينبغي » ، فإنّ نفس التعليل بقضية « لا تنقض اليقين بالشكّ » والتعبير بكلمة لا ينبغي يدل على أنّ المطلب أمر ارتكازي إذ التعليل لا يكون عادة الاّ بأمر ارتكازي عرفي. وإذا رجعنا إلى ارتكاز العقلاء وجدنا انّ الثابت في اذهانهم حجّية الاستصحاب في خصوص موارد الشكّ في الرافع دون موارد الشكّ في المقتضي ، فالشيء الذي لا يحرزون استعداده الكامل للبقاء لا يحكمون

ص: 166

ببقائه وإنّما يحكمون ببقاء الشيء الذي له استعداد كامل للبقاء.

هذا حصيلة الوجه الأوّل. وهو وإن لم يذكره الشيخ الأعظم بل تبرع به السيد الشهيد ولكنه توجيه لطيف.

ويرده : انّ استفادة التعميم لا تنحصر بالتعليل وكلمة « لا ينبغي » بل يمكن استفادتهما من طريق آخر وهو اللام المذكور في كلمة الشكّ واليقين ، فإنّ الظاهر كونها لام الجنس ، أي لا تنقض جنس اليقين بجنس الشكّ. وبناء على هذا لا نحتاج في إثبات التعميم إلى مسألة الإرتكاز ليقال باختصاصه بموارد الشكّ في الرافع (1).

2 - ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سره في الرسائل ببيان يمكن أن ينحل إلى بيانين.

وقد اشير في الحلقة الثانية إلى كلا البيانين الذين تحتملهما عبارة الرسائل. ونحن نذكر هنا البيان الأوّل.

وحاصله : انّ كلمة النقض لا تستعمل في العرف الاّ في خصوص الإشياء التي لها استعداد كامل للبقاء ، فالجدار القوي الذي له استعداد البقاء يقال لمن هدمه : نقضه ، وأمّا الجدار الذي في طريقه إلى الإنهدام والوقوع على الأرض فلا يقال لمن هدمه : نقضه. وعليه فالروايات حيث إنّها عبرت بكلمة النقض فالمستفاد من ذلك إن الاستصحاب لا يجري إلاّ في خصوص الاشياء التي لها

ص: 167


1- قد يقال بأنّ سبب حمل اللام على الجنس - على ما تقدم ص 210 من الحلقة - هو الإرتكاز المذكور ، ومع غض النظر عنه حسب الفرض كيف يمكن حينئذ إستفادة الجنسية من اللام؟ والجواب إنّا لا نريد إنكار الإرتكاز من اساسه ولا غض النظر عنه بالكامل بل هو ثابت جزما في حدود موارد الشكّ في الرافع ، وهذا المقدار من الثبوت يكفي لأن لا تكون اللام عهدية ، ومع عدم كونها عهدية يتعين كونها جنسية.

اقتضاء واستعداد للبقاء دون ما ليس لها ذلك.

ويرده : إنّ اختصاص كلمة « النقض » بخصوص الأشياء ذات الاستعداد للبقاء وإن كان أمرا مسلما إلاّ إنّا نقول انّ كلمة النقض في الحديث لم تسند إلى المتيقن ليقال إنّ إسنادها إلى المتيقن قرينة على ضرورة كون المتيقن ذا استعداد للبقاء وإنما اسند إلى نفس اليقين ، ومن الواضح انّ اليقين أمر محكم وقوي يصح اسناد كلمة النقض إليه سواء كان متعلقه ذا استعداد للبقاء أم لا.

القول الثاني

وفي القول الثاني يفصل بين الشبهات الحكمية فلا يجري فيها الاستصحاب وبين الشبهات الموضوعية فيجري فيها الاستصحاب. وقد تبنى هذا التفصيل قديما الشيخ النراقي قدس سره وحديثا السيد الخوئي ( دام ظله ).

توضيح ذلك : انّه تقدم في الحلقة الاولى ص 154 - 156 أنّ للحكم التكليفي مرحلتين : مرحلة الجعل ومرحلة المجعول. والمراد من الجعل : التشريع والحكم الإنشائي. والمراد من المجعول : الحكم الفعلي. فالحكم لا بدّ وأن يشرع أوّلا ثم يصير فعليا. وتشريعه هو الجعل وفعليته هو المجعول.

والشكّ في بقاء الحكم تارة يكون شكا فى بقاء الحكم الإنشائي واخرى يكون شكا في بقاء الحكم الفعلي.

أمّا الشكّ في بقاء الحكم الإنشائي فذاك لا يتصور إلاّ في موارد احتمال النسخ فإنّ التشريع لا يتصور الشكّ في ارتفاعه إلاّ في موارد احتمال النسخ ، وذلك لا يكون إلاّ في زمان النبي صلی اللّه علیه و آله ، فإنّه في زمانه صلی اللّه علیه و آله يمكن وقوع النسخ

ص: 168

ويمكن أن يشكّ المكلّف في بقاء التشريع وارتفاعه من ناحية احتمال النسخ.

وفي مثل هذه الحالة يجري الاستصحاب ولم يخالف في ذلك السيد الخوئي بل سلّم جريان استصحاب التشريع وبقاء الجعل دون أي إشكال.

وأمّا إذا كان الشكّ في بقاء الحكم الفعلي فقد استشكل ( دام ظله ) في جريان الاستصحاب فيه.

ومثال ذلك : الماء المتغير بالنجاسة فإنّه لا إشكال في تنجسه ، ولكن إذا زال تغيره من قبل نفسه فسوف يشكّ في بقاء نجاسته. ولماذا هذا الشكّ ومن اين نشأ؟ فهل نشأ من ناحية احتمال نسخ التشريع؟ كلا ان هذا لا نحتمله إذ نجزم ببقاء التشريع وعدم زواله وإنما ينشأ من ناحية الشكّ في سعة الجعل وضيقه فنحن نجزم بثبوت تشريع النجاسة للماء حالة كونه متغيرا ونشك في جعل النجاسة وتشريعها حالة زوال التغير من قبل نفس الماء ، إنّ الشكّ في هذا الجعل الزائد هو السبب في الشكّ في بقاء النجاسة للماء بعد زوال تغيره ، ولو لا احتمال هذا الجعل الزائد المشكوك لما أمكن حصول الشكّ في بقاء الحكم الفعلي بالنجاسة.

اذن يمكننا ان نقول بشكل عام : إنّ الشكّ في بقاء المجعول - أي الحكم الفعلي - يلازم دائما الشكّ في الجعل الزائد. وما دام الأمر كذلك فاستصحاب بقاء المجعول يكون معارضا دائما بأصالة عدم الجعل الزائد ، فحينما نشكّ في بقاء النجاسة الفعلية بعد زوال التغير فاستصحابها وإن كان قابلا للجريان في نفسه ويثبت به بقاء النجاسة بعد زوال التغير إلاّ أنّ هذا الاستصحاب معارض بأصالة عدم الجعل الزائد ، فإنّ شكّنا في بقاء النجاسة حيث انّه ناشيء من الشك في

ص: 169

تشريع النجاسة للماء بعد زوال تغيره فيمكن جريان الأصل لنفي التشريع الزائد بأن نقول انه قبل التشريع الاسلامي نجزم بعدم تشريع النجاسة للماء لا حالة تغيره ولا بعد زوال تغيره ، وبعد التشريع الاسلامي نجزم بتشريع النجاسة للماء حالة تغيره ، وأمّا تشريعها بعد زوال التغير فهو مشكوك فيستصحب عدمه السابق الثابت قبل التشريع الاسلامي. إذن في موارد الشبهة الحكمية - كمثال نجاسة الماء المتغير - يكون استصحاب بقاء الحكم الفعلي قابلا للجريان في نفسه لو لا المعارضة إلاّ أنّه حيث يتعارض مع استصحاب عدم الجعل الزائد فلا يمكن جريانه ، فإنّ شمول حديث لا تنقض لكليهما معا غير ممكن ولأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح.

ثم انّه في الشبهات الموضوعية حيث لا توجد هذه المعارضة فيجري الاستصحاب فيها ، فمثلا إذا كنّا نجزم بالحكم وانّ النجاسة تبقى بعد زوال التغير أيضا بيد أنّه كان لدينا ماء خارجي معين متغير نشكّ في بقاء نجاسته من ناحية احتمال زوال تغيره ، فهذه الشبهة شبهة موضوعية والشكّ في بقاء النجاسة الفعلية فيها لم ينشأ من ناحية الشكّ في الجعل الزائد حتى يجرى استصحاب عدم الجعل الزائد ويكون معارضا لاستصحاب بقاء النجاسة الفعلية وانما الشكّ في بقاء النجاسة ناشىء من ناحية اخرى وهي احتمال بقاء التغير.

وباختصار : انّه في الشبهات الحكمية لا يجري استصحاب بقاء الحكم لمعارضته باصالة عدم الجعل الزائد ، وأمّا في الشبهات الموضوعية فحيث إنّ استصحاب بقاء الحكم الجزئي لا يكون معارضا بأصالة عدم الجعل الزائد فيجري.

ص: 170

الجواب عن التفصييل المذكور

وقبل أن نجيب عن التفصيل المذكور نشير إلى مشكلة اصولية أوّل من أثارها الشيخ العراقي نذكرها ونذكر حلها ثم نأخذ بعد ذلك في الجواب عن التفصيل المذكور.

إنّ المشكلة تقول انّا حتى لو قطعنا النظر عن أصالة عدم الجعل الزائد فاستصحاب بقاء الحكم في نفسه قابل للتأمل في بعض الصور.

توضيح ذلك : إنّ استصحاب بقاء الحكم له شكلان فتارة يفرض أنّ الحكم الكلّي صار فعليا ويشكّ في بقائه بعد كونه فعليا واخرى يفرض ان الحكم الكلي يشكّ في بقائه قبل صيرورته فعليا.

مثال الأوّل : أن يكون لدينا ماء معين في الخارج وهو متغير بالفعل ونرى تغيره الفعلي بالعين ، إنّ مثل الماء المذكور يتصف بالنجاسة الفعلية فإذا فرضنا زوال تغيره فسوف نشكّ في بقاء نجاسته الفعلية ، وفي مثل هذه الحالة يجري استصحاب بقاء النجاسة الفعلية دون أي إشكال ، إذ النجاسة الفعلية كانت ثابتة بنحو اليقين سابقا فإذا شكّ في بقائها بعد زوال التغير جرى استصحابها. ولكن من الذي يجري الاستصحاب؟ هل يجريه المكلّف العامي او المجتهد؟ الصحيح ان الذي يجريه هو المكلف العامي اذ الماء موجود امام المكلف العامي وهو الذي له يقين سابق وشكّ لا حق ، ولا معنى لأن يجريه المجتهد. أجل المجتهد يفتي العامي بأنّ الاستصحاب حجّة ويجري عند ما يكون لديه يقين سابق وشكّ لاحق ، وبعد هذا الإفتاء يقوم العامي نفسه بتطبيق الاستصحاب واجرائه لا أنّ

ص: 171

المجتهد يجريه ويفتي العامي بعد ذلك بنتيجته.

ومثال الثاني : إجراء استصحاب نجاسة الماء بدون فرض وجود ماء في الخارج بالفعل ، وهذا كما هو الحال في المجتهد ، فإنّه حينما يجري استصحاب النجاسة لا يكون أمامه ماء متغير ثم يزول تغيره بل هو يفترض وجود ماء متغير ويفترض زوال تغيره بعد ذلك ، فالشكّ على هذا شكّ في بقاء الحكم الكلي قبل أن يصير فعليا.

وفي مثل هذه الحالة أشكل الشيخ العراقي بأنّ المجتهد كيف يجري الاستصحاب والحال أنّه لا يوجد لديه متيقن سابق ومشكوك لاحق بل انّ المتيقن والمشكوك متعاصران في زمان واحد ، فالمجتهد في آن واحد يعلم بثبوت النجاسة للماء المتغير ويشكّ في نفس الوقت في ثبوتها له بعد زوال تغيره لا أنّه يتيقن أولا بثبوت النجاسة للماء المتغير وبعد مضي فترة يحصل له الشكّ في بقاء النجاسة. وما دام المتيقن والمشكوك متعاصرين في آن واحد فكيف يجري الاستصحاب والحال أنّ الاستصحاب يتوقف على الشكّ في البقاء ، وهو - الشكّ في البقاء - لا يتصور مع تعاصر المتيقن والمشكوك.

إذن المشكلة الاصولية التي أبرزها الشيخ العراقي تختص بالاستصحاب الذي يجريه المجتهد أي باستصحاب الحكم الكلي قبل صيرورته فعليا.

وقد تقول في جوابها : فلنمنع إجراء المجتهد للاستصحاب حتى لا نقع في المشكلة المذكورة.

وهذا باطل فإنّه لا إشكال في أنّ بناء الفقهاء وارتكازهم على منح الحق للمجتهد في إجراء مثل هذا الاستصحاب ويستفيدون من حديث لا تنقض

ص: 172

قابلية الاستصحاب المذكور للجريان.

ثم إن هذه المشكلة تقدمت الإشارة لها سابقا ص 252 من الحلقة وذكرنا في الجواب عنها أنّ النجاسة حينما تلحظ صفة عارضة على الماء الخارجي فبالإمكان الحصول على اليقين السابق بحدوثها والشكّ اللاحق في بقائها.

وهذا الجواب وإن ذكرناه سابقا ولكنه جواب مؤقت حيث يرجع في الحقيقة إلى إجراء الاستصحاب في الحكم الكلّي بعد فرض فعليته. وهو مما لا إشكال فيه ، وإنّما الإشكال في إجراء المجتهد لاستصحاب الحكم الكلي قبل صيرورته فعليا ، إنّ المشكلة كامنة في هذا الاستصحاب ولا بدّ من رفع هذه المشكلة عن المجتهد ، وما تقدم لا ينفعنا في حلّ هذه المشكلة وإنّما يرفع المشكلة عن الاستصحاب الأوّل الذي يجريه المكلّف العامّي.

الجواب عن مشكلة الشيخ العراقي

ويمكن حلّ المشكلة - أي في استصحاب المجتهد - بأنّ الصورة الذهنية للماء المتغير الموجودة في ذهن المجتهد يمكن لحاظها بأحد شكلين فيمكن لحاضها مرة بما هي صورة ذهنية ثابتة في عالم الذهن ، ويمكن لحاظها اخرى بما هي عين الخارج ، فإنّ الصورة الذهنية تلحظ أحيانا بما هي عين الخارج ويرى بها الخارج.

والمنبه الوجداني على ذلك أنّ الخطيب الحسيني مثلا حينما ينقل واقعة الطف نتألم ونأخذ بالبكاء ، كيف يفسر ذلك والحال أنّ نفس الواقعة لم نشاهدها بالعين ولم نعاصرها مباشرة والخطيب لم يقم سوى برسم بعض صور تلك

ص: 173

الواقعة في ذهننا.

من هنا نفهم أنّ الخطيب وإن لم يقم بعمل سوى رسم تلك الصور في الذهن إلاّ أنّ تلك الصور الذهنية يرى بها الخارج وكأن المستمع للخطيب يرى بسبب قراءة الخطيب الخارج.

وباتضاح هذا نقول انّ الصورة الذهنية للماء المتغير إن لو حظت بالشكل الاّول أي بما هي صورة ذهنية - واصطلح عليها قدس سره بالصورة الذهنية بالحمل الشايع - فلا يوجد يقين بحدوثها وشكّ في بقائها ، إذ الصورة الذهنية للماء حال تغيره والصورة الذهنية للماء بعد زوال تغيره موجودتان في الذهن في وقت واحد لا أنّ الاولى هي الحادثة أوّلا ويحصل اليقين بها ثم تحدث الثانية بعد ذلك ويحصل الشكّ بها.

أمّا إذا لو حظت الصورة الذهنية للماء المتغير بالشكل الثاني أي بما هي صفة للخارج وعين الخارج - واصطلح عليها قدس سره بالصورة الذهنية بالحمل الاولي - فيمكن فرض يقين سابق وشكّ لا حق ويجري الاستصحاب إذ بعد رؤية الخارج عن طريق الصورة الذهنية فبالإمكان حصول يقين سابق وشكّ لا حق. وحديث لا تنقض اليقين بالشكّ لا بدّ وان ينزل عرفا على النظر إلى الصورة الذهنية بالشكل الثاني فإنّ العرف يفهم منه ذلك ، ومعه فيجري الاستصحاب دون أي إشكال. وقد تسأل كيف نحمّل العرف هذا الفهم ومن أين عرفنا ذلك؟

والجواب : إنّ الإنسان العرفي لو قدّمنا له حديث لا تنقض اليقين بالشكّ ثم سألناه عن حكم الثوب المتيقن سابقا بطهارته والمشكوك لا حقا في بقائها مع فرض أنّ الثوب ليس موجودا بالفعل وإنّما هو مجرد افتراض لاجابنا دون أي

ص: 174

تلكأ بالحكم ببقاء طهارته.

إنّ الحكم بطهارة الثوب مع أنّه غير موجود في الخارج بالفعل دليل واضح على أنّ الإنسان العرفي يفهم من حديث لا تنقض اليقين بالشكّ النظر إلى الصورة الذهنية المفروضة في الذهن بما هي عين الخارج وإلاّ فاللازم أن لا يحكم بطهارة الثوب بل يقول احضروا لي ثوبا متيقن الطهارة ولتمض فترة ليحصل لي الشكّ في بقائها ثم بعد ذلك أحكم لكم بطهارة الثوب.

الجواب عن تفصيل السيد الخوئي

وبعد اتضاح الجواب عن المشكلة السابقة نعرّج على تفصيل السيد الخوئي - الذي كان حاصله أنّ الاستصحاب لا يجري في باب الاحكام لأنّ استصحاب بقاء الحكم الفعلي معارض بأصالة عدم الجعل الزائد - ونقول له انّه امّا أن يفهم من حديث لا تنقض النظر إلى الصورة الذهنية للماء المتغير بما هي صورة ذهنية أو يفهم منه النظر لها بما هي عين الخارج.

فانّ فهم منه النظر إلى الصورة بما هي صورة ذهنية فاستصحاب بقاء المجعول لا يمكن جريانه إذ بهذا اللحاظ لا يوجد يقين سابق وشكّ لا حق ليجرى الاستصحاب وإنّما يوجد بهذا اللحاظ صورتان في الذهن متقارنتان من حيث الوجود لا تقدم لإحداهما على الاخرى ويعلم بثبوت الجعل لواحدة - وهي الصورة الذهنية للماء المتغير حالة تغيره - ويشكّ في ثبوته للاخرى فينفى بأصالة عدم الجعل الزائد.

وإن فهم من حديث لا تنقض النظر إلى الصورة الذهنية بما هي عين

ص: 175

الخارج جرى استصحاب بقاء المجعول ، ولا يعارض ذلك بأصالة عدم الجعل الزائد ، إذ بهذا اللحاظ لا نظر إلى عام الجعل والذهن ليشكّ في الجعل الزائد وينفى بأصالة عدم الجعل الزائد المشكوك.

وبكلمة اخرى : إنّ الاستصحابين لا يمكن جريانهما في وقت واحد ليحصل بينهما المعارضة ، بل امّا أن يجري استصحاب بقاء المجعول فقط بلا معارضة بأصالة عدم الجعل الزائد أو يجري استصحاب عدم الجعل الزائد بلا معارضة باستصحاب بقاء المجعول.

إن قلت : لماذا لا نأخذ بكلا النظرين - أي النظر إلى الصورة الذهنية بما هي صورة ذهنية والنظر لها بما هي عين الخارج - ونحكم بأنّ كلا الاستصحابين قابل للجريان في نفسه لو لا المعارضة.

قلت : إنّ حديث لا تنقض لو كان يقبل الحمل على كلا النظرين فقابلية كل واحد من الاستصحابين للجريان في نفسه لو لا المعارضة مسلمة بيد أنّه يرفض قبول كلا النظرين ولا يحتمل إلاّ أحدهما ، ومعه فلا يكون كلا الاستصحابين قابلا للجريان في نفسه حتى بقطع النظر عن المعارضة.

أمّا لماذا لا يقبل حديث لا تنقض الحمل على كلا النظرين؟ النكتة واضحة فان النظرين بينهما تهافت إذ كل واحد منهما ينفي ما يثبته الآخر فالنظر إلى الصورة بما هي عين الخارج يقتضي الشكّ في بقاء المجعول وبالتالي يقتضي جريان الاستصحاب في المجعول وينفي الشكّ في بقاء عدم الجعل الزائد المشكوك بينما النظر إلى الصورة بما هي صورة ذهنية يقتضي الشكّ في بقاء عدم الجعل الزائد وبالتالي يقتضي جريان أصالة عدم الجعل الزائد وينفي الشكّ في بقاء المجعول.

ص: 176

وبعد عدم إمكان تحميل كلا النظرين على الحديث فلا بدّ وأن يكون محمولا على أحدهما ، ولكنه على أي واحد منهما يكون محمولا؟ إنّه محمول على النظر إلى الصورة بما هي عين الخارج لما تقدم من إنّ الإنسان العرفي يفهم من حديث لا تنقض هذا النظر ، ومعه فاستصحاب بقاء المجعول هو الأصل الجاري ولا يعارض ذلك بأصالة عدم الجعل الزائد.

قوله ص 271 س 10 : وكون الكبرى مسوقة إلخ : هذا أشبه بعطف التفسير للارتكاز العرفي.

قوله ص 272 س 3 : وهذا البيان كما ترى إلخ : هذا مناقشة للوجه المذكور.

قوله ص 272 س 4 : وظهور اللام إلخ : عطف على قوله استظهار الاطلاق إلخ.

قوله ص 272 س 17 : كما تقدم في محله : أي فى الحلقة الاولى ص 154 - 156.

قوله ص 273 س 1 : والشكّ فيه : أي في الحكم الشرعي. والمقصود : إنّ الشكّ في بقاء الحكم تارة يكون شكا في بقاء الحكم بمعنى بقاء الجعل ، واخرى يكون شكا فى بقاء الحكم بمعنى الشكّ في بقاء المجعول.

قوله ص 273 س 5 : هو النسخ بالمعنى الحقيقي : مصطلح النسخ بالمعنى الحقيقي مرّ في هذه الحلقة ص 255 س 14 وتقدم توضيحه.

قوله ص 273 س 7 : والحكم المنشأ به : عطف تفسير لقوله « مجعولة ».

قوله ص 273 س 14 : إذا كان ممكنا : وذلك في زمان النبي صلی اللّه علیه و آله .

ص: 177

ص: 178

الاستصحاب التعليقي

اشارة

ص: 179

ص: 180

استصحاب الحكم المعلق :

اشارة

قوله ص 279 س 1 : قد نحرز كون الحكم منوطا إلخ : بعد ان ثبتت حجّية الاستصحاب وقع الكلام بين الاصوليين في بعض المصاديق انها حجّة أو لا.

ومن تلك المصاديق استصحاب الحكم التعليقي ، فالمشهور قبل زمان الشيخ النائيني القول بحجّيته ومن بعد زمانه انعكست الشهرة إلى القول بعدم حجيته. ولا بدّ أوّلا من إيضاح المقصود من الاستصحاب التعليقي ثم بيان وجه الإشكال في حجّيته بعد ذلك.

إنّ الشيء الذي يراد استصحابه تارة يكون أمرا منجزا لا يشتمل على كلمة « إن » الشرطية ، واخرى يكون مشروطا ومشتملا على كلمة « إن » الشرطية.

مثال الأوّل : استصحاب وجوب صلاة الجمعة ، فإنّ الوجوب الذي يراد استصحابه أمر منجز لا يشتمل على كلمة « إن » الشرطية. ويسمى مثل هذا الاستصحاب بالاستصحاب التنجيزي.

ومثال الثاني : استصحاب حرمة العصير العنبي ، فان الروايات الشريفة دلت على أن العصير العنبي المغلي حرام فلو فرض أنّ لدينا عنبا سخناه بالنار حتى غلا فلا إشكال في حرمته ، أمّا إذا بقي في الهواء إلى أن جفت رطوبته وصار زبيبا ثم سخناه بالنار بعد ذلك فهل يحرم أو لا؟ في هذه الحالة ذهب بعض الفقهاء

ص: 181

إلى الحرمة أيضا تمسكا بالاستصحاب فيشار إلى الزبيب ويقال : هذا كان يحرم سابقا - أي عند ما كان عنبا - إن غلا والآن نشكّ في بقاء تلك الحرمة فنستصحبها.

إنّ المستصحب في هذا المثال - كما نلاحظ - ليس هو الحرمة المنجزة بل الحرمة المعلّقة على الغليان والمشروطة ب- « إن » الشرطية ، فالحرمة الثابتة للعنب إن غلا هي التي يراد استصحابها.

ثم إنّا لو تأملنا في المثال وجدنا وجود ثلاث خصوصيات : العنبية ، والغليان ، ورطوبة العنب.

أمّا الخصوصية الاولى والثانية فيجزم بدخالتهما في الحرمة فلو لا العنبية (1) ولو لا الغليان فلا حرمة جزما. وأمّا الخصوصية الثالثة وهي الرطوبة التي زالت بسبب جفاف العنب وصيرورته زبيبا فممّا يشكّ في مدخليتها ، فلو كان لها مدخلية فالحرمة حالة الزبيبية منتفية جزما ولو لم يكن لها مدخلية فهي باقية إلى حالة الزبيبية جزما. إذن منشأ الشكّ في بقاء الحرمة هو الشكّ في مدخلية هذه الخصوصية.

ثم إنّه لا بدّ من فرض أنّ الخصوصية الثانية - وهي الغليان - غير متحققة ، إذ لو كانت متحققة بأن فرض غليان العنب فحالة الزبيبية لا تكون حاصلة بل لا بدّ من فرض أنّ العنب بقي ولم يغل إلى أن صار زبيبا ثم بعد ذلك غلا. والحرمة التي يراد استصحابها إنّما صارت معلقة بسبب عدم تحقق الخصوصية الثانية إذ مع تحققها تصير - الحرمة - منجزة لا معلقة.

ص: 182


1- بأن كان الشيء تينا مثلا.

وبكلمة مختصرة : إنّه يلزم في الاستصحاب التعليقي فرض خصوصيتين يجزم بمدخليتهما في الحكم ويفرض أنّ الخصوصية الثانية غير متحققة (1) - ليصير الحكم معلقا - ويفرض أيضا أنّ الخصوصية الثالثة التي يشكّ في مدخليتها - وهي خصوصية الرطوبة - منتفيه بسبب التحول إلى حالة الزبيبية وبعد انتفائها والتحول إلى حالة الزبيبية يفرض تحقق الخصوصية الثانية - وهي الغليان - التي كانت مفروضة الإنتفاء حالة العنبية.

تنبيه مهم

وينبغي الإلتفات إلى وجود حالة يكون الاستصحاب فيها منجزا بحسب الصورة والشكل ومعلقا بحسب الروح والحقيقة فالناظر له قد يغفل ويعدّه منجزا مع أنّه معلق واقعا.

ومثال ذلك : الماء المطلق فيما إذا شكّ في تحوله إلى الاضافة فانّه بسبب الشكّ المذكور سوف يشكّ في جواز الاغتسال به من الجنابة. وفي هذه الحالة يمكن استصحاب بقاء صفة الإطلاق له ، وهذا استصحاب تنجيزي ولا محذور فيه ، بيد أنّه لو قطعنا النظر عنه فقد يتخيل أنّ بالإمكان استصحاب جواز الاغتسال به فيقال : سابقا كان يجوز الاغتسال به والآن يشكّ في ذلك فيستصحب بقاء الجواز ويتصور أنّ ذلك من قبيل الاستصحاب التنجيزي ، والحال انّه استصحاب تعليقي ، فإنّ الشارع لم يجعل جواز الاغتسال ولم يقل انّ الماء المطلق يجوز الاغتسال به من الجنابة كي يستصحب ذلك وإنّما جعل جواز

ص: 183


1- أي هي غير متحققة عند ما كانت الخصوصية الثالثة - وهي الرطوبة - متحققة

الدخول في الصلاة منوطا بالاغتسال بالماء ، فالجنب إن اغتسل جاز له الدخول في الصلاة ، فالحكم المجعول إذن حكم تعليقي واستصحابه من قبيل الاستصحاب التعليقي وإن كان بحسب الشكل والصورة استصحابا تنجيزيا.

إنّه لا بدّ من الالتفات إلى أنّ مثل هذه الاستصحابات التي قد يتخيل انّها تنجيزية اغترارا بصورتها هي في روحها استصحابات تعليقية.

الاعتراضات على الاستصحاب التعليقي
اشارة

هناك اعتراضات ثلاثة توجه عادة إلى الاستصحاب التعليقي. وقبل الإشارة لها نذكر أشكالا يخطر في ذهن الطالب يقول انّ الاستصحاب التعليقي لا يجري من جهة عدم بقاء الموضوع فإنّ موضوع الحرمة سابقا هو العنب ، وهذا الموضوع قد زال وتبدل إلى الزبيبية.

وهذا الإشكال مدفوع بأن حالة الزبيبية لو سلّم انّها توجب تغير الموضوع وليست من قبيل التبدل في بعض الحالات الطارئة فيمكن أن يقال انّ المناقشة هذه مناقشة في المثال ، فإنّ خصوص هذا المثال يرد الإشكال المذكور فيه ، ولا يرد في بقية الأمثلة كمثال جواز الإغتسال بالماء من الجنابة الذي أشرنا له سابقا.

والإعتراضات الثلاثة هي كما يلي : -

الاعتراض الأوّل
اشارة

وهذا الاعتراض للشيخ النائيني. وحاصلة إنّ ما يراد استصحابه فيه احتمالات ثلاثة على تقدير جميعها لا يجري الاستصحاب : -

ص: 184

أ - أن يستصحب بقاء الجعل والتشريع فيقال انّ تشريع الحرمة لشرب العنب إذا غلى كان ثابتا والآن يشكّ في بقائه. وهذا الاحتمال باطل لأنّ التشريع يجزم ببقائه ولا يحتمل نسخه. وعليه فالاستصحاب بناء على هذا الاحتمال لا يجري من جهة انتفاء الركن الثاني من أركان الاستصحاب وهو الشكّ في البقاء.

ب - أن تستصحب الحرمة الفعلية الثابتة للعنب. وهذا باطل أيضا لانّ الحرمة الفعلية لم تكن ثابتة سابقا لتستصحب إذ المفروض عدم غليان العنب سابقا لتصير حرمته فعلية. وعليه فالاستصحاب بناء على هذا الإحتمال لا يجري من جهة انتفاء الركن الأوّل وهو اليقين بالحدوث ، إذ المفروض عدم اليقين بحدوث الحرمة بل هناك يقين بعدمها.

ج - أن تستصحب الحرمة المعلّقة فيقال إنّ العنب كان قد ثبتت له الحرمة إن غلى ونحن نستصحب الحرمة المعلّقة المذكورة. وهذا باطل أيضا لأنّ الحرمة المعلّقة ليست أمرا مجعولا من قبل الشارع ليمكن له - الشارع - أن يعبدنا ببقائها فان المجعول للشارع هو الحرمة للعصير العنبي المغلي ، وأمّا الحرمة المشروطة بالغليان فليست مجعولا له وإنّما نحن ننتزعها من ذلك المجعول الشرعي.

جوابان عن الاعتراض الأوّل

وقد اجيب عن هذا الإعتراض بجوابين : -

1 - ما يستفاد من كلمات الشيخ الأعظم قدس سره في الرسائل من إنّا نستصحب شقا رابعا غير تلك الشقوق الثلاثة السابقة ، فنستصحب سببية الغليان للحرمة فيقال إنّ غليان العنب كان سببا للحرمة والآن نشكّ في بقاء هذه السببية

ص: 185

فنستصحبها. والسببية حيث إنّها حكم منجز وليست معلقة فيكون استصحابها من قبيل الاستصحاب التنجيزي - الذي هو حجة جزما - لا التعليقي.

ويرده : انه ما الغرض من استصحاب بقاء السببية؟ فهل المقصود من إثبات بقائها إثبات الحكم الفعلي ، أي إثبات أنّ الحرمة للزبيب بعد غليانه ثابتة له بالفعل أو المقصود مجرد إثبات بقاء السببية دون أن يكون الغرض إثبات فعلية الحرمة للزبيب بعد غليانه؟

فإن كان المقصود هو الأوّل فيرد عليه أنّ استصحاب السببية في الحالة المذكورة من قبيل الأصل المثبت إذ لم توجد آية او رواية تقول إنّ سببية الغليان للحرمة إذا كانت باقية فالحرمة ثابتة بالفعل للزبيب بعد غليانه وإنّما ذلك ثابت من باب الملازمة العقلية فإنّ الروايات الشريفة رتبت الحرمة على حصول ذات السبب - أي على حصول الغليان فقالت إن غلى حرم - ولم ترتبها على سببية الغليان للحرمة.

وإن كان المقصود هو الثاني - أي مجرد إثبات بقاء السببية لا أكثر - فيرده انّ الاستصحاب لا يجري إلاّ إذا كان قابلا لإثبات التنجيز أو التعذير ، ومن الواضح انّ الحكم ببقاء السببية لا يقبل التنجيز ولا التعذير ، إذ السببية حكم وضعي والاحكام الوضعية لا تقبل التنجيز أو التعذير - وإنّما القابل لذلك هو الأحكام التكليفية - لأنها ليست أمرا مجعولا للشارع لتقبل ذلك ، فالشارع قال العصير العنبي المغلي حرام ولم يقل جعلت سببية الغليان للحرمة ، وهذا بخلافه في الاحكام التكليفية فهي حيث إنّها مجعولة للشارع تقبل التنجيز والتعذير.

2 - ما ذكره الشيخ العراقي في ردّ الميرزا قدس سره . وحاصله إنّا نختار الشق

ص: 186

الثاني وهو استصحاب الحرمة الفعلية. وقولكم إنّ الحرمة الثابتة حالة العنبية ليست فعلية باعتبار عدم تحقق الغليان خارجا حسب الفرض - إذ لو كان العنب قد غلى لم يصر زبيبا - مدفوع بأنّ صيرورة الحكم فعليا لا تتوقف على وجود موضوعه وتحققه في الخارج فعلا بل يكفي في صيرورة الحكم فعليا فعلية تصور الموضوع في ذهن الحاكم فإنّ الحاكم عند ما يتصور في ذهنه الموضوع بالفعل يصير الحكم فعليا ولا يلزم فعلية تحققه في الخارج. وبما أنّ الحاكم قد تصور الموضوع في ذهنه بالفعل فالحكم إذن فعلي ويجري استصحابه.

واستدل الشيخ العراقي على أنّ فعلية الحكم يكفي فيها فعلية تصور الموضوع في الذهن ولا يلزم فيها فعلية تحقق الموضوع في الخارج بانه لا إشكال في أنّ المجتهد يستصحب بقاء الاحكام ، فيستصحب بقاء النجاسة للماء المتغير فيما إذا زال تغيره من قبل نفسه والحال انّه لو كانت فعلية الحكم موقوفة على فعلية الموضوع خارجا يلزم عدم جريان استصحاب النجاسة إذ المجتهد حينما يجري استصحاب النجاسة لا يوجد في غرفته حوض فيه ماء متغير ليكون الموضوع متحققا في الخارج بالفعل وبالتالي ليكون الحكم بالنجاسة فعليا.

وعليه فاستصحاب المجتهد لنجاسة الماء المتغير يدل على أنّ فعلية الحكم لا تدور مدار فعلية الموضوع خارجا بل تدور مدار فعلية تصور الموضوع في الذهن.

وقد سجل الشيخ العراقي جريان استصحاب النجاسة في المثال المذكور نقضا على الشيخ النائيني القائل بأنّ فعلية الحكم تدور مدار فعلية موضوعه خارجا (1).

ص: 187


1- من خلال هذا يتضح أنّ ما قرآناه وسمعناه مرارا من أنّ فعلية الحكم تدور مدار فعلية موضوعه خارجا - التي قال بها الميرزا والسيد الخوئي والسيد الشهيد وجماعة آخرون - محل نظر عند الشيخ العراقي ، فإنّه يرى أنّ حقيقة الحكم عبارة اخرى عن الإرادة وليست اعتبارا مجعولا ، كما ويرى انّ فعلية الإرادة المشروطة لا تتوقف على الوجود الخارجي للشرط بل على تصور الشرط ولحاظه ، فانّ الإرادة أمر نفسي والأمر النفسي لا يمكن أن يناط بالأمر الخارجي.
الرد على الشيخ العراقي

والشيخ العراقي في كلامه السابق أفاد مطلبين : -

أحدهما : إنّ فعلية الحكم لا تتوقف على فعلية الموضوع خارجا بل يكفي فيها فعلية تصور الموضوع في الذهن.

ثانيهما : النقض الذي سجله ، وهو أنّ فعلية الحكم لو كانت تتوقف على فعلية الموضوع خارجا فكيف يجري المجتهد استصحاب بقاء نجاسة الماء المتغير والحال أنّه لا يوجد في غرفته ماء متغير.

أمّا بالنسبة إلى المطلب الأوّل فيرده أنّ تصور الموضوع لا يكفي لصيرورة الحكم فعليا ، إذ الصورة الذهنية للموضوع أمّا أن ينظر لها بما هي صورة ذهنية أو ينظر لها بما هي عين الخارج.

فإن نظر لها بما هي صورة ذهنية فلا يوجد سوى الجعل والتشريع ، فبمجرد النظر إلى الصورة الذهنية للعصير العنبي المغلي لا يتحقق المجعول الفعلي حتى يقال انّ هذا المجعول الفعلي - أي الحرمة الفعلية - كان سابقا متيقنا والآن يشك في بقائه وإنّما يتحقق الجعل فقط ويكون ثبوت هذا الجعل لصورة العصير

ص: 188

العنبي المغلي معلوما وثبوته للزائد - وهو الصورة الذهنية للزبيب المغلي - مشكوكا.

وإنّ نظر إلى الصورة الذهنية بما هي عين الخارج - بأن نظر إلى صورة العصير العنبي المغلي بما هي مرآة للعصير العنبي المغلي الموجود في الخارج - ففي مثل ذلك وإن تحقق المجعول الفعلي وأمكن جريان استصحاب بقاء الحرمة إلى حالة الزبيبية إلاّ انّ هذا معناه أنّ فعلية الحكم تدور مدار تحقق الموضوع في الخارج - غاية الأمر على مستوى الإفتراض والتقدير - ولا يكفي وجوده التصوري بل لا بدّ من وجوده الخارجي ولو فرضا وتقديرا وحينئذ يحصل الشكّ في بقاء الحكم الفعلي بحرمة العصير ويجري استصحابه.

وأمّا بالنسبة إلى المطلب الثاني فيرده أنّ المجتهد حينما يجري استصحاب نجاسة الماء المتغير يتصور في ذهنه صورة الماء المتغير ويرى هذه الصورة بما هي عين الخارج فيحصل له الشكّ في بقاء النجاسة ، فوجود الماء المتغير في غرفته وإن لم يكن لازما إلاّ أنّه في نفس الوقت لا يكفي مجرد تصور صورة الماء المتغير في ذهنه والنظر لها بما هي صورة ذهنية بل لا بدّ من النظر لها بما هي عين الخارج.

وقد تقول : إذا كان تصور الموضوع في الذهن والنظر إلى الصورة بما هي عين الخارج يكفي في فعلية الحكم ويكفي في صحة جريان استصحاب بقاء الحكم الفعلي فلما ذا في مقامنا لا يكفي ذلك ، أي لماذا لا نقول انّ المجتهد يتصور صورة العصير العنبي المغلي ويراها بما هي عين الخارج ويجري الاستصحاب بعد ذلك.

والجواب : إنّ المجتهد لا يتصور صورة العصير العنبي المغلي بل يتصور

ص: 189

صورة العصير العنبي فقط بدون ضم صورة الغليان إلى ذلك - إذ مع تصور الغليان أيضا يلزم انّ العنب لم يبق ليصير زبيبا - أي يتصور بعض الموضوع لا جميعه بكامله ، ومن الواضح إنّا حينما نقول بكفاية تصور صورة الموضوع والنظر لها بما هي عين الخارج في صيرورة الحكم فعليا فالمراد أنّ تصور صورة جميع الموضوع بكامله والنظر لها بما هي عين الخارج يكفي في صيرورة الحكم فعليا لا أنّ تصور بعض الموضوع يكفي أيضا.

الجواب عن الاعتراض الأوّل

وبعد بطلان الجوابين السابقين عن الاعتراض الأوّل يتصدى السيد الشهيد بنفسه للجواب ويقول : إنّ اعتراض الشيخ النائيني يتم على تقدير ولا يتم على تقدير آخر ، فإنّ الحكم المجعول من قبل الشارع تارة يكون بلسان « العصير العنبي المغلي حرام » واخرى يكون بلسان « العصير إذا غلي حرم ».

فإن كان باللسان الأوّل فما أفاده الميرزا في الاعتراض الأوّل تام حيث لا يمكن استصحاب الحرمة المشروطة بالغليان لأنها ليست حكما مجعولا للشارع وإنّما هي قضية انتزاعية تنتزع من قول الشارع « العصير العنبي المغلي حرام ».

وأمّا إذا كان باللسان الثاني فالحرمة المشروطة يمكن استصحابها إذ هي بنفسها مجعولة للشارع وليست أمرا انتزاعيا حتى يقال بعدم إمكان جريان استصحابها (1).

ص: 190


1- توجد الفاظ زائدة في عبارة الكتاب لم نشر إلى شرحها لعدم مدخليتها في المطلب.
الاعتراض الثاني
اشارة

إنّ الغرض من استصحاب الحرمة المشروطة بالغليان بل ومن كل استصحاب هو اثبات التنجيز والتعذير إذ بدون ذلك يكون الاستصحاب لغوا وبلا فائدة ولا يمكن أن يعبدنا به الشارع. وفي المقام نقول إنّ استصحاب بقاء الحرمة المعلّقة لا يترتب عليه التنجيز فلا يمكن جريانه فإنّ الحرمة المعلّقة لا تقبل التنجز بل القابل لذلك هو الحرمة الفعلية ، إذ الحرمة الفعلية حرمة ثابتة بالفعل فيمكن أن يستحق المكلّف على مخالفتها العقاب - وهذا هو معنى التنجز إذ هو يعني استحقاق العقوبة على المخالفة - وهذا بخلاف الحرمة المعلّقة فإنها حرمة غير ثابتة بالفعل لكي يستحق المكلّف على مخالفتها العقاب.

وباختصار : إنّ الغرض من الاستصحاب إثبات التنجز ، واستصحاب الحرمة المعلّقة لا يثبت إلاّ بقاء الحرمة المشروطة بالغليان ، وهي غير قابلة للتنجز.

وقد تقول : انّه يمكن إجراء استصحاب الحرمة المشروطة الثابتة حال العنبية وتثبت به الحرمة الفعلية حالة الزبيبية وبالتالي يثبت التنجز ، وذلك بتقريب انّ الاستصحاب إذا كان يثبت الحرمة المشروطة ويقول إنّ الزبيب لو غلى حرم ترتب على ذلك أنّه لو جئنا بالزبيب وجئنا بالنار ووضعنا الزبيب على النار حتى غلا صارت الحرمة فعلية إذ بتحقق موضوع الحكم خارجا - المراد من الموضوع في المقام هو العنب والغليان - يصير الحكم فعليا.

والجواب : إنّ استصحاب الحرمة المشروطة لا يثبت إلاّ بقاء الحرمة

ص: 191

المشروطة ولا يثبت صيرورتها فعليه بتحقق العنب والغليان خارجا وإنّما ذلك لازم عقلي ، إذ العقل يقول إذا كان الزبيب يحرم لو غلى فمتى ما تحقق الغليان بالفعل خارجا صارت الحرمة فعلية وليس ذلك لازما شرعيا إذ لا توجد آية او رواية تقول إذا كانت الحرمة المشروطة باقية فمتى ما تحقق الشرط - وهو الغليان - خارجا صارت الحرمة فعلية. وعليه فالاستصحاب المذكور من قبيل الأصل المثبت الذي لم تثبت حجّيته.

جوابان عن الاعتراض الثاني

ويمكن الجواب عن الاعتراض الثاني ببيانين : -

1 - إنّ تنجز الحكم لا يتوقف على فعليته ليقال إنّ إثبات الفعلية عن طريق استصحاب الحرمة المشروطة هو من قبيل الأصل المثبت ، بل انّ تنجز الحكم يكفي فيه وصول التشريع ووصول صغراه ، فمتى ما علم المكلّف بالتشريع وأنّ الزبيب يحرم لو غلى وعلم بالصغرى - أي انّ هذا زبيب وانّه قد غلى - حكم العقل بتنجز الحرمة عليه.

وفي المقام كلا المطلبين ثابت ، فالتشريع بحرمة الزبيب لو غلى معلوم وواصل من طريق الاستصحاب ، إذ استصحاب الحرمة المشروطة الثابتة حالة العنبية يثبت أن الحرمة المشروطة ثابتة إلى حالة الزبيبية أيضا. وأمّا الصغرى فهي ثابتة أيضا إذ كون الشيء زبيبا وكونه قد غلى بالنار ثابت بالوجدان ، ومعه تتنجز الحرمة ولا يلزم إشكال الاستصحاب المثبت فإنّه يلزم لو كان ثبوت التنجز بحاجة إلى إثبات كون الحكم فعليا في المرحلة الاولى ، أمّا إذا لم يحتج إلى

ص: 192

ذلك فلا يلزم.

2 - إنّا لو قلنا بأنّ مفاد دليل الاستصحاب جعل الحكم المماثل - فاستصحاب وجوب الجمعة مثلا يعني جعل وجوب ظاهري لصلاة الجمعة في زمان الشكّ مماثل للوجوب السابق - فاستصحاب بقاء الحرمة المعلّقة يعني ثبوت حرمة معلقة للزبيب وأنّه يحرم لو غلى. ولازم ثبوت هذه الحرمة المعلّقة تحولها إلى حرمة فعلية عند تحقق الغليان خارجا. وهذا التحول وإن كان لازما عقليا وليس لازما شرعيا إلاّ أنّه ليس لازما للمستصحب بل هو لازم عقلي لنفس الاستصحاب. وقد تقدم (1) انّ لوازم نفس الاستصحاب حجّة.

أمّا لماذا لم يكن هذا التحول لازما عقليا لنفس المستصحب؟ النكتة في ذلك : انّ لازم المستصحب هو ذلك اللازم الذي يترتب على المستصحب بوجوده الواقعي ، كما هو الحال في نبات اللحية فإنّه يترتب على حياة الولد بوجودها الواقعي ، فالولد إذا كان حيا في الواقع فلحيته نابتة سواء علم بالحياة أم لا ، إنّ مثل هذا اللازم الذي يترتب على المستصحب بوجوده الواقعي يسمى بلازم المستصحب ولا يثبت بالاستصحاب. أمّا إذا كان اللازم لا يترتب على المستصحب بوجوده الواقعي وإنّما يترتب بعد جريان الاستصحاب فمثل هذا يكون لازما لنفس الاستصحاب ، وهذا كما الحال في المقام (2) فإنّ ثبوت الحرمة

ص: 193


1- ص 270 من الحلقة.
2- وكما هو الحال في استصحاب وجوب الجمعة فإنّه تترتب عليه المنجزية التي هي من اللوازم العقلية ، وهي لازم عقلي لنفس الاستصحاب لا للمستصحب الذي هو الوجوب الواقعي ، فانّ الوجوب الواقعي بدون حصول العلم به من طريق الاستصحاب لا يكفي لحصول المنجزية.

المعلّقة واقعا للزبيب قبل أن يحصل العلم بها من طريق الاستصحاب لا يكفي لصيروتها فعلية وإنّما تصير فعلية عند العلم بها بواسطة الاستصحاب ، فالمكلّف إذا علم بواسطة الاستصحاب أنّ الزبيب لو غلى حرم فحينذاك تصير حرمته فعلية عنه الغليان ، وأمّا إذا لم يعلم بذلك فبغليانه واقعا لا يصير محرما بالفعل.

والخلاصة : إنّ الحرمة الفعلية بعد تحقق الغليان مترتبة على العلم بالحرمة المعلّقة لا على الحرمة المعلّقة الواقعية ، ومعه فتكون من اللوازم العقلية لنفس الاستصحاب وهي حجّة كما تقدم.

ثم انّ هذا الجواب - كما عرفت - مبنائي ، أي مبني على القول بأنّ مفاد دليل الاستصحاب جعل الحكم المماثل.

الاعتراض الثالث
اشارة

وفي الاعتراض الثالث يقال انّ الاستصحاب التعليقي حتى لو سلم من الاعتراضين السابقين - بأن فرض ان الحرمة المعلّقة التي يراد استصحابها كانت مجعولة بنفسها وفرض أن استصحاب الحرمة المعلّقة يكفي لصيرورتها حرمة فعلية بدون لزوم محذور الأصل المثبت - فمع ذلك لا يمكن جريانه من جهة اخرى ، وهي معارضته بالاستصحاب التنجيزى ، فإنّ الزبيب له حكمان يمكن أن يجري الاستصحاب في كليهما وهما : الحرمة المعلّقة الثابتة حالة العنبية ، والحلية الثابتة قبل الغليان ، فالزبيب قبل أن يأخذ بالغليان يحل أكله حلية فعلية فإذا شككنا في زوال تلك الحلية بالغليان جرى استصحابها ويثبت بقاؤها بعد الغليان ويكون ذلك معارضا لاستصحاب الحرمة المعلّقة.

ص: 194

وباختصار : إنّه قبل تحقق الشرط - وهو الغليان في مثالنا - يوجد حكم فعلي يجري الاستصحاب لإثبات بقائه بعد تحقق الشرط ويكون ذلك معارضا للاستصحاب التعليقي.

جوابان عن الاعتراض الثالث

وقد اجيب عن الاعتراض الثالث بجوابين : -

1 - ما ذكره الآخوند من أنّ حرمة العنب إذا كانت معلقة على الغليان فهذا معناه أن حلية العنب تنتهي عند تحقق الغليان ، ومن الواضح إنّ تلك الحرمة وهذه الحلية لا يوجد بينهما أي منافرة ، فالعنب في وقت واحد يمكن أن نقول هو حرام إن غلى وهو حلال بالفعل إلى أن يغلي.

وما دامت تلك الحرمة والحلية ثابتتين حالة العنبية على سبيل الجزم واليقين وليس بينهما أي منافرة فثبوتهما حالة الزبيبية عن طريق الاستصحاب أولى بعدم المنافرة فإنّه في حالة ثبوتهما الجزمي إذا لم يكن بينهما منافرة ففي حالة ثبوتهما الاستصحابي أولى بأن لا يكون بينهما منافرة.

ويرد ذلك : أنّ الحلية الفعلية التي يراد استصحابها ليست هي الحلية الثابتة حالة العنبية ليقال ان تلك الحلية مغياة بالغليان ، واستصحاب بقائها لا يتنافى وبقاء الحرمة المشروطة ، وإنّما يراد بها الحلية الثابتة حالة الزبيبية ، والحلية المذكورة لا يعلم انها مغياة بالغليان إذ لعلّ جفاف العنب أوجب حدوث حلية له مستمرة حتى بعد الغليان وغير مغياة به. وعلى هذا فنحن نشير إلى الزبيب قبل أن يغلي ونقول هو الآن حلال جزما فإذا شككنا في بقاء حليته هذه بعد غليانه

ص: 195

جرى استصحابها وثبت بذلك بقائها بعد الغليان.

إن قلت : إنّه يمكننا إثبات انّه لم تثبت حلية جديدة للعنب بعد جفافه وصيرورته زبيبا وانها حلية مغياة بالغليان أو لا جرى استصحاب تلك الحلية السابقة ويثبت أن الحلية الثابتة حالة الزبيبية هي مغياة أيضا.

قلت : إنّ أقصى ما يثبته استصحاب بقاء الحلية المغياة والثابتة حالة العنبية هو بقاء تلك الحلية المغياة إلى حالة الزبيبية ولكنه لا يثبت أنّ الحلية الثابتة بالفعل للزبيب هي نفس تلك الحلية السابقة المغياة إلاّ بالملازمة والأصل المثبت من باب أنّ تلك الحلية السابقة إذا كانت باقية ومستمرة إلى حالة الزبيبية فالحلية الثابتة للزبيب لا بدّ وأن تكون مغياة أيضا إذ لو لم تكن مغياة فلازمه ثبوت حليتين للزبيب - إحداهما هي الثابتة سابقا المغياة بالغليان والتي هي مستمرة بواسطة الاستصحاب والاخرى هي الحلية غير المغياة بالغليان - وحيث انّ ثبوت حليتين لشيء واحد غير ممكن فلا بدّ وأن تكون الحلية الثابتة حالة الزبيبية مغياة أيضا.

وإن شئت قلت : إنّ الزبيب قبل أن يغلي لا إشكال في حليته فيمكن أن نشير إليه ونقول هذا يجوز أكله الآن فإنّ كل زبيب يجوز أكله بلا إشكال. وهذه الحلية الثابتة له لا نعلم كونها مغياة بالغليان فمن الممكن أن تكون باقية إلى ما بعد الغليان ، وبالاستصحاب يثبت بقاؤها بعد الغليان. ولا يمكن أن يقال إنّ

ص: 196

استصحاب بقاء الحلية المغياة يثبت أنّ الحلية الثابتة للزبيب الآن هي مغياة أيضا إذ لا توجد آية او رواية تقول إذا كانت الحلية السابقة المغياة باقية فهذه الحلية الثابتة الآن للزبيب هي تلك الحلية السابقة المغياة بل ذلك ثابت من باب الملازمة العقلية إذ لو لم تكن الحلية الثابتة الآن للزبيب هي نفس السابقة المغياة فلازم ذلك ثبوت حلية اخرى للزبيب غير الحلية السابقة الثابت استمرارها بالاستصحاب. وواضح أنّ الشيء الواحد لا يتحمل حليتين.

2 - ما ذكره الشيخ الأنصاري والنائيني قدس سره من أنّ الاستصحاب التعليقي حاكم على الاستصحاب التنجيزي فيكون الاستصحاب التعليقي هو المقدم.

أمّا كيف توجه الحكومة؟ ذكرا 0 في توجيه ذلك بيانا اعرض السيد الشهيد عن ذكره هنا لوهنة وتبرع هو بذكر بيان لطيف يرجع حاصله إلى أنّ الاستصحاب التعليقي أمّا أن نقول هو يثبت بقاء الحرمة المعلّقة إلى حالة الزبيبية دون أن يقوى على تحويلها إلى حرمة فعلية عند حصول الغليان إلاّ بنحو الملازمة العقلية والأصل المثبت أو نقول بأنّه يقوى على ذلك؟

فإن قلنا إنّه لا يقوى على ذلك - كما اختار ذلك أصحاب الاعتراض الثاني - فهو حينئذ لا يقبل الجريان في نفسه لأنّ التعبد به لغو وبلا فائدة بعد عدم ثبوت الحرمة الفعلية به. وما دام لا يجري في نفسه فلا تصل النوبة إلى معارضته بالاستصحاب التنجيزي ، فإنّ معارضته بذلك فرع قابليته لجريانه في نفسه.

وإن قلنا بانّه يقوى على ذلك - كما هو الحال على مسلك جعل الحكم المماثل حيث مرّ ص 284 من الحلقة إمكان إثبات الفعلية بناء على المسلك المذكور - فيجري ويكون مقدما على الاستصحاب التنجيزي بالحكومة لأنّه إذا

ص: 197

جرى واثبت حرمة الزبيب حرمة فعلية بعد غليانه صار المكلّف عالما تعبدا بحرمة الزبيب وانّه ليس بحلال بالفعل ، وبصيرورة المكلّف عالما بإنتفاء الحلية الفعلية لا يبقى شكّ ليجري الاستصحاب التنجيزي لإثبات بقائها. وهذا هو معنى الحكومة فإنّ الدليل الحاكم هو الدليل الذي ينفي (1) عند جريانه موضوع الدليل الآخر نفيا تعبديا.

إن قلت : لماذا لا نجري الاستصحاب التنجيزي أوّلا ليكون هو الحاكم والرافع لموضوع الاستصحاب التعليقي.

قلت : إنّ الاستصحاب التنجيزي لا يرفع موضوع الاستصحاب التعليقي إذ الاستصحاب التنجيزي يثبت بقاء الحلية الفعلية للزبيب بعد غليانه ، ومن الواضح انّه لا توجد آية أو رواية تقول إذا كانت الحلية الفعلية باقية فالحرمة المعلّقة منتفية ، وإنّما ذلك ثابت من باب الملازمة العقلية والأصل المثبت.

وإن شئت قلت : إنّا قرأنا في الحلقة الثانية ص 441 انّه إذا كان لدينا أصلان وكان أحدهما ينفي موضوع الأصل الآخر دون العكس فالأصل الذي ينفي موضوع الأصل الآخر يسمى بالأصل الحاكم ويكون هو المقدم. ومن أمثلة ذلك : ما إذا لدينا ثوب متنجس وكان لدينا أيضا ماء نعلم بطهارته سابقا ونشكّ في طهارته الآن فإذا غسلنا الثوب به حصل لنا الشكّ في بقاء نجاسته. وفي هذه الحالة يوجد استصحابان متعارضان أحدهما استصحاب بقاء الماء على الطهارة وثانيهما : استصحاب بقاء الثوب على النجاسة ، واستصحاب طهارة الماء هو

ص: 198


1- وعلى حدّ تعبير الكتاب : يعالج مورد الأصل الآخر ، فإنّ المقصود من معالجة مورد الأصل الآخر نفي موضوع الأصل الآخر.

الحاكم والمقدم لأنّه إذا جرى اثبت أنّ الماء طاهر ، ومن اللوازم الشرعية لطهارة الماء طهارة الثوب المغسول به ، وبذلك نصير عالمين بطهارة الثوب ويزول الشكّ في بقاء نجاسة الثوب الذي هو موضوع استصحاب بقاء نجاسة الثوب ، وهذا بخلاف استصحاب نجاسة الثوب فإنّه لا يورث العلم بنجاسة الماء إذ لا توجد آية أو رواية تقول إذا كان الثوب باقيا على النجاسة فالماء نجس وإنّما ذلك ثابت من باب الملازمة العقلية والأصل المثبت.

هذا مثال للأصل الحاكم قرأناه في الحلقة الثانية. وفي مقامنا نقول نفس هذا الكلام ، أي نقول إنّ الاستصحاب التعليقي إذا جرى يكون نافيا لموضوع الاستصحاب التنجيزي فيكون هو الحاكم.

هذا حصيلة توجيه حكومة الاستصحاب التعليقي على الاستصحاب التنجيزي.

ويرد عليه : انّه يتم لو سلمنا المبنى وان الاستصحاب التعليقي يثبت إضافة إلى بقاء الحرمة المعلّقة الحرمة الفعلية بدون محذور الأصل المثبت ، أمّا إذا قلنا إنّه لا يثبت ذلك بل يثبت بقاء الحرمة المعلّقة فقط فحينئذ لا يصير المكلّف عالما بالحرمة الفعلية وانتفاء الحلية الفعلية لينعدم موضوع الاستصحاب التنجيزي.

إن قلت : إنّ الاستصحاب التعليقي إذا لم يثبت الحرمة الفعلية فلا يجري في نفسه لأنّ التعبد به لغو وبلا فائدة.

قلت : بل ذاك ليس لغوا فإنّ المرجو من الاستصحاب أن يكون منجزا أو معذرا ، فمتى ما كان باستطاعته ذلك جرى ولا يلزم من التعبد به محذور اللغوية.

وفي المقام الأمر كذلك فإنّا ذكرنا فيما سبق (1) انّ استصحاب بقاء الحرمة المعلّقة

ص: 199


1- ص 184 من الحلقة.

يكفي لإثبات التنجز بلا حاجة إلى إثبات الفعلية إذ يكفي لإثبات التنجز العلم بالكبرى والصغرى ، وفي المقام الأمر كذلك فإنّه باستصحاب بقاء الحرمه المعلّقة يصير المكلّف عالما بتشريع الحرمة المشروطة بالغليان للزبيب فإذا علم بكون الشيء زبيبا وعلم بغليانه صارت حرمته منجزة بلا حاجة إلى إثبات سبق الفعلية ، ومعه فلا يكون الاستصحاب التعليقي حاكما على الاستصحاب التنجيزي وبالتالي تكون المعارضة مستقرة بينها (1).

قوله ص 279 س 1 : بخصوصيتين : هما العنبية والغليان.

قوله ص 279 س 2 : خصوصية ثالثة : هي الرطوبة وعدم الجفاف.

قوله ص 279 س 3 : إحدى تلك إلخ : وهي العنبية.

قوله ص 279 س 4 : والثانية معلومة الانتفاء : وهي الغليان.

قوله ص 279 س 5 : وهذا الافتراض يعني إلخ : أي افتراض أنّ الغليان لم يتحقق ، فإنّ حرمة العنب ما دامت مشروطة به فبعدم تحققه لا تكون الحرمة فعلية بل معلقة على حصوله.

قوله ص 279 س 7 : والقضية الشرطية : عطف تفسير على الحكم المعلق.

قوله ص 280 س 6 : والمجعول لا يقين بحدوثه : أي أنّ الحرمه الفعلية لا يقين بحدوثها بل هناك يقين بعدم حدوثها.

قوله ص 280 س 16 : لذات السبب : وهو الغليان ، إذ قالت إن غلى حرم.

ص: 200


1- من خلال هذا كله اتضح أنّ الاستصحاب التعليقي لا يجري للاعتراض الثالث ، أي إشكال المعارضة بالاستصحاب التنجيزي. هذا ما في الحلقة ولكن في التقرير ج 6 ص 292 دفع ذلك. والنتيجة على ذلك هي جريان الاستصحاب التعليقي.

قوله ص 281 س 3 : أنّ المجعول : ليس المراد من المجعول الحكم الفعلي بل الحكم الذي جعله الشارع.

قوله ص 281 س 6 : ولأنّه منوط إلخ : الصواب : لأنّه منوط إلخ بحذف الواو.

قوله ص 281 س 14 : على ما تقدم في الواجب المشروط : الحلقة الثالثة ح 1 ص 332.

قوله ص 281 س 16 : على ما عرفت سابقا : ص 252 من الحلقة.

قوله ص 286 س 7 : يعالج مورد إلخ : أي ينفي موضوع الأصل الثاني. هذا فيمّا إذا كان أحد الأصلين مخالفا للآخر. وقد يكونان متوافقين فيكون العلاج بنحو الإثبات لا النفي.

قوله ص 286 س 12 : ولا يتعرض إلى الثبوت التقديري : عطف تفسير لقوله فلا ينفي الحرمة المعلّقة. والمقصود من الثبوت التقديري الحرمة المعلقة.

ص: 201

ص: 202

استصحاب عدم النسخ

اشارة

ص: 203

ص: 204

استصحاب عدم النسخ

قوله ص 287 س 1 : تقدم في الحلقة السابقة إلخ : ومن جملة أقسام الاستصحاب التي وقع الإشكال فيها استصحاب عدم النسخ. وقبل أن نوضح الإشكال لا بدّ من استذكار ما قرآناه في الحلقة الثانية ص 299 عن النسخ.

إنّ كل حكم يحتوي على مرحلتين : مرحلة المصلحة والارادة ، ومرحلة الإعتبار والجعل. والنسخ تارة ينظر إليه مرتبطا بالمصلحة واخرى ينظر له مرتبطا بالجعل.

والمراد من النسخ المرتبط بالمصلحة أن يعتقد الإنسان وجود مصلحة في شيء معين ثم يتبين له بعد ذلك انتفاء المصلحة ، كما لو قرر شخص تأسيس مشروع معين لاعتقاده وجود المصلحة في ذلك وشرع فيه ثم تجلى في الاثناء عدم وجود المصلحة فيحصل له التراجع. إن تكشّف انتفاء المصلحة هو نسخ يرتبط بالمصلحة ، وهو مستحيل في حق اللّه سبحانه لأن لازمه الجهل فلا يمكن أن يعتقد سبحانه وجود المصلحة في حكم ويشرعه ثم ينكشف له عدم وجودها.

أجل يمكن أن يفترض أنّ اللّه سبحانه يعلم منذ البداية بأنّ المصلحة ثابتة في الحكم إلى أمد معين فإذا انتهى الأمد انتهت المصلحة وكان ذلك نسخا لها إلاّ أنّه نسخ لها بنحو المجاز. إذن النسخ المرتبط بالمصلحة بمعناه الحقيقي مستحيل في حق اللّه سبحانه وبمعناه المجازي ممكن.

ص: 205

وأمّا النسخ المرتبط بالجعل فهو على قسمين أيضا : حقيقي ومجازي.

أمّا الحقيقي فالمقصود منه أن يجعل اللّه سبحانه الحكم إلى الأبد بحسب لسان الدليل ، فلسان الدليل مطلق ولا يقيد بفترة محددة - ولكنه سبحانه يعلم أنّ المصلحة تقتضي جعله لفترة محددة - ثم في الأثناء يأتي الناسخ فيرفعه.

وأمّا المجازي فهو أن يجعل الحكم من الأوّل محددا بمدة معينة ثم ينتهي الأمد فيرتفع الحكم.

وإنّما كان هذا نسخا بنحو المجاز لأنّه لم يجعل مستمرا منذ البداية ليكون رفعه نسخا.

ثم ان نسخ الجعل بكلا قسميه الحقيقي والمجازي ممكن في حق اللّه سبحانه ، فالحقيقي منه ممكن أيضا ، إذ من الوجيه أن يشرّع اللّه سبحانه الحكم من دون تقييده بمدة إظهارا لهيبته وأهميته - وإن كان في الواقع يعلم عدم اقتضاء المصلحة لاستمراره - ثم يرفعه في الإثناء.

والخلاصة من كل هذا : إنّ النسخ المرتبط بالمصلحة بمعناه الحقيقي لا يمكن في حق اللّه سبحانه. وأمّا النسخ المرتبط بالجعل فهو ممكن في حقه بكلا معنييه الحقيقي والمجازي.

الشكّ في نسخ الجعل على قسمين

ثم إنّه بعد أن اتضح أنّ نسخ الجعل أمر ممكن في حق اللّه سبحانه نقول : انّ الشكّ في نسخ الجعل له قسمان : -

1 - إنّ يشكّ في نسخ نفس الجعل ، كما هو الحال في وجوب التوجه إلى بيت

ص: 206

المقدس فإنّه كان ثابتا فيمّا سبق فإذا شككنا في رفعه وتبدله إلى وجوب التوجه للكعبة المشرفة كان ذلك شكا في أصل النسخ.

2 - أن يعلم بعدم حصول نسخ الجعل ولكن مع ذلك يحتمل ارتفاع الحكم لا من ناحية نسخ الجعل بل من ناحية تقيد الحكم منذ البداية بفترة معينة ، كما هو الحال في الشكّ في بقاء وجوب الجمعة زمن الغيبة ، فإنّ الشكّ في بقاء ذلك لم ينشأ من ناحية احتمال نسخ جعل الوجوب وإنّما هو ناشيء من ناحية احتمال ضيق الحكم المجعول وتحدده بفترة الحضور.

إذن الشكّ في بقاء الحكم تارة ينشأ من احتمال نسخ الجعل واخرى ينشأ من جهة احتمال ضيق المجعول وتقيده بفترة محددة.

وبعد اتضاح هذين القسمين نأتي إلى الاستصحاب لنرى أنّه هل يمكن أن يجري فيهما لإثبات عدم تحقق النسخ - فإنّ نقطة البحث هي هذه ، أي في إمكان استصحاب عدم النسخ - أو لا؟

أمّا بالنسبة إلى القسم الأوّل ، وهو الشكّ في نسخ أصل الجعل فالاستصحاب لا مانع منه فيمكن أن يقال مثلا ان جعل وجوب التوجه إلى بيت المقدس كان ثابتا فيما سبق فإذا شكّ في نسخه جرى استصحاب بقاء الجعل وعدم نسخه لأنّ أركان الاستصحاب فيه متوفرة فيوجد يقين سابق بثبوت الجعل وشكّ في بقائه فيجري استصحابه.

أجل قد يستشكل فيه من ناحية أنّ استصحاب بقاء الجعل لا تكون له فائدة إلاّ إذا قصد من خلاله إثبات بقاء الوجوب الفعلي وإلاّ فمجرد بقاء جعل وجوب التوجه إلى بيت المقدس بلا أن يكون فعليا لا فائدة فيه ، ومن الواضح انّ

ص: 207

استصحاب بقاء الجعل لإثبات بقاء الوجوب الفعلي لا يتم إلاّ بنحو الملازمة العقلية والأصل المثبت إذ لا توجد آية ولا رواية تقول انّ الجعل إذا كان باقيا فالحكم الفعلي يكون باقيا أيضا وإنّما ذلك مما يحكم به العقل.

ويمكن دفع هذا الإشكال بأنّ إثبات فعلية الحكم لا داعي له فإنّ المهم إثبات تنجز الحكم ، وواضح انّ التنجز لا يتوقف على سبق فعلية الحكم بل يكفي فيه - كما تقدم ص 284 من الحلقة - العلم بالجعل والعلم بتحقق الموضوع ، فإذا استصحب الجعل وعلم من خلاله بقائه في حق المكلّف وعلم بالصغرى - أي علم المكلّف بأنّ التوجه إلى هذه الجهة توجه إلى بيت المقدس - كفى ذاك في التنجز بلا حاجة إلى إثبات الفعلية ليلزم محذور الأصل المثبت.

وبالجملة : التمسك باستصحاب بقاء الجعل وعدم نسخه لا محذور فيه.

ولكن هل يمكن التمسك بالإطلاق اللفظي لإثبات بقاء الجعل بأن يقال انّ مقتضى إطلاق دليل « توجّه إلى بيت المقدس » أنّ وجوب التوجه ثابت في جميع الازمنة؟ والجواب : كلا لا يمكن ، فإنّ الإطلاق إنّما يصح التمسك به فيمّا إذا شكّ في تقييد مفاد الدليل بأن يكون مفاد الدليل ثابتا ويشكّ في تقييده ، فمفاد اعتق رقبة مثلا وجوب عتق الرقبة ، فإذا شكّ في تقييد الوجوب المذكور بالإيمان كان مقتضى الإطلاق عدمه ، أمّا إذا لم يكن الشكّ في تقييد مفاد الدليل بل كان الشكّ في أصل ثبوت مفاد الدليل وعدمه فلا معنى للتمسك بالإطلاق ، ومقامنا من هذا القبيل ، فإنّ الشكّ في نسخ وجوب التوجه إلى بيت المقدس شكّ في بقاء مفاد دليل توجّه إلى بيت المقدس وعدمه ، فانّ مفاد الدليل المذكور هو وجوب التوجه إلى بيت المقدس ، والشكّ في نسخه وعدمه شكّ في بقاء مفاد الدليل

ص: 208

المذكور وعدمه وليس شكا في تقييد مفاد الدليل بعد إحراز ثبوته.

هذا كله بالنسبة إلى القسم الأوّل من قسمي الشكّ في بقاء الحكم.

وأمّا بالنسبة إلى القسم الثاني وهو الشكّ في بقاء الحكم من جهة احتمال تقييد الحكم المجعول بفترة محددة فمثاله الشكّ في بقاء وجوب الجمعة إلى زمن الغيبة.

وفي هذا القسم يجوز جزما التمسكّ بإطلاق الدليل لنفي التقييد بالفترة المحددة ، إذ الشكّ في القسم المذكور يرجع إلى الشكّ في تقييد مفاد دليل « يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر اللّه » بخصوص فترة الحضور وليس شكا في زوال مفاد الدليل.

وأمّا بالنسبة إلى الاستصحاب فقد يشكل على استصحاب بقاء الجعل وعدم نسخه بانّ الافراد الذين عاشوا زمن الحضور هم غير الأفراد المتواجدين زمن الغيبة ، فالموضوع ليس واحدا ، ومع اختلاف الموضوع لا يجري الاستصحاب.

ونفس هذا الكلام يأتي في استصحاب أحكام الشرائع السابقة كما لو اريد استصحاب حكم ثابت في شريعة عيسى علیه السلام فقد يستشكل بأنّ الناس الذين عاشوا زمن تلك الشريعة هم غير الناس المعاصرين لهذه الشريعة فلا يجري الاستصحاب لعدم وحدة الموضوع. اللّهم إلاّ إذا فرض أنّ شخصا أدرك كلتا الشريعتين - كما هو الحال في حق سلمان المحمدي بناء على ادراكه لشريعة عيسى علیه السلام - فإنّ استصحاب بقاء حكم شريعة عيسى علیه السلام يجري في حقه لوحدة الموضوع وعدم تغايره ، أمّا بالنسبة إلى غيره فلا يجري الاستصحاب لتغاير الموضوع.

هذا هو الإشكال في استصحاب عدم النسخ. وكل ما ذكرناه في هذا البحث إلى الآن فهو تمهيد لبيان هذا الاستصحاب وتمهيد لبيان الإشكال الوارد

ص: 209

عليه وانّ الموضوع ما دام ليس واحدا فلا يجري الاستصحاب.

ولعل أوّل من آثار هذا الإشكال هو الشيخ الأعظم في رسائله.

جوابان عن إشكال الاستصحاب

وهناك جوابان عن الإشكال المذكور هما : -

1 - إنّ الحكم في الزمان السابق لم يكن ثابتا للافراد والاشخاص الموجودة في ذلك الزمان (1) حتى يقال بأنّ تلك الافراد الموجودة في الزمان السابق تغاير الافراد الموجودة في هذا الزمان وإنّما الحكم ثابت لكل فرد من الافراد سواء كان موجودا في الزمان السابق أو في الزمان اللاحق. وبكلمة اخرى هو ثابت لعنوان المكلّف المقدر الوجود أعم من أن يكون موجودا في ذلك الزمان أو لا (2).

وبناء على هذا يكون الموضوع واحدا غاية الأمر يكون وجوده متقدما زمانا في القضية المتيقنة ومتاخرا في القضية المشكوكة.

2 - إنّه يمكن الإشارة إلى الشخص الموجود في هذا الزمان المتأخر ويقال إنّ هذا كان لو وجد في الزمان السابق لثبت له الحكم وهو الآن لو وجد لثبت الحكم له أيضا فالمستصحب هو القضية الشرطية بخلافه في الجواب السابق فإنّ المستصحب هو الحكم المنجز (3).

ص: 210


1- والحكم المجعول بهذا الشكل يصطلح عليه بأنّه مجعول بنحو القضية الخارجية ، فإنّه في القضية الخارجية يكون الحكم منصبا على الأفراد الموجودة بالفعل حين الحكم.
2- والحكم المجعول بهذا الشكل يصطلح عليه بأنّه مجعول بنحو القضية الحقيقية ، فإنّه في القضية الحقيقية يكون الحكم منصبا على مطلق الأفراد سواء كانت موجودة بالفعل أم لا.
3- قد يشكل على الاستصحاب التعليقى المذكور بأنّ المتيقن هو أنّه لو وجد المكلّف في الزمان السابق لثبت له الحكم وأمّا أنّه لو وجد الآن فيثبت له الآن فهذا لم يكن متيقنا سابقا حتى يستصحب. والجواب : إنّ مثل هذا الإشكال يعم كل استصحاب تعليقي فالزبيب مثلا حينما يشار له ويقال لو غلى في السابق حرم وهو الآن أيضا لو غلى حرم يأتي فيه مثل هذا الإشكال حيث يقال إن الزبيب كان يحرم لو غلى في الزمان السابق وأمّا أنه يحرم لو غلى الآن أي في حال الزبيبية فهو لم يكن متيقنا سابقا. وحل الإشكال : انّ خصوصية التغاير من حيث الزمان لا تؤثر على الاستصحاب ، فالموضوع ما دام واحدا يجرى فيه الاستصحاب وإن اختلف من حيث الزمان.

هذا ولكن إجراء الاستصحاب بكلا هذين الشكلين يتوجه له إشكال ، وهو أنّه معارض باستصحاب عدم التكليف الثابت قبل البلوغ ، فإنّ كل شخص موجود في هذا الزمان يمكن أن يشار له ويقال هذا قبل أن يبلغ سن التكليف لم يكن وجوب صلاة الجمعة ثابتا في حقه فإذا شكّ في بقاء ذلك جرى استصحاب بقاء عدم الوجوب وكان ذلك معارضا لاستصحاب بقاء التكليف بأحد الشكلين السابقين. وهذه المعارضة تشبه تماما المعارضة المتقدمة في الاستصحاب التعليقي ، حيث قيل انّ استصحاب بقاء الحرمة المشروطة إلى حالة الزبيبية معارض باستصحاب الحلية الفعلية الثابتة قبل غليان الزبيب ، وكما كانت تلك المعارضة مانعة من حجّية الاستصحاب التعليقي كذلك المعارضة في المقام مانعة من حجّية استصحاب بقاء التكليف إلى زمن الغيبة.

قوله ص 287 س 2 : مبادئ الحكم : وهي المصلحة والإرادة. وأمّا النسخ بمعناه المجازي بالنسبة إلى مبادئ الحكم فهو ممكن.

قوله ص 287 س 2 : ومعقول بالنسبة إلى الحكم في إلخ : بلا فرق بين

ص: 211

معناه الحقيقي والمجازي فإنّ كليهما معقول بالنسبة إلى عالم الجعل.

قوله ص 287 س 3 : وعليه فالشكّ إلخ : أي مادام النسخ بلحاظ عالم الجعل معقولا حتى بمعناه الحقيقي.

قوله ص 288 س 11 : وعلاج ذلك : هذا جواب الإشكال.

قوله ص 288 س 13 : مباشرة : قيد لقوله « تنصب ».

قوله ص 288 س 14 : على الموضوع الكلي : وهو عنوان المكلّف حيث انّ الحكم ينصب على كل مكلّف قدّر وفرض وجوده.

قوله ص 288 س 15 : وفي هذه المرحلة : أي مرحلة صبّ الحكم على الموضوع الكلي المقدر الوجود.

قوله ص 288 س 16 : وتأخر الموضوع إلخ : عطف تفسير لقوله إلاّ من ناحية الزمان.

قوله ص 288 س 17 : وهذا يكفي : أي كون الحكم منصبا على كل فرد سواء كان موجودا في الزمان السابق أم في الزمان اللاحق.

قوله ص 289 س 3 : المجعول الكلّي : وهو وجوب صلاة الجمعة.

قوله ص 289 س 6 : على تقدير وجوده : أي في الزمان السابق.

قوله ص 289 س 6 : ولا يزال كما كان : أي لو وجد الآن لثبت له الحكم السابق. هذا هو المقصود وليس المقصود لو وجد في الزمان السابق لثبت له الحكم السابق.

قوله ص 289 س 7 : معروض الحكم : أي موضوع الحكم.

قوله ص 289 س 12 : عموما : أي على كل استصحاب تعليقي.

ص: 212

استصحاب الكلّي

اشارة

ص: 213

ص: 214

استصحاب الكلي

قوله ص 290 : استصحاب الكلي إلخ : من جملة أفراد الاستصحاب التي وقع فيها الإشكال استصحاب الكلي.

وقبل الدخول في صلب الموضوع نشير إلى مقدمة حاصلها : إنّ المستصحب تارة يكون أمرا جزئيا واخرى أمرا كليا.

مثال المستصحب الجزئي : استصحاب عدالة زيد أو وجوب صلاة الجمعة.

وأمّا استصحاب الكلي فهو على أقسام ثلاثة هي : -

1 - استصحاب الكلي من القسم الأوّل ، وهو أنّ نقطع بوجود الكلّي ضمن فرد معين ثم نشكّ في بقاء الكلّي بسبب الشكّ في بقاء ذلك الفرد ، كما لو علم بوجود كلّي الإنسان في المسجد ضمن زيد ثم شكّ في بقاء الكلّي لأجل الشكّ في بقاء زيد.

وفي هذا القسم يجري استصحاب الكلّي لو كان له أثر مختص به كما ويجري استصحاب الفرد لو كان له أثر مختص به.

2 - استصحاب الكلّي من القسم الثاني وهو أن يقطع بوجود الكلّي ضمن فرد مردد بين الطويل والقصير (1) ، كما لو علم بوجود حيوان ذي خرطوم مردد بين البق والفيل (2) ومضى يوم واحد على وجود الحيوان فإنّه يحصل الشكّ في

ص: 215


1- يوجد لاستصحاب الكلّي من القسم الثاني صورة اخرى تأتي الإشارة لها إن شاء اللّه تعالى.
2- فإنّ البق له خرطوم والفيل له خرطوم أيضا.

بقائه لأنّه لو كان الحيوان الموجود هو البق فهو ميت جزما إذ البق لا قدرة له على البقاء أكثر من يوم ولو كان هو الفيل فهو باق جزما أو احتمالا.

والمثال الشرعي لذلك : ما إذا خرج من المكلّف سائل مردد بين البول والمني فإنّه يحصل له اليقين بكونه محدثا بكلّي الحدث المردد بين الأصغر والأكبر فإذا توضأ (1) فسوف يحصل له الشكّ في بقاء الحدث الكلّي إذ لو كان الحدث هو الأصغر فهو مرتفع جزما بسبب الوضوء والاّ فهو باق ، ففي مثل هذه الحالة يجري استصحاب كلّي الحدث ويترتب آثار كلّي الحدث كحرمة مس المصحف مثلا. وأمّا الفرد فلا يجري استصحابه ، فالجنابة لا يجري استصحابها لعدم اليقين بحدوثها كما وأنّ الحدث الأصغر لا يجري استصحابه لعدم اليقين بحدوثه بل وهناك يقين بارتفاعه لو كان حادثا. والمشهور في هذا القسم من استصحاب الكلّي جريانه.

3 - استصحاب الكلّي من القسم الثالث ، وهو أن يتيقن من وجود الكلّي ضمن فرد ويتيقن من ارتفاع ذلك الفرد ولكن يشكّ في وجود فرد ثان ، كما لو علم بوجود الإنسان في المسجد ضمن زيد وعلم بخروج زيد ولكن احتمل دخول عمرو حين خروج زيد من المسجد أو حينما كان زيد موجودا بعد في المسجد ، في مثل هذه الحالة سوف يشكّ في بقاء الكلّي لأجل احتمال دخول عمرو في المسجد وبقاء الكلّي ضمنه.

ص: 216


1- إنّما فرضنا أنه توضأ كيّما يحصل له الشكّ إذ بدون الوضوء يبقى المكلّف على يقين من بقاء الحدث ولا يحصل له الشكّ ، وهكذا لو فرض أنّه اغتسل بدون ضم الوضوء إليه فسوف يحصل له الشكّ في بقاء الحدث.

والمثال الشرعي لذلك : ما إذا كانت أجزاء الصلاة عشرة وتعذر واحد منها فإنّه سوف يشكّ في وجوب الأجزاء التسعة الباقية. وقد يقال بامكان اثبات بقاء وجوب الاجزاء التسعة عن طريق الاستصحاب بأن يقال ان الاجزاء التسعة كانت واجبة سابقا والآن يشكّ في بقاء وجوبها فيجري استصحاب بقاء وجوبها. وهذا الاستصحاب لو تأملنا فيه لوجدنا أنّه من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلّي إذ الاجزاء التسعة وإن كانت واجبة سابقا ولكن وجوبها كان وجوبا غيريا ومن باب المقدمة للوجوب النفسي للعشرة ، وبعد تعذر أحد الأجزاء فالأجزاء التسعة الباقية لا يحتمل وجوبها بالوجوب الغيري ، إذ بانتفاء الوجوب النفسي ينتفي الوجوب الغيري أيضا وإنّما يحتمل وجوبها - الأجزاء التسعة - بالوجوب النفسي بأن يكون قد حدث لها وجوب نفسي بعد انتفاء وجوبها الغيري.

إذن نحن لا نستصحب الوجوب الغيري. السابق للأجزاء التسعة لأنّه قد انتفى جزما كما ولا نستصحب وجوبها النفسي الجديد إذ لا يقين بحدوثه بل نستصحب كلّي الوجوب حيث إنّه متيقن الحدوث ضمن الوجوب الغيرى ويشكّ في ارتفاعه لاحتمال حدوث الوجوب النفسي.

والمعروف في هذا القسم من استصحاب الكلي عدم الجريان.

عودة إلى الكتاب

وبعد اتضاح هذه المقدمة نعود إلى الكتاب.

يقول قدس سره : إنّ المراد من استصحاب الكلّي هو التعبّد ببقاء الكلّي الجامع بين

ص: 217

فردين من الحكم أو الجامع بين فردين من الموضوع فيما إذا كان له - الموضوع - أثر شرعي.

مثال الجامع بين فردين من الحكم : استصحاب كلّي الوجوب الجامع بين الوجوب الغيري والوجوب النفسي.

ومثال الجامع بين فردين من الموضوع : استصحاب كلّي الحدث الجامع بين الحدث الأصغر والحدث الأكبر ، فإنّ الحدث الأكبر والأصغر موضوع للحكم وليس بنفسه حكما شرعيّا.

الكلام في جهتين

اشارة

والبحث في استصحاب الكلّي يقع في جهتين : -

الجهة الاولى

1 - في أصل جريان استصحاب الكلّي. قد يشكل على أصل جريان الاستصحاب في الكلّي ويقال انّ الاستصحاب لا يجري في الكلّي سواء كان من قبيل القسم الأول أو القسم الثاني أو القسم الثالث ، فعلى تقدير جميع الاقسام الثلاثة لا يجري الاستصحاب.

والاشكال المذكور له بيانان : بيان فيما إذا كان المستصحب كلّيا جامعا بين حكمين وبيان فيما إذا كان المستصحب كلّيّا جامعا بين موضوعين.

أمّا بيان الاشكال في باب الأحكام - ومثال استصحاب الكلّي في باب الأحكام استصحاب كلّي الوجوب الجامع بين الوجوب الغيري والوجوب النفسي في المثال المتقدّم - فحاصله : انّه لو قلنا بأنّ مفاد دليل الاستصحاب جعل

ص: 218

الحكم المماثل وأنّ استصحاب وجوب الجمعة مثلا معناه جعل وجوب ثان ظاهري في زمان الشك مماثل للوجوب السابق ، بناء على هذا المبنى لا يمكن استصحاب كلّي الوجوب الجامع بين النفسي والغيري ، إذ مرجع استصحاب الكلّي إلى جعل وجوب كلّي في زمان الشك ، ومن الواضح انّ الموجود في الخارج حيث لا يمكن أن يكون كلّيّا - فإنّ الموجود في الخارج لا بدّ وأن يكون فردا جزئيّا لا كلّيّا إذ الشيء ما لم يتشخّص لا يوجد - فلا يمكن جعله في زمان الشك فإنّ الشيء الذي لا يمكن وجوده في الخارج لا معنى لجعله ، ويكون جعله لغوا.

أجل كلّي الوجوب يمكن وجوده ضمن أحد الفردين فإنّ الوجوب النفسي مثلا فيه كلّي الوجوب ويمكن اجراء الاستصحاب في كلّي الوجوب ضمنه إلاّ أنّ هذا بحسب الحقيقة إجراء للاستصحاب في الجزئي لا في الكلّي.

وبكلمة مختصرة : إنّ الكلّي بما هو كلّي حيث لا يمكن وجوده في الخارج فجعله في زمان الشك من طريق الاستصحاب لا يكون معقولا ، والكلّي الموجود ضمن أفراده وإن كان يمكن وجوده في الخارج إلاّ ان جريان الاستصحاب فيه يرجع إلى استصحاب الجزئي لا الكلّي. هذا حصيلة الاعتراض في باب الأحكام.

والجواب عنه : إنّ الاعتراض المذكور مبني على المبنى المذكور وانّ مفاد دليل لا تنقض اليقين بالشك جعل الحكم المماثل ، أمّا بناء على انكار هذا المبنى والقول بأنّ مفاد دليل لا تنقض ابقاء اليقين - امّا بمعنى إبقائه زمن الشك اعتبارا وتعبّدا كما هو الحال بناء على مسلك جعل العلميّة الذي يختاره السيّد الخوئي ، أو بمعنى إبقائه زمن الشك بلحاظ المنجّزية والجري العملي كما هو مختار السيّد الشهيد - فلا بأس بجريان الاستصحاب في كلّي الوجوب إذ جعل المكلّف عالما

ص: 219

بمقدار الجامع من حيث المنجّزية أمر معقول ، كيف لا وفي باب العلم الاجمالي بثبوت أحد الوجوبين يكون المكلّف عالما بالجامع - المراد من الجامع أحد الوجوبين - ويتنجّز عليه مقدار الجامع دون أحد الفردين بالخصوص.

الاشكال في باب الموضوعات

وقبل بيان الاشكال في استصحاب الكلّي في باب الموضوعات نقدّم مقدّمة ثمّ نرجع لبيان الاشكال.

وحاصل المقدّمة : انّه وقع كلام في علم المعقول في أنّ الكلّى الطبيعي (1) هل هو موجود في الخارج أو لا؟ فهناك رأي يقول بأنّ طبيعة الشجر والإنسان والحجر وأمثال ذلك ليست موجودة في الخارج بل هي موجودة في الذهن وإنما الموجود في الخارج أفراد الإنسان مثلا دون نفس الإنسان ، وقد اشير في حاشية ملاّ عبد اللّه إلى هذا الرأي واشير إلى ردّه وأنّ الطبيعي موجود في الخارج (2) لا بمعنى وجود أفراده دون نفسه ، بل هو بنفسه موجود في الخارج.

وبعد بطلان هذا الرأي فالإتّجاه الصحيح إذن هو القائل بوجود الطبيعي في الخارج. وأصحاب هذا الإتّجاه بعد اتّفاقهم على وجود الطبيعي في الخارج اختلفوا في كيفية وجود الطبيعي في الخارج. وفي هذا المجال يوجد رأيان : -

ص: 220


1- المراد من الكلّي الطبيعي نفس الطبيعة والماهية ، فطبيعة الإنسان والشجر والحجر والماء والهواء والحيوان والتراب وكل جنس من الاجناس عبارة اخرى عن الكلّي الطبيعي.
2- عدم وجود الطبيعي في الخارج أمر بعيد فإن لازمه أن لا يكون مثل النبي والامام انسانا بل هم أفراد للإنسان وليسوا انسانا وهو بعيد.

1 - الرأي المشهور وهو أنّ الطبيعي موجود في الخارج بالحصص ، بمعنى أنّ زيدا فيه حصّة من طبيعي الإنسان ، وعمروا فيه حصّة اخرى ، وبكرا فيه حصّة ثالثة وهكذا ، ففي كل فرد حصّة من الطبيعي تختص به.

2 - رأي الرجل الهمداني الذي التقى به ابن سينا في مدينة همدان ، حيث ينقل ابن سينا أنّه التقى في مدينة همدان بشيخ عزيز أو غريز المحاسن يظن أنّ الطبيعي موجود في الخارج بوجود واحد متّحد مع أفراده ، فللإنسان وجود واحد متّحد مع زيد وعمرو وبكر و ... وحمل عليه ابن سينا حملة شعواء (1) وكل من جاء بعد ابن سينا وقف مؤيّدا له في مقابل الهمداني. والسبب واضح ، فإنّ الطبيعي لو كان موجودا في الخارج بوجود واحد متّحد مع الأفراد فلازمه صيرورة الشيء الواحد أبيض أسود وحيّا ميّتا وطويلا قصيرا ، فإنّ زيدا وبكرا إذا فرض أنّ أحدهما أبيض والآخر أسود فلازم اتّحاد الإنسان معهما أن يكون الإنسان الذي هو شيء واحد أبيض وأسود. وهكذا إذا كان أحدهما حيّا والآخر ميّتا يلزم أن يكون الإنسان الذي هو متّحد معهما حيّا وميّتا.

وباختصار : يلزم أن يكون الإنسان الذي هو شيء واحد مجمعا للصفات

ص: 221


1- حكاية ابن سينا مع الرجل الهمداني نقلها السبزواري في شرح المنظومة في قسم المنطق ص 23 وفي قسم الحكمة ص 99. قال في قسم المنطق : وقد صادف الشيخ في مدينة همدان رجلا من العلماء كبير السن عزيز المحاسن يقول انّ الطبيعي موجود بوجود واحد عددي في ضمن أفراده وقال في قسم الحكمة « ... كما زعمه الرجل الهمداني الذي صادفه الشيخ الرئيس بمدينة همدان ونقل أنّه كان يظن ان الطبيعي واحد بالعدد ومع ذلك موجود في جميع الأفراد ويتصف بالاضداد وشنع عليه الشيخ وقدح في مذهبه ».

المتقابلة المتضادّة. وعلى هذا فالاتّجاه الصحيح في وجود الطبيعي هو الإتّجاه المشهور القائل بأنّ الطبيعي موجود في الخارج بالحصص.

إحتمالان في رأي الرجل الهمداني

ثمّ ان في مقصود الشيخ الهمداني القائل بوجود الطبيعي لا بالحصص احتمالين : -

أ - ان يكون الإنسان موجودا في الخارج بوجود واحد ، وذلك الوجود الواحد متّحد مع الأفراد المتعدّدة ، فالواحد يكون متّحدا مع الإثنين والثلاثة والأربعة و ...

ب - أن يكون الإنسان موجودا في الخارج بوجود مستقل مغاير لوجود الأفراد ، فالإنسان له وجود واحد ثابت في السماء مثلا أو في عالم آخر مناسب له وأفراده موجودة في الأرض ، والشجر له وجود واحد ثابت في السماء مثلا وافراده موجودة في الأرض ، وهكذا.

وظاهر المشهور الذين أوردوا على الرجل الهمداني بأنّ لازم رأيه انصاف الشيء الواحد بالصفات المتضادّة فهمهم الاحتمال الأوّل ، بل عبارة السبزواري المذكورة في شرح المنظومة هو الاحتمال الأوّل أيضا حيث قال « موجود في جميع الأفراد ». هذا ولكن ظاهر كلام السيّد الشهيد فيما يأتي الاحتمال الثاني.

نسبة الأب إلى الأبناء المتعدّدين

ثمّ انّه على رأي الرجل الهمداني تكون نسبة الطبيعي إلى الأفراد كنسبة

ص: 222

الأب الواحد إلى الأبناء المتعدّدين ، حيث انّ الطبيعي شيء واحد ، بينما أفراده متعدّدة ، ويمكن أن نصطلح على نسبته اليها - الأفراد المتعدّدة - بنسبة الأب الواحد إلى الأبناء المتعددين. وأمّا على رأي المشهور القائل بوجود الطبيعي بالحصص فنسبة الطبيعي إلى أفراده هي كنسبة الآباء المتعدّدين إلى الأبناء المتعدّدين ، فكل فرد بمثابة الأبن الواحد ، والحصّة من الطبيعي الموجودة ضمنه بمثابة الأب الواحد المختص بابنه ، والحصّة الثانية من الطبيعي الموجودة ضمن الفرد الثاني بمثابة الأب الثاني للإبن الثاني وهكذا.

يقول السبزواري عند بيانه لرأي المشهور في مقابل رأي الهمداني :

ليس الطبيعي مع الافراد *** كالأب بل أبا مع الافراد

عودة إلى الكتاب

بعد اتّضاح المقدّمة السابقة نعود إلى الكتاب من جديد لتوضيح الاشكال في استصحاب الموضوع الكلّي.

وحاصل الاشكال : ان الآثار الشرعيّة مترتّبة على عنوان الحدث الأكبر أو الحدث الأصغر وليست مترتّبة على عنوان الحدث الكلّي فوجوب الغسل مثلا مترتّب على عنوان الحدث الأكبر لا على عنوان الحدث الكلّي ، وهكذا وجوب الوضوء مثلا مترتب على عنوان الحدث الأصغر لا على كلي الحدث. وما دام الأثر لم يترتب على كلّي الحدث فالاستصحاب لا يمكن أن يجري فيه لأنّه يشترط في جريانه ترتب الأثر الشرعي على المستصحب.

والجواب عن الإشكال المذكور : انّه ما المقصود من عدم ترتب الأثر على

ص: 223

الكلّي؟ فهل المقصود انّه في لسان الأدلة لم يرتّب الأثر على الكلّي بل رتّب على العناوين الخاصة؟

وإذا كان هذا المقصود فجوابه إنّا نفترض أنّ الأثر في لسان الأدلة مترتب على العنوان الكلّي كحرمة مس المصحف ، فإنّه لم يترتب على عنوان الحدث الأكبر أو الحدث الأصغر وإنّما هو مترتب على عنوان الحدث الكلّي الجامع بين الأصغر والأكبر.

أو أنّ المقصود انّه حتى لو فرضنا ترتّب الأثر الشرعي في لسان الأدلة على عنوان الحدث الكلّي فمع ذلك لا يجري الاستصحاب في عنوان الحدث الكلّي باعتبار أنّ عنوان الحدث الكلّي أخذ في لسان الأدلة بما هو مرآة للخارج ولم يترتب عليه بما هو صورة ذهنية ، وما دام الأثر مترتبا على العنوان الذهني بما هو مرآة للخارج فلازم ذلك أنّ الاستصحاب يجري في الأمر الخارجي لا في الأمر الذهني ، وحيث انّ الموجود في الخارج هو الفرد الجزئي دون الكلّي فنتيجة ذلك هو أنّ الاستصحاب يجري في الفرد الجزئي - كالحدث الأصغر أو الأكبر - دون الأمر الكلّي.

وإذا كان هذا هو المقصود فجوابه انّ الكلام المذكور صحيح من جهة وفاسد من جهة اخرى ، فهو صحيح حينما قال إنّ الاستصحاب لا يمكن أن يجري في الصورة الذهنية للحدث الكلّي بما هي صورة ذهنية بل يجري فيه بما هو مرآة للخارج ، إنّ هذا صحيح لأنّ الصورة الذهنية بما هي صورة ذهنية ليست محطا للاثار.

وأمّا جهة الفساد فهو إنّه ذكر أنّ الاستصحاب إذا كان يجري في الصورة الذهنية بما هي مرآة للخارج فهذا لازمه جريان الاستصحاب في نفس الخارج.

ص: 224

ووجه الفساد : ان صبّ الحكم على العنوان بما هو مرآة للخارج ليس معناه صبّ الحكم على نفس الخارج ، إذ الخارج لا يمكن أن ينصبّ عليه الحكم ، فالوجوب لا يمكن أن ينصب على الصلاة الخارجية مثلا ، فإنّ الوجوب ثابت قبل أن يأتي المكلّف بالصلاة ولا يتوقف على الإتيان بالصلاة ، وفي ذلك دلالة واضحة على تعلّق الحكم بالصورة الذهنية للصلاة بما هي عين الخارج وليس متعلقا بنفس الخارج. وفي المقام يقال كذلك ، أي يقال إنّ الاستصحاب حكم من الإحكام ولا يمكن تعلقه بنفس الخارج بل هو متعلق بالعنوان الذهني بما هو مرآة للخارج ، ومعه فيندفع الإشكال إذ الاستصحاب دائما يجري في العنوان الذهني بما هو مرآة للخارج غاية الأمر في استصحاب الجزئي يجري الاستصحاب في الصورة الذهنية للحدث الأكبر مثلا بما هي مرآة للخارج وفي استصحاب الكلّي يجري الاستصحاب في الصورة الذهنية لكلّي الحدث بما هي مرآة للخارج.

الفارق بين استصحاب الكلّي واستصحاب الفرد

هناك سؤال يقول إنّ الكلّي ما دام متحدا مع الفرد في الخارج ولا يوجد وجودان أحدهما للكلّي والآخر للفرد فما هو الفارق بين استصحاب الكلّي واستصحاب الفرد ، فإنّ الكلّي ما دام عين الفرد في الخارج فكيف يكون الاستصحاب تارة استصحابا للكلّي واخرى استصحابا للفرد؟ ويمكن ذكر ثلاثة اجوبة عن هذا التساؤل هي : -

1 - ما تبناه السيد الشهيد ، وهو أنّ الاستصحاب لا ينصب على الخارج ليقال إنّ الخارج واحد فكيف يكون الاستصحاب استصحابا للكلّي تارة

ص: 225

وللجزئي اخرى بل ينصب على العنوان الملحوظ بما هو مرآة للخارج - والوجه في عدم صبه على الخارج هو أنّ الاستصحاب حكم من الاحكام ، والحكم لا يمكن أن يتعلق بالخارج مباشرة ، فالوجوب مثلا لا يمكن أن يتعلق بالصلاة الخارجية والاّ يلزم عدم ثبوته قبل الإتيان بها - ومادام هو منصبا على العنوان فالفرق واضح ، حيث يقال إنّ العنوان الذي ينصب عليه الاستصحاب تارة يكون عنوانا تفصيليا ملحوظا بما هو حاك عن الخارج واخرى يكون عنوانا إجماليا ملحوظا بما هو حاك عن الخارج.

فإن كان عنوانا تفصيلا كعنوان الحدث الأكبر كان الاستصحاب استصحابا للجزئي ، وإن كان عنوانا إجماليا كعنوان الحدث فالاستصحاب استصحاب للكلّي ، فالاختلاف إذن بين استصحاب الكلّي واستصحاب الجزئي إنّما هو في العنوان الذي ينصب عليه الاستصحاب ، ومجرد كون الخارج المحكي بالعنوانين واحدا - فإنّ الخارج المحكي بالعنوان التفصيلي هو الفرد والخارج المحكي بالعنوان الإجمالي هو طبيعي الحدث ، وواضح انّ الطبيعي وفرده موجودان في الخارج بوجود واحد - غير مهم بعد ما كان العنوانان اللذان يتمركز عليهما الاستصحاب مختلفين.

وقد تقول متى يحق لنا إجراء الاستصحاب في العنوان التفصيلي ومتى يحق اجراؤه في العنوان الإجمالي؟ والجواب : انّ هذا يتبع الأثر الشرعي ، فإن كان مترتبا في لسان الأدلة على عنوان الحدث الكلّي الإجمالي جرى الاستصحاب في العنوان الإجمالي وكان الاستصحاب من قبيل استصحاب الكلّي ، وإن كان مترتبا على العنوان التفصيلي كعنوان الحدث الأكبر جرى الاستصحاب في الفرد دون الكلّي.

ص: 226

2 - ان التفرقة الصحيحة بين استصحاب الكلّي واستصحاب الجزئي هي ما تقدم بيد أنّه يفرق بينهما على ضوء رأي الرجل الهمداني في كيفية وجود الكلّي الطبيعي في الخارج ، فإنّ المنسوب إليه أن للكلّي وجودا في الخارج مستقلا عن وجود الافراد ، فللافراد في الخارج وجود وللكلّي وجود آخر يغاير وجود الأفراد (1).

وبناء على هذا يكون الفرق بين استصحاب الكلّي واستصحاب الفرد واضحا ، فإنّه في استصحاب الكلّي يكون مصب الاستصحاب وجود الكلّي المغاير لوجود الفرد بينما في استصحاب الجزئي يكون مصب الاستصحاب هو وجوب الفرد المغاير لوجود الكلّي.

والجواب عن هذه التفرقة واضح ، فإنّ الكلّي ليس له في الخارج وجود مغاير لوجود الفرد بل وجود الكلّي عين وجود الفرد.

هذا مضافا إلى أنّه حتى لو سلمنا اختلاف وجود الكلّي عن وجود الفرد فان التفرقة المذكورة باطلة ، اذ الاستصحاب لا ينصب على الخارج ليفرق بين استصحاب الكلّي واستصحاب الجزئي بلحاظ عالم الخارج.

3 - ما ذكره الشيخ العراقي قدس سره من أنّ كل فرد خارجي يتركب من شيئين :

الحصة من الطبيعي والمشخصات الخاصة ، فزيد مثلا مركب من الحصة ومن المشخصات الخاصة به. والاستصحاب إذا اجري في الحصة كان ذلك استصحاب الكلّي وإذا اجري في مجموع الوجود المركب من الحصة والمشخصات كان ذلك

ص: 227


1- هذا يدل على أنّ السيد الشهيد يختار الاحتمال الثاني في تفسير رأي الشيخ الهمداني.

استصحاب الفرد.

والجواب : إنّ الاستصحاب لا ينصب على الخارج - إذ الاستصحاب حكم ، والحكم لا ينصب على الخارج كما تقدم - ليحتاج إلى التفرقة بلحاظ عالم الخارج وإنّما ينصب على العنوان ، ومعه فاللازم التفرقة على ضوء العنوان فيقال إنّ الاستصحاب إذا كان منصبا على العنوان التفصيلي فهو استصحاب الجزئي وإن كان منصبا على العنوان الاجمالي فهو استصحاب الكلّي.

قوله ص 290 س 2 : بين شيئين خارجيين : كالحدث الأصغر والحدث الأكبر فإنهما شيئان وموضوعان خارجيان ، والجامع بينهما هو طبيعي الحدث.

قوله ص 290 س 2 : إذا كان له أثر شرعي : هذا قيد راجع إلى الجامع بين الشيئين الخارجيين.

قوله ص 290 س 12 : بحده : أي بما هو جامع في مقابل النظر إليه بما هو موجود ضمن هذا الفرد بالخصوص أو ضمن ذاك الفرد بالخصوص.

قوله ص 290 س 13 : ليس محطا للاستصحاب : لأنّ المفروض ترتّب الأثر على الجامع الكلّي وليس مترتبا على الفرد ليجري الاستصحاب في الفرد.

قوله ص 290 س 14 : وهذا الاعتراض إلخ : هذا جواب الإشكال.

قوله ص 292 س 4 : وبما ذكرناه إلخ : أي من قوله في السطر الأوّل انّ الاستصحاب حكم شرعي ولا بدّ وأن ينصب التعبد فيه على عنوان.

قوله ص 292 س 9 : فهو إنّما يتعلق به : أي بالواقع الخارجي.

قوله ص 292 س 10 : هو الواقع : أي هو الخارج الذي لو حظ من خلال العنوان التفصيلي المشير له.

ص: 228

قوله ص 292 س 17 : على دعوى التعدد في الواقع : أي تعدد وجود الكلّي ووجود الفرد وتغايرهما في مقام الخارج.

أقسام استصحاب الكلّي الثلاثة

قوله ص 293 س 11 : الجهة الثانية : في أقسام استصحاب الكلّي إلخ : ذكرنا سابقا أن الكلام في استصحاب الكلّي يقع فى جهتين تقدمت الاولى منهما وهذه هي الجهة الثانية. ويراد فيها تقسيم استصحاب الكلّي إلى أقسامه الثلاثة.

ونحن سابقا ذكرنا تقسيم استصحاب الكلّي إلى أقسامه الثلاثة. والسيد الشهيد هنا يذكر التقسيم المذكور بمنهجة اخرى ولكنها من حيث الروح لا تختلف عن المنهجة السابقة. أجل قد يضيف قدس سره بعض الزوائد التي لا تؤثر على الروح شيئا.

وحاصل ما ذكره : إنّ الشكّ في بقاء الكلّي له منشآن فتارة ينشا الشكّ في بقاء الكلّي من الشكّ في حدوث الفرد واخرى لا ينشأ من الشكّ في حدوث الفرد.

مثال الشكّ في البقاء الناشئ من الشكّ في حدوث الفرد : ما لو علمنا بوجود حيوان ذي خرطوم في الحجرة مردد بين البق والفيل ، فإنّه بعد مضي فترة يشكّ في بقاء الكلّي ، والشكّ في بقائه ناشئ من الشكّ في حدوث الفرد فحيث لا يعلم أنّ الفرد الحادث هو البق أو الفيل يشكّ في البقاء والاّ فلو لم يكن هناك شكّ بل كان يعلم بأنّ الحادث هو البق لجزم بارتفاع الكلّي ، ولو علم بإنّه الفيل لجزم ببقائه (1).

ص: 229


1- وفي الكتاب ذكر بدل مثال البق والفيل مثال من خرج منه سائل مردد بين البول والمني فإنّه بعد الوضوء يشكّ في بقاء الحدث فيستصحب بقاء الحدث الكلّي. ثم إنّ السيد الشهيد ذكر لكلّ واحدة من صورتي الشكّ مثالا واحدا ، ونحن ذكرنا مثالين لأنّه يساعد بعد ذلك على فهم الاقسام.

ومثال ثاني لذلك : ما لو علم بدخول زيد في المسجد ثم علم بخروجه وشكّ فى دخول عمرو مقارنا لخروج زيد ، فإنّ كلّي الإنسان في هذا المثال يشكّ في بقائه ، والشكّ المذكور ناشئ من الشكّ في حدوث عمرو فلإجل احتمال حدوث عمرو ودخوله في المسجد يشكّ في بقاء الكلّي.

ومثال الشكّ في الكلّي الذي لم ينشأ من الشكّ في حدوث الفرد : ما لو علم بدخول زيد في المسجد وشكّ بعد ذلك في خروجه ، فإنّه في هذا المثال يشكّ في بقاء كلّي الإنسان في المسجد وليس منشأ الشكّ الشكّ في حدوث الفرد ، إذ الفرد الحادث معلوم بل الشكّ في بقاء الكلّي ناشئ من الشكّ في ارتفاع الفرد وخروجه من المسجد.

ومثال ثاني لذلك : ما إذا علم بدخول شخص في المسجد يشكّ أنّه زيد أو عمرو ، وعلى تقدير كونه زيدا فمن المحتمل خروجه وعلى تقدير كونه عمروا فمن المحتمل خروجه أيضا. وفي هذه الحالة سوف يشكّ في بقاء كلّي الإنسان في المسجد ، وسبب الشكّ في البقاء ليس هو الشكّ في حدوث الفرد إذ حتى لو كان الفرد الحادث معلوما فمع ذلك يشكّ في بقاء الكلّي ، فلو علمنا بأنّ الداخل للمسجد هو زيد لشككنا في بقاء الكلّي ، ولو علمنا بأنّ الداخل هو عمرو لشككنا في بقاء الكلّي أيضا ، وهذا معناه أنّ الشكّ في بقاء الكلّي ليس مسببا عن حدوث الفرد وإنّما هو مسبب عن احتمال ارتفاع الفرد الداخل.

ص: 230

القسم الأوّل من استصحاب الكلي

وبعد اتضاح هذه الامثلة نقول : إن كان الشكّ في بقاء الكلّي غير ناشئ من الشكّ في حدوث الفرد فهذا هو القسم الأوّل من استصحاب الكلّي. وله شقان : -

أ - أن يعلم مثلا بدخول زيد في المسجد ويشكّ في خروجه ، ولإجل الشكّ في خروجه يشكّ في بقاء الكلّي فيستصحب - الكلّي - إذا كان له أثر شرعي.

ب - إن يعلم بأنّه قد دخل المسجد أمّا زيد - وعلى تقدير دخوله يشكّ في خروجه - أو عمرو ، وعلى تقدير دخوله يشكّ في خروجه أيضا ولإجل ذلك يشكّ في بقاء الكلّي فيستصحب.

وعلى تقدير كلا الشقين فالاستصحاب هو من قبيل القسم الاوّل من استصحاب الكلّي إذ في كليهما يعلم بحدوث الكلّي ضمن فرد ويشكّ في بقائه للشكّ في زوال الفرد.

وقد يستشكل في جريان استصحاب الكلّي في الشق الثاني بناء على رأي الشيخ العراقي في تفسير استصحاب الكلّي باستصحاب الحصة. ووجه الإشكال انّه في الشق الثاني نعلم بأنّ المسجد قد دخله أمّا زيد أو عمرو ، ومع هذا التردد فالحصة من الإنسان التي دخلت المسجد لا تكون متيقنة فلا يعلم إنّ الحصة الحادثة من الإنسان هل هي الحصة ضمن زيد أو الحصة ضمن عمرو. وهذا معناه أن الركن الأوّل من أركان الاستصحاب - وهو اليقين بالمستصحب - غير متوفر فلا يجري الاستصحاب. اللّهم الاّ إذا لم نعتبر في جريان الاستصحاب اليقين بالمستصحب واكتفينا بالحدوث فإنّ الاستصحاب يجري بناء على هذا إذ

ص: 231

يعلم بحدوث إحدى الحصتين واقعا (1).

وهذا الإشكال يختص بما لو فسرنا استصحاب الكلّي بتفسير الشيخ العراقي ، أمّا لو فسرنا الكلّي بما ذكره الشيخ الهمداني - وهو انّ للأنسان وجودا واحدا وسيعا مغايرا لوجود الافراد - فلا يرد الإشكال المذكور لأنّ ذلك الوجود الوسيع الواحد متيقن الحدوث ويشكّ في بقائه فيجري استصحابه دون أي إشكال.

وهكذا لا يرد الإشكال المذكور بناء على رأي السيد الشهيد في تفسير استصحاب الكلّي - وهو إجراء الاستصحاب في العنوان الاجمالي الملحوظ بما هو عين الخارج - فإنّ عنوان الإنسان عنوان واحد متيقن الحدوث ومشكوك البقاء فيجري استصحابه.

ثم إنه ينبغي الالتفات إلى أن هذا الإشكال لو تم فهو يتم في خصوص الشق الثاني بناء على تفسير الشيخ العراقي لاستصحاب الكلّي - وهو تفسيره باستصحاب الحصة - وأمّا في الشق الأوّل فلا إشكال حتى بناء على تفسيره ، إذ في الشق الأوّل تكون الحصة من الإنسان متعينة وهي الحصة الموجودة ضمن زيد فإنها معلومة الحدوث مشكوكة البقاء فيجري استصحابها فلا إشكال حتى على رأي الشيخ العراقي فضلا على رأي السيد الشهيد والهمداني.

الشكّ في بقاء الكلّي الناشئ من حدوث الفرد

هذا كله فيمّا إذا كان الشكّ في بقاء الكلّي غير ناشئ من الشكّ في حدوث الفرد.

ص: 232


1- يمكن أن يقال إن اليقين بالحصة متوفر فإنّ هناك حصة متعينة في الواقع - وإن كانت هي مرددة لدينا بين الحصة في زيد والحصة في عمرو - وتلك الحصة لنا يقين بحدوثها فيجري استصحابها.

وأمّا إذا كان ناشئا من الشكّ في حدوث الفرد فهو ذو حالتين : الحالة الاولى هي ما يسمى بالقسم الثاني من استصحاب الكلّي ، والحالة الثانية هي ما يسمى بالقسم الثالث من استصحاب الكلّي.

القسم الثاني من استصحاب الكلي

اشارة

امّا الحالة الاولى التي تسمى بالقسم الثاني من استصحاب الكلّي فهي أن يعلم علما إجماليا بحدوث امّا البق أو الفيل ، وبعد مضي فترة يشكّ في بقاء الكلي لأجل الشكّ في حدوث الفرد ، فإنّ الفرد الحادث إن كان هو البق فالكلّي مرتفع وإن كان هو الفيل فالكلّي باق.

والمشهور في هذا القسم من استصحاب الكلّي جريانه وهو الصحيح. ولكن هناك اعتراضات خمسة على جريانه نذكرها مع الإجابة عليها (1) : -

الاعتراض الأوّل

إنّه بناء على تفسير الشيخ العراقي للكلّي - وهو تفسيره بالحصة - لا يوجد يقين بالحصة الحادثة إذ لا يعلم أنّ الحصة الحادثة هي الحصة ضمن البق أو الحصة ضمن الفيل ، ومع عدم اليقين بالمستصحب يكون الركن الأوّل من أركان الاستصحاب مختلا فلا يجري (2) ، بل ويمكن أن يقال باختلال الركن الثاني أيضا وهو الشكّ في البقاء. والوجه في ذلك : انّ الحيوان الحادث إن كان هو الفيل فهو

ص: 233


1- وفي الرسائل والكفاية ذكر اعتراضان من هذه الخمسة.
2- تقدم فيما سبق الإشكال في ذلك وأنّ الحصة الحادثة في عالم الواقع يمكن استصحابها.

باق جزما ولا يوجد شكّ في ارتفاعه وإن كان هو البق فيجزم بارتفاعه ولا يوجد شكّ في بقائه.

إذن استصحاب الكلّي من القسم الثاني لا يجري بناء على تفسير الكلّي بالحصة لاختلال ركنين من أركان الاستصحاب فيه وهما اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء.

ويرده : إنّ الاعتراض المذكور مبني على تفسير الكلّي بالحصة ولا يتم بناء على تفسير السيد الشهيد له باستصحاب العنوان الإجمالي الملحوظ بما هو عين الخارج ، فإنّ العنوان الإجمالي كعنوان الحيوان ذي الخرطوم عنوان واحد يعلم بحدوثه ويشكّ في بقائه.

الاعتراض الثاني

إن الركن الثاني من أركان الاستصحاب - وهو الشكّ في البقاء - غير متوفر في استصحاب الكلّي من القسم الثاني ، إذ الشكّ لا يكون شكا في البقاء إلاّ إذا كان متعلقا بعين ما تعلق به اليقين ، وفي استصحاب الكلّي من القسم الثاني لا يكون الشكّ متعلقا بعين ما تعلق به اليقين إذ اليقين الثابت هو يقين إجمالي متعلق امّا بوجود البق أو بوجود الفيل ، أي هو متعلق بالواقع المردد لأنّ العلم الاجمالي يتعلق بالواقع المردد بينما الشكّ ليس متعلقا بذلك فليس لنا شكّ متعلق ببقاء أمّا البق أو الفيل إذ البق نجزم بعدم بقائه ولا نشكّ في بقائه ، ولئن كان لنا شكّ في البقاء فهو متعلق بخصوص الفيل إذ الفيل وإن كنا نجزم ببقائه على تقدير حدوثه إلاّ إنّا حيث نشكّ في أصل حدوثه فمن الصواب أن نقول لنا شكّ في بقائه باعتبار الشكّ

ص: 234

في أصل حدوثه.

ويرده : إنّ اليقين في مقامنا وإن كان يقينا إجماليا إلاّ إنّا لا نسلم أنّ العلم الإجمالي يتعلق بالواقع المردد وإنما هو يتعلق بالجامع ، فالجامع بين الفيل والبق وهو عنوان الحيوان ذي الخرطوم أو عنوان أحدهما معلوم حدوثا مشكوك بقاء.

أمّا العلم بحدوثه فواضح. وأمّا الشكّ في بقائه فلعدم العلم بكيفية حدوثه وانّه حدث ضمن البق حتى يكون مرتفعا أو ضمن الفيل حتى يكون باقيا.

الاعتراض الثالث :

إنّ الكلّي لا يتحقق إلاّ ضمن الفيل أو ضمن البق. والبق حيث لا يحتمل بقائه فلا معنى لاستصحاب الكلّي المتحقق ضمنه ، والفيل حيث لا يحتمل ارتفاعه فلا معنى أيضا لاستصحاب الكلّي المتحقق ضمنه فلم يبق إلاّ أن تستصحب الصورة الذهنية للكلّي بما هي صورة ذهنية ، وهذا باطل فإنّ الصورة الذهنية بما هي صورة ذهنية ليست محطا للآثار لتستصحب.

ويرده : إنّ الاستصحاب كما تقدم يجري في العنوان بما هو مرآة للخارج ، وعنوان البق وعنوان الفيل اللذان هما عنوانان تفصيليان وإن كان لا يمكن جريان الاستصحاب فيهما لأنّ العنوان الأوّل يعلم بعدم بقائه والثاني يعلم بعدم ارتفاعه إلاّ أنّ عنوان الحيوان ذي الخرطوم الذي هو عنوان إجمالي يشكّ في بقائه فيجري فيه الاستصحاب.

أجل لو فسّرنا استصحاب الكلّي بما اختاره الشيخ العراقي - وهو تفسيره باستصحاب الحصة - لكان جريان استصحاب الكلّي في المقام محلا للإشكال إذ

ص: 235

يصير من قبيل استصحاب الفرد المردد ، لان الحصة المعلومة سابقا والتي يراد استصحابها مرددة بين كونها الحصة الثابتة ضمن البق أو الثابتة ضمن الفيل.

الاعتراض الرابع

إنّ استصحاب الكلّي حتى ولو فرض تواجد جميع أركان الاستصحاب فيه - كاليقين السابق والشكّ اللاحق - فمع ذلك لا يجري من جهة وجود أصل حاكم عليه ، فإنّ الشكّ في بقاء الكلّي ناشئ من احتمال حدوث الفيل إذ لإجل احتمال حدوث الفيل نحتمل بقاء الحيوان ذي الخرطوم وإلاّ فبقطع النظر عن ذلك لا يحصل الشكّ في بقاء الحيوان ذي الخرطوم ، وعليه فالشكّ في بقاء الكلّي شكّ مسببي بينما الشكّ في حدوث الفيل شكّ سببي ، والأصل الجاري في الشكّ السببي يسمى بالأصل السببي ، وهو حاكم على الأصل الجاري في الشكّ المسببي المعبر عنه بالأصل المسببي. وفي المقام حيث نشكّ في حدوث الفيل فمقتضى الأصل عدم حدوثه (1) ، وهذا الأصل حاكم على استحصاب بقاء الحيوان ذي الخرطوم ، إذ بأصالة عدم حدوث الفيل يثبت عدم حدوث الفيل ويحصل العلم تعبدا بعدم بقاء الحيوان ذي الخرطوم ، ومعه لا يجري استصحاب بقاء الحيوان ذي الخرطوم لارتفاع موضوعه وهو الشكّ في البقاء وتبدله إلى العلم بارتفاعه.

ويرده : انّ الأصل السببي إنّما يكون حاكما على الأصل المسببي فيما إذا كانت السببية سببية شرعية لا عقلية وإلاّ كان من قبيل الأصل المثبت ، وفي المقام

ص: 236


1- المراد من أصل عدم حدوث الفيل استصحاب عدم حدوثه.

السببية عقلية إذ لا توجد آية أو رواية تقول إذا لم يكن الفيل حادثا فالحيوان ذو الخرطوم لا يكون باقيا وإنّما ذلك ثابت من باب الملازمة العقلية.

الاعتراض الخامس

إنّ استصحاب بقاء الكلّي لو كان قابلا للجريان في نفسه - لتوفر جميع الاركان فيه من اليقين السابق والشكّ اللاحق - فمع ذلك لا يجري من جهة وجود معارض له ، فإنّ عدم بقاء الكلّي يتحقق بانتفاء كلا فرديه ، وفي المقام كلا الفردين يمكن إثبات انتفائهما ، فإنّ بقاء البق منتف بالوجدان ، وبقاء الفيل منتف باستصحاب عدم حدوثه ، وبضم ذاك الوجدان إلى الأصل يثبت انتفاء كلا فردي الكلّي وبالتالي يثبت انتفاء نفس الكلّي. وعليه فاستصحاب عدم حدوث الفيل المنضم إلى الوجدان معارض لاستصحاب بقاء الكلّي.

وبكلمة مختصرة : إنّ استصحاب بقاء الكلّي لا يجري لمعارضته باستصحاب عدم حدوث الفيل المنضم إلى الوجدان.

ويرده : إنّ استصحاب عدم حدوث الفيل المنضم إلى الوجدان لا يثبت إنتفاء بقاء الكلّي إلاّ بالملازمة العقلية والأصل المثبت ، فإنّه لا توجد آية أو رواية تقول إذا كان الفيل لم يحدث وكان البق منتفيا بالوجدان فالحيوان ذو الخرطوم لا يكون باقيا وإنّما ذلك ثابت بالملازمة العقلية.

وإنّ شئت قلت : إنّا لو سألنا استصحاب عدم حدوث الفيل وقلنا له هل تقول بعد ضم الوجدان إليك إنّ الكلّي ليس بثابت شرعا لأجاب كلا ، ومادام استصحاب عدم حدوث الفيل لا يقول بعدم بقاء الكلّي فلا مانع من استصحاب

ص: 237

بقاء الكلّي لعدم وجود أصل ينفي بقائه شرعا. وعليه فاستصحاب بقاء الكلّي يجري بدون وجود أصل معارض له.

أجل لو فرض أنّ الأثر لم يترتب شرعا على بقاء الكلّي وإنّما كان مترتبا على بقاء الفيل وبقاء البق - كما لو فرض أنّ المكلّف نذر أنّ الفيل لو كان باقيا فاتصدق بدينارين ولو كان البق باقيا فأتصدق بدينار ولم ينذر أن الحيوان ذا الخرطوم لو كان باقيا فأتصدق - ففي مثل هذه الحالة لا يجري استصحاب بقاء الكلّي لعدم ترتب أثر على بقائه بل يجري الأصل لنفي الفردين فيقال نحن نشكّ في بقاء الفيل والأصل عدم بقائه والبق غير باق جزما فلا يجب التصدق لا بالدينارين ولا بالدينار.

ويمكن أن نذكر الرد على هذا الاعتراض بمنهجة اخرى فنقول : إنّ بقاء الكلّي امّا أن يكون له أثر أو لا يكون له أثر بل الأثر مترتب على الافراد.

فعلى الأوّل يجري استصحاب بقاء الكلّي ولا يعارضه استصحاب عدم حدوث الفيل المنضم إلى الوجدان إلاّ من باب الأصل المثبت.

وعلى الثاني لا يكون استصحاب بقاء الكلّي قابلا للجريان في نفسه - لعدم ترتب أثر عليه - حتى يعارض باستصحاب عدم حدوث الفيل. هذا كله في الحالة الاولى من القسم الثاني.

القسم الثالث من استصحاب الكلّي

وأمّا الحالة الثانية من القسم الثاني فهي تتمثل في استصحاب الكلّي من القسم الثالث كما لو علم مثلا بدخول زيد في المسجد وعلم بخروجه أيضا وشكّ

ص: 238

شكا بدويا (1) في دخول عمرو امّا مقارنا لخروج زيد أو قبل خروجه (2).

والمشهور بين الاصوليين عدم جريان الاستصحاب المذكور لأنّ طبيعي الإنسان وإن كان موجودا في الخارج إلاّ أنّه موجود بالحصص وواضح أن الحصة من الإنسان الموجودة ضمن زيد يعلم بارتفاعها فلا يمكن جريان استصحابها ، والحصة من الانسان الموجودة ضمن عمرو يشك في اصل حدوثها فلا ايمكن جريان استصحابها أيضا.

أجل لو أخذنا برأي الرجل الهمداني القائل بأنّ الطبيعي موجود بوجود واحد - امّا مغاير لوجود أفراده أو متحد مع أفراده - فيمكن جريان استصحابه لأنّه بدخول زيد في المسجد يحصل العلم بوجود الكلّي في المسجد فإذا خرج زيد واحتمل دخول عمرو فسوف يحتمل ان ذلك الوجود باق في المسجد فيجري استصحابه.

ان قلت : إنّه بناء على رأي السيد الشهيد القائل بأن الاستصحاب يجري في العنوان فعنوان الإنسان حيث إنّه عنوان واحد مهما اختلفت الأفراد فاستصحاب بقاء كلّي الإنسان في المسجد يكون ممكنا ووجيها.

قلت : إنّ الاستصحاب وإن كان يجري في العنوان ولكنّه لا يجري فيه بما هو عنوان وإنّما يجري فيه بما هو حاك عن الخارج ، ومن الواضح انّ عنوان الإنسان بما هو حاك عن الحصة الخارجية من الإنسان الثابتة ضمن زيد مرتفع جزما ،

ص: 239


1- وهذا بخلافه في القسم الثاني من استصحاب الكلّي فإنّه كان يعلم إجمالا بحدوث امّا الفيل أو البق.
2- المراد من القبلية ما يشمل حالة احتمال دخول عمرو مقارنا لدخول زيد.

وبما هو حاك عن حصة الإنسان ضمن عمرو مشكوك الحدوث ، وليس العنوان واحدا ليقال إنّه معلوم الحدوث مشكوك البقاء.

وهذا كلّه بخلافه في استصحاب الكلّي من القسم الثاني فإنّه لا توجد حصة معلومة الارتفاع وحصة اخرى مشكوكة الحدوث بل هناك حصة واحدة يعلم يحدوثها ويشكّ في ارتفاعها إذ لعلّ الحصة الحادثة هي الحصة ضمن الفيل التي تصلح للبقاء.

قوله ص 295 س 10 : المسبب : بكسر الباء الاولى.

قوله ص 295 س 11 : كما في المثال المتقدم : أي ص 293 س 17 بقوله ومثال الثاني إلخ.

قوله ص 296 س 3 : بل لعدم الشكّ إلخ : المناسب : بل ولعدم الشكّ في البقاء أيضا.

قوله ص 296 س 5 : وقد تقدم إلخ : هذا مناقشة في الاعتراض المذكور.

قوله ص 296 س 11 : وهذا إنّما يتواجد : أي الشكّ في الواقع على ترديده.

قوله ص 296 س 12 : على كل تقدير : أي على تقدير الفرد القصير والفرد الطويل.

قوله ص 297 س 7 : تبعا لأخذه إلخ : أي لإجل أخذ العنوان موضوعا للأثر بما هو حاك عن الواقع.

قوله ص 297 س 11 : نظرا إلى أن إلخ : الظاهر البدوي للعبارة أنّه تعليل لكون المقام من باب استصحاب الفرد المردد ولكنه بعيد ، فإنّ كون المقام من استصحاب الفرد المردد بناء على تفسير الكلّي بالحصة واضح لا يحتاج إلى

ص: 240

التعليل المذكور بل ولا يناسبه.

ومن المحتمل أن يكون تعليلا لقوله أمكن المنع عن جريانه في المقام ، أي أنّ استصحاب الفرد المردد لا يجري في المقام لأنّ أحد فرديه وإن كان مشكوك البقاء - وهو الطويل الأمد (1). إلاّ أنّ الثاني مقطوع الانتفاء.

قوله ص 297 س 17 : عدم الأوّل : أي عدم حدوث الفرد الطويل. والمراد من الثاني : الكلّي.

قوله ص 298 س 9 : والتحقيق إلخ : هذا رد للإعتراض الخامس.

قوله ص 298 س 9 : بما هو وجود له : أي بما هو وجود للكلّي وليس بما هو وجود له في هذا الفرد أو ذاك الفرد.

قوله ص 298 س 11 : ضمن حصة خاصة : المراد من الحصة هنا وفيما بعد الفرد.

قوله ص 298 س 12 : إلاّ بما هو وجود لهذه الحصة : وبعبارة أوضح يكون مترتبا على وجود الفرد ، فإنّ وجود الكلّي لهذه الحصة أو لتلك ليس إلاّ عبارة اخرى عن الفرد.

قوله ص 298 س 16 : صرف الوجود : صرف وجود الشيء عبارة عن أقل ما يمكن أن يصدق عليه وجوده ، فصرف وجود الماء عبارة عن أقل ما يمكن أن يصدق عليه الماء كالقطرة الواحدة. وصرف وجود الكلّي في المقام عبارة عن أقل ما يمكن أن يصدق معه الكلّي وهو تحققه ضمن فرد واحد مهما كان.

ص: 241


1- الفيل وإن كان مقطوع البقاء على تقدير حدوثه إلاّ أنّه باعتبار أنّ أصل حدوثه مشكوك فمن الصواب أن يقال إنّ بقائه مشكوك

قوله ص 299 س 2 : لا ينقح موضوع الأثر : إذ موضوع الأثر هو الفرد ، وباستصحاب بقاء الكلّي لا يثبت الفرد. والمراد من قوله « ينقح » : يثبت.

قوله ص 299 س 16 : فلا بدّ أن يكون : أي العنوان الكلّي.

قوله ص 299 س 17 : ومرآة للوجود الخارجي : عطف تفسير على سابقه.

قوله ص 300 س 1 : إذ ليس هناك واقع خارجي إلخ : إلاّ على رأي الرجل الهمداني.

قوله ص 300 س 4 : خلافا للحالة السابقة : أي استصحاب الكلّي من القسم الثاني المشار له بعنوان الحالة الاولى للشق الأوّل.

قوله ص 300 س 5 : من هذا القبيل : أي يمكن الإشارة له ونقول هو متيقن الحدوث مشكوك البقاء.

ص: 242

الاستصحاب في الموضوعات المركّبة

اشارة

ص: 243

ص: 244

الاستصحاب في الموضوعات المركبة

اشارة

قوله ص 301 س 1 : إذا كان الموضوع للحكم الشرعي الخ : تقدّم ص 279 من الحلقة انّ هناك عدّة تطبيقات ومصاديق للاستصحاب وقع الاختلاف في حجّيتها بين الاصوليين. ورابع تلك المصاديق هو الاستصحاب في الموضوعات المركبة.

وتوضيح المقصود : انّ المستصحب تارة يكون أمرا واحدا بسيطا لا يتركّب من جزئين ، واخرى يكون مركّبا.

مثال البسيط : استصحاب عدالة زيد ، فإنّ العدالة شيء واحد.

مثال المركب : انفعال الماء - أي تنجّس الماء - فإنّه حكم منصب على الماء بشرطين : ملاقاته للنجاسة وعدم كونه كرا ، فموضوع الانفعال إذن مركّب من جزئين : الملاقاة وعدم الكرية.

امّا صورة بساطة الموضوع فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيها ، فزيد إذا كان عادلا فيما سبق جرى استصحاب بقائه على العدالة ، وإذا لم يكن عادلا جرى ايضا استصحاب بقائه على عدم العدالة. وهذا ممّا لا إشكال فيه ولم يقع بين الاصوليين اختلاف من ناحيته.

وأمّا صورة تركّب الموضوع فقد وقع فيها الاختلاف بين الاصوليين ، فإذا كان لدينا ماء وأصابته نجاسة وشككنا في كرّيته فهل يمكن استصحاب عدم

ص: 245

كريته ويضمّ هذا الاستصحاب الى الوجدان ليلتئم بذلك تمام الموضوع ويحكم بالانفعال؟ إنّ هذه الصورة هي محل الكلام.

حالتان لتركّب الموضوع
اشارة

ولصورة تركّب الموضوع حالتان : -

1 - أن لا يكون الموضوع ذات الملاقاة وذات عدم الكرية بل هو الملاقاة المقيّدة بعدم الكرية أو عنوان اقتران الجزئين أو عنوان مجموع الجزئين اللذين من العناوين الانتزاعية.

2 - أن يكون الموضوع ذات الجزئين بمعنى أنّه في الزمان الواحد إذا تحقّقت ذات الملاقاة وذات عدم الكرية كفى ذلك في الحكم بانفعال الماء بلا حاجة إلى إثبات تقيّد الملاقاة بعدم الكرية أو عنوان اقتران الجزئين أو عنوان المجموع.

الحالة الاولى

امّا في الحالة الاولى التي لا يكون العنوان فيها منصبا على ذوات الأجزاء بل على عنوان تقيد الملاقاة بعدم الكرية أو على عنوان اقتران الجزئين أو عنوان مجموع الجزئين فاستصحاب عدم الكرية لا يمكن إجراؤه وضمّه إلى الوجدان لأنّ المقصود من الاستصحاب المذكور : -

إن كان هو مجرّد إثبات عدم الكرية وضمّه إلى الملاقاة بدون نظر إلى إثبات عنوان التقيد والاقتران والمجموع فهذا من الواضح عدم كفايته لأنّ المفروض انّ الانفعال لم ينصب على ذوات الأجزاء بل على عنوان التقيد واخويه.

ص: 246

وإن كان المقصود إثبات التقيد واخويه بمعنى ان نقول انّ الاستصحاب إذا جرى لإثبات عدم الكرية فبضمّه إلى الوجدان يثبت الاقتران والتقيّد وبعد ذلك يثبت الحكم فجوابه انّ هذا لا يتم إلاّ بناء على حجّية الأصل المثبت والملازمة العقلية إذ لم توجد آية أو رواية تقول إذا لم يكن الماء كرّا ولاقته نجاسة بالوجدان فقد تحقّق عنوان مجموع الجزئين أو اقتران أحدهما بالآخر أو تقيّد الملاقاة بعدم الكرية وإنّما ذلك ثابت بسبب الملازمة العقلية.

ولئن كان الاستصحاب قابلا للجريان في هذه الحالة فهو يجري لنفي عنوان التقيّد والاقتران والمجموع بأن يقال انّه قبل إصابة النجاسة للماء لم يكن عنوان تقيّد الملاقاة بعدم الكرية متحقّقا فيجري استصحاب عدم تحقّقه ، وهكذا وبنفس الطريقة يجري استصحاب عدم تحقّق عنوان المجموع أو عنوان الاقتران. وبذلك ينفى موضوع النجاسة ويحكم بالطهارة لقاعدة الطهارة.

الحالة الثانية
اشارة

وامّا في الحالة الثانية التي يكون الحكم فيها منصبا على ذوات الأجزاء - وهي الحالة التي وقعت محلا للكلام بين الاصوليين وإلاّ فالحالة الاولى لا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيها في الجزء - فالمعروف بين الاصوليين انّ الاستصحاب يجري في بعض الأجزاء فإذا كانت الملاقاة معلومة بالوجدان وشكّ في عدم الكرية فلا محذور في جريان استصحاب عدم الكرية إن كانت الحالة السابقة هي عدم الكرية وبذلك يحكم بالانفعال ، كما ولا بأس باستصحاب الكرية إن كانت الحالة السابقة هي الكرية وبذلك يحكم بعدم الانفعال.

ص: 247

وبكلمة اخرى : انّ الاستصحاب في بعض الأجزاء يجري بشرطين : -

1 - أن يكون الحكم منصبا على ذوات الأجزاء دون عنوان التقيّد أو الاقتران أو المجموع.

2 - أن يكون للجزء حالة سابقة متيقّنة يشكّ في بقائها.

هذا - أي جريان الاستصحاب في جزء الموضوع في الحالة الثانية - بيان لحكم الحالة الثانية على سبيل الإجمال. وأمّا على سبيل التفصيل فالكلام ينبغي أن يقع في نقاط ثلاث : -

1 - هل الاستصحاب يقبل الجريان في بعض الأجزاء فيما إذا كان الحكم منصبا على ذوات الأجزاء وكان للجزء حالة سابقة متيقّنة يشكّ في بقائها. وهذا تحقيق للحال في الكبرى ، أي كبرى جريان الاستصحاب في بعض الأجزاء فيما إذا توفّر الشرطان السابقان.

2 - متى يكون الحكم منصبّا على ذوات الأجزاء دون عنوان التقيّد والمجموع والاقتران. وهذا تحقيق للحال في صغرى الشرط الأوّل.

3 - متى يكون الجزء متيقّنا سابقا مشكوكا لاحقا. وهذا تحقيق للحال في صغرى الشرط الثاني.

النقطة الاولى

امّا بالنسبة إلى قابلية الاستصحاب للجريان في جزء الموضوع فالمعروف بين الاصوليين ثبوتها وعدم المحذور في جريان الاستصحاب في جزء الموضوع

ص: 248

فيما إذا كان الجزء الآخر محرزا (1).

والوجه في ذلك : انّ شرط جريان الاستصحاب كونه قابلا للتنجيز ، وفي المقام استصحاب عدم الكرية مثلا قابل لتنجيز وجوب الاجتناب عن الماء فيما إذا كانت الملاقاة محرزة ، فإنّ الملاقاة إذا كانت محرزة فباستصحاب عدم الكرية يتنجز وجوب الاجتناب عن الماء.

هذا ولكن قد يعترض على جريان الاستصحاب في جزء الموضوع بأنّ مفاد حديث « لا تنقض اليقين بالشكّ » بناء على مسلك جعل الحكم المماثل هو جعل حكم ثان ظاهري مماثل للحكم السابق ، وفي مقامنا حيث انّ عدم الكرية ليس له حكم - إذ الحكم وهو الانفعال منصبّ على كلا الجزئين دون كل واحد منهما - فلا يمكن بإجراء الاستصحاب فيه جعل مماثله ، وما له حكم - وهو كلا الجزئين - لا يراد إجراء الاستصحاب فيه (2).

ويردّه : إنّ الاعتراض المذكور مبني على أنّ مفاد دليل الاستصحاب جعل الحكم المماثل ، وامّا بناء على إنكار هذا المبنى - كما هو الصحيح - والقول بأنّ شرط جريان الاستصحاب قابليته للتنجيز والتعذير فلا محذور في جريان

ص: 249


1- المراد من إحراز الجزء الثاني ليس هو خصوص إحرازه بالوجدان بل الأعم من إحرازه بالوجدان أو بالتعبّد وذلك بجريان الاستصحاب فيه فيما إذا كان قابلا لجريان الاستصحاب فيه.
2- وهذا الإشكال كما نراه مبني على مسلك جعل الحكم المماثل ولكن في التقرير ج 6 ص 304 بيّن الإشكال بشكل آخر لا يختص بمسلك جعل الحكم المماثل فقد ورد فيه : انّ شرط جريان الاستصحاب أن يكون منجزا ، والمنجزية حيث لا تثبت إلاّ للحكم الفعلي إذ الحكم الفعلي هو القابل للتنجز فالاستصحاب لا يجري في جزء الموضوع لأنّه ليس له حكم فعلي ليقبل التنجز بالاستصحاب وإنّما الحكم الفعلي ثابت لكلا الجزئين لا لأحدهما.

الاستصحاب في جزء الموضوع ، إذ التنجز يحصل بالعلم بالكبرى والعلم بالصغرى ، وكلاهما ثابت.

أمّا العلم بالكبرى - أي بالجعل والتشريع - فلأنّ كل مكلّف له أدنى اطلاع على الأحكام الشرعية يعرف انّ الماء إذا كان قليلا ولاقته نجاسة تنجّس.

وامّا العلم بالصغرى - أي العلم بالموضوع وإنّ الملاقاة وعدم الكرية متحقّقان - فلأنّ الملاقاة محرزة بالوجدان حسب الفرض ، وعدم الكرية بجريان الاستصحاب فيه يصير معلوما بالتعبّد.

وبكلمة اخرى : انّه بعد العلم بتشريع تنجس الماء عند ملاقاة النجاسة له وعدم كرّيته وبعد افتراض إحراز ملاقاة النجاسة له فاستصحاب عدم الكرية يكون جاريا إذ به يثبت تنجز وجوب الاجتناب عن الماء ، ولا يتوقّف جريان الاستصحاب على أن يكون لعدم الكرية حكم ليجعل مماثله.

أجل بناء على أنّ مفاد دليل الاستصحاب جعل الحكم المماثل فجريان الاستصحاب في عدم الكرية مشكل لعدم ثبوت حكم لعدم الكرية ليجعل مماثله بالاستصحاب (1).

هذا ولكن توجد ثلاثة أجوبة لدفع الإشكال على المبنى المذكور - مسلك جعل الحكم المماثل - كلّها لا يخلو من تأمّل. وهي :

ص: 250


1- ممّن استشكل في جريان الاستصحاب في أحد جزئي المركب المحقّق الايرواني في رسالته الصغيرة « الذهب المسكوك في حكم اللباس المشكوك » ص 12 لبيان آخر غير ما ذكرناه هنا. وهو ممّن يختار أيضا انّ مفاد دليل الاستصحاب جعل الحكم المماثل فراجع رسالته المذكورة ص ٣٦.

1 - انّ الملاقاة إذا كانت محرزة بالوجدان فحيث انّ ثبوت تنجس الماء حينئذ لا يحتاج إلاّ إلى ثبوت عدم الكرية فكأنّ التنجس يصير حكما لعدم الكرية وليس حكما لكلا الجزئين ، ومعه فلا محذور في جريان الاستصحاب في عدم الكرية لأنّ له - عدم الكرية - حكما على ضوء هذا.

ويردّه : ان عهدة هذا الكلام على مدعيه فنحن لا نسلّم انّ تحقّق أحد الجزئين يكون موجبا لصيرورة الحكم الثابت لكلا الجزئين حكما للجزء الثاني ، فإنّ الجزء لا ينسلخ عن كونه جزء للموضوع بتحقّقه.

2 - انّ موضوع الحكم إذا كان مركّبا من جزئين فالحكم المنصبّ عليهما ينحل إلى حكمين بعدد الجزئين فالجزء الأوّل يثبت له الحكم بالانفعال والجزء الثاني يثبت له الحكم بالانفعال أيضا. وهذا كما إذا قيل لا تشرب الخمر ، فكما أنّه ينحلّ إلى تحريمات متعدّدة بعدد أفراد الموضوع كذلك في المقام ينحل الحكم إلى أحكام متعدّدة بعدد الأجزاء.

وإذا كان لعدم الكرية حكم انحلالي فبالاستصحاب يثبت الحكم المماثل له.

ويردّه : انّ الحكم الصادر من الحاكم ما دام واحدا منصبّا على كلا الجزئين فلا معنى لانحلاله وثبوته لكل واحد من الجزئين وإلاّ يلزم خلف الفرض إذ الفرض ثبوت الحكم لكلا الجزئين لا لكل واحد منهما.

3 - انّ الحكم بالانفعال إذا كان منصبّا على كلا الجزئين فكل جزء سوف يثبت له الحكم بالانفعال ولكن مشروطا بتحقّق الجزء الآخر. فالحكم بالانفعال ثابت للملاقاة بشرط تحقّق عدم الكرية ، وثابت أيضا لعدم الكرية بشرط تحقّق الملاقاة. ومعه فيمكن جريان الاستصحاب في عدم الكرية حتى بناء على مسلك

ص: 251

جعل الحكم المماثل بعد ثبوت الحكم المشروط لكل واحد من الجزئين.

ويردّه : انّ ثبوت الحكم المشروط لكل واحد من الجزئين بشرط تحقّق الجزء الآخر وإن كان أمرا مسلما إلاّ أنّه ليس حكما مجعولا من قبل الشارع وإنّما هو أمر انتزاعي ينتزعه العقل من ثبوت الحكم لكلا الجزئين ، فإنّ الحكم إذا كان ثابتا لكلا الجزئين فالعقل ينتزع ثبوت الحكم لكل واحد من الجزئين بشرط تحقّق الجزء الثاني. وهذا نظير ما تقدّم في حرمه العصير العنبي عند الغليان ، فكما انّ حرمة العصير العنبي بشرط تحقّق الغليان ليست حرمة مجعولة من قبل الشارع ليجري استصحابها إلى حالة الزبيبية وإنّما هي أمر انتزاعي ينتزع من ثبوت الحرمة للعصير المغلي كذلك في المقام لا يجري الاستصحاب في عدم الكرية لأنّ الحكم المشروط الثابت له ليس حكما مجعولا وإنّما هو أمر انتزاعي.

قوله ص 301 س 1 : وتمّت فيه أركان الاستصحاب : بأن كان متيقّنا سابقا مشكوك البقاء لا حقا.

قوله ص 301 س 10 : مباشرة : أي بلا إثبات العنوان الانتزاعي.

قوله ص 301 س 11 : المتحصّل : أي الحاصل من حصول كلا الجزئين.

قوله ص 301 س 12 : بإثبات : أي بعد إثبات.

قوله ص 302 س 6 : ثبوتا : كاستصحاب بقاء عدم الكرية فيما إذا كانت الحالة السابقة هي عدم الكرية.

قوله ص 302 س 6 : أو عدما : كاستصحاب عدم عدم الكرية - أي الكرية - فيما إذا كانت الحالة السابقة هي الكرية.

قوله ص 302 س 9 : وعناصره : عطف تفسير على أجزاء الموضوع.

ص: 252

قوله ص 302 س 11 : هذا على سبيل الإجمال : أي ما ذكرناه في الحالة الثانية من جريان الاستصحاب.

قوله ص 303 س 3 : أو بتعبّد : فيما إذا كان الجزء الأوّل محرزا بالاستصحاب أيضا. ويمكن افتراض ذلك في بعض الموارد.

قوله ص 303 س 11 : في دليل الاستصحاب : متعلّق بقوله : « بجعل ».

قوله ص 303 س 13 : كما عرفت سابقا : أي ص 284.

قوله ص 303 س 14 : ذا أثر عملي : حال من استصحاب الجزء. أي انّ الاستصحاب حال كونه ذا أثر عملي - وهو تنجيز الحكم - لا يحتاج جعله إلى التعبّد بالحكم المماثل.

ولعلّ الإتيان بكلمة « ذا » مجرورة - أي ذي أثر عملي - أولى كما في التقرير ج 6 ص 304 لتكون وصفا للاستصحاب.

قوله ص 303 س 16 : الواصلة كبراه : فإن كبرى الحكم واصلة إذ الكل يعرف انّ الماء إذا لم يكن كرا ولاقته نجاسة تنجّس.

قوله ص 303 س 17 : لأنّ إحراز الخ : هذه الجملة إلى قوله : « المترتب عليه » تتناسب والبيان الثاني للاعتراض المذكور في التقرير والذي نقلناه في الهامش ، ولا يحتاج إليها على البيان المذكور في الكتاب.

قوله ص 304 س 1 : المترتّب عليه : أي على الموضوع.

قوله ص 304 س 1 : وبهذا نجيب : أي هذا هو الجواب عن الاعتراض المذكور.

قوله ص 304 س 2 : في دليل الاستصحاب : متعلّق بجعل.

ص: 253

قوله ص 304 س 7 : ظاهرا : متعلّق بقوله : « ويثبت ».

قوله ص 304 س 9 : لأنّ وجود الشرط للحكم الخ : فإنّ وجود الجزء الأوّل شرط لتحقّق الحكم ، وبتحقّقه الوجداني لا تزول شرطيّته لتحقّق الحكم.

النقطة الثانية
اشارة

قوله ص 305 س 10 : وامّا النقطة الثانية الخ : وبعد الفراغ من النقطة الاولى يقع الكلام في النقطة الثانية وهي أنّه متى يكون الحكم مترتّبا على ذوات الأجزاء لا على العنوان الانتزاعي. وفي هذا المجال ننقل كلاما للشيخ النائيني حاصله انّ الموضوع لكل حكم لا يخلو من إحدى حالات ثلاث : -

1 - أن يكون مركّبا من العرض ومحلّه ، كما لو قيل أكرم الإنسان العالم ، فإنّ الحكم بوجوب الإكرام منصبّ على الإنسان والعالم ، أي على العالمية التي هي عرض وعلى محلّها وهو الإنسان.

2 - أن يكون مركّبا من عدم العرض ومحلّه ، كما لو قيل تتحيض إلى الخمسين المرأة غير القرشية ، فإنّ مصبّ الحكم بالتحيّض إلى الخمسين هو المرأة وعدم القرشية ، أي المحلّ وهو المرأة وعدم العرض. وحيث انّ العرض هو القرشية فعدم العرض هو عدم القرشية.

3 - أن يكون مركّبا من عرضين ثابتين امّا لمحل واحد أو لمحلّين.

مثال العرضين الثابتين لمحل واحد : يجب تقليد المجتهد العادل ، فإنّ موضوع وجوب التقليد هو الاجتهاد والعدالة ، وهما عرضان لمرجع التقليد الذي هو محل واحد للاجتهاد والعدالة معا.

ص: 254

ومثال العرضين الثابتين لمحلّين : الحكم بإرث الولد من والده بشرط موت الوالد وكون الولد مسلما حين موت الوالد ، فإنّ موضوع الحكم بالإرث مركب من موت الوالد واسلام الولد ، والموت عرض محلّه الوالد ، والإسلام عرض محلّه الولد ، فالموت والإسلام عرضان في محلّين.

وبعد اتّضاح هذه الحالات الثلاث لموضوع الحكم ذكر الشيخ النائيني قدس سره .

الحالة الاولى

انّه في الحالة الاولى التي يكون الموضوع فيها مركّبا من العرض ومحلّه لا يكون الحكم بوجوب الإكرام منصبّا على ذات الإنسان وذات العدالة ، فإنّ العدالة عرض ، والعرض دائما يلحظ بما هو وصف لمحلّه ولا يلحظ في ذاته مجرّدا عن محلّه ، فالإنسان المقيّد بالعدالة هو مصبّ الحكم لا ذات الإنسان بقطع النظر عن التقييد بالعدالة ولا ذات العدالة بقطع النظر عن التقييد بالإنسان ، فإنّ الحكم لو كان منصبّا على ذات الإنسان بقطع النظر عن التقييد بالعدالة وعلى ذات العدالة بقطع النظر عن التقييد بالإنسان فلازم ذلك أنّه متى ما وجدت ذات الإنسان ووجدت ذات العدالة ولو في إنسان آخر فالحكم بوجوب الإكرام يثبت للإنسان الأوّل وإن كان فاسقا لأنّ ذات العدالة متحقّقة حسب الفرض في الإنسان الثاني وذات الإنسان الأوّل متحقّقة. إنّ هذا يكشف بوضوح عن أنّ موضوع الحكم بوجوب الإكرام ليس هو ذات الإنسان وذات العدالة بل العنوان الانتزاعي - وهو تقيد الإنسان بالعدالة - له المدخلية في موضوع الحكم.

وإذا كان التقيّد له مدخلية في موضوع الحكم فالاستصحاب لا يمكن أن

ص: 255

يجري في العدالة ، فإذا كان لدينا إنسان وكان في الزمان السابق عادلا ويشكّ الآن في عدالته فالاستصحاب لا يمكن أن يجري في ذات العدالة ، فليس من الصحيح أن نقول إنّ العدالة كانت ثابتة سابقا والآن هي ثابتة أيضا فإنّ هذا الاستصحاب يثبت بقاء ذات العدالة ولا يثبت انّ الإنسان - كزيد مثلا - متّصف بالعدالة إلاّ من باب الملازمة العقلية إذ لا توجد آية أو رواية تقول إذا كانت العدالة باقية فالإنسان المذكور متّصف بها.

وعليه فإذا أردنا أن نجري الاستصحاب فلا بدّ من إجرائه في الاتصاف والتقيّد بأن نقول هكذا : انّ زيدا مثلا كان متّصفا بالعدالة في السابق فإذا شكّ الآن في بقاء اتصافه بالعدالة فمقتضى الاستصحاب بقاء اتصافه وتقيّده بالعدالة.

الحالة الثانية
اشارة

وقبل بيان الحالة الثانية نذكر مقدّمة نوضّح فيها مصطلحين :

1 - العدم تارة يلحظ وصفا للمحل ، كما إذا قيل : « المرأة المتّصفة بعدم القرشية » ، فإنّ عدم القرشية لوحظ وصفا للمرأة.

ومثل هذا العدم يسمّى بالعدم النعتي لأنّه لو حظ نعتا ووصفا للمرأة.

واخرى لا يلحظ وصفا لمحلّه بل يلحظ في نفسه ، كما إذا قلنا « عدم القرشية ». إنّ عدم القرشية هنا لم يلحظ وصفا للمرأة بل لوحظ في نفسه. ويسمّى مثل هذا العدم بالعدم المحمولي. وإنّما سمّي بالمحمولي لأنّ ذات العدم يقع محمولا فنقول مثلا « زيد معدوم » و « المطر معدوم » و « شريك الباري معدوم » ، إنّ ذات العدم في هذه القضايا وقع محمولا ، ومن هنا فذات العدم يسمّى بالعدم المحمولي.

ص: 256

2 - العدم الأزلي هو العدم الثابت من القديم حينما كان اللّه سبحانه ولم يكن معه شيء ، فمثلا قبل أن تولد المرأة القرشية وترى نور الوجود كانت ذاتها معدومة وكانت قرشيّتها معدومة أيضا. وعدم ذاتها وعدم قرشيّتها ليس ثابتا قبل ولادتها بسنة أو بسنتين أو بمائة سنة بل هو ثابت من القديم حينما كان اللّه ولم يكن معه شيء فمثل هذا العدم إذن يسمّى بالعدم الأزلي.

وإذا اتّضح لدينا هذا أمكن لو سئلنا : هل العدم المحمولي عدم أزلي أو لا؟ أن نجيب : نعم انّه أزلي إذ العدم المحمولي هو ذات العدم ، وذات كل عدم ثابتة من الأزل.

ولو سئلنا ثانيا : هل العدم النعتي عدم أزلي أو لا؟ فالجواب : كلا ليس أزليا لأنّ العدم النعتي يلحظ بما هو وصف للمرأة مثلا فلا بدّ من وجود المرأة أوّلا ليثبت بعد ذلك اتصافها بعدم القرشية ، فإنّ ثبوت الوصف فرع تحقّق الموصوف.

هذه هي المقدّمة التي أردنا عرضها. والآن نأخذ ببيان حكم الحالة الثانية التي يكون الموضوع فيها مركّبا من عدم العرض ومحلّه.

وفي هذه الحالة يكون الحكم منصبّا على التقيّد والاتصاف أيضا لا على ذوات الأجزاء ، فالحكم بالتحيض إلى خمسين لا يكون منصبا على ذات المرأة وذات عدم القرشية بل على اتصاف المرأة بعدم القرشية فإنّ عدم العرض حينما يقاس إلى محلّه يلحظ بما هو وصف له فالحكم يكون منصبا على اتصاف المحل بعدم العرض (1) إذ لو كان منصبّا على ذات المرأة وذات عدم القرشية (2) لكان

ص: 257


1- أي يكون منصبّا على العدم النعتي فإنّ عدم القرشية حينما يلحظ وصفا للمحل ويقال المرأة المتّصفة بعدم القرشيّة فهو عدم نعتي.
2- ذات عدم القرشية هو ما يعبّر عنه بالعدم المحمولي.

لازم ذلك أنّه متى ما تحقّق ذات المرأة وتحقّق ذات عدم القرشية ولو في امرأة اخرى كفى ذلك في الحكم بتحيض المرأة الاولى إلى الخمسين ولو لم تكن متّصفة بعدم القرشية - بأن كانت قرشية - بل كان الاتصاف بعدم القرشية ثابتا في حقّ امرأة اخرى ، وهذا باطل جزما.

وما دام الحكم منصبّا على اتصاف المرأة بعدم القرشية - أي على العدم النعتي - لا على ذات عدم القرشيّة المسمّى بالعدم المحمولي الذي هو عدم أزلي ثابت من الأزل فالاستصحاب إذا أردنا إجرائه فأين نجريه ، فهل نجريه في العدم المحمولي أو نجريه في العدم النعتي؟ انّه لا يمكن إجراؤه لا في هذا ولا في ذاك.

أمّا أنّه لا يجري في ذات عدم القرشية - الذي هو عدم محمولي أزلي - فلأنّ ذات عدم القرشية وإن كان ثابتا منذ الأزل ومتيقّن الثبوت سابقا إلاّ أنّ استصحابه لا ينفع لإثبات الحكم إذ المفروض ترتّب الحكم على اتصاف المرأة بعدم القرشية لا على ذات عدم القرشية.

وأمّا أنّه لا يجري في العدم النعتي - أي في اتّصاف المرأة بعدم القرشيّة - فلأنّه لا يوجد زمان سابق كان فيه الاتصاف بعدم القرشية ثابتا ليستصحب بقائه إلى زمان الشكّ ، فإنّ الاتصاف بعدم القرشية لا يثبت إلاّ بعد وجود المرأة ، لأنّه وصف ، وتحقّق الوصف فرع تحقّق الموصوف ، فقبل وجود المرأة لا يمكن ثبوت الاتصاف بعدم القرشية ، وبعد وجودها لا نجزم باتّصافها بعدم القرشية ليستصحب إلى الآن بل المرأة من حين أن تولد يشكّ في أنّها متّصفة بعدم القرشيّة أو هي متّصفة بالقرشية.

وباختصار : انّ العدم الأزلي المحمولي وإن كان متيقّن الثبوت سابقا إلاّ أنّ

ص: 258

استصحابه لا ينفع لعدم ترتّب الأثر عليه ، والعدم النعتي وإن كان الأثر مترتّبا عليه إلاّ أنّه ليس له حالة سابقة متيقّنة ليجري استصحابها.

إن قلت : لماذا لا نجري استصحاب العدم المحمولي الأزلي لإثبات العدم النعتي ، بأن نقول انّ عدم القرشيّة الأزلي كان ثابتا سابقا فإذا شككنا في بقائه إلى الآن جرى استصحابه وثبت بذلك بقاء العدم الأزلي ، ولازم ذلك اتصاف المرأة بعدم القرشية الذي هو عدم نعتي.

قلت : انّ هذا لا يتمّ إلاّ بناء على الأصل المثبت والملازمة العقلية ، إذ لا توجد آية أو رواية تقول إذا كان عدم القرشية الثابت قبل ولادة المرأة مستمرا بعد ولادتها أيضا فهي متّصفة بعدم القرشية.

ومن هنا نعرف انّ الشيخ النائيني لا يحكم على المرأة التي تشكّ في كونها قرشية بالتحيض إلى الخمسين استنادا إلى استصحاب عدم قرشيتها الثابت قبل ولادتها لأنّه لا أثر له وإنّما الأثر للعدم النعتي وهو لا يجري استصحابه لما تقدم ، وإجراء استصحاب العدم الأزلي لإثبات العدم النعتي مثبت (1).

ص: 259


1- أجل يمكن إجراء الاستصحاب بشكل آخر بأن يقال انّ الحكم بالتحيض إلى الخمسين مترتّب على اتصاف المرأة بعدم القرشية فنجري الاستصحاب في نفس الاتصاف بأن نقول انّه قبل ولادة المرأة كانت هناك ثلاثة أعدام أزلية فكانت ذاتها معدومة وكانت قرشيّتها معدومة وكان اتصافها بعدم القرشية معدوما أيضا ، وما دام الاتصاف بعدم القرشية معدوما من الأزل فنحن نجري استصحاب عدم الاتصاف بعدم القرشية الثابت من الأزل. وهذا الاستصحاب جيد وصحيح ولكن بجريانه لا تتغير النتيجة الثابتة قبل جريانه ، فإنّه قبل جريانه لم يمكن الحكم على المرأة بالتحيض إلى خمسين ، وبعد جريانه لا يمكن الحكم أيضا بتحيّضها إلى خمسين إذ بالاستصحاب المذكور ننفي موضوع الحكم بلزوم التحيّض إلى خمسين فإنّ موضوع الحكم بالتحيّض إلى خمسين هو الاتصاف بعدم القرشية فإذا نفي باستصحاب العدم الأزلي لم يمكن الحكم بالتحيّض إلى خمسين.
ينبغي أن لا يخفى

اتّضح من خلال ما سبق انّ الحالة الاولى تشترك مع الحالة الثانية في نقطة وتختلف معها في نقطة اخرى ، فهما يشتركان في أنّ الحكم ليس منصبّا على ذوات الأجزاء ، ففي الحالة الاولى يكون الحكم بوجوب الإكرام منصبّا على الاتصاف بالعدالة لا على ذات العدالة ، وفي الحالة الثانية يكون الحكم بالتحيض إلى خمسين منصبا أيضا على الاتصاف بعدم القرشية لا على ذات عدم القرشية. هذه نقطة اشتراك.

وهناك نقطة اختلاف ، وهي أنّه في الحالة الاولى كان بالإمكان إجراء الاستصحاب في نفس الاتصاف ، بأن يقال : كان الإنسان متّصفا بالعدالة سابقا فإذا شككنا في بقاء اتصافه بها جرى استصحاب بقاء الاتصاف ويثبت بذلك وجوب إكرامه ، وأمّا في الحالة الثانية فلا يمكن ذلك فلا يمكن أن يقال انّ الاتصاف بعدم القرشية كان ثابتا سابقا فإذا شككنا الآن في بقائه جرى استصحابه.

ولكن ليس من الصحيح ان نفهم من هذا الكلام انّ العدم النعتي لا يمكن جريان الاستصحاب فيه في جميع الأحوال بل هناك حالات يجري فيها الاستصحاب في العدم النعتي. ومثال ذلك : ما إذا كان الحكم بوجوب الإكرام منصبّا على الإنسان المتّصف بعدم الفسق ، فإنّ الاتصاف بعدم الفسق عدم نعتي وبالرغم من ذلك يمكن جريان الاستصحاب فيه ، كما لو كان زيد متّصفا سابقا

ص: 260

بعدم الفسق فإنّه يجري استصحاب بقاء اتصافه بعدم الفسق.

من هنا نعرف انّ الاتصاف بعدم القرشية إنّما لا يجري لخصوصية فيه بالخصوص ، وهي أنّ القرشية من الأوصاف التي لا تقبل التغيّر والتبدّل فهي إن كانت ثابتة فهي ثابتة من حين الولادة وإلى الأبد ، وهكذا بالنسبة إلى عدم القرشية ، وهذا بخلافه بالنسبة إلى الفسق وعدمه فإنّه قابل للتغيّر والتبدّل وليس من الأوصاف الثابتة المستمرة من حين الولادة بل من الممكن أن يولد الإنسان ثمّ يتّصف بعد ذلك بالفسق أو بعدمه أو يتّصف بالعدالة أو بعدمها.

الحالة الثالثة

وأمّا الحالة الثالثة التي يكون الحكم فيها منصبّا على العرضين لمحل واحد أو لمحلّين كوجوب التقليد المنصبّ على الاجتهاد والعدالة فقد ذكر فيها الشيخ النائيني أنّه لا يلزم افتراض كون الحكم منصبّا على التقيّد والاتصاف كما كان ذلك لازما في الحالتين السابقتين.

والوجه في ذلك : انّه فيما سبق كان الحكم منصبّا على العدالة والإنسان ، ومن الواضح ان الإنسان بالقياس إلى العدالة يعتبر محلا لها فيلزم أخذه متصّفا بالعدالة ، وهكذا بالنسبة إلى المرأة وعدم القرشية فإنّ المرأة بالقياس إلى عدم القرشية تعتبر محلا له فيلزم أخذها متّصفة بعدم القرشية ، وهذا بخلافه في هذه الحالة الثالثة فإنّ الاجتهاد بالقياس إلى العدالة لا يعتبر محلا لها ليأخذ متّصفا بها ، وهكذا العدالة بالقياس إلى الاجتهاد لا تعتبر محلا له لتأخذ مقيّده ومتّصفه به ، بل الحكم ينصبّ على ذات العدالة وذات الاجتهاد ، ومعه فيجري الاستصحاب فيهما ، فمتى ما ثبت

ص: 261

بالاستصحاب استمرار ذات العدالة وذات الاجتهاد في حقّ إنسان واحد جاز تقليده ولا حاجة إلى إثبات اتّصاف العدالة بالاجتهاد بل ذاك لا معنى له.

هذه حصيلة بيان الشيخ النائيني قدس سره في النقطة الثانية. وأمّا مناقشته فترجأ إلى بحث الخارج إنشاء اللّه تعالى.

قوله ص 305 س 17 : فالاستصحاب يجري في نفس التقيّد إلخ : أي فنستصحب اتصاف الإنسان بالعدالة إن كان سابقا قد ثبت اتصافه بالعدالة.

قوله ص 306 س 4 : بما هو : أي بما هو عدم لا بما هو وصف لمحلّه.

قوله ص 306 س 5 : إنّما يجري في نفس التقيّد : أي فيما إذا كانت له حالة سابقة متيقّنة ، كما في استصحاب الاتصاف بعدم الفسق ، وأمّا إذا لم تكن له حالة سابقة متيقّنة كما في الاتصاف بعدم القرشية فلا يجري الاستصحاب فيه ، وإلى ذلك أشار قدس سره بقوله : « فإذا لم يكن العدم النعتي واجدا الخ ».

قوله ص 306 س 6 : والعدم النعتي : عطف تفسير على التقيّد.

قوله ص 306 س 8 : لم يجر استصحابه : أي العدم المحمولي.

قوله ص 306 س 12 : وقرشيّتها : عطف تفسير على نسب المرأة.

قوله ص 306 س 13 : الثابت : صفة لعدم قرشيّتها.

قوله ص 306 س 16 : مباشرة : أي بلا إثبات العدم النعتي.

قوله ص 307 س 1 : لهذا أصل مثبت : الصواب فهذا أصل مثبت.

قوله ص 307 س 3 : واتصاف الخ : عطف تفسير على التقيّد.

النقطة الثالثة
اشارة

وفي النقطة الثالثة يبحث متى يصدق اليقين السابق والشكّ اللاحق؟

ص: 262

والجواب : إنّ عدم الكرية الذي يراد استصحابه له حالتان : -

1 - أن لا يعلم بارتفاعه وتبدله إلى الكرية بل يحتمل بقاؤه على عدم الكرية إلى الآن.

2 - ان يعلم بارتفاعه وتبدله إلى الكرية فهو الآن يرى بالعين أنّه كر ولكن يحتمل ان تحوله إلى الكرية قد حصل بعد الملاقاة فهو الآن نجس ويحتمل أنّه حصل قبل الملاقاة فهو الآن طاهر.

أمّا في الحالة الاولى : فلا إشكال في صدق عنوان اليقين السابق والشكّ اللاحق ، فالماء ليس بكر سابقا جزما ويشكّ في تحوله إلى الكرية ، ومقتضى الاستصحاب بقاؤه على عدم الكرية وبذلك يحكم بنجاسته.

وأمّا في الحالة الثانية : فقد يقال بأنّ الشكّ في البقاء غير صادق ليجري الاستصحاب إذ المفروض أنّ الماء قد ارتفع عدم كريته وهو الآن كر جزما ومع الجزم بكريته فكيف يستصحب بقاء عدم كريته؟

وأجاب الاعلام عن ذلك بأنّ الماء وإن كان يعلم بتحوله إلى الكرية ولا يوجد فيه شكّ من هذه الناحية إلاّ أنّ ذلك لو لا حظنا عمود الزمان ، أي لا حظنا الساعة الاولى والساعة الثانية والساعة الثالثة وهكذا ، فإنّه بلحاظ الساعات وإن كان لا يوجد شكّ - فإذا كان قد ارتفع في الساعة الخامسة مثلا فقبل الساعة الخامسة يجزم ببقائه على عدم الكرية ومن الساعة الخامسة وما بعد يجزم بتحوله إلى الكرية - إلاّ أنّه لو لم نلاحظ عمود الزمان بل لا حظناه بالقياس إلى زمن الملاقاة فهو مشكوك البقاء إذ يشكّ في بقائه على عدم الكرية إلى زمن الملاقاة (1).

ص: 263


1- ويمكن أن يصطلح على زمن الملاقاة بالزمن النسبي

ومادام الشكّ بلحاظ زمن الملاقاة صادقا فيجري الاستصحاب إذ موضوع الحكم بالنجاسة هو بقاء الماء على عدم الكرية إلى زمن الملاقاة وليس هو بقائه على عدم الكرية في الساعة الخامسة أو السادسة أو الرابعة وهكذا.

وباختصار : إنّ عدم الكرية لو لوحظ بالقياس إلى عمود الزمان فلا يوجد شكّ من حيث بقائه بينما لو لوحظ بالقياس إلى الزمن النسبي كان في بقائه شكّ فيجري الاستصحاب فيه باللحاظ الثاني.

صور ثلاث

ولتوضيح ما هو الحق في المسألة وتفصيل الكلام نقول :

إنّ تاريخ الملاقاة وتاريخ ارتفاع عدم الكرية إذا كانا معلومين فلا معنى لجريان الاستصحاب من جهة عدم وجود الشكّ ، فلو كنا نعلم أنّ الملاقاة حصلت ظهرا والماء تحول إلى الكرية عصرا فالاستصحاب لا معنى له إذ قبل العصر يعلم بكون الماء ليس بكر وبعده يعلم بصيرورته كرا.

إذن لا بدّ من فرض وجود جهالة أمّا في كلا الأمرين - أي الملاقاة والتحول إلى الكرية - أو في تاريخ احدهما.

وصور الجهالة المحتملة ثلاث : -

1 - أن يكون تاريخ كل واحد من الأمرين مجهولا فالملاقاة يجهل تاريخها والتحول إلى الكرية يجهل تاريخه أيضا.

2 - أن يفرض أنّ تاريخ تحول الماء إلى الكرية مجهول وتاريخ الملاقاة معلوم.

3 - أن يفرض العكس فتاريخ التحول إلى الكرية معلوم وتاريخ الملاقاة مجهول.

ص: 264

والآراء في هذه الصور ثلاثة (1) : -

1 - ما ذهب إليه جماعة منهم الشيخ الأعظم في الرسائل والسيد الخوئي من جريان الاستصحاب في عدم الكرية في جميع الصور الثلاث غاية الأمر ان الاستصحاب في الطرف الآخر قد يكون جاريا أيضا فيسقط كلا الاستصحابين بالمعارضة (2). ففي مثال الملاقاة وعدم الكرية قد يقال بأنّ استصحاب بقاء عدم الكرية إلى زمن الملاقاة كما هو قابل للجريان كذلك نشكّ أنّ الملاقاة هل حصلت قبل تحول الماء إلى الكرية أو لا فيجري استصحاب عدم حصول الملاقاة إلى زمن التحول للكرية ، فالاستصحاب الأوّل قابل للجريان في جميع الصور غاية الأمر حيث انّه قد يقال بمعارضته بالاستصحاب الثاني فلا يجري من هذه الناحية (3) ،

ص: 265


1- وهذا البحث هو المعروف في الكتب الاصولية بالاستصحاب في مجهولي التاريخ أو مجهول التاريخ ومعلومه
2- ليس المقصود من سقوطهما بالمعارضة انهما يجريان ثم يتعارضان ثم يسقطان ، إنّ هذا لا معنى له إذ التعبد بجريان ما يلزم سقوطه لغو بل المراد انّه لاجل المعارضة لا يجري في نفسه ولا يشمله دليل التعبد
3- هذا وقد يقال إنّ استصحاب عدم تحقق الملاقاة قبل تحول الماء إلى الكرية لا يجري لعدم ترتب اثر شرعي عليه ، فإنّ مجرد عدم تحقق الملاقاة ليس له أثر وإنّما الأثر مترتب على الملاقاة فالملاقاة إن كانت حاصلة قبل التحول إلى الكرية فالماء نجس وإن كانت حاصلة بعد ذلك فهو طاهر. إذن عدم حصول الملاقاة قبل تحول الماء إلى الكرية ليس له أثر إلاّ إذا اريد من استصحاب عدم الملاقاة قبل التحول إلى الكرية إثبات لازم ذلك وهو أنّ الملاقاة قد حصلت بعد التحول إلى الكرية وبذلك يكون الماء طاهرا إلاّ أنّ هذا كما هو واضح أصل مثبت إذ لا توجد آية أو رواية تقول إنّ الملاقاة إذا لم تحصل قبل التحول إلى الكرية فهي حاصلة بعد التحول الى الكرية. وعليه فاستصحاب عدم الكرية إلى زمن الملاقاة يجري بلا معارض وإن كان في أمثلة اخرى قد يكون الاستصحاب في الطرف الآخر قابلا للجريان لترتب الأثر الشرعي عليه فتصحل المعارضة ويسقطان. هكذا قد يقال. والجواب : ان استصحاب عدم تحقّق الملاقاة قبل التحول إلى الكرية قابل للجريان باعتبار انه به ينفى موضوع الحكم بالتنجس وبالتالي ينفى الحكم بالتنجس إذ موضوع الحكم بالتنجس هو الملاقاة حالة عدم الكريه وبالاستصحاب المذكور ينفى ذلك ، وهذا المقدار يكفي لتحقيق الفائدة والاثر للاستصحاب فان فائدته لا ينبغي حصرها في اثبات الحكم بل هي اعم من اثبات الحكم ونفيه.

أي من ناحية المعارضة لا لإجل أنّه لا يوجد فيه شكّ في البقاء.

2 - ما ذهب إليه جماعة آخرون من جريان الاستصحاب في الصورة الاولى وفي الصورة الثانية وعدم جريانه في الصورة الثالثة ، أي هو يجري في صورة جهالة تاريخهما كما ويجري في صورة جهالة تاريخ ارتفاع عدم الكرية ، ولا يحري في صورة العلم بتاريخ ارتفاع الكرية وجهالة تاريخ الملاقاة.

3 - ما اختاره الآخوند من عدم جريان استصحاب عدم الكرية في الصورة الاولى والصورة الثالثة وجريانه في خصوص الصورة الثانية فلا يجري استصحاب عدم الكرية فيمّا لو كان تاريخ الأمرين مجهولا كما ولا يجري في صورة العلم بتاريخ ارتفاع عدم الكرية ويجري في صورة الجهل بتاريخ ارتفاع الكرية فيمّا لو كان تاريخ الملاقاة معلوما.

دليل القول الاّول

ولماذا قال أصحاب القول الاوّل بجريان استصحاب بقاء عدم الكرية في

ص: 266

جميع الصور الثلاث والحال انّ المفروض في الصورة الثالثة العلم بتاريخ ارتفاع عدم الكرية؟ الوجه في ذلك قد أشرنا إليه فيمّا سبق وهو أنّ التحول إلى الكرية بلحاظ عمود الزمان وان كان لا يوجد فيه شكّ في بعض الصور إلاّ انّه بالقياس إلى الزمن النسبي - أي بالقياس إلى زمن الملاقاة - يوجد فيه شكّ فيجري الاستصحاب بهذا اللحاظ فانّ الأثر مترتب على بقاء عدم الكرية في زمن الملاقاة وليس مترتبا على بقائه بلحاظ عمود الزمان أي بلحاظ الساعة الخامسة بما هي خامسة أو الساعة الرابعة بما هي رابعة وهكذا.

مناقشة القول الأوّل

إنّ القول الأوّل ذكر انّ الاستصحاب يجري في جميع الصور الثلاث بما في ذلك الصورة الثالثة ، وهي صورة العلم بزمان ارتفاع عدم الكرية. والصحيح أنّه لا يجري في الصورة المذكورة.

والوجه في ذلك : انّ عدم الكرية وإن كان يشكّ في بقائه زمن الملاقاة إلاّ أنّه لا يمكن جريان استصحابه لأنّ تاريخ ارتفاع عدم الكرية قد فرضنا انّه معلوم وليكن هو زوال الشمس - الظهر - مثلا ، وامّا تاريخ حصول الملاقاة فهو مجهول فلا يعلم انّه زوال الشمس أيضا أو هو قبل ذلك أو هو بعده. ومن باب الفرض نفترض مؤقتا انّ زمن الملاقاة واقعا وفى علم اللّه سبحانه هو الساعة العاشرة أي قبل زوال الشمس بساعتين.

وبعد اتضاح هاتين الفرضيتين - فرضية انّ زمان ارتفاع الكرية هو الزوال وفرضية انّ اللّه سبحانه كان يعلم انّ الملاقاة حصلت في الساعة العاشرة وان كنا

ص: 267

نحن لا نعلم بذلك - نقول : انّ دليل تنجس الماء بالملاقاة فيه احتمالان : -

1 - فامّا ان يكون دالا على ترتب التنجس على بقاء عدم الكرية إلى زمن الملاقاة بما هو زمن الملاقاة ، فإذا كان زمن الملاقاة في علم اللّه سبحانه هو الساعة العاشرة فالتنجس مترتب على بقاء عدم الكرية إلى الساعة العاشرة شريطة اتصاف الساعة العاشرة بأنّه زمن الملاقاة.

2 - أو يكون دالا على ترتب التنجس على بقاء عدم الكرية إلى واقع زمن الملاقاة بدون التقييد بكونه زمن الملاقاة ، فلو كان زمن الملاقاة في علم اللّه سبحانه هو الساعة العاشرة فلا بدّ من بقاء عدم الكرية إلى واقع الساعة العاشرة بدون حاجة إلى إثبات اتصافها بأنّها زمن الملاقاة.

فعلى الاحتمال الأوّل يكون استصحاب بقاء عدم الكرية إلى زمن الملاقاة من قبيل الأصل المثبت لأنّ أقصى ما يقوله استصحاب عدم الكرية إلى الساعة العاشرة انّ عدم الكرية باق إلى الساعة العاشرة ولا يقول اكثر من ذلك ، أي لا يقول انّه باق إلى الساعة العاشرة التي هي زمن الملاقاة ، إذ المفروض اننا استصحبنا بقاء عدم الكرية ولم نستصحب بقاء عدم الكرية الثابت في الساعة العاشرة بما أنّها زمن الملاقاة ، فالاستصحاب المذكور أصل مثبت إذ لم توجد آية أو رواية تقول انّ عدم الكرية إذا كان باقيا إلى الساعة العاشرة فهو باق إلى الساعة العاشرة بما انّها زمن الملاقاة وانّما ذاك ثابت بسبب حكم العقل فانّ العقل يقول إذا كان عدم الكرية باقيا إلى الساعة العاشرة فحيث انّ الساعة العاشرة متصفة بانّها زمن الملاقاة فهو - عدم الكرية - باق إلى الساعة العاشرة المتصفة بانها زمن الملاقاة. ونحن فيما سبق ذكرنا انّ الاستصحاب في اجزاء الموضوع انّما

ص: 268

يجري فيما لو فرض انّ الاثر كان مرتبا على ذوات الاجزاء لا على عنوان الاتصاف والتقيد والاّ فيكون الاستصحاب في ذات الجزء لإثبات عنوان التقيد والإتصاف من قبيل الأصل المثبت (1). هذا كله على الاحتمال الأوّل.

وامّا على الاحتمال الثاني فاستصحاب بقاء عدم الكرية إلى واقع زمن الملاقاة وإن لم يكن أصلا مثبتا لأنّه لا يراد بالاستصحاب اثبات شيء زائد على بقاء عدم الكرية إلاّ انّ واقع زمن الملاقاة (2) كما يحتمل واقعا ان يكون هو ما قبل الظهر كالساعة العاشرة مثلا أو ما بعد الظهر كذلك يحتمل أن يكون هو الظهر ، وبما انّ الظهر قد فرضنا سابقا انّه زمن ارتفاع عدم الكرية فاستصحاب بقاء عدم الكرية إليه يكون ابقاء للمتيقن السابق إلى زمان يعلم فيه بارتفاعه - المتيقن - لا إلى زمان يشكّ فيه في بقائه ، أي يكون ابقائه إليه من قبيل نقض اليقين باليقين لا من قبيل نقض اليقين بالشكّ ، وواضح انّ شرط جريان الاستصحاب انّ يكون

ص: 269


1- ان قلت : ان الاستصحاب في المقام ليس من قبيل الاصل المثبت لأنّ الساعة العاشرة إذا فرضنا إنّها واقعا وفي علم اللّه سبحانه متصفة بكونها زمن الملاقاة فنحن بالاستصحاب لا نريد أن نثبت انّ الساعة العاشرة متصفة بأنها زمن الملاقاة إذ ذاك ثابت واقعا وفي علم اللّه سبحانه بلا حاجة إلى استصحاب وانّما نريد بالاستصحاب إثبات بقاء عدم الكرية إلى هذا الزمان المتصف بأنّه في علم اللّه زمن الملاقاة. قلت : ان هذا هو عين الأصل المثبت فإنّه _ أي الأصل المثبت _ يعني تحميل شيء على الاستصحاب من الخارج ، وهنا الأمر كذلك ، فانّ الحالة السابقة المتيقنة هي ثبوت ذات عدم الكرية وامّا ثبوت عدم الكرية في زمن موصوف بانّه زمن الملاقاة فهذا لم يكن متيقنا سابقا ليثبت بقائه في الخارج بالاستصحاب وانّما يراد تحميله عليه من الخارج.
2- في هذا الموضع قدمنا ما اخر في الكتاب واخرّنا ما قدم.

المورد من مصاديق نقض اليقين بالشكّ لا من مصاديق نقض اليقين باليقين.

ونحن لا نقصد من خلال هذا الكلام دعوى انّ المورد هو على سبيل الحتم والجزم من موارد نقض اليقين باليقين بل نريد أن ندعي احتمال ذلك ، أي نريد ان ندعي انّه على تقدير كون زمن الملاقاة واقعا هو الساعة العاشرة مثلا وان كان لا يلزم نقض اليقين باليقين بل بالشكّ ولكن على تقدير كونه هو الظهر يلزم ذلك ، وهذا الشكّ يكفي للمنع من التمسك بعموم الدليل ، فانّ شرط التمسك بعموم دليل في مورد هو إحراز تحقق موضوعه في ذاك المورد ، فدليل اكرم كل عالم لا يجوز التمسك به لاثبات وجوب اكرام رجل إلاّ مع إحراز انّه عالم ، أمّا مع الشكّ فلا يجوز التمسك به لإثبات وجوب اكرامه إذ ذلك تمسك بالعام في الشبهة المصداقية (1) وهو لا يجوز.

ان قلت : انّ استصحاب عدم الكرية إلى واقع زمن الملاقاة وان كان لا يجري من جهة احتمال انّ المورد من موارد نقض اليقين باليقين ولكن هذا المحذور انّما يلزم على تقدير استصحاب عدم الكرية إلى واقع زمن الملاقاة ولكن لم لا نستصحب عدم الكرية إلى زمن الملاقاة بما هو زمن الملاقاة ، فانّ زمن الملاقاة بهذا القيد لا يحتمل انطباقه على الظهر وإنّما يحتمل انطباقه عليه لو اخذناه مجردا من القيد المذكور.

قلت : انّ هذا خلف الفرض لأنّ المفروض انا نتكلم على تقدير ترتب الأثر على بقاء عدم الكرية إلى واقع زمن الملاقاة لا على بقائه إلى زمن الملاقاة بما

ص: 270


1- كما اشير إلى ذلك في التقرير ج 6 ص 210. وأمّا ما ذكر في الملاحق فلم نعرف وجهه.

هو زمن الملاقاة وإلاّ كان ذلك هو الإحتمال الأوّل ويرد عليه حينئذ محذور الأصل المثبت.

وجاهة القول الثاني

ومن خلال ما سبق اتضح ان ما يقوله أصحاب القول الثاني - وهو انّ استصحاب عدم الكرية لا يجري فيمّا إذا علم بزمان ارتفاع عدم الكرية - وجوبه. ولكنا لا نقبل قولهم على اطلاقه فإنّه كان يتضمن انّ استصحاب عدم الكرية يجري فيما إذا كان كلا التاريخين مجهولا ، وجريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ لا يمكن قبوله على اطلاقه فإنّه يوجد في صورة جهالة التاريخين شقان لا يجري في احدهما استصحاب عدم الكرية ويجري في ثانيهما.

أ - فالشق الذي لا يجري فيه استصحاب عدم الكرية هو ما إذا كان زمان الملاقاة مرددا بين زمانين وكان زمان ارتفاع عدم الكرية مرددا بين نفس ذنيك الزمانين ، كما لو فرض انّ الملاقاة كانت مرددة بين الساعة الاولى والساعة الثانية وكان زمان ارتفاع عدم الكرية مرددا بنفس هذا المقدار وبهذا الشكل أي كان مرددا بين الساعة الاولى والثانية ، في مثل هذه الحالة يمكن ان نشير إلى الساعة الثانية ونقول انّ هذه الساعة نجزم فيها بارتفاع عدم الكرية ، إذ ارتفاع عدم الكرية سواء كان في الساعة الاولى أو الثانية فلا إشكال في تحققه في الساعة الثانية.

وإذا كنا نجزم بارتفاع عدم الكرية في الساعة الثانية فلا يجري حينئذ استصحاب عدم الكرية إلى واقع زمان الملاقاة إذ من المحتمل ان يكون واقع زمن الملاقاة هو الساعة الثانية ، والمفروض انّه في الساعة المذكورة نجزم بارتفاع عدم

ص: 271

الكرية ، ومعه فيكون ابقاء عدم الكرية الذي هو المتيقن ابقاء له إلى زمن يعلم فيه بانتقاضه لا إلى زمن يشكّ فيه بانتقاضه كما تقدم إيضاح ذلك فيما سبق.

ب - والشق الثاني الذي يجري فيه استصحاب عدم الكرية (1) هو ما إذا كان زمن تردد ارتفاع عدم الكرية أوسع من زمن تردد الملاقاة ، كما لو فرض انّ الملاقاة كانت مرددة بين الساعة الاولى والساعة الثانية ولكن ارتفاع عدم الكرية كان مرددا بين الساعة الاولى والساعة الثانية والساعة الثالثة ، ففي مثل هذه الحالة يجري استصحاب بقاء عدم الكرية إلى واقع زمن الملاقاة ، لانّ زمن الملاقاة ان كان في علم اللّه سبحانه هو الساعة الاولى فيجري استصحاب عدم الكرية إلى الساعة الاولى بلا مانع إذ في الساعة المذكورة لا نتيقن بارتفاع عدم الكرية - فإنّ الارتفاع واقعا وان كان حصوله في الساعة الاولى محتملا إلاّ انّه لا يقين به ، وهكذا يجري لو كان زمن الملاقاة واقعا هو الساعة الثانية ، اذ الساعة الثانية لا يقين بارتفاع عدم الكرية فيها وإنّما اليقين بارتفاع عدم الكرية ثابت في الساعة الثالثة ، إذ الساعة المذكورة يجزم فيها بارتفاع عدم الكرية على جميع التقادير ، والمفروض انا لا نريد استصحاب عدم الكرية إلى الساعة الثالثة وانّما نريد استصحابه إلى واقع زمن الملاقاة الذي هو مردد بين الساعة الاولى والساعة الثانية.

القول الثالث هو الصحيح

ومن خلال كل هذا اتضح انّ الاستصحاب يجري في الصورة الثانية فقط

ص: 272


1- اشير إلى هذا الشق في الكتاب ص 313 س 2 بقوله : مثلا نرى جريان إلخ.

ولا يجري في الصورة الاولى في شقها الأوّل كما ولا يجري في الصورة الثالثة. وهذا معناه اختيار القول الثالث ولكن لا على اطلاقه إذ نختلف معه في الصورة الاولى فإنّه يقول بعدم جريان استصحاب عدم الكرية فيها بكلا شقيها بينما نحن نقول بجريانه في الشق الثاني منها فقط.

جريان الاستصحاب في الصورة الثانية

ان البيان المتقدم لعدم جريان استصحاب عدم الكرية - وهو امّا لزوم محذور الأصل المثبت أو عدم إحراز كون المورد من موارد نقض اليقين بالشكّ - تام كما اتضح في الصورة الثالثة وفي الشق الأوّل من الصورة الاولى ، ولا يتم في الصورة الثانية ، ففي الصورة المذكورة يجري استصحاب عدم الكرية لأنّ المفروض فيها انّ تاريخ الملاقاة معلوم وهو الساعة التاسعة مثلا بخلاف تاريخ ارتفاع الكرية فإنّه مردد بين الساعة الثامنة والساعة التاسعة والساعة العاشرة ، ومن الواضح ان استصحاب عدم الكرية إلى زمن الملاقاة الذي هو الساعة التاسعة ليس من باب نقض اليقين باليقين لأنّ الساعة التاسعة لا يتيقن فيها بارتفاع عدم الكرية وإنّما يتيقن بارتفاعه في الساعة العاشرة ، إذ في الساعة المذكورة يعلم بارتفاع عدم الكرية على جميع التقادير.

قوله ص 308 س 1 : في فترة سابقة هي فترة حصول ملاقاة النجس لذلك الماء : هذه العبارة تكرر ذكرها أكثر من مرة ، ولعل ابدالها بقوله : « في فترة حصول الملاقاة » أولى ، إذ هو اخصر وأوضح.

قوله ص 308 س 6 : في الجزء : وهو عدم الكرية في المثال.

ص: 273

قوله ص 308 س 8 : الاستشكال : تكرر التعبير بكلمة الاستشكال.

ولعل التعبير بالاشكال أولى.

قوله ص 308 س 9 : الزمان في نفسه : أي عمود الزمان. وإنّما عبر عنه بالزمان في نفسه لأجل انّه لم يلحظ بالقياس إلى زمن الملاقاة.

قوله ص 308 س 9 : أي زمان الجزء الآخر : وهو الملاقاة.

قوله ص 309 س 3 : الجزء المراد استصحابه : وهو عدم الكرية.

قوله ص 309 س 4 : تواجد الجزء الآخر : وهو الملاقاة.

قوله ص 309 س 12 : صورة واحدة : وهي الصورة الثانية.

قوله ص 309 س 16 : بما أشرنا إليه آنفا : أي ص 308 س 8 بقوله : وقد اتجه المحققون في دفع إلخ.

قوله ص 310 س 2 : بما هي : أي بما هي قطعات الزمان في مقابل لحاظها بما هي زمن الملاقاة.

قوله ص 310 س 2 : كما إذا كان زمان الارتفاع معلوما : فانّه إذا كان زمن ارتفاع عدم الكرية معلوما فلا يوجد شكّ بلحاظ قطعات الزمان بما هي قطعات الزمان.

قوله ص 310 س 6 : ونلاحظ على هذا القول انّ زمان إلخ : أي نلاحظ عليه انّ استصحاب عدم الكرية لا يمكن ان يجري في الصورة الثالثة التي يعلم فيها بزمان ارتفاع عدم الكرية.

قوله ص 310 س 12 : في جميع الصور : فانا فيما سبق وان خصصنا عدم الجريان بخصوص الصورة الثالثة إلاّ انّه الآن نقول انّه على التقدير الأوّل لا يمكن

ص: 274

جريان استصحاب عدم الكرية في جميع الصور الثلاث لا في خصوص الثالثة.

قوله ص 310 س 14 : منذ البداية : أي ص 301 س 9.

قوله ص 311 س 7 : بما هو كذلك : أي بالوقوع في زمن الملاقاة بما هو زمن الملاقاة.

قوله ص 311 س 10 : هو الزوال : فيما سبق عبر بالظهر. والمناسب توحيد التعبير.

قوله ص 311 س 18 : فيهما : أي في مجهولي التاريخ.

قوله ص 312 س 9 : قد تعبدنا : بضم التاء والعين وكسر الباء وسكون الدال.

قوله ص 312 س 13 : معا : أي لا يجري في كلتيهما.

قوله ص 312 س 17 : جزما : قيد لقوله لا علم.

قوله ص 313 س 5 : مرة : الصواب : مرددة.

قوله ص 313 س 7 : لأنّه : أي واقع زمن الملاقاة.

قوله ص 313 س 11 : ابدا : قيد لقوله فليس من المحتمل.

ص: 275

ص: 276

شبهة انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين

اشارة

ذكرنا فيما سبق انا نختار القول الثالث (1) الذي هو قول الآخوند بيد ان المستند الذي نعتمد عليه يغاير مستند الآخوند فنحن تمسكنا بانّ المورد لا يحرز كونه من موارد نقض اليقين بالشكّ بل لعله من موارد نقض اليقين باليقين ، بينما الآخوند علل عدم جريان استصحاب عدم الكرّيّة في صورة جهالة التاريخين بان المورد لا يحرز فيه اتصال زمان الشكّ بزمان اليقين. وفي المقصود من هذا الكلام يوجد تفسيران : -

1 - انّه لو فرض اليقين بعدم كرية الماء قبل الظهر وفرض وجود ساعتين بعد الظهر يعلم في احدى الساعتين بارتفاع عدم الكرّيّة وتبدله إلى الكريه وفي الساعة الاخرى يعلم بحدوث الملاقاة من دون أن يميّز المتقّدم عن المتأخر ، ففي مثل هذه الحالة إذا اردنا استصحاب عدم الكرّيّة إلى زمن الشكّ الذي هو زمن الملاقاة فإن كان زمن الملاقاة الذي هو زمن الشكّ هو الساعة الاولى فهذا لازمه اتصال زمان الشكّ بزمان اليقين ويجري الاستصحاب على هذا التقدير دون أي محذور ، وأمّا إذا كان هو الساعة الثانية فلا يمكن جريان الاستصحاب إذ لازم

ص: 277


1- ولكن لا على اطلاقه بل مع فارق وهو انا لا نقول بعدم جريان استصحاب عدم الكرية في صورة جهالة التاريخين بكلا شقيها بل في خصوص الشق الأوّل.

وقوع الملاقاة في الساعة الثانية أن ارتفاع عدم الكرّيّة وتبدّله إلى الكريه قد حصل في الساعة الاولى ، وحيث ان ارتفاع عدم الكرّيّة أمر معلوم ومتيقّن فيلزم حصول فاصل بين زمان اليقين بعدم الكريه وزمان الشكّ في بقائه ، وذلك الفاصل هو اليقين بارتفاع عدم الكرّيّة في الساعة الاولى ، ومعه فلا يجري الاستصحاب لأنّ شرط جريان الاستصحاب احراز عدم تخلّل اليقين بانتقاض المتيقّن السابق ، أمّا مع احتمال تخلّل اليقين بالانتقاض بين زمان اليقين وزمان الشكّ فلا يجري.

ويرد على هذا البيان : -

أ - ان الملاقاة لو كانت حادثة في الساعة الثانية فالكرّيّة وان كان من المحتّم حدوثها في الساعة الاولى ولكن هذا لا يعني انها سوف تصير معلومة الحدوث في الساعة المذكورة ، بل هي معلومة على سبيل الاجمال أي يعلم بحدوثها في إحدى الساعتين لا في الساعة الاولى بالخصوص فان العلم الاجمالي يتعلق بالجامع - وهو حدوث الكرية في احدى الساعتين - لا بالواقع كما كان يقوله الشيخ العراقي (1) ، فالكرّيّة إذا كانت حادثة واقعا في الساعة الاولى فالعلم الاجمالي لا يتعلّق بحدوثها في الساعة الاولى وإنّما يكون متعلّقا بالجامع أي بالكرّيّة في إحدى الساعتين.

فما افاده الشيخ الآخوند يتم بناء على ما يقوله الشيخ العراقي ولا يتم على مقالة غيره القائلة بتعلّق العلم الاجمالي بالجامع. وعليه فلا احتمال أبدا لانفصال

ص: 278


1- راجع القسم الثاني من الحلقة الثالثة ص 79.

الشكّ عن اليقين بالعلم بالانتقاض ، أي بالعلم بالكرّيّة.

ب - ان بيان الآخوند المذكور لو تمّ فلازمه عدم جريان استصحاب عدم الكرّيّة حتى في الصورة الثانية التي التزم فيها بجريان الاستصحاب فإنّه في الصورة المذكورة يفرض العلم بتاريخ حدوث الملاقاة وانه الساعة الثانية مثلا بينما تاريخ حدوث الكرّيّة مجهول فلعلّه الساعة الاولى أو الساعة الثانية أو الساعة الثالثة أو الساعة الرابعة أو ... وحيث ان من المحتمل واقعا حدوثها في الساعة الاولى فيلزم على بيان الآخوند ان تصير الساعة الاولى ساعة العلم بالكريه والانتقاض وبذلك يحصل فاصل بين الشكّ واليقين وهو الساعة الاولى التي يعلم فيها بالانتقاض.

2 - والتفسير الثاني لمقصود الآخوند هو ان تنجّس الماء لم يثبت بحسب دليله الشرعي لمجرد ثبوت عدم الكرّيّة في الساعة الاولى - إذ لم يقل الدليل الشرعي ان الماء يتنجّس إذا لم يكن كرّا في الساعة الاولى - وإنّما هو ثابت للماء بشرط عدم كرّيّته في زمن الملاقاة ، فعدم الكرّيّة المقيّد بزمن الملاقاة هو موضوع التنجّس. وما دام الموضوع للتنجّس هو ذلك فمتعلّق الشكّ في البقاء لا يكون هو ذات عدم الكرّيّة بل هو بقاء عدم الكرّيّة المقيّد بزمن الملاقاة لأنّ العدم المقيّد هو الموضوع للأثر ، ولازم هذا أنّا لو فرضنا ان زمن الملاقاة في علم اللّه سبحانه هو الساعة الثانية فزمان الشكّ يصير هو الساعة الثانية ولا يكون هو الساعة الاولى إذ المفروض تقيّد الشكّ في بقاء عدم الكرّيّة بزمن الملاقاة فقبل زمن الملاقاة لا شكّ. وإذا لم يكن الشكّ ثابتا في الساعة الاولى يلزم وجود فاصل بين زمان اليقين - وهو ما قبل الظهر - وزمان الشكّ وهو الساعة الثانية ، وذلك الفاصل هو

ص: 279

الساعة الاولى.

وبكلمة اخرى ان الأثر اذا كان مترتّبا على عدم الكرّيّة المقيّد بزمن الملاقاة فزمن الشكّ يصير مردّدا بين الساعة الاولى والساعة الثانية ، فلربّما هو الساعة الاولى فيما إذا كانت الملاقاة حادثة واقعا في الساعة الاولى ولربّما هو الساعة الثانية فيما إذا كانت الملاقاة حادثة واقعا في الساعة الثانية. وحيث اننا نحتمل حدوث الملاقاة في علم اللّه سبحانه في الساعة الثانية ، فيلزم على هذا التقدير ان تصير الساعة الاولى فاصلا بين زمان الشكّ وزمان اليقين.

أجل لو فرض ان الدليل رتّب الأثر على بقاء عدم الكرّيّة الى الساعة الاولى فالساعة الاولى تصير زمن الشكّ ولا يحصل حينذاك فاصل بين زمان اليقين وزمان الشكّ ولكن المفروض ان الدليل لم يرتّب الأثر على ذلك بل رتّبه على عدم الكرّيّة المقيّد بزمن الملاقاة.

الفارق بين التفسيرين

والفرق بين التفسيرين هو أنّه على الأوّل كان يقال من المحتمل وجود فاصل هو العلم بانتقاض الحالة السابقة ، أي العلم بحدوث الكرّيّة ، بينما على هذا التفسير يقال من المحتمل وجول فاصل هو نفس الساعة الاولى بما هي ساعة اولى (1).

ص: 280


1- يمكن ان يورد على التفسير الثاني ما ذكره السيّد الخوئي من انه لا محذور في وجود فاصل بين الشك واليقين ما دام لم يكن هو العلم بالانتقاض
مناقشة التفسير الثاني

ويمكن مناقشة التفسير الثاني بمناقشتين : -

1 - ان هذا التفسير ذكر ان التنجّس مترتّب على عدم الكرية المقيّد بزمن الملاقاة كما وذكر ان الشكّ في عدم الكرّيّة المقيّد بزمن الملاقاة لا يحصل قبل زمن الملاقاة وكلا هذين المطلبين قابلان للتأمّل.

أمّا المطلب الأوّل فباعتبار ان الأثر ليس مترتّبا على تقيّد عدم الكرّيّة بزمن الملاقاة فإنّه مرّ ص 210 من الحلقة ان الاستصحاب في أجزاء الموضوعات المركّبة لا يجري إلاّ إذا كان الأثر منصبّا على ذوات الأجزاء لا على عنوان التقيّد وإلاّ لم يجر الاستصحاب في ذات الجزء لأنّ استصحاب ذات الجزء لإثبات عنوان التقيّد أصل مثبت.

هذا مضافا إلى ان الواقع هو ذلك ، فإنّ المستفاد من الأدلّة ترتّب الأثر على ذوات الاجزاء لا على عنوان التقيّد ، فإنّ قوله علیه السلام « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » يستفاد منه بالمفهوم ان الماء ينجس عند عدم كرّيّته وفرض الملاقاة ولا يستفاد من اعتبار التقيّد.

وأمّا المطلب الثاني فلانّا لا نسلّم ان الشكّ في عدم الكرّيّة المقيّد بزمن الملاقاة لا يحصل إلاّ في زمن الملاقاة ، فلو كان زمن الملاقاة في علم اللّه سبحانه هو الساعة الثانية فالشكّ في عدم الكرّيّة المقيّد بزمن الملاقاة حاصل في الساعة الاولى أيضا وإلاّ لم يكن الشكّ ثابتا لا في الساعة الاولى ولا في الساعة الثانية. أمّا عدم ثبوته في الساعة الاولى فلاحتمال ان زمن الملاقاة واقعا هو

ص: 281

الساعة الثانية ، وأمّا عدم ثبوته في الساعة الثانية فلاحتمال ان زمن الملاقاة واقعا هو الساعة الاولى ، ومن الواضح ان انتفاء الشكّ في كلتا الساعتين خلاف الوجدان.

ومن خلال هذا كلّه تجلّى ان الأثر مترتّب على ذات عدم الكرّيّة لا على العدم المقيّد ، وما دام مترتّبا على ذات عدم الكرّيّة فبالامكان اثبات بقاء ذات عدم الكرّيّة بالاستصحاب ، فببركة الاستصحاب نسحب عدم الكرّيّة من زمان اليقين الذي هو ما قبل الظهر إلى الساعة الاولى والساعة الثانية والساعة الثالثة و ... ، ويثبت ان عدم الكرّيّة عدم واحد متصل من زمن اليقين إلى زمن الشكّ ، كما وان زمن الشكّ متصل بزمن اليقين فإنّا نشكّ في ذات عدم الكرّيّة منذ الساعة الاولى التي هي متصلة بزمن اليقين ، غاية الأمر ان التنجّس لا يترتّب على ذات عدم الكرّيّة وحده بل عند اجتماعه مع الملاقاة فإذا كان زمن الملاقاة في علم اللّه سبحانه هو الذي الساعة الثانية فالأثر يكون مترتّبا في الساعة الثانية.

وعليه فلو كان هناك محذور فالمحذور هو تأخّر زمن ترتّب الأثر عن زمن اليقين - وإلاّ فلا محذور من غير هذه الناحية إذ زمن الشكّ متصل بزمن اليقين ، وعدم الكرّيّة المشكوك والمتيقّن عدم واحد متصل - وهذا لا محذور فيه ولذا تجد ان زيدا مثلا لو كان مجتهدا عادلا عند طلوع الفجر وفرض الشكّ في بقائه على الاجتهاد بعد طلوع الشمس فإنّه لا اشكال في جريان استصحاب بقائه على الاجتهاد حتى وان لم يكن الأثر مترتّبا في فترة من الشكّ ، كما لو فرض زوال العدالة بعد طلوع الشمس لمدّة ساعتين فإنّه بعد مضي الساعتين يجري الاستصحاب وان لم يجر من حين طلوع الشمس لفرض زوال العدالة وعدم

ص: 282

ترتّب الأثر (1) ، ففترة ترتّب الأثر وان كانت متأخرة عن زمان اليقين بالاجتهاد إلاّ ان ذلك لا يمنع من جريان الاستصحاب.

2 - ان التفسير المذكور لو تمّ فلازمه عدم جريان استصحاب عدم الكرّيّة حتى في الصورة التي اختار فيها الآخوند جريان الاستصحاب ، وهي الصورة الثانية التي يكون فيها تاريخ الملاقاة معلوما وتاريخ ارتفاع عدم الكرّيّة مجهولا ، كما لو فرض ان الملاقاة تحقّقت في الساعة الثانية ولم يعلم ان عدم الكرّيّة ارتفع في الساعة الاولى أو الثانية الثالثة أو الرابعة ... فإنّه في هذه الصورة ذكر الآخوند ان عدم الكرّيّة الثابت قبل الظهر يجري استصحابه إلى الساعة الثانية التي هي ساعة الملاقاة والحال ان الأثر لو كان مترتّبا على عدم الكرّيّة المقيّد بزمن الملاقاة فلازمه عدم تحقّق الشكّ في الساعة الاولى لأنها ليست ساعة الملاقاة بل يحدث الشكّ في الساعة الثانية ، وبذلك تصير الساعة الاولى فاصلا بين زمان اليقين - وهو ما قبل الظهر - وزمان الشكّ وهو الساعة الثانية.

تفسيران آخران

نقل السيد الشهيد تفسيرين لكلام الآخوند المتقدم ويمكن اضافة تفسيرين آخرين - وبهذا تصير مجموع التفاسير أربعة - هما : -

1 - ان يكون المقصود نفس ما استند إليه السيد الشهيد ، فإنّه استند في

ص: 283


1- إذ مع زوال العدالة لا يترتّب الأثر على بقاء الاجتهاد لأنّ شرط جواز التقليد توفر الاجتهاد والعدالة فإذا اختلّت العدالة فلا يترتّب الأثر على بقاء الاجتهاد وحده.

توجيه عدم جريان استصحاب عدم الكرية في الصورة الثالثة وشق من الصورة الاولى إلى احتمال كون المورد من موارد نقض اليقين باليقين وليس من موارد نقض اليقين بالشكّ ، ولعل مقصود الآخوند هو هذا أيضا كما اشير إلى ذلك في التقرير ج 6 ص 312 (1).

2 - ما تقدمت الاشارة له في ص 250 س 13 من الحلقة حيث قال قدس سره : « وهذا بعض معاني ما يقال من عدم اتصال زمان الشكّ بزمان اليقين » والمقصود من كلمة « هذا » هو احتمال كون زمان المشكوك وزمان المتيقن واحدا.

قوله ص 313 س 13 : وان كان قريبا جدا إلخ : وإنّما كان قريبا وليس نفسه باعتبار ان الآخوند يقول بعدم جريان الاستصحاب في الصورة الثالثة وفي الصورة الاولى بكلا شقيها بينما السيد الشهيد يقول بعدم جريانه في الصورة الثالثة وفي خصوص الشق الأوّل من الصورة الاولى.

قوله ص 314 س 3 : قليلا : أي ليس بكرّ.

قوله ص 314 س 14 : فيه : أي في عدم الكرية.

قوله ص 315 س 5 : اطلاقا : أي ابدا.

قوله ص 315 س 17 : عبادته : الصواب : عبارته.

قوله ص 316 س 2 : التفسيرات : الصواب : التفسير.

قوله ص 316 س 6 : وبصورة مستقلة عن الملاقاة : عطف تفسير لقطعات الزمان.

ص: 284


1- حيث انّه في التقرير ذكر ثلاثة تفاسير لكلام الآخوند هذا احدهما والآخران هما التفسيران المتقدمان.

قوله ص 316 س 16 : رمان : الصواب : زمان.

قوله ص 317 س 7 : فقد يتبادر : التعبير ب- « قد » إشارة إلى عدم التسليم بعدم ثبوت الشكّ قبل زمان الملاقاة لما أوضحناه سابقا.

قوله ص 318 س 4 : فانّ المناط اتصال إلخ : إذ مع عدم الاتصال لا يكون المشكوك والمتيقن واحدا بل يكونان متعددين فالمشكوك يصير غير المتيقن والمتيقن غير المشكوك ، ومعه فلا يجري الاستصحاب لأنّ شرط جريانه وحدة المتيقن والمشكوك.

قوله ص 318 س 8 : عند الطلوع : لعل الاولى التعبير : بعد طلوع الشمس.

قوله ص 318 س 10 : إلى ساعتين إلخ : لعل الاولى التعبير : بعد ساعتين من طلوع الشمس.

قوله ص 319 س 8 : وذلك اكتفاء إلخ : بالنسبة إلى البحث عن الأصل السببي والمسببي لم يكتف قدس سره بما تقدم في الحلقة الثانية بل عاد إليه هنا لتكميله وتعميقه ص 363.

ص: 285

ص: 286

تعارض الأدلّة الشرعية

اشارة

ص: 287

ص: 288

البحث عن الخاتمة :

اشارة

الابحاث التي يتعرض لها قدس سره في الخاتمة المتكفلة لمبحث تعارض الأدلة الشرعية أربعة هي : -

1 - التمهيد. وفيه يتعرض إلى تحديد المقصود من التعارض المصطلح.

2 - قاعدة الجمع العرفي. وفيه يتعرض إلى خمس جهات للبحث.

3 - حكم المتعارضين بمقتضى القاعدة الأولية ، بمعنى انّه لو خلينا نحن ودليل حجّية الخبر وقطعنا النظر عن الاخبار العلاجية فهل مقتضاه تساقط الخبرين المتعارضين أو التخيير بينهما.

4 - حكم المتعارضين بمقتضى القاعدة الثانوية ، بمعنى انّ الاخبار العلاجية هل يستفاد منها التخيير بين الخبرين أو لزوم الأخذ بما يشتمل على المرجح.

ما هو التعارض المصطلح :

قوله ص 325 س 1 : التعارض المصطلح هو التنافي إلخ : يمكن منهجه الابحاث المذكورة هنا ضمن النقاط التالية : -

1 - ما هو المقصود من التعارض المصطلح؟

ولتوضيح ذلك نذكر المقدمة التالية : ان التنافي بين الحكمين له ثلاثة اشكال : -

ص: 289

أ - ان يكون التنافي بينهما في مرحلة الانشاء والتشريع المعبر عنها بمرحلة الجعل ، كما لو ورد دليلان احدهما يقول صل وثانيهما يقول لا تصل ، فان الحكمين المذكور بين لا يمكن للمولى تشريعهما فإذا شرّع صل فلا يمكنه تشريع لا تصل ، والعكس بالعكس.

ب - ان يكون التنافي بينهما في مرحلة الفعلية المعبر عنها بمرحلة المجعول.

ومثال ذلك : دليل توضأ ان كنت واجدا للماء ودليل تيمم ان كنت فاقدا للماء ، فانّ الدليلين المذكورين لا منافاة بينهما في مرحلة التشريع إذ يمكن تشريعهما معا بيد أنّه لا يمكن صيرورتهما فعليين معا ، فان وجوب الوضوء لا يصير فعليا إلاّ عند وجدان الماء الذي لازمه عدم فعلية الحكم بوجوب التيمم لانتفاء موضوعه.

إذن التنافي بينهما هو في مرحلة الفعلية فلا يمكن صيرورتهما في وقت واحد فعليين وليس في مرحلة تشريعهما. ويدخل الدليلان في الحالة المذكورة تحت باب الورود.

ج - ان يكون التنافي بينهما في مرحلة الامتثال دون مرحلة التشريع والفعلية.

ومثال ذلك : ما إذا كان شخصان قد أوشكا على الغرق فإذا لم يمكن إلاّ انقاذ احدهما كان انقاذ كل واحد منهما ضدا لأنقاذ الآخر حيث لا يمكن تحققهما ويكون وجوب انقاذ كل واحد منهما مقيدا بعدم إنقاذ الآخر.

في هذا المثال لا نلمس تنافيا بين تشريع الحكمين فتشريع وجوب انقاد كل غريق أمر معقول ، كما ولا تنافي في مرحلة الفعلية فانّه لو لم يمتثل المكلّف الحكمين ولم ينقذ لا هذا ولا ذاك كان كلا الحكمين فعليا في حقه لتحقق شرطه

ص: 290

ويكون عاصيا لهما بعد صيرورتهما فعليين ، ومن هنا نشعر بالوجدان استحقاقه لعقابين.

وعليه فان كان هناك تناف فهو في مرحلة الامتثال بمعنى انّه لا يمكن امتثال كلا الحكمين معا فمع امتثال الحكم الأوّل لا يمكن امتثال الحكم الثاني ، والعكس بالعكس. ويدخل الدليلان في هذه الحالة تحت باب التزاحم.

وإلى هنا تنتهي المقدمة التي أردنا عرضها.

وبعد اتضاح ذلك نقول : انّ التعارض بالمعنى المصطلح هو التنافي بين الدليلين في مرحلة الجعل والإنشاء.

وإن شئت قلت : انّ كل دليل حيث انّه يدل على الجعل والتشريع فمن الوجيه ان نقول ان التعارض هو التنافي بين الدليلين بلحاظ مدلوليهما ، فانّ مدلول كل دليل حيث انّه الجعل فيصح ان نعبر عن التعارض تارة بانّه التنافي بين الدليلين بلحاظ الجعلين واخرى بانّه التنافي بين الدليلين بلحاظ مدلوليهما.

وإذا أردنا ان نذكر مثالا للتعارض فهو مثل صل ولا تصل ، لأنّ التنافي بينهما في مرحلة الجعل ، امّا مثل وجوب الوضوء ووجوب التيمم أو وجوب انقاد هذا الغريق ووجوب انقاذ ذاك الغريق فليس من التعارض المصطلح في شيء لعدم التنافي بينهما في مرحلة الجعل.

لا تعارض بين الاصلين

2 - من خلال ما تقدم يتضح ان التعارض لا يتحقق إلاّ بين الدليلين المحرزين ، أي بين الخبرين مثلا ، إذ كل خبر يدل على الجعل فإذا كان بين الجعلين

ص: 291

تناف تحقق التعارض بين الخبرين. وأمّا الاصول العملية فلا يتحقق بينها تعارض. فمثلا لو شككنا في وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة فأصل البراءة يقتضي عدم الوجوب بينما الاستصحاب يقتضي بقاء الوجوب الثابت عصر الحضور إلاّ انّه لا تعارض بينهما لأن التعارض يثبت بين الدليلين باعتبار التنافي في الجعل الذي يكشفان عنه ، ومن الواضح انّ الاستصحاب ليس له كاشفية عن الجعل بل هو بنفسه جعل فانّ معنى الاستصحاب وجوب إبقاء الحالة السابقة ، ومن المعلوم انّ وجوب إبقاء الحالة السابقة هو بنفسه حكم شرعي نظير وجوب الصلاة ، فكما انّ قولنا تجب الصلاة حكم وجعل شرعي وليس دليلا يدل على الجعل الشرعي كذلك قولنا يجب الأخذ بالحالة السابقة هو بنفسه جعل شرعي وليس دليلا على الجعل الشرعي. ونفس الشيء نقوله بالنسبة إلى أصل البراءة ، فانّ معناه عدم وجوب المشكوك ، وهو بنفسه جعل شرعي وليس دليلا على الجعل الشرعي نظير قولنا يجوز شرب الماء.

أجل ان كان هناك تعارض فهو بين الدليل الدال على الاستصحاب والدليل الدال على أصل البراءة فقول المعصوم علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشكّ » وقوله « رفع عن امتي ما لا يعلمون » يتحقق بينهما التعارض ، إذ كل واحد منهما يكشف عن جعل يتنافى والجعل الذي يكشف عنه الآخر فحديث لا تنقض يكشف عن جعل الاستصحاب الذي يتنافى مع جعل أصل البراءة الكاشف عنه حديث رفع عن امتي ما لا يعلمون.

ان قلت : إذا لم يكن تعارض بين الاستصحاب وأصل البراءة فكيف يعبر أحيانا بانّ الاستصحاب معارض لاصل البراءة كما في المثال المتقدم لصلاة الجمعة.

ص: 292

قلت : انّ التعارض المذكور لا يقصد به التعارض المصطلح بل يقصد به التعارض اللغوي وهو التنافي بين الشيئين فانّ الاستصحاب يقتضي نتيجة تتنافى والنتيجة التي يقتضيها أصل البراءة فذاك يقتضي تنجز وجوب الجمعة بينما هذا يقتضي المعذرية من وجوب الجمعة.

لا تعارض بين الأصل والدليل المحرز

وكما انّه لا تعارض بين الأصلين كذلك لا تعارض بين الأصل والدليل المحرز لنفس النكتة المتقدمة ، فانّ الأصل لا يكشف عن الجعل كيما يحصل التنافي بينه وبين الجعل الكاشف عنه الدليل المحرز. ولئن كان هناك تعارض فهو بين دليل الأصل ودليل حجّية ذلك الدليل المحرز.

لا تعارض بين القطعيين

3 - انّ التعارض لا يتحقق بين الدليلين القطعيين ولا بين الدليل القطعي والدليل الظنّي وإنّما يتحقق بين الدليلين الظنّيين.

أمّا انّه لا يتحقق بين الدليلين القطعيين (1) - كما لو كانت آيتان كل منهما نص صريح في مضمون يتنافى ومضمون الاخرى - فلأن لازمه القطع بتحقق المتنافيين.

وأمّا انّه لا يتحقق بين الدليل القطعي والظنّي فلأنّه مع وجود آية قطعية

ص: 293


1- المقصود من الدليل القطعي ما كان قطعيا من حيث السند والدلالة ، أمّا ما كان قطعيا من حيث السند دون الدلالة أو بالعكس فهو ليس دليلا قطعيا.

الدلالة على معنى معين فالآية الاخرى لا يبقى لها ظهور كاشف عن المعنى ولا يكون حجّة فيه ، وكيف يكون حجّة فيه ونحن نعلم ببطلانه وعدم ثبوته!!! ولو كان باقيا على افادته للظن يلزم اجتماع القطع والظن بالمتنافيين ، وهو غير ممكن كما لا يمكن القطع بتحقق النهار والظن بتحقق الليل.

وامّا تحققه بين الدليلين الظنيين فذاك واضح (1).

اقسام ثلاثة للدليل الظني

4 - ان الدليلين الظنيين اللذين يمكن تحقق التعارض بينهما لهما اشكال ثلاثة : -

أ - ان يكونا لفظيين كآيتين أو روايتين.

ب - ان يكونا غير لفظيين كتقريرين من قبل المعصوم علیه السلام .

ج - ان يكون احدهما لفظيا وثانيهما غير لفظي.

أمّا إذا كانا لفظيين فالتعارض بينهما له نحوان : -

1 - ان يكون تعارضا غير مستقر.

2 - ان يكون تعارضا مستقرا.

ص: 294


1- وقد يقال انّه ليس ممكنا أيضا لأنّ الظن بالمتنافيين مستحيل أيضا. والجواب : انّه ليس المقصود من كون الدليل ظنيّا كونه مفيدا للظن الشخصي حتى يقال انّه لا يمكن تحقق الظن الشخصي بالمتنافيين وإنّما المراد كونه مفيدا للظن النوعي فخبر الثقة مفيد للظن النوعي ، أي ان غالب أفراد الخبر تفيد الظن والكاشفية ، ومن الواضح انّ الظن النوعي بالمتنافيين أمر معقول.

والمقصود من التعارض غير المستقر كون الدليلين بمثابة لو عرضا على العرف لجمع بينهما ولم ير بينهما تعارضا ، كما هو الحال في العام والخاص فانّ العرف يرى الخاص قرينة مفسرة للمراد من العام ، ولئن كان بينهما تعارض فهو غير مستقر بنظر العرف. وأحيانا يتصرف العرف في كلا الدليلين كما لو قيل صل صلاة الليل ولا تصل صلاة الليل ، فانّه قد يقال بتصرفه في كليهما فيحمل الأوّل على الاستحباب بقرينه الثاني والثاني يحمله على نفي الوجوب بقرينه الأوّل.

والمقصود من التعارض المستقر كون الدليلين بمثابة لو عرضا على العرف لم يجمع بينهما ، نظير دليل صل ولا تصل فان العرف لا يجمع بينهما بحمل الأوّل على حالة عدم الاغماء والثاني على حالة الاغماء مثلا.

وفي موارد التعارض المستقر لا يمكن لدليل حجّية السند شمول كلا المتعارضين كما ولا يمكن لدليل حجّية الظهور شمولهما معا ، لأن لازم الشمول لهما معا ثبوت كل واحد منهما وانتفاؤه في وقت واحد ، إذ كل واحد منهما يثبت مفاد نفسه وينفي مفاد الآخر فلو شملهما دليل الحجّية معا لزم ثبوت مفادهما معا وعدم ثبوته في وقت واحد.

وعدم إمكان شمول دليل حجّية السند والظهور لهما هو ما يعبر عنه بان التعارض يسري إلى دليل الحجّية ، فانّ المقصود من سراية التعارض له هو انّه - دليل الحجية - لا يمكن ان يشملهما معا لوقوع التنافي في مدلوله وان جعل كل واحد منهما ثابت وغير ثابت.

وهن قاعدة الجمع اولى من الطرح

ثم انّ الميزان في باب التعارض غير المستقر إمكان الجمع بين الدليلين في

ص: 295

نظر العرف ، أمّا إذا كان الجمع ممّا لا يستسيغه العرف - كحمل حديث ثمن العذرة سحت على العذرة النجسة وحمل حديث لا بأس بثمن العذرة على العذرة الطاهرة - فهو ما يسمى بالجمع التبرعي (1) وهو ممّا لا عبره به إذ لم يقم دليل على انّ الجمع ولو لم يكن عرفيا اولى من الطرح.

ظهور الحال

ذكرنا انّ ظهور احد الكلامين إذا كان قرينة على تفسير الظهور الآخر في نظر العرف جمع بينهما بما يراه العرف.

ونفس هذا الذي ذكرناه في ظهور الكلام يأتي في ظهور الحال فإذا أراد الامام علیه السلام تعليم زرارة الوضوء وبيّن كيفية الوضوء بدون اشارة إلى المضمضة كان ظهور حاله في بيان أجزاء الوضوء وكيفيته دالا على عدم جزئية المضمضة وإلاّ لأتى بها ، فإذا فرضنا في قضية اخرى ان الامام علیه السلام توضأ وأتى بالمضمضة فالعرف يجمع بين ظهور الحال في القضية الاولى وبين ما يقتضيه ظهور الحال في القضية الثانية بحمل المضمضة على انّها جزء مستحب لم يات به الامام في القضية الاولى وأتى به في القضية الثانية.

الدليلان غير اللفظيين

هذا كله في الدليلين اللفظيين ، وأمّا الدليلان غير اللفظيين فالتعارض بينهما

ص: 296


1- سمي بذلك لعدم وجود مبرر للجمع سوى التبرع.

مستقر دائما ، فانّ تقرير المعصوم علیه السلام ليس له لسان يمكن ان يفسر التقرير الآخر بخلافه في ظهور الكلام وظهور الحال فإنهما صالحان لذلك عرفا.

وما دام التعارض بين التقريرين مستقرا فالتعارض يسري إلى دليل حجّيتهما فإذا كان دليل حجّية التقريرين دليلا لفظيا لوحظ نوع التعارض فيه هل هو مستقر أو لا ، وإذا لم يكن دليلا لفظيا - كما إذا كان سيرة العقلاء - فالتعارض مستقر حتما.

قوله ص 325 س 5 : كما تقدم في الحلقة السابقة : ص 449.

قوله ص 325 س 7 : وجعل : عطف تفسير لمدلول.

قوله ص 326 س 3 : كذلك : أي متعارضان بحسب النتيجة.

قوله ص 327 س 1 : من هذه الناحية : أي ناحية كونهما لفظيين أو غير لفظيين.

قوله ص 328 س 6 : ومثل الكلام في ذلك إلخ : أي مثل ظهور الكلام في صلاحيته لتفسير الكلام الآخر ظهور الحال.

قوله ص 328 س 10 : وما يشبههما : كظهور الحال.

ص: 297

ص: 298

الورود والتعارض

اشارة

قوله ص 329 س 1 : وعلى ضوء ما تقدم نعرف إلخ : تقدم في الحلقة السابقة ص 452 المقصود من الورود وانّه عبارة عن كون احد الدليلين رافعا لموضوع الدليل الآخر رفعا حقيقيا أو مثبتا لموضوع الدليل الآخر اثباتا حقيقيا.

مثال الرفع : دليل صحة اجارة الشيء المباح ودليل حرمة إدخال الجنب في المسجد ، فانّه على ضوء هذين الدليلين لا يجوز استئجار الجنب لدخول المسجد إذ الدليل الثاني إذا اثبت حرمة إدخال الجنب في المسجد انتفى موضوع الدليل الأوّل - وهو كون الشيء مباحا - وبانتفائه ينتفي حكمه بصحة الإجارة ، فالدليل الثاني إذن وارد على الدليل الأوّل بمعنى انّه رافع لموضوعه.

ومثال الإثبات : دليل جواز الإفتاء استنادا إلى الحجّة ودليل حجّية خبر الثقة ، فإنّه بمقتضى الدليل الثاني يثبت مصداق جديد للحجّة ويجوز الاستناد إليه في مقام الإفتاء ، فالدليل الثاني وارد على الدليل الأوّل بمعنى انّه محقق لفرد من موضوع الدليل الأوّل الذي هو الحجة.

وباتضاح معنى الورود بقسميه نطرح السؤال التالي : هل باب الورود داخل تحت باب التعارض أو لا؟ الصحيح خروجه عنه.

أمّا خروج الورود بالاثبات عن باب التعارض فواضح لانّ دليل حجّية خبر الثقة بعد اثباته الحجّية لخبر الثقة فدليل جواز الافتاء سيقول للمكلف انّي

ص: 299

اسمح لك بالاستناد إلى خبر الثقة والإفتاء على طبقه ولا يقول لا يحق لك ذلك ليتحقق التعارض بينهما.

وأمّا خروج الورود بالنفي عن باب التعارض فلأنّ دليل صحّة اجارة المباح وان كان يقول لا تصح الاجارة على إدخال الجنب ويرفض صحة استئجاره ، وبذلك تحصل المعارضة بين حرمة إدخال الجنب وصحّة اجارته إلاّ انّ هذه المعارضة ليست في مقام الجعل والتشريع فانّ تشريعهما معا شيء معقول فيصح من المولى ان يقول تصح الاجارة على المباح ويحرم إدخال الجنب في المسجد للكنس وإنّما التنافي بينهما من حيث المجعول ، بمعنى انّه لا يمكن ثبوت الحرمة الفعلية لادخال الجنب وفي نفس الوقت تصح اجارته لكنس المسجد بل متى ما تحققت الحرمة الفعلية لإدخال الجنب لم تكن اجارته صحيحة بالفعل.

ومع عدم التنافي بينهما في مقام التشريع فلا تعارض بينهما بالمعنى المصطلح لانّ التعارض بالمعنى المصطلح على ما تقدم يعني التنافي في مقام الجعل والتشريع.

ثم انّه ذكر في تحديد الورود كون الإثبات بسبب الدليل الوارد إثباتا حقيقيا وكون النفي نفيا حقيقيا. وهذا القيد - أي كون الإثبات أو النفي حقيقيا - ما ذا يراد به؟

انّ القيد المذكور يراد به الاحتراز عن الحكومة فانّ الدليل الحاكم يثبت فردا أو ينفي فردا بيد انّ الإثبات والنفي حاصل بالتعبد والاعتبار لا حقيقة ، فمثلا حينما يقول أحد الدليلين اكرم العالم ويقول الدليل الثاني الفاسق ليس بعالم وان درس ما درس نجد انّ الدليل الثاني حاكم يرفع عنوان العالم عن العالم الفاسق إلاّ انّ هذا الرفع ليس رفعا حقيقيا إذ العالم الفاسق عالم حقيقة. وهكذا حينما يقول

ص: 300

أحد الدليلين اكرم العالم ويقول الدليل الثاني المتقي عالم نجد انّ الدليل الثاني حاكم يثبت عنوان العالم للمتقي إلاّ انّ ذلك بالاعتبار والتعبد وإلاّ فالمتقي بمجرد تقواه لا يصير عالما حقيقة. هذا في الحكومة.

وامّا في الورود فالرفع والإثبات حقيقي فإنّ دليل حجّية خبر الثقة يحقق عنوان الحجّة لخبر الثقة حقيقة ، ودليل حرمة إدخال الجنب ينفي عنوان المباح - الذي هو موضوع دليل صحّة الاجارة - حقيقة وليس بالاعتبار والتعبد.

تقسيم الورود

يمكن تقسيم الورود باعتبار من الاعتبارات إلى أقسام ثلاثة هي : -

1 - ان يكون الدليل الوارد رافعا لموضوع الدليل المورود بفعليته ، بمعنى كون الدليل المورود مقيدا بعدم فعلية الدليل الوارد.

2 - ان يكون الدليل الوارد رافعا لموضوع الدليل المورود بوصوله لا بمجرد فعليته ، بمعنى كون الدليل المورود مقيدا بعدم العلم بالدليل الوارد.

3 - ان يكون الدليل الوارد رافعا لموضوع الدليل المورود بامتثاله لا بفعليته ووصوله ، بمعنى كون الدليل المورود مقيدا بعدم امتثال الدليل الوارد.

مثال الأوّل : دليل صحّة الاجارة على المباح ودليل حرمة إدخال الجنب في المسجد فانّ حرمة إدخال الجنب متى ما كانت فعلية تحقق بذلك عدم صحّة الاجارة حتى وان لم تصل الحرمة الفعلية (1).

ص: 301


1- ينبغي الالتفات إلى انّ فعلية الحكم بفعلية موضوعه ، فمتى ما صدق عنوان إدخال الجنب تحققت الحرمة الفعلية حتى وان لم يعلم بها المكلّف ولم تصثل له فانّ الوصول ليس شرطا لفعلية الحكم وانّما هو شرط للتنجز واستحقاق العقوبة.

ومثال الثاني : دليل القرعة لكل أمر مشكل ودليل اصالة الحلية ، فلو كان لدينا مائع مردد بين الخل والخمر فهو مشكل قبل الالتفات إلى اصالة الحلية امّا بعد الالتفات إلى اصالة الحلية وان كل شيء حلال حتى تعرف انّه حرام فلا يبقى عنوان المشكل صادقا ، وكيف يبقى صادقا والشارع يقول انّه حلال!!

إذن ببركة اصالة الحلية يرتفع عنوان المشكل ولكن لا يرتفع بمجرد تشريع اصالة الحلية وفعليته بل لا بدّ وان يصل إلى المكلّف ويعلم بثبوت الحلية في حقه فإنّه حينذاك يرتفع عنوان المشكل.

ومثال الثالث : الصلاة المزاحمة بإزالة النجاسة عن المسجد فانّ دليل وجوب الصلاة التي هي الواجب المهم مقيد بعدم الاشتغال بامتثال الإزالة التي هي الأهم فدليل وجوب الإزالة وارد على دليل وجوب الصلاة بمعنى انّه بامتثاله يرفع موضوع وجوب الصلاة كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في القسم الأوّل من هذه الحلقة ص 317.

تقسيم ثاني للورود

وهناك تقسيم ثاني للورود - باعتبار آخر - وهو انّ الورود تارة يكون من جانب احد الدليلين دون الآخر واخرى يكون من كلا الجانبين.

أمّا الورود من جانب واحد فمثاله ما تقدم ، فانّ دليل وجوب الإزالة مثلا هو الوارد على دليل وجوب الصلاة بلا عكس.

ص: 302

وأمّا الورود من الجانبين فله اشكال ثلاثة : -

1 - ان يكون الورود من الجانبين - بمعنى انّ كلا منهما مقيد بعدم الآخر - ويكون كل واحد منهما رافعا لموضوع الآخر بالفعل.

2 - ان يكون الورود من الجانبين ويكون معقولا وممكنا إلاّ انّ احدهما يرفع موضوع الآخر بلا عكس.

3 - ان يكون الورود من الجانبين ولا يكون معقولا.

مثال الأوّل : ان يكون كل واحد من الحكمين مقيدا بعدم ثبوت الآخر لو لا المعارضة ، كما لو فرض انّ شخصا استطاع للحج وكان قد نذر زيارة الامام الحسين علیه السلام يوم عرفة وفرض انّ وجوب الحج مقيد بعدم ثبوت وجوب الوفاء بالنذر لو لا المعارض وفرض أيضا انّ وجوب الوفاء مقيد بعدم ثبوت وجوب الحج لو لا المعارض ، فانّ الورود حينئذ يصير من الجانبين ويرتفع بسببه كلا الحكمين ، فإنّ الحج حيث انه واجب على تقدير عدم المعارضة بالنذر فيكون وجوب الوفاء بالنذر منتفيا ، وهكذا وجوب الوفاء بالنذر حيث انه واجب على تقدير عدم المعارضة بوجوب الحج فيكون وجوب الحج منتفيا.

ومثال الثاني : ان يفرض ان دليل وجوب الحج مقيّد بعدم امتثال النذر بينما وجوب الوفاء بالنذر لم يقيد بعدم امتثال وجوب الحج بل بعدم ثبوت وجوب الحج. في مثل هذه الحالة يكون كل واحد من الحكمين واردا على الآخر حيث ان كل واحد منهما مقيّد بعدم الآخر - غاية الأمر أحدهما مقيّد بعدم وجوب الثاني بينما الثاني مقيّد بعدم امتثال الأول (1) - إلاّ انه لا يكون كل واحد منهما رافعا للآخر

ص: 303


1- وقد تقدّم في التقسيم السابق ان الورود يتحقّق تارة بالتقييد بعدم امتثال الحكم الآخر ويتحقّق اخرى بالتقييد بعدم وجود الحكم الآخر.

بل يكون وجوب الحج هو الرافع لوجوب الوفاء بالنذر بلا عكس ، فإنّ دليل وجوب الوفاء بالنذر إذا كان ثابتا وغير مرتفع فأمّا ان يكون ثابتا في حالة عدم امتثال النذر ، أو يكون ثابتا في حالة امتثاله ، وكلاهما باطل.

أمّا الأوّل فلأنّه في حالة عدم امتثال النذر يصير وجوب الحج ثابتا بالفعل (1) ، ومع ثبوته بالفعل ينتفي وجوب الوفاء بالنذر لأنّه مقيّد بعدم ثبوت حكم على خلافه ، ووجوب الحج حكم ثابت مخالف لوجوب الوفاء بالنذر.

وأمّا الثاني فلأنّ ثبوت وجوب الوفاء بالنذر في خصوص حالة امتثاله معناه ان الحكم لا يثبت إلاّ على تقدير امتثاله وهو باطل لأنّ الامتثال فرع الحكم فلا يمكن ان يكون ثبوت الحكم فرع الامتثال وإلاّ يلزم الدور.

ومثال الثالث : ما إذا كان دليل وجوب الحج مقيّدا بعدم ثبوت الوجوب الفعلي للوفاء ، وهكذا وجوب الوفاء مقيّد بعدم ثبوت الوجوب الفعلي للحج. والورود هنا ثابت من الجانبين لأنّ كلاّ منهما مقيّد بعدم الوجوب الفعلي للآخر ولكنه مستحيل إذ كل واحد منهما - لو لا حظناه أولا - صالح لرفع الآخر ، أي صالح لأن يكون مانعا من وجود الآخر ورافعا له ، وإذا كان كلّ منهما مانعا من الآخر فيكون وجود كل واحد منهما موقوفا على عدم الآخر من باب توقّف وجود الشيء على عدم مانعه ، ومن الواضح ان ذلك مستحيل للزوم الدور لأنّ الأول إذا كان موقوفا على عدم الثاني من باب توقّف الشيء على عدم مانعه ،

ص: 304


1- لأنّ وجوب الحج مقيّد حسب الفرض بعدم امتثال النذر ، فعند عدم امتثال النذر يصير وجوب الحج فعليّا.

وعدم الثاني حيث انه موقوف على وجود الأول - إذ مع عدم الوجود الفعلي لكلّ واحد منهما يكون الآخر موجودا بالفعل - فيلزم توقّف وجود الأول على وجود الأول ، وهو ما ذكرناه من الدور.

وعليه فيلزم التعارض بين الحكمين ويلزم تطبيق احكام التعارض - التي هي تقديم الأقوى سندا أو دلالة - لعلمنا بكذب أحد التوقفين ، إذ ثبوت كلا التوقفين مستحيل للزوم الدور فيكون أحد التوقفين كاذبا.

إن قلت : ما هو الفرق بين هذا الشكل والشكل الأول.

قلت : انه في الشكل الأول كان كل واحد منهما موقوفا على عدم ثبوت الآخر لو لا المعارض ، فالحج لو لا المعارضة بالنذر إذا كان وجوبه ثابتا فلا وجوب للوفاء بالنذر ، وهكذا النذر لو لا المعارضة بالحج إذا كان وجوب الوفاء به ثابتا لم يكن وجوب للحج. ومثل هذا الورود من الجانبين معقول ويرتفع كلا الحكمين ولا يكون هذا ولا ذاك ثابتا ، لأنّ كل واحد منهما حيث انه ثابت في نفسه لو لا المعارضة بالآخر فيكون الموضوع لارتفاع كل واحد منهما محقّقا فيرتفعان معا.

وهذا بخلافه في هذا الشكل فإنّ الموضوع لارتفاع كل واحد منهما ليس هو ثبوته في نفسه ولو لا المعارض بل هو ثبوته بالفعل ، فإذا كان الأول ثابتا بالفعل - أي كان ثابتا حتى بعد المعارضة لا بقطع النظر عنها - فالثاني مرتفع ، وإذا كان الثاني ثابتا بالفعل فالأول مرتفع ، وحيث ان كل واحد منهما لا يمكن ان يكون ثابتا بالفعل فتحصل المعارضة للعلم بعدم امكان ثبوت كلا التوقفين.

قوله ص 329 س 1 : بالمعنى الذي تقدّم في الحلقة السابقة : أي ص 452.

ص: 305

قوله ص 329 س 13 : ثم ان ورود إلخ : هذا اشارة إلى التقسيم الأول.

قوله ص 330 س 8 : بعدم كونها كذلك : أي بعدم كونها اجارة على الحرام.

قوله ص 330 س 14 : وقد يتّفق التوارد من الجانبين إلخ : هذا اشارة إلى التقسيم الثاني.

قوله ص 330 س 15 : ويأخذ مفعوله في كلا الطرفين : بمعنى ان كل واحد منهما يكون رافعا للآخر بالفعل.

قوله ص 331 س 5 : ولو لا الآخر : عطف تفسير لقوله « في نفسه ».

قوله ص 331 س 6 : وهذا معنى إلخ : أي عدم تحقّق الموضوع لكل واحد منهما بالفعل.

قوله ص 331 س 8 : ان يكون الحكم في أحد الدليلين إلخ : وهو الحكم بوجوب الوفاء بالنذر. والمقصود من الحكم الثاني هو الحكم بوجوب الحج.

قوله ص 331 س 12 : ان ينطبق مدلوله : مدلول دليل الحكم الأول ثبوت الحكم الأول بالفعل.

قوله ص 332 س 3 : صالحا لرفع الآخر : أي صالحا لكونه مانعا من وجود الآخر.

قوله ص 332 س 3 : لو بدأنا به : أيّ لو لا حظناه أولا.

قوله ص 332 س 3 : ولمّا كان من المستحيل إلخ : توجد قبل هذه الجملة مقدمة مضمرة ، وهي انه اذا كان كل منهما صالحا لرفع الآخر ومانعا منه فكل منهما اذن يكون وجوده موقوفا على عدم الآخر من باب توقّف الشيء على عدم

ص: 306

مانعه ، ولمّا كان من المستحيل إلخ.

قوله ص 332 ص 4 : يقع التعارض إلخ : للعلم بكذب أحد التوقفين.

قوله ص 332 س 5 : على الرغم من ورود كل منهما على الآخر : بمعنى صلاحيته لرفع موضوع الآخر.

ص: 307

ص: 308

قاعدة الجمع العرفي

اشارة

قوله ص 333 س 1 : ونتكلم في هذه القاعدة إلخ : ذكرنا فيما سبق ان التعارض على قسمين : مستقر وغير مستقر.

والمقصود من التعارض غير المستقر التعارض في الموارد التي يوجد فيها جمع عرفي. وعليه فيمكن ان نقول ان البحث عن قاعدة الجمع العرفي بحث عن أحكام التعارض غير المستقر. ويقع ص 366 ، ص 381 من الحلقة الكلام عن التعارض المستقر.

والبحث عن قاعدة الجمع العرفي يقع في خمس جهات : -

1 - المقصود من قاعدة الجمع العرفي.

2 - أقسام الجمع العرفي أو بتعبير آخر : أقسام التعارض غير المستقر - وهي الحكومة والتخصيص والتقييد - وبيان نكتة الجمع العرفي في كل قسم.

3 - أحكام عامّة للأقسام الثلاثة للجمع العرفي.

4 - نتائج الجمع بالنسبة إلى الدليل المحكوم والعام والمطلق الذي هو الدليل المغلوب.

5 - بيان بعض المصاديق التي وقع الكلام في انّها من مصاديق الجمع العرفي أو لا.

ص: 309

النظريّة العامّة للجمع العرفي

هذا هو البحث في الجهة الاولى من الجهات الخمس المتقدّمة. والبحث في هذه الجهة يمكن منهجته في نقاط خمس : -

1 - المقصود من قاعدة الجمع العرفي : ان كل ظهور هو حجّة ويؤخذ به ما لم يصدر من المتكلم ظهور ثان اعدّه مفسّرا للظهور الأول وإلاّ أخذ العقلاء بالظهور الثاني - ويسمى بالقرينة - دون الظهور الأول.

2 - ان إعداد ظهور ثان لتفسير الظهور الأول تارة يكون إعدادا شخصيّا ، واخرى يكون إعدادا نوعيّا.

والمراد من الإعداد الشخصي : ان يعدّ نفس المتكلم - لا العرف - الظهور الثاني لتفسير الظهور الأول ، كما لو فرض ان المتكلم قال في كلامه الثاني اني أقصد من ظهور كلامي الأول كذا.

ومن أمثلة الإعداد الشخصي : الدليل الحاكم بالنسبة الى الدليل المحكوم ، فإنّ المتكلم أعدّ الدليل الحاكم ليكون ناظرا ومفسّرا للكلام الأول المحكوم.

والمراد من الإعداد النوعي : ان يعدّ العرف - لا شخص المتكلم - الكلام الثاني مفسّرا للكلام الأول ، وشخص المتكلم لا دور له سوى انه واحد من العرف ويجري على طبق الالتزامات العرفية دون ان يكون هو المعدّ بخصوصه.

ومن أمثلة ذلك : الخاص بالنسبة إلى العام ، فإنّ الخاص يعدّه العرف مفسّرا للعام ولا خصوصية للمتكلم في هذا الإعداد وإنّما هو واحد من العرف ويجري على الموازين العرفية.

ص: 310

3 - تقدّم في القسم الأول من الحلقة الثالثة في مبحث حجّيّة الظهور ان لكل كلام ظهورا تصوريّا وظهورا تصديقيّا (1).

والظهور التصوريّ هو خطور المعنى إلى الذهن عند سماع اللفظ ولو من اصطكاك حجرين. ومنشأ هذا الظهور هو الوضع.

والظهور التصديقي هو ظهور الكلام في ان المتكلم استعمله في معناه الحقيقي.

وتقدّم أيضا ان القرينة إذا كانت متّصلة فهي لا تهدم الظهور التصوري وإنّما تهدم الظهور التصديقي ، فكلمة يرمي مثلا في جملة رأيت أسدا يرمي لا تمنع خطور الحيوان المفترس من كلمة الأسد وإنّما تمنع الظهور التصديقي ، أي الظهور في ان المتكلم قد استعمل كلمة الأسد في الحيوان المفترس فلا يبقى ظهور في ان المتكلم قد استعمل كلمة الأسد في الحيوان المفترس.

وأمّا إذا كانت القرينة منفصلة فهي لا تمنع من أصل انعقاد الظهور التصديقي المذكور وإنّما تمنع حجّيّته ، فإذا قال المتكلم رأيت أسدا ثم ذكر في كلام ثان كلمة يرمي فالكلام الأول يبقى ظاهرا في ان المتكلم قد استعمل كلمة الأسد في الحيوان المفترس غاية الأمر لا يبني العرف على حجّيّته بسبب قرينة الكلام الثاني. ورفع اليد عن حجّيّة ظهور الكلام الأول لأجل القرينة المنفصلة هو عبارة عن الجمع العرفي.

4 - عرفنا ان إعداد الكلام الثاني لتفسير الكلام الأول تارة يكون إعدادا شخصيّا يقوم به شخص المتكلم ، واخرى يكون إعدادا نوعيّا عرفيّا لا يختص

ص: 311


1- المقصود هو الظهور التصديقي الأول ولا يهمّنا الآن الظهور التصديقي الثاني.

بشخص المتكلم.

والسؤال المطروح هنا : كيف نعرف ان المتكلم أعدّ الكلام الثاني كمفسّر للكلام الأول؟ وكيف نعرف ان العرف أعدّ الكلام الثاني كمفسّر للكلام الأول؟

أمّا فيما يخص السؤال الأول فجوابه ان الطريق لمعرفة الإعداد الشخصي هو الظهور ، فمتى ما كان الكلام الثاني للمتكلم ظاهرا في انه قد أعدّه مفسّرا للأول اخذ بذلك الظهور وحكم بإعداد الكلام الثاني مفسرا للأول. ومثال ذلك ما لو قال المتكلم في كلامه الثاني اني أقصد من كلامي الأول كذا.

وأمّا فيما يخص السؤال الثاني فجوابه ان الطريق لمعرفة استقرار بناء العرف على عدّ الكلام الثاني مفسّرا هو وصل الكلام الثاني بالكلام الأول فإذا ارتفع التعارض بينهما ولم يبق ظهور الكلام الأول عدّ العرف الكلام الثاني في صورة انفصاله قرينة مفسّرة للكلام الأول - إذ من لوازم القرينة انها تزيل ظهور الكلام في صورة اتصالها به - وكان الحجّة عندهم الكلام الثاني دون الكلام الأول ، حيث ان الكلام الثاني قرينة والكلام الأول ذو القرينة ، والعرف يثبت الحجّيّة للقرينة دون ذي القرينة. فمثلا لو قال المتكلم أكرم العلماء وبعد مدّة ذكر كلاما منفصلا قال فيه لا تكرم العلماء الفسّاق ، فإنّ هذا الكلام الثاني لو وصل بالأول وقيل هكذا : أكرم العلماء ولا تكرم العلماء الفسّاق لم ير بين الكلامين معارضة بسبب ارتفاع ظهور الكلام الأول في الاستعمال في العموم ، وهذا بخلاف ما لو قيل صلّ ثم قيل منفصلا : لا تصلّ ، فإنّ الكلام الثاني لو وصل بالكلام الأول لم يرتفع التعارض بينهما وكان ظهور الكلام الأول في وجوب الصلاة باقيا.

5 - ان الجمع العرفي يختص بحالة ما إذا كانت القرينة منفصلة دون ما إذا

ص: 312

كانت متصلة إذ في حالة اتصال القرينة - كما لو قال المتكلم أكرم العلماء العدول - لا يبقى ظهور لأكرم العلماء في العموم ليعارض ظهور العدول ويجمع بينهما جمعا عرفيا ، بخلافه في صورة االانفصال ، كما لو قيل اكرم العلماء ثم قيل بعد فترة لا تكرم العلماء الفساق فانّ ظهور الكلام الثاني يتعارض وظهور الكلام الأوّل فيجمع العرف بينهما بالتخصيص.

وباختصار انّ الجمع العرفي فرع التعارض غير المستقر ومع كون القرينة متصلة لا يبقى ظهور للكلام الأوّل ليحصل التعارض ويجمع بالجمع العرفي.

قوله ص 333 س 2 : أو أقسام التعارض غير المستقر : حيث انّ موارد الجمع العرفي هي عبارة اخرى عن موارد التعارض غير المستقر لذا عبر بالتعبير المذكور الذي هو بمثابة عطف التفسير لسابقه.

قوله ص 333 س 9 : وكشف المراد النهائي له : عطف تفسير لسابقه.

قوله ص 333 س 10 : في هذه الحالة : أي حالة اعداء الظهور الثاني مفسرا للأوّل.

قوله ص 334 س 3 : وهذا الاعداد تارة إلخ : هذا إشارة إلى النقطة الثانية.

قوله ص 334 س 3 : شخصيا : كان من المناسب إضافة الجملة التالية : بمعنى انّ شخص المتكلم اعدّ الكلام الثاني كمفسر للكلام الأوّل وتقوم عليه قرينة خاصة.

قوله ص 334 س 10 : وكل قرينة ان كانت إلخ : هذا إشارة إلى النقطة الثالثة.

قوله ص 334 س 11 : اساسا : أي أصلا وابدا.

ص: 313

قوله ص 334 س 12 : لما تقدم : أي في القسم الأوّل من هذه الحلقة في مبحث حجّية الظهور.

قوله ص 334 س 14 : والقرينة الناشئة : هذا إشارة إلى النقطة الرابعة.

قوله ص 334 س 15 : من قبيل إلخ : هذا من قبيل الصراحة التي هي اعلى مستوى من الظهور ، فانّ المتكلم لو قال أقصد من كلامي الأوّل كذا كان ذاك صريحا في الاعداد الشخصي.

قوله ص 335 س 1 : إلى احراز ذلك : أي البناء العرفي.

قوله ص 335 س 1 : غالبا : لعل التعبير بكلمة « غالبا » احتراز عن الموارد التي يكون فيها البناء العرفي المذكور واضحا بلا حاجة إلى الطريق المذكور.

قوله ص 335 س 6 : اساسا : أي حتما وبالكلية.

قوله ص 335 س 8 : وعلى هذا الضوء : هذا إشارة إلى النقطة الخامسة.

قوله ص 335 س 10 : لما عرفت : أي من انّ العرف في موارد القرينة وذي القرينة يجمع بتقديم القرينة. وقد اشير إلى ذلك في النقطة الاولى.

قوله ص 335 س 10 : كما انّ بناء العرف إلخ : هذه الجملة إلى قوله « ويقدم بملاك القرينية » لا نراها إلاّ تكرارا بلا موجب لما ذكر في النقطة الرابعة.

ص: 314

أقسام الجمع العرفي والتعارض غير المستقر

اشارة

قوله ص 336 س 1 : من أهم أقسام إلخ : أقسام الجمع العرفي ثلاثة هي : الحكومة ، التقييد ، التخصيص.

وقد تسأل لماذا لا تعد موارد الورود قسما رابعا من أقسام الجمع العرفي؟

والجواب : انّ الجمع العرفي يختص بصورة وجود ظهورين متعارضين بشكل غير مستقر ، ومن الواضح انّه في موارد الورود لا يوجد تعارض أصلا حتى يجمع عرفا بين الظهورين ، فمثلا دليل صحّة الإجارة على المباح ودليل حرمة إدخال الجنب في المسجد لا يرى بينهما أي تعارض عرفا ليجمع بينهما بجمع عرفي.

وبعد هذا نذكر أقسام الجمع العرفي الثلاثة وهي : -

الحكومة
اشارة

ومثال الحكومة واضح فدليل لا ربا بين الوالد وولده حاكم على قوله تعالى « وحرم الربا » ويقدم بالحكومة. ولكن ما هو المقصود بالدقة من كلمة الحكومة؟

انها تعني النكتة الموجبة لتقدم الحاكم على المحكوم فلو كانت نكتة التقدم هي نظر الحاكم إلى المحكوم فالمقصود من الحكومة هو النظر.

ص: 315

وقد تقول : هل هناك نكتة لتقدم الحاكم سوى النظر؟ والجواب : انّه يوجد في نكتة تقدم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم اتجاهان : -

1 - ما اختاره الشيخ النائيني قدس سره (1) من انّ نكتة تقدم الدليل الحاكم هي انّه لا يذكر مطلبا يرفضه الدليل المحكوم بل يذكر مطلبا إضافيا يسلمه الدليل المحكوم ، فانّ دليل « وحرم الربا » الذي هو الدليل المحكوم يرجع إلى قضية شرطية : أي انّ كل معاملة إذا صدق عليها عنوان الربا فهي محرمة ، ومن الواضح انّ القضية الشرطية لا تثبت الشرط أي الموضوع فلا تقول انّ هذه المعاملة ربا أو تلك ليست بربا بل تقول ان كانت ربا فهي محرمة. وإذا رجعنا إلى الدليل الحاكم الذي يقول لا ربا بين الوالد وولده وجدناه ينفي صدق عنوان الربا على المعاملة بين الوالد وولده ، وهذا كما قلنا مطلب لا يرفضه الدليل المحكوم فانّ الدليل المحكوم لا يقول انّ المعاملة بين الوالد وولده هي من الربا حتى يرفض مقالة الدليل الحاكم.

ويرده : انّ مقالة الدليل الحاكم يرفضها الدليل المحكوم فانّ مفاد الدليل المحكوم انّ المعاملة متى ما صدق عليها عنوان الربا واقعا وكانت ربا واقعا فهي محرمة فالمدار على صدق عنوان الربا واقعا - إذ المدار في العناوين المأخوذة في الأدلة على صدقها الواقعي فحينما يقال الخمر حرام يراد به انّ ما يصدق عليه الخمر واقعا هو حرام - ومن الواضح انّ الدليل الحاكم لا ينفي صدق عنوان الربا واقعا على المعاملة الجارية بين الوالد وولده لتكون المعارضة معدومة وإنّما ينفي

ص: 316


1- أشار لذلك السيد الخوئي في مصباح الاصول ج 3 ص 254

صدقه اعتبارا وتعبدا فهو يقول انا اعبّدك بانّ المعاملة بين الوالد والولد ليست ربوية ، وما دام لا ينفيها واقعا فالمعارضة تبقى على حالها ولا ترتفع ، إذ ما دامت المعاملة بين الوالد وولده ربا واقعا فهي محرمة بمقتضى الدليل المحكوم بينما الدليل الحاكم يقصد من وراء نفيه للموضوع تعبدا نفي الحرمة (1).

2 - والاتجاه الثاني ما تبناه جماعة منهم السيد الشهيد. وحاصله انّ الدليل الحاكم يتقدم على الدليل المحكوم من باب انّه ناظر إليه ، فالمعارضة وان كانت ثابتة خلافا للشيخ النائيني إلاّ انّ الدليل الحاكم لما كان ناظرا إلى الدليل المحكوم فنفس النظر إلى الدليل المحكوم واعداد الدليل الحاكم ليكون مفسرا للدليل المحكوم موجب للتقديم عرفا ، حيث انّ النظر يوجب قرينية الدليل الحاكم ، والقرينة مقدمة على ذي القرينة في مقام الحجّية.

ص: 317


1- وأيضا يرد على الاتجاه المذكور انّه يوضح فقط نكتة تقدم الدليل الحاكم فيما إذا كان ناظرا إلى موضوع الدليل المحكوم ولا يوضح نكتة تقدم الدليل الحاكم فيما إذا كان ناظرا إلى الحكم في الدليل المحكوم ، فانّ الدليل الحاكم تارة يكون ناظرا إلى الموضوع في الدليل المحكوم كما هو الحال في مثال الربا فانّ دليل لا ربا بين الوالد وولده ينفي عنوان الربا الذي هو موضوع في الدليل المحكوم ، واخرى يكون ناظرا إلى الحكم في الدليل المحكوم كما في مثال « لا ضرر » فانّ المقصود لا حكم في صورة الضرر فهو ناظر إلى نفي الحكم الثابت في الأدلة الأولية. والشيخ النائيني في بيانه هذا أوضح نكتة تقدم دليل « لا ربا بين الوالد وولده » على دليل « وحرم الربا » وهي انّ دليل « وحرم الربا » لا يقول ان هذه المعاملة أو تلك ربا أو لا فلا يتنافى ودليل لا ربا بين الوالد وولده ، ولم يوضح لماذا يتقدم دليل لا ضرر فإنّه لم ينظر إلى نفي موضوع الدليل المحكوم ليقال انّ الدليل المحكوم لا يثبت موضوعه فلا يرفض مقالة الدليل الحاكم بل هو ينظر إلى نفي الحكم ومن الواضح انّ الدليل المحكوم يثبت الحكم وليس حياديا من هذه الناحية ويأتي من السيد الشهيد التنبيه على هذه الملاحظة ص 337 من الحلقة تحت عنوان والفارق الآخر.

وباختصار : ان الدليل الحاكم مقدم من باب انّه ناظر ومفسر ، الأمر الذي يوجب ان يكون قرينة على الدليل المحكوم. وهذا من دون فرق بين ان يكون متصلا بالدليل المحكوم أو منفصلا عنه فانّه على كلا التقديرين يتقدم على الدليل المحكوم ، غاية الأمر في صورة اتصاله به لا يبقى ظهور المحكوم معارضا للدليل الحاكم (1) بينما في صورة انفصاله عنه يكون معارضا ولكن يتقدم الحاكم من باب النظر والتفسير.

اقسام النظر

ذكرنا فيما سبق انّ النكتة الموجبة لتقدم الدليل الحاكم هي النظر. والنظر له أشكال ثلاثة : -

1 - ان يكون نظر الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم نظرا صريحا ، كما لو كان الدليل الحاكم مسوقا بلسان التفسير ، كأن يقول « اقصد بالكلام الأوّل كذا » أو ما يشبه ذلك.

2 - ان يكون الدليل الحاكم ظاهرا في النظر إلى الدليل المحكوم وليس صريحا في ذلك ويفرض انّه ناظر إلى موضوع الدليل المحكوم ، كما هو الحال في دليل « لا ربا بين الوالد وولده » فإنّه ناظر إلى موضوع الربا الثابت في دليل

ص: 318


1- لعل الاولى عدم التعميم لصورة اتصال الدليل الحاكم وانفصاله والاقتصار على صورة الانفصال ، إذ في صورة الاتصال حيث لا يبقى للدليل المحكوم ظهور يعارض به الدليل الحاكم فلا يكون المورد من موارد تعارض الظهورين وبالتالي لا يكون من موارد الحكومة ، فانّ الحكومة شكل من اشكال الجمع العرفي وهو يختص بمورد تعارض الظهورين ، والتعارض لا يتحقق عند اتصال القرينة. وقد نبه على ذلك قدس سره سابقا ص 335 س 8 - 10 من الحلقة.

« وحرّم الربا » فهو يرفع موضوع الربا ويثبت انّه غير صادق.

وينبغي الالتفات إلى انّ الدليل الحاكم حينما ينفي صدق عنوان الربا لا ينفيه حقيقة ، كيف والمعنى الحقيقي للربا هو الزيادة وهي - كما هو واضح - صادقة في المعاملة بين الوالد وولده فلا بدّ وان يكون المقصود إذن نفي ذلك ادعاء واعتبارا ، ويقصد من وراء نفي الموضوع ادعاء نفي الحكم أي نفي الحرمة ، فانّ من أحد الاساليب البلاغية في اللغة العربية لنفي الحكم نفيه عن طريق نفي موضوعه ، فبدلا من التصريح بنفي الحرمة مباشرة ينفى صدق عنوان الربا.

3 - ان يكون الدليل الحاكم ظاهرا في النظر إلى الدليل المحكوم ويفرض انّه ناظر إلى الحكم الثابت في الدليل المحكوم لينفيه كما هو الحال في حديث لا ضرر ، فانّ المقصود منه انّه لا حكم ضرري في الاسلام فهو ناظر إلى الحكم الثابت في الأدلة الاولية لينفيه ولا بدّ مسبقا من افتراض وجود احكام كي ينفيها حالة الضرر.

وهكذا حديث « لا ينجّس الماء ميتة ما لا نفس له » ، فإنّه ينفي الحكم بالنجاسة الثابت في الأدلة الاولية التي يستفاد منها تنجس الماء بملاقاة النجاسة.

مقارنة بين الاتجاهين

ذكرنا انّ نكتة تقدم الدليل الحاكم فيها اتجاهان : اتجاه للميرزا يقول بانّ الدليل الحاكم يقدم من باب أنّه يبين مطلبا لا ينفيه الدليل المحكوم ، واتجاه ثان يقول بانّ التقدم من باب النظر. ويوجد بين هذين الاتجاهين فارقان : -

1 - انّه على الاتجاه الثاني لا يتقدم الدليل الحاكم إلاّ إذا كان ناظرا إلى

ص: 319

الدليل المحكوم فلو لم يكن ناظرا لم يكن حاكما بينما على الاتجاه الأوّل لا يشترط في تقدم الدليل الحاكم النظر ، إذ على الاتجاه المذكور يتقدم الدليل الحاكم من باب انّه يرفع موضوع الدليل المحكوم فهو يرفع عنوان الربا ويكون اشبه بالدليل الوارد الذي يتقدم على الدليل المورود من باب انّه يرفع موضوعه ، فكما انّ الدليل الوارد يتقدم من باب انّه يرفع موضوع الدليل المورود بلا حاجة إلى النظر كذلك الدليل الحاكم على اتجاه الميرزا يتقدم من باب انّه يرفع موضوع الدليل المحكوم بلا حاجة إلى النظر (1).

2 - والفارق الثاني هو انّ اتجاه الميرزا لا يفسر نكتة تقدم الدليل الحاكم فيما إذا كان ناظرا إلى نفي الحكم في الدليل المحكوم كدليل نفي الجرح أو نفي الضرر أو عدم تنجس الماء بميتة ما لا نفس له بل يفسر فقط نكتة تقدم الدليل الحاكم فيما إذا كان ناظرا إلى نفي الموضوع في الدليل المحكوم ، وهذا بخلافه على الاتجاه الثاني فانّ نكتة النظر الموجبة لتقدم الدليل الحاكم تعم كلتا حالتي الدليل الحاكم. وقد تقدمت الاشارة إلى هذا فيما سبق.

التقييد

والقسم الثاني من اقسام الجمع العرفي هو التقييد فالدليل على التقييد مقدم على دليل الاطلاق في نظر العرف.

ص: 320


1- ان قلت : فعلى هذا ما الفرق بين الحكومة والورود ما دام قد افترض ان وجه التقدم في كليهما رفع الموضوع؟ قلت : ان رفع الموضوع في الدليل الوارد رفع حقيقي بينما في الدليل الحاكم رفع تعبدي.

والدليل على التقييد له أشكال ثلاثة : -

1 - ان يكون دالا على التقييد بلسان التقييد ، كما لو قال المولى اعتق رقبة ثم قال انّ الحكم السابق مقيد بالايمان.

وفي هذا الشكل يتقدم الدليل المقيد من باب النظر والحكومة حيث انّه بلسانه ناظر إلى الدليل المطلق ويكون داخلا في القسم الأوّل من أقسام الجمع العرفي وهو الحكومة.

2 - ان لا يكون لسانه لسان التقييد وانّما يثبت حكما موافقا لدليل المطلق ولكن في دائرة أضيق ، كما لو قيل اعتق رقبة ثم قيل اعتق رقبة مؤمنة ، فانّ كلا الدليلين يقول اعتق رقبة إلاّ انّ الثاني يقول ذلك في دائرة أضيق.

وفي هذا الشكل تارة يفرض عدم العلم بوحدة الحكم بل يحتمل صدور حكمين من قبل المولى احدهما يدل على وجوب عتق مطلق الرقبة والثاني يدل على وجوب عتق الرقبة المؤمنة من باب انّها الفرد الأفضل ، فعتق الكافرة واجب وعتق المؤمنة واجب أيضا إلاّ انّ عتق المؤمنة أفضل فردي الواجب.

وفي مثل ذلك لا يتحقق تعارض بين المطلق والمقيد اذ لا محذور في صدور حكمين احدهما مطلق وثانيهما مقيد بالفرد الأفضل (1).

واخرى يفرض العلم بوحدة الحكمين ، وفي مثله يحصل التعارض إذ الحكم الواحد لا يمكن ان يكون مطلقا ومقيدا ، وهذا بدون فرق بين كون المقيد متصلا أو منفصلا. غاية الأمر إذا كان متصلا فلا ينعقد ظهور للمطلق في

ص: 321


1- انّما اكتفي في رفع التعارض بعدم العلم بوحدة الحكم ولم يشترط العلم بتعدد الحكم من باب انّه إذا لم يعلم بوحدة الحكم فمقتضى ظهور كل أمر في انّه تاسيسي لا تأكيدي التعدد

الاطلاق بخلاف ما إذا كان منفصلا فإنّه ينعقد ظهور للمطلق في الاطلاق ولكن يقدم ظهور المقيد عليه للقاعدة العرفية المتقدمة وهي انّ كل كلام على تقدير اتصاله بكلام آخر إذا كان رافعا لظهوره فعلى تقدير انفصاله يقدم عليه ، وهنا كذلك فانّ دليل اعتق رقبة مؤمنة على تقدير اتصاله بدليل اعتق رقبة يرفع ظهوره في الاطلاق فيتقدم عليه في صورة انفصاله.

أجل هناك رأي ينسب للشيخ الأعظم الانصاري يقول انّ المقيد المنفصل يتقدم على المطلق لا من باب انّه على تقدير اتصاله يزيل ظهور المطلق في الاطلاق بل من باب انّ المطلق لا يبقى له ظهور في الاطلاق على تقدير ورود المقيد بلا فرق بين كونه متصلا أو منفصلا ، فكما انّ المقيد المتصل يزيل ظهور المطلق في الاطلاق ويتقدم عليه من هذا الباب أي من باب انّه يزيل ظهور المطلق من اساسه كذلك الحال في المقيد المنفصل فانّه بمجرد صدوره من المتكلم يزول ظهور المطلق في الاطلاق ويتقدم عليه من هذه الناحية.

ويعتمد هذا الرأي على الاعتقاد بانّ قرينة الحكمة التي هي المنشأ للظهور الاطلاقي ترتكز على عدم ذكر المقيد المتصل والمنفصل لا خصوص عدم ذكر المقيد المتصل.

ولكن تقدم في القسم الأوّل من هذه الحلقة في بحث حجّية الظهور ص 290 ابطال هذا الرأي وقلنا : الصحيح انّ المقيد إذا كان منفصلا فظهور المطلق في الاطلاق لا يزول ولكن مع ذلك يتقدم المقيد عليه في نظر العرف للقاعدة العرفية المتقدمة.

3 - ان يكون الدليل المقيد دالا على إثبات حكم مضاد للحكم المطلق ، كما

ص: 322

لو قيل اعتق رقبة ثم قيل لا تعتق الرقبة الكافرة (1). وفي هذا الشكل إذا فرض انّ الدليل المقيد ارشادي ، أي يرشد إلى انّ الحكم الأوّل مقيّد بعدم الكفر - وكأنّه يقول ارشدك إلى انّ الحكم الأوّل مقيد بعدم الكفر - فلا إشكال في تقدمه على المطلق من باب النظر والحكومة ويكون حاله حال الشكل الأوّل الذي يتقدم فيه الدليل المقيد من باب النظر والحكومة.

إذن لأجل ان يحصل الاختلاف بين هذا الشكل والشكل الأوّل لا بدّ من فرض النهي في هذا الشكل نهيا تكليفيا لا إرشاديا.

ثم انّه في هذا الشكل يتقدم الدليل المقيد على الدليل المطلق سواء إحرز وحدة الحكم أم لا ، ولا حاجة إلى اعتبار إحراز وحدة الحكم إذ لا يمكن للمتكلم ان يقول في أحد الحكمين يجب عتق مطلق الرقبة بما في ذلك الكافرة ويقول في حكم ثان لا يجوز عتق الكافرة ، فانّ المنافاة واضحة.

وقد تسأل لماذا يتقدم الدليل المقيد في هذا الشكل على الدليل المطلق في حالة احراز وحدة الحكم وكذا في حالة عدم احراز ذلك؟

انّ النكتة هي القاعدة العرفية المتقدمة التي تنص على انّ كل كلام على تقدير اتصاله بكلام ثان إذا رفع ظهوره ففي حالة انفصاله يتقدم عليه عرفا من باب القرينية.

ص: 323


1- ويعبر عن هذه الحالة بالمطلق والمقيد المختلفين سلبا وإيجابا فانّ المطلق موجب بينما المقيد سلبي ، وهذا بخلافه في الحالة السابقة فانّ المقيد موافق للمطلق في الايجاب إذ كلاهما إيجابي.
التخصيص
اشارة

والقسم الثالث من أقسام الجمع العرفي هو التخصيص. وهو على ثلاثة أشكال أيضا كما مرّ في التقييد : -

1 - ان يكون التخصيص بلسان التخصيص ، كما لو قال المتكلّم أكرم العلماء ثم قال انّ الحكم باكرام العلماء مختص بالعدول.

وفي هذا الشكل لا إشكال في تقدم الدليل المقيد من جهة النظر والحكومة.

2 - ان لا يكون التخصيص بلسان التخصيص وانّما يفرض توجه الحكم في الخاص إلى عنوان أضيق من عنوان العام مع اتفاقهما في السلب والإيجاب ، كما إذا قال المتكلّم اكرم العلماء ثم قال اكرم العلماء العدول.

وفي هذا الشكل إذا فرض عدم إحراز وحدة الحكم فيحكم بتعددهما بمقتضى ظهور كل حكم في التأسيس ولا يتحقق التعارض بينهما لنفس النكتة المتقدمة في التقييد. واذا احرز وحدتهما تحقق التعارض بينهما وحكم بتقدم الخاص للقاعدة العرفية المتقدمة ، فانّ الخاص على تقدير اتصاله بالعام يرفع ظهوره في العموم ففي حالة انفصاله يقدم بالقرينية.

3 - نفس الشكل الثاني مع افتراض الاختلاف في السلب والإيجاب بان يفرض انّ الحكم في الخاص نقيض لحكم العام - مثل اكرم كل عالم ولا تكرم النحوي - أو ضد له مثل اكرم كل عالم ويحرم اكرام النحوي (1). وفي هذا الشكل

ص: 324


1- التعبير ب- « يحرم اكرام النحوي » اولى من تعبير السيد الشهيد « لا يجب اكرام النحوي » فانّ حكم الخاص في كلا المثالين نقيض حكم العام وليس احدهما ضدا والآخر نقيضا.

يقدم الخاص أيضا للقاعدة العرفية المتقدمة.

وبهذا اتضح انّه في جميع الاشكال الثلاثة يقدم الخاص عند معارضته للعام للقاعدة العرفية - كما في الشكلين الأخيرين - أو للحكومة كما في الشكل الأوّل ، غاية الأمر مع فرض اتصال الخاص بالعام لا ينعقد للعام ظهور في العموم ومع انفصاله ينعقد له ظهور في العموم ولكن يقدم الخاص عليه للقاعدة العرفية القاضية بقرينية الخاص المنفصل على تقدير ازالته للظهور حالة الاتصال.

نقطتان وقع الخلاف فيهما

كل ما ذكرناه فيما سبق لم يقع محلا للخلاف وانّما وقع الخلاف في نقطتين : -

1 - انّ الخاص حينما حكم بتقدمه على العام فهل نكتة تقدمه هي كونه خاصا فالخصوصية بما هي خصوصية موجبة لتقدمه أو انّ نكتة تقدمه هي الأظهرية فالخاص بما انّه أظهر من العام يقدم عليه ، فلو قيل مثلا اكرم كل عالم ثم قيل اكرم العالم العادل فالخاص ظاهر في وجوب اكرام العالم العادل وظهوره في ذلك أقوى من ظهور العام فانّ العام لم يرد في خصوص العالم العادل بخلاف الخاص.

وقد تقول ما هي الثمرة في هذا الخلاف ما دام الخاص يتصف دائما بكلتا النكتتين فهو دائما خاص وأظهر؟

انّه يمكن أحيانا فرض الثمرة ، كما لو قيل لا يجب اكرام الفقراء ثم قيل اكرم الفقير القانع ، فانّه لو كان المدار على الأخصية فاللازم تقدم الخاص لأنّه اخص

ص: 325

بينما لو كان المدار على الأظهرية فالحكم بتقدمه مشكل ، فانّ تخصيصه للعام بحاجة إلى ظهورين : ظهوره في الشمول لمورده أي للفقير القانع وظهور صيغة اكرم في الوجوب ، إذ لو لا دلالة اكرم على الوجوب لا يمكن استفادة وجوب اكرام خصوص الفقير القانع ليكون مخصصا للعام ، ونحن إذا سلمنا اقوائية الظهور الأوّل - أي ظهور الخاص في الشمول لمورده - من ظهور لا يجب اكرام الفقراء في الشمول للفقير القانع فلا نسلم اقوائية ظهور صيغة اكرم في الوجوب من ظهور لا يجب اكرام الفقير في نفي الوجوب ، فانّ كلمة « لا يجب » صريحة في نفي الوجوب ودلالتها على نفي الوجوب أقوى من دلالة أكرم على الوجوب ، فلو كان المدار على اقوائية الظهور فلا يمكن الحكم بتقدم الخاص لأنّ ظهوره الثاني في الوجوب اضعف من ظهور لا يجب في نفي الوجوب.

والصحيح : انّ الموجب لتقدم الخاص ليس هو أظهريته بل أخصيته ، والنكتة في ذلك انّ الموجب لتقدمه هو القاعدة العرفية المتقدمة ، وهي انّ الخاص حيث يزيل ظهور العام على تقدير اتصالة فعلى تقدير انفصاله يكون قرينة مقدمة على العام ، ومن الواضح انّ هذه القاعدة العرفية لا تختص بحالة ما إذا كان ظهور الخاص اقوى بل تشمل كلتا الحالتين فالخاص وان لم يكن اقوى ظهورا متى ما اتصل بالعام ازال ظهوره ورفع التعارض فيكون في حالة انفصاله قرينة متقدمة على العام حتى على تقدير عدم اقوائية ظهوره.

أجل نحن بهذا لا نريد ان ننكر قدسية الأظهرية وانها من موجبات التقدم على الدليل الظاهر بل نحن نسلم بانّ الاظهرية من القرائن الصالحة لتقدم الاظهر في المواطن الاخرى بيد انا ندعي انّ الخاص في مقامنا يتقدم لا من باب أظهريته بل من باب أخصيته.

ص: 326

كبرى انقلاب النسبة

2 - والنقطة الاخرى التي وقع فيها الخلاف هي انّه لو كان لدينا عامان أحدهما يقول مثلا يجب اكرام الفقراء وثانيهما يقول لا يجب اكرام الفقراء فالنسبة بين هذين الدليلين هي المعارضة والتباين فإذا فرضنا ورود دليل ثالث أخص من الدليل الأوّل يقول لا يجب اكرام الفقراء الفساق (1) فهذا الدليل الثالث يخصص الدليل الأوّل جزما ويصبح مضمون الدليل الأوّل يجب اكرام خصوص الفقراء العدول. وهذا ممّا لا إشكال فيه.

وانّما الإشكال في أنّ النسبة بين الدليلين الأولين العامين هل تلحظ بعد تخصيص العام الأوّل بالدليل الثالث أو تلحظ قبل تخصيصه بذلك ، فانا لو أردنا ان نلحظ النسبة قبل التخصيص بالدليل الثالث كانت نسبة التباين بينما لو أردنا لحاظها بعد التخصيص بالدليل الثالث كانت نسبة العموم والخصوص المطلق ، فانّ العام بعد تخصيصه بالدليل الثالث يصبح هكذا : يجب اكرام الفقراء العدول ، ونسبته إلى الدليل الثاني القائل لا يجب اكرام الفقراء هي نسبة الأخص المطلق إلى الأعم.

ص: 327


1- انّما لم يكن هذا الدليل الثالث اخص من الدليل الثاني باعتبار انّه موافق له فذاك يقول لا يجب اكرام الفقراء وهذا يقول أيضا لا يجب اكرام الفقراء ، غاية الأمر الفساق منهم ، فكلاهما ينفيان وجوب اكرام الفساق ويتفقان على ذلك فلا معنى للتخصيص.

وبالجملة هل تلحظ النسبة بين الدليلين الأولين قبل انقلابها إلى نسبة العموم والخصوص المطلق أو تلحظ بعد انقلابها إلى نسبة العموم والخصوص المطلق؟

ويمكن طرح هذا التساؤل بشكل ثان : انّ النسبة التي يراد الحصول عليها بين الدليل الأوّل والثاني - كنسبة الأخصية أو غيرها مثلا - هل تلحظ بين ظهوري الدليلين الأولين بما هما ظهوران أو تلحظ بين ظهورهما بالمقدار الذي يكونان حجّة فيه؟

فان كان المدار على الظهورين بما هما ظهوران فمعنى ذلك مراعاة النسبة بين الدليلين قبل انقلابها ، وان كان المدار على الظهورين بالمقدار الذي يكونان حجّة فيه فمعنى ذلك مراعاة النسبة بعد انقلابها فانّه بعد تخصيص الثالث للأوّل يصير ظهور الأوّل حجّة فيما عدا الفساق. إذن يوجد في هذه المسألة احتمالان.

ومن البديهي انّ الفتوى التي يفتي بها الفقيه تختلف باختلاف هذين الاحتمالين ، فانّه لو كان المدار على النسبة بعد الانقلاب فاللازم هو الحكم بعدم وجوب اكرام الفقير الفاسق ووجوب اكرام الفقير العادل.

امّا عدم وجوب اكرام الفقير الفاسق فللتمسك بالدليل الثالث الذي لا معارض له.

وامّا وجوب اكرام الفقير العادل فللدليل الأوّل ، فإنّه بعد تخصيصه بالثالث يصبح مضمونه هكذا : يجب اكرام الفقير العادل ، وهذا المضمون يخصص الدليل الثاني الذي يقول لا يجب اكرام الفقراء فتصبح نتيجة الدليل الثاني بعد تخصيصه بالدليل الأوّل هكذا : لا يجب اكرام الفقراء الفساق. هذا لو لا حظنا النسبة بعد الانقلاب.

ص: 328

امّا لو لا حظناها قبل الانقلاب فاللازم هو الحكم بعدم وجوب اكرام الفقير الفاسق وعدم وجوب اكرام الفقير العادل.

امّا عدم وجوب اكرام الفقير الفاسق فللدليل الثالث الذي لا معارض له.

وامّا عدم وجوب اكرام الفقير العادل فلأنّ الدليل الأوّل وان دلّ على وجوب اكرامه إلاّ انّه معارض بالدليل الثاني ، ومع المعارضة يرجع إلى ما تقتضيه الاصول العملية وهو البراءة من حرمة أو وجوب اكرامه (1).

ولنرجع إلى التساؤل المطروح من جديد وهو انّ المدار هل على النسبة بعد انقلابها أو على النسبة قبل انقلابها؟

وقبل الاجابة نلفت النظر إلى انّ طرح هذا التساؤل وجيه لو كان الدليل الثالث المخصص للأوّل منفصلا عنه دون ما إذا كان متصلا به ، إذ في صورة الاتصال لا ينعقد للدليل الأوّل ظهور في العموم ابدا حتى يقال انّ المدار هل على الظهور في العموم الثابت قبل التخصيص أو على الظهور الحجّة الثابت بعد التخصيص.

وبعد اتضاح هذا نقول : انّ في الجواب عن التساؤل السابق يوجد اتجاهان : -

1 - الاتجاه القائل بانّ المدار على الظهورين بالمقدار الذي يكونان حجّة فيه ، أي انّ المدار على النسبة بعد انقلابها. ومن أنصار هذا الاتجاه الشيخ النائيني قدس سره .

2 - الاتجاه القائل بانّ المدار على الظهورين بما هما ظهوران ، أي المدار على

ص: 329


1- وسنذكر فيما بعد مثالا شرعيا واقعيا لذلك.

النسبة قبل انقلابها. ومن أنصار هذا الاتجاه الشيخ الآخوند قدس سره .

امّا الاتجاه الأوّل فاستدل له النائيني بانّ المعارضة بين الدليل الأوّل والدليل الثاني لا تتحقق إلاّ بين ظهوريهما بالمقدار الذي يكونان حجّة فيه فانّ المعارضة لا تتحقق إلاّ بين الحجّتين ولا معنى لتحققها بين الحجّة واللاحجّة فما لا يكون حجّة لا يعارض الحجّة ، وظهور الدليل الأوّل حيث انّه ليس حجّة في العموم بل هو حجّة في خصوص العدول فالمعارضة تتحقق بين ظهور الدليل الأوّل في خصوص العدول وبين ظهور الدليل الثاني وهي نسبة الأخص المطلق إلى الأعم ولا معنى لتحققها بين ظهور الدليل الأوّل في العموم للفساق والعدول وظهور الدليل الثاني. هذا حصيلة ما أفاده قدس سره .

وفيه : انّ دعوى انّ المعارضة لا تتحقق إلاّ بين الحجّتين وان كانت دعوى مقبولة صحيحة إلاّ انّه لا بدّ من التمييز بين مسألتين : مسألة المعارضة بين الظهورين الأولين ، ومسألة قرينية الأوّل على تخصيص الثاني ، فالمعارضة وان كانت لا تتحقق بين الظهورين إلاّ بمقدار ما يكونان حجّة فيه إلاّ انّ قرينية الأوّل على تخصيص الثاني من المحتمل ان لا تدور مدار الظهورين بالمقدار الذي يكونان حجّة فيه وانّما تدور مدار الظهورين في حدّ انفسهما ، بمعنى انّ ظهور الدليل الأوّل متى ما كان خاصا في نفسه (1) صلح حينذاك لتخصيص الثاني ولا تكفي أخصيته الناشئة من تخصيصه بالدليل الثالث وخروج الفساق منه. انّ هذا الاحتمال وجيه بل هو المطابق للمرتكزات العرفية.

ص: 330


1- كما اذا ورد منذ البداية خاصا وبلسان يجب اكرام الفقراء العدول.

والوجه في ذلك : ان العرف حينما يقدم الأخص على الأعم لا يقدمه إلاّ من باب أظهريته في الشمول لمورده من الأعم (1) ، ومن الواضح انّ مجرد خروج الفساق من الدليل الأوّل بسبب الدليل الثالث لا يصيّر ظهوره - أي الأوّل - في العدول أقوى من ظهور الدليل الثاني في العدول ليقدم عليه وانّما يكون ظهور الدليل الأوّل في العدول أقوى لو فرض وروده منذ البداية في خصوص العدول بلسان يجب اكرام الفقراء العدول ، ولكن هذا خلاف المفروض ، فانّ المفروض انّ الدليل الأوّل ورد منذ البداية عاما للعدول والفساق وخرج منه بعد ذلك بسبب الدليل الثالث الفساق وذلك لا يوجب اقوائية ظهوره في العدول من ظهور الدليل الثاني في العدول ليصير مخصصا له.

قوله ص 336 س 6 : مفهومها : أي الحكومة.

قوله ص 336 س 6 : وملاكه : عطف تفسير لنكتة التقديم.

قوله ص 337 س 5 : منجزة : أي ليست شرطية. والمقصود من كلمة فعلية ومنجزة واحد.

قوله ص 338 س 7 : ظهور تصديقي : وهو الظهور في الاستعمال ، أي لا يبقى للمحكوم ظهور في استعماله في معناه الثابت له لو لا الحاكم.

قوله ص 338 س 9 : لما عرفت : من القاعدة العرفية.

قوله ص 338 س 16 : حقيقة : أي واقعا. وهو قيد ل- « ناظرا ».

ص: 331


1- الظاهر انّ ما أفاده السيد الشهيد هنا من انّ الأخص يقدم على الأعم من باب أظهريته وقوة دلالته يتنافى وما تقدم منه قدس سره في النقطة السابقة من انّ الأخصية - لا بما هي موجبة للأظهرية - موجبة لتقدم الأخص.

قوله ص 338 س 17 : ان يكون التقبل العرفي : أي انّ العرف لا يقبل مفاد الحاكم كنفي الحكم الضرري مثلا إلاّ بعد افتراض ثبوت احكام أولية في المرتبة السابقة إذ ثبوت نفي الحكم الضرري دون ثبوت احكام سابقة ينظر لها لغو وبلا معنى.

ثم انّ عدم تقبل العرف لمفاد الحاكم إلاّ مع افتراض سبق حكم لا يختص بهذا الوجه بل يعم الوجهين السابقين أيضا.

قوله ص 339 س 1 : افتراض : الافتراض هنا بمعنى الوجود لا بمعنى مجرد الفرض ولو لم تكن له واقعية.

قوله ص 339 س 1 : مدلول الدليل الحاكم : المراد من المدلول هو الحكم.

قوله ص 339 س 2 : لا ينجس إلخ : المناسب في التعبير : لا ينجّس الماء ميتة ما لا نفس له.

قوله ص 339 س 2 : بالنسبة إلى أدلة الاحكام : هذا يرجع إلى « لا ضرر ».

وقوله وأدلة التنجيس يرجع إلى قوله « لا ينجس الماء إلخ ».

قوله ص 340 س 5 : للمقيد : متعلق بثبوت. ولعل الاولى حذفه.

قوله ص 340 س 10 : وحينئذ فان كان الخطابان إلخ : كان من المناسب ذكر صورة الاتصال قبل قوله « وقع التعارض بين الظهور الأوّل ... » والتقدير هكذا : وفي هذه الحالة ان لم تعلم وحدة الحكم فلا تعارض. وان علمت وحدة الحكم المدلول للخطابين فان كان الخطابان متصلين لم ينعقد للأوّل ظهور في الاطلاق لأنّه فرع عدم ذكر ما يدل على القيد في الكلام ، والخطاب الآخر المتصل يدل على القيد فلا تجري قرينة الحكمة لاثبات الاطلاق. وان كان الخطابان

ص: 332

منفصلين انعقد الظهور في كل منهما ووقع التعارض بين ظهور الأوّل في الاطلاق بقرينة الحكمة وظهور الثاني في احترازية القيود لما تقدم في بحث الاطلاق من انّ الاطلاق إلخ.

قوله ص 341 س 7 : متقدمة : الصواب : متقومة.

قوله ص 341 س 9 : في حصة من المطلق : فانّ الكافرة حصة من مطلق الرقبة ، والدليل المقيد يثبت الحكم المضاد في هذه الحصة من المطلق.

قوله ص 341 س 12 : لا ارشادا إلى مانعية : لعل الأوضح التعبير التالي : لا ارشادا إلى تقيد الحكم بعتق الرقبة بالايمان.

قوله ص 342 س 2 : بالاداة : التقييد بذلك للاحتراز عن المطلق فانّه قد يستفاد منه العموم أيضا - كما في قوله تعالى أحل اللّه البيع - ولكن بمقدمات الحكمة لا بالأداة.

قوله ص 342 س 8 : اكرما كل عالم : الصواب : اكرم كل عالم.

قوله ص 343 س 1 : وعلى أي حال : أي سواء كان الخاص متكفلا لإثبات سنخ حكم العام في دائرة أخص أو مثبتا لنقيضه أو لضده فلا خلاف إلخ.

قوله ص 343 س 3 : ظهور تصديقي : أي ظهور استعمال العام في العموم.

قوله ص 343 س 7 : مباشرة : أي لا بما انّها موجبة لا قوائية الظهور.

قوله ص 343 س 8 : لمورده : أي لمورد الخاص.

قوله ص 343 س 9 : في الشمول له : أي لمورد الخاص.

قوله ص 343 س 16 : من ظهور العام في العموم : المناسب : اقوى من ظهور العام في الشمول لمورد الخاص.

ص: 333

قوله ص 343 س 16 : ولكن قد لا يكون الثاني كذلك : العبارة موهمة. والمقصود : انّ ظهور اكرم في الوجوب ليس اقوى من ظهور لا يجب في نفي الوجوب.

قوله ص 344 س 7 : ثم انّ المراد بالأخصية إلخ : هذا شروع في البحث عن كبرى انقلاب النسبة. وكان من المناسب الاشارة إلى ذلك تحت عنوان صغير.

وهذا البحث من الابحاث التي قد يتكرر حاجة الفقيه لها في مقام الاستنباط.

قوله ص 344 س 8 : بين مفادي الدليلين إلخ : لعل التعبير الأوضح : بين ظهوري الدليلين بما هما ظهوران.

قوله ص 344 س 10 : من قبيل : والمثال الشرعي لذلك ما دلّ على انّ اللّه سبحانه خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه ، كما ورد ذلك في مرسلة حريز ، وما دلّ على عدم تنجس الماء ما دام كرا حتى ولو تغير ، من قبيل ما دلّ على انّ الماء إذا بلغ قدر كر فلا بنجسه شيء ، وهما متعارضان بنحو العموم من وجه ، ومادة المعارضة هي ماء الكر المتغير ، فالاوّل يثبت النجاسة والثاني ينفيها ، فلو كنا نحن وهذين الدليلين لكنّا نحكم بالطهارة على ماء الكر المتغير لأصالة الطهارة ، ولكن يوجد دليل ثالث أخص من الأوّل ، ويتمثل ذلك الدليل الثالث في مجموعة من روايات تدل على انّ الماء القليل ينجس بمجرد الملاقاة وان لم يتغير.

فبناء على قبول كبرى انقلاب النسبة يلزم تخصيص الدليل الأوّل بالثالث

ص: 334

وبذلك يخرج القليل من الدليل الأوّل ويبقى الكر تحته فقط ويصير مضمونه : خلق اللّه ماء الكر طهورا لا ينجسه شيء إلاّ ما غيّر - وهذا المضمون أخص مطلقا من الدليل الثاني لأنّ الأوّل يقول الكر بالخصوص لا ينجس إلاّ بالتغير والثاني يقول ماء الكر لا ينجس مطلقا. وبعد تخصيص الثاني بالأوّل تكون النتيجة انّ ماء الكر انّما لا ينجس فيما لو لاقته نجاسة ولم يتغير وينجس لو تغير ، وهذه عكس النتيجة السابقة التي نحصل عليها لو لم نلحظ انقلاب النسبة.

قوله ص 344 س 15 : ظهوره التصديقي : أي ظهوره الاستعمالي.

قوله ص 345 س 4 : فهما متساويان : لعل الأوضح : فهما متباينان. والمراد بالتساوي هنا ليس التساوي بالمعنى المذكور في المنطق بل بمعنى انّه ليس احدهما أخص من الآخر. وبتعبير أصرح المقصود من التساوي هنا التباين.

قوله ص 346 س 2 : الداخلتين في مجال المعارضة : يمكن ابدال هذا التعبير بقوله : بمقدار الحجّية.

قوله ص 346 س 8 : في بعض مدلوله : وهو الفساق.

قوله ص 346 س 9 : للبعض الآخر : وهو العدول. والمقصود : انّ سقوط العام الأوّل في الفساق لا يجعله كأنّه وارد منذ البداية في خصوص الفقراء العدول.

ص: 335

ص: 336

أحكام عامة للجمع العرفي

قوله ص 347 س 1 : للجمع العرفي بأقسامه إلخ : للجمع العرفي ثلاثة احكام يشترك فيها جميع اقسامه. وهي : -

1 - لا يمكن الجمع العرفي إلاّ عند تمامية شرطين : -

أ - ان يكون الدليلان كلامين أو ما بحكم الكلامين.

والمراد من ما بحكم الكلامين مثل ظهور الحال.

ثم انّ الوجه في هذا الشرط واضح ، فانّ مثل التقرير ليس له لسان ليفسر به التقرير الآخر ، وهذا بخلافه في الكلام وما بحكمه فانّ له لسانا يمكن تفسير الكلام الآخر به.

ب - ان يكون الدليلان صادرين من متكلم واحد أو من متكلمين تجمعهما جهة واحدة كالامامين الباقر والصادق علیهماالسلام اللذين يمثلان الشرع الاسلامي الذي هو جهة واحدة.

والوجه في هذا الشرط واضح أيضا ، إذ المتكلم الواحد يعقل انّ يفسر بعض كلامه بعضه الاخر ، وامّا المتكلمان فلا معنى لأن يفسر كلام أحدهما كلام الآخر.

2 - انّ مورد الجمع العرفي هو التعارض بين الظهورين فمتى ما كان ظاهران احدهما يعارض الآخر امكن الجمع العرفي بينهما بتعديل دلالة احدهما بما

ص: 337

يتناسب ودلالة الآخر ، امّا إذا لم يكن التعارض تعارضا بين الظهورين وانّما كان بين الصدورين فلا معنى للجمع العرفي ، كما إذا علمنا انّ احدى الروايتين لم تصدر من المعصوم علیه السلام لبيان الحكم الواقعي واشتبهت الروايتان ولم يمكن تمييز الصادرة عن غير الصادرة فلا معنى للتوفيق بينهما بالجمع العرفي لما ذكرنا من اختصاصه بتعارض الدلالتين ولا معنى لتطبيقه عند تعارض الصدورين بل يلزم تطبيق أحكام باب التعارض عليهما بان يقدم المشهور أو الموافق للكتاب الكريم ونحو ذلك.

3 - انّ الدليلين المتعارضين اللذين يمكن الجمع العرفي بينهما - كالعام والخاص - لا يخلوان من أحد حالات أربع : -

أ - ان يكون كل من العام والخاص (1) قطعي الصدور ، كما إذا كانا واردين في القرآن الكريم.

وفي مثل هذه الحالة لا تعارض بينهما من حيث الصدور لانّ المفروض انّ كلا منهما قطعي. وامّا من حيث الدلالة فلا تعارض بينهما أيضا فانّ شمول دليل حجّية الظهور للعام لا يعارض بشموله للخاص بل العرف بعد ما كان يأول ظهور العام لحساب الخاص ويجمع بينهما بالحمل على التخصيص فلازم ذلك انّ دليل حجّية الظهور يشمل ظهور الخاص فقط ولا يشمل ظهور العام فالخاص حجّة في ظهوره دون العام.

ص: 338


1- ورد في عبارة الكتاب التعبير بالقرينة وذي القرينة. ونحن ابدلنا كلمة القرينة بالخاص وكلمة ذي القرينة بالعام. وانّما ذكرنا العام والخاص من باب المثال للدليلين الذين يمكن الجمع العرفي بينهما لا لخصوصية فيهما وإلاّ فيمكن ابدالهما بالمطلق والمقيد أو بالحاكم والمحكوم.

ب - ان يكون كل من العام والخاص ظني السند ، كما إذا كان كل واحد منهما من قبيل اخبار الاحاد.

وفي هذه الحالة لا تعارض بينهما أيضا لا من حيث الدلالة ولا من حيث السند.

امّا عدم التعارض بينهما من حيث الدلالة فلما تقدم في الحالة السابقة من انّ دليل حجّية الظهور يشمل الخاص دون العام.

وامّا عدم التعارض بينهما من حيث السند فلأنّه بعد ما كان العرف يجمع بينهما بحمل العام على الخاص فلا يبقى مانع من شمول دليل حجّية الخبر لكليهما ويثبت بذلك صدورهما معا فانّ المعارضة بين السندين انّما تتحقق لو بقي العام على عمومه والخاص على خصوصه إذ شمول دليل الحجّية لكلا الخبرين غير ممكن حينئذ فلا يمكن التعبد بصدور العام بما هو عام والخاص بما هو خاص ، امّا بعد تعديلهما عرفا فلا محذور في شمول دليل حجّية السند - وهو مفهوم آية النبأ مثلا - لهما معا.

ج - ان يكون الخاص قطعي السند والعام ظني السند ، كما إذا كان الخاص واردا في القرآن الكريم والعام من قبيل الخبر الواحد.

وفي هذه الحالة لا تعارض بينهما أيضا لا من حيث الدلالة ولا من حيث السند.

امّا من حيث الدلالة فلنفس النكته المتقدمة.

وامّا من حيث السند فلأنّه بعد إجراء التعديل العرفي بينهما لا محذور في التعبد بصدور العام.

ص: 339

د - عكس الصورة السابقة بان يكون الخاص ظني السند والعام قطعي السند ، كما إذا كان الخاص من قبيل خبر الواحد والعام واردا في الكتاب الكريم.

وفي هذه الحالة قد يقال بانّ المقابل لظهور العام ليس هو فقط ظهور الخاص ليقال بانّ ظهور الخاص مقدم على ظهور العام للجمع العرفي وانّما المقابل لظهور العام أمران : ظهور الخاص وسند الخاص ، إذ المفروض انّ سند الخاص ظني فلإجل ان يتقدم الخاص على العام لا بدّ من ثبوت ظهوره وصدوره معا ولا يكفي ثبوت ظهوره دون صدوره ، فانّ الخاص إذا لم يثبت ظهورا أو لم يثبت صدورا كفى ذلك في تقدم العام عليه فتقدم العام يكفي فيه امّا عدم ثبوت الخاص من حيث الظهور أو عدم ثبوته من حيث الصدور.

وإذا اتضح أنّ تقدم الخاص على العام بحاجة إلى ثبوت الخاص ظهورا وصدورا فمعنى ذلك أنّ المعارض لظهور العام ليس هو ظهور الخاص فقط بل هو مجموع الأمرين من ظهور الخاص وسند الخاص ، ومن الواضح انّ التسليم بتقدم الخاص على ظهور العام لا يستلزم التسليم بتقدم مجموع الأمرين - ظهور الخاص المنضم إلى سند الخاص - على ظهور العام.

وان شئت قلت : انّا لا نريد ان نقول انّ شمول دليل حجّية الظهور للعام يعارضه شمول دليل حجّية الظهور للخاص حتى يقال بانّ العرف يقدم ظهور الخاص على ظهور العام ، بل المعارض لذلك هو دليل حجّية صدور الخاص فشمول دليل حجّية الظهور للعام معارض بشمول دليل حجّية الصدور للخاص (1) ومن هنا استشكل البعض في تخصيص العام الوارد في القرآن الكريم

ص: 340


1- المراد من دليل حجّية الظهور هو السيرة العقلائية الجارية على التمسك بالظهور ، كما وان المراد من دليل حجّية الصدور هو مثل مفهوم اية النبا.

بالخاص الوارد في السنة الشريفة ، وما ذاك إلاّ لأن شمول دليل حجّية الظهور للعام الكتابي معارض بشمول دليل حجّية الصدور للخاص الخبري.

والخلاصة : انّه في هذه الحالة الرابعة قد يستشكل في تقدم الخاص على العام أي يستشكل في الجمع العرفي بينهما بالتخصيص. ووجه الإشكال هو المعارضة السابقة الآنفة الذكر.

ويرده : انا لا نسلم بالمعارضة السابقة ، فانّ حجّية ظهور العام مقيدة بعدم ثبوت صدور الخاص الصالح للتخصيص فإذا ثبت بدليل حجّية الصدور انّ الخاص صادر ارتفع بذلك موضوع حجّية العام ، لأنّ المفروض انّه مقيد بعدم صدور الخاص. وهذا معناه انّ دليل حجّية صدور الخاص حاكم على دليل حجّية ظهور العام ورافع لموضوعه وليس بينهما معارضة.

وانّما قلنا بالحكومة دون الورود من جهة انّ دليل حجّية صدور الخاص لا يثبت صدور الخاص حقيقة وانّما يثبته تعبدا فهو رافع لموضوع حجّية ظهور العام تعبدا لا حقيقة.

ومن خلال هذا يتضح انّ تخصيص العام الكتابي بالخاص الخبري لا إشكال فيه من هذه الناحية ، ولئن كان فيه إشكال فهو من ناحية اخرى ، وهي قصور أدلة حجّية الخبر عن الشمول للخبر المخالف للعموم الكتابي فالخبر المخالف للعموم الكتابي لا دليل على حجّيته حتى يمكن ان يكون مخصصا للعموم الكتابي ، فانّ أدلة حجّية الخبر لا تشمل الخبر المخالف للكتاب إذ هو زخرف

ص: 341

وباطل. ولكن سيأتي فيما بعد ان شاء اللّه (1) دفع هذه الشبهة.

قوله ص 348 س 6 : وبدليل حجّية السند : عطف تفسير على قوله بالتعبد.

قوله ص 348 س 6 : مثلا كما في أخبار الاحاد : الظاهر انّ الصواب : كما في اخبار الاحاد مثلا.

قوله ص 349 س 6 : بالذات : أي فقط.

ص: 342


1- ص 387 من الحلقة

نتائج الجمع العرفي بالنسبة إلى الدليل المغلوب

اشارة

قوله ص 351 س 1 : لا إشكال في انّ كل إلخ : حاصل هذا المبحث انّه لو قال المولى اكرم كل فقير وقال بعد ذلك لا تكرم الفقير الفاسق فإذا واجهنا فقيرا وجزمنا بفسقه فلا إشكال في دخوله في حكم الخاص وعدم وجوب اكرامه ، وإذا جزمنا بعدم فسقه فلا إشكال أيضا في دخوله في حكم العام ووجوب اكرامه. وهذا ممّا لا إشكال فيه.

وانّما الإشكال في صورة الشكّ والتردد في انّ الفقير الذي واجهناه هل هو فاسق (1) حتى لا يجب اكرامه أو ليس بفاسق حتى يجب اكرامه فما هو الموقف في مثل هذه الحالة؟ والجواب ان صورة الشكّ تنقسم إلى قسمين : -

التمسك بالعام في الشبهات المصداقية

1 - وفي القسم الأوّل يفرض انّ الشكّ في الفسق لم ينشأ من الشكّ في مفهوم الفسق وعدم تحدده بل يفرض انّ مفهوم الفاسق واضح وهو المرتكب لمعصية من المعاصي الكبيرة ، وانّما الشكّ في انّ الفقير المشكوك هل هو فاعل للكبيرة أو لا؟

ص: 343


1- بهذا يتضح المقصود من العنوان المذكور في عبارة السيد الشهيد « نتائج الجمع العرفي بالنسبة إلى الدليل المغلوب » فالدليل المغلوب هو العام. والمقصود انّه بعد الجمع بالتخصيص وحمل العام على الخاص فهل يجوز التمسك بالعام لإثبات وجوب اكرام الفقير مشكوك الفسق أو لا.

فالشكّ انّما هو في المصداق وليس في المفهوم. وفي هذا القسم توجد اجابتان : -

أ - جواز التمسك بالعام بتقريب انّ العام دال على وجوب اكرام كل فقير بما في ذلك الفقير المشكوك ، وهو حجّة في ذلك ولا ترفع اليد عن حجّيته إلاّ بحجّة اقوى ، والحجّة الأقوى ليس هو إلا الخاص ، والخاص حيث لا يجوز التمسك به - لفرض عدم العلم بفسق المشكوك حتى يتمسك به لإثبات عدم وجوب اكرامه - فلا يكون حجّة في مقابل حجّية العام.

وباختصار بناء على هذا الرأي يكون التمسك بالعام في الشبهات المصداقية أمرا جائزا.

ب - والرأي الثاني وهو المشهور يقول بعدم جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية. وهذا هو الصحيح.

والوجه في ذلك انّه لو اريد التمسك بالعام - اكرم كل فقير - لإثبات وجوب اكرام الفقير المشكوك فسقه فالإحتمالات في ذلك ثلاثة : -

أ - ان يتمسك بالعام لإثبات وجوب اكرام الفقير المشكوك ان فرض انّه لم يكن فاسقا. وهذا الاحتمال وان كان صحيحا ولكنه غير نافع ، فانّ الوجوب في الاحتمال المذكور وجوب مشروط ، وحيث انّ الشرط لا يحرز تحققه فالوجوب الفعلي لا يحرز تحققه أيضا ، وواضح انّ الوجوب النافع هو الوجوب الفعلي دون الوجوب المشروط.

ب - ان يتمسك بالعام لإثبات وجوب اكرام الفقير المشكوك حتى على تقدير فسقه. وهذا الإحتمال باطل ، إذ مع وجود الحجّة الأقوى وهو الخاص الدال على عدم جواز اكرام الفاسق كيف يتمسك بالعام لأثبات وجوب اكرام

ص: 344

الفقير الفاسق.

ج - ان يتمسك بالعام لإثبات انّ الفقير المشكوك هو فقير غير فاسق وانّه يجب اكرامه بالفعل. وهذا الاحتمال هو المطلوب ، ولكن لا يمكن إثباته لأنّ أقصى ما يقوله الدليل العام وأي دليل آخر : انّ الفقير لو لم يكن فاسقا فاكرامه واجب ، امّا انّ هذا الشخص أو ذاك هو فاسق بالفعل أو لا فذاك لا يقوله ، فانّ الحكم لا يثبت موضوع نفسه وانّما يقول لو كان موضوعي ثابتا فانا ثابت.

وبكلمة اخرى : انّ مفاد الدليل العام هو الجعل - أي الحكم المشروط وانّ الشخص لو كان فقيرا غير فاسق فيجب اكرامه - لا المجعول وانّ الشخص الفقير بالفعل هو غير فاسق وبالفعل يجب اكرامه (1).

التمسك بالعام في الشبهة المفهومية

2 - وهناك قسم ثان لصورة الشكّ وهي ان نفترض انّ الفقير المشكوك نعلم بعدم كونه فاعلا للكبيرة وانّما هو فاعل للصغيرة ولكن مع ذلك نشكّ في وجوب اكرامه من جهة الشكّ في مفهوم الفاسق الذي ورد في الخاص فلا يعلم انّه يختص بفاعل الكبيرة أو يعم مرتكب كل ذنب ولو كان صغيرا ، وهذا بخلافه في

ص: 345


1- ويمكن بيان عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية بوجه آخر اخصر ، وهو انّه بعد ورود الخاص يصير مضمون العام هكذا : اكرم كل فقير غير الفاسق فنحصل بذلك على حجّتين : اكرم كل فقير غير الفاسق ولا تكرم الفقير الفاسق ، ومن الواضح انّ إدخال الفقير المشكوك تحت الحجّة الاولى وهي العام دون الثانية ترجيح بلا مرجح بل يلزم الرجوع إلى مقتضى الاصول العملية.

القسم السابق فانّ مفهوم الفاسق كان معلوما لنا وهو عبارة عن فاعل الكبيرة مثلا بيد انا نشكّ انّ الفقير المشكوك هل هو فاعل للكبيرة أو لا.

إذن الشكّ في صدق الفاسق تارة يكون بنحو الشبهة المصداقية واخرى بنحو الشبهة المفهومية.

والحديث السابق كله كان يدور حول التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، والآن يقع الكلام في جواز التمسك بالعام في الشبهة المفهومية فالفقير المشكوك الذي نجزم بانّه فاعل للصغيرة دون الكبيرة هل يجوز التمسك بالعام لإثبات وجوب اكرامه أو لا؟ والصحيح : نعم يجوز التمسك بالعام.

والوجه في ذلك : انّ العام يقول كل فقير بما في ذلك مرتكب الصغيرة أو مرتكب الكبيرة يجب اكرامه ، وهو حجّة في مفاده هذا ولا ترفع اليد عنه إلاّ بحجّة أقوى وهي الخاص ، وحيث انّ عنوان الفاسق الوارد في الخاص لا يجزم بانطباقه على مرتكب الصغيرة فلا يكون - أي الخاص - حجّة في مقابل العام وانّما يكون حجّة في خصوص مرتكب الكبيرة وترفع اليد عن العام في خصوص مرتكب الكبيرة.

ان قيل : ما الفارق بين هذا القسم والقسم السابق ، ولماذا لا نطبق البيان المذكور في القسم السابق على هذا القسم أيضا؟

قلت : انّه قبل ورود الخاص كان الدخيل في وجوب الاكرام هو الفقير لا غير ، وبعد ورود الخاص صار المدار في وجوب الاكرام على الفقر وعدم الفسق. وحينما نقول بدخالة عدم الفسق في وجوب الاكرام فليس المقصود دخالة لفظ عدم الفسق والتسمية باسمه ، فانّ من الواضح انّ الالفاظ لا مدخلية

ص: 346

لها في ذلك ، فلو تغير اسم عدم الفسق وصار يسمى باسم آخر فلا اشكال في عدم تغير الحكم. إذن الدخيل في وجوب الاكرام هو واقع عدم الفسق ، وحيث انّ القدر المتيقن في المراد من الفسق واقعا هو فاعل الكبيرة فقط فيكون الخاص حجّة بالنسبة إلى فاعل الكبيرة فقط ، وامّا فاعل الصغيرة فيبقى تحت العام بلا حجّة معارضة. وهذا كلّه بخلافه في القسم السابق - أي الشبهة المصداقية - فإنّ أمر الخاص لم يدر بين الأقل والأكثر حتى يقال بانّ القدر المتيقن هو الأقل والخاص حجّة في الأقل فقط بل علمنا بانّ العام حجّة في غير فاعل الكبيرة والخاص حجّة في فاعل الكبيرة ، وحيث انّ المشكوك لا يعلم بانّه فاعل للكبيرة أو لا فإدخاله تحت الحجّة الاولى دون الثانية بلا مرجح.

قوله ص 351 س 1 : من الافراد التي كانت داخلة في نطاق ذي القرينة : أي من الأفراد التي يصدق عليها عنوان الفقير الذي هو العنوان المأخوذ في العام.

قوله ص 351 س 5 : من تلك الافراد : أي التي يصدق عليها عنوان الفقير والداخلة تحت ذي القرينة.

قوله ص 351 س 6 : فهو على اقسام : الصواب فهو على قسمين.

قوله ص 351 س 7 : الشكّ في الشمول : أي شمول الفاسق المأخوذ في القرينة.

قوله ص 353 س 2 : على حكمه : أي على حكم مرتكب الكبيرة وانّه يجب اكرامه.

ص: 347

ص: 348

تطبيقات للجمع العرفي

اشارة

قوله ص 355 س 1 : هناك حالات ادعي إلخ : عرفنا فيما سبق انّه متى ما أمكن الجمع العرفي بين الدليلين وجب ذلك. وقد وقع الكلام في بعض الموارد في انّ العرف كيف يجمع بين الدليلين. وفيما يلي نذكر شطرا من تلك الموارد.

إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء

1 - هناك بحث حاصله انّه لو كان لدينا جملتان شرطيتان لهما شرط متعدد وجزاء واحد كما لو قيل ان خفي الأذان فقصر ، وقيل أيضا ان خفيت الجدران فقصر (1) - فحيث انّه أحيانا يتحقق شرط الجملة الاولى دون الجملة الثانية أي يتحقق خفاء الاذان بدون خفاء الجدران فيحصل التعارض في مثل الحالات المذكورة ، فانّ مقتضى منطوق الجملة الاولى انّ خفاء الاذان ما دام قد تحقق كفى ذلك في وجوب التقصير وان لم تخف الجدران بينما مفهوم الجملة الثانية يدل على انّ خفاء الجدران إذا لم يتحقق فلا يجب التقصير حتى وان خفي الاذان.

ص: 349


1- التعبير المذكور لا يوجد في الروايات وانما الموجود في صحيحة محمد بن مسلم « قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : الرجل يريد السفر متى يقصر؟ قال : اذا توارى من البيوت » الوسائل : باب 6 من صلاة المسافر حديث 1. وفي صحيحه ابن سنان : « اذا كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه الاذان فقصر » المصدر السابق حديث 3.

إذن التعارض يتحقق بين منطوق كل جملة وإطلاق مفهوم الجملة الثانية. أمّا بين نفس المنطوقين فلا تعارض ، إذ منطوق الاولى يدل على انّ خفاء الاذان موجب للتقصير بدون ان ينفي عليّة خفاء الجدران للتقصير ، وهكذا منطوق الجملة الثانية يدل على انّ خفاء الجدران موجب للتقصير بدون ان ينفي عليّة خفاء الاذان للتقصير.

وما دام التعارض متحققا بين منطوق كل واحدة ومفهوم الاخرى فما هو الوجه في حلّ التعارض المذكور؟

قد يقال بانّ المنطوق مقدم على المفهوم فيؤخذ بمنطوق كلتا الجملتين ويهجر مفهومهما ، ونتيجة الأخذ بالمنطوقين انّ للتقصير احدى علتين : خفاء الاذان ، خفاء الجدران ، فمتى ما تحقق واحد منهما وجب التقصير.

امّا لماذا يقدم منطوق كل واحدة على مفهوم الاخرى؟ انّ ذلك لاحدى نكتتين : -

أ - انّ المنطوق حيث انّه اقوى وأظهر من المفهوم فيقدم عليه.

ب - انّ منطوق كل واحدة حيث انّه أخص من المفهوم فيقدم عليه من باب الأخصية.

والوجه في أخصية المنطوق : انّ اطلاق مفهوم الجملة الثانية مثلا يقول انّ الجدران إذا لم تخف فلا يجب التقصير ، وهذا مطلق يشمل صورة خفاء الاذان وعدمه بينما منطوق الجملة الاولى يقول إذا خفي الاذان فقصر ، وحيث انّ هذا أخص فيقدم بالاخصية.

وكلتا النكتتين قابلة للتأمل.

ص: 350

امّا الاولى فلأنّ دلالة الجملة الشرطية على المفهوم تنشأ من دلالة المنطوق على خصوصية العليّة الانحصارية (1) التي تستلزم انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط فلو لا دلالة المنطوق على الخصوصية المذكورة لم تحصل الدلالة على المفهوم. وما دامت الدلالة على المفهوم ناشئة من دلالة المنطوق على الخصوصية فيمكننا ان نقول على ضوء ذلك انّ التعارض في الحقيقة ثابت بين المنطوقين - فدلالة الجملة الاولى على انّ خفاء الاذان علّة منحصرة للتقصير يتعارض ودلالة الجملة الثانية على انّ خفاء الجدران هو العلة المنحصرة - وليس بين منطوق واحدة ومفهوم الاخرى ليقال انّ المنطوق أظهر من المفهوم فيقدم عليه.

امّا الثانية فلانّ التعارض في الحقيقة ليس هو بين ذات المنطوق وإطلاق المفهوم ليقال انّ ذات المنطوق أخص مطلقا من إطلاق المفهوم فيقدم عليه بالأخصية وانّما هو بين إطلاق المنطوق لإحدى الجملتين وإطلاق مفهوم الاخرى ، والنسبة بين الاطلاقين حيث انّها العموم من وجه فلا وجه لتقدم المنطوق بل لا بدّ من التساقط والرجوع إلى الاصول العملية.

والوجه في كون التعارض تعارضا بين إطلاق منطوق واحدة وإطلاق مفهوم الاخرى هو انّ إطلاق منطوق كل جملة شرطية يقتضي ان الشرط علّة

ص: 351


1- هذا على رأي المشهور فإنّه يرى انّ الدلالة على المفهوم تنشأ من دلالة الجملة على انّ الشرط علة منحصرة للجزاء بينما السيد الشهيد يرى انّ خصوصية التوقف تكفي أيضا للدلالة على المفهوم فاحدى الخصوصيتين تكفي للدلالة على المفهوم فامّا ان يثبت انّ الجملة الشرطية مثلا موضوعة للتوقف ، أي توقف الجزاء على الشرط أو يثبت أنّ الشرط علّة منحصرة للجزاء.

تامّة وليس جزء العلّة ، فإطلاق منطوق إذا خفي الاذان فقصر هو انّه متى ما خفي الاذان وجب التقصير سواء انضم إليه خفاء الجدران أم لا ، وهذا معناه انّ خفاء الاذان علّة تامّة للتقصير وليس جزء العلة والجزء الثاني خفاء الجدران. وهكذا إطلاق منطوق إذا خفيت الجدران فقصر يقتضي انّ خفاء الجدران علّة تامّه لوجوب التقصير وليس جزء العلّة.

إذن إطلاق المنطوقين يقتضي انّ كل واحد من الشرطين علّة تامّة وليس علّة ناقصة. وهذا الإطلاق يقابله التقييد بالواو فانّ خفاء الاذان لو كان جزء العلّة فلازمه انّ الموجب للتقصير خفاء الاذان وخفاء الجدران. هذا بالنسبة إلى إطلاق المنطوقين.

وامّا بالنسبة إلى إطلاق المفهومين فهو يقتضي انّ العلّة منحصرة وواحدة وليس هناك علتان للتقصير ، فانّ مفهوم الجملة الاولى يدل بإطلاقه انّه إذا لم يخف الاذان فلا يجب التقصير سواء خفيت الجدران أم لا ، وهذا معناه انّ خفاء الاذان علّة منحصرة وواحدة وليس خفاء الجدران علّة ثانية ، وهكذا إطلاق مفهوم الجملة الثانية يقتضي انّه إذا لم تخف الجدران فلا يجب التقصير سواء خفي الاذان أم لا. وهذا الاطلاق للمفهوم يقابله التقييد ب- « أو ».

وبالجملة انّ التعارض في الحقيقة ثابت بين إطلاق منطوق الشرطيتين وإطلاق المفهوم لهما ، فانّه لو أخذنا بإطلاق منطوق الاولى منضما إلى إطلاق منطوق الثانية فالنتيجة هي انّ كل شرط علّة تامّة فلوجوب التقصير علتان : خفاء الاذان وخفاء الجدران ، بينما لو أخذنا بإطلاق المفهومين كانت النتيجة انّ وجوب التقصير له علّة واحدة لا علتان ، والأخذ بكلا الاطلاقين غير ممكن

ص: 352

فامّا ان يؤخذ بإطلاق المنطوقين والقول بانّ كل واحد من الشرطين علّة تامّة ، ولازم ذلك تقييد إطلاق المفهومين ، أو ان يؤخذ بإطلاق المفهومين والقول بانّ العلّة للتقصير واحدة ، ولازم ذلك تقييد إطلاق المنطوقين.

وعليه فالمعارضة في الحقيقة هي بين إطلاق المنطوقين وإطلاق المفهومين. والنسبة بينهما هي العموم من وجه.

ومادة المعارضة بينهما هي ما إذا تحقق أحد الشرطين بدون الشرط الثاني فإذا تحقق خفاء الاذان وحده يحصل التعارض بينهما لأنّ إطلاق منطوق الاولى يقول التقصير واجب بينما إطلاق مفهوم الجملة الثانية يقول هو ليس بواجب ، وهكذا إذا تحقق شرط الجملة الثانية وحده فانّه يتحقق التعارض ، فإذا تحقق خفاء الجدران وحده فإطلاق منطوق الجملة الثانية يقول يجب التقصير بينما إطلاق مفهوم الجملة الاولى يقول لا يجب التقصير ، فللتعارض إذن مادتان ، الاولى حالة تحقق الشرط الأوّل وحده ، والثانية حالة تحقق الشرط الثاني وحده.

وامّا مادة عدم التعارض فهي ما إذا تحقق كلا الشرطين ، فانّ منطوق كل واحدة من الجملتين يقول يجب التقصير ، ومفهوم كل واحدة لا يأبى ذلك (1).

ومن كل هذا نخرج بهذه النتيجة وهي انّ الجمع العرفي متعذر في المقام ، فانّ الجمع العرفي موقوف على أخصية المنطوق أو أظهريته ، وقد اتضح بطلان الأخصية وبطلان الأظهرية.

ص: 353


1- لا يخفى انّ التعارض بنحو العموم من وجه هنا يختلف عنه في سائر الموارد ، ففي سائر الموارد مادة التعارض واحدة ومادة عدم التعارض متعددة ، وامّا هنا فمادة التعارض متعددة بينما مادة عدم التعارض واحدة. وهذا يمكن عدّه من الالغاز العلمية.

ص: 354

أصالة التداخل في الاسباب أو في المسببات

اشارة

2 - والمورد الثاني الذي وقع الكلام في توفر الجمع العرفي فيه وعدمه هو ما لو كان لدينا شرطان نعلم بكون كل واحد منهما شرطا مستقلا تامّا ، كما إذا قيل إذا افطرت فاعتق وقيل أيضا إذا ظاهرت فاعتق ، فانّ الافطار وحده علّة تامّة لوجوب العتق ، والظهار وحدة علّة تامّة أيضا لوجوب العتق. فلو فرض انّ انسانا أفطر وظاهر فسوف نواجه السؤالين التاليين : -

أ - هل بحدوث السببين يحدث مسببان ، أي وجوبان أو يحدث وجوب واحد لا أكثر؟ فان قلنا بحدوث وجوبين فهذا معناه انّ السببين لا يتداخلان ولا يصيران سببا واحدا بل يبقى كل منهما سببا مستقلا مغايرا للسبب الآخر. وهذا ما يصطلح عليه بعدم تداخل الاسباب. وامّا لو قيل بانّ الوجوب الحادث واحد فمعنى ذلك تداخل السببين وصيرورتهما سببا واحدا.

والصحيح في الجواب : انّ السببين لا يتداخلان بحيث يحدث وجوب واحد.

والوجه في ذلك : انّ ظاهر كل جملة شرطية انّه بحدوث الشرط يحدث الجزاء ، فبحدوث شرط الجملة الاولى يحدث وجوب وبحدوث شرط الجملة الثانية يحدث وجوب آخر. واستنادا إلى الظهور المذكور قيل بانّ الأصل في الاسباب عدم التداخل.

ب - إذا بنينا على انّ السببين لا يتداخلان ، أي يحدث وجوبان فنواجه

ص: 355

سؤالا آخر ، وهو ان امتثال الوجوبين هل يتحقق بامتثال واحد أو انّ لكل وجوب امتثالا خاصا به؟ فان قلنا بلزوم امتثالين فهذا معناه عدم تداخل المسببين في مقام الامتثال بينما لو قلنا بكفاية امتثال وتحرك واحد فهذا معناه تداخل المسببين في مقام الامتثال.

والجواب عن السؤال المذكور هو عدم التداخل بين المسببين في مقام الامتثال.

والوجه في ذلك : ان كل وجوب يقتضي امتثالا وتحركا خاصا به فالوجوب الحادث عند الافطار يقتضي امتثالا خاصا به وهكذا الوجوب الحادث عند الظهار يقتضي امتثالا خاصا به. ولإجل هذه النكتة قيل انّ الأصل في المسببات عدم تداخلها في مقام الامتثال.

إشكال وجواب

وقد يشكل على الحكم بتعدد الوجوبين وتعدد امتثالهما بالاشكال التالي : انّ الوجوبين إذا كانا متعددين فالمتعلق لهما امّا ان يكون شيئا واحدا - وهو طبيعي العتق - أو يكون شيئا متعددا ، بان يكون الوجوب الاوّل متعلقا بفرد من العتق والوجوب الثاني متعلقا بفرد ثان من طبيعي العتق.

فان كان متعلق الوجوبين شيئا واحدا ، وهو طبيعي العتق فمن اللازم الاكتفاء بامتثال وعتق واحد ، حيث انّ الطبيعي يتحقق بفرد واحد ولا يتوقف على ايجاد فردين والحال انّه حكمنا فيما سبق بعدم الاكتفاء بامتثال واحد بل لا بد من امتثالين.

ص: 356

وان كان المتعلق للوجوبين متعددا - بان كان متعلق الوجوب الثاني فردا ثانيا - فهذا الإحتمال وان كان لازمه عدم الاكتفاء بامتثال واحد ، وهو جيد من هذه الناحية إلاّ انّه باطل من حيث مخالفته لظاهر الاطلاق ، فانّ العتق في كلتا الجملتين مطلق ولم يقيد بالمرة الثانية فلم يقل إذا ظاهرت فاعتق مرة ثانية وانّما ذكر من دون التقييد المذكور ، وهذا لازمه انّ المتعلق واحد وهو طبيعي العتق وليس متعددا.

هذا حصيلة الإشكال. وقبل الجواب عنه نشير إلى مطلب حاصله : انّه وقع كلام في انّ الوجوبين مثلا هل يمكن تعلقهما بشيء واحد كطبيعي الغسل مثلا؟

قد يقال بعدم إمكان ذلك لأن لازم وحدة المتعلق اجتماع المثلين في شيء واحد وهو مستحيل. وقد يقال بإمكان ذلك ، باعتبار انّ الوجوب أمر اعتباري ، ولا محذور في اجتماع الاعتبارين في شيء واحد.

وبعد الالتفات إلى المطلب المذكور نرجع إلى الاشكال لنجيب عنه بما يلي :

إذا قلنا بإمكان تعلق الوجوبين بشيء واحد فبامكاننا اختيار الشق الأوّل من الشقين المذكورين في الاشكال بان يقال انّ متعلق الوجوبين في الجملتين الشرطيتين شيء واحد وهو طبيعي العتق. وما ذكر من محذور لزوم الاكتفاء بعتق واحد مدفوع بانّ الوجوب ما دام متعددا فالتحرك يكون متعددا أيضا فانّ الوجوب الأوّل يقتضي تحركا خاصا إلى طبيعي العتق والوجوب الثاني يقتضي تحركا ثانيا نحو الطبيعي فلأجل اقتضاء كل وجوب تحركا خاصا به نحو الطبيعي

ص: 357

يلزم ايجاد الطبيعي مرتين.

وأمّا إذا قلنا بعدم إمكان تعلق الوجوبين بشيء واحد فبإمكاننا اختيار الشق الثاني من الشقين السابقين ، بانّ يقال بتعلق الوجوب الثان بفرد ثاني من العتق. ودعوى ان التقييد بالفرد الثاني لا يمكن الالتزام به لمخالفته لظاهر الاطلاق مدفوعة بانّ القرينة على التقييد بالفرد الثاني موجودة ، وهي تعدد الوجوب ، فانّ تعدد الوجوب بعد افتراض عدم إمكان تعلقهما بشيء واحد بنفسه قرينة على تقييد الوجوب الثاني بفرد ثان من العتق. وهذا نحو جمع عرفي بين الوجوبين ، فانّ الوجوبين بعد عدم إمكان اجتماعهما في شيء واحد فالعرف يجمع بينهما بتقييد متعلق الوجوب الثاني بفرد ثان.

ومن خلال كل هذا اتضح انّ القسم المذكور من مصاديق الجمع العرفي بخلاف الأوّل - أي إذا خفي الاذان فقصر وإذا خفيت الجدران فقصر - فانّه ليس من مصاديق الجمع العرفي.

ص: 358

تعارض الأحكام الأولية والثانوية

3 - لا إشكال في انّ شرب الماء مثلا مباح كما ولا إشكال في انّ المكلّف لو نذر شربه صار واجبا.

وقد يقال انّ الحكم بالاباحة الذي هو حكم أولي يتعارض مع الحكم بوجوب الشرب الثابت بالنذر الذي هو حكم ثانوي ، فانّ الشيء الواحد لا يمكن ان يكون مباحا وواجبا.

وقد يقال بإمكان الجمع العرفي بين الحكمين المتعارضين المذكورين ، وذلك بان يقال انّ الحكم بالاباحة ثابت للماء بعنوان انّه ماء ومؤداه انّ عنوان الماء لا اقتضاء فيه لا للوجوب ولا للحرمة ، ولإجل عدم اقتضائه لا لهذا ولا لذاك كان مباحا ، بينما الحكم بالوجوب ثابت للماء بعنوان ثان وهو عنوان المنذور فلأجل انطباق عنوان المنذور على الماء صار شربه واجبا. ومؤدى الحكم بالوجوب انّ الماء إذا انطبق عليه عنوان المنذور اقتضى لزوم الفعل ، وبناء على هذا البيان ترتفع المنافاة بين الحكم بالاباحة والحكم بالوجوب فلا محذور في ان يكون الشيء الواحد بعنوانه الاولي مباحا ولا يقتضي الوجوب ولا الحرمة بينما بعنوانه الثاني يقتضي الوجوب.

ويمكن التعليق على ذلك : بانّ البيان المذكور لرفع التعارض والمنافاة وان كان جيدا إلاّ انّه يزيل التنافي بشكل كامل ومن الاساس بحيث لا يبقى للجمع

ص: 359

العرفي مجال ، فانّ الجمع العرفي فرع تحقق المعارضة بشكل ضعيف وغير مستقر ، والبيان المذكور يزيل المعارضة حتى بشكلها الضعيف غير المستقر فلا تبقى أرضية للجمع العرفي.

ص: 360

تعارض الشمولية والبدلية

4 - إذا واجهنا دليلين أحدهما يقتضي الشمولية وثانيهما يقتضي البدلية وكانا متعارضين بنحو العموم من وجه فما هو الموقف اتجاه ذلك؟ كما لو قيل اكرم فقيرا ولا تكرم كل فاسق ، فالدليل الأوّل يقتضي وجوب اكرام فقير واحد على سبيل البدل بينما الدليل الثاني لا يقتضي حرمة اكرام فاسق واحد على سبيل البدل بل يقتضي حرمة اكرام كل فاسق بنحو الشمول.

والنسبة بين الفقير والفاسق نسبة العموم من وجه. ومادة الاجتماع التي يتعارضان فيها ما لو كان شخص واحد فقيرا وفاسقا ، فان مقتضى الأوّل وجوب اكرامه بينما مقتضى الثاني حرمة اكرامه.

والجواب : انّه تارة يفرض انّ احد الدليلين يستند في دلالته إلى الوضع والدليل الثاني يستند إلى مقدمات الحكمة ، واخرى يفرض انّ كليهما يستند إلى الوضع أو كليهما يستند إلى مقدمات الحكمة.

فعلى الأوّل يقدم ما كانت دلالته مستندة إلى الوضع.

ومثال ذلك : ما سبق ، أي اكرم فقيرا ولا تكرم كل فاسق ، فان دلالة الأولّ على البدلية تستند إلى مقدمات الحكمة بينما دلالة الثاني على الشمولية تستند إلى كلمة « كل » التي هي موضوعة للعموم. وفي هذا المثال يقدم الدليل الثاني الذي يقول لا تكرم كل فاسق بدون فرق بين ان يكون متصلا بالدليل الأوّل أو منفصلا عنه.

ص: 361

امّا الوجه في تقدمه في صورة الاتصال فواضح ، إذ مع الاتصال لا ينعقد للمطلق - وهو كلمة فقير في « اكرم فقيرا » - ظهور في الاطلاق أصلا ، لأنّ شرط انعقاد الاطلاق عدم القرينة المتصلة على التقييد ، وواضح انّ دليل لا تكرم كل فاسق الذي فرض اتصاله بالأوّل صالح لان يكون قرينة متصلة على التقييد.

وأمّا الوجه في تقدمه في صورة الانفصال فلانّ المطلق وان انعقد ظهوره في الاطلاق - لفرض انّ القرينة منفصلة والقرينة المنفصلة لا تمنع من انعقاد الاطلاق - إلاّ انّ الدليل الثاني الذي فرض دلالته بالوضع يقدم على الدليل الأوّل من جهة اقوائية ظهوره بالقياس الى ظهور المطلق فان الظهور الناشيء من الوضع اقوى من الظهور الناشيء من الاطلاق ، والعرف يجمع بين الدليلين المختلفين في درجة الظهور بتقديم الأقوى ظهورا.

هذا كله لو كانت دلالة أحد الدليلين تستند إلى الوضع ودلالة الآخر تستند إلى مقدمات الحكمة.

امّا لو كان كلا الدليلين يستند إلى الوضع أو إلى مقدمات الحكمة - كما لو قيل اكرم فقيرا ولا تكرم الفاسق بناء على انّ كلمة الفاسق التي هي اسم جنس محلى بالالف واللام لم توضع للعموم وانّما يستفاد العموم منها بواسطة مقدمات الحكمة - فما هو المقدم؟

قيل بانّ الدليلين متكافئان ويتساقطان في مادة المعارضة وهي الفقير الفاسق ويرجع إلى ما تقتضيه الاصول العملية.

وقيل بانّ الدليل الشمولي - أي دليل لا تكرم الفاسق - هو المقدم. ويمكن انّ تذكر ثلاثة وجوه في نكتة تقدمه : -

ص: 362

أ - ان يقال بانّ الدليل الشمولي يقدم من باب اقوائية ظهوره.

والوجه في ذلك : انّ الدليل الشمولي يدل على مطلب واحد بينما الدليل البدلي يدل على مطلبين ، فمثلا دليل لا تكرم الفاسق الذي هو شمولي يدل على مطلب واحد وهو تعدد الحكم بحرمة الاكرام بعدد افراد الفاسق فلكل فرد من أفراد الفاسق حكم بالحرمة ، بينما دليل اكرم فقيرا الذي هو بدلي يدل على مطلبين فهو يدل على ثبوت حكم واحد بوجوب الاكرام ويدل أيضا على انّ الحكم الواحد المذكور وسيع يمكن تطبيقه على أي فقير.

وباتضاح هذا نقول : انّ اهتمام الإنسان ببيان أصل الحكم أقوى من اهتمامه ببيان سعته.

وبكلمة ثانية احتمال خطا الإنسان في بيان أصل الحكم أضعف من احتمال خطاه في بيان سعته ، واحتمال انّه لا يريد أصل الحكم أضعف من احتمال عدم ارادته لسعته. وإذا قبلنا هذا المطلب نقول انّ الدليل الشمولي هو المقدم ، إذ غاية ما يلزم من تقدمه الحكم بانّ المتكلّم لا يريد السعة الثابتة في الدليل البدلي بينما لو قدمنا الدليل البدلي فلازم ذلك الحكم بانّ المتكلم لا يريد أصل الحكم بحرمة الاكرام بالنسبة إلى بعض أفراد الفاسق ، أي الفقير الفاسق. وحيث انّ احتمال عدم ارادة أصل الحكم أضعف من احتمال عدم إرادة السعة فلا بدّ من تقديم الدليل الشمولي لأنّ المحذور اللازم من تقدمه - وهو عدم إرادة السعة - اخف وأهون.

ب - وهذا الوجه يتوقف على مقدمة حاصلها انّه تقدم في القسم الأوّل من الحلقة الثالثة ص 309 كلام حاصله : انّ التكليف هل يمكن تعلقه بالجامع بين

ص: 363

المقدور وغير المقدور أو يختص بالحصة المقدورة؟ فهل يمكن ان يقول المولى لعبده يجب عليك أحد الامرين : الجلوس في البيت أو الطيران إلى السماء؟

اختار الشيخ النائيني عدم إمكان تعلق التكليف بالجامع واختصاصه بالحصة المقدورة وهي الجلوس في البيت.

وفي مقابل ذلك اختار المحقق الكركي والسيد الخوئي والسيد الشهيد إمكان تعلق التكليف بالجامع ، حيث انّ متعلق التكليف وان كان من اللازم ان يكون مقدورا إلاّ انّ بعض أفراد الجامع ما دام مقدورا فنفس الجامع يصير مقدورا ويمكن توجه التكليف إليه ومن الوجيه ان يقول المولى لعبده يجب عليك امّا الجلوس في البيت أو الطيران الى السماء.

وباتضاح هذه المقدمة نقول : انّ خطاب اكرم فقيرا يطلب الجامع ، أي احدى الحصتين من اكرام الفقير العادل واكرام الفقير الفاسق ولكن بعد الالتفات إلى الخطاب الشمولي الذي يقول لا تكرم الفاسق المنحل إلى تحريمات بعدد افراد الفاسق يصير اكرام الفقير الفاسق غير مقدور شرعا لثبوت التحريم له بواسطة خطاب لا تكرم الفاسق ، ومع زوال القدرة الشرعية عنه فلا يمكن ان يشمله خطاب اكرم فقيرا لانّه تكليف ، والتكليف يختص بالحصة المقدورة - وهي اكرام الفقير العادل - على رأي الشيخ النائيني.

وقد تقول : انّ هذا يتم لو لا حظنا أولا دليل لا تكرم الفاسق ولكن لم لا نلحظ أوّلا خطاب اكرم فقيرا.

وجوابه : انّ خطاب لا تكرم الفاسق وارد على خطاب اكرم فقيرا ، أي رافع لموضوعه حقيقة ، فانّ موضوع خطاب اكرم فقيرا هو الافراد المقدورة ، وخطاب لا تكرم الفاسق يرفع الموضوع المذكور رفعا حقيقيا ويجعل اكرام الفقير

ص: 364

الفاسق غير مقدور شرعا. ومن الواضح انّ الخطاب الوارد هو المقدم على الخطاب المورود ولا معنى لان يقال لم نلحظ الدليل الوارد أولا ليتقدم على الدليل المورود. هذه حصيلة الوجه الثاني.

ويرده : ان هذا الوجه مبني على مسلك الشيخ النائيني القائل باختصاص التكليف بالحصة المقدرة وعدم إمكان توجهه إلى الجامع بين المقدور وغير المقدور ، امّا بناء على ما هو الصحيح من إمكان توجه التكليف إلى الجامع فاكرام الفقير وان صار غير مقدور شرعا بسبب الدليل الشمولي إلاّ انّ ذلك لا يمنع من بقاء خطاب اكرم فقيرا متوجها إلى الجامع فتجب احدى الحصتين امّا اكرام الفقير العادل الذي هو مقدور شرعا وعقلا أو اكرام الفقير الفاسق الذي هو غير مقدور شرعا.

ج - ان خطاب اكرم فقيرا يقتضي ترخيصات متعددة بعدد افراد الفقير فهو يرخص المكلّف في تطبيق الاكرام على هذا الفقير وعلى ذاك الفقير و ... وخطاب لا تكرم الفاسق يتنافى مع واحد من هذه الترخيصات فهو يرفض الترخيص في تطبيق اكرام الفقير على الفقير الفاسق ، وبقطع النظر عن هذه الترخيصات فلا منافاة بين ذات مضمون خطاب اكرم فقيرا ومضمون لا تكرم الفاسق إذ لا منافاة بين ان يقال « اكرام فقير ما من الفقراء واجب » وبين ان يقال « اكرام الفاسق محرم ». إذن المنافاة تحصل بسبب الترخيصات المتعددة وبقطع النظر عنها لا منافاة.

وإذا كانت المنافاة ثابتة بين الترخيص المستفاد من خطاب اكرم فقيرا والالزام المستفاد من خطاب لا تكرم الفاسق نطبق ما قرآناه في رقم (3) (1) من انّه متى ما اجتمع دليلان احدهما ترخيصي والآخر إلزامي قدّم الالزامي ، وهنا

ص: 365


1- تحت عنوان « تعارض الاحكام الأولية والثانوية ».

يقدم الالزامي أيضا وهو خطاب لا تكرم الفاسق.

ويرده : انّ المنافاة ثابتة بقطع النظر عن الترخيصات ، فانّ مضمون كل واحد من الخطابين يتنافى ومضمون الخطاب الآخر فمضمون خطاب اكرم فقيرا ثبوت الوجوب لاكرام الفقير بلا مدخلية قيد العدالة وهو يتنافى وثبوت الحرمة لاكرام الفاسق حتى لو كان فقيرا فثبوت كل واحد من الحكمين بنحو مطلق غير ممكن فانّ وجوب اكرام فقير ما الذي هو مطلق وغير مقيد بالعدالة يتنافى وحرمة اكرام الفاسق الذي هو مطلق وغير مقيد بان لا يكون فقيرا.

اللّهم إلاّ ان يقال انّ خطاب اكرم فقيرا يقول انّه من ناحيتي لا موجب لأن تتقيد ايها المكلّف بحصة دون اخرى فلا موجب لان تتقيد من ناحيتي باكرام خصوص الفقير العادل ، ومن الواضح انّ هذا لا يتنافى ولزوم التقيد بإكرام خصوص الفقير العادل من ناحية اخرى ، أي من ناحية خطاب لا تكرم الفاسق ، ويكون ذلك اشبه بخطاب « شرب الماء مباح » وخطاب « يجب الوفاء بالنذر » فكما انّه لا منافاة بين الخطابين المذكورين من ناحية انّ الأوّل يثبت الإباحة لعنوان الماء بما هو ماء والثاني يثبت الوجوب له بعنوان النذر كذلك لا منافاة بين خطابي اكرم فقيرا ولا تكرم الفاسق لما ذكر من النكتة (1).

ص: 366


1- هذا ويمكن الاشكال على ما ذكر بانّ لازمه ارتفاع المعارضة بين العام والخاص وهكذا بين العامين من وجه بل وبين المتباينين تباينا كليا أيضا فيلزم عدم معارضة خطاب اكرم العلماء لخطاب لا تكرم الفساق لانّ الخطاب الأوّل يقول انّه من ناحيتي لا موجب للتقيد باكرام العالم العادل وهذا لا يتنافى ولزوم التقيد باكرام العالم العادل من ناحية خطاب لا تكرم الفاسق. بل وهكذا يلزم ارتفاع المنافاة بين خطاب صل وخطاب لا تصل لأنّ الأوّل يقول انّه من ناحيتي تكون الصلاة واجبة وهذا لا يتنافى وان تكون محرمة من ناحية الخطاب الثاني.

تقدم الامارة على الأصل

اشارة

5 - لا اشكال في انّه متى ما اجتمعت الامارة مع الأصل قدمت الامارة التي هي دليل اجتهادي على الأصل الذي هو دليل فقاهتي. وهذا مما لا خلاف فيه بين الاصوليين ، وانّما الخلاف في النكتة الفنية والصناعية لتقدم الامارة على الأصل.

وقبل ان نبين ذلك نشير إلى انّه تقدم ص 326 من الحلقة انّ التعارض المصطلح لا يطلق على الامارة المنافية للأصل لأنّ التعارض المصطلح يراد به التنافي بين الدليلين باعتبار كشفهما عن جعلين متنافيين ، وواضح انّ الأصل ليس دليلا كاشفا عن الجعل بل هو بنفسه جعل وحكم شرعي فكما انّ حرمة شرب الخمر حكم شرعي كذلك حرمة نقض الحالة السابقة حكم شرعي ، وعليه فالمعارضة المصطلحة تتحقق بين دليل الامارة ودليل الأصل لأنّ كل واحد منهما يكشف عن جعل يتنافى والجعل الآخر.

وبعد اتضاح هذا نعود إلى بيان نكتة تقدم الامارة على الأصل. انّ النكتة يمكن ان تبين باحد الوجوه التالية : -

الورود

أ - انّ دليل الامارة وارد على دليل الاصل ، أي رافع لموضوع الأصل رفعا

ص: 367

حقيقيا ، لانّ موضوع أصل البراءة مثلا هو عدم العلم لقوله علیه السلام رفع عن امتي ما لا يعلمون. والمراد من العلم ليس هو العلم الوجداني بمعنى الانكشاف التام بدرجة 100% بل المراد به المرآتية للحجّة فكأنّه قيل الحكم مرفوع عند عدم الحجّة ، ومن الواضح انه بدليل حجّية الامارة تصير الامارة حجّة حقيقة ويرتفع بذلك موضوع الأصل ارتفاعا حقيقة.

ويرده : انّ تفسير كلمة العلم الواردة في دليل الأصل بالحجّة دون الانكشاف التام خلاف الظاهر ولا يصار إليه إلاّ بقرينة ، وهي مفقودة.

الحكومة

ب - انّ دليل الامارة حاكم على دليل الأصل لانا نسلم انّ المراد من العلم المأخوذ في موضوع دليل الأصل ليس هو العلم بما هو مرآت إلى الحجّة بل المراد به العلم الوجداني بما هو كاشف تام بيد انا نقول بناء على مسلك جعل العلمية يصير دليل حجّية الامارة دالا على انّ الامارة بمثابة العلم واليقين الموضوعي الماخوذ في موضوع دليل الأصل ، وبصيرورة الامارة علما وقيامها في مورد على حكم معين يصير الحكم معلوما تعبدا ويرتفع موضوع الأصل تعبدا.

ان قيل : انّ الحكومة لو تمت فهي تتم بالنسبة إلى أصل البراءة مثلا ولا تتم بالنسبة إلى الاستصحاب بناء على رأي السيد الخوئي ، فقد تقدم ص 17 من الحلقة انّه يرى انّ المجعول في باب الاستصحاب هو العلمية فالشارع يجعل المكلّف حالة الشكّ عالما ببقاء الحالة السابقة ، وبناء عليه يكون المجعول في كل من الامارة والاستصحاب هو العلمية ومعه فلا وجه لحكومة الامارة على الأصل ،

ص: 368

إذ كما انّ الامارة توجب العلم كذلك الاستصحاب يوجب العلم.

وأجاب : السيد الخوئي ( دام ظله ) عن الاشكال المذكور بانّ الامارة والاستصحاب وان كانا يشتركان في كون المجعول في كليهما هو العلمية إلاّ انّه يبقى اختلاف بينهما في ناحية اخرى ، وهي انّ الاستصحاب أخذ في موضوعه الشكّ حيث قيل لا تنقض اليقين بالشكّ بينما دليل الامارة لم يؤخذ في موضوعه الشكّ - فمفهوم آية النبأ مثلا يقول وان جاء العادل فلا تتبينوا من دون أخذ كلمة الشكّ وعدم العلم - بل يمكن ان يقال انّ مقتضى اطلاق دليل حجّية الامارة ثبوت الحجّية للامارة حتى في حالة العلم بمخالفتها للواقع ، غاية الأمر ان العقل يحكم بلزوم خروج حالة العلم بالخلاف من دليل حجّية الامارة لعدم إمكان ثبوت الحجّية لها حالة العلم بمخالفتها للواقع ، فالخارج ليس هو إلاّ حالة العلم الوجداني بالخلاف وامّا حالة العلم التعبدي بالخلاف الحاصلة بسبب جريان الاستصحاب فهي باقية تحت دليل حجّية الامارة.

وبالجملة انّ عنوان الشكّ لم يؤخذ في موضوع دليل حجّية الامارة بينما أخذ في موضوع دليل الاستصحاب.

ويترتب على هذا الفارق انّ الامارة هي الحاكمة على الاستصحاب لانّه بقيامها يحصل العلم ويرتفع عنوان الشكّ الذي اخذ في موضوع دليل الاستصحاب بينما جريان الاستصحاب لا يرفع موضوع الامارة لانّ موضوعها لم يقيد بالشكّ ليرتفع بالاستصحاب (1).

ص: 369


1- وقد مرت الاشارة إلى هذه النكتة أوائل الحلقة ص 12.
مناقشة مسلك الحكومة

وبعد اتضاح مسلك حكومة دليل الامارة على دليل الاصل ناخذ بمناقشته بما يلي : انّ حكومة دليل على دليل تتوقف على نظر الحاكم إلى المحكوم. ودليل حجّية الامارة حيث انّه غير ناظر إلى دليل الأصل فلا يمكن ان يكون حاكما عليه. امّا لماذا لم يكن دليل الامارة ناظرا إلى دليل الأصل؟

الوجه في ذلك : انا لو اخذنا المصداق المهم للامارة - وهو خبر الثقة أو الظهور - لرأينا انّ اقوى دليل على حجّيته هو احد أمرين : السيرة العقلائية وسيرة أصحاب الائمة علیهم السلام . وكلا هذين الدليلين ليس ناظرا إلى موضوع دليل الأصل (1) ، أي ليس ناظرا إلى تنزيل الامارة منزله القطع الموضوعي - الذي هو موضوع الأصل - ليكون حاكما عليه.

امّا انّ سيرة العقلاء ليست ناظرة إلى تنزيل الامارة منزلة القطع الموضوعي فلأنّ القطع الموضوعي لا وجود له في حياة العقلاء لتكون سيرتهم الجارية على حجّية الخبر أو الظهور ناظرة إليه ومنزّلة للخبر منزلته ، فانا لم نعهد لحدّ الآن ولو حكما واحدا لدى العقلاء يكون القطع ماخوذا في موضوعه بحيث عند عدم حصول القطع لا يكون الحكم ثابتا واقعا وانّما المتداول بينهم القطع الطريقي - أي القطع الملحوظ بما هو طريق إلى الواقع وكمنجز له أو معذّر - وهم

ص: 370


1- موضوع دليل الاصل هو عدم العلم ، أو بكلمة اخرى : هو العلم نفيا ، فاليقين بالنفي الماخوذ في موضوع الأصل يقين موضوعي ، أي هو يقين ماخوذ في موضوع الأصل.

بسيرتهم الجارية على حجّية الخبر ناظرون إلى القطع المذكور فانّه لا اشكال في انعقاد سيرتهم على جعل الخبر منجزا ومعذرا كالقطع ، وهذا معناه ثبوت سيرتهم على تنزيل الامارة منزلة القطع الطريقي في المنجزية والمعذرية (1).

ان قلت : انّ سيرة العقلاء الجارية على حجّية الامارة وان لم تكن ناظرة إلى تنزيلها منزلة القطع الموضوعي ولكن لم لا نقول انّ دليل حجّية السيرة وهو الامضاء الشرعي ناظر إلى تنزيل الامارة منزلة القطع الموضوعي.

قلت : انّ الامضاء الشرعي يتقدر بقدر السيرة ، وحيث انّ المفروض انعقاد السيرة على تنزيل الامارة منزلة القطع الطريقي ولم يثبت انعقادها على تنزيلها منزلة القطع الموضوعي فيتقدر بالمقدار المذكور الذي انعقدت عليه السيرة لا أكثر. هذا كله في المدرك الأوّل لحجّية الامارة وهو السيرة العقلائية.

وامّا انّ سيرة اصحاب الائمة علیهم السلام ليست ناظرة إلى القطع الموضوعي فلأنّ أصحاب الائمة بما هو اصحاب الائمة ويعيشون التشريع الاسلامي وان امكن نظرهم إلى القطع الموضوعي - فانّ القطع الموضوعي بعيد عن حياة العقلاء بما هو عقلاء وليس بعيدا عن المتشرعة الذين يعيشون التشريع - ولكنا لا نجزم بانعقاد سيرتهم على العمل بالامارة وتنزيلها منزلة القطع الموضوعي وانّما القدر المتيقن من سيرتهم هو العمل بالامارة وتنزيلها منزلة القطع الطريقي كمنجز ومعذر (2).

ص: 371


1- تقدمت الاشارة إلى هذا المطلب أكثر من مرة. راجع القسم الأوّل من هذه الحلقة ص 82.
2- لا يخفى انّ المناقشة المذكورة من قبل السيد الشهيد مبنائية أي على مبناه الذي يرى فيه انّ الحكومة تنحصر بمورد النظر ولا تتم على مبنى السيد الخوئي الذي يرى انّ الحكومة لا تختص بموارد النظر بل لها موردان : احدهما : موارد النظر. ثانيهما : الموارد التي يكون فيها أحد الدليلين رافعا لموضوع الدليل الآخر تعبدا كما هو الحال في مقامنا أي دليل الامارة الرافع تعبدا لموضوع الأصل. راجع مصباح الاصول ج 3 ص 348- 349. كما ويمكن مراجعة تقرير السيد الشهيد ج 7 ص169- 170 حيث يشير قدس سره إلى رأي السيد الخوئي هذا ومناقشته.
النصية والأخصيّة

ج - والوجه الصحيح في تقدم الامارة على الأصل هو النصية والأخصية.

امّا النصية فالمراد منها انا نجزم بشمول دليل حجّية الامارة لموارد اجتماع الامارة مع الأصل المخالف لها ، فلو اخبر الثقة بحرمة التدخين - وأصل البراءة كما هو واضح يقتضي حليته - فلا إشكال في انّ العقلاء يأخذون بخبر الثقة ولا نحتمل انّ اخذهم به مختص بالموارد التي يخبر فيها الثقة بما يوافق البراءة ، أي في صورة الاخبار بالحلية.

وهذا كله بخلاف دليل الأصل فانا لا نجزم بشمول دليله للأصل المجتمع مع الامارة المخالفة له فلعل دليل البراءة مثلا يختص بالبراءة التي لا تكون مخالفة لأمارة من الامارات. انّ الجزم بشمول دليل حجّية الامارة لمورد الاجتماع بخلاف دليل حجّية الأصل هو المقصود من قولنا يقدم دليل الامارة على الأصل عند اجتماعه معه من باب النصية.

وامّا الاخصية فليس المراد منها الأخصية المصطلحة بمعنى انّ دليل حجّية الامارة اخص من دليل الأصل - كما يلوح ذلك من كلمات الشيخ الأعظم في أوائل مباحث البراءة عند البحث عن نكتة تقدم الامارة على الأصل - وانّما المراد

ص: 372

منها نكتة تقدم الخاص على العام ، فانّ نكتة تقدم « لا تكرم العالم الفاسق » على دليل « اكرم العلماء » مثلا هو انّه لو قدّم العام وحكم بوجوب اكرام كل عالم بما في ذلك الفاسق لزم الغاء الخاص بشكل كليّ وعدم بقاء مورد له يمكن العمل به فيه ، وهذا بخلاف ما لو قدم الخاص فانّه لا يلزم منه إلغاء العام راسا بل يبقى له مورد وهو العلماء العدول.

انّ نفس هذا البيان يجري في مقامنا ، فانّ الامارة حينما تقوم في مورد فحتما يوجد أصل يجري معها امّا موافق لها أو مخالف ، إذ لا يمكن خلو مورد من الموارد من أصل من الاصول العملية.

وإذا كانت الامارة مقترنة بالأصل دائما فنقول : انّ الامارة لو كانت حجّيتها تختص بصورة كون الأصل موافقا لها فهذا معناه إلغاء دليل حجّية الامارة راسا ، إذ في مورد الأصل الموافق للامارة يكون العمل في الحقيقة بالأصل لا بالامارة ، فانّ الثقة لو اخبر بحليّة التدخين فإذا حكمنا بالحلية لم يكن الحكم المذكور مستندا إلى خبر الثقة ، إذ حتى لو لم يخبر الثقة بذلك كنا نحكم بذلك استنادا إلى البراءة.

إذن انحصار حجّية الامارة بمورد موافقتها للأصل هو بمثابة الغائها في الحقيقة ، ومن هنا لو سمعنا شخصا يحكم بان الامارة لا تكون حجّة إلاّ إذا كانت موافقة للاصل لاستغربنا ولقلنا له انّ هذا معناه عدم حجّيتها إذ عند موافقها للأصل يكون الاستناد بحسب الحقيقة إلى الأصل.

وعليه فالامارة عند اجتماعها بالاصل المخالف لها لا بدّ وان تكون هي

ص: 373

المقدمة كيما لا يلزم الغائها. هذا هو المراد من الأخصية (1).

ص: 374


1- وكان من المناسب ان يشير قدس سره في عبارة الكتاب إلى ذلك فانّ هذا مطلب دقيق وحريّ بالتوضيح. وقد اشير إليه في التقرير ج 6 ص 350.

تقدم الأصل السببي على الأصل المسببي

اشارة

6 - إذا كان لدينا ماء معلوم الطهارة سابقا ومشكوك الطهارة فعلا وغسلنا به ثوبا معلوم النجاسة بالفعل فسوف نشكّ في حصول الطهارة للثوب لاحتمال كون الماء نجسا. وفي مثل هذه الحالة يجري استصحابان متعارضان : استصحاب الطهارة في الماء وهو يقتضي حصول الطهارة للثوب واستصحاب النجاسة في الثوب.

والاستصحاب الاول يسمى بالاستصحاب السببي ، والثاني يسمى بالاستصحاب المسبّبي.

ووجه التسمية واضح ، فإنّ الشكّ في طهارة الماء حيث انه سبب للشكّ في نجاسة الثوب فالاستصحاب الجاري في طهارة الماء يكون استصحابا سببيا ، وحيث ان الشكّ في نجاسة الثوب مسبّب عن الشكّ في طهارة الماء فالاستصحاب الجاري في نجاسة الثوب يكون استصحابا مسببيا.

والمعروف ان الاستصحاب السببي مقدّم بالحكومة على الاستصحاب المسببي فيجري استصحاب طهارة الماء وتثبت بذلك طهارته ، ومن ثمّ طهارة الثوب بلا معارضة باستصحاب نجاسة الثوب.

وقد وجّه غير واحد من الأعلام حكومة الاستصحاب السببي : بأن استصحاب طهارة الماء إذا جرى حصل العلم بطهارة الماء وبجميع آثارها - طهارة

ص: 375

الماء - التي أحدها طهارة الثوب ، وبذلك يزول الشكّ في نجاسة الثوب - الذي هو موضوع الاستصحاب المسببي - ويحصل العلم بطهارته ولكن تعبّدا لا حقيقة فإنّ الاستصحاب السببي وان أفاد العلم بناء على ان المجعول فيه هو الطريقية والعلميّة كما هو رأي الشيخ النائيني والسيّد الخوئي حسبما تقدّم ص 17 من الحلقة إلاّ أنه علم تعبّدي لا وجداني حقيقي.

هذا ويمكن مناقشة ذلك بوجهين : -

1 - ان حكومة الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسببي يتوقّف على ان يكون دليل الاستصحاب ناظرا إلى جعل الاستصحاب علما لا بلحاظ خصوص العلم الطريقي الذي وظيفته المنجّزيّة والمعذريّة بل جعله علما حتى بلحاظ العلم الموضوعي المأخوذ في موضوع الأصل ، وهذا غير ثابت ، فكما ان الأمارة لم يثبت جعلها علما بلحاظ العلم الموضوعي كذلك الاستصحاب لم يثبت ان المجعول فيه هو العلميّة بلحاظ العلم الموضوعي ، غاية الأمر الأمارة لم يثبت قيامها مقام القطع الموضوعي من باب قصور السيرة العقلائيّة والمتشرعية ، وأمّا الاستصحاب فلم يثبت فيه ذلك من باب قصور حديث « لا تنقض اليقين بالشكّ » عن إفادة ذلك ، فإنه لو استفيد من الحديث المذكور جعل العلميّة فأقصى ما يستفاد منه جعلها بلحاظ القطع الطريقي - أي بلحاظ المنجّزيّة - دونه بلحاظ القطع الموضوعي.

2 - لو سلّمنا كون المجعول في باب الاستصحاب هو العلميّة حتى بلحاظ القطع الموضوعي فنقول ان الأصل السببي لا يكون دائما استصحابا - ليقال ان المجعول في الاستصحاب هو العلميّة ، الأمر الذي يوجب زوال الشكّ الذي هو

ص: 376

الموضوع في الأصل المسببي - بل قد يكون أحيانا مثل أصل الطهارة الذي ليس المجعول فيه العلميّة جزما ، كما لو فرض ان لدينا ماء لا نعرف حالته السابقة من حيث الطهارة والنجاسة وغسلنا به ثوبا نجسا ، فإنّ الأصل الجاري في الماء ليس هو استصحاب الطهارة - لفرض جهالة حالته السابقة - بل هو أصالة الطهارة فيحكم بطهارة الماء استنادا لقاعدة الطهارة وبالتالي يحكم بطهارة الثوب ولا يعتنى للأصل الجاري في الثوب وهو استصحاب النجاسة ، فبالرغم من كون الأصل الجاري في الثوب هو استصحاب النجاسة - الذي قيل بأنّ المجعول فيه هو العلميّة - لم يعتن به وحكم على طبق أصالة الطهارة في الماء التي لم يجعل فيها العلمية.

ان هذا يدلّل على ان نكتة تقدّم الأصل السببي لا تكمن في ان المجعول في الاستصحاب السببي هو العلميّة بل تكمن في شيء آخر.

النكتة الصحيحة

والنكتة الصحيحة في تقدّم الأصل السببي على المسببي هي ان الأصل السببي يعالج - أي يثبت أو يرفع - موضوع الأصل المسببي ، والمرتكز في ذهن العقلاء والعرف ان كل أصل يعالج موضوع الأصل الآخر فهو مقدّم عليه ولا تحصل المعارضة بينهما ، فمثلا إذا شكّ في مجيء زيد من جهة الشكّ في حياته فاستصحاب الحياة يجريه العرف ويحكم بالحياة ومن ثمّ بالمجيء بدون ان يعارض ذلك باستصحاب عدم المجيء ، وحيث ان روايات الاستصحاب ناظرة الى المرتكزات العرفيّة ولا تقصد بيان مطلب يخالف ذلك بقرينة جملة « فليس

ص: 377

ينبغي لك ... » فيكون المستفاد منها - روايات الاستصحاب - جريان الأصل السببي دون الأصل المسببي.

وباختصار ان نفس كون أحد الأصلين يعالج موضوع الأصل الآخر نكتة عرفيّة لتقدّمه قبل ان تصل النوبة الى قضيّة كون أحد الأصلين ملغيا للشكّ المأخوذ في موضوع الأصل الآخر (1).

ص: 378


1- وبيان النكتة بهذا الشكل بيان جميل وان كانت عبارة الكتاب فيها قصور وغموض ولكن عبارة التقرير ج 6 ص 356 واضحة فيما ذكرناه. وما ذكر في قسم الملاحق لم نفهم معناه.

معارضة الاستصحاب للأصول الأخرى

اشارة

7 - وإذا حصلت المعارضة بين الاستصحاب وبقيّة الاصول فما هو الموقف؟ فمثلا عند الشكّ في بقاء وجوب صلاة الجمعة لا إشكال في اقتضاء الاستصحاب بقاء الوجوب على عكس البراءة حيث تقتضي عدم ثبوت الوجوب.

وفي هذه الحالة ذهب مشهور الاصوليين إلى تقدّم الاستصحاب للجمع العرفي (1) ، فالاستصحاب مقدّم على البراءة من جهة حكومته عليها ، فإنه بناء على كون المجعول في الاستصحاب الطريقيّة والعلميّة يصير - الاستصحاب - من الاصول المحرزة أي يحرز لنا تعبّدا بقاء الوجوب ويحصّل العلم تعبّدا بذلك وينفي الشكّ الذي هو موضوع البراءة ، فالاستصحاب حاكم على البراءة من جهة نفيه لموضوع البراءة تعبّدا.

ان قلت : كما ان الشكّ مأخوذ في موضوع البراءة كذلك هو مأخوذ في موضوع الاستصحاب فلماذا صار الاستصحاب هو الرافع لموضوع البراءة بلا عكس؟

قلت : ان ذلك من جهة ان المجعول في الاستصحاب العلميّة والطريقيّة فبجريانه يحصل العلم تعبّدا ببقاء وجوب الجمعة ويزول الشكّ ، وهذا بخلاف

ص: 379


1- المقصود من الجمع العرفي هنا الحكومة.

العكس فإنه ليس المجعول في البراءة العلميّة ليكون موجبا تعبدا لزوال الشكّ المأخوذ في موضوع الاستصحاب.

مناقشة الحكومة

ثمّ انه يمكن مناقشة حكومة الاستصحاب على بقيّة الأصول بنفس المناقشة التي تقدّمت في باب الأمارة ، فكما لم نقبل فيما سبق حكومة الأمارة على الاستصحاب باعتبار انه لا يستفاد من دليل حجيّة الأمارة أكثر من تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي في المنجزيّة والمعذريّة ولا يستفاد تنزيلها منزلة القطع الموضوعي للقصور في السيرة العقلائيّة حسب البيان المتقدّم كذلك نقول هنا ان حديث لا تنقض اليقين بالشكّ لا يستفاد منه أكثر من كون الاستصحاب منجّزا ومعذّرا ، أي هو بمثابة القطع الطريقي ولا يستفاد منه كونه بمثابة القطع الموضوعي ليكون حاكما وناظرا لموضوع بقيّة الأصول.

التخريج الصحيح

والتخريج الصحيح لتقدّم الاستصحاب على بقيّة الاصول هو ان الاستصحاب أظهر في الشمول لمادّة الاجتماع. وهذه الأظهريّة ناشئة من كلمة « أبدا » المذكورة في روايات الاستصحاب فإنّها موضوعة لإفادة العموم ، ففي المثال المتقدّم لصلاة الجمعة الذي اجتمع فيه الاستصحاب المقتضي لبقاء الوجوب والبراءة المقتضية لانتفائه يكون دليل الاستصحاب أظهر في الشمول

ص: 380

للمورد المذكور من دليل البراءة ، حيث ان أدلّة البراءة لا تشتمل على كلمة « أبدا » ليكون ظهورها مساويا لظهور الاستصحاب في شمول مادّة الاجتماع.

قوله ص 356 س 3 : امّا بافتراض الشرطين علّتين مستقلّتين : أي امّا ان نأخذ بإطلاق المنطوقين ونحكم بأنّ كل شرط علّة مستقلّة للجزاء ، ولازم ذلك تقييد المفهوم.

قوله ص 356 س 11 : وثبت بالدليل : أي عرفنا ذلك من الخارج.

قوله ص 357 س 3 : وتحركين : عطف تفسير.

قوله ص 357 س 8 : مادّة الأمر في أعتق : وهي العتق.

قوله ص 358 س 11 : والإرادة : عطف تفسير على الوضع.

قوله ص 359 س 3 : أو حكمين : بكسر الحاء وسكون الكاف.

قوله ص 359 س 9 : عن إرادتها : أي إرادة سعة الحكم.

قوله ص 359 س 10 : يستدعي التخلّف الأوّل : أي تخلّف بيان أصل الحكم عن إرادته.

قوله ص 359 س 11 : يستدعي التخلّف الثاني : أي تخلّف بيان سعة الحكم عن إرادتها.

قوله ص 359 س 11 : تعيّن ذلك : أي تقديم الشمولي.

قوله ص 359 س 13 : عقلا وشرعا : هما تمييز لكلمة « المقدورة ».

قوله ص 360 س 8 : ان حرمة إكرام الفقير الفاسق : الأولى حذف كلمة « الفقير » فإن دليل حرمة إكرام الفاسق يقول : لا تكرم الفاسق ولا يقول لا تكرم الفقير الفاسق وإلاّ صارت نسبته إلى دليل الواجب نسبة الأخص المطلق إلى

ص: 381

الأعم لا الأخص من وجه إلى الأعم من وجه.

قوله ص 361 س 4 : ولكن أخذ إلخ : هذا مناقشة للقول بالورود.

قوله ص 361 س 11 : ومن أمثلة ذلك : أي من أمثلة قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي.

قوله ص 362 س 5 : خاصّة : أي وأمّا حالة العلم التعبّدي بالخلاف الحاصلة بسبب جريان الاستصحاب فهي باقية تحت دليل حجيّة الأمارة.

قوله ص 362 س 8 : فيجعل : الصواب : فبجعل.

قوله ص 362 س 10 : كما تقدّم : أي ص 337 حيث اختار قدس سره الاتجاه الثاني الذي يقول بأنّ نكتة تقدّم الحاكم هي النظر لا غير.

قوله ص 362 س 11 : في المقام : هذا حشو لا حاجة لذكره. ثمّ ان ذكر الخبر والظهور هو من باب كونهما المصداقين البارزين للأمارة.

قوله ص 363 س 7 : عموما : أي في غير مورد الأصل المخالف من الموارد التي يكون القطع الموضوعي مأخوذا فيها.

قوله ص 363 س 15 : كما تقدّم في الحلقة السابقة : ص 442.

قوله ص 364 س 5 : كذلك : أي جعل الطريقيّة والغاء الشكّ كما هو الحال في قاعدة الطهارة.

قوله ص 364 س 6 : مفاده : أي مفاد المسببي.

قوله ص 364 س 12 : موضوع الحكم : المراد من الحكم هو الحكم بطهارة الثوب فإن موضوعه هو طهارة الماء.

قوله ص 364 س 12 : في مرتبة أسبق : أي قبل ان تصل النوبة إلى الغاء

ص: 382

الشكّ.

قوله ص 364 س 14 : بنفسها : أي لا بما انها تلغي الشكّ وتوجب جعل العلميّة.

قوله ص 344 س 17 : بالجمع العرفي : المراد من الجمع العرفي هنا هو الحكومة.

قوله ص 365 س 12 : بالاداة : أي بواسطة كلمة « ابدأ » التي هي موضوعة لافادة العموم.

ص: 383

ص: 384

التعارض المستقر على ضوء دليل الحجّية

قوله ص 366 س 1 : نتناول الآن التعارض إلخ : ذكرنا فيما سبق انّ التعارض على قسمين : مستقر وغير مستقر. ولحدّ الآن كان كلامنا في التعارض غير المستقر حيث كنا نتحدث عن قاعدة الجمع العرفي التي هي عبارة اخرى عن مورد التعارض غير المستقر.

وامّا التعارض المستقر فالمراد به التعارض الذي لا يمكن رفعه بالجمع العرفي كما هو الحال في الدليلين المتباينين أو الدليلين الذين بينهما نسبة العموم والخصوص من وجه.

وفي التعارض المستقر يسري التنافي إلى دليل الحجّية بمعنى انّ دليل الحجّية لا يمكن انّ يشملهما معا كما ولا يمكن ان يشمل احدهما.

ثم انّ البحث في التعارض المستقر يقع من زاويتين : -

أ - حكم المتعارضين بمقتضى القاعدة الاولية ، أي لو قطعنا النظر عن الأخبار العلاجية - التي تحكم بالتخيير بين المتعارضين أو ترجيح ما يشتمل على المرجح - وقصرنا النظر على دليل حجّية خبر الثقة وهو مفهوم آية النبأ مثلا فهل المناسب الحكم بحجّية كلا المتعارضين أو أحدهما أو لا هذا ولا ذاك.

ب - حكم المتعارضين بمقتضى القاعدة الثانوية ، أي لو لا حظنا الأخبار العلاجية فهل المناسب الحكم بالتخيير أو الأخذ بما يشتمل على المرجح. وفي

ص: 385

البداية نتحدث عن حكم المتعارضين من الزاوية الاولى ، أي التحدث عن حكمهما لو قصرنا النظر على دليل حجّية خبر الثقة مثلا وقطعنا النظر عن الاخبار العلاجية وامّا التحدث من الزاوية الثانية فيأتي ص 381 من الحلقة.

ص: 386

المتعارضان بمقتضى القاعدة الأولية

اشارة

والمعروف بين الاصوليين انّ القاعدة الاولية تقتضي تساقط المتعارضين عن الحجّية.

والوجه في ذلك : انّ شمول دليل الحجّية - كمفهوم آية النبأ مثلا - لكلا المتعارضين غير ممكن ، وشموله لهذا بالخصوص دون ذاك ترجيح بلا مرجح ، وشموله لأحدهما غير المعين باطل أيضا لأنّ مفهوم آية النبأ مثلا يقول خبر هذا العادل حجّة وذاك حجّة والثالث حجّة وهكذا ولا يقول انّ أحد اخبار العدول بلا تعيين حجّة ، فمفاد دليل الحجّية هو حجّية كل خبر على سبيل التعيين لا حجّية احد الاخبار على سبيل التخيير. وبعد بطلان هذه الشقوق الثلاثة يتعين الشق الرابع وهو التساقط.

ثم انّ شقوق هذا البيان حيث انها ثلاثة ولا ينتهى إلى التساقط إلاّ بعد ابطالها فلنأخذ بالتحدث عن كل واحد منها.

الشق الأوّل
اشارة

امّا الشق الأوّل - وهو عدم امكان شمول دليل الحجّية لكلا المتعارضين - فما ذكره المشهور في توجيهه قد يقال انّه تام في بعض الحالات وغير تام في بعض الحالات الاخرى.

ص: 387

توضيح ذلك : انّ الدليلين المتعارضين لا يخلوان من احدى حالات ثلاث : -

أ - ان يكون مفاد احدهما حكما إلزاميا ومفاد الآخر نفي ذلك الحكم الالزامي ، كما إذا قال أحدهما انّ صلاة الجمعة واجبة وقال الآخر انّها غير واجبة.

وفي هذه الحالة يصح ما ذكره المشهور من عدم إمكان شمول دليل الحجّية لهما معا ، إذ لازم شموله لهما تنجز وجوب صلاة الجمعة وعدم تنجزه ، وهو مستحيل.

ب - ان يكون مفاد كل واحد منهما حكما ترخيصيا ويعلم إجمالا ببطلان أحد الترخيصين ، كما إذا قال احدهما صلاة الجمعة غير واجبة وقال الآخر صلاة الظهر غير واجبة.

وهنا يصح ما ذكره المشهور أيضا ، إذ لازم شمول دليل الحجّية لهما معا الترخيص في تركهما معا ، أي ترك صلاة الجمعة وترك صلاة الظهر ، وهو باطل لانّه ترخيص في المخالفة القطعية العملية.

ج - ان يكون مفاد كل واحد منهما حكما إلزاميا. وهذه الحالة لها شقان فتارة يكون الحكمان الالزاميان متنافيين تنافيا ذاتيا ، كما إذا كان احدهما يقول صلاة الجمعة واجبة ويقول الآخر صلاة الجمعة محرمة. وفي هذا الشق يصح كلام المشهور أيضا ، إذ لازم شمول دليل الحجّية لهما صيرورة صلاة الجمعة واجبة ومحرمة ، وهو غير ممكن.

واخرى يكون الحكمان الالزاميان متنافيين تنافيا عرضيا ، كما إذا كان

ص: 388

احدهما يقول صلاة الجمعة واجبة ويقول الآخر صلاة الظهر واجبة ، فانّه لا تنافي بين الحكمين المذكورين بالذات ، إذ أي محذور في ثبوت الوجوب لصلاة الجمعة وثبوته لصلاة الظهر أيضا ، غاية الأمر حيث نعلم من الخارج بعدم وجوب كلتا الصلاتين المذكورتين يحصل التنافي بينهما.

وفي هذا الشق يمكن ان يقال بعدم صحّة كلام المشهور ، إذ لا محذور في شمول دليل الحجّية لكلا الخبرين فانّ غاية ما يلزم إتيان المكلّف بكلتا الصلاتين ، وهو ممّا لا محذور فيه ، لعدم لزوم مخالفة عملية قطعية من ذلك بل كل ما يلزم هو المخالفة الالتزامية ، وهي غير محرمة ، وهذا بخلافه في حاله رقم ( ب ) ، فانّ اللازم من شمول دليل الحجّية فيها لكلا المتعارضين المخالفة العملية القطعية وهي غير جائزة.

والخلاصة : انّ كلام المشهور صحيح في الحالة الاولى والثانية والثالثة بشقها الأوّل وغير صحيح في الحالة الثالثة بشقها الثاني. هكذا قد يقال.

جواب التوهم

ويمكن الجواب عن التوهم المذكور بانّ المحذور لا يمكن فقط في انّ لازم شمول دليل الحجّية لكلا المتعارضين ثبوت وجوب الجمعة ووجوب الظهر ليقال بانّ ذلك لا يشكّل محذورا ما دام لا يلزم من ثبوتهما مخالفة عملية قطعية بل يلزم محذور ثان ، وهو انّ الدليل الأوّل الذي يقول الجمعة واجبه له مدلول مطابقي وهو ثبوت وجوب الجمعة ، ومدلول التزامي وهو نفي وجوب الظهر ، وهكذا الدليل الثاني له مدلول مطابقي وهو وجوب الظهر ، ومدلول التزامي وهو نفي

ص: 389

وجوب الجمعة. وشمول دليل الحجّية لكلا الدليلين بما لهما من مدلول مطابقي والتزامي يلزم منه ثبوت المتنافيين ، أي ثبوت الوجوب للجمعة ونفيه ، وثبوت الوجوب للظهر ونفيه. وبالجملة المحذور لا يكمن فقط في ثبوت المدلولين المطابقيين بل يمكن في انّ المدلول المطابقي لكل واحد من الدليلين يتنافى والمدلول الالتزامي للآخر ، ولازم حجّتيهما معا ثبوت المتنافيين.

إن قلت : نسلّم ان لازم شمول دليل الحجّية لكلا الدليلين حصول المعارضة والمنافاة إلاّ أنّ منشأ هذه المعارضة هي الدلالة الالتزامية لكل من الدليلين وإلاّ فلو قصرنا النظر على المدلولين المطابقيين فلا معارضة - إذ لا مانع من ثبوت الوجوب للجمعة وللظهر - ، وما دامت المنافاة ناشئة من المدلولين الالتزاميين فلنطرح الدلالتين الالتزاميتين ونقول انّ دليل الحجّية يشمل الدلالتين المطابقيين فقط دون الالتزاميتين.

قلت : انّ المعارضة في المقام ليست واحدة بل توجد معارضتان فالدليل الأوّل يقول بمدلوله المطابقي الجمعة واجبة ، وهذا يتعارض والمدلول الالتزامي للدليل الثاني الذي يقول الجمعة ليست واجبة ، وهذه معارضة اولى. والدليل الثاني يقول بمدلوله المطابقي الظهر واجبة وهذا يتعارض والمدلول الالتزامي للدليل الأوّل الذي يقول الظهر ليست واجبة. وهذه معارضة ثانية.

ونحن إذا لا حظنا المعارضة الاولى وجدنا انّ المعارضة والمنافاة ثابتة بين المدلول المطابقي للدليل الأوّل والمدلول الالتزامي للدليل الثاني ، ونسبه المعارضة والمنافاة لكل منهما واحدة ، وترجيح شمول دليل الحجّية للمدلول المطابقي دون الالتزامي ليس أولى من العكس فلماذا لا يقال بأنّ دليل الحجّية يشمل المدلول

ص: 390

الالتزامي دون المطابقي ما دامت منافاة كل واحد منهما للآخر بدرجة واحدة.

وهكذا الكلام في المعارضة الثانية فإنّ منافاة كل منهما للآخر ما دامت بدرجة واحدة فشمول دليل الحجّية للمدلول المطابقي دون الالتزامي ليس أولى من العكس ، بل المناسب سقوط كلا المتعارضين في المعارضة الاولى وسقوطهما أيضا في المعارضة الثانية.

إن قلت : إنّ المرجح لسقوط المدلول الالتزامي في كلتا المعارضتين عن الحجّية موجود ، وهو انّا نجزم بأنّ المدلولين الالتزاميين في كلتا المعارضتين ساقط عن الحجّية حتما ، إذ دليل الحجّية امّا أن لا يكون شاملا للمدلولين الالتزاميين ، وبذلك يلزم سقوطهما عن الحجّية ، وامّا أن لا يكون شاملا للمدلولين المطابقيين ، وبذلك يلزم سقوط المدلولين الالتزاميين عن الحجّية أيضا لأنّ المدلول الالتزامي تابع للمدلول المطابقي في الحجّية فإنّ سقطت الدلالتان المطابقيتان عن الحجّية ولم يشملهما دليل الحجّية سقطت الدلالتان الالتزاميتان عن الحجّية أيضا.

إذن الدلالتان الالتزاميتان لا إشكال في سقوطهما عن الحجّية ، وهذا بخلاف الدلالتين المطابقتيين فإنّه لا جزم بسقوطهما عن الحجّية ، وكفى بهذا مرجّحا لشمول دليل الحجّية للمدلولين المطابقيين دون الالتزاميين.

قلت : إنّا لو لا حظنا المعارضة الاولى لم نجد المدلول الالتزامي فيها - الذي هو أحد طرفي المعارضة - مدلولا التزاميا للمدلول المطابقي الواقع طرفا لمعارضته حتّى يكون سقوط المدلول المطابقي عن الحجّية موجبا لسقوطه أيضا عن الحجّية وإنّما هو مدلول التزامي للمدلول المطابقي الواقع طرفا في المعارضة الثانية.

ص: 391

وهكذا لو لا حظنا المعارضة الثانية لم نجد المدلول الالتزامي فيها متفرعا على المدلول المطابقي الواقع طرفا لمعارضته بل هو متفرّع على المدلول المطابقي الثابت في المعارضة الاولى فلا يلزم من سقوط المدلول المطابقي الواقع طرفا لمعارضته عن الحجّية سقوطه عن الحجّية (1).

الشق الثاني

وامّا الشق الثاني - وهو انّ شمول دليل الحجّية للواحد المعين ترجيح بلا مرجّح - فهو لا يتمّ غالبا ، فهناك ثلاث حالات لا يتمّ فيها وحالة واحدة يتم فيها. أمّا الحالات الثلاث التي لا يتمّ فيها فهي : -

1 - إذا علمنا بأنّ نكتة حجّية خبر الثقة غير ثابتة لا في هذا الخبر ولا في ذاك حالة تعارضهما فيسقطان عن الحجّية بلا حاجة إلى التمسّك بمحذور

ص: 392


1- إن قلت : انّ البيان المذكور مقبول ولكنّه لا يمنع من حصول الجزم بسقوط الدلالتين الالتزاميتين عن الحجّية ، فإنّ سقوط المدلول المطابقي الثابت في المعارضة الاولى عن الحجّية يوجب سقوط مدلوله الالتزامي الثابت في المعارضة الثانية عن الحجّية. وهكذا سقوط المدلول المطابقي الثابت في المعارضة الثانية عن الحجية يوجب سقوط مدلوله الالتزامي الثابت في المعارضة الاولى. قلت : لا نسلّم حصول الجزم بسقوط المدلولين الالتزاميين عن الحجّية ، إذ من الممكن واقعا عدم شمول دليل الحجّية للدليل الأوّل _ الذي يقول صلاة الجمعة واجبة _ بكلا مدلوليه المطابقي والالتزامي ، أي عدم شمول دليل الحجّية للمدلول المطابقي الثابت في المعارضة الاولى والمدلول الالتزامي الثابت في المعارضة الثانية واختصاصه بشمول الدليل الثاني بكلا مدلوليه المطابقي والالتزامي.

الترجيح بلا مرجّح. فمثلا لو علمنا بسبب الارتكاز العقلائي انّ النكتة التي من أجلها حكم الشارع بحجّية خبر الثقة هي إفادته للظنّ الشخصي والكاشفية الشخصية عن الواقع ففي حالة التعارض لا تكون النكتة المذكورة ثابتة في الخبرين فلا يمكن أن يكون كلا الخبرين مفيدا للظنّ الشخصي بالواقع وإلاّ يلزم حصول الظنّ الشخصي بثبوت المتنافيين. ومع عدم إفادة هذا الخبر ولا ذاك للظنّ الشخصي يسقطان معا عن الحجّية بلا حاجة لملاحظة محذور الترجيح بلا مرجّح ، بل حتّى لو قلنا بأنّ الترجيح بلا مرجّح أمر ممكن ولا محذور فيه لا يمكن الحكم بحجّية الخبرين لعدم ثبوت نكتة الحجّية فيهما.

إذن في هذه الحالة يسقط الخبران المتعارضان عن الحجّية بملاحظة لملاحظة محذور الترجيح بلا مرجّح.

2 - ان نعلم بواسطة الارتكاز العقلائي وبقطع النظر عن دليل حجّية خبر الثقة انّ النكتة التي من اجلها اثبت الشارع الحجّية لخبر الثقة ليست هي افادته للظن الشخصي بل هي قابليته وشأنيته في نفسه لافادة الظن وهو ما يصطلح عليه بالظن النوعي.

وفي مثل هذه الحالة تكون نكتة حجّية خبر الثقة ثابتة في كلا الخبرين ، فانّ كلا منهما صالح في نفسه لإفادة الظن حتى مع فرض المعارضة ، ولكن إذا فرضنا انّ راوي خبر رقم (1) اوثق من راوي خبر رقم (2). وفرضنا انّ الأوثقية توجب الجزم ولا أقل احتمال ان يكون ثبوت نكتة الحجّية فيه أقوى من ثبوتها في خبر رقم (2) - باعتباران الأوثقية إذا لم توجب الجزم بقوة افادة الخبر للظن فلا أقل من احتمال استلزامها لذلك - فلا يكون شمول دليل الحجّية للخبر رقم (1)

ص: 393

فقط ترجيحا بلا مرجح ، فانّ الخبر رقم (2) لا يخلو ملاكه واقعا من احدى حالتين فامّا ان يكون مساويا لملاك خبر رقم (1) أو أضعف ، وعلى كلا التقديرين لا يكون حجّة.

امّا عدم حجّيته في صورة ضعفه فواضح ، وامّا عدم حجّيته في صورة المساواة فلإنّه في صورة تساوي الملاكين لا يمكن ثبوت الحجّية للخبرين.

وبالجملة : في هذه الحالة لا بأس بشمول دليل الحجّية لاحد الخبرين - أي خبر رقم (1) - بلا لزوم محذور الترجيح بلا مرجح.

3 - ان يفرض انّ نكتة حجّية خبر الثقة لم تكن معلومة لنا والارتكاز العقلائي لم يتمكن من تحديدها فلا يدرى انها افادة الظن الشخصي - ويترتب على ذلك عدم ثبوت ملاك الحجّية لا في هذا ولا في ذاك لعدم إمكان افادتهما معا للظن الشخصي - أو افادة الظن النوعي ليترتب على ذلك ثبوت ملاك الحجّية في كلا الخبرين.

وفي هذه الحالة وان كنا لا نجزم بثبوت ملاك الحجّية في الخبرين - لاحتمال انّ الملاك هو افادة الظن الشخصي المفقود في الخبرين - بل يحتمل انتفاؤه في كليهما بيد انّا لو كنا نجزم أو لا أقل نحتمل انّ ملاك الحجّية على تقدير ثبوته واقعا في الخبرين فثبوته في خبر رقم (1) اقوى من ثبوته في خبر رقم (2) لفرض أوثقية راوي خبر رقم (1) ففي مثل ذلك لا يكون شمول دليل الحجّية لخبر رقم (1) مستلزما لمحذور الترجيح بلا مرجح ، إذ خبر رقم (2) نعلم بعدم حجّيته لأنّ حاله لا تخلو واقعا من أحد أمرين فامّا ان لا يكون ملاك الحجّية واقعا ثابتا فيه أو يكون ثابتا فيه بنحو ضعيف ، وعلى كلا التقديرين لا يكون حجّة ، وهذا

ص: 394

بخلافه في خبر رقم (1) فانّا نحتمل ثبوت ملاك الحجّية فيه بنحو قوي.

وبالجملة انّه في هذه الحالة (1) أيضا لا يكون شمول دليل الحجّية لأحد الخبرين موجبا للترجيح بلا مرجح.

إذن في هذه الحالات الثلاث لا نحتاج إلى محذور الترجيح بلا مرجح وانّما نحتاج اليه في حالة واحدة ، وهي ما إذا لم نحتمل ثبوت الملاك القوي في احدهما بالخصوص بل كنا نحتمل قوة الملاك في كل منهما بدرجة واحدة.

الشق الثالث
اشارة

وامّا الشق الثالث - وهو عدم ثبوت الحجّية للواحد غير المعين - فقد ذكر في وجه بطلانه انّ ثبوت الحجّية للواحد غير المعين خلاف مفاد دليل الحجّية فانّ مفاد مفهوم آية النبأ مثلا هو الحجّية التعيينية ، أي حجّية هذا الفرد وذاك الفرد وليس مفاده الحجّية التخييرية ، أي حجّية الجامع وهو أحد الخبرين. هذا ما قيل في وجه بطلان هذا الشق.

ويمكن ان يقال في مناقشته انّ مصداق الحجّية التخييرية لا ينحصر بثبوت الحجّية للجامع - أي أحد الخبرين - ليقال انّ ذلك خلاف المفاد العرفي لدليل حجّية الخبر بل هناك مصداق ثان وهو ان يكون هذا الفرد من الخبر حجّة ان كان الخبر الآخر كاذبا ، وذاك الفرد من الخبر حجّة أيضا ان كان هذا الخبر

ص: 395


1- فرق هذه الحالة عن سابقتها انّه في السابقة كنا نحرز بسبب الارتكاز العرفي توفر ملاك الحجّية في كلا الخبرين ، وامّا في هذه الحالة فلا يحرز توفره فيهما وانّما يحتمل ثبوته فيهما كما ويحتمل عدم ثبوته فيهما.

كاذبا ، فالحجّية تكون ثابتة لكل واحد من الفردين - لا للجامع وهو عنوان أحد الخبرين - مشروطة بكذب الآخر. وثبوت الحجّية التخييرية بهذا النحو لا يخالف مفاد الدليل ، غاية الأمر يخالف اطلاقه - فانّ مقتضى اطلاق دليل الحجّية انّ هذا الفرد من الخبر حجّة سواء كان الثاني صادقا أم كاذبا - وهذا لا محذور فيه فانّ الضرورة تدعو إلى التقييد المذكور ، وحيث انّ الضرورة تقدر بقدرها فلا نرفع اليد عن أصل دليل الحجّية بالنسبة إلى كل واحد من الخبرين وانّما نرفعها عن إطلاقه.

أجل لا بدّ من الالتفات إلى ان هذا التقييد يصح في حالة التضاد ولا يصح في حالة التناقض.

مثال التناقض : صل ولا تصل. وفي هذه الحالة لا يصح التقييد المذكور فلا يمكن ان يقال انّ دليل صل حجّة ان كان دليل لا تصل كاذبا ، إذ لازم كذبه صدق الأوّل فتكون حجية دليل صل منوطة بصدقه ، وهذا غير معقول ، فانّ الحجّية لا تثبت للدليل بشرط صدقه ، إذ على تقدير صدقه لا يحتاج إلى إثبات الحجّية بل يكون إثباتها لغوا.

ومثال التضاد : تجب صلاة الجمعة وتحرم صلاة الجمعة. وفي هذه الحالة يمكن التقييد المذكور إذ كذب الثاني لا يستلزم صدق الأوّل لامكان ان تكون صلاة الجمعة مستحبة.

ان قلت : انّ إثبات الحجّية التخييرية بهذا الشكل الجديد المقترح لغو وبلا فائدة ، فانّا حيث لا نميز الخبر الكاذب فلا يمكن ان نعرف الخبر الثابت له الحجّية.

قلت : ان عدم المعرفة بالخبر الثابت له الحجّية لا تلزم منه اللغوية ، إذ

ص: 396

احيانا ينتفع به في بعض المجالات ، كما لو كان أحد الدليلين يقول صلاة الجمعة واجبة والآخر يقول صلاة الجمعة محرمة ، فانّ أحد الدليلين إذا كان حجّة واقعا - ولو لم يمكن تشخيصه - فاللازم من ذلك انتفاء الإحتمال الثالث ، فاستحباب صلاة الجمعة أو كراهتها الذي هو احتمال ثالث يمكن نفيه ما دام أحد الدليلين الأولين حجّة.

خلاصة ما تقدم

إتضح من كل ما تقدم الامور التالية : -

1 - انّ شمول دليل الحجّية لأحد الدليلين بالخصوص - كخبر رقم (1) - لا يكون ترجيحا بلا مرجح ما دمنا نجزم أو نحتمل انّ ملاك الحجّية فيه أقوى.

2 - انّا إذا لم نجزم ولم نحتمل قوة الملاك في أحد الدليلين فلا يمكن ثبوت الحجّية لهما بشكل مطلق.

3 - انّ ثبوت الحجّية لكلا الخبرين بشكل مطلق وان لم يكن ممكنا ولكن ذلك لا يمنع من ثبوتها لهما بشكل مشروط في صورة التضاد دون التناقض.

خلاصة النظرية العامّة

وعلى هذا فالنظرية العامة - وبكلمة اخرى : القاعدة الأوليّة - في التعارض المستقر يمكن صياغتها بالشكل التالي : إذا كان ملاك الحجّية أقوى في أحد الدليلين جزما أو احتمالا فهو الحجّة وإلاّ فكل منهما حجّة بنحو مشروط. وهذا كما لا يخفى يخالف نظرية المشهور ، فإنّهم يرون انّ القاعدة تقتضي تساقط

ص: 397

المتعارضين.

هذا ما نذكره الآن مؤقتا وإلاّ فسيأتي ص 379 من الحلقة موافقة المشهور في اقتضاء القاعدة للتساقط دون الحجّية المشروطة.

قوله ص 366 س 2 : يسري إلى دليل الحجّية : بمعنى انّه لا يمكن ان يشملهما معا كما ولا يمكن ان يشمل احدهما.

قوله ص 367 س 18 : المدلول المطابقي : أي وجوب الجمعة الذي هو مدلول مطابقي للخبر الأوّل ووجوب الظهر الذي هو مدلول مطابقي للخبر الثاني.

قوله ص 368 س 12 : سقوط الطرفين معا : أي سقوط المدلول المطابقي والالتزامي معا في المعارضة الاولى والثانية لا سقوط خصوص المدلول الالتزامي في المعارضة الاولى والثانية.

قوله ص 368 س 14 : سواء رفعنا إلخ : تفسير لقوله « على أي حال ».

قوله ص 369 س 15 : بقطع النظر عن دليل الحجّية : أي انّ مفهوم آية النبأ مثلا وان لم يفهم منه انّ نكتة حجّية خبر العادل هي افادته للظن النوعي مثلا إلاّ انّ العقلاء بارتكازهم يحكمون بانّ النكتة التي من أجلها جعل الشارع الحجّية لخبر العادل هي افادته للظن النوعي.

قوله ص 370 س 8 : وانّما الطريق إلى إحرازه إلخ : العبارة موهمة حيث تدل على انّ الارتكاز العقلائي وان لم يحدد نكتة الحجّية ولكن مفهوم آية النبأ مثلا يحدد ذلك ، وهذا جزما غير مراد ، فانّ دليل الحجّية إذ كان يحدد الملاك فلا معنى لقوله بعد ذلك انّ ملاك الحجّية في هذه الحالة نحتمل ثبوته في كلا الخبرين

ص: 398

ونحتمل عدم ثبوته بل لا بدّ وان يجزم امّا بثبوته أو بعدم ثبوته.

قوله ص 370 س 14 : على تقدير ثبوته : أي لو كان ملاك الحجّية ثابتا واقعا في الخبرين.

قوله ص 370 س 14 : ومن أمثلة ذلك : أي احتمال اقوائيّة الملاك.

قوله ص 370 س 15 : الطريقية : وعلى تعبيرنا الظن النوعي.

قوله ص 370 س 16 : لا يحتمل كونها إلخ : أي وانّما يحتمل وجودها في الأوثق والأفقه خاصة أو وجودها في كليهما بشكل متساوي.

قوله ص 371 س 12 : إذا لم يكن كذب كل من الدليلين إلخ : أي إذا لم يكن بينهما تناقض بل تضاد.

قوله ص 372 س 7 : دون احتمال مماثل في الآخر : أي بدون ان نحتمل الأقوائية في الآخر.

قوله ص 372 س 8 : في غير ذلك : أي إذا لم يجزم ولم يحتمل الأقوائية في احدهما.

قوله ص 372 س 9 : منجزا : أي مطلقا وبشكل غير مشروط.

قوله ص 372 س 10 : مع ذلك : أي مع عدم إمكان شمول دليل الحجّية لهما بشكل منجز.

قوله ص 372 س 13 : هذه هي النظرية العامّة إلخ : ولكن سيأتي ص 379 من الحلقة التراجع عنها وانّ القاعدة الاولية تقتضي التساقط كما ذكر المشهور.

ص: 399

ص: 400

تنبيهات النظرية العامّة للتعارض المستقر

اشارة

قوله ص 372 س 16 : ومن اجل تكميل إلخ : هناك عدة تنبيهات ترتبط بالقاعدة الاولية - وبتعبير الكتاب : النظرية العامّة - في التعارض هي : -

التنبيه الأوّل
اشارة

ذكرنا انّ المقصود من القاعدة الاولية في المتعارضين هي ملاحظة دليل الحجية وقصر النظر عليه بلا ملاحظة الروايات العلاجية. ودليل الحجّية هذا قد يكون واحدا وقد يكون متعددا.

وتوضيح ذلك يتم بملاحظة الحالات التالية : -

1 - إذا حصل التعارض المستقر بين دليلين وكانا معا قطعيين من حيث السند وظنيين من حيث الدلالة (1) فلا يحصل تعارض من حيث الصدور إذ لا نحتاج إلى إثبات التعبد بالصدور ليكون تطبيق دليل حجّية الخبر على الأوّل معارضا بتطبيقه على الخبر الثاني ، لأنّ المفروض ثبوت صدورهما بسبب القطع بلا حاجة إلى التمسك بدليل حجّية الخبر ، وانّما المعارضة تحصل بين الظهورين

ص: 401


1- ينبغي ان لا يغيب عن الذهن انّ المفروض في الدلالتين في جميع الحالات عدم إمكان الجمع العرفي بينهما - بان كانت النسبة بينهما نسبة التباين أو العموم من وجه - وإلاّ كان التعارض بينهما تعارضا غير مستقر.

فشمول دليل حجّية الظهور لذاك الظهور يعارض شموله لهذا الظهور. ودليل حجّية الظهور كما هو واضح حيث انّه دليل واحد فحكم المعارضة يكون ملحوظا بالقياس إلى دليل واحد.

2 - إذا فرض عكس ما سبق بان كان الدليلان قطعيين من حيث الدلالة وظنيين من حيث السند فالمعارضة لا تحصل بين الدلالتين إذ بعد القطع بالدلالة فلا يحتاج إلى دليل حجّية الظهور ليكون تطبيقه على أحد الظهورين معارضا لتطبيقه على الظهور الآخر وانّما تحصل المعارضة بين السندين فشمول دليل حجّية الخبر لهذا الخبر يعارض شموله للخبر الآخر ، وحيث انّ دليل حجّية الخبر دليل واحد فالمعارضة إذن تلحظ بالقياس إلى دليل واحد لا إلى دليلين.

3 - إذا افترض انّ كلا الدليلين ظنّي من حيث السند ومن حيث الدلالة فلا إشكال في حصول المعارضة بين الظهورين فشمول دليل حجّية الظهور لذاك الظهور يعارض شموله لهذا الظهور. ولكن هل هناك معارضة بين السندين بمعنى انّ تطبيق دليل حجّية الخبر على ذاك الخبر يكون معارضا لتطبيقه على هذا الخبر؟

قد يقال بعدم وجود معارضة من حيث الصدور ، فانّ منشأ التعارض في الحقيقة هو الظهوران فالتعبد بالظهورين غير ممكن ولو قطعنا النظر عن الظهورين المتنافيين فلا معارضة ولا محذور في التعبد بصدور كلا الخبرين ، وعليه فالتعارض يسري إلى دليل حجّية الظهور فقط ولا يسري إلى دليل حجّية الخبر.

وجوابه : انّ التعبد بالصدورين عند افتراض قطع النظر عن الظهورين لغو

ص: 402

وبلا فائدة فانّ التعبد بصدور الخبر لا معنى له إلاّ إذا كان المقصود منه التعبد بصدور الخبر بما له من مفاد وظهور ، وهذا معناه انّ التعبد بالصدور والتعبد بالظهور أمران مترابطان بمعنى انّه لا يمكن التعبد بالصدور بقطع النظر عن التعبد بالظهور كما ولا يمكن التعبد بالظهور بقطع النظر عن الصدور للغوية التعبد باحدهما دون الآخر.

4 - إذا افترض انّ احد الدليلين قطعي السند ظنّي الدلالة والآخر على العكس ، أي ظنّي السند قطعي الدلالة فلا بدّ من عزل اثنين من ساحة المعارضة ، وهما السند القطعي من الدليل الأوّل والدلالة القطعية من الدليل الثاني ، إذ السند بعد قطعيته وهكذا الدلالة بعد قطعيتها لا يحتاجان في حجّيتهما إلى تطبيق دليل الحجّية عليهما ليكون تطبيقه عليهما معارضا لتطبيقه على السند أو الدلالة في الآخر.

إذن المعارضة تنحصر بين الدلالة الظنّية في الخبر الأوّل والسند الظنّي في الخبر الثاني فدليل حجّية ظهور الخبر الأوّل يعارض دليل حجّية الصدور في الخبر الثاني فانّ التعبد بصدور الخبر الذي له دلالة قطعية معارضة لدلالة الآخر ينافي التعبد بظهور الخبر الذي صدوره قطعي ، ومعه فان كان لأحدهما مرجح رجح وإلاّ طبقت النظرية السابقة للتعارض المستقر وهي ثبوت الحجّية لكل من الخبرين بنحو مشروط.

5 - إذا افترض انّ أحد الدليلين ظنّي من حيث السند والدلالة معا والآخر قطعي من حيث الدلالة وظنّي من حيث السند فلا بدّ من عزل الدلالة القطعية للدليل الثاني من ساحة المعارضة لعدم احتياج حجّيتها إلى دليل التعبد ليكون

ص: 403

جريانه معارضا لجريان دليل التعبد في الآخر ، وانّما المعارضة تستحكم بين دليل حجّية الظهور في الخبر الأوّل ودليل حجّية الصدور في الخبر الثاني ، فانّ التعبد بظهور الخبر الأوّل الذي له ظهور معارض لظهور الخبر الثاني - مع فرض عدم إمكان الجمع بينهما - يتنافى والتعبد بصدور الخبر الثاني الذي له ظهور معارض للأوّل.

وينبغي ان يكون واضحا انّا حينما نقول بدخول ظهور الدليل الأوّل في مجال المعارضة فبالتبع لا بدّ من فرض دخول سند الأوّل في المعارضة إذ الظهور لا يمكن حجّيته بلا حجّية سنده ، لما أشرنا إليه سابقا من الترابط بين التعبد بالظهور والتعبد بالسند وانّ التعبد بأحدهما دون الآخر لغو وبلا فائدة. وعليه فالمعارضة في هذه الحالة تكون ثلاثية الاطراف فالتعبد بالسند والدلالة في الخبر الأوّل يتعارض والتعبد بالسند في الخبر الثاني.

6 - إذا افترض انّ الخبر الأوّل ظنّي من حيث السند والدلالة والخبر الثاني ظنّي من حيث الدلالة وقطعي من حيث السند فيجري نفس ما ذكرناه في الحالة الخامسة ، أي لا بدّ من حذف السند القطعي في الخبر الثاني من ساحة المعارضة للنكتة السابقة وتستقر المعارضة بين الظهورين للخبرين ، فشمول دليل الحجّية لظهور الخبر الأوّل يعارض شموله لظهور الخبر الثاني. وطبيعي يدخل في مجال المعارضة أيضا السند الظنّي في الخبر الاوّل ، فانّ التعبد بظهور الخبر الأوّل بدون التعبد بصدوره لغو وبلا فائدة فتكون المعارضة ثلاثية الاطراف أيضا فدليل التعبد بالصدور والظهور في الخبر الأوّل يعارض دليل التعبد بالظهور في الخبر الثاني.

ص: 404

خلاصة ما تقدم

إتضح مما تقدم انّ دليل الحجّية الذي تلحظ المعارضة بالقياس إليه هو دليل واحد في الحالتين الأوليتين - وهو دليل حجّية الظهور في الحالة الاولى ودليل حجّية السند في الحالة الثانية - بينما هو دليلان في بقية الحالات ، فدليل حجّية الظهور في أحد الخبرين يتعارض ودليل حجّية الصدور في الخبر الثانى.

صور اخرى

وهناك صور اخرى لم يشر لها في الكتاب نذكر منها : -

1 - فرض الخبر الأوّل قطعيا من حيث السند والدلالة معا والخبر الثاني ظنّيا من حيث السند والدلالة معا.

والسبب في عدم الاشارة لهذه الصورة واضح لعدم امكان سراية المعارضة إلى دليل الحجّية في الصورة المذكورة ، فإنّ الخبر الأول ما دمنا قد فرضناه قطعيا من حيث السند والدلالة فلا حاجة إلى تطبيق دليل الحجّية عليه وإنّما الذي يحتاج إلى تطبيق دليل الحجّية هو خصوص الخبر الثاني. وهل ذلك ممكن؟ كلاّ انّه غير ممكن ، إذ بعد القطع بصدور الخبر الأول ودلالته يكون التعبّد بصدور وظهور الخبر الثاني تعبّدا بثبوت المتنافيين وهو مستحيل.

2 - فرض الخبر الأول قطعيا من حيث السند والدلالة والخبر الثاني ظنّي الدلالة قطعي السند.

3 - فرض الخبر الأول قطعيا من حيث السند والدلالة والخبر الثاني قطعي

ص: 405

الدلالة ظنّي السند.

والنكتة في عدم الاشارة لهاتين الصورتين هي نفس النكتة السابقة ، فإنه مع القطع بصدور ودلالة الخبر الأول لا يمكن التعبّد بدلالة أو صدور الخبر الثاني وإلاّ يلزم التعبّد بثبوت المتنافيين.

التنبيه الثاني
اشارة

انّ التعارض المستقر له مصداقان : التباين ، مثل تحرم الجمعة وتجب الجمعة ، والعموم من وجه ، مثل أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق (1). وما ذكرناه سابقا من مقتضى القاعدة الأوليّة - وهو انّ أحدهما لو كان أقوى من حيث ملاك الحجّية فهو الحجّة وإلاّ كان كل منهما حجّة بنحو مشروط - لا يختص بالمتباينين بل يعم ما اذا كانت النسبة بينهما العموم من وجه أيضا.

أجل هناك فارق واحد بينهما ، وهو انّه في مورد التباين يتعارض الظهوران وبسبب تعارضهما يتعارض السندان أيضا ويتساقطان ، فشمول دليل السند - وهو مفهوم آية النبأ مثلا - لذاك السند معارض بشموله لهذا السند. وأمّا في صورة العموم من وجه فالتعارض بين الظهورين لا يسري إلى السندين بنحو يتساقطان تماما بل يبقيان على حجّية السند بلحاظ مادتي الافتراق وانّما يسقطان بلحاظ خصوص مادّة الاجتماع التي هي مادّة المعارضة بين الظهورين.

ان قلت : كيف يتعارض الظهوران ولا يتساقط السندان!! انّ هذا غير

ص: 406


1- وأطلق في الكتاب على التباين بالتعارض المستوعب - حيث لا يوجد فيه مورد لا يتعارضان بلحاظه - وعلى العموم من وجه بالتعارض غير المستوعب.

مقبول ، فإنّ الظهورين لا يتعارضان إلاّ بعد ثبوتهما ، وهو - ثبوتهما - لا يتحقّق إلاّ بعد ثبوت صدورهما عن طريق دليل حجّية السند فسبب التعارض إذن هو دليل حجّية السند ، ومعه فيكون التعارض ثابتا أوّلا بين السندين ولا بدّ من تساقطهما ولا يعقل تعارض الظهورين وتساقطهما بلا فرض التعارض بين السندين وتساقطهما.

قلت : انّ تساقط السندين وان كان أمرا لازما إلاّ انّه لازم بمقدار التعارض الثابت بين الظهورين ، وما دام التعارض ثابتا بمقدار مادّة الاجتماع فالسندان يسقطان بالمقدار المذكور ولا موجب لسقوطهما بلحاظ مادتي الافتراق ، نعم في المتباينين حيث انهما متعارضان بلحاظ جميع الموارد فالمناسب سقوط سندهما عن الحجّية رأسا وبالكلّية.

وان شئت قلت : انّ التعبّد يعنى ثبوت مفاد الدليل بلحاظ آثاره التي أهمها حجّيته ، وحيث انّ حجّية العموم بلحاظ مادّة الاجتماع لا يمكن ثبوتها فالتعبّد بالسندين يسقط بلحاظ المادّة المذكورة ، أي مادّة الاجتماع ، وأمّا بلحاظ مادتي الافتراق فحيث انّ حجّية العموم باقية فالتعبّد بالسند باق أيضا باللحاظ المذكور أي بلحاظ مادتي الافتراق.

استحكام التعارض بين السندين

ونحن كنّا نذكر سابقا انّ التعارض يستحكم بين الظهورين أوّلا - بلا فرق بين المتباينين أو العامّين من وجه - ومن ثمّ يسري الى السندين. والآن نستدرك ونقول انّ هذا ذكرناه من باب تبسيط الفكرة وإلاّ فبحسب الحقيقة الأمر

ص: 407

على العكس فالتعارض يثبت منذ البداية بين السندين لا بين الظهورين.

أمّا انّ سريان التعارض من الظهورين الى السندين كان مذكورا من باب تبسيط الفكرة فتوضيحه : انّ التعارض بين السندين إنّما يحصل باعتبار الظهورين ، فكأنّ الذهن يخيّل له انّ التعارض يثبت أوّلا بين الظهورين وبسبب تعارضهما يسري التعارض الى السندين.

واما ان الامر بحسب الحقيقة يقتضي العكس فذلك باعتبار انه لا معنى لتحقق التعارض بين الظهورين أوّلا ، فإنّ التعارض بين الظهورين متوقّف على تحقّق الكلامين ليتحقّق ظهورهما ومن ثمّ تعارضهما ، ومن الواضح انّه بقطع النظر عن حجّية السند لا نملك بأيدينا كلامين وظهورين ليتحقّق التعارض بينهما ويسري إلى السندين ، وانّما نملك دليل حجّية السند فقط. إذن التعارض يثبت أوّلا بين السندين لأنّهما الثابتان في اليد ، وأمّا الظهوران فلا يثبتان في اليد إلاّ بعد حجّية السندين.

التنبيه الثالث

لا اشكال في انّ دليل تجب الجمعة وتحرم الجمعة متعارضان ومتساقطان عن الحجّية. ولكن هل يمكن بواسطتهما نفي الاحتمال الثالث - وهو استحباب الجمعة مثلا - أو لا؟ قد يقال بإمكان ذلك لأحد وجوه ثلاثة : -

1 - انّ كلا من دليل تجب الجمعة وتحرم الجمعة مشتمل على مدلول مطابقي ومدلول التزامي ، فالمدلول المطابقي للأوّل وجوب الجمعة ومدلوله الالتزامي عدم استحباب الجمعة ، وهكذا المدلول المطابقي للثاني وجوب الظهر ومدلوله

ص: 408

الالتزامي عدم استحباب الظهر. والتعارض بين الدليلين المذكورين انّما هو ثابت بلحاظ المدلولين المطابقيين فيسقطان عن الحجّية بهذا اللحاظ ، وأمّا بلحاظ المدلول الالتزامي - وهو نفي استحباب الجمعة - فلا تعارض بينهما ليسقطان عن الحجّية بل هما باقيان عليها بلحاظه ، وبذلك ينتفي احتمال الاستحباب.

ويرده : انّ هذا البيان تام على المبنى القائل بعدم سقوط الدلالة الالتزامية عن الحجّية بعد سقوط الدلالة المطابقية وليس تامّا على ما هو الصحيح من سقوط الدلالة الالتزامية عن الحجّية بعد سقوط المطابقية عن الحجّية.

2 - انّ دليل تجب الجمعة وتحرم الجمعة نعلم بكذب واحد منهما ، وأمّا الثاني فلا علم بكذبه ، ونحن نطبّق دليل حجّية الخبر على الدليل الثاني الذيّ لا نعلم بكذبه. وإذا ثبتت حجّيته - وان كنّا لا نعرفه على سبيل التفصيل - يثبت بذلك انتفاء احتمال الاستحباب.

لا يقال : انّ تطبيق دليل الحجّية على الخبر الثاني الذي لا يعلم بكذبه معارض بتطبيقه على الخبر الأوّل الذي يعلم بكذبه أو يقال هو معارض بتطبيقه على هذا الخبر بخصوصه أو ذاك بخصوصه.

فإنّه يقال : انّ تطبيق دليل الحجّية على الخبر المعلوم كذبه غير معقول بعد العلم بكذبه ، ومعه فلا معنى لأن يكون تطبيق دليل الحجّية عليه معارضا لتطبيقه على الخبر الذي لا يعلم بكذبه.

وأمّا ما قيل من انّ تطبيق دليل الحجّية على الخبر الذي لا يعلم بكذبه معارض بتطبيقه على الخبر الأوّل مثلا الذي يقول الجمعة واجبة ، فهو مدفوع بأنّ الخبر الأوّل لعلّه واقعا هو الخبر الذي لا يعلم بكذبه وليس غيره ليكون

ص: 409

تطبيقه على أحدهما معارضا لتطبيقه على الآخر. وهكذا لا معنى لأن يقال انّ تطبيق دليل الحجّية على الخبر الذي لا يعلم بكذبه معارض بتطبيقه على الخبر الثاني مثلا الذي يقول الظهر واجبة.

والوجه في ذاك انّ الخبر الذي لا يعلم بكذبه لعلّه واقعا هو نفس الخبر الثاني وليس غيره لتتحقّق المعارضة في مقام التطبيق. هذه حصيلة الوجه الثاني.

ويردّه : انّ دليل تجب الجمعة وتحرم أمّا أن يجزم بصدق أحدهما ولا يحتمل كذبهما معا ، أو لا يجزم بصدق أحدهما بل يحتمل كذبهما معا.

فإن كان يجزم بصدق أحدهما فهذا وحده يكفي لنفي الاحتمال الثالث بلا حاجة لتطبيق دليل الحجّية على غير معلوم الكذب ، فإنه بعد العلم بصدق أحدهما ينتفي الاحتمال الثالث.

وأمّا إذا لم يجزم بصدق أحدهما بل كان يحتمل كذبهما معا ففي مثل هذه الحالة نقول لو فرض انّهما واقعا وفي علم اللّه سبحانه كانا كاذبين معا - أي كان احتمال كذبهما مطابقا للواقع - فلا تميّز حينئذ لمعلوم الكذب عن غيره حتى في الواقع وعلم اللّه ، ومعه فلا معنى لأن يكون أحدهما حجّة دون الآخر ، إذ المفروض انّ كليهما كاذب واقعا لا انّ أحدهما كاذب دون الآخر لتثبت الحجّية لغير معلوم الكذب واقعا.

3 - تطبيق ما ذكر سابقا ، وهو انّه لا مانع من شمول دليل الحجّية لكل واحد منهما شمولا مشروطا بكذب الآخر ، وحيث انّ أحدهما كاذب جزما فيكون الآخر حجّة ، وبحجّيته ينتفي الاحتمال الثالث.

ولعلّ مقصود صاحب البيان الثاني هذا البيان الثالث ، فكأنّه يريد من قوله

ص: 410

« نطبّق دليل الحجّية على غير معلوم الكذب » تطبيقه على كل واحد منهما مشروطا بكذب الآخر.

ومن هنا عدّ السيّد الشهيد هذا البيان الثالث تعميقا للبيان الثاني ، وما ذاك إلاّ لاحتمال وحدة مقصودهما (1).

التنبيه الرابع

انّ كل ما ذكرناه سابقا في بيان مقتضى القاعدة الأولية وبقية الأحكام الاخرى كنّا نفترض فيه انّ دليل الحجّية دليل لفظي له إطلاق يمكنه مثلا شمول المتعارضين بنحو مشروط. وهذا كان مجرّد افتراض وإلاّ فالواقع ليس كذلك فإنّ دليل حجّية الامارات غالبا ليس دليلا لفظيا وإنّما هو دليل لبّي يتمثّل في سيرة العقلاء أو سيرة المتشرعة أو الإجماع. ولئن كانت هناك أدلة لفظية تدل على حجّية بعض الامارات - كمفهوم آية النبأ الدال على حجّية الخبر - فهي إرشاد وامضاء لسيرة العقلاء ولا تريد بيان مطلب أكثر ممّا انعقدت عليه سيرة العقلاء.

ص: 411


1- يرد على البيان الثالث نفس ما أورد على البيان الثاني ، بأن يقال انّ تطبيق دليل الحجّية على كل واحد منهما بشرط كذب الآخر لا يتم لاحتمال كذبهما معا وفي علم اللّه سبحانه. إن قلت : انّ هذا معناه تحقّق الشرط لحجّية كل واحد منهما فيكون كل واحد منهما حجّة وبذلك ينتفي الاحتمال الثالث أيضا. قلت : كيف تثبت الحجّية لكل منهما مع فرض كذبهما واقعا أو العلم بكذب واحد منهما على الأقل ، فإنّ الحجّية لا يمكن ثبوتها لما يعلم كذبه.

وإذا كان دليل الحجّية دليلا لبّيا فسوف تتغير نتيجتان من النتائج التي انتهينا إليها سابقا وهما : -

1 - إنّا كنّا نقول سابقا - خلافا للمشهور - بعدم تساقط المتعارضين بالتعارض المستقر بل يشملهما دليل الحجّية بنحو مشروط وكنّا نستفيد من ذلك في نفي الاحتمال الثالث. وهذا يتم بناء على أنّ دليل الحجّية دليل لفظي له إطلاق يدل على حجّية كل امارة سواء كانت الاخرى كاذبة أم لا ، وحيث انّ دليل الحجّية بإطلاقه المذكور لا يمكن أن يشمل كلا المتعارضين فيشملهما شمولا مشروطا بكذب الآخر ؛ إذ تعذّر التمسّك بدليل بما له من إطلاق لا يستدعي رفع اليد عن أصله بل عن إطلاقه فقط ويؤخذ به بنحو مشروط فإنّ الضرورة تقدر بقدرها.

أمّا إذا لم يكن دليل الحجّية لفظيا له الإطلاق المذكور بل كان مثل سيرة العقلاء فمن الوجيه أن يقال حينئذ بسقوط كلا الدليلين عن الحجّية - كما قال المشهور - ولا يكونان حجّة بنحو مشروط ، فإنّ سيرة العقلاء انعقدت على العمل بالخبر غير المعارض أمّا المعارض فلا يعمل العقلاء به أبدا حتّى بنحو مشروط.

ومن هنا نعرف انّ النتيجة التي انتهى إليها المشهور وهي التساقط وعدم الحجّية بنحو مشروط نتيجة صحيحة بعد ما كان دليل الحجّية دليلا لبّيا. وما ذكرناه سابقا من الحجّية المشروطة يتمّ بناء على افتراض دليل الحجّية دليلا لفظيا ذا إطلاق.

2 - تقدّم سابقا ص 375 من الحلقة انّه متى ما تعارض خبر الثقة الذي هو ظني السند مع الكتاب الكريم الذي هو قطعي السند وقع التعارض بين دليل حجّية الخبر ودليل حجّية ظهور الكتاب.

ص: 412

وهذا يتم بناء على انّ دليل حجّية الخبر دليل لفظي ، وامّا بناء على كونه السيرة فالمناسب ان يقال بعدم حجّية الخبر أصلا - فيما إذا كان معارضا لظهور القرآن الكريم بنحو لا يمكن الجمع بينهما - لا أنّه حجّة ويعارض ظهور القرآن الكريم لأنّ سيرة العقلاء لم تجر على العمل بالخبر الظني عند معارضته بالدليل القطعي السند كالقرآن الكريم.

قوله ص 373 س 7 : كما تقدّم : ص 327 س 9.

قوله ص 374 س 8 : بمفرده : أي بمعنى معارضة دليل حجّية الظهور هناك لدليل حجّية الظهور هنا.

قوله ص 374 س 8 : كذلك : أي بمفرده. والمقصود انّ دليل حجّية السند هناك لا يعارض دليل حجّية السند هنا.

قوله ص 374 س 17 : لما عرفت من الترابط : أي لا يمكن التعبّد بالصدور بقطع النظر عن الظهور كما لا يمكن التعبّد بالظهور بقطع النظر عن التعبّد بالصدور.

قوله ص 375 س 1 : والمحصل النهائي : أي لما ذكر في الحالة الخامسة.

قوله ص 375 س 12 : ومن هنا الخ : أي من انّ معنى التعبّد بالسند هو حجّية مفاد الدليل وانّه بدون التعبّد بالسند لا يعقل ثبوت مفاد الدليل.

قوله ص 378 س 13 : وهذا يكفي لنفي الثالث الخ : ولكن سيأتي منه قدس سره التراجع عن ذلك ص 379 من الحلقة.

قوله ص 379 س 14 : على النحو المذكور : أي بكذب الآخر.

ص: 413

ص: 414

المتعارضان بمقتضى القاعدة الثانوية

اشارة

قوله ص 381 س 1 : الروايات الخاصة الواردة الخ : كل ما ذكرناه كان ناظرا إلى مقتضى القاعدة الأولية. وقد اتّضح انّها تقتضي التساقط.

وأمّا القاعدة الثانوية - أي ما تقتضيه الأخبار العلاجية - فهي تقتضي ما يلي : -

1 - إذا عارض خبر الثقة الذي هو ظني السند ظاهر القرآن الكريم الذي هو قطعي السند فقد ذكرنا سابقا انّ دليل حجّية صدور الخبر يعارض دليل حجّية ظاهر الكتاب ويتساقطان (1).

هذا ولكن بعض الأخبار العلاجية يستفاد منها سقوط الخبر عن الاعتبار في مثل هذه الحالة فهو ليس بحجّة أبدا لا أنّه حجّة وتقع المعارضة بين دليل حجّيته ودليل حجّية ظهور القرآن الكريم ويتساقطان.

وهذه المجموعة من الأخبار بعضها بلسان انّ الخبر غير الموافق للكتاب الكريم زخرف أو لم نقله ، وبعضها بلسان انّ الخبر إذا لم يكن معه شاهد من كتاب اللّه فلا يؤخذ به ، وبعضها بلسان ما خالف كتاب اللّه فدعوه.

ص: 415


1- هذا ما ذكره قدس سره قبل التراجع وإلاّ فما ذكره ص 379 من الحلقة تحت عنوان « الثانية » يوافق الأخبار العلاجية المذكورة. ومن هنا تعرف النكتة في تعبيره ب_ « قد » حيث قال : « عما قد يكون الخ ».

وأطلق قدس سره على هذه المجموعة من الأخبار بألسنتها الثلاثة اسم أخبار العرض لأنّها تدلّ على لزوم عرض كل خبر من الأخبار على كتاب اللّه والأخذ بالموافق وترك غيره.

2 - إذا عارض خبر الثقة خبرا آخر بشكل لا يمكن الجمع العرفي بينهما فقد ذكرنا انّ القاعدة الأولية تقتضي التساقط وفاقا للمشهور (1). هذا ولكن هناك مجموعة تدل على التخيير بين الخبرين أو تعيّن الأخذ بالمخالف للعامة مثلا (2) وعدم تساقطهما.

واصطلح قدس سره على هذه المجموعة بالأخبار العلاجية.

وسوف نأخذ بالتحدّث عن هاتين المجموعتين من الأخبار.

فارق بين المجموعتين

ويوجد فارق بين المجموعتين ، فالمجموعة الثانية - اخبار العلاج - ناظرة إلى الخبرين المتعارضين ، وأمّا المجموعة الاولى - أخبار العرض - فهي ليست ناظرة إلى الخبرين المتعارضين بل إلى الخبر غير المعارض بمثله ولكنه مخالف للقرآن الكريم لا أكثر.

وإنّما عدّ هذا القسم تحت باب التعارض والحال لا يوجد فيه تعارض بين

ص: 416


1- لما تقدّم من التراجع وموافقة المشهور.
2- مورد التخيير صورة فقدان المرجّح في أحد الخبرين ، ومورد التعيين ما لو كان أحدهما مشتملا على المرجّح. واختار البعض كالآخوند الخراساني التخيير حتّى في حالة اشتمال أحد الخبرين على المرجح.

خبرين ليس الا من جهة تحقق المعارضة بين دليل حجّية سند الخبر ودليل حجّية ظهور الكتاب.

روايات العرض على الكتاب
اشارة

ذكرنا انّ أخبار العلاج تنقسم إلى مجموعتين. ونتحدّث الآن عن المجموعة الاولى التي اصطلح عليها اسم أخبار العرض.

وهذه المجموعة يمكن تصنيفها إلى ثلاث مجاميع : -

المجموعة الاولى
اشارة

ما ورد بلسان ان غير الموافق لم نقله أو زخرف مع الاقتران بلسان الإنكار والتحاشي كقوله علیه السلام : « ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف » (1) ، فإنّ المستفاد من هذا الحديث تحاشي الأئمّة علیهم السلام من نسبة الخبر غير الموافق إليهم.

وهذا التحاشي يدلّ عرفا على انّ خبر الثقة غير الموافق للكتاب ليس حجّة.

وبهذا يتقيّد دليل حجّية خبر الثقة بخصوص الخبر الموافق للكتاب - طبيعي لو فرض انّ دليل الحجّية دليل لفظي ذو إطلاق وليس دليلا لبّيا كالسيرة - ولا يشمل الخبر غير الموافق.

وبهذا يبطل ما ذكرناه سابقا من وقوع التعارض بين دليل حجّية خبر الثقة ودليل حجّية ظهور الكتاب ، فإنّ خبر الثقة بناء على هذا ساقط عن الحجّية

ص: 417


1- الوسائل : ج 18 أبواب صفات القاضي باب 9 حديث 12.

ولا يمكن معارضته لظاهر الكتاب.

إشكالات ثلاثة

وقد أشكل على هذه المجموعة بثلاثة إشكالات :

أ - انّ هذه المجموعة لا تسلب الحجّية عن الخبر غير الموافق لتكون مخصّصة لدليل حجّية الخبر بخصوص الخبر الموافق وإنّما هي تنفي صدور الأخبار غير الموافقة للكتاب فلو فرض انّ عدد الأخبار غير الموافقة مائة خبر فالمجموعة المذكورة تقول انّ الأخبار المائة غير الموافقة ليست صادرة منّا أهل البيت فهي إذن تتعارض وشهادة راوي تلك الأخبار المائة بصدورها من الأئمّة علیهم السلام ولا تنفي حجّية الخبر غير الموافق حتّى يخصّص دليل الحجّية بخصوص الخبر الموافق.

وفيه : انّ تحاشي الأئمّة علیهم السلام من نسبة الأخبار غير الموافقة إليهم وإنكارهم لها يفهم منه عرفا سلب الحجّية عنها.

ب - انّ هذه المجموعة تقول انّ غير الموافق زخرف فلو فرض انّ خبرا لا يوجد مضمونه في القرآن الكريم - كالخبر الدال على انّ صلاة الصبح ركعتان - فهو ممّا يصدق عليه عنوان غير الموافق للكتاب ولو لأجل عدم وجود مضمونه في القرآن الكريم فيلزم أن لا يكون حجّة ، والحال انّ هذا لا يمكن الالتزام به ، إذ كيف يقال انّ مثل الخبر الدال على انّ صلاة الصبح ركعتان ليس بحجّة.

ويردّه : انّ ظاهر لسان « ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف » اعتبار صدق غير الموافق بنحو السالبة بانتفاء المحمول ولا يكفي صدق السالبة

ص: 418

بانتفاء الموضوع ، أي يستفاد منها انّ الخبر إذا كان مضمونه في القرآن الكريم ولم يكن موافقا له فهو زخرف ولا يستفاد منها انّ الخبر إذا لم يكن موافقا للقرآن الكريم من جهة عدم وجود مضمونه فيه فهو زخرف. وهذا نظير ما لو قيل « عبدي ليس بجميل » ، فإنّ ظاهره ملكه للعبد ونفي الجمال عنه لا انّه ينفي الجمال من باب انّه لا عبد له أصلا.

ج - انّ هذه المجموعة تدل على انّ كل خبر مخالف للكتاب ولو بنحو العموم والخصوص المطلق فهو ليس بحجّة بيد انّا لمّا كنّا نجزم بصدور أخبار كثيرة منهم علیهم السلام مخصّصة له نسبتها إليه نسبة العموم والخصوص المطلق - إذ لم يترك الأئمّة ( صلوات اللّه عليهم ) غالبا عاما من عمومات الكتاب إلاّ وخصّصوه بمخصّص - فلا بدّ من تأويل المجموعة المذكورة ومخالفة ظاهرها وحملها على خصوص المخالفة بنحو التباين الكلي أو على المخالفة في باب اصول الدين مثلا.

ويرده : لا نسلّم انّ المجموعة المذكورة ظاهرة في عدم حجّية المخالف إذا كانت مخالفته للقرآن الكريم بنحو العموم والخصوص المطلق كي يلزم تأويلها وحملها على اصول الدين أو التباين الكلّي وإنّما هي من الأول ظاهرة في الاختصاص بخصوص الخبر المخالف بنحو التباين الكلّي. والقرينة على الاختصاص المذكور تحاشي الأئمّة علیهم السلام من نسبة الأخبار المخالفة إليهم ، والمخالف بنحو العموم والخصوص المطلق لا معنى لإنكارهم له وتحاشيهم من نسبته إليهم بعد وضوح جريان سيرتهم بشكل واضح على تخصيص عمومات الكتاب وعدم ترك عموم بلا تخصيص.

إذن المجموعة المذكورة لا حاجة إلى تأويلها بل هي من الأوّل ظاهرة في

ص: 419

الاختصاص بالمخالف للكتاب بنحو التباين الكلي.

المجموعة الثانية

ما ورد بلسان انّ الخبر يكون حجّة فيما إذا كان له شاهد من كتاب اللّه العزيز أو السنّة القطعية لرسوله الكريم ، كما ورد ذلك في رواية عبد اللّه بن أبي يعفور : « إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب اللّه أو من قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وإلاّ فالذي جاء به أولى به » (1).

ولسان هذه المجموعة يمتاز عن لسان المجموعة السابقة في ان السابقة لم تنف الحجية عن الخبر بجميع حصصه بل عن خصوص الخبر غير الموافق للكتاب دون الخبر الموافق للكتاب أو الذي لا يوجد مضمونه في الكتاب الكريم ، وامّا هذه المجموعة فهي تنفي الحجّية عن الخبر بجميع حصصه ، إذ نفت الحجّية عن الخبر الذي ليس معه شاهد من الكتاب ، ويبقى الخبر الذي له شاهد من الكتاب الذي لا معنى لجعل الحجّية له فإن جعل الحجّية للخبر في خصوص حالة وجود شاهد له من الكتاب الكريم لغو فلا معنى لان يقال ان الخبر حجة اذا كان القران الكريم يشهد بصحته اذ عند وجود الشاهد من القران الكريم يكون الحجّة هو القرآن الكريم دون الخبر ويكون جعل الحجّية للخبر لغوا.

وهذا المفاد للمجموعة المذكورة يواجه ايرادين : -

أ - انّ خبر ابن أبي يعفور ونظائره خبر واحد ، وما دام خبرا واحدا فلا

ص: 420


1- الوسائل : ج 18 أبواب صفات القاضي باب 9 حديث 11.

يمكن الاستدلال به على نفي حجّية الخبر الواحد ، إذ ذلك دور واضح.

ب - انّ خبر ابن أبي يعفور مخالف للقرآن الكريم وليس عليه شاهد منه - إذ القرآن الكريم يقول في مفهوم آية النبأ انّ خبر العادل حجّة - بل الشاهد منه على العكس فيلزم أن لا يكون حجّة لأنّه بنفسه يقول انّ ما ليس عليه شاهد فالذي جاء به اولى به ، وحيث انه ليس عليه شاهد بل الشاهد على العكس فيلزم من قبول مضمونه سلب الحجّية عنه ، أي يلزم من حجّيته عدم حجّيته (1).

المجموعة الثالثة
اشارة

ما ورد بلسان نفي الحجّية عن الخبر فيما إذا كان مخالفا للكتاب ، فقد ورد في رواية جميل : « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام فى الهلكة ، انّ على كل حقّ حقيقة وعلى كل صواب نورا فما وافق كتاب اللّه فخذوه وما خالف كتاب اللّه فدعوه » (2).

وهذه المجموعة لها السمات التالية : -

أ - انّها لا تسلب الحجّية عن الخبر بجميع حصصه كما هو الحال في المجموعة الثانية بل هي كالمجموعة الاولى تنفي الحجّية عن حصة واحدة من الخبر وهي

ص: 421


1- كما ويمكن الايراد على هذه المجموعة مضافا إلى ما تقدّم بأنّ مضمونها لا يمكن قبوله ، إذ لازمه عدم حجّية الأخبار التي لا يوجد لها مضمون في القرآن الكريم ولا يصدق ان عليها شاهدا من كتاب اللّه ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به ، وكيف يلتزم بعدم حجّية الخبر الدالّ على انّ صلاة الصبح ركعتان أو انّ الشكّ في الثنائية مبطل أو انّ الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجّسه شيء أو ..
2- الوسائل : ج 18 أبواب صفات القاضي باب 9 حديث 35.

الخبر المخالف للقرآن الكريم.

ب - انّ ذكر القرآن الكريم ليس لخصوصية فيه وإنّما ذلك من باب انّه مصداق للدليل القطعي ، وعليه فالمدار في سلب الحجّية عن الخبر هو مخالفته للدليل القطعي سواء كان - الدليل القطعي - هو القرآن الكريم أم السنّة النبوية الشريفة المتواترة.

ج - انّ المراد في المجموعة الاولى من الخبر المخالف هو خصوص المخالف للقرآن الكريم بنحو المباينة الكلية بقرينة استنكار الأئمّة علیهم السلام وتحاشيهم من نسبة الخبر المخالف لهم وإلاّ فالمخالف بالعموم من وجه لا وجه للتحاشي عنه. هذا في المجموعة الاولى ، وأمّا هذه المجموعة فحيث لا تشتمل على لسان التحاشي بل على لسان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة فلا وجه لحمل المخالف فيها على خصوص المباين الكلي بل يشمل المخالف بنحو العموم من وجه أيضا.

اعتراضان
اشارة

وقد اعترض على هذه المجموعة باعتراضين : -

الأوّل

انّ هذه المجموعة لا تسلب الحجّية عن خصوص الخبر المخالف للقرآن الكريم بل عن مطلق الامارة المخالفة سواء كانت خبرا أم غيره فانّ لسانها لم يذكر فيه لفظ الخبر بل قيل : « فما وافق كتاب اللّه فخذوه وما خالف كتاب اللّه فدعوه ». وعليه فتكون النسبة بين هذه المجموعة ودليل حجّية الخبر هي العموم من وجه - حيث انّ هذه المجموعة تسلب الحجّية عن مطلق الامارة المخالفة أعم

ص: 422

من أن تكون خبرا أو غيره ، ودليل حجّية الخبر يثبت الحجّية لمطلق الخبر أعم من أن يكون مخالفا للكتاب أو موافقا ، ومادة الاجتماع التي يتعارضان فيها هي الخبر المخالف الذي هو محل بحثنا - لا العموم والخصوص المطلق كي تخصص هذه المجموعة دليل حجّية الخبر بخصوص الخبر غير المخالف.

ويمكن الجواب عن هذا الاعتراض بما يلي : -

أ - انّ هذه المجموعة وإن كانت نسبتها إلى دليل حجّية الخبر نسبة العموم والخصوص من وجه إلاّ أنّها تقدّم عليه من باب الحكومة والنظر فانّها فرضت الفراغ عن حجّية الخبر في الجملة وتنظر إلى الحجّية الثابتة في الجملة وتحدّدها بخصوص الخبر الموافق ، فهي نظير دليل لا تصل فيما لا يؤكل لحمه الناظر الى دليل وجوب الصلاة لبيان مانعية لبس ما لا يؤكل لحمه من صحة الصلاة وانّ مطلق الصلاة ليس مصداقا للواجب بل خصوص الصلاة التي لا تشتمل على لبس ما لا يؤكل لحمه.

ب - لو سلّمنا عدم حكومة هذه المجموعة على دليل حجّية الخبر فنقول انّ النسبة بين هذه المجموعة ودليل حجّية الخبر وإن كانت هي العموم من وجه ويتعارضان في مادة الاجتماع وهي الخبر المخالف للكتاب إلاّ أنّنا ندّعي انّه لا بدّ في مادة الاجتماع من ترجيح المجموعة والحكم بعدم حجّية الخبر.

والوجه في ذلك : انّ الخبر هو الفرد البارز والمتيقن من الامارات التي قيل عنها « فما وافق كتاب اللّه فخذوه وما خالف فدعوه ». فلو لم نرجّح في مادة الاجتماع المجموعة وجعلناها - المجموعة - مختصة بغير الخبر بحيث يكون المقصود من قوله علیه السلام : « فما وافق كتاب اللّه ... » انّ غير الخبر من الامارات إذا

ص: 423

وافق كتاب اللّه ... فاللازم من ذلك إخراج الفرد البارز والمتيقن عن المجموعة وجعلها مختصة بالفرد الذي ليس ببارز ولا متيقن وهو بعيد بل مستهجن ، وهذا بخلاف ما لو اخرجنا مادة الاجتماع من دليل حجّية الخبر فإنّه لا يلزم اختصاصه بالفرد غير البارز بل يبقى شاملا لفرد بارز وهو الخبر الموافق للكتاب.

الثاني

انّ هذه المجموعة حيث انّها تسلب الحجّية عن الخبر المخالف فمقتضى إطلاقها عدم حجّية المخالف بجميع أقسامه بما في ذلك المخصص والمقيد والحاكم ولا تختص بالمباين الكلي والأعم من وجه ، وهذا ما لا يمكن الالتزام به ، فإنّه لا إشكال في قبول الأخبار المخصّصة أو المقيّدة للقرآن الكريم ، كيف لا!! ويلزم بقاء العمومات القرآنية على عمومها ، وهذا ما لا نحتمله أبدا.

وقد أجاب الأعلام عن هذا الاعتراض بوجهين : -

أ - انّ المخصص والمقيّد والحاكم لا يصدق عليه عنوان المخالف (1) حتّى يكون مشمولا للمجموعة الثالثة التي تسلب الحجّية عن المخالف فإنّ المخصص وأخويه قرينة على المراد من العام والمطلق والمحكوم ، والقرينة لا يصدق عليها انّها مخالفة لذي القرينة.

ب - انّا نجزم بصدور أخبار مخصّصة أو مقيّدة أو حاكمة على العمومات القرآنية جزما إذ لم يترك أهل البيت ( صلوات اللّه عليهم ) دليلا قرآنيا بلا تخصيص

ص: 424


1- أي عرفا. وليس المراد عدم صدق عنوان المخالف عليها عقلا ودقة ليرد ما يأتي بعد قليل من صدقه عليها.

أو تقييد أو حاكم ، وهذا بنفسه يصلح أن يكون قرينة على أنّ المراد من المخالف الذي سلبت عنه الحجّية هو المخالف بنحو التباين أو الأعم من وجه وإلاّ فكيف صدر منهم علیهم السلام المخصص والمقيّد والحاكم.

وإذا لم يصلح هذا قرينة على ما نقول فلا أقل من أن يقال هكذا : انّا نجزم بأنّ عمومات القرآن الكريم لم تبق بأجمعها على عمومها بل بعضها خصّص وإن كنّا لا نعرف العام المخصّص على سبيل التفصيل بل على سبيل الإجمال (1). وبعد العلم بتخصيص بعضها يسقط عموم كل واحد منها عن الحجّية فإنّ أصالة العموم في الأوّل معارضة بأصالة العموم في الثاني - وهذا نظير ما لو كان لدينا أواني عشرة علمنا بطروّ النجاسة على واحد منها فإنّ أصالة الطهارة لا يمكن جريانها في أي إناء من الأواني لمعارضتها بجريانها في البقية - وبسقوطها عن الحجّية لا يصدق حينئذ على الأخبار المخصّصة عنوان المخالف ، إذ بعد فرض سقوط الأدلة القرآنية عن الحجّية فهي مخالفة إذن لأي شيء؟ وإذا لم يصدق على الأخبار المخصصة عنوان المخالف فتكون باقية على الحجّية.

مناقشة الوجهين

ويمكن مناقشة الوجهين المذكورين بما حاصله : انّ في المراد من عنوان المخالفة في المجموعة الثالثة ثلاثة احتمالات : -

ص: 425


1- دعوى طرو التخصيص على بعض عمومات القرآن قضية واضحة لكل مسلم فإنّ كل مسلم يعرف ان عمومات القرآن لم تبق جميعا على عمومها بل بعضها خصّص جزما وإن كان لا يعرف على سبيل التفصيل العام الطارىء عليه التخصيص.

1 - ان يراد بها انّ الخبر المخالف للدلالة القرآنية ليس حجّة حتّى ولو كانت الدلالة القرآنية غير حجّة قبل ورود الخبر المخالف ، فلو فرض قبل ورود الخبر المخالف انّ الدلالة القرآنية لم تكن حجّة لبعض الأسباب فالخبر المخالف لها لا يكون حجّة.

2 - ان يراد بها ان الدلالة القرآنية إذا كانت حجّة قبل ورود الخبر المخالف فهو غير حجّة ما دام مخالفا للدلالة التي هي حجّة قبل وروده.

3 - أن يراد بها انّ الدلالة القرآنية إذا كانت حجّة قبل ورود الخبر المخالف وبعده - ولا يكفي حجّيتها قبل وروده - فهو غير حجّة.

ولا شكّ في أنّ أظهر الاحتمالات هو الثاني ، إذ الأوّل باطل جزما فإنّ الدلالة القرآنية إذا لم تكن حجّة في نفسها وكان وجودها كعدمها فلا وجه لسقوط الخبر المخالف لها عن الحجّية. وهل يحتمل انّ المخالفة لغير الحجّة موجبة للاسقاط عن الحجّية!!!

وهكذا الثالث باطل أيضا ، إذ لو كان اللازم حجّية الدلالة القرآنية حتّى بعد ورود الخبر المخالف فمقتضى ذلك أن تبقى المجموعة الثالثة التي تنهى عن الخبر المخالف بلا مصداق لأنّ الظهور يسقط عن الحجّية بعد وجود المخصّص له أو المقيّد أو الحاكم أو المعارض بنحو المباينة الكلية ولا يوجد ظهور يبقى على الحجّية بعد وجود المخصص ونحوه ، ومعه يلزم أن لا يبقى لدينا خبر مخالف لدلالة قرآنية معتبرة.

فالمتيقن على هذا هو الاحتمال الثاني ، أي انّ الدلالة القرآنية متى ما كانت حجّة في نفسها فالخبر المخالف لها ساقط عن الحجّية.

ص: 426

ولنعد إلى صلب الموضوع وهو انّه يوجد في المراد من عنوان الخبر المخالف ثلاثة احتمالات.

فإن أخذنا بالاحتمال الأوّل - وهو انّ الدلالة القرآنية ولو لم تكن حجّة في نفسها لا يكون الخبر المخالف لها حجّة - فالمناسب بطلان كلا الوجهين السابقين المذكورين من قبل الأعلام.

أمّا وجه بطلان الأوّل - وهو انّ المخصص واخويه لا يصدق عليهما عنوان المخالف - فلأنّ المخصص الذي هو قرينة منفصلة وإن أوجب بعد وروده تخصيص العام وإسقاط دلالته عن الحجّية إلاّ أنّ المفروض انّ الدلالة القرآنية التي هي ليست حجّة في نفسها توجب أيضا إسقاط الخبر المخالف لها عن الحجّية.

وأمّا انّ الثاني - وهو انّه بعد العلم بطرو التخصيص على بعض العمومات القرآنية تسقط جميعها عن الحجية ولا يصدق على الخبر المخصّص عنوان المخالف للدلالة المعتبرة - باطل ، فلأنّ العلم الإجمالي بطروّ التخصيص على بعض العمومات القرآنية وإن أوجب سقوط جميع العمومات القرآنية عن الحجّية إلاّ أنّ المفروض انّ المخالفة للدلالة القرآنية غير المعتبرة أيضا توجب سلب الحجّية عن الخبر.

وإن أخذنا بالاحتمال الثاني - وهو انّ الخبر المخالف للدلالة القرآنية المعتبرة في نفسها ليس حجّة - فالوجه الأول باطل والثاني صحيح.

امّا انّ الثاني صحيح فلأنّ الأخبار المخالفة والمخصصة للقرآن حتى لو قطعنا النظر عنها فمع ذلك لا تكون العمومات القرآنية حجّة للعلم الإجمالي الثابت لدى

ص: 427

كل مسلم بطرو التخصيص على بعض العمومات القرآنية (1) ، ومع عدم حجّية العمومات القرآنية في نفسها فلا تكون الأخبار المخصصة ساقطة عن الحجّية لعدم مخالفتها لما هو حجّة في نفسه.

وأمّا انّ الأوّل ليس بصحيح فباعتبار انّه لو قطعنا النظر عن الخبر المخصص أو المقيّد أو الحاكم فالعمومات القرآنية حجّة في نفسها ويصدق على الخبر المخصص مثلا انّه مخالف لما هو حجّة في نفسه (2).

وإن أخذنا بالاحتمال الثالث - وهو انّ الخبر المخالف للدلالة القرآنية التي هي حجّة بعد وروده أيضا ليس حجّة - فكلا الوجهين صحيح.

امّا صحّة الوجه الثاني فلنفس ما تقدّم على الاحتمال الثاني ولا نكرّر.

وامّا صحّة الوجه الأوّل فلأن العام القرآني بقطع النظر عن الحيثية القرآنية لا يبقى على الحجّية بعد ورود الخاص ، ومع عدم بقائه على الحجية فلا يصدق

ص: 428


1- اللّهم إلاّ أن يقال انّ هذا العلم الإجمالي بطروّ المخصص على بعض العمومات منحل إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي حيث عثرنا بالتفصيل على مخصصات بقدر ما هو المعلوم بالإجمال ويبقى الشكّ في تخصيص الباقي شكا بدويا ، ومعه فلا مانع من حجّية العمومات التي لم يعلم بطروّ المخصصات عليها.
2- هذا ولكن يمكن أن يقال انّ العام بقطع النظر عن الخاص وإن كان حجّة في نفسه إلاّ أن الخاص لا يصدق عليه عرفا انّه مخالف للعام. ولئن كان يصدق عليه عنوان المخالف فذاك عقلا ودقة وامّا عرفا فلا ، وعليه فالخبر الخاص أو المقيد أو الحاكم لا يكون مشمولا للمجموعة الثالثة لعدم صدق عنوان المخالف عليه عرفا. ونحن نستغرب من السيد الشهيد قدس سره رفضه للردّ الأوّل المذكور من قبل الأعلام فإنّه ردّ عرفي يطابق الوجدان ولا محيص عنه.

على الخبر الخاص عنوان المخالف كيما يسقط عن الحجّية.

النتيجة النهائية

وحيث انّ المستظهر من الاحتمالات الثلاثة المتقدّمة هو الاحتمال الثاني فالرد الأوّل لا يكون صحيحا (1) وإنّما الصحيح هو الرد الثاني.

جواب ثان عن المجموعة الثالثة

بعد انّ أجاب قدس سره عن المجموعة الثالثة بالردّ الثاني - الذي تقدّمت الإشارة له ص 387 س 7 من الحلقة - تصدى الآن لذكر ردّ آخر عليها.

وحاصله : انّ المجموعة الثالثة وإن كان عنوان الخبر المخالف المذكور فيها مطلقا وشاملا لجميع أقسام المخالف بما في ذلك المخصص والمقيّد والحاكم إلاّ أنّه يوجد مخصص لهذا الإطلاق يخرج هذه الثلاثة - المخصص والمقيّد والحاكم - من بين أقسام المخالف ، وذاك المخصص هو رواية عبد الرحمن عن الإمام الصادق علیه السلام : « إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب اللّه فما وافق كتاب اللّه فخذوه وما خالف كتاب اللّه فردّوه » (2) ، حيث تدل على انّ الخبر المخالف للكتاب الكريم لو لم يكن معارضا بخبر مثله فهو حجّة وإنّما المانع من حجّيته هو معارضته بخبر آخر مثله ، إذ لو كانت المخالفة للكتاب الكريم كافية وحدها

ص: 429


1- تقدّم انّ رفض الردّ الأوّل مخالف للوجدان العرفي.
2- الوسائل : كتاب القضاء الباب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 29.

لإسقاط الخبر عن الحجّية حتّى ولو لم يكن معارضا بمثله فلا داعي لقوله علیه السلام : « إذا ورد عليكم حديثان ... » بل كان المناسب أن يقال : إذا ورد عليكم حديث مخالف للكتاب فدعوه ولو لم يكن له معارض.

وبالجملة الرواية المذكورة تدل على انّ الخبر المخالف للكتاب حجّة عند عدم معارضته بمثله.

ولا نريد أن ندعي من خلال هذا الكلام انّ الرواية المذكورة يستفاد منها حجّية كل خبر مخالف للكتاب حتّى ولو كان مباينا له ، انّ هذا باطل ، إذ الرواية ليست في مقام البيان من هذه الناحية ليتمسّك بإطلاقها لإثبات حجّية كل خبر مخالف للكتاب ، وإنّما يستفاد منها انّ الخبر المخالف - إذا فرض عدم معارضته بمثله - هو في الجملة حجّة ، والقدر المتيقن من ذلك هو الخبر المخصّص والمقيّد والحاكم.

وإنّما قلنا انّ هذه الرواية - أي رواية عبد الرحمن - أخصّ من أخبار المجموعة الثالثة باعتبار انّ المجموعة الثالثة تسلب الحجّية عن كل خبر مخالف سواء كان مباينا كليا أو أعمّ من وجه أو أخص مطلقا أو مقيدا أو حاكما ، وهذه الرواية يستفاد منها من باب القدر المتيقن حجّية ثلاثة أقسام من المخالف وهو الأخص مطلقا والمقيّد والحاكم ، وحيث انّ مفاد هذه الرواية أضيق من مفاد المجموعة الثالثة فيكون - مفاد الرواية - أخصّ منه فيخصّص المجموعة الثالثة التي تسلب الحجّية عن كل خبر مخالف بخصوص الخبر المخالف بنحو المباينة أو الأعم من وجه.

قوله ص 381 س 2 : أحدها : هذا القسم لا ينظر إلى الخبرين المتعارضين

ص: 430

بل ينظر إلى الخبر المعارض لظاهر القرآن الكريم دون أن يعارض بخبر مثله. وقد تقدّمت الإشارة لذلك فيما سبق.

قوله ص 381 س 2 : الدليل القطعي السند : وهو القرآن الكريم والسنّة المتواترة للرسول الكريم صلی اللّه علیه و آله .

قوله ص 381 س 5 : عمّا قد : تقدّمت الإشارة إلى النكتة في ذكر كلمة « قد » سابقا.

قوله ص 382 س 11 : على تقدير ثبوت الإطلاق فيه : أي لو كان مستند دليل حجّية السند إطلاقا لفظيا ولكن تقدّم انّه السيرة التي لا إطلاق فيها.

قوله ص 383 س 16 : على ذلك : أي على التخصيص والتقييد.

قوله ص 384 س 3 : يرويه من نثق به الخ : لعلّ هذا تفسير لاختلاف الحديث.

قوله ص 385 س 7 : المعارض : المناسب التعبير بالمخالف ، لأنّ رواية جميل سلبت الحجّية عن الخبر المخالف للكتاب دون المعارض له.

قوله ص 385 س 12 : التي تقتضي الخ : وهي المخالفة بنحو التباين الكلي.

قوله ص 387 س 2 : تعارضا مستقرا : أي بنحو التباين أو العموم من وجه. وقوله : « أو غير مستقر » : أي بنحو التخصيص أو التقييد أو الحكومة.

قوله ص 387 س 15 : لأنّ القرينة المنفصلة : هذا إشارة إلى بيان عدم صحّة الوجه الأوّل. والمراد من القرينة المنفصلة : المخصص والمقيّد والحاكم.

قوله ص 388 س 7 : لمقتضي : بكسر الضاد. وكان بالإمكان الاستغناء عن هذه الكلمة بتعبير : واجدة للحجّية الخ.

ص: 431

قوله ص 388 س 8 : لأنّ مقتضى الخ : هذا بيان لصحّة الوجه الأوّل. وأمّا بيان صحّة الوجه الثاني فلم يشر له لاتّضاحه من خلال ما ذكره على الاحتمال الثاني.

قوله ص 388 س 9 : القرينة المنفصلة : وهي المخصّص أو المقيّد أو الحاكم.

قوله ص 388 س 10 : واختصت المخالفة الخ : أي ولازم بقاء العام على الحجّية بعد ورود القرينة المنفصلة انّ الخبر المخالف للكتاب إنّما يسقط عن الحجّية بسبب مخالفته للكتاب فيما إذا كانت مخالفته على وجه لا تصلح للقرينية كما إذا كان مبائنا أو أعمّ من وجه حيث انّ العام لا يسقط عن الحجّية بعد ورود عام مبائن له أو أعمّ من وجه (1).

قوله ص 388 س 13 : بعد الاعتراف الخ : لأنّه لم يقبل قدس سره الوجه الأوّل المشار له ص 387 س 4 من الحلقة الذي كان يقول انّ الخبر المخصّص أو المقيّد أو الحاكم لا يصدق عليه عنوان المخالف.

قوله ص 388 س 14 : للمعارضة غير المستقرة : أي للمخصّص والمقيّد والحاكم.

قوله ص 388 س 16 : في نفسه : المقصود أي لو لا المعارضة بخبر مثله.

قوله ص 389 س 6 : لو لا التعارض : المقصود : أي لو لا التعارض. وهو تفسير لقوله : « في نفسيهما ».

قوله ص 389 س 7 : في الحجّية الاقتضائية : وهي الحجّية الثابتة للخبر

ص: 432


1- عدم سقوط العام عن الحجّية بعد ورود المبائن له أو الأعمّ من وجه أوّل الكلام.

على تقدير عدم معارضته بخبر آخر مثله.

قوله ص 389 س 10 : وهو مورد القرينية : أي مورد المخصّص والمقيّد والحاكم.

روايات العلاج

قوله ص 389 س 13 : ويمكن تصنيف الخ : ذكرنا سابقا انّ الروايات على قسمين. والقسم الأوّل منها هو الناظر إلى معارضة الخبر للكتاب الكريم من دون معارضته بخبر آخر مثله. وقد اتّضح انّ سلب الحجّية لا يشمل الخبر المخالف للكتاب بنحو التخصيص أو التقييد أو الحكومة وذلك لوجهين أحدهما أشار له قدس سره ص 387 س 7 وثانيهما أشار له ص 388 س 13. وإلى الآن كان الكلام في القسم الأوّل. وأمّا القسم الثاني فهو ناظر إلى صورة معارضة الخبر بخبر آخر مثله.

وروايات هذا القسم المسماة بروايات العلاج يمكن تصنيفها إلى مجموعات متعدّدة كروايات التخيير ، وروايات الترجيح ، وروايات التوقف ، وروايات الأخذ بالاحتياط ، غير انّه قصر قدس سره كلامه على أهمّ هذه وهي روايات التخيير وروايات الترجيح.

روايات التخيير

والمراد من روايات التخيير الروايات التي تثبت الحجّية لأحد الخبرين لا على سبيل التعيين.

ص: 433

والكلام في هذه الروايات يقع في مقامين : -

أ - في تصوير جعل الحجّية بنحو التخيير واقعا وفي عالم الثبوت ، إذ قد يقال بعدم إمكان ذلك.

ب - في دلالة الروايات بالفعل على ثبوت الحجّية التخييرية بعد إمكانها واقعا.

البحث الثبوتي

أمّا بالنسبة إلى البحث الثبوتي فقد يقال انّ جعل الحجّية بنحو التخيير أمر غير ممكن ثبوتا.

والوجه في ذلك : انّ الحجّية بنحو التخيير امّا أن تكون راجعة إلى جعل حجّية واحدة أو تكون راجعة إلى جعل حجّتين مشروطتين ، وكلاهما غير ممكن.

امّا ان جعل الحجّية الواحدة أمر غير ممكن فذلك باعتبار انّ جعل الحجّية الواحدة لا يخلو من أحد احتمالات ثلاثة كلّها باطلة.

أ - أن تكون الحجّية الواحدة ثابتة للخبر رقم (1) دون الخبر رقم (2).

وهذا باطل ، لأنّ لازم هذا الاحتمال كون الحجّية الثابتة تعيينية ، أي ثابتة لأحد الخبرين بالخصوص وليست تخييرية.

ب - أن تكون الحجّية الواحدة ثابتة لأحد الخبرين. ونفرض انّها ثابتة للأحد الثابت في الخبر الأوّل وللأحد الثابت في الخبر الثاني (1).

ص: 434


1- وملاحظة الأحد - الذي هو الجامع - بهذا الشكل يصطلح عليه بالجامع بنحو مطلق الوجود. والمراد من كلمة « مطلق الوجود » الإستغراقية والشمول.

وهذا باطل أيضا ، لأنّ لازمه ثبوت الحجّية لكلا الخبرين المتعارضين وهو مستحيل ، إذ المتعارضان بعد فرض تعارضهما لا يمكن حجّيتهما معا وإلاّ لزم ثبوت المتعارضين (1).

ج - أن تكون الحجّية الواحدة ثابتة للأحد بما هو أحد ، أي لأحد الخبرين بما هو أحد الخبرين من دون ملاحظة الأحد ثابتا في هذا الخبر أو في ذاك الخبر (2).

وهذا باطل أيضا ، فإنّ ثبوت الحجّية للخبر يعني انّه حجّة في إثبات مدلوله وما يكشف عنه ، وواضح انّ الأحد بما هو أحد بدون ملاحظته ساريا في هذا الخبر أو ذاك لا مدلول له يكشف عنه ليمكن ثبوت الحجّية له بمعنى التعبّد بثبوت مدلوله الذي يكشف عنه.

وأمّا ان جعل حجّتين مشروطتين أمر غير ممكن فذاك باعتبار انّ جعل الحجّتين المشروطتين فيه احتمالان كلاهما باطل.

أ - ان تجعل الحجّية للخبر الأوّل مشروطة بالالتزام به كما وتجعل حجّية ثانية للخبر الثاني مشروطة بالالتزام به. وهذا الاحتمال باطل لأنّ لازمه انتفاء كلتا الحجّتين عن الخبرين إذا لم يلتزم بهذا ولا ذاك والحال انّه لا إشكال في ثبوت إحدى الحجّتين.

ص: 435


1- - هذا مضافا إلى استحالة ثبوت الواحد للاثنين وإلاّ يلزم صيرورة الواحد اثنين.
2- ويسمى ملاحظة الجامع بهذا الشكل بالجامع بنحو صرف الوجود.

ب - انّ تجعل الحجّية للخبر الأوّل بشرط ترك الالتزام بالخبر الثاني ، كما وتجعل للخبر الثاني بشرط ترك الالتزام بالأوّل.

وهذا باطل أيضا لأنّ لازمه ثبوت كلتا الحجّتين في حقّ المكلّف عند تركه الالتزام بكل منهما والحال هو يعلم بثبوت أحدى الحجتين في حقّه لا كلتيهما إذ لا يمكن ثبوت المتعارضين معا في حقّ المكلّف.

جواب الإشكال

ويمكن الجواب عن الإشكال الثبوتي المذكور باختيار جعل حجّتين مشروطتين ، فلأجل أن لا يلزم الإشكال يمكن للمولى التوصّل إلى ذلك عن طريق تشريع جعلين فأوّلا يجعل الوجوب لأحد الالتزامين بأن يقول يجب على المكلّف الالتزام بأحد الخبرين ولا يحق له ترك التزامهما معا. وهذا الوجوب وجوب طريقي بمعنى انّه لم ينشأ عن مصلحة في نفس الالتزام بأحدهما وإنّما شرّع لغرض ان لا يلزم ثبوت كلتا الحجّتين في حقّ المكلّف عند تركه الالتزام بكلا الخبرين كما أشرنا إلى ذلك في الاحتمال الثاني المتقدّم. هذا هو الجعل الأوّل.

وثانيا يجعل الحجّية للخبر الأوّل عند ترك الالتزام بالخبر الثاني ويجعل الحجّية للخبر الثاني عند ترك الالتزام بالخبر الأوّل. وبهذا يتمّ التوصل إلى الحجّية التخييرية دون أي إشكال.

ص: 436

البحث الاثباتي أو روايات التخيير

اشارة

وبعد أن ثبت إمكان جعل الحجّية بنحو التخيير واقعا ننتقل إلى عالم الإثبات - أي الروايات - لنرى هل يمكن أن نستفيد من الروايات جعل الحجّية لأحد الخبرين بنحو التخيير أو لا؟ توجد في هذا المجال عدّة روايات نذكر منها ثلاثا : -

الرواية الاولى

وهي رواية ابن مهزيار حيث يحدث انّي قرأت في رسالة وجهها عبد اللّه بن محمّد إلى أبي الحسن الهادي علیه السلام عن نافلة الفجر (1) هل يجوز الإتيان بها في المحمل الثابت على ظهر الدابة أو لا بدّ من الإتيان بها على وجه الأرض فإنّ الأصحاب قد اختلفوا في ذلك بسبب اختلافهم في الروايات المنقولة عن الإمام الصادق علیه السلام ففي بعضها يقول - الإمام الصادق علیه السلام - : صلّها في المحمل وفي بعضها الآخر يقول : لا تصلّهما إلاّ على الأرض فاعلمني كيف تصنع أنت يا سيدي لاقتدي بك؟

ص: 437


1- الوارد في الرواية ركعتا الفجر. والمراد بهما في مصطلح الروايات نافلة الفجر التي هي ركعتان قبل صلاة الصبح والتي قال عنها الصدوق والمحقّق في المعتبر - حسب نقل صاحب الحدائق في حدائقة ج 6 ص 37 - انّها أفضل من صلاة الليل.

فكتب علیه السلام في الجواب : موسّع عليك بأية عملت (1).

وفقرة الاستدلال : قوله علیه السلام : موسّع عليك بأيّة عملت » حيث يدل على أنّ المكلّف عند تعارض الخبرين يتخيّر في الأخذ بأي واحد منهما شاء.

وقبل مناقشة الاستدلال بالرواية المذكورة نشير إلى مقدّمة حاصلها : انّ التخيير له نحوان : -

أ - التخيير الثابت في مثل شرب الماء حيث نقول انّ المكلّف مخير واقعا بين شرب الماء وعدمه. ومثل هذا التخيير يسمّى بالتخيير الواقعي وهو عبارة اخرى عن الإباحة ، فإنّ إباحة أي شيء من الأشياء تعني تخيّر المكلّف بين الفعل والترك.

ب - التخيير الثابت في الأخذ بهذا الخبر أو بذاك ، فلو فرض وجود خبرين أحدهما يقول صلاة الجمعة واجبة وثانيهما يقول صلاة الجمعة محرّمة فالمكلّف مخيّر بينهما بمعنى انّه لو اختار الأوّل ثبت في حقّه وجوب الجمعة ويكون ملزما بالإتيان بها ولا يكون فعلها وتركها مباحا له ، وإذا اختار الثاني ثبتت في حقّه الحرمة ويكون ملزما بالترك ولا يباح له فعلها وتركها.

ومثل هذا التخيير يسمّى بالتخيير الظاهري لأنّه تخيير في الأخذ بأحدى الحجّتين ، وحيث انّ الحجّية حكم الظاهري فالتخيير في الحجّية يعني التخيير في الحكم الظاهري.

وبوضوح فردي التخيير يتّضح انّ التخيير النافع في مقامنا هو التخيير

ص: 438


1- الوسائل : كتاب الصلاة الباب 15 من أبواب القبلة حديث 8.

الظاهري الثابت بين الخبرين دون التخيير الواقعي الذي يعني الإباحة.

هذه هي المقدّمة التي أردنا عرضها. وبعد هذا نأخذ بذكر مناقشتين على الاستدلال بالرواية : -

1 - انّ ظاهر الرواية وإن كان هو التخيير إلاّ أنّ المقصود منها التخيير الواقعي - أي إباحة الصلاة في المحمل أو على الأرض - دون التخيير الظاهري بمعنى الأخذ بأحد الخبرين. ووجه الظهور في ذلك هو السؤال والجواب فسؤال الراوي بقطع النظر عن جواب الإمام علیه السلام ظاهر في السؤال عن التخيير الواقعي ، وهكذا جواب الإمام علیه السلام بقطع النظر عن السؤال ظاهر في التخيير الواقعي.

امّا انّ سؤال السائل بقطع النظر عن جواب الإمام علیه السلام ظاهر في السؤال عن التخيير الواقعي فذلك لبيانين : -

أ - انّ الواقعة المسؤول عنها ما دامت واقعة معينة - وهي الصلاة في المحمل - فالسؤال عن حكمها ظاهر في السؤال عن حكمها الواقعي ، ولو كان المقصود السؤال عن حكمها الظاهري فلا بدّ من فرض الواقعة كلية غير معينة بأن يقول السائل هكذا : لو تعارض خبران في مورد من الموارد فما هو الحكم.

وما دام السؤال ظاهرا - بسبب تعيين الواقعة - في السؤال عن الحكم الواقعي فلا وجه لصرف الإمام علیه السلام نظره عن بيان الحكم الواقعي إلى بيان الحكم الظاهري.

ب - توجد في السؤال جملة هي ظاهرة بل صريحة في السؤال عن الحكم الواقعي وهي قوله : « فاعلمني كيف تصنع أنت لاقتدي بك » فإنّ هذا واضح في السؤال عن الحكم الواقعي الذي يسير الإمام علیه السلام على طبقه.

ص: 439

وامّا انّ جواب الإمام علیه السلام - حتّى بقطع النظر عن سؤال السائل - ظاهر في الجواب عن الحكم الواقعي فذاك باعتبار انّ الإمام علیه السلام عالم بالأحكام الواقعية وهو منصوب ومتصد لبيانها ، ولا معنى لأن يعرض علیه السلام عن بيان الأحكام الواقعية إلى بيان الأحكام الظاهرية ، فإنّ بيان الأحكام الظاهري وظيفة المجتهد الذي هو جاهل بالأحكام الواقعية ، فالمجتهد قد يسأل عن حكم واقعة معيّنة فيجيب بأنّي لا أعلم حكمها الواقعي ولكن حيث انّه يوجد فيها خبران متعارضان فالمكلّف مخيّر في الأخذ بأحد الخبرين ، انّ مثل هذا الجواب مناسب للمجتهد دون الإمام علیه السلام بل الإمام علیه السلام متى ما أجاب فجوابه ظاهر في بيان الحكم الواقعي فيما إذا فرض انّ القضية التي وجّه له السؤال عن حكمها واقعة معينة ، وامّا إذا كانت كلية غير معينة - كما لو سئل علیه السلام عن الواقعة الكلية التي تعارض فيها خبران - فجوابه ظاهر في بيان الحكم الظاهري وهو التخيير مثلا. وفي مقامنا حيث انّ الواقعة قد فرضت معينة فجواب الإمام علیه السلام ظاهر في النظر إلى بيان الحكم الواقعي.

2 - لو سلّمنا انّ الإمام علیه السلام ناظر في جوابه إلى بيان الحكم الظاهري وهو التخيير في الأخذ بأحد الخبرين فنقول انّ محل كلامنا هو في الخبرين المتعارضين تعارضا مستقرا - أي الذين لا يمكن الجمع العرفي بينهما - وإن حكمهما هل هو التخيير أو لا ، وواضح انّ رواية ابن مهزيار وإن فرض فيها وجود خبرين متعارضين والإمام علیه السلام وإن أجاب التخيير في الأخذ بأحدهما إلاّ أنّ التعارض بين الخبرين المفروضين في الرواية ليس تعارضا مستقرا بل هو غير مستقر حيث انّه يمكن الجمع العرفي بينهما فإنّ أحد الخبرين يدل على الأمر والآخر يدل على

ص: 440

النهي ، والعرف متى ما واجه أمرا ونهيا متوجهين إلى شيء واحد حمل الأمر على الترخيص والنهي على الكراهة - فلو قيل صل صلاة الليل ولا تصل صلاة الليل فالعرف يحمل الأمر على الاستحباب والنهي على الترخيص في تركها - وفي مقامنا يحمل العرف أمر صل في المحمل على الترخيص في أداء الصلاة في المحمل والنهي على كراهة الصلاة في المحمل. وما دام الجمع العرفي بين الخبرين ممكنا في مقامنا فلعلّ تخيير الإمام علیه السلام في الأخذ بأحد الخبرين يختص بهذا المورد - أي بمورد التعارض غير المستقر الذي يمكن فيه الجمع العرفي ولا يعمّ موارد التعارض المستقر - وذلك باعتبار ان المكلف مرخص واقعا في المقام في أداء الصلاة في المحمل وعلى الأرض فلأجل هذا الترخيص الواقعي بين أداء الصلاة في المحمل وأدائها على الأرض خيّر الإمام علیه السلام في الأخذ بأحد الخبرين ، وواضح انّ هذا لا يستلزم التخيير بين الخبرين في الموارد التي لا يكون المكلّف فيها مرخّصا واقعا بين الفعل والترك كما هو الحال في موارد التعارض المستقر التي يكون فيها كل من الأمر والنهي إلزاميا.

الرواية الثانية

وفي الرواية الثانية يكتب الحميري إلى الإمام الحجّة ( صلوات اللّه عليه وعلى آبائه الطيّبين الطاهرين ) عن المصلّي فيما إذا قام من التشهّد هل عليه أن يكبّر أو يكفيه أن يقول بحول اللّه وقوّته أقوم وأقعد فكتب علیه السلام : انّ في ذلك حديثين أحدهما يقول انّ المصلّي كلّما انتقل من حالة إلى حالة اخرى فعليه التكبير وثانيهما يقول إذا جلس المصلّي من السجدة الثانية وأراد أن يقوم فليس عليه

ص: 441

تكبير. وبعد ذلك ذكرت الرواية : « وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى ». ثم ذكر الإمام علیه السلام في آخر الرواية « وبأيّهما أخذت من جهة التسليم كان صوابا » (1).

وفقرة الاستدلال واضحة ، وهي قوله : « وبأيّهما أخذت من جهة التسليم (2) كان صوابا ». ولعلّ دلالة هذه الرواية على التخيير في الأخذ بأحد الخبرين أوضح من دلالة الرواية السابقة حيث ورد فيها « وبأيّهما أخذت ... » ، فإنّ التعبير بالأخذ قد يستشعر منه الأخذ في مقام الحجّية دون التخيير الواقعي بينهما في مقام العمل.

هذا ويمكن مناقشة الاستدلال بهذه الرواية بأنّ الاستدلال بها ليس بلحاظ كلام السائل ، إذ لم يفترض فيه - كلام السائل - وجود خبرين متعارضين وإنّما فرض ذلك في جواب الإمام علیه السلام - حيث قال ان في ذلك خبرين وبايهما اخذت من باب التسليم كان صوابا - ولكن التمسّك به - جواب الإمام علیه السلام - غير ممكن لامور ثلاثة : -

أ - انّ الإمام علیه السلام وإن حكم بالتخيير إلاّ أنّ المقصود من التخيير هو التخيير الواقعي لا الظاهري لنفس النكتة المتقدّمة في الرواية المتقدّمة سابقا ، فإنّ الواقعة ما دامت معينة فالسؤال عنها يكون ظاهرا في السؤال عن حكمها الواقعي وهكذا جواب الإمام علیه السلام ظاهر في بيان الحكم الواقعي إذ ذلك هو المناسب للإمام علیه السلام العارف بالأحكام الواقعية.

ص: 442


1- الوسائل : كتاب الصلاة باب 13 من أبواب السجود ، حديث 8.
2- أي من جهة التسليم والانصياع للحقّ.

ب - انّ جواب الإمام علیه السلام اشتمل على جملة « وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى ». وهذه الجملة هل هي من تتمّة الحديث الثاني المنقول عن الإمام الصادق علیه السلام أو هي تبرّع من الإمام الحجّة المنتظر علیه السلام ؟ انّ في ذلك احتمالين.

فإن أخذ بالاحتمال الثاني (1) وقيل انّها تبرّع من الإمام الحجّة علیه السلام فلا يتحقّق تعارض بين الخبرين المنقولين عن الإمام الصادق علیه السلام ، إذ الحميري سأل عن القيام بعد التشهّد هل يحتاج إلى تكبير أو لا ، وواضح انّ الحديث الأوّل المنقول عن الإمام الصادق علیه السلام يشمل بإطلاقه حالة القيام بعد التشهّد ويدلّ على أنّ المصلّي كلّما انتقل من حالة إلى اخرى بما في ذلك القيام بعد التشهّد فعليه التكبير ، بينما الحديث الثاني لا يدلّ على نفى التكبير حيث انّه - الحديث الثاني - يقول انّ المصلّي بعد السجدة الثانية إذا قام مباشرة (2) فليس عليه تكبير ، وهذا لا يشمل القيام بعد التشهّد الذي ليس فيه قيام من السجدة الثانية مباشرة.

وإذا اتّضح انّ الحديث الأول يدل على ثبوت التكبير في القيام بعد التشهد بينما الحديث الثاني ساكت عن ذلك فلا يتحقّق تعارض بين الحديثين بالنسبة إلى القيام بعد التشهّد الذي هو مورد سؤال الحميري. وما دام التعارض غير متحقّق فلا معنى لحكم الإمام الحجّة علیه السلام بالتخيير بينهما ، إذ التخيير فرع التعارض وإذ لا تعارض لا تخيير.

ومن هنا نستكشف انّ الإمام الحجّة علیه السلام حينما حكم بالتخيير فليس مراده

ص: 443


1- قدّمنا الاحتمال الثاني على الأوّل خلافا لما في الكتاب لكونه أوضح للطالب.
2- القيام مباشرة من السجدة الثانية يتحقّق في الركعة الاولى أو الثالثة من الرباعية.

التخيير الظاهري الثابت بين الخبرين وإنّما مراده الإباحة التي هي عبارة عن التخيير الواقعي فكأنّه علیه السلام يريد أن يقول : يباح لك التكبير أخذا بالخبر الأوّل وعدم التكبير أخذا بالخبر الثاني وبأيّهما أخذت كان صوابا حيث انّ الإباحة تلتئم مع الأخذ بكل واحد من الحديثين. هذا كلّه على الاحتمال الثاني.

وإن أخذنا بالاحتمال الأوّل وقلنا بأنّ جملة « وكذلك التشهّد الأوّل ... » جزء من الحديث الثاني (1) فالتعارض بين الحديثين ثابت ، حيث انّ الأوّل يثبت التكبير في الانتقال من كل حالة بما في ذلك الانتقال إلى القيام بعد التشهّد بينما الثاني ينفي ذلك ، وما دام التعارض متحقّقا فحكم الإمام المنتظر علیه السلام بالتخيير وجيه من هذه الناحية ولكن لو نظرنا إلى الحديثين المنقولين عن الإمام الصادق علیه السلام وجدنا انّ التعارض وإن كان متحقّقا بينهما بيد انّه تعارض غير مستقر أي يوجد جمع عرفي بينهما - فإنّ الحديث الثاني أخصّ من الحديث الأوّل ، حيث إنّ الأوّل يثبت التكبير في الانتقال من كل حالة بينما الثاني ينفي التكبير في حالة معينة وهي حالة الانتقال من السجدة أو التشهّد إلى القيام فيجمع عرفا بينهما بتخصيص الأوّل بالثاني ويكون الثاني مقدّما من جهة التخصيص ، بل وهناك جهة اخرى لتقديمه وهي الحكومة ، فالحديث الثاني حاكم وناظر إلى

ص: 444


1- ويشهد لهذا الاحتمال انّ الحميري ما دام قد سأل عن القيام بعد التشهّد فلا بدّ وأن يكون كلا الحديثين الذين ينقلهما الإمام الحجّة علیه السلام يرتبطان بذلك ولا معنى لأن يرتبط خصوص الحديث الأوّل بذلك دون الثاني ، بل انّ قول الإمام علیه السلام انّ في ذلك - أي في القيام بعد التشهّد الذي هو المورد - حديثين يدل على أن كلا الحديثين يرتبط بذلك لا خصوص الأوّل وإلاّ لما صدق انّ في ذلك حديثين.

الأوّل ، نظير ما لو قيل أكرم كل عالم ثمّ قيل انّ الحكم بإكرام كل عالم لا يشمل العالم الفاسق فكما انّ هذا يتقدّم بالحكومة والنظر إلى دليل أكرم كل عالم كذاك حديث « انّ الانتقال من السجدة أو التشهّد ليس فيه تكبير » حاكم وناظر إلى دليل « التكبير ثابت في الانتقال من كل حالة لاخرى » - ونحن لا نحتمل انّ الإمام علیه السلام يحكم بالتخيير في موارد الجمع العرفي ، وكيف يحتمل أن يقال أنت مخيّر في العمل بالحاكم أو بالمحكوم بل لا إشكال في لزوم العمل بالحاكم وتقديمه على المحكوم ولا يحتمل التخيير بينهما.

إذن حكم الإمام المنتظر علیه السلام بالتخيير مع انّ أحدهما حاكم والآخر محكوم دليل واضح على أنّ التخيير لا يراد به التخيير الظاهري الثابت بين الخبرين بل التخيير الواقعي بمعنى الإباحة فكأنّه علیه السلام يريد أن يقول : يباح لك التكبير أخذا بالحديث الأوّل وعدمه أخذا بالحديث الثاني وبأيّهما أخذت كان صوابا.

ج - لو سلّمنا دلالة الرواية على انّ المراد من التخيير في كلام الإمام المنتظر علیه السلام هو التخيير بين الخبرين لا بمعنى الإباحة فنقول انّ الخبرين اللذين نقلهما عن جدّه الإمام الصادق ( صلوات اللّه عليهم أجمعين ) هما مقطوعا الصدور (1) - وإلاّ فلا يحتمل أن يكون الخبر الذي ينقله بنفسه علیه السلام مظنونا بالنسبة إليه بل انّ التعبير بالحديثين يدل على انّ نسبتهما إلى الإمام الصادق علیه السلام قطعية - ويحتمل انّ التخيير الذي حكم به علیه السلام يختص بخصوص الخبرين مقطوعي

ص: 445


1- لا يقال كيف يكونان مقطوعي الصدور مع انّهما متعارضان. فإنّه يقال : لا محذور في ذلك ما دامت دلالتهما ظنية وعلى مستوى الظهور لا قطعية.

الصدور من جهة مزيد الاهتمام بهما ولا يعمّ الخبرين مظنوني الصدور بل الحكم فيهما هو التساقط لعدم مزيد الاهتمام بهما.

وبالجملة انّ محل كلامنا هو في مطلق الخبرين المتعارضين بما في ذلك المظنونان ولا يختص بالمقطوعين بل انّ صورة الظنّ بالصدور هي الصورة المهمّة والشايعة عادة.

الرواية الثالثة

والرواية الثالثة مرسلة الحسن بن الجهم عن الإمام الرضا علیه السلام : « قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيّهما الحقّ قال : فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيّهما أخذت » (1).

وهذه الرواية أحسن حالا من الرواية السابقة لعدم ورود أي واحد من الإشكالات الثلاثة السابقة عليها ، فإنّ الواقعة لم يفرض كونها واقعة جزئية معيّنة حتى يكون ظاهر السؤال والجواب النظر إلى حكمها الواقعي ، وبذلك لا يرد الإشكال الأوّل ، كما وانّه لم يفترض حكومة أحد الحديثين على الآخر حتى لا يحتمل ثبوت التخيير بينهما ، وبهذا لا يرد الإشكال الثاني ، كما وانّه لم يفترض انّ الحديثين قطعيان فلا يرد الإشكال الثالث.

إذن هذه الرواية أحسن الروايات دلالة على التخيير المطلوب ، وهو التخيير في الأخذ بأحد الخبرين إلاّ أنّها مع الأسف ضعيفة بالإرسال ، فإنّ

ص: 446


1- الوسائل : كتاب القضاء باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 40.

الطبرسي نقلها في الاحتجاج عن الحسن بن الجهم بدون ذكر السند.

قوله ص 390 س 13 : ومن الواضح الخ : أي ولكن يردّ هذا الاحتمال ، أي احتمال ثبوت الحجّية للجامع بنحو صرف الوجود.

قوله ص 391 س 2 : في الحالة المذكورة : أي المشار لها في السطر الأوّل بقوله : « في حالة ترك الالتزام بشيء منهما ».

قوله ص 392 س 5 : من قبله : أي من قبل السائل.

قوله ص 392 س 5 : على الحكم الخ : أي الحكم بجواز الصلاة في المحمل الذي تعارض فيه الخبر الأوّل والثاني المنقولان عن الإمام الصادق علیه السلام ، فالسؤال إذن سؤال عن واقعة معينة فرض فيها اختلاف الخبرين.

ومن هنا يتّضح انّ الألف واللام في كلمة « الخبران » للعهد والإشارة إلى الخبرين المنقولين عن الإمام الصادق علیه السلام .

قوله ص 392 س 13 : فيما إذا الخ : متعلّق بقوله « المناسب ».

قوله ص 393 س 1 : بحمل : متعلّق بقوله جمع عرفي.

قوله ص 393 س 4 : بالمعنى المدعى : وهو التخيير بين خبرين متعارضين تعارضا مستقرا.

قوله ص 395 س 3 : وعدم استحكام الخ : الواو استينافية. وكلمة « عدم » مبتدأ خبرها « أمر واضح ».

ص: 447

ص: 448

روايات الترجيح

اشارة

قوله ص 396 س 11 : المجموعة الثانية الخ : كان الكلام فيما سبق في استعراض روايات التخيير. والآن يقع الكلام في روايات الترجيح. وهي على أنحاء ثلاثة : -

أ - ما دلّ على لزوم الترجيح بمرجّحات ترتبط بصفات الراوي ، كالترجيح بالأوثقية والأفقهية ونحوهما ، فإنّ هذه الصفات صفات للراوي ، فالراوي تارة يكون أوثق وأفقه واخرى غير أوثق ولا أفقه.

ب - ما دل على لزوم الترجيح بمرجّحات ترتبط بنفس الرواية ، كالترجيح بالشهرة ، فإنّ الشهرة صفة للرواية حيث يقال انّ الرواية مشهورة أو غير مشهورة.

ج - ما دلّ على لزوم الترجيح بمرجّحات ترتبط بمضمون الرواية ، كالترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ، فإنّ الموافقة والمخالفة صفتان لمضمون الرواية ، فإنّ مضمون الرواية تارة يكون موافقا أو مخالفا للكتاب أو للعامة.

وبعد اتضاح هذا نأخذ باستعراض ثلاث روايات تدل على لزوم الترجيح

الرواية الاولى

وهي رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن الإمام الصادق علیه السلام : « إذا ورد

ص: 449

عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب اللّه فما وافق كتاب اللّه فخذوه وما خالف كتاب اللّه فردّوه ، فإن لم تجدوهما في كتاب اللّه فاعرضوهما على أخبار العامة فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه » (1). والرواية المذكورة تشتمل على مرجّحين هما موافقة الكتاب ومخالفة العامة. وقد تقدّم في الحلقة الثانية ص 465 الحديث عن هذه الرواية واتّضح انّها تامّة الدلالة على المرجحين المذكورين.

الرواية الثانية

وهي رواية عمر بن حنظلة (2). والرواية المذكورة طويلة المتن واسعة المضمون إلاّ أنّ عمر بن حنظلة - مع الأسف - لم تثبت وثاقته ولكن الذي يهوّن الخطب انّ الأصحاب تلقّوا الرواية المذكورة بالقبول الحسن ، ومن هنا اصطلح عليها بالمقبولة فقيل مقبولة عمر بن حنظلة.

ونسجّل من الرواية المذكورة خمس فقرات ترتبط بمحلّ البحث : -

1 - سأل ابن حنظلة الإمام الصادق علیه السلام عن رجلين وقع بينهما نزاع في دين أو ميراث هل يمكن التحاكم إلى قضاة الجور؟ فأجابه علیه السلام بالرفض فسأله إذن لمن نتحاكم؟ فقال علیه السلام : إلى رجل من الشيعة روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا.

2 - قال : فإن اختار أحدهما حاكما وثانيهما حاكما آخر واختلف الحاكمان في

ص: 450


1- الوسائل : كتاب القضاء باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 29.
2- اصول الكافي : ج 1 ، ص 67 ، حديث 10.

الحكم بسبب استناد كل منهما إلى حديث من أحاديث أهل البيت علیهم السلام ؟ فقال علیه السلام : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما ...

3 - فقال ابن حنظلة انّهما متساويان من ناحية الصفات المذكورة ، فأجاب علیه السلام : ينظر إلى الرواية التي يستند إليها كل واحد من الحكام فيؤخذ بالرواية المشهورة وتترك الرواية الشاذّة النادرة.

4 - قال ابن حنظلة : انّ الروايتين متساويتان من حيث الشهرة فأجاب علیه السلام : يؤخذ بالرواية الموافقة للكتاب والمخالفة للعامة.

5 - فقال ابن حنظلة : انّ حكّام العامة يوافقون كلتا الروايتين ، فأجاب علیه السلام : « ارجئه حتى تلقى امامك ».

والرواية المذكورة تختلف عن الرواية الاولى من حيث عدد المرجّحات ، فبينما كانت الاولى تذكر مرجّحين هما : موافقة الكتاب ومخالفة العامة نجد هذه الرواية تذكر قبل هذين المرجّحين مرجّحين آخرين هما : -

أ - الترجيح بصفات الراوي كالأوثقية والأفقهية.

ب - الترجيح بالشهرة ، فالرواية المشهورة هي المقدّمة.

ومن هنا قد يقال بحصول المعارضة بين هذه الرواية والرواية الاولى ، فالاولى تدل على انّ عدد المرجّحات اثنان والثانية تدل أنّها أربعة ، اذن روايات العلاج بينما كانت تريد علاج التعارض بين الروايات أصبحت هي مبتلاة بالتعارض فهي أشبه بالطبيب الذي يداوي الناس وهو عليل.

هذا ولكن يمكن أن يقال انّ دلالة الرواية الثانية إن تمّت على هذين المرجّحين الجديدين - بأن دفع ما يأتي من الإشكالين الموجّهين إلى هذين

ص: 451

المرجّحين - فبإمكانها أن تتقدّم على الرواية الاولى بالتقييد ، فإنّ الرواية الاولى مطلقة حيث تدل على أنّ المدار على الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة فالموافق والمخالف هو المقدّم سواء فرض انّه يوجد قبل ذلك مرجّح آخر أو لا ، وهذا الإطلاق يقيّد بالرواية الثانية ، بأن يقال انّ الموافق للكتاب والمخالف للعامة هو المقدّم فيما إذا لم يكن الخبر الآخر مشتملا على الشهرة أو الأوثقية.

اعتراضان على الترجيح بالشهرة وصفات الراوي

هذا وقد يعترض على هذين المرجّحين ، أي الترجيح بالشهرة وصفات الراوي باعتراضين : -

1 - انّ مقبولة ابن حنظلة وإن دلّت على الترجيح بصفات الراوي والشهرة إلاّ أنّها بقرينة الفقرة الخامسة التي تقول : « ارجئه حتى تلقى امامك » تختص بزمان حضور الإمام علیه السلام ولا تعم زماننا هذا الذي هو زمان الغيبة ، وواضح انّ المهم هو زمان الغيبة لانه محل ابتلائنا.

ويمكن دفع هذا الاعتراض بوجهين : -

أ - انّ اختصاص الفقرة الأخيرة بزمان الحضور لا يشكّل بمجرّده قرينة على اختصاص الفقرات السابقة بذلك ولا يوجب تقييد إطلاقها - الشامل لزمان الغيبة والحضور - بخصوص زمان الحضور.

ب - انّ الترجيح بالأوثقية لا يحتمل اختصاصه بزمان الحضور فإنّ الأوثقية إنّما توجب الترجيح من باب أنّها تستلزم قوّة صحّة حكم الحاكم ، وواضح انّ هذه القوّة كما هي ثابتة في زمان الحضور ثابتة في زمان الغيبة ايضا. وهكذا الشهرة إنّما توجب الترجيح من باب أنّها تستلزم قوّة صحّة الرواية وذلك

ص: 452

لا يختص بعصر الحضور. هذا كلّه في الاعتراض الأوّل (1).

2 - انّ الترجيح بالصفات وبالشهرة ليسا من مرجّحات الراوي والرواية وإنّما هما من مرجّحات الحكم والحاكم فالإمام علیه السلام ذكرهما من باب انّهما مرجّحان لحكم الحاكم الأول على حكم الحاكم الثاني أو بالعكس ولم يذكرهما كمرجّحين لهذه الرواية على تلك. وواضح انّ كلامنا إنّما هو في مرجّحات إحدى الروايتين على الاخرى لا في مرجّحات حكم هذا الحاكم على الآخر.

ويمكن الجواب بأنّ الاعتراض المذكور وجيه بالنسبة إلى صفات الراوي وليس وجيها بالنسبة إلى الشهرة ، أي انّا نسلّم انّ صفات الراوي هي من مرجّحات الحكم والحاكم لا الراوي والرواية ولا نسلّم ذلك بالنسبة إلى الشهرة بل ندّعي انّ الشهرة ذكرها الإمام علیه السلام كمرجّح للراوي والرواية لا للحكم والحاكم. إذن لنا دعويان : -

أ - وجاهة الاعتراض الثاني بالنسبة إلى صفات الراوي كالأوثقية والأعدلية.

ب - عدم وجاهته بالنسبة إلى الشهرة.

الدعوى الاولى

امّا وجاهة الاعتراض الثاني بالنسبة إلى صفات الراوي فذلك باعتبار

ص: 453


1- الظاهر انّ هذا الاعتراض لا يختصّ بخصوص هذين المرجّحين - أي الصفات والشهرة - بل يعمّ المرجّحين الآخرين وهما الموافقة للكتاب والمخالفة للعامة. اللّهمّ إلاّ أن يقال انّ الموافقة للكتاب والمخالفة للعامة حيث وردتا في رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه وهي مطلقة من حيث زمان الحضور والغيبة لذا لا إشكال فيهما من هذه الناحية.

بيانين : -

أ - انّ الإمام علیه السلام أضاف الصفات إلى الحاكم دون الراوي حيث قال : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما ... » ، فانظر إلى كلمة الحكم وإلى ضمير أعدلهما وأفقههما الراجع إلى الحاكمين دون الراويين.

ب - انّ الأعدلية والأوثقية لو كانتا من مرجّحات الراوي والرواية دون الحكم والحاكم فمن المناسب تطبيق الإمام علیه السلام لهما - الأعدلية والأوثقية - على جميع الوسائط في سلسلة السند ولا أقل على خصوص الراوي المباشر عن الإمام علیه السلام ، فلو كان الراوي المباشر عن الإمام علیه السلام في الرواية الاولى زرارة وفي الثانية محمّد بن مسلم فمن المناسب ملاحظة الأعدلية والأوثقية في زرارة ومحمّد ابن مسلم أو ملاحظتهما في جميع الوسائط بينما نرى انّ الإمام لاحظهما في أوّل سلسلة السند ، أي في هذا الحاكم وذاك الحاكم.

واحتمال انّ الإمام علیه السلام طبّق ذلك على الحاكمين من باب أنّهما راويان مباشران عن الإمام علیه السلام ضعيف إذ لم يفرض فيهما ذلك ، أي انّهما راويان مباشران. ولئن كانا راويين فهما راويان غير مباشرين ، والمناسب حينئذ تطبيقهما على جميع الوسائط أو خصوص الراويين المباشرين كما هو - أي تطبيقهما على خصوص الراويين المباشرين - عمل المشهور ومقتضى القاعدة.

أمّا انّ عمل المشهور جار على ذلك - أي تطبيق الأوثقية والأعدلية على خصوص الراويين المباشرين كزرارة ومحمّد بن مسلم - فواضح فانّهم يقولون هذه الرواية مقدّمة على تلك لأنّ الراوي لها أعدل أو أوثق ويقصدون من الراوي لها مثل زرارة ومحمّد بن مسلم الذي هو راو مباشر.

ص: 454

وأمّا انّ ذلك تقتضيه القاعدة - أي انّ القاعدة تقتضي ملاحظة الأعدلية والأوثقية في خصوص الراوي المباشر دون جميع الوسائط - فباعتبار انّ المعارضة ثابتة بين زرارة ومحمّد بن مسلم ، فلو كان زرارة ينقل عن الإمام علیه السلام وجوب الجمعة ومحمّد بن مسلم ينقل حرمتها فالمعارضة ثابتة بين نقليهما ، فإنّ صلاة الجمعة موضوع واحد وأحدهما ينقل حرمته والآخر وجوبه ، وما دامت المعارضة ثابتة بين نقليهما فمن المناسب ملاحظة انّ أيّهما أعدل أو أفقه ، وبقية الوسائط لا معارضة بينها ليلاحظ انّ أيهّما أعدل أو أوثق ، فإنّ الناقل عن زرارة لا ينقل وجوب الجمعة بل ينقل انّي سمعت زرارة ، وهكذا الناقل عن محمّد بن مسلم لا ينقل حرمة الجمعة بل ينقل انّي سمعت محمّد بن مسلم ، أي انّ موضوع نقليهما ليس شيئا واحدا ليتحقق التعارض بينهما وبالتالي لتطبق الأعدلية والأوثقية عليهما بل موضوع نقل هذا مغاير لموضوع نقل ذاك.

وإن شئت قلت في تبيان وجه عدم المعارضة بين نقليهما - أي نقل الناقل عن زرارة ونقل الناقل عن محمّد بن مسلم - انّ نقل الناقل عن زرارة - لو كان زرارة هو الأعدل - حاكم ومقدّم على نقل الناقل عن محمّد بن مسلم ، ومع حكومة أحد النقلين على الآخر فلا معارضة بينهما لتلاحظ الأوثقية والأعدلية.

والوجه في حكومة نقل الناقل عن زرارة : انّ الناقل عن زرارة حينما يقول حدثني زرارة فهو كأنّه يقول حدّثني الأعدل الذي بثبوت نقله لا يكون نقل الناقل عن محمّد بن مسلم حجّة لأنّ محمّد بن مسلم حسب الفرض مفضول وليس أفضل ، والمفروض أيضا انّ حجّية نقل المفضول مشروطة بعدم المعارضة بنقل الأفضل ، وإذا كان زرارة هو الأفضل والأعدل فالناقل عنه حينما يقول

ص: 455

حدّثني زرارة فهو كأنّه يقول حدثني الأفضل وبالتالي كأنّه يقول انّ شرط حجّية نقل محمّد بن مسلم مختل لأنّ شرط حجّية نقله عدم المعارضة بنقل الأفضل - وهو زرارة - والمفروض ثبوته.

والخلاصة : انّ القاعدة تقتضي ملاحظة الأوثقية والأعدلية في الراويين المباشرين عن الإمام علیه السلام دون بقية الوسائط فإنّ نقل الناقل عن زرارة بعد كونه حاكما على نقل الناقل عن محمّد بن مسلم فلا معارضة بينهما لتلاحظ أوثقية وأعدلية أحدهما (1).

الدعوى الثانية

وأمّا عدم وجاهة الاعتراض الثاني بالنسبة إلى الشهرة فلأنّ الإمام علیه السلام وإن كان في بداية الرواية وجّه نظره إلى مرجّحات الحاكم والحكم إلاّ انّه من الفقرة الثالثة - التي ذكر فيها الشهرة - قطع نظره عن مرجّحات الحكم والحاكم وأخذ ينظر إلى مرجّحات الراوي والرواية فلاحظ تعبير الفقرة الثالثة حيث يقول علیه السلام : « ينظر إلى ما كان من روايتهما ... المجمع عليه بين أصحابك ... » أي ينظر إلى الرواية المجمع عليها (2) فيؤخذ بها وتترك الرواية غير المشهورة.

إشكال على الترجيح بالشهرة
اشارة

هذا ولكن الشهرة وإن كانت من مرجّحات الرواية لا الحكم والحاكم للبيان

ص: 456


1- لا يخفى انّ عبارة الكتاب في هذا المقام غامضة جدا وقاصرة عن أداء المطلب.
2- المقصود من المجمع عليه هو المشهور كما يتجلّى ذلك من خلال ملاحظة بقية عبائر المقبولة.

المتقدّم إلاّ أنّه مع ذلك لا يمكن عدّها من المرجّحات ، إذ إنّ كلامنا في مرجّحات إحدى الحجّتين على الحجّة الاخرى لا في مسقطات إحدى الروايتين عن الحجّية.

توضيح ذلك : انّ الرواية إذا كانت مشهورة وينقلها كثير من الرواة فذلك ممّا يوجب الاطمئنان بصدورها بل القطع وبذلك تسقط الرواية الاخرى غير المشهورة عن الحجّية ، فإنّ شرط حجّية الرواية فيما إذا كانت ظنيّة الصدور عدم معارضتها بنقل نص قطعي الصدور فيما إذا كانت المعارضة مستقرة - كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك ص 381 - 389 من الحلقة تحت عنوان روايات العرض على الكتاب.

إذن الشهرة وإن كانت من مرجّحات الرواية إلاّ أنّها ليست من مرجّحات حجّة على حجّة بل موجبة لسقوط الرواية غير المشهورة عن الحجّية ، وكلامنا في المرجّح دون المسقط.

أجل لو فرض انّ الشهرة لم تكن بمعنى اشتهار نقل الرواية بل بمعنى اشتهار الفتوى على طبقها بين العلماء فهي لا توجب الاطمئنان أو القطع بصدور الرواية ، ولكن الظاهر انّ المقصود من الشهرة هو شهرة الرواية من حيث نقلها لا شهرة العمل بها لأنّ الشهرة لم تنسب في المقبولة إلى العمل بل إلى نفس الرواية.

إن قلت : انّ الشهرة إذا كانت موجبة للقطع بصدور الرواية فمن المناسب ذكرها في المقبولة أوّل المرجّحات والحال انّ الإمام علیه السلام عدّ أوّل المرجّحات صفات الراوي وهي الأعدلية وأخواتها وعدّ ثاني المرجّحات الشهرة ، وهذا ليس مناسبا لأنّ اعمال الإمام علیه السلام للترجيح بصفات الراوي في المرحلة الاولى يدلّ على أنّه علیه السلام قد فرض كلتا الروايتين حجّة وأراد ترجيح إحداهما على الاخرى بالأوثقية وأخواتها ، ومن الواضح انّ هذا - أي فرض كلتا الروايتين

ص: 457

حجّة - يتنافى وكون إحدى الروايتين مشهورة والاخرى غير مشهورة بناء على كون الشهرة من موجبات سقوط الرواية غير المشهورة عن الحجّية.

قلت : صحيح انّ المناسب ذكر الشهرة في بداية المرجّحات والإمام علیه السلام قد فعل ذلك أيضا أي أنّه ذكر الشهرة أوّل المرجّحات. ووجه ذلك واضح فإنّ مرجّحات الرواية ابتدأ بها الإمام علیه السلام من الفقرة الثالثة التي تشتمل على الشهرة ، وأمّا صفات الراوي التي ذكرها قبل ذلك فلم يذكرها من باب مرجّحات الرواية بل من باب أنّها مرجّحة لأحد الحاكمين على الآخر فكأنّ الإمام علیه السلام يريد أن يقول انّه عند تعارض الحاكمين لا بدّ من ترجيح الأوثق والأعدل ، وعند التساوي من هذه الناحية لا بدّ من إعمال المرجّحات بين الروايات وأوّلها الشهرة.

النتيجة المقبولة

ومن خلال كل هذا يتّضح انّ المرجّحين الإضافيين اللذين تشتمل عليهما المقبولة ، وهما الترجيح بالصفات والترجيح بالشهرة لا يمكن عدّهما من المرجّحات.

أمّا الترجيح بالصفات فباعتبار أنّه من مرجّحات الحاكم دون الرواية.

وأمّا الشهرة فباعتبار أنّها من مسقطات الرواية غير المشهورة عن الحجّية وليست من مرجّحات حجّة على حجّة.

الرواية الثالثة
اشارة

والرواية الثالثة من الروايات الدالة على المرجّحات رواية زرارة التي نقلها

ص: 458

ابن أبي جمهور الاحسائي في كتابه غوالي اللئالي عن العلاّمة الحلّي قدس سره (1) ، والعلاّمة بدوره رفعها إلى زرارة من دون ذكر السند ، ومن هنا سمّيت الرواية المذكورة بمرفوعة زرارة.

والرواية هذه تشتمل على خمس فقرات هي : -

1 - يأتي عنكم الخبران المتعارضان. فقال علیه السلام : خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر.

2 - فقال زرارة هما متساويان من هذه الناحية. فقال علیه السلام : خذ بالأعدل والأوثق.

3 - فقال هما متساويان من هذا الجانب. فقال علیه السلام : خذ بما خالف العامة.

4 - فقال هما متساويان : فقال علیه السلام : خذ بالخبر الموافق منهما للاحتياط.

5 - فقال هما متساويان. فقال علیه السلام : إذن فتخيّر أحدهما.

ومن خلال هذا يتّضح انّ عدد المرجّحات المذكورة في هذه الرواية أربعة وهي بالترتيب التالي : الشهرة ، صفات الراوي ، مخالفة العامة ، موافقة الاحتياط. وفي حالة التساوي من جهة جميع هذه المرجّحات حكم علیه السلام بالتخيير.

وقد يعترض على هذه الرواية بنفس الاعتراض المذكور في المقبولة فيقال انّها ذكرت أوّل المرجّحات الشهرة والحال أنّها ليست من المرجّحات إذ إحدى الروايتين إذا كانت مشهورة في مقام النقل فالاخرى التي هي غير مشهورة تسقط عن الحجّية ، لأنّ شرط حجّية الرواية ذات السند الظني عدم معارضتها

ص: 459


1- جامع أحاديث الشيعة الجزء الأوّل أبواب المقدّمات ص 62.

بنص قطعي الصدور - فيما إذا كانت المعارضة مستقرة - كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك تحت عنوان روايات العرض على الكتاب. وعليه فالشهرة ليست من المرجّحات بل من مسقطات الرواية غير المشهورة عن الحجّية.

ويردّه : انّ الشهرة في هذه الرواية لا نفسّرها بشهرة النقل الموجبة للقطع بالصدور بل بشهرة العمل على طبق الرواية ، وواضح انّ شهرة العمل على طبق الرواية لا توجب القطع بالصدور.

وممّا يدل على أنّ المقصود من الشهرة هو شهرة العمل لا شهرة النقل انّ زرارة فرض بعد ذلك إنّ كلتا الروايتين مشهورة وأيضا الإمام علیه السلام أخذ بإعمال المرجّحات الاخرى بعد افتراض زرارة شهرتهما معا ، وواضح انّ الشهرة إذا كانت شهرة في النقل وموجبة للقطع بالرواية فكيف فرض زرارة كلتا الروايتين قطعية!! انّ هذا معناه القطع بالمتنافيين وهو مستحيل (1).

وأيضا مع فرض كون كلتا الروايتين قطعية لا معنى لإعمال الترجيح بالأوثقية وأخواتها من صفات الراوي ، فإنّ الأوثقية إنّما عدّت من المرجّحات لأنّها توجب قوة احتمال صدور الرواية ، ومع افتراض القطع بصدور الرواية لا يكون احتمال الصدور ضعيفا ليحاول تقويته بالأوثقية.

هذا ولكن الذي يهوّن الخطب انّ الرواية المذكورة ضعيفة السند ، إذ سند العلاّمة إلى زرارة غير معلوم. وقد طعن في هذه الرواية (2) الشيخ يوسف

ص: 460


1- يمكن أن يقال انّ القطع بصدور الروايتين لا يستلزم القطع بتحقّق المتنافيين لاحتمال كون الدلالة ظنّية ، ولعلّه من أجل هذا لم يشر في عبارة الكتاب إلى لزوم المحذور المذكور.
2- كما نقل ذلك الشيخ الأعظم في رسائله.

البحراني - الذي ليس دأبه الطعن - في نفس الرواية وفي مؤلف غوالي اللئالي وفي الكتاب نفسه.

هذا مضافا إلى أنّ اقتصار ابن أبي جمهور على نقل الرواية عن العلاّمة وعدم نقل غيره لها عن العلاّمة بل ولا نقل العلاّمة نفسه لها في كتبه الكثيرة يصلح أن يكون مؤشرا قويا إلى ضعفها.

نتيجة ما تقدّم

والنتيجة من كل ما تقدّم هو انّ عدد المرجّحات اثنان هما : الموافقة للكتاب والمخالفة للعامة ، إذ الرواية الثالثة وهي المرفوعة ضعيفة السند ، والمقبولة وإن ذكرت مرجّحين إضافيين - الترجيح بالصفات والترجيح بالشهرة - إلاّ أنّ الترجيح بالصفات هو من مرجّحات الحاكم ، والشهرة ليست من المرجّحات بل من المسقطات. وعليه فمتى ما توفّر هذان المرجّحان - الموافقة والمخالفة - أخذ بهما وإلاّ فيرجع بعد تعارض الروايتين وفقدان المرجّح إلى ما تقتضيه القاعدة وهو التساقط (1).

وفي الختام
اشارة

وفي الختام نذكر عدّة نقاط : -

ص: 461


1- فإنّه وإن ذكر قدس سره ابتداء انّ القاعدة تقتضي حجّية كل من الخبرين بنحو مشروط إلاّ أنّه بعد ذلك رجع إلى ما تبنّاه المشهور وهو التساقط
النقطة الاولى

انّ من هجر أخبار الترجيح وحملها على استحباب إعمال المرجّحات وأخذ بإخبار التخيير - كالآخوند (1) - وقع الخلاف بينهم في أنّ التخيير هل هو منسوب إلى الحجّية بحيث يكون التخيير تخييرا في حجّية أحد الخبرين أو هو منسوب إلى العمل بحيث يكون المكلّف مخيّرا في العمل بأحد الخبرين.

فإن كان التخيير منسوبا إلى الحجّية فحيث انّ الحجّية حكم اصولي فيكون التخيير تخييرا في المسألة الاصولية ، وأمّا إذا كان التخيير منسوبا إلى العمل فهو حكم فرعي فقهي ، إذ يكون حاله حال التخيير بين شرب الماء وتركه فكما انّ هذا تخيير في مقام العمل وهو حكم فقهي كذلك التخيير في العمل بهذا الخبر أو ذاك يكون حكما فقهيا.

وقد تسأل عن الفارق العملي بين التخييرين.

والجواب : انّ التخيير في الحجّية يمكن أن يقال باختصاصه بالمجتهد ولا يعمّ العامي ، لأنّ الحجّية حكم اصولي فإذا قيل باختصاص الأحكام الاصولية بالمجتهد وعدم عموميّتها للعامي لزم كون التخيير بالالتزام بأحد الخبرين مختصا بالمجتهد فإذا فرضنا انّ أحد الخبرين يدلّ على وجوب الجمعة والآخر على حرمتها واختار المجتهد الخبر الأوّل الدالّ على الوجوب فسوف يفتي مقلّديه

ص: 462


1- وأمّا السيد الشهيد فهو لم يقل بالتخيير بل قال بلزوم إعمال المرجّحات - أي موافقة الكتاب ومخالفة العامة - عند وجودها وإلاّ فيتمسّك بالقاعدة وهي التساقط ، وأمّا التخيير فلا ينتهى إليه.

بوجوب الجمعة ، وبذلك يتعيّن على مقلّديه الإتيان بصلاة الجمعة ولا يحقّ لهم تركها ، وهذا بخلافه في التخيير العملي ، فإنّه لا يختص بالمجتهد بل يعمّ العامي ، ويمكن للمجتهد أن يفتي مقلّديه بالتخيير في العمل بأحد الخبرين فإذا اختار العامي الخبر الدال على الوجوب لزمه أداء الجمعة بينما لو اختار الخبر الآخر لزمه تركها ، ولعلّ المجتهد يختار الخبر الدال على الوجوب فيلزمه أداء الجمعة بينما العامي يختار الخبر الدال على الحرمة فيتعيّن عليه تركها.

كما وانّه يلزم بناء على كون التخيير تخييرا في الحجّية ان المجتهد إذا اختار الخبر الأول ثبت مضمونه - وهو الوجوب - في حقّه وجاز له نسبته إلى اللّه سبحانه بأن يقول انّ حكم اللّه سبحانه هو الوجوب ، وامّا بناء على كون التخيير تخييرا في العمل فلا يصح له نسبة الوجوب إلى اللّه سبحانه إذ المكلّف مخيّر في مقام العمل ولا تكون حجّية أحد الخبرين ثابتة في حقّه ليسوغ له نسبة مؤداه إلى اللّه سبحانه.

ثمّ إنّه ما دمنا ننكر القول بالتخيير من الأساس فلا داعي لتحقيق انّ الحقّ هو نسبة التخيير إلى الحجّية أو نسبته إلى العمل.

النقطة الثانية

وأيضا اختلف القائلون بالتخيير في أنّه ابتدائي أو استمراري ، يعني انّ المجتهد لو اختار الخبر الأوّل الدالّ على وجوب الجمعة مثلا فهل له بعد ذلك حق اختيار الخبر الثاني الدالّ على الحرمة. وهكذا العامي لو اختار الخبر الأوّل مثلا فهل له الحقّ في اختيار الخبر الثاني؟ فإن كان له الحقّ في ذلك فالتخيير إذن

ص: 463

استمراري ، وإن لم يكن له الحقّ المذكور فهذا معناه انّ التخيير ابتدائي ثابت ابتداء وليس مستمرا.

وقد اختار البعض انّه استمراري وتمسّك لذلك بالاستصحاب ، أي أنّه لو اختير الخبر الأوّل مثلا وشكّ في بقاء حقّ اختيار الخبر الثاني استصحب بقاء حقّ الاختيار.

ويمكن التعليق على ذلك بأنّ التخيير لو كان تخييرا في الحجّية فجريان الاستصحاب قابل للتأمّل ، وأمّا لو كان تخييرا في العمل بأحد الخبرين فلا محذور في استصحابه.

أمّا انّ التخيير لو كان تخييرا في الحجّية فاستصحابه قابل للتأمّل فذاك باعتبار أنّ استصحاب حق التخيير استصحاب تعليقي ، وقد تقدم تأمّل البعض في جريانه.

والوجه في كونه تعليقيا ان حقّ التخيير في الحجّية يرجع في روحه إلى أنّ المكلّف لو اختار الخبر الأوّل كان هو الحجّة في حقّه ، ولو اختار الخبر الثاني كان هو الحجّة في حقّه ، فالمكلّف إذا اختار في اليوم الأوّل الخبر الأوّل وشكّ في اليوم الثاني في بقاء حق اختيار الخبر الثاني فهذا معناه أنّه يشكّ في اليوم الثاني في أنّه لو اختار الخبر الثاني فهل يكون حجّة في حقّه أو لا ، وحينئذ يجري الاستصحاب ويقول في اليوم الثاني : انّ الخبر الثاني كان هو الحجّة في حقّي قبلا - أي قبل اختيار الخبر الأوّل - لو اخترته والآن - أي بعد اختيار الأوّل - لو شككت في بقاء ذلك استصحبته فيثبت بذلك في اليوم الثاني انّي إن اخترت الخبر الثاني فهو الحجّة في حقّي ، وواضح انّ هذا الاستصحاب تعليقي ، إذ المستصحب - وهو إن

ص: 464

اخترت الخبر الثاني كان هو الحجّة في حقّي - قضية تعليقية تشتمل على كلمة « إن » الشرطية (1).

وامّا انّ التخيير لو كان تخييرا في العمل فاستصحابه يجري بلا محذور فذاك من جهة انّ التخيير في العمل بأحد الخبرين يشبه تماما تخيّر المكلّف في فعل شرب الماء وتركه ، فكما انّ هذا التخيير عبارة اخرى عن الإباحة التي هي حكم فعلي غير تعليقي ويجوز استصحابه دون أي محذور كذلك التخيير في العمل بأحد الخبرين هو عبارة اخرى عن إباحة العمل بهذه الرواية أو بتلك التي هي حكم فعلي تنجيزي.

ثمّ انّه مادمنا ننكر القول بالتخيير من الأساس فالبحث عن كون التخيير ابتدائيا أو استمراريا يكون بلا داعي.

النقطة الثالثة

إذا تمّت دلالة روايات التخيير على التخيير وهكذا تمت دلالة روايات الترجيح على لزوم إعمال المرجّحات كموافقة الكتاب ومخالفة العامة فسوف يقع

ص: 465


1- قد يقال إن بالإمكان إجراء الاستصحاب بنحو لا يكون تعليقيا بل تنجيزيا ، وذلك بأن يقول المكلّف انّ الخبر الثاني كان لي حقّ اختياره سابقا والآن استصحب بقاء حقّ الاختيار ، ومثل هذا الاستصحاب تنجيزي لأنّ المستصحب - وهو حقّ اختيار الخبر الثاني - ليس أمرا تعليقيا مشتملا على « إن » الشرطية. والجواب : انّ حقّ اختيار الخبر الثاني وإن كان بحسب الصورة أمرا تنجيزيا وليس تعليقيا إلاّ أنّه بحسب الروح تعليقي ، فإن كون المكلّف له حقّ اختيار الخبر الثاني معناه أنّه إن اختار الخبر الثاني كان هو الحجّة في حقّه.

التعارض بينهما ، إذ الاولى تحكم بلزوم التخيير وترفض إعمال المرجحات بينما الثانية تقتضي العكس.

فبينما هي تريد علاج التعارض بين الروايات نجد ابتلائها هي في نفسها بالتعارض فهي كما قلنا سابقا أشبه بطبيب يداوي الناس وهو عليل.

ومن هنا يقع التسأوّل عن كيفية علاجها ورفع التعارض الواقع فيما بينها.

واختار الشيخ الآخوند في العلاج حمل روايات الترجيح على الاستحباب فقال انّ روايات الترجيح تدل على أنّ إعمال المرجّحات شيء مستحسن وليس بلازم ، وهذا لا ينافي التخيير الذي حكمت به روايات التخيير. واستشهد على ما ذكره بعدّة قرائن من جملتها انّ الروايات التي تذكر المرجّحات اختلفت في عدد المرجّحات فبعضها يذكر أربعة مرجّحات وبعضها يذكر أقل من ذلك ، وهكذا تختلف في كيفية ترتيب المرجّحات ، فبعضها يقدّم هذا ويؤخر ذاك وبعضها يقدّم ويؤخر بالعكس ، وهذا الاختلاف في الكم والكيف شاهد صدق على أنّ إعمال المرجّحات شيء مستحب وليس بواجب. هذا ما ذكره الآخوند.

ويردّه : انّ حمل الأحكام الإرشادية على الاستحباب شيء مرفوض عرفا وإنّما القابل لذلك هو الأحكام التكليفية ، فمثلا لو قال أحد الدليلين لا بأس بشرب العصير العنبي المغلي وقال الدليل الآخر العصير العنبي نجس فلا يقبل العرف حمل الدليل الثاني على استحباب النجاسة ، فإنّ النجاسة لا معنى لحملها على الاستحباب ، وهذا بخلاف ما لو كان الدليل الثاني يقول لا تشرب العصير العنبي ، فانّه لا يأبى عن حمله على كراهة شرب العصير. وهكذا الحال في المقام ، فإنّ روايات الترجيح التي تأمر بالأخذ بالخبر الموافق للكتاب أو المخالف للعامة

ص: 466

هي مرشدة إلى حجّية الخبر الموافق للكتاب أو المخالف للعامة ، ومن الواضح انّ العرف يأبى عن حمل ذلك على الاستحباب فلا معنى لاستحباب حجّية الموافق أو المخالف.

وعلى هذا فالصحيح في توجيه الجمع بين الروايات هو تطبيق قانون الإطلاق والتقييد ، فإنّ الروايات الآمرة بالتخيير مطلقة وتدل بإطلاقها على أنّ الحكم بالتخيير يعمّ حالة وجود المرجّح وحالة عدمه فتقيد بصورة فقدان المرجّح وتصير النتيجة : تخيّر إن لم يكن مرجّح.

النقطة الرابعة

انّ الأخبار التي تأمر بالتخيير أو التي تأمر بإعمال المرجّحات - وبكلمة جامعة : اخبار العلاج - هل تختص بصورة التعارض المستقر التي لا يمكن فيها الجمع العرفي - كما في المتباينين أو العامين من وجه - أو تعمّ صورة الجمع العرفي أيضا التي يكون التعارض فيها غير مستقر كما هو الحال في العام والخاص المطلق؟

نسب إلى الشيخ الطوسي في استبصاره وعدّته عمومية الأخبار لموارد الجمع العرفي فإذا ورد حديث عام والآخر خاص رجّح العام إن كان مخالفا للعامة أو موافقا للكتاب ، ومع التساوي يتخيّر في العمل بأحدهما. والمستند لهذا الرأي ليس إلاّ التمسّك بالإطلاق وعدم تقييد اخبار العلاج بصورة عدم إمكان الجمع العرفي.

وفي مقابل ذلك قيل بالاختصاص بموارد عدم إمكان الجمع العرفي. واستدل

ص: 467

على ذلك بأنّ ظاهر أخبار العلاج تحيّر السائل عند مواجهته للخبرين المتعارضين ، فانظر إلى قول زرارة في مرفوعته : « يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ » ، إنّ تعبيره هذا واضح في تحيّره ، ومعلوم أنّه في موارد العام والخاص التي يجمع فيها العرف بالتخصيص لا تحيّر للعرف بل يخصّص العام بالخاصّ ، وهذا قرينة واضحة على اختصاص اخبار العلاج بالمتعارضين اللذين يتحيّر العرف اتجاههما ، ولا يكون ذلك إلاّ في موارد التعارض المستقر كالمتباينين أو العام والخاص من وجه.

هذا ولكن الأولى الاستشهاد على اختصاص اخبار العلاج بموارد التعارض المستقر ببيان آخر (1) حاصله : انّه لو رجعنا إلى رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه التي تقول : « إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب اللّه فما وافق كتاب اللّه فخذوه وما خالف كتاب اللّه فردّوه ... » (2) لاستفدنا منها انّ الخبر لا يسقط عن الحجّية بمجرّد مخالفته للقرآن الكريم فلو لا وجود الخبر الثاني المعارض له لكان من اللازم الأخذ به وإنّما الذي أوجب التوقّف عن الأخذ

ص: 468


1- إذ البيان السابق يمكن التأمّل فيه من ناحية أنّه في موارد التعارض غير المستقر وإن كان لا تحيّر للعرف اتجاه المتعارضين حيث يجمع بينهما بالتخصيص مثلا إلاّ أنّ السائل كزرارة يحتمل عدم رضا الشارع بطريقة الجمع العرفي ولذلك سأل عن الموقف الشرعي. هذا مضافا إلى أنّ بعض الروايات لم يسأل فيها الراوي عن حكم المتعارضين ليقال بأنّ سؤاله ظاهر في التحيّر بل ابتدأ الإمام عليه السلام ببيان حكم المتعارضين وتقديم الموافق أو المخالف كما هو الحال في الرواية الاولى أي رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه.
2- عدم الاستشهاد بالرواية الثانية والثالثة يتّضح من خلال مراجعتهما.

به هو معارضته بالخبر الآخر - إذ لو كانت معارضته للقرآن الكريم بمجرّدها توجب سقوطه عن الحجّية حتّى ولو لم يكن له خبر معارض لكان من اللازم أن يقول الإمام علیه السلام : إذا ورد عليكم خبر مخالف للكتاب فدعوه حتّى وإن لم يكن هناك خبر ثان معارض له - ولازم هذا ان تكون مخالفة الخبر للكتاب الكريم بشكل ومخالفته للخبر الثاني بشكل ثان ، إذ لو كانت المخالفتان من نمط واحد ، بأن كانت مخالفة الخبر للكتاب الكريم بنحو العموم والخصوص المطلق ، وهكذا مخالفته للخبر الثاني كانت بهذا النحو لما كان وجه للتأمّل في حجّية الخبر من ناحية معارضته للخبر الثاني ، إذ كما انّ مخالفته للكتاب الكريم لم توجب التأمّل في حجّيته فكذاك مخالفته للخبر الثاني يلزم أن لا توجب ذلك.

وإذا ثبت انّ مخالفة الخبر للكتاب الكريم تغاير مخالفته للخبر الثاني فنقول : انّ مخالفة الخبر للكتاب الكريم بما انّها بنحو العموم والخصوص المطلق - إذ لو كانت بنحو التباين أو العموم من وجه فمن اللازم سقوطه عن الحجّية في نفسه حتّى ولو لم يكن له معارض لما تقدّم من أخبار العرض التي تقول ما خالف قول ربّنا فهو زخرف - فلا بدّ وأن تكون مخالفته للخبر الثاني امّا بنحو التباين أو بنحو العموم من وجه ، أي لا بدّ وأن تكون المعارضة بنحو مستقر. وبهذا يثبت المطلوب وهو انّ اخبار العلاج لا تشمل إلاّ الخبرين اللذين بينهما معارضة مستقرة.

النقطة الخامسة

انّ التعارض المستقر تارة يكون مستوعبا ، كما هو الحال في المتباينين ،

ص: 469

واخرى يكون غير مستوعب ، كما هو الحال في العامين من وجه.

والقدر المتيقن من اخبار العلاج هو الخبران المتعارضان بنحو التباين.

ولكن هل تشمل العامين من وجه أيضا أو لا؟ قد يقال بعدم شمولها لهما ، فإنّ من جملة المرجحات الترجيح بالأوثقية وأخواتها التي هي مرجحات صدور إحدى الروايتين ، ومثل هذا المرجّح - أي المرجّح الصدوري - لو شمل أحد الخبرين ، بأن فرض كون راويه أوثق فقدّم من حيث الصدور وحكم بعدم صدور الخبر الآخر الذي راويه ليس بأوثق فحينئذ نسأل هل ان الخبر غير الأوثق يحكم بعدم صدوره من حيث مادة الاجتماع - التي هي مادة التعارض - ومادتي الافتراق أو يقال بسقوطه من حيث مادة الاجتماع فقط؟ وكلاهما باطل.

أمّا طرحه من حيث مادة الاجتماع ومادتي الافتراق فذاك لأنّه بلا موجب ، إذ أقصى ما يقتضيه التعارض هو سقوط الخبر غير الأوثق في مادة المعارضة ، وأمّا سقوطه في مادتي الافتراق فهو بلا داع.

وامّا طرحه من حيث مادة الاجتماع فقط فذاك من ناحية أنّه يلزم التفكيك في الصدور الواحد ، فإنّ الخبر إذا كان صادرا فهو صادر بلحاظ مادة الاجتماع ومادتي الافتراق ، وإن كان غير صادر فهو غير صادر بلحاظ مادة الاجتماع ومادتي الافتراق ، وامّا كونه صادرا بلحاظ مادتي الافتراق وعدم كونه صادرا بلحاظ مادة الاجتماع فهو غير ممكن.

هكذا قد يقال في وجه عدم شمول أخبار العلاج للعامين من وجه.

بيد انّ السيد الخوئي في مباني الاستنباط ج 1 ص 498 نقل عن شيخه النائيني القول بالتفصيل بين المرجّحات الصدورية والمرجحات المضمونية ،

ص: 470

فالمرجّحات الصدورية كالترجيح بالأوثقية لا يمكن أن تشمل العامين من وجه لما تقدّم من المحذور ، وهو أنّ سقوط غير الأوثق بلحاظ كلتا المادتين بلا موجب (1) وبلحاظ مادة الاجتماع فقط غير ممكن (2).

وأمّا سقوط المرجّحات المضمونية كالترجيح بموافقة الكتاب أو مخالفة العامة - فإنّ مضمون الخبر هو الذي يتّصف بأنّه موافق للكتاب أو مخالف للعامة - فلا محذور في شمولها للعامين من وجه فيمكن أن يقال انّ دلالة الخبر المخالف للكتاب لا يؤخذ بها في مادة الاجتماع ويؤخذ بها في مادة الافتراق ، إذ دلالة الخبر متعدّدة فله دلالة في مادة الاجتماع ودلالة اخرى في مادة الافتراق ، ولا محذور في الأخذ بأحدى الدلالتين وطرح الاخرى.

قوله ص 397 س 11 : حكما : بفتح الحاء والكاف والميم.

قوله ص 397 س 12 : رد : فعل ماضي.

قوله ص 398 س 2 : المجمع عليه : أي المشهور بقرينة قوله فيما بعد : ويترك

ص: 471


1- بل الموجب موجود ، فإنّ أخبار العلاج إذا كان لها إطلاق يشمل العامين من وجه يدلّ على سقوط الخبر غير الأوثق من حيث مادة الاجتماع ومادة الافتراق معا فسقوطه في كلتيهما يكون مع الموجب وهو إطلاق أخبار العلاج وشمولها للعامين من وجه. وهذا هو وجه تضعيف كلام النائيني الذي يستشعر _ التضعيف _ من تعبير السيّد الشهيد : « وقد نقل ... ».
2- بل هو ممكن لما تقدّم ص 376 من الحلقة من عدم المحذور في سقوط السند الواحد بلحاظ مادة الاجتماع فقط. والوجه في ذلك انّ التعبّد سهل المؤونة فيمكن التعبّد بصدور الخبر بلحاظ مادة الاجتماع دون مادة الافتراق.

الشاذ الذي ليس بمشهور.

قوله ص 398 س 4 : فإنّ المجمع الخ : لا داعي لنقل هذه الجملة إلى قوله :

« إلى اللّه » إلاّ التبرّك.

قوله ص 398 س 10 : حكامهم : يقرأ بالرفع. وقوله : « الخبرين » مفعول به.

قوله ص 399 س 3 : بوجوه : المناسب : بوجهين.

قوله ص 399 س 12 : وتأكيد موردها : عطف تفسير للكاشفية.

قوله ص 400 س 2 : كالترجيح بالشهرة : المناسب التعبير : وليس صحيحا بالنسبة إلى الشهرة ، فإنّ غير الصفات الذي يكون موردا للإشكال ليس هو إلاّ الشهرة - كما يستفاد ذلك من قوله ص 399 س 3 « وبالشهرة » وأيضا قال : « هذين الترجيحين » - وإلاّ فالموافقة للكتاب والمخالفة للعامة لم يعمّم الإشكال لهما من ناحية انّ رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه قد دلّت على الترجيح بهما بدون أن يرد عليها أي إشكال.

قوله ص 400 س 11 : كما هو عمل المشهور : أي تطبيق الترجيح بالصفات على خصوص الراوي المباشر عن الإمام علیه السلام .

قوله ص 400 س 16 : اختلاف : الصواب : اختلال.

قوله ص 401 س 5 : وغيرها : المناسب حذف ذلك.

قوله ص 402 س 12 : أو الحديثان : لعلّ الفارق بين الخبرين والحديثين انّ الثاني خاص بالرواية المنقولة عن النبي صلی اللّه علیه و آله بخلاف الأوّل. ويحتمل أنّ الثاني يختصّ بالرواية القطعية الصدور بخلاف الأوّل.

قوله ص 403 س 4 : موافقان للاحتياط : بأن كان أحدهما دالاّ على

ص: 472

الحرمة والآخر على الوجوب. امّا إذا كان أحدهما دالاّ على إباحة الشيء والآخر على حرمة ذلك الشيء فالخبر الدالّ على الإباحة يكون مخالفا للاحتياط فإنّ الاحتياط يقتضي الترك بينما الدال على الحرمة موافق للاحتياط. وإذا كان كلاهما دالاّ على الإباحة فكلاهما يكون مخالفا للاحتياط.

قوله ص 405 س 3 : سابقا : أي قبل اختيار الخبر الأوّل.

قوله ص 405 س 3 : وهو الآن : أي بعد اختيار الخبر الأوّل.

قوله ص 405 س 3 : استصحابا : مفعول لأجله.

قوله ص 405 س 3 : وعلى أي حال : أي سواء كان الاستصحاب تعليقيا أم تنجيزيا.

قوله ص 406 س 6 : وبقطع الخ : المقصود : أي وبقطع النظر الخ.

قوله ص 407 س 7 : رأسا : أي في مادة الاجتماع والافتراق.

تمّ هذا الشرح بيد الفقير إلى رحمة ربّه الغني باقر الايرواني في اليوم الخامس والعشرين من شهر رجب عام ألف وأربعمائة واثني عشر هجرية 25 / رجب المرجب / 1412 ه في بلدة قم الطيبة. واشكر اللّه سبحانه على هذا التوفيق.

ص: 473

ص: 474

محتويات الكتاب

الموضوع / الصفحة

الاستصحاب... 5

تحديد الاستصحاب... 7

قاعدة اليقين والمقتضي والمانع... 7

أدلة الاستصحاب... 9

الرواية الاولى... 10

الرواية الثانية... 12

اإشكال وجواب... 22

تفصيل الكلام في فقرتي الاستدلال... 24

الفقرة الاولى... 24

الجهة الاولى... 24

الجهة الثانية... 26

الجهة الثالثة... 30

الجهة الرابعة... 31

ص: 475

الموضوع / الصفحة

الفقرة الثانية... 32

الرواية الثالثة... 37

اعتراضات على الرواية الثالثة... 38

الاعتراض الأوّل... 38

الاعتراض الثاني... 39

ردود على الاعتراض الثاني... 41

الردّ الأوّل... 41

الرد الثاني... 43

الرد الثالث... 46

حمل الرواية على قاعدة الاشتغال اليقيني... 48

الاعتراض الثالث... 50

الرواية الرابعة... 53

روايات اخرى... 54

مقامات خمسة... 55

الاستصحاب... 57

أصل أو امارة... 57

الاستصحاب أصل أو امارة... 59

عود إلى عرض المشكلة... 63

وماذا يكون الاستصحاب بعد هذا... 64

كيفية الاستدلال بالاستصحاب... 66

ص: 476

الموضوع / الصفحة

أركان الاستصحاب... 73

أركان الاستصحاب... 75

الركن الأول أو اليقين السابق... 77

جواب الميرزا... 78

جواب الآخوند... 80

جواب جملة من المحقّقين... 84

جواب السيد الشهيد... 85

موارد العلاج... 86

الصورة الاولى... 87

الصورة الثانية... 89

الصورة الثالثة... 90

الصورة الرابعة... 91

الخلاصة... 92

بعض الصور لا يجري فيها الاستصحاب البديل... 93

الركن الثاني أو الشكّ في البقاء... 97

المورد الأوّل... 97

المورد الثاني... 101

صياغة جديدة للركن الثاني... 106

الشبهات الحكمية في ضوء الركن الثاني... 111

ص: 477

الموضوع / الصفحة

الركن الثالث أو وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة... 115

الإشكال في الشبهات الموضوعية... 116

الإشكال في الشبهات الحكمية... 118

الركن الرابع أو الأثر العملي... 127

الصيغة الثالثة... 127

الصيغة الثانية... 128

الصيغة الاولى... 129

عود إلى الصيغة الثانية... 132

عود إلى الصيغة الثالثة... 135

الأصل المثبت... 143

مقدار ما يثبت بالاستصحاب... 145

الآثار الشرعية... 149

الكلام على الإحتمال الأوّل... 149

الكلام على الإحتمال الثاني... 151

الكلام على الاحتمال الثالث... 154

عودة إلى الإحتمال الثاني... 154

الآثار غير الشرعية... 156

إتضح مما سبق... 158

استثناء مما تقدم... 158

ص: 478

الموضوع / الصفحة

بناء على امارية الاستصحاب... 159

تفصيل الشيخ الأعظم والنراقي... 163

عموم جريان الاستصحاب... 165

القول الأوّل... 165

القول الثاني... 168

الجواب عن التفصييل المذكور... 171

الجواب عن مشكلة الشيخ العراقي... 173

الجواب عن تفصيل السيد الخوئي... 175

الاستصحاب التعليقي... 179

استصحاب الحكم المعلق :... 181

تنبيه مهم... 183

الاعتراضات على الاستصحاب التعليقي... 184

الاعتراض الأوّل... 184

جوابان عن الاعتراض الأوّل... 185

الرد على الشيخ العراقي... 188

الجواب عن الاعتراض الأوّل... 190

الاعتراض الثاني... 191

جوابان عن الاعتراض الثاني... 192

الاعتراض الثالث... 194

ص: 479

الموضوع / الصفحة

جوابان عن الاعتراض الثالث... 195

استصحاب عدم النسخ... 203

استصحاب عدم النسخ... 205

الشكّ في نسخ الجعل على قسمين... 206

جوابان عن إشكال الاستصحاب... 210

استصحاب الكلّي... 213

استصحاب الكلي... 215

عودة إلى الكتاب... 217

الكلام في جهتين... 218

الجهة الاولى... 218

الاشكال في باب الموضوعات... 220

إحتمالان في رأي الرجل الهمداني... 222

نسبة الأب إلى الأبناء المتعدّدين... 222

عودة إلى الكتاب... 223

الفارق بين استصحاب الكلّي واستصحاب الفرد... 225

أقسام استصحاب الكلّي الثلاثة... 229

القسم الأوّل من استصحاب الكلي... 231

الشكّ في بقاء الكلّي الناشئ من حدوث الفرد... 232

القسم الثاني من استصحاب الكلي... 233

الاعتراض الأوّل... 233

ص: 480

الموضوع / الصفحة

الاعتراض الثاني... 234

الاعتراض الثالث :... 235

الاعتراض الرابع... 236

الاعتراض الخامس... 237

القسم الثالث من استصحاب الكلّي... 238

الاستصحاب في الموضوعات المركّبة... 243

الاستصحاب في الموضوعات المركبة... 245

حالتان لتركّب الموضوع... 246

الحالة الاولى... 246

الحالة الثانية... 247

النقطة الاولى... 248

النقطة الثانية... 254

الحالة الاولى... 255

الحالة الثانية... 256

ينبغي أن لا يخفى... 260

الحالة الثالثة... 261

النقطة الثالثة... 262

صور ثلاث... 264

دليل القول الاّول... 266

ص: 481

الموضوع / الصفحة

مناقشة القول الأوّل... 267

وجاهة القول الثاني... 271

القول الثالث هو الصحيح... 272

جريان الاستصحاب في الصورة الثانية... 273

شبهة انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين... 277

الفارق بين التفسيرين... 280

مناقشة التفسير الثاني... 281

تفسيران آخران... 283

تعارض الأدلّة الشرعية... 287

البحث عن الخاتمة :... 289

ما هو التعارض المصطلح :... 289

لا تعارض بين الاصلين... 291

لا تعارض بين الأصل والدليل المحرز... 293

لا تعارض بين القطعيين... 293

اقسام ثلاثة للدليل الظني... 294

وهن قاعدة الجمع اولى من الطرح... 295

ظهور الحال... 296

الدليلان غير اللفظيين... 296

الورود والتعارض... 299

ص: 482

الموضوع / الصفحة

تقسيم الورود... 301

تقسيم ثاني للورود... 302

قاعدة الجمع العرفي... 309

النظريّة العامّة للجمع العرفي... 310

أقسام الجمع العرفي والتعارض غير المستقر... 315

الحكومة... 315

اقسام النظر... 318

مقارنة بين الاتجاهين... 319

التقييد... 320

التخصيص... 324

نقطتان وقع الخلاف فيهما... 325

كبرى انقلاب النسبة... 327

أحكام عامة للجمع العرفي... 337

نتائج الجمع العرفي بالنسبة إلى الدليل المغلوب... 343

التمسك بالعام في الشبهات المصداقية... 343

التمسك بالعام في الشبهة المفهومية... 345

تطبيقات للجمع العرفي... 349

إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء... 349

أصالة التداخل في الاسباب أو في المسببات... 355

ص: 483

الموضوع / الصفحة

إشكال وجواب... 356

تعارض الأحكام الأولية والثانوية... 359

تعارض الشمولية والبدلية... 361

تقدم الامارة على الأصل... 367

الورود... 367

الحكومة... 368

مناقشة مسلك الحكومة... 370

النصية والأخصيّة... 372

تقدم الأصل السببي على الأصل المسببي... 375

النكتة الصحيحة... 377

معارضة الاستصحاب للأصول الأخرى... 379

مناقشة الحكومة... 380

التخريج الصحيح... 380

التعارض المستقر على ضوء دليل الحجّية... 385

المتعارضان بمقتضى القاعدة الأولية... 387

الشق الأوّل... 387

جواب التوهم... 389

الشق الثاني... 392

الشق الثالث... 395

ص: 484

الموضوع / الصفحة

خلاصة ما تقدم... 397

خلاصة النظرية العامّة... 397

تنبيهات النظرية العامّة للتعارض المستقر... 401

التنبيه الأوّل... 401

خلاصة ما تقدم... 405

صور اخرى... 405

التنبيه الثاني... 406

استحكام التعارض بين السندين... 407

التنبيه الثالث... 408

التنبيه الرابع... 411

المتعارضان بمقتضى القاعدة الثانوية... 415

فارق بين المجموعتين... 416

روايات العرض على الكتاب... 417

المجموعة الاولى... 417

إشكالات ثلاثة... 418

المجموعة الثانية... 420

المجموعة الثالثة... 421

اعتراضان... 422

الأوّل... 422

ص: 485

الموضوع / الصفحة

الثاني... 424

مناقشة الوجهين... 425

النتيجة النهائية... 429

جواب ثان عن المجموعة الثالثة... 429

روايات العلاج... 433

روايات التخيير... 433

البحث الثبوتي... 434

جواب الإشكال... 436

البحث الاثباتي أو روايات التخيير... 437

الرواية الاولى... 437

الرواية الثانية... 441

الرواية الثالثة... 446

روايات الترجيح... 449

الرواية الاولى... 449

الرواية الثانية... 450

اعتراضان على الترجيح بالشهرة وصفات الراوي... 452

الدعوى الاولى... 453

الدعوى الثانية... 456

إشكال على الترجيح بالشهرة... 456

ص: 486

الموضوع / الصفحة

النتيجة المقبولة... 458

الرواية الثالثة... 458

نتيجة ما تقدّم... 461

وفي الختام... 461

النقطة الاولى... 462

النقطة الثانية... 463

النقطة الثالثة... 465

النقطة الرابعة... 467

النقطة الخامسة... 469

المحتويات... 475

ص: 487

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.