روافد الإيمان إلى عقائد الإسلام

هوية الکتاب

روافد الإيمان إلى عقائد الإسلام

دار الولاء للطباعة والنشر والتوزيع

لبنان - بيروت - حارة حريك - شارع دكاش - سنتر فضل الله

تلفاكس: +21/545133 - 03/689496 - ص . ب : 25/327

E-mail:daralwalaa@yahoo.com

اسم الكتاب:روافد الإيمان إلى عقائد الإسلام

المؤلف:الشيخ نجم الدين الطبسي

الناشر:دار الولاء للطباعة والنشر والتوزيع

الطبعة:الأولى 2002 م - 1423ه-

جميع الحقوق محفوظة ©

ص: 1

اشارة

دار الولاء للطباعة والنشر والتوزيع

لبنان - بيروت - حارة حريك - شارع دكاش - سنتر فضل الله

تلفاكس: +21/545133 - 03/689496 - ص . ب : 25/327

E-mail:daralwalaa@yahoo.com

اسم الكتاب:روافد الإيمان إلى عقائد الإسلام

المؤلف:الشيخ نجم الدين الطبسي

الناشر:دار الولاء للطباعة والنشر والتوزيع

الطبعة:الأولى 2002 م - 1423ه-

جميع الحقوق محفوظة ©

ص: 2

روافد الإيمان إلى عقائد الإسلام

مواجهة الأباطيل وتفنيد مبانيها وخطأ معتقداتهابالشواهد والنصوص التاريخي

الشيخ نجم الدين الطبسي

دار الولاء

للطباعة والنشر والتوزيع

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المقدّمة

أُبتلي العالم الإسلامي ؛ خصوصاً بلاد الشام عام 698 ه_ . ق بهجمات عنيفة وشرسة من أحد المحسوبين على الإسلام. كان قد نَشَرَ الأفكار الباطلة والمنحرفة. فتصدّى له علماء المذاهب، والفقهاء إلى أن طُرد وحبس وضيّق عيله حتّى مات في الحبس،هذابعدما نصحه القريب والبعيد، وحذّره الصديق والعدوّ ، فلم يرتدع ولم يرجع من غيّه وضلالته.

ومن معاصريه الذين نصحوه شمس الدين الذهبي صاحب ميزان الاعتدال حيث خاطبه قائلاً:

. . . يا رجل! بالله عليك كفّ عنا، فإنّك محجاج عليم اللسان لا تقرّ ولا تنام، إيّاكم والغلوطات في الدين كره نبيُّكَ المسائل وعابها ونهى عن كثرة السؤال . . . وكثرة الكلام بغير زلل تقسي القلب إذا كان في الحلال والحرام، فكيف إذا كان . . . تلك الكفريات التي تعمي القلوب. . . يا خيبة من اتبعك فإنّه معرضّ للزندقة والانحلال، لا سيما إذا كان قليل العلم والدين . . . فهل معظم أتباعك إلاّ قعيد مربوط خفيف العقل !؟ أو عامي كذّاب بليد الذهن !؟ أو غريب واجم، قوي المكر ! ؟ أو ناشف صالح عديم الفهم . . . یا مسلم! أقدم حمار شهوتك لمدح نفسك، إلى كم تصادقها وتعادي الأخيار !؟ إلى كم تصادقها وتزدري الأبرار ! ؟ إلى كم تعظّمها وتصغر العباد ؟ إلى متى تخاللها

ص: 5

وتمقت الزهّاد!؟ إلى متى تمدح كلامك بكيفية لا تمدح - والله - بها أحاديث الصحيحين، يا ليت أحاديث الصحيحين تسلم منك! بل من كل وقت تُغير عليها بالتضعيف والإهدار ، أو بالتأويل والإنكار...(1)

وكاد الباطل أن يضمحلَّ بعد قطع دابر الذين ظلموا، لولا أن تصدّى بعض تلامذته، لمواصلة مسيره والترويج لمذهبه، ولكن تلك المحاولات باءت بالخيبة والفشل أيضاً، ولم يكن لها كبير أثرِ على المسلمين، إلى أن ظهرت دعوة محمّد بن عبد الوهاب امتداداً لدعاوى ابن تيمية، بدعم عسكري من محمّد بن سعود وتحالفِ بينهما - فكفَّر البلاد الإسلاميةً، وأنكر المسلّمات، وهاجَمَ المعتقدات، وانتهك الحرمات وسَفَك الدماء وقَتل الآلاف من الأبرياء .

فأحسَّ العالم الإسلامي بالخطر من جديد واستعدَّ للدفاع والمقاومة، وتأهَّب لحالة طوارىء جديدة، وكان أوّلُ من تصدَّى له والده ثم أخوه الشيخ سليمان حيثُ ألَّف كتاباً فنَّد فيه عقائدَ أخيه وأهاب وحذَّر المسلمين منها ودعاهم للوقوف بوجه هذا الغزو الفكري الخطر ثم توالت محاولات التصدي لمواجهة هذا التيّار مواجهة علمية من قِبَل علماء من جمیع المذاهب الإسلامية، لتكذيب أحدوثته وتفنيد أباطيله بسيف الحجّة والبرهان.

وكان من الواجب على كل المسلمين القيام بدورهم في مواجهة هذه التيّارات، وتفنيد مبانيها، وإظهار خطأ معتقداتها، وفضح شذوذها، وبُعدها عن الإسلام.

ص: 6


1- تكملة السيف الصقيل للكوثري : 190 - كتبه من خط قاضي القضاة برهان الدين ابن جماعة، وكتبه هو من خط الشيخ الحافظ أبي سعيد ابن العلائي وقد كتبه من خط الذهبي، وذكر شطراً منه العزامي في الفرقان : 129 - انظر الغدير 89/5 - هذا وقد حاول البعض إنكار هذه الرسالة ونفى صدورها عن الذهبي، ولكنها محاولة يائسة بلا طائل.

وأنا بدوري كواحد من طلبة العلوم الدينية - في الحوزة العلمية - ومن آحاد المسلمين - أعلى الله كلمتهم - رأيت من واجبي القيام بتكليفي الشرعي في صدّ هذا التيّار الهدّام من خلال إلقاء الدروس والمحاضرات، وتوعية الجيل الجديد على حقيقة هذه الدعوة الباطلة، وتحذيره ممّا يجري باسم الدين، وتوجيهه للقيام بمسؤوليته في القضاء على مثل هذه الأفكار .

وهذا الكتاب مجموعة محاضرات ألقيتُها في هذا الصدد.

وسيلاحظ القارىء الكريم فيه أننا :

1 - ناقشنا الأحاديث التي تعتبرها الوهابية دليلاً تعتمده وترتكز عليه فيما تذهب إليه من الرأي الباطل، وأثبتنا خطأ ما ذهبت إليه. كما أوردنا آراء علماء الرجال بصدد رواتها، وأثبتنا ضعف تلك الأحاديث سنداً، حتى لا يبقى للوهابية ما تركتز عليه من رواية وحديث .

2 - يمتاز هذا الكتاب عن بعض ما أُلّفً في هذا المضمار بكثرة الشواهد والنصوص التاريخية، لردً دعوى الوهابية، والفضل والفخر للإمامين العلمين: الأمين - صاحب کشف الارتیاب _والأميني - صاحب الغدير - الذين سبقا في بذل غاية الجهد في تفنيد الفكرة الوهابية .

3 - اكتفينا في هذا الحقل بالمواضيع التي كثيراً ما تثيرها الوهابية كمسألة زيارة قبر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم ) وشدّ الرحال والقصد إليه، وزيارة القبور والتبرّك والتمسّح بها، وبالآثار والصلاة والدعاء عند القبور، وفي المشاهد، والإسراج عندها ،والنذر، ومسألة الشفاعة مع تفصيل ضروري فيها، والحلف بغير الله، وإقامة الاحتفالات وغيرها من المسائل التي تثيرها الوهابية، وكثيراً ما سمعناها ونسمعها من مشايخهم أيًام فريضة الحج سيما في الحرمين الشريفين .

ص: 7

ونسمعها من أعضاء هيئة الأمر بالمعروف التي أُعدَّت خصّيصاً للخوض في مناقشةالوافدين إلى الحج مناقشة محصورة في خصوص هذه المحاور، ولا شأن لها بمسألة الاحتلال الصهيوني، وخطط إسرائيل الشيطانية في المنطقة وفي العالم، ولا بمواقف أمريكا العدائية من المسلمين، ولا بقضايا الجزائر والسودان وافغانستان، أو مسلمي البانيا والبلقان .

وفي الختام نشكر صديقنا العزيز الاستاذ المحقّق علي الشاوي الذي أتحفنا بملاحظات قيّمة فله منّا جزيل الشكر .

هذا ونحمد الله تعالى على هذا التوفيق، إنّه وليّ النَّعم .

قم المقدّسة/ نجم الدين الطبسي

4/ شوال/ 1417ه_

ص: 8

المدخل

إنّ المنصف لو سبر عمق التاريخ ودرس سيرة الخوارج وأفكارهم المتحجرة وفهمهم الخاطىء للإسلام والقرآن والخلافة الإلهية وموقفهم تجاه المسلمين؛ من تكفيرهم جزافاً وجهلاً واستحلال دمائهم وأموالهم، ثم أَمعَنَ النظر وتأمّل بعين الإنصاف - لا العصبية - في سلوك الوهابيين وفتاواهم وسياستهم تجاه الأمة الإسلامية، لرأى نهج الوهابية وخصائصها امتداداً لحركة الخوارج في النهج والخصائص، والمسلمون من يوم تحكّم ابن وهاب، إلى يومنا هذا يدفعون ضريبة تأثير ذلك التيّار الخطر.

عندما نرى اليوم شعار: لا دعاء إلاّ الله، ولا شفاعة إلاّ الله، ولا توسّل إلاّ بالله، ولا استعانة إلاّ بالله، يتداعى في أذهاننا شعار الخوارج: لا حكم إلاّ الله .

عندما نرى اليوم حكم الوهابية بشرك من خالف معتقدهم ولم تسمع منهم إلاّ خطاب: یا مشرك! يا كافر!... يتداعى إلى الذهن تفكير الخوارج من عداهم من المسلمين.

عندما نرى الوهابية كيف تهلك الحرث والنسل وتستأصل المسلمين بحجّة أنهم يطلبون الشفاعة من الميّت ويتوسّلون بالنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) والصالحين، يتداعى إلى الذهن جمود الخوارج وتحجّرهم وغباؤهم في فهم الإسلام.

بينما تراهم يتورّعون - بزعمهم - عن أكل تمرة ملقاة في الطريق بدعوى عدم رضا صاحبها، أو يتورّعون عن قتل خنزیر شارد بدعوی

ص: 9

احتمال أن يكون لكتابي في ذمّة الإسلام، تراهم - وبكل صلافة ووقاحة - يقتلون صحابياً صائماً وفي عنقه القرآن ويتقرّبون بسفك. دمه إلى الله تعالى، فترى المسلمين خوفاً من بطشهم وخشيةّ على أنفسهم يتظاهرون بأنّهم من أهل الكتاب ولا يُظهرون أنّهم مسلمون(1) ، بينما

يسفك دم من يثني على علي بن أبي طالب(علیه السلام) ويقول فيه خيراً(2)

حينما نرى من الوهابية تطبيق الآية الكريمة : ﴿وَأَنَّ الْمَسَجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾(3) على من يتوسَّل بقبر النبي الكريم(صلی الله علیه وآله وسلم) أو بقبر صحابي جليل، أو بقبر أحد الصلحاء، يتداعى إلى الذهن تطبيق الخوارج آيات نزلت في الكفار والمشركين، على المسلمين والمؤمنين كما قاله ابن عمر وابن عباس، فعن ابن عمر: «إنّهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها في المؤمنين»(4).

وعن ابن عباس : «لا تكونوا كالخوارج تأَوَّلوا آيات القرآن في أهل القبلة، وإنّما نزلت في أهل الكتاب والمشركين فجهلوا علمها فسفكوا الدماء وانتهبوا الأموال»(5) .

والحال أنَّ من ضروريات الدين أن كل من أجرى الشهادتين على لسانه فهو محقون الدم، ومعدود من المسلمين وله ما لهم وعليه ما

ص: 10


1- لقيهم قوم مسلمون، فسألوهم من أنتم؟ وكان فيهم رجل ذو فطنة فقال المسلم لاخوته : اتركوا الجواب لي، قال : نحن قوم من أهل الكتاب إستجرنا بكم حتى نسمع كلام الله ثم تبلغونا مأمننا ، فقالوا: لا تخفروا - أي أجيروا - ذمة نبيكم فأسمعوهم شيئاً من القرآن وأرسلوا معهم من يوصلهم إلى مأمنهم.( راجع كتاب السيرة الحلبية 140/3).
2- قالوا لعبد الله بن حباب ما تقول في علي؟ فأثنى خيراً. فقالوا: إنّك ممن يتبع الرجال على أسمائها،وفعلوا معه ما فعلوا (راجع السيرة الحلبية 140/3) .
3- سورة الجن ، الآية : 18.
4- انظرالبخاري 197/4.
5- كشف الارتياب: 124

عليهم، ولا حاجة إلى كلفة شق قلبه كي يعرف هل دخل الإيمان في قلبه أو أنه أسلم بلسانه ! !

ولعل هذا الأمر لم يكن عند الوهابية من الضرورات فباتت تكفّر من لا يلتزم بمزاعمهم، كأنّهم نسوا الآية الكريمة :﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾(1) ، أو لم يسمعوا مقالة النبي الكريم(صلی الله علیه و آله وسلم)لأسامة معترضاً على ما ارتكبه: فقد بعث رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) سريةعليها أسامة بن زيد إلى بني ضمرة. فلقوا رجلاً منهم يدعى مرداس بن نهيك معه غنم له، وجمل أحمر، فلما رآهم آوى إلى كهف حبل واتبعه أسامة، فلما بلغ مرداس الكهف، وضع فيه غنمه ثم أقبل إليهم فقال : السلام عليكم، أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمّداً رسول الله، فشدَّ عليه أسامة فقتله من أجل جمله وغنمه. . . فلما أكثروا عليه رفع(صلی الله علیه و آله وسلم) رأسه إلى أسامة فقال : كيف أنت ولا إله إلاّ الله . . .؟ فقال : يا رسول الله إنّما قالها متعوّذاً تعوّذ بها . فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): هلاً شققت عن قلبه فنظرت؟ فأنزل الله خبر هذا؛ وأخبر إنّما قتله من أجل جمله وغنمه.(2)

إن الخوارج «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» وفي رواية أخرى: «يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية»(3)نخشى أن يكون قوله(علیه السلام) - حينما سألوه عن نجد_ قال:« هنالك الزلازل والفتن منها»(4) ، أو قوله: «بها يطلع قرن الشيطان» ناظراً إلى هذا التيّار الذي ظهر في نجد والمتّبعين لرأيه فإنّ

ص: 11


1- سورة النساء، الآية : 94.
2- الدر المنثور : 357/2 . مجمع البيان : 149/3.
3- مسند أحمد : 18/2 . الجامع الصحيح : 481/4 .
4- مسند أحمد 2: 81 و 5/4 .

معنى القرن كما في القاموس : القاموس : الأمة، والمتبعون لرأيه، أو قومه وانتشاره وتسلّطه(1) .

نسأل الله عزّ وجلّ أن يوحٌد كلمة المسلمين ويقوّي عزمهم على من سواهم، وينوّر قلوبهم بهدى الإسلام ويرزقهم الفهم والبصيرة.

كما نأمل أن تُوجه هذه الفرقة اهتمامها صوب الحوار العلمي القائم على أساس التفهيم والتفّهم، لعلّ الله سبحانه وتعالى يزيح عن الأذهان ستار الجهل وغشاوة التعصّب، إنه ولي التوفیق.

ص: 12


1- القاموس : 382/3 ، مادة قرن .

الفصل الأوّل الشفاعة

اشارة

1 - رأي الوهابية في الشفاعة

2 - معنى الشفاعة

3- مورد الشفاعة

4 - دور الشفيع

5- الشفعاء

6 - تقرير آخر للجواب

7 - حياة النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) بعد الموت

8 - رأي العلماء في الحياة بعد الموت

9 - استفهام وجواب

10 - رأي السُبكي في بقاء الروح

11 - من الروايات في الشفاعة

12 - طلب الشفاعة في سيرة الصحابة

ص: 13

ص: 14

الشفاعة

لقد منعت الوهابية طلب الشفاعة من الأنبياء والصالحين والملائكة_ الذين أخبر الله تعالى بأن لهم الشفاعة - وجعلوه كفراً تحلُّ به دماءُ المستشفعين وأموالهم !

قال محمد بن عبد الوهاب : إن قصدهم الملائكة والأنبياء والأولياء يريدون شفاعتهم والتقرّب إلى الله بذلك هو الذي أحلَّ دماءهم وأموالهم .

وهذا المضمون أخذه من ابن تيمية حيث قال : إنّ الّذين قاتلهم النبي(صل الله علیه و آله و سلم) مقرّون بما ذكرت وبأن أوثانهم لا تدبَّر شيئاً وإنّما أرادوا الجاه والشفاعة وأنهم ما أرادوا ممّن قصدوا إلاَّ الشفاعة، وإن طلب الشفاعة من الصالحين هو بعينه قول الكفّار : ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾(1) .

معنى الشفاعة:

وهي من الشفع مقابل الوتر، كأن الشفيع ينضم إلى الوسيلة الناقصة التي مع المستشفع فتكتمل الوسيلة وترقى بالشفيع إلى حدّ القبول والتأثير، فيتأهل المستشفع لنيل المراد، والفوز بما لم يكن أهلاً للفوز به لنقص وسيلته وقصورها.

مورد الشفاعة

إنَّ الإنسان لا يكون مورداً للشفاعة إذا أراد نيل ثواب أو درجة من غير سعي ولا تهيئة أسباب بلوغ ذلك الثواب أو تلك الدرجة، ويكون

ص: 15


1- سورة الزمر، الآية : 3.

مورداً للشفاعة إذا كانت له القابلية واللياقة للتلبّس بالكمال وبلوغ الدرجة المقصودة وقد سعى لها سعيها، لكنه لم يتأهل لنيلها، لنقص وسيلته بسبب تقصير منه، فيأتي دور الشفيع هنا لرفع النقص، لأن الشفاعة متمّمة للسبب لا مستقلّة في التأثير .

دور الشفیع:

إنّ دور الشفيع لا يعني إبطال مولوية المولى ولا إبطال عبودية العبد، ولا رفع اليد عن الحكم المجعول، بل الشفيع إمّا أن يتقدّم إلى المولى بصفات في المولى سبحانه توجب العفو عن العبد والرأفة به، مثل السخاء والكرم والصفح و . . .

أو أنَّ الشفيع يتقدّم إلى المولى بصفات في العبد توجب رحمة المولى ورأفته به والتجاوز عنه، كالاعتقاد الحق، والصدق في الاعتقاد، وطلب مرضاة المولى، وحبّه لأولياء المولى وأحبائه، وسوء حال العبد، ومسكنته وذلّته، و. . . أو بصفاتٍ في الشفيع نفسه: مثل قربه من المولى، وعلوّ منزلته عنده، و. . . فكأنَّ الشفيع يقول : يا ربّ لا أسألك إبطال المولوية ولا إبطال الحكم، ولا إبطال الجزاء، بل العفو . لأنَّ لك الكرم، أو لأنّ العبدَ جاهل، أو لمنزلتي عندك .

فالشفاعة: حقيقتها التوسط في إيصال نفع أو دفع شرّ بنحو الحكومة لا بنحو المضادّة.

يعني : إنّ الشفيع يذكر بعضَ العوامل المؤثّرة في رفع العقاب بأن يخرج المورد - الشخص - عن كونه مصداق العقوبة إلى مورد آخر مصداق الرأفة .

ثم أنّ الشفاعة كما أنها تثبت لعدّةِ من عباده، من الملائكة والناس من بعد الإذن والارتضاء ، كذلك يمكن للعبد أن يتقدّم إلى الله برحمته، أو بِذُلّ

ص: 16

نفسه وحقارتها، في التوبة إلى الله والعمل الصالح فيخرج نفسه عن كونه مصداقاً للمذنب المسييء إلى كونه مصداقاً للمحسن، وفي أمثال هذا العبد يقول تبارك وتعالى: ﴿ فَأُولَيكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَتْ ﴾(1) فله تعالى أن يبدّل السيّئة حسنة كما له أن يجعل رصيد الإنسان من الأعمال صِفراً : ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءَ مَّنثُورًا ﴾(2)

الشفعاء :

الشفاعة نوعان : شفاعة تكوينية، والشفعاء فيها جملة الأسباب الكونية بما هي وسائط بين الله وبين الأشياء .

وشفاعة تشريعية، وهي الواقعة في عالم التكليف، ومنها ما يستدعي في الدنيا مغفرة من الله سبحانه أو قرباً أو زلفى، فالشفيع متوسط بین الله وبين عبده، ومنها:

1 - التوبة : كما قال تعالى: ﴿قُلْ يَعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾(3) وتعمُّ جميع المعاصي حتى الشرك.

2- الإيمان: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَامِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفَلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِۦ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِی وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )(4).

3 - العمل الصالح : ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ لهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرُ عَظِيمٌ )(5)

ص: 17


1- سورة الفرقان الآية: 70.
2- سورة الفرقان ، الآية : 23 .
3- سورة الزمر، الآيتان : 53 - 54 .
4- سورة الحديد، الآية : 28.
5- سورة المائدة، الآية : 9.

4 - القرآن:﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾(1)

5 - الأنبياء: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا الله واستغفهُمُ لهم الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾(2)

6 - الملائكة : ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِی وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾(3)

﴿وَالْمَلَيكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾(4)

7 - المؤمنون باستغفارهم لأنفسهم ولاخوانهم المؤمنين، قال تعالى حكاية عنهم : ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَنَا﴾ (5)

ومنها: الشفيع يوم القيامة: بالمعنى الذي ذكرناه وهو اخراج المذنب عن كونه مصداقاً للعقوبة، إلى مورد كونه مصداقاً للرأفة والرحمة، وهم:

1 - الأنبياء: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَنَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُون﴾ (6) إلى قوله تعالى: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى الله﴾(7) فإن منهم عيسى وهو نبي .

ص: 18


1- سورة المائدة الآية : 16.
2- سورة النساء، الآية : 64.
3- سورة المؤمن، الآية : 7.
4- سورة الشورى الآية : 5.
5- سورة البقرة، الآية : 286 .
6- سورة الأنبياء، الآية : 26 .
7- سورة الأنبياء ، الآيات : 26 - 28 .

2 - الملائكة : قال تعالى: ﴿وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيُرْضَى﴾ (1)

3 - الشهداء: ﴿وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾(2) وهي تدل على أن تملّكهم للشفاعة لشهادتهم بالحق، فكل شهيد هو شفيع يملك الشهادة.

لكن المراد بالشهادة هنا : شهادة الأعمال دون الشهادة بمعنى القتل في المعركة .

4 - المؤمنون: ومن الآية السابقة يظهر أن المؤمنين أيضاً من الشفعاء، فإن الله عزّ وجلّ أخبر بلحوقهم بالشهداء يوم القيامة، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أَوَلَيْكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاهُ عِندَ رَبِّهِم ﴾(3)(4)

ص: 19


1- سورة النجم، الآية : 26.
2- (2) سورة الزخرف، الآية : 86.
3- سورة الحديد، الآية : 19
4- هذا وقد تعرّض العلامة الطباطبائي لإشكالات سبعة على الشفاعة والجواب عنها وها نحن نذكر بعضها وباختصار : 1 - لو كان رفع العقاب عن المجرم عدلاً، فالعقاب ظلم. وإن كان ظلماً، فكيف سأل الأنبياء ما هو ظلم؟ والجواب : إنّ رفع العقاب ليس معناه نقض الحكم الأول ونقضاً للعقوبة، بل بمعنى إخراج المجرم عن كونه مصداقاً للعقوبة بجعله مصداقاً لشمول الرحمة والرأفة 2 - إن الشفاعة توجب التخلف والاختلاف ورفع العقاب بالشفاعة عن المجرمين في جرائمهم موجب لنقض الغرض المحال، إذ سنة الله تعالى جرت على صون أفعاله من التخلف، فما قضى و حكم به يجريه على وتيرة واحدة من غير استثناء. والجواب: يأبى الله أن يجري الأمور إلا بأسبابها فالحكم له سبب، ولعل هناك أسباباً كثيرة أخرى تستدعي غير ما يقتضيه هذا السبب الواحد. 3- إن الشفاعة المعروفة هي حمل المشفوع عنده على ترك ما أراد فعله أو فعل ما أراد فالشفاعة تصرّف في إرادة الربّ وحكمه وهو محال . والجواب : إن الشفاعة ليست من التغير في الإرادة والعلم بل في المراد والمعلوم. فهو سبحانه يعلم أن الإنسان الفلاني سوف تجري عليه حالات متعدّدة فيكون في حين كذا على حال كذا، لاقتران أسباب وشرائط خاصة، فيريد فيه بارادة ، ثم يكون في حين آخر على حال آخر جديد، يخالف الأول لاقتران أسباب وشرائط أخر، فيريد فيه بإرادة أخری(كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) و(يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) 4 - إن وعد الشفاعة، يستلزم تجري الناس على المعصية . والجواب بالنقض أولاً : بالآيات الدالة على شمول المغفرة وسعة الرحمة في غير مورد التوبة، بدليل استثنائه الشرك المغفور بالتوبة. وثانياً بالحل (الوعد بالشفاعة) إنّما يستلزم تجري الناس على المعصية بشرطين : الأول: تعيين المجرم بنفسه ونعته أو تعيين الذنب الذي تقع فيه الشفاعة تعييناً لا يقع فيه لبس بنحو الانجاز من غير تعليق بشرط جائز . الثاني: تأثير الشفاعة في جميع أنواع العقاب وأوقاته بأن تقلعه أصله قلعاً . ومن المعلوم أن هذين الشرطين لسيا من (الوعد بالشفاعة) بشيء . تفسر الميزان :1/ 168 .

تقرير آخر للجواب:

أولاً: إنّ معنى الشفاعة هو الطلب من المشفوع عنده،أمراً للمشفوع له. فشفاعة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) أو غيره، معناه : دعاؤه إلى الله للغير، و طلبه من الله غفران الذنب وقضاء الحوائج، فالشفاعة نوع من الدعاء.

فعن الرازي ذيل الآية الكريمة : ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا﴾(1) قال مقاتل: الشفاعة إلى الله إنّما تكون بالدعاء واحتج بما روى أبو الدرداء أن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) قال : «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استُجيب له، وقال المَلَك له ولك مثل ذلك»(2)

إذن : طلب الشفاعة من الغير، عبارة أُخرى عن طلب الدعاء منه وقد ثبت جواز طلب الدعاء من أي مؤمن كان، كما اعترف محمد بن عبد الوهاب بجواز طلب الدعاء من الحيّ، بل جوازه يُعدّ من ضروريات الدين، وحينئذٍ فيجوز طلب الشفاعة (أي الدعاء) من كل

ص: 20


1- سورة النساء، الآية : 85.
2- التفسير الكبير : 207/10 .

مؤمن فضلاً عن الأنبياء والصالحين وفضلاً عن سيّد المرسلين .

إن قلت : لا بد أن يكون للشفيع جاه عند المشفوع إليه .

قلت : إنّ الله جعل حرمة(1) لكل مؤمن يرجى بها قبول شفاعته واستجابة دعائه. أضف إلى ذلك ثبوت الشفاعة - كما مرّ - لآحاد المؤمنين وللملائكة، وأنها ليست من خاصة الأنبياء .

شفاعة الملائكة:

قال الرازي ذيل هذه الآية:﴿ الَّذِينَ يَحمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِی وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَك وفهم عذاب الجحيم* ربنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَآبِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ ﴾(2)

قال : هذه الآية تدل على حصول الشفاعة من الملائكة للمذنبين.(3)

كما وقعت الشفاعة من النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) وغيره من الأنبياء(صلی الله علیه و آله و سلم) وأمره الله بها. فقال : ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾(4).

وحكى عن نوح أنّه قال: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَلِدَى وَلِمَن دَخَلَ بَيْتي مؤمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَت﴾(5).

والنتيجة : إن الشفاعة لا تزيد عن الدعاء، وطلب المغفرة.

ص: 21


1- عن الأسلمي عن النبي (ص) وهو يخاطب الكعبة : ما أعظمك وأعظم حُرمتك، والمؤمن أعظم حُرمة عند الله منك . (سنن الترمذي : 378/4 ب 85 ح 2032 ) .
2- سورة غافر، الآيات : 7 - 09
3- التفسير الكبير : 32/27 .
4- سورة محمد الآية : 19.
5- سورة نوح، الآية : 28.

شفاعة الحجر الأسود:

عن علي (علیه السلام) : إشهدوا هذا الحجر خيراً فإنّه يوم القيامة شافع مشفّع، له لسان وشفتان يشهد لمن استلمه(1).

رواه أبو نعيم في مسلسلاته و قال: صحیح ثابت عن علي(علیه السلام).

قال العزيزي في الشرح : أشهدوا أي اجعلوا الحجر الأسود شهيداً لكم على خير تفعلونه عنده كتقبيل واستلام أو دعاء. أو ذكر عنده وقوله : فإنّه شافع: أي فيمن أشهده خيراً، مشفّع أي مقبول الشفاعة(2).

إذن : الإشهاد هنا بمعنى طلب الشفاعة منه، مع أنّه جماد لا يعقل ولا ينطق، وقد أمرنا بإشهاده ولم يكن ذلك شركاً. وإلاّ - لو كان شركاً - لم يغيّره الأمر، لأن الحكم لايغيّر الموضوع.

فالشفاعة والدعاء من مقولة واحدة، وليس حتماً على الله قبول الشفاعة ولا إجابة الدعاء، وإنّما ذلك من ألطافه وتفضّله .

شفاعة الأموات:

فعن ابن تيمية : إنّها بدعة، وعن ابن عبد الوهاب والصنعاني: كفر وشرك. قال ابن تيمية: أما الميّت من الأنبياء والصالحين وغيرهم، فلم يشرع لنا أن نقول : ادع لنا ،ولا، إسأل لنا ربّك، ولم يَنقل هذا أحدٌ من الصحابة والتابعين ولا أمَرَ به أحدٌ من الأئمة ولا ورد فيه حديث .

والجواب :أولاً : إن كان منع - وحرمة طلب الشفاعة من الأموات - إنّما هو لأجل تعذر خطاب المعدوم على فرض أن الميّت

ص: 22


1- كنز العمال: 217/12 ح 34739 - جامع الصغير للسيوطي : 225 .
2- فيض القدير : 527/1.

معدوم! فنقول: إنَّ النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) - وسائر الأنبياء(صلی الله علیه و آله و سلم) أحياء بعد الموت - وإنّه يسمع الكلام ويَردّ الجواب ويبلغه صلاة وتسليم من يصلّي ويسلّم عليه، وإنَّ علمه بعد وفاته كعلمه في حياته، وإن أعمال أُمّته تعرض عليه وإنّه يستغفر لأُمّته (1) وهذا ما صرّح به العلماء والمتكلّمون وسيجيء البحث عنه، وهذا ما لا يمكن لأحد انكاره .

حياة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) بعد الموت:

إن هذا هو المتفق عليه عند محققي المتكلّمين وغيرهم.

قال السمهودي(2) : «لا شك في حياته بعد وفاته، وكذا سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحياء في قبورهم، حياة أكمل من حياة الشهداء التي أخبر الله تعالى بها في كتابه العزيز، ونبيّنا(صلی الله علیه و آله و سلم) سيّد الشهداء، وأعمال الشهداء في ميزانه، وقد قال (صلی الله علیه و آله و سلم) : «علمي بعد وفاتي کعلمي في حياتي»، رواه الحافظ المنذري .

وروى ابن عدي في كامله: عن ثابت عن أنس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم): «الأنبياء أحياء في قبورهم يصَّلون» رواه أبو يعلى برجال ثقات ورواه البيهقي وصححه.(3)

ص: 23


1- انظر محاسبة النفس، الباب الثالث : 18 وكشف الارتياب : 217 .
2- نور الدين علي بن أحمد ويعرف بالسمهودي نزيل المدينة المنورة، وعالمها ومفتيها ومدرسها ومؤرّخها الشافعي الإمام القدوة الحجة، ولد في صفر 844ه_ ، وانتفع به جماعة الطلبة في الحرمين، وألف عدة تأليف. قال السخاوي قل أن يكون أحد من أهلها لم يقرأ عليه، وبالجملة فهو إمام مفنن متميز في الأصلين والفقه مديمُ العلم والجمع والتآليف متوجه للعبادة والمباحثة والمناظرة، قوي الجلادة طلق العبارة مع قوّة يقين وعلى كل حال فهو فريد في مجموعه . توفي عام 911ه_. انظر شذرات الذهب: 51/8 لابن عماد الحنبلي. والضوء اللامع: 245/5 لمحمد عبد الرحمن السخاوي.
3- وفاء الوفاء : 1349/4 .

وقال البيهقي : ولحياة الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - بعد موتهم شواهد من الأحاديث الصحيحة، ثم ذكر حدیث «مررتُ بموسى وهو قائم يصلّي في قبره» وغيره من أحاديث لقاء النبي بالأنبياء وصلاته بهم.

وروى ابن ماجه بإسناد جيّد - كما قال المنذري - عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) : «اکثروا الصلاة عليَّ يوم الجمعة، فإنّه مشهودٌ تشهده الملائكة، وإن أحدٌ يصلّي عليَّ إلاّ عرضت عليّ صلاته حين يفرغ منها» .

قال : قلت وبعد الموت؟ قال : «وبعد الموت، إنّ الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فنبيّ الله حيّ یرزق».

روى البزار برجال الصحيح عن ابن مسعود عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) «إنّ الله ملائكة سياحين يبلغوني عن أُمّتي» وقال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) : «حياتي خيرٌ لكم تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خيرٌ لكم تعرض عليَّ أعمالكم فما رأيت من خير حمدتُ الله عليه، و ما رأيتُ من شرّ استغفرت الله لكم» .

قال أبو منصور البغدادي : قال المتكلّمون المحقّقون من أصحابنا : إنّ نبيّنا محمّداً(صلی الله علیه و آله و سلم) حيُّ بعد وفاته، يُسّرُ بطاعات أُمّته، وإنّ الأنبياء صلوات الله عليهم لا يبلون .

وقال البيهقي في كتاب الاعتقاد: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعدما قبضوا رُدَّت إليهم أرواحهم فهم أحياء(1) عند ربّهم كالشهداء .

ص: 24


1- عن النبي (صلی الله علیه وآله و سلم) : «مررت بموسى وهو يصلّي في قبره» وقبره بمدين بين المدينة وبيت المقدس - سير أعلام النبلاء : 99/16 - صحيح مسلم : ج 2 ص 2375 ، سنن النسائي : 216/3 - مسند أحمد : 148/3-ابن حبان.

وقد رأى نبيّنا ليلة المعراج جماعة منهم، قال وقد أفردنا لإثبات حياتهم كتاباً.

وأضاف السمهودي: قلت ويؤيد ذلك حديث: «إنّ عيسى ابن مريم مار بالمدينة حاجّاً أو معتمراً، وإن سلَّم عليَّ لأَردنَّ عليه».

وأما أدلّة حياة الأنبياء، فمقتضاها حياة الأبدان كحالة الدنيا مع الاستغناء عن الغذاء، ومع قوّة النفوذ في العالم. وقد أوضحنا المسألة في كتابنا المسمّى ب_(الوفاء لما يجب لحضرة المصطفى)(1) .

وقال القسطلاني: ولا شك أن حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ثابتة معلومة مستمرة، ونبينا أفضلهم، وإذا كان كذلك فينبغي أن تكون حياته اكمل وأتم من حياة سائرهم.(2)

إذن بعد هذه التصريحات من العلماء والمحققين، وبعد هذه الروايات الصحيحة الواردة في كتب السنة هل يبقى مجال لقول ابن تيمية ومن تبعه؟ وهل يمكن القول بأن الشفاعة وطلب الدعاء من النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) والصالحين يكونان بدعة أو كفراً أو شركاً؟ فلا يبقى إلاّ القول: بأن الواجب عليهم إعادة النظر فيما قالوه، والتتبع ومراجعة الأحاديث وكلمات المحقّقين لكي يعرف بُعْدُ هذه الأقاويل عن الحقل العلمي ومجال التحقيق. وإن دلّت هذه الآراء على شيء لدلَّت على قلّة معلوماتهم بأصولهم ومبانيهم.

رأي العلماء في الحياة بعد الموت:

1 - قال الفقيه أبو بكر العربي (في الأمد الأقصى في تفسير

ص: 25


1- وفاء الوفاء : 1349/4 .
2- المواهب اللدنية : 413/3 .

الأسماء الحسنى): إنّ إحياء المكلّفين في القبر وسؤالهم جميعاً لا خلاف فيه بين أهل السنّة(1) .

2 - وقال سيف الدين الآمدي في كتاب (أبكار الأفكار): إتفق سلف الأمّة، قبل ظهور المخالف وأكثرهم بعد ظهوره على إثبات إحياء الموتى في قبورهم(2) .

3 - وقال السُبكي: وقد أجمع أهل السنّة على إثبات الحياة في القبور، قال إمام الحرمين في الشامل : اتفق سلف الأمّة على إثبات عذاب القبر وإحياء الموتى في قبورهم وردّ الأرواح في أجسادهم . . . أضاف السبكي بعد نقل هذه الأقوال: وقد تلخّص من هذا: إنَّ الروح تعاد إلى الجسد ويحيى وقت المسألة وإنه ينعم أو يعذّب من ذلك الوقت إلى يوم البعث(3).

4 - وقال ابن تيمية في كتاب: (اقتضاء الصراط المستقيم) . . إن الشهداء، بل كل المؤمنين إذا زارهم المسلم، وسلَّم عليهم عرفوا به، وردّوا عليه السلام، قال السمهودي: فإذا كان هذا في آحاد المؤمنين فكيف بسيّد المرسلين(4).

5- عن الغزالي: كان محمد بن واسع يزور يوم الجمعة فقيل له : لو أخرت إلى يوم الاثنين ؟ فقال : بلغني أن الموتى يعلمون بزوّارهم يوم الجمعة ويوماً قبله ويوماً بعده(5).

ص: 26


1- شفاء السقام : 204.
2- وفاء الوفاء : 1351/4 .
3- وفاء الوفاء : 1412/4 .
4- وفاء الوفاء : 1351/4 .
5- وفاء الوفاء : 1412/4 .

- قال الشيخ منصور حول الحياة بعد الموت :

فإنه أورد حديثاً عن ابن عباس: مرّ رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) بقبور المدينة، فأقبَلَ عليهم بوجهه فقال : «السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر». رواه الترمذي بسند حسن .

وقال في الشرح: فيندب لزائر القبور: السلام عليكم أولاً ، والدعاء له ولهم ثانياً ويتأكّد الاخلاص فإنّه مفتاح القبول. وطلب السلام على الموتى يفيد أنهم يشعرون ويدركون، فإن الموت ليس عدماً محضاً بل هو انتقال من دار إلى دار، يفنى الجسم وتبقى الروح كاملة الإحساس في عذاب أو نعيم إلى يوم يبعثون(1).

و قال في شرح قوله(صلی الله علیه و آله و سلم) : «إلا ردَّ الله عليَّ روحي» قال: أي نطقي وإفاقتي من استغراقي في أحوال الملكوت، وإلا فالأنبياء أحياء في قبورهم كما تقدم في باب الجمعة(2) .

وقال في باب الجمعة بعد حديث أوس بن أوس عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)« إنَّ من أفضل أيامكم الجمعة فيه خُلِقَ آدم، و فيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة . فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإنّ صلاتكم معروضة عليّ، قالوا: يا رسول الله وكيف تُعرض صلاتنا عليك وقد أرَمْتَ (رميماً) فقال : إن الله حرّم على الأرض أجساد الأنيباء» .

رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح .

قال في الشرح : بأمر الله تعالى فيسمعها فينسرّ بها، لأنّه في قبره حيّ ويفرح بصلاة المصلّين عليه ففيها رفع درجات له ولهم . . . وإمّا في

ص: 27


1- التاج الجامع للأصول : 381/1 .
2- التاج الجامع للأصول : 291/1 .

غير يوم الجمعة فإن الصلاة عليه تبلغه على لسان ملائكة مخصوصين بهذا، كما تبلغه أعمال الأٌمّة في يوم الخميس بواسطة ملائكة لهذا (1).

و عن عبد الله بن أبي أوفى عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) : «أكثروا الصلاة عليَّ يوم الجمعة، فإني أبلَّغ واستمع» . رواه الشافعي وابن ماجة(2).

أضف إلى ذلك : أنّ الروح في عالم البرزخ يقوى إدراكها وتكون أقوى من عالم الدنيا. كما قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾(3).

استفهام:

هنا سؤال يطرح نفسه وهو أن الحديث النبوي : «إلاّ ردّ الله عليّ روحی(4) حتى أردّ عليه »دال على عدم استمرار الحياة.

والجواب الأول :

1 - يحتمل أن يكون ردّاً معنوياً وأن تكون روحه الشريفة مشتغلة بشهود الحضرة، والملأ الأعلى عن هذا العالم. فإذا سلّم عليه أقبلت روحه على هذا العالم لتدارك السلام وتردّ على المسلّم، يعني أنَّ ردّ روحه الشريفة التفاتُ روحاني وتنزل إلى دوائر البشرية من الاستغراق في الحضرة العلية - كما قال السُبكي -.

2 - ويحتمل أن يكون الخطاب على مقدار فهم المخاطبين في الخارج من الدنيا أنّه لا بدّ من عود روحه حتى يسمع ويجيب فكأنه

ص: 28


1- التاج الجامع للأصول : 292/1 .
2- المصدر السابق .
3- سورة ق ، الآية : 22.
4- قال الشيخ منصور : أي نطقي وإفاقتي من إستغراقي في أحوال الملكوت وإلا فالأنبياء أحياء في قبورهم التاج الجامع للأصول : 1/ 290 .

قال : أنا أجيب ذلك تمام الإجابة، واسمعه تمام السماع، مع دلالته على ردّ الروح عند سلام أوّل مسلّم، وقبضها بعد لم يرد ولا قائل بتكرّر ذلك إلى توالي موتات لا تُحصى.

مع أنا نعتقد ثبوت الإدراكات كالعلم والسماع السائر الموتى، فضلاً عن الأنبياء ويقطع بعود الحياة لكل ميّت في قبره كما ثبت في السنّة، ولم يثبت أنّه يموت بعد ذلك موتة ثانية بل ثبت نعيم القبر وعذابه وإدراك ذلك من الاعراض المشروط بالحياة لكن يكفي فيه حياة جزء يقع به الإدراك فلا يتوقف على البينة كما زعم المعتزلة(1).

إذن : الجواب الأوّل على كلام ابن تيمية - في عدم جواز طلب الشفاعة من الأنبياء - هو أنّهم أحياء في قبورهم فلم يكن طلب الشفاعة من الميّت .

والجواب الثاني: إنّ الشهداء أحياء بنصّ القرآن الكريم : ﴿بل أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾(2) ولا شك في أن درجة النبوّة أعظم من درجة الشهادة والشهداء، وأن مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء(3) . فإذا كان القتيل في سبيل الله حي، فالنبي(صلی الله علیه و آله و سلم) كذلك حيّ قطعاً. وقد صرّح بذلك البيهقي في كتاب الاعتقاد: (الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعدما قبضوا رُدّت إليهم أرواحهم فهم أحياء عند ربّهم كالشهداء)(4) .

الجواب الثالث: لو فرضنا أن الميّت لا يسمع الكلام ولا يقدر

ص: 29


1- وفاء الوفاء : 1355/4 .
2- سورة آل عمران الآية : 169.
3- كنز العمال: 141/10 رقم الحديث 28715 - بحار الأنوار : 14/2 عن أمالي الصدوق . ونص الحديث في الكنز يوزن يوم القيامة مداد العلماء، ودم الشهداء، فيرجح عليهم مداد العلماء على دم الشهداء.
4- وفاء الوفاء : 1355/4 .

على الدعاء، لكن طلب الدعاء منه لا يوجب محذوراً ولا يوجب كفراً إذ يكون هذا مثل أن يطلب القراءة من الأعمى بظنّه بصيراً.

الجواب الرابع: إنّ فعل السلف من الصحابة وغيرهم في الاستشفاع والاستغاثة وطلب الدعاء من النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بعد وفاته - وحتى من غير النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) من الصالحين - يدل على مشروعيته وجوازه و سنورد الأمثلة على ذلك.

الجواب الخامس : إن الروح باقية - بعد الموت - غير فانية ويمكنها السؤال والدعاء. وقد استدل الفخر الرازي في تفسيره ذيل الآية الكريمة: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي﴾(1) استدل على بقاء الأرواح بعد موت الأجسام بسبعة عشر دليلاً منها :

1 - قوله(علیه السلام) في خطبة طويلة:« حتى إذا حمل الميت على نعشه رفرفت روحه فوق النعش ويقول : يا أهلي ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي . . .» فهذا تصريح بأن في الوقت الذي كان فيه الجسد ميّتاً محمولاً كان ذلك الإنسان حيّاً باقياً فاهماً . . .

2 - قوله تعالی : ﴿تَأَيَّها النَّفْسُ الْمُطْمَنَّةُ* ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةٌ ﴾(2)دلّ على أن الشيء الذي يرجع إلى الله بعد موت الجسد یکون حيّاً راضياً عن الله ويكون الله عنه راضياً، والذي يكون راضياً ليس إلاّ الإنسان فهذا يدل على أن الإنسان بقي حيّاً بعد موت الجسد. . .

3- قوله(علیه السلام) : «أنبياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار» و«من مات فقد قامت قيامته» وقوله : «القبر روضة من رياض الجنّة

ص: 30


1- سورة الاسراء، الایة:85.
2- سورة الفجر، الایتان:27_28.

أو حفرة من حفر النيران . . . »كل هذه النصوص تدل على أن الإنسان يبقى حيّاً بعد موت الجسد. . .

4 - قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتَهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَهُمُ الْحَقِّ﴾(1) أثبت كونهم مردودين إلى الله الذي هو مولاهم حال كون الجسد ميّتاً، فوجب أن يكون ذلك المردود إلى الله مغايراً لذلك الجسد الميّت .

5 - نرى جميع فِرق الدنيا من الهند والروم والعرب والعجم وجميع أرباب الملل والنحل من اليهود والنصارى والمجوس والمسلمين وسائر فرق العالم وطوائفهم يتصدقون عن موتاهم ويدعون لهم بالخير ويذهبون إلى زياراتهم، ولولا أنّهم بعد موت الجسد أحياء لكان التصدّق عنهم عبثاً. والدعاء لهم عبثاً، ولكان الذهاب إلى زيارتهم عبثاً، فالإطباق على هذه الصدقة وعلى هذا الدعاء وعلى هذه الزيارة يدل على أن فطرتهم الأصلية السليمة شاهدة بأن الإنسان شيء غير هذا الجسد وأن ذلك الشيء لا يموت، بل الذي يموت هذا الجسد(2).

والحاصل : إن الفطرة السليمة تشهد بحياة الروح بعد الموت والآيات الكريمة والسنّة الشريفة كذلك يشهدان على بقاء الروح .

وعليه: ما المانع وما المحذور من طلب الدعاء والشفاعة من الأرواح الطيبة التي هي أحياء بشهادة الكتاب والسنّة وبشهادة الفطرة السليمة؟ وهل هذا يوجب البدعة والكفر، والشرك، أو ينشأ عن عدم الرجوع إلى الفطرة وعدم التدبّر في النصوص ؟

ص: 31


1- سورة الانعام، الایتان:61_62.
2- التفسیر الکبیر:41/21.

رأي السُبكي في بقاء الروح:

سُئل السبكي عن الأرواح هل تفنى كما تفنى الأجسام؟

فأجاب : أما الأرواح فالسؤال عنها إمّا على مذهب الحكماء وإمّا على مذهب المتشرّعين :. . . وأمّا المشرّعون فقد اطبقوا على أنّها باقية بعد مفارقة البدن، فإن ذلك ممكن. وقد دلّت الشرائع على وقوعه ولا أعلم بين الشرائع خلافاً في ذلك إلاّ أن الإمام فخر الدين قال: في العالم هذه الاعتبارات العقلية إذا انضمّت إلى أقوال جمهور الأنبياء والحكماء أفادت الجزم ببقاء النفس . فقوله: جمهور الأنبياء يوهم عدم اجتماعهم على ذلك. وهذا الايهام غير معمول عليه ولا أظنُّه أراده في أوّل كلامه أنّهم أطبقوا على بقائها .

فهذا ما يجب اعتقاده واستقر الشرائع والكتب المنزلة وآيات القرآن والأخبار المتكاثرة التي لا يمكن تأويلها ويقطع بالمراد منها ما يدل على بقاء النفوس بعد مفارقة البدن ولا يشك في ذلك أحد من أهل الإسلام لا عالم ولا عامي، بل زادوا على ذلك وادعوا إطلاق القول بحياة جميع الموتى ونقل جماعة من المتقدّمين الاجماع على ذلك وقالوا في قوله تعالى: ﴿وَلَا نَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ﴾(1) إن هذا ليس خاصاً بمن يُقتل في سبيل الله وإنّما قصد بالآية الرد على الكفّار القائلين بعدم البعث وأن بالموت يفنى الإنسان بالكلية ولا يبقى له أثر من إحساس ونحوه. فردَّ الله عليهم، ولكن حياة الموتى مختلفة فحياة الشهيد أعظم وحياة المؤمن الذي ليس بشهيد دونه وحياة الكافر لما يحصل له العذاب دونه والكل مشتركون في الحياة ومنهم من يبلى جسده، ومنهم لا يبلى، والأرواح كلّها باقية. هذا دين الإسلام. ولو تتبع الإنسان آيات القرآن وأحاديث

ص: 32


1- سورة البقرة، الآية : 154.

النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) الدالّة على ذلك لبلغت مبلغاً عظيماً ولا حاجة إلى التطويل في ذلك فإنّه معلوم من دين الإسلام بالضرورة (1).

وعليه فما حجّة الوهابية في التهجّم والتكفير لمن توسّل واستشفع بهذه الأرواح ، أرواح الأنبياء والأولياء والصالحين مع أن الأرواح باقية بضرورة دين الإسلام، بشهادة الروايات الكريمة والأحاديث الشريفة .

لعل حجّتهم، جهلهم وعدم تدبّرهم في الآيات والنصوص والجاهل معذور إن كان قاصراً لا مقصّراً .

الجواب السادس : إن الاعتقاد بأن الميّت يسمع، أو لا يسمع لا يكون من أصول الدين ولا من أركانه، وليس من الواجبات بحيث لو التزم أحد بخلافه يكون مبتدعاً. وعليه فمن اعتقد به: فهو إمّا مصيب مأجور، أو مخطىء معذور كما ورد في كتب الصحاح والسنن (2). فلا یوجب اعتقاده شركاً ولا إثماً كيف والفخر الرازي المفسِّر الكبير(3) یعتقد بأن الروح باقية والدعاء والزيارة والنذر والتصدّق للميّت إنّما هو بلحاظ هذه الجهة، فهل ينسب الكفر والشرك والبدعة إليه ! !؟

كما أن المفسّرين قالوا في ذيل الآية الكريمة : ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ يبدنك﴾(4) بأنها كالصريح أو هو صريح في أن النفوس وراء الأبدان (5).

ص: 33


1- فتاوى السبكي : 636/2 .
2- صحيح البخاري : 1939 كتاب الاعتصام) - صحيح مسلم : 131/5 - كتاب الأقضية . هذا وكتبنا خالية عن هذا النص مما يدل على عدم اعتباره عندنا - سنداً - أضف إلى أن سنده أيضاً مخدوش - على بعض الطرق - على مبناهم إذ في طريقة مولى عمرو بن العاص وهو مجهول وفي الطرق الأخرى إرسال انظر عمدة القاري : 67/25.
3- هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن التيمي الطبري الأصل الرازي المولد، الأشعري الأصول الشافعي الفروع المعروف بالإمام فخر الدين والملقب بابن الخطيب الكنى والألقاب : 13/3.
4- سورة يونس الآية : 92.
5- أنظر تفسير الميزان: 121/10.

من الروايات في الشفاعة:

1_عن أنس : سألتُ النبي أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: أنا فاعل، قلت: فأين أطلبك ؟ قال : على الصراط(1) .

2 - أتى سواد بن قارب إلى رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) له وطلب منه الشفاعة في أبيات : فكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة***سواك بمغن عن سواد بن قارب(2)

طلب الشفاعة في سيرة الصحابة:

1 - عن ابن عباس لما فرغ علي(علیه السلام) له من تغسيل النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) قال : بأبي أنت وأُمّي. . . طبتَ حياً وطبتَ ميتاً . . . اذكرنا عند ربّك (3).

2 - كشف أبو بكر عن وجه النبي(صلی الله علیه و آله و سلم ) وقبّله وقال مثله(4).

3 - إن الناس أصابهم القحط في خلافة عمر بن الخطاب، فجاء بلال بن الحارث - وكان من أصحاب النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) - إلى قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) وقال: يا رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) استسق لأمّتك، فإنّهم قد هلكوا فأتاه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) في المنام وأخبره أنّهم سيسقون(5).

إذن فالاستسقاء منه وهو في البرزخ، ودعاؤه لربّه في هذه الحالة غير ممتنع، وكذلك علم النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)_ وهو في البرزخ - بسؤال من يسأله فلا مانع من استسقائه، وغير ذلك كما كانوا يسألونه في الدنيا، فلا يكون بدعة ولا شركاً ولا كفراً.

ص: 34


1- الجامع الصحيح : 621/4 ح 2433.
2- الدرر السنية : 29 کشف الارتياب : 263 ، الإصابة : 96/2 ، أنظر أسد الغابة 375/3.
3- أمالي المفيد : 105 وعنه البحار : 527/22.
4- أنظر كشف الارتياب : 265 نقلاً عن خلاصة الكلام لزيني دحلان .
5- فتح الباري 398/2 ، أنظر السنن الكبرى 351/3، ووفاء الوفاء : 1374/4 .

فإن قلت: إنَّ الاستشفاع بالميّت ممنوع من حيث توهّم عبادته .

قلت : إن الاستشفاع بالحيّ والطلب منه كذلك فيه شبهة العبادة له، فما هو الدافع لهذه الشبهة؟

إذن بعد هذه الأدلّة والنصوص والشواهد لا يبقى مجال لمزاعم الوهابية بحرمة طلب الشفاعة من الميّت .

ومن الغريب دعواهم عدم ورود ذلك من أي صحابي وتابعي .

نعم : إنّ أمثال هذه الفتاوى تدل على عدم اطلاع قائلها على مصادر التشريع، ولا فعل الصحابة، وتدل على أنها قول بغير علم .

ص: 35

ص: 36

الفصل الثاني التبرّك بالقبور

اشارة

1 - رأي الوهابية

2 - مناقشة الفكرة

3 - تبرّك الصحابة بالقبور

4- رأي فقهاء السنّة في التبرّك

5 - رواية في تقبيل القبر

6 - التبرّك بالآثار

7- رأي الفقهاء في ذلك

8_الاستشفاء بتراب المدينة

9 - التبرّك بآثار النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)

10- قبور وجنائز يتبرّك بها

ص: 37

ص: 38

التبرّك بالقبور

يرى ابن تيمية وأتباعه حرمة التبرّك والتمرّغ بالقبور الشريفة وتقبيلها، وكفّروا المسلمين ورموهم بالشرك وسمّوهم القبوريين وعبّاد القبور، وإنّه كفعل الجاهلية بالأصنام والأوثان و. . .

والجواب :

أوّلاً: حتى ولو لم ينص الشرع على جوازه، ولكنّه راجح شرعاً من تعظيم الشعائر. أمّا قبور غير الأنبياء فسيأتي البحث عنها، وأمّا قبور الأنبياء فلأن لهم حرمة وشأناً ولا تزول حرمتهم بالموت .

قال الإمام مالك للمنصور: حرمة النبي ميّتاً كحرمته حيّاً (1).

فالنبي(صلی الله علیه و آله و سلم) والصلحاء لا تزول حرمتهم بالموت .

ثانياً : إذا كان التعظيم يُعَدُّ عبادة وهو حرام واحترام القبور وتقبيلها تُعدُ عبادة وهي شرك لكان تعظيم الكعبة والطواف بها شركاً وكذلك تعظيم الحجر الأسود وتقبيله، والحجر، ومقام إبراهيم، والمساجد والمشاعر، وتعظيم الأبوين وخفض جناح الذّل لهما، وسجود الملائكة لآدم وسجود إخوة يوسف وأبويه له، وتعظيم الجنود لأمرائهم، وتعظيم الصحابة للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم) والخلفاء للأنبياء، وتعظيم الوهابيين لأمرائهم.

ثالثاً : إن فعل الصحابة والصلحاء أيضاً يخالف رأي الوهابية بحرمة مسّ القبر وتقبيله والتمرّغ به والتبرّك بترابه .

ص: 39


1- انظر كشف الارتياب : 343 .

1 - تبرّك الزهراء(سلام الله علیها) بتراب القبر :

عن علي(علیه السلام)«لما رمس رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) جاءت فاطمة فوقفت على قبره(صلی الله علیه و آله و سلم) وأخذت قبضة من تراب القبر و وضعت على عينها وبكت وأنشأت تقول :

ماذا على من شمَّ تربة أحمد*** أن لا يشمَّ مدى الزمان غواليا ***صُبَّت علىَّ مصائبٌ لو أنها ***صُبَّت على الأيّام صِرنَ لياليا»(1)

2 - تبرّك أبو أيوب الأنصاري بقبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) :

عن داود بن أبي صالح، أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر فأخذ مروان برقبته، ثم قال: هل تدري ما تصنع؟ فأقبل عليه، فإذا به أبو أيوب الأنصاري، فقال : نعم إني لم آتِ الحجر إنما جئت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) ولم آت الحجر. سمعت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) يقول :« لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن إبكوا على الدين إذا وليه غير أهله» (2).

أقول : وقد صحّحه الحاكم في مستدركه وكذلك الذهبي.

قال السبكي : «فإن صح هذا الإسناد لم يكره مس جدار القبر»(3).

قال الأميني : إنّ هذا الحديث يعطينا خبراً بأن المنع من التوسل بالقبور الطاهرة إنّما هو من بدع الأمويين(4).

ص: 40


1- إرشاد الساري : 352/3 ، الاتحاف للشبراوي: 90 وفاء الوفاء : 104/4 ، مشارق الأنوار: 63 ، الفتاوى الفقهية لابن حجر 2/ 18 ، السيرة النبوية 340/2 ، كشف الارتياب : 347 ، المواهب اللدنية : 400/3 .
2- مستدرك الحاكم : 560/4 الرقم 8571 ، وفاء الوفاء : 1404/4 .
3- أنظر وفاء الوفاء : 1404/4 ، كشف الارتياب : 347 .
4- الغدير : 15/5 .

3 - تبرّك بلال بقبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم):

إن بلالاً رأى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في منامه وهو يقول: ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آن لك أن تزورني؟ فانتبه حزيناً، وركب راحلته، وقصد المدينة فأتى قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) فجعل يبكي عنده ويُمَرِّغ عليه. . .(1) .

4 - تبرك ابن عمر :

عن ابن حملة: إن عبد الله بن عمر كان يضع يده اليمنى على القبر الشريف، وأن بلالاً وضع خدّه عليه أيضاً (2).

5 - تبرك عطاء : قال مصعب الزبيري: سمعت ابن أبي الزبير يقول : حدَّثنا مالك، قال: رأيت عطاء بن أبي رباح دخل المسجد وأخذ برمّانة المنبر ، ثم استقبل القبلة (3) .

التعريف بعطاء: قال الذهبي: هو الإمام شيخ الإسلام مفتي الحرم،حدَّث عن الصحابة روى له أرباب الصحاح (4).

5 - تبرّك ابن المنكدر (5)(التابعي):

كان يجلس مع أصحابه وكان يصيبه الصمات(6) فكان يقوم كما

ص: 41


1- سیر أعلام النبلاء : 358/18 ، أسد الغابة : 208/1، شفاء السقام : 39.
2- كشف الارتياب : 436 ، عن الخطيب ابن حمله، شرح الشفاء : 199/2، وفاء الوفاء : 4/ 1405.
3- سير أعلام النبلاء : 54/8.
4- سير أعلام النبلا. أعلام النبلاء : 078/5
5- قال الذهبي: هو الإمام الحافظ القدوة، شيخ الإسلام ولد سنة بضع وثلاثين وحدّث عن النبي (ص) وعن سليمان وأبي رافع و...روی عنه الصحاح السنة.وثقه ابن معین و أبو حاتم . . . ، سير أعلام النبلاء : 352/5.
6- قال ابن منظور:الصمات: اعتقال اللسان أو السکوت الطویل.لسان العرب:55/2 مادة صمت.

هو، يضع خدّه على قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) ثم يرجع، فعوتب في ذلك، فقال: إنّه ليصيبني خطره، فإذا وجدت ذلك استشفيتُ بقبر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)(1).

وعن الذهبي :« استعنتُ بقبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)»(2)

رأي فقهاء السنّة في التبرّك والتمسّح:

1 - فتوى ابن حنبل : قال ابن جماعة الشافعي: «لعبد الله بن احمد بن حنبل عن أبيه رواية قال عبد الله : سألت أبي عن الرجل يمسّ منبر رسول الله ويتبرّك بمسّه ويقبّلُه ويفعل بالقبر مثل ذلك رجاء ثواب الله تعالى؟ قال : لا بأس به»(3).

وفي العلل :« يريد بذلك التقرّب إلى الله عز وجل؟ فقال أحمد : لا بأس بذلك»(4).

2 - وعن ابن العُلا إن الإمام أحمد سُئل عن تقبيل قبر النبی (صلی الله علیه و آله و سلم)و تقبيل منبره ، فقال : لا بأس بذلك .

قال : فأريناه ابن تيمية، فصار يتعجّب من ذلك القول، ويقول : عجبتُ من أحمد، عندي جليل! هذا كلامه !!(5)

ونحن أيضاً نعجب من موقف ابن تيمية تجاه أحمد بن حنبل إذ لم يرمه بالشرك والبدعة والكفر !!

ص: 42


1- ( وفاء الوفاء : 444/2 ، انظر الغدير : 151/5.
2- سير أعلام النبلاء : 3/ 213 والملفت للانتباه والمثير للأسف هو أن مخرجي كتاب سير أعلام النبلاء والمعلقين عليه، تأثروا بتيار الفكر الوهابي، فتراهم إذا وصلوا إلى هذا النمط من الروايات يسارعون بلا روية إلى طعنها : إما بضعف السند وإما بالمخالفة لما يتوهمونه أنه العقيدة الإسلامية، وليس هو إلا الفكرة الوهابية.
3- وفاء الوفاء : 1414/4 .
4- الجامع في العلل ومعرفة الرجال : 32/3 ، الرقم 250 .
5- وفاء الوفاء 4 : 1414.

3- فتوى الرملي الشافعي:« إن كان قبر نبي أو ولي أو عالمٍ واستلمه، أو قبّله بقصد التبرّك فلا بأس به»(1) .

4 - وقال أيضاً: «يكره أن يقبّل التابوت الذي يجعل فوق القبر واستلامه وتقبيل الأعتاب عند الدخول لزيارة الأولياء . . . نعم إن قصد التبرّك لا يكره، كما أفتى به الوالد . . . فقد صرّحوا بأنه إذا عجز عن استلام الحَجر سنّ له أن يُشِر بعصا أو يقبّلها »(2) .

5 - فتوى محبّ الدين الطبري الشافعي :

«يجوز تقبيل القبر ومسُّه، وعليه عمل العلماء الصالحين»(3) .

6 - فتوى شهاب الدين الخفاجي الحنفي :

قال في شرحه على الشفا عند قوله : يكره مسّه وتقبيله، وإلصاق الصدر ؛ قال : وهذا أمرٌ غير مجمع عليه. ولذا قال أحمد والطبري : لا بأس بتقبيله والتزامه(4).

7 - ابن أبي الصيف اليماني، أحد علماء مكة من الشافعية :

نُقل عنه : «جواز تقبيل المصحف وأجزاء الحديث وقبور الصالحين»(5) .

8 - فتوى الزرقاني المالكي : تقبيل القبر الشريف مكروه إلاّ لقصد التبرّك فلا كراهة»(6).

ص: 43


1- حكاه الشبراملسي عن الشيخ أبي الضياء - المتوفى 1087 - في حاشية المواهب اللدنية، وكنز المطالب للحمزاوي : 219 .
2- المصدر السابق .
3- أسنى المطالب : 331/1 ، وفاء الوفاء : 1407/4.
4- شرح الشفا : 171/3 - وفاء الوفاء : 1404/4 - الغدير : 134/5.
5- الغدير : 153/5.
6- شرح المواهب : 315/8 .

9 - العزامي الشافعي قال عند قول ابن تيمية: من طاف بقبور الصالحين أو تمسّح بها كان مرتكباً أعظم العظائم .

قال : وأتى بكلام ملتبس فمرّة يجعله من الكبائر، وأُخرى من الشرك إلى مسائل من أشباه ذلك. قد فرغ العلماء المحقّقون والفقهاء المدققون من بحثها وتدوينها قبل أن يولد هو بقرون فيأبى إلا أن يخالفهم، وربّما ادّعى الإجماع على ما يقول، وكثيراً ما يكون الاجماع قد انعقد قبله على خلاف قوله كما يعلم ذلك من أمعن في كلامه وكلام من قبله وكلام من بعده ممّن تعقبه من أهل الفهم المستقيم والنقد السليم. وإليك مثالاً : التمسح بالقبر أو الطواف به من عوام المسلمين فأهل العلم فيه على ثلاثة أقوال : الجواز مطلقاً والمنع مطلقاً على وجه كراهة التنزيه الشديدة ولكنها لم تبلغ حدّ التحريم. و التفصيل بين من غلبه شدّة شوق إلى المزور فتنتفي عنده هذه الكراهة، ومن لا ، فالأدب تركه . وأنت إذا تأملت في الأمور التي كفّر بها المسلمين. . ترجع إلى مقدّمتين صدقت كبراهما وهي كل عبادة لغير الله شرك. . .و کذبت صغراهما وهي قوله: كل نداء لميت أو غائب أو طواف بقبر أو تمسح به أو ذبح أو نذر لصاحبه فهو عبادة لغير الله»(1).

10 - ابن حجر: «استنبط بعضهم من مشروعية تقبيل الحجر الأسود جواز تقبيل كلّ من يستحق التعظيم من آدمي وغيره . . . »(2).

11 - الشيخ إبراهيم الباجوري الشافعي:« يكره تقبيل القبر و استلامه إلاّ أن قصد به التبرّك بهم فلا يكره»(3) .

ص: 44


1- فرقان :القرآن 133 ، الغدير : 154/5 .
2- وفاء الوفاء : 1405/4 .
3- شرح الفقه الشافعي : 276/1 ، الغدير : 154/5 .

12 - وقال الشيخ العدوي الحمزاوي المالكي:« ولا مرية حينئذٍ أنَّ تقبيل القبر الشريف لم يكن إلاّ للتبرّك، فهو أولى من جواز ذلك لقبور الأولياء عند قصد التبرّك»(1).

رواية في تقبيل القبر:

روى في كشف الارتياب عن كفاية الشعبي وفتاوى الغرائب و مطالب المؤمنين وخزانة الرواية ما هذا لفظه :

«لا بأس بتقبيل قبر الوالدين، لأن رجلاً جاء إلى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) فقال : يا رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) إنّي حلفت أن أقبُل عتبة باب الجنّة وجبهة حور العين، فأمره أن يقبُل رِجلٙ الأمّ وجبهة الأب . قال : يا رسول الله إن لم يكن أبواي حيين؟ قال : قَبُل قبرهما. قال: فإن لم أعرف قبرهما ؟ قال : خطّ خطين إنو أحدهما قبرَ الأمّ، والآخر قبر الأب فقَّبل۟هما فلا تحنث في يمينك»(2) .

التبرّك بالآثار:

إن سيرة المسلمين قديماً وحديثاً جارية على التبرك بمنبر رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) و موضع صلاته وموضع قدمه، والتبرّك بما مسّه النبي الكريم من الأشياء والتبرّك بتراب المدينة، خصوصاً تراب قبر سيّدنا حمزة(علیه الاسلام).

وإليك بعض النماذج في ذلك :

أ - التبرك بالمنبر :

ص: 45


1- كنز المطالب : 20 ، الغدير : 154/5 ، مشارق الأنوار: 140/1 .
2- کشف الارتياب : 350

کان لمنبر النبی(صلی الله علیه و آله و سلم) عند المسلمین الحرمة و المکانة بحیث کان بعض الفقهاء یتأبی من الحلف علی المنبر تعظیماً له ؛ و أنّهم کانوا یتبرّکون به:

1_ البخاری: قضی مروان بالیمین علی زید بن ثابت علی المنبر(1).

2_العاقولی:بعد ذکره منبر رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) قال:«إن هذا المنبر تهافت علی طول الزمان فجدّده بعض خلفاء بنی العبّاس،و اتخذ من بقایا أعوادمنبر النبی(صلی الله علیه و آله و سلم) أمشاطاً للتبرّک بها کما أنّهم _ أی الصاحبة_ کانو یهتمّون بمسّه»(2).

3 - وفي كتاب الآثار النبوية : «منبره(صلی الله علیه و آله و سلم) كان بمكانه حتى احترق وكان لإحراقه في سكان المدينة الطيبة وقع أليمٌ لما فاتَهُم من مس رمانته التي كان يضع يده المباركة عليها ولمْسِ موضع قدميه الشريفين»(3) .

4 - عن يزيد بن عبد الله بن قسيط(4) قال: «رأيت ناساً من أصحاب النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) إذا خلا المسجد أخذوا برمّانةِ المنبر الصلعاء التي تلي القبر بميامنهم ثُمّ استقبلوا القبلة يدعون»(5).

5 - ذكر الشيخ أحمد بن عبد الحميد - وهو من أعلام القرن العاشر - تبرّك الناس بأعواد منبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)(6) .

ص: 46


1- صحيح البخاري : 243/3.
2- راجع كتاب التبرك : 139 للعلامة الأحمدي.
3- الآثار النبوية : 31.
4- قالوا فيه : (هو الإمام الفقيه الثقة، روى عن أصحاب الصحاح الستة وأنه ثقة فقيه، يستعان به في الأعمال لأمانته وفقهه مات عام 122ه- سير أعلام النبلاء : 266/5 .
5- الطبقات الكبرى : 13/1 ، وفاء الوفاء : 1401/4.
6- عمدة الأخيار : 135 .

6 - السمهودي :« إن منبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) جُعل عليه منبر كالغلاف وجُعِلَ في المنبر الأعلى طاق ممّا يلي الروضة، فيُدْخِلُ الناس منها أيديهم، يمسحون منبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) و يتبرّكون بذلك»(1).

فتوى الفقهاء في ذلك:

1 - روي عن مالك ويحيى بن سعيد الأنصاري، شيخُ مالك، و كذا عن ابن عمر، وابن المسيّب: جواز مسح رمانة المنبر(2).

2 - وأما من طرق أهل البيت(علیهم الاسلام) : فعن الإمام جعفر الصادق(علیه السلام) : «وإذا فرغتَ من الدعاء عند قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) فآت المنبر فامسحه بيدك و خذ برمّانتيه، و هما السفلان، و امسح عينيك ووجهك به، فإنّه يقال : إنّه شفاء للعين»(3).

4 - قال إسحاق بن إبراهيم: «و مما لم يزل شأن مَن حج، المرور بالمدينة والقصد إلى الصلاة في مسجد النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) والتبرّك برؤية روضتهِ و منبره و قبره و مجلسه و ملامس يديه ومواطىء قدميه، والعمود الذي كان يستند إليه ونزل جبرائيل عليه. و بمن عمّره وقصده من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين والاعتبار بذلك كلّه»(4) .

5 - الغزالي:« وكلُّ من يتبرك بمشاهدته في حياته، يتبرك بزيارته بعد وفاته ويجوز شدُّ الرحال لهذا الغرض»(5).

ص: 47


1- وفاء الوفاء : 2/ 39 .
2- الصارم المنكى : 132 ، وفاء الوفاء : 1403/4 ، انظر ترجمة يحيى في سير أعلام النباء 468/5.
3- وسائل الشيعة: 270/10 ، باب 7 ح 1 .
4- الصارم المنكى : 148 .
5- إحياء العلوم : 258/1 .

التبرك بتراب القبر وتراب المدينة:

قد ثبت أن المسلمين كانوا يتبرّكون بتراب قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) و قبر حمزة وبتراب المدينة مطلقاً، كما وردت نصوص في أن تراب المدينة شِفاء من كل داء، أو من الجذام، أو من الصداع أو غير ذلك. و قد أفتى فقهاء المسلمين بجواز ذلك بل رجحانه :

1 - قال السمهودي : كانوا - أي الصحابة - وغيرهم يأخذون من تراب قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم). فَأَمرت عائشة فضرب بالكوة فَسُدّت»(1).

وقيل: إن ضربها لأجل أنه يوجب نفاد تراب القبر الشريف و خراب القبة الشريفة(2) .

2 - وقال أيضاً: بعد ذكره تبرّك المسلمين بتراب المدينة : إنّهم جرَّبوا تراب قبر صهيب(3) للحمّى . ثم قال الزركشي : استثني من عدم جواز حمل تراب المدينة إلى غيرها - لكونها حرماً - تربة حمزة لاطباق الناس على نقلها للتداوي(4).

3 - يقول الصنهاجي : سألت أحمد بن يكوت عن تراب المقابر الذي كان الناس يحملونه للتبرّك هل يجوز أن يمنع ؟ فقال : هو جائز، وما زال الناس يتبرّكون بقبور العلماء والشهداء والصالحين وكان الناس يحملون تراب قبر سيدنا حمزة في القديم من الزمان (5).

4 - قال ابن فرحون:« و الناس اليوم يأخذون من تربة قريبة من

ص: 48


1- وفاء الوفاء : 544/1 .
2- المصدر السابق .
3- بل أرض صعيب اسم موضع بالمدينة كما يأتي .
4- وفاء الوفاء : 69/1 .
5- وفاء الوفاء : 116/1 .

مشهد سيدنا حمزة، و يعملون خرزاً يشبه التسبيح. واستدل ابن فرحون بذلك على جواز نقل تراب المدينة»(1).

أحاديث في الاستشفاء بتراب المدينة:

1 - السمهودي روينا في كتاب ابن النجار والوفاء لابن الجوزي حديث : غبار المدينة شفاء من الجذام .

2 - وفي جامع الأصول لابن الأثير عن سعد قال: لما رجع رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) من تبوك تلقَّاه رجال من المخلَّفين من المؤمنين، فأثاروا غباراً، فخمَّر - أو فغطّى - بعضُ مَنْ كان مع رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) أنفه فأزال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) اللثام عن وجهه و قال : «و الذي نفسي بيده إن في غبارها شفاء من كل داء ».

3 - وعن أبي سلمة : بلغني أن رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: «غبار المدينة يطفي الجذام» .

قلت : وقد رأينا من استشفى بغبارها من الجذام وكان قد أضرَّ به كثيراً، فصار يخرج إلى الكومة اليبضاء، ببطحان بطريق قباء ويتمرّغ بها ويتخذها منها في مرقده فنفعه ذلك جداً.

4 - روى ابن زبالة ويحيى بن الحسن بن جعفر العلوي وابن النجار كلاهما في طريقه أن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أتى بَلحارث، فإذا هم رَوبی (2)، فقال: ما لكم يا بني الحارث روبي؟ قالوا: أصابتنا يا رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) هذه الحمّى. فقال: فأين أنتم من صعيب؟ قالوا: يا

ص: 49


1- وفاء الوفاء : 116/1
2- روبي: جمع روبان وهو الخائر النفس، الشديد الأعياء، المختلط العقل . انظر القاموس المحيط : 80/1.

رسول الله ما نصنع به؟ قال : تأخذون من ترابه فتجعلونه في ماء، ثم يتفل عليه أحدكم و يقول : بسم الله، تراب أرضنا بريق بعضنا، شفاء المريضنا، بإذن «ربّنا» ففعلوا فتركتهم الحمّى .

قال ابن النجار عقبة : قال أبو القاسم بن يحيى العلوي: صعيب : وادي بطحان دون الماجشونية، وفيه حفرة مما يأخذ الناس منه، وهو اليوم إذا وَبَأ إنسان أخذ منه .

وقال ابن النجار: وقد رأيتُ أنا هذه الحفرة اليوم، والناس يأخذون منها، وذكروا أنهم جربوه فوجوده صحيحاً.

قال : وأخذت أنا منه أيضاً.

قلت : وهذه الحفرة موجودة اليوم مشهورة خَلفاً عن سلف يأخذ الناس منها وينقلونه للتداوي وقد بعثتُ منها لبعض الأصحاب، أخذاً ممّا ذكروه في أخذ نبات الحرم للتداوي .

ثم قال السمهودي بعد كلام الزركشي : ينبغي أن يستثنى من منع نقل تراب الحرم تربة حمزة (علیه الاسلام)، الاطباق السلف والخلف على نقلها للتداوي من الصداع.

فقلت : عند الوقوف - على كلام الزركشي - أين هو من تراب صعیب(1).

التبرّك بالنقود والذهب الذي مسهُ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم):

1 - عن جابر بن عبد الله قال :« كنتُ مع النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) . . . و كنت على جمل فاعتلَّ، قال فلحقني رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) و أنا في آخر الناس

ص: 50


1- وفاء الوفاء : 69/1 .

فقال : ما لكَ يا جابر؟ قلت: إِعتلَّ بعيري، قال : فأخذ بذنبه ثم زجره، قال : فما زلت إنّما أنا في أوّل الناس. . . فلما دنونا من المدينة قال لي رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)ما فعل الجمل؟ قلت : هو ذا قال : فبعنيه قلت: لا بل هو لك . . . قال : لا قد أخذته بأُوقية، إركبه فإذا قدمتَ فائتنا به، قال: فلما قدمتُ المدينة جئتُ به فقال: يا بلال زن له وقية وزده قيراطاً، قال: قلت هذا قيراط زادنيه رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) لا يفارقني أبداً حتى أموت . قال : فجعلتُهُ في كيس فلم يزل عندي حتى جاء أهل الشام يوم الحرَّة، فأخذوه فيما أخذوا »(1) .

فها هو جابر بن عبد الله الأنصاري الصحابي يتبرّك ويحتفظ - وفي حياة النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) - بقيراط زاده النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) ويؤكّد على اصطحابه إلى أن يموت .

2 - عن بعض النساء اللاتي خرجن مع رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم) إلى خيبر وأعطاهن النبي سهماً من الغنائم قالت :« أتيت رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) في نسوة فقلت يا رسول الله قد أردنا الخروج معك نعين المسلمين ما استطعنا .

فقال: على بركة الله، قالت: فخرجنا معه، فلما افتتح خيبر و رضخ(2) لنا وأخذ هذه القلادة و وضعها في عنقي، فوالله لا تفارقني أبداً، وأوصت أنها تدفن معها »(3).

فهذه الصحابية تتبرّك بقلادة مستها يد رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وتفتخر بها و توصي أن تدفن معها. ولم ينكر عليها أحد، ولا رماها بالبدعة والشرك والكفر.

ص: 51


1- مسند أحمد : 314/3 ، سنن النسائي : 289/7.
2- الرّضخ: العطاء اليسير ،مجمع البحرين: 432/2 مادة «رضَخ» .
3- السيرة الحلبية : 770/2 .

التبرك بآثار النبي(صلی الله علیه و آله و سلم):

1 - عن أنس بن مالك قال : «رأيت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) و الحلاق يحلقه و أطاف به أصحابه، فما يريدون أن تقع شعرة إلاّ في يد رَجُلٍ»(1).

2 - وعن محمد بن سیرین، قلت لعبيد: عندنا من شعر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) أصبناه من قبل أنس، قال : لأن يكون عندي شعرة منه أحبَّ إليَّ من الدنيا وما فيها (2).

3 - وعن كبشة قالت : دخل عليَّ رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) فَشَرِب من في

قربةٍ معلّقة قائماً فقمتُ إلى فيها فقطعتُهُ (3).

وعن ابن ماجة زيادة: تبتغي بركة موضع في (أي فم) رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)(4) .

ثم أن الترمذي حسَّن الحديث وصححه (5). ورواه أحمد عن أنس عن أمّ سليم (6) .

4 - إن سهل بن سعد يحدّث من حوله : إن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) حينما جلس هو وأصحابه في سقيفة بني ساعدة، وطلب من سهل أن يسقيه ماء، يقول : فأخرجتُ لهم هذا القدح فأسقيتُهم فيه، فأخرج - يقول الراوي - لنا سهل ذلك القدح فشربنا منه، قال : ثم استوهبه عمر بن عبد العزيز بعد ذلك، فوهبه له .

ص: 52


1- (1) جامع الأصول : 1024 . وكانوا يقتتلون على قطرات وضوئه للاستشفاء بها . البخاري : 35/3 الرقم187 _تاریخ الطبری:275/3.
2- المصدر نفسه.
3- الجامع الصحيح للترمذي : 306/4 الرقم 1492 .
4- سنن ابن ماجة : 1132/2 الرقم 3423 .
5- الجامع الصحيح للترمذي : 306/4
6- مسند أحمد 119/3.

قال البخاري: رأيت هذا القدح بالبصرة وشربتُ منه، وكان أُشتري من ميراث النضر بن أنس، بثمانمائة ألف(1).

5 - التبرك بالنبي(صلی الله علیه و آله و سلم) :عن عائشة أن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) كان يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم(2) .

6 - الإستشفاء بجبة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) : مسلم - عن أسماء بنت أبي بكر . . . هذه جبة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) فاخرجت إلي جبة طيالسة كسروانية لها لبنة ديباج وفَرجيها مكفوفين بالديباج، فقالت: هذه كانت عند عائشة حتّى قبضت، فلما قبضت قبضتها وكان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) يلبسها فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها (3).

الشرح :

1 - كسروانية: منسوب إلى كسرى ملك فارس، و هي منصوبة صفة لجبة، وقيل مجرورة صفة طيالسة .

2 - لبنة: بكسر اللام وسكون الموحدة: رقعة توضع في جيب القميص والجبة .

3 - فرجيها : أي شقّيها شق من خلف وشق من قدام.

4 - مكفوفين : أي مخيطين. و للنووي فيها توضيح آخر فراجع ثم أن أسماء هذه بقيت إلى سنّة ثلاث وسبعين للهجرة(4) و بعد قتل ابنها عبد الله بن الزبير، وتوفيت عائشة قبل عام ستين بالهجرة فكانت قصة استشفائها - وهي صحابية - بجبة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) مستمراً - على الأقل - من

ص: 53


1- فتح الباري: 101 - 103 .
2- الاستيعاب : 5/18 عن صحيح مسلم .
3- صحیح مسلم : 314/3 / كتاب اللباس .
4- طبقات ابن سعد :8 255 . المستدرك على الصحيحين 4 : 65 ، سیر أعلام النبلاء 2 : 295 .

عام ستين إلى ثلاث وسبعين بمنظر ومرأى من الصحابة، كالحسين(علیه السلام) وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وزيد بن أرقم و أنس بن مالك، ولم يرد الاعتراض والنهي من احدهم، مما يدلُّ على أن جوازه كان أمراً مسلَّماً ومفروغاً منه. نعم إن نغمة التحريم، إنما بدأت تُسمع وتثار من يوم ظهرت غرائب ابن تيمية ثم بعدها بدأ تيار ابن عبد الوهاب، فصار الاستشفاء بجبة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) و نظائره حراماً وشركاً ! ! ! ونُسخ الجواز، بفتوى الحراني !! سبحان الله. .

تبرّك الفاكهاني بنعل منسوب إلى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم):

وعن جمال الدين عبد الله بن محمّد الأنصاري(1) المحدّث قال : رحلنا مع شيخنا تاج الدين الفاكهاني(2) إلى دمشق فقصد زيارة نعل سيّدنا رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) التي بدار الحديث الأشرفية بدمشق و كنت معه فلمّا رأى النعل المكرّمة حسر عن رأسه و جعل يقبّلُه و يمرّغ وجهه عليه و دموعه تسيل وأنشد : فلو قيل للمجنون: ليلى و وصلها*** تريد أم الدنيا وما في طواياها*** لقال : غبارٌ من تراب نعالها*** أحبُّ إلى نفسي وأشفى لبلواها(3)

سيرة ابن عمر:

عن نافع : لو نظرت إلى ابن عمر، إذا اتّبع رسول الله لقلت هذا مجنون (4).

ص: 54


1- لاحظ ترجمته في معجم المؤلفين : 115/6 .
2- قالوا فيه: «فقيه مشارك في الحديث والأصول والعربية توفي عام 731ه_ . ومن تصانيفه التحفة المختارة في الرّد على منكر الزيارة معجم المؤلفين : 299/7
3- الديباج المذهب : 187 ، الغدير : 155/5 .
4- سير أعلام النبلاء أعلام النبلاء : 213/3 ، حلية الأولياء : 310/1 .

و قال أيضاً: إن ابن عمر كان يتّبع آثار رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) كلَّ مكان صلّی فیه،حتی أنّ النبی(صلی الله علیه و آله و سلم) نزل تحت شجرة فكان ابن عمر يتعاهد تلك الشجرة، فيصبّ في أصلها الماء، لكيلا تيبس(1).

و عن مالك: إن ابن عمر كان يتبع أمر رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) و آثاره و حاله، ويهتمّ به حتى كان قد خيف على عقله من اهتمامه بذلك(2).

عن نافع عن ابن عمر: أنّه كان في طريق مكة يقول برأس راحلته يثنيها ويقول : لعلَّ خُفاً يقع على خفٍ، يعني راحلة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)(3).

كان ابن عمر يتبرّك بمقعد النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) من منبره(4).

عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد القاري أنّه نظر إلى ابن عمر وهو يضع يده على مقعد النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) من المنبر ثم يضعها على وجهه(5).

سيرة محمد بن المكندر:

وكان محمد بن المنكدر(6) يأتي موضعاً من المسجد في الصحن فيتمرّغ فيه و يضطجع فقيل له في ذلك، فقال : إني رأيت النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) في هذا الموضع(7)

ص: 55


1- سیر أعلام النبلاء : 3/ 213 ، أسد الغابة : 341/3.
2- سير أعلام النبلاء : 213/3
3- سير أعلام النبلاء : 237/3 ، حلية الأولياء : 310/1 .
4- وفاء الوفاء : 1406/4 .
5- المغني لابن قدامة : 559/3 .
6- وثقة ابن معين وأبو حاتم، وروى له الستة في صحاحهم وقالوا فيه إنه الحافظ الإمام، وإنه من معادن الصدق ويجتمع إليه الصالحون، سير أعلام النبلاء : 358/5.
7- وفاء الوفاء : 1406/4 ، سير أعلام النبلاء : 359/5 ثم أن رؤيته للنبي كانت في المنام لا في اليقظة وذلك لأنه تابعي وولادته عام بضع و ثلاثین للهجرة.

سيرة المأمون:

قال المأمون ليحيى بن أكثم إن الرجل ليأتيني بالقطعة من العود أو بالخشبة، أو بالشيء الذي لعل قيمته لا تكون إلاّ درهماً أو نحوه، فيقول : إنَّ هذا كان للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم) أو قد وَضَع يده عليه أو مسّه، وما هو عندي بثقة ولا دليل على صدق الرجل، إلاّ أني بفرط النية والمحبة، أقبل ذلك، فاشتريه بألف دينار وأقل وأكثر، ثمَّ أضعَهُ على وجهي وعيني، وأتبرّك بالنظر إليه وبمسّه فأستشفي به عند المرض يصيبني أو يصيب من أهتمّ به فأصونه كصيانتي لنفسي وإنما هو عودٌ لم يفعل هو شيئاً ولا فضيلة له، تستوجب به المحبة إلاّ ما ذكر من مسّ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)(1).

أقول: ويحيى بن أكثم هذا هو من أئمة السنة وعلماء الناس كما عن ابن كثير(2) . وهو قاضي القضاة والفقيه العلامة ومن أئمة الاجتهاد كما عن الذهبي(3).

والمأمون هذا الذي يقال عنه : كان أماراً بالعدل محمود السيرة، میمون النقيبة فقيه النفس، يُعد من كبار العلماء! تراه يتبرّك بالأَشياءِ المنسوبة إلى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) ، ويرى التبرّك أمراً مشروعاً وجوازه مفروغاً عنه، و يذكر هذا الأمر عند يحيى الذي هو من فقهاء العصر، ولا يرده بل يقرره على الجواز .

ص: 56


1- تاریخ بغداد لطيفور : 45 .
2- البداية والنهاية : 316/10 ، هذا من باب المماشة، وإلا فابن أكثم معروف بعبثه بالمُرد، انظر : سير أعلام النبلاء : 10/12.
3- سير أعلام النبلاء : 279/10 ، ولا منافاة عند البعض بين كونه أماراً بالعدل وشربه الخمر : 10/ 276 ، وإن حاول المعلق الدفاع عنه كعادته في هذه التعاليق .

التبرك بحجر من بيت فاطمة(سلام الله علیها) :

عن يحيى بن عباد: أنه روى أن بيت فاطمة الزهراء(سلام الله علیها) لما أخرجوا منه فاطمة بنت الحسين وزوجها الحسن بن الحسن وهدّموا البيت، بعث حسنُ ابنه جعفراً وكان أسنَ ولده وقال : انظر الحجر الذي من صفته كذا وكذا. هل يُدخلونه في بنيانهم؟ فرصدهم حتى رفعوا الأساس وأخرجوا الحجر، فأخبر أباه، فخرَّ ساجداً وقال : ذلك حجرٌ كان رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) يصلّي إليه إذا دخل إلى فاطمة، أو كانت فاطمة تصلّي إليه - الشك من يحيى - وقال علي بن موسى الرضا(علیه الاسلام) ولدت فاطمة(سلام الله علیها) الحسن والحسين(علیها السلام) على ذلك الحجر .

قال يحيى: ورأيت الحسين بن عبد الله بن عبد الله بن الحسین، ولم أرَ فينا رجلاً أفضل منه، إذا اشتكى شيئاً من جسده كشف الحصى عن الحجر فيتمسّح(1) به .

أقول : فإذا كانت هذه حرمة حجر نال البركة بولادة فاطمة(سلام الله علیها) ولديها الحسنين(علیها السلام) ؛ وبصلاتها أو صلاة أبيها(صلی الله علیه و آله و سلم) إليه ؛ فكيف بتربة ضمَّت جسد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؟ ألا يحق التبرّك بها و طلب الحاجة إلى الله عند تلك التربة وذلك القبر؟

التبرك بحجر من المروة :

عن رزين مولى علي بن عبد الله بن عباس أن علياً كتب إليه أن يبعث إليه بقطعة من المروة فيتخذه مصلّى يسجد عليه(2) .

ص: 57


1- کشف الارتياب : 352 ، وفاء الوفاء .
2- وفاء الوفاء : 115/1 .

قبور وجنائز يتبرك بها:

1 - قبر سعد بن معاذ: إن أحَداً أخذ من تراب سعد، فذهب بها ثم نظر إليها بعد ذلك فإذا هي مسك(1).

2 - قبر عبد الله الحداني : المقتول سنة 183 ه_ قُتل يوم الترویة كان الناس يأخذون من تراب قبره كأنّه مسك يُصيّرونه في ثيابهم (2).

- قبر معروف الكرخي : قال ابن الجوزي: قبره ظاهر يتبرّك به في بغداد. و كان إبراهيم الحربي يقول: قبرُ معروف: الترياق المجرب(3) .

4 - قبر أحمد بن حنبل : إمام الحنابلة المتوفى 241ه_ . قبره ظاهر مشهور يزار ويتبرك به(4) .

5 - قبر الخضر بن نصر الأربلي الفقيه الشافعي المتوفى 567ه_ نقل ابن كثير عن ابن خلكان: قبره يزار وقد زرته غير مرّة و رأيت الناس ينتابون قبره ويتبرّكون به(5).

والحاصل أنّا طالما نرى الصحابة والتابعين والمحدّثين يتبرّكون بآثار رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) ، هذا يتبرّك بشعرة من شعراته (صلی الله علیه و آله و سلم) و ذلك يتبرّك ب_«فم قربةٍ» شَرِب منها، و ثالث يتبرّك بنعله (صلی الله علیه و آله و سلم) و رابع يتبرّك بموضع خف بعير رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) و خامس يتبرّك بالعود، أو الخشبة التي كانت

ص: 58


1- الطبقات الكبرى : 103 ، سير أعلام النبلاء : 289/1 ، وهو السيد الكبير، أبو عمرو الأنصاري الذي قيل اهتز العرش لموته . انظر سير أعلام النبلاء : 279/1 ، وعندنا أيضاً أنه صحابي جليل :أنظر : معجم رجال الحديث : 91/8 ، وتنقيح المقال : 21/2، مستدركات علم الرجال : 43/4 .
2- حلية الأولياء : 258/2 ، تهذيب التهذيب : 310/5
3- صفة الصفوة : 324/2.
4- مختصر طبقات الحنابلة : 14 .
5- البداية والنهاية : 353/12 انظر الغدير : 203/5 .

لرسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) ، وسادس يتبرّك بتراب قبره(صلى الله عليه و آله و سلم) وهلمَّ جراً. وليسوا أفراداً عاديين، فمنهم الصحابة ومنهم التابعون، ومنهم أئمّة الحديث و أصحاب الصحاح والسنن أو مشايخهم والفقهاء .

وبعد هذا كلّه فما بالُ ابن تيمية وأنصاره يكفرون من تبرّك بالقبور أو بخصوص قبر النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) ، فهل يلتزم - ابن تيمية - بلوازم كلامه من تكفير الصحابة والتابعين وأصحاب الصحاح، والفقهاء خلفاً عن سلف !!؟

6 - قبر نور الدین محمود بن زنكي المتوفى 569: قال ابن كثير: قبره بدمشق يزار ويحلّق بشبّاكه ويطيّب ويتبرّك به كلُّ مار(1).

7 - اتباع ابن تيمية يتبرّكون بجنازته : لقد تبرَّك أتباعه بجنازته وماء غسله ممّا يثير السؤال: هل أن اتباعه كانوا مشركين وأهل بدعة - طالما يرى التبرّك شركاً وبدعة - إذ تمسَّحوا بالجنازة؟ هل شيّعه المشركون ولم يحضر جنازته مسلم !؟ أو أن جواز التبرّك والتمسّح، أمرٌ ارتكازي لدى المسلمين، و أن الفتوى بحرمته، تعدُّ فتوى على خلاف المرتكز وقولاً بغير ما أنزل الله؟

كان تشييعه حافلاً حتى ضاقت الطريق لجنازته وانتهى إليها الناس من كل فجّ عميق واشتد الزحام وألقوا على نعشه مناديلهم و عمائمهم للتبرّك، وكسرت أعواد سريره لكثرة تعلّق الناس به وشربوا ماء غُسله للتيمن. . . واشتروا ما زاد من سدره وقسّموه بينهم . و يقال : إن الخيط الذي كان عليه الزيبق وعلّق على جسده لدفع القمَّل، اشتروه بمائة

ص: 59


1- البداية والنهاية : 353/12 ، أنظر الغدير : 203/5 ، هو السلطان صاحب بلاد الشام، قالوا عنه : كان مجاهداً في الفرنج آمراً بالمعروف وليست الدنيا عنده بشيء، استرجع من أيدي الكفار نيفاً وخمسين مدينة . . . البداية والنهاية : 306/12 .

وخمسين درهما (1) .

8- تبرّك الناس بتراب قبر البخاري: كتب السُبكي عن وفاة البخاري و دفنه :

وأما التراب، فإنّهم كانوا يرفعون عن القبر، حتّى ظهر القبر، ولم يكن يُقدّر على حفظ القبر بالحراس، و غلبنا على أنفسنا فنصبنا على القبر خشباً مُشبكاً، لم يكن أحدٌ يقدر على الوصول إلى القبر(2).

9 - التبرك بيحيى بن مجاهد ت :366 : ذكره ابن بشكوال، فقال : «زاهد عصره وناسك مصره، الذي به يتبركون وإلى دعائه يفزعون . . . »(3) .

10 - التبرك بالبساط : قال السُبكي: لما سكن - الوالد - في قاعة دار الحديث الأشرفية في سنة 642ه_ كان يخرج في الليل إلى إيوانها، ليتهجد تجاه الأثر الشريف ويمرّغ وجهه على البساط، و هذا البساط من زمان الأشرف الواقف عليه اسمه، وكان النووي يجلس عليه وقت الدرس. . . (4).

11 - التبرك بالداوودي: نقل الذهبي عن السمعاني : كان - أي الداوودي - وجه مشايخ خراسان . . . يستحق أن يطوى للتبرك به فراسخ. . . (5).

أقول : وقد حذفوا هذه الكلمة - من الأنساب - كرامة لابن تيمية

ص: 60


1- انظر البداية والنهاية : 136/14 ، الكنى والألقاب: 1/ 237.
2- طبقات الشافعية : 233/2 ، سير أعلام النبلاء : 467/12 .
3- سیر أعلام النبلاء : 245/16 .
4- طبقات الشافعية : 396/8 .
5- سير أعلام النبلاء : 223/18 ، الأنساب : 448/2 .

وعبد الوهاب وفتاواهم المباركة ! ! !

12 - تبرك الدارقطني بالقواس : عن الدارقطني : كنا نتبرك بأبي الفتح القواس وهو صبي(1).

13 - التبرك بالأعواد: عن محمد بن يوسف البخاري الحافظ، قال : كنّا في الحج مع يحيى بن معين، فدخلنا المدينة ليلة الجمعة ومات - أي يحيى بن معين - من ليلته. فلما أصبحنا تسامع الناس بقدومه وبموته فاجتمع العامة، وجاءت بنو هاشم، فقالوا يُخرج له الاعواد التي غُسّل عليها رسول الله، فكرِه العامة ذلك، وكثر الكلام، فقالت بنو هاشم: نحن أولى بالنبي(صلی الله علیه و آله و سلم) و هو أهل أن يغسل عليها، فغُسّل عليها ودفن يوم الجمعة 233ه_ .

وقال عباس الدوري: مات فحمل على أعواد النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)(2).

14 - التبرك بالآبار: الغزالي: في زيارة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) و آدابها : ويأتي بئر أويس، يقال : إنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) تفل فيها و هي عند المسجد فيتوضأ منها و يشرب من مائها و يقال : إنّ جمیع المشاهد و المساجد بالمدينة ثلاثون موضعاً يعرفها أهل البلد فيقصد ما قدر عليه. وكذلك يقصد الآبار التي كان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يتوضَّأ منها ويغتسل ويشرب منها، وهي سبع آبار طلباً للشفاء وتبركاً به(صلی الله علیه و آله و سلم)(3) .

فهل كان أهل سمرقند عام 256ه_ كفّاراً ومشركين، إذ كانوا يتبرّكون بتراب قبر محمد بن إسماعيل البخاري؟!

ص: 61


1- سير أعلام النبلاء : 475/16 ، تاریخ بغداد: 327/14.
2- سير أعلام النبلاء : 11/11 - 95 .
3- إحياء العلوم 260/1 .

و هل جهّزه وكفّنه وشيّعه ودفنه الكفّار ؟ وهل هذه النماذج التي أوردناها من الصحابة و التابعين وتابعي التابعين و . . . تنبىء عن انحرافهم!! عن التوحيد إلى غيره.

ما هذه الجرأة في التهجّم على المسلمين؟ أين التقوى والعفّة في الكلام؟ وأين هذه الأفكار والمزاعم من الإسلام والسنّة النبوية.

دعنا نكتفي بهذا المقدار من النصوص التاريخية الدالة على أن التبرّك بقبور المسلمين وآثارهم كان من الأمور الرائجة والمتعارف عليها في المجتمع الإسلامي من عهد النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) إلى يومنا هذا ولم يفت فقيه بحرمة ذلك، بل صرّحوا بجوازه ورجحانه،و استحبابه .

ص: 62

الفصل الثالث الاستغاثة و طلب الحوائج

اشارة

1- رأي الوهابية

2 - مناقشة الفكرة

3 - الاستغاثة بالنبي(صلی الله علیه و آله و سلم)

4 - الاستغاثة بالأنبياء استغاثة بالأحياء

5 - عثمان يأمر بالاستغاثة بقبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)

6 - الاستغاثة بالقبور

7 - نماذج ممن استغاث بالقبور

ص: 63

ص: 64

الاستغاثة وطلب الحوائج

قال ابن تيمية : إن قول أدركني أو أغثني أو أشفع لي أو انصرني على عدوّي ونحو ذلك ممّا لا يقدر عليه إلاّ الله إذا طلب في أيّام البرزخ كان من أقسام الشرك(1) .

وقال في رسالة زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور :

من يأتي إلى قبر نبي (صلی الله علیه و آله و سلم ) أو صالح ويسأله حاجته و يستنجده مثل أن يسأله أن يزيل مرضه أو يقضي دينه، أو نحو ذلك ممّا لا يقدر عليه إلاّ الله فهذا شرك صريح، يجب أن يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل.

و قال : قول كثير من الضّلال: هذا أقرب إلى الله منّي. وأنا بعيد من الله لا يمكنني أن أدعوه إلا بهذه الواسطة ونحو ذلك من أقوال المشركين(2) .

و قال محمد بن عبد الوهاب : إِنَّ دعاء غير الله والاستغاثة بغير الله موجب للارتداد عن الدين والدخول في عداد المشركين وعبدة الأصنام و استحلال المال و الدم إلاّ مع التوبة. . .(3) .

والجواب :

إن الدعاء والاستغاثة بغير الله يكونان على وجوه ثلاثة :

ص: 65


1- الهدية السنية : 40 .
2- أنظر كشف الارتياب : 214 .
3- انظر كشف الارتياب : 214 .

1 - أن يهتف باسمه مجرّداً مثل أن يقول: يا محمد، يا عبد القادر، يا أهل البيت .

2 - أن يقول : يا فلان كن شفيعي، أو ادع الله أن يقضي حاجتي.

3 - أن يقول : اقض ديني، إشف مريضي، يا محمد أغنني من فضلك .

و لا مانع في هذه الوجوه، فضلاً عن أنها ليست شركاً بالله، لأن المسلم الموحّد يعتقد بأن سوى الله لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً بالاستقلالية، و إذا رجا من أحدٍ نفعاً أو كشفاً لضرّ فيما منحه الله تعالى(1) من ذلك، و بلا انفكاك عن مشيئة الله، فما شاء الله كان و ما لم يشأ لم يكن . . . فهو لا يقصد من التوجّه إلى من ارتضاه الله و اجتباه و فضّله على خلقه إلاّ الشفاعة في قضاء الحاجة والدعاء لتيسير و تعجيل و تحقيق قضائها. فلا بد من حمل فعله على الصحيح، وعدم التهجّم على الدماء والأموال والأعراض بغير يقين .

و عليه فلو قال: يا محمد: ادع الله أن يقضي حاجتي، يكون المقصود هو الله تعالى.

و أمّا لو قال : يا محمد اقض حاجتي: فمن باب إسناد الفعل إلى السبب مثل : انبت الربيع البقل .

و فيما يلي تذكرة ببعض الآيات التي ظاهرها صدور الفعل من العبد:

1 - ﴿وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَتْهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ ﴾(2).

2 - ﴿ وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾ .

ص: 66


1- سورة النساء، الآية : 5.
2- سورة التوبة، الآية : 74.

3 - ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا هُمُ اللهُ وَرَسُولُه وَقَالُوا حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِۦ، وَرَسُولُهُ ﴾(1).

فالإغناء لا يكون إلاّ من الله فكيف جُعِل الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) (2)شريكاً في الرزق؟ والوهابية جعلت قول : ارزقني شركاً وكفراً.

4 - أضف إلى ذلك أن الله تعالى نسب إلى عيسى الخلق وإبراء الأكمه والأبرص.

﴿ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾(3). فكيف لا يكون هذا شركاً وكفراً، وتكون نسبة شفاء المريض وقضاء الدين والرزق إلى النبي، أو الولي بإذن الله شركاً؟!

كلام السمهودي الشافعي:

قد يكون التوسل به(صلی الله علیه و آله و سلم) بطالب بعد ذلك الأمر منه بمعنى أنه(صلی الله علیه و آله و سلم) قادر على التسبيب فيه بسؤاله وشفاعته إلى ربّه فيعود إلى طلب دعائه و إن اختلفت العبارة.

ومنه قول القائل له : أسألك مرافقتك في الجنة، ولا يقصد به إلاّ کونه(صلی الله علیه و آله و سلم) سبباً وشافعاً(4) .

ص: 67


1- سورة التوبة ، الآية : 59.
2- عن الصادق : أن أبا حنيفة أكل معه فلما رفع الصادق(علیه السلام) يده من أكله ، قال : الحمد الله ربّ العالمين اللهم هذا منك ومن رسولك (صلی الله علیه و آله و سلم) فقال أبو حنيفة : يا أبا عبد الله أجعلت مع الله شريكاً؟ فقال له : ويلك، إن الله يقول في كتابه وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ﴾ [التوبة : 74] ويقول في موضع آخر : ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله ﴾ [التوبة : 59] فقال أبو حنيفة : والله لكأني ما قرأتها قط كنز الفوائد : 196 - عنه الوسائل : 351/24 ، والبحار : 240/47 .
3- سورة آل عمران الآية : 49 .
4- وفاء الوفاء : 421/2 .

أقول : إن المرافقة في الجنّة لا يقدر عليها غير الله، مثل غفران الذنب وشفاء المريض.

نعم لو قصد بهذا الدعاء الاستقلال في التأثير، فهذا ما لم يقصده احد من المسلمين .

إذن فالاستغاثة والاستعانة ترجع إلى طلب الشفاعة والدعاء. ولا مانع منه عقلاً ونقلاً.

والوهابية قد اعترفت بجواز الدعاء من الحي.

قال ابن تيمية: ثبت عنه(صلی الله علیه و آله و سلم) ما من رجل يدعو له أخوه بظهر الغيب دعوة إلاّ وكّل الله بها ملكاً كلّما دعا لأخيه دعوة، قال الملك ولك مثل ذلك (1).

ومن المشروع في الدعاء إجابة غائب لغائب، ولهذا أمر (صلی الله علیه و آله و سلم) بالصلاة عليه، وطلب الوسيلة له .

ففي الحديث : إذا سمعتم المؤذّن، فقولوا مثلما يقول، ثم صلّوا عليَّ فإنَّ من صلّى عليَّ مرة صلّى الله عليه عشراً ثم اسألوا الله لي الوسيلة، فإنّها درجة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلاّ لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون ذلك العبد فمن سأل الله لي الوسيلة حلّت له شفاعتي يوم القيامة(2) .

كما يشرع طلب الدعاء ممّن هو فوقه ودونه، فقد ثبت في الصحيح : أنه(صلی الله علیه و آله و سلم) ذكر أويس القرني وقال لعمر: إن استطعت أن يستغفر لك فافعل (3).

ص: 68


1- رسالة زيارة القبور : 155.
2- کشف الارتياب : 223 .
3- کشف الارتياب : 421/2 .

وفي الحديث : إن الناس لما أجدبوا سألوا النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) أن يستسقي لهم فدعا الله لهم فَسُقوا (1).

إذن: عرفنا أن الاستغاثة هي طلب الدعاء من المستغاث به ولا مانع منه سواء أكان دونه أو مساوياً له .

الاستغاثة بالميّت:

أما طلب الدعاء من الميّت، فلم يجوّزه الوهابيون واستدلّوا على ذلك بالآية الكريمة: ﴿فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾(2).

والجواب عن ذلك : إن للدعاء معنى لغوياً و معنى اصطلاحياً .

أما اللغوي :

1 - الدعاء في اللغة : هو النداء : مثل قوله تعالى :

﴿لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا﴾(3) .

2 - ويطلق الدعاء على سؤال الله تعالى وطلب حوائج الدنيا والآخرة منه .

وهذا الاطلاق إما لأنّه أحدُ أفراد المعنى اللغوي، أو لصيرورته حقيقة عرفية في ذلك، أو مجازاً مشهوراً. والدعاء بهذا المعنى يسمّى عبادة، وإلى هذا تشير الآية الكريمة : ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾(4) .

ثم أن مطلق الدعاء، ونداء الغير وطلب الحاجة من غير الله لا

ص: 69


1- مسند أحمد : 245/3 و 261 و 381.
2- سورة الجن الآية : 18 .
3- سورة النور، الآية : 63 .
4- سورة غافر، الآية : 60 .

يكون عبادة ولا ممنوعاً، فمن دعا رجلاً ليأتي إليه، أو ليعينه وينصره، أو ليناوله شيئاً، أو يقضي له حاجة لم يكن عابداً له ولا آثماً.

المعنى الاصطلاحي:

1 - قد يراد به الدعاء الخاص وهو الدعاء المساوي لدعاء الله باعتقاد أنّ المدعو قادرٌ مختار مستقل عن الله في ذلك، كما كانت اليهود والنصارى تفعل ذلك في بيعها وكنائسها.

2 - وقد يراد به دعاء من نهى الله عن دعائه من الأصنام والأوثان التی هي أحجار وأشجار، كما في دعاء المشركين .

3 - وقد يراد دعاء الملائكة والجن الذين كانوا يعبدونهم ويعتقدون أن لهم تأثيراً في الكون مع الله بأنفسهم.

وعلى هذا المعنى يدل قوله تعالى :

﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادُ أَمْثَالُكُم﴾ (1) و ﴿ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ، لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصَرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ﴾(2).

وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ (3).

والحاصل : إن دعا نبيّاً واستغاث به فذلك لا يدخل في الدعاء المنهی عنه. وذلك لأن هذا الدعاء ليس معناه هذه الصور الثلاث - الأخيرة - بل معناه: الطلب من النبي أن يدعو الله أو يشفع له عنده، مع اعتقاد أنّ الأمر لله إن شاء قَبله، وإن شاء ردّه .

ولا يكون هذا من الدعاء المنهي عنه بعدما عرفت بأنه ليس كل

ص: 70


1- سورة الأعراف، الآية : 194.
2- سورة الأعراف الآية : 197.
3- سورة الجن، الآية : 18 .

دعاء منهياً عنه، بل دعاء الغير باعتقاد استقلالية المخلوق في التأثير هو المنهي عنه.

الاستغاثة بالأنبياء استغاثة بالأحياء:

قد يقال : إن التوسل بالأنبياء والصالحين لا معنى له، لأنهم أموات، والميّت لا يسمع فلا معنى لأن يقال : يا رسول الله أغثني، أو أتوجّه بك إلى الله ليقضي لي حاجتي.

والجواب : لقد تعرّضنا في بحث الشفاعة لهذه المسألة بالتفصيل وأثبتنا حياة الأنبياء - بعد الموت - فنعيد هنا باختصار أنه : لا مانع شرعاً ولا عقلاً من أن يسمع النبي أو الولي كلام من يتوسل به وهو في القبر، أمّا النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) فلأنه حي أحياه الله بعد موته كما ثبت من حديث أنس عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال : الأنبياء أحياء في قبورهم يصلّون (1).

ولأنه ثبت حديث: ما من رجل مسلم يمرّ بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلّم عليه إلاّ عرفه وردّ عليه السلام(2).

وقال البيهقي: وفي حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، أنّه(صلی الله علیه و آله و سلم) لقيهم ببيت المقدس فحضرت الصلاة فَأمّهم نبينا (صلی الله علیه و آله و سلم) ثم اجتمعوا في بيت المقدس.

وفي حديث أبي ذر ومالك بن صعصعة في قصة الإسراء أنّه لقيهم

ص: 71


1- صححه البيهقي في جزء حياة الأنبياء وأورده الحافظ ابن حجر على أنه ثابت في فتح الباري، وذلك لما التزمه أن ما يذكره من الأحاديث شرحاً أو تتمة لحديث في متن البخاري فهو صحيح أو حسن. حانظر المقالات السنية : 114 .
2- رواه المناوي في شرح الجامع الصغير، عن ابن عساكر، وأفاد الحافظ العراقي بأن ابن عبد البر خرجه في التمهيد والاستذكار بإسناد صحيح من حديث ابن عباس وقد صححه أيضاً عبد الحق . انظر المقالات السنية : 114 .

بالسماوات. وطرق ذلك صحيحة، فيحمل على أنه رأى موسى قائماً يصلّي في قبره، ثم عرج به هو ومن ذكر من الأنبياء إلى السماوات فلقيهم النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) ثم اجتمعوا في بيت المقدس فحضرت الصلاة فأمّهم نبينا. قال: وصلاتهم في أوقات مختلفة وفي أماكن مختلفة لا يردها العقل، وقد ثبت به النقل فدلّ ذلك على حياتهم(1).

إذن : ثبت أنّهم أحياء ويسمعون من يسلّم عليهم: «من صلّى عليَّ عندَ قبري سمعتهُ» ومعروضة عليهم صلاة من يصلّي عليهم :« اكثروا علی من الصلاة في يوم الجمعة فإن صلاتكم معروضة عليّ». ولا مانع(2) من الاستغاثة بالحي وطلب الاستغفار منه . . . ﴿َیتأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا ﴾(3) ﴿ اذْهَبُوا بِفَسِيمِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا ﴾(4) .

1- قال القسطلاني: ينبغي للزائر أن يكثر من الدعاء والتضرع والاستغاثة والتشفع والتوسل به(صلی الله علیه و آله و سلم) فجدير بمن استشفع به أن يشفعه الله تعالى فيه . . . ثم أن كلاً من الاستغاثة والتوسل والتشفع والتوجه بالنبي - كما ذكره في تحقيق النصرة ومصباح الظلام - واقع في كل حال، قبل خلقه وبعد خلقه، في مدة حياته في الدنيا وبعد موته في مدة البرزخ وبعد البعث. . .(5) .

2 - قال المراغي - ت816ه_ : إنَّ التوسَّل والاستغاثة والتشفع بالنبي(صلی الله علیه و آله و سلم) واقع في كل حال قبل خلقه وفي مدة حياته في الدنيا وبعد موته، في مدة البرزخ، وبعد البعث وعرصات القيامة(6).

ص: 72


1- أنظر المقالات السنية في كشف ضلالات ابن تيمية: 114.
2- عن عبادة بن صامت : قال أبو بكر قوموا بنا نستغيث برسول الله من هذا المنافق فقال رسول اللہ (صلل الله علیه و آله و سلم) : لا يقام لي إنّما يقام الله تبارك وتعالى. (مسند أحمد (317/5).
3- سورة يوسف، الآية : 97 .
4- سورة يوسف، الآية : 93 .
5- المواهب اللدنية : 417/3 .
6- كتاب : تحقيق النضرة بتلخيص معالم دار الهجرة: 113 .

استغاثة الضرير بقبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بأمر من عثمان بن حنيف:

وممّا يدل بوضوح على أن مسألة الاستغاثة بقبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) كان أمراً دارجاً بين المسلمين بمن فيهم الصحابة قصة عثمان بن حُنيف، التي أوردها الطبراني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي ابن حنيف فشكى ذلك إليه فقال له عثمان بن حنيف: ائتِ الميضاة فتوضأ ثم ائت المسجد فصلّ فيه ركعتين ثم قل: اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّنا محمّد نبي الرحمة، يا محمّد إني أتوجّه بك إلى ربّي فتقضي لي حاجتي، وتذكر حاجتك ورُح حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثم أتى باب عثمان بن عفّان، فجاء البوّاب حتى أخذ بيده، فأدخله على عثمان، فأجلسه معه على الطنفسة فقال: حاجتك؟ فذكر حاجته، وقضاها له. ثم قال له : ما ذكرت حاجتك حتى كان الساعة وقال : ما كانت لك من حاجة، فذکرها، ثم أن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له : جزاك الله خيراً، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليَّ حتى كلَّمتَهُ فيّ . فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلّمتُه ولكن شهدتُ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وأتاه ضرير(1)، فشكى إليه ذهاب بصره، فقال له النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) : «فتصبر» فقال: یا رسول الله ليس لي قائد وقد شق عليّ، فقال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) ائتِ الميضاة فتوضأ ثم صلّ ركعتين ثم ادعُ بهذه الدعوات قال ابن حنيف: فوالله ما تفرّقنا، وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضرّ قط (2).

ص: 73


1- إشارة إلى ما أورده أحمد 138/4 بسند صحيح وهو حديث الأعمى الذي ردّ بصره بالدعاء الذي علّمه إيّاه. وأخرجه الترمذي : 569/5 ح 3578 وابن ماجه : 441/1 ، والحاكم : 313/1.
2- معجم الطبراني : 30/9 الرقم 8311 ، المعجم الصغير : 183/1 ، وقال : الحديث صحيح.

السلفي يعلّق:

إن المعلق السلفي بعد أن يعترف بصحّة هذا الحديث بقوله : «لا شك في صحّة الحديث المرفوع» يشكك في الاستدلال بها على التوسل، فالمعلّق متأثر بأفكار الألباني صاحب رسالة «التوسل» وأفكار الوهابية ومزاعمهم من حرمة التوسل بالميت وأنه شرك. فإذا واجه هكذا روايات وأحاديث، فإنّه لا يطيق تحمّلها ويصعب عليه قبولها، وإن صرّح أهل الفن كالطبراني بصحّة الحديث وإن كان الأمر بالتوسل صحابي جليل، اعتمد عليه عليّ (علیه السلام) وعمر(1) . وروى له الترمذي والنسائي وابن ماجه .

والعجيب من دعواهم وانتحالهم صفة «السلفية» ومع ذلک یترکون ما ثبت وصحّ عن السلف - كعثمان بن حنيف؟!!

وهل من المعقول أن يتبنّى الإنسان عقيدة ثم يفتّش عن أحاديث تؤيّد وتثبت هذه العقيدة؟! أم العكس هو الصحيح، أي لا بد وأن نستخلص العقيدة - سواء في مسألة التوسل أو أمر آخر - من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الواردة من طريق السلف!.

الاستغاثة بالقبور :

جرت سيرة المسلمين قديماً وحديثاً على الاستغاثة بقبور الأنبياء والصالحين وأفتى العلماء بجواز ذلك وفيما يلي نماذج منها :

1 - الاستغاثة بقبر النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) :

_ عن الدارمي : . . . قحط أهلُ المدينة قحطاً شديداً فشكوا إلى

ص: 74


1- سير أعلام النبلاء : 2/ 320 .

عائشة ، فقالت : انظروا قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) فاجعلوا منه كواً إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف . قال : ففعلوا فمطرنا مطراً حتى نَبَتَ العشب وسَمَنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فَسُمّي عام الفتق(1).

_روى ابن أبي شيبة، بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار - وكان خازن عمر _ قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي( صلى الله عليه و آله و سلم) فقال : يا رسول الله استسق لأمتك فإنّهم قد هلكوا، فأتى الرجل من المنام فقيل له : ائتِ عمر. . . الحديث وقد روى سيف في الفتوح : إن الذي رأى في المنام المذكور هو (بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة)(2).

2 - مشهد الإمام الحسين (علیه السلام) بالقاهرة:

قال الحمزاوي العدوي المتوفى 1303 بعد كلام طويل حول مشهد الإمام الحسين: واعلم أنه ينبغي كثرة الزيارة لهذا المشهد العظيم متوسّلاً به إلى الله ويطلب من هذا الإمام ما كان يطلب منه في حياته، فإنّه باب تفريج الكروب فبزيارته يزول عن الخطب الخطوب ويصل إلى الله بأنواره والتوسل به كل قلب محجوب. ومن ذلك ما وقع لسيدي العارف بالله تعالى محمد شلبي شارح «العزية» الشهير بابن الست، وهو أنّه قد سرقت كتبهُ جميعها من بيته قال : فتحيّر عقله واشتد كربه، فأتى إلى مقام وليّ نعمتنا الحسين(علیه السلام) منشداً لأبيات استغاث بها فتوجّه إلى بيته بعد الزيارة ومكث في المقام مدّة، فوجد كتبه في محلّها قد حضرت من غير نقص لكتاب منها (3).

ص: 75


1- سنن الدارمي : 56/1 ، سبل الهدى والرشاد : 347/12 . وفاء الوفاء : 1374/4 .
2- فتح الباري: 577/2 ، وفاء الوفاء : 1372/4 .
3- مشارق الأنوار للحمزاوي : 1971 ، أنظر الغدير : 191/5.

3_استغاثة الضرير بالمشهد الشريف :

عقد الشبراوي الشافعي - المتوفى 1172 ه_ في كتابه الاتحاف بحب الأشراف باباً في ذلك المشهد الشريف - رأس الحسين(علیه السلام) وذكر فيه زيارته وشطراً من الكرامات له، منها: إن رجلاً يقال له شمس الدين القعويني كان ساكناً بالقرب من المشهد وكان معلَّم الكسوة الشريفة، حصل له ضرر في عينيه فكفَ بصره وكان كلّ يوم إذا صلّى الصبح في مشهد الإمام الحسين(علیه السلام) يقف على باب الضريح الشريف، ويقول : يا سيدي أنا جارك قد كفّ بصري وأطلب من الله بواسطتك أن يردّ عليَّ ولو عيناً واحدة، فبينما هو نائم ذات ليلة إذ رأى جماعة أتوا إلى المشهد الشريف فسأل عنهم، فقيل له: هذا النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) والصحابة معه جاؤوا لزيارة الحسين(علیه السلام) ، فدخل معهم ثم قال ما كان يقوله في اليقظة، فالتفت الحسين إلى جدّه(صلی الله علیه و آله و سلم) وذكر له ذلك على سبيل الشفاعة عنده في الرجل ، فقال النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) للإمام علي (علیه السلام) : «يا علي كحّله . فقال : سمعاً وطاعة وأبرز من يده مكحلة ومروداً وقال له: تقدّم حتى أكحلك فتقدم فلوَّث المرود ووضعه في عينه اليمنى، فأحسَّ بحرقانِ عظیم، فصرخ صرخة عظيمة فاستيقظ منها وهو يجد حرارة الكحل في عينه ففتحت عينه اليمنى فصار ينظر بها إلى أن مات(1).

4 - ابن حبان يستشفع بقبر الرضا(علیه السلام) :

قال ابن حبان: مات علي بن موسى الرضا بطوس من شربة سقاه إيّاها المأمون فمات من ساعته. . . وقبره بسناباذ خارج النوقان مشهور يزار . . . قد زرتُهُ مراراً كثيراً، وما حلَّتْ بي شدّة في وقت مقامي بطوس

ص: 76


1- الاتحاف بحب الأشراف: 75 - 110 ، الغدير : 187/5 .

فزرت قبر علي بن موسى الرضا صلوات الله على جدّه وعليه، ودعوت الله ازالتها عنّي إلاّ استجيب لي وزالت عنّي تلك الشدّة، وهذا شيء جرّبتهُ مراراً فوجدتُه كذلك، أماتنا الله على محبّة المصطفى وأهل بيته صلّى الله عليه وعليهم أجمعين(1) .

التعريف بابن حبان :

قالوا فيه : إنه الإمام العلاّمة، الحافظ المجوّد شيخ خراسان، صاحب الكتب المشهورة ولد سنة بضع وسبعين ومئتين. وكان على قضاء سمرقند زماناً، وكان من فقهاء الدين وحفّاظ الآثار . . . صنّف المسند الصحيح يعني به: كتاب الأنواع والتقاسيم وكتاب التاريخ وكتاب الضعفاء، وفقه الناس بمسرقند.

وثقه أبو بكر الخطيب وقال : كان ثقة نبيلاً فهماً .

كما مدحه الحاكم النيسابوري بقوله : كان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ ومن عقلاء الرجال . . . أقام عندنا بنيسابور . . وقُرىء عليه جملة من مصنّفاته . . . (2).

هل يمكن لابن تيمية وأتباعه رميه بالشرك والكفر والجاهلية !! لأنه كان يزور الرضا(علیه السلام) مراراً ويستغيث به؟!

5 - ابن خزيمة يتضرّع عند قبر الإمام الرضا(علیه السلام) :

قال محمد بن مؤمل(3) : خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن

ص: 77


1- كتاب الثقات : 402/6 ، الأنساب للسمعاني : 517/1 .
2- سير أعلام النبلاء : 92/16 ، انظر میزان الاعتدال : 506/3 ، النجوم الزاهرة : 342/3، طبقات السبكي : 1313 ، الأنساب : 209/20 ، الوافي بالوفيات: 317/2.
3- هو أبو بكر الماسر جسي المتوفى عام 350ه_ الإمام رئيس نيسابور أحد البلغاء والفصحاء، وقد بني داراً للمحدثين وادر عليهم الأرزاق، وروى عنه السلمي والحاكم وسعيد بن محمد بن محمد بن ،عبدان سير أعلام النبلاء : 23/16.

خزيمة وعديلة ابن علي الثقفي مع جماعة من مشايخنا وهم إذ ذاك متوافرون إلى زيارة قبر علي بن موسى الرضا بطوس، قال: فرأيت من تعظيمه - يعني ابن خزيمة - لتلكالبقعة وتواضعه لها وتضرعه عندها ما تحيّرنا(1) .

التعريف بابن خزيمة :

قال الذهبي: إنّه شيخ الإسلام، إمام الأئمة، الحافظ، الحجة، الفقيه، صاحب التصانيف، ولد عام ثلاثة وعشرين ومئتين، وعني في حداثته بالحديث والفقه حتى صار يُضرب به المثل في سَعة العلم والاتقان .

وقد حدّث عنه البخاري ومسلم في غير الصحيحين(2) .

إن الله ليدفع بالبلاء عن أهل هذه المدينة لمكان أبي بكر ابن خزیمة.

وقال الدارقطني : كان إماماً ثبتاً، معدوم النظير .

وقالوا عنه : إنّه رجلٌ يُحيي سنّة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)

وقالوا عنه: إنه يستخرج النُكت من حديث رسول الله(صلی الله علیه و آله وسلم) بالمنقاش .

وكان هذا الإمام جهبذا بصيراً بالرجال، وكان له عظمة في النفوس وجلالة في القلوب لعلمه ودينه، واتباعه السنة (3).

وقال ابن أبي حاتم فيه : هو إمام يُقتدى به .

ص: 78


1- تهذيب التهذيب : 339/7 .
2- سير أعلام النبلاء : 365/14 .
3- سیر أعلام النبلاء : 374/14 - 377 .

هل يتجرأ ابن تيمية أن يرمي ابن خزيمة بالكفر والشرك لمجرّد استغاثته وتضرّعه بقبر الإمام الرضا(علیه السلام) ؟ !

وهل لابن تيمية أن يُبدي الرأي السلبي في أمثال ابن خزيمة؟!

نماذج من الاستغاثة بالقبور:

1 - قبر أبي أيوب الأنصاري المتوفى عام 52ه_ بالروم :

قال الحاكم : يتعاهدون قبره ويزورونه ويستسقون به إذا قحطوا(1) .

2 - قبر الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام):

عن شيخ الحنابلة - أبي علي الخلاّل - ما همّني أمرٌ فقصدتُ قبرَ موسى بن جعفر فتوسلتُ به إلاّ سهّل الله تعالى لي ما أُحبُّ(2) .

3 - قبر أبي حنيفة :

إن الإمام الشافعي أيّام كان هو ببغداد كان يتوسل بالإمام أبي حنيفة ويجيء إلى ضريحه يزور فيسلّم عليه ثم يتوسل إلى الله تعالى به في قضاء حاجاته .

وقال : قد ثبت أن الإمام أحمد توسّل بالإمام الشافعي حتى تعجَّب ابنه عبد الله بن الإمام أحمد، فقال له أبوه: إن الشافعي كالشمس للناس وكالعافية للبدن، ولمّا بلغ الإمام الشافعي: أن أهل المغرب يتوسلون بالإمام مالك لم ينكر عليهم، قال الشافعي: إني لأتبرّك بأبي حنيفة وأجيىء إلى قبره كل يوم فإذا عرضت لي حاجة صلّيتُ ركعتين وجئت إلى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده (3).

ص: 79


1- مستدرك الحاكم : 518/3 ، الرقم 1527/5929 ، صفة الصفوة: 470/1.
2- تاریخ بغداد: 120/1 .
3- خلاصة الكلام : 252 للسيد زيني دحلان تاریخ بغداد (123/1 ، مناقب أبي حنيفة للخوارزمي : 199/2 ، انظر الغدير : 194/5.

4 - التوسل بقبر أحمد بن حنبل :

حكى ابن الجوزي في مناقب أحمد، عن عبد الله بن موسی قال : خرجتُ أنا وأبي في ليلة مظلمة نزور أحمد فاشتدت الظلمة فقال أبي : يا بني تعال نتوسل إلى الله تعالى بهذا العبد الصالح حتى يضيء لنا الطريق، فإني منذ ثلاثين سنة ما توسلت به إلاّ قُضيت حاجتي، فدعا أبي وأمّنتُ على دعائه، فأضاءت السماء كأنّها ليلة مقمرة حتى وصلنا إليه(1) .

5 - قبر ابن فورك الأصبهاني المتوفى 406ه_ :

دفن بالحيرة من نيسابور، ومشهده بها ظاهر يزار ويستسقى به وتجاب الدعوة عنده (2).

أقول : هو محمد بن الحسن، شيخ المتكلمين، وكان اشعرياً، ولكن نسب الذهبي وابن حزم إليه ما لا يصدر من مسلم، ولو صدر كان في حدّ الارتداد(3) .

6 - قبر الشيخ أحمد بن علوان ت750ه_ :

قال اليافعي: ومن كراماته أن ذرية الفقهاء الذين كانوا ينكرون عليه صاروا يلوذون عند النوائب بقبره ويستجيرون من خوف السلطان(4) .

7 - الاستسقاء بقبر البخاري :

1 - ومن جميل ما يذكره العلماء : أن سمرقند استسقت واستغاثت

ص: 80


1- مناقب أحمد: 297 ، لابن الجوزي .
2- وفيات الأعيان 4/ 272 ، سير أعلام النبلاء : 216/17 .
3- انظر سير أعلام النبلاء : 215/17 ، وطبقات الشافعية : 130/4.
4- مرآة الجنان : 357/4 .

بقبر البخاري عام 464ه_ يعني قبل ولادة ابن تيمية صاحب المزاعم بثلاثمائة سنة فعن السُبكي : «قُحط المطر عندنا بسمرقند في بعض الأعوام، فاستسقى الناس مراراً فلم يُسقوا، فأتى رجل صالح معروف بالصلاح إلى قاضي سَمرقند، فقال له : إني قد رأيت رأياً أعرضه عليك . قال: وما هو ؟ قال: أرى أن تخرج، ويخرج الناس معك إلى قبر الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، ونستسقي عنده، فعسى الله أن يسقينا، فقال القاضي : نِعمَ ما رأيت. فخرج القاضي، والناس معه واستسقى القاضي بالناس، وبكى الناس عند القبر،وتشفعوا بصاحبه فأرسل الله تعالى السماء بماء عظيم غزير، فقام الناس من أجله بخرتنك(1) سبعة أيام أو نحوها، لا يستطيع أحد الوصول إلى سمرقند، من كثرة المطر وغزارته، وبين سمرقند وخَرتَنك نحو ثلاثة أميال (2).

لعل ابن تيمية لم يطّلع على هذه الاستغاثة والاستشفاع، وإلا لرماهم بالكفر والشرك . أو أن هذه القضية غير ثابتة عنده !! .

8 - إستغاثة حمزة بن القاسم (ت 330ه_) :

قال الخطيب: كان تثقة مشهوراً بالصلاح، استسقى للناس فقال : اللهم إنّ عمر استسقى بشيبة العباس فسقي، وهو أبي، وأنا استسقي به. قال : فجاء المطر وهو على المنبر(3).

كلام الإمام القيرواني المالكي المتوفى 737 ه- في التوسل بالقبور:

قال في فصل زيارة القبور: أما عظيم جناب الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فيأتي إليهم الزائر، ويتعيّن عليه

ص: 81


1- من قرى سمرقند .معجم البلدان : 356/2 .
2- طبقات الشافعية : 234/2 ، سير أعلام النبلاء : 469/12 .
3- سير أعلام النبلاء 375/15 ، تاریخ بغداد 182/8 .

قصدهم من الأماكن البعيدة فإذا جاء إليهم فليتصف بالذل والانكسار والمسكنة والفقر والفاقة والحاجة والاضطراب والخضوع، ويحضر قلبه و خاطره إليهم وإلى مشاهدتهم بعين قلبه لا بعين بصره لأنهم لا يبلون ولا يتغيّرون، ثم يثني على الله تعالى بما هو أهله ثم يصلّي عليهم . . . ثم يتوسل إلى الله تعالى بهم في قضاء مآربه ومغفرة ذنوبه ويستغيث بهم ويطلب حوائجه منهم، ويجزم بالإجابة ببركتهم ويقوي حسن ظنّه فی ذلك. فإنّهم باب الله المفتوح وجرت سنته سبحانه وتعالى بقضاء الحوائج على أيديهم وبسببهم. ومن عجز عن الوصول فليرسل بالسلام عليهم ويذكر ما يحتاج إليه من حوائجه ومغفرة ذنوبه وستر عيوبه فإنّهم السادة الكرام والكرام لا يردّون من سألهم ولا من توسّل بهم ولا من قصدهم ولا من لجأ إليهم.

وأمّا في زيارة سيّد الأولين والآخرين، فكل ما ذكر يزيد عليه أضعافه أعني من الانكسار والذل والمسكنة، لأنّه الشافع المشفع الذي لا تردُّ شفاعتهُ، ولا يخيّب من قصده ولا من نزل بساحته ولا من استعان أو استغاث به . . . فمن توسل به، أو استغاث به، أو طلب حوائجه منه، فلا يُردُّ ولا يخيب لما شهدت به المعاينة والآثار . . . فالتوسل به عليه الصلاة والسلام هو محل حط أحمال الأوزار وأثقال الذنوب والخطايا . . . (1).

والحاصل أن هذه النصوص والشواهد التاريخية تدل على أن الاستغاثة بالميت والدعاء عند قبره والتوسل به كان أمراً شائعاً بين المسلمين على صعيد الخواص والعوام فهذا الإمام الشافعي يتوسل بأبي حنيفة في قضاء حاجاته. وذاك شيخ الحنابلة ما أهمّه أمر إلا توسّل بقبر

ص: 82


1- المدخل في رسالة زيارة القبور : 257/1 ، الغدير : 111/5 .

الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) ، وثالث هو الإمام أحمد يتوسل بالإمام الشافعي في قضاء حوائجه، وهذان ابن خزيمة وابن حبّان يتوسّلان بقبر الإمام الرضا (علیه السلام) ويستغيثانه في إنجاز الحوائج وهؤلاء أهالي سمرقند يستسقون بقبر البخاري. وهذه عائشة تأمر المسلمين بأن يستغيثوا بقبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) للاستسقاء. فهذه شخصيات من الصحابة، وأكابر أهل السنّة من الفقهاء وغيرهم؛ يستغيثون بقبورالأنبياء والصحابة والأولياء والصالحين !! فهل يتجرأ ابن تيمية التقول عليهم بأنّهم مشركون، كفار !!؟

ولقد أجاد وأفاد الشيخ سلامة العزامي حيث قال:

لقد تعدّى هذا الرجل - ابن تيمية - حتى على الجناب المحمّدي فقال : إنَّ شدّ الرحال إلى زيارته معصية، وأنّ من ناداه مستغيثاً به عليه الصلاة والسلام بعد وفاته فقد أشرك فتارة يجعله شركاً أصغر، وأُخرى يجعله شركاً أكبر . وإن كان المستغيث ممتلىء القلب بأنّه لا خالق ولا مؤثر إلا الله، وإنّ النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) إنّما ترفع إليه الحوائج ويستغاث به، على أن الله جعله منبع كل خير، مقبول الشفاعة مستجاب الدعاء، كما هی عقیدة جمع المسلمين مهما كانوا من العامة (1).

وقال القسطلاني: وينبغي للزائر أن يكثر من الدعاء والتضرع والاستغاثة والتشفع والتوسل به (صلی الله علیه و آله و سلم) فجدير بمن استشفع به أن يشفعه الله تعالى فيه : واعلم أن الاستغاثة هي طلب الغوث، فالمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث منه، فلا فرق بين أن يعبَّر بلفظ : الاستغاثة أو التوسل أو التشفع أو التجوّه أو التوجه. لأنها من الجاه والوجاهة ومعناه : علو القدر والمنزلة .

ص: 83


1- فرقان :القرآن 133 ، الغدير : 155/5 .

وقد يتوسل بصاحب الجاه إلى من هو أعلى منه . ثمَّ أَنَّ كلاً من الاستغاثة والتوسل والتشفع والتوجه بالنبي(صلی الله علیه و آله و سلم) - كما ذكره في تحقيق النصرة - ومصباح الظلام - واقع في كل حال، قبل خلقه وبعد خلقه، في مدة حياته في الدنيا وبعد موته في مدة البرزخ، وبعد البعث في عرصات القيامة . . .

أما التوسل به(صلی الله علیه و آله و سلم) بعد موته في البرزخ فهو أكثر من أن یحصی أو يدرك باستقصاء .

وفي كتاب مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام للشيخ أبي عبد الله بن النعمان، طرق من ذلك.

ولقد كان حصل لي داء أعيا دواؤه الأطباء، وأقمتُ به سنين، فاستغثت به(صلی الله علیه و آله و سلم) ليلة الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة 893ه_ بمكة زادها الله شرفاً. ومنَّ عليَّ بالعود في عافية بلا محنة، فبينا أنا نائم إذ جاء رجل معه قرطاس يكتب فيه : هذا دواء لداء أحمد بن القسطلاني من الحضرة الشريفة بعد الاذن الشريف النبوي، ثم استيقظت فلم أجد بي - والله - شيئاً مما كنتُ أجده، وحصل الشفاء ببركة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)(1).

ومن العجيب أن الوهابية لم يرموا أحمد القسطلاني - رغم هذه التصريحات منه - بالشرك والارتداد رغم أنهم رموا كل من يأتي إلى قبر نبی أو صالح ويسأله حاجته ويستنجده في أن يزيل مرضه . . . بالشرك والارتداد ووجوب الاستتابة، فإنِ تاب وإلاّ قتل !

و من هذا الكلام الغسل الفارغ . . .

ص: 84


1- المواهب اللدنية بالمنح المحمدية.

من قصص الاستغاثة:

اشارة

تعرّض السمهودي في خاتمة كتابه لنبذةِ ممّا وقع لمن استغاث بقبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) أو طلب منه شيئاً عند قبره. فأُعطي مطلوبه ونال مرغوبه، وقد نقلها من كتاب «مصباح الظلام(1) في المستغيثين بخير الأنام» للإمام الحافظ سليمان بن موسى بن سالم البلنسي(2) المتوفى عام 634ه_ (3) .

ص: 85


1- لقد فات المعلّق على «سير أعلام النبلاء» التعليق على هذا الكتاب الذي يبحث في موضوع الاستشفاع والاستغاثة بقبر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ، كما هو دأبه في التعليق على كل ما يرد هنا ولا يلائم مزاعم الوهابية ومعتقداتهم، كما في تعليقاته في ترجمة الكرخي والسيدة نفيسة وأبي عوانة و... ولعلّ حضرة المعلّق لم يطلع على محتوى الكتاب ولم يعرف مضمونه، وإلا لما سلم الكتاب ولا الكاتب من سطوات هذا المعلق المتقي الزاهد! فالحمد لله على ذلك. ولذا تراه يمدح المؤلف وموقفه الجهادي إلى أن نال الشهادة. ويقول في حقه : هكذا علماء الأمة والمحدّثون خاصة، أوّل المدافعين عن بلاد الإسلام وحفظ بيضته سير أعلام النبلاء : 134/23.
2- وإن كان السمهودي قد ذكر اسم مؤلف هذا الكتاب هكذا (محمد بن موسى بن نعمان البلنسي) ولعله كتابان بهذا الاسم لمؤلفين. ولقد أثبت الحلبي هذا الكتاب لسليمان بن موسى بن سالم البلنسي ولمحمد بن موسى التلمساني انظر كشف الظنون : 1706/2 .
3- قال ابن عماد:« أبو الربيع الكلاعي سليمان بن موسى بن سالم البلنسي الحافظ الكبير الثقة صاحب التصانيف وبقية أعلام الأثر بالأندلس. ولد سنة خمس وستين وخمسمائة و سمع ابن زرقون . قال الأبار : كان بصيراً بالحديث عاقلاً عارفاً بالجرح والتعديل ذاكراً للموالد والوفيات، يتقدم أهل زمانه في ذلك خصوصاً من تأخر زمانه ولا نظير لخطه في الإتقان والضبط ... شذرات الذهب : 164/5 . وقال الذهبي : الإمام العلامة الحافظ المجود الأديب البليغ شيخ الحديث والبلاغة بالأندلس أبو الربيع سليمان بن موسى البلنسي . بن موسى البلنسي ... وكان من كبار أئمة الحديث». ونقل عن أبي عبد الله بن الآبار في تاريخه : إنّه كان إماماً في صناعة الحديث ... وله تصانيف مفيدة في فنون عديدة. منها : كتاب مصباح الظلم ... انتفعتُ به في الحديث كل الانتفاع وأخذت عنه كثيراً. ونقل عن الحافظ ابن مُسدي : لم ألق مثله جلالة وتبلاً ورياسة وفضلاً، كان إماماً مبرزاً في فنون من منقول و معقول ومنثور وموزون جامعاً للفضائل برع في علوم القرآن والتجويد علوم القرآن والتجويد ... وهو ختام الحفاظ . . . وعن ابن الآبار كان يحدثنا أن السبعين منتهى عمره لرؤيا رآها وهو آخر الحفاظ والبلغاء بالأندلس سير أعلام النبلاء : 23 / 134 ، النجوم الزاهرة : 298/6).

1- قصّة والد ابن المنكدر:

اتفق الجماعة من علماء سلف هذه الأمّة من أئمّة المحدّثين والصوفية والعلماء بالله المحقّقين . قال محمد بن المنكدر : أودع رجل أبي ثمانين ديناراً وخرج للجهاد، وقال لأبي : إن احتجت أنفقها إلى أن أعود .

وأصاب الناس جهدٌ من الغلاء، فأنفق أبي الدنانير، فقدم الرجل وطلب ماله، فقال له أبي: عُد إليَّ غداً، وبات في المسجد يلوذ بقبر النبيّ(صلی الله علیه و آله وسلم) مرّة وبمنبره مرّة، حتّى كاد أن يصبح، يستغيث بقبر النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) فبينما هو كذلك وإذا بشخص في الظلام يقول : دونكها يا أبا محمد، فمدَّ أبي يده فإذا هو بصُرّةٍ فيها ثمانون ديناراً، فلما أصبح جاء الرجل فدفعها إليه (1).

2- النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) يأمر بالطعام إلى الطبراني:

قال الإمام أبو بكر بن المقري(2) : كنت أنا والطبراني وأبو الشيخ في حرم رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وكنّا على حالته، وأثَّر فينا الجوع، وواصلنا ذلك اليوم، فلما كان وقت العشاء حضرتُ قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) فقلت : يا رسول الله الجوع، وانصرفتُ، فقال لي أبو القاسم: اجلس فأما أن يكون الرزق أو الموت، قال أبو بكر : فقمتُ أنا وأبو الشيخ؛والطبراني جالس ينظر في شيء، فحضر بالباب عَلَوي، فدقَّ ففتحنا له، فإذا معه غلامان مع كل واحد زنبيل فيه شيء كثير فجلسنا وأكلنا وظننا أن الباقي يأخذه الغلام، فولّى وترك عندنا الباقي، فلما فرغنا من الطعام قال

ص: 86


1- وفاء الوفاء : 4/ 1380 .
2- قالوا فيه : إنه فاق سار نظائره مع اتساع علمه وبراعة فهمه وصدق لهجته وظهور نسكه، توفي سنة 324ه_ ، أعلام النبلاء : 273/15 ، طبقات الشافعية : 58/3 .

العلوي يا قوم أشكوتم إلى رسول الله(صلی الله علیه وآله و سلم) ؟ فإني رأيت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) في المنام فأمرني أن أحمل بشيء إليكم(1).

3- النصف الآخر من الرغيف في اليد:

وقال ابن الجلاد: دخلتُ مدينة النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) وبي فاقة، فتقدّمت القبر وقلت: ضيفك، فغفوتُ فرأيت النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) فأعطاني رغيفاً، فأكلتُ نصفه، وانتبهت وبيدي النصف الآخر (2).

4- لدراهم المباركة:

قال أبو عبد الله محمد بن أبي زرعة الصوفي : سافرت مع أبي ومع أبي عبد الله بن حنيف إلى مكة، فأصابتنا فاقة شديدة، فدخلنا مدينة الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم)، و بتنا طاوِین، وكنتُ دون البلوغ، فكنتُ أجيىء إلى أبي غير دفعة وأقول: أنا جائع، فأتى أبي الحظيرة وقال: يا رسول الله أنا ضيفك الليلة، وجلس على المراقبة، فلما كان بعد ساعة رفع رأسه وكان يبكي ساعة ويضحك ساعة، فسئل عنه فقال: رأيت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) فوضع في يدي دراهم، وفتح يده، فإذا فيها دراهم، وبارك الله فيها إلى أن رجعنا إلى شيراز، وكنّا ننفق منها (3).

5- شربة رويّة من قدح لبن:

وسمعت الشيخ أبا عبد الله محمد بن أبي الأمان يقول : كنت بمدينة النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) خلف محراب فاطمة(سلام الله علیها) وكان الشريف مكثر القاسمي قائماً خلف المحراب المذكور، فانتبه فجاء إلى النبي الله(صلی الله علیه و آله و سلم)

ص: 87


1- وفاء الوفاء : 1380/4 .
2- وفاء الوفاء : 4/ 1380 .
3- وفاء الوفاء : 1381/4 .

وعاد علينا متبسّماً ، فقال له شمس الدين صواب خادم الضريح النبوي : فيمَ تبسمت؟ فقال: كانت بي فاقة، فخرجت من بيتي فأتيت بيت فاطمة(سلام الله علیها) فاستغثت بالنبي(صلی الله علیه و آله و سلم) وقلت : إنّي جائع، فنمتُ فرأيت النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) فأعطاني قدح لبن فشربت حتى رويت. . . (1).

6- ثلاثة أمداد من التمر الطيب :

عن أبي إسحاق إبراهيم بن سعيد: كنت بمدينة النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) ومعي ثلاثة من الفقراء فأصابتنا فاقة، فجئت إلى النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) فقلت: يا رسول الله ليس لنا شيء، ويكفينا ثلاثة أمداد من التمر الطيّب(2).

7- الثريد أمنية جائع على رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم):

وسمعتُ الشريف أبا محمد عبد السلام بن عبد الرحمن الحسيني الفاسي يقول : أقمتُ بمدينة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) ثلاثة أيام لم أستطعم فيها، فأتيتُ عند منبره( صلی الله علیه و آله و سلم) فركعت ركعتين وقلت: يا جدّي جعت وأتمنى عليك ثردة، ثم غلبتني عيني فنمت، فبينما أنا نائم وإذا برجل يوقظني، فانتبهت فرأيت معه قدحاً من خشب وفيه ثريد وسمن ولحم وأفاويه، فقال لي: كُل، فقلت له: من أين هذا: إنّ صغاري لهم ثلاثة أيام يتمنّون هذا الطعام، فلما كان اليوم، فتح الله لي بشيء عملت به هذا، ثم نمت فرأيت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في النوم وهو يقول : إن أحد إخوانك تمنّى عليَّ هذا الطعام فأطعمه منه(3) .

ص: 88


1- وفاء الوفاء : 4 / 1383 .
2- وفاء الوفاء : 4/ 1383 .
3- وفاء الوفاء : 1383/4.

8- أمنية أخرى لجائع آخر:

سمعت عبد الله بن الحسن الدمياطي يقول: حكى لي الشيخ الصالح عبد القادر التنيسي بثغر دمياط قال: . . . دخلت مدينة النبيّ(صلى الله عليه و آله و سلم) وسلّمت على النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) وشكوت له ضرري من الجوع، واشتهيت عليه الطعام من البر واللحم والتمر، وتقدّمت بعد الزيارة للروضة فصلّيت فيها، وبتّ فيها، فإذا شخص يوقظني من النوم، فانتبهتُ ومضيتُ معه، وكان شابّاً جميلاً خَلْقاً وخُلقاً، فقدَّم إليَّ جفنة ثريد وعليها شاة وأطباق من أنواع التمر صيحاني وغيره وخبزاً كثيراً من جملته خبز أقراص سويق النبق، فأكلتُ فملأ لي جرابي لحماً وخبزاً وتمراً، وقال: كنت نائماً بعد صلاة الضحى فرأيت النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) في المنام وأمرني أن أفعل لك هذا، ودَّلني عليك، وعرّفني مكانك بالروضة، وقال لي: إنّك اشتهيت هذا وأردته(1) .

9 - أضاف المؤلّف - صاحب كتاب مصباح الظلام - بعد نقل هذه القصص من التوسّلات والاستغاثات بالنبيّ الكريم(صلی الله علیه و آله و سلم) : «إنّه قد وقع في كثير ممّا ذكر وأمثاله أن الذي يأمره(صلی الله علیه و آله و سلم) في ذلك إنّما يكون من الذرية الشريفة، لا سيما إذا كان المتناوَل طعاماً، لأن من تمام جميل أخلاق الكرام إذا سئلوا القِرَى البداءة بأنفسهم ثم بمن يكون منهم، فاقتضى خُلُقه الكريم أن إعطاء سائل القِرى يكون منه ومن ذرّيته الكريمة(2).

ثم بعد هذه المجموعة من القصص من شخصيات كالطبراني وابن المقرىء وابن المنكدر وغيرهم هل يبقى مجال لابن تيمية أن یدعی أن التوسل والاستغاثة بالنبي(صلی الله علیه و آله و سلم) شرك؟!

ص: 89


1- وفاء الوفاء : 1383/4.
2- وفاء الوفاء : 1385/4 .

وهل مؤلّف كتاب مصباح الظلام مشرك، وهل جمع في كتابه هذا: الكفريات والشرك !

وهل يتجرأ ابن تيمية ومن تبعه أن يرمي المؤلف البلنسي بالشرك، و هو الحافظ الكبير الثقة - كما قاله ابن عماد والبصير بالحديث والمتقدّم على أهل زمانه كما قاله الأبار، والإمام المبرز في فنون المعقول والمنقول كما قاله ابن مسدي. والإمام العلاّمة الحافظ شيخ الحديث كما قاله الذهبي. فهل يُصغى إلى مزاعم ابن تيمية بعد هذا؟

السمهودی یروی قصّة عن نفسه:

إنّ السمهودي بعد أن أورد قصصاً عن توسل المحدّثين والفقهاء بقبر النبي( صلی الله علیه و آله و سلم) - نقلاً عن كتاب مصباح الظلام - قال : «والحكايات في هذا الباب كثيرة، بل وقع لي شيء منها : إني كنت بالمسجد النبوي عند قدوم الحاج المصري للزيارة، وفي يدي مفتاح الخلوة التي فيها كتبي بالمسجد، فمرّ بي بعض علماء المصريين ممّن كان يقرأ على بعض مشايخي، فسلّمت عليه، فسألني أن أمشي معه إلى الروضة الشريفة، وأقف معه بين يدي النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) ففعلت، ثم رجعت فلم أجد المفتاح وتطلّبتُهُ في الأماكن التي مشيت إليها فلم أجده، وشقّ عليَّ ذهابه في ذلك الوقت الضيّق مع حاجتي إليه، فجئت إلى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) وقلت : يا سيدي يا رسول الله ذهب مفتاح الخلوة، وأنا محتاج إليه وأريده من بابك، ثم رجعت فرأيت شخصاً قاصداً الخلوة، فظننتهُ بعض من أعرفه، فمشيت إليه، فلم أجده إيّاه، ووجدت صغيراً لا أعرفه بقرب الخلوة بيده المفتاح، فقلت له: من أين لك هذا؟ فقال : وجدتُهُ عند الوجه الشريف، فأخذتُه منه وغير ذلك مما يطول ذكره(1) .

ص: 90


1- وفاء الوفاء : 1385/4.

طلب محب الدين الطبري:

يقول تقي الدين الفاسي : هذه الحكاية ذكرها جدّي الشريف أبو عبد الله في تعاليقه، لأنه قال : سمعت الإمام محب الدين الطبري يقول : مشينا إلى المدينة زائرين، وكنّا جماعة فنظمتُ قصيدة في مدح النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) فلمّا قدمنا المدينة، انشدتُ القصيدة، فلما فرغتُ من انشادها، قلتُ: يا رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) : إنَّ من جائزتي أن يذهبَ عنّي هذا اللقب، وكان لقبي بين الناس: محيي الدين، وكنتُ اكره هذا اللقب، قال : فلقبتُ بعد ذلك محبَّ الدين وذهب عنيّ لقب محيي الدين، حتّى كأنه لم يكن »(1).

وقد عرفوا محبّ الدين: بأنه المحدث المفتي فيه الحرم . . . (2).

ص: 91


1- العقد الثمين : 68/3 .
2- تذكرة الحفاظ : 1474/4 .

ص: 92

الفصل الرابع زيارة القبور

اشارة

1- رأي ابن تيمية في زيارة قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)

2_مناقشة المدعى

3 - الأحاديث والزيارة

4 - سيرة الصحابة في الزيارة

5 - حديث شد الرحال

6 - موقف السنّة من مزاعم ابن تيمية

7 - زيارة القبور والمشاهد

8 - أحاديث في زيارة المشاهد

9- سيرة الصحابة والتابعين

10 - القبور المقصودة بالزيارة

11 - رأي فقهاء السنّة في زيارة القبور

12 - زيارة النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) قبر أمّه

13 - الشيء يذكر بالشيء

ص: 93

ص: 94

زیارة القبور

1 - زيارة قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم):

منع ابن تيمية من زيارة قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) وحرمها مطلقاً حرمها مع شدّ الرحال أو بدونه، فضلاً عن زيارة قبر غيره، حكى ذلك عنه القسطلاني(1) وابن حجر في الجوهر المنظم(2).

وقال : بل زعم حرمة السفر إليها إجماعاً وإنّه لا تقصر فيه الصلاة .

مناقشة المدعى:

إن الزيارة أمرّ مشروع بالأدلّة الأربعة :

أمّا الكتاب : فقوله تعالى : ﴿ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما﴾(3) .

فإنّ الزيارة هي الحضور الذي هو عبار عن المجيء إليه سواء أكان لطلب الاستغفار أو بدونه.

وإذا ثبت رجحان ذلك في حياته، ثبت بعد مماته، أيضاً لما دلَّ على حياته البرزخية وسماعه وردّه السلام على من يسلّم عليه و عرض الأعمال عليه .

ص: 95


1- إرشاد الساري : 329/2 .
2- کشف الارتياب : 459.
3- سورة النساء، الآية : 64 .

1 - فعن القسطلاني : ليس من يوم إلاّ ويعرض على النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) أعمال أُمّته غدوة وعشية، فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم، فكذلك يشهد عليهم(1).

وروى ابن زرعة العراقي: عن ابن مسعود قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) : «حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم ووفاتي خيرٌ لكم تعرض عليَّ أعمالكم فما رأيت من خير حمدتُ الله عليه وما رأيت من شرّ استغفرت الله لكم»(2) .

2 - قال السبكي - فيما حكاه عنه السمهودي : والعلماء فهموا من الآية العموم لحالتي الموت والحياة، واستحبّوا لمن أتى القبر أن يتلوها (3).

3 - وحكاية الأعرابي أيضاً تدلّ على الحياة البرزخية الرسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وهذه الحكاية أوردها المصنّفون في المناسك من جميع المذاهب واستحسنوها ورأوها من أدب الزائر وهي: كما عن ابن عساكر عن محمد بن حرب(4) قال : دخلت المدينة فأتيتُ قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) فزرتُهُ وجلست بحذائه فجاء أعرابي فزاره ثم قال: يا خير الرُسل إن الله أنزل عليك كتاباً صادقاً فقال : ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ﴾ وقد ظلمتُ وجئتك تستغفر لي، فنودي من القبر : قد غفر لك .

وقد نقلها السمهودي بطريقين عن علي بن أبي طالب(علیه السلام)(5).

ص: 96


1- المواهب اللدنية بالمنح المحمدية : 410/3 .
2- طرح التثريب في شرح التقريب : 297 .
3- کشف الارتیاب 256 ، 340 .
4- هو الحافظ الفقيه الخولاني المتوفى عام 194ه- ، روى له الصحاح ووثقه ابن معين والطائي، سیر أعلام النبلاء : 58/9.
5- وفاء الوفاء : 1326/4 أنظر مصادره : الروض الفائق : ،380/2 ، کشف الارتياب : 258 ، المواهب اللدنية : 405/3 ، مغني المحتاج : 512/1 ، كنوز الحقائق : 108/2 ، نيل الأوطار: 108/5 ، وقد استدل المراغي بهذه الآية على مشروعية زيارته( صلی الله علیه و آله و سلم) وأنها قربة.

و أمّا السّنة :

فقد وردت أحاديث كثيرة وبطرق عديدة على اختلاف مضامينها وفيما يلي نماذج منها :

الحديث الأوّل: عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) : «من زار قبري وجبت له شفاعتي»(1) ، ولهذا الحديث أربعون مصدراً من كتب السنّة ومؤلفوها من الحفّاظ وأئمة الحديث منهم :

1_عبيد بن محمد الورّاق النيسابوري ، ت 255ه_ .

2 - ابن أبي الدنيا أبو بكر القرشي، ت281 ه_ .

3 - الدولابي الرازي في الكنى والأسماء، ت 310 ه_ .

4 - ابن خزيمة في صحيحه، ت 311 ه_ .

5 - أبو جعفر العقيلي في كتابه، ت322ه_ .

6 - أبو أحمد بن عدي في الكامل، ت 360ه_ .

7 - الدارقطني في السنن ت 385ه_ .

8- الماوردي في الأحكام السلطانية ، ت 450 ه_ .

9 - القاضي عياض المالك في الشفات، 544ه_ .

10 - ابن عساكر في تاريخه : باب من زار قبره(2) ، ت 571ه_ .

ص: 97


1- الغدير : 93/5 ، سنن الدارقطني : 278/2 ، الأحكام السلطانية : 2/ 109 ، السنن الكبرى : 5/ 245 ، الكامل في الضعفاء : 351/6 ، الضعفاء الكبير : 4/ 170 ، الشفا بتعريف حقوق المصطفى : 194/5 ، مختصر تاریخ دمشق : 406/2 ، الترغيب والترهيب : 224/2 ، شفاء السقام : 2 ، كنز العمال: 651/15 ، نيل الأوطار 108/5 .
2- وقد أسقطه ابن بدران من تهذيبه .

11 - السُبكي الشافعي في شفاء السقام، ت756ه_ (1).

قال العلاّمة اللكنوي:« وقد زلّ قدمُ من احتج على ضعف حديث من زار قبري وجبت له شفاعتي. . . وإن شئت زيادة التفصيل في هذا البحث الجليل فارجع إلى رسائلي في بحث زيارة القبر النبوي، إحداها : الكلام المبرم في نقض القول المحقق المحكم، ثانيتها: الكلام المبرور في ردّ القول المنصور، وثالثتها : السعي المشكور في ردّ المذهب المأثور» ألفتها ردّاً على رسائل من حجّ ولم يزر قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) العربي في كل بكرة وعشي»(2).

أقول : إن رواة هذا الحديث إلى موسى بن هلال كلّهم ثقات لا ريبة فيهم .

و أمّا موسى بن هلال: فقال ابن عدي: ارجو أنه لا بأس به وهو من مشايخ أحمد، وأحمد لم يكن يروي إلاّ عن ثقة(3) . كما صرّح الخصم بذلك في الرد على البكري(4).

وقد ذكر السبكي شواهد لقوّة سنده، وقال : وبذلك تبيّن أن أقلّ درجات هذا الحديث أن يكون حسناً إن نوزع في دعوى صحته.

إلى أن قال : وبهذا بل بأقل منه يتبيّن افتراء من ادعى: أن جمیع الأحاديث الواردة في الزيارة موضوعة، فسبحان الله أما استحى من الله ومن رسوله في هذه المقالة التي لم يسبقه إليها عالم ولا جاهل، لا من أهل الحديث ولا من غيرهم! ولا ذكر أحدٌ موسى بن هلال ولا غيره

ص: 98


1- انظر الغدير : 167/5
2- الرفع والتكميل : 211.
3- الكامل في الضعفاء : 351/6.
4- انظر الغدير : 169/5.

من رواة حديثه هذا بالوضع ولا اتهمه به فيما علمنا، فكيف يستجيز مسلمٌ أن يطلق على كل الأحاديث التي هذا واحد منها أنها موضوعة(1) ؟!

الحديث الثاني : عن ابن عمر مرفوعاً: «من جاءني زائراً لا تعمله - لا تحمله - إلاّ زيارتي كان حقاً عليَّ أن أكون له شفيعاً يوم القیامة».

ولهذا الحديث ستّة عشر مصدراً ونكتفي بذكر بعضها :

1 - الطبراني - ت 360ه_ في المعجم الكبير .

2 - الحافظ بن السكن البغدادي - ت353ه_ في كتابه: السنن الصحاح .

3 - الدارقطني في أماليه، ت 385ه_ .

4 - أبو نعيم الأصبهاني، ت 430 ه_.

5 - أبو حامد الغزالي الشافعي في إحياء العلوم، ت 505 ه_(2) .

الحديث الثالث: عن ابن عمر مرفوعاً: «من حج فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي»(3).

ولهذا الحديث خمسة وعشرون مصدراً من كتب السنّة، وفيما يلي بعضها:

1_ الشیباني:ت303ه_ .

ص: 99


1- شفاء السقام : 8.
2- المعجم الكبير : 225/12 ، إحياء علوم الدين : 231/1 ، مختصر تاریخ دمشق : 406/2 ، شفاء السقام : 16 ، وفاء الوفاء : 1340/4 ، مغني المحتاج : 512/1 ، المواهب اللدنية : 571/4 .
3- انظر الغدير : 246/5 ، انظر مصادره : المعجم الكبير : 12 / 310 ، سنن الدارقطني : 278/2 .

2 - أبو يعلى - ت307ه_ - في مسنده .

3 - البغوي، ت 317 ه_ .

4 - ابن عدي - ت 365ه_ - في الكامل .

5 - البيهقي - ت458ه_ _ في السنن(1) .

6 - ابن عساكر - ت571ه_ - في تاريخه .

الحديث الرابع: عن عبد الله بن عمر، مرفوعاً:

«من حجَّ البيت ولم يزرني فقد جفاني».

نقل هذا الحديث كثيرٌ من الحفّاظ (2). منهم:

1 - السمهودي (ت 911 ه_) في وفاء الوفاء.

2 - الدارقطني ( ت 385ه_) في كتابه أحاديث مالك التي ليست في الموطأ.

3 - القسطلاني (ت 923ه_) في المواهب اللدنية .

الحديث الخامس : مرفوعاً، «لا عذر لمن كان له سعة من أُمّتي ولم يزرني» (3).

ص: 100


1- كنز العمال : 651/15 ، الدرة الثمية : 397 ، مشكاة المصابيح : 128/2 ، شفاء السقام : 20 - 27، والروض الفائق : 380 ، وفاء الوفاء : 1340/4 ، نيل الأوطار : 5/ 108 ، مصباح الظلام ، 351/2.
2- نيل الأوطار : 108/5 ، شفاء السقام 27 ، وفاء الوفاء : 1342/4 ، المواهب اللدينة : 404/3 ، كشف الخفاء : 244/2 ، كتاب المجروحين : 73/3 ، مصنف عبد الرزاق : 569/3 ، الغدير : 100/5 .
3- مجتمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر : 157/1 ، وفاء الوفاء : 1340/4 .

فعل الصحابة:

1 - إن عمر بن الخطاب لمّا قدم المدينة من فتوح الشام، كان أوّل ما بدأ بالمسجد، سلّم على رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)(1).

2 - إنّ ابن عمر كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) فقال : السلام عليك يا رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه(2) .

3 - إن ابن عمر يقف على قبر النبي، فيصلي (فيسلّم) على النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)(3).

4 - عن ابن عون : سأل رجل نافعاً هل كان ابن عمر يُسلّم على القبر؟ قال : نعم، لقد رأيتهُ مائة مرّة أو أكثر من مائة كان يأتي القبر، فيقوم عنده، فيقول : السلام على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)(4).

5 - عن أبي حنيفة، عن ابن عمر: من السنّة أن تأتي قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) من قِبَل القبلة، وتجعل ظهرك إلى القبلة وتستقبل القبر بوجهك ثم تقول : . . .

هذا وقد جمع العلاّمة الأميني أكثر من أربعين قولاً لعلماء السنّة وفقهائهم في استحباب زيارة قبر النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) وآداب زيارته (5).

وأمّا العقل :

ص: 101


1- شفاء السقام : 44 .
2- وفاء الوفاء : 1340/4 .
3- وفاء الوفاء : 1340/4 .
4- المصدر السابق.
5- انظر الغدير 5: 109 .

فإن العقل يحكم بحسن تعظيم من عظّمه الله تعالى : (هذا من حيث الكبرى) والزيارة نوع من التعظيم (وهذا من حيث الصغرى).

والنتيجة أن تعظيمه(صلی الله علیه و آله و سلم) بالزيارة تعظيم لشعائر الله، وارغام لأنوف أعدائه ومخالفيه .

المناقشة في حديث شدّ الرحال:

حاول ابن تيمية التشنيع على الإمامية بأنّهم: يحجّون إلى المشاهد كما يحج الحاج إلى البيت العتيق كأن زيارة المشاهد خاصة بالإمامية دون سائر المذاهب الإسلامية الأخرى!

وابن عبد الوهاب يزعم حرمة شدّ الرحال إلى المشاهد المشرّفة وإلى قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) ، وحرمة السفر بالقصد إلى هذه المشاهد، حيث يقول : يُسَنّ زيارة النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) إلا أنه لا تُشَدُّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة : المسجد الحرام ومسجدي ومسجد الأقصى»(1).

فهو يرى حرمة السفر بقصد زيارة القبور استناداً إلى هذا الحديث .

مناقشة هذا المدّعى :

أولاً: إن الحصر هنا إضافي لا حقيقي يعني بالنسبة إلى سائر المساجد لا يشد الرحال إلاّ إلى هذه المساجد، وذلك لأن المستثنى منه لم يذكر، أي - أنَّ الاستثناء مفرَّغ - فكما يحتمل تقدير «المكان، والموضع» في المستثنى منه، يمكن تقدير «المسجد» فيكون معنى الرواية لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد إلاّ إلى هذه الثلاثة؛ وهذا التقدير هو المتعيّن لأنه المتبادر والظاهر من الحديث عرفاً. وعليه فلا

ص: 102


1- البخاري: 136/2 ، كتاب الصلاة، مسلم : 4 / 126 (الحج) إحياء العلوم للغزالي : 247/2 .

ربط للحديث بحرمة شدّ الرحال إلى المشاهد المشرّفة والمقابر .

قال القسطلاني: الاستثناء مفرغ والتقدير لا تُشَدُّ الرحال إلى موضع، ولازمه منع السفر إلى كل موضع غيرها كزيارة صالح أو قريب أو صاحب، أو طلب علم، أو تجارة أو نزهة، لأن المستثنى منه في المفرّغ يقدّر بأعم العام. لكن المراد بالعموم هنا الموضع المخصوص وهو المسجد (1).

ثانياً: مما لا كلام فيه : هو الإجماع والاتفاق على جواز السفر وشدّ الرحال إلى أي مكان كان للتجارة أو طلب العلم، أو الجهاد، أو زيارة العلماء، أو النزهة، أو غير ذلك، فلو كان المستثنى منه في الحديث هو غير المسجد ، بل المكان أو«الموضع» للزم عدم جواز شدّ الرحال إلى هذه الجهات المذكورة، وهذا خلاف المتفق والمجمع عليه . فلا بدّ من القول: بأن المستثنى منه في الحديث: هو المسجد يعني لا يقصد بالسفر إلى المسجد إلاّ المساجد الثلاثة .

وحينئذِ: لا يدّل الحديث، بل ولا إشارة فيه على حرمة شدّ الرحال إلى المشاهد وخصوصاً قبر النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) وزيارته .

ثالثاً : إن مضمون هذا الحديث غير معمول به حتى على فرض جعل المستثنى منه «المسجد» إذ معناه حينئذِ عدم جواز شد الرحال إلى أي مسجد إلاّ هذه المساجد الثلاثة، وأما غيرها من المساجد فلا يجوز السفر إليها .

والحال : إن النصوص تصرّحِ بأن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) والصحابة كانوا يذهبون كل سبت إلى مسجد قبا، وبينه وبين المدينة ثلاثة أميال، مع أن

ص: 103


1- إرشاد الساري : 332/2 .

«قبا» ليس من المساجد الثلاثة فلا بد من الالتزام بحرمة الذهاب إليها، مع أنّه لم يتفوّه به مسلم .

فعن ابن عمر:« كان النبي يأتي مسجد قباء كل سبت ماشياً وراكباً، وكان عبد الله يفعله»(1).

رابعاً : إن بلالاً شدَّ الرحال لزيارة قبر النبيّ(صلی الله علیه و سلم).

روى ابن عساكر:« لما رحل عمر من فتح بيت المقدس، فصار إلى جابية سأله بلال أن يقرَّه بالشام ففعل . قال : ثم إن بلالاً رأى في منامه النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) وهو يقول : ما هذه الجفوة يا بلال، أما آن لك أن تزورني يا بلال .

فانتبه حزيناً وجلاً، خائفاً، فركب راحلته وقصد المدينة، فأتى قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) فجعل يبكي عنده ويُمرَّغ وجهه عليه، فأقبل الحسن والحسين فجعل يضمّهما ويقبلهما، فقالا له: يا بلال نشتهي أن نسمع أذانك، فلما قال : الله أكبر، ارتجّت المدينة، فلما قال : أشهد أن لا إله إلاّ الله ازدادت رجّتها فلما قال : أشهد أنّ محمّداً رسول الله خرجت العواتق من خدورهن وقالوا: بُعِثَ رسول الله، فما رؤيَ بالمدينة بعده(صلی الله علیه و آله و سلم) أكثر باكياً وباكية من ذلك اليوم(2).

قال الحافظ عبد الغني وغيره : لم يؤذَّن بلال بعد النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) إلاّ

مرّة واحدة في قدومه المدينة لزيارة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)(3).

قال السُبكي: ليس اعتمادنا على رؤيا المنام فقط، بل اعتمادنا

ص: 104


1- إرشاد الساري : 332/2 ، البخاري : 137/2.
2- أسد الغابة : 208/1، تهذيب المطالب : 408/2 ، شفاء السقام : 85.
3- ولكن ثبت تاريخياً أن بلالاً أذن بعد النبي (ص) ثلاث مرات مرتان في المدينة ومرة بالشام. انظر قاموس الرجال : 398/2 .

على فعل بلال سيما في خلافة عمر، والصحابة متوافرون، ولا تخفى هذه القصة، ورؤيا بلال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) مؤكدة لذلك(1).

وفي فتوح الشام : إن عمر لما صالح أهل بيت المقدس وقدم عليه كعب الأحبار وأسلم وفرح بإسلامه قال له: هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) وتتمتّع بزيارته ؟ فقال : نعم أنا أفعل ذلك، ولما قدم عمر المدينة كان أوّل ما بدأ بالمسجد وسلّم على رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)(2).

خامساً: استفاض عن عمر بن عبد العزيز أنّه كان يبرد البريد من الشام ، يقول : سلّم لي على رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم)(3).

موقف العلماء من مزاعم ابن تيمية:

1 - قال القسطلاني: قول ابن تيمية حيث منع من زيارة قبر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وهو من أبشع المسائل المنقولة عنه(4).

2 - النابلسي: وليس هذا بأول ورطة وقع فيها ابن تيمية واتباعه فإنه جعل شدَّ الرحال إلى بيت المقدس معصية . . . ونهى عن التوسل بالنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى الله تعالى وبغيره من الأولياء . . . إلى غير ذلك من التهورات الفظيعة الموجبة لكمال القطيعة التي استوفاها الحصني في كتاب مستقل في الردّ على ابن تيمية واتباعه وصرَّح فيه بكفره(5) .

3 - وقال الغزالي: كل من تبرّك بمشاهدته في حياته يتبرّك بزيارته .

ص: 105


1- تاريخ الإسلام ( عهد الخلفاء) : 205/3 ، وفاء الوفاء : 1357/4 .
2- وفاء الوفاء : 1358/4 .
3- تهذيب المطالب : 408/21 .
4- إرشاد الساري : 329/2 .
5- الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية: 129.

بعد موته، ويجوز شدُّ الرحال لهذا الغرض، ولا يمنع من هذا قوله : لا تشدّ الرحال إلاّ على ثلاثة مساجد(1) .

4 - العزامي الشافعي: ولقد تعدى هذا الرجل حتى على الجناب المحمّدي فقال : إنَّ شدَّ الرَّحال إلى زيارته معصية. . . (2).

5 - الهيثمي الشافعي: فإنّه بعدما استدلَّ على مشروعية زيارة قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) بعدّة أدلّة، منها الإجماع. قال : فإن قلت: كيف تحكي الاجماع على مشروعية الزيارة والسفر إليها وطلبها، وابن تيمية من متأخّري الحنابلة منكّرٌ لمشروعية ذلك كلّه، رآه السُبكي في خطّه؟! وقد أطال ابن تيمية الاستدلال لذلك بما تمجُّهُ الأسماع، وتنفر عنه الطباع ، بل زعم حرمة السفر إليها إجماعاً، وأنه لا تقصر فيه الصلاة. وأن جميع الأحاديث الواردة فيها موضوعة، وتبعُه بعض من تأخَّر عنه من أهل مذهبه .

قلت : من هو ابن تيمية حتى ينظر إليه أو يُعوَّل في شيء من أمور الدين عليه ؟! وهل هو إلاّ كما قال جماعة من الأئمة الذين تعقّبوا كلماته الفاسدة وحججه الكاسدة، حتى أظهروا سخف سقطاته وقبائح أوهامه وغلطاته . . . (3).

والحاصل أن الأحاديث التي أوردها الحفاظ والمحدّثون من السّنة ،البالغة حدّ الاستفاضة بل البالغة درجة التواتر، وكذلك فعل الصحابة، وزيارة بلال قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) وشدّه الرحال إلى الزيارة بمرأى ومسمع الصحابة وعدم اعتراضهم عليه، وكذلك دعوة عمر بن الخطاب كعب

ص: 106


1- إحياء علوم الدين : 247/2 .
2- فرقان :القرآن : 133 ، الغدير : 154/5 .
3- انظر الغدير : 116/5 ، کشف الارتياب : 372 ، الجوهر المنظم في زيارة القبر المكرم : 12 .

الأحبار لزيارة قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) و عدم اعتراض الصحابة في ذلك. تُعد أقوى حجّة وأسمى دليل على جواز شدّ الرحال إلى المشاهد المشرّفة سيّما قبر رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) ، بل تدل على الرجحان والاستحباب إذ في بعضها ورد الأمر بالزيارة وهو للندب عند الجمهور. وللوجوب عند ابن حزم ،ولو مرّة واحدة في العمر(1).

6 - الشيخ أحمد القسطلاني : اعلم أن زيارة قبره الشريف من أعظم القربات، وأرجى الطاعات، والسبيل إلى أعلى الدرجات، ومن اعتقد غير هذا فقد انخلع من ربقة الإسلام، وخالف الله ورسوله وجماعة العلماء الأعلام وقال أيضاً لابن تيمية هنا كلام شنيع عجيب يتضمن منع شدّ الرحال للزيارة . . . (2).

7- قال الغزالي: وكل من يتبرك بمشاهدته(صلی الله علیه و آله و سلم) في حياته يتبرك

بزيارته بعد وفاته ويجوز شدُّ الرحال لهذا الغرض. . . (3).

8 - وقال الذهبي من جواب الحسن بن الحسن الذي نهى رجلاً رآه واقفاً على البيت الذي فيه قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) يدعو له ويصلي عليه - مستدلاً بما نسب إليه(صلی الله علیه و آله و سلم) : لا تتخذوا بيتي عيداً ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً وصلّوا عليَّ حيث ما كنتم، فأنّ صلاتكم تبلغني .

قال الذهبي: هذا مرسل، وما استدلّ حسن - أي الحسن بن الحسن - في فتواه بطائل من الدلالة فمن وقف عند الحجرة المقدسة ذليلاً مسلماً مصلياً على نبيّه، فيا طوبى له، فقد أحسن الزيارة، وأجمل في التذلل والحُب، وقد أتى بعبادة زائدة على من صلّى عليه في أرضه

ص: 107


1- التاج الجامع للأصول : 382/2 .
2- المواهب اللدنية : 403/3 و 406 .
3- إحياء العلوم : 258/1.

أو في صلاته، إذ الزائر له أجر الزيارة وأجر الصلاة عليه، والمصلّي عليه في سائر البلاد له أجر الصلاة فقط، فمن صلّى عليه واحدة، صلى الله عليه عشراً، ولكن من زاره _ صلوات الله علیه - وأساء أدب الزيارة أو سجد للقبر أو فعل ما لا يشرع فهذا فعل حسناً وسيئاً فيُعلَّمُ برفق(1) والله غفور رحيم، فوالله ما يحصل الانزعاج لمسلم والصياح وتقبيل الجدران وكثرة البكاء، إلاّ وهو محبَّ الله ولرسوله، فحبُّهُ المعيار والفارق بين أهل الجنة وأهل النار .

فزيارة قبره من أفضل القُرَب، وشدُّ الرَّحال إلى قبور الأنبياء والأولياء لئن سلَّمنا أنه غير مأذون فيه لعموم قوله صلوات الله : «لا تشدوا . . . » فشدَّ الرحال إلى نبينا مستلزم لشد الرحل إلى مسجده، وذلك مشروع بلا نزاع إذ لا وصول إلى حجرته إلاَّ بعد الدخول إلى مسجده فليبدأ بتحية المسجد، ثم بتحية صاحب المسجد رزقنا الله واياكم ذلك(2).

9 - قال المعلق : قصد المؤلف بهذا الاستطراد الرَّد على شيخه ابن تيمية الذي يقول بعدم جواز شدّ الرحال لزیارة قبر النبي(3).

10 - قال زين الدين المراغي :« ينبغي لكل مسلم اعتقاد كون زيارته قربه، للأحاديث الواردة في ذلك. ولقوله تعالى :﴿ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول ﴾(4).

لأن تعظيمه لا ينقطع بموته ولا يقال إنَّ استغفار الرسول لهم إنما

ص: 108


1- لا كما يفعله الوهابية - في يومنا - عند الحجرة النبوية والقبر الشريف من الاهانة والسب والضرب لمن يمس الضريح أو يقترب منه .
2- سير أعلام النبلاء : 4 : 484/5 .
3- سیر أعلام النبلاء : 4 : 0484/5
4- سورة النساء، الآية : 64 .

هو في حال حياته وليست الزيارة كذلك، لما أجاب به بعض أئمة المحققين : إنّ الآية دلت على تعليق وجدان الله تواباً رحيماً بثلاثة أمور: المجيء، واستغفارهم واستغفار الرسول لهم، وقد حصل استغفار الرسول لجميع المؤمنين والمؤمنات، لأنه(صلی الله علیه و آله و سلم) قد استغفر للجميع، قال الله تعالى : واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات(1).

فإذا وجد مجيئهم واستغفارهم تكملت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ورحمته(2) .

زيارة القبور والمشاهد:

هذا كلّه بالنسبة إلى زيارة قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) ، وأمّا زيارة سائر القبور وشدُّ الرحال إليها، فكذلك ممّا لا كلام في مشروعيتها أيضاً وقد حتّ النبيّ الكريم على زيارتها ورغّب المسلمين في ذلك، كما قام هو بزيارة القبور، وزيارة قبر أُمّه آمنة بنت وهب رضي الله عنها، كما ثبت ذلك أيضاً من سيرة المسلمين ودأبهم على زيارة قبور المسلمين.

الأحاديث في زيارة القبور :

1 - سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) : نهيتكم عن زيارة

القبور، ألا فزوروها (3).

قال الشيخ منصور: فزوروها والأمر للندب عند الجمهور، وللوجوب عند ابن حزم ولو مرّة واحدة في العمر(4).

ص: 109


1- سورة محمد الآية : 19 .
2- المواهب اللدنية بالمنح المحمدية : 405/3.
3- صحیح مسلم : 65/3 ، سنن النسائي : 89/4 ، مستدرك الحاكم : 530/1 الرقم 1385 .
4- التاج الجامع للأصول : 381/1، جامع الأصول : 438/11 .

2 - عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) : كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أذن لمحمّد في زيارة قبر أُمّه، فزوروها فإنّها تذكُر الآخرة .

رواه الخمسة إلاّ البخاري واللفظ للترمذي .

قال : والميت يأنس بالزائر وينتفع بالدعاء والقرآن وما تسمح به الحال من صدقة، وهذه هي حكمة الزيارة (1).

3 - عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) : نهيتكم عن زيارة القبور ثم بدا لي(2) .

4_عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) : إنتوا موتاكم فسلّموا عليهم، أو - صلّوا - فإنَّ بهم عبرة(3).

5 - كان النبي يأتي قبور الشهداء عند رأس الحول فيقول : السلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار، وجاءها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، فلما قدم معاوية حاجَّا جاءهم، قال: وكان النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) إذا واجه الشَّعب ، قال : سلام عليكم بما صبرتم(4).

عن عائشة : كان رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) كلّما كانت ليلتين يخرج من

آخر الليل إلى البقيع فيقول : السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وآتاكم ما توعدون غداً مؤجلون وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون اللهمّ اغفر لأهل بقيع الغرقد(5) .

7 - عن ابن مسعود عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) : ألا فزوروا القبور فإنّها تزهّد في الدنيا وتذكّر الآخرة (6).

ص: 110


1- المصدر نفسه .
2- مسند أحمد : 3372 انظر موسوعة أطراف الحديث : 181/10 .
3- أخبار مكة : 52/2 .
4- وفاء الوفاء : 932/3.
5- وفاء الوفاء : 883/3 ، عن مسلم : 63/3 ، والنسائي، السنن الكبرى : 132/4 .
6- سنن ابن ماجه : 501/1 ، مستدرك الحاكم : 531/1 ، أخبار مكة : 053/4

8 - عن أنس عن النبي الله(صلی الله علیه و آله و سلم) : نهيتكم عن زيارة القبور فزورها

فأنَّها تذكَّركم الموت(1).

9- عن النبي : إني نهتكم عن زيارة القبور، من شاء منكم أن يزور قبراً فليزره فإنّه يرق القلب ويدمع العين ويذكّر الآخرة(2) .

10 - طلحة بن عبد الله : خرجنا مع رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) يريد قبور الشهداء فلما جئنا قبور الشهداء ، قال : هذه قبور إخواننا(3) .

11 - عن عائشة ، عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) : «إن جبرئيل أتاني. . . ربّك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم »(4) .

فعل الصحابة والتابعين:

1 - عن أبي جعفر(علیه السلام) : إن فاطمة( سلام الله علیها) بنت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) كانت تزور قبر حمزة رضي الله تعالى عنه، ترمّهُ وتصلحه وقد تعلَّمة بحجر (5).

2 - روى رزين عنه أن فاطمة - رضي الله عنها - كانت تزور قبور الشهداء بين اليومين والثلاثة (6).

3 - رواه يحيى بنحوه عن أبي جعفر(علیه السلام) عن علي بن الحسين(علیه السلام) وزاد: فتصلي هناك وتدعو وتبكي حتى ماتت(7) .

ص: 111


1- مستدرك الحاكم : 531/1 الرقم 1388 .
2- مستدرك الحاكم : 533/1 الرقم 1394 ، الجنائز، انظر مجمع الزوائد : 58/3.
3- سنن أبي داود : 216/3 ، السنن الكبرى 127/4 ، ومن طريق العطاف: إن النبي زار قبور الشهداء بأحد (وفاء الوفاء : 932/3) .
4- السنن الكبرى : 132/4 .
5- مصنف عبد الرزاق : 572/3 ، السنن الكبرى: 4 / 131 ، مستدرك الحاكم : 533/1 ، وفاء الوفاء : 932/2 ، انظر الغدير : 167/5 .
6- المصدر نفسه .
7- المصدر نفسه.

4 - عن علي(علیه السلام) : إنّ فاطمة(سلام الله علیها) كانت تزور قبر عمّها حمزة كل جمعة فتصلّي وتبكي عنده(1).

5 - ابن أبي مليكة: رأيت عائشة تزور قبر أخيها عبد الرحمن ومات بالحبشي وقُبِرَ بمكة(2) .

6 - وقال : إن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر فقلت لها أليس كان رسول الله( صلى الله عليه و آله و سلم) نهى عن زيارة القبور ؟ قالت : نعم كان نهى ثم أمر بزيارتها (3).

7- روى البيهقي عن هاشم بن محمد العمري من ولد عمر بن علي قال : أخذني أبي بالمدينة إلى زيارة قبور الشهداء في يوم جمعة بين الفجر والشمس، فكنت أمشي خلفه فلما انتهى إلى المقابر رفع صوته، فقال : سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. قال: فأجيب وعليك السلام يا أبا عبد الله، فالتفت أبي إلىَّ فقال : أنت المجيب ؟ فقلت : لا ، فجعلني عن يمينه ثم أعاد السلام، ثم جعل كلّما سلم يُرَّد عليه، حتى فعل ذلك ثلاث مرّات. فخرَّ ساجداً شكراً الله(4).

8 - عن يحيى عن العطاف قال : حدثتني خالة لي، وكانت من العوابد قالت: ركبت يوماً معي غلام حتى جئت إلى قبر حمزة، فصلّيت ما شاء الله ولا والله ما في الوادي داع ولا مجيب يتحرّك وغلامي قائم آخذ برأس دابتي. فلما فرغت من صلاتي قمت فقلت : السلام عليكم، وأشرت بيدي فسمعت ردّ السلام عليَّ من تحت الأرض، أعرفه كما

ص: 112


1- المصدر السابق نفسه .
2- مصنف عبد الرزاق : 570/3 .
3- السنن الكبرى : 131/4 .
4- وفاء الوفاء : 933/3.

أعرف أن الله خلقني وأقشعرت كل شعرة منّي، فدعوت الغلام، فقلت: هات دابتي فركبت(1).

9 - قال الذهبي : . . .حجّ هارون الرشيد، فورد المدينة، فقال ليحيى بن خالد: إرتد لي رجلاً عارفاً بالمدينة والمشاهد، وكيف كان نزول جبرئيل على النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) ومن أي وجه كان يأتيه وقبور الشهداء .

فسأل يحيى، فكلُّ أحد دلّهُ عليَّ فبعثَ إليَّ فَآتيتُهُ فواعدني إلى عشاء الآخرة، فإذا شموع، فلم أدع مشهداً ولا موضعاً إلاَّ أريتها، فجعلا يصليان ويجتهدان في الدعاء، فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر(2).

القبور المقصودة بالزيارة:

هناك قبور للصحابة وغيرهم من الصالحين والمؤمنين، جرت سيرة المسلمين قديماً وإلى يومنا هذا في زيارتها والتوسّل والتبرّك بها ... وفيما يلي نبذة منها :

1 - قبر بلال بن حمامة الحبشي : مؤذَّن رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) المتوفى عام 20ه- بدمشق، وفي رأس القبر تاريخ باسمه، والدعاء في هذا الموضع المبارك مستجاب، قد جرّب ذلك كثير من الأولياء وأهل الخير المتبرّكين بزيارتهم(3).

2 - قبر سلمان الفارسي المتوفى عام 36ه_ : قال الخطيب البغدادي : قبره الآن ظاهر معروف بقرب أيوان كسرى، عليه بناء وهناك خادم مقيم وزرتُه غير مرّة(4) .

ص: 113


1- وفاء الوفاء : 932/3.
2- سیر أعلام النبلاء : 464/9 .
3- رحلة ابن جبیر: 229 ، انظر الغدير : 184/5 .
4- تاریخ بغداد 241/12 .

وقال ابن الجوزي: قال القلانسي وسمنون: زرنا قبر سلمان وانصرفنا(1) .

3 - قبر أبي أيوب الأنصاري المتوفّى عام 52 بالروم: قال الحاكم : يتعاهدون قبره ويزورونه ويستسقون به إذا قحطوا(2) .

4 - مشهد رأس الحسين(علیه السلام) بمصر : قال ابن جبير المتوفّى عام 614 ه_ : «هو في تابوت فضّة مدفون تحت الأرض قد بني عليه بنيان حفيل يقصر الوصف عنه، ولا يحيط الإدراك به ... ومن أعجب ما شاهدناه في دخولنا إلى هذا المسجد المبارك حجر موضوع في الجدار الذي يستقبله الداخل، شديد السواد والبصيص، يصف الأشخاص كلّها كأنه المرآة الهندية، وشاهدنا من استلام الناس للقبر المبارك، وإحداقهم به وانكبابهم عليه وتمسّحهم بالكسوة التي عليه، وطوافهم حوله، مزدحمین داعين باكين متوسّلين إلى الله سبحانه ببركة التربة المقدّسة، ومتضرّعين بما يذيب الأكباد، ويصدع الجماد والأمر فيه أعظم ومرأى الحال، أهول نفعنا الله ببركة ذلك المشهد الكريم ... (3).

5 - قبر عمر بن عبد العزيز الأموي المتوفی 101ه_: وقبره بدير سمعان(4) يزار(5).

6 - الإمام موسى بن جعفر(علیه السلام) المدفون بالكاظمية، الشهيد عام 183ه_ :قال الخطيب ... سمعت الحسن بن إبراهيم - شيخ الحنابلة

ص: 114


1- المنتظم 241/12 .
2- مستدرك الحاكم : 518/3 الرقم 5929 ، صفة الصفوة : 470/1. وفي رحلة ابن بطوطة : 187/12 عن قبر طلحة وعليه قبة ومسجد والناس يعظّمونه.
3- رحلة ابن جبير : 19.
4- وهو دير بنواحي دمشق معجم البلدان : 586/2 .
5- تاريخ الإسلام حوادث سنة 100 ص 26 ، تذكرة الحفاظ : 121/1.

في عصره - يقول: ما همّني أمرٌ فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسّلت به إلاّ سهّل الله تعالى لي ما أحبّ (1).

7 - قبر الإمام الجواد(علیه السلام)

قال ابن عماد: توفي ببغداد أبو جعفر محمد الجواد... و دفن عند جدّه موسى ومشهدهما ينتابه العامة بالزيارة (2).

8- قبر الإمام الرضا(علیه السلام) : قال محمد بن المؤمل : خرجنا مع إمام أهل الحديث ابن خزيمة وعديله أبي علي الثقفي مع جماعة من مشايخنا وهم إذ ذاك متوافرون إلى علي بن موسى الرضا بطوس، قال : فرأيت من تعظيمه - يعني ابن خزيمة - لتلك البقعة وتواضعه لها وتضرّعه عندها ما تحيرنا (3).

9 - محمد بن إدريس الشافعي : إمام الشافعية المتوفى 204ه_ دفن بالقرافة الصغرى وقبره يزار بها بالقرب من المقطم(4).

10 - أحمد بن حنبل إمام الحنابلة المتوفى 241ه_ : قال الذهبي : ضریحه یزار ببغداد(5) .

11 - أبو حنيفة إمام الحنفية المتوفى 150ه_ : وقبره في الأعظمية ببغداد مزار معروف(6).

ص: 115


1- تاریخ بغداد: 1/ 120 ، انظر البداية والنهاية : 88/5 .
2- شذرات الذهب : 97/3 .
3- وفيات الأعيان : 165/4 ، تهذيب التهذيب : 339/7 .
4- المصدر نفسه .
5- میزان الاعتدال : 1 / 114 . قال الخطيب: عن أبي الفرج الهندبائي : كنتُ أزور قبر أحمد بن حنبل فتركته ، فرأيتُ في المنام قائلاً يقول لي : لِمَ تركت زيارة قبره!! تاریخ بغداد : 423/4 .
6- تاریخ بغداد: 123/1.

عن الشافعي: وأجيء إلى قبره كل يوم زائراّ (1).

12 - قبر ذي النون المصري المتوفى عام 246ه_ دفن بالقرافة وعلى قبره مشهد مبني . . . زُرته غير مرّة (2).

13 - قبر إسماعيل بن يوسف الديلمي : قال المعافي : الناس يزورون قبره وراء قبر معروف الكرخي ، وبينهما قبور يسيرة، وقد زرته مراراً(3).

14 - قبر مصعب بن الزبير المتوفى عام 157ه_ : قال ابن الجوزي: زارت العامة قبره بمسكن(4) كما يزار قبر الحسين(علیه السلام)(5).

أقول : أين الثرى من الثريا، وأين السفاك للدماء المتمني إمرة العراق(6) وأين سيّد شباب أهل الجنة !!

15 - ليث بن سعد الحنفي إمام مصر، المتوفى عام 175ه_. دفن بالقرافة الصغرى، وقبره يزار رأيته غير مرّة (7).

16 - قبر أبي عوانة عليه مشهد مبني بأسفرائين يزار وهو بداخل المدينة(8).

17 - وقال ابن عساكر: إنّ قبر أبي عوانه باسفرائين مزار العالم ومتبرك الخلق .. (9).

ص: 116


1- المصدر نفسه .
2- وفيات الأعيان : 318/1 .
3- صفة الصفوة : 413/2 .
4- موضع قريب من أوانا على نهر دجيل عند دير الجائليق به كانت الوقعة بين عبد الملك بن مروان ومصعب بن الزبير عام 72 فقُتِل مصعب وقبره هناك معروف. معجم البلدان : 127/5 .
5- المنتظم: 14/15 .
6- انظر سير أعلام النبلاء : 141/4 .
7- الجواهر المضيئة : 2/ 720 الرقم 1131 .
8- تذكرة الحفاظ : 780/3 رقم الترجمة 772.
9- وفيات الأعيان : 394/6 ، انظر الأنساب للسمعاني : 484/3 ، حيث يقول : زرت قبره - سير أعلام النبلاء : 419/14 .

قال ابن الصفار الأسفرايني: كان جدّي إذا وصل إلى مشهد الأستاذ - أبي إسحاق - رأيته لا يدخله احتراماً، بل كان يقبّل عتبة المشهد وهي مرتفعة بدرجات، ويقف ساعة على هيئة التعظيم والتوقير، ثم يعبر عنه كالمودع لعظيم عظيم الهيبة، وإذا وصل إلى مشهد أبي عوانة كان أشدّ تعظيماً له وإجلالاً وتوقيراً ويقف أكثر من ذلک(1).

18 - قبر الحافظ أبي الحسن العامري المتوفى عام 403 ه_ . عكف الناس على قبره ليالي يقرؤون القرآن ويدعون له وجاء الشعراء من كل أوب يرثُون ويترحمون(2)(3).

19 - قبر المعتمد على الله، المتوفى عام 488ه_ : وهو أبو القاسم بن المعتضد اللخمي الأندلسي، اجتمع عند قبره جماعة من الشعراء الذين كانوا يقصدونه بالمدايح... فرثوه بقصائد مطولات وأنشدوها عند قبره وبكوا عليه فمنهم أبو بحر رثاه بقصيدة منها : قَبلْتُ في هذا الثرى لك خاضعاً***وجعلت قبرك موضع الإنشاد

ولما فرغ من إنشادها، قبَّل الثرى ومرَّغ جسمه وعفَّر خدّه فأبكى كلَّ من حضر (4).

20 - قبر نصر بن إبراهيم المقدسي المتوفى 490ه_ : شيخ الشافعية، توفي بدمشق ودفن بباب الصغير، وقبره ظاهر يزار(5).

ص: 117


1- المصدر نفسه .
2- البداية والنهاية : 375/1 هو صاحب الأندلس بعد أبيه وقاتل ملك الفرنج واستأصل جمعهم ثم بعد ذلك هاجت الفتنة أندلس فأسر ثم قتل سير أعلام النبلاء: (63/19).
3- البداية والنهاية : 375/11 .
4- المواهب اللدنية : 3903 ، شذرات الذهب : 388/5 .
5- المواهب اللدنية : 396/3، شذرات الذهب : 397/2 ، انظر العبر : 363/2 .

21 - القاسم بن فيره الشاطبي : المتوفى 590ه_ : دفن بالقرافة وقبره مشهور معروف يقصد للزيارة وقد زرته مرّات(1).

22 - قبر أحمد بن جعفر الخزرجي البستي نزيل مراكش، ت 601 ه_ : قال صاحب نيل الابتهاج : ...وإلى الآن ما زال الحال على ما كان عليه من روضته من ازدحام الخلق عليها وقضاء حوائجهم وقد زرتُه ما يزيد على خمسمائة مرّة، وبتُ هناك ما ينيف على ثلاثين ليلة(2) .

23 - قبر سفيان الثوري : قال ابن حبان: «وقبره - أي سفيان - في مقبرة بني كليب بالبصرة وقد زرته»(3).

من هو ابن حبان؟

هو: «الإمام العلاّمة الحافظ، المجوّد شيخ خراسان كما عن الذهبي، وكان من فقهاء الدين وحفّاظ الآثار، وصنف المسند الصحيح وفقّه الناس بسمرقند كما قاله الإدريسي.

وهو من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ ومن عقلاء الرجال كما عن الحاكم النيسابوري .

وكان ثقة نبيلاً فهماً كما عن الخطيب البغدادي(4).

ومن أعلام القرن الثالث. فمن كان بهذه المرتبة من العلم والفضل والفقه - على ما قالوا - تراه يشد الرحال لزيارة القبور، ولا يراه شركاً وحراماً كما زعمه الوهابية، وقد تعرضنا لترجمته سابقاً .

ص: 118


1- طبقات القراء : 22/2 .
2- نيل الابتهاج : 62 .
3- النجوم الزاهرة : 80/7 .
4- كتاب الثقات : 402/6 ، الأنساب : 517/1 .

24_قبر الملك المظفر : «قال قطب الدين: كان قبره يقصد للزيارة دائماً واجتزتُ به في شهر رمضان سنة تسع وخمسين وستمائة و ترجّمتُ عليه وزرته»(1).

هذا مختصر ممّا ورد في كتب التراجم والتواريخ والحديث، من : زيارة القبور، ومضى على ذلك الصحابة والتابعون، فإنّهم كانوا يعظّمون قبر النبي الكريم ويقصدونه للزيارة، وكذلك قبور الأئمة الطاهرية، والصالحين والأولياء والعلماء، فقد كانت تشدّ الرحال إليها من دون أن ينكر ذلك أحد .

وبعد هذه الشواهد والنصوص: ما هي حجّة ابن تيمية ومن يقول بمزاعمهّ في حرمة زيارة القبور وشّد الرحال إليها ؟!

وما ذنب الشيعة الإمامية لو عملت بمقتضى السنة الشريفة، وسلكت سيرة المسلمين في زيارة القبور ؟!

هل كانت القبور المقصودة كلّها قبوراً للإمامية؟! وهل الزائرون لها كانوا كلّهم شيعة اثني عشرية؟! هل كان ابن خزيمة وعديله الثقفي من الشيعة؟ وهل شيخ الحنابلة كان شيعياً حيث يزور قبر الكاظم(علیه السلام) ؟ وهل كان ابن حبان شيعياً حيث يزور قبر الرضا(علیه السلام) ؟ أم هل كان الشافعي محمد بن إدريس شيعياً وهو يزور قبر أبي حنيفة كل يوم؟ وهل كانت عائشة من شيعة علي(علیه السلام) وهي تزور قبر أخيها عبد الرحمن بمكّة ؟!

رأي فقهاء السنّة:

1 - العسقلاني : فإنّه بعد أن نقل حديث أنس: مرّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) بأمراة تبكي عند قبر فقال : «اتقي الله واصبري »...

ص: 119


1- سير أعلام النبلاء : 92/16.

قال: واستدل به على زيارة القبور، سواء كان الزائر رجلاً أو امرأة، وسواء كان المزور مسلماً أو كافراً لعدم الاستفصال في ذلك ...

2 - قال النووي : وبالجواز قطع الجمهور. وقال صاحب الحاوي، أي الماوردي: لا تجوز زيارة قبر الكافر وهو غلط.

وحجّة الماوردي قوله تعالى: ﴿وَلَا نَقُمْ عَلَى قَبْرِه﴾ وفي الاستدلال بذلك نظر لا يخفى.

قال : وبالجملة: فتستحب زيارة قبور المسلمين للرجال الحديث مسلم : كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنّها تذكّر الآخرة.

3 - وسُئل مالك عن زيارة القبور ؟ فقال : قد كان نهى عنه، ثم أذن فيه، فلو فعل ذلك إنسان ولم يقل إلاّ خيراً لم أرَ بذلك بأساً (1).

4 - السمهودي : أجمع العلماء على استحباب زيارة القبور للرجال كما حكاه النووي بل قال بعض الظاهرية بوجوبها (2).

زيارة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) قبر أمّه:

وممّا ورد في زيارة القبور ما رواه مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال : زار النبي(صلی الله علیه ئ آله و سلم) أُمّه فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربّي في أن استغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأُذن لي فزوروا القبور فإنّها تذكُركم الموت(3) .

ص: 120


1- إرشاد الساري : 400/3 .
2- وفاء الوفاء : 1362/4 .
3- مسلم : 65/3 ، الجنائز، النسائي : 4/ 90 ، مصنف عبد الرزاق : 572/3 ، السنن الكبرى : 4 /128.

بحث في إيمان والدي النبي(لی الله علیه و آله و سلم):

أقول : والنصوص والشواهد التاريخية كلها تشهد على إيمان والدي الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) حاشاهما من الشرك. كيف ولم يزل يُنقل من أصلاب طاهرة إلى أرحام مطهّرة. كيف والآية الكريمة صريحة أو ظاهرة في ذلك : ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّجِدِينَ ﴾(1) وقد ورد ذيل هذه الآية الكريمة في التفاسير :

1- روى السيوطي عن ابن أبي عمر العدني في مسنده والبزار وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن مجاهد في قوله: ﴿وَتَقَلْبَكَ فِي السَّجِدِينَ﴾ قال : «من نبي إلى نبي حتى اخرجت نبيّاً»(2).

2 - وروى أيضاً: عن ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم في الدلائل عن ابن عباس في قوله: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ﴾ قال : ما زال النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) يتقلّب في أصلاب الأنبياء حتى ولدته أُمّه(3).

3 - وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: سألت رسول الله فقلت: بأبي أنت وأمّي أين كنت وآدم في الجنّة؟ فتبسّم حتى بدت نواجذه ثم قال : إني كنت في صلبه وهبط إلى الأرض وأنا في صلبه وركبت السفينة في صلب أبي نوح وقذفت في النار في صلب أبي إبراهيم لم يلتق أبواي قط على سفاح لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيّبة إلى الأرحام الطاهرة مصفّى مهذّباً لا تتشعّب شعبتان إلاّ كنت في خيرهما قد أخذ الله بالنبوّة ميثاقي وبالإسلام هداتي وبيَّن في التوراة

ص: 121


1- سورة الشعراء، الآية 219.
2- الدر المنثور : 98/5 .
3- الدر المنثور : 98/5.

والإنجيل ذكري وبيّن كلَّ شيءٍ من صفتي في شرق الأرض وغربها وعلّمني كتابه ورقى بي في سمائه وشق لي من أسمائه فذو العرش محمود وأنا محمد ووعدني أن يحبوني بالحوض وأعطاني الكوثر وأنا أوّل شافع وأوّل مشفع ثم أخرجني في خير قرون أُمتي، وأُمتي الحمّادون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر(1).

إذن فالآية الشريفة، وقوله(صلى الله عليه و آله و سلم) في الحديث الأخير: «لم يلتقِ أبواي قط على سفاح، لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيّبة إلى الأرحام الطاهرة، مصفّى مهذّباً ... كاشفان تماماً من طهارة آباء وأمّهات الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) من دنس ونجس، فهم مبرّأون من الشرك لأن المشركين نجس .

إذن فإمنة بنت وهب رضوان الله عليها كانت موحّدة مؤمنة وحنيفية غير مشركة وعلى هذا تكون الرواية الماضية التي رواها كلّ من مسلم والنسائي عن أبي هريرة هي إحدى الإساءات إلى والدي رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم).

ولذا نرى بعض المنصفين من الشرّاح لهذا الحديث قاموا بتأويلات تنبىء عن أن فطرتهم السليمة تأبى قبول هذه المضامين :

قال الشيخ منصور : «وهذا لا ينافي دخولها الجنّة، فإنّها من أهل الفترة، والجمهور على أنّهم ناجون ... بل قد ورد وصح عند أرباب الكشف : أن الله تعالى أحيا أبوي النبي بعد رسالته فآمنا به، فلهذا كانا من أهل الجنّة»(2) .

ص: 122


1- الدر المنثور : 98/5 .
2- التاج الجامع للأصول : 382/1 .

أقول : ثم إنّ التفسير لهذه الآية لم يختص بالشيعة(1) الإمامية ولا الذين تفردوا بنقل رواياتها، بل كما رأيت رواه السيوطي عن ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم والعدني، والبزار والطبراني، عن مجاهد وابن عباس(2) فلا وجه لما نسبه الرازي(3) في تفسيره إلى خصوص الشيعة(4).

ص: 123


1- قال الزمخشري : ... فالآية دليل على ثبوت الإيمان والتوحيد بالنسبة إلى آباء النبي (صلی الله علیه و اله و سلم) وأجداده الكرام وأنّهم ينقلون من الأصلاب الساجدة الطاهرة إلى الأرحام الساجدة المطهرة. أنظر كتاب : أبو طالب وبنوه : 219 للسيّد علي خان، منية الراغب : 56 للمرحوم آية الله الطبسي .
2- أنظر الميزان : 367/15 .
3- التفسير الكبير : 173/24 .
4- أضف إلى قوة دليلهم : وذلك لأن الآية فيها وجوه : 1 - المراد ما كان يفعله في جوف الليل من قيامه بالتهجد وتقلبه في تصفح أحوال المجتهدين ليطلع على أسرارهم. 2 - المعنى : يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة وتقلبه في الساجدين : أي تصرفه فيما بینهم بقيامه وركوعه وسجوده وقعوده إذ كان إماماً لهم. 3 - المعنى أنه لا يخفى عليه حالك كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في كفاية أُمور الدين. 4 - المراد : تقلب بصره فيمن يصلي خلفه، من قوله (صلی الله علیه و آله و سبم) : أتموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من خلفي . أقول : كما أن الآية الشريفة تحتمل هذه الوجوه الأربعة ولا دليل على وجه دون آخر . كذلك يحتمل فيه وجه خامس : تعاضده روايات من السنة ومن طرق الخاصة أيضاً: وهو :أن يكون المراد أن الله تعالى نقل روحه من ساجد إلى ساجد. فيحمل الآية على كل هذه الوجوه من دون رجحان وذلك لأن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) يقول : لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهّرات. مع أن الكافر نجس ( إنما المشركون نجس) فكيف تجتمع النجاسة والشرك، مع طهارة الصلب والرجيم؟ فلا بد وأن يكون والدا النبي مسلمين. فإن قلت : قوله تعالى : (وإذ قال إبراهيم الأبيه آزر ) دليل على كفر آباء النبي . قلنا : يطلق الأب على العم كما في الآية الشريفة: (نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق) فسمى أبناء يعقوب، إسماعيل أباً ليعقوب، مع أنّه عمّ له. إن قلت: إن حمل الآية على جميع الوجوه غير جائز . قلنا :أولاً: أنها على المبنى من جواز استعمال اللفظ فى أكثر من معنى واحد . ثانياً : حتى ولو اخترنا هذا المبنى الأصولي، لكن لا ينفي الاحتمال الخامس، ولا يثبت سائر الاحتمالات.

الشيء يذكر بالشيء:

ومع الأسف وقع نظير هذا البحث والخلط في حامي رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم) وناصره سيّدنا أبي طالب(صلى الله عليه و آله و سلم) . فكل من يقف على مواقفه البطولية وأشعاره وخطاباته، يذعن بأنّه مؤمن وموحّد ومعتقد بالنبيّ(صلى الله عليه و آله و سلم) وبرسالته، ولكن العصبية الأموية والنزعة الخيبرية، والأحقاد تمنع من التصريح بالحق، والتفوّه بما هو الواقع : وأن أبا طالب مات مؤمناً وموحداً.

وفيما يلي كلام غريب لابن كثير : «قلت... وقد قدمنا ما كان يتعاطاه أبو طالب من المحاماة والمحاجة والممانعة عن رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم) والدفع عنه وعن أصحابه وما قاله فيه من الممادح والثناء، وما أظهره له ولأصحابه من المودّة والمحبّة والشفقة في أشعاره التي أسلفناها وما تضمّنته من العيب والتنقيص لمن خالفه وكذّبه بتلك العبارة الفصيحة البليغة الهاشمية المطلبية التي لا تدانى ولا تسامى، ولا يمكن عربياً مقاربتها ولا معارضتها، وهو في ذلك كلّه يعلم أن رسول الله صادق بار راشد، ولكن مع هذا لم يؤمن قلبه . . . »(1).

أنظر إلى هذه العصبية من ابن كثير، فكأنَّه كان في قلب أبي طالب، فعرف ما فيه !! أو كأنه - والعياذ بالله - يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور !

فتراه يعترف لأبي طالب بأنّه صدَّق النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) ولكن لا بقلبه !!

نعم؛ وما نَقَم ابن كثير وأضرابه من أبي طالب(علیه السلام) إلاّ أنّه والد علي(علیه السلام) ، ولو كان والد معاوية، لكان حَظَّهُ أكثر وأكبر من حظّ أبي سفيان ونصيبه من الثناء المكذوب والمناقب المفتريات .

ص: 124


1- البداية والنهاية : 124/11 .

الفصل الخامس زیارة النساء للقبور

اشارة

1 - فاطمة الزهراء(سلام الله علیها) لا تزور قبر حمزة

2 - عائشة تزور قبر أخيها

3 - مناقشة حديث زوارات القبور

4 - فتوى علماء السنّة على الجواز

5 - كلام القسطلاني ذيل رواية أنس

6 - مناقشة طرق الحديث

ص: 125

ص: 126

هل يجوز للنساء زيارة القبور؟

لقد ورد عن فاطمة الزهراء(سلام الله علیها) أنّها كانت تزور قبر حمزة سيّد الشهداء وسائر شهداء أحد كل جمعة، أو بالاسبوع مرّتين وهذا كان على عهد أبيه(صلی الله علیه و آله و سلم) ، ثم بعد أبيها إلى أن توفيت. ولم يرد نهي لها لا من النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) ولا من علي(علیه السلام) ولا من أيِ من الصحابة، وهي أعرف بدين أبيها من غيرها . فزارت القبور مرّات عديدة.

كانت فاطمة تزور قبر عمّها حمزة كل جمعة فتصلّي وتبكي عنده(1).

وفي رواية : كانت تزور قبور الشهداء بأحد بين اليومين والثلاثة، فتصلّي هناك وتدعو وتبكي(2) .

كما ورد عن عائشة أنّها كانت تزور قبر أخيها عبد الرحمن بمكة :

1 - قال ابن أبي مليكة: ورأيت عائشة تزور قبر أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر، ومات بالحُبشي(3) وقُبِرَ بمكة(4) .

2 - وقال أيضاً: إنّ عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها : أليس كان رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) نهى عن زيارة القبور ؟ قالت: كان نهى ثم أمر بزيارتها(5).

ص: 127


1- مصنف عبد الرزاق : 572/3 ،و 574 ، السنن الكبرى : 131/4.
2- السنن الكبرى : 131/4 ، مستدرك الحاكم : 533/1 .
3- جبل بأسفل مكة على ستة أميال، معجم البلدان : 214/2 .
4- مصنف عبد الرزاق : 570/3 .
5- السنن الكبرى : 131/4 .

مناقشة الحديث المروي:

وأما ما نقل عن النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) قال : لعن الله زائرات القبور(1).

أولاً: ففيه مضافاً إلى أنه منسوخ بحديث بريدة كما صرح بذلک الحاكم والذهبي، أنه معارض بما روته عائشة عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) : نهى رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) عن زيارة القبور ثم أمر بزيارتها (2). وصحّحه الذهبي فی حاشية المستدرك وقال : الحديث صحيح .

ثانياً : معارض بفعل عائشة أيضاً حيث كانت تزور قبر أخيها عبد الرحمن، فإنّه مات فُجأة سنة 53 للهجرة بجبل بقرب مكة فأدخلته الحرم و دفنته(3) . فهل كانت عائشة تريد مخالفة سنّة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) ، فتستحق «اللعن» كمان في هذا الحديث!!

ثالثاً : إنّه مخالف لما ثبت عن فعل فاطمة(سلام الله علیها) من زيارتها لقبر

النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) بعد دفنه وزيارة قبر حمزة والشهداء كل جمعة أو كل أسبوع مرّتين فهل ترى فاطمة تريد مخالفة سنّة ثابتة عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) ؟! أو أنها - نعوذ بالله - غير عارفة بالسنّة ؟! وأهل البيت أدرى بما في البيت مع أن زيارتها قبور شهداء أحد كانت على عهد النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) واستمرّت الزيارة سبع سنوات من حياة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) فكيف لم ينهها النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) ؟ وكذلك زارت قبر النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) بعد وفاته؛ فعن علي(علیه السلام) : «لما رمس رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) جاءت فاطمة(سلام الله علیها) فوقفت على قبره(صلی الله علیه و آله و سلم) وأخذت قبضة من تراب القبر ووضعت على عينها وبكت وأنشأت تقول ... (4).

ص: 128


1- رواه أصحاب السنن، غير البخاري ومسلم، أنظر مصنف عبد الرزاق : 569/3 .
2- السنن الكبرى : 131/4 ، الحاكم : 374/1 .
3- وفيات الأعيان : 69/3 .
4- إرشاد الساري : 352/3 .

فكيف لم يعارضها علي(علیه السلام) ولا أحد من الصحابة إن كانت زيارة النساء للقبور محرّمة .

رابعاً : إن فتوى علماء السنة على الجواز وأمّا اللعن يفيد تحريم زیارتهن لقلّة صبرهن، وإلاّ فزيارة النساء للقبور بشرط الصبر جائزة، كما في التاج :

1 - واللعن يفيد تحريم زيارتهن لقلّة صبرهن وكثرة جزعهن وكل حديث يحرّم خروجهن للجنازة أو زيارتهن للقبور فمحمول على ذلك، وإلاّ فزيارة النساء للقبور جائزة بشرط الصبر وعدم الجزع وعدم التبرّج . وأن يكون معها زوج أو محرم منعاً للفتنة، لعموم الحديث الأول(1). ولقول عائشة في الحديث الثاني : كيف أقول؟ قال: قولي : السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم الله(2)...

ولزيارة عائشة لقبر أخيها عبد الرحمن، فلما اعترضها عبد الله،قالت : نهى رسول الله عن زيارة القبور ثم أمر بزيارتها(3).

2 - قال الملا علي قاري: ظاهر هذا الحديث - نهيتكم عن زيارة القبور فزورها - العموم، لأن الخطاب في «نهيتكم» كما أنّه عام للرجال والنساء على وجه التغليب أو أصالة الرجال فكذلك الحكم في - فزوروها_ . مع أن ما قيل من أن الرخصة عامة لهنّ. فهذه الأحاديث بتعليلاتها تدل على أنّ النساء كالرجال في حكم الزيارة. إذا زِرْنَ بالشروط المعتبرة في حقهنّ، ويؤيده الخبر السابق أنّه عليه الصلاة

ص: 129


1- كنت نهيتكم عن زيارة القبور فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أُمّه فزوروها فإنّها تذكر الآخرة، رواه الخمسة إلا البخاري واللفظ للترمذي .
2- مصنف عبد الرزاق : 571/3 .
3- التاج الجامع للأصول : 381/2 .

والسلام، مرَّ بالمرأة فأمرها بالصبر، ولم ينهها عن الزيارة . . . (1) .

3 - وقال ابن عبد البر : احتج من أباح زيارة القبور للنساء بما حدّثناه عبد الله بن محمد، قال : حدّثنا عبد الحميد... عن ابن أبي مليكة أنّ عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أُمّ المؤمنين من أين أقبلتِ؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن، فقلت لها : أليس كان رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) نهى عن زيارة القبور ؟ قالت: نعم، كان نهى عن زيارتها ثم أمر بزيارتها (2).

وعن ابن أبي مليكة : قال : زارت عائشة قبر أخيها في هودج.

قال أبو بكر: وحدّثنا مسرد، قال: حدّثنا نوح بن دراج، عن ابان بن تغلب عن جعفر بن محمد قال: كانت فاطمة بنت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) تزور قبر حمزة بن عبد المطلب كلَّ جمعة وعلَّمته بصخرة (3).

كلام القسطلاني ذيل رواية أنس:

«مرّ النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) بامرأة تبكي عند قبر فقال : إتقي الله واصبري، قالت : إليك عنّي، فإنّك لم تُصب بمصيبتي ولم تعرفه . . . » .

فإن قلت: من أين تؤخذ مطابقة الحديث للترجمة؟ أجيب :

من حيث إنّه(صلی الله علیه و آله و سلم) لم ينه المرأة المذكورة عن زيارة القبور سواء أكان الزائر رجلاً أو امرأة، وسواء أكان المزور مسلماً أو كافراً لعدم الاستفصال في ذلك.

ص: 130


1- مرقاة المفاتيح : 248/4 .
2- وقد صحح الذهبي هذا الحديث انظر مستدرك الحاكم : 376/1.
3- تمهید شرح الموطأ : 234/3 .

قال النووي: وبالجواز قطع الجمهور . . .

وقال : وبالجملة : فتستحب زيارة قبور المسلمين للرجال، لحديث مسلم : كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنّها تذكُر الآخرة .

... وتكرة للنساء لجزعهن. وأما حديث أبي هريرة المروي عند الترمذي، وقال حسن صحيح : لعن الله زوارات القبور، فمحمول على ما إذا كانت زيارتهن للتعديد والبكاء والنوح على ما جرت به عادتهن .

وقال القرطبي : وحمل بعضهم حديث الترمذي في المنع على من تكثر الزيارة لأنزوارات للمبالغة (1).

والحاصل : إن زيارة النساء للقبور جائز عند القسطلاني لكن على كراهية، وأما رواية اللعن، فمحمول على ما كان فيه التعديد والنوح ...

4 - قال ابن عبد البر - بعد نقل هذه الأحاديث - قال أبو بكر :

وسمعت أبا عبد الله_ يعني أحمد بن حنبل - يسأل عن المرأة تزور القبر، فقال : أرجو إن شاء الله أن لا يكون به بأس.

عائشة زارت قبر أخيها . قال : ولكن حديث ابن عباس: «إنّ النبي لعن زوارات القبور».

ثم قال : هذا أبو صالح ماذا؟ كأنه يضعُفه، ثم قال : ارجو إن شاء الله أن عائشة زارت قبر أخيها(2).

5 - الحافظ الألباني : فإنّه أورد حديث «لعن رسول الله زائرات القبور». ثم قال : فلم نجد في الأحاديث ما يشهد له، فهذا القدر من

ص: 131


1- إرشاد الساري : 400/3 .
2- التمهيد في شرح الموطأ : 234/3 .

الحديث (لعن الله المتخذين عليها السرج) ضعيف وإن لهج إخواننا السلفيون بالاستدلال به، ونصيحتي إليهم أن يمسكوا عن نسبته إليه لعدم صحّته (1).

6 - قال ابن عابدين، المتوفى عام 1253 :

هل تستحب زيارة قبره(صلی الله علیه و آله و سلم) للنساء؟ الصحيح : نعم بلا كراهة بشروطها على ما صرّح به بعض العلماء، إمّا على الأصحّ من مذهبنا وهو قول الكرخي وغيره: من أن الرخصة في زيارة القبور ثابتة للرجال والنساء جميعاً فلا إشكال، وإما على غيره فذلك نقول بالاستحباب لإطلاق الأصحاب . بل قيل : واجبة، ذكره في شرح اللباب(2).

7 - قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. وقد رأى بعض أهل العلم أنّ هذا كان قَبْلَ أن يُرخُصَ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) في زيارة القبور فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء.

وقال بعضهم: إنّما كَرِه زيارة القبور للنساء، لقلّة صبرهن وكثرة جزعهن(3).

8 - القسطلاني : ... ولا يكره لهن زيارة قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) بل تندب، وينبغي كما قال ابن الرفعة والقمولي - أن تكون قبور سائر الأنبياء والأولياء كذلك (4).

بحث في السند:

إنّ حديث لعن رسول الله زائرات القبور ورد بطرق ثلاث :

ص: 132


1- سلسلة الأحاديث الضعيفة وأثرها السلبي في الأمة : 260 .
2- رد المحتار على الدر المختار : 263/2 ، انظر الغدير : 121/5.
3- الجامع الصحيح : 372/3 ذيل باب 62 ح 1056.
4- إرشاد الساري: 400/3 .

1- عن حسان بن ثابت.

2 - عن ابن عباس .

3 - عن أبي هريرة .

أ - وقد أورد ابن ماجة الحديث بطرقه الثلاثة (1) .

ب - كما أورد أحمد الحديث بطريقين من الثلاثة :

1 - حسّان بن ثابت(2).

2 - وطريق أبي هريرة (3).

ج - كما أورد الترمذي الحديث عن طريق أبي هريرة فقط (4).

د - وأورد أبو داود الحديث، عن طريق ابن عباس فقط (5).

وأما البخاري ومسلم فلم يخرجا الحديثين بالمرّة، كما أن أصحاب السنن لم يتفقوا على طريق من الطرق، نعم الطريق الثالث : وهو حديث أبي هريرة اتفق عليه ابن ماجة وأحمد والترمذي .

وأما الطريق الأوّل: فاتفق عليه ابن ماجة وأحمد .

وأما الطريق الثاني : ابن عباس : اتفق عليه أبو داود وابن ماجة .

المناقشة في الطرق :

أما الطريق الأوّل، الذي نقله ابن ماجة وأحمد، والذي ينتهي إلى

ص: 133


1- سنن ابن ماجة : 502/1 .
2- مسند أحمد: 442/3 .
3- مسند أحمد : 337/2 و 356 .
4- الجامع الصحيح : 2/ 370 .
5- سنن أبي داود: 318/3 .

حسّان بن ثابت، ففي السند: عبد الله بن عثمان بن خثيم: وأحاديثه ليست بالقوية كما روى ابن الدورقي عن ابن معين ولأبي حاتم فيه رأيان: أحدهما أنّه لا يحتج به. وعن النسائي : أنّه ليّن الحديث(1).

وفي الطريق: عبد الرحمن بن بَهمان، ولم يحدث عنه سوى ابن ختيم، وقال ابن المديني : لا نعرفه (2) .

وأما الطريق الثاني، فيه أبو صالح وهو باذان، وقال أبو حاتم : لا يحتج به، وقال النسائي : ليس بثقة، وقال ابن عدي: ولم أعلم أحداً من المتقدّمين رضيه(3).

أما الطريق الثالث - عن أبي هريرة : ففيه عمر بن أبي سلمة، قال النسائي : ليس بالقوي، وقال ابن خُزيمة: لا يحتج بحديثه .

وقال ابن معين : هو ضعيف .

وقال أبو حاتم : لا يحتج به(4) .

فالحديث بكل طرقه مورد للإشكال السندي، ولعلّه لهذا لم يخّرجهُ الشيخان في صحيحيهما.

أضف إلى الإشكالات والمعارضات التي أوردناها. وكلام الفقهاء في شرح الحديث، وفتواهم في جواز بل استحباب زيارة القبور للنساء والرجال .

ص: 134


1- أنظر ميزان الاعتدال : 459/2.
2- انظر میزان الاعتدال : 551/2.
3- تهذيب الكمال : 06/4 .
4- سير أعلام النبلاء : 133/6.

الفصل السادس الصلاة والدعاء عند القبور

اشارة

1 - رأي الوهابية

2 - مناقشة الفكرة

3_سيرة فاطمة الزهراء(سلام الله علیها)

4 - سيرة المسلمين

5- تصريحات مخالفة لرأي الوهابية

6 - استقبال القبلة أم القبر الشريف

7 - شرح حديث النهي عن اتخاذ القبور مساجد

8 - فتوى الفقهاء حول الصلاة في المقبرة

ص: 135

ص: 136

الصلاة والدعاء عند قبر النبي وسائر القبور

منعت الوهابية الصلاة والدعاء عند القبور وجعلتها شركاً وكفراً.

قال ابن تيمية : إنّ الصحابة كانوا إذا جاؤوا عند قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)يسلّمون عليه، فإذا أرادوا الدعاء لم يدعوا الله مستقبلي القبر الشريف، بل ينحرفون ويستقبلون القبلة ويدعون الله كما في سائر البقاع... و لهذا لم يذكر أحد من أئمّة السلف أن الصلاة عند القبور وفي مشاهدها مستحبة ولا أن الصلاة والدعاء هناك أفضل منهما في غيرهما، بل اتفقوا كلّهم على أن الصلاة في المساجد والبيوت أفضل منها عند قبور الأنبياء والصالحين، سُميّت مشاهد أم لم تُسمّ(1).

والجواب :

أولاً: يدل على جواز الصلاة والدعاء عند قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) وقبور سائر الأنبياء والصالحين، عموم ما دلّ على جواز الصلاة والدعاء في كل مكان، فالعمومات والاطلاقات تدل على الجواز .

ثانياً : ويدل على رجحان الصلاة والدعاء عند القبور، ما فهم من الشرع من رجحان الصلاة والدعاء ومطلق العبادة في كل مكان ثبت شرفه في الشرع، ولا شك في تشرّف المكان بالمكين (شرف المكان بالمكين) والموجب لتشرّف القبر هو حلول جسده الطاهر فيه .

ص: 137


1- رسالة زيارة القبور : 159 .

ثالثاً: ويدل على رجحان الدعاء عند قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) قوله تعالى :﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا الله ﴾(1).

فإنّ كلمة: «جاؤوك» شامل لحالتي الحياة والموت، وإن حرمته(صلی الله علیه و آله و سلم) حيّاً كحرمته ميّتاً، كما صرّح بذلك الإمام مالك للمنصور فيما مضى من البحث .

يقول شمس الدين الجزري:« إن لم يُجب الدعاء عند النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) ففي أي موضع يستجاب!!؟»

رابعاً: سيرة فاطمة الزهراء(سلام الله علیها) : إنّ فاطمة(سلام الله علیها) كانت تزور قبر عمّها حمزة في كل يوم جمعة فتصلّي وتبكي عنده(2).

قال الحاكم: هذا الحديث رواته عن آخرهم ثقات وقد استقصيت في الحث عن زيارة القبور تحرياً للمشاركة في الترغيب وليعلم الشحيح بذنبه إنها سنّة مسنونة .

والملاحظ : إن حمزة استشهد في العام الثالث للهجرة، وتوفي النبي (لی الله علیه و آله و سلم) في العام العاشر . ففاطمة كانت في هذه الفترة يعني مدة سبع سنوات كل يوم جمعة تغادر المدينة متوجهة إلى أحد تزور قبر حمزة، بمرأى ومنظر من رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) ولم يرد منه نهي لها .

ثم أنها عاشت بعد أبيها على قول السنة (3)ستّة أشهر، فكذلك كانت تزور القبر - حمزة - بمرأى ومنظر من كل الصحابة ومن علي بن أبي طالب(علیه السلام) ولم يرد منهم نهي في شأنها .

ص: 138


1- سورة النساء، الآية : 64.
2- مصنف عبد الرزاق : 574/3 ، الحاكم : 377/18 ، السنن الكبرى : 131/4 ، تمهید شرح موطأ مالك لابن عبد البر : 234/3 .
3- سير أعلام النبلاء : 127/2 .

وفي رواية : كانت تزور قبور الشهداء بأحد بين اليومين والثلاثة، فتصلّي هناك وتدعو وتبكي(1) .

تُرى هل خفيت السنّة على فاطمة الزهراء(سلام الله علیها) ، التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها (2)، فجاءت بزيارتها القبور لما يخالف هذه السنّة ! !

ولم يخف الأمر على ابن تيمية ليتجرّأ فيدّعي أنّه : لم يذكر أحدٌ من أئمة السلف أنّ الصلاة عند القبور وفي مشاهدها مستحبّة(3)؟؟

خامساً : : سيرة المسلمين: كما أن سيرة المسلمين من زمن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) إلى يومنا هذا جارية على الدعاء والصلاة عند قبور الصالحين والمؤمنين (4).

1 - عمر بن الخطاب: قال الطبري: لما خرج : خرج عمر حاجّاً في نفر أصحابه، فاستغاث به شیخ، فلما انصرف عمر ونزل ذلك المنزل - بالأبواء - واستخبر عن الشيخ، وعرف موته، قال: كأني أنظر إلى عمر، وقد وثبتَ مباعداً ما بين خطاه حتى وقف على القبر - قبر الشيخ - فصلّى عليه، ثم اعتنقه وبكي (5).

2 - الإمام الشافعي : إني لأتبرّك بأبي حنيفة وأجيىء إلى قبره في

ص: 139


1- وفاء الوفاء : 932/3 ، کشف الارتياب : 481/2 .
2- فتح الباري : 131/7 .
3- زيارة القبور : 159 .
4- یرى ابن الجزري أن استجابة الدعاء عند قبور الأنبياء والصالحين تثبت بالتجربة، أوقره الشوكاني في تحفة الذاكرين ص 46 ولكن قيده بشروط : انظر سير أعلام النبلاء : 107/10 «الهامش».
5- الرياض النضرة : 2/ 330. وقد بني عن أوائل القرن الثاني على قبر حمزة مسجد، وكان إلى هذا المسجد عامراً إلى أن هدمه الوهابيون. وفاء الوفاء : 922/3 (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) البقرة : 114.

كل يوم فإذا عرضت لي حاجة صلّيت ركعتين وجئت إلى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده، فما تبعد حتى تقضى(1).

3 - قبر معروف الكرخي: عن الزهري قبر معروف الكرخي مجرّب لقضاء الحوائج، ويقال إنّه من قرأ عنده مائة مرّة قل هو الله أحد وسأل الله ما يريد قضى الله حاجته(2).

وقال إبراهيم الحربي: قبر معروف الترياق المجرّب، قال الذهبي : يريد إجابة دعاء المضطر عنده، لأن البقاع المباركة يستجاب عندها الدعاء (3).

و عن أحمد بن الفتح قال : سألت بشراً التابعي الجليل عن معروف الكرخي ؟ فقال : هيهات ... فمن كانت له إلى الله حاجة فليأت قبره وليدع، فإنّه يستجاب له إن شاء الله(4) .

وعن ابن سعد: يستسقي بقبره، وقبره طاهر يزار ليلاً ونهاراً (5).

وعن سبط بن الجوزي: أنه سمع مشايخه ببغداد يحكون أنّ عون الدين قال : كان سبب ولايتي المخزن أنني ضاق ما بيدي حتى فقدت القوت أياماً فأشار عليَّ بعض أهلي أن أمضي إلى قبر معروف الكرخي، فأسال الله تعالى عنده، فإن الدعاء عنده مستجاب(6) . قال : فأتيت قبر

ص: 140


1- صلح :الإخوان : 83 (للخالدي) الغدير : 192/5، تاریخ :بغداد 123/1 ، مفتاح السعادة : 193/2 طاش کبری زاده .
2- معجم الطبراني: 122/1 ، الغدير : 193/5 ، تاریخ بغداد: 122/1 .
3- سیر أعلام النبلاء : 343/9 .
4- صفة الصفوة : 324/2 ، الغدير : 193/5.
5- الطبقات الكبرى : 27/1 ، وفيات الأعيان: 232/5.
6- أقول : إن صحّ ذلك فلعله بسبب ميله إلى أهل البيت وخدمته للرضا (علیه السلام)كما حكى عن أبي عبد الرحمن السلمي : إن معروف الكرخي كان يحجب علي بن موسى الرضا (علیه السلام). وعن السيد الخوئي : عن الشهرزوري في مناقب الأبرار: إن معروف الكرخي كان من موالي علي بن موسى الرضا (علیه السلام) ، وكان أبواه نصرانيين فسلّما معروفاً إلى المعلم وهو صبي وكان المعلم يقول له قل: ثالث ثلاثة وهو يقول : بل هو الواحد فضربه المعلم ضرباً مبرحاً، فهرب ومضى إلى الرضا (علیه السلام) وأسلم على يده ثم أنه أتى داره فدق الباب فقال أبوه: من بالباب فقال : معروف، فقال علي أي دين؟ قال : على ديني الحنيفي، فأسلم أبوه ببركات الرضا (علیه السلام) قال معروف : فعشتُ زماناً ثم تركتُ كلّ ما كنتُ فيه إلا خدمة مولاي علي بن موسى الرضا. (معجم رجال الحديث : 231/18) وعن ابن خلكان وغيره نظيره ولكن النمازي تنظر فيه مستدركات علم الرجال : 7/ 454 وكذلك الذهبي : 343/9 .

معروف، فصلّيت عنده ودعوت ثم خرجت لأقصد البلد يعني بغداد فاجتزت بقطفتا (1)- قال : فرأيت مسجداً مهجوراً فدخلت لأصلّي ركعتين، وإذا بمريض ملقى على بارية، فقعدت عند رأسه وقلت: ما تشتهي ؟ فقال : سفرجلة، قال: فخرجت إلى بقال هناك فرهنتُ عنده مئزري على سفرجلتين وتفاحة وأتيتهُ بذلك، فأكل من السفرجلة، ثم قال : أغلق باب المسجد، فأغلقته، فتنحى عن البارية وقال : احفر ههٰنا، فحفرت وإذا بكوز، فقال: خذ هذا فأنت أحق به، فقلت: أما لك وارث؟ فقال: لا، وإنّما كان لي أخ وعهدي به بعيد وبلغني أنّه مات ونحن من الرصافة . . . وبينا هو وبينا هو يحدّثني إذ قضى نحبه فغسلته وكفنتهُ و دفنته . . . ثم صعدت إلى دار الخليفة وكتبت رقعة فخرج عليها إشراف المخزن ثم تدرّجت الوزارة(2).

4 - قبر الشافعي : قال الجزري: والدعاء عند قبره مستجاب(3).

5 - قبر بكار البكراوي الحنفي، ت 270 ه_ .

دفن.. بالقرافة وقبره مشهور يزار ويتبرّك به ويقال : إنّ الدعاء عند قبره مستجاب(4).

ص: 141


1- محلة كبيرة ذات الأسواق بالجانب الغربي من بغداد، معجم البلدان : 374/4.
2- وفيات الأعيان: 239/6 .
3- طبقات القراء : 97/2.
4- الجواهر المضيئة : 461/1.

6 - الحافظ العامري، ت 403 ه_ : عكف الناس على قبره ليالي يقرؤون القرآن ويدعون له(1) .

7 - أبو بكر الأصبهاني، ت 406ه_ : دفن بالحيرة من نيسابور ومشهده بها ظاهر يزار ويستسقى به وتجاب الدعوة عنده(2).

8 - قبر السيدة نفيسة : هي ابنة أبي محمد الحسن بن زيد، وعن ابن خلكان: دفنت بدرب السباع وقبرها معروف بإجابة الدعاء وهو مجرّب رضي الله عنها(3) .

9 - قبر نصر بن إبراهيم المقدسي: ت 490ه_ شيخ الشافعية قال النووي : سمعنا الشيوخ يقولون : الدعاء عند قبره يوم السبت مستجاب(4)

10 - قبر أبي الحسن المصري فقيه الشافعية ت 492: قال ابن الأنماطي : قبره بالقرافة يُعرف بإجابة الدعاء عنده(5).

ص: 142


1- الغدیر: 202/5، البدایة و النهایة: 404/11.
2- وفيات الأعيان : 272/4 .
3- وفيات الأعيان : 424/5 أقول : هي ابنة أبي محمد الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، دخلت مصر مع زوجها إسحاق بن جعفر الصادق (ع)، وقيل: بل دخلت مع أبيها الحسن، وإن قبره بمصر لكنه غير مشهور ... وكانت نفيسة من النساء الصالحات التقيات، ويروى أن الإمام الشافعي لما دخل مصر حضر إليها وسمع عليها الحديث وكان للمصريين فيها اعتقاد عظيم وهو إلى الآن باق كما كان، ولما توفي الشافعي، ادخلت جنازته إليها وصلت عليه في دارها، وكانت مقيمة في موضع مشهدها اليوم ولم تزل به إلى أن توفيت في شهر رمضان سنة ثمان ومائتين . ولما ماتت عزم زوجها المؤتمن إسحاق بن جعفر الصادق على حملها إلى المدينة ليدفنها هناك، فسأله المصريون بقاءها عندهم فدفنت في الموضع المعروف فيها الآن بين القاهرة ومصر المشاهد ... وقبرها معروف بإجابة الدعاء ... وفيات الأعيان 424/5. وقال الذهبي : قيل کانت من الصالحات العوابد والدعاء مستجاب عند قبرها، بل وعند قبور الأنبياء والصالحين ... سیر أعلام النباء: 107/1 .
4- شذرات الذهب : 397/5 حوادث سنة 488_ .
5- شذرات الذهب : 402/5 حوادث سنة 490ه_ .

11 - قبر القاسم بن فيره الشاطبي ت 590ه_ : دفن بالقرافة وقبره مشهور معروف . قال صاحب طبقات القراء : وقد زرته مرّات وعرض عليّ بعض أصحابي الشاطبية عند قبره ورأيتُ بركة الدعاء عند قبره، بالإجابة(1).

12 - قبر ابن الجوزي ت 597 : قال الذهبي: وباتوا عند قبره طول شهر رمضان، يختمون الختمات بالشمع والقناديل (2).

تصريحات مخالفة لرأي الوهابية:

1 - السيوطي في قصة المعراج: روي عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) : ركبت ومعي جبرئيل، فسرت، فقال: انزل، فصلَّ، ففعلت فقال: أتدري أين صلّيت؟ صلّيت بطيبة وإليها المهاجرة ثم قال : إنزل فصلَّ، ففعلتُ، فقال : أتدري أين صلّيت؟ صلّيت بطور سيناء حيث كلّم الله موسى.

ثم قال: انزل فصلَّ، ففعلت، فقال : أتدري أين صلّيت؟ صلّيت ببيت لحم حيثُ وُلِدَ عيسى(3).

فلو كان محل ولادة عيسى هذا شأنه، وإن النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم) ينزل فيصلي فيه، فمحل ولادة خاتم الأنبياء محمّد(صلی الله علیه و آله و سلم) ومحل دفنه أعلى شأناً وأولى بأن يُصلّى فيه .

2 - قال ابن القيم الجوزية - تلميذ ابن تيمية - : إن عاقبة صبر هاجر وابنها على البُعد والوحدة والغربة والتسليم إلى ذبح الولد، آلت إلى ما آلت إليه من جَعْلِ آثارهما وموطىء أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين ومتعبدات لهم إلى يوم القيامة(4).

ص: 143


1- طبقات القراء : 32/2 .
2- سير أعلام النبلاء 2 : 380 .
3- الخصائص الكبرى للسيوطي، كشف الارتياب : 27.
4- کشف الارتياب : 428 ، عن زاد المعاد .

أنظر إلى كلام إبن القيم؛ فإنّه يرى موطىء قدم هاجر وإسماعيل محل العبادة والصلاة والمناسك إلى يوم القيامة. فلمَ لا يجوز أن يكون محل ولادة النبي ودفنه وموطىء قدمه متعبّداً للمؤمنين إلى يوم القيامة؟

3 - ابن الجزري: «إن من مواضع إجابة الدعاء قبور الصالحين» (1).

استقبال القبلة أم القبر الشريف حين الدعاء:

نسب ابن تيمية إلى الصحابة أنهم لم يدعوا الله مستقبلي القبر الشريف بل ينحرفون ويستقبلون القبلة... (2).

والجواب :

:أولاً: إنّ ابن تيمية لم يذكر اسم صحابي واحد كان قد انحرف عن القبر إلى القبلة في الدعاء ولو مرّة واحدة، بل برغم أنه قد نسب ذلك إلى كل الصحابة! مع أنه قد ورد عن ابن عمر - وهو من الصحابة - خلاف ذلك وإن من السنة أن يستقبل القبر المكرّم ويجعل ظهره للقبلة(3) .

ثانياً : لا مانع من استقبال القبر عند الدعاء، وذلك للآية الكريمة ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ (4) .

ثالثاً : فتوى الفقهاء على خلاف ذلك :

أ - فتوى مالك: حينما سأله المنصور : استقبل القبلة وأدعو أم

ص: 144


1- أورده المعلق في هامش المواهب اللدنية 406/3 عن كتاب الحصن الحصين.
2- رسالة زيارة القبور : 159 .
3- كشف الارتياب 247 و 340 والغدير : 134/5 .
4- سورة البقرة الآية : 115 .

استقبل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) ؟ فقال : ولِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله تعالى يوم القيامة بل استقبله واستشفع به فيشفعك الله تعالى... (1).

وفي هذا السؤال دلالة واضحة على أن الدعاء عند القبر الشريف كان مشهوراً ومرتكزاً - لا يشك في جوازه ورجحانه وإنما الذي توقف فيه المنصور ، هو أن استقبال القبلة حال الدعاء أفضل أم استقبال القبر الشريف (2).

ب - الخفاجي : «استقبال وجهه (صلی الله علیه و آله و سلم) واستدبار القبلة مذهب الشافعي والجمهور. ونقل عن أبي حنيفة» (3).

ج - ابن الهمام محقق الحنفية : ما نقل عن أبي حنيفة أنه يستقبل القبلة مردود بما روي عن ابن عمر: من السنة أن تأتي قبر رسول الله من قبل القبلة وتجعل ظهرك إلى القبلة وتستقبل القبر ... وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة ... وقول الكرماني : إن مذهبه بخلافه ليس بشيء لأنه حي في ضريحه يعلم بزائره ومن يأتيه في حياته إنّما يتوجه إليه(4) .

د - إبراهيم الحربي في مناسكه: تولي ظهرك القبلة وتستقبل وسطهُ -يعني القبر-(5) .

ه_ - وعن أبي موسى الأصبهاني : أنه روي عن مالك أنه قال : إذا أراد الرجل أن يأتي قبر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) فيستدبر القبلة ويستقبل النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) ويصلي عليه ويدعو.

ص: 145


1- وفاء الوفاء : 1376/45 ، المواهب اللدنية : 409/3.
2- الغدير : 135/5 ، انظر کشف الارتياب 247 - 340 ، الشفا بتعريف حقوق المصطفى : 92/2 .
3- شرح الشفا : 517/3 .
4- شرح الشفا 517/3 .
5- كشف الارتياب : 326 ، وفاء الوفاء : 1378/4.

و - وقال السمهودي، وعن أصحاب الشافعي وغيره : يقف وظهره إلى القبلة ووجهه إلى الحَظيرة، وهو قول ابن حنبل(1).

ز - السختياني: عن أبي حنيفة قال : جاء أيوب السختياني فدنا من قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) فاستدبر القبلة وأقبل بوجهه إلى القبر وبكى بكاء غير متباك(2).

ح - ابن جماعة ثم يدور إلى أن يقف قبالة الوجهالمقدّس مستدبراً القبلة فيسلّم. وشذ الكرماني فقال : يقف للسلام مستدبر القبر(3).

ط - ابن المنكدر: قال إبراهيم بن سعد رأيت ابن المنكدر يصلي في مقدم المسجد فإذا انصرف مشى قليلاً ثم استقبل القبلة ومدّ يديه ودعا ثم ينحرف عن القبلة ويشهّر يديه ويدعو، يفعل ذلك حين يخرج فعل المودع(4).

ثالثاً : ما المانع من الصلاة بقرب القبر تبرّكاً بالمكان المدفون فيه النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) كما يصلون عند المقام الذي هو حَجَر ولكن تشرف بملامسة رِجْلِ إبراهيم، لقوله تعالى: ﴿وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى﴾ (5).

وأما كلام ابن تيمية : إنّ الصلاة في البيت أفضل منها عند قبور الأنبياء والصالحين (6).

هذه دعوى مجرّدة عن الدليل، وهل صرّح بذلك أحد من أئمّة السلف، فضلاً عن نسبة ذلك إلى جميعهم.!!

ص: 146


1- وفاء الوفاء : 1378/4.
2- المصدر نفسه .
3- كشف الارتياب 326 ، وفاء الوفاء : 1378/4.
4- سير أعلام النبلاء : 358/5 .
5- سورة البقرة الآية : 125 .
6- وفاء الوفاء : 1378/4.

معنى حديث النهي عن إتخاذ القبور مساجد:

أما حديث لعن الله اليهود واتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وحديث : اللهم لا تجعل قبري وثنا(1) يعبد، اشتدّ غضب الله على قوم، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.

ففيه :أولاً: نقاش سندي، إذ على رواية النسائي : - في طريقه عبد الوارث وقد رموه بأنّه كان يرى القدر - أي الاعتزال - وكانوا لا يصلّون خلفه، وكان حماد ينهى عن عبد الوارث(2) .

وفيه أيضاً أبو صالح، وهو مردد بين مجاهيل وضعاف وثقات والمحتمل أنه: باذام مولى أم هاني، وهو متروك الحديث، أو ضعيف أو كذّاب (3).

وأما رواية ابن ماجة : ففيه عبد الله(4) بن عثمان، وقالوا فيه : إنّه ليس بالقوي، أو يخطىء، أو منكر الحديث.

وأما رواية الموطأ: فهي مرسلة كما صرح بذلك ابن عبد البر لأن عطاء عبن يسار لم يدرك النبي(5).

ثانياً : لا يدل الحديث على ما زعمه ابن تيمية والوهابيون من عدم جواز الصلاة عند القبور وفي مشاهدها وبناء المساجد عليها. وذلك لأن الظاهر منه : إنّه إشارة إلى رواية كنيسة الحبشة؛ إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً ثم صوروا فيه تلك الصور ..

ص: 147


1- أحمد 246/2 ، الموطأ : 172/1 ح 85 . البخاري : 48 (الصلاة) مسلم 19، المساجد. أحمد: 218/1 .
2- میزان الاعتدال : 677/2 .
3- میزان الاعتدال : 538/4 .
4- میزان الاعتدال : 459/2 ، الكامل في الضعفاء : 161/4 .
5- الموطأ : 172/1 ، أعلام النبلاء : 448/4 .

وسبب الذم هو اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد بتلك الحالة وهی تصويرهم الصورة وعبادتها والصلاة والسجود إليها أو إليها وإلى القبر. كما يصلي إلى الوثن ويسجد له على ما هو الظاهر من تلك الرواية.

فالنهي عن اتخاذها مساجد هو فيما لو كان من هذا السنخ، وأما لو بني المسجد على القبر، ولكنّه صلّى إلى القبلة ومتوجهاً إلى الله تعالى، فلا إشكال فيه، كما يصلي اليوم في المسجد النبوي الشريف، أو الجامع الأموي بدمشق وفيه قبر النبي زكريا(علیه السلام) .

1 - قال القرطبي : إنّما صور أوائلهم الصور ليتأنسوا بها ويتذكّروا أفعالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم ويعبدون الله عند قبورهم ثم خلّفهم قوم جهلوا مرادهم ووسوس لهم الشيطان: أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها، فحذّر النبي عن مثل ذلك(1).

2 - قال النووي: إن كان البناء في ملك الباني فمكروه، وإن كان في مقبرة مسبلة، فحرام، نصَّ عليه الشافعي والأصحاب تجصیص القبر مكروه(2) .

3 - قال القسطلاني قوله : «بنوا على قبره مسجداً» مؤوّل على مذمة من اتخذ القبر مسجداً ومقتضاه التحريم لا سيما وقد ثبت اللعن عليه، لكن صرّح الشافع وأصحابه بالكراهة(3).

4 - وقال البندينجي المراد: أن يسوي القبر مسجداً فيصلّي فيه،

ص: 148


1- إرشاد الساري : 497/3 و 99/2 ، انظر صحيح مسلم : 197/1 (الهامش).
2- شرح صحيح مسلم : 62/3 . قال ابن رفعة وتستثنى مقبرة الأنبياء فلا كراهة فيها لأن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجسادهم، وأنهم أحياء في قبورهم يصلون ... وقال: يحرم أن يصلّى متوجهاً إلى قبره عليه الصلاة والسلام ويكره إلى غيره مستقبل الآدمي لأنه يشغل القلب غالباً ويقاس بما ذكر في قبره سائر قبور الأنبياء ... إرشاد الساري : 97/2 .
3- انظر ارشاد الساري : 477/9 و 462/7.

وقال : إنّه يكره أن يبنى عنده مسجد فيصلّى فيه إلى القبر . وأما المقبرة الدائرة إذا بني فيها مسجد ليصلّى فيه فلم أر فيه بأساً لأن المقابر وقف وكذا المسجد فمعناهما واحد.

5 - قال البيضاوي : لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لشأنهم ويجعلونها قبلة يتوجّهون في الصلاة نحوها واتخذوها أوثاناً، لعنهم النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) ومنع المسلمين من مثل ذلك، فأما من اتخذ مسجداً في جوار صالح وقصد التبرّك بالقرب منه، لا للتعظيم ولا للتّوجه إليه فلا يدخل في الوعيد المذكور (1).

6 - وقال السندي : اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. أي قبلة للصلاة يصلّون إليها أو بنوا مساجد عليها يصلّون فيها، ولعلّ وجه الكراهة أنّه قد يفضي إلى عبادة نفس القبر، سيما في الأنبياء والأحبار... (2).

7 - النووي : قال العلماء إنّما نهى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجداً خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتتان به فربما أدّى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية. ولمّا احتاجت الصحابة والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله(صلی الله علیه و آله و سبم) حين كثر المسلمون وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه ومنها حجرة عائشة مدفن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وصاحبيه بنوا على القبر حيطاناً مرتفعة مستديرة حوله لئلا يظهر في المسجد فيصلّي إليه العوام ويؤدي إلى المحذور ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر ولهذا قال في الحديث ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً... (3).

ص: 149


1- إرشاد الساري : 479/3 .
2- سنن النسائي : 96/4 .
3- شرح النووي : 14/5.

فتوى الفقهاء، حول الصلاة في المقبرة:

1 - رأي مالك : قلت لابن القاسم هل كان مالك یوسع أن یصلّي الرجل وبين يديه قبر يكون سترة له ؟ قال : كان مالك لا یري بأساً بالصلاة في المقابر وهو إذا صلّى في المقبرة كانت القبور بين يديه وخلفه وعن يمينه وشماله. وقال مالك لا بأس بالصلاة في المقابر. قال :وبلغني أن بعض أصحاب النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) كانوا يصلّون في المقبرة(1).

2 - عبد الغني النابلسي: وأمّا من اتخذ مسجداً في جوار صالح أو صلّى في قبره، وقصد به الاستظهار بوجه أو وصول أثر من آثار عبادته إليه لا للتعظيم له والتوجّه إليه فلا حرج إذ مرقد إسماعيل عند الحطيم من المسجد الحرام، ثم أن ذلك الموضع أفضل مكان يصلّى فيه(2).

3 - وقال :أيضاً وإما إذا كان موضع القبور مسجداً أو على طريق، أو كان هناك أحدُ جالس. أو أن قبر وليّ من أولياء الله أو عالم من المحقّقين، تعظيماً لروحه المشرقة على تراب جسده كاشراق الشمس على الأرض، اعلاماً للناس أنّه ولي، ليتبرّكوا به ويدعوا الله عنده، فيستجاب لهم، فهو أمر جائز لا مانع منه، والأعمال بالنيّات(3).

4 - الأبي المالكي - كما عن الكوثري - من اتخذ مسجداً قرب رجل صالح أو صلى في مقبرته قصداً للتبرّك بآثاره وإجابة دعاه هناك فلا حرج في ذلك، واحتج لذلك بأن قبر إسماعيل(علیه السلام) في المسجد الحرام عند الحطيم ثم أن ذلك الموضع أفضل مكان للصلاة فيه(4).

ص: 150


1- المدوّنة الكبرى: 90/1 .
2- الحديقة الندية : 631/2 .
3- الحديقة الندية : 630/2.
4- المقالات للكوثري : 246 ، شرح صحيح مسلم : 234/2 .

5 - البغوي منهم من ذهب إلى أن الصلاة فيها جائزة إذا صلّى في موضع نظيف منه .

وروي أن عمر رأى أنس بن مالك يصلّي مالك يصلّي عند قبر، فقال : القبر القبر. ولم يأمره بالإعادة، وحكى عن الحسن أنّه صلى في المقابر. وعن مالك : لا بأس بالصلاة في المقابر.

وتأويل الحديث، هو أن الغالب من أمر الحمّام قذارة المكان ومن أمر المقابر اختلاط تربتها بصديد الموتى ولحومها. فالنهي لنجاسة المكان، فإن كان المكان طاهراً فلا بأس(1) .

هل يبقى مجال للوهابيين بعد هذه الفتاوى والآراء الصريحة أن يتّهموا من يصلّي في المشاهد والمقابر، بالشرك والكفر، وإنه يريد عبادة صاحب القبر؟! وقد صلّى أنس بن مالك والحسن البصري بين المقابر !!

ص: 151


1- شرح السنة للبغوي : 398/2.

ص: 152

الفصل السابع بناء القبور وعقد القباب

اشارة

1 - رأي الوهابية

2 - مناقشة الفكرة

3 - مناقشة طرق الحديث

4- سيرة الصحابة وعموم المسلمين

5 - نماذج من القبور المبنية والقباب

6- مناقشة طرق حديث ابن الزبير

7 - مناقشة دلالة الحديث

ص: 153

ص: 154

بناء القبور البناء عليها وتجصيصها وعقد القباب فوقها

هذا ما حرّمه الوهابيون واعتبروا ذلك شركاً وكفراً، وأوجبوا هدم القبور والقباب التي عليها، والبناء الذي حولها، وفيما يلي أقوالهم:

1 - قال الصنعانيّ : إن المشهد بمنزلة الوثن والصنم، إنَّ ما كانت تفعله الجاهلية لما يسمونه وثناً وصنماً هو الذي يفعله القبوريون لما يسمونه ولياً وقبراً ومشهداً، وذلك لا يخرجه عن اسم الوثن والصنم(1) .

2 - وعن ابن القيم (تلميذ ابن تيمية): يجب هدم المشاهد التي بُنيت على القبور التي اتخذت أوثاناً وطواغيت تعبد من دون الله ولا يجوز إبقاؤها بعد القدرة على هدمها وابطالها يوماً واحداً فإنّها بمنزلة اللات والعزى، أو أعظم شركاً عندها، وبها (2)...

3 3 - وصرّح الوهابيون في كتابهم إلى شيخ الركب المغربي : إن ما حدث من تعظيم قبور الأنبياء وغيرهم ببناء القباب عليها وغير ذلك من حوادث الأمور التي أخبر عنها النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) بقوله: لا تقوم الساعة حتى يلحق حيّ من أمتي بالمشركين وحتى يعبد فئام من أُمتي الأوثان(3).

4 - وقال قاضي قضاتهم عبد الله بن سليمان بن بليهد في جريدة أمّ القرى 1345 ه_ . ق : لم نسمع في خير القرون، إن هذه البدعة حدثت فيها، بل بعد القرون الخمسة(4).

ص: 155


1- كشف الارتياب : 286 عن تطهير الاعتقاد .
2- زاد المعاد : 661 .
3- انظر كشف الارتياب : 287 .
4- انظر كشف الارتياب : 287 .

5 - وفي الجواب المنسوب لعلماء المدينة : أما البناء على القبور فهو ممنوع إجماعاً لصحّة الأحاديث الواردة في منعه، ولهذا افتى كثير من العلماء بوجوب هدمه، مستندين على ذلك بحديث علي أنه قال لأبي الهياج : ألا أبعثكَ على ما بعثني عليه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) أن لا تدع تمصثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً ألا سويته .

مناقشة الفكرة:

والجواب :

أما الاجماع فممنوع بل هذا العمل جائز إجماعاً لاستمرار عمل المسلمين عليه من جميع المذاهب الإسلامية في كل عصر وزمان : عالمهم وجاهلهم، مفضولهم وفاضلهم أميرهم ومأمورهم رجالهم ونساؤهم، قبل الوهابية. والسيرة إجماع عملي لأنها كاشف قطعي عن أنه مأخوذ من صاحب الشرع .

ويؤيده اعتراف الصنعاني نفسه بهذه السيرة - في رسالته تطهير الاعتقاد - حيث أورد على نفسه سؤالاً: بأن هذا الأمر عمَّ البلاد وطبَّق الأرض شرقاً وغرباً بحيث لا بلدة من بلاد العالم الإسلامي إلاّ وفيها قبور ومشاهد، بل مساجد المسلمين غالبها لا تخلو عن قبر أو مشهد و لا یسمع عقل عاقل أن هذا منكر يبلغ إلى ما ذكرت من الشناعة ويسكت عليه علماء الإسلام الذين ثبتت لهم الوطأة في جميع الدنيا .

فأجاب : إن أردت الإنصاف وتركت متابعة الأسلاف وعرفت أن الحق ما قام عليه الدليل لا ما اتفقت عليه العوالم جيلاً بعد جيل .

فاعلم أن هذه الأمور صادرة عن العامة الذين إسلامهم تقليد الآباء بلا دليل ولا يسمعون من أحد عليهم من نكير بل ترى من يتسم بالعلم ويدّعي الفضل وينتصب للقضاء والفتيا والتدريس، أو الولاية أو المعرفة

ص: 156

أو الامارة والحكومة، معظماً لما يعظمونه مكرماً لما يكرمونه، ولا يخفى أن سكوت العالم أو العالم على وقوع المنكر ليس دليلاً على جوازه . . .

وقفة مع الصنعاني :

أولاً :

في هذا النص اعتراف من الصنعاني بوقوع السيرة على أكمل وجوهها واعترف بوقوع ذلك من جميع طبقات الناس من العوالم والعلماء والفضلاء والقضاة والمفتين والمدرسين، والأولياء والعارفين الأمراء والحكّام بدون إنكار، ولم تخرج عنه باعترافه طبقة من الطبقات، فأي سيرة أقوى من هذه وأشمل .

ثانياً : قوله : إن الحق ما قام عليه الدليل، فنقول : إن اتفاق الأمة جيلاً بعد جيل دليل قطعي، لا دليل أقوى منه .

أما الاستدلال بصحّة الحديث :

ففيه :

أولاً: صحّة الحديث في نظرهم ووضوح دلالته عندهم وخلوّه عن المعارض لا يوجب، صحته ووضوحه في نظر غيرهم، فكيف يدعي الاجماع اعتماداً على دعوى صحة الحديث.

ثانياً : التناقض والتهافت في كلامه: إذ تارة يقول : أفتى كثير من العلماء بوجوب هدمه وتارة يقول : الحديث الدال على التحريم مجمع على صحته. فلو كان مجمعاً على صحته، فلماذا لم يفت جميعهم بوجوب الهدم بل أفتى الكثير - على حسب دعواهم - .

ثالثاً: النقاش في سند الحديث ودلالته :

حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب،

ص: 157

قال يحيى أخبرنا، وقال الآخران : حدّثنا وكيع، عن سفيان، عن حبيب ابن أبي ثابت، عن أبي وائل، عن أبي الهيّاج الأسدي، قال: قال لي علي(علی السلام) : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لا تدع تمثالاً إلاّ طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سوّيته(1).

أما النقاش السندي؛ ففيه من ضعَّفه علماء الرجال وأرباب هذا الفن.

أما وكيع: وهو ابن الجراح الرواسي.

1 - قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : سمعت أبي يقول :ابن مهدي أكثر تصحيفاً من وكيع: ووكيع أكثر خطأ من ابن مهدی.

2 - وقال عبد الله بن أحمد في موضع آخر :سمعت أبي يقول :أخطأ وكيع في خمسمئة حديث(2).

3 - وقال ابن المديني: كان وكيع يلحن، ولو حدثت بألفاظه لكانت عجباً، كان يقول : حدّثنا الشعبي، عن عائشة(3).

4 - وقال محمد بن نصر المروزي: كان يحدُث بآخره من حفظه فيغيّر(4) ألفاظ الحديث كأنه يحدُث بالمعنى ولم يكن من أهل اللسان(5) .

وأما سفيان :

ص: 158


1- صحيح مسلم : 61/3 ، الترمذي : 256/2 .
2- تهذيب الكمال : 471/30 .
3- میزان الاعتدال : 336/4 .
4- عن نعيم بن حماد: تعشينا عند وكيع، فقال : أي شيء أجيئكم ،به نبيذ الشيوخ أو الفتيان؟ قلت : تتكلم بهذا ؟ قال: هو عندي أحل من ماء الفرا.ت تاریخ بغداد : 72/13 . وعن أحمد: كان يسب السلف ويشرب المسكر، والفتوى بالباطل .
5- تهذيب التهذيب : 125/11 .

1- قال الذهبي كان يدلس عن الضعفاء (1).

2 - وعن ابن المبارك، قال : حدث سفيان بحديث، فجئتُه وهو يدلسه، فلما رآني استحيى، وقال: نرويه عنك (2).

3 - وعن أبي بكر ، قال : سمعتُ يحيى يقول: جَهد الثوري أن يدلسَ عليَّ رجلاً ضعيفاً فما أمكنه(3).

4 - وعن يحيى بن معين : لم يكن أحد أعلم بحديث أبي إسحاق من الثوري وكان يدلس(4).

وأما حبيب بن أبي ثابت :

1 - قال ابن حبان : كان مدلساً(5).

2 - وقال العقيلي : وله عن عطاء أحاديث لا يتابع عليها(6) .

3 - وقال العقيلي أيضاً : غَمَزهُ ابن عون(7) .

4 - وقال القطان: له غير حديث عن عطا، لا يتابع عليه وليست بمحفوظة

5 - وقال ابن خزيمة : كان مدلساً (8).

وأما أبو وائل: فهو من مبغضي علي(علیه السلام) فكيف يعتمد عليه،

ص: 159


1- میزان الاعتدال : 169/2 .
2- تهذيب التهذيب : 218/11 .
3- تهذيب التهذيب : 179/3 .
4- الجرح والتعديل : 225/4 .
5- تهذيب التهذيب : 179/2 ، تقريب التهذيب : 316/1.
6- المصدر نفسه .
7- میزان الاعتدال : 451/1 .
8- تهذيب التهذيب : 179/2 ، شرح نهج البلاغة : 99/4 ، كان عثمانياً يقع في علي (علیه السلام).

وقد قال النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) يا علي لا يحبك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق(1) .

المناقشة في المتن والدلالة:

أولاً : إنّه شاذ، انفرد به أبو الهيّاج، وقال السيوطي في شرح النسائي : ليس لأبي الهيّاج في الكتب إلاّ هذا الحديث الواحد.

ثانياً : لا دلالة على المدّعى بل هو وارد في الأمر بالتسطيح والنهي عن التسنيم ، فإن الشرف وإن كان معناه : العالي إلاّ أن التسنيم نوع من العلو .

(الشرف) يعني العلو، ومن البعير سنامه- کما فی القاموس(2)- إذن : الشرف يشمل باطلاقه، أو بوصفه، العالي سواء أكان علوه بالتسنيم وبغيره .

ولكن قوله : «إلاّ سوّيته قرينة على إرادة التسنيم من الشرف والتسطيح من التسوية.

وبعبارة أخرى في الرواية احتمالات ثلاث :

1 - أن يكون المراد هدم البناء المشيّد على القبر .

2 - أن يكون المراد تسوية القبر مع الأرض.

3 - أن يكون المراد تسطيح القبر وتعديل ما فيه من اعوجاج والحيلولة دون تسنيمه كظهر السمك وسنام البعير .

أما الاحتمال الأوّل فمردود لوجود السيرة وعمل الصحابة وغيرهم على خلافه، وسيجيء البحث عنه .

ص: 160


1- مجمع الزوائد : 133/9 .
2- القاموس : 162/3 .

وأما الاحتمال الثاني فمردود أيضاً، وذلك لقيام السنة القطعية على ارتفاع القبر عن الأرض شبراً واحداً.

فيبقى الاحتمال الثالث: وهو تسطيح القبر وتعديل ما فيه من اعوجاج والحيلولة دون تسنيمه، كظهر السمك وسنام البعير . وهذا ما يراه جمع من علماء السنّة كالنووي والقسطلاني.

أ - قال النووي : إن السنّة أن القبر لا يرفع عن الأرض رفعاً كثيراً، ولا يُسّنم بل يرفع نحو شبر ويسطح (1).

ب - وقال القسطلاني: بعد أن قال : السنّة في القبر تسطيحه وأنه لا يجوز ترك هذه السنّة لمجرّد أنها صارت شعاراً للروافض، وأنه لا منافاة بين التسطيح وحديث أبي هيّاج يقول : لأنّه لم يُرد تسويته بالأرض وإنّما أراد تسطيحه جمعاً بين الأخبار(2).

ثالثاً: سيرة الصحابة وعموم المسلمين:

1 - إن قبور الأنبياء التي حول بيت المقدس كقبر داود(علیه السلام)فی القدس وقبور إبراهيم وبنيه : إسحاق ويعقوب ويوسف الذي نقله موسی من مصر إلى بيت المقدس في بلد الخليل كلها مبنية مشيّدة، قد بني عليها بالحجارة العادية العظيمة قبل الإسلام وبقيت بعد فتح الإسلام (3).

وقد صرّح بذلك ابن تيمية، فقال : إن البناء الذي على قبر إبراهيم الخليل (علیه السلام)كان موجوداً في زمن الفتوح وزمن الصحابة إلا أنّه كان باب ذلك البناء مسدوداً إلى سنة الأربعمائة .

ص: 161


1- المجموع : 312/4 .
2- إرشاد الساري : 468/2 .
3- هذا ما أشار إليه السيد الأمين في كشف الارتياب 484 ، و به رواية - إن صحت - فهي تدل على ذلك. أنظر درر الأخبار : 185/2 للشيخ الوالد، معالم الزلفى : 108. لكن هناك أحاديث مفادها : إن الله حرَّم على الأرض أجساد الأنيباء، راجع مسند أحمد: 8/4 .

ولا شك أن عمر لمّا فتح بيت المقدس رأى ذلك البناء، ومع ذلك لم يأمر بهدمه.

دعوى ابن بليهد:

لقد ادعى ابن بليهد : أنّ البناء على القبور حدث بعد القرون الخمسة .

هذا ولكن التاريخ على خلاف دعواه تماماً، فإن هناك أبنية على القبور، ومزارات كانت قبل القرن الخامس بل بعضها في القرن الأول والثاني . وإليك أمثلة على ذلك :

1 - بناء الحجرة الشريفة .

2 - بناء المسجد على قبر حمزة.

3 - إن قبر إبراهيم بن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) كان في دار محمد بن زيد بن علي (علیه السلام).

4 - قبر سعد بن معاذ كان في دار ابن أفلح، وأن عليه حنبذة - أي قبة - في زمن عمر بن عبد العزيز الذي هو من المائة الثانية(1).

ه - إن البناء على قبر الزبير كان عام 386ه_ .

6 - إن البناء على قبر النذور - قبر عبيد الله بن محمد بن عمر بن علی(علیه السلام)- كان في القرن الرابع .

7 - قبر علام خليل الباهلي، ت 275ه_ .

الذهبي : مات في 275ه_ وغلقت الأسواق وخرج الرجال والنساء للصلاة عليه ثمَّ حُمِلَ في تابوت إلى البصرة وبنيت عليه قبة(2) .

ص: 162


1- انظر وفاء الوفاء : 545/2 ، كشف الارتياب : 424 .
2- سير أعلام النبلاء : 285/13 .

8 - البناء على قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السلام) ت 372ه_ : قال الذهبي : السلطان عضد الدولة. كان شيعياً جلداً، أظهر بالنجف قبر الإمام علي(علیه السلام) وبنى عليه المشهد... وقال أيضاً: مات سنة 272ه_ ببغداد وحُمِلَ في تابوت ونقل فدفن بمشهد النجف(1).

تجديد بناء القبر على عهد الصحابة والتابعين:

1 - قبر النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) : فإنه (صلی الله علیه و آله و سلم)دفن في حجرة مبنية، ولو كان البناء على القبور محرماً، لهدمها الصحابة قبل دفنه(صلی الله علیه و آله و سلم) ، إذ لو كان البناء كالأصنام، فلا فرق بين البناء السابق والبناء اللاحق، والبناء والقبة على القبر الشريف لا زال موجوداً إلى يومنا هذا .

2 - لم يكن على بيت النبي حائط، وكان أوّل من بنى عليه جداراً، عمر بن الخطاب(2).

3 - إن عائشة بَنَتْ حائطاً بينها وبين القبور وكانت تسكنها وتصلّي فيها قبل الحائط وبعده.

كانوا يأخذون من تراب القبر، فأمرت عائشة بجدار فضربت عليهم وكانت في الجدار كوة، فكانوا يأخذون منها، فأمرت بالكوة فَسُدَّتْ (3).

4 - ثم بناها عبد الله بن الزبير ثم سقط حائطها .

5 - بناء عمر بن عبد العزيز، وفي رواية أنه هدم البيت الأوّل . ثم بناه وبنى حظاراً محيطاً به وتولّى ذلك عمر بن عبد العزيز وآزر الحجرة بالرخام .

فلما أن بني البيت على القبر وهدم البيت الأوّل ، ظهرت القبور الثلاثة(4).

ص: 163


1- سير أعلام النبلاء : 251/16. وردت روايات صحيحة بأن أوّل من أظهر قبر أمير المؤمنين(علیه السلام، هو الإمام جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام).
2- وفاء الوفاء : 541/2 .
3- وفاء الوفاء : 544/2 .
4- وفاء الوفاء : 547/2.

6- ثم أعيد تأزيرها في زمن المتوكل الخليفة العباسي.

7 - جُدِّد في زمن المقتفي ، ثم عُمِلَ في زمنه للحجرة مُشبّك من خشب الصندل، والابنوس على رأس جدار عمر بن عبد العزيز .

8 - ثم لما سقط حائط الحجرة في دولة المستضيء، أعيد بناؤه ثم لما احترق الحرم الشريف عام 654 ه_ . ق . شرعوا في تجديد الحجرة الشريفة في دولة المستعصم العباسي وأكمل تعميره من آلات وصلت من مصر في عهد الملك المنصور أيبك الصالحي، وأخشاب من صاحب اليمن : الملك المظفر .

9 - ثم أكمل تعميرها في أيام الملك المنصور قلاوون الصالحي صاحب مصر فعملت أوّل قبّة على الحجرة الشريفة. وهي القبة الزرقاء التي بناها أحمد بن عبد القوى (1)عام 678 ه_ . ق .

ثانياً: قبور الصحابة وغيرهم.

1 - إن عقيلاً لما حفر بئراً في داره وجد حجراً مكتوباً عليه : هذا قبر أمّ حبيبة(2)، فدفن البئر وبنى عليه بيتاً .

2-بنى الرشيد قبة على قبر أمير المؤمنين(علیه السلام) في المائة الثانیة(3).

ص: 164


1- راجع كشف الارتياب : 400 ، وفاء الوفاء للسمهودي : 573/2 .
2- فيه تأمل إذا كان المقصود بها زوج النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)) إذ كيف يخفى عليه ،قبرها، مع أن عقيلاً كان معاصراً لأم حبيبة .
3- يقول الشاعر الحسين بن الحجاج سنة 391ه_ : يا صاحب القبة البيضا على النجف***من زار قبرك واستشفى لديك شفي*** زوروا أبا الحسن الهادي لعلكم*** تحظون بالأجر والاقبال والزلف*** زوروا لمن تُسمع النجوى لديه فمن*** يزره بالقبر ملهوفاً لديه كفي*** إذا وصلت فاحرم قبل تدخله*** ملبياً وأسع سعياً حوله وطف موسوعة العتبات المقدسة : 97/6 ، الغدير : 94/4 ، درر الأخبار : 214/2 ، للمرحوم آية الله الطبسي.

3 - يقول الخطيب البغدادي : إن الكاظم دفن في مقابر الشونيز وقبره هناك مشهور يزار، عليه مشهد عظيم فيه القناديل وأنواع الآلات والفرش(1) . وولادة الخطيب عام 392ه_ وهو من القرن الرابع .

4 - إن الرضا(علیه السلام) لدفن في القبّة التي دفن فيها هارون بطوس ويظهر أن ولده المأمون بني تلك القبّة عام 200 ه_ .

5 - قبر أبي تمام الطائي : إنّ نهشل بن حميد الطوسي بنى على قبر أبي تمام حبيب بن أوس الطائي الشاعر المعروف بالموصل عام 230ه_ .

6 - قبر بوران: بنيت قبة على قبر بوران بنت الحسن بن سهل عام 271ه_ .

7 - الذهبي : إن المتوكل عام 236 أمر بهدم قبر الحسين(2)، و هدم ما حوله. فتألم المسلمون من ذلك، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد، وهجاه الشعراء وممّا قيل فيه:

تالله إن كانت أُمية قد أتت*** قتل ابن بنتِ نبيّها مظلوماً*** فلقد أتاه بنو أبيه بمثله*** هذا لعمري قبره مهدوماً*** اسفوا على أن لا يكونوا شاركوا*** في قتله فتتبعوه رميما(3)

اذن هذه العصور كلها سابقة على القرن الخامس الذي يدعيه ابن بليهد، فلو كانت الأبنية على القبور محرّمة وتُعد شركاً لورد النهي،

ص: 165


1- وفيات الأعيان : 310/5 .
2- انظر مآثر الأناقة في معالم الخلافة للقلقشندي: 1/ 120 حول بناء المشهد المعروف بمشهد الحسين(علیه السلام)بمصر .
3- وذكرها أيضاً الذهبي في تاريخ الإسلام : 18/17 ، في حوادث سنة 236 . راجع كشف الارتياب : 308 ، وفاء الوفاء للسمهودي : 84/2.

سيما أن تلك العصور - خصوصاً عصر هارون والمأمون - كان حافلاً بالعلماء وأئمة الدين ولم ينقل أن أحدا منهم أنكر ذلك ، مع أنّهم أنكروا على المأمون خلق القرآن ولم يوافقوه، وصبروا على الحبس و الضرب ...

وفيما يلي نماذج أخرى:

1 - قبر سليمان الفارسي، ت36ه_ .

قال الخطيب البغدادي: قبره الآن ظاهر معروف بقرب أيوان کسرى عليه بناء وهناك خادم مقيم لحفظ الموضع وعمارته والنظر في أمر مصالحه(1).

2 - قبر طلحة المقتول يوم الجمل سنة 36ه_ .

قال ابن بطوطة : مشهد طلحة بن عبيد الله . . . وهو بداخل المدينة وعليه قبة ومسجد، وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر .

ثمَّ عدَّ مشاهداً في البصرة لجملة من الصحابة والتابعين فقال :

وعلى كلِّ قبر قبّةٌ مكتوب فيها اسم صاحب القبر ووفاته (2).

3 - الزبير بن العوام: قال ابن الجوزي: بنى عليه الأثير أبو المسك عنبر، بناءً وجعل الموضع مسجداً ونقلت إليه القناديل والآلات والحصر والسمّادات وأقيم قوام وحفظة ووقف عليه وقوفاً(3).

4 - أبو أيوب الأنصاري: ت 52 بالروم :

ص: 166


1- تاریخ بغداد: 163/1.
2- رحلة ابن بطوطة : 187/1.
3- المنتظم: 377/14 ، أقول : إن الزبير وطلحة نكتا بيعة الإمام علي (ع) وأحجا نار الحرب وخرجا على إمام زمانهما ولقيا مصرعهما في تلك المعركة أو جراء تلك المعركة.

قال الوليد: حدّثني شيخ من أهل فلسطين : إنه رأى بنية بيضاء دون حائط القسطنطنية، فقالوا: هذا قبر أبي أيوب الأنصاري صاحب النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) ، فأتيت تلك البنية فرأيتُ قبره في تلك البنية وعليه قنديل معلّق بسلسلة(1).

وقال ابن كثير : وعلى قبره مزار و مسجد(2).

5 - مشهد الإمام موسى بن جعفر(علیه السلام) قال الذهبي: له مشهد عظيم مشهور ببغداد ولولده علي بن موسی مشهد عظيم بطوس(3).

قال ابن الجوزي: في هذه الأيام - يعني سنة 459- بنى أبو سعد : المستوفي الملقب شرف الملك، مشهد أبي حنيفة وعمل لقبره ملبناً وعقد القبّة... (4).

6 - معروف الكرخي، ت200ه_ .

قال ابن الجوزي: ... بُنيت تربة قبر معروف في ربيع الأول سنة 460 وعقد مشهداً زاجاً بالجص والآجر (5).

7 - محمد بن إدريس الشافعي : ت 204ه_ .

قال الذهبي : إن الملك الكامل عمّر قبةً على ضريح الشافعي(6).

8 - قبر أبي عوانة : ت316ه_

قال الذهبي : بُنيَ على قبر أبي عوانة مشهد بأسفرايين يزار وهو في داخل المدينة .

ص: 167


1- تاریخ بغداد: 154/1 .
2- البداية والنهاية : 65/8 .
3- سير أعلام النبلاء : 274/6 .
4- المنتظم : 16 / 100 .
5- المنتظم : 105/16 .
6- دول الإسلام : 344 .

أقول : بما أن هذا التصريح، وهذا الواقع التاريخي من المسلمين السنة، لا يتلاءم مع مزاعم الوهابية، فقد علّق اكرم البوشي، على هذا النص التاريخي قائلاً: هو من صنيع العامة الذين لا علم عندهم فإن ذلك من البدع المنهي عنها .

الحمد لله إن المعلق لم يوّجه التهمة إلى الشيعة ولم يقل إنه من فعل الإمامية وصنيعهم بل قال من صنیع العالمة.

9 - أبو علي الهبيش، ت 420ه_ .

قال ابن الجوزي: قبره ظاهر بالكوفة وقد عمل عليه مشهد... (1).

تتميم: ردّ الاستدلال بحديث أبي الزبير :

وقد استدلّوا برواية أبي الزبير التي رواها مسلم(2) والترمذي(3)، وابن ماجة(4) ، والنسائي(5) ، وأبو داود(6) ، وأحمد في مسنده(7) : نهى رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) أن يجصص القبر وأن يعقد عليه وأن يبنى عليه .

وفيما يلي طرق الحديث :

الطريق الأول : أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا حفص بن غياث، عن ابن جُريج، عن أبي الزبير، عن جابر: نهى رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)... (8).

ص: 168


1- المنتظم : 202/15 .
2- صحیح مسلم : 63/3.
3- الترمذي : 208/3 .
4- سنن ابن ماجة : 473/1 .
5- سنن النسائي : 87/4 .
6- سنن أبي داود: 216/3 .
7- مسند أحمد : 295/3 .
8- صحيح مسلم : 63/3 .

الطريق الثاني : هارون بن عبد الله، حدّثنا حجاج بن محمد، وحدّثني محمد بن رافع، حدّثنا عبد الرزاق جميعاً عن ابن جريج، عن أبي الزبير .. (1).

الطريق الثالث : عبد الرحمن بن الأسود، أخبرنا محمد بن ربيعة، عن ابن جريج عن أبي الزبير(2).

الطريق الرابع : حدّثنا أزهر بن مروان ومحمد بن زياد، قال: حدّثنا عبد الوارث عن أيوب، عن أبي الزبير ... (3).

الطريق الخامس : أخبرنا يوسف بن سعيد، حدثنا حجاج عن ابن جريج، عن أبي الزبير(4).

المناقشة في السند:

وفي السند: ابن جريج، وأبو الزبير، وحفص بن غياث ومحمد بن ربيعة، وعبد الرزاق .

أما ابن جريج : وهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي .

الآراء حوله:

1 - سُئل يحيى بن سعيد عن حديث ابن جريج، فقال: ضعيف. فقيل له : إنه يقول : أخبرني، قال: لا شيء ... کلّه ضعیف.

2 - قال أحمد: إذا قال ابن جريج: قال فلان، وقال فلان وأُخبرتُ، جاء بمناكير .

ص: 169


1- المصدر نفسه.
2- الترمذي: 208/2 .
3- سنن ابن ماجة : 473/1 .
4- سنن النسائي : 87/4 .

3 - قال مالك بن أنس : كان ابن جُريج حاطب ليل(1) .

4 - وقال الدارقطني : تجنب تدليس ابن جريج، فإنّه قبيح التدليس لا يدلس إلاّ فيما سمعه من مجروح.

5 - وقال ابن حبان: كان يدلس في الحديث.

6 - وقال يحيى بن سعيد، إذا قال ابن جريج «قال»: فهو شبه الریح.

7 - وقال يزيد بن زريع: كان ابن جريج صاحب غثاء

8 - قال الذهبي : ... يدلس وهو في نفسه مجمع على ثقته مع كونه قد تزوج نحواً من سبعين امرأة نكاح المتعة.

9 - قال عبد الله بن أحمد، قال أبي : بعض الأحاديث التي کان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة، كان ابن جريج لا يبالي من أين يأخذها .

10 - قال الدارقطني : تجنب تدليس ابن جريج، فإنّه قبيح التدليس، لا يدلس إلاّ فيما سمعه من مجروح مثل إبراهيم بن أبي يحيى (2).

أما الراوي الثاني: أبو الزبير:

اسمه: محمد بن مسلم بن تدرس الآمدي .

وقد ضعفه علماء الرجال. وفيما يلي نماذج من آرائهم :

ص: 170


1- و«حاطب ليل» أي الذي يحطب أو يجمع الحطب في الليل: مَثَل يطلق على من يخبط خبطاً الخطأ ويخلط بين والصحيح بلا بصيرة.
2- تهذيب الكمال : 348/18 ، تهذيب التهذيب : 404/6 ، ميزان الاعتدال : 659/2 .

1 - عن :أحمد كان أيوب يضعفه ...

2 - قال نعيم بن حماد، سمعت ابن عيينة : كأنه يضعفه .

3 - عن سويد بن عبد العزيز، قال لي شعبة: تأخذ عن أبي الزبير، وهو لا يحسن أن يصلّي؟!

4 - قال نعيم : سمعت هشيماً يقول: سمعت من أبي الزبير، فأخذ : شعبة كتابي فمزقه .

5 - قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي عن أبي الزبير فقال : يكتب حديثه ولا يحتج به(1) .

6- الترمذي : ذكر شعبة أنّه ضعف أبا الزبير المكّي(2).

7 - قال أبو زرعة وأبو حاتم : لا يحتج به .

8 - وعن أبي عيينة: كان أبو الزبير عندنا بمنزلة خبز الشعير إذا لم نجد عمرو بن دينار ذهبنا إليه .

9 - ابن أبي حاتم سألت أبا زرعة عن أبي الزبير فقال: يروي عنه الناس، قلت يحتج بحديثه ؟ قال : إنّما يحتج بحديث الثقات.

10 - قال شعبة : لم يكن في الدنيا شيء أحبّ إليَّ من رجل يقدم من مكة فأسأله عن أبي الزبير، فقدمت مكة، فسمعت منه، فبينا أنا جالس عنده إذ جاءه رجل يوماً فسأله عن مسألة، فقلت له: يا أبا الزبير تفتري على رجل مسلم! قال : إنه أغضبني، قلت: من يغضبك يُفترى عليه؟ لا رويتُ عنك حديثاً أبداً (3).

ص: 171


1- تهذيب الكمال : 407/26 .
2- الجامع الصحيح : 756/5 .
3- ميزان الاعتدال : 37/4.

وفي تهذيب التهذيب : فردّ عليه فافترى عليه - يعني أبو الزيبر (1).

والنتيجة : أن أبا الزبير ضعيف، ولا يحسن الصلاة، ولا يحتج به وأنه يفتري، وأن شعبة مزّق كتابه، فهل يبقى مع هذا مجال للاعتماد عليه ؟!!

أما الثالث : حفص بن غياث .

1 - قال يعقوب بن شيبة : يُتقى بعض حفظه (2).

2 - وقال أبو زرعة : ساء حفظه بعدما استقضي(3).

3 - وقال داود بن رشید: حفص كثير الغلط (4).

4 - أحمد كان: کان حفص يخلط كثيراً (5).

5 - وعنه : أن حفصاً كان يدلّس(6).

أما الرابع: محمد بن ربيعة: وهو أبو عبد الله الكوفي الرواسي(7).

1 - قال الساجي : فيه لين(8).

2 - وقال الأزدي : فيه لين ونظر (9).

ص: 172


1- تهذيب التهذيب : 442/9 .
2- تهذيب الكمال : 56/7 .
3- المصدر نفسه .
4- تاریخ بغداد 199/8 .
5- سير أعلام النبلاء : 31/9 .
6- تهذيب التهذيب : 360/2 .
7- تهذيب الكمال : 196/25 .
8- تهذيب التهذيب : 143/9.
9- میزان الاعتدال : 545/3 .

3 - وقال عثمان بن أبي شيبة : جاء محمد بن ربيعة، فطلب أن نكتب عنه، فقلنا لا ندخل في حديثنا الكذّابين(1).

أما الطريق الخامس : عبد الوارث، وهو ابن سعيد بن ذكوان التميمي :

1 - قال البخاري: قال عبد الصمد : إنه لكذوب على أبي (2)...

2 - كما ضعفه الدارقطني، وقال بعد ذكر حديث عنه : لا يصح هذا .

3 - وقال ابن معين : إنّه مجهول (3).

4 - ونقل الترمذي عن البخاري : عبد الوارث منكر الحديث.

وأما السادس : عبد الرزاق الصنعاني .

فهو أيضاً ضعيف عندهم أما لأجل تشيّعه - على مبناهم من كون التشیّع ضعفاً - وأما لأجل ضعفه في السماع كما عن ابن حنبل، وأما لأمور أخرى(4).

والحاصل أن هذه الرواية مليئة بالسُقم السندي وضعف رجالها، فكيف اعتمد عليها الوهابيون؟ وكيف بنوا عليها آراؤهم الفقهية، ومن ثمَّ كفّروا المسلمين واستباحوا دماءهم؟!

هذا كلّه من حيث السند.

وأما البحث في دلالة الحديث فهي :

ص: 173


1- ميزان الاعتدال : 545/3.
2- تهذيب الكمال : 483/18.
3- لسان الميزان : 678/2 .
4- تهذيب الكمال: 58/18 ، میزان الاعتدال : 61/2 ، الجرح والتعديل : 38/6.

أوّلاً: لا يدل الحديث على أكثر من النهي وهو على قسمين: نهي تحريم ونهي كراهة .

وكثيراً ما ورد النهي في الأحاديث بمعنى الكراهة(1) وهذه الكثرة توجب انصراف هذا الحديث - الذي فيه النهي - إلى الكراهة، ويضعف ظهورها في الحرمة .

1 - قال الشافعي والأصحاب، يستحب أن لا يزاد القبر على التراب الذي أخرج منه ؛ لهذا الحديث .

2 - قال السندي - نقلاً عن النيسابوري - بعد حديث النهي أن يكتب على القبر شيء، قال: هذه الأسانيد صحيحة وليس العمل عليها فإن أئمة المسلمين من الشرق إلى الغرب يكتبون على قبورهم وهو شيء أخذه الخلف عن السلف(2).

3 - قال الذهبي : أوصى جدّه - أي جد سبط بن الجوزي أن يكتب على قبره :

ص: 174


1- نهى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) عن أكل الثوم إلا مطبوخاً، نهى النبي عن الاختصار في الصلاة، النهي عن الحجامة للصائم، النهي عن قتل النملة والنحلة، النهي عن فضل وضوء المرأة، النهي عن صوم یوم السبت، النهي عن ركوب الجلالة، النهي عن تلقي الركبان، النهي عن التحريش بين البهائم، النهي عن البصل والكراث ، النهي عن بيع فضل الماء، النهي عن أن يكون الإمام مؤذناً، النهي عن السفر بالقرآن، النهي أن تسترضع الحمقاء، النهي عن البول قائماً ، النهي عن البول في المغتسل، النهي أن يبيع المهاجر لأعرابي. وعشرات الأحاديث بهذه المضامين، مما لم يتفوّه فقيه بالقول فيها بالحرمة بل حملت على الكراهة ليس إلا. وروايات النهي عن بناء القبور من هذا القبيل - لغلبة الاستعمال في الكراهة : أ - النهي عن تجصيص القبر . ب - النهي النهي عن عقد القباب عليه . د- النهي عن البناء عليه . ج - النهي عن أن يكتب على القبر شيء .
2- سنن النسائي: 87/4 .

ياكثير العفو عمن ***كُثر الذنب لديه ***جاءك المذنب یرجوا*** الصفح عن جُرم يديه *** أنا ضيف وجزاء وجزاء الضی_*** _ف إحسان إلیه(1) .

التعريف بابن الجوزي:

قالوا فيه : الشيخ العلامة، الإمام الحافظ المفسّر، شيخ الإسلام مفخر العراق(2).

4 - قال النووي: أما البناء، فإن كان في ملك الباني فمكروه، وإن كان في مقبرة مسبلة فحرام نص عليه الشافعي والأصحاب ... قال أصحابنا : تجصيص القبر مكروه(3) .

ثانياً : إن هذه الأحاديث غير ناظرة إلى ما يكون تعمير القبر وتشييده والبناء فوقه، من تعظيم شعائر الله وحرماته، لكون صاحبه نبياً أو ولياً، أو لكونها بنيت لمصالح في الدين مهمة؛ مثل أن تكون علامة ومناراً للقبر الذي ندب الشرع إلى زيارته وحفظاً له عن الاندراس . كما علم رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) قبر عثمان بن مظعون، وعلمت فاطمة الزهراء(سلام الله علیها) قبر حمزة الشهيد .

وفيما يلي الشواهد :

1 - ابن ماجه: وقد علم رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) قبر قبر عثمان بن مظعون بصخرة وضعها عليه (4). وعقب الهيثمي عليه: وقال إسناد حسن(5).

ص: 175


1- سير أعلام النبلاء : 380/31 و 370.
2- المصدر نفسه .
3- شرح صحیح مسلم : 62/3 .
4- سنن ابن ماجة : 498/1 .
5- المصدر نفسه .

قال السندي في توضيح الحديث : أي وضع عليه الصخرة ليتبين بها .

2 - وعن بعض الصحابة : لما مات عثمان بن مظعون اخرج بجنازته فدفن، فأمر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) رجلاً أن يأتي بحجر فلم يستطع حمله، فقام إليه رسول الله (صلی لله علیه و آله و سلم) وحسَر عن ذراعيه .

قال الراوي: كأني أنظر إلى بياض ذراعي رسول الله حين حسر عنهما، ثم حمله فوضعه عند رأسه، وقال: أتعلَّم به قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي.

... فلما ولّى مروان بن الحكم المدينة مرَّ على ذلك الحجر، فأمَرَ به فُرمى به، وقال: والله لا يكون على قبر عثمان بن مظعون حجر یعرف به، فأتته بنو أمية، فقالوا : بئس ما صنعت فمُر به فليرد. فقال: أما والله إذ رميت به فلا يُرد(1) .

3 - الأصبغ بن نباتة : إن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) كانت تأتي قبر حمزة، وكانت قد وضعت عليه علماً تعرفه(2) وذكر أن قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) وأبي بكر وعمر كان عليهم النَقَل يعني حجاراً صغاراً (3).

ثم أن الفوائد المترتّبة على البناء ما يلي:

1 - تعظيم الشعائر وإرغام الأعداء والمنكرين .

2 - استظلال الزائرين بها من الحرّ والقرّ عند الزيارة والصلاة بجانبها التي ثبت رجحانها بشرف المكان والدعاء عندها .

3 - قراءة القرآن .

4 - التدريس .

5 - إلقاء المواعظ وغير ذلك...

ص: 176


1- وفاء الوفاء : 894/3 .
2- مصنف عبد الرزاق : 574/3 .
3- المصدر نفسه.

الفصل الثامن الإسراج على القبور

اشارة

1 - رأي الوهابية

2 - مناقشة الفكرة

3 - سيرة المسلمين

4 - مناقشة حديث المنع من الإسراج

ص: 177

ص: 178

الإسراج على القبور

وقد منعه الوهابيون، محتجين بالحديث المتقدّم لعن رسول الله زائرات القبور والمتّخذين عليها المساجد والسُرُج(1).

والجواب :

أولاً : هذا الحديث ضعيف السند - كما مرّ - .

ثانياً : محمول على غير قبور الأنبياء والأولياء الذين دلّ الشرع على رجحان تعظيمهم، أحياء وأمواتاً.

ثالثاً: محمول على صورة عدم المنفعة، فيكون تضييعاً للمال، وأما الإسراج لقراءة القرآن والأدعية، والصلاة وانتفاع الزائرين والبائتين فيها، فليس مكروهاً ولا محرماً، وذلك للنفع الظاهر في ذلك، فيكون من التعاون على البر والتقوى، كما أشار إلى ذلك العزيزي والسندي والشيخ الحنفي والشيخ علي منصور. وسيأتي تفصيل أقوالهم .

والشاهد على ذلك :

فعل النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) : فقد روى الترمذي عن ابن عباس: أن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)دخل قبراً ليلاً فأسرج له سراج(2).

رابعاً : سيرة المسلمين .

ص: 179


1- سنن النسائي : 95/4 ، مستدرك الحاكم : 530/1 الرقم 1384 .
2- الجامع الصحيح : 372/3 ب 62 .

كما أن سيرة المسلمين - من قبل أن يولد ابن تيمية وبعده - كانت جارية على الإسراج والإضاءة على القبور والمشاهد :

1 - قنديل على قبر أبي أيوب الأنصاري:

قال الخطيب البغدادي : قال الوليد: حدّثني شيخ من أهل فلسطين : أنّه رأى بنيّة بيضاء دون حائط القسطنطينية فقالوا : هذا قبر أبي أيوب الأنصاري صاحب النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) فأتيت تلك البنية، فرأيت قبره في تلك البنية وعليه قنديل(1) معلّق بسلسلة(2).

والملاحظ أن وفاة الخطيب 463 ه_ أي في القرن الخامس ووفاة ابن تيمية في القرن التاسع ،والفرق الزمني بينهما حوالي أربعمائة سنة فهذه العادة كانت جارية قبل أن يولد ابن تيمية ولم يُعهد من فقيه إسلامي أفتى بحرمة هذا المعنى، ولا عدّه من البدع والشرك.

2 - قناديل تنقل لقبر الزبير :

قال ابن الجوزي فمن الحوادث في سنة 386ه_ أن أهل البصرة ادّعوا أنهم كشفوا عن العوّام ... ونقلت إليه القناديل والآلات والحصر والسمّادات وأُقيم فيه قوامُ وحفظة ووقف عليه وقوفاً(3).

الملاحظ: أن هذا الاكتشاف ومن ثم عملية نقل القناديل ونصبها على القبر، كان في القرن الرابع، قبل أن يولد ابن تيمية بخمسة قرون ولم يعهد أيضاً من فقيه أفتى بحرمة نقل القناديل واستضاءة قبر الزبير أو قبر غيره.

ص: 180


1- (1) وهو معروف يستضاء به وفي الحديث : الرجل يصلّي وبين يديه قنديل مجمع البحرين: 5/ 456 مادة (قندل) .
2- تاریخ بغداد 154/1 .
3- المنتظم : 383/14.

3 - قناديل على قبر الكاظم(علیه السلام) :

قال الخطيب: ... وقبره هناك مشهور يزار وعليه مشهد عظيم فيه قناديل الذهب والفضة وأنواع الآلات والفرش ما لا يحدّ . . . (1)

مناقشة الحديث:

أما من حيث السند : فقد رواه الحاكم في مستدرکه بسندين ينتهيان إلى ابن عباس، ولكن فيهما : أبو صالح وهو باذان وليس: «السمان» المحتج به(2) وأبو صالح هذا مردود .

قال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به.

وقال النسائي : ليس بثقة .

وقال ابن عدي: «عامة ما يرويه، تفسير، وما أقلَّ ما له في المسند . . . ولم أعلم ولم أعلم أحداً من المتقدّمين رضيه »(3).

وفي الحديث طريقان آخران تعرضنا لها في بحث زيارة النساء للقبور .

أما دلالة الحديث :

1 - قال العزيزي في شرح قوله(صلی الله علیه و آله و سلم) : «والسُرُج» محل ذلك حيث لا ينتفع بها الأحياء ... فإن كان هناك من ينتفع به صح ذلك(4) .

2 - وقال السندي في حاشية سنن النسائي: والنهي عنه لأنه تضييع مال بلا نفع. ومفاده: أنه لا نهي حيث يكون هناك نفع(5).

ص: 181


1- وفيات الأعيان: 310/5 .
2- تهذيب الكمال : 6/4 .
3- الكامل في الضعفاء : 71/2 ، وفيه بادام مستدرك الحاكم : 530/1 الرقم 1384 .
4- شرح الجامع الصغير : 198/3.
5- سنن النسائي : 95/4 .

3- الشيخ الحنفي في الحاشية : يحرم إسراج القنديل على قبر الولي ونحوه، حيث لم يكن ثمَّ من ينتفع به، لما فيه من إضاعة المال، لا لغرض شرعي(1).

4 - وقال الشيخ علي ناصف : فلا يجوز السُرج على القبور لأنها إضاعة مال، إلا إذا كان هناك أحدٌ من الأحياء فيجوز له الإسراج (2).

إذن : الحكم ارشادي لا مولوي، فهو إرشاد إلى عدم تضييع المال، فلو كان للإضاءة والسراج نفع عقلائي، فلا يشمله هذا الحديث.

أضف إلى عدم إفادة اللعن الحرمة بل قد يكون محمولاً على الفعل المكروه .

ص: 182


1- أنظر كشف الارتياب : 339 .
2- التاج الجامع للأصول : 381/1 .

الفصل التاسع النذر

اشارة

1 - دعوى الوهابية في النذر لغير الله

2 - مناقشة الدعوى

3 - الروايات تؤكد جواز ذلك

4 - سيرة المسلمين في النذر

5 - آراء العلماء في النذر لغير الله

ص: 183

ص: 184

النذر لغير الله

ترى الوهابية حرمة النذر لغير الله وأن ذلك يشبه النذر للأوثان وأنه ينشأ من الغلو في المنذور له .

1 - قال القصيمي : إنها من شعائر الشيعة الناشئة عن غلوّهم في أئمتهم وتأليههم لعلى وولده(1) .

2 - وقال ابن تيمية : قال علماؤنا لا يجوز أن يُنذر لقبر ولا للمجاورين عند القبر شيئاً من الأشياء ، لا من درهم ولا من زيت، ولا من شمع، ولا من حيوان ولا غير ذلك، كلّه نذر معصية، وقد ثبت في الصحيح : من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه(2).

وقال : وإذا كان الطلب من الموتى - ولو كانوا أنبياء - ممنوعاً خشية الشرك، فالنذر للقبور، أو لسكّان القبور نذر حرام باطل يشبه النذر للأوثان و من اعتقد أنَّ في النذر للقبور نفعاً أو أجراً فهو ضال جال جاهل.355 (3)

مناقشة الفكرة:

والجواب :

أولاً: المقصود بالنذر نذر الصدقة وإهداء ثوابها إلى النبي أو الولي أو الصالح، ولا يقصد التقرّب إليه بالنذر بل إلى الله، كيف يقصد

ص: 185


1- الغدير : 5/ 180 - كتاب الصراع : 54/1 .
2- کشف الارتياب : 355.
3- الملل والنحل : 291 .

التقرّب إليه وهو يعلم أنّه ميّت لا يمكنه الانتفاع بالمنذور، لا يأكله إن كان طعاماً ولا ينفقه إن كان مالاً، ولا يلبسه إن كان ثياباً .

فالواجب عدم التسرّع في التكفير والتهجّم على المسلمين بفتاوى غير مدروسة بل يجب حمل فعل المسلم على الصحّة، وينبغي الحذر من التهجّم مهما أمكن.

ثانياً : إنَّ هذا النذر لا يزيد على من نذر لأبيه وأُمّه أو حلف أو عاهد أن يتصدَّق عنهما وقد ورد لزوم الوفاء به، كما روي عنه (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال للبنت التي نذرت لأبيها عملاً «في بنذرك».

أما اختيار بعض الأمكنة : فهو طلب لشرف المكان حتى يتضاعف ثواب العبادة، كما يختار بعض الأزمنة لبعض العبادات وهذا ممّا لا بأس به. ويدل عليه بعض الروايات :

الروايات والنذر:

1 - روي عن ثابت بن الضحاك، عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) : أن رجلا سأله أنّه نذر أن يذبح ببوانه(1) ، فأتى رسول الله، فأخبره فقال(صلی الله علیه و آله و سلم) : هل كان فيها وثنُ من أوثان الجاهلية يُعبد ؟

قالوا: لا، قال: هل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) : أوفِ بنذرك ، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم (2).

2 - عن ميمونة : أن أباها قال للنبي (صلی الله علیه . آله و سلم) : إني نذرتُ أن أذبح خمسين شاة على بوانه، فقال : هناك شيء من هذه النُصُب؟ فقال : لا .

ص: 186


1- هضبة قريبة من ساحل البحر معجم البلدن: 30/2 .
2- سنن أبي داود: 238/3 ج 3313.

قال(صلی الله علیه و آله و سلم) : فأوف بنذرك، فذبح تسعاً وأربعين وبقيت واحدة، فجعل يعدو خلفها ويقول : اللهمّ اوفِ بنذري حتى أمسكها فذبحها (1).

وهذه الرواية لعلّها متحدة مع ما قبلها وإن اختلفت في بعض العبارات .

ولعلّ سؤاله(صلی الله علیه و آله و سلم) : هل كان فيها وثن يعبد أو عيد من أعياد الجاهلية، خشية أن يكون النذر جارياً على عادة أهل الجاهلية لقرب العهد بهم .

ثالثاً : معنى النذر: هو أن يلزم انسان نفسه بأداء شيء معيّن إذا تحقق هدفه وقضيت حاجته، فيقول : الله عليّ أن أفعل كذا إذا كان كذا .

وهذا هو النذر الشرعي. ففي قوله: نذرت لفلان مجازاً لغاية الاختصار، إذ معناه : نذرت لله على أن أفعل شيئاً يكون ثوابه لفلان .

هل المشابهة توجب التكفير :

ومن أعجب العجائب : تكفير ابن تيمية للمسلمين في هذه النذور بحجّة أن عملهم في النذر يشبه عمل المشركين .

فلو كان هذا هو الملاك، فهناك أعمال أخرى تشبه عمل المشركين؛ وذلك مثل كثير من مناسك الحج وفرائضه، تشبه في ظاهرها أعمال المشركين: كالطواف حول البيت، والتقبيل، وذبح الذبائح و ...

اضف إلى ذلك : إن الملاك والمقياس هو النية القلبية لا التشابه .

قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) : إنّما الأعمال بالنيات .

قال العزامي الشافعي: من استخبر حال من يفعل ذلك من

ص: 187


1- معجم البلدان: 30/2 - و 505/1 .

المسلمين وجدهم لا يقصدون بذبائحهم ونذورهم للأموات إلاّ الصدقة عنهم وجعل ثوابها لهم .

وقد علموا أن اجماع أهل السنّة منعقد على أن صدقة الأحياء نافعة للأموات واصلة إليهم، والأحاديث في ذلك صحيحة مشهورة :

1 - منها ما صحَّ عن سعد، أنه سأل النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) ، قال : يا نبي الله إن أُمّي افتلتت (أي ماتت) وأعلمُ أنها لو عاشت لتصدقت أفإن تصدقتُ عنها أينفعها ذلك؟ قال : نعم .

فسأل النبي : أيُّ الصدقة أنفع يا رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) ؟

قال: «الماء» فحفر بئراً وقال : هذه لأمّ سعد(1).

وقد أخطأ ابن تيمية ومن حذا حذوه، فأدعى أن المسلم إذا قال : هذه الصدقة للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم) أو الولي، فاللام بنفسها هي اللام الموجودة في قولنا: «نذرتُ الله» ويراد منها الغاية. وقد غفل ابن تيمية أو تغافل عن أن العمل الله، ويقصد «باللام» جهةالمصرف للصدقة.

قال العزّامي : اللام في هذه لأُم سعد هي اللام الداخلة على الجهة التي وجّهتْ إليها الصدقة لا على المعبود، المتقرّب إليه، وهي کذلك في كلام المسلمين، فهم سعديون لا وثنيون، وهي كاللام في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسكين (2).

سيرة المسلمين في النذور:

إنّ النذر بالذبح وغيره، للأنبياء والأولياء أمرُ شائع بين المسلمين،

ص: 188


1- فرقان القرآن : 133 .
2- سورة التوبة، الآية : 60 .

ومعروف من سيرتهم، من دون اختصاص بفرقةٍ دون فرقة. وإنما يثاب به الناذر إن كان الله وذبح باسم الله .

يقول الخالدي: بمعنى أن الثواب لهم والمذبوح منذور لوجه الله كقول الناس : ذبحت لميتي بمعنى تصدقتُ عنه وكقول القائل: ذبحت للضيف بمعنى أنه كان السبب في حصول الذبح(1).

ويكفينا من الشواهد لسيرة المسلمين ثلاثة :

1 - قبر البستي بمراكش .

2 - قبر النذور ببغداد «قبر عبيد الله بن محمد بن عمر».

3 - قبر أحمد البدوي بطندتا .

1 - قبر البستي :

1 - أحمد بن جعفر الخزرجي أبو العبّاس البستي نزيل مراكش، المتوفى بها عام 601 ه_ . «قبره مزار مزاحم عليه مجرّب الإجابة، زرته مراراً لا تحصى، وجربتُ بركته مرّة، وقال ابن الخطيب السلماني: ... ويبلغ وارد ذلك المزار في اليوم الواحد ثمانمائة مثقال ذهب عين، وربّما وصل بعض الأيام ألف دينار، وتُصرف كلها في ذوي الحاجات المحتفين به من أهالي تلك الديار ... (2).

قال صاحب نيل الابتهاج : ...وإلى الآن ما زال الحال على ما كان عليه في روضته من ازدحام الخلق عليها، وقضاء حوائجهم، وقد زرته ما يزيد على خمسمائة مرّة وبت هناك ما ينيف على ثلاثين ليلة، وشاهدت بركته في الأمور . . . (3).

ص: 189


1- صلح :الأخوان : 109 ، الغدير : 182/5 .
2- نيل الابتهاج : 62/2 ، الغدير : 204/5.
3- المصدر السابق .

2 - الشيخ أحمد بن علي البدوي المتوفى 675 ه_ . دفن بطندتا(1)، وجعلوا على قبره مقاماً واشتهرت كراماته، وكثرت النذور إليه(2) .

3 - قبر عبيد الله بن محمد بن عمر: هو ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب . قال البغدادي : باب البردان فيها جماعة من أهل الفضل وعند المصلّى المرسوم بصلاة العيد قبر كان يُعرف بقبر النذور ويقال : إن المدفون فيه رجلٌ من ولد علي بن أبي طالب(علیه السلام) يتبرك بزيارته، ويقصده ذو الحاجة منهم لقضاء حاجته .

حدّثني القاضي أبو القاسم التنوخي : قال : حدّثني أبي، قال: كنت جالساً بحضرة عضد الدولة(3) ونحن مخيمون بالقرب من مصلّى الأعياد في الجانب الشرقي من مدينة السلام نريد الخروج معه إلى همذان في أول يوم نزل المعسكر، فوقع طرفه على البناء الذي على قبر النذور .

فقال لي: ما هذا البناء؟ فقلت: هذا مشهد النذور، ولم أقل : قبره، لعلمي بطيرته من دون هذا واستحسن اللفظة، قال : قد علمتُ أنه قبر النذور وإنّما أردتُ شرح أمره. فقلت: هذا يقال إنّه قبر عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ويقال : إنّه قبر عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب وإن بعض الخلفاء أراد قتله خفيةَ فجعلت له هناك زبية وسيُر عليها، وهو لا يعلم فوقع فيها وهيل عليه التراب حيّاً، وإنّما شهر بقبر النذور لأنّه ما يكاد يُنذر له نذرُ إلاّ صحَّ وبلَغ الناذر ما يريد. ولزمه الوفاء بالنذور، وأنا أحدُ

ص: 190


1- لعل الصحيح هو طنبذة قرية من أعمال البهنسا من صعيد مصر، أو من نواحي أفريقيا .معجم البلدان : 43/4 ، أو طنطا، بلدة معروفة بمصر .
2- المواهب اللدنية : 346/5 .. شذرات الذهب : 605/7 .
3- صاحب العراق ابن السلطان حسن بن بويه الديلمي : أنظر سير أعلام النبلاء : 249/16 ، مات عام 372ه_ . ودفن بالنجف الأشرف.

مَن نذر له مراراً لا أحصيها كثرة نذوراً على أُمور متعذرة فبلغتها ولزمني النذر فوفيت به. فلم يتقبل - عضد الدولة - هذا القول وتكلّم بما دل على أن هذا إنما يقع منه اليسير اتفاقاً فيتسوق العوام بأضعافه ويُسيرون الأحاديث فيه. فأمسكتُ فلما كان بعد أيام يسيرة ونحن معسكرون في موضعنا استدعاني في غدوة يوم وقال : اركب معي إلى مشهد النذور . فركبت وركب في نفر من حاشيته إلى أن جئت به إلى الموضع فدخله وزار القبر وصلّى عنده ركعتين سجد بعدهما سجدة، أطال فيها المناجاة بما لم يسمعه أحد، ثم ركبنا معه إلى خيمة وأقمنا أياماً ثمَّ رحل ورحلنا معه يريد همذان فبلغناها، وأقمنا فيها معه شهوراً فلما كان بعد ذلك، استدعاني، وقال لي : ألستَ تذكر ما حدّثتني به في أمر مشهد النذور ببغداد؟ فقلت: بلى . فقال : إني خاطبتك في معناه بدون ما كان في نفسي اعتماداً لإحسان عشرتك.

والذي كان في نفسي في الحقيقة أنَّ جميع ما يقال فيه كذب .

فلما كان بعد ذلك بمُدَيدَةٍ، طرقني أمرٌ خشيتُ أن يقع ويتمّ وأعملتُ فكري في الاحتيال لزواله ولو بجميع ما في بيوت أموالي وسائر عساكري، فلم أجد لذلك فيه مذهباً، فذكرت ما أخبرتني به في النذور لمقبرة النذور، فقلت : لِمَ لا أُجرّب ذلك؟ فنذرت : إن كفاني الله تعالى ذلك الأمر أن أحمل لصندوق هذا المشهد عشرة آلاف درهم صحاحاً، فلما كان اليوم جاءتني الأخبار بكفايتي ذلك كالأمر، فتقدّمت إلى أبي القاسم - كاتبه - أن يكتب إلى أبي الريان - وكان خليفته ببغداد - يحملها إلى المشهد، ثم التفت إلى عبد العزيز - وكان حاضراً - فقال له عبد العزيز: قد كتبتُ بذلك ونفذ الكتاب(1) .

ص: 191


1- تاریخ بغداد: 123/1 .

آراء العلماء في النذر:

1 - قال الخالدي: بعد ذكر حديثي أبي داود: وأما استدلال الخوارج بهذا الحديث على عدم جواز النذر في أماكن الأنبياء والصالحين زاعمين أنَّ الأنبياء والصالحين أوثان - والعياذ بالله - وأعيادٌ من أعياد الجاهلية، فهو من ضلالهم وخرافاتهم وتجاسرهم على أنبياء الله وأوليائه حتى سمّوهم أوثاناً.

وهذا غاية التحقير لهم خصوصاً الأنبياء فإنَّ من انتقصهم ولو بالكناية يكفّر ولا تُقبل توبته في بعض الأقوال. وهؤلاء المخذولون بجهلهم، يسمّون التوسّل بهم عبادة، ويسمّونهم أوثاناً، فلا عبرة بجهالة هؤلاء وضلالاتهم، والله أعلم (1).

كما لا عبرة بجهالة ابن تيمية ومن لف لفّه وضلالاتهم (2).

3 - وقال الرافعي - نقلاً عن صاحب التهذيب وغيره - : إنه لو نذر أن يتصدّق بكذا على أهل بلد عيّنه، يجب أن يتصدّق به عليهم .

قال: ومن هذا القبيل ما ينذر بعثه إلى القبر المعروف بجرجان، فإنَّ ما يجتمع منه على ما يحكى، يُقسَّم على جماعة معلومين، وهذا محمولٌ على أنّ العرف اقتضى ذلك فنزل النذر عليه .

ولا شكَ أنّه إذا كان عُرفٌ، حُمِلَ عليه، وإن لم يكن عرف فيظهر أن يجري فيه خلاف وجهين :

أحدهما : لا يصح النذر لأنه لم يشهد له الشرع، بخلاف الكعبة والحجرة الشريفة .

ص: 192


1- صلح الإخوان : 109 .
2- الغدير : 183/5 .

والثاني : يصحُّ إذا كان مشهوراً بالخير، وعلى هذا ينبغي أن يُصرف في مصالحه الخاصّة، ولا يتعداها.

واستقرب السُبكي بطلان النذر في صورة عدم العرف هناك للصرف (1).

2 - وقال الخالدي أيضاً: إنَّ المسألة تدور مدار نيّات الناذرين وإنّما الأعمال بالنيّات، فإن كان قصد الناذر، الميّت نفسه والتقرّب إليه بذلك، لم يجز قولاً واحداً، وإن كان قصده وجه الله تعالى، وانتفاع الأحياء بوجه من الوجوه، وثوابه لذلك المنذور له الميت، سواء عيّن وجهاً من وجوه الانتفاع أو أطلق القول فيه، ويكون هناك ما يطّرد الصرف فيه في عرف الناس من مصالح القبر أو أهل بلده أو مجاوريه أو الفقراء عامة أو أقرباء الميت أو نحو ذلك، ففي هذه الصورة يجب الوفاء بالنذور.

وحكي القول بذلك عن الأذرعي، والزركشي، وابن حجر الهيثمي المكي، والرّملي الشافعي، والقباني البصري، والرافعي، والنووي، وعلاء الدين الحنفي، وخير الدين الرمليالحنفي، والشيخ محمد الغزي، والشيخ قاسم الحنفي(2).

4 - وقال العزامي : ... واغترّ بكلامه - أي ابن تيمية - بعض من تأخر عنه من العلماء، ممّن ابتلي بصحبته أو صحبة تلاميذه، وهو منه تلبيسٌ في الدين وصرف إلى معنى لا يريده مسلم من المسلمين. ومن خبر حال من فعل ذلك من المسلمين، وجدهم لا يقصدون بذبائحهم ونذورهم للميتين من الأنبياء والأولياء إلاّ الصدقة عنهم وجعل ثوابها

ص: 193


1- انظر فتاوى السبكي : 294/1 ، الغدير : 181/5 .
2- صلح الإخوان : 102 ، انظر الغدير : 181/5 .

إليهم، وقد علموا أن إجماع أهل السنّة منعقد على أنَّ صدقة الأحياء نافعة للأموات واصلة إليهم، والأحاديث في ذلك صحيحة مشهورة . . .

فالنذر بالذبح وغيره للأنبياء والأولياء أمرٌ مشروع سائغ من سيرة المسلمين عامّةٌ دون أي اختصاص بفرقة دون أخرى . . . (1).

وبعد هذه الأدلة والشواهد وكلمات أعلام السنة، فهل يحق لابن تيمية وأتباعه الاصرار على مزاعمه والتفوّه بحرمة النذر لغير الله .

ص: 194


1- فرقان القرآن : 133 ، انظر الغدير : 181/5.

الفصل العاشر الحلف بغير الله

اشارة

1 - دعوى الوهابية

2 - مناقشة الدعوى

3 - صدور الحلف من النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)

4 - محاولات ابن عبد البر

5 - تقرير النبي والصحابة وغيرهم

6 - مناقشة رواية ابن عمر

ص: 195

ص: 196

الحلف بغير الله تعالى

لقد منعت الوهابية الحلف بغير الله، وبعضهم جعله شركاً على الإطلاق، وبعضهم جعله من الشرك الأصغر .

قال ابن تيمية: الشرك شركان: أكبر، وله أنواع ومنه . . طلب الشفاعة من المخلوق، والتوسل وغيره .

وأصغر كالرياء والسمعة، ومنه الحلف بغير الله، لما روي عن ابن عمر: عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) من حلف بغير الله فقد أشرك . . . و الشرك الأصغر لا يُخرج عن الملة وتجب التوبة منه(1).

وقال الصنعاني في «تطهير الاعتقاد» بعدما ذكر أن القبوريين سلكوا مسلك المشركين حذو القذة بالقذة، وعَدَّ أعمالهم الموجبة لذلك، قال: ويقسمون بأسمائهم، بل إذا حلف من عليه حق باسم الله تعالى لم يقبل منه، فإذا حلف باسم وليّ من أوليائهم قبلوه وصدقوه، وهكذا كانت عبادة الأصنام (2).

مناقشة الفكرة

أولاً: وقع الحلف بغير الله، من ، ومن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) ، ومن الصحابة والتابعين ومن جميع المسلمين خلفاً

عن سلف.

ص: 197


1- رسائل الهدية : 25.
2- انظر کشف الارتياب : 335 .

أمّا من الله تعالى :والعصر، والعاديات، والنازعات، والناشطات، والمرسلات، والذاريات،فالجاريات ،والتين، والضحى، والسماء ذات البروج، والنجم إذا هوى، والفجر وليالِ عشر، ن والقلم، لا أقسم بيوم القيامة، فلا أقسم بالخنّس الجوار الكنَّس، لعمرك أنهم لفي سكرتهم . . . (الحجر: 72).

إن قلت : إن جوازه من الله لا يستلزم جوازه من الناس.

قلت : إن صدوره من الله يدل على أنّه لا قبح فيه. وإذا كان الله قد جعل لنفسه شريكاً، وأشرك بالشرك الأصغر - تعالى عن ذلك - فما على من اقتدى به في ذلك بأس !!

لأن ما يقبح من العبد لكونه شركاً أصغر وتشبيهاً للخلق في العظمة بالله تعالى لا يمكن أن يحسن منه تعالى، إذ صدوره منه - تعالى - لا يخرجه عن تلك الصفة - إن كانت - وهي الشرك الأصغر !!

ثانياً : صدور الحلف - بغير الله - من النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم)

1 - جاء رجل إلى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) فقال : يا رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) أي الصدقة أعظم أجراً ؟ فقال : أما وأبيك لتنَبأنَّه، أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل البقاء (1).

2 - جاء رجل إلى رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) من أهل نجد يسأل عن الإسلام فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) : خمس صلوات في اليوم والليلة وصيام شهر رمضان والزكاة ومع كل واحد، يقول: هل عليَّ غيرها؟ وهو يقول : لا ، إلا أن تطوَّع، فأدبر الرجل وهو يقول: والله، لا أزيد على هذا ولا أنقص منه .

ص: 198


1- صحيح مسلم : 419/4 .

فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) : أفلحَ وأبيه إن صدَق، أو دخل الجنّة وأبيه إن صدَق (1).

محاولات ابن عبد البر:

حكى القسطلاني عن ابن عبد البر : أن هذه اللفظة - منكرة، غير محفوظة، تردَّها الآثار الصحاح (2).

أقول : بل يعضدها حديث : أما وأبيك لتنبأنه .

قال : وقيل إنها مصحّفة من قول والله .

قال القسطلاني: وهو محتمل ولكن مثل هذا لا يثبت بالاحتمال، سيما وقد ثبت في لفظ أبي بكر في قصة السارق الذي سرق حلي ابنته .

فقال : وأبيك ما ليلك بليل سارق (3).

ثم أضاف القسطلاني: وأحسن الأجوبة ما عن البيهقي وارتضاه النووي وغيره: إن هذا اللفظ كان يجري على ألسنتهم من غير أن يقصدوا به القسم، أو أنّ التقدير : أفلح ورب أبيه(4).

أجاب السيّد محسن الأمين رحمه الله : إن العرب تقصد به القَسَم، وإلا كان اتيانه عبثاً وهذراً والحذف لا دليل عليه (5).

ص: 199


1- صحيح مسلم : 224/4 كتاب الإيمان ونماذج أخرى كثيرة منها : أ - وأبيك لو طعنت في فخذها لأجزأتك . السنن الكبرى : 246/9 ، تاریخ بغداد 377/12 . ب - لعمري ما نفعناك لتنزل عنه. مجمع الزوائد : 12/9. ج -لعمري إن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه . الطبقات الكبرى : 48/4 . د - لعمري لإن تتكلم بمعروف وتنهى عن منكر خير من أن تسكت. مسند أحمد 225/5. ه_- لعمري إني لا ولكم قوماً. مسانيد : 619/2 .
2- إرشاد الساري : 357/9 .
3- إرشاد الساري : 357/9 .
4- كشف الارتياب : 271 .
5- کشف الارتياب : 271 .

تقریر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم):

قال أبو طالب عمّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) ضمن أبيات له :

كذبتم وبيت الله يُبزى محمدٌ*** ولما نطاعن دونه و نناضل(1)

فسمع ذلك رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) ولم ينكره .

تقرير الصحابة وفعلهم :

1 - قال عبد الله بن جعفر : كنت إذا سألتُ عمّي عليّا(علیه السلام) شيئاً ويمنعني، أقول له: بحق جعفر فيعطيني(2).

فلم ينكره عليه، ولم يردعه، بل يلبّي دعوته، بعد هذا القسم.

2 - قول أبي بكر للسارق: وأبيك ما ليلك بليل سارق(3).

3 - كتاب علي لمعاوية : ولعمري يا معاوية لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان (4).

4 - وفي كتاب آخر : فلعمري لئن لم تنزع عن غيك وشقاقك التعرفنهم عن قليل يطلبونك(5)

5 - وفي كتاب معاوية لعلي(علیه السلام) فإن كنتَ أبا حسن إنما تحارب عن الإمارة والخلافة، فلعمري لو صحت لكنت قريباً من أن تُعذر في حرب المسلمين(6).

ص: 200


1- إيمان أبي طالب339/ فخار بن معد الموسوي، منية الراغب في إيمان أبي طالب : 122 للشيخ محمد رضا الطبسي رحمه الله ، شرح النهج : 079/14
2- شرح ابن أبي الحديد 73/15 - الاستيعاب : 2/1 - 81 .
3- يراجع كشف الارتياب ص 271 قال العلامة الأميني أخرجه في الموطأ وغيره ولم نعثر عليه لا في الحدود ولا في الإيمان والنذور.
4- نهج البلاغة ، للشيخ محمد عبده : 526 رقم الكتاب 6.
5- نهج البلاغة كتاب (9) .
6- كشف الارتياب : 339.

6 - الحسين بن علي(علیه السلام) :

لعمرك أنني لأحب داراً*** تَحُلّ بها سكينة والرباب(1)

7 - وقال علي الأكبر يوم كربلاء:

أنا علي بن الحسين بن علي*** نحن - وبيت الله - أولى بالنبي(2)

8 - عبد الله بن عمر العنسي: وكان هذا من عبّاد أهل زمانه، لمّا سمع رواية عمرو بن العاص عن النبي (صلی الله عایه و آله وسلم) أن عماراً تقتله الفئة الباغية، خرج ليلاً فأصبح في عسكر علي(علیه السلام) وحدّث الناس بقول عمرو وأنشد:

والراقصات بركب عامدين له*** إن الذي جاء من عمر و لمأثور ***ما في مقال رسول الله في رجل***شك ولا في مقال الرسل تحيير(3)

مسروق يحلف بقبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) :

عائشة : قال لها مسروق سألتك بصاحب هذا القبر، ما الذي سمعت من رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) في حق الخوارج؟ قالت: سمعته يقول : إنّهم شرّ الخلق والخليقة يقتلهم خيرُ الخلق والخليقة وأقربهم عند الله وسيلة (4).

فهنا: نرى أن مسروق حلف بصاحب القبر ... ولم تردعه عائشة .

ص: 201


1- (1) تذكرة الخواص: 233 ، الفصول المهمة : 183 ، البداية والنهاية : 209/8 ، الأغاني : 139/16 ، المعارف لابن قتيبة : 213 ، أعلام النساء المؤمنات : 431 .
2- تاريخ الطبري : 330/3 .
3- وقعة صفين لنصر بن مزاحم : 344 .
4- كشف الارتياب : 340 ، انظر البداية والنهاية : 315/8، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 /267 عن مسند أحمد ، بحار الأنوار: 33 / 339 و 38 : ص 19 كلاهما عن شرح نهج البلاغة هذا ولم نعثر عليه في مسند أحمد عبر الفهارس لعل الحديث فاتهم أو لم يفهرسوه عمداً كما هو دأب بعضهم في ترك فهرسة ما يتعلق بأهل البيت (علیهم السلام).

مناقشة حديث عبد الله بن عمر:

روى الترمذي : أن ابن عمر سمع رجلاً يقول: لا والكعبة، فقال : لا تحلف بغير الله فإنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) يقول: من حلف بغير الله فقد كفر(1).

فهذه على فرض صحّة السند، محمولة على الكراهة الشديدة، وأما : على صورةاعتقاد التعظيم في المحلوف به، ما يعتقده في الله عزّ وجلّ.

قال القسطلاني: والتعبير بالكفر والشرك للمبالغة في الزجر والغليظ .

وهل النهي للتحريم أو للتنزيه ؟ المشهور عند المالكية : الكراهة وعند الحنابلة التحريم، وجمهور الشافعية : التنزيه .

وقال إمام الحرمين : المذهب القطع بالكراهة .

وقال غيره بالتفصيل : فإن اعتقد فيه من التعظيم ما يعتقده في الله ، حرم وكفر بذلك الاعتقاد، وإن حلف لاعتقاد تعظيم المحلوف به على ما يليق به من التعظيم فلا يكفر (2).

أما النقاش السندي :

أحمد عن سليمان بن حيّان، عن الحسن بن عبيد الله، عن سعد بن عبيدة، سمع ابن عمر رجلاً يقول : والكعبة. فقال : لا تحلف بغير الله، فإني سمعتُ رسول الله يقول : من حلف بغير الله فقد كفر وأشرك .

ص: 202


1- 1) إرشاد الساري : 358/9 مسند أحمد 125/3 - انظر موسوعة اطراف الحديث النبوي : 239/8.
2- المصدر نفسه .

وفي السند سليمان بن حيان وهو مختلف فيه، ففي ابن معين وابن عدي: صدوق ليس بحجة، وإنما أتي من سوء حفظه.

وعن البزار - كما في مقدمة فتح الباري عمره (1)- اتفق أهل العلم بالنقل أنه لم يكن حافظاً (2).

ص: 203


1- فتح الباري 1: 405 .
2- سیر أعلام النبلاء : 30/9 .

ص: 204

الفصل الحادي عشر الاحتفالات

اشارة

1 - دعوى الوهابية ودليلهم

2 - مناقشة الدليل

3 - سيرة المسلمين

4 - الفتاوى وكلمات العلماء

5 - مناقشة دلالة الحديث

6 - مناقشة سند الحديث

7 - تفسير الحديث ومفاده

ص: 205

ص: 206

الاحتفالات

تزعم الوهابية أن من المنكرات: تكريم مولد النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) بالاحتفال وقراءة القرآن وإنشاد القصائد، والإحسان إلى المؤمنين بالإطعام.

وفيما يلي عرض آرائهم وأدلّتهم :

1 - ابن تيمية : إن اتخاذ هذا اليوم عيداً، محدثٌ لا أصل له ، فلم يكن في السلف لا من أهل البيت ولا غيرهم من اتخذ ذلك عيداً، حتى يحدث فيه أعمالاً . . . وإنّما يفعل مثل هذا : النصارى الذي يتّخذون أمثال أيام حوادث عيسى(علیه السلام) أعياداً أو اليهود، أو . . .

وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد المسيح، وإما محبّة للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم) وتعظيماً له . . . فإن هذا لم يفعله السلف، ولو كان خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف أحقَّ به مِنّا(1).

2 - وقال عبد الرحمن بن حسن آل شيخ: قد أحدث هؤلاء المشركون أعياداً عند القبور التي تعبد من دون الله، ويسمّونها عيداً كمولد البدوي بمصر وغيره، بل هي أعظم، لما يوجد فيها من الشرك والمعاصى العظيمة (2).

3 - وقال محمد حامد الفقي: والمواليد والذكريات التي ملأتْ البلاد باسم الأولياء هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم (3).

ص: 207


1- اقتضاء الصراط المستقيم : 293.
2- كشف الارتياب : 48 .
3- أنظر الملل والنحل للسبحاني : 320/4.

واستدلّوا لرأيهم :

1 - بما رواه أبو هريرة:« لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلّوا عليَّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنت»(1).

2 - وما روي عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) : نهى أن يُتخذ - القبر - عيداً .

مناقشة الفكرة:

أوّلاً: فرق بين التكريم والعبادة، وذلك لأن العنصر المقوّم للعبادة هو الاعتقاد بألوهية المعبود، أو ربوبيّته، أو كونه مفوّضاً إليه فعل الربّ، وليس في الاحتفال شيء من ذلك .

وفي التكريم : تجسيد للأصل الوارد في القرآن الكريم والروايات وهو حب النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) على وجه يكون النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) مقدماً عند الإنسان على نفسه .

أمّا في القرآن :

فقوله تعالى: ﴿قل إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتكُم وَأَمْوَالُ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتَجَرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ. فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرو والله لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَسِقِينَ﴾ (2).

وأما في الحديث : فعن النبي : لا يؤمن أحدكم أحدكم حتى أکون [ أنا وأهل بيتي] أحب إليه من نفسه(3) [وبنيه والناس جميعاً](4).

ص: 208


1- منسد أحمد : 428/3.
2- سورة التوبة، الآية : 24 .
3- الدر المنثور : 223/3 .
4- منتهی لآمال : 647/2 ، وفي البحار عن أمالي الصدوق : لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهلي أحب إليه من أهله، وعترتي أحب إليه من عترته، وذاتي أحب إليه من ذاته فقال رجل من القوم : يا أبا عبد الرحمان ما تزال تجيىء بالحديث يحيي الله به القلوب، 27 / ص 75 وص 86 مسند أحمد 207/3 - و 4 / 336 ، أنظر مصادره «موسوعة أطراف الحديث النبوي : 312/7 » .

فعلى قول حامد الفقي وغيره من الوهابيين أن يفرّقوا بين العبادة والتكريم، قبل أن يتهجّموا على من يقوم بالاحتفالات و . . .

ثانياً : إن الأصل في الأشياء هو الجواز ما لم يقم عليه منع شرعي، كما صرح ابن تيمية بهذا الأصل، حيث قال :

إنّ الأصل في العادات عدم الحظر إلا ما حظره الله (1).

وعليه : أولاً لم يرد منع شرعي عن الاحتفال، وما روي فسيأتي البحث فيه وأنّه ضعيف سنداً ودلالةّ .

ثالثاً : وإن لم يكن لإقامة الاحتفال نصّ على الجواز ولكن تُعرف مشروعيته وجوازه من خلال الأصل المسَلَّم المتخذ من الكتاب والسنة، وهو حبّ النبيّ وأهل بيته، فالمنع عنه، يُعدّ مخالفة لإظهار هذا الحبّ ويكون إظهاراً للحقد والضغن الكامن في القلب.

ثالثاً : إن ابن تيمية جعل المقياس في الحلية والحرمة فعل السلف، فهل المقياس هو فعل السلف أم الكتاب والسنّة؟

ولو سلمنا أن السلف هو المقياس، فإنّهم قد أقاموا الاحتفالات علی مر الأزمان ويشهد له نص المؤرّخين والمحدثين :

1 - قال القسطلاني : ولا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده ويعملون الولائم . . . فرحم الله امْراً اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً ليكون أشدّ علةٍ على من في قلبه مرض وإعياء داء (2).

2 - وقال الديار بكري : لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده ويعملون الولائم ويتصدقون في لياليه، بأنواع الصدقات، يظهرون

ص: 209


1- المجموع: 195/4.
2- المواهب اللدنية : 27/1 .

السرور ويزيدون في المبرّات ويعتنون بقراءة مولده الشريف، ويظهر عليهم من كراماته كلُّ فضلِ عميم (1).

فهذا هو فعل السلف وإجماع المسلمين في عصور مختلفة ومتمادية . . . و قد یرون حجّتیه الإجماع في عصر واحد ، فكيف بإجماعهم في عصور مختلفة، وهل يحق بعد ذلك أن يقول ابن تيمية : فإنّ هذا لم يفعله السلف . . . ؟ !

رابعاً: كلمات العلماء :

1 - قال ابن عباد: أما المولد، فالذي يظهر لي أنه عيد من أعياد المسلمين وموسم من مواسمهم، وكلّ ما يفعل فيه ممّا يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك ... أمرٌ مباح لا منكر (2).

2 - القسطلاني: «رحم الله امرأ اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً ليكون أشدَّ علة على من في قلبه مرض واعياء داء»(3).

3 - يقال إن ممّن سبق في إحياء الاحتفالات هو أبو سعيد الأربلي عام 630ه_ .

وربّما يقال : إنّ أوّل من أحدثه بالقاهرة: الخلفاء الفاطميون أوّلهم : المعجز لدين الله، توجّه من المغرب إلى مصر في شوّال عام 361ه_ ، وقيل في ذلك غيره(4).

تدل هذه الشواهد التاريخية على أن المسلمين احتفلوا أزماناً ليست بالقصيرة من دون معارضة صريحة ولا ضمنية من سائر المسلمين ولا من فقهائهم .

ص: 210


1- تاريخ الخميس : 323/1 .
2- المواسم والمراسم : 20 نقلاً عن القول الفصل بمولد خير الرسل : 175.
3- المواهب اللدنية : 27/1 .
4- الملل والنحل للسبحاني : 323/4 .

مناقشة الحديث «لا تجعلوا قبري عيداً»:

أولاً : إن أحمد بن حنبل نقلها بعبارة بن حنبل نقلها بعبارة أخرى وهي: عن سهيل بن أبي صالح : « . . . اللهم اللهم لا تجعل قبري وثناً»(1) .

وعليه فيحتمل الخطأ في النقل، وإن الوارد عن النبي هو « وثناً بأن يحذّرهم من اتخاذهم قبره مسجداً يسجد له أو يُجعل قبلة يتوجّه إليه في الصلاة.

ثانياً : إن العيد لغة هو الموسم وعليه فلا يصح أن يقع خبراً لقوله: «قبري» إذ لا معنى لجعل القبر عيداً، وإنّما يصحّ جعل موسم أو یوم مشخّص عيداً، فيقال مثلاً: موسوم الحج عيد، أو يوم الجمعة عيدٌ.

ثالثاً : إن الحديث على النقلين «عيداً - وثناً» ضعيف السند، إذ على النقل الأول : في سنده سهيل ابن أبي صالح وعلى النقل الثاني في سنده عبد الله بن نافع وكلاهما ممّن لا يُحتج بحديثهما :

أما سهيل بن أبي صالح:

قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به .

وقال ابن المديني : مات أخٌ لسهيل ووجد - حزن - عليه، فنسي كثيراً من الحديث .

وقال ابن معين : ضعيف.

وأما الراوي الثاني : عبد الله بن نافع .

قال البخاري: يعرف حفظه وينكر .

ص: 211


1- مسند أحمد: 246/2 .

وقال ابن حنبل : لم يكن صاحب حديث وكان ضعيفاً، ولم يكن في الحديث بذاك (1).

وقال الرازي : ليس بالحافظ هو لين تعرف حفظه وتنكر (2).

تفسير الحديث ومفاده :

1 - ويحتمل أن يكون المراد به: الحثّ على كثرةِ زيارة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) وأن لا يهمل حتى لا يزار إلاّ في بعض الأوقات كالعيد الذي لا يأتي في العام إلاّ مرّتين(3)، بمثابة العيد، وهذا هو رأي المنذري(4) .

2 - ويحتمل أن يكون المراد: لا تتخذوا وقتاً مخصوصاً لا تكون الزيارة إلاّ فيه، كما ترى أن كثيراً من المشاهد لزيارتها يوم معيّن كالعيد، وهذا هو رأي السبكي (5).

3 - ويحتمل أن يكون المراد: أن لا يجعل كالعيد في العكوف عليه واظهار الزينة والاجتماع وغير ذلك، مما يعمل في الأعياد، بل: لا بد وأن لا يؤتى إلاّ للزيارة والسلام والدعاء ثم ينصرف عنه .

وهو المتبادر من كلام الخفاجي الحنفي(6).

4 - ويحتمل أن يكون المراد: إن اجتماعهم عند قبره، ينبغي أن يكون مصحوباً بالخشوع والتأمّل والاعتبار حسبما يناسب حرمته واحترامه، فإنَّ حرمته ميتاً كحرمته حيّاً، فلا يكون ذلك مصحوباً باللهو

ص: 212


1- میزان الاعتدال : 243/2 ، انظر : تهذيب الكمال : 223/12 .
2- الجرح والتعديل : 184/5 ، شفاء السقام : 80.
3- شفاء السقام: 80 عن المنذري .
4- المصدر نفسه .
5- المصدر نفسه .
6- شرح الشفا : 566/3 .

واللعب والغفلة والمزاح ممّا اعتادوه في أعيادهم(1).

5 - قال الخفاجي الحنفي : وأما قوله(صلی الله علیه و آله و سلم) : لا تتخذوا قبري عيداً، فقيل : كره الاجتماع عنده في يوم معيّن على هيئة مخصوصة.

وقيل : المراد لا تزوروه في العام مرّة فقط بل أكثروا الزيارة له .

وأما احتماله للنهي عنها فهو بفرض أنه المراد محمول على حالة مخصوصة، أي لا تتخذوه كالعيد في العكوف عليه، واظهار الزينة عنده وغيره ممّا يُجْتَمع له في الأعياد. بل لا يؤتى إلاّ للزيارة والسلام والدعاء ثم ينصرف .

وقال أيضاً في شرح الحديث: أي كالعيد باجتماع الناس، وقد تقدّم تأويل الحديث وأنه لا حجّة فيه لما قال ابن تيمية وغيره فإن إجماع الأمّة على خلافه، يقتضي تفسيره بغير ما فهموه فإنّه نزعة شيطانية (2).

ص: 213


1- المواسم والمراسم : 71.
2- نسيم الرياض في شرح الشفا : 523/3 و 514 ،و 577 ، انظر الغدير : 119/5.

ص: 214

الفصل الثاني عشر في المآتم والمراسم

اشارة

1 - تشجيع النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) على إقامة العزاء

2 - سيرة النبي في اقامة العزاء والبكاء

3 - سيرة الصحابة

4 - سيرة المسلمين في اقامة المسيرات وضرب الطبول

5 - أدلة العامة على تحريم العزاء والبكاء

* الميت يعذب ببكاء أهله

* أُحثُ في وجوههن التراب

* عمر يضرب النواحة ويقتحم الدار

ص: 215

ص: 216

في المأتم والمراسم

لدينا نصوص وروايات من النبي الكريم، ومن الصحابة والتابعين أنهم كانوا يبكون على الموتى والشهداء . . ويفسحون المجال لاقامة المآتم والمراقي. ويشجعون على ذلك ونصوص تدل على أن عائشة كانت تلطم وجهها في مصيبة وفاة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) . ومآتم عظيمة أقيمت حداداً على مصيبة بعض الشخصيات من المحدثين وغيرهم.

وفيما يلي نصوص :

النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) يشجع على البكاء:

1 - عن أسامة بن زيد قال : ارسلت بنت النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) إن ابناً لي قبض، فأتنا، فأرسل يقرأ السلام ويقول : «إن الله له ما أخذه وله ما اعطى وكل شيء عنده بأجل مسمّى فلتصبر ولتحتسب». فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها، فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال، فرفع رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) الصبي ونفسه، تقعقع، ففاضت عيناه، فقال سعد : يا رسول الله، ما هذا؟ قال : «رحمة يجعلها في قلوب عباده، إنما يرحم من عباده الرحماء»(1).

2 - أحمد: «رجع رسول الله من أُحُد فجعلت نساء الأنصار يبكين على من قُتل من أزواجهن فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) : ولكن حمزة لا بواكي له ، قال : ثم نام فانتبه وهنَّ يبكين حمزة . قال : فهُنَّ اليوم إذا بكين

ص: 217


1- سنن النسائي : 22/4 .

يندبن حمزة» (1).

3 - وعن البلاذري :« وقال - أي النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) حينما أراد أن يخرج من بيت جعفر، بعد أن عّزى أسماء بنت عميس : على مثل جعفر فلتبك البواكي»(2).

4 - الحاكم : «خرج النبي على جنازة ومعه عمر بن الخطاب، فسمع نساء يبكين، فزبرهُنَّ عمر فقال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) يا عمر! دعهن، فإن العين دامعة والنفس مصابة والعهد قريب» (3).

ويفهم من هذا النص أن القول بحرمة البكاء على الميت سنة عمرية ولست نبوية. وأن عمر هو الذي منع عن البكاء على الميت رغم موقف النبي الكريم منه.

السيرة العملية للنبي الكريم:

يحدثنا التاريخ والسيرة عن بكاء النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) على إبراهيم وعبد المطلب وأبي طالب وحمزة الشهيد وفاطمة بنت أسد، وآمنة بنت وهب أم الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) و عثمان بن مظعون وسعد بن ربيع وو . . .

1 - بكاؤه على إبراهیم :« بکی علیه، فسئل عن ذلك فقال : تدمع العينان ويحزن القلب ولا نقول ما يُسخط الرب »(4).

2 - بكاؤه على عبد المطَّلب: قالت أم أيمن أنا رأيتُ رسول الله يمشي تحت سريره وهو يبكي(5).

ص: 218


1- الاستيعاب : 275/1 .
2- انساب الأشراف: 42 .
3- المستدرك على الصحيحين: 381/1، سنن النسائي : 19/4 ، مسند أحمد: 323/3 .
4- العقد الفريد : 19/3.
5- تذكرة الخواص : 7.

3 - بكاؤه على أبي طالب :« عن علي(علیه السلام) : اخبرتُ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) بموت أبي طالب(علیه السلام) ، فبكى ثم قال : اذهب فاغسله وكفّنه وواره غفر الله له ورحمه»(1) .

4 - بكاؤه على حمزة بن عبد المطلّب :

لما رأى النبي حمزة قتيلاً بكى فلّما رأى ما مثّل به شهق (2).

5 - بكاء النبي على فاطمة بنت أسد: صلَّى عليها وتمرغ في قبرها وبکی(3).

6 - بكاؤه على أمه آمنة :

زار النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) قبر أمه فبكى وابكى من حوله (4).

7 - بكاء النبي على عثمان بن مظعون :

إنّ النبيّ قبَّل عثمان بن مظعون - وهو ميت - وهو يبكي. . . (5) .

8 - بكاء النبي(صلی الله علیه و آله و سلم ) على سعد بن ربيع(شهید أُحدُ):

قال جابر بن عبد الله : لما قُتل سعد بن ربيع بأحد، رجع رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) إلى المدينة ثم مضى إلى حمراء الأسد. . . وكانت امرأة سعد امرأة حازمة ؛ صنعت طعاماً - خبزاً ولحماً - ثم دعت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وهي يومئذٍ بالأسواف موضع بناحية البقيع. فانصرفنا إلى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) من الصبح فبينما نحن عنده جلوس ونحن نذكر وقعة

ص: 219


1- الطبقات الكبرى : 105/1 .
2- السيرة الحلبية : 247/3 .
3- دخائر العقبى : 56 .
4- المستدرك على الصحيحين : 357/1 تاريخ المدينة 1 : 118 .
5- المستدرك على الصحيحين : 361/1 ، السنن الكبرى : 407/3 .

أُحُد، ومن قُتل من المسلمين ونذكر سعد بن ربیع، قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) : قوموا بنا، فقمنا معه ونحن عشرون رجلاً حتى انتهينا إلى الأسواف، فدخل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) ودخلنا معه، فنجدها قد رشَّت ما بين صوَرَين وطرحت خصفة، قال جابر : والله ماثمَّ وسادة ولا بساط . فجلسنا ورسول الله يحدثنا عن سعد بن ربيع، يترحم عليه ويقول: «لقد رأيتُ الأسنُة شرعت إليه يومئذٍ حتى قتل» .

فلما سمع ذلک، النسوة، بکین فدمعت عینا رسول الله، و ما نهاهن عن شیء(1).

سيرة الصحابة والتابعين:

1 - بكاء عائشة : عن عباد، قال : سمعتُ عائشة تقول : مات رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) ثم وضعتُ رأسه على وسادة وقُمتُ ألتدِم- أي اضرب صدري - مع النساء واضرب وجهي(2).

2 - بكاء ابن مسعود: فوقف ابن مسعود على قبره - أي قبر عمر - يبكي ويطرح رداءه (3).

3 - بكاء عبد الله بن رواحة: قال ابن هشام: قال عبد الله بن رواحة يبكي حمزة بن عبد المطلب(4).

4 - بكاء عمر بن الخطّاب : عن عثمان: أتيتُ عمر بنعي النعمان بن مقرن، فجعل يده على رأسه وجعل يبكي.

ص: 220


1- المستدرك على الصحيحين : 261/1 ، السنن الكبرى : 407/3 .
2- السيرة النبوية : 305/4 .
3- العقد الفريد : 195/3.
4- السيرة النبوية : 171/3.

5 - بكاء نساء بني سفيان :

عن الحسن البصري: «قُتل مع الحسين ستة عشر من أهل بيته . . . وحَمَل أهل الشام بنات رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) سبايا على أحقاب الأبل، فلما ادخلنا على يزيد، قالت فاطمة بنت الحسين يا يزيد أبنات رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) سبايا ! ! قال : بل حرائر كرام، أدخلي على بنات عمّك تجديهن قد فعلن ما فعلتِ، قالت فاطمة : فدخلت إليهن فما وجدت فيهن سفيانية إلاّ مُلتدمة(1) تبكي(2).

6 - بكاء أهل مكة على رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) :

عن سعيد بن المسيب قال : لما قبض النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) ارتجت مكة بصوتٍ، قال: فسمع ذلك أبو قحافة فقال: ما هذا؟ قالوا: قبض رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، قال : إنا لله وإنا إليه راجعون (3).

7- بكاء المدينة على الحسين (علیه السلام) :

الطبري: «لما قَتَل عبيد الله بن زياد الحسين بن علي وجيء برأسه إليه دعا عبد الملك بن أبي الحارث السلمي فقال : انطلق حتى تقدم المدينة على عمر بن سعيد فبشرهُ بقتل الحسين - وكان عمرو أمير المدینة- . . . قال عبد الملك فقدمتُ المدينة، فلقيني رجل من قريش . فقال: ما الخبر؟ فقلت: الخبر عند الأمير، فقال إنا لله وإنا إليه

راجعون! قُتِلَ الحسين بن علي.

فدخلتُ على عمرو بن سعيد، فقال: ما وراءك، فقلت: ما سرَّ الأمير، قُتِل الحسين بن علي، فقال : نادِ بقتله،فناديت بقتله، فلم

ص: 221


1- التدمت المرأة : ضربت صدرها في النياحة .
2- العقد الفريد : 383/4.
3- أخبار مكة للفاكهي : 80/3 .

أسمع والله واعية قط مثل واعية نساء بني هاشم في دورهن، على الحسين . . . (1) .

ولمّا أتى أهل المدينة مقتلُ الحسين، خرجت ابنة عقيل بن أبي طالب ومعها نساؤها، وهي حاسرة تلوي بثوبها وهي تقول:

ماذا تقولون إن قال النبي لكم*** ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم*** بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي*** منهم أسارى ومنهم ضرّجوا بدم

إقامة المسيرات العزائية، وضرب الطبول:

1 - ضرب الطبول في عزاء : عبد المؤمن ، ت 346ه_ :

عن النسفي : شهدتُ جنازة الشيخ أبي يعلى - أي عبد المؤمن بن خلف - بالمصلَّى، فغشيتنا أصوات طبُوُل مثل ما يكون من العساكر حتّى ظَنَّ جَمْعُنَا أنَّ جيشاً قد قَدِم . . . فلما اجتمع الناس وقاموا للصلاة، هدأَ الصوت كأن لم يكن(2).

التعريف بعبد المؤمن:

قالوا فيه: الإمام الحافظ القدوة . . . وكان وكان من الفقهاء القائلين بالظاهر بقعة محمد بن داود بغداد، وكان منافراً لأهل القياس، ثرياً متبعاً ناسكاً كثير العلم . . . (3) .

3 - نياحة عام على الجويني، ت478ه_ :

قال الذهبي: توفي - أي الجويني - في الخامس والعشرين من

ص: 222


1- تاريخ الطبري: 342/3 .
2- سير أعلام النبلاء : 15 / 480 - ابن عساکر : 272/10 تذكرة الحفاظ : 866/3 ، العبر: 272/2 مرآة الجنان : 340/2 ، طبقات الحفاظ : 354 ، شذرات الذهب : 373 .
3- المصدر نفسه .

ربیع الآخر ودفن في داره ثم نقل بعد سنين إلى مقبرة الحسين - فدفن بجنب والده. وكسروا منبره وغلقت الأسواق ورُثي بقصائد وكان له نحو من أربعمائة تلميذ، كسروا محابرهم وأقلامهم، وأقاموا حَولاً، ووُضعت المناديل عن الرؤوس عاماً. بحيث ما اجترأ أحدٌ على ستر رأسه. وكان الطلبة يطوفون في البلد نائحين عليه مبالغين في الصياح والجزع . . . (1) .

أقول: غاية ما علق الذهبي على هذا الحداد من غلق الأسواق والرثاء بالقصائد ووضع المناديل عن الرؤوس عاماً، واقامة المسيرة العزائية من قَبِل تلامذته نائحين رافعين أصواتهم» . . هو أن: هذا كان من زي الأعاجم لا من فعل العلماء المتبعيَّن.

ولكن - الذهبي - عندما يتعرض لبدء اقامة المآتم على الحسين(علیه السلام) عام 352 ه_ أيام معز الدولة في بغداد حيث يقول : غلقوا الأسواق ونصبوا القباب فيها وعلقّوا عليها المسوح وخرجوا في الشوارع يلطمون ويقيمون المأتم على الحسين . . . تراه يقول وبكل وقاحة وصلافة : اللهم ثبّت علينا عقولنا(2).

هذا موقفه من المآتم على الحسين سيد شباب أهل الجنة وقد سكت عنه علماء العامة. بينما تراهم لم يسكتوا عن موقفه تجاه النياحة والمأتم على الجويني. ورميه تلامذته بأنهم : اعاجم وليسوا بعلماء متبعين .

فتصدى له السُبكي قائلاً: وقد حار هذا الرجل - الذهبي - ما الذي يؤذى به هذا الإمام، وهذا لم يفعله الإمام ولا أوصى به أن يفعل حتى يكون غضاً منه وإنما حكاه الحاكون إظهاراً لعظمة الإمام عند أهل عصره

ص: 223


1- سير أعلام النبلاء : 468/18 ، المنتظم 20/9 ، ذیل تاریخ بغداد 93 - طبقات الأسنوي : 1 411 - تبيين كذب المفتري 284 ، وفيات الأعيان: 149/3 .
2- العبر : 89/3 ، تاريخ الإسلام حوداث عام 351 ص 11.

وأنه حصل لأهل العلم على كثرتهم، فقد كانوا نحو أربعمائة تلميذ، ما لم يتمالكوا معه الصبر، بل أذاهم إلى هذا الفعل، ولا يخفى أنه لو لم تكن المصيبة عندهم بالغة أقصى الغايات لما وقعوا في ذلك .

وفي هذا أوضح دلالة لمن وفّقه الله على حال هذا الإمام - يعني به الجويني - وكيف كان شأنُهُ فيما بين أهل العلم في ذلك العصر المشحون بالعلماء والزهاد . . (1).

3 - شهر واحد حداد على إبن الجوزي ت 597ه_

قال الذهبي : توفي - أي ابن الجوزي - ليلة الجمعة بين العشاءين الثالث عشرين رمضان سنة 597ه_ . . . وغلقت الأسواق، وجاء الخلق، وضاق بالناس وكان يوماً مشهوداً . . . وافطر خلق ورموا نفوسهم في الماء . . . وما وصل إلى حفرته من الكفن إلاّ قليل . . . وانزل في الحفرة والمؤذن يقول الله أكبر، وحزن عليه الخلق وباتوا عند قبره طول شهر رمضان يختمون الختمات، بالشَمع والقناديل . . . وأصبحنا يوم السبت عملنا العزاء وتكلمت فيه، وحَضَر خلقٌ عظيم وعملت فيه المراثي . . .(2)

والجدير بالذكر دعواهم أن السماء بكت على ابن عساكر وابن عبد العزيز، وتراهم يتناقلون هذه الأقاويل بدون أي تعليق واعتراض ،ورد بينما يتحفظون في نقل النصوص الواردة في بكاء السماء على الحسين بن علي سيد شباب أهل الجنة .

1 - بكاء السماء على ابن عساکر!! ، ت571:

قال ولده: وكان الغيث قد احتبس في هذه السنة، فدرَّ وسحَّ عند

ص: 224


1- طبقات الشافعية : 184/5.
2- سير أعلام النبلاء : 379/18.

ارتفاع نعشه، فكأنَّ السماء بكت عليه بدمع وابلة واطشة(1).

3 - بكاء السماء على عمر بن عبد العزيز !!

عن خالد الربعي قال : مكتوب في التوراة : إن السماء والأرض لتبكي على عمر بن عبد العزيز أربعين صباحاً (2).

سبط بن الجوزي يقيم عزاء الحسين (علیه السلام) :

قال ابن كثير : وقد سئِل في يوم عاشوراء زمن الملك الناصر صاحب حلب أن يذكر للناس شيئاً من مقتل الحسين، فصعد المنبر، وجلس طويلاً لا يتكلم ، ثم وضع المنديل على وجهه وبكى شديداً، ثم أنشأ يقول وهو يبكي :

ويل لمن شفعاءه خصماؤه*** والصور في نشر الخلائق ينفخ*** لا بد أن ترد القيامة فاطمٌ ***وقميصها بدم الحسين ملطّخ

ثم نزل من المنبر وهو يبكي وصعد إلى الصالحية وهو کذلك - أي یبکي - رحمه الله(3).

والمتحصل من هذه النصوص والشواهد التاريخية أن اقامة المآتم والمراسم وقراءة المراثي، والطواف بالبلد في حال النوح والبكاء وقراءة الاشعار والصياح. . . والجزع واللطم على الوجه والصدر وضرب

ص: 225


1- معجم الأدباء : 75/13 .
2- الروض الفائق : 255 - الغدير : 120/11 .
3- البداية والنهاية : 207/13. بل يحدثنا التاريخ أن بعض المحدثين جمع أصحابه وبكوا عليه قبل وفاته كما حدث للفراوي (ت 530ه_) . يقول ابن السمعاني : وأذكر أنا خرجنا في رمضان سنة ثلاثين، وحملنا محفنة على رقابنا إلى قبر مسلم بن الحجاج بنصر اباذ، لإتمام «الصحيح» عند قبر المصنف، فبعد أن فرغ القارىء من قراءة الكتاب. بكى ودعا، وأبكى الحاضرين وقال : لعل هذا الكتاب لا يُقرأ علي بعد هذا . . . طبقات الشافعية : 169/6 .

الطبول وغلق الأسواق . . . وإلى ما شاكل ذلك من مظاهر الحزن والعزاء كان امراً متداولاً بين المسلمين ولم يتجرأ أحدٌ أن يتهمهم بعدم العقل . ولا بالبدعة وارتكاب الحرام. ولكن لا ندري لماذا عندما يصل الأمر إلى اقامة المأتم والعزاء على شهيد كربلاء . قتيل الزنادقة واجلاف بني أمية، أعني سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي. ترى أذناب ابن تيمية لم يتحملوا ذلك، ولم يضبطوا أنفسهم فتراهم يعارضون ذلك بلغة عامية جلفة، ولم يتورعوا فيما يصدر من أفواههم . . . كأنهم يبادرون في نصرة الظلمة من بني من بني أمية . . . حشرهم الله معهم. . .

أدلة العامة على تحريم البكاء على الميت:

الدليل الأول : أحاديث الميت يعذب ببكاء أهله عليه، وهي منقولة عن عمر، وابنه وغيرهما، بما حاصله: الميت يعذب في قبره بما نيح عليه، أو أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه، أو أن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه (1).

ولكن يبدو من بعض النصوص أن الراوي اخطأ في النقل أو نسي النص - على ما صرحت بذلك عائشة- .

قال ابن عباس: لما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة فقالت : رحم الله عمر والله ما حدّث رسول الله، إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه ولكن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) قال : «إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله»، وقالت - عائشة - حسبكم القرآن ولا تزر وازرة وزر أخرى. فما قال ابن عمر شيئاً (2).

ص: 226


1- (1) البخاري، كتاب الجنائز، صحيح مسلم، الجنائز، جامع الأصول 99/11 ، الرقم 857 - السيرة الحلبية : 310/3 سنن ابن ماجة : 506/1 برقم 1589 .
2- المجموع : 308/5.

وعن عائشة : إنها قيل لها إن ابن عمر يقول : الميت يعذب ببكاء الحي، فقالت : يغفر الله لأبي عبد الرحمن أما أنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مرَّ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) على يهودية يُبكى عليها، فقال : إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها.

ما قيل في توجيه الروايات :

1 - معنى الأحاديث أنهم كانوا ينوحون على الميت ويندبونه بتعديد شمائله ومحاسنه في زعمهم وتلك الشمائل قبائح في الشرع فيعذب بها كما كانوا يقولون: يا مرمّلَ النسوان ومؤّتم الولدان مخرّب العمران ومفرّق الأخدان ونحو ذلك مما يرونه شجاعة وفخراً وهو حرام شرعاً.

2 - وعن طائفة معناه : أنه يعذب بسماعه بكاء أهله ويرقّ لهم وإلى هذا ذهب ابن جرير وغيره قال القاضي وهو أولى الأقوال.

3 - وعن عائشة : إن معنى الحديث أن الكافر وغيره من أصحاب الذنوب يعذب في حال بكاء أهله عليه بذنبه لا ببكائهم(1).

4 - ما أورده في البحار: إن الباء بمعنى «مع» أي يعذب مع بكاء أهله عليه يعني الميت يعذب بأعماله وهم يبكون عليه (2).

الدليل الثاني : ما رواه الهندي عن عائشة : لما جاء نعي جعفر بن

أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة جلس رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) يعرف في وجهه الحزن وأنا أطلع من شق الباب، فأتاه رجل، فقال : يا رسول الله : إنّ نساء جعفر فذكر من بكائهن، قال: فارجع إليهن

ص: 227


1- المجموع للنووي : 308/5 .
2- بحار الأنوار : 109/79.

فأسكتهن، فإن أبين فاحثُ في وجوههن التراب(1) وفيه : أولاً: معارض بما ورد عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) من البكاء على الميت وترغيبه الناس في البكاء على حمزه، وجعفر . . . وأنه قال لعمر لما زبر نساء يبكين الميت، قال: «دعهن، فإن العين دامعة والنفس مصابة والعهد قريب» (2).

ثانياً : في السند محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار وهو مختلف فيه: فعن ابن نمير: إنه يحدّث عن المجهولين أحاديث باطلة. وعن أحمد: يشتهي الحديث فيأخذ كتب الناس فيضعها في كتبه وعنه أيضاً : كان ابن إسحاق يُدّلس. وعن أبي عبد الله : كان لا يبالي عن من يحكي وعنه أيضاً : ليس بحجة .

وعن أحمد: لم يكن يحتج به في السنن، وعن يحيى بن معين، ليس بذاك، ضعيف، وعنه أيضاً : سقيم ليس بالقوي. وعن النسائي : ليس بالقوي (3).

الدليل الثالث : فعل عمر وضربه النواحة :

عن نضر بن أبي عاصم : إن عمر سمع نواحة بالمدينة ليلاً فأتى عليها فدخل ففرق النساء فأدرك النائحة فجعل يضربها بالدرّة فوقع خمارها فقالوا: شعرها يا أمير المؤمنين، فقال : أجل، فلا حرمة لها . . . (4) .

وفيه أولاً: ضعيف السند بجماعة منهم إبراهيم بن محمد بن أبي

ص: 228


1- كنز العمال: 732/15 ، مصنف ابن أبي شيبة : 265/3.
2- سنن النسائي : 19/4 ، مسند :أحمد 333/3 المستدرك على الصحيحين : 381/1 .
3- تهذيب الكمال 16 / 80 - 70 .
4- كنز العمال : 731/15 المصنف لعبد الرزاق : 557/3 الرقم 6682 وفيه : نصر بن عاصم .

يحيى، قال یحیی بن سعيد القطان سألت مالكاً عنه : أكان ثقة؟ قال : لا، ولا ثقة في دينه وقال أحمد : كل بلاءِ فيه .

وقال أيضاً لا يكتب حديثه، ترك الناس حديثه كان يروي أحاديث مُنكرة، لا أصل لها. وكان يأخذ أحاديث الناس يضعها في كتبه .

وقال بشر بن المفضل : سألت فقهاء أهل المدينة عنه، فکلّهم يقولون : كذاب أو نحو هذا .

وقال يحيى بن سعيد: كذاب وقال ابن معين : ليس بثقة وقال النسائي، ليس بثقة ولا يكتب حديثه. . . (1) .

ثانياً : من المستبعد- جداً - هجوم عمر واقتحامه داراً فيها النساء (2)- غير المحرم - ثم كشفه عن حجاب امرأة بحيث يبدو شعرها ثم قوله : إنها لا حرمة لها، أي أنها غير مسلمة. وخارجة عن الإسلام!!!

ثالثاً : على فرض ثبوت هذا الأمر من عمر. فهل فعله حجة؟؟ طالما لم يدَّع هو العصمة، ولا ادعى أحد العصمة في عمر بن الخطاب .

كما عدّ الغزالي حجية قول عمر وأبي بكر من الأصول الموهومة . فقال : الأصل الثاني من الأصول الموهومة: قول الصحابي وقد ذهب قوم إلى أنَّ مذهب الصحابي حجة مطلقاً، وقوم إلى أنه الحجة إن خالف القياس. وقوم إلى أن الحجة في قول أبي بكر وعمر خاصة لقوله(صلی الله علیه و آله و سلم) اقتدوا باللذين بعدي(3) وقوم إلى أن الحجة في قول الخلفاء

ص: 229


1- تهذيب الكمال : 420/1 .
2- وتكراره ما صدر منه من اقتحام بيت الوحي وهجومه دار فاطمة الزهراء سلام الله عليها .
3- وقد اجبنا عن هذا الحديث المنسوب إلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) من كتابنا دراسات فقهية في مسائل خلاقية فقهية ص 130 .

الراشدين إذا اتفقوا. والكل باطل عندنا فإنَّ من يحوز عليه الغلط والسهو، ولم تثبت عصمتُه عنه فلا حجة في قوله، فكيف يحتج بقولهم مع جواز الخطأ؟ (1)

رابعاً: مما يؤكد على أن موقف الخليفة لا يعكس سنة الرسول وفعله(صلی الله علیه و آله و سلم) هو قول النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) له في حديث آخر: «يا عمر دعهن »(2) وقول عائشة : رحم الله عمر : إنه نسي أو اخطأ(3) ونكتفي بهذا المقدار من المناقشات - وفيها كفاية لمن له اذن صاغية. ونترك التفصيل إلى مجال آخر إن شاء الله تعالى .

ص: 230


1- المستصفى : 1/ 260 - دراسات فقهية في مسائل خلافية : 138.
2- مسند أحمد: 323/3 .
3- المجموع للنووي : 308/5.

الخاتمة :لائحة: بأسماء كتب في رد الوهابيّة:

ألَف العلماء في الرد على الوهابية عشرات الكتب، والجدير بالذكر هو أن المؤلّفين لم يكونوا من الإمامية فحسب، بل من كافّة المذاهب الإسلامية بمن فيهم : الحنابلة(1) .

وفيما يلي لائحة بأسماء بعض تلك الكتب؛ على الترتيب الهجائي :

1 - ابن تيمية حياته وعقائده، صائب عبد الحميد، معاصر.

2 - الآيات الجليلة للشيخ مرتضى كاشف الغطاء، ت 1931ه_ .

3 - إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، لأحمد بن أبي الضيّاف .

4 - الأجوبة النجدية عن الأسئلة النجدية، لأبي العون السفاريني الحنبلي، ت 1188ه_ .

5 - الأجوبة النعمانية عن الأسئلة الهندية، خير الدين الألوسي 1317ه_ .

6 - الآيات البيّنات في قمع البدع والضلالات. فيها نقض فتاوى الوهابية للشيخ محمد حسين كاشف الغطاء 1373ه_ .

7 - الوهابية في الميزان، للشيخ جعفر السبحاني، معاصر .

8 - الأرض والتربة الحسينية، للشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، 1371ه_.

ص: 231


1- بلغ عدد الردود من علماء السنّة أكثر من أربعين كتاباً، أنظر: بحوث في الملل والنحل :354/4 .

9 - إزاحة الغي في الرد على عبد الحي للسيد علي بن الحسن العسكري 1240ه_ . ردّاً على الصراط المستقيم لعبد الحي حول منع إقامة العزاء.

10 - إزاحة الوسوسة، عن تقبيل الأعتاب المقدّسة، للشيخ عبد الله المامقاني، ت 1351ه_ .

11 - إزهاق الباطل، للميرزا محمد بن عبدالوهاب الكاظمي، ت 1303ه_ .

12 - الإسلام السعودي الممسوخ، للسيد طالب الخرسان. معاصر .

13 - الأصول الأربعة في ترديد الوهابية، محمد حسن جان السرهندي، ت 1346ه_ .

14 - إظهار العقوق، ممّن منع التوسّل بالنبي والولي الصدوق .

15 - اعتراضات على ابن تيمية، أحمد بن إبراهيم الحنفي (1).

16 - الأقوال المرضية في الرد على الوهابية. عطاء الكسم الدمشقي(2) .

17 -إكمال السنّة في نقض منهاج السنّة، لسيد مهدي القزويني 1358ه_ .

18 - کمال المنة في نقض منهاج السنّة ، سراج الدين حسن بن عيسى اليماني، ت 1353ه_ .

19 - الإمامة الكبرى والخلافة العظمى في ردّ منهاج ابن تيمية، للسيد حسن القزويني، ت 1380ه_ .

2 - الانتصار للأولياء الأبرار، للشيخ طاهر سنبل الحنفي، ت 250 ه_ .

21 - الإنصاف والانتصاف لأهل الحق من الإسراف، ت 757ه_ .

22 - إهداء الحقير معنى حديث الغدير إلى أخيه البارع البصير، للسيد مرتضى الخسروشاهي، ت1353ه_.

23 - الأوراق البغدادية في الجوابات النجدية، إبراهيم البغدادي، ت1354ه_.

24 - بحوث مع أهل السنة والسلفية. سيد مهدي الروحاني. معاصر.

ص: 232


1- معجم المؤلفين : 140/1 و 293/10.
2- المصدر نفسه.

25_برأت الشيعة من مفتريات الوهابية. محمد أحمد حامد السوداني.

26 - البراءة من الاختلاف، علي زين العابدين السوداني.

27 - البراهين الساطعة. للشيخ سلامة العزامي، ت1379ه_ .

28 - البصائر لمنكري التوسل بأهل المقابر. حمد الله الداجوي1975.

29 - المقالات السنية في رد ضلالات ابن تيمية، للشيخ عبد الله الهرري.

معاصر .

30 - تاريخ الوهابية . أيوب صبري باشا، صاحب مرآة الحرمين(1).

هذا والحمد لله وله المنّة، على أن وفّقني لانجاز هذا الجهد المتواضع خلال القائه بعنوان دروس ومحاضرات في حوزة الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) وحوزة الزهراء(سلام الله علیها) في بيروت، وقبل سبع سنوات وبشكل مختصر في جامعة الزهراء (سلام الله علیها) بقم المقدّسة. ثم جمعه وتنقيحه وتهذيبه بعنوان تأليف متواضع، خدمة بسيطة لأهل بيت النبي(علیهم السلام) . نسأل الله عزّ وجلّ القبول. والله من وراء القصد.

ص: 233


1- أنظر مجلة تراثنا العدد الرابع شوال/ 1409 ، فقد ورد فيها أكثر من مائتي عنوان كتاب في الرد على الوهابية.

ص: 234

الفهرس

المقدمة...5

المدخل...9

الفصل الأوّل: الشفاعة...13

معنى الشفاعة: ...15

مورد الشفاعة: ...15

دور الشفيع: ...16

الشفعاء: ...17

تقرير آخر للجواب: ...20

شفاعة الملائكة: ...21

شفاعة الحجر الأسود: ...22

شفاعة الأموات: ...22

حياة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بعد الموت: ...23

رأي العلماء في الحياة بعد الموت: ...25

استفهام : ...28

رأي السُبكي في بقاء الروح: ...32

ص: 235

من الروايات في الشفاعة: ...34

طلب الشفاعة في سيرة الصحابة: ...34

الفصل الثاني: التبرّك بالقبور : ...37

رأي فقهاء السنّة في التبرّك والتمسّح: ...42

رواية في تقبيل القبر: ...45

التبرّك بالآثار: ...45

فتوى الفقهاء في ذلك: ...47

التبرّك بتراب القبر وتراب المدينة: ...48

أحاديث في الاستشفاء بتراب المدينة: ...49

سيرة ابن عمر: ...54

سيرة محمد بن المكندر: ...55

سيرة المأمون: ...56

التبرك بحجرٍ من المروة: ...57

قبور وجنائز يتبرّك بها: ...58

الفصل الثالث: الاستغاثة وطلب الحوائج: ...63

كلام السمهودي الشافعي: ...67

الاستغاثة بالميّت: ...69

المعنى الاصطلاحي: ...70

الاستغاثة بالأنبياء استغاثة بالأحياء : ...71

استغاثة الضرير بقبر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بأمر من عثمان بن حنيف: ...73

السلفي يعلّق: ...74

ص: 236

الاستغاثة بالقبور: ...74

نماذج من الاستغاثة بالقبور: ...79

كلام الإمام القيرواني المالكي المتوفى 737 ه_ في التوسل بالقبور: ...81

من قصص الاستغاثة: ...85

1 - قصّة والد ابن المنكدر: ...86

2 - النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) يأمر بالطعام إلى الطبراني: ...86

3 - النصف الآخر من الرغيف في اليد: ...87

4 - الدراهم المباركة: ...87

5 - شربة رويّة من قدح لبن: ...87

6 - ثلاثة أمداد من التمر الطيّب: ...88

7 - الثريد أمنية جائع على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): ...88

8- أمنية أخرى لجائع آخر: ...89

السمهودي يروي قصّه عن نفسه: ...90

طلب محب الدين الطبري: ...91

الفصل الرابع: زيارة القبور: ...93

مناقشة المدعى: ...95

المناقشة في حديث شدّ الرحال: ...102

موقف العلماء من مزاعم ابن تيمية: ...105

زيارة القبور والمشاهد: ...109

الأحاديث في زيارة القبور : ...109

فعل الصحابة والتابعين : ...111

ص: 237

القبور المقصودة بالزيارة: ...113

رأي فقهاء السنّة: ...119

زيارة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) قبر أمّه: ...120

الفصل الخامس: زيارة النساء للقبور: ...125

هل يجوز للنساء زيارة القبور؟: ...127

مناقشة الحديث المروي: ...128

كلام القسطلاني ذيل رواية أنس: ...130

بحث في السند: ...132

الفصل السادس: الصلاة والدعاء عند القبور: ...135

الصلاة والدعاء عند قبر النبي وسائر القبور: ...137

تصريحات مخالفة لرأي الوهابية: ...143

استقبال القبلة أم القبر الشريف حين الدعاء: ...144

معنى حديث النهي عن إتخاذ القبور مساجد: ...147

فتوى الفقهاء، حول الصلاة في المقبرة: ...150

الفصل السابع: بناء القبور وعقد القباب: ...153

بناء القبور البناء عليها وتجصيصها وعقد القباب فوقها: ...155

مناقشة الفكرة: ...156

ثالثاً: سيرة الصحابة وعموم المسلمين: ...161

تجديد بناء القبر على عهد الصحابة والتابعين: ...163

ثانياً: قبور الصحابة وغيرهم: ...164

تتميم: ردّ الاستدلال بحديث أبي الزبير: ...168

ص: 238

المناقشة في السند: ...169

الآراء حوله: ...169

أما الراوي الثاني: أبو الزبير: ...170

الفصل الثامن: الإسراج على القبور: ...177

مناقشة الحديث: ...181

الفصل التاسع: النذر: ...183

النذر لغير الله: ...185

مناقشة الفكرة: ...185

الروايات والنذر: ...186

هل المشابهة توجب التكفير: ...187

سيرة المسلمين في النذور: ...188

آراء العلماء في النذر: ...192

الفصل العاشر: الحلف بغير الله: ...195

مناقشة الفكرة: ...197

محاولات ابن عبد البر: ... 199

تقرير الصحابة وفعلهم : ...200

مسروق يحلف بقبر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم): ...201

مناقشة حديث عبد الله بن عمر: ...202

الفصل الحادي عشر: الاحتفالات: ...205

مناقشة الفكرة: ... 208

مناقشة الحديث «لا تجعلوا قبري عيداً»: ...211

ص: 239

تفسير الحديث ومفاده: ...212

الفصل الثاني عشر: في المآتم والمراسم: ...215

النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) يشجع على البكاء: ...217

السيرة العملية للنبي الكريم: ...218

سيرة الصحابة والتابعين: ...220

إقامة المسيرات العزائية، وضرب الطبول: ...222

التعريف بعبد المؤمن: ...222

أدلة العامة على تحريم البكاء على الميت: ...226

الخاتمة : لائحة: بأسماء كتب في رد الوهابيّة: ...231

ص: 240

أخي القارىء :

من الواجب على كل المسلمين القيام بدورهم في مواجهة هذه التيارات وتفنيد مبانيها، وإظهار خطأ معتقداتها وفضح شذوذها وبعدها عن الإسلام.

وهذا الكتاب اكتفينا بالمواضيع التي تثيرها بعض التيارت كمسألة زيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وشد الرحال والقصد إليه وزيارة القبور والتبرك والتمسّح بها، وبالآثار والصلاة والدعاء عند القبور، وفي المشاهد، والإسراج عندها، والنذر ومسألة الشفاعة والحلف بغير الله، وإقامة الاحتفالات وغيرها.

من أجل توجيه الجيل الجديد من شبابنا المسلم على حقيقة هذه الدعوة الباطلة وتحذيره مما يجري بإسم الدين، وتوجيهه للقيام بمسؤوليته في القضاء على مثل هذه الأفكار.

المؤلف

دار الولاء للطباعة والنشر والتوزيع

لبنان - بيروت - حارة حريك شارع دكاش - سنتر فضل الله

تلفاكس: 021/545133-689496 ص.ب : 25/327

E-mail: daralwalaa@yahoo.com

ص: 241

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.