دروس منهجیة في شرح عقائد الإمامية

هوية الکتاب

دروس منهجية

في شرح عقائد الإمامية

للشيخ محمد رضا المظفر(رحمه الله علیه)

1322 - 1383 ه-

/1904 / 1964م

الجزء الأول

الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي

ص: 1

المجلد 1

اشارة

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

الإهداء

إلى حواريي أهل البيت(علیهم السّلام)...

ومن حملوا على عاتقهم مشعل الهداية...

إلى من رسموا أبهى صورةٍ وأروعَ لوحةٍ للتشيع...

ومن حفظوا أحاديث أهل البيت(علیهم السّلام) ونقلوها لنا...

إلى من لولاهم، لما بقي من الدين ما يروي الظمآن ويسدّ نهمه المعرفي...

إليكم...

إلى كل من مشى على طريق أهل البيت(علیهم السّلام)

من أصحابهم، ووكلائهم، وسفرائهم...

إليكم يا سفراء الغائب الأربعة...

إلى كل عالم من علماء المذهب، نهل من منبع علم العترة الطاهرة

وأدى ما عليه من أمانة...

إليكم...

وإلى روح الشيخ محمد رضا المظفر...

وأرجو من الله تعالى القبول...

ص: 5

ص: 6

مقدمة المعهد

معهد تراث الأنبياء، مؤسَّسة علمية حوزوية تُدِّرس المناهج الدِّينية المعَدَّة لطُلّاب الحوزة العلمية في النجف الأشرف.

الدراسة فيه عن طريق الانترنيت وليست مباشرة.

يساهم المعهد في نش-ر وترويج المعارف الإسلاميَّة وعلوم آل البيت(علیهم السّلام) ووصولها إلىٰ أوسع شريحة ممكنة من المجتمع، وذلك من خلال توفير المواقع والتطبيقات الإلكترونية التي يقوم بإنتاجها كادر متخصِّص من المبرمجين والمصمِّمين في مجال برمجة وتصميم المواقع الإلكترونية والتطبيقات علىٰ أجهزة الحاسوب والهواتف الذكيَّة.

وبالنظر للحاجة الفعلية في مجال التبليغ الإسلامي النسوي فقد أخذ المعهد علىٰ عاتقه تأسيس جامعة متخصِّصة في هذا المجال، فتمَّ إنشاء جامعة أُمِّ البنين(سلام الله علیها) الإلكترونية لتلبية حاجة المجتمع وملء الفراغ في الساحة الإسلاميَّة لإعداد مبلِّغات رساليّات قادرات علىٰ إيصال الخطاب الإسلامي بطريقة علمية بعيدة عن الارتجال في العمل التبليغي، بالإضافة إلى فتح التخصصات العقائدية والفقهية والقرآنية.

على أنَّ المعهد لم يُهمِل الجانب الإعلامي، فبادر إلىٰ إنشاء مركز القمر للإعلام الرقمي، الذي يعمل علىٰ تقوية المحتوىٰ الإيجابي علىٰ شبكة الانترنيت ووسائل الإعلام الاجتماعي، حيث يكون هذا المحتوى موجَّهاً لإيصال فكر أهل البيت(علیهم السّلام) وتوجيهات المرجعية الدِّينية العليا إلىٰ نطاق واسع من الشرائح المجتمعية المختلفة وبأحدث تقنيات

ص: 7

الإنتاج الرقمي وبأساليب خطابية تناسب المتلقّي العصري.

والمعهد يقوم بطباعة ونشر الإنتاج الفكري والعلمي لطلبة العلم، ضمن سلسلة من الإصدارات في مختلف العناوين العقائدية والفقهية والأخلاقية، التي تهدف إلىٰ ترسيخ العقيدة والفكر والأخلاق، بأُسلوب بعيد عن التعقيد، يستقي معلوماته من مدرسة أهل البيت(علیهم السّلام) الموروثة.

ومن ضمن ما يهدف المعهد إلى طباعته، هي المناهج المعدّة لطلبته (سواء في المعهد أو في جامعة أم البنين(سلام الله علیها)، وهذا الكتاب هو أحد دروس مرحلة المقدمات في معهدنا، حيث عمل فيه المؤلف على شرح كلمات الشيخ المجدد محمد رضا المظفر(قدس سره) في كتابه (عقائد الإمامية) وتفصيلها، وذكر البحوث التي أجملها الشيخ(رحمه الله علیه) في كتابه.

نسأل الله(رحمه الله علیه) أن يجعل عملنا في عينه، وأن يتقبَّله بقبوله الحسن، إنَّه سميع مجيب.

إدارة المعهد

ص: 8

المقدمة

كل من يطالع في تاريخ شيعة أهل البيت(علیهم السّلام) يرى بوضوح أن الظروف التي مرت بهم -مذ أول يوم عُرفوا فيه بتشيعهم لأهل البيت(علیهم السّلام)- هي ظروف حالكة السواد، صعبة المزاج، شديدة العراك، حتى أنه مر زمن على الناس، أن يُقال في أحدهم: زنديق، خيرٌ له وأرحم من أن يُقال فيه: رافضي.

تلك الظروف توزعت على جميع مجالات حياة الشيعة، سواء الاقتصادية منها أو السياسية أو الثقافية وغيرها، والمنصف يحكم أن تلك الظروف والصعوبات لو مرّت بأي مذهب أو حركة أخرى، لذابت، وانتهت، وانقرض أتباعها، ولربما ينساهم حتى التاريخ، ولو بقي منها أو من أتباعها شيء، فلربما بقي خالٍ من الثوابت، بعيداً عن المفاصل المحورية فيه.

أما مذهب أهل البيت(علیهم السّلام) فقد فرض نفسه بقوة الواقع كمذهب إسلامي له أصوله وثوابته وركائزه ومفاصله الحيوية، بل استطاع أن يطور من مناهجه وأن ينشر شعاراته وشعائره، وأن يثبت بوجه الرياح العاتية كجبلٍ أشم، تنثلم أعتى المعاول قبل أن تستقلّ منه شيئاً أو تغير من ثوابته أمراً...

إن هذه الظاهرة تستوقف الباحث المنصف، وتستدعي منه البحث عن العناصر التي كانت وراء هذا الثبات والدوام.

وبالتأمل، يمكن أن نُرجع أسباب ذلك إلى العديد من العناصر، منها:

العنصر الأول: الحفظ الإلهي، والمدد الغيبي، فإن الله تعالى كان ولا زال قادراً على

ص: 9

التدخل في مجريات الحياة، ولم تُغلّ يده كما زعمت اليهود والمعتزلة، وهو قد أخذ على نفسه أن ينصر دينه، قال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهادُ﴾(1)

وقال تعالى: ﴿فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالمُؤْمِنِينَ﴾(2)

ويدخل في هذا العنصر الرعاية الغيبية للمولى صاحب العصر والزمان أرواحنا لتراب مقدمه الفداء، وهو القائل(علیه السّلام) في مكاتبته للشيخ المفيد: «...إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء، واصطلمكم الأعداء...»(3).

العنصر الثاني: منظومة المذهب المتكاملة، والمنهجية العلمية التي رسمها أهل البيت(علیهم السّلام) عقائدياُ وفقهياً وسلوكياً، والذي أصّل له أهل البيت(علیهم السّلام) في أحاديثهم التي بثوها في أصحابهم وأمورهم بحفظها وتدوينها إيصالها إلى الأجيال اللاحقة.

العنصر الثالث: المرجعية الدينية -بعلمائها الأفذاذ- التي أخذت على عاتقها الحفاظ على تراث أهل البيت% وإحياءه وتطويره، ويكفي شهادة فخر لهم ما صرّح به الإمام الهادي(علیه السّلام) من دورهم المحوري في الحفاظ على التشيع وأتباعه، فقد ورد أنَّه قال(علیه السّلام): «لولا من يبقىٰ بعد غيبة قائمكم(علیه السّلام) من العلماء الداعين إليه، والدالّين عليه، والذابّين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلَّا ارتدَّ عن دين الله، ولكنَّهم الذين يُمسِكون أزمَّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يُمسِك صاحب السفينة سكّانها، أُولئك هم الأفضلون عند

ص: 10


1- غافر 51.
2- الأنفال 62.
3- الاحتجاج 2: 323.

الله(رحمه الله علیه)»(1).

العنصر الرابع: الشعائر الدينية التي صاغت العقيدة بقالب العاطفة الجياشة والشعور الوجداني الذي ربط النفس بالعقيدة ربطاً وجداناً يصعب زواله، وهو أيضاً مما ندب له أهل البيت(علیهم السّلام).

وعلى كل حال، فإنه كان -ولا زال- لعلمائنا -الماضين منهم والمعاصرين- الدور الأكبر والمهمة العظمى في الحفاظ على التراث الذي ورثناه عن أهل البيت(علیهم السّلام) سواء على مستوى حفظه وتدوينه، أو على مستوى فهمه وتفهيمه، أو على مستوى تطويره وضبط مناهجه، أو على مستوى تسويقه ونقله للآخر، فضلاً عن حمايته من المتطفلين الذين يرمون شباكهم في غير مائهم، ويرومون خداع العامة من الناس.

وقد توزعت جهود علمائنا في مختلف مستويات الدين عقيدة وفقهاً وسلوكاً أخلاقياً، ولا يخفى أن الأساس في ذلك كله والخطوة الأولى في الدين هي العقيدة، والتي عبّر عنها أمير المؤمنين(علیه السّلام) بقوله: «أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُه وكَمَالُ مَعْرِفَتِه التَّصْدِيقُ بِه، وكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِه تَوْحِيدُه»(2)

ومن ضمن ما اهتم به علماؤنا –أمس واليوم- هو عرض عقائد المذهب الحق بكل شفافية ووضوح، مع بيان المرتكزات الأساسية والأسس المنهجية لها، سواء بطريقة عرضها المقارن، أو عرضها في حد نفسها، أو الإجابة عن الشبهات المثارة والتي قد تُثار.

وكتاب (عقائد الإمامية) للشيخ المرحوم محمد رضا المظفر (قدس الله روحه الشريفة) هو من الكتب العقائدية الدراسية، كتبه(رحمه الله علیه) بأسلوب مختصر، يتضمن إشارات لطيفة ومباحث عميقة بلفظ جزل وكلام قليل يدل على المطلوب، ويظهر من

ص: 11


1- الاحتجاج للطبرسي 2: 260.
2- نهج البلاغة- تحقيق: صبحي صالح- ص39.

التدقيق في كتابه أنه كان يحسب حساباً لكل كلمة منه، الأمر الذي يعني أنه يحتوي الكثير من المباحث التي ينبغي تفصيلها.

وبعبارة أخرى: أن كتابه(قدس سره) أشبه بالفهرسة العامة لما يؤمن به الشيعة من عقائد وأفكار وسلوكيات شرعية، مما يعني أن شرح مضامينه بصورة صحيحة يستدعي فتح ملفاته التي رسمها الشيخ(رحمه الله علیه) بألفاظ مختصرة جداً.

يشهد على ذلك أن الكتاب رغم عمره القصير نسبياً، إلا أن الشروح تعددت فيه، واختلفت بحجمها بين المختصر والموسع.

هذه الدروس هي محاولة لشرح ما اختصره المظفر(رحمه الله علیه) وتسليط الضوء على النكات العلمية المخبية تحت ألفاظه العبقة، وبيان المطالب العلمية التي يظهر من التأمل أنه كان يروم الإشارة إليها، والله تعالى أسأل أن أكون قد وُفّقت في شيء من ذلك.

ومن توفيق الباري جل وعلا أن تم بث هذه الدروس لطلبة معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية/ مرحلة المقدمات، ولعدة سنوات، وما زال بثها مستمراً للطلبة الجدد في المعهد الموقر.

هي محاولة من أحد طلبة العلم في حوزة النجف الأشرف (على مشرفها آلاف التحية الثناء) وأسأل الله تعالى أن يتقبلها مني بقبول حسن.

ختاماً، أتوجه بالشكر لكل من ساعد في إخراج هذا الكتاب إلى النور، بدءاً بمتابعة الدروس الصوتية، وتقريرها الأولي، ومراجعتها، وتدقيقها، والله ولي التوفيق.

حسين عبد الرضا الأسدي

النجف الأشرف

30 صفر الخير 1442ه-

18 تشرين الأول 2020.

ص: 12

تمهيد

اشارة

بِسْمِ اللَّ-هِ الرَّحْمَ-ٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين، محمد وآله الطيبين الطاهرين، اللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، إلى قيام يوم الدين...

اللهم صل على محمد وال محمد

اعتاد الباحثون والمؤلفون في أي علم من العلوم أن يقدموا بعض المقدمات والأمور قبل الدخول في أصل البحث المقصود، وهذه المقدمات يصطلحون عليها في علم المنطق بالرؤوس الثمانية، ولا يهمنا ذكر هذه المقدمات، وإنما نشير لبعض منها.

هذه المقدمات إنما تُقدم على البحث في أصل العلم باعتبار أنها تفيد الطالب في زيادة بصيرته في العلم الذي يدرسه، فالطالب إذا عرف تعريف العلم وموضوعه والغرض من دراسته والمنفعة التي يحصل عليها، والأدلة المستخدمة فيه، هذا سيجعله بصيراً بالعلم الذي يطلبه، وبالتالي:

أولاً: سيتعرف إجمالاً على العلم الذي يطلبه.

ثانياً: سيتولد عنده الدافع والحافز لزيادة بذل جهده في سبيل تحصيل هذا العلم.

وعلى نحو الإجمال نذكر بعض المقدمات:

ص: 13

المقدمة الأولى: تعريف العلم (علم الكلام).

بغض النظر عن كون التعريف بالحد التام أو الناقص، فإن علم الكلام: هو العلم الذي يبحث في المسائل الاعتقادية الدينية ويثبتها بالأدلة اليقينية، فلا يكفي الشك ولا يكفي الظن، ولا الوهم، بل لابد من الجزم واليقين.

المقدمة الثانية: موضوع العلم.

الموضوع: هو المحور الذي تدور حوله مسائل العلم، ألم نقل إن العلم عبارة عن مسائل؟ هذه المسائل هل هي مشتتة أو هي مرتبطة بمحور واحد؟

إنه لابد أن تكون متمركزة على محور واحد، ذلك المحور الذي تدور حوله مسائل العلم هو الذي يسمى بالموضوع، بحيث إذا ذهبت إلى أي مسألة من المسائل الخاصة بذلك العلم فإنك تجده موجودًا فيه.

وتعريفه العلمي هو: ما يُبحث فيه [أي في العلم] عن عوارضه [أي عوارض الموضوع] العلمية.

مثلاً فموضوع علم الفقه هو فعل المكلف، فكل مسائل الفقه نجد فيها عمل المكلف. التاجر عندما يتاجر بالربا فعله هذا حلال أو حرام؟ عندما يتاجر بالذهب؟ عندما يوقف شيئاً ماذا يجب عليه؟ هل يجوز للمكلف أن يتزوج أخت زوجته؟ عند أذان الظهر ما هو واجب المكلف؟ فموضوع علم الفقه فعل المكلف من واجب وحرام ومستحب ومكروه ومباح.

ما هو موضوع علم الكلام؟ وعن ماذا تبحث مسائل علم الكلام؟

ذكرت عدة آراء لموضوع علم الكلام، وقد اختار الشيخ محمد آصف المحسني(قدس سره)

ص: 14

في كتابه (صراط الحق) أن موضوع علم الكلام هو (ذات الله تعالى المقدسة).(1)

فنحن نبحث في ذات الله تعالى هل هي واجبة الوجود أو ممكنة الوجود؟ هذه الذات الإلهية هل من صفاتها العدل أو لا؟ هل هذه الذات قادرة أو ليست بقادرة؟ هذه الذات الإلهية مريدة أو ليست مريدة؟ هل تلك الذات الإلهية تلطف بالعباد فتبعث لهم أنبياءً ورسلاً وتنصّب أوصياء يدلونهم على شريعة الله(رحمه الله علیه) أو لا؟ هل تلك الذات الإلهية حكيمة في أفعالها؟ هل تلك الذات الإلهية تحاسب الناس في يوم ما وهو يوم المعاد؟

فكل مباحث علم الكلام محورها الذات المقدسة من حيث ذاتها وأفعالها وصفاتها.

فموضوع علم الكلام هو الذات الإلهية المقدسة.

المقدمة الثالثة: الغرض من علم الكلام.

الغرض منه: هو معرفة الحقائق الدينية والأصول الاعتقادية بصورتها الحقيقية، فعلم الكلام إذن يوضح لنا تلك العقائد الحقة.

المقدمة الرابعة: المنفعة من علم الكلام.

ماذا ننتفع من علم الكلام؟ ما هي الفائدة التي نجنيها؟

والجواب: أن الطالب الذي يدرس علم الكلام ستكون عنده قوة وبصيرة في دينه بحيث تثبت عنده عقائده بالدليل القطعي، وبذلك يستطيع إثباتها للغير، فتكون عنده قدرة مرة على إقناع المخالف، ومرة قدرة وقوة على إلزامه بالدليل اليقيني العلمي بحيث يسكته ولا تكون عنده القدرة على الرد.

ص: 15


1- صراط الحق- الشيخ محمد آصف المحسني(رحمه الله علیه) ج1 ص 11 – 14.

المقدمة الخامسة: مرتبة علم الكلام

هل هو أشرف العلوم؟ أو توجد علوم أشرف منه؟

معرفة مرتبة علم الكلام تعطي دافعاً للطالب يتناسب مع تلك المرتبة، ومرتبة علم الكلام ليس فوقها مرتبة، إذ إنه يمكن أن نعرف مرتبة أي علم من خلال موضوعه، وعلم الكلام موضوعه كما ذكرنا هو الذات الإلهية المقدسة، ولا أعظم من الذات الإلهية، فيكون علم الكلام أشرف العلوم، تلك الأشرفية النابعة من موضوعه.

المقدمة السادسة: من أي العلوم هو؟

هو من العلوم التي يطلب فيها اليقين ولا يكفي فيها الشك ولا الظن ولا الوهم. لذلك فالأدلة المستعملة فيه لابد أن تكون أدلة يقينية تصل إلى الجزم بالعقيدة.

ويوجد بحث سيتعرض له الشيخ(رحمه الله علیه) وهو: هل يجوز التقليد في أصول الدين أو لا يجوز؟

وهذا البحث نابع من أن الأدلة التي تستعمل في هذا العلم ما هي؟ وكما قلنا هي أدلة يقينية.

تنبيه:

الشيخ المظفر(رحمه الله علیه) كتب كتابه عقائد الإمامية، وليس كله في أصول الدين، بل بعضه خارج عن أصول الدين، فبعضها عامة وفرعية وبعضها خاصة بأمور التشيع، لأنه أراد أن يستعرض عقائد الشيعة وما يترتب عليها وما تستند إليه في بعض الأحيان.

ص: 16

عقيدتنا في النظر والمعرفة

اشارة

قال(قدس سره):

«عقيدتنا في النظر والمعرفة

نعتقد أن الله تعالى لما منحنا قوة التفكير ووهب لنا العقل، أمرنا أن نتفكر في خلقه وننظر بالتأمل في آثار صنعه، ونتدبر في حكمته واتقان تدبيره في آياته في الآفاق وفي أنفسنا، قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الأَفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ﴾(1)

وقد ذم المقلدين لآبائهم بقوله تعالى: ﴿قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ﴾(2)

كما ذم من يتبع ظنونه ورجمه بالغيب فقال: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾(3)

وفي الحقيقة أن الذي نعتقده أن عقولنا هي التي فرضت علينا النظر في الخلق ومعرفة خالق الكون كما فرضت علينا النظر في دعوى من يدعي النبوة وفي معجزته، ولا يصح عندها تقليد الغير في ذلك مهما كان ذلك الغير منزلة وخطراً.

وما جاء في القرآن الكريم من الحث على التفكير واتباع العلم والمعرفة فإنما جاء مقرِّراً لهذه الحرية الفطرية في العقول التي تطابقت عليها آراء العقلاء، وجاء منبهاً

ص: 17


1- فصلت 53.
2- البقرة 170.
3- الأنعام 116.

للنفوس على ما جبلت عليها من الاستعداد للمعرفة والتفكير، ومفتحاً للأذهان وموجها لها على ما تقتضيه طبيعة العقول.

فلا يصح -والحال هذه- أن يهمل الإنسان نفسه في الأمور الاعتقادية أو يتكل على تقليد المربين أو أي أشخاص آخرين، بل يجب عليه بحسب الفطرة العقلية المؤيدة بالنصوص القرآنية أن يفحص ويتأمل وينظر ويتدبر في أصول اعتقاداته المسماة بأصول الدين، التي أهمها: التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد. ومن قلد آباءه أو نحوهم في اعتقاد هذه الأصول فقد ارتكب شططاً وزاغ عن الصراط المستقيم ولا يكون معذوراً أبداً.

وبالاختصار عندنا هنا ادعاءان:

(الأول) وجوب النظر والمعرفة في أصول العقائد ولا يجوز تقليد الغير فيها.

(الثاني) إن هذا وجوب عقلي قبل أن يكون وجوباً شرعياً، أي لا يستقي علمه من النصوص الدينية، وإن كان يصح أن يكون مؤيداً بها بعد دلالة العقل.

وليس معنى الوجوب العقلي إلا إدراك العقل لضرورة المعرفة ولزوم التفكير والاجتهاد في أصول الاعتقادات». انتهى.

معنى العقيدة والنظر والمعرفة

العقيدة:

هي مجموعة الأفكار والقيم التي يرتبط بها القلب ارتباطاً وثيقاً على مستوى التصديق والتدين، إذ العقيدة مأخوذة من العقد أو الشدّ بين المبدأ والقلب، فعندما تقول: أنا أعتقد بكذا، فكأن القلب قد شُدّ مع ذلك المبدأ والفكرة، فتصبح هناك عقيدة أو ارتباط بين القلب وذلك المبدأ، وقد صرحت الروايات بأن الايمان في الحقيقة ليس ما

ص: 18

تلفظ به الإنسان، إنما ما عُقد عليه وارتبط بالقلب ارتباطاً وثيقاً.

النظر:

هو البحث الصادر من النفس لتحصيل المجهولات من خلال المعلومات، وليس المقصود منه النظر بالعين، إنما هو عملية البحث التي تقوم بها النفس لتحصيل المعارف والمعلومات.

المعرفة:

إدراك الأشياء وتصورها على مستوى التصور أو التصديق، أي أن تدرك الأشياء والمعلومات و (ليس مجرد بحث)، وتأتي المعرفة نتيجة النظر(البحث)، فبعد البحث تصل إلى المعرفة (عندما تدرك الأشياء تكون لديك المعرفة).

ما هو المقصود من هذا البحث؟

المقصود هو:

هل إن البحث عن وجود الخالق وعن صفاته وأفعاله هو بحث ضروري واجب لازم أو لا؟

فالمقصود من هذا البحث هو إثبات ضرورة ولزوم البحث عن الخالق، وعن صفاته وأفعاله وإثبات أن الإنسان غير معذور إذا ترك هذا البحث وهذا النظر وتلك المعرفة.

هو بحث عن (يجب أو لا يجب) علينا أنْ نبحث عن خالقنا؟

وهل هذه الضرورة عقلية أو شرعية؟

ص: 19

يعني من الذي يوجب علينا أنْ نبحث عن خالقنا: العقل أم الشرع؟

بيانه: هناك وجوب عقلي أو ضرورة عقلية، فماذا يقصد منها؟

هي الضرورة التي يحكم بها العقل بغض النظر عن وجود شريعة من السماء، يعني بغض النظر عن الآيات والروايات، بحيث لو فرضنا -وفرض المحال ليس بمحال- أنه لم تكن هناك شريعة ولا رسل ولا كتب ولا آيات ولا روايات، فالعقل لو خُلّي لوحده من دون أي إرشادات خارجية من الشريعة، هل العقل يحكم بضرورة البحث عن الخالق أو لا يحكم؟

فإذا حكمنا أنه واجب، إذن نقول: إن النظر والمعرفة واجب عقلاً، يعني الذي يؤسس لهذه الضرورة -لضرورة البحث عن الخالق- هو العقل وليس الشرع، وهذا هو معنى الضرورة العقلية، مثل (اجتماع النقيضين) فإذا كان هذا أسوداً فلا نستطيع أن نقول عنه في نفس الوقت إنه ليس بأسود، حتى لو لم تكن هناك آية أو رواية تدل على ذلك، فالعقل يحكم هنا لوحده.

فالأمر الذي يحكم به العقل بغض النظر عن وجود الشريعة: هذه هي الضرورة العقلية.

أما الضرورة الشرعية: فهو الوجوب الصادر من الشارع المولى الذي له حق الطاعة والواصل إلى العبد، وهذا التشريع أو الاعتبار كما يقولون في علم الاصول (الاعتبار الشرعي) لا بد أن يصل إلى المكلف، أما قبل الوصول فلا يوجد وجوب فعلي في ذمة المكلف، فالشريعة أمر إلهي لا بد أنْ يصل المكلف ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾(1)

ص: 20


1- الإسراء 15.

وهذا الوجوب لا وجود له وراء اعتبار الشارع، فهو مجرد اعتبار من المولى، إذ إن المولى اعتبر أن الصلاة واجبة على المكلف، ولو لم يوجب الشارع (المولى) هذه الصلاة فهذا الوجوب ليس له وجود، والعقل وحده لا يمكن أن يدرك أن صلاة الصبح واجبة على المكلف، فمن أين أتى هذا الوجوب؟

لقد أتى من الشارع.

إذن، فهناك ضرورات عقلية هي التي يحكم بها العقل لوحده بغض النظر عن الشارع، وهناك ضرورات شرعية، وهذه لا وجود لها وراء اعتبار الشارع.

ولا بد أن نلتفت إلى أن العقل عندما يحكم بشيء، فقد يأتي الشارع ويحكم بنفس الحكم، عندئذٍ يكون حكم العقل تأسيسياً، أما حكم الشارع فهو هنا إرشادي، يعني يرشد إلى حكم العقل ذلك، من باب أنه قد يلتوي الإنسان ويغض نظره عن حكم العقل فيأتي الشارع ليؤكد ذلك الحكم العقلي، فيجوز اجتماعهما ولكن أحدهما يكون مؤسساً والآخر إرشادياً.

الآن نرجع إلى سؤالنا:

البحث عن وجود الخالق وصفاته وأفعاله هل هو واجب بوجوب عقلي أو بوجوب شرعي؟

الجواب: إن الوجوب عقلي، إذ العقل يدرك ضرورة البحث والنظر والمعرفة عن وجود خالق حتى لو لم تكن هناك شريعة.

من خالقُنا؟ من أين أتينا؟ وإلى أين نذهب؟

هذه أسئلة تولد مع الإنسان، فالعقل يحكم بضرورة إيجاد أجوبة مناسبة لها، وهناك

ص: 21

آيات وروايات تأمرنا بهذا البحث وهذه الروايات هنا تكون حكماً إرشادياً لتلك الضرورة العقلية.

هل يجوز التقليد في النظر والمعرفة؟

الشيخ أجاب: بأنه لا يجوز في أصول الدين أن يكون المكلف مقلداً، أي يجب أن يكون كل شخص مجتهداً، وله دليله الخاص على أصول الدين، لأن احتمال الخطأ موجود في التقليد، فأنا أقلّد بشراً معرّضاً للخطأ، والعقيدة لا بد أن تكون ثابتة بالدليل القطعي.

فالقضية ليست قضية بيع وشراء، بل هي قضية عبادة ومصير نهائي خالد، فاذا قلّدت شخصاً يعبد البقر فسأعبد البقر إلى نهاية عمري، فيكون الخطأ هنا فادحاً ولا يُغتفر.

وعلى كل حال، فالحاصل: أنه لا يجوز التقليد في أصول الدين، ويجب الاجتهاد، ولكن إذا حصل القطع والجزم من قول الغير فهذا يكفي، لأن المطلوب ليس الاجتهاد بل (تحصيل اليقين).

عندما تقول (الله موجود) فالطرف المقابل لهذه القضية (الله غير موجود) فإذا كانت نسبة اعتقادك بقضيتك الأولى 99% مما يعني وجود احتمال بنسبة 1% أنه غير موجود، فعقيدتك غير يقينية، فلا بد أن تكون نسبة قضية (الله غير موجود) هي صفر%، وعقيدتك بوجود الله تعالى 100%

وتحصيل اليقين فيها مرة يكون بالاجتهاد، بأن تكون مجتهداً وتأتي بالدليل، ومرة أنت تحصّل الدليل من قول الغير، كأنْ تذهب إلى الإمام المعصوم أو المجتهد أو العالم في العقائد وتحصل على الدليل، ويحصل عندك الجزم واليقين بوجود الله تعالى، فهذا يكفي

ص: 22

أيضاً.

ملاحظة:

هناك العديد من الاصطلاحات الضخمة والمعقّدة، وليس المطلوب منا حفظ هذه المصطلحات، وإنما فهم ما وراء تلك الاصطلاحات، مثلاً عندما نأتي إلى صفة القدرة سوف نبحث: ما الدليل على القدرة؟ وبأي معنى تأتي القدرة؟ وما هي أدلة المثبتين وأدلة النافين؟ وقد ننسى واقع القدرة!

وكذا في صفتي السميع البصير، قد نغوص في البحث العلمي فيهما وننسى أنّ الله تعالى يرانا ويسمعنا ويراقب أفعالنا وتصرفاتنا!

إذن -مهما تعمقنا في هذا البحث- يجب أنْ لا ننسى أننا في دائرة مفرغة لا يُدرك غورها، وسيأتي بحث في ذات الله(رحمه الله علیه)، فسنبحث في إمكان معرفة كنه الذات وحقيقتها أو في تعذّرها علينا، إذ إن عندنا روايات كثيرة تنهانا عن التفكر في ذات الله تعالى.

وسيأتي إشكال هناك في أنه وردت روايات تنهانا عن البحث في ذات الله تعالى، وعندها فإن علم الكلام كله سينتفي في هذه الحالة، إذ إن موضوعه كله يبحث في ذات الله(عزوجل)!

وسنعرف الجواب عنه في محله إن شاء الله تعالى.

هذه الأبحاث لا بد أن لا تنسينا واقع عبوديتنا، وواقع كوننا تحت المراقبة الإلهية، علينا أن لا نضيع في زحمة الاصطلاحات وننسى الواقع.

ص: 23

س/ما هو الدليل على أن النظر والمعرفة واجب عقلي؟

ج/ذكروا عدة أدلة منها:

دليل دفع الضرر المحتمل.

ومعناه: أن العقل يدرك أنه لو لم يبحث عن خالقه، فإنه يُحتمل وجود ضرر يأتيني من عدم المعرفة، لاحتمال أن الخالق يريد مني أفعالاً لا أعرفها لحد الآن، فاذا لم آتِ بما يريده الخالق فسأقع في مخالفته، وهذا يترتب عليه ضرر، وقد أخبر بهذا الضرر الكثير من الرجال [الأنبياء] الذين لم يكذبوا ولا مرة واحدة في حياتهم، والعقل يحكم بلزوم دفع الضرر حتى إذا كان محتملاً.

إذن فالعقل يحكم بوجوب النظر والمعرفة من أجل دفع الضرر.

وهذا يعني أنّ وجوب النظر وجوب غيري لا نفسي، فهو يُطلب لنصل به إلى العقيدة، فالمطلوب أنْ نبحث وننظر، لنصل إلى الاعتقاد، وأن نصل إلى الله(رحمه الله علیه)وأن نثبت وجوده وصفاته وأفعاله.

ص: 24

عقيدتنا في التقليد بالفروع

اشارة

قال(قدس سره):

«عقيدتنا في التقليد بالفروع:

أما فروع الدين وهي أحكام الشريعة المتعلقة بالأعمال، فلا يجب فيها النظر والاجتهاد، بل يجب فيها - إذا لم تكن من الضروريات في الدين الثابتة بالقطع كوجوب الصلاة والصوم والزكاة - أحد أمور ثلاثة: إما أن يجتهد وينظر في أدلة الأحكام إذا كان أهلاً لذلك، وإما أن يحتاط في أعماله إذا كان يسعه الاحتياط، وأما أن يقلد المجتهد الجامع للشرائط بأن يكون من يقلده عاقلاً عادلاً (صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه).

فمن لم يكن مجتهداً ولا محتاطاً ثم لم يقلد المجتهد الجامع للشرائط فجميع عباداته باطلة لا تقبل منه، وإن صلى وصام وتعبد طول عمره.

إلا إذا وافق عمله رأي من يقلده بعد ذلك وقد اتفق له أن عمله جاء بقصد القربة إلى الله تعالى». انتهى.

هنا عدة نقاط:

النقطة الأولى: أهم الفروق بين الفروع والاصول:

أن الأصول لا يُكتفى فيها إلا بالقطع والجزم، وأما فروع الدين فإن حصل بها

ص: 25

الجزم فبها ونعمت، وإن لم يحصل الجزم فننتقل الى الظن، كما إذا نقل الثقةُ قول المعصوم، فإن نقله لا يؤدي إلى اليقين، باعتبار أن الثقة ربما يشتبه وربما يكذب وربما يخطئ، لكنه غالباً لا يكذب لفرض أنه ثقة، وعلى كل حال فقوله لا يؤدي إلى الجزم بنسبة (100%) فمؤدى قوله هو الظن، لكن هذا الظن جاء دليل (شرعي) قطعي على أنه معتبر، يعني: أن الشارع في فروع الدين اكتفى منا بهذا الظن، فجاء دليل من الشارع اعتبر هذا الظن (والذي هو ليس بعلم إذ إن العلم قطع ويقين) علماً وتمّمَ نقصه بجعله علماً، فخبر الثقة ليس قطعياً ولا يؤدي إلى القطع بالحكم الشرعي، ولكن لدينا أدلة قطعية قالت: خذ بخبر الثقة، فالشارع قَبِل هذا الظن من المكلف في فروع الدين، الظن الذي دلّ الدليل الشرعي القطعي على حجيته، وبذا يخرج القياس أو الاستحسان وأمثالهما مما يستند إليه العامة، لأنها وإن كانت ظنيات، لكنه لم يدل الدليل الشرعي القطعي على حجيتها.

إن لكفاية الظن في فروع الدين تخريجًا، وحاصله:

أن تحصيل القطع في جميع المسائل الفقهية أمرٌ متعذر علينا، وبالتالي:

فإما أن لا نعمل بالفروع، وهذا واضح البطلان.

وإما أن يحصل اليقين، وهذا ليس متوفراً إلا في الضروريات.

وإما أن يصبح كل واحد منا مجتهداً، وهذا غير متاح للجميع.

وإما نقلد وهو طريق ظني، انحصر به طريق تحصيل الحكم الشرعي.

إن كثرة المسائل الفقهية من جانب، وابتعادنا عن زمن النص من جانب آخر، أي ابتعادنا عن زمن المعصوم حيث تؤخذ الأجوبة القطعية الواقعية من الإمام(علیه السّلام) التي لا تقبل الشك ولا الطرف المقابل في الحالات الطبيعية غير حالات التقية مثلاً، هذان

ص: 26

السببان كانا وراء فتح الباب للوصول الى التكاليف الشرعية من خلال التقليد رغم كونه ظنيًا، لكن قام الدليل القطعي على جوازه في فروع الدين.

النقطة الثانية: معنى التقليد.

التقليد لغة: هو وضع الشيء في العنق مع الإحاطة به، كالقلادة التي تلبسها الفتاة فتحيط برقبتها.

عن الامام الحسين(علیه السّلام): «خُطّ الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة»(1)

واصطلاحاً: قبول قول الغير من غير دليل عليه.

فعندما تقلد عالماً في مسألة فقهية، هذا يعني أنك تأخذ قوله ولا يجب عليك أن تسأل عن الدليل، فأنت تكتفي بأخذ المسألة فقط.

ويسمى تقليداً باعتبار أن المكلف يقلّد ذلك المرجع، فكأنه قد جعل أمره في عنق المرجع، وهذا يعني: أنك عندما تقلّد مرجعاً معيناً، فإنك لا تحتاج للبحث عن صحة دليله، ولا تحتاج الى الإطمئنان بذلك الدليل.

وقد اختلف الفقهاء في تعريف التقليد، فمنهم من قال: يجب أن يلتزم المكلف بأنْ يقلد المرجع الفلاني، سواءً عمل بفتواه أولا، فهو مجرد التزام قلبي.

وبعضهم قال: لا يكفي الالتزام القلبي، بل لا بد من العمل بالفتاوى، بحيث إن المسألة التي لم تعمل بها فأنت لا تقلده بها، وتظهر ثمرة هذا عند وفاة المرجع وإرادة البقاء على تقليده، فالمسائل التي لم يعمل بها المكلف في حياته لا بد أن يرجع فيها الى الحي، إذا كان المرجع الميت ممن يقول بوجوب العمل بالفتاوى ولا يكتفي بالالتزام

ص: 27


1- مثير الأحزان لابن نما الحلي ص 29 وبحار الأنوار – العلامة المجلسي - ج 44 - ص 366.

القلبي.

وبعضهم قال: هو تطابق فعل المكلف مع فتوى المجتهد الذي يكون حجة عليه حين العمل مع إحراز مطابقته له، فإذا كنت في عمر خمسة عشر عاماً وكان الحجة عليك هو زيداً، فإذا كان عملك (صلاتك وصومك) مطابقاً لفتوى زيد فأنت مقلد له، ولا يشترط أن تعتمد على فتواه، أي لا يشترط عندما تصلي أن تقول: إن صلاتي هذه وفق تطبيقي لتقليد فلان.

والمسألة فقهية، وفيها خلاف في الفتوى وفي تفسيرها، فليرجع فيها إلى مرجع التقليد.

النقطة الثالثة: ما هي فروع الدين؟

هي المقرّرات التي شرّعها الإسلام لتنظيم الصلة والعلاقة بين الإنسان وربه من جهة، وبين الإنسان وبقية المخلوقات من جهة أخرى.

هذه المقررات والأنظمة التي شرّعها الله تعالى هي فروع الدين وهي الفروع العشرة من صلاة وصوم و...، و تدخل معها معاملات الإنسان كالتجارة مثلاً.

النقطة الرابعة: التقليد لا موضوعية له.

عندما تريد أن تشتري مرآة فإنك تنظر لشكلها، لونها، حجمها، صفاتها، ونوعية الزجاج المستعمل فيها، وبعد أن تشتريها وتعلقها فإنك لا تنظر إلى هذه الأمور، بل ستنظر فيها لأجل أن ترى بواسطتها وجهك، فالمرآة أصبحت طريقاً لرؤية وجهك، كذلك التقليد هو ليس مطلوباً لأجل التقليد نفسه، وإنما من أجل الوصول إلى الحكم الشرعي.

ص: 28

وهذا ما أشار له الشيخ المظفر(رحمه الله علیه)، وإنما الموضوعية لمطابقة الفعل للحكم الشرعي، فالتقليد ليس مطلوباً لذاته، وإنما هو طريق لتحصيل الحكم الشرعي، لذلك لزم البحث عن الفقيه الأعلم في التقليد، لأنه هو الأقدر على تطبيق القواعد الأصولية على الحوادث وإعطاء الحكم المناسب فيها، فتقليد الأعلم ووجوبه مرتبط بتعريف التقليد.

وهذا يترتب عليه أمور:

أولاً: إذا حصل عندك الجزم بالحكم الشرعي، كما لو التقيت بالإمام المعصوم(علیه السّلام) –فرضاً- فإنك لا تحتاج إلى تقليد، أو رأيت الهلال (هلال شهر شوال مثلاً) بعينك، فإنك لا تحتاج إلى تقليد هنا، حتى وإن قال لك مرجعك: إن غداً يجب عليك الصيام، فلا يجب عليك الصوم هنا، لأن الحكم الواقعي قد انكشف لك.

ثانياً: لا نحتاج إلى التقليد في الضروريات، كأصل وجوب الصلاة والصوم والحج، والضروري: هو البديهي الذي لا يحتاج إلى دليل في إثباته، أي الذي وصل إلى مرحلة من الثبوت والوضوح بحيث يكون ذكر الدليل على وجوبه لغواً.

ثالثاً: لو عمل المكلف بلا تقليد، وصادف أن عمله مطابق لقول المجتهد الذي هو حجة عليه، فإنه يحكم على عمله بالصحة، لأن التقليد لا موضوعية له، بل الموضوعية هو أن يكون العمل مطابقاً للحكم الشرعي، ولو كان للتقليد موضوعية لكان عمل غير المقلِّد باطل مطلقاً. (وفي المسألة تفصيلات أخرى يُرجع فيها إلى كتب الفقه).

النقطة الخامسة: هل يجوز للمكلف الاحتياط؟

نعم يجوز، فالاحتياط هو أن يعمل المكلف بقول يتيقن معه ويطمئن بمطابقة فعله للواقع.

ص: 29

مثلاً إذا سافر المكلف، ووصل إلى مكان معين، وكان بعض الفقهاء يقول: بأن المسافة التي قطعها هي المسافة الشرعية ويتوجب عليه أن يأتي بالصلاة قصراً، ولكن البعض الآخر يقول: لا، لم يقطعها ويجب عليه أن يتم صلاته، (أو إنه وصل إلى مكان وشك في أنه مسافة أو لا) فهنا إذا أراد الاحتياط فعليه أن يأتي بالعمل مرتين: بأن يتم ويقصر في صلاته، وفي هذه الحالة يكون عمله مطابقاً للحكم الواقعي قطعاً، الذي هو إما التمام أو القصر.

والاحتياط وإن كان جائزاً، إلا أنه صعب جداً، لأنه يحتاج إلى معرفة آراء الفقهاء والأخذ برأي جميع الفقهاء الذين هم في معرض وشبهة الأعلمية، والعمل بأحوطها بما يتيقن معه بصحة عمله، وبعضها تقتضي إعادة العمل.

وقد روي عن الامام الحسن العسكري(علیه السّلام)قال: «فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظا لدينه مخالفاً على هواه مطيعاً لأمره مولاه، فللعوام أن يقلدوه،وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم، فأما من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامة فلا تقبلوا منه عنا شيئاً ولا كرامة».(1)

ص: 30


1- الاحتجاج – الشيخ الطبرسي - ج 2 - ص 263 – 264.

عقيدتنا في الاجتهاد

اشارة

قال(قدس سره):

«عقيدتنا في الاجتهاد نعتقد أن الاجتهاد في الأحكام الفرعية واجب بالوجوب الكفائي على جميع المسلمين في عصور غيبة الإمام، بمعنى أنه يجب على كل مسلم في كل عصر. ولكن إذا نهض به من به الغنى والكفاية سقط عن باقي المسلمين، ويكتفون بمن تصدى لتحصيله وحصل على رتبة الاجتهاد وهو جامع للشرائط فيقلدونه ويرجعون إليه في فروع دينهم.

ففي كُلِّ عصرٍ يجب أن ينظر المسلمون إلى أنفسهم فإن وجدوا من بينهم من تبرع بنفسه وحصل على رتبة الاجتهاد التي لا ينالها إلا ذو حظ عظيم وكان جامعاً للشرائط التي تؤهله للتقليد، اكتفوا به وقلدوه ورجعوا إليه في معرفة أحكام دينهم، وإن لم يجدوا من له هذه المنزلة وجب عليهم أن يحصل كل واحد رتبة الاجتهاد أو يهيئوا من بينهم من يتفرغ لنيل هذه المرتبة حيث يتعذر عليهم جميعاً السعي لهذا الأمر أو يتعسر، ولا يجوز لهم أن يقلدوا من مات من المجتهدين.

والاجتهاد هو النظر في الأدلة الشرعية لتحصيل معرفة الأحكام الفرعية التي جاء بها سيد المرسلين، وهي لا تتبدل ولا تتغير بتغير الزمان والأحوال (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة)، والأدلة الشرعية هي الكتاب الكريم والسنة والاجماع والعقل على التفصيل المذكور في كتب أصول الفقه.

ص: 31

وتحصيل رتبة الاجتهاد تحتاج إلى كثير من المعارف والعلوم التي لا تتهيأ إلا لمن جد واجتهد وفرغ نفسه وبذل وسعه لتحصيلها». انتهى.

الاجتهاد لغة: هو بذل الجهد، بذل الطاقة، تحمل المشقة.

اصطلاحاً: مَلَكة يتمكن معها الإنسان من استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها في الشريعة من القرآن والسنة.

من أين جاءت فكرة الاجتهاد؟

الجواب: جاءت الفكرة من مقدمات:

المقدمة الاولى: التكاليف الشرعية -الواجب والمستحب والمكروه والحرامهل هي مطلوبة من العباد فقط في زمن المعصوم8 أو إنها مطلوبة منهم إلى يوم القيامة؟

من الواضح أنها مطلوبة من المكلف الى يوم القيامة.

وهذا معنى ما يُقال من أن (الأحكام الشرعية مأخوذة على نحو القضية الحقيقية وليس على نحو القضية الخارجية).

يعني أن الله تعالى عندما يقول: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ مثلاً، فليس المراد منها الذين آمنوا فقط في زمن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، وإنما المراد هم الذين آمنوا إلى يوم الدين، فالتكاليف الشرعية مطلوبة إلى يوم القيامة.

المقدمة الثانية: مصادر التشريع موجودة أيضاً، وهي (القرآن الكريم، والسنة المعصومية - سنة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) وأهل بيته (صلوات الله وسلامه عليهم)

المقدمة الثالثة: استخراج الأحكام الشرعية من تلك المصادر(القرآن و السنة) متاح لبعض الأفراد وليس للجميع، فالقرآن ليس كله مفهوماً للجميع، والروايات كذلك،

ص: 32

فالإمام(علیه السّلام) يقول: «كلامنا صعب مستصعب»(1)،وفيه الناسخ و المنسوخ والباطن والظاهر و.....

من هذه المقدمات نحصل على نتيجة وهي: لا بد من توفر أفراد عندهم القدرة على استخراج الأحكام الشرعية من تلك المصادر، أي إننا نحتاج إلى متخصصين في مجال استنباط الأحكام الشرعية من مصدرها.

فالعقل يحكم بضرورة أن يجتهد البعض ليقلّده البعض الآخر، والنتيجة: أن الاجتهاد ضرورة عقلية، وما يأتي من آيات وروايات فإنما هي إرشاد لذلك الحكم العقلي ومنها: قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾(2)

فلم يقل جل وعلا: كل الناس، وإنما فقط البعض، ممن لديه القدرة والقابلية على ذلك.

فالاجتهاد واجب عقلي، وهو واجب كفائي وليس عينياً، فهو يجب عقلاً على الجميع (وذلك لحفظ الشريعة الإسلامية وأحكامها من الاندراس) فإذا تصدى له مَن فيه الكفاية سقط عن الباقين، (مثل قضية تغسيل الميت، فهو واجب كفائي فيما إذا توفي مسلم في العالم، وكل المسلمين في العالم مطالبون بتغسيله ودفنه، فإذا تبرع مسلمٌ ما للقيام بذلك، فقد سقط الوجوب عن الباقين)، وهذا يبين مكانة المجتهد، فهو يُسقط الوجوب عن الباقين، فضلاً عن ما ذكرته الروايات التي أشادت بمكانة المجتهد، ومنها

ص: 33


1- في كتاب الأصول الستة عشر – عدة محدثين - ص 61: قال أبو جعفر8 ان حديثنا صعب مستصعب لا يؤمن به الا ملك مقربأ ونبي مرسلأ وعبدا امتحن الله قلبه للإيمان فما عرفت قلوبكم فخذوه وما أنكرت فردوه إلينا.
2- التوبة 122.

ما روي عن الامام الهادي(علیه السّلام): «لو لا من يبقى بعد غيبة قائمكم(علیه السّلام) من العلماء الداعين إليه، والدالين عليه، والذابين عن دينه بحجج الله و المنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس و مردته، و من فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلا ارتد عن دين الله، و لكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عز و جل»(1)

إنّ العقل يحكم بضرورة الاجتهاد، لعدة اعتبارات منها: أنه لا بد من الرجوع إلى أهل الخبرة في مسألة الأحكام الشرعية، لأن المكلف يجب أن يتعلمها ويعمل بها.

قال المصنف(قدس سره): والاجتهاد هو: النظر في الأدلة الشرعية لتحصيل معرفة الأحكام الشرعية التي جاء بها سيد المرسلين(صلی الله علیه و آله و سلم).

بيّن المصنّف حقيقة الاجتهاد، وأنه ملكة يستطيع من خلالها الفقيه أن يستنبط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية المعروفة.

والشيخ يعبّر عنها بالنظر في الأدلة الشرعية، لأجل معرفة الأحكام الفرعية والأحكام التي جاء بها سيد المرسلين محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، ومن الواضح أن الاجتهاد والتقليد يأتي في الأحكام الفرعية، أما أصول الدين فقد تقدم أن المطلوب فيها الجزم،إما بالاجتهاد أو الجزم بأخذ الدليل من الآخر.

إن المطلوب منا هو أن نمتثل لكل ما جاء به الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم)، لما ورد في القرآن الكريم: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَانَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾(2)

ثم قال المصنف عبارة:(وهي لا تتبدل ولا تتغير بتغير الزمان و الأحوال)

ص: 34


1- الاحتجاج – الشيخ الطبرسي - ج 2 - ص 260.
2- الحشر 7.

وهنا إشارة الى ما ورد عن الإمام الصادق(علیه السّلام): «حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً الى يوم القيامة، لا يكون غيره و لا يجيء غيره».(1)

إشارة: بيان الثابت والمتغير في الشريعة.

اشارة

ذكر الشيخ أن هذه الأحكام التي جاء بها النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)ثابتة ومستمرة إلى يوم القيامة، ولكن ثباتها واستمرارها لا يتنافى مع التطور الحضاري والثقافي، باعتبار أنه يوجد في الشريعة عنصران: عنصر ثابت وعنصر متغير، والمقصود من المتغير: أنه قانون إسلامي له القابلية على التجدّد وعلى الانطباق على ما يأتي به الزمان من مفردات، فهو أشبه بالقاعدة الكلية التي تنسجم مع متغيرات الحياة، ولنضرب مثلاً لهذا المعنى بوجوب الصلاة، فالصلاة واجبة على المسلم، فهل هذا الحكم يتغير بتغير الزمان والمكان؟

كلا، إنه لا يتغير أبداً، فهو ثابت الى يوم القيامة، وهكذا الحال في وجوب الصوم وحرمة شرب الخمر وغيرها، فهذه أحكام ثابتة لا تتغير.

ولكن مثل قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ ا لْخَيْلِ﴾(2)هذا قانون إسلامي، فهل نتصور أو نتوقع أن الله سبحانه تعالى يريد من الجيش الاسلامي أن يكون دائماً وفي كل الأزمات عنده خيل أو سيف و رمح فقط؟!

إن القرآن في هذه الآية كأنه يريد أن يقول للمسلمين: ابنوا وأسّسوا جيشاً معداً بالأسلحة، ومهيأً لأي حركة متوقعة، وفي ذلك الوقت كان مصداق هذا الإعداد هو

ص: 35


1- في الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 58 باب البدع والرأي والمقائيس ح19. عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله8 عن الحلال والحرام فقال: «حلال محمد حلال أبدا إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجئ غيره»، وقال: قال علي8: «ما أحد ابتدع بدعة إلا ترك بها سنة».
2- الأنفال 60.

رباط الخيل، أما في هذا الزمن فلا معنى لأن نلتزم بتلك الكلمة، بل الصحيح هو أن نُبقي على القاعدة الاصلية وهي (إعداد الجيش) لكن نُغير في الانطباق، فنعدّ الجيش ونمدّه بالأسلحة الحديثة، وبذلك نكون ممتثلين لأمر الله(عزوجل).

ومثال آخر: طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وقد كان طلب العلم في ذلك الوقت من خلال الكتاتيب، فيقرأ المعلم والطلبة يستمعون له، أما الآن فقد أصبح التعليم إليكترونياً، ولو بقينا على ما كان في زمن الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) حينها سنحكم على هذه الطريقة الآن بأنها بدعة! ولكن باعتبار أن القاعدة هي طلب العلم، وطلب العلم مصاديقه متعددة تختلف باختلاف الزمان، فنبقى على الأصل وهو ثابت، وأما مصاديقه فتختلف وتتغير بتغير الزمان، وهذا من أهم الفواصل والفروقات بيننا وبين العامة، فالعامة في كثير من الأحيان جمدوا على ظاهر النص، ولم يخرجوا إلى تغير النص بتغير أحوال الحياة، لذلك حدث شرخ كبير بيننا وبينهم.

والشيخ(رحمه الله علیه) عندما قال (لا تتغير) لا يُفهم منه أن كل الأحكام كذلك، وإنما يريد أن يقول: إن أصل الشريعة وما جاء به النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) من أحكام هذا لا يتغير، وهذا لا يتنافى مع وجود قواعد عامة تتغير منطبقاتها بتغيرات وأحوال الزمان والمكان من حيث الانطباق الخارجي.

ثم أشار الشيخ إلى الأدلة الشرعية للاستنباط وهي:

أولاً: الكتاب الكريم:

وواضح جداً أن القرآن هو مصدر التشريع، ويعبرون عنه بأنه قطعي الصدور، فلا تحتاج إلى البحث عن أن هذه الآية صحيحة أو لا، بل القرآن كله قطعي الصدور، باعتبار أنه متواتر، فإنما أخذنا القرآن ممن سبقنا من المتشرعة - كل المتشرعة بل كل

ص: 36

الناس- بشكل معين، وهم قد أخذوه من متشرعين قبلهم، فنحن الآن في هذا الزمن عندنا متشرعة يقرأون القرآن، أخذوه من المتشرعة الذين قبلهم، والذين قبلهم أخذوه من الذين قبلهم، حيث نقلوا هذا المصحف بهذا الشكل بلا زيادة ولا نقصان، و هكذا إلى أن نصل إلى زمن الائمة(علیهم السّلام)، وزمن الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم)وعدد أولئك الذين نقلوا القرآن بهذا الشكل يتجاوز الآلاف، ومعه، فيحكم العقل بامتناع اجتماعهم كلهم على الكذب.(1)

فإذا صار عندنا خبر بهذه الكيفية، صار عندنا خبر متواتر، فلا نحتاج إلى البحث في سند القرآن الكريم، لأنه قطعي الصدور بالتواتر.

ثانياً: السُنة:

هي ما جاء عن النبي الأعظم وأهل بيته الطاهرين صلوات الله عليهم ويشمل (أقوالهم، أفعالهم وتقريرهم) فقولهم حجة وأفعالهم كذلك، فإذا رأيت النبي أو الإمام صلوات الله عليهم يتوضأ بكيفية معينة، ففعله هذا حجة علي. وإذا أراد الإنسان أن يتوضأ بصورة صحيحة، وقلّد النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) في وضوئه، فنحكم بصحة وضوئه.

وإذا رأينا الإمام(علیه السّلام) يأكل طعاماً معيناً، فنحكم بأن هذا الطعام حلال، وليس حراماً، لأن المعصوم لا يفعل الحرام.

إشارة: فعل المعصوم يدل على الإباحة بالمعنى الأعم.

لا بد من ملاحظة أن فعل المعصوم عموماً يدل على الإباحة بالمعنى الاعم، وأنه

ص: 37


1- فربما يكذب أحدهم، أو اثنان منهم، أو ثلاث، لكن أن يتفق كل المتشرعة برغم اختلاف الازمان، واختلاف انتماءاتهم واختلاف مستوياتهم العلمية، فهذا ما يُقلّل العقل من نسبته الاحتمالية إلى أن يُحيله ويمنعه.

لا إلزام فيه، بمعنى أنه لو رأيت النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) يفعل فعلاً معيناً، فلا أستطيع أن أعيّن الحكم التكليفي له بالضبط، إنما فقط أستطيع أن اقول شيئاً واحداً، وهو: أن ما يفعله المعصوم ليس حراماً، وليس مكروهاً، أما هل هو واجب أو مستحب أو مباح بالمعنى الأخص(1)، فهذا ما لا أستطيع تحديده.

ففعل المعصوم يدل على الإباحة بالمعنى الأعم، فقد يكون واجباً وقد يكون مستحباً وقد يكون مباحاً بالمعنى الأخص.

لذلك لا نستطيع أن نستدل على وجوب شيء بفعل الإمام له، لأن فعله يدل على الإباحة بالمعنى الاعم، أي أنه ليس بحرام ولا مكروه فقط، فقد أرى الإمام يصلي في أرض معينة، فهل يمكن أن أقول: يجب علينا أن نذهب لتلك الأرض ونصلي فيها؟ كلا، فإن فعله هذا قد يكون مستحباً، وقد يكون مباحاً بالمعنى الأخص.

وهكذا لو أن الإمام(علیه السّلام) ترك الصلاة في مكان ما، كما يروى عن أمير المؤمنين(علیه السّلام) أنه ترك الصلاة في أرض بابل، فهل أستطيع أن أقول: إن هذا الفعل حرام لأن الإمام تركه؟ كلا، لأنه قد يكون مكروهاً وقد تركه الإمام، وقد يكون مباحاً وتركه، ربما لأنه رآها أرض خسف وتكره الصلاة في أرض الخسف.(2)

ففعل الإمام لا يدل على الإلزام، فإذا فعل شيئاً لا أقول: إن الذي فعله واجب، ولا

ص: 38


1- الذي ليس فيه ملاك الوجوب ولا الحرمة ولا الاستحباب ولا الكراهة، أو الذي فيه ملاك ترك الإنسان بلا قيود من ناحيته.
2- في الخرائج والجرائح - قطب الدين الراوندي - ج 1 - ص 224 ب2 ح69. روى جويرية بن مسهر قال: أقبلت مع علي(علیه السّلام)من النهروان فلما صرنا في أرض بابل حضر وقت الصلاة، فقال: «أيها الناس إن هذه أرض ملعونة قد خسف بها مرتين من الدهر، وهي إحدى المؤتفكات (المدن التي أبادها الله وقلبها على أهلها)، وهي أول أرض عبد فيها وثن، ولا ينبغي لنبي ولا لوصي أن يصلي فيها، وضرب بغلة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وسار».

أن تركه يدل على الالزام، فإذا ترك الصلاة في أرض الخسف مثلاً فلا أستطيع القول: إن الصلاة فيها حرام.

ما هو معنى التقرير هنا؟

اشارة

المقصود من تقرير المعصوم هو سكوت المعصوم عن فعل أو قول مع قدرته على إظهار خلافه لو كان غير حق.

مثلاً: يفعل شخص ما بمشهد المعصوم وحضوره فعلاً ما، فيسكت المعصوم عنه مع توجهه إليه وعلمه بفعله، وكان المعصوم بحالةٍ يسعه تنبيه الفاعل لو كان مخطئاً، والسعة تكون من جهة عدم ضيق الوقت عن البيان، ومن جهة عدم المانع منه، كالخوف والتقية واليأس من تأثير الإرشاد والتنبيه ونحو ذلك.

فمع اجتماع هذه الشرائط، يكون سكوت المعصوم دالاً على إمضائه لفعل ذلك الشخص ورضاه به، وإلا -أي لو كان ذلك الفعل منهياً عنه- لوجب على المعصوم أن يُنبّه عليه، وأن ينهى ذلك الشخص عن فعله، باعتبار أن المعصوم(علیه السّلام) مكلف ببيان الأحكام الشرعية، والمفروض أنه لا مانع يمنعه من بيان الحق.

ثالثاً: الإجماع:

هو أن نجد كل الفقهاء يجمعون على حكم شرعي.

وهنا لفتتان:

الأولى: أن الإجماع ليس له قيمة في حد نفسه، إنما القيمة العلمية هي لما يكشف عنه الإجماع، حيث إنه يكشف عن رضا المعصوم وإمضائه للحكم المُجمع عليه.

وذكروا لذلك عدة تبريرات، منها (اللطف) بمعنى: أنه لو كان إجماعهم خاطئاً،

ص: 39

فالمعصوم وإن كان غائباً، لكنه حاضر ينظر إلى الفقهاء وأنهم أجمعوا على حكم شرعي خاطئ، فمهمته(علیه السّلام) تقتضي أن يخرج إليهم ويقول لهم: هذا حكم خاطئ، أو على الأقل يذهب إلى أحد الفقهاء من الذين يؤثر قولهم المخالف سلباً في الإجماع ويكشف له الحقيقة، ويقول له خالف، حتى تصير مخالفة، وينخرم به الإجماع.

فإجماع الفقهاء على حكم شرعي يكشف عن أن الإمام راضٍ به، ولو لم يكن راضياً لوجب عليه(علیه السّلام) أن يظهر ويبلغ بالحقيقة، باعتبار أنه المسؤول عن تبليغ الأحكام الشرعية الصحيحة، أو أن يذهب لأحد الفقهاء ويأمره بالمخالفة فينخرم الإجماع، كل ذلك من باب اللطف.

فالإجماع يكون حجة اذا كان كاشفاً عن رأي المعصوم.

الثانية: أن الإجماع إنما يكون حجة إذا لم يكن مدركياً، ولا محتمل المدرك.

ومعنى كونه مدركياً أو محتمل المدركية: أن يكون إجماع الفقهاء اعتماداً منهم على رواية، أو نحتمل ذلك على الأقل، فلو فرضنا أنهم أجمعوا على حكم شرعي، ولما تابعناه وجدنا أنهم يعتمدون في إجماعهم على رواية من الروايات، أو على الأقل احتملنا وجود رواية يمكن أن تكون هي المدرك لذلك الإجماع، عندئذٍ لا يكون الإجماع حجة، لوجود الرواية، إذ إن حجية الرواية أقوى من الإجماع، فالأولى حينها أن نذهب للرواية، لأنها قول المعصوم، إما الإجماع فهو يكشف عن رأي المعصوم وقد يكون هذا الكشف خطأً.

رابعاً: العقل:

أي ما يدركه العقل، بمعنى أن العقل يدرك قضية، هذه القضية من شأنها أن تقع حداً أوسطاً في استنباط الحكم الشرعي، فليست كل قضية عقلية تدخل دليلاً في الحكم الشرعي، وإنما القضية التي يدركها العقل والتي يمكن أن نستنبط منها حكماً شرعياً،

ص: 40

فتلك القضية تدخل في نطاق الأدلة الشرعية.

مثلاً: العقل يحكم بأنه إذا وجب الشيء فقد وجبت مقدمته التي لا يمكن أن يحصل بدونها، فالعقل يحكم بأن الشيء إذا توقف على مقدمة، وكان ذلك الشيء واجباً فمقدمته واجبة.

مثلاً: لو فرضنا أنه جاءنا دليل شرعي دلّ على أن الصلاة واجبة، ودليل ثانٍ دلّ على أنه لا صلاة إلا بطهور، فالشرع قال لنا هذين الدليلين فقط، حينها يأتي العقل وينظر في هذين الدليلين، فيجد أن معنى (لا صلاة الا بطهور)(1)

أن الطهارة هي مقدمة للصلاة، فيحكم العقل بوجوب الطهارة، رغم أن الشرع لم يقل: إن الوضوء واجب، وإنما قال: إن الوضوء مقدمة للصلاة، فيأتي العقل فيقول: ما دام هذا واجب -أي الصلاة-، وهذه مقدمة يتوقف عليها -وهي الوضوء-، إذن تلك المقدمة واجبة ايضاً، فمثل هذه الأحكام هي التي تدخل كدليل شرعي.

احتياج الاجتهاد إلى جهد وتوفيق.

ثم قال الشيخ(رحمه الله علیه): «وتحصيل رتبة الاجتهاد تحتاج إلى كثير من المعارف والعلوم التي لا تتهيأ إلا لمن جد واجتهد وفرّغ نفسه وبذل وسعه لتحصيلها».

بالإضافة إلى ما ذكره الشيخ، فإن رتبة الاجتهاد تحتاج إلى توفيق من الله(عزوجل) فالإمام الصادق(علیه السّلام) في نصيحته لعنوان البصري يقول: ليس العلم بالتعلم، إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه، فإن أردت العلم فاطلب أولاً من نفسك

ص: 41


1- في كتاب: من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق - ج 1 - ص 33 باب وقت وجوب الطهور ح 67: قال أبو جعفر الباقر8: إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة، ولا صلاة إلا بطهور.

حقيقة العبودية، واطلب العلم باستعماله واستفهم الله يفهمك.(1)

فهو يحتاج إلى توفيق، وليس مجرد تعلم، وهو الذي يذكره القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الَلهُ والله بكل شيءٍ عَلِيمٌ﴾(2)

وعلينا أن نلتفت إلى أن العلم ليس فضيلة بقدر ما هو مسؤولية، فالعلم مسؤولية قبل أن يكون فضيلة.

ص: 42


1- مشكاة الأنوار - علي الطبرسي - ص 563 الفصل العاشر من الباب الثامن.
2- البقرة 282.

عقيدتنا في المجتهد

اشارة

قال(قدس سره):

«عقيدتنا في المجتهد

وعقيدتنا في المجتهد الجامع للشرائط أنه نائب للإمام(علیه السّلام) في حال غيبته، وهو الحاكم والرئيس المطلق، له ما للإمام في الفصل في القضايا والحكومة بين الناس، والراد عليه راد على الإمام والراد على الإمام راد على الله(عزوجل)، وهو على حدِّ الشرك بالله كما جاء في الحديث عن صادق آل البيت(علیهم السّلام).

فليس المجتهد الجامع للشرائط مرجعا في الفتيا فقط، بل له الولاية العامة، فيرجع إليه في الحكم والفصل والقضاء، وذلك من مختصاته لا يجوز لأحد أن يتولاها دونه، إلا بإذنه، كما لا تجوز إقامة الحدود والتعزيزات إلا بأمره وحكمه.

ويرجع إليه أيضا في الأموال التي هي من حقوق الإمام ومختصاته.

وهذه المنزلة أو الرئاسة العامة أعطاها الإمام(علیه السّلام) للمجتهد الجامع للشرائط ليكون نائباً عنه في حال الغيبة، ولذلك يسمى (نائب الإمام)». انتهى.

نائب الإمام(علیه السّلام) على قسمين: خاص وعام، والخاص يكون في زمن حضور الإمام، أما في زمن الغيبة فلا يكون الا نائبٌ عام، وكل من ادّعى النيابة الخاصة في زمن الغيبة الكبرى للإمام المهدي(علیه السّلام)قبل الصيحة والسفياني فهو كذاب مفترٍ كما جاء في آخر

ص: 43

توقيع له(عجل الله تعالی فرجه الشریف) إلى سفيره الرابع علي بن محمد السمري.(1)

فالسفارة الخاصة تعني: أن يدعي الشخص أنه نائب الإمام المعصوم، وأن الإمام(علیه السّلام)حمّله بعض الأوامر، وأمره بإيصالها إلى الشيعة، وبالتالي يلزم على الشيعة طاعة ذلك الشخص.

وهذه هي المنفية بالرواية.(2)

أما أن يدعي شخص أنه نائب عام عن الإمام من دون أن يدّعي أن الإمام حمّله بعض الأوامر وأنه يجب على الشيعة إطاعته فهذا يعني أنه نائب عام، أي إنه مجتهد فهذا يجب علينا إطاعته من باب آخر، وهو باب لزوم الرجوع إلى ذوي الخبرة في مجال تخصصهم–كما تقدم-.

ص: 44


1- في كتاب كمال الدين وتمام النعمة - الشيخ الصدوق - ص 516 ب45 ح44.قال: حدثنا أبو محمد الحسن بن أحمد المكتب قال: كنت بمدينة السلام في السنة التي توفي فيها الشيخ علي بن محمد السمريv فحضرته قبل وفاته بأيام فأخرج إلى الناس توقيعا نسخته: «بسم الله الرحمن الرحيم يا علي بن محمد السمري أعظم الله أجر إخوانك فيك فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية فلا ظهور إلا بعد إذن الله(عزوجل) وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جورا، وسيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».
2- هنالك أدلة عدة على انقطاع السفارة غير الرواية المذكورة، ومنها التالي: أولاً: إن انقطاع النيابة والسفارة من أوليات وبديهيات وضروريات مذهب أهل البيت(علیهم السّلام). ثانيا: إجماع الفقهاء على انقطاع النيابة وإجماعهم على كفر وضلال مدعي السفارة والنيابة. ثالثا: التواتر وحاصله إن للإمام المهدي(علیه السّلام) غيبتين غيبة صغرى وغيبة كبرى وان الفارق بينهما أن الغيبة الصغرى الخفاء فيها ليس تاماً لوجود تمثيل رسمي للإمام(علیه السّلام)من خلال السفراء والنواب الخاصين وان الغيبة الكبرى يكون الخفاء فيها تاما أي الانقطاع تاما كما إن انتهاء الغيبة الصغرى يكون بانقطاع السفارة والنيابة الخاصة في حين انتهاء الغيبة الكبرى يكون بالبيعة للإمام(علیه السّلام) وظهوره وإقامة دولته وبروز جهاز إدارته. [مستفاد من مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي(عجل الله تعالی فرجه الشریف)].

يُضاف إليه: أن النائب الخاص يُعيّنه المعصوم بشخصه، كما حصل في السفراء الأربعة، أما العام فيعيّنه المعصوم لا بشخصه، بل بصفته. كما روي عن الإمام الحسن العسكري(علیه السّلام): «...فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا على هواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه، وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم...»(1)

أو مثلاً ما ورد عن الإمام المهدي(علیه السّلام): «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليكم».(2)

فالمجتهد نائب ووكيل عن المعصوم، ولكن وقع خلاف بين الفقهاء وهو:

هل المجتهد وكيل نائب عن المعصوم في كل ما للمعصوم من ولاية على الأنفس والأموال والأرض كلها، فالمعصوم ولايته عامة وهو أولى بنا من أنفسنا، فهل المجتهد ولايته هكذا؟

أو أن ولاية ونيابة المجتهد عن المعصوم هي في خصوص الأمور الحسبية؟ أي الأمور التي تتوقف عليها حياة الناس، والأمور التي يتوقف عليها النظام، والتي لو لم يتدخل بها المجتهد لأحدثت فوضى في المجتمع، كالنزاعات التي تحدث، وقضايا التوارث وقضايا الالتزام بأنظمة الدول، والتشريعات التي من شأنها أن تنّظم الحياة، وقضايا الدفاع عن بيضة الإسلام، أو الهجوم من أجل نشر الإسلام، والقضايا الحسبية كأموال الأيتام وما شابه؟

فهذه مسألة خلافية يرجع فيها إلى أبواب الفقه.

ص: 45


1- الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج 2 - ص 263 – 264.
2- الغيبة - الشيخ الطوسي - ص 291/247.

نكتة: في معنى الحدود والتعزيرات.

الحدود: هي العقوبات التي لها تقدير من الشارع، كحدّ شارب الخمر، وحد قذف المحصنة، وأما التي لم يحددها الشارع (ليس لها تقدير خاص من الشريعة) ويترك تحديدها للمجتهد فتسمى التعّزير، فالشارع ترك تحديدها للمجتهد حسب ما يرى، كالصبي اذا فعل معصية من المعاصي، فشرط إجراء الحدّ أن يكون بالغاً، ولكن لا يترك الصبي بلا عقوبة للتأديب، بل يعزّر من قبل المجتهد الجامع للشرائط.

ص: 46

الفصل الأول

الإلهيات

عقيدتنا في الله تعالى

قال(قدس سره):

«عقيدتنا في الله(عزوجل)

نعتقد إن الله(عزوجل)واحدٌ أحدٌ ليس كمثله شيء، قديمٌ لم يزل ولا يزال، هو الأولُ والآخرُ، عليمٌ حكيمٌ عادلٌ حيٌ قادرٌ غنيٌ سميعٌ بصيرٌ. ولا يوصف بما توصف به المخلوقات، فليس هو بجسمٍ ولا صورة، وليس جوهراً ولا عرضاً، وليس له ثقلٌ أو خفةٌ، ولا حركةٌ أو سكونٌ، ولا مكانٌ ولا زمانٌ، ولا يشار إليه. كما لا ندَّ له، ولا شبه، ولا ضد، ولا صاحبة له ولا ولد، ولا شريك، ولم كين له كفواً أحد، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.

ومن قال بالتشبيه في خلقه بأن صور له وجهاً ويداً وعيناً، أو أنه ينزل إلى السماء الدنيا، أو أنه يظهر إلى أهل الجنة كالقمر، (أو نحو ذلك) فإنه بمنزلةِ الكافر به جاهل بحقيقة الخالق المنزه عن النقص، بل كل ما ميّزناه بأوهامنا في أدقِّ معانيه فهو مخلوقٌ مصنوعٌ مثلنا مردودٌ إلينا (على حد تعبير الإمام الباقر(علیه السّلام)) وما أجله من تعبيرٍ حكيم!

ص: 47

وما أبعده من مرمى علمي دقيق!

وكذلك يلحق بالكافر من قال إنه يتراءى لخلقه يوم القيامة، وإن نفى عنه التشبيه بالجسم لقلقة في اللسان، فإن أمثال هؤلاء المدعين جمدوا على ظواهر الألفاظ في القرآن الكريم أو الحديث، وأنكروا عقولهم وتركوها وراء ظهورهم. فلم يستطيعوا أن يتصرفوا بالظواهر حسبما يقتضيه النظر والدليل وقواعد الاستعارة والمجاز».انتهى.

ملاحظات تمهيدية:

اشارة

الملاحظة الأولى: لماذا لم يذكر الشيخ (قدس سره) أدلة إثبات وجود الله تعالى؟

عندما نقرأ كتب الكلام والعقائد، نجد أن العلماء قبل أن يدخلوا في بحث صفات الله(عزوجل)، يدخلون في بحث إثبات وجوده(عزوجل) أولاً، وبعد إثبات وجوده تعالى يبحثون في صفاته، وهذا هو البحث المنهجي؛ لأنه كيف نبحث في الصفات قبل إثبات وجود الذات؟

ولكن الشيخ المظفر(رحمه الله علیه) دخل في بحث صفات الله(عزوجل) من دون أن يثبت وجوده، فلماذا فعل هذا؟ وما هو السر فيه؟

الجواب: بمراجعة مقدمة هذا الكتاب، نجد أن الشيخ(رحمه الله علیه) قد كتبه لبيان عقائد اتباع أهل البيت(علیهم السّلام) في قبال عقائد غير مذهبنا، يعني هو يتكلم مع من يدّعي الإسلام، أي مع العامة، ومن الواضح أنه في كلامه مع العامة لا يحتاج إلى إثبات وجود الله(عزوجل) باعتبار أن إثبات وجوده يكون زائداً عن الهدف الذي كتب من أجله كتابه؛ لأنهم على كل حال يعتقدون بوجوده جل وعلا.

وبعبارة أخرى: أنه(قدس سره) لم يكتب هذا الكتاب لاستقصاء كل ما له دخل في علم

ص: 48

الكلام، وإنما لبيان عقيدة الشيعة في أصول الدين العامة في قبال أهل السنة، ومعه فلا يحتاج هنا إلى أكثر من البحث في صفاته تعالى، لأن الخلاف فيما بيننا وبين العامة هو في الصفات، لا في أصل إثبات وجوده تعالى.

الملاحظة الثانية: تنبيهات لا أدلة.

حيث إن وجود الله تعالى أمر بديهي، فلا يحتاج إلى إقامة برهان عليه، باعتبار أن العقل يدرك ضرورة وجود واجب الوجود، أو قل يدرك ضرورة وجود الله تعالى.(1)حتى لو فرضنا أنه لا توجد رسالات ولا آيات ولا روايات، فالعقل يدرك لوحده ضرورة وجود خالق، عالم، مدبر، مريد، قادر، حي لهذا العالم، بغض النظر عن تسمية هذا الذي أوجد هذا العالم، فقد يسميه البعض واجب الوجود -مثل الفلاسفة-والبعض يسميه (الله) مثلاً والبعض يسميه الصانع، بالنتيجة نحن نؤمن بأن هناك شيئاً أوجد العالم وهو موجود، والعقل يدرك هذه الضرورة، فلذلك لا نحتاج إلى إقامة الدليل على ذلك.

نعم، إنما تذكر الأدلة من باب المنبهات، باعتبار أن هذا الأمر وإن كان بديهياً، ولكن يمكن أن تدخل عليه الشبهة، فنحتاج إلى إزاحة وإزالة تلك الشبهة.

وهذا يعني: أن ما يذكره القرآن الكريم والروايات الشريفة من أدلة على وجود الله(عزوجل) ستكون من باب الإرشاد لا التأسيس.

الملاحظة الثالثة: برهان النظم.

قيل: إن الطرق الموصلة إلى الله(عزوجل) بعدد أنفاس الخلائق –كما يُقال-، ولكن مع ذلك تجد أن العلماء ذكروا أنواعاً عديدةً من الأدلة وعنونوها بعناوين خاصة، فمن برهان الإمكان والوجوب إلى برهان النظم إلى برهان انقطاع الدور والتسلسل وبرهان

ص: 49


1- واجب الوجود والله(عزوجل) عنوانان لمعنون واحد.

المفهوم والفطرة وما شابه، لكن القرآن الكريم ركّز على نوع من هذه الأنواع.

قد نجد في بعض آياته إشارات إلى بعض الادلة الفلسفية والكلامية وما شابه، ولكنّ هناك تركيزاً على نوع من أنواع تلك البراهين وهو: برهان النظم.

قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت 53]

وفي هذه الملاحظة خطوتان:

الخطوة الأولى: بيان برهان النظام.

تتبين خلاصة برهان النظم عبر مقدمتين:

المقدمة الأولى: إن هناك نظاماً دقيقاً يحكم عالم الوجود من الذرة إلى المجرة.

فكلُّ ما في هذا الوجود هو خاضع لنظام دقيق من أبسط شيء فيه إلى أكبره، هذه المقدمة الأولى، وهي صغرى القياس.

المقدمة الثانية: إن العقل يحكم بامتناع أن يكون هذا النظام من دون منظِّم، عالم، قادر، مريد، أي إنه يستحيل أن تكون الصدفة هي من أوجدت هذا النظام، وهذه تمثل كبرى القياس.

والنتيجة من هاتين المقدمتين: أن هذا الوجود والعالم له منظِّم قادر، عالم، حي، مريد، مدرك، هذا المنظِّم هو الذي نحن نسميه: الله(عزوجل).

ص: 50

هذه هي خلاصة برهان النظم

اشارة
بيان الصغرى:

أما أن هذا العالم مبتنٍ على نظام دقيق، فهذه لا تحتاج إلى إثبات، أنت فقط انظر إلى أي مفردة من مفردات هذا العالم، ستجدها مبتنية على أساس دقيق من النظام، وكلما تطور العلم اكتشف أنظمة أكثر في هذا الوجود، وهذا ما قد تشير له الآية الكريمة: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾(1)

فالعلماء هم الذين يستطيعون أن يكتشفوا هذا النظام الدقيق الموجود في مخلوقات الكون على اختلاف تخصصاتهم.

يوجد كتاب (الله يتجلى في عصر العلم) كتبه مجموعة من العلماء الأمريكان في تخصصاتهم (اقتصادية، فيزيائية، زراعية) من خلال نظرهم للنظام الدقيق المحسوب في كل مفرداته وتيقّنوا بأن هذا النظام لابد أنْ يكون له منظِّم عالم، ونظامه وعلمه أدق مما هو موجود، وإلا فكيف أفاض هذا النظام وهو غير منظَّم وهو غير عالم، وفاقد الشيء لا يعطيه!

فالصغرى-أي إن هذا العالم مبتنٍ على نظام- يثبتها كل علم في مجاله، فعلم الطب يبحث في جسم الإنسان فيجد أن هناك نظاماً دقيقاً فيه، بل نجد أن هناك نظاماً دقيقاً في كل عضو من أعضائه الداخلية، ليس فقط العضو بنفسه، وإنما هناك توافق في العمل بينأعضاء الجسم كلها، فكل عضو يأخذ دوره ويقوم بما عليه من واجب، ويأخذ ما عليه من حقوق، وهناك تقسيم دقيق في كل عضو من اعضاء الإنسان وهكذا...

وعندما تذهب إلى عالم النبات، تجد أيضاً أن العلماء اكتشفوا أن ثمة علاقات تبادلية

ص: 51


1- فاطر 28.

-تبادل منفعة- بين بعض الموجودات والموجودات الاخرى، فهذا يعيش طفيلياً على نبات، وفي نفس الوقت يخلص ذلك النبات من عثة تريد أن تقتله، بالنتيجة، يمكننا أن ننظر إلى ما في الآفاق وإلى ما في الأنفس فنكتشف دقة هذا النظام.

بيان الكبرى:

وأما الكبرى – أي إن هذا النظام لابد له من منظِّم- فهي وجدانية عقلية لا ينكرها إلا مجنون أو مكابر، وإلا فالعقل لوحده يحكم باستحالة أن يكون هناك نظام من دون أن يوجد من نظّمه وينظّمه، وذلك المنظِّم لا بد أن يكون عالماً، تماماً كما إذا رأيت لوحةً مرسومةً بدقة معلقة على الحائط، فإن العقل يستحيل أن يحكم بأن هذه اللوحة رُسمت لوحدها وتعلّقت لوحدها على الحائط، فالعقل يحكم بأن هناك مَن أخذها وعلّقها على الحائط، هذا بصورة مصغّرة، وهكذا فالعقل يُدرك أن هذا النظام لا بد له من منظِّم، وهذه مسألة وجدانية لا نحتاج فيها إلى أكثر من التفكّر قليلاً.

وقد تعدّدت الصياغات لبرهان النظم، ضمن إطار عام واحد يتمثل بالانتقال من النظام إلى وجود المنظِّم، فقد روي أنّه سُئل أمير المؤمنين(علیه السّلام)عن إثبات الصانع، فقال: «البعرة تدل على البعير، والروثة تدل على الحمير، وآثار القدم تدل على المسير، فهيكل علوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة كيف لا يدلان على اللطيف الخبير؟»(1)

ويُقال: كان هناك فيلسوف لديه ألف دليل على نفي وجود الله تعالى، وأخذ على عاتقه أن يذهب ويناقش أحد العلماء، وفي الطريق مرّ على فلّاح، فسأله: «أين بيت العالم (فلان)»؟ قال الفلّاح: «ما تريد منه؟» أجاب الفيلسوف: «لدي ألف دليل على عدم وجود الله». فرد عليه الفلّاح قائلًا: «لا داعي لأن تذهب إلى العالم، فأنا أجيبك: عندي

ص: 52


1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 3 - ص 55.

دليل واحد على وجود الله ينسف أدلتك الألف! أرضي الزراعية هذه! فأنا أفتح الماء هنا وأقطعه هناك، فإن أهملتها ساعة واحدة مات الزرع، فأرض بمقدار دونم واحد إذا لم يكن لها ربٌّ تموت، وهذا العالم بأسره تنتظم أموره بلا رب؟! إنه المستحيل بعينه!

فهذا هو نفس دليل «النظام»، لكن الرجل صاغه بعبارته.

ومن اللطائف التي تنقل عن الشيخ أبي الحسن علي ابن ميثم البحراني أنه دخل على الحسن بن سهل وإلى جانبه ملحد قد عظّمه والناس حوله، فقال: لقد رأيت ببابك عجباً، قال: وما هو ؟ قال: رأيت سفينة تعبر بالناس من جانب إلى جانب، بلا ملّاح ولا ماصر، قال: فقال له صاحبه الملحد وكان بحضرته: إن هذا -أصلحك الله- لمجنون، قال: فقلت: وكيف ذاك ؟ قال: خشب جماد لا حيلة له ولا قوة ولا حياة فيه ولا عمل كيف يعبر بالناس ؟ قال: فقال أبو الحسن: فأيّهما أعجب: هذا أو هذا الماء الذي يجري على

وجه الأرض يمنة ويسرة بلا روح ولا حيلة ولا قوى، وهذا النبات الذي يخرج من الأرض، والمطر الذي ينزل من السماء، تزعم أنت أنه لا مدبر لهذا كله، وتنكر أن تكون سفينة تحرّك بلا مدبر وتعبر بالناس! قال: فبُهت الملحد.(1)

فكل واحد يصوغه بعبارته الخاصة، فهذا البرهان لا يحتاج أكثر من مطالعة النظام وتطبيقه على القاعدة العقلية التي تقول: إن النظام لا بد له من منظِّم.

روي عن الامام الصادق(علیه السّلام) في الكافي رواية تشير إلى برهان النظم: أن زنديقاً سأل الامام(علیه السّلام): ما الدليل على صانع العالم؟ [يعني أن الزنديق سأل عن شيء خارج العالم وهو صَنَعَ العالم، أي أخذ العالم كموجود وهناك من أوجده] فقال أبوعبد الل(علیه السّلام): «وُجُودُ الأَفَاعِيلِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ صَانِعاً صَنَعَهَا، ألَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى بِنَاءٍ مُشَيَّدٍ مَبْنِيٍّ

ص: 53


1- الفصول المختارة - الشريف المرتضى - ص 76.

عَلِمْتَ أَنَّ لَه بَانِياً وإِنْ كُنْتَ لَمْ تَرَ البَانِيَ ولَمْ تُشَاهِدْه».(1)

فبمجرد أن ترى الأثر تنتقل إلى المؤثر، وبمجرد أن ترى النظام تنتقل إلى المنظم.

الخطوة الثانية: لماذا ركز القرآن الكريم على هذا البرهان؟

نجد في الآيات القرآنية بعض الإشارات إلى بعض الأدلة الفلسفية والكلامية، لكن هناك الكثير من الآيات التي تشير إلى هذا البرهان، والسبب في ذلك -والله العالم- يرجع إلى التالي:

أولاً: إن هذا البرهان يتلاءم مع المستويات العلمية المختلفة وحتى المتباينة، فالإنسان العادي الذي ليس عنده معارف كثيرة يستطيع أن يستدل بهذا البرهان ليثبت وجود الله(عزوجل)، وكذلك العالم المتخصص أيضًا يستطيع أن يستدل بهذا البرهان، فهو برهان يشمل الجميع، بمعنى أنه يمكن أن يستعمله الجميع.

فهو ليس كبرهان الوجوب والإمكان، الذي يحتاج إلى دراسة معينة في الفلسفة، ومعرفة العديد من الاصطلاحات والقواعد الفلسفية، ومعرفة بطلان الدور والتسلسل، وبحوث متعددة حتى تصل إلى إثبات وجود الله(عزوجل)من خلاله، فهو خاص بفئة من الفئات، أما برهان النظم فهو شامل لكل الناس.

ثانياً: إنه خالٍ من التعقيدات اللفظية، والمصطلحات العلمية والفلسفية، التي تحتاج إلى درس وتأمل، فلا يحتاج إلى اصطلاحات ولا تأملات، فبمجرد أنك تعرض

ص: 54


1- الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 81 باب حدوث العالم وإثبات المحدِث ح5، وتمام الرواية: قَالَ: «فَمَا هُوَ؟ قَالَ: شَيْءٌ بِخِلَافِ الأَشْيَاءِ ارْجِعْ بِقَوْلِي إِلَى إِثْبَاتِ مَعْنًى، وأَنَّه شَيْءٌ بِحَقِيقَةِ الشَّيْئِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّه لَا جِسْمٌ ولَا صُورَةٌ ولَا يُحَسُّ ولَا يُجَسُّ ولَا يُدْرَكُ بِالحَوَاسِّ الخَمْسِ، لَا تُدْرِكُه الأَوْهَامُ ولَا تَنْقُصُه الدُّهُورُ ولَا تُغَيِّرُه الأَزْمَانُ».

هذا البرهان بلغته البسيطة الواضحة للإنسان، فإن النتيجة تتضح له بكل يسر.

ثالثاً: إنه متجدد مع الزمن، باعتبار أن صغراه -المقدمة الاولى- ترتكز على النظام الموجود في الكون، فكلما تقدمت العلوم اكتشفت أنظمة أكثر، فيتجدد هذا البرهان مع تجدد العلوم.

الملاحظة الرابعة: بيان معنى الواجب والممكن.

قسّم الفلاسفة والمتكلمون الموجود إلى قسمين: واجب الوجود، وممكن الوجود.

أما واجب الوجود فيعني: الموجود الذي يكون وجوده نابعاً من ذاته، لا من شيء آخر، فهو موجود بذاته لذاته في ذاته، لم يكتسب وجوده من الخارج، ولا يحتاج إلى شيء آخر يفيض عليه الوجود.

وأما ممكن الوجود: فهو الموجود المسبوق بالعدم، بمعنى أنه يكون قد استفاد وجوده من غيره، لا من ذاته، فهو في ذاته لا يستحق إلا العدم، وإنما يأخذ وجوده من غيره، فيكون ممكن الوجود.

وكل ما عدا الله(عزوجل)–المعبّر عنه بالعالم- هو ممكن الوجود، والله لا يدخل في ضمن العالم، لأنه خالق العالم وهو فوق العالم، فالعالم هو عالم الممكنات.

والمقصود من هذا التقسيم هنا هي الإشارة إلى أن واجب الوجود له خصائص.

ما هي خصائص واجب الوجود؟

هذه الخصائص إذا عرفناها الآن ستنفعنا في عقيدتنا في الله(عزوجل) وعقيدتنا في التوحيد وبقية مباحث الإلهيات، فأكثر مباحث الصفات ترتكز على هذه الخصائص لواجب الوجود، مع الالتفات إلى ما قلناه في الدرس الأول من أن كثيراً من الأمور التي نذكرها

ص: 55

هنا في هذه المرحلة هي على نحو الدعوى من دون دليل، لأن أدلتها تحتاج إلى تعمق أكثر، فتُترك لمرحلة أخرى، لكنها على كل حال حق واضح، أما الآن فنأخذها كأصل موضوعي، أي إنها ثبتت في مرحلة مسبقة أو في علم آخر، ويتم الاستفادة منها هنا كقاعدة مسلَّمة صحيحة لا نقاش فيها.

وأما مميزات وخصائص واجب الوجود فهي التالي:

اشارة

أولاً: إنه واحد في ذاته لا متعدد، وهذا تثبته أدله التوحيد التي ستأتي إن شاء الله تعالى، فإذا وجدنا شيئاً له ثانٍ، عدل، ند، نظير، مثيل، فهو ليس واجب الوجود، لأن واجب الوجود واحد في ذاته، لا يشبهه شيء، ولاند له، لأن الندّ نفسه مقابل له، فيصيران اثنين، وكذا المثل، الشبه، النظير، كلها منفية، فواجب الوجود واحد فقط.

ثانياً: إنه غني مطلق، فلا يحتاج إلى أي شيء لا خارجاً ولا ذهناً؛ لأن الاحتياج صفة الممكن، أما الواجب فصفته الغنى المطلق.

فبمجرد فرض الاحتياج -سواء في الخارج أي الوجود الخارجي أو في الذهن- فلا يكون واجب وجود، بل سيكون ممكن الوجود، والفرض الذي فرضناه أنه واجب وجود، فيصير خُلف المفروض.

إن واجب الوجود لا يحتاج إلى شيء في الخارج، فمثلاً البيت، مركب من عدة أجزاء خارجية، وهي الطابوق والاسمنت والجص والأبواب والشبابيك وهكذا، هذه تتجمع وتكوّن لنا شيئاً خارجياً وهو البيت، فالبيت محتاج إلى أجزائه الخارجية.

ولا يحتاج إلى شيء في الذهن، فمثلاً الماهية، هي مركبة من جنس ونوع، مثل: «الإنسان حيوان ناطق» فهذه الماهية مركبة في الذهن لا في الخارج، فأنت تحلّل الإنسان في ذهنك فتقول: هذا قسم منه حيوان وقسم منه ناطق، يتركبان فتصير ماهية الإنسان،

ص: 56

فصار مركباً من جزئين.

إذن هو محتاج إلى أجزائه، فاذا أخذت جزءاً من أجزائه فلا يبقى إنساناً، فلذلك هو ممكن.

واجب الوجود غني مطلق لا يحتاج إلى شيء لا في الخارج -كالبيت- ولا في الذهن -كماهية الإنسان التي تحتاج إلى الحيوان والناطق حتى يكون إنساناً-

ثالثاً: ما دام هذا واجب الوجود، اذن كل صفات الممكنات تكون منفية عنه، فمثلاً واحدة من صفات الممكنات المادية أنها أجسام، فواجب الوجود ليس بجسم.

بعض الممكنات أعراض -مثل اللون الذي يعرض على الحائط، إذ اللون لا وجود مستقلًا له، إنما يوجد في الخارج إذا عرض على الحائط- فواجب الوجود ليس بعرض.

وهكذا فالممكن يجوع، يعطش، يحتاج إلى الراحة، يحتاج إلى النوم وإلى التكاثر، هذه الصفات كلها غير موجودة عند واجب الوجود، وإلا لم يكن واجب الوجود.

فكل صفات الممكنات –بما هي ممكنات- منفية عن واجب الوجود.

رابعاً: إن واجب الوجود متصف بكل الصفات الكمالية وبدرجاتها الوجودية المطلقة، كل صفات الواجب كاملة ولا نقص في أي صفة من صفاته، ولو كان فيها نقص فهذا يعني أن الواجب يحتاج إلى غيره من أجل تتميم هذه الصفة، وإذا احتاج إلى غيره أصبح ممكن الوجود.

إشارة: بيان معنى لفظ الجلالة وسبب عدم إمكان المعرفة التامة.

لفظ الجلالة: الله(عزوجل): هذا اللفظ اسم خاص لذات الواجب جل جلاله، وهو بمعنى المعبود، أو الذي تحيرت العقول عن إدراك ذاته، أو المستور عن إدراك العقول، فهناك

ص: 57

حاجب بين تلك الذات وبين تلك العقول يمنعها من إدراك حقيقة الذات.

ولكن ما هو ذلك الحاجب؟

الحاجب هو أن العقول متناهية، والواجب لا متناهي، وفي الرياضيات يقولون: إن الفاصل بين المتناهي واللا متناهي هو فاصلٌ لا متناهي، فلا يستطيع المتناهي أن يدرك اللا متناهي، والمحدودُ لا يستطيع أن يدرك اللا محدود، فهناك فاصلة غير متناهية بينهما، لذلك لا نستطيع أن ندرك حقيقة الله(عزوجل)، وبهذا الاعتبار نفهم الروايات الواردة عن أهل البيت(علیهم السّلام) التي نهت عن الكلام في الله(عزوجل) وأنه لا تبحثوا في ذات الله(عزوجل)، ولا تنظروا في ذات الله(عزوجل)، وأن الذي يبحث يضيع ويتيه، ويُخاف عليه أن يقع في الإلحاد! فالمقصود منها هو البحث عن الذات وحقيقتها، فهذا أمر مستحيل علينا، لا نستطيع -نحن القاصرين والمحدودين-أن ندرك تلك الذات اللا متناهية.

بل نحن لا نستطيع ان ندرك حقيقة بعض الأمور الموجودة في عالمنا المادي، فكيف بالله(عزوجل)؟!

فالروايات الناهية عن البحث في الله(عزوجل) تقصد البحث عن حقيقة الذات المقدسة، فهذا أمر لا يستطيع أي انسان أن يصل اليه، وتتيه العقول عن معرفته.

وهذا يعني: أن البحث الممكن لنا عن الله(عزوجل) هو البحث عن آثاره جل وعلا وأفعاله وما كشفه هو تعالى لنا.

فمثلاً نحن قد لا نعرف حقيقة الكهرباء، لكننا نرى آثارها إذا دخلت إلى آلة أو جهاز فحركته أو دخلت إلى المصباح لتجعله يضيء، أو دخلت إلى مدفئة تجعلها تبعث الدفء، أو دخلت جهاز تبريد تجعله يعطي البرودة وهكذا.

ص: 58

فهذه آثار الكهرباء، أما حقيقتها فقد لا نعرفها، لكننا نستدل على وجود الكهرباء من آثارها، طبعاً المثال يقرب من جهة وقد يبعد من ألف جهة، وذات الله(عزوجل) ممتنعة المعرفة علينا، فلا يمكن أن ندرك تلك الذات المقدسة، لكننا نتعرف على الله(عزوجل) من خلال آثاره -كما بحثنا الآن وأثبتنا وجود الله(عزوجل) عن طريق برهان النظم، فننتقل من المعلول إلى العلة-

وهذا طريقنا نحن -طريق العميان-! وإلا ففي دعاء الامام الحسين(علیه السّلام) يقول: «إِلهِي تَرَدُّدي فِي الآثارِ يُوجِبُ بُعْدَ المَزارِ فاجْمَعْنِي عَلَيْكَ بِخِدْمَةٍ تُوصِلُنِي إِلَيْكَ، كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِما هُوَ فِي وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَيْكَ أَيَكُونُ لِغَيْرُكَ مِنَ الظُّهُورِ ما لَيْسَ لَكَ حَتَّى يَكُونَ هُوَ المُظْهِرَ لَكَ؟ مَتى غبْتَ حَتَّى تَحْتاجَ إِلى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ وَمَتى بَعُدْتَ حَتَّى تَكُونَ الآثارُ هِيَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْكَ؟ عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تَراكَ عَلَيْها رَقِيباً وَخَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْدٍ لَمْ تَجْعَلَ لَهُ مِنْ حُبِّكَ نَصِيباً».

فتوجد حجب تمنعنا من معرفته تعالى والوصول إليه مباشرة، فنبقى نتردد بين المعلولات والآثار.

قال(عزوجل): «نعتقد أن الله تعالى واحدٌ أحد».

سوف نمر على هذه الصفات مروراً سريعاً مع شرحٍ بسيط لها إن شاء الله تعالى.

أولاً: الواحد الأحد.

ما هو فرق بين الواحد والأحد؟

الواحد: هو الذي لا شريك له، إذ قلنا: إن واجب الوجود واحدٌ غير متعدد.

يقول أمير المؤمنين(علیه السّلام) في وصيته لابنه الإمام الحسن(علیه السّلام): «واعْلَمْ يَا بُنَيَّ، أَنَّه لَوْ

ص: 59

كَانَ لِرَبِّكَ شَرِيكٌ لأَتَتْكَ رُسُلُه، ولَرَأَيْتَ آثَارَ مُلْكِه وسُلْطَانِه، ولَعَرَفْتَ أَفْعَالَه وصِفَاتِه، ولَكِنَّه إِلَه وَاحِدٌ كَمَا وَصَفَ نَفْسَه، لَا يُضَادُّه فِي مُلْكِه أَحَدٌ ولَا يَزُولُ أَبَداً»(1).

فالواحد بمعنى أنه غير متعدد، فلا شريك له.

أمّا الأحد: فهو بمعنى غير المركب من أجزاء لا خارجاً ولا ذهناً، ويصطلح عليه في الفلسفة بالبسيط، أي ما ليس له أجزاء خارجية ولا أجزاء ذهنية(2).

ثانياً: «ليس كمثله شيء»:

البعض فسّرها بأن الله(عزوجل) له مثل، وهذا المثل ليس هناك شيء يشبهه، فعندنا الله، وعندنا مثل لله(عزوجل)، وهذا المثل ليس هناك شيء يشبهه، فليس كمثله شيء!

وهذا تفسير خلاف التوحيد الذي يقول: إن الله واحد لا شريك له.

ويظهر أنه قد جاء هذا التفسير من ملاحظة الآية بلفظها بما هي: «لَيس كمثلِهِ شيءٌ»، وجعل الكاف أصلية للتشبيه.

ولكن الصحيح كما يقول المفسرون الموحدون عموماً: إن هذه الكاف زائدة (كمثله) وحروف الزيادة يؤتى بها كناية عن معنى، كالتأكيد وما شابه، فالتقدير «ليس مثلَه شيءٌ» فليس المقصود نفي الشبيه عن مثله، وإنما المقصود: نفي الشبيه عن نفسه، فالله سبحانه لا يوجد شيءٌ مثله، نفسه، يضاده أبداً.

ص: 60


1- نهج البلاغة: ج3، ص44.
2- ومن هنا احتجنا الى بيان الصفات الخبرية مثل صفة الوجه واليد، إذ كيف مع كونه(رحمه الله علیه) غير مركب يكون له وجه؟ إن هذا بظاهره يعني أنه مركب من وجه وغير الوجه، له وجه وله يد، وبروايات العامة له رجل وله عين، هذه كيف نوفق بينها وبين كونه أحداً غير مركب؟ وهذا يأتي بحثه في محله إن شاء الله تعالى.

وهذا ما صرّحت به بعض الروايات الشريفة، فقد روي عن رسول اللهs أنه قال: «ليس شيء إلّا وله شيء يعدله، إلّا الله(عزوجل) فإنه لا يعدله شيء»(1).

وعن أمير المؤمنين8: «ولَا لَهُ مِثْلٌ فَيُعْرَفُ بِمِثْلِه»(2).

هذان الحديثان يوضّحان هذه الصفة التي هي آية من آيات القرآن الكريم، وردت بهذا المعنى، كل شيء له عدل، له شيء يعدله إلّا الله(عزوجل)، فليس له مثلٌ فيُعرف به، وهذا يفسر لنا المقصود من هذه الآية، وأن الكاف زائدة وأن المقصود: ليس مثله شيء.

ثالثاً: قديمٌ لم يزل ولا يزال:

القديم: هو الموجود غير المسبوق بالعدم، أو هو الموجود الذي ليس لوجوده ابتداء، ولم يسبقه أي شيء ويقابله (الحادث)، أي الموجود المسبوق بالعدم، يعني لم يكن ثم كان.

ويُعبر عن القديم بالأزلي، فالقديم والأزلي هما بمعنى واحد.

وهو تعالى أبدي أيضاً، بمعنى أنه لا نهاية له، فالعالم – نحن الممكنات – لنا بداية ولنا نهاية، ولكن الله سبحانه وتعالى قديم، بمعنى أنه لما ترجع الى أعماق الماضي فإنك تجد الله(عزوجل) موجوداً، إلى أن تصل إلى مرحلة إنهاء الزمن!! إذ الزمن مخلوق من المخلوقات، فهو حادث، فلو رجعت إلى ما قبل الزمن، فإنك تجد الله موجوداً، وكذلك من جهة المستقبل، فهو تعالى موجودٌ أبداً.

والقديم الباقي، أو الأزلي الأبدي تجمعهما صفة (السرمدي)، فالسرمدي هو من لا بداية له ولا نهاية.

ص: 61


1- ثواب الأعمال – الشيخ الصدوق: ص3.
2- الكافي – الشيخ الكليني: ج1، ص142، باب جوامع التوحيد، ح7.

رابعاً: الأول والآخر:

الأول: لغةً هو مبتدأ الشيء، تقول عليه: أول، والآخر هو نهاية الشيء ومنتهاه.

وإذا وصف الله(عزوجل) بالأول والآخر فيكون المعنى: أن الله(عزوجل)محيط بكل الموجودات، فكل موجود تفرضه في الماضي فإن الله تعالى قبله، وكل موجود تفرضه في المستقبل فإن الله تعالى بعده، وهو معنى قريب من القديم والباقي، فهو تعالى محيطٌ بجميع الأشياء، العالم كله بالنسبة له تعالى كالدرهم في كفّ أحدنا – مع حفظ فارق اللا تناهي -.

ولو التفت الإنسان الى هذا المعنى من الإحاطة، لأمكنه أن يفهم شيئاً من قوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ﴾ (الحديد: 4)، ومن قوله تعالى: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضىٰ مِنَ القَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً﴾(1)

خامساً: عليم:

عن الامام الصادق8 أنه قال: «إن الله علمٌ لا جهل فيه، حياةٌ لا موت فيه، نورٌ لا ظلمة فيه»(2).

العلم يكون عندنا من اكتساب المعلومات، يعني أن الذهن فارغ من المعلومات، فأقرأُ كتاباً أو أستمع للمحاضرة أو أدرس في مدرسة، فأصيرُ عالماً، وهذا الذي يسمونه بالعلم (الكسبي).

أمّا علم الله(عزوجل) فهو ليس من هذا النوع، لماذا؟ لأن الكسبي مسبوق بالعدم، بالجهل، أنا مثلاً لم أكن أعرف بقواعد اللغة العربية، تعلمت وصرت عالماً باللغة، فعلمي باللغة

ص: 62


1- النساء: 108.
2- التوحيد – الشيخ الصدوق: ص137، في كونه تعالى عالماً، ح11.

العربية مسبوق بعدم علمي، فصار علمي كسبياً.

ولو قال شخصٌ: بأن علم الله(عزوجل) من هذا النوع، فهذا كفرٌ بالله(عزوجل)، لأنه يستلزم أن الله تعالى كان جاهلاً ثم عَلِم (أستغفر الله تعالى)، وهذا خلاف الخصيصة الثانية التي ذكرناها في خصائص واجب الوجود من أنه غني مطلق، والجاهل يحتاج إلى من يُفيض عليه العلم.

فعلمه تعالى علم حضوري لا كسبي.(1)

ما معنى العلم الحضوري؟

بمعنى أن نفس الشيء حاضرٌ عند العالم، فعلم الله تعالى بي هو علم حضوري، وهو ليس كصورة التقطتها الكاميرا وحولتها إلى الشاشة أمام الله(عزوجل)، كلا، ليس بهذا المعنى، وإنما أنا كلي حاضرٌ عند الله(عزوجل)، فكل الموجودات تكون حاضرة عند الله(عزوجل) لا تغيب عنه طرفة عين.

سادساً: الحكيم:

الحكيم فُسِّر بتفسيرين:

التفسير الأول: هو الذي يضع الشيء المناسب بالقدر المناسب في الوقت والزمن المناسب والمكان المناسب، فباختصار ما قاله أمير المؤمنين(علیه السّلام): «هُوَ الَّذِي يَضَعُ الشَّيْءَ مَوَاضِعَه»(2).

ص: 63


1- في مراحل أعلى من علم الكلام يُقال: إن علمه تعالى إحاطي لا حضوري ولا كسبي.
2- في نهج البلاغة: ج4، ص52: وقِيلَ لَه صِفْ لَنَا العَاقِلَ - فَقَالَ8: «هُوَ الَّذِي يَضَعُ الشَّيْءَ مَوَاضِعَه». فَقِيلَ فَصِفْ لَنَا الجَاهِلَ. فَقَالَ: «قَدْ فَعَلْتُ». «قال الرضي: يعني أن الجاهل هو الذي لا يضع الشيء مواضعه، فكأن ترك صفته صفة له، إذ كان بخلاف وصف العاقل».

فمعنى أن الله سبحانه وتعالى حكيم هو أن كل أفعاله حكيمة، قال تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ﴾(1)

ولذا قالوا في علم الكلام: إن أفعال الله(رحمه الله علیه) معلّلة بالغايات، يعني أن كل أفعال الله(عزوجل)لها غاية ولها هدف ولها حكمة، وهذا اعتقاد تعبّدي، فسواء علمنا بالحكمة أو لم نعلم، فإنه ليس من الضروري أن أعرف الحكمة والهدف والغاية من كل فعل من أفعال الله(عزوجل) بعد أن آمنت بالدليل القطعي بأنه حكيم في كل أفعاله(عزوجل)، فكل فعل يصدر من الله(عزوجل) أو يأمر به الله(عزوجل) فإن له حكمة، وغاية، سواء عرفتها أو لا.

ومن هذا القبيل ما ورد من أنه سئل الإمام الصادق(علیه السّلام) عن علة غيبة الإمام المهدي(عجل الله تعالی فرجه الشریف) فأجاب بأن العلة الحقيقية لم يؤذن لنا بالكشف عنها، إلى أن يخرج القائم(عجل الله تعالی فرجه الشریف) فيبين العلة الحقيقية، وهذا يستبطن أنه إذا آمنتم بأن الغيبة هي بأمر الله(عزوجل) فاطمئنوا بأن وراءها حكمة ليس من الضروري معرفتها الآن، وهذا لا ينافي البحث عنها طبعاً.(2)

ومن هنا تجد أن علماء الكلام يبحثون فيما يتساءل الملحدون عن الحكمة من وجود العقرب رغم كونها سامة، وعن الحكمة من حدوث هذه الزلازل والعواصف

ص: 64


1- القمر: 49.
2- في كمال الدين: 481 و482/ باب 45/ ح 11 ورد عن عبد الله بن الفضل الهاشمي، قال: سمعت الصادق جعفر بن محمّد(صلی الله علیه و آله و سلم) يقول: «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبة لا بدَّ منها، يرتاب فيها كلّ مبطل»، فقلت له: ولِمَ جُعلت فداك؟ قال: «لأمر لم يُؤذَن لنا في كشفه لكم»، قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟ فقال: «وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدَّمه من حجج الله تعالىٰ ذكره، إنَّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلَّا بعد ظهوره كما لا ينكشف وجه الحكمة لما أتاه الخضر(علیه السّلام) من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار، لموسىٰ(علیه السّلام) إلَّا وقت افتراقهما. يا ابن الفضل، إنَّ هذا الأمر أمر من أمر الله تعالىٰ، وسرّ من سرّ الله، وغيب من غيب الله، ومتىٰ علمنا أنَّه(عزوجل)حكيم، صدَّقنا بأنَّ أفعاله كلّها حكمة، وإن كان وجهها غير منكشف».

والفيضانات التي تفتك بالعالم وتقتل النفوس البريئة وتحدث أضراراً اقتصادية، فكيف نجمع بين كون الله(عزوجل)حكيماً وبين هذه الأفعال التي ظاهرها الشرور؟!

وهذا بحث مستقل يبحثونه في علم الكلام.

وفي هذه المرحلة يكفينا أن نؤمن بأن الله(عزوجل) حكيم في كل أفعاله، فكل فعل يصدر منه تعالى فله حكمة وهدف، سواء علمنا بالحكمة أو لم نعلم.

دليل غائية الأفعال الإلهية.

وطبعاً هذا له دليله، وهو باختصار: أن الله سبحانه وتعالى أو أي موجود إنما يفعل شيئاً عبثاً لسبب ما، والسبب إمّا كونه محتاجاً لهذا الفعل العبثي – والله غني كما ذكرنا في خصائص الواجب -، أو لا يدري أن هذا الفعل عبثي – وهذا جاهل والجاهل ليس بكامل وهذا خلاف الخصيصة الرابعة وهي أن صفاته كلها كمالية -، أو مثلاً يُجبر على هذا الفعل – وهذا لا يُتصور في الله تعالى لأن معناه أنه عاجز ومسلوب الإرادة وهو خلاف القدرة والإرادة الإلهية– أو أنه مضطر لفعله عبثاً– وهذا منزّه عنه جل وعلا إذ لا موجود أعلى منه يضطره إلى فعل معين-.

فكل مبررات العبث غير موجودة عند الله(عزوجل)، فلا يبقى إلّا أن يفعل الفعل عن هدف وعن حكمة.

فالتفسير الأول للحكمة هو: الذي يضع الشيء في موضعه المناسب.

التفسير الثاني: هو الذي إذا فعل فإنه يُحكم فعله ويُتقنه، فحكيمٌ هو بمعنى من يُتقن العمل، وأن أفعاله محكمة دقيقة مرتبة منظمة ﴿صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾(1)

ص: 65


1- النمل: 88.

سابعاً: عادل:

يقول الإمام أمير المؤمنين(علیه السّلام) في وصف الله تبارك وتعالى: «وارْتَفَعَ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِه، وقَامَ بِالقِسْطِ فِي خَلْقِه، وعَدَلَ عَلَيْهِمْ فِي حُكْمِه...»(1).

إن معنى العدل في الله(عزوجل) - في هذا البحث، والتفصيل يأتي في محله إن شاء الله تعالى– هو الذي لا يجور في فعله ولا يظلم عبداً.

وقد سُمي الإمامية والمعتزلة بالعدلية لأنهم أثبتوا هذه الصفة له جل وعلا، وهي من أصول المذهب عندنا.

سبب تأصيل صفة العدل.

هنا سؤال: إذا كان العدل هي صفة من صفات الله(عزوجل)، فلماذا جعلتموها أصلاً من أصول الدين دون بقية الصفات؟

معجَّلاً نقول: كان ذلك لوجود خلاف شديد فيها، وترتب آثار خطيرة على إثباتها أو نفيها، وقد ترتبت عليها الكثير من المباحث التي من أهمها بحث التحسين والتقبيح العقليين، وبحث الجبر أو التفويض أو الأمر بين الأمرين، وغيرها، والتفاصيل في محلها إن شاء الله تعالى.

ثامناً: حي:

الحي: هو بمعنى الموجود المدرِك المتصف بالقدرة والعلم الكاملين المنزهين عن كل نقص، فقدرته كاملة لا نقص فيها، وعلمه كامل لا نقص فيه، إذن هو حي، فالله سبحانه حي؛ لأنه قادرٌ عالم.

ص: 66


1- نهج البلاغة: ج2، ص115.

تاسعاً: قادر:

القادر: هو الذي يتمكن من الفعل والترك في آن واحد، فمثلاً أمامك كتاب تستطيع أن ترفعه وتستطيع أن لا ترفعه، فيقال عنك: قادر.

فالقادر لا يصدق إلّا إذا أتيح له خياران، وكان له تمام القدرة وتمام الاختيار في انتخاب أحد الطرفين، فالإنسان مثلاً قادر على أن يفعل الخير وأن يفعل الشر، لأنه دائماً يقف على مفترق طرق، طريق يوصل إلى الله(عزوجل)، وطريق يوصل إلى الشيطان، وهو عندما يختار طريق الشيطان ويترك طريق الله(عزوجل) فهو مسؤول عن فعله ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى﴾(1)؛لأنه

فَعَلَه عن قدرة مسبقة، فما يصدر من الإنسان فهو سعيٌ منه، فيكون هو المسؤول عنه، لأنه تُرك له الاختيار، فهو قادر على أن يفعل ما يشاء.

وعندما نقول: إن الله سبحانه قادر، فهذا يعني أنه يستطيع أن يفعل ويستطيع أن لا يفعل، يستطيع أن يفعل ويستطيع أن يترك(2).

وغير القادر يسمونه: الموجَب، أي الذي أُوْجِبَ عليه الفعل بحيث لا يفعل بإرادته، فمثلاً القلب عنده فعل، وهكذا الأعضاء الداخلية للجسم عندها أفعال، لكن لا نستطيع أن نصفها بأنها أفعال اختيارية، فلا يقال أي عضو منها: إنه قادر بالاصطلاح الكلامي أو الفلسفي.

عاشراً: غني:

الغني: هو المستغني بذاته عن كل ما دونها، وقد تقدم أن من صفات الواجب أنه

ص: 67


1- النجم: 39.
2- هذا التعبير المختلف لوجود رأيين في تفسير القادر: إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، أو: إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل. وتفصيله في محله في علم الفلسفة.

غني مطلق وغير محتاج إلى أي شيء، فهو بذاته مستغنٍ عن كل شيء، فلا يحتاج إلى غيره، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.

وكما يقول أمير المؤمنين في وصيته لابنه الإمام الحسن(علیه السّلام): «فَإِنَّ الله سُبْحَانَه وتَعَالَى خَلَقَ الخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ، غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لأَنَّه لَا تَضُرُّه مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاه، ولَا تَنْفَعُه طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَه...»(1).

حادي عشر: سميعٌ بصير:

اشارة

السميع البصير: بمعنى أنه يدرك المسموعات ويدرك المبصرات، وليس بمعنى أنه يسمع الأصوات كما نسمعها نحن من خلال صوت يدخل إلى الأُذن ويحرك شيئاً ما فيها، يتحول إلى الذهن ويُفهم الصوت، لأن هذا المعنى يستلزم الجسمية والتركب وبالتالي النقص.

فالله سبحانه يسمعُ لا بآلة، وأمّا نحن فنسمع بآلة، يعني أنه تعالى يدرك المسموعات ويدرك المبصرات.

وبعبارة بسيطة: أن السمع والبصر شعبة من شعب العلم، أي إنه علم بالمبصرات والمسموعات.

لماذا يركز القرآن الكريم على صفتي السمع والبصر أكثر من غيرها؟

عندما نقرأ القرآن الكريم، كثيراً ما يركز على صفتي السمع والبصر في الله(عزوجل)، والسؤال: لماذا هذا التركيز؟

الظاهر والله العالم أن التأكيد على هاتين الصفتين كان باعتبار أن الاعتقاد بأن الله

ص: 68


1- نهج البلاغة: ج2، ص160.

يسمعنا ويرانا من شأنه أن يردع عامة الناس عن الاقتحام في الجرائم والمعاصي، وهذا أمر وجداني.

الإنسان المنحرف إذا دخل مثلاً في محل وأراد أن يَسرقهُ، إذا انتبه لوجود كاميرات مراقبة موجودة في المكان فمن المؤكد أنه سيترك السرقة؛ لأنه يخاف من هذه الكاميرات التي تراقبه وتحصي حركاته فيبتعد عن الجريمة، ونفس هذا الكلام يُنقل إلى الاعتقاد بأن الله سميعٌ بصير.

الاعتقاد بأن الله(عزوجل) يسمع ويرى من شأنه أن يجعل الإنسان ملتزماً بما يريده الله(عزوجل).

في أدبياتنا الخاصة، فإن المراقبة ليست أمرًا خاصاً بالله(عزوجل)، بل أئمتنا صلوات الله عليهم بما وهبهم الله(عزوجل) من علم لدني فأيضا عندهم هذه المراقبة، هم يراقبون شِيعتهم ويفرحون إذا صدرت منهم الطاعة، وفي نفس الوقت يحزنون إذا صدرت منهم المعصية.

في مكاتبة الامام المهدي(عجل الله تعالی فرجه الشریف) للشيخ المفيد مقطع يشير الى هذا المعنى، يقول الأمام المهدي(عجل الله تعالی فرجه الشریف): «نحن وإن كنا ثاوين بمكاننا النائي عن مساكنِ الظالمين حسب الذي أراناه الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك، مادامت دولة الدنيا للفاسقين، فإنا نحيط علمنا بأنبائكم ولا يعزبُ عنّا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالزللّ الذي أصابكم، مذ جنحَ كثيرٌ منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً، ونبذوا العهد المأخوذ منهم وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، أنّا غير مُهمليِن لمُراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء، واصطلمكم الأعداء، فأتقوا الله جلا جلاله».(1)

استطراد: في سبب عدم تسمية الله تعالى بالشام والذائق واللامس.

عرفنا أن معنى كونه(عزوجل) سميعاً بصيراً هو أنه يعلم بالمسموعات ويعلم بالمُبصرات،

ص: 69


1- الاحتجاج للشيخ الطبرسي ج2 ص 322.

فلمَ لم تصف الروايات ولا القرآن الكريم الله(عزوجل) بصفات الشام، الذائق، اللامس؟

الجواب: مثلما فسرنا السميع بالعالم بالمسموعات، والبصير بالعالم بالمبصرات، يصح لنا أن نقول: إن الله(عزوجل) عالم بالمشمومات، بالمذوقات، بالملموسات، فلا يعزب عن علمهِ شيء، ولكن رغم ذلك لا تطلق على الله(عزوجل) اسم الشام ولا الذائق ولا اللامس.

والسر في ذلك يرجع إلى أحد أمرين:

الأمر الاول: أن هذه الصفات الثلاثة (الشام، الذائق، اللامس) شديدة الارتباط بالجسمية، فإذا أطلقنا على الله(عزوجل) اسم الشام فقد يتوهم بعض الناس بأن له آلةً ماديةً جسميةً يشم بها، كما أن الإنسان يشم بآلة مادية، وبالتالي قد تتوهم الجسمية فيه(عزوجل)، فقطعاً لهذا التوهم لا نصف الله(عزوجل) بهذه الصفات، لكن نبقى نعتقد بأن الله(عزوجل) يعلم بالمشمومات، بالمذوقات، بالملموسات، فهو يعلم بها لكن لا نسميه بهذه الاسماء للسبب المذكور.

الامر الثاني: توقيفية الأسماء، ولم يرد في الروايات ولا في الآيات تسميته بذلك.

بيان معنى توقيفية الأسماء.

هناك بحث يذكر في كتب الكلام حول أسماء الله(عزوجل) وأنه هل يجوز لنا أن نطلق أي اسم على الله(عزوجل) وإن لم يرد في القرآن الكريم أو السنة؟ أو إنه لا يجوز أن نسمي الله(عزوجل) باسم ألا إذا كان وارداً في الكتاب أو السنة؟

رأيان:

الرأي الأول: توقيفية الأسماء.

أي إنه لا يجوز إطلاق أي اسم عليه(عزوجل) إلا إذا كان وارداً في الكتاب أو السنة، مما

ص: 70

يعني أن صحة إطلاق اسم على الله(عزوجل) موقوف على وروده في الكتاب أو السنة.

الرأي الثاني: عدم توقيفية الأسماء.

فلا يشترط في وصف الله(عزوجل) وتسميته بصفة أو اسم أن يكون ذلك الاسم أو الصفة وارداً في الكتاب أو السنة، يجوز لك أن تسمي الله(عزوجل) بأسماء أو تصفه بصفات لم ترد في الكتاب والسنة لكن بشروط:

الشرط الأول: أن يكون معناه صحيحاً.

الشرط الثاني: أن يدل الدليل على اتصاف الله به.

الشرط الثالث: أن لا يوهم ذلك الاسم نقصاً في الله(عزوجل)، كالجسمية.

وهذه الشروط لا تتوفر عند كل أحد، بل لا بد من قطع شوط طويل في تحصيل العلوم الدينية والعقائدية ليتمكن الفرد من الوصول إلى مرحلة يستطيع من خلالها تحقيق تلك الشروط، وعدم خرقها ولو من بعيد.

وعلى كلا الرأيين نقول:

لا يجوز إطلاق صفة الشام ولا الذائق ولا اللامس على الله(عزوجل)؛ لأنه بناءً على توقيفية الأسماء فالأمر واضح، إذ إن اسم الشام، الذائق، اللامس، لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة.

وبناءً على عدم توقيفية الاسماء فلأن هذه الصفات توهم النقص في الله(عزوجل)؛ لأنها شديدة الارتباط بالجسمية، ولذلك لم نجد أحدًا من علماء الكلام قد أطلق هذه الأسماء عليه تعالى.

قال(قدس سره): «ولا يوصف بما توصف به المخلوقات».

ص: 71

هذه قاعدة عامة مستندها: أن الله(عزوجل) واجب الوجود، وواجب الوجود لا يتصف بأي صفة من صفات الممكنات، لأن هذا هو معنى واجب الوجود.

الآن يبدأ الشيخ بتعداد بعض هذه الصفات، أي صفات الممكنات والمخلوقات التي لا يتصف بها الله(عزوجل)، لا يتصف بها واجب الوجود: فقال:

1. فليس هو بجسم.

الجسم: هو ما يشتمل على الأبعاد الثلاثة: الطول والعرض والعمق أو الارتفاع، وهذا المعنى ملازم للتركيب، وأيضا ملازم للمحدودية إذ إن الجسم يكون محدودًا، فطوله يبدأ بنقطة وينتهي بنقطة، وعرضه يبدأ بنقطة وينتهي بنقطة، وعمقه كذلك. فالجسمية تلازم التركيب وتلازم المحدودية، والمركب محتاجٌ إلى أجزائه.

مثال مادي: السكنجبيل يحتاج إلى عسل وماء وخل، وأي جزء يذهب من هذه الأجزاء فلا يبقى السكنجبيل، وهذا معنى أن المركب محتاج إلى أجزائه.

-الجسمية تلازم المحدودية، وواجب الوجود غير محدود وغير متناهي فلا يكون الله(عزوجل) جسماً.

-الجسم محتاج إلى محل، إلى حيز يحلّ فيه، والمحتاج صفة الممكن، والله(عزوجل) واجب الوجود فلا يحتاج إلى محل، ولا إلى مكان، ولا إلى اي شيء،

2. قال(رحمه الله علیه): «ولا صورة».

الصورة: هي الجوهر المفيد لفعلية مادة من حيث الامتدادات الثلاثة.

بيانه: كل موجود ممكن له مادة، بعبارة اخرى أكثر وضوحًا: العجين الذي يسمونه الطين الصناعي الذي يصنعون منه أشكالًا وألعابًا، هذا الطين عندما يخرج من معمل

ص: 72

يكون مجرد عجينة، وعندما تصنع منه شكلاً معينًا، فأنت قد أضفت صورة لتلك المادة، هذه الصورة التي عرضت على المادة وشكلتها بشكل خاص هي نظير (الصورة) فلسفياً، والصورة هي الجوهر الذي يعطي الشكل الخارجي للمادة، الجوهر المفيد لفعلية مادة من حيث الامتدادات الثلاثة، يعني هناك مادة خام تريد أن تجعلها على شكل من الأشكال من حيث الطول والعرض والارتفاع بتحديد معين.

الصورة ما عملها؟

عملها تشكل المادة تعطي شكلاً خارجياً للمادة، فلا توجد صورة بدون مادة، ولا توجد المادة بالفعل بهذا الشكل إلا بالصورة.

فلابد للصورة من مادة تحل فيها، فهي محتاجة إلى المادة لكي تحلّ فيها، كما أن المادة محتاجة إلى الصورة في تعينها فعلًا.

والله سبحانه وتعالى ليس مادياً وليس محتاجاً إلى غيره، فلا صورة له.

نكتة:

اشارة

هذه الاعتقادات عندما تقيسها إلى اعتقادات بعض العامة بالله تعالى وأنه شاب أمرد و يلبس نعلين من ذهب وينزل إلى السماء الدنيا على دابة ويجلس على العرش وعرشه وسع السماوات والأرض... وأنه عندما يجلس على كرسيه لا يفضل منه مقدار أربعة أصابع أي إنه يملؤه، وأن كرسيه ليئط أطيطًا من ثقله، [الأطيط هذا الصوت الذي يوجد برحل الجمل عندما يمشي يصدر صوتاً]...

وأنت ترى أن هذه الاعتقادات كلها تؤدي إلى أن الله تعالى موجود مادي، فأين هذا من اعتقادنا الحق من أن الله تعالى موجود مجرد عن المادة تماماً، وأنه لا نعرفه(عزوجل)في

ص: 73

الحقيقة، لا نستطيع إدراكه، وأنه لا تدركه لا الأبصار ولا الأوهام ولا العقول؟!

3. قال(رحمه الله علیه): «وليس جوهرًا».

الجوهر: هي الماهية التي إذا وجدت في الخارج فإنها توجد لا في موضوع مستغنٍ عنها، وبعبارة مختصرة (الموجود لا في موضوع).

الجوهر يكون جنساً لما تحته، والجوهر يلازم التركيب سواء على مستوى الخارج أو الذهن بدون فرق، والتركيب خلاف وجوب الوجود، وواجب الوجود بسيط بمعنى غير مركب لا في ذهن ولا في خارج.

الجوهر مركب ذهني، نأخذها معلومة تعبدية في هذه المرحلة، الجوهر يلازم التركيب والله سبحانه ليس مركباً لأن المركب محتاج إلى أجزائه والمحتاج صفة الممكن والله(عزوجل) واجب الوجود.

وبعبارة أخرى: الجوهر ماهية مركبة من جنس وفصل، والتركيب خلاف وجوب الوجود، فلذلك لا يكون الله تعالى جوهرًا.

4. قال(رحمه الله علیه): «ولا عرضاً»

العرض: هو الذي ليس له وجود إلا عارضاً على محل، يعني لا يوجد إلا في موضوع، في محل، يحتاج إلى غيره لكي يوجد، والله سبحانه وتعالى غنيٌ مطلق لا يحتاج إلى غيره، فهو ليس بعرض.

العرض مثل اللون الذي يعرض على الجسم، فاللون لا وجود له إلا على الجسم، فلا يوجد اللون إلا على الجسم، فوجود العرض محتاج إلى الجسم، الى غيره: المحل أو الموضوع حتى يوجد، والله سبحانه وتعالى غنيٌ مطلق، فلا يكون عرضاً.

ص: 74

بالإضافة إلى أن الله موجود بذاته، والعرض موجود بغيره، فهو محتاج لغيره حتى يوجد، العرض لا وجود له الا باعتماد على غيره، والله سبحانه وتعالى له وجود متقرر في ذاته لا يحتاج إلى غيره حتى يوجد.

5. قال(رحمه الله علیه): «وليس له ثقلٌ أو خفة».

ثقل -على وزن عنب-: ضد الخفة، وهما متقابلان،، كل ما يترجح على ما يوزن به أو يقدر به يقال هو ثقيل.(1)

ضع شيئين على كفتي الميزان، فالثقيل هو الذي يترجح على ذلك المقابل (الخفيف)، وهاتان الصفتان من صفات الأجسام كما هو واضح، فالجسم يكون ثقيلًا في قبال جسم آخر أخف منه، والله سبحانه ليس بجسم، فلذلك لا يوصف بالثقل والخفة

6. قال(رحمه الله علیه): «ولا حركة أو سكون».

الحركة: هي الخروج تدريجاً من القوة إلى الفعل، وبعبارة بسيطة عرفية: حصول الجسم في مكان بعد مكان آخر.

مثال: أنت واقف على النقطة (ألف) فما دمت واقفًا على هذه النقطة فأنت غير متحرك، وعندما تنتقل من النقطة (ألف) إلى النقطة (باء) صار عندك حركة، فأنت كجسم كنت في نقطة الألف، ثم انتقلت إلى نقطة ثانية فتحرك جسمك من مكان إلى مكان، هذا هو معنى الحركة.

وهذا المعنى للحركة ملازم للمكان وللتحيز، فحتى تنتقل من مكان إلى آخر لا بد أن تكون متحيزًا في مكان ما ثم تنتقل منه إلى حيز آخر، فالحركة تلازم الحيز، فتلازم

ص: 75


1- تاج العروس للزبيدي مادة (ثقل).

الجسمية، و هذا صفات الممكن و ليست من صفات الواجب، فالواجب إذن لا حركة له.(1)

وأما السكون: فهو عدم الحركة مما من شأنه الحركة، يعني شيء له شانية الحركة، فإذا لم يتحرك قلنا عنه إنه ساكن.

بعبارة أخرى: حصول الجسم في المكان الأول في الآن الثاني.

أنت تقف في النقطة (ألف) في الساعة الواحدة تماماً، عندما تصبح الساعة الواحدة وثانية، جاء آن ثانٍ، جاء زمن ثانٍ، فإذا بقيت بنفس النقطة (ألف) فيُقال عنك: إنك ساكن، فالجسم يبقى في نفس النقطة في زمن ثاني، و هذا معناه: أن السكون -كما هي الحركة- من صفات ومن شؤون الجسم، والجسمية منفية عنه(عزوجل).

7. قال(رحمه الله علیه): «ولا مكانٌ ولا زمان».

لماذا لا يكون لله(عزوجل) مكان؟

المكان: هو ما يستقرُ عليه الجسم، وحيث إنه تعالى ليس بجسم، فليس له مكان.

بالإضافة إلى أن ما له مكان هو محتاج لذلك المكان، والله(عزوجل) واجب الوجود، فلا يكون محتاجاً لأي شيء.

وأما الزمان: فهناك اختلاف بين العلماء في تفسير حقيقة الزمان، ولكن بالمحصلة اتفق الجميع على أن الله تعالى ليس زمانياً، باعتبار أن الزمان هو عبارة عن آنات متفاوتة

ص: 76


1- في الحقيقة هذا أحد أنواع الحركة فلسفيًا، إذ الحركة فلسفيًا تعني الخروج من القوة إلى الفعل بالتدريج، يعني أن المتحرك يتحرك باتجاه كماله الممكن له، وهذا المعنى يلازم النقص، ويلازم المادية، فلذا لا يكون في الواجب حركة ولا استكمال، والتفاصيل في علم الفلسفة. ونكتفي في هذه المرحلة بذكر الحركة المادية لأنها أقرب إلى الذهن.

يذهب آن ويأتي آنٌ آخر.

في الفلسفة يقولون: إن الزمان موجودٌ غير قار، بمعنى أن أجزاءه لا تجتمع في الوجود، فالثانية رقم (1) أبداً لا تجتمع مع الثانية رقم (2)، الثانية رقم (2) لا تأتي إلا إذا فنيت الثانية رقم (1)، فآنأتهُ متفاوتة، يذهب آن ويأتي آنٌ جديد وهكذا.

وهذا معناه: أن الزمان موجود حادث؛ لأنه يُعدم ويوجد، وقد تقدم أن القديم موجود فقط وليس له عدم ومعه، فما يكون زمانياً يكون حادثاً، والله(عزوجل) قديم ليس بحادث، فلا يكون زمانياً.

8. قال(رحمه الله علیه): «ولا يُشار إليه».

إن الإشارة تستلزم أن يكون المشار إليه في جهة معينة، فمثلاً عندما يكون أمامك شيءٌ، فأنت تشير إليه، فالإشارة تستلزم أن يكون المشار إليه في جهةٍ معينة، وهذا يستلزم أن يكون له مكان، فيستلزم أن يكون محدودًا حتى يمكنك الإشارة إليه، وبالتالي يستلزم أن يكون المشار إليه جسمياً، والله(عزوجل) ليس جسماً ولا جسمياً.

الإشارة تستلزم المكان والتحديد والتحيز، وكل هذه الصفات هي صفات الممكنات، والله(عزوجل) واجب الوجود.

9. ثم قال(رحمه الله علیه): «كما لا ندَّ له».

الإشارة إلى هذه الصفة وردت في عدة آيات مثلاً قوله تعالى: ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(1)

﴿قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ

ص: 77


1- البقرة 22.

العالَمِينَ﴾.(1)

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلهِ وَلَوْ يَرَىٰ الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ العَذابَ أَنَّ القُوَّةَ لِلهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ العَذابِ﴾.(2)

﴿وَجَعَلُوا لِلهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَىٰ النَّارِ﴾.(3)

وغيرها من الآيات.

الند:

قال الراغب الاصفهاني في مفرداته/مادة (ندد): نَدِيدُ الشيءِ: مُشارِكه في جَوْهَره، وذلك ضربٌ من المُماثلة، فإنّ المِثْل يقال في أيِّ مشاركةٍ كانتْ، فكلّ نِدٍّ مثلٌ، وليس كلّ مثلٍ نِدّاً...

فالندّ يعني أن لدينا طرفين، عندما يريد أحد أن يصبح ندًا للثاني فيجب أن يماثله أو يشابهه أو يناظره ويشترك معه في جوهره، وهذا المعنى لا يصح في الله(عزوجل)، لأن كل ما دون الله(عزوجل) فهو ممكن، فكل ما عدا الله(عزوجل) هو دونه في الوجود، فلا يكون نداً لله(عزوجل).

بالإضافة إلى أنه -على تفسير الراغب الأصفهاني- الذي فسر الند بأنه الذي يشارك الآخر في جوهره، يعني هذا الفرد وهذا الفرد يدخلان تحت جوهر، أي تحت شيء أعلى منهما، فهذا معناه أن كل فرد منهما صار مركباً،

ص: 78


1- فصلت 9.
2- البقرة 165.
3- إبراهيم 30.

توضيح المسألة:

اشارة

زيد والحصان، كل منهما له وجوده الخاص، لكنهما يشتركان في الحيوانية، فصار الإنسان مركبًا من جزئين: جزء هو الحيوانية التي يشترك فيها مع الحصان، وجزء مختص به الذي ميّزه عن الحصان، فالإنسان ناطق، وهذه الناطقية هي التي ميّزت الإنسان عن الحصان، أما الحصان فصاهل، وهذه الصاهلية هي التي ميّزت الحصان عن الإنسان، فصار الإنسان مركبًا من جزء: الجزء الأول: الحيوانية، وهي التي تشترك بينه وبين الحصان. والجزء الثاني: الشيء المختص به، وهو الناطقية، فإذا كان هناك أمرأن مشتركين في شيء واحد، فمعناه أن كل واحد من هذين الشيئين مركب من هذا المشترك ومن الجزء المختص به.

فعند ما نقول: إن شيئاً ما ندٌّ لله(عزوجل)، والند هو المشارك له في الجوهر، فالجوهر سيكون مثل الحيوانية بالنسبة إلى الإنسان والحصان، فسيصير أمرًا عامًا، ويصير كل واحد من الندّين مركبًا من جزئين، الجزء الذي اشترك به مع صاحبه الند الآخر، والجزء المختص به الذي ميّزه عن صاحبه، وهذا من معاني التركيب، وقلنا: إن الله(عزوجل) غير مركب لا خارجاً ولا ذهناً؛ لأن التركيب صفة الممكن المحتاج إلى أجزائه، والمحتاج ممكن، وليس بواجب.

10. قال(رحمه الله علیه): «ولا شبه».

الشبيه: هو المماثل من جهة الكيفية.

مثلاً تقول: هذا الشيء يشبه هذا الشيء في لونه، فاللون كيف من الكيفيات، أو يشبهه في طعمه، والطعم كيف من الكيفيات، أو يشبهه في العدالة أو يشبهه في الظلم.

القرآن الكريم يعبر عن البعض ممن لا يتبعون المرسلين بأن قلوبهم متشابهة، يقول

ص: 79

تعالى: ﴿وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾.(1) أي تماثلت في الكيفية الخاصة.

وهذا يعني: أن المتشابِهين يكونان غير متميّزين، لما بينهما من التشابه، فنقول: طعم هذا الأكل يشبه طعم الأكل الثاني تماماً، لا أميز بينهما من حيث الطعم، فإذن التشابه يعني المماثلة في الكيفية، يعني عدم التميز بين الشيئين المتماثلين من جهة الكيف.

وهذه الصفات لا يوصف بها الله(عزوجل)، لأنه لا يوجد شيءٌ يشبه الله(عزوجل)، لأن كل ما عداه فهو دونه في الوجود، فلا يماثله فلا يشابههُ.

بالإضافة إلى أن الله(عزوجل) لا يوصف بالكيف، لأن الكيف عرض، هذا الطعام تعرض عليه الحلاوة أو تعرض عليه المرارة أو تعرض عليه الملوحة، فهو شيء يعرض على شيء آخر، والله(عزوجل) ليس محلاً للعوارض كما تقدم، فهو ليس جوهراً ولا صورةً ولا عرضاً، فلا يكون محلاً للعوارض.

11. ثم قال(رحمه الله علیه): «ولا ضدَّ»

لا ضد لله(عزوجل)، ببيان:

1/ الضدان: هما شيئان تحت جنس واحد، أي تحت جامع وأحد، يجمعهما شيء أو عنوان.

2/ ينافي كل واحد منهما الآخر في أوصافه الخاصة، فلكل منهما وصف خاص به، ينافي به الآخر في وصفه الخاص به.

ص: 80


1- البقرة 118.

3/بينهما أبعدُ البعد، وتمام البعد، وتمام المنافاة.

مثاله: «السواد والبياض) يدخلان تحت جامع واحد هو اللون، فكلاهما لون، ويختلف كل واحد منهما عن الآخر في وصفه الخاص به، فالسواد لونه غامق تماماً، والبياض لونه فاتح تماماً، وبينهما غاية البعد، إذ قالوا فلسفياً: إن الألوان تبدأ باللون الأبيض الذي هو غاية الانفتاح، ويبدأ هذا اللون بالتدريج فيصير غامقاً شيئاً فشيئًا فيأتي الأصفر ثم الأزرق مثلًا ثم الاحمر ثم يأتي الأسود، فلو فرضنا أن للألوان سلسلة لها بداية ولها نهاية، فطرف السلسلة من اليمين الأسود، ومن الشمال الأبيض، فبين الأبيض والأسواد غاية البعد، أما بين الأصفر والأحمر فيوجد ما أبعد منهما في سلسلة الألوان، لذلك ففلسفياً لا يقال عن الأحمر والأصفر إنهما ضدان، لأن الضدين لابدّ أن يكون بينهما غاية البعد.

ومعه، فمن الواضح أنه لا ضدّ لله تعالى، لأن الضدين يشتركان في شيء واحد يجمعهما، فالأسود والأبيض يجمعهما اللون، فلزم أن يكونا مركبين من مشترك ومميز، والتركيب صفة الممكن لا الواجب.

فاذا قلنا: إن شيئًا ما هو ضد لله(عزوجل)، فمعناه أن الله وذلك الضد يدخلان تحت جامع واحد يجمعهما، هذا يعني أنهما اشتركا في هذا العنوان والجامع، فصار العنوان جزءًا من كل واحد منهما، وكل واحد من الضدين له مواصفاته الخاصة، فصار مركبًا، فمثلاً الأسود مركب من لون وغامق، فلو كان هناك ضد لله(عزوجل) -والعياذ بالله- فمعناه أن الله تعالى مركب من ذلك الجامع الذي يشترك به مع الضد، ومن الشيء الذي يميزه ويختص به، فصار مركباً، وقد تبين أن الله(عزوجل) ليس مركباً بجميع أنواع التركب الخارجي والذهني.

ص: 81

12. ثم قال(رحمه الله علیه): «لا صاحبة له ولا ولد».

هذه من الصفات التي وردت كثيراً في القرآن الكريم، قال الله تعالى حكايةً عن الجن ﴿وَأَنَّهُ تَعالىٰ جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً﴾(1) ومعنى الجد هنا: الحظ والبخت والعظمة، يعني أن الجن يقولون: إن الله سبحانه وتعالى عظيمٌ جداً، بحيث إن عظمته

وصلت إلى مرحلة لم يتخذ معها صاحبةً ولا ولداً، باعتبار أن اتخاذ الصاحبة (الزوجة) معناه الاحتياج، فالشخص إنما يتزوج لحاجته للزوجة تعينهُ، وتسدّ حاجته، والله سبحانه وتعالى غير محتاج، فلا تكون له صاحبة ولا ولدًا، لأن اتخاذ الصاحبة والولد ينافي الغنى المطلق الله(عزوجل)، فاذًا صفة الغنى المطلق لله(عزوجل) تنفي الصاحبة والولد.

13. قال(رحمه الله علیه): «ولا شريك».

ليس لله(عزوجل) شريك في أي شيء؛ لأن الشراكة تستلزم الاختصاص، بمعنى أنه عندما أكون شريكك في البيت، فمعناه أن في البيت شيئًا أختصُّ به أنا، وانت لك فيه شيء آخر تختص به، وهذا الاختصاص فرع الملكية، ولا شيء يشارك الله(عزوجل) في ملكه، وكل ما في الوجود فهو ملك الله(عزوجل)، وغيره كله مملوك له، فلا يمكن للمملوك أن يشارك المالك.

قال أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه لولده الإمام الحسن8: «واعْلَمْ يَا بُنَيَّ، أَنَّه لَوْ كَانَ لِرَبِّكَ شَرِيكٌ لأَتَتْكَ رُسُلُه، ولَرَأَيْتَ آثَارَ مُلْكِه وسُلْطَانِه،- ولَعَرَفْتَ أَفْعَالَه وصِفَاتِه، ولَكِنَّه إِلَه وَاحِدٌ كَمَا وَصَفَ نَفْسَه، لَا يُضَادُّه فِي مُلْكِه أَحَدٌ ولَا يَزُولُ أَبَداً».(2)

ص: 82


1- الجن 3.
2- نهج البلاغة ج3 ص 44.
14. قال(رحمه الله علیه): «ولم يكن له كفوًا أحد».

الكفؤ: يعني المساوي، وكل ما عدا الله(عزوجل) دونه ولا يساويه؛ لأن كل ما عداه فهو مخلوق له، فهو دونه في الوجود؛ فلا يكون كفؤاً له.

15. قال(رحمه الله علیه): «لا تدركه الأبصار».

يعني أن أبصارنا لا يمكنها أن ترى الله(عزوجل)، فتمتنع عليه الرؤية المادية، وذلك لأن الرؤية بالبصر مشروطة بأمور عديدة لا تصح إلا إذا توفرت، وقد عدّدها العلماء وأوصلوها إلى العشرة شروط تقريبًا.

مع التنبيه على أن الكلام عن الرؤية البصرية لا القلبية، التي لمّا سئل ذعلب اليماني أمير المؤمنين8 فقال: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ فقال8: «أفأعبد ما لا أرى»! فقال: وكيف تراه؟ فقال: «لَا تُدْرِكُه العُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ العِيَانِ، ولَكِنْ تُدْرِكُه القُلُوبُ بِحَقَائِقِ الإِيمَانِ، قَرِيبٌ مِنَ الأَشْيَاءِ غَيْرَ مُلَابِسٍ بَعِيدٌ مِنْهَا غَيْرَ مُبَايِنٍ، مُتَكَلِّمٌ لَا بِرَوِيَّةٍ مُرِيدٌ لَا بِهِمَّةٍ صَانِعٌ لَا بِجَارِحَةٍ، لَطِيفٌ لَا يُوصَفُ بِالخَفَاءِ كَبِيرٌ لَا يُوصَفُ بِالجَفَاءِ، بَصِيرٌ لَا يُوصَفُ بِالحَاسَّةِ رَحِيمٌ لَا يُوصَفُ بِالرِّقَّةِ، تَعْنُو الوُجُوه لِعَظَمَتِه وتَجِبُ القُلُوبُ مِنْ مَخَافَتِه».(1)

فهذا النوع من الرؤية فيه نوع من الكناية والمجاز، فعندما تقول: أنا رأيت الله تقصد مثلًا: رأيت قدرة الله، رأيت حكمة الله، رأيت أفعال الله(عزوجل)، هذا ليس فيها أشكال.

المقصود هنا من نفي الرؤية هي الرؤية البصرية، ومثل قوله تعالى: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ﴾(2)هو يركز على قضية الرؤية البصرية.

ص: 83


1- نهج البلاغة ج2 ص 99 – 100.
2- الأنعام 103
من شروط الرؤية البصرية:

أشرنا إلى أن هذه الرؤية مشروطة بشروط، ومنها:

الشرط الأول: أن يكون بين الرائي والمرئي مقابلة، يعني أن الذي تريد أن تراه ببصرك يجب أن يكون أمامك أو مقابلًا لك، فإذا كان خلف ظهرك فلا يمكن أن تراه.

الشرط الثاني: عدم البعد المفرط؛ لأن البصر له حدّ،ُ فلا بد أن يكون المرئي واقعًا تحت مدى البصر.

الشرط الثالث: أن يكون المرئي كثيفاً، يعني ليس شيئًا خفيفًا مثل الهواء يعني أن يكون جسمًا ماديًا.

وحتى ترى الله تعالى ببصرك، فلا بد أن يكون في قبالك، وتحت مدى بصرك، وأن يكون كثيفاً مادياً جسميًا، وقد ثبت أن الله سبحانه وتعالى ليس بجسم، وهذه الصفات صفة الكثافة والمادية هي صفات وسمات الممكن فلا يتصف بها الله(عزوجل).

16. قال(رحمه الله علیه): «وهو يدرك الابصار»

لأن الله(عزوجل) عالم، وما دام عالماً فهو يدرك، ويكون عنده علم بالأبصار وبكل شيء وليس فقط الأبصار.

تتمة:

بعد أن أثبت الشيخ(رحمه الله علیه) بعض الصفات لله(عزوجل) (واحد، أحد، قديم أزلي..). ونفى عنه بعض الصفات (لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد و....). قال:

هذه هي عقيدتنا، ومن يثبت لله(عزوجل) صفاتٍ تؤدي إلى خلل في الواجب ولو من بعيد، يعني أنها تنقص من قدره وتحوله من واجب إلى ممكن، فهذا يكون كافراً بالله(عزوجل)،

ص: 84

ثم أخذ يعدّد بعض الأمثلة، فقال(رحمه الله علیه): «ومن قال بالتشبيه في خلقه بأن [الباء بيانية] صوّر له وجهاً ويداً وعيناً».

وهذا ما قال به الحنابلة والحشوية، وهذه الصفات تسمى بالصفات الخبرية، وهي الصفات التي وردت في القرآن الكريم وظاهرها التجسيم، مثل:

الوجه في قوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالأَكْرامِ﴾(1)

العين في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا﴾(2)

اليد في قوله تعالى: ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾(3)

والصفات الخبرية لو حملناها على ظاهرها فإنها تستلزم التجسيم والتشبيه بالخلق، فسيكون الله تعالى –وحاشاه- مركبًا، ويكون جسمًا له وجه وله عين وله يد وله رجل، فيكون محتاجًا إلى أجزائه.

ملاحظة: في الصفات الخبرية:

اشارة

لا شك أن ظاهر القرآن الكريم حجة، وكذلك الروايات الشريفة.

الظهور يعني: ما نفهمهُ من لفظ الكلام، فإذا قلت: أنا عبد لفلان، فظاهر الكلام أنني مملوك لفلان، فهذا يكون حجة عليّ، والعقلاء يفهمون هذا الكلام ويرتّبون عليه الآثار.

إذا قلت مثلاً: أنا مديون لفلان بمبلغ كذا، فالعقلاء يقولون: إن هذا الكلام حجة،

ص: 85


1- الرحمن 26 – 27.
2- الطور 48.
3- الفتح 10.

ويفهمون من هذا الكلام أن في ذمتي لفلان مالًا ويجب عليّ تأديته.

فظاهر الكلام حجة، ولكن إذا جاءت قرينة تصرف ظاهر اللفظ من معناه الظاهر فيه إلى معنى آخر، بحيث إن هذا المعنى الآخر لولا القرينة لما فهمناه، ولكن القرينة توضح لنا أن المتكلم لا يريد هذا المعنى الظاهر، وإنما يريد معنى آخر، حينئذٍ ينصرف اللفظ من معناه الظاهر إلى ذلك المعنى الآخر الذي فهمناه بسبب القرينة.

مثلًا تقول: رأيت أسداً، فظاهر الكلام أنك رأيت ذلك الحيوان المفترس الذي يسمى بالأسد، لكن إذا قلت: رأيت اسداً يكتب بالقلم، فقولك: «يكتب بالقلم» قرينة تصرف اللفظ عن معناه الظاهر فيه إلى معنى جديد، فيكون المعنى: رأيت رجلاً شجاعاً يكتب بالقلم؛ لأن الأسد يستعمل كناية عن الرجل الشجاع.

إن العقلاء يتبعون هذه القرينة التي تصرف الكلام عن ظاهره إلى معنى آخر، ولا يرضون بأن تترك القرينة، لأنها تبين لك المراد الجدي للمتكلم، وتبين الشيء الذي يريده المتكلم بالجدّ.

إذا تبين هذا نقول:

إن بعض العامة المخالفين لمذهب أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) لم يطبقوا هذا المعنى في قضايا الظواهر القرآنية (في خصوص الصفات الخبرية محل البحث)، فلم يطبقوا قضية القرينة الصارفة عن المعنى الظاهر في بعض الآيات القرآنية، فالتزموا بظاهرها، وظاهرها أن لله(عزوجل) يداً ورجلاً وعيناً، فقالوا: إن لله وجهاً وعيناً ويداً، فالتزموا بظاهر القرآن الكريم وتناسوا أن هناك قرائن عقلية، والقرائن العقلية أقوى القرائن، ولا تقبل التشكيك، فحينما تقول: إن لله وجهاً، فلو حملتها على ظاهرها فهذا يعني أنك جعلت له جسماً، ووجهًا مثل وجوهنا ويدًا مثل أيدينا وعينًا مثل أعيننا، فلا

ص: 86

يكون واجب الوجود، بل أصبح ممكن الوجود، والحال أنه تعالى واجب الوجود.

طريفة:

ينقل عن بعض علمائنا أنه دار نقاش بينه وبين بعض العامة فأفحمه وألزمه بالحجة، فأراد العامّي أن ينسحب فقال: شيخنا، نحن لا نختلف، فربنُا واحد، ونبينا واحد... فأجابه العالم: كلا، ربنا ليس واحدًا، فربكم له وجه وله يد وله رجل وله عين، وينزل إلى السماء على دابة له، وعنده كرسي يجلس عليه، أما ربنا فلا نعرف حقيقته، ربنا شيء مجرد ليس جوهرًا ولا جسمًا، فربكم غير ربنا...

وهذا معنى أن من يثبت صفات مادية لله(عزوجل) فإنه يكون كافراً؛ لأنه لا يؤمن بالرب الحقيقي، وإنما يؤمن بشيء من صنع خياله.

وفي قول الشيخ(رحمه الله علیه): «ومن قال بالتشبيه في خلقه بأن صوّر له وجهاً ويداً وعيناً..». إشارات:

1/أشرنا إلى أن العقلاء يتفاهمون وفق ظواهر الخطابات، فإذا كان لكلام ظهور في معنى، فذلك الظهور حجة، ويؤخذ به وتترتب الآثار عليه، وهذه مسألة متفق عليها.

2/ولولا هذه الحجية للظهور لامتنع التفاهم بين البشر، إذ أنا إنما أتكلم بكلمة لها معنى ظاهر تنصرف إليه، ولو لا هذه الحقيقة لأمكن أن يفسرها الآخر كيف يشاء، والثالث يفسرها كيف يشاء، فينعدم التفاهم بين البشر.

3/ اللهم إلا إذا نصب المتكلم نفسه قرينة تدل على أنه يريد من كلامه خلاف ظاهره، بحيث تكون تلك القرينة وكأنها تقول على لسان المتكلم: «أنا لا أقصد هذا الظاهر، وإنما أقصد هذا المعنى الثاني)، عندئذٍ يذهب العقلاء إلى المعنى الثاني.

ص: 87

والذي جعلهم يذهبون إلى المعنى الثاني هي القرينة التي وضعها المتكلم، فإذا قلت: «رأيت اسداً) وسكتُّ، فهذا الأسد ظاهر في الحيوان المفترس المعروف، فلو قلتُ فيما بعد: إني لم أقصد الحيوان المفترس، وإنما قصدتُ الرجل الشجاع، فإن العقلاء يرفضون ذلك، لأن ظاهر لفظ الأسد هو الحيوان المفترس، ويقولون لي: إذا كنت تقصد (الرجل الشجاع) فلا بدَّ أن تعطي علامة أو قرينة -كما يسمونها في علم المنطق-، أي قرينة تصرف اللفظ من معناه الظاهر -الذي هو الحيوان المفترس- إلى ذلك المعنى الآخر الذي تريده -الذي هو مثلاً الرجل الشجاع- فأقول مثلاً: «رأيت أسداً يرمي بالسلاح»، فنحن نعلم أن الأسد العادي –الحيوان- لا يرمي بالسلاح، فمن هذا اللفظة –القرينة- نفهم أن المقصود من الأسد ليس المعنى الظاهر، وإنما المعنى الثاني، والذي جعَلَنا نترك المعنى الأول الظاهر ونذهب إلى المعنى الثاني هي القرينة.

4/قال العقلاء: إن من أقوى القرائن هي القرائن العقلية، أي التي يحكم بها العقل، ولو لم يحكم بها للزم محالٌ، يعني يلزم مستحيلٌ عقلي.

وهذا يعني: أنه إذا لم أتّبع هذه القرينة العقلية، فإنه سينتج لي المستحيل العقلي، بحيث يُرمى من لا يقول بالاستحالة بعدم العقل.

فلو قلتُ مثلاً: وضعتُ زيداً في كُمّي أو في جيبي، فإن الالتزام بظاهر هذه الجملة معناه: أني أتيتُ بزيد الذي طوله 170 سم وعرضه 65 سم ووضعته في جيبي! وهذا أمر مستحيل بالقياس إلى حجم (جيبي)، فالعقل هنا يقول: إن زيداً كبير، والجيب صغير، ولو كان هذا المقصود هو المعنى الظاهر فهذا يعني أنك وضعت الكبير على كبره في الصغير على صغره، والعقل يقول: لا بد أن يكون الظرف (الجيب) أكبر من المظروف (زيد)، ولذلك فمن المستحيل عقلاً أن يكون المقصود هو المعنى الحقيقي لهذه الجملة.

ص: 88

وبهذه القرينة العقلية نفهم أن المقصود من (وضعت زيداً في جيبي) مثلاً أن أمره صار بيدي بحيث أستطيع أن أتحكم به كيف أشاء، كما أستطيع أن أتحكم بما في داخل جيبي، وهذا الأمر متفق عليه بين العقلاء.

5/في محل كلامنا، إذا أردنا أن نعطي صفةً من الصفات لله(عزوجل) مما ورد في الكتاب والسنة، فبها ونعمت، أو كانت الصفة مما يليق به تعالى بناءً على عدم توقيفية الأسماء.

ولكن الكلام في أنه: إذا وردت صفة في الكتاب أو السنة، ولكن لو فسرناها بمعناها الظاهر، فإنه يلزم من هذا التفسير لازمٌ يخالف ما ثبت في الشريعة الإسلامية، أو يخالف ثابتاً عقلياً، فعندئذ العقل والعقلاء يحكمون بلا بدية صرف هذا اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى آخر يتلاءم مع أمرين:

الأمر الأول: عدم نسبة نقص للواجب جل وعلا.

الأمر الثاني: أن يصح استعمال ذلك اللفظ في هذا المعنى الثاني.

فإذا أثبتنا أن لله(عزوجل) وجهاً –تبعاً للنصوص القرآنية- وقلنا: إن هذا الوجه هو مثل وجوهنا، لكنه أكبر قليلاً أو كثيراً، فهذا يلزم منه محال عقلي، وهو التركيب والمحدودية والجسمية والكون في جهة من الجهات، وكل هذه هي صفات الممكنات، والله سبحانه وتعالى واجب.

فلا بد إذن أن نصرف هذا اللفظ إلى معنى آخر يتلاءم مع الأمرين السابقين.

وفي الوجه، يمكن أن نقول: إن هذا اللفظ يستعمل في هذا الوجه العادي الجسمي، ويمكن أن يراد منه الذات، فبدلاً من أن تقول مثلاً: رأيت الأمير -ذات الأمير ونفس الأمير-، يمكن أن تقول: رأيت وجه الأمير، وأنت لا تقصد هذا الوجه الموجود في

ص: 89

الرأس، بل تقصد أنك رأيت ذات الأمير نفسه، كل الأمير، لكن باعتبار أن ما يواجهك من الإنسان الآخر هو وجهه، لذلك عبّرت عن ذات الأمير بالوجه وقلت: وجه الأمير.

وهذا المعنى الكنائي يمكن أن ننسبه إلى الله تعالى، فالله(عزوجل) له ذات، والمقصود من وجه الله(عزوجل) هو ذات الله~، وهذا لا يلزم منه نسبة نقص لله(عزوجل)، وهو معنى يصح استعمال الوجه فيه.

فقد تبين أنه لو سُئلْنا: ما هو الأمر الذي دعانا واضطرنا إلى أن نغير معنى الوجه، من هذا المعنى الظاهر إلى ذلك المعنى الثاني؟

فالجواب: هي القرينة العقلية، لأنه إذا لم نلتزم بهذه القرينة العقلية فإنه يلزم نسبة النقص له جل وعلا كما تبين.

ملاحظة مهمة:

اشارة

إن عدم فهم هذه الحقيقة، أو عدم الالتزام بها، هو الذي أوقع البعض في نسبة ما لا يصح إلى الله(عزوجل)، حيث جاؤوا لآيات القرآن الكريم ولبعض الروايات الشريفة، فوجدوا فيها: أن لله تعالى وجهاً ويداً وفي روايات العامة: أن لله رِجْلاً، وما شابه، فقالوا: نلتزم بظاهر القرآن، فله وجه وله لسان وله عين، كما أن لنا وجهاً ويداً وعيناً...

إن من قال بهذا الكلام وبهذه العبارة فهو كافر، لأنه سيؤمن بربٍ له وجه وله رجل وله يد، وهذا الرب صار محدوداً وصار جسماً، والله سبحانه وتعالى ليس جسماً ولا محدوداً، فمن يؤمن بشيء هو جسم مادي، هو مركب، هو ناقص، فهذا لا يؤمن بالله(عزوجل)، فيكون كافراً.

ثم إن البعض منهم التفت إلى هذه المشكلة، فحاول أن يصحح المسار قليلاً فقال:

ص: 90

إن الله له وجه، لكن لا كوجوهنا، وله يد لا كأيدينا، وله عين لا كأعيننا، وهكذا...

ونحن نسأل: ماذا يعني (وجه لا كوجوهنا)؟ هل هو شيء مفهوم أو غير مفهوم؟

فإن قيل: هو أمر مفهوم، فنقول: وضّحوه لنا، هل هو وجه مادي أو معنى كنائي؟

وإن قيل: غير مفهوم، فهذا يلزم منه تعطيل فهم آية جاءت في القرآن الكريم، أي يلزم تعطيل معناها.

فهو يواجه أحد أمرين: إما أن يبين الوجه، أو يكون كلامه (لا كوجوهنا) هو مجرد لقلقة لسان، إذ هذا لا يغير من الواقع شيئاً.

لذلك ورد في الروايات الشريفة أن للقرآن ظهراً وبطناً، والفقيه كل الفقيه هو من يستطيع أن ينتقل من ظاهر القرآن إلى باطنه، أي إلى المعنى المقصود منه، والروايات في المجال كثيرة، نذكر منها:

روي عن علي(علیه السّلام) أنه قال: «أن كتاب الله على أربعة أشياء: على العبارة والإشارة واللطائف والحقائق. فالعبارة للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء».(1)

وعن جابر بن يزيد الجعفي، قال: سألت أبا جعفر(علیه السّلام) عن شيء من التفسير فأجابني، ثم سألته عنه ثانية فأجابني بجواب آخر، فقلت: جعلت فداك، كنتَ أجبتني في هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم، فقال: «يا جابر، إن للقرآن بطناً، وللبطن بطناً، وله ظهر وللظهر ظهر، يا جابر، ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، إن الآية يكون أولها في شيء وآخرها في شيء، وهو كلام متصل منصرف على

ص: 91


1- عوالي اللئالي - ابن أبي جمهور الإحسائي - ج 4 - ص 105 ح155.

وجوه».(1)

فأصعب شيء على الناس هو تفسير القرآن الكريم إذا لم يرجعوا إلى أهل الذكر ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾(2)

من اللطائف التي تنقل في حياة الأمام العسكري صلوات الله وسلامه عليه عندما كان في سامراء: أن إسحاق الكندي -كان فيلسوف العراق في زمانه- أخذ في تأليف تناقض القرآن، وشغل نفسه بذلك وتفرد به في منزله، وأن بعض تلامذته دخل يوماً على الإمام الحسن العسكري(علیه السّلام)، فقال له أبو محمد(علیه السّلام): «أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكندي عما أخذ فيه من تشاغله القرآن؟!»

فقال التلميذ: نحن من تلامذته، كيف يجوز منا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟!

فقال له أبو محمد: «أتؤدي إليه ما ألقيه إليك؟» قال: نعم.

قال: «فصر إليه وتلطف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله، فإذا وقعت الأُنسة في ذلك، فقل: قد حضرتني مسألة أسألك عنها، فإنه يستدعي ذلك منك، فقل له: إنْ أتاك هذا المتكلم بهذا القرآن، هل يجوز أن يكون مراده بما تكلم منه، غير المعاني التي قد ظننتها أنك ذهبت إليها؟ فإنه سيقول لك: إنه من الجائز، لأنه رجل يفهم إذا سمع، فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يدريك، لعله قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه، فيكون واضعاً لغير معانيه».

فصار الرجل إلى الكندي وتلطّف إلى أنْ القى عليه هذه المسألة فقال له: أعد عليّ،

ص: 92


1- المحاسن - أحمد بن محمد بن خالد البرقي - ج 2 - ص 300 كتاب العلل ح5.
2- النحل 43.

فأعاد عليه، فتفكّر في نفسه ورأى ذلك محتملاً في اللغة وسائغاً في النظر فقال: أقسمتُ عليك إلّا أخبرتني من أين لك؟ فقال: إنه شيء عرض بقلبي فأوردتُه عليك. فقال: كلا ما مثلك من اهتدى إلى هذا، ولا من بلغ هذه المنزلة، فعرّفني من أين لك هذا؟ فقال: أمرني به أبو محمد(علیه السّلام) فقال: الآن جئت به، وما كان ليخرج مثل هذا إلا من ذلك البيت. ثم إنه دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألّفه.(1)

والخلاصة:

أنه لا بد أنْ نصرف ما ثبت من الصفات الخبرية التي أخبر بها القرآن الكريم إلى معنى يتناسب مع الذات المقدسة.

تطبيقات في الصفات الخبرية:

اشارة

1/من لطائف قوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ﴾.(2)

أن كلمة (ذو) جاءت صفة للوجه، وليس لكلمة (ربك)، لأنها مجرورة، فاذا كانت صفة للرب لقيل: «ذي»، وعندما قال: «ذو» فهذه صفة لكلمة (وجه)، فلو التزمنا بظاهر الآية من دون تأويل ولا كناية، لكان المعنى: أن الذي يبقى هو وجه الله(عزوجل)، يعني أن يده ورجله لا تبقى، لأن الآية صرّحت بأن الذي يبقى هو الوجه فقط!

فهل يمكن التزام هذا الظاهر؟!

2/ في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة 46] لو التزمنا بظاهرها لكانت النتيجة هي التالي:

ص: 93


1- مناقب آل أبي طالب - ابن شهر آشوب - ج 3 - ص 525 – 526.
2- الرحمن 26 – 27.

حيث إن اللقاء –الحقيقي أو الظاهري- يستلزم المقابلة، فهذا يلزم منه أن يكون الله -تعالى عن ذلك- جسماً حتى يمكن اللقاء به ومقابلته، وإذا كان جسماً صار مادياً، وإذا صار مادياً فهو غير واجب الوجود!

فلا بد من صرف ظاهر الآية عن معناها الظاهر إلى معنى كنائي، كأن يكون المقصود: ملاقو رحمة ربهم.

3/ رووا عن أبي هريرة أن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) قال: «خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً...»(1)

فظاهر روايتهم هذه أن الضمير في (صورته) يرجع إلى (الله تعالى)، يعني أن صورة آدم مثل صورة الله(عزوجل) (تعالى عن ذلك علواً كبيراً) فإذا أردت أن تنظر إلى الله تعالى فانظر إلى آدم، فهو يشبهه، وهذا يلزم منه التشبيه والتجسيم.

ولذلك أجاب الأئمة(علیهم السّلام) عن مثل هذه الترّهات بجوابين يمكن ترتيبهما بالتالي:

الجواب الأول:

إن هذه الرواية مقتطعة، ولها صدر يحل المشكلة، حيث يظهر منها أن الهاء في كلمة (صورته) ترجع إلى (آدم) لا إلى (الله)(عزوجل)، فقد روي عن الحسين بن خالد، قال: قلت للرضا(علیه السّلام): يا ابن رسول الله، إنّ الناس يروون أن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) قال: إن الله خلق آدم على صورته، فقال: «قاتلهم الله، لقد حذفوا أول الحديث، إن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) مرّ برجلين يتسابّان، فسمع أحدهما يقول لصاحبه: قبّح الله وجهك ووجه من يشبهك، فقال(صلی الله علیه و آله و سلم): يا عبد الله، لا تقل هذا لأخيك، فإنّ الله(عزوجل) خلق آدم على صورته».(2)

ص: 94


1- صحيح البخاري - البخاري - ج 7 - ص 125.
2- التوحيد - الشيخ الصدوق - ص 152 – 153 بيانه في خلق الله تعالى آدم على صورته ح11.
الجواب الثاني:

ولو سلّمنا ورود الرواية بهذا المعنى، فليس المقصود منها معناها الظاهر، وإنما المقصود هي الكناية عن تشريف آدم(علیه السّلام) بنسبته إلى نفسه، فقد روي عنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ(علیه السّلام) عَمَّا يَرْوُونَ: أَنَّ الله خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِه؟ فَقَالَ: «هِيَ صُورَةٌ مُحْدَثَةٌ

مَخْلُوقَةٌ، واصْطَفَاهَا الله واخْتَارَهَا عَلَى سَائِرِ الصُّوَرِ المُخْتَلِفَةِ، فَأَضَافَهَا إِلَى نَفْسِه كَمَا أَضَافَ الكَعْبَةَ إِلَى نَفْسِه والرُّوحَ إِلَى نَفْسِه، فقال: ﴿بَيْتِيَ﴾(1)،

﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾(2)».(3)

ص: 95


1- ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [البقرة 125].
2- ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾[الحجر 29].
3- الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 134 باب جوامع التوحيد ح4.

ص: 96

عقيدتنا في التوحيد

اشارة

قال الشيخ المظفر(رحمه الله علیه):

«عقيدتنا في التوحيد:

ونعتقد بأنه يجب توحيد الله(عزوجل) من جميع الجهات، فكما يجب توحيده في الذات ونعتقد بأنه واحد في ذاته ووجوب وجوده، كذلك يجب -ثانياً- توحيده في الصفات، وذلك بالاعتقاد بأن صفاته عين ذاته كما سيأتي بيان ذلك، وبالاعتقاد بأنه لا شبه له في صفاته الذاتية، فهو في العلم والقدرة لا نظير له وفي الخلق والرزق لا شريك له وفي كل كمال لا ند له.

وكذلك يجب -ثالثاً- توحيده في العبادة فلا تجوز عبادة غيره بوجه من الوجوه، وكذا إشراكه في العبادة في أي نوع من أنواع العبادة، واجبة أو غير واجبة، في الصلاة وغيرها من العبادات. ومن أشرك في العبادة غيره فهو مشرك كمن يرائي في عبادته ويتقرب إلى غير الله تعالى، وحكمه حكم من يعبد الأصنام والأوثان، لا فرق بينهما.

أما زيارة القبور وإقامة المآتم فليست هي من نوع التقرب إلى غير الله تعالى في العبادة، كما توهمه بعض من يريد الطعن في طريقة الإمامية، غفلة عن حقيقة الحال فيها، بل هي من نوعٌ التقرب إلى الله(عزوجل) بالأعمال الصالحة كالتقرب إليه بعيادة المريض وتشييع الجنائز وزيارة الأخوان في الدين ومواساة الفقير، فإن عيادة المريض -مثلاً- في نفسها عمل صالح يتقرب به العبد إلى الله(عزوجل). وليس هو تقربا إلى المريض يوجب أن يجعل عمله

ص: 97

عبادة لغير الله تعالى أو الشرك في عبادته. وكذلك باقي أمثال هذه الأعمال الصالحة التي منها زيارة القبور، وإقامة المآتم، وتشييع الجنائز، وزيارة الأخوان.

أما كون زيارة القبور وإقامة المآتم من الأعمال الصالحة الشرعية فذلك يثبت في علم الفقه وليس هنا موضع إثباته. والغرض أن إقامة هذه الأعمال ليست من نوع الشرك في العبادة كما يتوهمه البعض.

وليس المقصود منها عبادة الأئمة، وإنما المقصود منها إحياء أمرهم، وتجديد ذكرهم، وتعظيم شعائر الله فيهم ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ﴾.

فكل هذه أعمال صالحة ثبت من الشرع استحبابها، فإذا جاء الانسان متقرباُ بها إلى الله(عزوجل) طالباً مرضاته، استحق الثواب منه ونال جزاءه». انتهى.

بعد أن تكلم الشيخ(رحمه الله علیه) في بعض الصفات وأثبت الكمالية منها ونفى السلبية على نحو الإجمال، أخذ يفصل الكلام في بعض الصفات.

وذكر عقيدة التوحيد والتي يمكن أن نعبر عنها بتعبير آخر: عقيدتنا في نفي الشريك عنه جل وعلا في كل شيء، وهذه الصفة من أهم الصفات التي يُبحث عنها في علم الكلام، باعتبار أنها كانت محل الخلاف مع المشركين، وكانت جهود الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين منصبّة على تخليص الناس من عقيدة الشرك الفاسدة.

وقد ذكرت عدة معاني لمعنى التوحيد، أوصلها البعض إلى اثني عشر معنى، وطبعاً هناك تداخل فيما بينهما، والشيخ المظفر(رحمه الله علیه) هنا في هذا الكتاب ذكر ثلاث مفردات:

ص: 98

1/ التوحيد في الذات

2/ التوحيد في الصفات

3/ التوحيد في العبادة

وسنكتفي بما ذكره الشيخ(رحمه الله علیه).

التوحيد في الذات.

وهو أول مصطلح من مصطلحات التوحيد وأهمها، والتوحيد بهذا المعنى يُتكلَّم فيه من جهتين:

الجهة الأولى: التوحيد الواحدي:

اشارة

وهو بمعنى نفي وجود ذات واجبة الوجود غير ذات الباري جل وعلا.

والوحدة لها معنيان:

المعنى الأول: الوحدة العددية:

يعني أن هناك مفهوماً ينطبق على عدة مصاديق، أو قل: يمكن أن يوجد له أكثر من فرد، ولكن صادَفَ أنه في الخارج لا يوجد منه أكثر من واحد، لكن بالإمكان العقلي يجوز أن يوجد أكثر من واحد (أي من فرد)، ومثاله: الشمس، ذلك الجرم السماوي الذي

يشع نوراً من ذاته، فإن من الممكن أن يكون له عدة أفراد، ولكن صادَفَ هنا أننا لم نجد إلا شمساً واحدة، وهذا معنى الوحدة العددية، فلا يمتنع عقلًا وجود فرد آخر.

المعنى الثاني: الوحدة الحقيقية:

يعني كون الموجود لا يقبل الاثنينية ولا التكثر ولا التكرار، يعني يمتنع عقلاً وجود فرد آخر من نفس المعنى.

وعندما نقول: إن الله(عزوجل) واحد بالتوحيد الواحدي، فنقصد به: الوحدة الحقيقية،

ص: 99

يعني هو واحد ويمتنع عقلاً وجود الآخر.

ما هو الدليل على هذا المعنى من التوحيد؟

ذُكرت الكثير من الأدلة، أوصلها البعض إلى أكثر من عشرين دليلاً، وهي في الحقيقة أدلة إرشادية لحكم العقل، فإن العقل إذا دخل في أعماق مفهوم واجب الوجود، لحَكَم بامتناع وجود فردٍ مكررٍ ثانٍ له.

نعم، هذا الحكم العقلي يحتاج إلى أن ننتبه إليه، ومن المنبّهات عليه (أو قل: الأدلة عليه) هي التالي:

الدليل الأول: لو كان في الوجود واجبان، فهذا يعني: أنهما لا بد أن يتوفر فيهما أمران:

الأمر الأول: ما به الاشتراك:

يعني أن هذين الواجبين يشتركان في وجوب الوجود مثلاً، فواجب الوجود مفهوم عام وله فردان: واجب رقم واحد، وواجب رقم اثنان.

الأمر الثاني: ما به الامتياز:

فعندما قلتم: هناك واجبان: رقم واحد ورقم اثنان، فهل هناك تمايز بينهما أو إنه لا يوجد أي تمايز بينهما؟

فإذا قيل: لا يوجد أي تمايز بينهما، أي هما مشتركان من كل جهة جهة، فإذاً هما واحد وليسا اثنين، إذ الكثرة فرع التمايز.

إذاً لابد من وجود تمايز بينهما، مثلاً الواجب الأول تميز بأن اسمه (ألف) والثاني اسمه (باء)، والنتيجة أن (ألف) الواجب الأول سيكون مركباً من أمرين: الشيء الذي

ص: 100

اشترك به مع الثاني، والشيء الذي تميز به عن الثاني، فالإنسان والحصان يشتركان في الحيوانية، وكل واحد له ما يميزه عن الآخر، فالإنسان يميزه عن الحصان كونه ناطقاً، والحصان يميزه عن الإنسان أنه صاهل، فصار الإنسان مركباً من حيوان وناطق، والحصان مركباً من حيوان وصاهل، فكلٌ منها مركب من جزئين، وحينها يتحقق معنى الاثنينية.

فلو كان هناك واجبان، فكل واحد منها مركب من ما به الاشتراك -الذي اشترك به مع الثاني-، ومن ما به الامتياز -الذي تميز به عن الثاني-، فصار مركباً، والمركب محتاج إلى أجزائه، فإن أي جزء منها ينتفي فإن المركب ينتفي، وهذا خلاف كونه واجب الوجود، فلزم من افتراض الثاني خلف الفرض.

وهذا الدليل سوف يفيدنا في التوحيد الأحدي، لأن دليل التوحيد الأحدي قريب جداً من هذا الدليل.

الدليل الثاني: لو كان هناك مصداقان لواجب الوجود، فلا يخلو الأمر: إما أن يكونا ضعيفين، أو أحدهما قوياً والآخر ضعيفاً، أو كلاهما قوياً، ولا حالة رابعة.

1- فاذا كانا ضعيفين، فلا يصلحان للربوبية.

2- وإذا كان أحدهما قوياً والآخر ضعيفاً، فالضعيف لا يصلح للربوبية.

3- وإذا كانا قويين، فهنا شقان:

فإما أن يشتركا في الإرادة، أو لا، وعلى كل حال يلزم المحال؛ لأنه:

إذا اختلفا في الإرادة، يلزم فساد الكون، لأن الأول قد يأمر الشمس بأن تشرق، والثاني يأمرها بأن لا تشرق، فهنا صار فساد، وهذا من معاني قوله(عزوجل): ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا

ص: 101

آَلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾(1)

ويلزم منه أيضاً تكليف المكلّف بالمحال، لأن الواجب الأول إذا قال لزيد: صلِّ، والثاني قال له: لا تصلِّ، فإذا أطاع الأول وصلى، فقد عصى الثاني فسيعاقبه، وإذا أطاع الثاني ولم يصل، فقد عصى الأول فسيعاقبه، ولا يستطيع طاعة الاثنين، لأنه تكليف بالمحال (بأن يصلي ولا يصلي في آن واحد، وهذا اجتماع للنقيضين أو الضدين)، وهذا ممتنع عقلاً، فإذاً، اذا اختلف الواجبان في الإرادة، فيلزم فساد الكون والتكليف بالمُحال وغير المقدور.

وأما إذا كانا متفقين في الإرادة، أي إن كليهما واجب، وكانا متفقين في الإرادة، ولا يوجد أي اختلاف بينهما، رجع الاثنان واحداً، لأنه لا يوجد بينهما أي تمايز، والكثرة فرع التمايز...

وهذا ما أشار له امير المؤمنين8 لما قال لولده الحسن المجتبى8: «واعْلَمْ يَا بُنَيَّ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِرَبِّكَ شَرِيكٌ لأَتَتْكَ رُسُلُهُ، ولَرَأَيْتَ آثَارَ مُلْكِهِ وسُلْطَانِهِ، ولَعَرَفْتَ أَفْعَالَهُ وصِفَاتِهِ، ولَكِنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، لَا يُضَادُّهُ فِي مُلْكِهِ أَحَدٌ ولَا يَزُولُ أَبَداً ولَمْ يَزَلْ».(2)

من هم المخالفون في هذه المسألة؟

المخالفون هنا هم:

1- الثنوية: الذين قالوا بوجود مبدئين للوجود: مبدأ الخير ومبدأ الشر.

2-المسيحيون: حيث آمنوا بعقيدة التثليث: الأب، الابن، روح القدس، فقالوا:

ص: 102


1- الأنبياء 22.
2- نهج البلاغة - ج 3 - ص 44.

هؤلاء الثلاثة إله واحد والعقل محدود، والرب غير محدود، والمحدود لا يدرك اللامحدود!

3- الأشاعرة: حيث قالوا بأن صفات الله(عزوجل) مستقلة عنه زائدة على الذات قديمة بقدمه. وسيأتي توضحيه إن شاء الله تعالى في العقيدة القادمة: عقيدتنا في صفاته تعالى.

الجهة الثانية: التوحيد الأحدي:

يعني الإيمان بأن الله(عزوجل) (واجب الوجود) أحدٌ، أي غير مركب من أجزاء لا حقيقية خارجية ولا ذهنية.

الأجزاء الذهنية: مثل تركب الإنسان من (حيوان ناطق) ففي الخارج لا يوجد عندنا إلا شيء واحد هو (زيد) مثلاً، ولكن في الذهن نحلّله إلى (حيوان) و (ناطق).

وأما التركيب الخارجي فهو واضح، مثل تركيب البيت أو تركيب الماء، الماء مركب خارجاً من أوكسجين وهيدروجين، وأي واحد من هذين الجزئين يزول فلا يبقى الماء في الخارج.

والتوحيد الأحدي يعني أن نؤمن بأن الله(عزوجل) واجب الوجود أحد غير مركب، لا من أجزاء خارجية ولا من أجزاء ذهنية، ويعبر عن هذا المعنى بالبساطة، فيقال: إن واجب الوجود بسيط، يعني غير مركب لا من أجزاء خارجية حقيقية ولا من أجزاء ذهنية تحليلية.

والدليل على هذا القسم من التوحيد هو:

أن التركيب يستلزم الاحتياج إلى الأجزاء، والاحتياج خلف وجوب الوجود، لأن من خصائص واجب الواجب أنه غني مطلق لا يحتاج إلى أي شيء أبداً.

ص: 103

هذا كله في التوحيد في الذات.

وأما التوحيد في الصفات فسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى، والآن نتحدث عن:

التوحيد في العبادة

اشارة

ولتوضيحه نذكر عدة نقاط:

النقطة الأولى: محور الخلاف في التوحيد في العبادة.

اتفق الموحِّدون جميعاً على ضرورة التوحيد في العبادة، فكل من آمن بالله(عزوجل) ووحّده قال بأنه يجب أن نعبد الله(عزوجل) وحده لا شريك له، وهذا يمثل واحداً من أهم الأهداف التي بُعث من أجلها الرسل والأنبياء.

قال عز من قائل: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾(1)

أي: ولقد بعثنا في كل امة رسولاً، الهدف منه: أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت، فأصل التوحيد في العبادة متفق عليه بين جميع الموحدين، إلا أن الخلاف حصل في بعض الممارسات التي جعلها البعض تمثلاً للتوحيد في العبادة، واعتبرها البعض الآخر مظهراً من مظاهر الشرك فيها.

فزيارة القبور مثلاً، في الوقت الذي يعتبرها أتباع أهل البيت صلوات الله عليهم مظهراً من مظاهر توحيد الله(عزوجل)، أي إنه لا يتعارض مع توحيد الله وعبادته(عزوجل)، فالبعض الآخر يقول: بأنها عين الشرك، ويرمي الشيعة بالشرك لأنهم يزورون القبور، فهذا الاختلاف نشأ من الاختلاف في مفهوم العبادة، وإذا أردنا أن نحلّ النزاع فلا بد من

ص: 104


1- النحل 36.

بيان المعنى الصحيح لمفهوم العبادة، لنعلم أن زيارة القبور أو تقبيل الأضرحة مثلًا عبادة لغير الله تعالى أو لا.

النقطة الثانية: ما هو معنى العبادة؟

قال(قدس سره): «كذلك يجب ثالثاً توحيده في العبادة».

العبادة لغةً هي الطاعة مع الخضوع، ومنه قولهم طريق مُعبَّد، إذا كان مذلَّلاً لكثرة الوطيء والمشي عليه.

واصطلاحاً: هي المواظبة على فعل المأمور به.

ولا يوجد خلاف في المعنى اللغوي والاصطلاحي للعبادة

أما العبادة شرعاً، فيمكن إعطاء عدة تعريفات لها، ومن المهم فهم معنى العبادة شرعاً، حتى نستطيع أن نتعرف على أن هذا الفعل هو من الشرك أو من إخلاص العبادة، والذي يظهر من خلال الآيات الكريمة والروايات الشريفة، بل ما يحكم به العقل أيضاً هو أن العبادة شرعاً هي مفهوم مركب من جزئين:

الجزء الأول: الخضوع.

والجزء الثاني: الاعتقاد.

الخضوع: بمعنى التذلل ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَة﴾(1)

والخضوع لوحده لا يسمى عبادة شرعاً، بل هو يحتاج إلى جزء آخر، وهو الاعتقاد.

الاعتقاد يعني: أن يعتقد الخاضع أن المخضوع له رب مدبر للأمور أو خالق أو رازق على نحو الاستقلال، أو إني أنا الخاضع أحتاج لذلك المخضوع له في أصل

ص: 105


1- الإسراء 24.

وجودي، لأنه وجود مستقل وأنا لست كذلك.

الوجود المستقل: هو الذي لا يحتاج إلى غيره في وجوده.

الوجود غير المستقل: هو الذي يستمد وجوده من غيره، فهو في ذاته لا قدرة له على إيجاد نفسه.

مثال ذلك: قالوا في علم الأصول: إن الاسم وجوده مستقل، لأنه يدل على معناه من دون أن يحتاج إلى غيره، أما حروف الربط -كحرف جر مثلاً- فهي لوحدها ليس لها معنى محصل، ومعناها يأتي من وجودين مستقلين تربطهما مع بعضها، فتقول مثلاً: سافرت إلى بغداد، فصار لكلمة (إلى) معنى، وهو ابتداء السفر من هنا ونهايته في بغداد، وهذا المعنى (الانتهاء) غير مستقل، بل هو يحتاج الى غيره حتى يظهر معناه، وهما الاسمان المستقلان اللذان يربط بينهما.

النقطة الثالثة: تطبيقات:

إذا عرفنا هذا المعنى ستتبين عندنا عدة أمور:

الأمر الأول: أن سجود الملائكة لآدم8 ليس هو من العبادة في شيء، لأنه وإن كان مشتملاً على الخضوع لآدم، ولكنه كان خالياً من الاعتقاد بكونه رباً أو خالقاً وما شاكل ذلك.

هذا بناء على أن المقصود من آية ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾(1)

أن السجود كان لآدم نفسه، فيصير معناه: اخضعوا لآدم، وإلا فإنه يمكن القول بأن السجود كان لله(عزوجل)، لكن الداعي له هو خلق آدم، يعني لأجل آدم وإكراماً له، اسجدوا لله(عزوجل)، وعليه فلا توجد أي مشكلة

ص: 106


1- الإسراء 61.

عبادية حينها.

الأمر الثاني: أن سجود أبوي يوسف وأخوته له لم يكن من العبادة في شيء، لنفس السبب المتقدم، وهو أنه كان مجرد خضوع مع عدم الاعتقاد بأن يوسف خالق، رازق، رب، له وجود مستقل، فهو المعنى اللغوي للعبادة وليس الشرعي.

الأمر الثالث: أن خضوع الولد لأبيه ليس من العبادة في شيء، فعندما يُقبّل الولد يد أبيه أو قدم أمه، فهذا مجرد خضوع، وليس من العبادة في شيء، لذلك فالقرآن الكريم أمر به ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾(1)

أي تذلَّل لهما بقدر المستطاع، ولا يعتبر عبادة كما هو واضح.

الأمر الرابع: أن خضوع التلميذ لأستاذه ليس من العبادة في شيء، لأنه خضوع احترم خالٍ من الاعتقاد بالربوبية.

الأمر الخامس: أن زيارة القبور والتوسل بالأولياء ليس هو من العبادة في شيء، لأن خضوعنا للأولياء وزيارتنا لقبور الأئمة (صلوات الله وسلامه عليهم) وإنْ كان فيها خضوع، بل فيه منتهى الخضوع والتذلل والخشوع، والروايات تقول: إذا ذهبت لزيارة الإمام الحسين(علیه السّلام) فامش خاضعًا خاشعًا متذلِّلًا، ولكن رغم ذلك فهي ليست بعبادة، إذ لا أحد من الشيعة إطلاقاً يعتقد بأن الإمام الحسين(علیه السّلام) رب له أو خالق أو رازق مستقل له.

النقطة الرابعة: فائدة جانبية

العبادات لها أنواع، يعني: يمكن أن نقسمها بعدة تقسيمات:

ص: 107


1- الإسراء 24.
التقسيم الأول: تنقسم العبادة إلى:

1/ عبادة تتعلق بالأبدان، مثل الصلاة والصوم

2/ عبادة تتعلق بالأموال، مثل الزكاة والخمس والنفقات الواجبة، مثل النفقة على الزوجة أو على الأولاد أو الابوين، والنفقات المستحبة كالصدقات.

3/ عبادة تتعلق بالأبدان والأموال، مثل الحج والجهاد

التقسيم الثاني: بلحاظ التكرار وعدمه.

1/ هناك عبادة تتكرر كل يوم، كالصلاة.

2/ وهناك عبادة تُطلب في السنة مرة كالصوم والزكاة والخمس.

4/وهناك عبادة تطلب في العمر مرة، كالحج، فإن المطلوب هي حجة الإسلام مرة واحدة في العمر وإذا ذهب مرة ثانية فهي مستحبة.

يبقى عندنا الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذه تطلب حسب الظروف الموضوعية، فرب ظرف يقتضي الجهاد حسب أمر الإمام، أو بأمر نائب الإمام، وقد لا يكون كذلك.

التقسيم الثالث: تقسم العبادة إلى:

1/ عبادات جارحية، تقوم بها الجوارح، يعني الأعضاء الخارجية للإنسان، كغض البصر، فهذه عبادة تقوم بها العين، وكفّ اليد عن لمس الحرام، مثل أن تمس امرأة حرامًا، هذه عبادة تقوم بها اليد، أو مثلاً أن تمشي إلى المسجد أو إلى زيارة مريض، فنفس المشي ونفس القصد إلى المسجد، ونفس قصد زيارة المريض، ونفس قصد زيارة الإمام الحسين(علیه السّلام)، كلها عبادة تتعلق بالجوارح.

ص: 108

2/ عبادات جانحية، أي عبادة تتعلق بالجوانح، يعني الأعضاء الداخلية للإنسان، مثل التفكّر، فتفكر ساعة خير من عبادة سنة كما ورد في بعض الروايات(1)،

والتفكر شيء داخلي، فأنت تفكر بذهنك وبعقلك، تتفكر في عظمة الله(عزوجل)، تتفكر في النعم التي وهبها الله(عزوجل)، تتفكر في آلاء الله(عزوجل)، أو مثلاً تعمل على الانقطاع إلى الله(عزوجل) بالقلب، بأن لا يكون في القلب سوى الله(عزوجل)، فهذه عبادة جانحية.

3/ وعبادة تشتملهما معاً، عبادة جانحية وجارحية، مثل العبادات التي يشترط فيها قصد القربة مثل الصلاة، الصلاة عبادة جارحية وجانحية، ففيها أفعال جارحية فتقوم وتركع وتسجد وتتكلم بلسانك، وهذه كلها أفعال جارحية، وفي نفس الوقت يطلب فيها إخلاص العمل وإخلاص القلب، يُطلب فيها قصد القربة، وهو أمر جانحي، فالنية أمر قلبي.

فاذا صار خلل في القصد (النية) فالعمل الجارحي وحده لا يكفي، فلو صلى شخصان نفس الصلاة، الأول كانت صلاته خالصة لله تعالى، والثاني كانت صلاته فيها رياء، فالشكل الخارجي الجارحي (أو قل: الفعل الفيزيائي) للصلاتين واحد، ولكن الأولى التي فيها إخلاص تكون مقبولة، والثانية باطلة للخلل الداخلي بالنية فيها.

قال الشيخ(رحمه الله علیه): كذلك يجب ثالثاً توحيده في العبادة، فلا تجوز عبادة غيره بوجه من

ص: 109


1- عن أبي العباس عن أبي عبد الله(علیه السّلام) قال: «تفكر ساعة خير من عبادة سنة، قال الله: ﴿إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبابِ﴾» [الزمر 9] [تفسير العياشي ج2 ص 208 ح 26]. عن أمير المؤمنين8 أنه قال: «فكر ساعة قصيرة خير من عبادة طويلة». [عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - ص 358] وروي عن الحسن الصيقل قال: سألت أبا عبد الله(علیه السّلام) عَمَّا يَرْوِي النَّاسُ أَنَّ تَفَكُّرَ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ، قُلْتُ: كَيْفَ يَتَفَكَّرُ؟ قَالَ: «يَمُرُّ بِالخَرِبَةِ أَوْ بِالدَّارِ فَيَقُولُ: أَيْنَ سَاكِنُوكِ أَيْنَ بَانُوكِ مَا بَالُكِ لَا تَتَكَلَّمِينَ..»[ الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 - ص 54 - 55 باب التفكر ح2].

الوجوه وكذا إشراكه في العبادة.

الفرق بين عبادة غير الله تعالى وإشراكه في العبادة:

عندما أعبد غير الله(عزوجل)، فأنا لا أعبد الله ابداً، كمن يعبد البقرة أو الفأر أو النار، أما المشرك فهو يعبد الله ويعبد غيره معه، فيشرك مع الله غيره.

عن أبي عبد الله(علیه السّلام): قال الله(عزوجل): أنا خير شريك، من أشرك معي غيري في عمل لم أقبله، إلا ما كان لي خالصاً.(1)

ومن أشرك في العبادة غيره فهو مشرك، كمن يرائي في عبادته، فلو كانت العبادة مثلاً من النوع الذي يشترط فيها العمل الجارحي مع العمل الجانحي –كالصلاة-، فالجارحي ربما يكون صحيحاً، ولكن العنصر الثاني إذا كان فيه خلل كالرياء مثلاً، فسيكون بمثابة المشرك وتكون العبادة باطلة، وسيتقرب إلى غير الله تعالى.

ملاحظة:

الشيخ لم يبين المعنى الشرعي للعبادة اعتماداً على وضوحه، وذكر مصاديق من العبادة الباطلة، ثم ذكر مصاديق من الأفعال التي أراد غيرنا أن يجعلها شركاً ويتهمنا به، ولكنها في الحقيقة ليست بشرك، وليست بعبادة، لأنها خالية من عنصر الاعتقاد بالربوبية.

ثم قال(رحمه الله علیه): «أما زيارة القبور وإقامة المآتم فليست هي من نوع التقرب إلى غير الله تعالى في العبادة، كما توهمه بعض من يريد الطعن في طريقة الإمامية، غفلة عن حقيقة الحال فيها، بل هي من نوع التقرب إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة، كالتقرب إليه بعيادة

ص: 110


1- المحاسن - أحمد بن محمد بن خالد البرقي - ج 1 - ص 252/270.

المريض وتشييع الجنائز وزيارة الإخوان في الدين ومواساة الفقير..».

إنه(رحمه الله علیه) دخل من مدخل آخر –غير ما تقدم- لتصحيح مثل هذه الأفعال، وهو:

أن هذه الأفعال قد ورد الأمر الشرعي فيها، فالله سبحانه وتعالى أراد منا زيارة القبور والخضوع للأولياء، فإذا أرادها الله تعالى فلا شرك فيها، فالله سبحانه وتعالى هو المولى، وهو يريدنا أن نعبده كما يحب هو لا أن نعبده كما نحب نحن، فأراد منا زيارة القبور، فنحن نزورها بكل أدب وإخلاص واطمئنان.

طبعاً هذا المدخل يحتاج إلى إثبات فقهي، يحتاج إلى أن نثبت بدليل شرعي أن زيارة القبور مثلاً ورد استحبابها في آية أو رواية، والشيخ كان ملتفتاً إلى هذا الأمر؛ فلذا قال: «أما كون زيارة القبور وإقامة المآتم من الأعمال الصالحة الشرعية فذلك يثبت في علم الفقه وليس هنا موضع إثباته»

وأما المدخل الذي دخلنا منه في البداية، فهو لا يحتاج إلى إثبات فقهي، لأنه يأتي للمسألة الاعتقادية من الأساس، ويثبت أنها فاقدة لحقيقة العبادة، إذ هي خضوع فقط كما تقدم تفصيله.

ص: 111

ص: 112

عقيدتنا في صفاته (تعالى)

اشارة

قال(رحمه الله علیه):

«عقيدتنا في صفاته تعالى ونعتقد أن من صفاته(عزوجل) الثبوتية الحقيقية الكمالية التي تسمى بصفات (الجمال والكمال)، كالعلم والقدرة والغنى والإرادة والحياة - هي كلها عين ذاته ليست هي صفات زائدة عليها، وليس وجودها إلا وجود الذات، فقدرته من حيث الوجود حياته. وحياته قدرته، بل هو قادر من حيث هو حي، وحي من حيث هو قادر، لا اثنينية في صفاته ووجودها وهكذا الحال في سائر صفاته الكمالية.

نعم هي مختلفة في معانيها ومفاهيمها، لا في حقائقها ووجوداتها، لأنه لو كانت مختلفة في الوجود وهي بحسب الفرض قديمة وواجبة كالذات للزم تعدد واجب الوجود ولانثلمت الوحدة الحقيقية، وهذا ما ينافي عقيدة التوحيد.

وأما الصفات الثبوتية الإضافية كالخالقية والرازقية والتقدم والعلية فهي ترجع في حقيقتها إلى صفةٍ واحدةٍ حقيقيةٍ وهي القيومية لمخلوقاته وهي صفةٌ واحدةٌ تنتزع منها عدة صفات باعتبار اختلاف الآثار والملاحظات.

وأما الصفات السلبية التي تسمى بصفات (الجلال)، فهي ترجع جميعها إلى سلبٍ واحدٍ هو سلبُ الإمكان عنه، فإن سلب الإمكان لازمة بل معناه سلب الجسمية والصورة والحركة والسكون والثقل والخفة وما إلى ذلك، بل سلب كل نقص. ثم إن مرجع سلب الإمكان في الحقيقة إلى وجوب الوجود، ووجوب الوجود من الصفات الثبوتية الكمالية،

ص: 113

فترجع الصفات الجلالية (السلبية) آخر الأمر إلى صفات الكمالية (الثبوتية). والله تعالى واحد من جميع الجهات لا تكثر في ذاته المقدسة ولا تركيب في حقيقة الواحد الصمد.

ولا ينقضي العجب من قول من يذهب إلى رجوع الصفات الثبوتية إلى الصفات السلبية لما عز عليه أن يفهم كيف أن صفاته عين ذاته فتخيل أن الصفات الثبوتية ترجع إلى السلب ليطمئن إلى القول بوحدة الذات وعدم تكثرها، فوقع بما هو أسوأ، إذ جعل الذات التي هي عين الوجود ومحض الوجود والفاقدة لكل نقص وجهة إمكان، جعلها عين العدم ومحض السلب أعاذنا الله من شطحات الأوهام وزلات الأقلام.

كما لا ينقضي العجب من قول من يذهب إلى أن صفاته الثبوتية زائدة على ذاته فقال بتعدد القدماء ووجود الشركاء لواجب الوجود، أو قال بتركيبه تعالى عن ذلك، قال مولانا أمير المؤمنين وسيد الموحدين(علیه السّلام): «وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه، بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصفه سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه جزأه، ومن جزأه فقد جهله..»». انتهى

هنا عدة مباحث في هذه العقيدة نذكرها تباعاً حتّى يتَّضح المقصود من كلامه.

وفي البداية لابد أن نبيِّن أن هناك تقسيمات عديدة لصفات الله(عزوجل)، وفي هذه المرحلة نقتصر على ما ذكره الشيخ مع بيانه.

أنواع الصفات

اشارة

ذكر الشيخ(رحمه الله علیه) هنا ثلاثة أنواع للصفات:

النوع الأول: الصفات الثبوتية الكمالية الحقيقية.
اشارة

ولهذا النوع عدة خصائص:

ص: 114

الخصيصة الأولى: أن هذه الصفات هي من النوع الذي يليق بالواجب جل وعلا، كالعلم والحياة، في قبال ما لا يليق به جل وعلا، فيجب سلبه عنه، كالتركيب والظلم، وهذا هو معنى الثبوتية، والثبوتية تقابلها السلبية.

الخصيصة الثانية: أن هذه الصفات تشير إلى كمال في الذات المقدسة، وما دامت تشير إلى كمال فيجب إثباتها له(عزوجل)، من باب أن واجب الوجود متَّصف بجميع الصفات الكمالية، وهذا هو معنى الكمالية.

الخصيصة الثالثة:أن تلك الصفات ذاتية، بمعنى أنه يكفي في تحققها وجود الذات المقدسة فقط، أي إنها لا تحتاج إلى طرفٍ آخر لتثبت، هي ليست كصفة الخالقية أو الرازقية، فهاتان الصفتان وإن كانتا من الصفات الكمالية لله(عزوجل)، لكنهما تحتاجان إلى طرف آخر حتى تتحقق، فالخالقية مثلاً تعني: وجود خالق ومخلوق، فبدون وجود المخلوق لا توجد خالقية، وإنما يوجد قدرة على الخلق، فلا نصف الله سبحانه وتعالى بالخالقية إلّا إذا مارس عملية الخلق فأوجد مخلوقات، أمّا قبل فعله الخلق أو ممارسته لعملية الخلق فنقول: إن الله(عزوجل) عنده القدرة على الخلق.

وكذلك الرازقية، فإنها تحتاج إلى وجود رازق ومرزوق حتّى تتحقق صفة الرازقية، فقبل وجود المرزوق نقول: إن الله تعالى له القدرة على الرزق.

مثل هذه الصفات لا يكفي مجرد وجود الذات أو تحقق الذات لوجودها أو تحققها، ولذا فيمكن افتراض الذات المقدسة من دون صفة الخالقية والرازقية.

وتسمى هذه الصفات بالكمالية الإضافية، وهي مأخوذة من الإضافة التي لا تتحقق إلّا بوجود طرفين: المضاف والمضاف إليه.

أمّا مثل صفة القدرة والعلم والحياة، فهي صفات حقيقية، بمعنى أن نفس الذات

ص: 115

لوحدها تكفي لتحقق تلك الصفة، فالله سبحانه وتعالى هو بذاته حي، ولا تحتاج هذه الصفة إلى طرف آخر حتى نقول: الله سبحانه وتعالى حي، بحيث يكون قبلها غير حي.

وهكذا صفة القدرة، فالله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء، ونقول: الله قادر على الخلق، سواء وُجد خلق في الخارج أو لم يوجد.

وهكذا نقول: إن الله(عزوجل) عالم، سواء كان هناك معلوم في الخارج من الممكنات أم لم يكن هناك معلوم.

البحث المهم في هذا النوع:

إن البحث المهم في هذه الصفات هو: هل لها وجود حقيقي أو ليس لها وجود حقيقي؟ وهل هي عين الذات أو زائدة على الذات؟

تعددت الآراء في هذه المسألة وتناقضت، فبعضها أخذ جانب الإفراط، وبعضها أخذ جانب التفريط.

وكل من الفرق المختلفة أراد الحفاظ على جهة من جهات التوحيد.

فالأشاعرة أرادوا الحفاظ على وصف الباري جل وعلا بالصفات الكمالية حقيقةً، ولكنهم لم يتعقّلوا وصف الله بها إلّا بالقول بأنها زائدة على الذات، وهؤلاء يمثلون جانب الإفراط.

وعلى الطرف النقيض تماماً وقف المعتزلة، حيث أرادوا تنزيه الباري(عزوجل) عن النقص والتركيب، فقالوا بعدم وجود أي صفة حقيقية له تعالى، وهؤلاء يمثلون جانب التفريط.

وأمّا الحكماء والإمامية فقد جاءوا – تبعاً لأئمة أهل البيت(علیهم السّلام) - برأي يثبت الصفات الحقيقة له(عزوجل)، بحيث لا تكون هذه الصفات زائدة على الذات، فخالفوا

ص: 116

الأشاعرة، ولا يلزم منها تركب الذات، فخالفوا المعتزلة، فقالوا: إن صفات الله(عزوجل) هي عين ذاته.

تفاصيل الأقوال:
القول الأول: للأشاعرة:

قالوا: إن الصفات الكمالية قائمةٌ بنفسها زائدة على الذات.

أنت كإنسان عادي تملك بيتاً وسيارة وشهادة وبستاناً، وملكك لهذه الأمور يمثل كمالاً لك، لكن أنت موجود بوجود خاص، وكل واحد من هذه الأمور له وجود خاص به، لكن هناك علاقة بينك وبينها، وهي أنها ملك لك.

وما نُسب إلى الأشاعرة في ما يتعلق بصفات الباري (جل وعلا) الثبوتية يشبه هذا المثال، فهم يقولون: إن مثل صفة العلم هي صفة زائدة على الذات، فعندنا ذات الله تعالى، وله وجود مستقل، وعندنا وجود ثاني اسمه: العلم، ووجود ثالث اسمه: القدرة، ووجود رابع اسمه: الحياة، وهكذا.

وتلك الموجودات لها ارتباط بهذه الذات المقدسة، فقالوا: إن الصفات لها وجود قائم بنفسه مستقل زائدة على الذات، والصفة تعرض على الذات.

لماذا قالوا بهذا الشيء؟

إن الصفات ثابتة ومتكثرة بنص القرآن الكريم، فالقرآن الكريم يذكر العلم والحياة والقدرة والإرادة والإدراك والسمع والبصر، هذا من جانب.

ومن جانب آخر: إن الذات المقدسة بسيطة أي غير مركبة.

فإذا كانت الصفات داخل الذات وليست خارجة عنها، فيلزم أن الذات مركبة

ص: 117

من واجب الوجود ومن العلم والقدرة والحياة... فصار الواجب مركباً، وهذا خلاف التوحيد.

فالأشاعرة أرادوا أن يثبتوا التوحيد بمعنى البساطة، فقالوا: بأن الصفات زائدة عن الذات، وأن الصفات الثبوتية الكمالية زائدة وقديمة بقدمه تعالى، فالله سبحانه وتعالى منذ القدم موجود، وهناك صفة اسمها العلم موجودة مستقلة عنه موجودة معه، لأنه إذا لم تكن موجودة معه منذ القدم، فهذا يلزم منه كون الله(عزوجل) من دون علم في آن ما، وهذا خلاف وجوب الوجود.

لذلك قالوا: بأن تلك الصفات قديمة بقدمه(عزوجل).

الإشكال على هذا الرأي:

إن القول بزيادة الصفات على الذات يلزم منه العديد من المحاذير، نذكر منها التالي:

المحذور الأول:

يلزم تعدد القدماء، فالله(عزوجل) قديم، والعلم موجود قديم، الحياة قديم، القدرة قديم، الإرادة قديم، السمع قديم، البصر قديم، وهكذا.

فقالوا بالقدماء الثمانية: الذات المقدسة مع الصفات السبعة التي هي: الحياة والقدرة والعلم والسمع والبصر والإرادة والكلام النفسي.

فهم أرادوا أن يثبتوا التوحيد فوقعوا في الشرك، لذلك نقل عن أحد علمائهم بأنه كان يقول: إننا نستهجن من الثنوية الذين قالوا بوجود قديمين: مبدأ للخير ومبدأ للشر، ونستهجن من النصارى الذين قالوا بأن القدماء ثلاثة: الأب والابن وروح القدس، وأصحابنا يقولون بقدماء ثمانية!

ص: 118

المحذور الثاني:

يلزم منه افتقار الذات المقدسة إلى الصفات الزائدة، حيث قالوا: هناك ذات وإلى جانبها صفة علم وقدرة، وهذه الذات تتصف بالعلم والقدرة، وهذا معناه أنه إذا نظرنا إلى الذات بغض النظر عن غيرها، أي عندما نقصر النظر على الذات، فهذه الذات مفتقرة إلى تلك الصفة، أي إنها في حد نفسها خالية من العلم مثلاً، وحتى تكون عالمة فهي مفتقرة إلى تلك الصفة الخارجة عن ذاتها، والافتقار صفة الممكن، وهذا خلف كونه تعالى واجب الوجود الغني المطلق.

المحذور الثالث:

أن هذا القول يلزم منه النقص ومحدودية الذات، لأن الذات على هذا القول في مرتبة وجودها الخاص خالية عن الصفات، ففي ذاتها تكون ناقصة، وهذا خلاف وجوب الوجود، وسيكون حالها حينئذٍ حال الإنسان الذي هو كما قال الله تعالى: ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(1)

فالإنسان عندما يخرج إلى الدنيا ليس عنده أي علم فعلي، فالإنسان بمرتبة الذات في هذه المرحلة ناقص، وبالاستمرار في حياته حيث جعل الله تعالى له منافذ للعلم، يبدأ يكسب العلم شيئاً فشيئاً، فيتكامل، فالإنسان في مرتبة الذات غير صفة العلم وغير صفة السمع، ففي ذاته يكون ناقصاً.

فالأشاعرة عندما قالوا: إن الصفات زائدة عن الذات، فهذا يعني أنه لو نظرنا إلى الذات المقدسة في مرتبة الذات، فهي تكون ناقصة، لأنه لا يوجد فيها العلم ولا القدرة

ص: 119


1- النحل: 78

ولا الحياة، فأصبحت ناقصة ومحدودة، والنقص والمحدودية من صفات الممكن، والفرض أن الذات المقدسة واجب الوجود.

الرأي الثاني: للمعتزلة:

هؤلاء وقفوا على طرف النقيض من قول الأشاعرة، فقالوا بأنه ليس هناك أي تحقق ووجود للصفات، فليس هناك صفات في الحقيقة، فليس عندنا لا صفة العلم ولا القدرة، ليس عندنا إلّا الذات المقدسة، نعم، هذه الذات تنوب عن هذه الصفات، فهي ذاتٌ بسيطةٌ واحدةٌ لها آثار متعددة، فأثرٌ يشبه أثر الحياة، لكن لا توجد صفة الحياة في الحقيقة، وأثر آخر يشبه أثر العلم، وثالث يشبه أثر القدرة، وهكذا.

والسبب في ذلك حسب اعتقادهم: أن الواجب بسيط محض وأحدي الذات، يعني غير مركب، وأن الاتِّصاف بالصفات المتكثرة من علم وقدرة وحياة يعني أن تلك الذات متكثرة، والتكثر يوجب التركب، فتصير الذات المقدسة مركبة من ذات وصفات، وهذا خلاف التوحيد الأحدي، أو خلاف أن واجب الوجود هو صرف الوجود، يعني غير مركب.

النقاش في هذا الرأي:

أيضاً يلزم من هذا الرأي عدة محاذير نذكر منها:

المحذور الأول: يلزم منه التعطيل، يعني تعطيل الذات عن الاتصاف بأي صفة من الصفات.

المحذور الثاني: أنه خلاف ظاهر بل صريح القرآن الكريم والروايات الشريفة التي وصفت الله(عزوجل) حقيقةً بأنه قادر، عالم، حي، أي إنه تعالى هو القادر، وهو العالِم، وهو

ص: 120

المريد، لا أن له أثر العلم أو القدرة أو الحياة، فالقرآن واضح جداً ويقول: إن الله هو سميع بصير حي، فالقرآن يثبت الصفات بصراحة لله(عزوجل).

قال تعالى: ﴿هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْ-رِكُونَ. هُوَ اللهُ الخالِقُ البارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْماءُ الحُسْنىٰ يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾(1)

والحاصل:

أننا لا نقول بأن الصفات زائدة على الذات كما يقول الأشاعرة، لأنه يلزم منه تعدد القدماء ونسبة النقص لله(عزوجل)، وافتقار الذات.

ولا نقول بقول المعتزلة الذين قالوا: إن الذات تقوم مقام الصفات التي هي ذات واحدة ولها أثر القدرة والعلم، ولا توجد صفات في الحقيقة، لأنه يلزم منه التعطيل، وهو خلاف ظاهر بل صريح القرآن الكريم والروايات الشريفة.

والرأي الصحيح هو رأي أتباع أهل البيت(علیهم السّلام) والذي يقول: بأن الصفات هي عين الذات، وهو ما سيتبين في الرأي الثالث إن شاء الله تعالى.

الرأي الثالث: للإمامية (أتباع أهل البيت(علیهم السّلام)): عينية الصفات للذات:

أي إن الصفات موجودة حقيقة، بخلاف المعتزلة الذين قالوا: لا توجد هناك صفات حقيقية.

وفي نفس الوقت هذه الصفات الموجودة هي ليست زائدة على الذات، خلافًا

ص: 121


1- الحشر: 22-24.

للأشاعرة.

وانما هي عين الذات، فالذات الالهية المقدسة هي ذات واحدة بسيطة، وهذه الذات نفسها عالمة، وهي نفسها قادرة، حية، مدركة، سميعة، بصيرة والى آخر هذه الصفات.

وهذا العلم المتصفة به هذه الذات ليس زائدًا عليها، أي ليس له وجود مستقل عن الذات، يعني عندما نقول: إن هذه الذات عالمة قادرة حية، فليس معنى قولنا هذا: أن الذات جزء منها عالم، وجزء آخر غير الجزء الأول قادر، وجزء ثالث غير الجزئين الأولين حي، كلا، لأن هذا يلزم منه التركيب الذي أراد أن يفرّ منه الأشاعرة والمعتزلة، بل هي ذات واحدة واحدة كلها عالمة، وهي كلها قادرة، مدركة، سميعة، بصيرة لا مجال للتركيب فيها، فالصفات هي عين الذات.

وهذا هو رأي الامامية.

فالصفات وإن كانت قديمة مثلما قال الأشاعرة، ولكن الفرق بيننا وبينهم هو: أنهم قالوا: إن هذه الصفات زائدة على الذات، أما نحن (الامامية) فنقول: هي صفات قديمة، ولكنها عين الذات غير زائدة عليها، وبعبارة منطقية: إن المصداق واحد، لكن المفاهيم متعددة، والمصداق هو الذات العالمة، القادرة، المدركة، الحية، السميعة، البصيرة إلى آخره، وهي ذات واحدة.

فمثلًا مفهوم العلم -الذي قلنا إنه في الذات الالهية هو (العلم الحضوري) يعني نفس الأشياء حاضرة عند الله(عزوجل) كما تقدم- هذا المفهوم يختلف عن مفهوم الحي (المدرك بأقصى درجات الإدراك)، فمفهوم الحياة يختلف عن مفهوم القدرة، وعن مفهوم العلم وعن مفهوم السمع، ولكن هذه المفاهيم مصداقها في الخارج واحد وهو: الذات الالهية المقدسة.

ص: 122

مثال للتوضيح:

شخص مثلًا في البيت له اسم معين، وفي المدرسة له اسم آخر، وفي هويته له اسم ثالث، وكل اسم له معنى، فمثلاً في البيت اسمه: محمد، وفي المدرسة اسمه: علي، ومحمد معناه يختلف عن علي، فمحمد معناه صاحب المقامات المحمودة، وعلي معناه صاحب المقام الرفيع، وكل له معنى يختلف عن الآخر، لكن المصداق في الخارج هو مصداق لشخص واحد، وهكذا لو أسميناه: ابن فلان، أو الدكتور، فكلها تشير إلى شخص واحد رغم اختلاف معانيها، وهذا المثال للتوضيح لا أكثر.

الذات الالهية واحدة، لكن هذه الذات الإلهية عالمة، قادرة، حية، مدركة... ومفهوم الحياة يختلف عن مفهوم العلم وعن مفهوم القدرة، لكن في الخارج لدينا مصداق واحد وهي الذات الإلهية المقدسة البسيطة.

وقد ورد عن أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه في نهج البلاغة إشارة لهذا المعنى عندما قال: «أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُه وكَمَالُ مَعْرِفَتِه التَّصْدِيقُ بِه، وكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِه تَوْحِيدُه، وكَمَالُ تَوْحِيدِه الإِخْلَاصُ لَه، وكَمَالُ الإِخْلَاصِ لَه نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْه، لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ المَوْصُوفِ، وشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّه غَيْرُ الصِّفَةِ، فَمَنْ وَصَفَ الله سُبْحَانَه فَقَدْ قَرَنَه، ومَنْ قَرَنَه فَقَدْ ثَنَّاه ومَنْ ثَنَّاه فَقَدْ جَزَّأَه، ومَنْ جَزَّأَه فَقَدْ جَهِلَه»(1)

ومعنى الحديث:

نفي الصفات: أي نفي الصفات الزائدة.

فمن وصف الله: يعني بوصف زائد على الذات.

ص: 123


1- نهج البلاغة ج1 ص 15.

فقد قرنه: يعني صار هناك تعدد، الأول وقرينه الثاني.

فقد ثناه: بأن جعل له ذاتًا ولها علم زائد، فصارا اثنين.

فقد جزّأه: فصار مركبًا من أجزاء.

هذا كله في النوع الأول من الصفات، وهي الصفات الثبوتية الكمالية الحقيقية.

النوع الثاني: الصفات الثبوتية الكمالية الاضافية (الفعلية).
اشارة

الثبوتية والكمالية قد تقدم معناها، أما الاضافية فهي الصفات التي تحتاج لطرف آخر لتحصل ولتتحقق.

ملاحظة:

هذه الصفات الإضافية -مثل الخالقية والرازقية وصفة الجود وغيرها- هي صفات حادثة؛ لأنها تحتاج إلى طرف آخر، وكل شيء غير الله جل وعلا هو ممكن وحادث، فصفة الخالقية هي حادثة.

أما صفة الخالق بمعنى القادر على الخلق فهي قديمة، والرازق بمعنى القادر على الرزق صفة قديمة، أما تفعيل هذه الصفات، أي الخالقية (إيجاد خلق) الرازقية (إعطاء رزق) فهذه الصفات حادثة؛ لأنها تحتاج إلى طرف آخر، وهو حادث.

هذه الصفات الثبوتية الكمالية الإضافية قال عنها الشيخ(رحمه الله علیه): إنها ترجع إلى صفة حقيقية واحدة هي صفة القيومية لمخلوقاته.

ما معنى القيومية؟
اشارة

القيوم له معنيان:

ص: 124

الأول: القائم بذاته:

يعني عندما نصف الله(عزوجل) بأنه قيوم، فهذا يعني أن وجوده قائم بذاته غير محتاج إلى غيره (مخلوقاته)، فقيام الله(عزوجل) معناه أنه لا يعتمد على غيره ولا يتبع أحدًا ولا تأخذه سنة ولا نوم ولا سهو، قائم بذاته مستغنٍ بذاته عن جميع ما سواه.

الثاني: القائم بشؤون غيره:

فقيام الله على هذا المعنى يعني أنه حافظ لمخلوقاته، وموجد لها، ومدبر لأمورها، وتلك المخلوقات قائمة به من جميع الجهات، يعني محتاجة لذلك القيوم في جميع جهاتها، وكما قالوا في علم الفلسفة: «إن الممكن محتاج إلى الواجب حدوثًا وبقاءً»، يعني جميع الموجودات الممكنة محتاجة في جميع شؤونها إلى الواجب حدوثًا، أي في أصل وجودها، وبقاءً، يعني في استمرار وجودها.

وكمثال للتوضيح: المصباح الكهربائي حتى يعطي الضوء يحتاج إلى وصول التيار الكهربائي إليه حدوثًا واستمرارًا.

وبعد أن تبين معنى القيومية، فقول الشيخ(رحمه الله علیه): إن هذه الصفات الإضافية (الخالقية والرازقية وغيرها) ترجع إلى صفة واحدة وهي القيومية، فإنه يقصد: المعنى الثاني، وهو أن الخالق يفيض الخلق والوجود على مخلوقاته، وهذا يعني أنه هو تعالى مدبر شؤون مخلوقاته، وهي محتاجة له في جميع شؤونها، وأن الرازق يفيض الرزق على مخلوقاته، وهكذا بقية المعاني والصفات.

في حديث للإمام الرضا صلوات الله وسلامه عليه يفسّر القائم بالمعنى الثاني، قال(علیه السّلام)8: «وهُوَ قَائِمٌ لَيْسَ عَلَى مَعْنَى انْتِصَابٍ وقِيَامٍ عَلَى سَاقٍ فِي كَبَدٍ(1)،

كَمَا قَامَتِ

ص: 125


1- الكبد: الشدة والتعب.

الأَشْيَاءُ، ولَكِنْ قَائِمٌ يُخْبِرُ أَنَّه حَافِظٌ، كَقَوْلِ الرَّجُلِ: القَائِمُ بِأَمْرِنَا فُلَانٌ، والله هُوَ القَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ..».(1)

النوع الثالث: الصفات السلبية:
اشارة

وهي الصفات التي يجب تنزيه الباري جل وعلا عنها، فهناك صفات تليق بالباري جل وعلا ويجب أن نثبتها له؛ لأنها كمال، وكل كمال هو ثابت لله(عزوجل)، وهناك صفات لا تليق به جل وعلا، هي صفات إذا وصفنا بها الواجب فإنها ستشير إلى نقص وجودي، وحيث إن واجب الوجود هو كمال مطلق، فيجب نفي تلك الصفات عنه تعالى، وهذه الصفات التي يجب أن ننزه الباري عنها تسمى: الصفات السلبية، بمعنى أنها تُسلب عن الذات المقدسة، و إذا أردنا ان نحملها على الذات المقدسة فيجب أن يوضع أمامها حرف النفي، فنقول: الله ليس بجسم، الله لا يرى بالعين المجردة.

وهذه الصفات يمكن أن تنقسم إلى قسمين:

الأول: الصفات السلبية الذاتية:

وهي الصفات التي يجب أن نسلبها عن الذات المقدسة، بغضّ النظر عن أي شيء آخر وراء الذات، أي إن النظر يكون فيها إلى نفس الذات بما هي هي، وهذه الصفات السلبية الذاتية هي التالي:

1/ إنه(عزوجل) ليس مركباً (أي إن نفس الذات ليست مركبة).

2/ليس جسماً.

ص: 126


1- الكافي للكليني ج1 ص 121 بَابٌ آخَرُ وهُوَ مِنَ البَابِ الأَوَّلِ إِلَّا أَنَّ فِيه زِيَادَةً وهُوَ الفَرْقُ مَا بَيْنَ المَعَانِي الَّتِي تَحْتَ أَسْمَاءِ الله وأَسْمَاءِ المَخْلُوقِينَ ح2.

3/ليس له شريك.

4/ليس له مكان.

5/لا يُرى بالعين.

6/ليس محتاجاً.

7/ليس محلاً للحوادث (أي إن الأمور الحادثة لا تحل به، مثل الحركة) وقد تقدم شرح معنى الحركة.

فهذه هي صفات الحوادث، وهو(عزوجل) ليس محلاً للحوادث (كالفرح والحزن والسكون والحركة).

الثاني: الصفات السلبية الفعلية:

وهي الصفات التي يجب تنزيه فعل الله(عزوجل) عنها، أي إنها راجعة إلى الفعل لا الذات، مثل الظلم والجور والعبث والشر واللعب والخطأ والاشتباه، فكل هذه الصفات وأمثالها منفية عن فعله جل وعلا، فليس في فعله ظلم أو جور أو عبث أو لعب وهكذا.

وسيذكر المصنف(قدس سره) الدليل على سلب تلك الصفات عن فعله في العقيدة التالية (العدل) بالتفصيل، وسنبينه هنا بعجالة:

لو اتصف فعله جل وعلا بإحدى هذه الصفات كالظلم -والعياذ بالله- حينها نتساءل: لماذا يظلم الله(عزوجل)؟

إن هذا لا يخلو:

إما أن يكون محتاجاً للظلم، ولكن الله(عزوجل) غني مطلق.

ص: 127

وإما أن يفعل الظلم جهلاً، ولكن الله(عزوجل) عالم بالمطلق.

وإما أن يفعل الظلم عبثاً، ولكن الله(عزوجل) حكيم بالمطلق.

وإما أن يفعل الظلم اضطراراً إليه، ولكن الله(عزوجل) قوي قادر لا يوجد من هو أقوى منه ليضطره إلى فعلٍ ما.

فهذه هي الأسباب التي تدعو الظالم إلى الظلم، وهذه كلها منفية عن الله(عزوجل)، فيمتنع صدور الظلم منه(عزوجل)، وهكذا بقية الصفات السلبية الفعلية.

رجوع الصفات السلبية إلى سلب الإمكان.

إن هذه الصفات السلبية -سواء كانت ذاتية أو فعلية- كلها ترجع إلى سلبٍ واحد، هو سلب الإمكان عنه تعالى.

بمعنى أنه: لماذا يجب علينا أن نسلب هذه الصفات عنه تعالى؟ وما هو منشأ تنزيه الباري(عزوجل) عن هذه الصفات السلبية؟

والجواب:

أن الله(عزوجل) واجب الوجود، وليس ممكن الوجود، فكل ما يتصف به ممكن الوجود يكون منفياً عنه جل وعلا، وهذا تقدم في صفات الواجب، وهذا معنى قول الشيخ المظفر(رحمه الله علیه): إن هذه الصفات السلبية ترجع إلى سلب واحد، وهو سلب الامكان عنه، لأن سلب الامكان يرجع إلى وجوب الوجود.

فحيث إن الله(عزوجل) هو واجب الوجود، فلا تكون تلك الصفات السلبية ثابتة له، بل يجب أن تنفى عنه جل وعلا.

ص: 128

مبحث جانبي أشار له الشيخ المظفر(قدس سره):
هل الصفات الثبوتية ترجع إلى السلبية أو بالعكس؟

رأيان:

الرأي الأول: أن الثبوتية ترجع إلى السلبية، ومعنى هذا: أن صفة (العالم) أصلها (ليس بجاهل)، و (قادر) يعني (ليس بعاجز)، و (الحي) يعني (ليس بميت)، و (مريد) يعني (ليس بمكرَه)، وهكذا.

وبرروا ذلك بأحد تبريرين:

التبرير الأول: عدم تعقّل أن صفات الله(عزوجل) الثبوتية هي عين ذاته، وبالتالي فإن إثبات الصفات حقيقة له تعالى يؤدي إلى كونها زائدة على الذات، وهذا يلزم منه تعدد القدماء، وإذا قيل: إنها غير حقيقية، فهذا خلاف ظاهر القرآن الكريم، الذي أثبت الصفات حقيقة، ولأجل الحفاظ على التوحيد، وصلوا إلى هذا الرأي، بأن معنى العالم أنه ليس بجاهل، ووصف (ليس بجاهل) يمكن أن يكون عين الذات.

وهذا ما أشار له الشيخ(رحمه الله علیه) في عبارته، حيث قال ما نصُّه: «ولا ينقضي العجب من قول من يذهب إلى رجوع الصفات الثبوتية إلى الصفات السلبية، لمّا عزّ عليه أن يفهم كيف أن صفاته عين ذاته فتخيل أن الصفات الثبوتية ترجع إلى السلب، ليطمئن إلى القول بوحدة الذات وعدم تكثرها».

التبرير الثاني: أن معرفة كنه وحقيقة الصفات الثبوتية محجوب عنا، فنحن لا نستطيع أن نفهم المعنى الحقيقي لعلم الله(عزوجل)، أو المعنى الكامل لقدرة الله(عزوجل)،وهكذا باقي الصفات الثبوتية، هذا الأمر غير معقول لنا، وكيف يعرف المحدود اللامحدود؟!

ص: 129

فحيث إننا لا نتعقل معنى العالم، وإنما يمكننا أن نتعقل أنه ليس بجاهل، فننفي الجهل عن الله(عزوجل)، أما حقيقة علم الله فغير مفهومة لدينا، فلا يمكن إثباتها له تعالى، باعتبار أننا لا يمكن أن نفهم الصفات الثبوتية، وإنما نفهم السلوب، أي سلب الجهل والعجز والموت و... فنحن نثبت ما نتعقله دون ما لا نتعقله.

الرأي الثاني: أن السلبية هي التي ترجع إلى الثبوتية، يعني أن كل الصفات السلبية ترجع إلى صفة واحدة وهي صفة سلب الإمكان، وسلب الإمكان حقيقته راجعة إلى وجوب الوجود، وهي صفة ثبوتية.

وأما الرأي الأول فغير صحيح، لأنه يلزم منه التالي:

أولاً: أن إرجاع الصفات الثبوتية إلى السلبية معناه التعطيل، يعني تعطيل الذات المقدسة عن الصفات الثبوتية، يعني عدم إثبات أي صفة ثبوتية لله(عزوجل)، فلا نقول: الله عالم، وإنما نقول: الله ليس بجاهل، فلا تثبت أي صفة ثبوتية لله(عزوجل)، وحتى إذا قلت بلسانك: الله عالم، فهذا مجرد لقلة لسان، ولا تستطيع أن تثبت هذه الحقيقة.

ثانياً: أن نفي الصفات الثبوتية عنه جل وعلا هو على خلاف ظاهر القرآن الكريم، الذي أثبت وبصراحة تامة الصفات الثبوتية له جل وعلا، قال تعالى: ﴿هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلَامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾(1)

ثالثاً: أنّ ما قالوه في التبرير الثاني من عدم فهم حقيقة الصفات الثبوتية بلحاظ عجز الإنسان عن معرفة حقيقة الصفات الثبوتية، أمر صحيح، فإنه لا يمكننا أن ندرك

ص: 130


1- الحشر آية 23-24.

حقيقة الصفات الثبوتية، باعتبار:

أولاً: أن صفات الثبوت هي عين الذات.

ثانياً: والذات الإلهية غير محدودة.

فينتج: أن ما هو عين الذات أيضاً غير محدود.

فلا يمكننا -نحن بني الإمكان- أن ندرك حقيقة اللا محدود.

إن هذا كله صحيح، ولكن عدم معرفتنا بحقيقة وكنه الصفات الثبوتية لا يمنع من إثباتها له(عزوجل)، فنحن لا نفهم حقيقة العلم، ولكن هذا لا يمنع من أن نقول: إن الله عالم، أَلا نقول: إن الله موجود! مع عدم إمكاننا أن نعرف حقيقة وجوده تعالى، ولكننا نثبت هذه الحقيقة، وكذا صفة واجب الوجود، فما فرقها عن باقي الصفات؟

والنتيجة: نحن نصف الله(عزوجل) بما وصف به نفسه، كما تقدم في الآيتين الكريمتين اللتين أثبتتا العديد من الصفات الثبوتية له تعالى.

بالإضافة إلى أن هناك روايات تقول: بأن لله(عزوجل) تسعة وتسعين اسماً. وأدعية أخرى ذكرت الكثير من الأسماء له جل وعلا.

بيان معنى الصمد:

الصمد هو: إما البسيط غير المركب، أو المصمود له، أي المقصود إليه، والمولى المطاع.

ص: 131

ص: 132

عقيدتنا في العدل

اشارة

قال الشيخ المظفر(قدس سره):

«عقيدتنا بالعدل ونعتقد أن من صفاته تعالى الثبوتية الكمالية أنه عادلٌ غير ظالم، فلا يجور في قضائه ولا يحيف في حكمه، يثيب المطيعين، وله أن يجازي العاصين، ولا يكلف عباده ما لا يطيقون ولا يعاقبهم زيادة على ما يستحقون. ونعتقد أنه (سبحانه) لا يترك الحسن عند عدم المزاحمة ولا يفعل القبيح، لأنه(عزوجل) قادر على فعل الحسن وترك القبيح مع فرض علمه بحسن الحسن وقبح القبيح وغناه عن ترك الحسن وعن فعل القبيح، فلا الحسن يتضرر بفعله حتى يحتاج إلى تركه، ولا القبيح يفتقر إليه حتى يفعله. وهو مع كل ذلك حكيم لا بد أن يكون فعله مطابقا للحكمة وعلى حسب النظام الأكمل.

فلو كان يفعل الظلم والقبح - تعالى عن ذلك - فإن الأمر في ذلك لا يخلو عن أربع صور:

1 - أن يكون جاهلاً بالأمر فلا يدري أنه قبيح.

2 - أن يكون عالماً به ولكنه مجبور على فعله وعاجز عن تركه.

3 - أن يكون عالماً به وغير مجبور عليه ولكنه محتاج إلى فعله.

4 - أن يكون عالماً به وغير مجبور عليه ولا يحتاج إليه فينحصر في أن يكون فعله له تشهياً وعبثاً ولهواً.

ص: 133

وكل هذه الصور محال على الله تعالى وتستلزم النقص فيه وهو محض الكمال، فيجب أن نحكم أنه منزه عن الظلم وفعل ما هو قبيح.

غير أن بعض المسلمين جوز عليه(عزوجل) فعل القبيح تقدست أسماؤه، فجوز أن يعاقب المطيعين ويدخل الجنة العاصين بل الكافرين، وجوز أن يكلف العباد فوق طاقتهم وما لا يقدرون عليه ومع ذلك يعاقبهم على تركه، وجوز أن يصدر منه الظلم وجور والكذب والخداع وأن يفعل الفعل بلا حكمة وغرض ولا مصلحة وفائدة وبحجة أنه لا يسأل عما يفعل وهو يسألون.

فرب أمثال هؤلاء الذين صوروه على عقيدتهم الفاسدة، ظالم جائر سفيه لاعب كاذب مخادع يفعل القبيح ويترك الحسن الجميل، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وهذا هو الكفر بعينه. وقد قال الله(عزوجل) في محكم كتابه: ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ﴾ وقال: ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ﴾ وقال: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾ وقال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ إلى غير ذلك من الآيات الكريمة، سبحانك ما خلقت هذا باطلاً» انتهى.

هذه العقيدة من العقائد المهمة جداً.

وهنا نذكر عدة نقاط:

النقطة الأولى: سبب تأصيل صفة العدل.

إن العدل في الحقيقة من الصفات الثبوتية لله جل وعلا، ومادام العدل من الصفات، قد يُتساءل: ما هو السبب الذي لأجله جعلتم هذه الصفة أصلاً من أصول الدين؟ ولمَ لمْ تبق مع بقية الصفات؟

ص: 134

والجواب:

أن السبب في ذلك يعود إلى:

أولاً: خطورة نفي هذه الصفة، بمعنى أنه سينتج من عدم إثباتها الكثير من الأمور الخطرة جداً على جميع المستويات، أي ليس فقط على المستوى العقائدي، بل حتى على المستوى العملي والسياسي.

ثانياً: الاختلاف الكبير الذي وقع في هذه الصفة، من حيث بعض الثمرات والنتائج المترتبة عليها، الأمر الذي أدّى إلى أن ينقسم مدعو الإسلام إلى مدرستين رئيسيتين، هما: العدلية، (وهم الإمامية أتباع أهل البيت(علیهم السّلام) والمعتزلة)، وفي قبالهم مدرسة الأشاعرة.

بل انقسم المسلمون في بعض ما يترتب على هذه الصفة إلى ثلاث فرق وهم: المجبّرة وهم الأشاعرة، والمفوّضة وهم المعتزلة، والقائلون بالأمر بين الأمرين، وهم أتباع مذهب أهل البيت سلام الله عليهم، وستتضح هذه المعاني لاحقاً إن شاء الله تعالى.

ثالثاً: أن أهمية هذه الصفة تتبين إذا ما عرفنا أنه يمكن اختزال الأصول الخمسة في التوحيد والعدل فقط، باعتبار أن النبوة ثمرة من ثمرات العدل الإلهي، يعني لو لم يكن الله عادلاً -والعياذ بالله- لأمكن أن يترك الناس من دون أن يرسل إليهم رسولاً، ومن دون أن يبين لنا ما يحبّ وما يبغض، ومع ذلك يعذبنا، وإذا جاء إنسان وأراد أن يعترض على الله(عزوجل)، فإنه سيقال له ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾(1)،

وهذا ما يؤول إليه قول الأشاعرة، بحيث لو أن الله تعالى أدخل الناس كلهم في جهنم حتى المحسنين فهذا عدل، لأنه تعالى فعله.

وكذلك الإمامة يمكن أن نرجعها إلى العدل كما سيتضح إن شاء الله تعالى، وهكذا

ص: 135


1- الأنبياء 23.

المعاد، فإن واحدة من تجليات صفة العدل هي صفة الجزاء والثواب والعقاب.

فأهمية هذه الصفة أنها تختزل بقية الأصول، فيمكنك أن تقول: إن أصول الدين هي التوحيد والعدل، والعدل ينتج ضرورة النبوة والإمامة والمعاد، فهو أصل مهم، لذلك ورد في بعض الأحاديث الشريفة «إن أساس الدين التوحيد والعدل».(1)

فضلاً عن أن أهمية هذه الصفة وهذا الأصل تبرز حتى على المستوى الاجتماعي والسياسي لحياة البشر، إذ إن من أهم مباحث العدل الإلهي هو أن فعل الإنسان ممن يصدر؟ ومن المسؤول عن أفعال الإنسان؟

فإذا كان المسؤول هو الإنسان نفسه فيحق لنا أن نعترض على ظلم ظالم وجور جائر، أما إذا كانت الأفعال صادرة حقيقة من الله تعالى والإنسان مجبور عليها، وليس بيده أن يفعل أو أن لا يفعل -وهذا مذهب الجبر- فهذا معناه: أنه إذا جاءنا ظالم وظلمنا، فلا يحق لنا أن نعترض عليه، لأن هذا الظالم سيقول: أنا ما ظلمتكم! لأن الفعل الصادر مني أنا مجبور عليه، والفاعل الحقيقي هو الله جل وعلا! ولا يحق لكم أن تعترضوا على الله جل وعلا!

وهذا الذي أراد أن يزرّقه بنو أمية في أذهان الناس حتى لا يعترضوا عليهم، لذلك فمعاوية لما صعد المنبر بعد صلحه مع الإمام الحسن(علیه السّلام) قال: إني والله ما أقاتلكم لتصلوا ولا تصوموا ولا تحجوا ولا تزكوا، إنكم لتفعلون ذلك، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم،

ص: 136


1- في كتاب التوحيد - الشيخ الصدوق - ص 96 باب 5 - باب معنى التوحيد والعدل ح1 عن الإمام الصادق(علیه السّلام) أنه سأله رجل، فقال له: إن أساس الدين التوحيد والعدل، وعلمه كثير، ولا بد لعاقل منه، فاذكر ما يسهل الوقوف عليه ويتهيأ حفظه، فقال(علیه السّلام): «أما التوحيد فأن لا تجوز على ربك ما جاز عليك، وأما العدل فأن لا تنسب إلى خالقك ما لا ملك عليه».

وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون!(1)

إي إن الله هو الذي سلطني عليكم!

ونفس الكلمة قالها عبيد الله بن زياد يوم دخل عليه الإمام زين العابدين(علیه السّلام) قال من هذا؟ فقيل له علي بن الحسين، فقال: أوليس الله قتل علياً (يقصد علي بن الحسين علي الأكبر سلام الله عليهما)، و الإمام زين العابدين(علیه السّلام) كان ملتفتاً إلى هذه القضية،

وأراد أن يبين للناس أن المسالة هي ليست مسالة جبر، فأجابه وقال له: «كان لي أخ اسمه علي قتلتموه أو قتله الناس»، يعني: أنتم المسؤولون عن هذا الفعل.(2)

فإثبات هذه الصفة أو نفيها له أثر مباشر في هذه القضايا الاجتماعية والسياسية، وكذا في مسألة الحسن والقبح العقليين.

فلذلك كله اعتبر الإمامية بل العدلية العدل أصلاً من أصول الدين.

النقطة الثانية: العدل صفة فعلية.

اشارة

إن العدل هو من الصفات الثبوتية الكمالية الإضافية.

والشيخ المظفر(رحمه الله علیه) ذكر في عقيدتنا في الله تعالى «نعتقد أن الله واحد أحد ليس كثله شيء قديم لم يزل ولا يزال، هو الأول والآخر عليم حكيم عادل حي قادر.... إلى آخره».

ص: 137


1- مناقب آل أبي طالب - ابن شهر آشوب - ج 3 - ص 196.
2- في كتاب الإرشاد - الشيخ المفيد - ج 2 - ص 116:..وعرض عليه علي بن الحسين(علیهما السّلام) فقال له: من أنت؟ فقال: «أنا علي بن الحسين». فقال: أليس قد قتل الله علي بن الحسين؟ فقال له علي(علیه السّلام): «قد كان لي أخ يسمى عليا قتله الناس». فقال له ابن زياد: بل الله قتله. فقال علي بن الحسين(علیه السّلام): ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ [الزمر 42] فغضب ابن زياد وقال: وبك جرأة لجوابي وفيك بقية للرد علي؟! اذهبوا به فاضربوا عنقه.

فقد يتصور البعض: أن عدّ صفة العدل ضمن هذه الصفات الذاتية وليس الاضافية يعني أن الشيخ المظفر(رحمه الله علیه) يقول بأن العدل من الصفات الذاتية لا الإضافية.

ولكن الحقيقة هي: أن الشيخ(قدس سره) هنا ليس في مقام فرز الصفات الذاتية عن الإضافية، بل في مقام تعداد الصفات الكمالية، وصفة العدل كمالية، والشاهد على ذلك هو ذكره صفة (الحكيم) هنا، وإحدى تفسيرات هذه الصفة هو ما يكون فعله متقناً، فالحكمة صفة للفعل، وأيضاً ذكرها من ضمن الصفات الذاتية، فيتبين من هذا أن مقصود الشيخ(قدس سره) هو تعداد الصفات الثبوتية الكمالية، بالإضافة إلى الصفات السلبية، حيث ذكر بعضاً من الصفات السلبية.

تنبيه: رجوع الصفات الفعلية إلى الذاتية.

إن الصفات الفعلية وإن كانت إضافية، لكنها ناشئة في الحقيقة من صفة ثبوتية كمالية ذاتية، وهي أن ذات الواجب جل وعلا تتصف بكل كمال وجودي، سواء كان هذا الاتصاف الكمالي على مستوى الذات أو الفعل، لا يوجد كمال متصور إلا وذات الواجب متصفة به، سواء كان هذا الكمال ذاتياً كالعلم والقدرة والحياة، أو كان على مستوى الفعل، كالعدل والحكمة والعلّية وما شابه، فهذه الصفات الفعلية الإضافية ترجع الى هذه الصفة (وهي الاتصاف بكل كمال وجودي) وهي صفة ذاتية.

النقطة الثالثة: ما هو معنى العدل الالهي؟

اشارة

للعدل عدة تعريفات متصورة، نذكر منها ثلاثة:

التعريف الأول: أن العدل هو الإعطاء بالسوية (بالتساوي).

وهذا المعنى هو ما قد يتبادر إلى الذهن، أي أن يعطي الله تعالى الجميع بالتساوي،

ص: 138

وهذا المعنى الذي تنادي به بعض المنظمات والمؤسسات الحقوقية والفلسفات الغربية، وعلى رأسها الاشتراكية، الذين نادوا ورفعوا شعار الإعطاء بالتساوي، وطالبوا بالمساواة بين الرجل والمرأة، وتوزيع الأموال العامة بالتساوي، لا على أساس الجهد المبذول.

وهذا المعنى في الحقيقة هو للظلم أقرب منه إلى العدل، لأن العقل يقضي بأن الحكمة تكون في توزيع الثروات بحسب الجهد المبذول، وبحسب الأدوار الملقاة على عاتق الأشخاص، نظير ما إذا كان لديك ثلاثة أولاد وعندك ست تفاحات وتعطي كل واحد منهم تفاحتين، فهل من العدل أن أبناءك الثلاثة أحدهم طفل رضيع، والآخر يبلغ من السنوات خمسًا، والثالث عمره خمس عشرة سنة وتعطي كلاً منهم تفاحتين؟! إن العقلاء يقولون لك: هذا الفعل غير صحيح، والمفروض أن تعطي الكبير حصة زائدة، لأن جسمه يحتاج إلى غذاء زائد، أما الرضيع فحتى إذا لم تعطه شيئاً فلا تكون ظالماً له، لأنه لا يستطيع أن يستفيد من هذه التفاحة، وهذا المثال للتقريب.

وهذا يعني: أنه ليس من العدل أن تعطي بالتساوي دائماً، فلو تصورنا أن الله(عزوجل) في يوم القيامة عندما يأتي المؤمنون -من كان منهم يصلي الواجب فقط، ومن كان منهم يصلي الفريضة والنوافل والمستحبات، ودائماً تجده قائماً راكعاً ويصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، ويؤتى بالرجل الذي مات على فراشه من دون أن يقدم للمجتمع شيئاً، لا كتاباً علمياً ولا جاهدَ ولا بذل دمه، ولم يترك مشروعاً خيرياً، جاء إلى الدنيا صلى وصام ومات، ويأتي بالرجل الذي ملأ المكتبة الإسلامية بأنواع من العلوم، أو جاهد إلى أن استُشهد وقُتل في سبيل الله، وهو في عمله مخلص- كل هؤلاء يؤتون ويوضعون في درجة واحدة وفي منزلة واحدة من الجنة، ويكون لهم نفس الجزاء ونفس الثواب! هناك ألا يحس المجاهد بالغبن؟! يقول: تساويني مع ذلك الذي لم يقدم شيئاً؟!

ص: 139

إن الفطرة تحكم في داخل الإنسان بأن هذا الشيء مخالف للحكمة، وهذا ما أشارت له بعض النصوص الدينية، مثلاً يقول الله(عزوجل) في سورة النساء(1):

﴿لَا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا. دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾

وفي سورة الحديد(2)، يقول عز من قائل: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾

التعريف الثاني: أن العدل هو إعطاء كل ذي حق حقه.

فإذا أردنا أن نصف أحداً بالعدل، فالمفروض أن يعطي كل إنسان حقه، ولا يأخذ حق أي أحد.

وهذا المعنى يصح بين المخلوقات الممكنات، حيث يمكن أن نتصور الحقوق المتبادلة، فأنت لك حق عليّ، ومن العدل أن أعطيك حقك، وأنا لي حق عليك، ومن العدل أن تعطيني حقي، فإذا جئنا لقاضٍ بشري فنقول: لكي يكون عادلاً فعليه أن يعطي كل ذي حق حقه.

لكن عندما ننتقل إلى العلاقة بين المخلوق والخالق، بين المرزوق والرازق، بين المدبَّر والمدبِّر، بين المربوب والرب، بين المعلول والعلة التامة المستقلة، فأي حق لنا على

ص: 140


1- الآيات 96 -95.
2- الآية 10.

الله(عزوجل) حتى نقول: إن عدله يقتضي أن يعطي كل إنسان حقه؟! في حين أن كل وجود الإنسان فضلاً عما يملكه هو ملك له(عزوجل)، فنحن لا نستحق أي شيء أمامه جل وعلا، فلا يصح أن نقول: إن عدل الله تعالى هو بمعنى أن يعطي لكل إنسان حقه عليه، لأنه لا يوجد هنالك أي حق للإنسان على الله(عزوجل).

وقد يتبادر التساؤل التالي:

أو ليس الإنسان إذا صلى فيجب على الله تعالى أن يدخله الجنة؟

والجواب:

أن العقل يحكم بذلك لأن الله(عزوجل) هو وعَدنا بدخول الجنة إذا أقمنا الصلاة، وهذا في الحقيقة إعطاء من الله تعالى لنا من باب المنّة لا الاستحقاق، فهو تعالى عندما وعَدنا بالجنة من باب الامتنان، وليس من باب الحق والمطالبة بالحقوق، وهذا سياتي تفصيله في نقطة مستقلة إن شاء الله تعالى.

التعريف الثالث: أن عدل الله تعالى يعني وضع الشيء في موضعه.

وبعبارة أخرى: إعطاء كل ذي قابلية ما هو مستعد له، أو وضع الشيء في موضعه المناسب في وقته المناسب في مكانه المناسب، وهذا هو المعنى الصحيح.

بيانه:

من الواضح أن لكل واحد من البشر قابلية معينة، والعدل الإلهي يتحقق بأن يعطي الله(عزوجل) لكل واحد حسب قابليته واستعداده، بدون نقصان ولا حرمان، لأنه ظلم، ولا أكثر من الاستعداد لأنه جزاف وعبث، وكلاهما (الظلم والجزاف) محال في فعل الله(عزوجل).

إن العدل يتحقق بأن يفيض الله تعالى على إنسان معين بحسب كفاءته وقابليته، لا

ص: 141

أقل -حتى لا يكون ظلماً- ولا أكثر -فيكون عبثاً وجزافاً- وكلاهما محال على الله(عزوجل)، وهذا ما تشير له بعض الآيات والروايات الشريفة، مثل قوله عز من قائل ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا..﴾.(1)

وهذا يمكن عكسه على الإنسان، فإن الله تعالى له إفاضات على كل البشرية، لكن كل واحد يأخذ منها بحسب قدره وكفاءته واستعداده، وقد ورد في بعض الأحاديث القدسية ما يُشير إلى هذا المعنى، حيث ورد أن الله(عزوجل) يقول:

...وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالغناء، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالسقم، ولو صححت جسمه لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك، إني أدبر عبادي لعلمي بقلوبهم، فإني عليم خبير.(2)

وهذا المعنى سيغطي لنا بعدين مهمين:

الأول: بعد الإمكانات والاستعدادات.

فالعدل يعني إعطاء كلٍ حسب استعداده وامكاناته، وهذا ما تشير له الآية الكريمة من سورة الإسراء(3): ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾

ص: 142


1- الرعد 17.
2- التوحيد - الشيخ الصدوق - ص 398 – 400 باب 62 إن الله تعالى لا يفعل بعباده إلا الأصلح لهم ح 1.
3- الآية 20.
الثاني: بعد الجزاء ونتائج الأفعال.

فالعدل يقتضي إعطاء كل واحد جزاءه حسب عمله، وليس بالسوية، وهذا ما تشير له الآية الكريمة ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾(1)

النقطة الرابعة: امتدادات العدل الإلهي في الأفعال.

أن كون فعل الله(عزوجل) متصفاً بالعدل، له امتدادات من عدة جهات، نذكر منها التالي:

أولاً: مادام الله(عزوجل) عادلاً في فعله، إذن فالإنسان هو المسؤول عما يصدر عنه من أفعال، والله(عزوجل) لا يجبره ولا يضطره إلى الذنوب والمعاصي، وهذا ما أشار له رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) في حديث ينسب له يقول فيه: ما عرف الله من شبهه بخلقه، ولا وصفه بالعدل من نسب إليه ذنوب عباده.(2)

وتفصيل هذا الأمر سيأتي إن شاء الله تعالى من المصنف(رحمه الله علیه)، في قوله (عقيدتنا في القضاء والقدر).

ثانياً: مادام الله(عزوجل) عادلاً، إذن هو لم يكلف العباد فوق طاقتهم وأكثر مما يتحملون، وهذا ما أشار له الإمام الصادق(علیه السّلام) في ما روي عنه من قوله: «الله أكرم من أن يكلف عباده ما لا يطيقون»(3)، وهذا الأمر تعرض له المصنف(رحمه الله علیه) في (عقيدتنا في التكليف) وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

ثالثاً: ما دام الله(عزوجل) عادلاً، إذن فهو أعطى لكل مخلوق خَلَقَه ما هو لائق به حسب

ص: 143


1- الزلزلة 7 – 8.
2- التوحيد - الشيخ الصدوق - ص 47 باب 2 باب التوحيد ونفي التشبيه ح10.
3- المحاسن - أحمد بن محمد بن خالد البرقي - ج 1 - ص 296/ 464 وتكملة الحديث: والله أعز من أن يكون في سلطانه ما لا يريد.

قابلياته، وحسب ما يساعده في التدرج بمدارج الكمال الوجودي، وهذا المعنى إذا آمنّا به فسنجيب عن أنه: لماذا جعل الله سبحانه وتعالى الأفعى والعقرب سامة أو الماء يغرق؟ وأمثال هذا الكلام الذي يثيره المشككون في عدل الله تعالى.

وباختصار: أن كل موجود جعله الله تعالى وفق نظام خاص، له قابليات خاصة، فاذا سلب منه هذه القابلية أو هذا الشيء منه يكون نقصاً في ذلك الموجود، وإن صادف أن هذه القابلية عند هذا الموجود تضر موجوداً آخر، فالإنسان مثلاً كان من كماله أن يكون مفكراً، ولكنه إذا استغل هذا الكمال ليصنع المتفجرات والقنابل النووية والسموم التي تفتك بالناس! فهذا الخطأ لا يُنسب إلى الله تعالى، بل إلى اختيار الإنسان.

رابعاً: مادام الله(عزوجل) عادلاً، إذن فتشريعاته كلها متلائمة مع السير الكمالي الوجودي للإنسان، وهذا الأمر سيتعمق أكثر في عقيدتنا بالتكليف إن شاء الله تعالى.

خامساً: مادام الله(عزوجل) عادلاً، إذن هو لا ينظر إلى المحسن والمسيء بنظرة واحدة، ولا يتعامل مع المؤمن والكافر تعاملاً واحداً، بل هو يجازي كلاً طبقاً لاستحقاقه ووفقاً لعمله، وهذا ما يعبر عنه بالعدل في الجزاء.

النقطة الخامسة: ما هو الدليل على اتصاف الله(عزوجل) بالعدل؟

نذكر دليلين:

الدليل الأول: حيث إن الله(عزوجل) واجب الوجود، إذن هو متصف بكل أنواع الكمالات الوجودية، وأي كمال لا يتصف به واجب الوجود يصير ناقصاً، وهذا خلف كونه واجب الوجود، وربما أشار إليه الشيخ(رحمه الله علیه)حيث قال: «نعتقد أنه سبحانه لا يترك الحسن عند عدم المزاحمة، ولا يفعل القبيح، لأنه تعالى قادر على فعل الحسن وترك القبيح..».، إذن العدل كمال، ويجب أن يتصف به واجب الوجود.

ص: 144

الدليل الثاني: وقد أشار له الشيخ(رحمه الله علیه) وحاصله: أن فعل الظلم والقبيح لابد له من سبب، ولا يخلو الأمر من أربع صور:

الأولى: أن يكون الفاعل للظلم لا يعلم أن هذا الفعل ظلم وأنه قبيح.

والله تعالى علم كله، عالم لا يخفى عليه شيء، فتنتفي هذه الصورة.

الثانية: أن يكون عالماً ولكنه مضطر ومجبر على فعله وعاجز عن تركه.

ومن الواضح أن اتصاف الله(عزوجل) بالقدرة المطلقة ينفي هذه الصورة.

الثالثة: أن يكون عالماً وقادراً غير عاجز، ولكنه محتاج إلى أن يظلم.

ومن الواضح أن من خصائص واجب الوجود هو الغنى المطلق، فهو لا يحتاج إلى أي شيء خارج ذاته.

الرابعة: أن يكون عالماً وقادراً وغنياً غير محتاج، ولكنه يظلم عبثاً ولعباً.

ومن الواضح جداً أن العبث منفي عنه تعالى؛ لأنه حكيم، ويتصف كل فعله بالحكمة، لا بالعبث ولا الظلم ولا الجور.

النقطة السادسة: التعويض الإلهي استحقاق أم مِنّة؟

أشار الشيخ(رحمه الله علیه) إلى أن من عدل الله(عزوجل) هو أنه يثيب المطيعين، وهنا سؤال:

عندما يأمرنا الله(عزوجل) بالصلاة وصلينا، وامتثلنا لهذا الأمر الإلهي، فهل يجب على الله تعالى أن يثيبنا ويعوضنا عن هذه الصلاة؟

عندما يأمرنا الله تعالى بالصوم والجهاد ونتحمل كل المشاق من تحمّل الجوع والحر، وترك الأهل والأحبّة والمال ونقتل في سبيل الجهاد، هل يجب على الله(عزوجل) أن يعوضنا

ص: 145

ويعطينا ثواباً على هذا؟

الجواب:

مرة نتكلم بلغة الاستحقاق، ومرة بلغة المِنّة.

فإذا تكلمنا بلغة الاستحقاق (يعني لو لم يفعله الله(عزوجل) يكون مخالفاً للعدل وقبيحاً) فنحن لا نستحق على الله(عزوجل)، فليس لنا أي حق على الله تعالى.

لماذا لم يكن للمخلوق على الخالق أي حق؟

الجواب:

أولاً: لأن الإنسان هو عبد قنٌّ لله(عزوجل)، يعني أنه عبد مطلق من جميع جهاته، هو ملك صرف لله تعالى بكل وجوده وكل ما يملك، فأي استحقاق للعبد على مولاه؟!

ثانياً: أن الأعمال التي يقوم بها الإنسان (الأعمال الحسنة من عبادات وغيرها) إنما يقوم الإنسان بها بما أعطاه الله تعالى من القوة والقدرة على فعلها، ولولا الفيض الإلهي على الإنسان لما استطاع أن يقوم بأي عبادة من العبادات، وهذا المعنى ما تشير اليه حقيقة الممكن من أنه محتاج للواجب جل وعلا حدوثاً واستمراراً.

ثالثاً: أن الإنسان إنما يعبد الله تعالى بواسطة آلات هي هبات مجانية من الله(عزوجل)، فلا يستحق على تفعيلها أي شيء على الله تعالى، نظير شخص تغنيه بالأموال ويصرف منها على فقير، ثم يأتي اليك يطالبك بأن ترد إليه ما قد صرفه على الفقير، فأي جزاء وأي استحقاق له في ذلك؟!

نحن نعبد الله(عزوجل) عندما نغض النظر، أي بواسطة العين، أو بالحمد والشكر باللسان، أو غيرها، وكل هذه الآلات من الله(عزوجل)، فنحن لا نستحق على الله شيئاً.

ص: 146

رابعاً: أن أي عمل يقوم به الإنسان اتجاه الله(عزوجل)، هو لا يعادل ما أنعمه الله(عزوجل) على الإنسان من نعم لا تعد ولا تحصى، في دعاء للإمام زين العابدين(علیه السّلام) يقول: «... ثُمَّ لَمْ تَسُمْه القِصَاصَ فِيمَا أَكَلَ مِنْ رِزْقِكَ الَّذِي يَقْوَىٰ بِه عَلَىٰ طَاعَتِكَ، وَلَمْ تَحْمِلْه عَلَىٰ المُنَاقَشَاتِ فِي الآلَاتِ الَّتِي تَسَبَّبَ بِاسْتِعْمَالِهَا إِلَىٰ مَغْفِرَتِكَ، وَلَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ بِه لَذَهَبَ بِجَمِيعِ مَا كَدَحَ لَه وَجُمْلَةِ مَا سَعَىٰ فِيه جَزَاءً لِلصُّغْرَىٰ مِنْ أَيَادِيكَ وَمِنَنِكَ، وَلَبَقِيَ رَهِيناً بَيْنَ يَدَيْكَ بِسَائِرِ نِعَمِكَ، فَمَتَىٰ كَانَ يَسْتَحِقُّ شَيْئاً مِنْ ثَوَابِكَ؟...»(1).

يعني إذا حاسبنا الله تعالى على أصغر مِنّة من مننه علينا، فكل ما قدمنا له يذهب هباءً منثوراً وتبقى باقي مننه علينا مرهونة لديه، ويبقى الإنسان خالي الوفاض.

هذا كله إذا تكلمنا بلغة الاستحقاق.

أما اذا تكلمنا بلغة الكرم والرحمة والمِنّة الإلهية والوعد الإلهي حيث يكون الوفاء به حسناً وكمالاً، فإننا وإنْ كنا لا نستحق على الله شيئاً، ولكنه جل وعلا رحمة منه بنا، كتب على نفسه هو، وألزم نفسه أن يثيب المطيع ويكافأه كأحسن ما تكون المكافأة والإثابة، لذلك نجد أن الله تعالى كتب على نفسه أنه يعوض الإنسان على عدة أمور، منها:

أولاً: أن الإنسان إذا التزم الواجبات، فإن الله تعالى وعده أن يعطيه ثوابًا، عن يزيد بن خليفة، قال سمعت أبا عبد الله الصادق(علیه السّلام) يقول: «إِذَا قَامَ المُصَلِّي إِلَى الصَّلَاةِ نَزَلَتْ عَلَيْه الرَّحْمَةُ مِنْ أَعْنَانِ السَّمَاءِ إِلَى أَعْنَانِ الأَرْضِ، وحَفَّتْ بِه المَلَائِكَةُ ونَادَاه مَلَكٌ: لَوْ يَعْلَمُ هَذَا المُصَلِّي مَا فِي الصَّلَاةِ مَا انْفَتَلَ».(2)

ثانياً: إذا ابتعد الإنسان عن المحرمات، فإن الله تعالى سيكافؤه على ذلك ايضاً،

ص: 147


1- الصحيفة السجّادية: 164/ الدعاء رقم 37.
2- الكافي الشيخ الكليني، ج3، ص 265 باب فضل الصلاة ح4.

عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) قال في حديث قدسي عن الله تعالى: النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركها من مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه.(1)

ثالثاً: إذا التزم العبد بالمستحبات، من باب التقرّب إلى الله(عزوجل)، فيقوم العبد ببعض الأمور التي يحبها المولى مما لم يفرضها عليه، لمجرد طلب التقرب منه(عزوجل)، فإن الله(عزوجل) يعطيه أكثر مما يتصور، فعن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) قال: إن الله تعالى يباهي بالشاب العابد الملائكة، يقول: انظروا إلى عبدي، ترك شهوته من أجلي.(2)

رابعاً: إذا دعا العبد بدعاء، فإن الله(عزوجل) يعوضه بأحد ثلاثة أمور كما في الروايات الشريفة، فعن الإمام زين العابدين(علیه السّلام) قال: «المؤمن من دعائه على ثلاث: إما أن يدخر له، وإما أن يعجل له، وإما أن يدفع عنه بلاء يريد أن يصيبه».(3)

وعن الإمام الصادق(علیه السّلام) أنه قال: «إن الكافر ليدعو [في حاجته] فيقول الله(عزوجل): عجلوا حاجته بغضاً لصوته. وإن المؤمن ليدعو في حاجته، فيقول الله(عزوجل): أخّروا حاجته شوقاً إلى صوته، فإذا كان يوم القيامة قال الله(عزوجل): دعوتني في كذا وكذا فأخرت إجابتك وثوابك كذا وكذا، قال: فيتمنى المؤمن أنه لم يستجب له دعوة في الدنيا فيما يرى من حسن الثواب».(4)

تنبيه: هل يجوز لله تعالى أن لا يثيب المطيع، على اعتبار أن الاثابة (مِنّة)؟

أي إذا قضيت عمرك في طاعة الله تعالى وتأتي يوم القيامة ولا يعطيك شيئًا، وليس من حقك أن تعترض أبدًا، إذ يقال لك: إنك وما عملت ملك لله تعالى، فلا يجب على

ص: 148


1- مجمع الزوائد - الهيثمي - ج 8 - ص 63.
2- كنز العمال - المتقي الهندي - ج 15 - ص 776/ 43057.
3- تحف العقول - ابن شعبة الحراني - ص 280.
4- كتاب المؤمن - الحسين بن سعيد - ص 34/ 68.

الله أن يعطيك أي شيء!

وللإجابة على هذا التساؤل نشرع في النقطة السابعة:

سابعًا: الوعد والوعيد.

اشارة

وفيها جهتان:

الجهة الأولى: الوعد:

هو الإخبار عن خير يناله المخبَر في المستقبل (كما لو أخبرتك أني سأعطيك هدية يوم الجمعة القادم) فهذا إخبار بخير تناله في المستقبل، ويطلق عليه بالوعد.

إن ما يعطيه الله(عزوجل) للعبد من ثواب هو من باب المنة لا الاستحقاق، كما تقدم، ولكن هذا لا يعني بحال أن الله تعالى سوف لا يعطي المؤمنين ثوابًا أو أنه سيخلف وعده معهم، فصحيح أن ما يعطيه الله(عزوجل) للإنسان هو من باب المنة لا الاستحقاق، لكن مع هذا نقول: إنه يجب ويلزم على الله تعالى أن يثيب المطيعين.

ما معنى الوجوب هنا؟ ومن الذي يستطيع أن يوجب عليه جل وعلا شيئًا؟

ليس المقصود من أنه يجب على الله تعالى أن هناك أحدًا ما يوجب شيئًا على الله تعالى، بل معناه: أن هذا الوجوب (وجوب إثابة المطيع) ناشئ من صفة ثبوتية كمالية في الذات المقدسة، فمعنى هذا الوجوب: أنه تعالى هو الذي ألزم نفسه بإثابة المطيع، هو الذي

أوجب على نفسه، قال تعالى: ﴿كَتَبَ عَلىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾(1)، ومعنى هذا: أن الخيار ما زال بيد الله تعالى، فيمكنه وبكل قدرة وقاهرية أن يفعل ما يشاء، ولكنه تعالى هو من يُحدّد فعله بما يتوافق مع الوعد لأنه كمال.

ص: 149


1- الأنعام 12.

ما هو منشأ هذه الكتابة والإلزام؟

أولًا: من جهة أن الله تعالى وعد المطيعين بذلك الثواب، قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾.(1)

ثانيًا: أن الوفاء بالوعد كمال، وخُلف الوعد يُعد نقصًا وقبيحًا. وأن الذات المقدسة حيث إنها ذات واجبة الوجود، فإذن هي متصفة بكل كمال وجودي، ومنزهة عن كل نقص.

والنتيجة من هذا: أن الله تعالى يجب أن يفي بالوعد من باب أن الوفاء بالوعد كمال وجودي، وهو متصف بكل كمل وجودي.

وإذا نظرنا من جهة اخرى، فإن خلف الوعد نقص وقبيح، والواجب جل وعلا منزه عن كل نقص.

وهذا ما أشار له الامام الصادق صلوات الله وسلامه عليه في الحديث «من وعده الله على عمل ثوابًا فهو منجزه له..».(2)

وهذا يعني: أننا وإن كنّا غير مستحقين للثواب على الله تبارك وتعالى، باعتبارنا مجرد عبيد، ونحن وما نملك ملك لله(عزوجل)، وعندما يأمرنا بأمر فليس أمامنا إلا أن نطيع، وهذا هو مقتضى العبودية، ولكن مع ذلك فإننا نقطع قطعًا يقينيًا لا يشوبه شك بأن الله تعالى سيعطينا ما وعدنا من ثواب، وذلك القطع من باب أنه وعدنا، وهو تعالى سيفي بوعده، لأن الوفاء بالوعد كمال وجودي، وخلفه نقص والله(عزوجل) منزه من كل نقص.

ص: 150


1- الفتح 29.
2- التوحيد للشيخ الصدوق ص 406 باب 63 باب الأمر والنهي والوعد والوعيد من حديث رقم (4).
الجهة الثانية: الوعيد.

وهو يقابل الوعد، فهو الإخبار عن شر أو أمر غير مرغوب فيه يناله المخبَر في المستقبل.

الوعيد من الله تعالى إنما يكون على مخالفة يُقْبِل عليها العبد، فالمولى يأمر بأمر ويقول: من خالفه فأنا أعذبه بكذا، فإذا قام العبد بمخالفة الأمر الإلهي فالعقل يحكم بجواز (لا بلزوم) أن يعاقب المولى المالكُ عبدَه المخالف.

فالوعيد إذًا هو فرع مخالفة العبد للمولى.

وبعبارة أخرى: أن الوعيد متفرع على تضييع حق من حقوق المولى، وهو حق الطاعة، فعلى العبد أن يطيع المولى، فإذا خالفه فقد تحقق موضوع الوعيد.

ومن الواضح أنه يجوز للمولى أن يتفضل على عبده ويُسقط حقه، والعقل يحكم بجواز ذلك وعدم قبحه، وهذا أمر متعارف حتى عند بني البشر، فمثلًا لو كنت أنا أطلبك مالًا ومن حقي عليك أن ترده لي، وإن لم تفعل فمن حقي أن أشتكيك إلى السلطات مثلًا، كذلك يمكنني أن أُسقط حقي هذا عنك، فالعقل يحكم بجواز ذلك وعدم قبحه، وقد يحكم بحسنه.

كذلك المولى إذا أوعد عبده أنه إذا خالف أمره فسيعاقبه، فإذا جاء المولى وأسقط حقه وقال له: رغم مخالفتك لا أعاقبك، فهذا الأمر جائز عقلًا، وبذلك ننتهي إلى نتيجة وهي:

أنه وإن أوعد الله(عزوجل) المذنب بالعقاب، إلا أنه يمكن ويجوز أن لا يعاقبه وأن يسقط عنه العقوبة ويعفو عنه.

وهذا ما أشار له الشيخ(رحمه الله علیه) بإشارة دقيقة فقال: «ونعتقد أن من صفاته تعالى الثبوتية

ص: 151

الكمالية... ولا يحيف في حكمه، يثيب المطيعين وله أن يجازي العاصين»، فنلاحظ أن الاثابة هنا جاءت على نحو الجزم والإلزام؛ لأنها من باب الوفاء بالوعد، لكن لما جاء إلى عقاب العاصين قال (وله) يعني: من باب الاختيار لا الإلزام، يعني: وله أن لا يجازيهم، وهذا ما أشار له الامام الصادق8 في الحديث المتقدم «... ومن اوعده على عمل عقابًا فهو فيه بالخيار».(1)

فالعقل يحكم هنا بجواز إسقاط الحق، بل في بعض الاحيان يحكم بحسن إسقاطه.

لذلك فالمفترض بنا أن ندعو الله تعالى أن يعفو عنا وإن كنا مسيئين.

تنبيهان:

التنبيه الأول: ضرورة عدم الاغترار بعفو الله تعالى.

صحيح أن لله(عزوجل) أن يسقط العقوبة عن العبد ويعفو عنه، لكن هذا لا يعني أن يتكل العبد على ذلك العفو، ويترك العبد العبادات ويستمر بالمعاصي، ويقول: إن الله رحيم غفور ودود عفو...، هذا لا يجوز، لإن أمر إسقاط العقوبة هو أمر جائز، يعني يمكن له أن يسقط أو لا يسقط، فليس من الضروري أن يعفو الله تعالى عن المذنب، وبالتالي فاحتمال العقوبة موجود، ولا جزم عندي باستحقاقي للعفو، فيأتي العقل ليحكم بلزوم دفع الضرر المحتمل وهي العقوبة الأخروية، وهي بحيث لا يحتملها الإنسان، كما يقول أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه: «واعْلَمُوا أَنَّه لَيْسَ لِهَذَا الجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَى النَّارِ، فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ، فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا، أَفَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُه، والعَثْرَةِ تُدْمِيه والرَّمْضَاءِ تُحْرِقُه، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ

ص: 152


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص 406 باب 63 باب الأمر والنهي والوعد والوعيد من حديث رقم (4).

نَارٍ، ضَجِيعَ حَجَرٍ وقَرِينَ شَيْطَانٍ، أَعَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِكاً إِذَا غَضِبَ عَلَى النَّارِ حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضاً لِغَضَبِه، وإِذَا زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ بَيْنَ أَبْوَابِهَا جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِه».(1)

وبالتالي فلا يتكلنّ الإنسان على هذا العفو، إذ هو غير مقطوع به، ويبقى احتمال الضرر المتوجه على الإنسان موجودًا، وفي هذه الموارد يحكم العقل بلزوم العمل بالاحتياط.

التنبيه الثاني: ضرورة تشريع قانون العقوبات.

ليس صحيحًا أن نعتقد أن الله تعالى لا يعاقب أي إنسان أبدًا، كأن يقول شخص: إن الله عفو، رحيم غفور، ومعصيتنا لا تضره، وعقابنا لا يزيد شيئًا في ملكه، وعفوه عنا لا يُنقص من ملكه شيئًا.

إن هذا كله صحيح، ولكن مع ذلك فإن العقل يقول: ليس من الصحيح أن نعتقد أن الله تعالى لا يعاقب أي إنسان أبدًا، هذا الاعتقاد غير صحيح، لأنه يؤدي إلى محاذير عديدة، ومنها:

الأول: لزوم لغوية التشريع والتقنين.

إذ لو أمر المولى العبد بأوامر، فأعطاه مائة أمر مثلًا وقال له: يجب عليك أن تلتزم بهذه الأوامر، وعلمنا بأن هذا المولى بنى أمره على أنه سواء التزمتُ أنا بهذه الأوامر أو لم ألتزم، فإنه سيدخلني الجنة، فما الفائدة إذن من هذه التشريعات؟

فلو لم يكن هناك عقوبة للزمت لغوية التشريع؛ اذ سيتساوى المطيع والعاصي.

ص: 153


1- نهج البلاغة ج2 ص 112 – 113.
الثاني: لزوم تضييع حقوق الناس.

فالوجدان يحكم بأن الذي يلزمني بأن أرجع لك حقك هو خوفي من العقاب، لذلك صار الناس يحترمون بعضهم، وهذا جاري حتى في قوانين الدولة، إذ بدون هذا الردع يلزم منه تضييع حقوق الناس، وهذا المحذور يجل عنه الحكيم جل وعلا.

الثالث: تغرير العاصي بالمعصية.

وعدم التزامه بأي أمر من الأوامر الإلهية، فيكون للعاصي فسحة لعمل المعصية، وتغرير العبد بالمعصية قبيح بحكم العقل.

لا شك أن العقل يحكم بلزوم توفير الظروف الملائمة للطاعة، وهو ما يسميه العلماء باللطف الإلهي، الذي هو بمعنى توفير الظروف المقرِّبة للعبد من الطاعة، فالله تعالى يوفرها لعبده، وإن أحد أدلة إثبات النبوة وكذا الإمامة هو دليل اللطف، باعتبار أن النبوة –وكذا الامامة- من شأنها أن تقرب العباد من الله(عزوجل)، أما إذا لم يوفّر له الظروف الملائمة للطاعة، بل وفّر له الظروف الملائمة للمعصية، فهذا الأمر قبيح عقلًا، والاعتقاد بعدم معاقبة العاصي من هذا القبيل، إذ إنه يُغرّر العبد بعدم الطاعة.

فكما ننظر إلى أن الله(عزوجل) رؤوف رحيم، لا بد أن نتذكر أنه تعالى أيضًا شديد العقاب، وهذا معنى ما جاء في الروايات بأنه يجب على الإنسان أن يعيش بين الخوف والرجاء، كما روي هذا المعنى عن الإمام الصادق جعفر بن محمد(علیه السّلام)، قال : «كان فيما أوصى به لقمان ابنه ناتان أن قال له :... يا بني، خف الله خوفًا لو وافيته ببر الثقلين خفْتَ أن يعذبك الله، وارج الله رجاءً لو وافيته بذنوب الثقلين رجوت أن يغفر الله لك».(1)

ص: 154


1- الأمالي للشيخ الصدوق ص 766 ح 1031/ 5.
النقطة الثامنة: هل الحسن والقبح عقليان أو شرعيان؟

هنا عدة خطوات:

الخطوة الأولى: تحرير محل النزاع:

لاشك أن هناك بعض الأفعال لا يستطيع العقل لوحده أن يُدرك حسنها، إلا إذا أخذ ذلك الأمر من الشارع المقدس، فمثلاً الصلاة حسنة، الصوم حسن، ترك الصوم قبيح، ترك الحج قبيح، هذه الأمور (التعبدية) لا يستطيع العقل لوحده أن يدرك حُسن فعلها أو قُبح تركها، باعتبار أنها مجرد اعتبارات من المولى، فمثلاً: إن المولى اعتبر الصلاة واجبة عليك، وحيث إنك تعلم أن الله تعالى حكيم في أفعاله، فتقول: إن هذه الصلاة نشأت من مصلحة واقعية يعلمها الله(عزوجل) وعرّفها لي بواسطة الأنبياء، ومثل هذه الاعتبارات الشرعية لا خلاف ولا شبهة في أن وظيفة العقل فيها إرشادية وليست تأسيسية. وهذا ليس هو محل الخلاف.

إنما محل الخلاف في أنه: هل إن للعقل قدرة على أن يدرك حُسن بعض الأفعال وقبح بعضها الآخر بحيث يستقل العقل في حكمه بالحُسن أو القبح، أي بغض النظر عن الآيات والروايات؟

فمثلاً العدل (هو فعل من الأفعال) هل يستطيع العقل أو هل له القدرة على أن يحكم لوحده بأن العدل حسن، وأن فاعله ممدوح؟

وهل يستطيع أن يقول: إن الظلم قبيح، وإن فاعل الظلم مذموم؟

هذا هو محل الخلاف بين العدلية (من الإمامية اتباع مذهب أهل البيت(علیهم السّلام) والمعتزلة) وبين الأشاعرة أتباع المذاهب السنية الأربعة.

ص: 155

فالخلاف إذن ليس في الأمور الاعتبارية، وإنما في الأمور التكوينية التي لها واقع في الخارج، بغض النظر عن اعتبار الشارع، كالعدل والصدق والظلم والكذب وأمثالها.

فالعدلية قالوا: بأن للعقل قدرة على إدراك حُسن بعض الأفعال [وليس كل الافعال، فهم أثبتوا الموجبة الجزئية لا الكلية] وعلى الأقل هو يدرك قضية قبح الظلم وحسن العدل، فعندهم الحسن والقبح عقليان.

وأما الأشاعرة فقد نُسب إليهم أنهم قالوا: إنه ليس للعقل أي قدرة على إدراك حسن أي فعل من الأفعال (أي ذهبوا إلى السالبة الكلية)، وقالوا: إن الحُسن والقبح شرعيان، بمعنى أن الحسن ما حسّنه الشارع، والقبيح ما قبّحه الشارع، فتكون وظيفة العقل -على رأي الأشاعرة- إمضائية، أي إنه يُمضي ما أسسه الشارع.

الخطوة الثانية: أقسام الأفعال التكوينية من حيث الحسن والقبح.

قُسمت الأفعال (التكوينية) من حيث الاتصاف بالحسن والقبح إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ما يكون حُسنه أو قُبحه ذاتياً، بمعنى أن الحسن أو القبح يكون من صفاته الذاتية والتي لا تفارقه بحال من الأحوال وفي أي زمن وفي أي مكان، في أي ظرف.

ولعل هذا القسم ينحصر بحسن العدل وقبح الظلم.

فالعدل من المسلم حسن، من الكافر حسن، من المرأة حسن، من الرجل حسن، في أي ظرف حسن، وأما الظلم فهو قبيح من أي شخص صدر وأنى صدر.

القسم الثاني: ما يكون حسنه أو قبحه ثابتاً له (للفعل) أولاً وبالذات، ولكنه وبسبب طروء عنوان ثانوي قد ينقلب الحسن قبيحاً، ولكنه إنما صار قبيحاً لعارض، أما

ص: 156

إذا خُليّ وذاته فإنه حسن، والعكس بالعكس.

مثال على ذلك: أكل المِيتة حرام (قبيح) ولكن عند الاضطرار يتحول إلى جائز أو ربما واجب (حسن)، ولكن هذا بالعنوان الثانوي، وهذا مثال اعتباري.

كذلك في الأفعال التكوينية، وأوضح مثال له هو حُسن الصدق وقبح الكذب، فمن المعلوم أن الصدق حسن، ولكن إذا جاء ظالم وسأل عن مؤمن، فإن صدقك معه حينئذٍ قبيح، لأنه سوف يقتل المؤمن، فهنا يجوز الكذب، بل قد يجب، فهو حسن.

وهكذا فإن الكذب قبيح، ولكن في إصلاح ذات البين يكون حسناً وجائزاً.

القسم الثالث: ما لا يتصف بذاته لا بالحسن ولا بالقبح، لكنه يتصف بأحدهما (بالحسن أو القبح) بسبب ما يعتريه ويعرض عليه من ظروف وحالات، فإن كان ذلك العارض حسناً، اتصف هذا الفعل بالحسن، وإن كان قبيحًا اتصف بالقبح، مثل ضرب الولد، فإنه إن كان للتأديب وضمن الحدود الشرعية فإنه يكون حسناً، وإن كان للتشفي وخارج الحدود الشرعية فإنه يكون قبيحاً.

الخطوة الثالثة: أدلة الحسن والقبح العقليين.

هناك عدة أدلة تدل على أن الحسن والقبح عقليان، نذكر منها التالي:

الدليل الأول: لو كان الحسن والقبح شرعيين، للزم من ذلك: أن الفرد الذي لا يعرف عن الدين وعن الشرع أي شيء، أنْ لا يعرف أن العدل حسن والظلم قبيح، وهذا اللازم باطل.

توضيح الدليل: نفرض أن شخصاً أول ما وُلد وضع في غرفة لوحده، بمعزل عن العالم الخارجي، إلى أن وصل عمره إلى ثلاثين أو أربعين سنة، فإن جاءه شخص آخر

ص: 157

وضربه ظلماً وعدواناً، فهل الشخص المضروب يحس أنه ظُلِم أو لا يحس؟ أكيداً سيشعر بأنه قد ظُلِم، وهكذا لو كان المضروب لا دينياً وملحداً.

فمثل هؤلاء نجد أنهم يعرفون أن العدل حسن والظلم قبيح، فمن أين عرفوا ذلك؟

لو كان حسن العدل شرعياً، فالمفروض بالذي لا يعرف الدين أن لا يعرف أن العدل حسن، لأن مثل هذا الشخص لا يملك ديناً أو شريعة تصل من خلالها أوامر الشارع إليه، فلن يعرف أن العدل حسن والظلم قبيح، فإذن، لو كانا شرعيين لما عرفهما الملحد.

وحيث إنه يعرف ذلك، فهذا يكشف عن أنه إنما عرفها بعقله.

الدليل الثاني: لو كان الحسن والقبح شرعيين، لضاع الهدف من بعثة الأنبياء.

توضيحه: أن وظيفة الأنبياء هي هداية الناس، وهم يدّعون ارتباطهم بالسماء، ودليل ارتباطهم بالسماء هي المعجزة.

فلنفترض أنفسنا أشعريين، وعقيدتنا أن ما يفعله الشارع هو الحسن، وما لا يفعله هو القبيح، وجاء الله(عزوجل) بالأنبياء ووضعهم في جهنم، فلو كنتُ أشعرياً لقلت: هذا الفعل حسن؛ لأنه قد فعله الله(عزوجل)!

ولو جاء بالمشركين والكفار ووضعهم في الجنة، فيكون فعله أيضاً حسن؛ لأن الله هو من فَعله.

فلو كانت عقيدتنا أشعرية حينها، ألا نحتمل أن الله(عزوجل) يُجري المعجزة على يدي كاذب؟

ص: 158

فإنه إن جرت المعجزة على يدي كاذب فهو فعل حسن؛ لأن الله تعالى فعله، ومع وجود هذا الاحتمال فما الذي يميز لي الصادق من الكاذب؟

ففي كل مدعٍ للنبوة سأحتمل أنه صادق فيجب اتباعه، وسأحتمل أنه كاذب فيجب اجتنابه. وبالتالي يحق لي أن لا أتبع أي نبي لاحتمال كونه كاذباً وإن جرت المعجزة على يديه، فتذهب فائدة بعثة الأنبياء التي هي طاعتهم.

طبعاً هنا نحتاج إلى تنبيه مهم، وهو:

لو سألْنا الأشعري: هل يمكن لله أن يضع الأنبياء في النار؟

فإنه حتماً سوف يقول: لا، وإنما يضعهم في الجنة.

إذن: أين الخلاف معه؟

الجواب: الخلاف إنما هو في قضية تنزيه الذات، والحديث هو في الإمكان والامتناع، بمعنى أنه هل يمكن للمصلي أن يدخله الله تعالى في النار؟ نحن نقول: لا يمكن (امتناع)، وهذا الأمر يأتي من كمال الذات ومن الوفاء بالوعد، وليس المقصود هو الامتناع الذاتي، إذ لا شك أن الله تعالى قادر على ذلك، ولكنه امتناع وقوعي، بمعنى أنه من غير الممكن أن يُدخل الله تعالى المؤمن إلى النار، لأنه خلاف وعده له بأن يُدخله الجنة، وخلف الوعد قبيح، والله تعالى لا يفعل القبيح..

أما الأشاعرة فأنهم يقولون بالإمكان، وهذا الفرض هو بذاته ينسب النقص للذات المقدسة.

الدليل الثالث: القرآن الكريم يشير في بعض الآيات القرآنية إلى أن الحسن والقبح عقليان لا شرعيان، وأن القرآن الكريم جاء ليمضي ما عليه العقلاء، بمعنى أن القرآن

ص: 159

يأخذ أموراً يعتبرها العقلاء حسنة فيأمر بها، ويأخذ أموراً يعتبرها العقلاء سيئة فينهى عنها.

مثاله: الآية الشريفة: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(1)

فهو تعالى ﴿يَعِظُكُمْ﴾ فالمسألة مسألة موعظة، بمعنى يعرّفكم على الطريق.

وكذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾(2)

إذن مسألة القبح والحسن وجدانية، ليس على نحو الموجبة الكلية وإنما على الأقل في بعض الافعال.

استدلال الأشاعرة على أن الحسن والقبح شرعيين:

اشارة

ذُكرت للأشاعرة عدة أدلة في هذا المجال، نقتصر هنا على ذكر ما استدلوا به من قوله تعالى: ﴿لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ﴾(3).

ببيان: أن هذه الآية ظاهرة في أن القانون للأفعال هي إرادته جل وعلا، لذلك لا يجوز لأحد أن يسأل عن إرادته وعن فعله، حتى لو كان ذلك الفعل بنظرنا ظلمًا أو عبثًا أو خلاف الحكمة، بمعنى أن ما يفعله إنما هو بنظرنا ظلم، أما بنظره جل وعلا فليس بظلم لأن فعَله، إذًا هو حسن.

ص: 160


1- النحل 90.
2- الأعراف 33.
3- الأنبياء 23.

والجواب عن استدلالهم هذا:

لو كان ظاهر الآية ومعناها منحصرًا بما قاله الأشاعرة، فلربما يقال بصحة استدلالهم، وإلا فالآية أصلًا لا دلالة فيها على ما أرادوه، لكن تنزلًا نقول:

إن ما ذكره الأشاعرة هو احتمال في معنى الآية، وهو يحتاج إلى تكلّف في الاستدلال.

ولكن في الآية احتمالات أخرى، وهي متلائمة مع ظاهرها أيضًا، وتنسجم مع الحسن والقبح العقليين، وإن لم يكن هذا الرأي هو المتعين، فعلى الأقل هو محتمل، وما دام لا مرجح لأحد الاحتمالين على الآخر، فتكون الآية مجملة، ولا يصح حينها الاستدلال بها على أحد المطلوبين؛ لأنه يكون ترجيحًا بلا مرجح.

وبعبارة أخرى: لا نعرف المقصود من الآية، وهل هو ما فسّر به الأشاعرة الآية أو إنه الاحتمال الآخر –الذي هو ما فسّر به أهل البيت% هذه الآية؟

طبعا هذا القياس –بين الأشاعرة وبين أهل البيت%- هو مع الفارق، ولكن من باب البحث العلمي.

وإلا فنحن نجزم بصحة تفسير أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) لمكان عصمتهم ولأنه متلائم مع الوجدان، ومع ما دل على اتصاف الواجب جل وعلا بكل الصفات الكمالية بمراتبها اللا متناهية.

احتمالات ثلاثة أخرى في الآية:
الاحتمال الأول:

أن الآية إنما قالت: لا يسأل عما يفعل، باعتبار أنه لا حاجة للسؤال عن فعله، لأن أفعاله كلها حكيمة، والحكيم لا يسأل عن فعله، أما غيره فحيث إن أفعاله قد تكون

ص: 161

حكيمة وقد لا تكون، فيمكن حينها أن يوجه له السؤال.

ومما يدل على هذا المعنى هو ما روي عن جابر بن يزيد الجعفي أن أبا جعفر محمد بن علي الباقر(علیه السّلام) قال: «... فهو المتفضل بما أعطاه وعادل فيما منع، ولا يُسأل عما يفعل وهم يسألون». قال جابر : يا بن رسول الله وكيف لا يُسأل عما يفعل؟ قال(علیه السّلام) : «لأنه لا يفعل الا ما كان حكمة وصوابا».(1)

وقال السيد المرتضى: «وإنما أراد أنه تعالى من حيث وقعت أفعاله كلها حسنة غير قبيحة، لم يجز أن يُسأل عنها، وإن سُئل العباد عن أفعالهم لأنهم يفعلون الحسن والقبيح معًا»(2)

وقال الشيخ الطوسي في التبيان: لأنه لا يفعل الا ما هو حكمة وصواب، ولا يقال للحكيم: لو فعلت الصواب (وهم يسألون) لأنه يجوز عليهم الخطأ.(3)

الخلاصة: أن الآية في صدد أنه لا يصح أن يسأل الله تعالى، لأن أفعاله كلها حكيمة، ومادامت حكيمة فلا موجِب لتوجيه سؤال للحكيم، أما غيره فحيث يحتمل أن يكون فعله حكيمًا أو عبثيًا، حسنًا أو قبيحًا، فيصح توجيه السؤال إليه.

تطبيق: البعض يسأل: لماذا جعل الله تعالى الإمامة في ذرية الإمام الحسين(علیه السّلام) ولم يجعلها في ذرية الإمام الحسن(علیه السّلام)، رغم أن الإمام الحسن(علیه السّلام)أكبر سنًا وأعظم من الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليهما؟

الجواب يكون بتطبيق المعنى الذي عرفناه في الآية موضوع البحث.

ص: 162


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص 397/ح 13.
2- الأمالي ج2/ص 57.
3- التبيان ج7/ ص 239.

فعن المفضل بن عمر عن الإمام الصادق(علیه السّلام) قال: سألته: يا ابن رسول الله، فكيف صارت الإمامة في ولد الحسين دون ولد الحسن(علیهم السّلام) وهما جميعًا ولَدا رسول الله وسبطاه وسيدا شباب أهل الجنة؟

فقال(علیه السّلام): «إن موسى وهارون كانا نبيين مرسلين أخوين، فجعل الله النبوة في صلب هارون دون صلب موسى، ولم يكن لأحد أن يقول: لم فعل الله ذلك؟ فإن الإمامة خلافة الله(عزوجل) ليس لأحد أن يقول : لمَ جعلها الله في صلب الحسين دون صلب الحسن؛ لأن الله تبارك وتعالى هو الحكيم في أفعاله، لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون..»(1)

وفي هذه الرواية جوابان للسؤال المطروح:

الأول: أن الامامة تنصيب إلهي، وبما أنها تنصيب إلهي، فليس لنا الحق أن نسأل لمَ لمْ تكن في صلب الإمام الحسن(علیه السّلام).

الثاني: أنه لا يصح السؤال عن أفعال الله تعالى؛ لأنها أفعال حكيمة، وما دامت حكيمة فلا يصح السؤال عنها.

الاحتمال الثاني:

أن هذه الآية الكريمة في صدد بيان أمر وجداني، وهو أن الذي له حق أن يسأل ويحاسب هو الخالق والمالك، أما المخلوق والمملوك فلا يحق له أن يحاسب أو يسأل المالك والخالق، وهذا معنى محتمل، ومادام محتملًا فيبطل استدلال الأشاعرة.

الاحتمال الثالث:

أن الله(عزوجل)لا يُسأل إذا ادّعى أنه رب، لأن هذه الصفة لائقة به (جل وعلا)، أما غيره

ص: 163


1- معاني الاخبار للشيخ الصدوق ص 126- 127.

إذا ادّعى الربوبية، فيمكن أن يُسأل أنه على أي اساس ادّعيتَ الربوبية، وقد أشار لهذا الاحتمال الشيخ الطبرسي حيث قال: «وقيل : معناه أنه لا يُسأل عن ادّعاء الربوبية، وهم مسؤولون إذا ادّعَوها، ويدل على هذا التأويل النظم والسياق».(1)

وهكذا يمكن أن نجد العديد من المحتملات في معنى الآية، فلا ينحصر الأمر بما ذكره الأشاعرة، وبالتالي فإن لم نقل بترجيح رأي أهل البيت(علیهم السّلام) كما هو الصحيح بلا أدنى ريب، فلا أقل من أن نقول بأن الآية مجملة، فلا يصح الاستدلال بها على رأي الأشاعرة.

فتلخص من كل ما تقدم:

1/أن العدل من الصفات الثبوتية لله(عزوجل)، إلا أن شدة الخلاف فيها، وكثرة وخطورة الثمرات المترتبة عليها، جعل من العدلية يعتبرونها أصلًا من أصول الدين.

2/العدل من الصفات الإضافية، لأن الكلام فيها هو أن أفعاله عزوجل هل هي موافقة للحكمة والعدل؟ وهل هي موافقة للحسن العقلي؟ فهو بحث بلحاظ أفعاله جل وعلا، فتكون إضافية.

3/المقصود من العدل الإلهي هو ليس الإعطاء بالسوية، وليس هو إعطاء كل ذي حق حقه، وإنما هو وضع الشيء المناسب في موضعه المناسب، أو هو إعطاء كل ذي قابلية ما هو مستعد له.

4/ أن من تجليات عدل الله تعالى هو أن الإنسان هو المسؤول عن إفعاله، وأنه عزوجل لا يكلف العباد فوق طاقتهم.

ص: 164


1- مجمع البيان ج7 ص80.

عقيدتنا في التكليف

اشارة

قال(قدس سره):

«عقيدتنا في التكليف:

نعتقد أنه(عزوجل) لا يكلف عباده إلا بعد إقامة الحجة عليهم، ولا يكلفهم إلا ما يسعهم وما يقدرون عليه وما يطيقونه وما يعلمون، لأنه من الظلم تكليف العاجز والجاهل غير المقصر في التعليم.

أما الجاهل المقصر في معرفة الأحكام والتكاليف فهو مسؤول عند الله(عزوجل) ومعاقب على تقصيره، إذ يجب على كل إنسان أن يتعلم ما يحتاج إليه من الأحكام الشرعية.

ونعتقد أنه(عزوجل) لا بد أن يكلف عباده ويسن لهم الشرايع وما فيه صلاحهم وخيرهم ليدلهم على طرق الخير والسعادة الدائمة ويرشدهم إلى ما فيه الصلاح، ويزجرهم عما فيه الفساد والضرر عليهم وسوء عاقبتهم، وإن علم أنهم لا يطيعونه، لأن ذلك لطف ورحمة بعباده وهم يجهلون أكثر مصالحهم وطرقها في الدنيا والآخرة، ويجهلون الكثير مما يعود عليهم بالضرر والخسران. والله(عزوجل) هو الرحمن الرحيم بنفس ذاته وهو من كماله المطلق الذي هو عين ذاته ويستحيل أن ينفك عنه. ولا يرفع هذا اللطف وهذه الرحمة أن يكون العباد متمردين على طاعته غير منقادين إلى أوامره ونواهيه». انتهى.

ص: 165

تنبيه: إن ارتباط هذا المبحث بالسابق واضح، باعتبار أن أحد امتدادات العدل هو امتداده للتكليف، وأن الله تعالى لا يكلف العباد فوق طاقتهم؛ لأنه يكون خلاف العدل، ولهذا السبب كان مناسبًا أن يعقد المصنف(رحمه الله علیه) هذا البحث ليسلط الضوء على تجلي العدل في مسألة التكليف.

في هذه العقيدة عدة إشارات ذكرها الشيخ(رحمه الله علیه)، وللدخول لها علينا أن نجيب السؤال التالي:

ما هو التكليف؟

التكليف: هو الخطاب الصادر من المولى، والواصل الى المكلف، والكاشف عن إرادة المولى لفعل أو إرادته لترك فعل.

وهو تعريف ليس منطقي بقدر ما هو توضيحي، ولتفسير وتوضيح التعريف نذكر النقاط التالية:

النقطة الأولى: معنى الخطاب.

اشارة

الخطاب: هو ما يكشف عن الحكم الشرعي، فنحن لا نعلم ما عند الله(عزوجل) إلا من خلال خطاباته لنا، بواسطة أنبيائه ورسله، فالخطاب بالتكليف بإقامة الصلاة مثلًا (أقيموا الصلاة) هو ليس الحكم الشرعي، إنما هو كاشف عن الحكم الشرعي.

علمًا أن طريقة ايصال الحكم الشرعي تكون إما عن طريق:

1/القول:

وهو الكاشف الأكثر إفهامًا، وهو آيات القرآن الكريم وأقوال المعصومين، فالقرآن قال (أقيموا الصلاة) من خلال هذا نكتشف أن الله(عزوجل) يريد منا فعل الصلاة، وقال:

ص: 166

﴿وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾(1) هذا الخطاب يكشف لنا عن أن الله(عزوجل) يريد منا أن نترك هذا الفعل وهو الغيبة.

2/الفعل:

فإذا رأينا النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) يتوضأ بطريقة معينة، فنكتشف أن هذا الوضوء هو الذي يريده الله تعالى منا، لذا نجد أن الائمة صلوات الله وسلامه عليهم، مثلًا الإمام الباقر(علیه السّلام) قال لأصحابه: «ألا أحكي لكم وضوء النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)؟ قالوا: بلى يا بن رسول الله، فأخذ ماء وصار يتوضأ أمامهم».(2)

فهذا فعل من المعصوم، وبه نعرف الحكم الشرعي، أي نكتشف الحكم الشرعي الذي يريده الله تبارك وتعالى.

أو مثلًا لو أن المعصوم صلى ركعتين في أرض بوار (مفتوحة كالصحراء)، فنكتشف أن الصلاة في الأراضي المفتوحة الواسعة تجوز؛ لأن المعصوم فعل هذا الفعل، فنكتشف أن فعله موافق لما يريده الله(عزوجل).

3/التقرير:

مثاله: أن يدخل شخص على النبي أو الامام ويسأله سؤالًا، والنبي أو الأمام لا يجيب، وإنما من يجيب هو أحد الأصحاب، مثلًا لو فرضنا أنه دخل شخص على الإمام الصادق(علیه السّلام) وسأله: هل يجوز أكل الأرنب؟ والإمام(علیه السّلام) لم يُجب، لكن أحد أصحابه

ص: 167


1- الحجرات 12
2- في الكافي للكليني ج3 ص 24 بَابُ صِفَةِ الوُضُوءِ ح2: عَنْ بُكَيْرِ بْنِ أَعْيَنَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ(علیه السّلام) قَالَ:«ألَا أَحْكِي لَكُمْ وُضُوءَ رَسُولِ اللهs؟ فَأَخَذَ بِكَفِّه اليُمْنَى كَفّاً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِه وَجْهَه، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِه اليُسْرَى كَفّاً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِه يَدَه اليُمْنَى، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِه اليُمْنَى كَفّاً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِه يَدَه اليُسْرَى، ثُمَّ مَسَحَ بِفَضْلِ يَدَيْه رَأْسَه ورِجْلَيْه».

أجابه وقال: لا يجوز، والإمام(علیه السّلام) سكت ولم يعترض، فسكوته هذا يعني أنه أقرّ جوابه ووافق عليه، وهذه تسمى بدلالة التقرير.

لماذا كان تقرير المعصوم يدل على الحكم الشرعي؟

لأن وظيفة المعصوم وتكليفه هي حفظ الشريعة، فإذا كان الجواب خاطئًا فيجب على المعصوم أن يعترض، ولذلك نجد أن هناك موارد عديدة يعترض الامام فيها على الجواب.

ومن ذلك مثلًا أنه روي أنه قال أبو حنيفة للإمام الصادق(علیه السّلام): أخبرني جعلت فداك عن قول الله(عزوجل): ﴿ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ قال: «فما هو عندك يا أبا حنيفة»؟ قال، الامن في السرب، وصحة البدن، والقوت الحاضر. فقال : «يا أبا حنيفة لئن وقفك الله أو أوقفك يوم القيامة حتى يسألك عن كل أكلة أكلتها وشربة شربتها ليطولن وقوفك». قال : فما النعيم جعلت فداك ؟ قال : «النعيم نحن، الذين أنقذ الله الناس بنا من الضلالة، وبصرهم بنا من العمى، وعلمهم بنا من الجهل».(1)

تنبيه:

أ. إن دلالة التقرير فيها شرط، وهو: أن لا يكون سكوت المعصوم ناشئًا عن تقية، وإلا فلا نستكشف الحكم الشرعي من سكوته.

ب. يلحق بالتقرير: ما يسمى بسيرة المتشرعة، يعني إذا وجدنا المتشرعة ملتزمين بعمل من الأعمال ولم نجد دليلًا شرعيًا واضحًا من آية أو رواية على ذلك الفعل الذي يقوم به المتشرعة، فلنا أن نسأل: من أين جاء المتشرعة بهذا العمل؟

ص: 168


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج10 ص 209.

فيُجاب: أن المتشرعة في زماننا كلهم يقومون بهذا الفعل، ولا شك أنهم أخذوه من المتشرعة الذين قبلهم، والمتشرعة الذين قبلهم أخذوه من المتشرعة الذين قبلهم، إلى أن نصل إلى زمن المعصوم، فنجد في الروايات أن المتشرعة في زمن المعصوم كانوا يقومون بهذا الفعل، والمعصوم كان على مرأى ومسمع من هذا الفعل الذي يقومون به، فلو كان هذا العمل خاطئًا للزم على المعصوم أن ينبههم وينهاهم عنه، وحيث إنه لم ينبههم ولم ينههم عنه، فيتضح أن المعصوم راضٍ وموافق على فعلهم.

وقريب من هذا يُقال في سيرة العقلاء، إذا وجدنا أن فعلهم أخذوه من الذين قبلهم إلى زمن المعصوم، والمعصوم سكت ورضي بفعلهم، ولم يردع عنه.

وأوضح مثال على ذلك هو العمل بخبر الثقة، فاذا جاءك الثقة بخبر أو رواية فعليك أن تصدقه، إذ هناك مبحث في أصول الفقه عن حجية خبر الثقة وأدلة هذه الحجية، ومن أقوى الأدلة المعتمدة على هذه الحجية هي السيرة، حيث إن العقلاء بل والمتشرعة في زمن المعصوم كانوا يعتمدون على خبر الثقة، ولو لم يكن خبر الثقة حجة لجاءت رواية من المعصوم تقول: لا تأخذوا بخبر الثقة، وحيث إن الامام لم ينه ولم يردع عن هذه السيرة، فهذا كافٍ لإثبات حجية خبر الثقة.

والخلاصة: أن الخطاب هو الكاشف عن الحكم الشرعي، أي عما يريده الله(عزوجل)؛ لأننا لا نعلم ذلك إلا من خلال طريقة الخطاب.

ص: 169

النقطة الثانية: معنى المولى.

المولى: هو من له حق التشريع ومن له حق الطاعة على عباده.

فهنا قيدان:

القيد الاول: أن المولى هو من له حق الطاعة.

وهذا يشمل السيد من البشر ممن يملك عبدًا مثلًا، ويشمل الله(عزوجل).

القيد الثاني: أن المولى هو من له حق التشريع.

وبهذا القيد يخرج السيد من البشر؛ إذ ليس له أن يشرع أحكامًا، فحق التشريع ثابت أولًا وبالذات لله(عزوجل)، قال الله تعالى: ﴿إِنِ الحُكْمُ إِلَّا لِلهِ﴾.(1)

استطراد: في الولاية التشريعية للنبيs.

هل يحق لأحد غير الله(عزوجل) أن يصدر تشريعات وأحكامًا شرعية؟

الجواب: ما من يريد أن يشرع من تلقاء نفسه، فهذا بالاتفاق لا يجوز وهو المسمى بالبدعة.

والبدعة: هي إدخال ما ليس في الدين فيه.

وأما إذا كان الشخص مأذونًا من المشرِّع الحقيقي، بحيث تكون تشريعاته موافقه لما يريده الله(عزوجل) واقعًا، فهذا يمكن أن يكون مشرعً، بمعنى أنه يعطينا حكماً، وهذا الحكم موافق لما يريده الله(عزوجل)، يعني نحرز رضا الله(عزوجل) من هذا التشريع من خلال هذا الشخص المعين، وهذا ما يطلق عليه في علم الكلام بالولاية التشريعية للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، لذلك للنبي حق التشريع كما ورد في القرآن الكريم ﴿وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ

ص: 170


1- الأنعام 57.

فَانْتَهُوا﴾(1)

وعَنْ زُرَارَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ وأَبَا عَبْدِ الله(علیهما السّلام) يَقُولَانِ: «إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ فَوَّضَ إِلَى نَبِيِّه(صلی الله علیه و آله و سلم) أَمْرَ خَلْقِه؛ لِيَنْظُرَ كَيْفَ طَاعَتُهُمْ. ثُمَّ تَلَا هَذِه الآيَةَ: ﴿ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه وما نَهاكُمْ عَنْه فَانْتَهُوا﴾».(2)

وهنا سؤال:

هل لهذا الحق للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم) أساس علمي أو إنه جاء اعتباطاً؟

من الواضح جدا أن له أساسًا علميًا، وهو ما يمكن بيانه بالتالي:

أ. أن الأحكام الشرعية تابعة لملاكات خاصة (ضوابط وأساسات) والله تعالى عندما يشرّع حكمًا فإنه يكون له ملاك ونظام خاص؛ لأن الله تعالى حكيم، والحكيم لا يفعل إلا ما فيه الحكمة.

ب. الضابط والملاك الذي على أساسه الله(عزوجل) يوجب علينا شيئًا أو يحرّمه، هو كون الفعل فيه مصلحة واقعية أو مفسدة واقعية، فما فيه مصلحة يأمرنا بفعله، فإذا كانت المصلحة ملزمة وضرورية فإنه تعالى يأمرنا على نحو الوجوب والالزام، وإذا كانت المصلحة مخففة وغير ملزمة فيأمرنا على نحو الاستحباب، وهكذا المفسدة، إن كانت عالية جدًا فينهانا عن ارتكاب الفعل على نحو الإلزام والحرمة، وإن كانت تلك المفسدة مخففة فينهانا على نحو الكراهة مع جواز الفعل.

ج. إذا أُتيح لشخص أن يعرف ملاكات الأحكام الواقعية، يعني أن الله(عزوجل) كشف له

ص: 171


1- الحشر 7.
2- الكافي للكليني ج1 ص 266 بَابُ التَّفْوِيضِ إِلَى رَسُولِ اللهs وإِلَى الأَئِمَّةِ% فِي أَمْرِ الدِّينِ ح3.

عن تلك المصالح والمفاسد الواقعية، وحكَم ذلك الشخص وفق تلك المصالح والمفاسد، يعني أن الله تعالى أذن له أن يصدر الأحكام الشرعية وفق علمه بتلك المصالح والمفاسد، فعلى هذا الأساس للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم) الولاية التشريعية في إصدار تلك الاحكام.

تمامًا كما لو أن شخصًا اطّلع على تشريعات البرلمان، وكان رئيس البرلمان أطْلع هذا الشخص على تلك التشريعات وأذن له بنقلها، وجاء وأعلمنا بأن غدًا عطلة رسمية، وبعد علمنا بأنه قد اطّلع على التشريعات، وأُذن له بنقلها، فلا شك أننا نتبع ما يقوله.

ومما يُشير إلى هذا المعنى ما جاء في فرض الصلاة وعدد ركعاتها، إذ روي عن عليِّ بن مهزيار، قال: قال بعض أصحابنا لأبي عبد الله(علیه السّلام): ما بال صلاة المغرب لم يُقصِّر فيها رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) في السفر والحضر مع نافلتها؟ قال: «لأنَّ الصلاة كانت ركعتين ركعتين، فأضاف رسول اللهs إلىٰ كلِّ ركعتين ركعتين، ووضعها عن المسافر، وأقرَّ المغرب علىٰ وجهها في السفر والحضر، ولم يُقصِّر في ركعتي الفجر أن يكون تمام الصلاة سبع عشرة ركعة في السفر والحضر»(1).

وعن أبي جعفر(علیه السّلام)، قال: «لمَّا عُرِجَ برسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) نزل بالصلاة عشر ركعات، ركعتين ركعتين، فلمَّا وُلِدَ الحسن والحسين زاد رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) سبع ركعات شكراً لله، فأجاز الله له ذلك، وترك الفجر لم يزد فيها لضيق وقتها، لأنَّه تحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار، فلمَّا أمره الله بالتقصير في السفر وضع عن أُمَّته ستُّ ركعات، وترك المغرب لم يُنقِص منها شيئاً، وإنَّما يجب السهو فيما زاد رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، فمن شكَّ في أصل الفرض في الركعتين الأُوَّلتين استقبل صلاته»(2).

ص: 172


1- المحاسن للبرقي 2: 327/ ح 78.
2- الكافي للكليني 3: 487/ باب النوادر/ ح 2.

فالقرآن الكريم حينما قال: ﴿وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُ-رُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً﴾.(1) فهذا يعني أنه أخذ تشريع النبيs بنظر الاعتبار، ولم يتجاوزه، ولذلك رتّب عليه حكمًا شرعيًا في السفر، وهو القصر.

ونفس الكلام يُقال في ولاية أهل البيت(علیهم السّلام) التشريعية، وعلى كل حال فإن المسألة خلافية، فالبعض يثبت الولاية التشريعية لأهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم، وهو الصحيح وجاءت روايات على ذلك، والبعض الآخر لا يثبتها لهم، ويقولون: هم فقط ينقلون الأحكام الشرعية من الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) والقرآن الكريم.

وبنفس المعنى روي عن سنن عبد المطلب التي أمضاها القرآن الكريم، إذ ورد في بعض الروايات الشريفة أن الله(عزوجل) أمضى سننًا كان قد فعلها عبد المطلب(علیه السّلام) وامضاؤه لهذه السنن يكشف عن أنها كانت مطابقة لما أراده الله(عزوجل).

حيث روي أنه كان عبد المطَّلب يأمر بصلة الأرحام وإطعام الطعام، وترك الظلم والبغي، ويقول: إنَّه لن يخرج من هذه الدنيا ظلوم حتَّىٰ يُنتَقم منه، ويقول: والله إنَّ وراء هذه الدار دار جزاء الأعمال.

وسنَّ عبد المطَّلب الوفاء بالنذر، وقطع يد السارق، ومنع من نكاح المحارم، ونهىٰ عن قتل الموءودة، وحرَّم الخمر والزنىٰ وألَّا يطوف بالبيت عريان. وجاء كلُّ ذلك في شريعة خاتم الأنبياء، واستجاب الله دعاءه في طلب المطر لأهل مكّة، وكان يتعبَّد بغار حراء في شهر رمضان، وأوصىٰ قريشاً عامَّة برسول الله، وأوصىٰ به (أبا طالب)

ص: 173


1- النساء 101.

خاصَّة(1).

وروي عن النبيِّ الأعظم(صلی الله علیه و آله و سلم) أنَّ عبد المطَّلب سنَّ في الجاهلية خمس سنن أجراها الله تعالىٰ له في الإسلام:

1 - حرَّم زوجات الآباء علىٰ الأبناء، فأنزل الله(عزوجل): ﴿وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ﴾(2)

2 - وجد كنزاً فأخرج منه الخمس وتصدَّق به، فأنزل الله(عزوجل): ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ...﴾(3)

3 - لمَّا حفر بئر زمزم جعلها لسقاية الحاجِّ، فأنزل الله(عزوجل): ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجِّ وَعِمارَةَ المَسْجِدِ الحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(4)

4 - سنَّ في القتل مائة من الإبل، فأجرىٰ الله تعالىٰ ذلك في الإسلام.

5 - إنَّه لم يكن للطواف عدد عند قريش، فسنَّ فيهم عبد المطَّلب سبعة أشواط، فأجرىٰ الله تعالىٰ ذلك في الإسلام.

وكان لا يستقسم بالأزلام، ولا يعبد الأصنام، ولا يأكل ما ذُبِحَ علىٰ النصب، ويقول: أنا علىٰ دين أبي إبراهيم(5).

ص: 174


1- راجع: عقائد الإسلام للسيِّد مرتض-ىٰ العسكري 2: 246/ في ترجمة عبد المطَّلب8.
2- النساء: 22.
3- الأنفال: 41.
4- التوبة: 19.
5- راجع: الخصال للصدوق: 312 و313/ ح 90.

ملاحظة: من شروط التكليف أن يكون خاليًا من المفسدة.

النقطة الثالثة: معنى الواصل:

بمعنى أن يصل الخطاب الشرعي إلى المكلف في وقتٍ يتمكن معه المكلف من الإتيان بالعمل، على الوجه الذي يريده المولى جل وعلا منه، ولا يكون وصوله إلى المكلف بعد وقت العمل، لأن تكليفه به آنذاك ظلمٌ وقبيحٌ، والمولى منزهٌ عنه.

مثلًا: أراد الله(عزوجل) منا الصوم في شهر رمضان، فالصوم لا يكون واجبًا علينا وتكليفًا لنا -وبالتعبير الأصولي: منجَّزٌ علينا- إلا إذا وصل الأمر (بالصيام) قبل شهر رمضان، لكي يتمكن المكلف من الإتيان به في شهر رمضان، أما إذا وصل الخطاب في شهر شوال، وطلب منك أن تصوم شهر رمضان الذي فات، فهذا تكليف بغير المقدور، وظلم وقبيح، والمولى منزه عن القبيح.

فالتكليف إنما يكون تكليفًا ومنجَّزًا في ذمة المكلف إذا وصل له الخطاب الشرعي في وقت يتمكن من العمل.

وهذا معناه أنه إنما يجوز عقلًا للمولى أن يعاقب العبد إذا كان الخطاب الشرعي قد وصل الى المكلف، وهذا هو معنى من معاني قوله جل وعلا ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ وهذا هو معنى ما يقال في علم الاصول من ان التكليف منجزٌ على المكلف.

بيان: منجّز (بحكم العقل): يقصد به أنه يجوز للمولى أن يعاقب العبد إذا خالف، وهذا ما أشار له المصنف(رحمه الله علیه)بقوله: نعتقد أن الله تعالى لا يكلف عباده إلا بعد إتمام الحجة عليهم.

ص: 175

النقطة الرابعة: معنى المكلف.

اشارة

هنا خطوتان:

الخطوة الأولى: هل المكلف هو فقط الإنسان أو إنه يشمل غيره من الجن والملائكة؟

رأيان:

الرأي الأول: أن المكلف هو الإنسان فقط، واليه ذهب الفاضل المقداد في شرح الباب الحادي عشر، عندما عرف المكلف قال (هو الإنسان الحي البالغ القادر).

الرأي الثاني: أن المكلف يشمل الإنسان والجن و الملائكة، وممن ذهب إليه المحسني في صراط الحق(1)،

واستدل بعدة ايات منها قوله تعالى: ﴿وَما خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾(2)

فالخطاب بالعبادة (التكليف بها) شامل للجن والإنس.

وكذلك ما ورد في سورة الجن ﴿وَأَنَّا مِنَّا المُسْلِمُونَ وَمِنَّا القاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً. وَأَمَّا القاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾.(3)

وكذلك بالنسبة للملائكة حيث جاء في القرآن الكريم ﴿لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾.(4)

ويمكن أن يستدل لتكليف الملائكة أيضًا بأمره(عزوجل) لهم بالسجود لآدم8، إذ هو نوع من التكليف، مع الالتفات إلى أن الملائكة معصومون، فلا يصدر منهم الخطأ ولا يتعبون من عبادة الله(عزوجل).

ص: 176


1- ج2 ص 277 من طبعة ذوي القربى.
2- الذاريات 56.
3- الجن 14 – 15.
4- التحريم 6.
الخطوة الثانية: ما هي شروط التكليف؟

ذكروا لذلك عدة شروط، أهمها:

الشرط الأول: الحياة: إذ لا يمكن توجيه الخطاب للميت كما هو واضح.

الشرط الثاني: العقل: إذ من دون العقل فإن الإنسان لا يدرك الحسن من القبيح، فيكون القلم مرفوعًا عنه.

ويدخل ضمنه المجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ، والمغمى عليه حتى يرجع إليه وعيه، وقد ورد عن أمير المؤمنين(علیه السّلام) أنه قال: «إن القلم رفع عن ثلاثة : عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ».(1)

الشرط الثالث: القدرة على العمل: يعني أن يكون المكلف قادرًا على الاتيان بالعمل، لا عاجزًا عنه، لأن تكليف العاجز قبيح، والله(عزوجل) منزه عن القبيح.

وهذا الشرط ينحل إلى ثلاث مفردات:

المفردة الأولى: تشترط القدرة حين العمل لا حين الخطاب، بمعنى أنه قد يصدر الخطاب للعاجز ويطلب منه الاتيان به أثناء عجزه، فهذا لا يصح؛ لأنه قبيح.

ولكن لو توجه الخطاب إلى العاجز وقيل له: إن هذا الفعل يجب عليك، ولكن ليس الآن، وإنما عندما يرتفع عنك العجز وتكون قادرًا على أدائه، كما لو قال المولى للمريض الذي لا يستطيع أنْ يصوم: صم إذا برئت من المرض، فهذا ليس خلاف العدل وليس ظلمًا وليس تعجيزًا للإنسان.

وكتطبيق لذلك: قوله(عزوجل): ﴿وَلِلهِ عَلَىٰ النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾(2)

ص: 177


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 94.
2- آل عمران 97.

فهذا الخطاب يشمل الجميع، ولكن لو كنتُ أنا غير مستطيع، فإن هذا الخطاب لا يكون منجّزًا في حقي وليس واجبًا علي، لأن وجوبه عند الاستطاعة، فالخطاب وصل إليّ الآن لكن التكليف مطلوب مني عند الاستطاعة.

المفردة الثانية: لا يجوز التكليف بالممتنع ذاتًا على الإنسان، مثل أن يُطلب من الإنسان أن يُدخل الشيء الكبير على كبره في الشيء الصغير على صغره، فالعقل يحكم بامتناع وقوع هذا الأمر أصلًا، فلا يجوز للمولى أن يكلف العبد بمثل هذا الشيء، لأنه تكليف بممتنع ذاتي، وهو قبيح عقلًا.

المفردة الثالثة: لا يجوز التكليف بالممتنع وقوعًا وإن كان ممكنًا ذاتًا.

بيانه: هناك أشياء هي ليست ممتنعة بحكم العقل، بل هي في حدّ نفسها ممكن، ولكنها في العالم الخارجي لا يمكن أن تقع، فيسمى مثل هذا الشيء بالممتنع وقوعًا في الخارج، مثل أن تطلب من الإنسان أن يصعد إلى السطح بدون استخدام السلم، فهذا الأمر لا تلزم منه الاستحالة العقلية أو اجتماع النقيضين، لكن في الواقع لا يمكن أن يقع.

أو أن يطلب من الإنسان أن يطير بدون جناحين، فعقلًا هذا أمر ممكن، فيمكن مثلًا أن الله تعالى يعطي إنسانًا ما القدرة على الطيران بدون أجنحة، لكن هذا الأمر في الخارج غير ممكن.

والتكليف لا بد أن يكون ممكنًا وقوعًا كما يلزم أن يكون ممكنًا ذاتًا.

الشرط الرابع: العلم بالتكليف: وهذا عبارة أخرى عن وصول التكليف للعبد.

وهنا نلفت النظر إلى:

ص: 178

أولًا: أن العلم بالتكليف ليس شرطًا في أصل التكليف، وإنما هو شرط في تنجّز التكليف، أي إنه لو قال الله تعالى: ﴿أَقِيْمُوْا الصَّلَاْةَ﴾ فهذا الخطاب موجّه لكل الناس، العالم والجاهل منهم مشمول بهذا الخطاب، وهذا ما يعبر عنه بقاعدة الاشتراك، يعني اشتراك العالم والجاهل في التكاليف، فعندما يصدر أمر من المولى فهو يشمل العالم والجاهل، فيجب عليهما معًا، لكن الفرق هو: أن العالم إذا خالف ولم يصل فيجوز للمولى أن يعاقبه، لأن التكليف صدَر من المولى ووصَل إلى العبد، فصار منجّزًا عليه، أما الجاهل إذا خالف ولم يصلِّ، فبحكم العقل لا يجوز للمولى أن يعاقب الجاهل؛ لأن هذا التكليف غير منجّز في ذمة الجاهل؛ لأن شرط التنجيز هو العلم.

ثانيًا: هناك فرق في الجاهل بين أن يكون مقصِّرًا وبين أن يكون قاصرًا.

الجاهل المقصر هو من كان بإمكانه أن يتعلم ولكنه عمدًا ترك التعلم، فتكون الحجة بالغة عليه، يعني يستحق العقوبة، وهذا ما اشار له الشيخ في عبارة الكتاب بقوله (أما الجاهل المقصِّر في معرفة الأحكام والتكاليف فهو مسؤول عند الله تعالى ومعاقب على تقصيره؛ إذ يجب على كل إنسان أن يتعلم ما يحتاج إليه في الأحكام الشرعية)

ورد في رواية معتبرة السند عن مسعدة بن زياد قال: سمعت جعفر بن محمد الإمام الصادق (صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه) وقد سئل عن قوله تعالى: ﴿فَلِلّٰهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ﴾(1)،

فقال الإمام الصادق(علیه السّلام): «إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنت عالمًا ؟ فإن قال: نعم. قال له: أفلا عملت بما علمت، وإن قال: كنت جاهلًا، قال له: أفلا تعلّمت حتى تعمل. فيخصمه، وذلك الحجة البالغة».(2)

ص: 179


1- الأنعام 149.
2- أمالي الشيخ المفيد ص 227.

أما الجاهل القاصر فهو مَن كان لا يتمكن من التعلُّم، وحتى لو علَّمناه فإنه لا يستطيع أن يدرك المسائل، ولا أن يضبطها، فهذا ورد في الروايات الشريفة أن الله تعالى يحاسبه على قدر عقله، ويكون معذورًا فيما لا يستطيع أن يدركه.

فعن أبي جعفر(علیه السّلام) قال: «إنَّما يداق الله العباد في الحساب يوم القيامة علىٰ قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا»(1). عن محمّد بن سليمان الديلمي، عن أبيه، قال: قلت لأبي عبد الله(علیه السّلام): فلان من عبادته ودينه وفضله؟ فقال: «كيف عقله؟»، قلت: لا أدري، فقال: «إنَّ الثواب علىٰ قدر العقل، إنَّ رجلاً من بني إسرائيل كان يعبد الله في جزيرة من جزائر البحر، خضراء نضرة، كثيرة الشجر، ظاهرة الماء، وإنَّ ملكاً من الملائكة مرَّ به، فقال: يا ربِّ، أرني ثواب عبدك هذا، فأراه الله [تعالىٰ] ذلك، فاستقلَّه الملك، فأوحىٰ الله [تعالىٰ] إليه: أن اصحبه، فأتاه الملك في صورة إنسي فقال له: من أنت؟ قال: أنا رجل عابد، بلغني مكانك وعبادتك في هذا المكان، فأتيتك لأعبد الله معك، فكان معه يومه ذلك، فلمَّا أصبح قال له الملك: إنَّ مكانك لنزه، وما يصلح إلَّا للعبادة، فقال له العابد: إنَّ لمكاننا هذا عيباً! فقال له: وما هو؟ قال: ليس لربِّنا بهيمة، فلو كان له حمار رعيناه في هذا الموضع، فإنَّ هذا الحشيش يضيع، فقال له [ذلك] الملك: وما لربِّك حمار؟ فقال: لو كان له حمار ما كان يُضيِّع مثل هذا الحشيش، فأوحىٰ الله إلىٰ الملك: إنَّما أُثيبه علىٰ قدر عقله»(2).

الشرط الخامس: البلوغ: وهو أن يصل الإنسان إلى مرحلة تسمى شرعًا بالبلوغ، وللبلوغ علامات معينة ذكرت في كتب الفقه، وفي المقام ما يهمنا في علم الكلام هو التالي:

أن الأحكام منها تكليفية ومنها وضعية، والتكليفية منها إلزامية ومنها غير إلزامية،

ص: 180


1- الكافي للكليني 1: 11/ كتاب العقل والجهل/ ح 7.
2- الكافي للكليني 1: 11 و12/ كتاب العقل والجهل/ ح 8.

وعليه يكون لدينا ثلاث نقاط:

النقطة الأولى: الأحكام التكليفية الإلزامية:

وهي الواجبات والمحرمات، الواجب التكليفي هو ما يطلب فعلُه مباشرة من المكلف، ولا يجوز له تركه، والمحرم هو ما يُطلب منه أن لا يقترب منه، ولا يجوز له أن يفعله.

وهذه التكاليف بالاتفاق لا تشمل الصبي، فيشترط في ثبوتها على الإنسان أن يكون بالغًا، فلا تتنجز هذه التكاليف في ذمة الإنسان إلا إذا كان بالغًا، ودليلها هو مثل حديث رفع القلم.

النقطة الثانية: الأحكام التكليفية غير الإلزامية:

وهي المستحبات والمكروهات، فهل تصح المستحبات من الصبي؟ فاذا صلى الصبي قبل البلوغ على نحو الاستحباب، فهل يثاب الصبي على فعله هذا أو لا يثاب؟

ولمعرفة ترتب الثواب على قيام الصبي بالمستحب وتركه للمكروه من عدمه لابد من الرجوع إلى ما يبتني عليه هذا الحكم وهو: هل إن عبادات الصبي شرعية أو تدريبية؟

لعل مشهور علمائنا يذهب إلى أنها شرعية، مما يعني ترتب الثواب عليها. مما يعني أن الأحكام التكليفية غير الإلزامية لا يشترط فيها البلوغ.

ويترتب على هذا البحث ثمرة فقهية مهمة، وهي معرفة ما إذا كانت صلاة الصبي مُجزِأةً أو لا فيما لو صلى قبل البلوغ ثم بلغ ووقت الصلاة لم ينتهِ بعدُ، كما لو صلى في الساعة الثانية ظهراً صلاتي الظهر والعصر، وبلغ بعد أدائهما بنصف ساعة، أي إن وقت الصلاتين لازال قائماً، فهل يجب عليه في هذه الحالة إعادة صلاة الظهرين أو إن صلاته

ص: 181

مجزأة؟

الحكم يختلف باختلاف قول العلماء في عبادات الصبي هل هي شرعية أو تدريبية:

فمن قال بأن عباداته تدريبية: أي إن عباداته مجرد صورة للعبادة ولا أثر لها؛ لعدم توجه خطاب له لا على نحو الوجوب ولا على نحو الاستحباب. وعليهِ لابد من إعادة الصلاة؛ لتوجه الخطاب إليه فور بلوغه فيلزمه بالأداء.

وأما من قال بأن عباداته شرعية: أي إن صلاته شرعية؛ وأن الأمر موجه إلى الصبي على نحو الاستحباب، بالتالي فإن صلاته وقعت صحيحة، فلا موجب لإعادتها.

فإن قيل: أو ليس حديث رفع القلم رفع التكاليف عن الصبي؟ فكيف يُقال بأن المستحبات والمكروهات تصح من الصبي وأنه مخاطب بها؟

فالجواب: أن القدر المتيقن من حديث رفع القلم هو الواجبات والمحرمات، يعني أن الذي نجزم بأنه رُفع عن الصبي هو الواجبات والمحرمات، أما المستحبات والمكروهات فليست مرفوعة عن الصبي.(1)

النقطة الثالثة: الأحكام الوضعية:

وهي غير الاحكام التكليفية الخمسة التي تقدم ذكرها (الواجب والمحرم والمكروه والمستحب والمباح). وتختصر ب_(الصحة والفساد). فلو قام صبي بعقد من العقود كالبيع مثلاً، أو إيقاع من الايقاعات كالطلاق مثلاً، فهل يعد فعله صحيحاً شرعاً، وبالتالي يكون ملزِمًا لكلا الطرفين، أو إنه فاسد فلا يكون ملزماً لهما؟

يعني أن هذا الفعل صحيح أو فاسد؟

ص: 182


1- التفاصيل في أبحاث الخارج.

يختلف الجواب وبالتالي الحكم باختلاف طبيعة الموضوعات:

فالموضوعات غير الموقوفة على القصد ولا على النية بحيث يترتب على فاعلها الحكم الوضعي بمجرد تحققها، كتحقق حكم الجنابة بالجماع، فبمجرد أن يجامع الصبي يحكم عليه بأنه مجنب. والحكم بجنابته حكم وضعي، ولكن لا يُلزم بالحكم التكليفي (وجوب الغسل) منها؛ لأنه غير مخاطب بأداء تكليف لازم تُشترط فيه الطهارة، كالصلاة مثلاً. فلا يجب عليه الغسل حتى البلوغ.

وكذا الحال بالنسبة لحكم التنجس، فإنه يترتب على الصبي متى ما لاقى بدنه أو ثوبه أحد الأعيان النجسة مع الرطوبة المسرية، كما لو تنجس بالبول مثلاً، إلا أنه لا يتوجب عليه التطهير كحكم تكليفي إلا عندما يُلزم شرعاً بأداء ما تشترط فيه الطهارة، كالصلاة مثلاً.

وكذلك بالنسبة للضمان بالإتلاف، فلو أتلف الصبي مال غيره، كأن يكون كسر زجاجة سيارة أحدٍ ما، فإنه لا يجب عليه أن يغرم. ويجب ذلك على وليه كما قال العلماء، فإن هو لم يغرم عنه توجه التكليف حينئذٍ إلى الصبي بعد بلوغه.(1)

وعليه فإن الموضوعات التي لا يشترط فيها القصد أو النية لا يشترط فيها البلوغ في ترتب الأحكام الوضعية عليها.

وأما الموضوعات التي يشترط في إتيانها القصد أو النية، فيشترط في تحققها البلوغ، وهذه الموضوعات من الواضح أنها لا تشمل الصبي، مثل: كفارة الإفطار عمداً في شهر رمضان. فقد تقدّم أن المشهور بين العلماء أن عبادات الصبي شرعية، فيمكنه الإتيان بها على نحو الاستحباب، فلو صام في شهر رمضان صحَّ صومه، ولكنه لو أفطر عمداً في

ص: 183


1- والمسألة فقهية تُراجع في مظانها.

نهار أحد أيامه، فلا تجب عليه الكفارة فضلاً عن القضاء؛ لأنها موضوعات يشترط في أدائها القصد والنية.

وبالعودة إلى المثالين اللذين طرحا في بداية مبحث الأحكام الوضعية: وهما: حكم البيع بالنسبة إلى الصبي كمثال على العقود، وحكم الطلاق كمثال على الإيقاعات، بالنسبة إلى الصبي، فنقول:

بما أن هذين الموضوعين مما يجب في تحققهما القصد والنية، إذاً لا يحكم بصحتهما فيما لو صدرا من الصبي. نعم، استثنى بعض الفقهاء من ذلك بالنسبة للبيع ما كانت قيمته يسيرة من الأشياء التي جرت العادة بتصدي الصبي المميز لمعاملتها بإذن وليه.(1)

الخطوة الثالثة: إثبات حسن التكليف من المولى.

هل إن تكليف العباد من قبل المولى (جل وعلا) أمرٌ حسنٌ أو لا؟

هو أمرٌ حسن، ويمكن إثبات حسنه بعدة طرق، نذكر منها طريقين:

الأول: الإثبات الإجمالي:

وخلاصته: أن الله(عزوجل) فَعَل التكليف. وبما أن كل أفعاله سبحانه حسنة، ولا يصدر منه القبيح قط. إذاً التكليف أمرٌ حسنٌ.

ص: 184


1- في منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 2/ الفصل الثاني: شروط المتعاقدين/ مسألة 62): «يُشتَرط في كلٍّ من المتعاقدين أُمور: الأوَّل: البلوغ، فلا يصحُّ عقد الصبيِّ في ماله، وإن كان ممِّيزاً، إذا لم يكن بإذن الوليِّ، بل وإن كان بإذنه إذا كان الصبيُّ مستقلًّا في التصرُّف إلَّا في الأشياء اليسيرة التي جرت العادة بتصدّي الصبيِّ المميِّز لمعاملتها، فإنّها تصحُّ منه بإذن وليه، كما تصحُّ فيما إذا كانت المعاملة من الوليِّ، وكان الصبيُّ وكيلاً عنه في إنشاء الصيغة، وهكذا إذا كانت معاملة الصبي في مال الغير بإذن مالكه، وإن لم يكن بإذن الولي».

وبعبارة أخرى: التكليف فعل الله، وكل أفعاله حسنة، فالتكليف حسن.

الثاني: قاعدة اللطف:

وهو الطريق الذي ذكره الشيخ المظفر(رحمه الله علیه).

وخلاصته: التكليف لطفٌ، واللطف واجب على الحكيم فالتكليف واجبٌ على الحكيم.

وهذا الدليل يثبت حسن التكليف بل لزومه ووجوبه أيضاً.

بيان قاعدة اللطف:

اللطف: هو ما يقرّب العبد إلى الطاعة ويبعده عن المعصية.

وهو واجبٌ على المولى (جل وعلا)- بمعنى أنه هو الذي أوجبه على نفسه لا بمعنى أن أحداً ما أوجبه عليه (سبحانه)-؛ وذلك لأنه حكيمٌ، والحكيم إذا علم أنَّ عبده لا يمكن أن يصل إلى طاعته ورضاه إلا إذا ساعده في ذلك. بل إنه لو لم يساعده لوقع في المعصية، لحكم بوجوب مساعدته وكذا يحكم العقل.

ومن هنا استدل العلماء على لزوم إرسال الرسل وإنزال الكتب وتشريع الشرائع التي تنظم علاقات الفرد بربه وبالأفراد بقاعدة اللطف؛ لأن هذه الأمور تساعد العبد على بلوغ رضا الله(عزوجل) وتجنب معصيته وسخطه، وتتمُّ الحجة عليه. ولولاها لوقع العبد بالمعصية ولبَعُدَ عن رضا مولاه من جهة، ولقبح على المولى أن يعاقبه من جهةٍ أخرى.

بل أشار الشيخ(قدس سره) إلى أن قاعدة اللطف تجب وإن علم الله (جل شأنه) أنَّ بعض عبيده لا يمتثل لأوامره حتى إذا وضُح له طريق الطاعة. وبالتالي لا يسوغ عدم اللطف بهم أو عدم توضيح الأمر لهم؛ وذلك لأن الوجدان يحكم بعدم كون ذلك مسوغاً لعدم

ص: 185

اللطف، بل يبقى اللطف لازماً على الحكيم لأمرين هما:

الأول: أن فيض الكريم الكامل لا يوقفه ولا يحده عناد بعض العبيد. فالله(عزوجل) هو الكمال المطلق، فلا يحدُّ جوده الكامل ورحمته المطلقة عنادُ بعض العبيد. وهذا ما أشار إليه الماتن(قدس سره) في الكتاب.

الثاني: لو لم يرسل الله(عزوجل) الرسل لأولئك العباد، لأمكن أن تتوفر حجة لأولئك العباد على الله(عزوجل)؛ لذا جاء في القرآن الكريم: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾(1)

أي حتى نلقي الحجة التامة على العباد.

ص: 186


1- الإسراء 15.

عقيدتنا في القضاء والقدر

اشارة

قال الشيخ المظفر(رحمه الله علیه):

«عقيدتنا في القضاء والقدر:

ذهب قومٌ وهم (المجبرة) إلى أنه(عزوجل) هو الفاعل لأفعال المخلوقين فيكون قد أجبر الناس على فعل المعاصي وهو مع ذلك يعذبهم عليها، وأجبرهم على فعل الطاعات ومع ذلك يثيبهم عليها، لأنهم يقولون إن أفعالهم في الحقيقة أفعاله وإنما تنسب إليهم على سبيل التجوز لأنهم محلها، ومرجع ذلك إلى إنكار السببية الطبيعية بين الأشياء وأنه تعالى هو السبب الحقيقي لا سبب سواه.

وقد أنكروا السببية الطبيعية بين الأشياء إذ ظنوا أن ذلك هو مقتضى كونه(عزوجل) هو الخالق الذي لا شريك له، ومن يقول بهذه المقالة فقد نسب الظلم إليه(عزوجل) عن ذلك.

وذهب قوم آخرون وهم (المفوضة) إلى أنه(عزوجل) فوّض الأفعال إلى المخلوقين ورفع قدرته وقضاءه وتقديره عنها، باعتبار أن نسبة الأفعال إليه تعالى تستلزم نسبة النقص إليه، وإن للموجودات أسبابها الخاصة وإن انتهت كلها إلى مسبب الأسباب والسبب الأول، وهو الله(عزوجل). ومن يقول بهذه المقالة فقد أخرج الله(عزوجل) من سلطانه، وأشرك غيره معه في الخلق.

واعتقادنا في ذلك تبع لما جاء عن أئمتنا الأطهار(علیهم السّلام) من الأمر بين الأمرين، والطريق الوسط بين القولين، الذي كان يعجز عن فهمه أمثال أولئك المجادلين من أهل

ص: 187

الكلام، ففرط منهم قوم وأفرط آخرون. ولم يكتشفه العلم والفلسفة إلا بعد عدة قرون.

وليس من الغريب ممن لم يطلع على حكمة الأئمة(علیهم السّلام) وأقوالهم أن يحسب إن هذا القول، وهو الأمر بين الأمرين، من مكتشفات بعض فلاسفة الغرب المتأخرين، وقد سبقه إليه أئمتنا قبل عشرة قرون.

فقد قال إمامنا الصادق(علیه السّلام) لبيان الطريق الوسط كلمته المشهورة: «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين».

ما أجل هذا المغزى وما أدق معناه. وخلاصته: إن أفعالنا من جهة هي أفعالنا حقيقة ونحن أسبابها الطبيعية، وهي تحت قدرتنا واختيارنا ومن جهة أخرى هي مقدورة لله تعالى وداخلة في سلطانه لأنه هو مفيض الوجود ومعطيه، فلم يجبرنا على أفعالنا حتى يكون قد ظلمنا في عقابنا على المعاصي لأن لنا القدرة والاختيار فيما نفعل، ولم يفوض إلينا خلق أفعالنا حتى يكون قد أخرجها عن سلطانه، بل له الخلق والحكم والأمر، وهو قادر على كل شيء ومحيط بالعباد.

وعلى كل حال، فعقيدتنا إن القضاء والقدر سر من أسرار الله(عزوجل)، فمن استطاع أن يفهمه على الوجه اللائق بلا إفراط ولا تفريط فذاك، وإلا فلا يجب عليه أن يتكلف فهمه والتدقيق فيه لئلا يضل وتفسد عليه عقيدته، لأنه من دقائق الأمور بل من أدق مباحث الفلسفة» انتهى.

من المباحث المهمة جداً في علم الكلام والتي تمتدّ جذورها في حياة الإنسان العملية والسياسية والعقائدية هو مبحث القضاء والقدر، وما يتوقف عليه من بحث الجبر والتفويض أو الأمر بين الامرين؛ إذ اختلف الناس في هذا على ثلاثة مذاهب: مفوّضة، ومجبِّرة، ومذهب أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) الذي عبر عنه

ص: 188

الامام الصادق(علیه السّلام) بقوله: «لَا جَبْرَ ولَا تَفْوِيضَ ولَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ».(1)

وهذا البحث مهم جدًا، لا بد من التأمل فيه وأخذه بالتسلسل لنصل إلى قناعة معينة فيه.

مصطلحات البحث:

المصطلح الأول: القدر.

وهو التقدير والهندسة النظرية بحسب المكان والزمان والكيفيات والأسباب والشروط وغيرها، فلوجود الجماد حدٌّ، ولوجود النبات حدٌّ، ولوجود الحيوان حدٌّ، هذه الشروط التي وضعت لهذه الحدود هي تخطيط نظري أشبه برسم الخريطة للبيت نظريًا، هذا هو القدر.

المصطلح الثاني: القضاء.

وهو الإبرام يعني إتمام الأمر وإنجازه تمامًا، بحيث يصل الى النقطة الاخيرة للتحقق في الخارج قال(عزوجل): ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ..﴾.(2) فقضيتم مناسككم يعني أنجزتموها وانتهيتم منها.

والقضاء في الحقيقة هو نتيجة التقدير والقدر.

وكل من القدر والقضاء ينقسم الى قسمين هما: قدر وقضاء تكويني وقدر وقضاء تشريعي.

فأما القدر والقضاء التكويني:

ص: 189


1- الكافي للكليني ج1 ص 160 بَابُ الجَبْرِ والقَدَرِ والأَمْرِ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ ح13.
2- البقرة 200.

فهي القوانين الخارجية أو الكونية التي تتحكم بالعالم، ومثال على ذلك: تقدير الجنين في بطن أمه، ويشمل جميع المراحل التي يمر بها حتى يكتمل نموّه، فإذا تمّ تقديره فإنه يولد، فولادته القضاء.

وهكذا تقدير القمر هو مروره بالمراحل المعلومة إلى أن تنتهي دورته الشهرية فيصل إلى نقطة البداية ويولد من جديد، فيكون هلالاً.

وأما القدر والقضاء التشريعي:

فهو مجموع الأوامر والنواهي الإلهية الواردة في الكتاب والسنة. وإلى القضاء والقدر التشريعيين أشار ما روي أنّ رجلًا قال لأمير المؤمنين(علیه السّلام): فما القضاء والقدر الذي ذكرته يا أمير المؤمنين؟ قال: «الأمر بالطاعة، والنهي عن المعصية، والتمكين من فعل الحسنة وترك المعصية، والمعونة على القربة إليه، والخذلان لمن عصاه، والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، كل ذلك قضاء الله في أفعالنا، وقدره لأعمالنا، وأما غير ذلك فلا تظنّه، فإن الظنّ له محبط للأعمال».

فقال الرجل: فرجت عني يا أمير المؤمنين فرج الله عنك.(1)

وهنا يبين أمير المؤمنين(علیه السّلام) أن القدر والقضاء التشريعي هو مجموع الأوامر والنواهي الإلهية التي تصدر منه(عزوجل) مع تمكين الإنسان على فعلها وعدم إجباره عليها، وبالتالي استحقاق الثواب أو العقاب.

وكلٌّ من القدر والقضاء هما من مقدمات الأفعال.

ص: 190


1- الاحتجاج للطبرسي ج1 ص311.
المصطلح الثالث: الجبر.

وهو ادّعاء أن الأفعال التي نراها تصدر من الإنسان إنما هي في الحقيقة صادرة من الله(عزوجل). وما الإنسان معها إلا مجرد آلة لتنفيذ أفعال الله(عزوجل)، وينطلق هذا الادعاء من نفي وجود نظام العلل والمعلولات في عالمنا، وإثبات وجود علة واحدة فقط وفاعل واحد فقط هو الله(عزوجل) وما عداه كلها معلولات ومخلوقات له(عزوجل)، حتى إنّ الكتابة التي نكتبها في الحقيقة هي فعل الله(عزوجل).

المصطلح الرابع: التفويض.

ويستعمل في عدة معانٍ:

المعنى الأول: أنّ الله(عزوجل) بعد أن خلق الإنسان فوّض إليه أفعاله. فالإنسان مستقل تمامًا في إيجاد أفعاله عن الله(عزوجل)، أي إنه ليس بحاجةٍ إلى الله(عزوجل) في أفعاله، نعم الله(عزوجل) قادر على تلك الأفعال وقدرته لم تُسلب منه (جل وعلا)، لكن في الوقت نفسه قد استغنى عنه الإنسانُ وبات مستقلاً في أفعاله، رغم أنه ممكن ومن أبرز سماته الافتقار وجوداً واستمراراً!

المعنى الثاني: أنّ الله(عزوجل) بعد أن خلق الإنسان فوّض إليه أفعاله، فالإنسان مستقل تمامًا في إيجاد أفعاله عن الله(عزوجل)، أي إنه لا يحتاج الى الله(عزوجل) في أفعاله، وعلاوةً على ذلك فإنّه(عزوجل) غير قادر على التحكم في أفعال الإنسان فلا يستطيع منعه من القيام بفعلٍ ما مثلاً.

وهذا المعنى أقبح وأردأ من الأول.

المعنى الثالث: أنّ الله(عزوجل) يوكل بعض الأمور لبعض مخلوقاته في أن يفعلوها حسب اختيارهم، لكن لا يخرج أولئك المخلوقون لا هم ولا أفعالهم عن قدرة الله(عزوجل) وعن إذنه وعن أمره (جل وعلا)، فيبقى الله(عزوجل) قادراً وغير عاجزٍ، ولكنه يوكل إلى بعض عباده

ص: 191

فعل أمور محددة.

وقد ورد هذا المعنى في كثير من الروايات والآيات الشريفة، وهذا المعنى على نوعين:

النوع الأول: التفويض التكويني:

كتفويض الله(عزوجل) مهمة قبض الأرواح للملك عزرائيل(علیه السّلام) في قوله(عزوجل): ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾(1)

بالرغم من أنه (جل وعلا) مالك لهذه المهمة أصالةً في قوله(عزوجل): ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾(2)

وكتفويض أمر إحياء الموتى وإبراء المرضى إلى النبي عيسى(علیه السّلام) مع أنها من أفعاله(عزوجل).

وليس في ذلك أي إشكال؛ لأنه في ضمن دائرة ارادته ومشيئته وتحت سلطانه(عزوجل).

الثاني: التفويض التشريعي:

وهو أن يأذن الله(عزوجل) لبعض عباده وفق مواصفاتٍ خاصة بأن يعطوا تشريعاتٍ وفق المصالح والمفاسد الواقعية. ومثاله تفويض الله(عزوجل) مهمة التشريع للمعصومين(علیهم السّلام) وهو المصطلح عليه بين المتكلمين بالولاية التشريعية. ومستنده من القرآن الكريم قوله(عزوجل): ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾(3)

وقد تقدم بعض الحديث عن الولاية التشريعية.

ص: 192


1- السجدة 11.
2- الزمر 42.
3- الحشر 7.

والمعنى الثالث من بين المعاني الثلاث للتفويض هو الذي يتوافق مع ما يذهب إليه أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم): أنه لا جبر ولا تفويض وإنما هو أمر بين أمرين.

وبعد أن اتضحت مصطلحات البحث نعود إليه فنقول:

اختلف المتكلمون في مسألة القضاء والقدر وانقسموا في ذلك إلى مذاهب ثلاث:

المذهب الأول: مذهب الجبر.

وللإحاطة بهذا المذهب لا بد من التعرض إلى الخطوات التالية:

الخطوة الأولى: مؤسسو مذهب الجبر:

على الرغم من أن الأشاعرة هم من رفعوا لواء الجبر، وأنَّ أول من قال به ونظّر له وصرّح به بشكلٍ رسمي في الكتب هو الجهم بن صفوان. إلا أنَّ لدعوى الجبر جذوراً ترجع إلى بني أمية. فهم أول من أسّسها وعمل على ترسيخها في أذهان الناس لأهدافٍ سياسية، بدليل خطبة معاوية عليه لعائن الله التي خطبها في أهل الكوفة بعد الهدنة التي حدثت بينه وبين الإمام الحسن8، قال المفيد: «فلمَّا استتمَّت الهدنة علىٰ ذلك، سار معاوية حتَّىٰ نزل بالنخيلة، وكان ذلك يوم جمعة، فصلّىٰ بالناس ضحىٰ النهار، فخطبهم وقال في خطبته: إنّي والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، إنَّكم لتفعلون ذلك، ولكنّي قاتلتكم لأتأمَّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون. ألَا وإنّي كنت منيت الحسن وأعطيته أشياء، وجميعها تحت قدميَّ لا أفي بشيء منها له».(1)

ومحل الشاهد قوله: «وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون» وفيه إشارة واضحة

ص: 193


1- الإرشاد 2: 14.

إلى مذهب الجبر.

وعلى نفس المنوال جرى ابن زياد، حيث روي أنه عُرِضَ عليه [أي على ابن زياد لعنه الله] عليُّ بن الحسين(علیه السّلام)، فقال له: من أنت؟ فقال: «أنا عليُّ بن الحسين»، فقال: أليس قد قتل الله عليَّ بن الحسين؟ فقال له عليٌّ(علیه السّلام): «قد كان لي أخ يُسمّىٰ عليّاً قتله الناس»، فقال له ابن زياد: بل الله قتله، فقال عليُّ بن الحسين(علیه السّلام): «﴿اللهُ يَتَوَفَّىٰ الَانْفُسَ حِينَ مَوْتِها﴾(1)»،

فغضب ابن زياد وقال: وبك جرأة لجوابي، وفيك بقيَّة للردِّ عليَّ!؟ اذهبوا به فاضربوا عنقه، فتعلقت به زينب عمته وقالت: يا ابن زياد، حسبك من دمائنا، واعتنقته وقالت: والله لا أفارقه فإن قتلته...(2)

كما وردت الاشارة إلى القول بالجبر في قول ابن زياد للسيدة زينب (صلوات الله وسلامه عليها): كيف رأيتِ صنع الله بأهل بيتكِ؟ فقالت: «ما رأيت إلَّا جميلاً، هؤلاء قوم كُتِبَ عليهم القتل فبرزوا إلىٰ مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاجّ وتُخاصَم، فانظر لمن الفلج، هبلتك أُمُّك يا ابن مرجانة...»(3).

فهو قد نسب الفعل إلى الله تعالى ليبرئ ساحته من الجرم.

الخطوة الثانية: خلاصة دعوى الجبر:

يمكن تلخيص دعوى الجبر بأنها تعني نفي نظام السببية والمسببية أو العلة والمعلولات بين الأشياء، والاقتصار على علة واحدة وهي الله (جل جلاله) ومعلولات وهي كل ما سواه. فكما خلق الله (سبحانه) المخلوقات فهو أيضًا خلق أفعالها، وبالتالي

ص: 194


1- الزمر: 42.
2- الإرشاد للشيخ المفيد 2: 116.
3- مثير الأحزان لابن نما الحلّي (ص 71)؛ بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 45/ ص 115 و116) بتفاوت يسير.

فإن أي فعل يصدر عنها إنما هو فعله (سبحانه) في حقيقة الأمر، فكل من الأفعال الصالحة والطالحة التي تصدر من الإنسان إنما هي أفعاله (جل شأنه).

فإن قيل لأصحاب هذه الدعوى: إننا في الخارج نجد أن الأفعال تصدر من الإنسان، فالإنسان هو الذي يأكل ويكتب ويتكلم، وعند النظر إلى النار نجد أنها هي التي تحرق، فكيف يمكن التوفيق بين ذلك وبين ما تدّعونه بأن الأفعال تصدر من الله(عزوجل) وأنه هو الفاعل الحقيقي لها؟

قالوا: إن الإنسان هو مجرد محل لصدور الفعل منه، يعني أن الفعل في الحقيقة يصدر من الله(عزوجل)، لكنه يصادف أن يصدر هذا الفعل مقارناً لفعل الإنسان، يعني أن الله(عزوجل) هو الذي يكتب، لكن يصادف أن يقارن هذا الفعل حركة الإنسان، كما في ألعاب الدمى التي يتم تحريكها بواسطة خيوط معينة، إذا نظرنا نجد أن الدمى هي التي تتحرك، لكن في الحقيقة أن هناك يداً هي التي تحركها بواسطة الخيوط، فالحركة تنسب حقيقةً لليد التي تحركها، لكن تصادف أن تلك الحركة أن تخرج وتصدر من تلك الدمية، وكذا النار

فليست هي التي تحرق الخشب في الحقيقة، وأن الله تعالى هو الذي يحرق الخشب، لكن يصادف أن الإحراق دائما يقع مجاوراً للنار! والنار ليس لها أي دور في الإحراق. وقد حاولوا بيان هذا من خلال عدة نظريات ومنها نظرية الكسب والحلول وغيرها مما ليس هنا محل تفصيله.

الخطوة الثالثة: منشأ هذه الدعوى:

يمكن القول بأن لهذه الدعوى منشأين هما:

أولهما: المنشأ العلمي:

صعُب على الأشاعرة فهم نظام السببية والمسببية أو العلل والمعلولات فهماً صحيحاً

ص: 195

يتوافق مع التوحيد، فظنوا إن القول به يستلزم الشرك بالله(عزوجل) في الخالقية، إذ قالوا بأن نسبة الفعل إلى الإنسان عند صدوره منه يعني نسبة خلق ذلك الفعل إليه، فالله يخلق أفعالًا والإنسان يخلق أفعالًا، وبالتالي يصبح الإنسان شريكاً لله(عزوجل) في خلقه للأفعال، وهذا شرك وخلاف للتوحيد الأفعالي الذي يقتضي أن لا مؤثر ولا فاعل في الوجود مستقلًا إلا الله(عزوجل).

إذاً لا بد من نسبة الأفعال إليه (سبحانه) لا إلى مَن صدرت منه بنظرنا، بقطع النظر عمّن صدرت تلك الأفعال من جهة، وبقطع النظر عن حسنها وقبحها من جهة أخرى، وعليه فحفاظاً على التوحيد الأفعالي يتوجب علينا القول بأن الأفعال في الحقيقة تصدر من الله تعالى، لا من الإنسان.

ثانيهما: المنشأ السياسي:

علينا أن لا نغفل أن الحكومات الدموية كانت تعمل على شرعنة أعمالها بطريقة تقنع المسلمين بأن سياساتهم موافقة للدين والتوحيد من جهة، وتُلزم المسلمين بإطاعة الحكام والسلاطين بل تحرم عليهم الخروج على السلطان بالاستناد إلى مستند شرعي يقدسه المسلمون من جهة أخرى.

فادعت أنّ السلطان يعمل وفق النظام الاسلامي، وأنّ الخروج عليه سيكون خروجاً على النظام والحاكم الإسلامي، أي خروجاً على إمام الزمان -قاصدين به الخليفة-.

وقد أسس لهذه الدعوى وطبّل لها بنو أمية؛ لأنها تخدم أهدافهم السياسية وتحقق مطامعهم الدنيوية بكل يسر؛ إذ إنّ القول بالجبر يعني أمرين مهمين بالنسبة لهم، وهما:

الأمر الأول: أن ما يصدر من ظلم منهم فهم بريؤون منه؛ لأنه (الظلم) لم يصدر

ص: 196

منهم حسبما يدّعي مذهب الجبر، وإنما في حقيقة الأمر هو صادر من الله(عزوجل) وهم أُجبروا على أن يكونوا محلًا لصدوره، وعليهِ فمعاوية لم يقتل عليًا(علیه السّلام) ولا الحسن(علیه السّلام)، وإنما قتلهما الله(عزوجل)، وكذا فإن يزيد لم يشرب الخمر ولم يقتل الامام الحسين(علیه السّلام)، وهكذا.. فلمَ اللوم اذن؟!

وقد رأينا هذا اواضحًا في كلماتهم التي نظّرت للجبر وقد تقدم بعضها.

الأمر الثاني: بما أن المسلمين ملزمون بالإيمان بقضاء الله وقدره -وهذا أمرٌ واضحٌ فهناك روايات تدل على وجوب ذلك- فإذن لا يجوز للناس الخروج على إمام زمانهم (الخليفة) وإن كان مفسداً أو فاجراً أو جائراً، بل من يخرج عليه سيكون ملحداً وكافراً!

وبالتالي ستنتج هذه الدعوى مجتمعاً راضياً بالظلم خاضعاً للذل، وهو يحسب أن الله(عزوجل) هو من أراد له ذلك. وأنه على تمام العبودية لله(عزوجل) عندما يرضى بالأمير ولا ينبس عليه ببنت شفة.

وهو مراد بني أمية.

الخطوة الرابعة: إبطال الجبر.

هناك الكثير من الأدلة التي تثبت بطلان مذهب الجبر ومنها:

الدليل الأول: الوجدان:

وهو دليل يُنبّه على بطلان دعوى الجبر، فكلُّ واحد منا يحسُّ بوجدانه أنّه قادر على أن يتخذ قراراته بنفسه، وأنّ له أنْ يختار الفعل أو الترك من دون مؤثر خارجي يسلب إرادته واختياراته.

فمثلاً عندما تُقدم إليك وجبة طعام وفيها ثلاثة أصناف منه، فأنت بإرادتك الخاصة

ص: 197

تشعر برغبةٍ في أن تمد يدك لأكلة معينة دون سواها، وتحس أن لك مطلق الحرية لاختيار الطعام الذي ترغب أنت فيه، وهذا إحساس وجداني لا ينكره إلا مكابر؛ وهو أمرٌ بديهي، والبديهي لا يُستدل عليه، إنما يُنبّه عليه، ولأجل ذلك قلنا إنّه مُنبّه لبطلان الجبر.

ومعه، فإن منكر هذا البديهي، إذا ادعى الجبر فيكفي أن نُبيّن له المسألة وأنّه مختار يقوم بالأفعال بملئ إرادته، ونذكّره بوجدانه ونطلب منه أن يرجع إليه، فإن اقتنع فبها، وإلا نجلده بالسوط، فإذا اعترض نردُّ عليه بما يعتقد به: لمَ الاعتراض على فعل الله تعالى! فإن الله(عزوجل) هو الذي ضربك؟!

وهذا ما فعله البهلول عندما سمع أبا حنيفة يقول: إنّ جعفر بن محمّد(علیه السّلام) يقول بثلاثة أشياء لا أرتضيها.

يقول: إنّ الشيطان يعذّب بالنار، كيف وهو من النار!؟

ويقول: إنّ الله لا يرى ولا تصحّ عليه الرؤية، وكيف لا تصحّ الرؤية على موجود!؟

ويقول: إنّ العبد هو الفاعل لفعله، والنصوص بخلافه.

فأخذ البهلول حجرًا وضربه به فأوجعه، فذهب أبو حنيفة إلى هارون، واستحضروا البهلول ووبّخوه على ذلك. فقال لأبي حنيفة: أرني الوجع الذي تدّعيه وإلَّا فأنت كاذب، وأيضًا فأنت من تراب كيف تألمت من تراب!؟ ثمّ ما الذي أذنبتُه إليك والفاعل ليس هو العبد بل الله!

فسكت أبو حنيفة وقام خجلًا.(1)

الدليل الثاني: ان الجبر يؤدي الى نتائج وخيمة خطرة جداً، نذكر منها التالي:

ص: 198


1- منتهى المقال في أحوال الرجال للشيخ محمد بن إسماعيل المازندراني ج2 ص 181.

النتيجة الأولى: انتفاء التكليف.

أو قل: لغوية التكليف، يعني: أن الأوامر والنواهي التي تصدر من الله تعالى تكون لغواً على مذهب الجبر!

المفروض وفق مذهب الجبر أن الانسان لا إرادة له، فلا يستطيع أن يفعل أي شيء أو أن يترك أي شيء. ومعه فلا معنى ولا داعي لأن يأمرنا الله(عزوجل) بالصلاة أو ينهانا عن الغيبة؛ لأنه هو الذي يحركنا ونحن لا إرادة لنا، فيكون تكليفنا بالصلاة مثلاً نظير من يصعد سيارته ويأمرها أن تدور به إلى اليمين، فإن السيارة لها الحق أن تقول بأنها لا إرادة لها، فأمرها بالدوران نحو اليمين لغو، إذ يكفي أن يمسك الآمر بالمقود ويدور بها نحو اليمين.

وكذا بالنسبة لتكليف الله تعالى إيانا بالصلاة مثلاً، إذ لا داعي لتكليفه إيانا بالصلاة لأننا مُجبرون ولا إرادة لنا، ويكفي لتحقق الصلاة منا أن يحركنا بالحركات الأدائية للصلاة، لأن الانسان من دون إرادة واختيار أشبه ما يكون بالدمى، وكما لا يمكن تحقق الحركة من الدمى إلا بتحريكها، كذلك لا يمكن تأدية الإنسان للصلاة إلا بتحريكه، فإن صدرت أوامر تكليفية تأمره بالحركة، كانت تلك الأوامر عبثاً ولغواً، وسيكون من صدرت منه ليس سوى عابث يفتقر إلى الحكمة.

وبعبارة مختصرة: أن التكليف فرع الاختيار، ومع الجبر لا اختيار، فلا تكليف.

لذا لا يصح من العقلاء أن يطلبوا من الإنسان المشلول أن يكتب رسالة، ويحكمون على هذا التكليف بأنه لغو؛ لأنه مشلول لا يستطيع أن يحرك يده فكيف يصح تكليفه بما لا يستطيع؟! وكذا الإنسان وفقاً لمذهب الجبر هو إنسان مشلول لا يستطيع أن يحرك

ص: 199

أي شيء باختياره.

النتيجة الثانية: أن الجبر يؤدي الى تملص وتبرؤ المجرم من جريمته.

بحجة أنه لم يكن مختاراً بفعله للجريمة، وفي نفس الوقت لا يحق للمعتدى عليه أن يحاسب المجرم ويطالبه بحقه منه؛ إذ إن الفعل لم يصدر منه، إنما صدر من الله(عزوجل)، فإن كان للمظلوم أن يتظلم جراء ذلك فعليه يعاتب الله تعالى ويلومه على ذلك؛ لأن المجرم لم يكن سوى آلةً يحركها الله سبحانه!

وهذا ما ركز عليه السلاطين وخصوصاً بني أمية.

ومن الواضح جداً بطلان هذه النتيجة، وأن الإيمان بها يؤدي إلى خلل واضح في النظام العام لحياة الفرد والمجتمع؛ إذ لا توجد وفقها أي ضوابط تضبط المجتمع، وكل فرد سيكون غير مسؤول عما يصدر منه من أفعال، فتنتفي بذلك المسؤولية تماماً عن الانسان، ونتيجة ذلك انعدام الانضباط في المجتمع؛ لأن الانضباط هو فرع تحمل المسؤولية، ومع عدم اختيار الإنسان فلا مسؤولية عليه، فلا نظام في المجتمع، وهذا يعني: أن عقيدة الجبر تؤدي إلى الفوضى تماماً.

النتيجة الثالثة: نسبة الظلم إلى الله تبارك وتعالى.

وقد أشار إلى هذه النتيجة الشيخ المظفر(رحمه الله علیه) بقوله: «ومن يقول بهذه المقالة فقد نسب الظلم اليه تعالى عن ذلك».

فالجبر يستلزم نسبة الظلم إلى الله جل وعلا، ويمكن تصوير نسبة الظلم الى الله(عزوجل) بتصويرين:

التصوير الأول: أن الجبر يعني أن الظالم لم يفعل هو الظلم، بل إن الذي فعله في

ص: 200

الحقيقة هو الله جل وعلا -تعالى عن ذلك علوا كبيراً- لذا قال عبيد الله بن زياد كما تقدم: «أوليس قتل الله عليا؟» فنسب القتل إلى الله.

وكذلك معاوية قال: «ولقد أمّرني الله عليكم» أي إن الذي أعطاني الأمارة عليكم هو الله جل جلاله، وعليه فإن كل المظالم إنما صدرت منه تعالى، وهذا يستلزم نسبة الظلم إليه(عزوجل)!

التصوير الثاني: أن الله تعالى وحسب صريح القرآن الكريم والأمر المتفق عليه وفق جميع المسلمين، قد أوعد المذنبين بالنار، ولكن وفقاً لنظرية الجبر فإن الذي يفعل الظلم في الحقيقة هو الله سبحانه؛ لأن الذنب لا يصدر من الإنسان، وإنما يصدر من الله(عزوجل) -تعالى عن ذلك علوا كبيراً- فمثلاً من يقتل شخصاً فليس هو المذنب؛ لأن الفعل في الحقيقة من الله تعالى، ولكن بالرغم من ذلك فإن العقوبة ستقع على الإنسان، فيُعاقب على فعل لم يصدر منه، وهذا هو عين الظلم.

هذا كله في الدليل الثاني على بطلان الجبر.

الدليل الثالث:

أن عقيدة الجبر مخالفة لصريح الآيات القرآنية الكريمة التي تصرح بأن الإنسان هو المسؤول عن فعله لا غيره، وتشير بصراحة إلى نسبة الفعل الى الانسان.

كما في قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾(1)

وقوله عز من قائل: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾(2)

فالآية واضحة في أن الذي يكدح بنصب وجهد وتعب هو الإنسان.

ص: 201


1- النجم 39-0 4.
2- الانشقاق 6.

وقوله تعالى: ﴿وَوُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾(1)

فلاحظ أن العمل نُسبَ إلى المجرمين.

وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَالعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(2)

فقوله (عملوا الصالحات) يؤكد أن الصالحات إنما تصدر من الإنسان، فهو الذي يعمل.

فالآيات الشريفة واضحة جدًا في نسبة الأفعال إلى الإنسان، وهذا يعني أن المسؤول عن الفعل هو الإنسان نفسه، وهذه الآيات تبطل عقيدة الجبر.

المذهب الثاني: التفويض المعتزلي.

وللإحاطة بهذه العقيدة لا بد من التعرّض إلى منشئها وخلاصة دعواها ثم أدلة إبطالها. وهو ما سنأتي عليه تباعاً ضمن الخطوات التالية:

الخطوة الأولى: منشأ عقيدة التفويض.

لعل المعتزلة لم تقل بالتفويض إلا بعد أن قالت الأشاعرة بالجبر، أي إن القول بالتفويض كأنه أتى ردَّ فعلٍ على القول بالجبر، فالأشاعرة قالوا: إن كل فعل هو صادر في الحقيقة من الله تعالى والإنسان لا مدخلية له في صدور أي فعل منه، وأما المعتزلة المفوضة فقد وقفوا على طرف النقيض من هذه المقالة، فقالوا: إن الإنسان مستقلٌ تماماً عن الله تعالى في فعله!

ص: 202


1- الكهف 49.
2- العصر 1-3.

وقد تقدم أن التفويض المرفوض له معنيان:

الأول: أن الإنسان مستقل في أفعاله، لكن الله تعالى قادر على هذه الافعال وقادر على منعه منها.

المعنى: أن الإنسان مستقل في أفعاله وأن الله تعالى غير قادر على فعل الإنسان وغير قادر على أن يمنعه، وهذه المقالة أسوأ من الاولى.

وبقطع النظر عن هذين المعنيين، يكفينا لإبطال هذه العقيدة التوقف فقط عند المقالة (أن الإنسان مستقل تماماً عن الله تعالى) والتي تعني أن الإنسان غير محتاج إلى الله تماماً..

أما الذي دعا المفوضة إلى القول بالتفويض فهو:

تصورهم بأن تنزيه الله تعالى عن الظلم والحفاظ على العدل الإلهي لا يتحقق إلا بالقول بالتفويض.

بيان ذلك:

أن الأفعال التي تصدر من الإنسان تشتمل على الكثير من الظلم والشرور والقبائح من جهة، ومن جهةٍ أخرى فإن صدور تلك الظلامات والشرور من الإنسان يترتب عليها عقابه كما هو الثابت في الأدلة الشرعية، ولكي ننزه الله تعالى عن هذه النقائص والقبائح من جهةٍ، وننزهه عن نسبة الظلم إليه من جهةٍ أخرى، فإنه لابد من القول بأن هذه الأفعال صادرة من الإنسان مستقلاً عن الله تعالى. وبهذا يتحقق العدل الالهي.

الخطوة الثانية: خلاصة دعوى التفويض.

قالوا: إن الإنسان قد فوّض الله تعالى إليه جميع أفعاله، فهو تعالى خلق عباده وفوّض

ص: 203

لهم جميع أمورهم، وبعدئذٍ غُلّت يده عنهم سبحانه!

فجعلوا الله تعالى أشبه بالذي أخذ حجراً ورماه، فبمجرد أن أفلت الحجر من يديه فإن سلطتنه عليه قد انتهت، فهو قد أوجد الحركة الأولى في رميه لهذا الحجر، ولكن بعد ذلك غُلت يده وعجزت عن أن تصنع شيئاً بهذا الحجر أو توقفه.

وكذلك فإن الله تعالى أخرج الإنسان إلى هذه الدنيا، وبعدها فإن الإنسان يفعل ما يشاء، بحيث إن الله تعالى لا يتدخل في أي شيء والإنسان مستقلٌ تماماً عن الله(عزوجل)، وبعضهم قال بعدم قدرة الله تعالى على التدخل في شؤون الكون والإنسان.

الخطوة الثالثة: الاستدلال على بطلان عقيدة التفويض.

هناك عدة ادلة تدل على بطلانها، منها:

الدليل الأول:

أن القول بالتفويض يستلزم الشرك؛ لأنه قولٌ بأن العبد هو الذي يخلق أفعاله مستقلاً عن الله(عزوجل)، وقد أثبتت مباحث التوحيد أن هناك فاعلاً واحداً مستقلاً في الكون هو الله(عزوجل).

ونقصد بالاستقلال عدم الاحتياج إلى أي شيء خارج الذات، بيد أن المفوضة قالوا بأن الله مستقلٌ في فعله، ولكن الإنسان مستقل في فعله هو الآخر. فصار هناك فاعلان مستقلان بل فواعل مستقلون غير متناهين، فالعالم اليوم ستة مليارات مثلًا، فإذن يوجد اليوم ستة مليارات خالق مستقل، وهذا يستلزم الشرك في التوحيد الأفعالي الذي رام المجبرة منه هرباً، فوقعوا في خلل العدل الإلهي الذي رغبت المفوضة في الحفاظ عليه، فوقعت في الشرك الأفعالي!

ص: 204

فكلاهما سقطوا في ما هو محذور الثاني، لأنهما وقفا على طرفي النقيض، وهذا واضح البطلان.

الدليل الثاني:

أن أهم خصائص الممكن، التي تميزه عن الواجب، هي: أن الممكن محتاج إلى الواجب حدوثاً وبقاءً ومفتقرٌ وغير مستقل لا في أصل وجوده ولا في استمرار وجوده، فقوام الممكن هو الافتقار إلى الواجب، والقول بأن الإنسان مستقل في أفعاله خلاف خصوصية الممكن.

وهذا الدليل يمكن عدُّه تعبيرًا آخر عن الدليل الأول أو لازمًا له.

الدليل الثالث:

أن هناك آيات قرآنية تدل بوضوح على أن أفعال الإنسان لها نحو ارتباط بالله تعالى، وأن الإنسان ليس فاعلاً مستقلاً، بل هو محتاج إلى الإذن الإلهي في كل أفعاله، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ﴾(1)

فهذه الآية تقول بأن الناس فقراء إلى الله تعالى مطلقاً، فيشمل الإطلاق حتى في أفعالهم.

وقوله(عزوجل): ﴿وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾.(2)

وقوله عز من قائل: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ﴾.(3)

وقوله تعالى: ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ﴾.(4)

ص: 205


1- فاطر 15.
2- البقرة 102.
3- البقرة 249.
4- البقرة 251.

وغيرها من الآيات التي تشير وتصرح بوضوح أن الإنسان غير مستقل في أفعاله، بل هناك نحو ارتباط بالله(عزوجل).

هذا نحو الارتباط هو ما لم يفهمه المجبرة ولا المفوضة، وإنما الذي وضحه هم أهلُ البيت(علیهم السّلام).

وقد نهى أهل البيت(علیهم السّلام) عن كل من الجبر والتفويض، وبيّنوا بعض لوازمهما الباطلة، من قبيل ما روي عن أبي حمزة الثمالي أنه قال : قال أبو جعفر الإمام الباقر(علیه السّلام) للحسن البصري: «إياك أن تقول بالتفويض، فإن الله(عزوجل) لم يفوض الأمر إلى خلقه وهناً منه ولا ضعفاً، ولا أجبرهم على معاصيه ظلماً».(1)

ففي هذه الرواية إشارة واضحة من الإمام الباقر(علیه السّلام) على أن القول بالتفويض يؤدي إلى إن الله تعالى غير قادر على الهيمنة على الإنسان، وهذا يستلزم نسبة الضعف والوهن إليه سبحانه، وأما الجبر فيستلزم نسبة الظلم الى الله(عزوجل).

ومنه يتضح: أن الاعتقاد الصحيح هو فقط الاعتقاد بأنه (لا جبر ولا تفويض، إنما هو أمر بين أمرين) وهو ما يعتقد به أهل البيت(علیهم السّلام)..

المذهب الثالث: الأمر بين الأمرين.

ولتوضيحه نذكر الخطوات التالية:

الخطوة الأولى: خلاصة نظرية الأمر بين الأمرين.

إن الأمر بين الأمرين يعني: الاعتقاد بأن الله تعالى لم يجبر عباده على أفعالهم -وهذا معنى لا جبر- ولم يفوض إليهم الأمر تماماً -وهذا معنى لا تفويض، فهم غير مستقلين

ص: 206


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج5 ص 17.

بأفعالهم- وإنما منَحَهم القدرة على الفعل، وترك لهم الاختيار في أن يفعلوا أو لا يفعلوا، مع قدرته على جعلهم يفعلون أو يتركون.

ومنه يتبين أن هذه النظيرة ترتكز على عدة ركائز:

الركيزة الأولى: أن الله تعالى أعطى للعبد القدرة على الفعل أو الترك، يعني أن العبد يفعل فعله بإقدار من الله، وفيها خالَفْنا المجبرة.

الركيزة الثانية: أن إعطاء القدرة للعبد على الفعل وعدمه لا يعني أن الله غير قادر على سلب تلك القدرة، وفيها خالَفْنا المفوضة.

الركيزة الثالثة: أن الله تعالى رغم قدرته على أن يسلب الاختيار من العبد، لكنه جل وعلا لم يفعل ذلك، وإنما ترك الخيار والاختيار للعبد، وبعبارة مختصرة: «أن الله تعالى أجبر العباد على الاختيار» فالعبد مجبور على أن يكون مختاراً، هكذا أراد الله تعالى، فهو ليس مجبوراً على هذا الفعل دون ذاك، أو على ترك هذا الفعل دون ذاك، إنما هو مجبور على اختيار أي فعلٍ يريد وترك أي فعل يشاء، فليس بيده أن لا يكون مختارًا.

فنظام الإنسان قائم على نظام الاختيار، ولذا فإنه إذا كان غير مختارٍ يسقط التكليف عنه؛ لذا كان العاجز غير مكلّفٍ؛ لأنه ليس بمختار، وكذا الميت كما تقدم في شروط التكليف.

وهذا الجبر على الاختيار لا ينافي الاختيار كما هو واضح، وهذا معنى (لا جبر).

أما معنى (لا تفويض) فيعني: أن الله تعالى قد زوّد الإنسان بالقدرة على الفعل والترك ابتداءً واستمراراً، ومثله في ذلك كمثل الطاقة الكهربائية بالنسبة للمصباح، إذ إنها هي التي تمنح المصباح القدرة على الإضاءة منذ بدء إضاءته وطيلة مدة إضاءته،

ص: 207

فإن توقف سريانها إليه ولو لجزء من الثانية فإنه ينطفئ فوراً، وعليه فالله قادرٌ على جبر الإنسان كقدرته على ظلمه، ولكنه لا يفعل، لأن وجود الإنسان في دنيا الاختبار يقتضي منه ذلك، أي يقتضي إعطاء الخيار بيد الإنسان، قال تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾(1)

الخطوة الثانية: مثالان توضيحيان:

ولمزيدٍ من التوضيح لفكرة الأمر بين الأمرين نذكر بعض الأمثلة:

المثال الأول: ذكره السيد الخوئي(رحمه الله علیه).

(لنفرض إنسانًا كانت يده شلاء لا يستطيع تحريكها بنفسه، وقد استطاع الطبيب أن يوجد فيها حركة إرادية وقتية بواسطة قوة الكهرباء، بحيث أصبح الرجل يستطيع تحريك يده بنفسه متى وصلها الطبيب بسلك الكهرباء، وإذا انفصلت عن مصدر القوة لم يمكنه تحريكها أصلًا، فإذا وصل الطبيب هذه اليد المريضة بالسلك للتجربة مثلًا، وابتدأ ذلك الرجل المريض بتحريك يده، ومباشرة الأعمال بها - والطبيب يمده بالقوة في كل آن - فلا شبهة في أن تحريك الرجل ليده في هذه الحال من الأمر بين الأمرين، فلا يستند إلى الرجل مستقلًا، لأنه موقوف على إيصال القوة إلى يده، وقد فرضنا أنها بفعل الطبيب ولا يستند إلى الطبيب مستقلًا، لأن التحريك قد أصدره الرجل بإرادته، فالفاعل لم يجبر على فعله لأنه مريد، ولم يفوض إليه الفعل بجميع مبادئه، لأن المدد من غيره، والأفعال الصادرة من الفاعلين المختارين كلها من هذا النوع. فالفعل صادر بمشيئة العبد ولا يشاء العبد شيئًا إلا بمشيئة الله).(2)

ص: 208


1- الملك 2.
2- البيان في تفسير القرآن للسيد الخوئيv ص 88.

وبالعودة إلى الاعتقاد بالقضاء والقدر نقول: إن الله(عزوجل) وإن منح الإنسان القدرة على فعل الأفعال وتركها، إلا أنه لم يجبره على أن يفعل فعلًا بعينه أو يترك فعلًا بذاته، وكون الإنسان مختارًا في ذلك ينفي الجبر، وفي الوقت نفسه فإنه جل وعلا بإمكانه متى ما شاء أن يقطع فيض القدرة عن الإنسان أو يمنعه من فعل أو ترك، مما يعني أن لا تفويض تام.

المثال الثاني: ما نُسب إلى الشيخ المفيد(1)،

وحاصله:

نفترض أن مولى من الموالي العرفيين يختار عبدًا من عبيده ويزوجه إحدى فتياته، ثم يقطع له قطيعة ويخصه بدار وأثاث، وغير ذلك مما يحتاج إليه الإنسان في حياته إلى حين محدود وأجل مسمى.

فإن قلنا: إن المولى وإن أعطى لعبده ما أعطى، وملكه ما ملك، فإنه لا يملك، وأين العبد من الملك، كان ذلك قول المجبرة.

وإن قلنا: إن المولى بإعطائه المال لعبده وتمليكه، جعله مالكًا وانعزل هو عن المالكية، وكان المالك هو العبد، كان ذلك قول المعتزلة.

ولو جمعنا بين الملكين بحفظ المرتبتين، وقلنا: إن للمولى مقامه في المولوية، وللعبد مقامه في الرقية، وإن العبد يملك في ملك المولى، فالمولى مالك في عين أن العبد مالك، فهنا ملك على ملك، كان ذلك القول الحق الذي رآه أئمة أهل البيت(علیهم السّلام) وقام عليه البرهان...

ص: 209


1- الإلهيات ج2 ص 348 – 349.. وانظر: الميزان للسيد الطباطبائي ج1 ص 100.

الخطوة الثالثة: نصوص دينية تؤيد نظرية الأمر بين الأمرين.

اشارة

هناك عدة روايات تشير إلى هذا المعنى في هذا المثال، ومنها ما روي عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): عن الله أروي حديثي: «أن الله تبارك وتعالى يقول : يا ابن آدم، بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد، وبفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي، وبعصمتي وعوني وعافيتي أديت إليّ فرائضي، فأنا أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك مني».(1)

أي إنّ الله(عزوجل) أجبره على الإرادة والاختيار.

وهناك آيات قرآنية تشير إلى هذا المعنى منها قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمىٰ﴾(2) أي إن الله قتلهم بأيديكم، والذي رمى هو النبيs، لكن الرمي أيضاً هو منسوب إلى الله تعالى.

ومنها أيضاً قوله تعالى: ﴿قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾(3)

إشارات:

الإشارة الأولى: رجوع بعض أهل السنة إلى نظرية الأمر بين الأمرين.

إنّ كثيراً من أهل السنة بعد ما رأوا بطلان مذهب الجبر جملة وتفصيلاً، لم يجدوا بداً من الرجوع الى المبدأ الذي ذكره أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم، وهذا ما هم عليه الآن في كتاباتهم، إذ إنهم يقولون بمذهب الأمر بين الأمرين، ولكن يتعمدون او يغفلون إسناده إلى من رفع لواءه وقال به ودافع عنه، وهم أهل البيت(علیهم السّلام). ويسندون

ص: 210


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص 344 ح 13.
2- الأنفال 17.
3- التوبة 14.

القول فيه إلى (أهل العلم) وعند ذكره يقولون: هذا مذهب أهل العلم. وإليك أخي القارئ بعضٌ من كلماتهم:

1/فخر الدين الرازي صاحب التفسير الكبير المعروف قال ما نصه: «الحق ما قال بعض أئمة الدين: أنه لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين».(1)

2/الشيخ محمد عبده وهو أحد شيوخ الأزهر قال ما نصه: «إن القول بالجبر قول طائفة ضئيلة انقرضت وغلب على المسلمين مذهب التوسط بين الجبر والاختيار، وهو مذهب الجد والعمل(2)».

3/ ذكر سلمان العودة وهو كاتب سعودي في شرح أسماء الله(عزوجل)في شرح اسم القاهر والقهار قال: «فهو القاهر سبحانه لعباده، فلا وجود لهم ولا حركة إلا بإذنه؛ لأنه ربهم ومليكهم وخالقهم ولا حجة بذلك للعباد، فلا يحتج أحد بالقدر وأنه مقهور على فعل الذنوب والمعاصي؛ لأنا نقول: وإن كان الله تعالى هو القاهر وهو القهار وهو الخالق للخلق وما يعملون، إلا أن كل عبد يدرك بالضرورة أنه يفعل ما يفعل باختياره ويترك ما يترك باختياره(3)، فإن هذه الضرورة التي يشعر بها الإنسان وهو يهم بأن يقوم بكل عمل ما، كأن ينوي السفر أو الاقامة أو الأكل أو النوم يؤديها وهو يشعر بأنه يؤديها بمحض اختياره وإرادته ورغبته، وأن له الخيار أن يفعل هذا الشيء أو لا يفعله..».(4)

ص: 211


1- نقله التفتازاني في شرح المقاصد في علم الكلام ج2 ص142 كما نقله الشيخ جعفر سبحاني في الالهيات ج2ص360.
2- نقلاً عن رسالة هل نحن مسيرون أم مخيرون ص11.
3- وهذا إشارة إلى دليل الوجدان الي يبطل الجبر، وقد تقدم.
4- مع الله، لسلمان العودة- ص 107 الطبعة السابعة صفر 1433ه_/ مؤسسة الإسلام اليوم.

الإشارة الثانية: ضرورة الإيمان بالقضاء والقدر تعبّداً.

أن فهم القضاء والقدر وإن كان صعباً على الأفهام، ولكن المطلوب منا أن نؤمن به ولو تعبداً.

والتعبد يعني أن شيئًا أمَرنا به الدين أو أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) ونحن لا نعرف الحكمة به، فيكون المطلوب منا أن نؤمن به من باب أنه جاء في الدين وبالدليل القطعي وإن لم نفهم معناه.

والروايات أكدت هذا الجانب. كما روي عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال:

«...ولو أنفقت جبل أحد ذهبًا في سبيل الله(عزوجل) ما قبله الله منك، حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطأك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مِتَّ على غير ذلك لدخلت النار..».(1)

فاذا نحن مأمورون بالإيمان بالقضاء والقدر بهذا المعنى.

الإشارة الثالثة: حث الروايات على عدم الخوض كثيراً في القضاء والقدر.

أن القضاء والقدر حيث إن فهمهما صعب، فقد وردت الروايات عن أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) بعدم الخوض كثيراً في هذه المسألة، إلا لمن كان عنده مقدمات علمية ويمتلك القابلية الذهنية والفكرية اللازمة لفهم هذه الحقيقة الصعبة، لذلك ورد عن أمير المؤمنين8 - وسُئِلَ عَنِ القَدَرِ - فَقَالَ: «طَرِيقٌ مُظْلِمٌ فَلَا تَسْلُكُوه، وبَحْرٌ عَمِيقٌ فَلَا تَلِجُوه، وسِرُّ الله فَلَا تَتَكَلَّفُوه».(2)

وفي رواية أخرى عنه أيضاً أنه قال في القدر: «ألا إن القدر سرٌّ من سر الله، وستر من ستر الله، وحرز من حرز الله، مرفوع في حجاب الله، مطوي عن خلق الله، مختوم

ص: 212


1- مسند أحمد بن حنبل ج5 ص 182 – 183.
2- نهج البلاغة ج4 ص 69 الحكمة رقم (287).

بخاتم الله، سابق في علم الله، وضع الله العباد عن علمه ورفعه فوق شهاداتهم ومبلغ عقولهم لأنهم لا ينالونه بحقيقة الربانية ولا بقدرة الصمدانية ولا بعظمة النورانية ولا بعزة الوحدانية، لأنه بحر زاخر خالص لله تعالى، عمقه ما بين السماء والأرض، عرضه ما بين المشرق والمغرب، أسود كالليل الدامس...»(1)

الخلاصة:

نحن مأمورون بالإيمان بالقضاء والقدر، وأننا نعيش وفق الأمر بين الأمرين.

فإن فهمنا هذا الأمر فبها ونعمت، وهذا يحتاج إلى مقدمات علمية وتدقيق وتأمل.

وإن لم نفهمه فيجب أن نؤمن به تعبداً، ومن لم تكن له القدرة العقلية في الخوض في هذه المسائل فالأفضل أن يكتفي بالتعبد قائلاً: أنا أرى نفسي مختاراً في أعمالي، والله(عزوجل) لا يجبرني، لأنه لا يظلم وأنا لا أخرج عن سلطته وقدرته، وهذا المعنى يكفي.

ومن الجدير بالذكر أن بحث القضاء والقدر عادة يترجم بالجبر والتفويض، وقد يعبر عنه بالمصير، أي إنه يُسأل فيه عن مصير الإنسان وأنه بيده أو بيد غيره.

ص: 213


1- التوحيد للشيخ الصدوق 2 383 – 384.

ص: 214

عقيدتنا في البداء

اشارة

قال(قدس سره):

«عقيدتنا في البداء:

البداء في الإنسان: أن يبدو له رأيٌ في الشيء لم يكن له ذلك الرأي سابقاً، بأن يتبدَّل عزمه في العمل الذي كان يريد أن يصنعه؛ إذ يحدث عنده ما يغيّر رأيه وعلمه به، فيبدو له تركه بعد أن كان يريد فعله، وذلك عن جهل بالمصالح، وندامة على ما سبق منه.

والبداء بهذا المعنى يستحيل على الله(عزوجل)؛ لأنه من الجهل والنقص، وذلك محال عليه تعالى، ولا تقول به الامامية.

قال الصادق(علیه السّلام): «مَن زعم أنّ الله تعالى بدا له في شيء بداء ندامة فهو عندنا كافرٌ بالله العظيم»، وقال أيضاً: «من زعم أن الله بدا له في شيءٍ ولم يعلمه أمس فأبرأ منه»

غير أنّه وردت عن أئمتنا الأطهار(علیهم السّلام) رواياتٌ توهم القول بصحة البداء بالمعنى المتقدِّم، كما ورد عن الصادق(علیه السّلام): «ما بدا لله في شيء كما بدا له في اسماعيل ابني» ولذلك نَسبَ بعض المؤلفين في الفرق الإسلامية إلى الطائفة الإمامية القول بالبداء طعناً في المذهب وطريق آل البيت، وجعلوا ذلك من جملة التشنيعات على الشيعة.

والصحيح في ذلك أن نقول كما قال الله(عزوجل) في محكم كتابه المجيد: ﴿يَمْحوُا اللهُ ما يَشَآءُ وَيُثبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ﴾

ص: 215

ومعنى ذلك: أنّه(عزوجل) قد يُظهر شيئاً على لسان نبيِّه أو وليِّه، أو في ظاهر الحال لمصلحة تقتضي ذلك الاِظهار، ثم يمحوه فيكون غير ما قد ظهر أولاً، مع سبق علمه تعالى بذلك، كما في قصة اسماعيل لما رأى أبوه إبراهيم أنّه يذبحه.

فيكون معنى قول الإمام(علیه السّلام): أنّه ما ظهر لله (سبحانه) أمر في شيءٍ كما ظهر له في اسماعيل ولده؛ إذ اخترمه قبله ليعلم الناس أنّه ليس بإمام، وقد كان ظاهر الحال أنّه الاِمام بعده؛ لأنّه أكبر ولده.

وقريبٌ من البداء في هذا المعنى نسخ أحكام الشرائع السابقة بشريعة نبيِّنا(صلی الله علیه و آله و سلم)، بل نسخ بعض الأحكام التي جاء بها نبينا(صلی الله علیه و آله و سلم)». انتهى.

إنّ بحث البداء من البحوث العقائدية المهمة، وله ارتباطٌ وثيقٌ ببحث صفة العلم من جهة، وببحث القضاء والقدر من جهةٍ أخرى؛ لذا يصح ذكره بعد هذا أو ذاك. ولبيان البداء بشكل جلي لا بد من التطرق إلى معناه لغةً واصطلاحاً وإلى موقعه والحكمة منه وأخيراً الفرق بينه وبين النسخ، ضمن الجهات التالية:

الجهة الأولى: البداء بمعناه اللغوي.

البداء لغةً: هو الظهور بعد الخفاء، فهو يقوم على ركنين أساسيين:

الأول: ظهور أمرٍ كان خافياً أولاً، كأن تنوي أن تفعل شيئاً ما، وقبل أن تفعله يظهر لك أمر كنت تجهله، ولم تكن تعلم به سابقاً.

الثاني: ترك الأمر الأول بعد أن لم تكن عازماً على تركه، بسبب علمك بالأمر الذي كنت تجهله.

فالبداء بعبارة أخرى هو العزم على فعل أمر ثم تركه لظهور الأمر الثاني، كأن ترى

ص: 216

إنساناً من بعيد فتقرّر أن تكرمه لأنه صديقك كما تصورت، فالفعل الأول هو الإكرام. ولكن عندما تصل إليه وتقترب منه يظهر لك أنه عدوك مثلاً، فيظهر لك أمر جديد لم يكن ظاهراً لك منذ البداية، وهو أن القادم عدوك، فيؤثر في عزمك ويتسبب في تركك الأمر الأول الذي كان لديك عزمٌ على فعله، وهو إكرامه، إلى عزم آخر وهو عدم إكرامه.

وبلا أدنى شك أن البداء بهذا المعنى لا يمكن أن ينطبق على الله تعالى؛ إذ لا أمر يخفى عليه البتة ليظهر ويبدو له فيما بعد، والذي ينسب البداء إليه سبحانه بالمعنى المتقدم إنما هو بقوة الكافر؛ لأنه ينسب الجهل والنقص والندامة لله(عزوجل)، فأما الجهل فلأنه ظهر له أمر لم يكن عالماً به منذ البداية، وأما الندامة فلأن تركه الأمر الاول بعد عزمه عليه لظهور أمر جديد إنما يعني أنه ندم على قراره الأول فتركه.

وهذا المعنى لا يقول به مسلم في الله(عزوجل)؛ لذا ذكر الشيخ(رحمه الله علیه) حديثين في هذا المجال عن الامام الصادق(علیه السّلام): «من زعم أنّ الله تعالى بدا له في شيء بداء ندامة فهو عندنا كافر بالله العظيم»(1)

وفيه إشارة إلى الركن الثاني من البداء بالمعنى المتقدم.

وذكر رواية أخرى قال: «من زعم ان الله بدا له في شيء لم يعلمه امس فابرأ منه»(2)

وفيه إشارة إلى الركن الأول.

وبالتالي فليس من الصحيح نسبة البداء إليه جل جلاله بالمعنى اللغوي، وإنما عُبِر عنه بالبداء مجازاً من باب المشاكلة في التسمية، كما عبّر الله جل شأنه عن نفسه بأنه يمكر

ص: 217


1- الاعتقادات في دين الإمامية للشيخ الصدوق ص 41.
2- الاعتقادات في دين الإمامية للشيخ الصدوق ص 41.

في قوله: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ﴾(1)

الجهة الثانية: البداء بمعناه الاصطلاحي.

تقدّم أن البداء بمعناه اللغوي لا تصح نسبته إلى الله(عزوجل)، مما يعني أن للبداء معنىً آخر، وهو الذي ننسبه إلى الباري جل وعلا، وهو في حقيقة الأمر بمعنى إبداء، أي الإظهار المسبوق بالعلم.

لتوضيح الفرق بين البداء والإبداء نذكر مثالًا:

لو رغبت أن تُكني عن جمال امرأة فقلت: هي كالقمر. ثم التفتَّ لتجدَ أن الشمس أجمل من القمر فقلت: بل هي كالشمس. هنا إذا لم يكن لديك علمٌ بأنك ستترقى من القمر إلى الشمس بل كنت من البداية تريد أن تصفها فقط بالقمر، معتقداً أن أجمل شيء توصف به المرأة هو القمر، فقلت: هي كالقمر، ثم بدا وظهر لك أن الشمس أجمل من القمر، فقلت: هي كالشمس، فهذا بداء بالمعنى اللغوي.

ولكن قد تكون منذ البداية عالماً بأن الشمس أجمل من القمر، لكن كنت تريد -لهدف من الأهداف أو لحكمة من الحكم- أن تصفها أولاً بالقمر ثم تلغي هذا الوصف وتنتقل إلى وصف آخر، فتقول: هي كالقمر بل هي كالشمس، فهذا إبداء، وهو أنك أظهرت شيئاً كنت تعلمه منذ البداية لكن أخفيته في البداية ثم أظهرته في الوقت الذي تجده مناسباً للإظهار، وهذا ما نقوله في الله(عزوجل) وهو: أنه تبارك وتعالى أظهر أمراً ثم أظهر أمراً آخر وقد سبق في علمه بأنه سيلغي الأمر الأول ويمحوه ويثبت الثاني.

ص: 218


1- الأنفال 30.

ركائز البداء

اشارة

ويستند بداء الله تعالى -والذي هو في حقيقته إبداء كما تقدّم- على ركائز ثلاثة -وهي من الأصول الموضوعية في بحث البداء وتم إثباتها في مباحث سابقة وتم الاستدلال عليها- وهي:

الركيزة الأولى: السلطة المطلقة لله(عزوجل) والقدرة غير المحدودة.

بحيث يمكنه(عزوجل) أن يفعل ما يشاء ويغيّر ما يشاء من أمر المخلوقات وتقديراتها.

وهذا أصل ثابت في بحث صفة القدرة، وهو أن الله على كل شيء قدير، وطالما هو كذلك فهو يملك أن يغيّر هذا التقدير والأمر التكويني، فيترك أمراً ويُظهِر أمراً جديداً، أي هو ترجمة عملية لقدرة الله(عزوجل).

الركيزة الثانية: أنّ الله تعالى حكيم.

فلا يغير تقديراً ما إلا لحكمةٍ ومصلحةٍ واقعيةٍ، فلا يفعل شيئًا عبثًا ولا جاهلًا بالعبث ولا مضطرًا إليه، فإذا علمنا ذلك لا يهم بعدئذٍ أن لا نعرف ما هي الحكمة أو المصلحة؛ لأن الحكيم لا يسأل عما يفعل.

الركيزة الثالثة: العلم الإلهي المطلق.

وأن هذا التغيير جاء عن علم مسبق منه جل وعلا، غير مسبوق بجهل.

الجهة الثالثة: أين يقع البداء، وأقسام القضاء والقدر.

تقدّم أن البداء يرتبط ببحث العلم من جهةٍ، وببحث القضاء والقدر من جهةٍ اخرى؛ لذا يصح بحثه بعد أيٍ منهما.

وبما أن الشيخ المظفر (طيّب الله ثراه) قد أدرجه بعد بحث القضاء والقدر؛ لذا

ص: 219

سنبين موقعه بالنسبة إلى هذا البحث فنقول:

ينقسم القضاء إلى ثلاثة أقسام هي:

القسم الأول: قضاء لم يطلع عليه أحد إلا الله(عزوجل)، وهو علم الله تعالى المخزون في اللوح المحفوظ.

وهذا القسم لا يمكن أن يحصل فيه بداء.

القسم الثاني: قضاء أخبر الله تعالى به بعض مخلوقاته، كالأنبياء والرسل والملائكة، وأخبَرهم أيضاً بأنه واقع لا محالة.

وهذا لا يقع فيه البداء أيضاً، مثاله ظهور الإمام المهدي(عجل الله تعالی فرجه الشریف). فقد روي عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري، قال: كنّا عند أبي جعفر محمّد بن عليٍّ الرضا(علیه السّلام)، فجرىٰ ذكر السفياني، وما جاء في الرواية من أنَّ أمره من المحتوم، فقلت لأبي جعفر: هل يبدو لله في المحتوم؟ قال: «نعم»، قلنا له: فنخاف أنْ يبدو لله في القائم، فقال: «إنَّ القائم من الميعاد، والله لا يُخلِف الميعاد»(1).

فأمر القائم أمر مستقبلي أخبر الله تعالى أنبياءه ورسله، وأخبر بأنه واقع لا محالة؛ لأنه من الميعاد، فهذا لا يقع فيه البداء.

القسم الثالث: قضاءٌ أخبر الله بعض أنبيائه ورسله، وأخبرهم بأنه معلّق على مشيئته، أي إنْ شاء أمضاه وإنْ شاء ألغاه وفق شروط خاصة.

وهذا القضاء هو الذي يقع فيه البداء. كما روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله(علیه السّلام) قَالَ: «مَرَّ يَهُودِيٌّ بِالنَّبِيِّ(صلی الله علیه و آله و سلم) فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ! فَقَالَ رَسُولُ الله(صلی الله علیه و آله و سلم): عَلَيْكَ. فَقَالَ أَصْحَابُه: إِنَّمَا سَلَّمَ

ص: 220


1- الغيبة للنعماني (ص 314 و315/ باب 18/ ح 10).

عَلَيْكَ بِالمَوْتِ، قَالَ: المَوْتُ عَلَيْكَ! قَالَ النَّبِيُّ(صلی الله علیه و آله و سلم): وكَذَلِكَ رَدَدْتُ. ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ(صلی الله علیه و آله و سلم): إِنَّ هَذَا اليَهُودِيَّ يَعَضُّه أَسْوَدُ فِي قَفَاه فَيَقْتُلُه.

قَالَ: فَذَهَبَ اليَهُودِيُّ فَاحْتَطَبَ حَطَباً كَثِيراً فَاحْتَمَلَه، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنِ انْصَرَفَ، فَقَالَ لَه رَسُولُ الله(صلی الله علیه و آله و سلم): ضَعْه. فَوَضَعَ الحَطَب، فَإِذَا أَسْوَدُ فِي جَوْفِ الحَطَبِ عَاضٌّ عَلَى عُودٍ! فَقَالَ: يَا يَهُودِيُّ، مَا عَمِلْتَ اليَوْمَ؟ قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلاً إِلَّا حَطَبِي هَذَا احْتَمَلْتُه فَجِئْتُ بِه، وكَانَ مَعِي كَعْكَتَانِ [أي خبزتان] فَأَكَلْتُ وَاحِدَةً وتَصَدَّقْتُ بِوَاحِدَةٍ عَلَى مِسْكِينٍ. فَقَالَ رَسُولُ الله(صلی الله علیه و آله و سلم): بِهَا دَفَعَ الله عَنْه. وقَالَ: إِنَّ الصَّدَقَةَ تَدْفَعُ مِيتَةَ السَّوْءِ عَنِ الإِنْسَانِ».(1)

فقد محى الله(عزوجل) التقدير الأول -وهو موت اليهودي- وأثبت التقدير الثاني -وهو عدم موته-، ومدّ في حياته التقدير الثاني بسبب الصدقة التي تصدّق بها على المسكين.

وكلا التقديرين داخل في علم الله تعالى؛ لأنه يعلم بالعلل التامة، أي إنه سبحانه يعلم أن التقدير الأول هو موت اليهودي بسبب ما قال للرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) فيما لو لم يمنع مانع من وقوع الموت، ولكنه كان عالماً أيضاً بأنه سيتصدق، والصدقة تطيل العمر، فهي من موانع تقدير الموت؛ ولذا كان عالماً أيضاً بالتقدير الثاني، وعليه فإن الأمر قد يبدو بداءً بالنسبة لنا نحن العبيد، أما بالنسبة إليه سبحانه فلا بداء، بل هو إبداءٌ أي إظهارٌ لما كان يعلمه سابقاً لنا بهيأة حوادث على أرض الواقع.

الجهة الرابعة: ما المصلحة من البداء؟

اشارة

أو لماذا الله(عزوجل) يجعل هناك تقديرات معلقة ومشروطة؟

ذكر العلماء (رضوان الله عليهم) أنّ في البداء عدة مصالح، نذكر منها اثنتين:

ص: 221


1- الكافي للكليني ج4 ص 5 بَابُ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَدْفَعُ البَلَاءَ ح3.
الأولى: البداء يولّد الأمل في النفوس.

فإذا علم الإنسان أنّ كل شيء قابل للتغيير، إذن يمكن أن يُصبح الفقير غنياً، والجاهل عالماً، ومن الممكن أن يغدو الحزن فرحاً والألم راحةً ويعقب المرضَ صحةٌ والعسرَ يسرٌ، وحينها فإنه لن ييأس، وسيبذل جهده ساعياً لبلوغ ذلك التغيير.

الثانية: البداء من أقوى الدوافع نحو التوبة.

فإنه إنْ علم الإنسان أنه مهما فعل من ذنوب ومهما كتبت الملائكة عليه من سيئات، فإن الله تعالى من الممكن أن يمحوها بل يبدلها حسنات فيما لو تاب توبة صادقة، فإن هذا سيولّد لديه الدافع نحو التوبة، على حين أن عدم الاعتقاد به يولّد القنوط من رحمة الله، بل قد يؤدي إلى التمادي في المعاصي أيضاً؛ إذ إن العاصي لو اعتقد أنْ لا سبيل إلى محو الذنوب؛ لأن الصحف جفت والأقلام رُفعت، فإنه سيصيبه اليأس لا محالة، وقد يدفعه ذلك إلى ارتكاب المزيد من المعاصي.

استطراد:

نظير هذه الفكرة هي التي يجب أن نبثها في الناس في قضية الامام المهدي(علیه السّلام)، فإن البعض من الناس يتصور أن الامام إذا ظهر فسيغلق باب التوبة، وهو ليس بصحيح؛ للروايات المتكاثرة على أن الامام(علیه السّلام) سيفتح باب التوبة على مصراعيه...

وبدليل إرساله النفس الزكية لأهل مكة، فإن لم يكن هناك باب للتوبة لكان من الممكن أن يظهر مباشرة ويقتل النواصب...

ثم إنه وما الجدوى من جلوسه مع اليهود والنصارى ومناقشتهم بالتوراة والانجيل لإقناعهم بالدليل العلمي. أوليس هذا مؤشرًا على دليل قبول التوبة؟

ص: 222

وما الجدوى من بعث بعض رجاله الى مدينة القسطنطينية مثلاً؟ وفي الرواية أنهم يمشون على الماء وأهل القسطنطينية يفتحون أبوابهم سلمًا وجنود الامام لا يقتلونهم ولا يقاتلونهم، فهذا أيضاً مؤشر على قبول التوبة.

فعن محمّد بن جعفر بن محمّد، عن أبيه(علیهم السّلام)، قال: «إذا قام القائم بعث في أقاليم الأرض في كلّ إقليم رجلاً، يقول: عهدك في كفّك، فإذا ورد عليك أمر لا تفهمه ولا تعرف القضاء فيه فانظر إلىٰ كفّك واعمل بما فيها»، قال: «ويبعث جنداً إلىٰ القسطنطينية، فإذا بلغوا الخليج كتبوا علىٰ أقدامهم شيئاً ومشوا علىٰ الماء، فإذا نظر إليهم الروم يمشون علىٰ الماء قالوا: هؤلاء أصحابه يمشون علىٰ الماء، فكيف هو؟! فعند ذلك يفتحون لهم أبواب المدينة، فيدخلونها فيحكمون فيها ما يريدون»(1).

مثل هذه المعاني يجب أن نزرّقها للناس؛ لئلا يتولد عندهم إحساس داخلي بكراهة الامام المهدي(علیه السّلام).

الجهة الخامسة: ما الفرق بين النسخ والبداء؟

يحسن بنا قبل التطرق إلى الفرق بين النسخ والبداء أن نبين بإيجاز معنى كل منهما، وقد تقدم بيان معنى البداء فنقتصر على بيان النسخ.

النسخ لغة: هو الاستكتاب، كالاستنساخ عندما تنسخ الكتاب على دفترك، ويأتي أيضاً بمعنى النقل والتحويل والإزالة، يقال: نسخت الشمسُ الظلَّ يعني أزالتْه.

وأما اصطلاحاً: فهو رفع أمر ثابت في الشريعة المقدسة لانتهاء أمده وزمانه.

أي هو حكم شرعي صدر من الله(عزوجل) ثم أُلغيَ -إلغاءً كلياً أو جزئياً-؛ لانتهاء

ص: 223


1- الغيبة للنعماني: 334 و335/ باب 21/ ح 8.

المصلحة المترتبة على تشريعه، نحو ما قيل في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾(1).

وفيها حكَم الله تعالى بوجوب تقديم صدقة على كل من يريد أن يناجي النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، وتذكر الروايات أنه لم يمتثل لهذا الحكم سوى أمير المؤمنين(علیه السّلام)، حيث اقترض ديناراً وصرّفه عشرة دراهم، وسأل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) عشرة مسائل. وبعد أن انتهى وقت هذا التكليف نُسخ الحكم وأُلغي.(2)

ما الفرق بين النسخ والبداء؟

أما وجه الاتفاق بينهما فإنهما يعنيان إلغاء ما كان ثابتاً عن علم مسبق من الله تعالى وحكمة ومصلحة إلهية.

ويختلفان في:

أولاً: أن البداء متفقٌ على إمكانه ووقوعه، على حين أن النسخ اختلف في إمكانه، ومن قال بالإمكان اختلف في وقوعه، أي إنه ممكن ولكن هل وقع في شريعتنا أو لا.

ثانياً: أن البداء يتعلق بالأمور التكوينية عادة والحوادث الخارجية، مثلًا الموت، وإنزال العذاب أو تقدير العمر وما شابه، أما النسخ فيتعلق بالأحكام التشريعية -الوضعية منها والتكليفية- أي وظائف المكلفين.

ص: 224


1- المجادلة 12.
2- في الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي) للقرطبي ج17 ص 302 ما نصه: ذكر القشيري وغيره عن علي بن أبن طالب أنه قال: «في كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، وهي: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾ كان لي دينار فبعته، فكنت إذا ناجيت الرسول تصدقت بدرهم حتى نفد، فنسخت بالآية الأخرى ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ﴾». وكذلك قال ابن عباس: نسخها الله بالآية التي بعدها. وقال ابن عمر: لقد كانت لعلي رضي الله عنه ثلاثة لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم: تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى.

ثالثاً: البداء عادة ما يُبحث في علم الكلام، أما النسخ فيُبحث في أصول الفقه. وقد يبحث الاثنان في علوم القرآن.

توضيح:

ذكر الشيخ المظفر(عجل الله تعالی فرجه الشریف)

(رحمه الله علیه) رواية عن الامام الصادق(علیه السّلام) قال: «ما بدا لله في شيء كما بدا له في اسماعيل ابني»(1)

هنا توجد روايتان في هذا المجال، ففي رواية التوحيد الأولى للشيخ الصدوق ورد «في إسماعيل ابني» يعني إسماعيل الابن الأكبر للإمام الصادق(علیه السّلام) وهو أكبر من الإمام الكاظم(علیه السّلام)، وكان رجلًا صالحًا، فكان بعض المؤمنين يتصور أنه هو الذي سيكون إماماً بعد أبيه(علیه السّلام)، فتوفاه الله تعالى في حياة أبيه(علیه السّلام) فظهر للناس أنه ليس هو الإمام بل هو الإمام الكاظم(علیه السّلام).

ولعل الشيخ (طيب الله ثراه) يقصد الرواية الثانية التي رواها الصدوق أيضًا، وهي «ما بدا لله بداء كما بدا له في إسماعيل أبي، إذا أمر أباه إبراهيم بذبحه ثم فداه بذبح عظيم»(2)،

فيكون حينئذٍ الكلام عن النبي إسماعيل(علیه السّلام) وكيف أن الله سبحانه أمر أباه إبراهيم(علیه السّلام) بذبحه اختبارًا، وعندما نجح في الاختبار أُلغي ذلك الأمر.

ص: 225


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص 336 ح10.
2- التوحيد للشيخ الصدوق ص 336 ح11.

ص: 226

عقيدتنا في أحكام الدين

اشارة

قال(قدس سره):

«عقيدتنا في أحكام الدين

نعتقد: أنّه تعالى جعل أحكامه من الواجبات والمحرَّمات وغيرهما طبقاً لمصالح العباد في نفس أفعالهم، فما فيه المصلحة الملزمة جعله واجباً، وما فيه المفسدة البالغة نهى عنه، وما فيه مصلحة راجحة ندبنا إليه، وهكذا في باقي الأحكام، وهذا من عدله ولطفه بعباده.

ولا بدّ أن يكون له في كل واقعةٍ حكمٌ، ولا يخلو شيءٌ من الأشياء من حكمٍ واقعي لله فيه، وإن انسدَّ علينا طريق علمه. ونقول أيضاً: إنّه من القبيح أن يأمر بما فيه المفسدة، أو ينهى عمّا فيه المصلحة.

غير أنّ بعض الفِرق من المسلمين يقولون: إنّ القبيح ما نهى الله(عزوجل) عنه، والحسن ما أمر به، فليس في نفس الاَفعال مصالح أو مفاسد ذاتية، ولا حسن أو قبح ذاتيان، وهذا قولٌ مخالفٌ للضرورة العقلية.

كما أنّهم جوَّزوا أن يفعل الله(عزوجل) القبيح فيأمر بما فيه المفسدة، وينهى عما فيه المصلحة. وقد تقدَّم أنّ هذا القول فيه مجازفةٌ عظيمةٌ، وذلك لاستلزامه نسبة الجهل أو العجز إليه (سبحانه)، تعالى علواً كبيراً.

والخلاصة: أنّ الصحيح في الاعتقاد أن نقول: إنّه(عزوجل) لا مصلحة له ولا منفعة في

ص: 227

تكليفنا بالواجبات ونهينا عن فعل ما حرَّمه، بل المصلحة والمنفعة ترجع لنا في جميع التكاليف، ولا معنى لنفي المصالح والمفاسد في الأفعال المأمور بها والمنهي عنها؛ فإنّه تعالى لا يأمر عبثاً ولا ينهى جزافاً، وهو الغني عن عباده». انتهى.

قد تقدم الحديث عن أغلب ما ذكره الشيخ المظفر(رحمه الله علیه) في هذه العقيدة، خصوصًا في مباحث العدل وحسن التكليف والقضاء والقدر؛ لذا فما ذكره هنا هو أشبه ما يكون بفهرسة عامة لما ذكره سابقًا. وللإحاطة بهذا المبحث أكثر، يحسن بنا بيان عدة نقاط:

النقطة الأولى: أن لله تعالى حكماً في كل واقعة.

يعتقد الإمامية أن لله تعالى حكمًا في كل واقعة. سواء كان وضعيًا من قبيل الصحة والبطلان، كصحة عقد الزواج فيما لو اشتمل على شروط الصحة، وبطلان عقد الربا، أو تكليفيًا كالحكم بالوجوب والحرمة والكراهة والاستحباب والإباحة، فإن الدين الإلهي جاء ليسد جميع الفراغات وفي شتى مجالات الحياة الإنسانية، وفي مختلف علاقات الإنسان، سواء علاقة الإنسان بنفسه أو بالإنسان الآخر مثله أو بربه جل وعلا.

النقطة الثانية: استناد الأحكام إلى المصالح والمفاسد الواقعية.

نعتقد أن ملاك تشريع الأحكام التكليفية هو مدى موافقتها لمصلحة أو مفسدة واقعية.

والمصلحة قد تكون ملزِمة، يعني: شديدة، بحيث لا تقبل الترك، فيشرع على أساسها حكم واجب.

وإن كانت المصلحة ليست بتلك الشدة، فيشرع على وفقها حكم مستحب.

وإن كانت المفسدة شديدة جدًا تمنع من الفعل، فيشرع على وفقها حكم تحريمي.

ص: 228

وإن كانت غير ملزمة وليست بتلك الشدة، فيشرع على وفقها حكم كراهتي تنزيهي.

وإذا كانت المصلحة والمفسدة متساويتين، لا ترجيح لإحداهما على الأخرى فهو المباح.

وتسمى الأحكام الواجبة والأحكام التحريمية بالأحكام الإلزامية، أي التي لابد من الالتزام بها.

فيما يسمى سواهما بالأحكام غير الالزامية وهي (المستحب والمكروه والمباح).

النقطة الثالثة: عدم التكليف بمعرفة العلل الواقعية للأحكام.

تمثل المصالح والمفاسد الواقعية التي تبتني عليها الأحكام التكليفية عللًا تامة لها، وهي عللٌ لسنا مكلفين بمعرفتها، بل قد نكون عاجزين عن معرفتها أيضًا.

نعم، قد نستكشف من خلال بعض الروايات الشريفة بعض الحكم الداعية إلى تشريع تلك الاحكام، والحكمة غير العلة؛ فالحكمة يمكن أن توضّح الدافع نحو الفعل، أو الثمرة المترتبة عليه، وما يمكن أن يستفاد من هذا الحكم، على حين أن العلة هي السبب الرئيسي لتشريع الحكم، بحيث متى ما انتفت انتفى الحكم من رأس.

ومنه يتضح أن تسمية الشيخ الصدوق لكتابه باسم: (علل الشرائع) لم يكن قاصدًا بها العلل الحقيقية، بل يقصد ما استفاده من الروايات الشريفة من حِكَمٍ وثمرات تترتب على تشريع الأحكام الشرعية.

وللمزيد من توضيح الفرق بين العلة التامة والحكمة نقول:

إن واحدة من ثمرات تشريع الصوم وحِكَمِه هو أن يشعر الغني بجوع الفقير،

ص: 229

فيتولد لديه الحافز لإعطاء الفقير من ماله، فلو فرضنا أن الناس كلهم أصبحوا أغنياء، فإن حكم وجوب الصوم لا يسقط، فلو كانت علة الصوم ما تقدم، للزم أن يسقط الحكم بانتفائها؛ لأن الحكم يدور مدار العلة ثبوتًا وانتفاءً، فإذا انتفت العلة فإنه ينتفي المعلول.

وكذا بالنسبة لتشريع الخمس والزكاة، فإن الحكمة منه -لا علته التامة- هي اختبار الإنسان وتعويده على القناعة وعدم الطمع وإغناء الفقير. والدليل: أن الناس لو أصبحوا بأجمعهم قنوعين أو أغنياء، فإن حكم وجوب الخمس أو الزكاة لا يسقط. كما تذكر الروايات الشريفة وقوع ذلك في دولة الامام المهدي(علیه السّلام). إذ يصبح جميع الناس أغنياء، ولكن مع ذلك فإن حكم وجوب الخمس والزكاة لا يسقط، فيخرج المكلف زكاته ويبحث عن مستحق فلا يجد(1)، ولو كان اختبار المكلف وإغناء الفقير هي العلة التامة للحكم لوجب ارتفاعه بارتفاعهما.

النقطة الرابعة: انحصار استكشاف الحكم الشرعي بالمصادر الشرعية.

إن الطريق لمعرفة الاحكام الشرعية هو بالرجوع الى مصادر التشريع في الشريعة الاسلامية وهي (القرآن الكريم وسنة المعصومين الرسول الأكرم وأهل البيت(علیهم السّلام) الشاملة لأقوالهم وأفعالهم وتقريرهم، والإجماع الكاشف عن رأي المعصوم، والعقل بالنسبة للقضايا العقلية التي يصح أن تكون موضوعًا (حدًا أوسط) للحكم الشرعي

ص: 230


1- روى المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله(علیه السّلام) يقول: «إن قائمنا إذا قام أشرقت الأرض بنور ربها، واستغنى الناس عن ضوء الشمس، وذهبت الظلمة، ويعمر الرجل في ملكه حتى يولد له ألف ذكر لا يولد فيهم أنثى، وتظهر الأرض كنوزها حتى يراها الناس على وجهها، ويطلب الرجل منكم من يصله بماله ويأخذ منه زكاته فلا يجد أحدًا يقبل منه ذلك، استغنى الناس بما زرقهم الله من فضله» الإرشاد للشيخ المفيد ص 381.

وللكشف عنه).

النقطة الخامسة: تقسيم الأحكام الشرعية.

اشارة

تنقسم الأحكام الشرعية إلى قسمين:

الأول: الأحكام الواقعية:

وهي ما نجزم يقينًا بأنها الأحكام المطلوبة منا بأمر الله(عزوجل)، كأصل وجوب الصوم والصلاة والحج، وحرمة النميمة والغيبة والفاحشة، وهي ما تسمى بالضروريات.

الثاني: الأحكام الظاهرية:

وهي الأحكام التي لا نعلم يقينًا بأنها مطلوبة منا شرعًا، يعني قد نواجه واقعة لا نملك دليلًا قطعيًا يوصلنا إلى حكمها الواقعي من جهةٍ، يعني لا نتمكن من الوصول إلى حكمها الواقعي عند الله تعالى، ومن جهةٍ أخرى لا بد أن يكون لهذه الواقعة حكمٌ، هنا الشارع فتح لنا باب الأحكام الظاهرية التي تستفاد من الأمارات (كخبر الثقة، إذ الثقة لا يتعمد الخطأ، لكن من الممكن أن يخطئ أو ينسى، ومع هذا أجاز الشارع الأخذ بالأحكام منه).

والأصول العملية، كأصل الطهارة أو أصل الصحة أو أصل الاستصحاب.

فمثلا لو كنتَ ماشيًا وسقط عليك ماء من إحدى الشقق، فبالرغم من أنك لا تعلم أن هذا الماء طاهر أو نجس، إلا أن الشارع أجاز لك أن تجري أصل أو قاعدة الطهارة وهي: كل شيءٍ لك طاهر حتى تعلم بنجاسته.

وكذا لو كان لديك ماء طاهر في إناء غفلت عنه آنًا ما، فوجدت إلى جانبه كلبًا واحتملت أنه شرب منه فتنجس، فبالرغم من أن الكلب قد يكون ولغ في الماء، إلا

ص: 231

أن بإمكانك إجراء قاعدة الاستصحاب (الشك لا ينقض اليقين أو اليقين لا ينتقض إلا بمثله، أو أبقِ ما كان على ما كان، إلى أن يصلك يقين بخلافه)، فتستصحب طهارته.

علمًا أن الأحكام الواقعية قليلة بالقياس إلى الأحكام الظاهرية.

النقطة السادسة: علاقة الحكم الظاهري بالواقع.

الاحكام الظاهرية قد تطابق الواقع وقد لا تطابقه.

وللمزيد من التوضيح لا بد من بيان أمرين:

الأمر الأول: ما هو موقع الاجتهاد (عند الشيعة) من مصادر التشريع؟

لبيان موقع الاجتهاد يحسن بنا بيان معناه.

اصطلاح الاجتهاد يطلق على معنيين:

المعنى الاول: الاجتهاد بالرأي.

أو ما هو مقابل النص، بمعنى أن الفقيه إذا لم يجد نصًا أو دليلًا على الحكم الشرعي، فإنه يُعمِل رأيه وفكره حسب ما يراه هو ويستحسنه، وإن كان ما يستحسنه على خلاف ما ثبت شرعًا، وهذا ما يقول به أصحاب مدرسة الرأي (العامة).

ومثاله أن الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) حلل متعتين (متعة الحج ومتعة النساء) لكنهم حرموا متعة النساء وأحلوا الاخرى والبعض قال بحرمتهما معًا.

المعنى الثاني: الاجتهاد بمعنى بذل الجهد في استخراج الحكم الشرعي من المصادر الأصيلة للحكم الشرعي (القرآن الكريم والسنة المطهرة).

وهذا هو المراد من الاجتهاد في مذهب أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم.

ص: 232

وعليه فالاجتهاد عند الامامية هي عملية استخراج الحكم الشرعي من مصادر التشريع: القرآن الكريم والسنة المطهرة، أي هو ابنٌ للنص وفي طوله وليس في عرض النص.

وهذا المعنى هو ما أشار له الإمام الصادق(علیه السّلام) فيما روي عنه أنه قال: «إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا».

وعن أبي الحسن الرضا(علیه السّلام) قال : «علينا إلقاء الأصول إليكم وعليكم التفريع».(1)

يعني أن أصل التشريع هو من القرآن والسنة، لكن المجتهد يطبّق ما جاء في القرآن والسنة ليستخرج منه أحكامًا شرعية، وعلى غرار هذا أن الإمام سئل مسألة فقال: «هذا وأشباهه يعرف من القرآن الكريم»(2).

وأما الاجتهاد عند العامة، فهو مصدر من مصادر التشريع، أي في عرضها وليس في طولها؛ ولذا كانت هذه الكلمة (الاجتهاد) محل رفض وإشكال في السابق لدى بعض المتقدمين من الفقهاء.

الأمر الثاني: التخطئة والتصويب.

هل الاجتهاد دائمًا مصيب للواقع أو ماذا؟

آراء ثلاثة:

ص: 233


1- مستطرفات السرائر لابن إدريس الحلي ص 110.
2- عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى مَوْلَى آلِ سَامٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله(علیه السّلام): عَثَرْتُ فَانْقَطَعَ ظُفُرِي فَجَعَلْتُ عَلَى إِصْبَعِي مَرَارَةً فَكَيْفَ أَصْنَعُ بِالوُضُوءِ؟ قَالَ(علیه السّلام): «يُعْرَفُ هَذَا وأَشْبَاهُه مِنْ كِتَابِ الله عَزَّ وجَلَّ : ﴿ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ امْسَحْ عَلَيْه بَابُ الشَّكِّ فِي الوُضُوءِ ومَنْ نَسِيَه أَوْ قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ». [الكافي للكليني ج3 ص 33 بَابُ الجَبَائِرِ والقُرُوحِ والجِرَاحَاتِ ح4.

الرأي الأول: للإمامية: قالوا: ما من واقعة إلا ولها حكم، بيد أن هذا الحكم تارةً قد تكون الأدلة الشرعية أوضحته بصورة جلية، فيكون حينئذٍ من الأحكام الواقعية التي نقطع بصحتها، وقد لا تكون الأدلة الشرعية قد أوضحته بصورة جلية، وإنما استنبطه الفقهاء منها استنباطًا، فيكون من الأحكام الظاهرية، وحينئذٍ لا يمكن القطع بصحتها، إذ قد يكون مطابقًا للحكم الواقعي الموجود والثابت عند الله(عزوجل)، وقد لا يكون كذلك، بمعنى أن الأحكام الظاهرية قد تصيب ذلك الحكم الواقعي وقد تخطئه فلا تصيبه، أي إن هناك حكمًا واقعيًا لكل حادثة، والأحكام الظاهرية قد تصيب ذلك الحكم الواقعي وقد تخطئه فلا تصيبه، وهذا هو معنى وصف الامامية انهم مُخَطِّئة.

الرأي الثاني: للمعتزلة: المعتزلة وافقوا الإمامية في وجود حكم واقعي، إلا أنهم اختلفوا معهم في أن كل ما يتوصل إليه المجتهد فهو صائب ومطابق للواقع وبصورة دائمية، ولهذا سُمُّوا بالمُصوِّبة، وسُمي ما قالوا به بالتصويب المعتزلي.

وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال، وعلى المعتزلة الاجابة عنه، مفاده:

كيف يمكن للمعتزلة أن يوفقوا بين قولهم بالتصويب وبين اختلاف الفقهاء في الاجتهاد مع العلم أن الواقع واحد، وتعدده من المحال؟!

الرأي الثالث : للأشاعرة: إن الحكم الواقعي يدور مدار قول المجتهد، وعليه فلا يوجد حكم واقعي سوى ما يحكم به المجتهد، وهذا هو التصويب الاشعري.

وبهذا فقد اتفق الأشاعرة مع المعتزلة في أن المجتهد على حق دائمًا.

وأما نقطة الاختلاف: فإن المعتزلة ترى أن حقانية وصواب حكم المجتهد نابع من مطابقته للحكم الواقعي الثابت عند الله تعالى، أما الأشاعرة فلا تقول بوجود حكم واقعي ثابت عند الله تعالى إطلاقًا، وبالتالي فإن حقانية المجتهد في حكمه نابعة من كونه

ص: 234

مجتهدًا ليس إلا، فالحكم الواقعي هو ما يقول به المجتهد لا ما هو ثابت عند الله تبارك وتعالى، بل إن ما عند الله تعالى يدور مدار ما عند المجتهد.

ومن الواضح جدًا بطلان رأي المعتزلة فضلًا عن الأشاعرة، بلا بذل كثير جهد أو مؤونة، إذ كيف يمكن القول بأن المجتهد مصيب دائمًا في حكمه، وفي الوقت نفسه فإن المسائل الخلافية بين الفقهاء قد لا يمكن احصاؤها وهي بازدياد دائم!!

كيف يمكن القول بأن كل حكم صدر من أبي حنيفة ومالك هو على صواب وحق، بالرغم من أن الأول يوجب التكتف في الصلاة و الثاني يوجب –أو على الأقل يُجيز- الإسبال فيها؟!

فإن كان تطبيق نظريتهم متعسر بل محال في اقتصاره على اثنين فقط منهم، والالتزام به يوجب الحرج، والتكليف به ليس بمقدور، فكيف والحال أن لهم أربعة فقهاء، وكل منهم حجة، وعلى صواب دائم، وفي الوقت نفسه يختلفون في الكثير من المسائل!!

النقطة السابعة: رجوع مصالح التكليف للعباد.

أن المصالح والمفاسد الواقعية التي تبتني عليها الأحكام الشرعية تعود إلى العباد لا إلى الله جل وعلا.

فهو سبحانه وتعالى غنيٌ عن العالمين، وليست له أية مصلحة ذاتية، لا في نفس تشريع الحكم ولا في امتثال العبد له، فالمصلحة في كلٍّ من تشريع الحكم والامتثال له يعود إلى العبد- كالمصلحة من أصل تشريع الصلاة والامتثال له مثلًا، وكذا بالنسبة إلى سائر التشريعات الأخرى.

وقد روي عن أمير المؤمنين(علیه السّلام) أنه قال: «إِنَّ اللهَ سُبْحَانَه وتَعَالَىٰ خَلَقَ الخَلْقَ حِينَ

ص: 235

خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لِأَنَّه لَا تَضُ-رُّه مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاه، وَلَا تَنْفَعُه طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَه»(1).

ص: 236


1- نهج البلاغة: 303/ الخطبة 193.

الفصل الثاني

عقيدتنا في النبوّة

اشارة

قال(قدس سره):

«عقيدتنا في النبوّة.

نعتقد: أنّ النبوّة وظيفةٌ إلهية، وسفارةٌ ربّانية، يجعلها الله(عزوجل) لمن ينتجبه ويختاره من عباده الصالحين وأوليائه الكاملين في إنسانيّتهم، فيرسلهم إلى سائر الناس لغاية إرشادهم إلى ما فيه منافعهم ومصالحهم في الدنيا والآخرة، ولغرض تنزيههم وتزكيتهم من درن مساوئ الأخلاق ومفاسد العادات، وتعليمهم الحكمة والمعرفة، وبيان طريق السعادة والخير؛ لتبلغ الإنسانية كمالها اللائق بها، فترتفع إلى درجاتها الرفيعة في الدارين دار الدنيا ودار الآخرة.

ونعتقد: أنّ قاعدة اللطف على ما سيأتي معناها توجب أن يبعث الخالق اللطيف بعباده رسله لهداية البشر، وأداء الرسالة الاصلاحية، وليكونوا سفراء الله وخلفاءه.

كما نعتقد: أنّه(عزوجل) لم يجعل للناس حق تعيين النبي أو ترشيحه أو انتخابه، وليس لهم الخيرة في ذلك، بل أمر كلّ ذلك بيده تعالى؛ لأنّه ﴿أَعلمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسَالَتهُ﴾

وليس لهم أن يتحكَّموا فيمن يرسله هادياً ومبشِّراً ونذيراً، ولا أن يتحكَّموا فيما جاء به من أحكام وسنن وشريعة». انتهى.

ص: 237

الحديث في النبوة يكون في خطوتين:

الخطوة الأولى: النبوة العامة: ويتم فيها بيان معنى النبوة ولزومها وغاياتها والصفات العامة في كل نبي، من دون تخصيص الكلام بنبي معين، فهو كلام في النبوة عموماً.

الخطوة الثانية: النبوة الخاصة: ويتم فيها بيان نبوة نبي الإسلام الأعظم(صلی الله علیه و آله و سلم)، ويتناول فيها الحديث عن دين الإسلام والمعجزة التي جاء بها نبي هذا الدين وهو القرآن الكريم وما يتعلق بهما.

ص: 238

الخطوة الأولى: النبوة العامة.

اشارة

ويمكن بيانها من خلال النقاط الآتية:

النقطة الأولى: تعريف النبوة والنبي.

النبوة: وظيفة إلهية وسفارة ربانية يجعلها الله تعالى لمن ينتجبه ويختاره من عباده الصالحين وأوليائه الكاملين.

فهي وظيفة بين الله(عزوجل) وبين بني البشر، يقوم بها بشر أيضاً يتصفون بصفات خاصة.

وأما النبي: فهو الإنسان الكامل المخبِر عن الله تعالى بلا واسطة من البشر.

بيان تعريف النبي: الإنسان الكامل: وبه يخرج الملك، فالنبي من البشر لا من الملائكة؛ لأن المَلَك قد يخبر عن الله تعالى كالملك جبرئيل(علیه السّلام) ولكنه لا يعد نبياً.

كما يخرج به الإنسان غير الكامل أي غير المعصوم؛ وذلك لأن من شروط كون الشخص نبياً أن يكون معصوماً عن كل معصية وخطأ وسهو.

المخبر عن الله تعالى: وبه يخرج من يخبر عن غير الله تعالى، كالإمام الذي يُخبر عن النبي، وكالراوي الذي يخبر عن النبي أو عن الإمام.

بلا واسطة من البشر: وبه يخرج كلٌّ من الإمام والعالم فيما لو أخبرا عن الله تعالى؛ لأن الأول يُخبر عن الله تعالى لكن بواسطة البشر الذي هو النبي، فيما يخبر الثاني عن الله تعالى أيضاً لكن بواسطة النبي أو الإمام. نعم، النبي أيضاً يخبر بواسطة، ولكنها ليست

ص: 239

من البشر، إذ هو يخبر بواسطة الملك كجبرئيل(علیه السّلام).

النقطة الثانية: خصائص النبوة.

تتميز النبوة بعدة خصائص نشير إلى ما أشار الشيخ إليه منها، وهي:

الخصيصة الأولى: التعيين الإلهي.

الخصيصة الثانية: النبوة لطف.

الثالثة: التأييد بالمعجزة.

الرابعة: لا تكون إلا في الإنسان الكامل (المعصوم).

وستأتي هذه الخصائص من المصنف(رحمه الله علیه) تباعًا.

التعيين الإلهي.

أي إن منصب النبوة لا يخضع لاختيار البشر، فلا يمكن أن يكون النبي نبياً عن طريق الانتخابات أو عن طريق تعيين أهل الحل والعقد وما شابه ذلك من الطرق، بل ينحصر تعيين النبي بالله تعالى فقط.

يدل على ذلك صريح الآيات المباركة.

ولا يختلف على هذه الخصيصة للنبوة أحد من المسلمين، فهي موضع اتفاق جميع المسلمين، بخلاف الإمامة التي هي الأخرى منصب إلهي ووظيفة ربانية، حيث يرى الإمامية أنها كالنبوة، لابد أن يكون الإمام فيها مُعيناً من قبل الله تبارك وتعالى حصراً، وبذا قالوا بنظرية التنصيب الإلهي مستندين في ذلك إلى عدة أدلة يقينية عقلية ونقلية.

في حين ذهب غيرهم إلى القول: إن الإمامة ليست بمنصب إلهي، وبإمكان الناس

ص: 240

أن يختاروا إمامهم، وبذا قالوا بنظرية الشورى، مثلًا على الرغم من أنهم صححوا خلافة العديد من خلفائهم من غير طريق الشورى كخلافة الأول، بل هم صححوا خلافة من يستولي على كرسي الحكم غصباً! الأمر الذي يكشف أنهم لم يؤسسوا النظرية على مستند عقلي أو علمي رصين، بل رفعوا نظرية الشورى لتخطئة نظرية التنصيب الإلهي فقط من جهة، ولمحاولة تصحيح خلافة رموزهم من جهةٍ أخرى، وبقليل من التأمل يجد العاقل أنهم لم يفلحوا في أيٍّ منهما.

وقد يُثار في البين سؤالٌ مفاده:

لماذا لابد أن يكون التعيين لمنصب النبوة حصرًا بيد الله تعالى؟

الجواب:

أن تعيين شخصٍ ما لمنصبٍ ما إنما هو فرع علم الشخص المُعيِّن بمن يصلح لذلك المنصب، فلو رغبتَ في تعيين شخصٍ ما ليتسلم منصبٍ ما، كأن يكون وكيلاً عنك في منصب يدير فيه أعمالك التجارية مثلاً، فمما لا شك فيه أنك لا تعيّن إلا من تقطع بأنه أهل لذلك المنصب، وهذا القطع لا يأتي إلا عن طريق العلم به ومعرفته بأنه الأصلح والأفضل لهذا المنصب.

وكما هو معلوم أن لا أحد يعرف تمام المعرفة بما في الضمائر وما تخفيه القلوب وما عليه النفوس من أحوال صالحة أو طالحة سوى الله سبحانه، لذا وجب حصر تعيين النبي والإمام فيه جل وعلا.

بالإضافة إلى ذلك: أنه لو افترضنا أن شخصًا عيّن نبيًا، فإن هذا الأمر سيكون من موارد التهمة، لأن هذا المنصب يستلزم الرئاسة والقيادة والقوة، وإذا كان هناك مورد للتهمة فهذا يعني أن الناس لا تتحقق لديهم حقانية هذا النبي، مما قد يؤدي إلى عدم

ص: 241

اتباعه من قبل الناس، فقد يتهم الشخص بالمحاباة أو الرشوة، فتذهب فائدة النبوة.

والشاهد على إمكان التهمة، هو ما حصل حتى مع النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله و سلم)، عندما أمر(صلی الله علیه و آله و سلم) بسد أبواب البيوت المطلّة على المسجد كلها إلا باب الإمام علي(علیه السّلام)، إذ اعترض عليه بعض الصحابة وقالوا: هذا منك أو من الله تعالى؟! بالرغم من أن آيات الكتاب الكريم تصرح بأنهs ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾(1)

وفي يوم الغدير أيضاً اتهم البعضُ الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) في مسألة تعيين أمير المؤمنين(علیه السّلام)، حيث روي عن الإمام الصادق(علیه السّلام) أنه قال:« لمّا كان رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) بغدير خم، فنادى في الناس فاجتمعوا، فأخذ بيد علي(علیه السّلام) فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فشاع ذلك وطار في البلاد، فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري، فأتى رسولَ الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وهو في مَلأٍ من أصحابه، على ناقة، حتى أتى المدينة فنزل عن ناقته فأناخها وعقلها، وأتى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) فقال: يا محمد، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصلي خمسًا فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصوم شهر رمضان فقبلنا، وأمرتنا أن نحج البيت فقبلنا، ثمَّ لم ترض بهذا حتى رفعت بضُبعي ابن عمك ففضَّلْته علينا؟ وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، وهذا شيء منك أم من الله؟

فقال(صلی الله علیه و آله و سلم): والذي لا إله إلا هو أنه من أمر الله.

فولّى الحارث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول: اللهم إنْ كان ما يقول محمدٌ حقًّا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته فخرج من دبره فقتله، وأنزل الله تعالى: ﴿سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ.

ص: 242


1- النجم 3 -4.

لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ﴾(1)»(2)

أما إن كان التعيين إلهياً، فعلاوة على أنه هو الأعلم بالأصلح، فهو يقف على مسافة واحدة من جميع البشر، فلا يكون في تعيينه محاباة ولا قرابة ولا رشوة وما إلى ذلك.

هذا تمام ما أشار له المصنف(رحمه الله علیه) في الخصيصة الأولى، والبقية تأتي في محلها قريبًا إن شاء الله تعالى.

النقطة الثالثة: ما هو الهدف من إرسال الانبياء؟

اشارة

ذكرت الآيات الكريمة والروايات الشريفة عدة أهداف في ذلك، ونشير إلى ما أشار إليه الشيخ في كتابه:

الهدف الأول: تكامل الإنسان.

خلق الله تعالى الناس للتكامل، ومن لطفه سبحانه أنه سهل على الناس هذه المهمة؛ إذ بعث إليهم الأنبياء من أجل أن يأخذوا بأيديهم نحو الصعود في درجات الكمال الوجودي، إلى أن يبلغوا أعلى ما يمكنهم أن يصلوا إليه من الكمال.

روي عن الامام الصادق صلوات الله وسلامه عليه أنه قال:«...أَنَّ لَه سُفَرَاءَ فِي خَلْقِه يُعَبِّرُونَ عَنْه إِلَى خَلْقِه وعِبَادِه، ويَدُلُّونَهُمْ عَلَى مَصَالِحِهِمْ ومَنَافِعِهِمْ، ومَا بِه بَقَاؤُهُمْ وفِي تَرْكِه فَنَاؤُهُمْ..».(3)

علمًا أن هذا التكامل يقابله النزول إلى الدركات السفلى، قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ﴾ [التين 4 – 5]

ص: 243


1- المعارج 1-2.
2- روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه/ محمد تقي المجلسي (الأول) ص 245.
3- الكافي للكليني ج1 ص 168 بَابُ الِاضْطِرَارِ إِلَى الحُجَّةِ ح1.
الهدف الثاني: تعليم الكتاب والحكمة.

قال تبارك وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة 2]

الهدف الثالث: تزكية الاخلاق.

فمن أهداف إرسال الأنبياء هو تأسيس بعض القوانين الأخلاقية.

وبعبارة أصح: لتصحيح وتتميم الأخلاق الموجودة عند الناس.

والأخلاق: هي القوانين السلوكية التي يعتقد بها الناس وتُترجم إلى سلوك عملي في الحياة، مثل الظلم والعدل، الإيثار والأنانية، (فمنها فضائل ومنها رذائل)، فهذه الاخلاق موجودة لدى الناس وهدف الأنبياء هو تأييد وتتميم الأخلاق الحسنة وتصحيح الأخلاق المنحرفة.

فقد روي عن الرسول الأكرمs: «إنَّما بُعثت لأُتمِّم مكارم الأخلاق»(1).

وعنهs أيضاً: «إن الله تعالى بعثني بتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأعمال».(2)

بالإضافة إلى هذه الأهداف، فقد ذكر القرآن الكريم أهدافاً أخرى ولكن نكتفي بهذا تماشياً مع ما ذكره الشيخ(رحمه الله علیه).

النقطة الرابعة: هل النبوة واجبة أو لا؟

نعم هي واجبة على الله تعالى من باب اللطف. وقد تقدم معنى اللطف وسيأتي أيضاً، وهو واجب على الله تعالى؛ بمعنى أنه سبحانه يعلم أن الإنسان لا يستطيع أن

ص: 244


1- مكارم الأخلاق للطبرسي: 8؛ بحار الأنوار للمجلسي 16: 210.
2- المعجم الأوسط للطبراني ج7 ص 74.

يُطيعه ويتقرب إليه إلا من خلال لطفه جل وعلا، وبذا يكون اللطف تتميماً لنقص البشر، ومن المعلوم أن تتميم نقص الغير كمال، والذات الإلهية هي منبع الكمالات الذي لا يشوبه نقص البتة، من هنا وجب اللطف على الله جل جلاله.

ومما تجدر الاشارة إليه: أن كون اللطف واجباً عليه جل وعلا لا يعني أن هناك موجودًا غير الله تعالى قد أوجبه عليه وألزمه به، كلا، بل وجوبه كوجوب الزوجية للأربعة مثلًا، فكما أن الزوجية لزمت الأربعة من دون أن يأتي شخص ويجعلها ويضعها للأربعة، غاية الأمر أن الزوجية لا يمكن أن تنفك عنها بحال من الأحوال، فكذلك جل وعلا لم يُلزمه غيره باللطف، وإنما اللطف لا يمكن أن ينفك عنه بحال من الأحوال.

النقطة الخامسة: لزوم طاعة الأنبياء.

ليس للناس مع الأنبياء إلا الاتباع، فليس لهم حق في التشريع أو تغيير التشريع، باعتبار:

أولًا: أن حق تعيين النبي حق مختص بالله(عزوجل) –كما تقدم-

ثانيًا: أن حق التشريع هو الآخر مختص بالله(عزوجل)، فليس لأحد أن يشرع إلا بإذن الله(عزوجل)، قال تعالى: ﴿إِنِ الحُكْمُ إِلَّا لِلهِ﴾(1) وعليه فليس لأحد أن يتحكم بما يجيء به النبي أو أن يغير منه شيئاً، ومن يفعل ذلك يكون مبتدِعًا، والبدعة هي إدخال شيء في الدين هو ليس من الدين.

ص: 245


1- الأنعام 57.

ص: 246

النبوّة لطف

اشارة

قال الشيخ المظفر(رحمه الله علیه):

«النبوّة لطفٌ:

إنّ الإنسان مخلوقٌ غريبُ الأطوار، معقَّد التركيب في تكوينه وفي طبيعته وفي نفسيّته وفي عقله، بل في شخصية كلّ فردٍ من أفراده، وقد اجتمعت فيه نوازع الفساد من جهة، وبواعث الخير والصلاح من جهة أخرى.

فمن جهةٍ قد جُبِل على العواطف والغرائز من حب النفس، والهوى، والاثرة، وإطاعة الشهوات، وفطر على حب التغلُّب، والاستطالة، والاستيلاء على ما سواه، والتكالب على الحياة الدنيا وزخارفها ومتاعها كما قال(عزوجل): ﴿إنَّ الاِنسنَ لَفِي خُسْرٍ﴾، و﴿إنَّ الاِنسنَ لَيَطْغَى أَنْ رآهُ استَغنَى﴾ و﴿إنَّ النَّفْس لاَمَّارَةٌ بالسُّوءِ﴾ إلى غير ذلك من الآيات المصرِّحة والمشيرة إلى ما جُبلت عليه النفس الاِنسانية من العواطف والشهوات.

ومن الجهة الثانية، خلق الله(عزوجل) فيه عقلاً هادياً يرشده إلى الصلاح ومواطن الخير، وضميراً وازعاً يردعه عن المنكرات والظلم ويؤنبه على فعل ما هو قبيح ومذموم.

ولا يزال الخصام الداخلي في النفس الانسانية مستعراً بين العاطفة والعقل، فمن يتغلَّب عقله على عاطفته كان من الأعلين مقاماً، والراشدين في إنسانيتهم، والكاملين في روحانيتهم، ومن تقهره عاطفته كان من الأخسرين منزلة، والمتردّين إنسانية، والمنحدرين إلى رتبة البهائم.

ص: 247

وأشد هذين المتخاصمين مراساً على النفس هي العاطفة وجنودها، فلذلك تجد أكثر الناس منغمسين في الضلالة، ومبتعدين عن الهداية، بإطاعة الشهوات، وتلبية نداء العواطف ﴿وَمَا أَكثَرُ النَّاسِ ولو حَرَصتَ بِمُؤمِنيِنَ﴾.

على أنّ الانسان لقصوره، وعدم اطّلاعه على جميع الحقائق، وأسرار الأشياء المحيطة به، والمنبثقة من نفسه، لا يستطيع أن يعرف بنفسه كل ما يضرّه وينفعه، ولا كل ما يسعده ويشقيه؛ لا فيما يتعلَّق بخاصّة نفسه، ولا فيما يتعلّق بالنوع الانساني ومجتمعه ومحيطه، بل لا يزال جاهلاً بنفسه، ويزيد جهلاً، أو إدراكاً لجهله بنفسه، كلّما تقدّم العلم عنده بالأشياء الطبيعية، والكائنات المادية.

وعلى هذا، فالإنسان في أشدّ الحاجة ليبلغ درجات السعادة إلى من ينصب له الطريق اللاحب، والنهج الواضح إلى الرشاد واتّباع الهدى؛ لتقوى بذلك جنود العقل، حتى يتمكن من التغلب على خصمه اللَّدود اللجوج عندما يهيأ الانسان نفسه لدخول المعركة الفاصلة بين العقل والعاطفة.

وأكثر ما تشتد حاجته إلى من يأخذ بيده إلى الخير والصلاح عندما تخادعه العاطفة وتراوغه وكثيراً ما تفعل فتزيِّن له أعماله، وتحسّن لنفسه انحرافاتها؛ إذ تريه ما هو حسن قبيحاً، أو ما هو قبيح حسناً، وتلبس على العقل طريقه إلى الصلاح والسعادة والنعيم، في وقتٍ ليس له تلك المعرفة التي تميّز له كلّ ما هو حسن ونافع، وكل ما هو قبيح وضار. وكل واحد منّا صريع لهذه المعركة من حيث يدري ولا يدري، إلاّ من عصمه الله.

ولأجل هذا يعسر على الإنسان المتمدِّن المثقَّف فضلاً عن الوحشي الجاهل أن يصل بنفسه إلى جميع طرق الخير والصلاح، ومعرفة جميع ما ينفعه ويضرّه في دنياه وآخرته، فيما يتعلَّق بخاصة نفسه أو بمجتمعه ومحيطه، مهما تعاضد مع غيره من أبناء نوعه ممّن

ص: 248

هو على شاكلته وتكاشف معهم، ومهما أقام بالاشتراك معهم المؤتمرات والمجالس والاستشارات.

فوجب أن يبعث الله(عزوجل) في الناس رحمة لهم ولطفاً بهم ﴿رَسُولاً مِنهُم يَتلوُا عَلَيهِم ءايتِه وَيُزكِّيهِم ويُعلّمُهُمُ الكِتبَ والحكمَةَ﴾، وينذرهم عمّا فيه فسادهم، ويبشّرهم بما فيه صلاحهم وسعادتهم.

وإنّما كان اللطف من الله(عزوجل) واجباً، فلأنّ اللطف بالعباد من كماله المطلق، وهو اللطيف بعباده الجواد الكريم، فإذا كان المحل قابلاً ومستعدّاً لفيض الجود واللطف، فإنّه(عزوجل) لا بد أن يفيض لطفه؛ إذ لا بخل في ساحة رحمته، ولا نقص في جوده وكرمه.

وليس معنى الوجوب هنا أنّ أحداً يأمره بذلك فيجب عليه أن يطيع تعالى عن ذلك، بل معنى الوجوب في ذلك هو كمعنى الوجوب في قولك: إنّه واجب الوجود أي اللزوم واستحالة الانفكاك». انتهى.

يشير الشيخ(رحمه الله علیه) إلى أن ضرورة النبوة تنبع من كونها لطفًا من الله(عزوجل)، واللطف واجب على ما تقدم بيانه.

وقد أطنب الشيخ كثيراً في بيان هذه القاعدة (قاعدة اللطف)، ويمكن تلخيص أهم ما يروم بيانه بما يأتي من مقدمات:

المقدمة الأولى:

أن في الإنسان قوتين تتجاذبان وجوده:

القوة الأولى: هو العقل، تلك القوة التي تدفعه نحو فعل الخير ونحو التكامل.

والقوة الثانية: هي الغرائز، تلك القوة التي تريد إشباع الرغبات ولو بانفلات ومن

ص: 249

دون انضباط.

والذي يضبط انفلات الغرائز هو العقل.

ولا إشكال في البين فيما لو توحّد توجه كل من الغرائز والعقل، كما في حب جمع المال مثلاً، فهو من الغرائز ولكن لا إشكال فيه إذا كان بطرق مشروعة، وكذا لو دعت الغريزة الإنسان إلى الزواج لإشباعها في هذا الجانب مثلاً، بل حتى بالنسبة إلى الصلاة فإن الإنسان قد يجمع بين الغريزة والعقل فيما لو كانت طمعاً في الجنة. انما التعارض والصراع ينشأ فيما لو لم يكن الطريق إلى إشباع الغريزة مشروعاً، فهنا يحدث تعارض بين مقتضيات العقل ومقتضيات الغريزة، وحيث إن الإنسان يميل عادة إلى الراحة والدعة، فقد يُقدم ما تمليه غرائزه على ما يحكم به عقله، وهذا واقع لا يحتاج الى شواهد.

وحينئذ إذا كان الإنسان يعيش هذه المعركة الداخلية في نفسه، فالعقل يحكم بضرورة أن يوفر المولى(عزوجل) له -من باب اللطف- حصانة تحصنه من الانحراف.

المقدمة الثانية:

يصعب على الإنسان أن يعرف مصالحه الواقعية فيما لو تُرك ونفسه، لاسيما أنه لا يعلم الغيب، بل قد يظن أن شيئاً ما ينفعه وهو في الواقع على خلاف ذلك، وقد يصاب بخلل فكري يشوش عليه الحقائق، وهذه نقائص في الإنسان، فيكون بحاجة ماسة معها إلى عنصر كامل يخلو من تلك النقائص، وليس في فكره تشويش، وعنده اتصال بمن يعلم الغيب، فينقل لنا خبر السماء ويرسم لنا طريق السعادة.

المقدمة الثالثة:

أن الله(عزوجل) مطلع على الإنسان وعالم بما يعانيه من النقائص السالفة الذكر، كما أنه

ص: 250

عالم بأن الإنسان لا يستطيع الوصول إلى الكمال المنشود وطاعة خالقه إلا بوجود عنصر كامل من نوعه يصله بعالِم الغيب، وهو سبحانه حكيم، وحينئذٍ فإن العقل يحكم بوجوب إرسال الأنبياء ليرشدوا الإنسان الى طريق السعادة والفلاح.

وهذا هو اللطف.

إشارة:

أن لطفه تعالى يشمل جميع عباده، وقد أشارت بعض الروايات الشريفة إلى ذلك، وحثت على التعرض إلى فيضه، كما روي عن الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم): «إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها».(1)

فمن جهة الله(عزوجل) لا بخل في ساحته، فإن الفيض ينزل من الله(عزوجل) على الجميع كالمطر، فإن تعرض الإنسان لذلك الفيض وأخرج اناءه مفتوحاً طاهراً فإنه يستفيد من المطر، بخلاف ذلك الذي يُخرج إناءه منكوساً مقلوباً، فلا ينتفع منه شيئاً، بل قد يضره أحياناً، كما في قوله تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾(2)

ونقصد بالإناء: القلب، فقد روي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ(علیه السّلام) قَالَ: «القُلُوبُ ثَلَاثَةٌ: قَلْبٌ مَنْكُوسٌ لَا يَعِي شَيْئاً مِنَ الخَيْرِ، وهُوَ قَلْبُ الكَ. وقَلْبٌ فِيه نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَالخَيْرُ والشَّرُّ فِيه يَعْتَلِجَانِ، فَأَيُّهُمَا كَانَتْ مِنْه غَلَبَ عَلَيْه، وقَلْبٌ مَفْتُوحٌ فِيه مَصَابِيحُ تَزْهَرُ ولَا يُطْفَأُ نُورُه إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وهُوَ قَلْبُ المُؤْمِنِ».(3)

ص: 251


1- بحار الأنوار للمجلسي ج68 ص 221.
2- الإسراء 82.
3- الكافي للكليني ج2 ص 323 بَابٌ فِي ظُلْمَةِ قَلْبِ المُنَافِقِ وإِنْ أُعْطِيَ اللِّسَانَ ونُورِ قَلْبِ المُؤْمِنِ وإِنْ قَصَرَ بِه لِسَانُه ح3.

وهذا ما أشار له الشيخ(رحمه الله علیه) بقوله: «إذا كان المحل قابلاً ومستعداً لفيض الجود واللطف فإنه تعالى لا بد أن..».

وقد أشار الإمام الصادق(علیه السّلام) إلى سبب عدم فلاح القلب بقوله: «إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت، وإن زاد زادت، حتَّىٰ تغلبَ علىٰ قلبه فلا يفلح بعدها أبداً»(1).

وهذا ما يفسر سبب انقلاب من عاصر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) على عقبيه، ومن ثم خالفه فأصبح مصداقاً لقوله تعالى: ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا﴾(2)

وأخيراً: نؤكد أنه لا يقصد بوجوب اللطف على الله أن سواه قد أوجب عليه ذلك، بل إنه من قبيل وجوب وجوده سبحانه، ثابت له بذاته، لأنه محض الكمال.

ص: 252


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 271/ باب الذنوب/ ح 13).
2- آل عمران 144.

عقيدتنا في معجزة الأنبياء

اشارة

قال(رحمه الله علیه):

«عقيدتنا في معجزة الأنبياء:

نعتقد: أنّه(عزوجل) إذ ينصّب لخلقه هادياً ورسولاً لا بدّ أن يعرِّفهم بشخصه، ويرشدهم إليه بالخصوص على وجه التعيين، وذلك منحصر بأن ينصب على رسالته دليلاً وحجّة يقيمها لهم؛ إتماماً للطف، واستكمالاً للرحمة.

وذلك الدليل لا بدّ أن يكون من نوعٍ لا يصدر إلا من خالق الكائنات، ومدبر الموجودات أي فوق مستوى مقدور البشر فيجريه على يدي ذلك الرسول الهادي؛ ليكون معرِّفاً به، ومرشداً إليه، وذلك الدليل هو المسمى بالمعجز أو المعجزة؛ لأنّه يكون على وجهٍ يعجز البشر عن مجاراته والاِتيان بمثله.

وكما أنّه لا بد للنبي من معجزةٍ يظهر بها للناس لإقامة الحجة عليهم، فلا بد أن تكون تلك المعجزة ظاهرةَ الاِعجاز بين الناس على وجهٍ يعجز عنها العلماء وأهل الفن في وقته، فضلاً عن غيرهم من سائر الناس، مع اقتران تلك المعجزة بدعوى النبوّة منه؛ لتكون دليلاً على مدَّعاه، وحجة بين يديه، فإذا عجز عنها أمثال أولئك عُلم أنّها فوق مقدور البشر، وخارقة للعادة، فيُعلم أنّ صاحبها فوق مستوى البشر، بما له من ذلك الاتصال الروحي بمدبِّر الكائنات.

وإذا تمَّ ذلك لشخصٍ، من ظهور المعجز الخارق للعادة، وادّعى مع ذلك النبوة

ص: 253

والرسالة، يكون حينئذٍ موضعاً لتصديق الناس بدعواه، والإيمان برسالته، والخضوع لقوله وأمره، فيؤمن به من يؤمن، ويكفر به من يكفر.

ولأجل هذا وجدنا أنّ معجزة كل نبي تناسب ما يشتهر في عصره من العلوم والفنون، فكانت معجزة موسى(علیه السّلام) هي العصا التي تلقف السحر وما يأفكون؛ إذ كان السحر في عصره فنّاً شائعاً، فلما جاءَت العصا بطل ما كانوا يعملون، وعلموا أنّها فوق مقدروهم، وأعلى من فنّهم، وأنّها ممّا يعجز عن مثله البشر، ويتضاءل عندها الفن والعلم.

وكذلك كانت معجزة عيسى(علیه السّلام)، وهي إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى؛ إذ جاءَت في وقتٍ كان فن الطب هو السائد بين الناس، وفيه علماء وأطباء لهم المكانة العليا، فعجز علمهم عن مجاراة ما جاء به عيسى(علیه السّلام).

ومعجزة نبينا الخالدة هي القرآن الكريم، المعجز ببلاغته وفصاحته، في وقتٍ كان فن البلاغة معروفاً. وكان البلغاء هم المقدَّمين عند الناس بحسن بيانهم وسموِّ فصاحتهم، فجاء القرآن كالصاعقة؛ أذلّهم وأدهشهم، وأفهمهم أنّهم لا قِبَل لهم به، فخنعوا له مهطعين عندما عجزوا عن مجاراته، وقصروا عن اللحاق بغبارة.

ويدلّ على عجزهم أنّه تحدّاهم بإتيان عشر سور مثله فلم يقدروا، ثمّ تحدّاهم أن يأتوا بسورة من مثله فنكصوا، ولمّا علمنا عجزهم عن مجاراته مع تحدّيه لهم، وعلمنا لجوءهم إلى المقاومة بالسنان دون اللسان علمنا أنّ القرآن من نوع المعجز، وقد جاء به محمد بن عبد الله مقروناً بدعوى الرسالة.

فعلمنا أنّه رسول الله، جاء بالحق وصدق به،(صلی الله علیه و آله و سلم)». انتهى.

ص: 254

نقطتان:

النقطة الأولى: ضرورة المعجزة:

وبيانها ضمن مقدمتين:

المقدمة الأولى: أن منصب النبوة منصب غيبي، ولا سبيل ماديًا لمعرفة صدق مدّعي هذا المنصب.

المقدمة الثانية: أن منصب النبوة منصب مرموق ترنو إليه النفوس، وتهفو إليه القلوب، حيث يسود النبي قومه، ويكون أولى منهم بأموالهم بل وبأنفسهم، ومعه فاحتمال الادّعاء الباطل لمنصب النبوة احتمال وارد جداً.

بناءً على هاتين المقدمتين فإن الإنسان لا يستطيع أن يميز مدّعي النبوة بالحق من مدّعيها باطلاً، وهنا لا بد أن يلطف الله تعالى بعباده ويساعدهم على معرفة النبي الحق لاتباعه، وليدفع مدّعي النبوة باطلاً ليجتنبوه، وأقوى طريق لتوضيح النبي الحق هو طريق المعجزة، إذ تكون شاهد صدق على مدعي النبوة.

النقطة الثانية: ماهي المعجزة وما هي خصائصها؟

اشارة

المعجزة: هي أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي لأهل الفن مع عدم المعارضة، ومع ادعاء النبوة، مع مطابقة الدعوى.

ومن التعريف المذكور يمكننا أن نبين للمعجزة عدة خصائص هي:

الخصيصة الأولى: خرق العادة.

نحن نعلم أن الله(عزوجل) خلق العالم وفق نظام العلة والمعلول والأسباب والمسببات، ونظام العلة والمعلول يكون على مرتبتين:

ص: 255

الأولى: المرتبة الظاهرة للناس والمعروفة القانون لكل البشر، مثل قانون الإحراق للنار، وقانون الجاذبية، وأن الماء يروي، والطاعم يُشبع، وعشرات القوانين الأخرى

وأما المرتبة الثانية: فهو نظام علة ومعلولات غير منكشف للإنسان وغير متاح له، نحو: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ﴾(1)

والمعجزة إنما لا تخضع لنظام العلة والمعلول بمرتبته الأولى المعروفة والمتاحة للإنسان العادي، بل إنها تخرقه، ولكنها تبقى ضمن نظام العلة والمعلول العام، فللمعجزة علة، ولكنها غير منكشفة للإنسان العادي، فاذا انكشفت لإنسان ما دلّت على ارتباطه بعالم الغيب.

إذاً للمعجزة قانون ونظام علة ومعلول، ولكنه ليس معروفًا عند عامة الناس.

وهذا معنى كونها خارقة للعادة، كإحياء الموتى، الذي له قانون، لكنه غير منكشف لنا، فإذا قام به إنسان وأحيى الموتى، دلّ ذلك على أنه انكشف لديه هذا القانون، وأنه مرتبط بالله سبحانه.

نكتة:

من الجدير بالذكر أن مهمة المعجزة تقتصر على كشف الحقيقة والواقع فقط، ولا تجبر الناس على الهداية، من هنا وجدنا الكثير ممن رأى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) وسمع كلامه ولكنه انقلب على عقبيه.

ولذلك أيضًا فإن من الممكن أن البعض ينحرف عن الإمام المهدي(علیه السّلام) رغم وقوع الصيحة الإعجازية، فعن زرارة بن أعين، قال: سمعت أبا عبد الله(علیه السّلام) يقول: «ينادي

ص: 256


1- يس 38.

منادٍ من السماء: إنَّ فلاناً هو الأمير، وينادي منادٍ: إنَّ عليَّاً وشيعته هم الفائزون»، قلت: فمن يقاتل المهدي بعد هذا؟ فقال: «إنَّ الشيطان ينادي: إنَّ فلاناً وشيعته هم الفائزون _ لرجل من بني أُميَّة _»، قلت: فمن يعرف الصادق من الكاذب؟ قال: «يعرفه الذين كانوا يروون حديثنا، ويقولون: إنَّه يكون، قبل أن يكون، ويعلمون أنَّهم هم المحقّون الصادقون».(1)

الخصيصة الثانية: التحدي لأهل الفن.

لما كان الهدف من المعجزة إثبات صدق مدّعي النبوة عن طريق بيان عجز البشر عن الإتيان بمثلها، فلابد أن تأتي المعجزة بأعلى وأرقى ما لدى البشر من علوم وفنون؛ لتتحدى أهلها، باعتبارهم أرقى وأعلى مستوى بين البشر، فإنْ هم عجزوا عن الإتيان بمثلها كان غيرهم أعجز، وبذا تتم الحجة عليهم ويعظم الدليل لديهم.

ولذا كانت معاجز الأنبياء تتحدى أهل الفن المشتهر في زمنه، وهذا ما صرَّحت به بعض الروايات الشريفة، حيث روي عَنْ أَبِي يَعْقُوبَ البَغْدَادِيِّ قَالَ: قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ لأَبِي الحَسَنِ(علیه السّلام): لِمَاذَا بَعَثَ الله مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ(علیه السّلام) بِالعَصَا ويَدِه البَيْضَاءِ وآلَةِ السِّحْرِ وبَعَثَ عِيسَى بِآلَةِ الطِّبِّ وبَعَثَ مُحَمَّداً(صلی الله علیه و آله و سلم) وعَلَى جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ بِالكَلَامِ والخُطَبِ؟

فَقَالَ أَبُو الحَسَنِ(علیه السّلام): «إِنَّ الله لَمَّا بَعَثَ مُوسَى(علیه السّلام) كَانَ الغَالِبُ عَلَى أَهْلِ عَصْرِه السِّحْرَ، فَأَتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ الله بِمَا لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِمْ مِثْلُه ومَا أَبْطَلَ بِه سِحْرَهُمْ وأَثْبَتَ بِه الحُجَّةَ عَلَيْهِمْ.

وإِنَّ الله بَعَثَ عِيسَى(علیه السّلام) فِي وَقْتٍ قَدْ ظَهَرَتْ فِيه الزَّمَانَاتُ(2) واحْتَاجَ النَّاسُ إِلَى

ص: 257


1- الغيبة للنعماني ص 272 – 273 باب 14 ح 28.
2- الزمانات: الآفات الواردة علىٰ بعض الأعضاء فيمنعها عن الحركة كالفالج واللقوة، ويُطلَق المزمن علىٰ مرض طال زمانه. (من المصدر).

الطِّبِّ فَأَتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ الله بِمَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِثْلُه وبِمَا أَحْيَا لَهُمُ المَوْتَى وأَبْرَأَ الأَكْمَه والأَبْرَصَ بِإِذْنِ الله وأَثْبَتَ بِه الحُجَّةَ عَلَيْهِمْ.

وإِنَّ الله بَعَثَ مُحَمَّداً(صلی الله علیه و آله و سلم) فِي وَقْتٍ كَانَ الغَالِبُ عَلَى أَهْلِ عَصْرِه الخُطَبَ والكَلَامَ -وأَظُنُّه قَالَ: الشِّعْرَ- فَأَتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ الله مِنْ مَوَاعِظِه وحِكَمِه مَا أَبْطَلَ بِه قَوْلَهُمْ وأَثْبَتَ بِه الحُجَّةَ عَلَيْهِمْ».

قَالَ: فَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: تَالله مَا رَأَيْتُ مِثْلَكَ قَطُّ، فَمَا الحُجَّةُ عَلَى الخَلْقِ اليَوْمَ؟

قَالَ: فَقَالَ(علیه السّلام): «العَقْلُ يُعْرَفُ بِه الصَّادِقُ عَلَى الله فَيُصَدِّقُه والكَاذِبُ عَلَى الله فَيُكَذِّبُه».

قَالَ: فَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: هَذَا والله هُوَ الجَوَابُ(1).

ولأن التحدي كان لأهل الفن في فنهم، فقد كانوا – في العادة- هم أول من يصدق الأنبياء(علیهم السّلام) كما حدث مع النبي موسى(علیه السّلام) والنبي عيسى(علیه السّلام) والنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، حتى أن قريش أنزلوا المعلقات التي كانت معلقة على أستار الكعبة استحياءً من سذاجتها بالمقارنة بالقرآن الكريم؛ لأنهم وجدوا في القرآن من البلاغة ما لا تُقاس به المعلقات.(2)

الخصيصة الثالثة: عدم المعارضة.

فلابد أن يأتي النبي بمعجزة يعجز الجميع عن معارضتها، أي أن لا يأتي شخص آخر بأمر يبطل معجزة النبي، أو يأتي بأمر يخرق العادة أكثر من المعجزة، وإلا كان ذلك

ص: 258


1- الكافي للكليني 1: 24 و25/ كتاب العقل والجهل/ ح 20.
2- نُقِلَ هذا المعنى عن السيِّد عبد الله شبَّر في كتابه حقُّ اليقين 1: 113؛ وذكره السيِّد حسن الشيرازي في كتابه الإمام المهدي نظرة وجيزة شاملة، وهو مقدّمة كتابه كلمة الإمام المهدي(علیه السّلام): 32.

الشخص الثاني أولى بالاتّباع، أو على الأقل لا مرجح لأحدهما بالاتباع، وعلى كل حال تذهب فائدة البعثة.

الخصيصة الرابعة: أن يكون الإتيان بهذا الأمر الخارق مرافقاً لدعوى النبوة.

تشترك المعجزة مع الكرامة في أنهما معاً أمران خارقان للعادة، بل قد يقوم الإمام بنفس الفعل الذي يقوم به النبي كإحياء الموتى مثلاً، إلا أن بينهما مائزًا وفرقًا جوهريًا، وهو: أن المعجزة تأتي مع ادعاء النبوة ولإثبات صدق مدعيها، أما الكرامة فلا تكون مع ادّعاء النبوة.

الخصيصة الخامسة: مع المطابقة للدعوى.

فلا بد أن تكون المعجزة مطابقة لما يدّعيه النبي، ومؤيدة له، كالمعجزات التي أيّدت ادعاء الأنبياء(علیهم السّلام) وكانت الدليل على صدقهم في دعوى النبوة، فإنْ هي لم تطابق دعواهم لم تكن معجزة، وهذا ما حصل مع مسيلمة الكذاب الذي حاول أن يقوم بما قام به الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) فجاء إلى بئر غائرة وبصق فيها لتفيض بالماء كما حدث معه(صلی الله علیه و آله و سلم)، وإذا بها قد جفت تماماً. وجفافها تماماً أيضاً أمر خارق للعادة! لكنه غير مطابق للدعوى، فلا يعد معجزة.

ص: 259

ص: 260

عقيدتنا في عصمة الأنبياء

اشارة

قال الشيخ(رحمه الله علیه):

«عقيدتنا في عصمة الأنبياء

ونعتقد: أنّ الأنبياء معصومون قاطبة، وكذلك الأئمة عليهم جميعاً التحيات الزاكيات، وخالَفَنا في ذلك بعض المسلمين، فلم يوجبوا العصمة في الأنبياء، فضلاً عن الأئمة.

والعصمة: هي التنزُّه عن الذنوب والمعاصي صغائرها وكبائرها، وعن الخطأ والنسيان، وإن لم يمتنع عقلاً على النبي أن يصدر منه ذلك، بل يجب أن يكون منزَّهاً حتى عمّا ينافي المروءة، كالتبذل بين الناس من أكلٍ في الطريق أو ضحكٍ عال، وكل عملٍ يستهجن فعله عند العرف العام.

والدليل على وجوب العصمة؛ أنّه لو جاز أن يفعل النبي المعصية، أو يخطأ وينسى، وصدر منه شيء من هذا القبيل، فإمّا أن يجب اتّباعه في فعله الصادر منه عصياناً أو خطأً أو لا يجب، فإن وجب اتّباعه فقد جوّزنا فعل المعاصي برخصة من الله(عزوجل)، بل أوجبنا ذلك، وهذا باطل بضرورة الدين والعقل.

وإن لم يجب اتّباعه فذلك ينافي النبوَّة التي لا بدّ أن تقترن بوجوب الطاعة أبداً.

على أن كل شيء يقع منه من فعل أو قول فنحن نحتمل فيه المعصية أو الخطأ، فلا يجب اتّباعه في شيءٍ من الأشياء، فتذهب فائدة البعثة، بل يصبح النبي كسائر الناس،

ص: 261

ليس لكلامهم ولا لعملهم تلك القيمة العالية التي يعتمد عليها دائماً، كما لا تبقى طاعة حتمية لأوامره، ولا ثقة مطلقة بأقواله وأفعاله.

وهذا الدليل على العصمة يجري عيناً في الامام؛ لأن المفروض فيه أنه منصوب من الله(عزوجل) لهداية البشر خليفة للنبي، على ما سيأتي في فصل الاِمامة». انتهى.

يمكننا توضيح ما أراده الشيخ(رحمه الله علیه) في جملة من النقاط:

النقطة الأولى: تعريف العصمة.

العصمة لغة: من المنع، والمصونية: من الصيانة.

وأما اصطلاحاً: فقد عُرّفت بعدة تعريفات، منها التعريف الذي ذكره الشيخ(رحمه الله علیه)، وهو:

العصمة: التنزه عن الذنوب والمعاصي صغائرها وكبائرها وعن الخطأ والنسيان.

وأضاف البعض: السهو.

فيما أضاف الشيخ: ما ينافي المروءة أيضاً.

وعليه فتكون تصرفات المعصوم مطلقاً صحيحة مائة بالمائة.

النقطة الثانية: الآراء في العصمة

اشارة

تُبحث العصمة عادة ضمن عدة مقامات:

الأول: العصمة في الاعتقاد.

يجب أن يكون النبي معتقداً بالاعتقادات الصحيحة، فلا يكون كافراً ولا ملحداً ولا منافقاً ولا غيرها، وقد اتفقت الأمة على هذا المعنى من العصمة.

ص: 262

الثاني: العصمة في التبليغ.

يعني أن النبي عندما ينقل خبراً إلى الناس على أنه تبليغ رسمي من جهة السماء، فهذا التبليغ لا يقع فيه الخطأ أو النسيان، فالنبي معصوم في تبليغ الأحكام الشرعية الواقعية، وهذا المعنى أيضاً على نحو الاجمال متفق عليه.

وقد ادعى البعض: أن النبي معصوم في الفُتيا، أي عندما يعطي فتوى فإنه يكون معصوماً فيها.

ولكن ينبغي الالتفات إلى عدم صحة هذا الادعاء، إن كان المراد من المفتي فيه(صلی الله علیه و آله و سلم) هو المستنبط للأحكام الشرعية؛ لأن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) يعلم الأحكام الواقعية، ولذا فهو ليس بحاجةٍ الى استنباط قط.

كما أن الاستنباط المتعارف قد يؤدي إلى الجزم بالحكم الواقعي وقد لا يؤدي إلا إلى الظن المعتبر، على حين أن أحكام النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) كلها مصيبة للواقع بلا أدنى شك.

وعليه فلا يصح القول بأنه(صلی الله علیه و آله و سلم) مفتٍ بهذا المعنى.

الثالث: العصمة في أفعال النبي وسيرته.

بمعنى أنه(صلی الله علیه و آله و سلم) معصوم في جميع حركاته وسكناته، وفي جميع أفعاله: من أكله، شربه، نومه، ذهابه، مجيئه، وما إلى ذلك من أفعال حياتية، فهو معصوم عن الذنوب الكبيرة والصغيرة وعن أن يقع فيها عمدًا أو نسيانًا، في أمور الاعتقاد والتبليغ والأفعال العادية.

وبعبارة بسيطة: أن كل نَفَس من النبي معصوم، وكل حركة وسكون مطابقة للواقع.

وهذا المقام من العصمة هو ما وقع فيه الخلاف، إذ قال به الامامية،

ص: 263

أما غير الامامية فقد ذهبوا الى غير هذا الأمر، فمنهم من قال: بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر فقط دون الصغائر.

ومنهم من ذهب إلى عصمتهم من الذنوب كبيرها وصغيرها في حالة العمد فقط، أي من الممكن أن تقع منهم المعصية خطأً أو نسياناً، وهذا ما ذهب إليه أكثر الأشاعرة.

بل البعض جوّز على الأنبياء فعل الكبائر والصغائر مطلقاً، وهذا قول الحشوية وأكثر أصحاب الحديث من العامة.

ولم يقتصر الخلاف بين المسلمين في مقام عصمة الأنبياء فقط، بل امتد ليشمل مبدأها أيضاً، فقد ذهب الامامية إلى أن الأنبياء معصومون مطلقًا، يعني: من الولادة وحتى الوفاة، على حين ذهبت المعتزلة إلى القول بأنهم معصومون منذ البلوغ، أما أكثر الأشاعرة وبعض المعتزلة فقالوا بأنهم معصومون منذ النبوة.

ومن هنا يتضح أن الامامية هم أكثر الفرق تنزيهاً للأنبياء مطلقا طيلة مدة حياتهم، فقد روي عن أمير المؤمنين سلام الله عليه في وصفه لرسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «ولَقَدْ قَرَنَ الله بِه(صلی الله علیه و آله و سلم) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِه، يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ المَكَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ العَالَمِ لَيْلَه ونَهَارَه..».(1)

النقطة الثالثة: هل العصمة تجبر المعصوم على ترك المعصية؟

يقصد بالعصمة: الامتناع عن المعصية مع القدرة على الإتيان بها، مما يعني أن المعصوم ليس مجبراً على تركها، بل هو مختارٌ في ذلك؛ ولذا كانت العصمة فضيلة للمعصوم.

ص: 264


1- نهج البلاغة ج2 ص 157.

وتعضد هذا المعنى آيات كريمة وروايات شريفة منها قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾(1)

فقد روي عن الإمام الرضا(علیه السّلام): «لقد همت به، ولولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها كما همت، لكنه كان معصوما والمعصوم لا يهم بذنب، ولا يأتيه، ولقد حدثني أبي عن أبيه الصادق(علیه السّلام) أنه قال: همت بأن تفعل، وهم بأن لا يفعل».(2)

ومن الروايات ما روي عن أمير المؤمنين سلام الله عليه أنه قال: «هَيْهَاتَ لَوْ لَا التُّقَى لَكُنْتُ أَدْهَى العَرَبِ...»(3)

وعنه(علیه السّلام): «والله ما معاوية بأدهىٰ منّي، ولكنَّه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهىٰ الناس، ولكن كلَّ غدرة فجرة، وكلَّ فجرة كفرة، ولكلِّ غادر لواء يُعرَف به يوم القيامة. والله ما أستغفل بالمكيدة، ولا أستغمز بالشديدة [أي لا يستضعفني شديد القوَّة]»(4).

وعنه أيضاً: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الوَفَاءَ تَوْأَمُ الصِّدْقِ، ولَا أَعْلَمُ جُنَّةً أَوْقَى مِنْه، ومَا يَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ كَيْفَ المَرْجِعُ، ولَقَدْ أَصْبَحْنَا فِي زَمَانٍ قَدِ اتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِه الغَدْرَ كَيْساً، ونَسَبَهُمْ أَهْلُ الجَهْلِ فِيه إِلَى حُسْنِ الحِيلَةِ، مَا لَهُمْ قَاتَلَهُمُ الله، قَدْ يَرَى الحُوَّلُ القُلَّبُ وَجْه الحِيلَةِ ودُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ الله ونَهْيِه، فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْنٍ بَعْدَ القُدْرَةِ عَلَيْهَا، ويَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لَا حَرِيجَةَ لَه فِي الدِّينِ»(5).

ص: 265


1- يوسف 24.
2- الاحتجاج للطبرسي ج2 ص 221.
3- الكافي للكليني ج8 ص 24.
4- نهج البلاغة (ج 2/ ص 180 و181).
5- نهج البلاغة (ج 1/ ص 92).

النقطة الرابعة: ما هو الدليل على ضرورة العصمة في النبي؟

اشارة

ذكر الشيخ(قدس سره) دليلين:

الدليل الأول:

لو لم يكن النبي معصوماً، لجاز صدور المعصية منه.

وإن جاز صدور المعصية منه، فإما أن يجب على العباد اتباعه فيها، أو لا.

فإن وجب عليهم اتباعه في فعل المعصية، فهذا يعني: أن الله تعالى قد أغراهم بفعل المعصية والعياذ بالله، فإن عاقبهم الله تعالى على هذه المعصية فقد ظلمهم، وإلا – أي لو لم يعاقبهم رغم أنهم ارتكبوا المعصية- للزم لغوية الأحكام الشرعية وعبثيتها.

وإن لم يجب على العباد اتباعه، فقد انتفت فائدة البعثة.

الدليل الثاني:

لو لم يكن النبي معصوماً، لجاز صدور الخطأ منه.

وبالتالي: سنحتمل الخطأ والصواب في كل فعل وقول يصدر من النبي، مما يؤدي إلى انعدام الاطمئنان باتباعه؛ لاحتمال المعصية فيه، وحينئذٍ فإن العقل يحكم بالاحتياط، أي إنه يحكم بترك ما يصدر من النبي، لاحتمال أن يكون أمراً بالمعصية تؤدي إلى دخول النار، وبهذا تذهب الفائدة من البعثة.

ومما تجدر الاشارة إليه:

أن التشكيك في صدق كل أقوال وأفعال النبي والقول باحتمال صدور الخطأ والمعصية منه أمرٌ قد عمل على تسويقه حزب معاصر للنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) وأن النبي مجرد إنسان عادي، بشر يخطئ ويصيب.

ص: 266

روي في هذا المجال عن عبد الله ابن عمرو، قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه، ورسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) بشر يتكلم في الغضب والرضا؟! فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، فأومأ بأصبعه إلى فيه، فقال: «اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق».(1)

فهذه الرواية واضحة جدًا في تشكيكهم (مجموعة من قريش وفي حياته(صلی الله علیه و آله و سلم)) بعصمته(صلی الله علیه و آله و سلم)، وأنه لا ينبغي أن يؤخذ منه كل ما يقول ويفعل، لأنه بشر عادي.

ص: 267


1- سنن أبي داود- سليمان بن الأشعث السجستاني/ج2 ص 167 باب (3) باب في كتاب العلم ح 3646.

ص: 268

عقيدتنا في صفات النبي

اشارة

قال الشيخ(رحمه الله علیه):

«عقيدتنا في صفات النبي.

ونعتقد: أنّ النبي كما يجب أن يكون معصوماً يجب أن يكون متّصفاً بأكمل الصفات الخلقية والعقلية وأفضلها، من نحو: الشجاعة، والسياسة، والتدبير، والصبر، والفطنة، والذكاء؛ حتّى لا يدانيه بشر سواه فيها؛ لأنّه لولا ذلك لما صحّ أن تكون له الرئاسة العامة على جميع الخلق، ولا قوَّة إدارة العالم كله.

كما يجب أن يكون طاهر المولد أميناً صادقاً منزَّهاً عن الرذائل قبل بعثته أيضاً؛ لكي تطمئنّ إليه القلوب، وتركن إليه النفوس، بل لكي يستحق هذا المقام الاِلهي العظيم». انتهى.

مازال الكلام في الصفات التي يلزم توفرها في الأنبياء عموماً ليكونوا لائقين بهذا المنصب الإلهي والسفارة الربانية، وقد تقدمت من الصفات التنصيب الإلهي والعصمة والتأييد بالمعجزة، وهنا يُكْمِل الشيخ كلامه في الصفات:

ومن تلك الصفات:

أولاً: أن يكون النبي أفضل أهل زمانه في كل شيء.

ففي الشجاعة يكون أشجع أهل زمانه، وكذا في العلم والحلم والسياسة والتدبير، وفي كل شيء، واشتراط هذه الصفة واضح جدًا ولا نقاش فيه؛ وذلك لأنه:

ص: 269

إن النبي إذا قيس إلى غيره، فإن الأمر لا يخلو عن أحد وجوه ثلاث:

الوجه الأول: أن يكون مساوياً له في كل الصفات.

الوجه الثاني: أن يكون النبي أقل من غيره.

الوجه الثالث: أن يكون النبي أفضل منه.

فعلى الوجه الأول، يكون تقديم النبي على سواه ترجيح بلا مرجح، والحكيم لا يفعل ذلك.

وإذا كان النبي أدنى من غيره فيلزم من ذلك تقديم الأقل شأناً والمرجوح على الراجح، والعقل يحكم بقبح هذا التقديم، والله سبحانه منزه عن القبيح.

فلا يبقى سوى الوجه الثالث وهو الصحيح.

علاوةً على أن هذه المسألة مسألة وجدانية، إذ ما من عاقلٍ إلا ويقدّم الأفضل دائماً، فالمريض يقدم الطبيب الأفضل لعلاجه، والمتعلم يقدم المعلِّم الأفضل لتعليمه، وهكذا.

وعليه يكون النبي أفضل أهل زمانه عقلاً وعرفاً وشرعاً.

ومن الجدير بالذكر: أنّنا نعتقد أنّ النبي لابد أن يكون أكمل في (الصفات الخَلقية) أيضاً، فلا يكون ناقصاً خلقياً، أي لا يكون أعور أو أعرج أو ما شابه ذلك.

ثانياً: أن يكون النبي كامل العقل والذكاء والفطنة وقوة الرأي وعدم السهو وما شابه هذه الصفات.

وهذه المسألة هي الأخرى مسألة عقلائية، فإن أي عاقل إذا ما أراد أن يعهد إلى شخصٍ ما منصبًا مهمًّا، فإنه بلا أدنى شك لا يختار إلا من كان الأفضل في الصفات المذكورة، ولا يمكن أن يقدم غيره عليه، فإن فعل عُدَّ هذا الأمر سفهاً عرفاً وعقلاً.

ص: 270

ثالثاً: أن يكون النبي منزهاً عن كل ما ينفر عنه الطباع.

كدناءة الآباء وعهر الأمهات وما شابه تلك الأمور، كالتصرفات غير اللائقة، كالأكل في الطرقات، والضحك بصوت عالٍ وما شابه.

ص: 271

ص: 272

عقيدتنا في الأنبياء وكتبهم

اشارة

قال(قدس سره):

«عقيدتنا في الأنبياء وكتبهم

نؤمن على الإجمال بأنّ جميع الأنبياء والمرسلين على حق، كما نؤمن بعصمتهم وطهارتهم، وأمّا إنكار نبوتّهم، أو سبّهم، أو الاستهزاء بهم فهو من الكفر والزندقة؛ لاَنّ ذلك يستلزم إنكار نبينا الذي أخبر عنهم وصدّقهم.

أمّا المعروفة أسماؤهم وشرائعهم، كآدم ونوح وإبراهيم وداود وسليمان وموسى وعيسى وسائر من ذكرهم القرآن الكريم بأعيانهم، فيجب الإيمان بهم على الخصوص، ومن أنكر واحداً منهم فقد أنكر الجميع، وأنكر نبوّة نبينا بالخصوص.

وكذلك يجب الايمان بكتبهم وما نزل عليهم.

وأمّا التوراة والانجيل الموجودان الآن بين أيدي الناس، فقد ثبت أنّهما محرَّفان عمّا أُنزلا بسبب ما حدث فيهما من التغيير والتبديل، والزيادات والاضافات بعد زماني موسى وعيسى(علیهما السّلام) بتلاعب ذوي الأهواء والأطماع، بل الموجود منهما أكثره أو كلّه موضوع بعد زمانهما من الأتباع والأشياع». انتهى.

أشار الشيخ(رحمه الله علیه) في هذه العقيدة إلى عدة إشارات هامة، نذكرها تباعًا:

ص: 273

الإشارة الأولى:

يجب أن نؤمن بجميع الأنبياء اتّباعاً لما جاء في القرآن الكريم بغض النظر عن مقدار عددهم الذي اختلِفَ فيه، فقال بعضٌ (124) ألف نبي، وبعضٌ (144) ألفًا، وبعض (120) ألفًا.

ولا بد أن يكون هذا الإيمان على نحوين:

الأول: الإيمان بالخصوص بالأنبياء الذين ذُكِروا في القرآن الكريم أو في الروايات التي وردت عن المعصومين(علیهم السّلام).

الثاني: الإيمان على نحو إجمالي بالأنبياء الذين لم يُذكروا في القرآن الكريم، ولكن نعلم إجمالا بأنهم كانوا موجودين، يدُلُنا على وجودهم زيادة عدد الأنبياء الذي ذكر على اختلاف تقديره عمَا ذُكِر منهم فعلاً في القرآن الكريم بأسمائهم وقصصهم.

الإشارة الثانية:

أن إنكار أي نبيٍ منهم يستلزم الكفر؛ لأن القرآن الكريم ومن تنزل عليه(صلی الله علیه و آله و سلم) هما من أبلغانا بنبوته، وبالتالي يكون تكذيبنا لنبوته تكذيباً لهما. وتكذيب الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) والكتاب الكريم كفر.

الإشارة الثالثة:

يجب أن نؤمن بجميع كتب الأنبياء، لاسيما الرسل الذين كلفوا بتبليغ الشرائع.

وقد يرد إشكالٌ مفاده:

أن كتب أهل الكتاب الموجودة بين أيدينا كتبٌ قد سُلِّمَ بأنها محرفة، فكيف يتوجب علينا الإيمان بها؟

ص: 274

الجواب:

لا بد أن نؤمن بما أنزل على الأنبياء والرسل من كتب، لا التي حُرّفت فيما بعد، فلا يستلزم إنكارنا لما هو موجود من الكتب المحرَّفة اليوم إنكارَنا للكتب التي نزلت على الأنبياء.

وقد أشار الشيخ إلى أن ما موجود بين أيدينا من الكتب الآن محرّف بقوله (بل الموجود منه أكثره أو كله موضوع).

إن قلت: إن كلمة (كله موضوع) تستدعي الوقوف عليها والتأمل؛ ولربما لا نسلّمها، وذلك لوجود عبارات في التوراة والإنجيل تتضمن اعتقادات صحيحة، وبعض الباحثين بدأوا يستدلون بها في بحوثهم على العقائد الحقّة، مثل قضية الإمام المهدي سلام الله عليه، فكيف يمكن القول بأن كل ما فيهما موضوع؟!

فيمكن أن يُقال: في مقام دفع الإشكال عن قول الشيخ طيب الله ثراه:

ربما قصد(رحمه الله علیه) بذلك: عدم استطاعتنا تمييز الحق من الباطل فيها، فكل فقرةٍ فقرةٍ من التوراة والإنجيل نحتمل فيها الحق والبطلان، فلا تطمئن النفس بها، وبالتالي يمكن الحكم على جميع ما فيها بأنه موضوع.

بالإضافة إلى أنه حتى الحق الموجود فيها، فلا يمكننا القطع بأنه بنفس اللفظ المنزل من عند الله سبحانه على النبيين موسى وعيسى(علیهما السّلام)، إذ لربما هو الآخر قد غُيِرَ وحُرِّفَ ولو لفظاً.

ص: 275

إضاءتان

الإضاءة الأولى: ما الفرق بين الإمامية وسواهم في الاعتقاد بصفات الأنبياء؟

علمنا فيما تقدم أن الشيعة أتباع أهل البيت(علیهم السّلام) يقدسون الرسل والأنبياء أعظم تقديس، ويصفونهم بالعصمة في اعتقاداتهم وفي تبليغهم للشريعة وفي كل فعل وقول وتصرف منهم، وينزهونهم عن جميع المنفرات وجميع المعاصي صغائرها وكبائرها.

وباختصار: أن شيعة أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم ينظرون إلى أي نبي على أنه إنسان كامل.

أما سوى أتباع أهل البيت(علیهم السّلام) فلا يحملون نفس هذا الاعتقاد والتنزيه، بل نجدهم وفي أهم وأصح مصدرين عندهم -كما يدّعون-: صحيح البخاري وصحيح مسلم، قد ذكروا روايات تتضمن نسبة صفاتٍ إلى الأنبياء، هي بضعاف النفوس أليق! فإذا عرفنا أنّهم يعتبرون هذين الكتابين ديناً يجب الإيمان به، فوجوب الاعتقاد بما ورد في كل تلك الروايات أمرٌ مفروغٌ عنه بالنسبة إليهم، وبالتالي فهي من صميم عقيدتهم، وحجة عليهم، ولا مجال أمامهم لنكران ذلك؛ لقولهم بصحة كل ما ورد بين دفتي هذين المصدرين، فإن حاولوا التملص من نسبتها إلى ما يعتقدون، فلا بد أن يصرحوا بعدم صحتها.

ومن الروايات التي ذكرت في هذين الصحيحين والتي تقدح بنزاهة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم):

ما روي عن ابي هريرة، قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاثًا..». فنسبوا الكذب الى ابراهيم سلام الله عليه.(1)

ص: 276


1- صحيح البخاري ج4 ص 112، ونص الرواية: عن أبي هريرة... قال لم يكذب إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) إلا ثلاث كذبات: ثنتين منهن في ذات الله(عزوجل): قوله: ﴿فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ﴾ وقوله: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾. وقال: بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة فقيل له ان ههنا رجلا معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه فسأله عنها فقال: من هذه قال أختي. فأتى سارة قال يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك وان هذا سألني عنك فأخبرته انك أختي فلا تكذبيني، فأرسل إليها فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأخذ فقال: ادعى الله لي ولا أضرك، فدعت الله فأطلق ثم تناولها الثانية فأخذ مثلها أو أشد فقال: ادعى الله لي ولا أضرك فدعت الله فأطلق فدعا بعض حجبته فقال: إنكم لم تأتوني بإنسان إنما اتيتموني بشيطان، فأخدمها هاجر فأتته وهو قائم يصلى، فأومأ بيده مهيا قالت: رد الله كيد الكافر أو الفاجر في نحره واخدم هاجر. قال أبو هريرة: تلك أمكم يا بنى ماء السماء.

ومنها ما روي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ(صلی الله علیه و آله و سلم) فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ(علیه السّلام) فَقَالَ «دَعْهُمَا» فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا.(1)

كما روي عنها: وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالحِرَابِ، فَإِمَّا سَأَلْتُ النَّبِيs وَإِمَّا قَالَ «تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ»، فَقُلْتُ نَعَمْ. فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ خَدِّي عَلَى خَدِّهِ، وَهُوَ يَقُولُ «دُونَكُمْ يَا بَنِى أَرْفِدَةَ»، حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ قَالَ «حَسْبُكِ»، قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ «فَاذْهَبِي».(2)

وعن حذيفة قال كنت مع النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائمًا فتنحيت فقال: «ادنه»، فدنوت، حتى قمت عند عقبيه، فتوضأ فمسح على خفيه.(3)

وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: سمع أبا هريرة يقول: أقيمت الصلاة فقمنا فعدلنا الصفوف قبل أن يخرج علينا رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) فأتى رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) حتى إذا

ص: 277


1- صحيح البخاري ج2 ص 2 – 3. و ج3 ص 228.
2- صحيح البخاري ج2 ص 3. و ج3 ص 228.
3- صحيح مسلم النيسابوري ج1 ص 157.

قام في مصلاه قبل أن يكبر ذكر فانصرف، وقال لنا: «مكانكم». فلم نزل قيامًا ننتظره حتى خرج إلينا وقد اغتسل ينطّف رأسه ماءً، فكبر فصلى بنا.(1)

وعن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: سمع إن النبي صلى الله عليه [وآله] رجلًا يقرأ في المسجد فقال: رحمه الله، لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتهن من سورة كذا وكذا.(2)

الإضاءة الثانية: ما هو الفرق بين النبي والرسول؟

ورد الفرق بينهما في بعض الروايات، منها ما روي في رواية عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ(علیه السّلام) عَنْ قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: ﴿وكانَ رَسُولاً نَبِيًّا﴾ مَا الرَّسُولُ ومَا النَّبِيُّ؟

قَالَ(علیه السّلام): «النَّبِيُّ الَّذِي يَرَى فِي مَنَامِه ويَسْمَعُ الصَّوْتَ، ولَا يُعَايِنُ المَلَكَ، والرَّسُولُ الَّذِي يَسْمَعُ الصَّوْتَ ويَرَى فِي المَنَامِ ويُعَايِنُ المَلَكَ...»(3)

وقد ذكر البعض فروقاً أخرى، من قبيل: أن الرسول مأمور بالتبليغ أما النبي فلا.

ومن قبيل: أن الرسول له شريعة، والنبي ليست له شريعة.

ولكننا في هذه المرحلة الدراسية نكتفي بالفرق الأول.

ص: 278


1- صحيح مسلم النيسابوري ج2 ص 101.
2- صحيح البخاري ج3 ص 152.
3- الكافي للكليني ج1 ص 176 بَابُ الفَرْقِ بَيْنَ الرَّسُولِ والنَّبِيِّ والمُحَدَّثِ ح1.

عقيدتنا في الإسلام

اشارة

قال الشيخ(رحمه الله علیه):

«عقيدتنا في الإسلام:

نعتقد: أنّ الدين عند الله الإسلام، وهو الشريعة الإلهية الحقّة التي هي خاتمة الشرائع وأكملها، وأوفقها في سعادة البشر، وأجمعها لمصالحهم في دنياهم وآخرتهم، وصالحةٌ للبقاء مدى الدهور والعصور، لا تتغيّر ولا تتبدّل، وجامعة لجميع ما يحتاجه البشر من النظم الفردية والاجتماعية والسياسية.

ولمّا كانت خاتمة الشرائع، ولا نترقَّب شريعة أُخرى تُصلح هذا البشر المنغمس بالظلم والفساد، فلا بدَّ أن يأتي يوم يقوى فيه الدين. ولو طُبِّقت الشريعة الاسلامية بقوانينها في الاَرض تطبيقاً كاملاً صحيحاً، لعمّ السلام بين البشر، وتمَّت السعادة لهم، وبلغوا أقصى ما يحلم به الإنسان من الرفاه والعزّة، والسعة والدعة، والخلق الفاضل، ولاِنقشع الظلم من الدنيا، وسادت المحبّة والإخاء بين الناس أجمعين، ولانمحى الفقر والفاقة من صفحة الوجود.

وإذا كنّا نشاهد اليوم الحالة المخجلة والمزرية عند الذين يسمُّون أنفسهم بالمسلمين، فلاَنّ الدين الاسلامي في الحقيقة لم يطبَّق بنصه وروحه، ابتداء من القرن الاَول من عهودهم، واستمرت الحال بنا نحن الذين سمَّينا أنفسنا بالمسلمين من سيّىء إلى أسوأ إلى يومنا هذا، فلم يكن التمسُّك بالدين الاسلامي هو الذي جر على المسلمين

ص: 279

هذا التأخّر المشين، بل بالعكس إنَّ تمرُّدهم على تعاليمه، واستهانتهم بقوانينه، وانتشار الظلم والعدوان فيهم؛ من ملوكهم إلى صعاليكهم ومن خاصتهم إلى عامتهم، هو الذي شلَّ حركة تقدّمهم، وأضعف قوَّتهم، وحطَّم معنوياتهم، وجلب عليهم الويل والثبور، فأهلكهم الله(عزوجل) بذنوبهم: ﴿ذَلِكَ بِأنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغيِّراً نِعمَةً أَنعَمَهَا عَلى قَومٍ حَتَّى يُغيِّروا ما بأَنفُسِهِمْ﴾، تلك سنّة الله في خلقه ﴿إِنَّهُ لا يُفلحُ المُجرِمُونَ﴾، ﴿وَمَا كانَ رَبُّكَ لِيُهلِكَ القُرَى بِظلمٍ وَأَهلُهَا مُصلِحوُن﴾، ﴿وَكذَلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذا أَخَذَ القُرَى وَهي ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخذَهُ أَليِمٌ شَدِيدٌ﴾.

وكيف يُنتظر من الدين أن ينتشل الأُمّة من وهدتها وهو عندها حبرٌ على ورق؛ لا يُعمل بأقل القليل من تعاليمه.

إنّ الإيمان والأمانة، والصدق والإخلاص، وحسن المعاملة والايثار، وأن يُحب المسلم لأخيه ما يحِب لنفسه، وأشباهها، من أوّل اُسس دين الاسلام، والمسلمون قد ودَّعوها من قديم أيّامهم إلى حيث نحن الآن، وكلّما تقدمّ بهم الزمن وجدناهم أشتاتاً وأحزاباً وفرقاً، يتكالبون على الدنيا، ويتطاحنون على الخيال، ويكُفِّر بعضهم بعضاً، بالآراء غير المفهومة، أو الأُمور التي لا تعنيهم، فانشغلوا عن جوهر الدين، وعن ما صالحهم ومصالح مجتمعهم بأمثال النزاع في خلق القرآن، والقول بالوعيد والرجعة وأنّ الجنة والنار مخلوقتان أو سيُخلقان، ونحو هذه النزاعات التي أخذت منهم بالخناق، وكفَّر بها بعضهم بعضاً، وهي إن دلَّت على شيء فإنّما تدلّ على انحرافهم عن سنن الجادّة المعبّدة لهم، إلى حيث الهلاك والفناء.

وزاد الانحراف فيهم بتطاول الزمان، حتى شملهم الجهل والضلال، وانشغلوا بالتوافه والقشور، وبالأتعاب والخرافات والأوهام، وبالحروب والمجادلات والمباهاة،

ص: 280

فوقعوا بالأخير في هاوية لا قعر لها، يوم تمكَّن الغرب المتيقظ العدو اللَّدود للإسلام من أن يستعمر هذه البقاع المنتسبة إلى الإسلام، وهي في غفلتها وغفوتها، فيرمي بها في هذه الهوّة السحيقة، ولا يعلم إلاّ الله(عزوجل) مداها ومنتهاها ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ ولا سبيل للمسلمين اليوم وبعد اليوم إلاّ أن يرجعوا إلى أنفسهم فيحاسبوها على تفريطهم، وينهضوا إلى تهذيب أنفسهم والاَجيال الآتية بتعاليم دينهم القويمة، ليمحو الظلم والجور من بينهم، وبذلك يتمكّنون من أن ينجو بأنفسهم من هذه الطامة العظمى، ولا بدَّ بعد ذلك أن يملأوا الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، كما وعدهم الله~ ورسوله، وكما هو المترقَّب من دينهم الذي هو خاتمة الأديان، ولا رجاء في صلاح الدنيا وإصلاحها بدونه.

ولا بدَّ من إمام ينفي عن الإسلام ما علق فيه من أوهام، وأُلصق فيه من بدع وضلالات، وينقذ البشر وينجّيهم ممّا بلغوا إليه من فساد شامل، وظلم دائم، وعدوان مستمر، واستهانة بالقيم الأخلاقية والأرواح البشرية،(عجل الله تعالی فرجه الشریف)». انتهى.

إن ما أشار إليه الشيخ في هذه العقيدة واضحٌ، ومفادهُ:

أن الدين الخاتم هو الإسلام وهو الذي يجب الإيمان به، ولو طُبِق، لأَخَذَ الناس إلى طريق السعادة، ولكن خروقاتٍ وتلكؤاتٍ حدثت بعد استشهاد الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) أدّت الى أن يتجرد الكثير من المسلمين من الإسلام الحقيقي، وكما روي عن أمير المؤمنين(علیه السّلام): «يَأْتِي عَلَىٰ النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَىٰ فِيهِمْ مِنَ القُرْآنِ إِلَّا رَسْمُه، وَمِنَ الإِسْلَامِ إِلَّا اسْمُه، وَمَسَاجِدُهُمْ يَوْمَئِذٍ عَامِرَةٌ مِنَ البِنَاءِ خَرَابٌ مِنَ الهُدَىٰ، سُكَّانُهَا وَعُمَّارُهَا شَرُّ أَهْلِ الأَرْضِ، مِنْهُمْ تَخْرُجُ الفِتْنَةُ وَإِلَيْهِمْ تَأْوِي الخَطِيئَةُ، يَرُدُّونَ مَنْ شَذَّ عَنْهَا فِيهَا، وَيَسُوقُونَ مَنْ تَأَخَّرَ عَنْهَا إِلَيْهَا، يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَه فَبِي حَلَفْتُ: لأَبْعَثَنَّ عَلَىٰ أُولَئِكَ فِتْنَةً تَتْرُكُ الحَلِيمَ

ص: 281

فِيهَا حَيْرَانَ، وَقَدْ فَعَلَ وَنَحْنُ نَسْتَقِيلُ اللهَ عَثْرَةَ الغَفْلَةِ»(1).

ومن المفيد في المقام أن نشير إلى عدة إشارات مهمة:

الإشارة الأولى: ما هو الفرق بين الاسلام والايمان؟

نذكر ثلاث رواياتٍ تبين الفرق بينهما، وقد ذكرها الشيخ الكليني(رحمه الله علیه).

الرواية الأولى: عَنِ القَاسِمِ الصَّيْرَفِيِّ شَرِيكِ المُفَضَّلِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله(علیه السّلام) يَقُولُ: «الإِسْلَامُ يُحْقَنُ بِه الدَّمُ وتُؤَدَّى بِه الأَمَانَةُ وتُسْتَحَلُّ بِه الفُرُوجُ، والثَّوَابُ عَلَى الإِيمَانِ».(2)

الرواية الثانية: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَحَدِهِمَا(علیهما السّلام) قَالَ: «الإِيمَانُ إِقْرَارٌ وعَمَلٌ والإِسْلَامُ إِقْرَارٌ بِلَا عَمَلٍ».(3)

الرواية الثالثة: عَنْ سُفْيَانَ بْنِ السِّمْطِ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ أَبَا عَبْدِ الله(علیه السّلام) عَنِ الإِسْلَامِ والإِيمَانِ مَا الفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ فَلَمْ يُجِبْه، ثُمَّ سَأَلَه فَلَمْ يُجِبْه، ثُمَّ التَقَيَا فِي الطَّرِيقِ وقَدْ أَزِفَ [أي قرب] مِنَ الرَّجُلِ الرَّحِيلُ فَقَالَ لَه أَبُو عَبْدِ الله(علیه السّلام): «كَأَنَّه قَدْ أَزِفَ مِنْكَ رَحِيلٌ»؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: «فَالقَنِي فِي البَيْتِ»، فَلَقِيَه فَسَأَلَه عَنِ الإِسْلَامِ والإِيمَانِ مَا الفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ فَقَالَ:

«الإِسْلَامُ هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي عَلَيْه النَّاسُ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه، وإِقَامُ الصَّلَاةِ وإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وحِجُّ البَيْتِ وصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ،

ص: 282


1- نهج البلاغة: 540/ ح 369.
2- الكافي للكليني ج2 ص 24 بَابُ أَنَّ الإِسْلَامَ يُحْقَنُ بِه الدَّمُ وتُؤَدَّى بِه الأَمَانَةُ وأَنَّ الثَّوَابَ عَلَى الإِيمَانِ/ ح1.
3- الكافي للكليني ج2 ص 24 بَابُ أَنَّ الإِسْلَامَ يُحْقَنُ بِه الدَّمُ وتُؤَدَّى بِه الأَمَانَةُ وأَنَّ الثَّوَابَ عَلَى الإِيمَانِ/ ح2.

فَهَذَا الإِسْلَامُ.

وقَالَ: الإِيمَانُ مَعْرِفَةُ هَذَا الأَمْرِ مَعَ هَذَا، فَإِنْ أَقَرَّ بِهَا ولَمْ يَعْرِفْ هَذَا الأَمْرَ كَانَ مُسْلِماً وكَانَ ضَالاًّ».(1)

والخلاصة المستفادة من هذه الروايات الثلاثة يكمن الفرق بينهما في التالي:

أن الإسلام هو عبارة عن حصانة دبلوماسية إذا صح التعبير، يحقن الشخص بها دمه وعرضه وماله، ويكون له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، يصلي عليه المسلمون إذا مات، ويدفن في مقابر المسلمين، ويجوز تزويجه والزواج منه، إلى آخر هذه الأحكام الظاهرية.

وأن هذه المرتبة من الإسلام يمكن أن تجتمع مع النفاق؛ لأنها مجرد إظهار للإسلام بمجرد لقلقة لسان، ومن هنا كان الثواب على الإيمان (الاعتقاد الباطني)، وهذا ما عبرت عنه الرواية الأولى.

وهو نفس المعنى المراد في الرواية الثانية من أنَ الإسلام: إقرار بلا عمل، فإذا اقترن بالعمل كان إيماناً.

أما الرواية الثالثة فقد ذكرت الركن الأساسي في الإيمان وهي: الولاية لأهل البيت(علیهم السّلام) وهي أس الإسلام.

إذاً الفرق الأساسي بين الإسلام والإيمان هو أن الإسلام متعلقٌ بالظاهر، وأما الإيمان فمتعلق بالباطن، وهو عقد القلب بما تلفظ به بلسانك.

ص: 283


1- الكافي للكليني ج2 ص 24 - 25 بَابُ أَنَّ الإِسْلَامَ يُحْقَنُ بِه الدَّمُ وتُؤَدَّى بِه الأَمَانَةُ وأَنَّ الثَّوَابَ عَلَى الإِيمَانِ/ 4.

الإشارة الثانية: مستويات القوانين الأخلاقية في القرآن الكريم.

اشارة

إن في الاسلام قوانين أخلاقية تأخذ بيد الإنسان إلى طريق الصلاح والسعادة.

وقد أشار الشيخ (طيب الله ثراه) إلى ذلك، ولو راجعنا القرآن الكريم والروايات الشريفة فلربما استطعنا أن نستخلص مستوياتٍ خمسة مترتبة بعضها على البعض الآخر للقوانين الأخلاقية في القرآن الكريم والسنة الشريفة.

والمستويات الخمسة هي:

المستوى الأول: القدوة الصالحة.

من الواضح أنَّ المربي إذا ما أراد أن يربي شخصاً ما، فإنه لابد أن يسلك معه عدة طرق أو أساليب لأجل ذلك، فمنها أسلوب الترهيب وأسلوب الترغيب، ومنها أسلوب المراقبة عن بعد، ومنها أسلوب الأسوة الصالحة؛ إذ من الواضح أن يتأثر الإنسان بالشخصية الكاملة لاسيما إذا اعتقد أنّها قدوةٌ له؛ لذا ركزَّ عليه دين الإسلام عندما أرشدنا إلى الإنسان الكامل الذي يجب أن نتخذه قدوةً صالحةً نتبعها في جميع مجالات الحياة، وهو الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، قال الله(عزوجل): ﴿لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً﴾(1)

وقد جسّدت ذلك سيرته العطرة(صلی الله علیه و آله و سلم) التي سنذكر منها نماذج في عقيدتنا في صفاته(صلی الله علیه و آله و سلم) إن شاء الله تعالى، ومن ذلك ما روي عن الإمام الباقر(علیه السّلام) أنَّه قال: «كان رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) عند عائشة ليلتها، فقالت: يا رسول الله لِمَ تُتعِب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ فقال: يا عائشة، ألَا أكون عبداً شكوراً؟».

قال: «وكان سول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) يقوم علىٰ أطراف أصابع رجليه، فأنزل الله سبحانه

ص: 284


1- الأحزاب 21.

وتعالىٰ: ﴿طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقىٰ﴾(1)»(2).

المستوى الثاني: تصحيح المفاهيم بما يناسب روح الإسلام.

فقد بدأ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) -وهو القدوة الصالحة المنزّه عن أي خلل أخلاقي أو سلوكي- بعملية يمكن أن تُسمى بعملية انقلاب المفاهيم، وخلاصتها:

قيامهs بتشذيب المفاهيم الأخلاقية المتعارف عليها عند العرب في زمن الجاهلية، والتي كانت تمثل سلوكاً اجتماعياً، فلم يقم(صلی الله علیه و آله و سلم) بإلغاء كل ذلك السلوك، بل هذّبه بما يتناسب وروح الإسلام من خلال التعديل فيما يلزم تعديله، أو حذف ما يلزم حذفه،كتعديله لمفهوم الظلم الذي هو عند الجاهلية بمعنى الاعتداء على الغير وسلبه حقه، فأضاف إليه الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) ظلم النفس أيضاً وهو قوله تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾(3)

وكمفهوم الشجاعة التي كانت تعني القوة البدنية والجرأة وخوض المعارك والحروب بدون تردد وخوف، ولكن الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) وسّع دائرته لتشمل البعد المعنوي أيضاً، يدلنا على ذلك ما روي أنه(صلی الله علیه و آله و سلم) أنَّه مرَّ بقوم فيهم رجل يرفع حجراً يقال له: حجر الأشدّاء، وهم يعجبون منه، فقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «ما هذا؟»، قالوا: رجل يرفع حجراً يقال له: حجر الأشدّاء، فقال: «ألَا أُخبركم بما هو أشدّ منه؟ رجل سبَّه رجل فحلم عنه، فغلب نفسه، وغلب شيطانه، وغلب شيطان صاحبه»(4).

ص: 285


1- طه: 1 و2.
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 95/ باب الشكر/ ح 6).
3- النحل 118.
4- مستدرك الوسائل للميرزا النوري (ج 11/ ص 289/ح 13050/10)، نقلاً عن الشيخ ورّام في تنبيه الخاطر.

فهنا بيّن(صلی الله علیه و آله و سلم) معنى آخر للشجاعة وهي القوة النفسية التي يغلب بها الإنسان نفسه ويملكها عند الغضب ويغلب شيطانه وشيطان صاحبه.

وكمفهوم الجهاد، إذ المعروف عنه أنه الذهاب إلى المعركة ومقاتلة الأعداء، ولكن وسّعه الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) ليشمل جهاد النفس، فقد روي عن أبي عبد الله(علیه السّلام): «إنَّ النبيَّ(صلی الله علیه و آله و سلم) بعث بسرية، فلمَّا رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي (عليهم) الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله، ما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس»(1).

المستوى الثالث: ربط الأعمال بالداعي الإلهي.

أي جعل أساس العمل هو الدافع الذاتي والنية الخالصة لله(عزوجل)، فقد تجد شخصين يصليان نفس الصلاة من حيث المحتوى الظاهري والعمل الجوارحي، إلا أن المحتوى الباطني أو القصد الجوانحي للمصلي نفسه مختلف، بحيث إنه أثّر في كلٍ منهما فأهبط الأولى نحو البطلان لأنها كانت رياءً مثلًا، ورفع الأخرى نحو القبول لأنها كانت خالصة لله تعالى.

ومن هنا فقد أكدّت الروايات الشريفة على جعل النية هي الأساس في قبول الأعمال وعدمه، بل وحتى في الخلود في الجنة أو النار، فقد روي عن أبي هاشم، قال: سألت أبا عبد الله(علیه السّلام) عن الخلود في الجنَّة والنار، فقال: «إنَّما خُلِّدَ أهل النار في النار لأنَّ نيّاتهم كانت في الدنيا أنْ لو خُلِّدوا فيها أنْ يعصوا الله أبداً، وإنَّما خُلِّدَ أهل الجنَّة في الجنَّة لأنَّ نيّاتهم كانت في الدنيا أنْ لو بقوا فيها أنْ يطيعوا الله أبداً، فبالنيّات خُلِّد هؤلاء وهؤلاء»، ثمّ تلا قوله تعالىٰ: «﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلىٰ شاكِلَتِهِ﴾(2)،

أي علىٰ نيَّته»(3).

ص: 286


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 12/ باب وجوه الجهاد/ ح 1).
2- الإسراء: 84.
3- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 2/ ص 330 و331/ ح 94).
المستوى الرابع: تأسيس القوانين الأخلاقية.

بعد أن صار النبيs قدوة صالحة، واستطاع بصبره وحكمته أن يقلب الكثير من المفاهيم المغلوطة إلى مفاهيم صحيحة، وعمد إلى ربط العمل بالدافع الإلهي (الاخلاص)، جاء الإسلام ليؤسس قوانين أخلاقية جديدة تعالج جميع مشاكل الحياة على جميع المستويات، وما بعض سور القرآن الكريم إلا عبارة عن سلسلة من القوانين الأخلاقية كسورة الإسراء والحجرات وغيرهما. من تلك القوانين: قوله تعالى: ﴿فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾(1)

وهو قانون أخلاقي يدعو إلى العمل للآخرة؛ لأن كل ما في الحياة الدنيا مؤقت.

وفي آية أخرى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾(2)

ولكن لم يقتصر الدين الإسلامي في دعوته على التمسك بالآخرة فقط، بل ودعا إلى التمسك بالدنيا أيضاَ ولكن على نحو الوسيلة لا الغاية، قال عز من قائل: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ﴾(3)

ومن الجدير بالذكر: أن الدين الإسلامي لم يقتصر على تأسيس القوانين والنظم الأخلاقية فقط، بل شمل تأسيسه للنظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولكننا ركّزنا الكلام عن النظم الأخلاقية فحسب؛ لأهميتها من جهة، ومراعاةً للاختصار من جهةٍ أخرى.

المستوى الخامس: بيان ثمرات الأعمال الأخلاقية.

من طبيعة الإنسان أنه ميّال إلى معرفة الثمار التي يمكن أن يجنيها من الأعمال التي

ص: 287


1- التوبة 38.
2- العنكبوت 64.
3- القصص 77.

يقوم بها، وكذا ما نُهيَ عنه منها، كوجوب الصلاة والصوم والزكاة، وتحريم الغيبة والكذب والنميمة وما إلى ذلك.

وقد تكفلّت الآيات والروايات ببيان ذلك، كما في قوله تعالى: ﴿وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا﴾(1)

وفي قوله تعالى: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(2)

وفي رواية عن أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه: ثواب عملك أفضل من عملك.(3)

الإشارة الثالثة: بدء المسلمين بالانحطاط والتردّي الأخلاقي والديني.

وقد أشار الشيخ(رحمه الله علیه) إلى ذلك في عباراته.

ولابد في المقام أن نلتفت إلى أهم الخطط التي سلكها أعداء الدين لتدمير الإسلام في نفوس المسلمين، لا لغرض إيصال المعلومات فحسب، بل لأجل توعية المسلمين وبيان خطر تلك المخططات والعمل على صدها، وهو عملٌ من صميم الانتظار الحقيقي للإمام(عجل الله تعالی فرجه الشریف)؛ إذ إن الانتظار إنما هو عبارة عن بناء الإنسان والتمهيد العملي لظهور الامام(علیه السّلام)، لا أنه يحمل مفهوماً سلبياً كما يحلو للبعض أن يصوّره، فيدعو العاملين إلى ترك الساحة بما فيها من آفات وشبهات ومخططات تدميرية حتى يظهر الإمام(عجل الله تعالی فرجه الشریف).

ص: 288


1- مريم 76.
2- النحل 96.
3- عيون الحكم والمواعظ للّيثي الواسطي ص 218.

مخططات تدمير الإسلام:

من أهم تلك المخططات:

أولاً: تشكيك المسلمين في دينهم، وذلك من خلال التشكيك في بعض الأحكام الشرعية وتصويرها على أنها أحكام جائرة قاسية مجردة من الرحمة، كحكم قطع يد السارق وحكم رجم الزاني وحكم حجاب المرأة وما شابه ذلك.

وقد أثّرت هذه التشكيكات في بعض المسلمين وللأسف الشديد، حتى أضحى الشاب الملتزم يُعيَّر بالتزامه ويُطلق عليه مصطلح (إسلامي)، كما يُطلق على الفتاة الملتزمة كلمة (معقدة) وما شابه.

ثانياً: تشجيع الحركات والمذاهب الحاملة لاسم دين الإسلام المعادية لروحه وتعاليمه، كحركة الوهابية التي تتخذ من القتل والتكفير مبدأً محوريًا من مبادئها، مشوهةً بذلك صورة الاسلام والمسلمين.

ثالثاً: نشر الفساد الأخلاقي.

وقد صرّح أحدهم بذلك قائلاً: كأسٌ وغانيةٌ يفعلان بالأمة المحمدية ما لا يفعله ألف مدفع.

ومن أنماط الفساد الأخلاقي التي يؤكد عليها الأعداء هي: الجنس، الخمور، والمخدرات، الأدب المكشوف الذي تنتهجه أغلب المسلسلات والأفلام اليوم، وهو عبارة عن تبرير الأخطاء الفادحة وإظهار الجاني بصورة الضحية، من خلال الضرب على مشاعر المتلقين وتجنيدها في الجبهة التي يرغبون، من ذلك تصوير الزوجة الخائنة على أنها مظلومة، وشارب الخمر على أنه إنسان شهمٌ وذو نخوة بالقياس إلى أقرانه في القصة من المتدينين...

ص: 289

الرابعة: تشويه صورة العلماء لدى العامة، وهو من أخطر المخططات، وإن من الأهمية بمكان تنبيه عامة الناس إلى ذلك؛ لئلا ينجرفوا مع التيار الماكر.

ومن المفيد أن نستشهد ببعض النصوص التي وردت في كتب الأعداء والتي تؤكد ما أسلفناه من صور المخططات منها كتاب بروتوكولات حكام صهيون، فقد جاء في بعض بنود مخطَّطات اليهود ما نصّه: «وقد عنينا عناية عظيمة بالحطِّ من كرامة رجال الدين من الأُمميين (غير اليهود) في أعين الناس، وبذلك نجحنا في الإضرار برسالتهم التي كان يمكن أن تكون عقبة كؤوداً في طريقنا. وإنَّ نفوذ رجال الدين علىٰ الناس ليتضاءل يوماً فيوماً»(1).

بالإضافة إلىٰ أنَّ الوثيقة الرابعة من الوثائق الاشتراكية اليهودية(2) تقول فيما تقول(3):

2 - تشويه سمعة رجال الدين، والحكّام المتديِّنين، واتِّهامهم بالعمالة للاستعمار والصهيونية.

4 - الحيلولة دون قيام حركات دينية في البلاد مهما كان شأنها ضعيفاً، والعمل الدائم بيقظة لمحو أيّ انبعاث ديني.

5 - ومع هذا لا يغيب عنّا أنَّ للدين دوره الخطير في بناء المجتمعات؛ ولذا وجب

ص: 290


1- الخطر اليهودي (بروتوكولات حكماء صهيون) لمحمّد خليفة التونسي.
2- نقلها الأُستاذ طارق حجّي في كتابه (الشيوعية والأديان)، هذا الرجل الذي اعتقد الماركسية ومارس العمل بمبادئها، وقرأ فيها خمسة آلاف مرجع، ونش-رتها كذلك مجلَّة (كلمة الحقِّ) في العدد الصادر في شهر المحرَّم سنة (1387ه-)، ووردت في كتاب: (الكيد الأحمر) للمؤلِّف عبد الرحمن حسن حنبكة.
3- ملاحظة: ترقيم الفقرات حسب ما هو موجود في الوثيقة.

أن نحاصره من كلِّ الجهات، وفي كلِّ مكان، وإلصاق التهم به، وتنفير الناس منه بالأُسلوب الذي لا ينمُّ عن معاداة الإسلام.

6 - تشجيع الكُتَّاب الملحدين، وإعطاؤهم الحرّية كلّها في مواجهة الدين، والشعور الديني، والضمير الديني، والعبقرية الدينية.

14 - تحطيم القيم الدينية والروحية، واصطناع الخلل والعيوب لها.

18 - إلصاق كلّ عيوب الدراويش، وخطايا المنتسبين للدين بالدين نفسه؛ لإثبات أنَّ الدين خرافة.

19 - تسمية الإسلام الذي تُؤيِّده الاشتراكية لبلوغ مآربها وتحقيق غاياتها - بالدين الصحيح، والدين الثوري، والدين المتطوّر.

20 - باسم تصحيح المفاهيم الإسلاميَّة، وتنقية الدين من الشوائب، وتحت ستار الإسلام، يتمُّ القضاء عليه بأن نستبدل به الاشتراكية).

بهذا وأمثاله أرادوا تشويه صورة العلماء وللأسف نجحوا في كثير من الاحيان، ولكن نحن يجب ان نتذكر قيمة العلماء كما يقول الامام الهادي صلوات الله وسلامه عليه: لولا من يبقىٰ بعد غيبة قائمكم(علیه السّلام) من العلماء الداعين إليه، والدالّين عليه، والذابّين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلَّا ارتدَّ عن دين الله، ولكنَّهم الذين يُمسِكون أزمَّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يُمسِك صاحب السفينة سكّانها، أُولئك هم الأفضلون عند الله(عزوجل)»(1).

ص: 291


1- الاحتجاج للطبرسي 2: 260.

ص: 292

عقيدتنا في مشرّع الإسلام

الخطوة الثانية: النبوة الخاصة.

قال الشيخ(رحمه الله علیه):

«عقيدتنا في مشرع الإسلام:

نعتقد: أنَّ صاحب الرسالة الاسلامية هو محمد بن عبد الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وهو خاتم النبيين وسيد المرسلين وأفضلهم على الإطلاق كما أنَّه سيد البشر جميعاً لا يُوازيه فاضل في فضل ولا يُدانيه أحدٌ في مكرمة، ولا يقاربه عاقلٌ في عقل، ولا يشبهه شخص في خلق، وأنه لعلى خلقٍ عظيم، ذلك من أول نشأة البشر إلى يوم القيامة». انتهى.

تقدم حديث الشيخ(قدس سره) عن النبوة العامة بما هي أصل، بقطع النظر عن ذكر أي نبيٍ من الأنبياء. وبعد أن أكمل المفهوم العام للنبوة وما يتعلق بها من عصمة والدليل عليها من إعجاز، انتقل إلى الحديث عن النبوة الخاصة المتمثلة بنبوة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، وذكر معجزته ودستوره وهو القرآن الكريم، وانتقل إلى طريقة اثبات الإسلام في قبال الديانات الأخرى. وهي أمور لا يكتنفها الكثير من التعقيد، يمكننا أن نوضحها بالإشارات الآتية:

الإشارة الاولى: أن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) هو أفضل ما خلق الله(عزوجل).

وهو أمر متفق عليه لم يختلف عليه أحد من المسلمين، والأدلة الدالة عليه كثيرة

ص: 293

جداً، منها ما ورد عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) انه قال: «أنا سيد ولد آدم وأول من تنشق عنه الأرض وأول شافع وأول مشفع».(1) وفي حديث آخر للرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال: «أنا أول الناس خروجًا إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذ وفدوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر».(2)

وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله(علیه السّلام) قَالَ: «لَمَّا عُرِجَ بِرَسُولِ اللهs انْتَهَى بِه جَبْرَئِيلُ إِلَى مَكَانٍ فَخَلَّى عَنْه، فَقَالَ لَه: يَا جَبْرَئِيلُ تُخَلِّينِي عَلَى هَذِه الحَالَةِ؟ فَقَالَ: امْضِه، فَوَاللهِ لَقَدْ وَطِئْتَ مَكَاناً مَا وَطِئَه بَشَرٌ ومَا مَشَى فِيه بَشَرٌ قَبْلَكَ».(3)

كما أشار الشيخ(رحمه الله علیه) إلى أنَّ النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) هو خاتم النبيين، وهو أمرٌ متفقٌ عليه بين المسلمين أيضاً، وقد أكّد عليه كل من القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾(4)

وكذا السنة النبوية المطهرة، كما في قول الرسول الأكرم مخاطباً الإمام علي (صلوات الله وسلامه عليهما): «يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنَّه لا نبي بعدي».

الإشارة الثانية: اتصافه(صلی الله علیه و آله و سلم) بالأخلاق الفاضلة.

لقد كان(صلی الله علیه و آله و سلم)أعبد الناس، فقد روي عن الإمام الباقر(علیه السّلام) أنَّه قال: «كان رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) عند عائشة ليلتها، فقالت: يا رسول الله لِمَ تُتعِب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدَّم

ص: 294


1- مسند أحمد بن حنبل ج2 ص 540.
2- كنز العمال للمتقي الهندي ج11 ص 403 ح31878.
3- الكافي للكليني ج1 ص 442 بَابُ مَوْلِدِ النَّبِيِّ(صلی الله علیه و آله و سلم) ووَفَاتِه/ ح12.
4- الأحزاب 40.

من ذنبك وما تأخَّر؟ فقال: يا عائشة، ألَا أكون عبداً شكوراً؟».

قال: «وكان سول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) يقوم علىٰ أطراف أصابع رجليه، فأنزل الله سبحانه وتعالىٰ: ﴿طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقىٰ﴾(1)»(2).

ومع هذا لم يكن ليترك الدنيا مطلقاً، بل كان يأكل ويشرب ويُحِبُّ الطيب ويقارب النساء، والأحاديث في ذلك كثيرة مشهورة، وكان(صلی الله علیه و آله و سلم) أشدّ الناس حياءً، فقد كان أحيىٰ من العذراء في خدرها، وكانs(صلی الله علیه و آله و سلم) لا يُسئَل شيئاً إلَّا أعطاه، وكان(صلی الله علیه و آله و سلم) متواضعاً بحيث كان يأكل أكل العبد، ويجلس جلسة العبد، وكان يأكل علىٰ الحضيض، وينام علىٰ الحضيض، وكان(صلی الله علیه و آله و سلم) يحلب المعز بيده، ويلبس الصوف، ويُسلِّم علىٰ الصبيان (لتكون سُنَّة من بعده)، وكان إلىٰ جانب ذلك أشجع الناس، قال أمير المؤمنين(علیه السّلام): «لقد رأيتُني يوم بدر، ونحن نلوذ بالنبيِّ(صلی الله علیه و آله و سلم)، وهو أقربنا إلىٰ العدوِّ، وكان من أشدّ الناس يومئذٍ بأساً»(3)، وقال(علیه السّلام): «كنّا إذا احمرَّ البأس ولقي القومُ القومَ، اتَّقينا برسول الله، فما يكون أحد أقرب إلىٰ العدوِّ منهs»(4).

وكان(صلی الله علیه و آله و سلم) خير الناس بأهله، وأرحمَهم بهم.

إلى غيرها من الصفات الكثيرة التي ينبغي للمسلم أن يجعلها منهاجاً في حياته يتمثلها في سلوكه اليومي.

ص: 295


1- طه: 1 و2.
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 95/ باب الشكر/ ح 6).
3- مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي (ص 18).
4- المصدر السابق.

الإشارة الثالثة: ديانة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) قبل بعثته في عمر الأربعين.

مما لا شك فيه أنَّ الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) لم يسجد لصنم قط قبل بعثته، ولم ينحرف عن خط التوحيد بل والإنسانية العام؛ لذا كان(صلی الله علیه و آله و سلم) يُسمى بالصادق الأمين، وقد كان كذلك في نظر قريش حتى بعد بعثته فضلاً عما قبلها، فعندما هاجر(صلی الله علیه و آله و سلم) إلى المدينة ترك الإمام علي(علیه السّلام) في مكة المكرمة؛ وذلك لعدة غايات إحداها: ليرد الودائع إلى أهلها، أي إنه(صلی الله علیه و آله و سلم) ولمدة ثلاث عشرة سنة يدعو قريش إلى التوحيد ونبذ عبادة الأصنام ويحذرهم من عذاب النار ولم يستجيبوا لدعوته، وبالرغم من كل ذلك كانوا يودعون أماناتهم عنده؛ ليقينهم بأمانته وعدم تصورهم خيانته يوماً ولو لمن هم في نظره كفار مشركون يستحقون نار جهنم.

أقوال في ديانة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم):

القول الأول: ذهب البعض الى أنه كان على الديانة المسيحية؛ لأنه الدين السابق على الإسلام ولم يكن منسوخاً بعد.

القول الثاني: أنّه كان على دين إبراهيم الخليل(علیه السّلام).

ولكن لا يوجد دليل واضح على هذين القولين.

القول الثالث: أنَّه كان على دينٍ لا نعرفه.

والصحيح والله العالم: أنّ الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) كان يتعبد ببرنامج خاص به.

ويعضد هذا الرأي عدة مؤيدات:

المؤيد الاول: لم يُبعث الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) بالنبوة في الأربعين من عمره، وإنما بُعِث بالرسالة. وإلا فقد كان نبياً قبل ذلك، وهو رأي العلامة المجلسي(رحمه الله علیه).(1)

ص: 296


1- هناك بحث مفصل وطويل ذكره العلامة المجلسي(رحمه الله علیه) في بحاره ج18 ص 271 وما بعدها، بعنوان: تذنيب: اعلم أن علماء الخاصة والعامة اختلفوا في أن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) هل كان قبل بعثته متعبدا بشريعة أم لا... فمن أحب الاستزادة فليراجع المصدر، ففيه الكثير من الفوائد النافعة.

بل في بعض الروايات أنه كان(صلی الله علیه و آله و سلم) نبياً قبل إتمام خلق آدم(علیه السّلام)، فقد روي عنه(صلی الله علیه و آله و سلم): «كنت نبياً وآدم بين الماء والطين».(1)

وفي رواية: «نُبّئت وآدم بين الروح والجسد».(2)

وعليه فليس من المستبعد أن يكون قد تعبد قبل بعثته وفقاً لمنهاجٍ خصه الله(عزوجل) به.

المؤيد الثاني: وصف أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه في نهج البلاغة إياه(صلی الله علیه و آله و سلم) بقوله: «ولَقَدْ قَرَنَ الله بِه(صلی الله علیه و آله و سلم)، مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِه، يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ المَكَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ العَالَمِ لَيْلَه ونَهَارَه...»(3)

فوجود الملك معهs يشير إلى أنّه كان نبياً يتعبد بمنهاجه الديني الخاص من الله(عزوجل) بواسطة ذلك الملك.

المؤيد الثالث: أنّ التاريخ لم يذكر لنا بأنه(صلی الله علیه و آله و سلم) قد تعبد في كنيسة أو معبد لليهود أو في أيِّ معبد لأي ديانة من الديانات، بل كان يذهب لوحده في غار حراء ليتعبد هناك، وهذا يشير إلى أنَّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) كان يتعبد وفقاً لمنهاج خاص به.

المؤيد الرابع: معرفته(صلی الله علیه و آله و سلم) بالله(عزوجل) قبل بعثته وباعتماده على نفسه دون سواه، وذلك ما أوضحته بعض الروايات منها ما ورد عن ابن عباس عن حليمة السعدية مرضعته(4)(صلی الله علیه و آله و سلم)

ص: 297


1- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الإحسائي ج4 ص 121.
2- الاحتجاج للطبرسي ج2 ص 248.
3- نهج البلاغة ج2 ص 157.
4- بناءً على صحة كونها مرضعته(صلی الله علیه و آله و سلم).

أنَّها قالت: فلما تمَّ له ثلاث سنين قال لي يوما: يا أمّاه مالي لا أرى أخويَ بالنهار قاصداً أخويه من الرضاعة --؟

قلت له: يا بني إنهما يرعيان غُنيمات. فقال لي: ومالي لا أخرج معهما؟ قلت له: تحب ذلك؟ قال: نعم. فلما أصبح دهنته وكحلته وعلقت في عنقه خيطاً فيه جزع يمانية، فنزعها ثم قال لي: مهلاً يا أماه فإن معي من يحفظني.(1)

وبناءً على ما تقدّم:

فإننا نعتقد وبشكل قاطع بإيمان الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) بل ونبوته أيضاً قبل بعثته المباركة، وعليه ينبغي فهم النصوص الشرعية وفقاً لهذه العقيدة، وهذا ما تعتقده الفرقة الإمامية.

تتمات:

التتمة الأولى:

في الوقت الذي نؤمن بالنبي(صلی الله علیه و آله و سلم) بهذا المعنى، فإن بعض العامة لا تأبه لذلك كثيراً؛ بل إنهم ينسبون له(صلی الله علیه و آله و سلم) ما لا يُرتضى لمثله، ومن ذلك ما ورد في تفسير الرازي في قوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدىٰ﴾(2)

قال ما نصه: «فاعلم أن بعض الناس ذهب إلى أنه كان كافراً في أول الأمر، ثم هداه الله وجعله نبياً، قال الكلبي: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا﴾يعني كافراً في قوم ضلال فهداك للتوحيد، وقال السدي: كان على دين قومه أربعين سنة، وقال مجاهد: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا﴾ عن الهدى لدينه..».(3)

ص: 298


1- بحار الأنوار ج15 ص 392.
2- الضحى 7.
3- تفسير الرازي ج31 ص 216.

التتمة الثانية: حديث شق الصدر.

أساءت إلى الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) كثيرٌ من الأحاديث في كتب العامة، إلا أننا نقتصر في المقام على بيان حديث لانتشاره بينهم أولاً، ولقولهم بتكرار مضمونه في أكثر من مرحلة عمرية من حياته الشريفة ثانياً، فضلاً عن جسامة الإساءة التي نسبت إليه(صلی الله علیه و آله و سلم) فيه، وهو حديث شق الصدر(1)، ومفاده:

روي عن أنس بن مالك أنَّ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) أتاه جبرائيل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه وصرعه فشقَّ عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله بطست من ذهب بماء زمزم، ثم لأَمه ثم أعاده في مكانه، وجاؤوا الغلمان يسعون إلى أمه وقالوا: إنَّ محمداً قد قُتِل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: وكنت أرى ذلك المخيط في صدره...(2)

وقد ذكروا أنَه قد شُقَّ صدره خمس مرات، أربعة منها ثابتة في عمر الثلاث سنوات، والأخرى في العاشرة من عمره، والثالثة عند مبعثه، ورابعة عند الإسراء، أما الخامسة فقد اختلفوا فيها.

وبعيداً عن المناقشة السندية نتناول متن الحديث بشيءٍ من النقاش في النقاط الآتية:

الأولى: عبارة (وهو يلعب مع الصبيان):

من الثابت في عقيدتنا أنَّ الأنبياء والأئمة جميعاً من خصائصهم المعروفة أنّهم لا يلهون ولا يلعبون مع الصبيان كغيرهم من الأقران، والشواهد على صحة تلك العقيدة

ص: 299


1- للتفاصيل انظر: الصحيح من سيرة النبي الأعظمs للسيد جعفر مرتضى العاملي(رحمه الله علیه) ج2 ص 164 وما بعدها.
2- انظر مسند أحمد ج3 ص 121 و 149 و 288 وصحيح مسلم ج1 ص 101 – 102 وغيرها.

كثيرةٌ، منها ما جاء من قول الله تعالى في قصة يحيى: ﴿يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا... يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيًّا﴾(1)

وقد روي في ذلك: أنَّه كان صبياً فقال له الصبيان: هلُّم بنا نلعب، فقال: «أوهٍ والله ما للعبِ خُلِقنا وإنّما خُلقنا للجد لأمرٍ عظيمٍ».(2)

فإذا كان النبي يحيى(علیه السّلام) لم يرضَ باللعب في صباه، فكيف بسيده وأفضل المخلوقات والأنبياء النبي محمدs؟!

كما روي أنَّ الإمام الصادق(علیه السّلام) قد سُئلَ عن صاحب هذا الأمر فقال: «هو من لا يلهو ولا يلعب»، يقول الراوي: فأقبل الإمام الكاظم(علیه السّلام) صغيراً ومعه عناق له وهو يقول لها: «اسجدي لربك»، فضمه الإمام الصادق(علیه السّلام) وقال: «بأبي من لا يلهو ولا يلعب».(3)

وفي بعض الروايات أنَّ حليمة السعدية روت في أحوال النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) أنها قالت: «وكان أخواه من الرضاعة يخرجان فيمران بالغلمان فيلعبان معهم وإذا رآهم محمدs اجتنبهم وأخذ بيد أخويه ثم قال لهما: إنّا لم نخلق لهذا...»(4)

الثانية: عبارة (فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك)

ما يفهم من منطوق هذه العبارة أن مصدر الشر في الإنسان ودافعه إلى ارتكاب

ص: 300


1- مريم 7 و12.
2- التفسير المنسوب للإمام العسكري(علیه السّلام) ص 661.
3- الصراط المستقيم لعلي بن يونس العاملي النباطي البياضي ج2 ص 164.
4- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج15 ص 391.

المعاصي واقتراف الذنوب يكمن في علقة في القلب، فإن زالت زال من الإنسان كل شر، والعكس صحيح فيما إذا بقيت. وللرد عليها نقول:

هل من الصحيح أن مصدر الشر والذنوب والمعاصي هو علقة في القلب؟

لو كان الأمر كذلك عند كل إنسان، فالأمر جداً يسير، إذ بإمكانه أن يدرأ عن نفسه مؤونة جهاد النفس وصعوبته من خلال قيامه بإجراء عملية جراحية يستأصل فيها تلك العلقة، لاسيما في الوقت الراهن الذي يشهد تطور العلم والطب، بل ويُصبح حينئذٍ معصوماً.

أما إن اقتصر تواجد تلك العلقة في قلب النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) حصراً، فالأمر أدهى وأمرّ حينئذٍ، إذ يكون في أكرم المخلوقات وأفضلها وأقربها إلى الله تعالى وأرقاها، مصدرٌ للشر قد تنزهت عن تضمنه سائر قلوب المخلوقات! وفيه إساءة أكبر للرسول الأعظمs كما هو واضح.

الثالثة: لو سلّمنا جدلاً أنَّ مصدر الشر هي علقة في القلب، فهل إنَّ هذه العلقة من النوع الذي ينمو كلما قُلِع، ولأجل ذلك تكررت هذه العملية أربع مرات، وفي أوقات متباعدة؟ أو إنَّ الجراح كان غير حاذق، فاستدعى تكرار العملية رغم أنها واحدة لا غير؟!

الرابعة: هذا الحديث يتنافى مع صريح القرآن الكريم، إذ يقول تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ* قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ. إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ﴾(1)

ص: 301


1- الحجر 39--42.

ويقول جل وعلا: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا﴾.(1)

وقال جل شأنه: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾(2)

فإذا كان العبد المخلص من عباد الله تعالى فإن الشيطان لا يقربه، فكيف بسيد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه وآله؟!

الخامسة: هذا الحديث يسيء إلى الدين الإسلامي برمته، ويدعو البعض إلى القول بأحقية النصرانية في الاتباع منه. فقد روي في صحيح البخاري (ما من بني آدم مولود الا يمسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخًا من مس الشيطان غير مريم وابنها)(3)

وهذا ما يعتقد به المسيحيون من أنّ السيدة مريم وابنها النبي عيسى(علیهما السّلام) لم يمسهما الشيطان، وإذا ضممنا إليه حديث شق الصدر، تكون النتيجة واضحة جداً مفادها: أنَّ الأفضل بين النبيين هو النبي عيسى(علیه السّلام) فلِمَ يجب على الناس اتباع المفضول في حين أن الفاضل موجود؟!

وقد علم رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) بما سيروى عنه كذباً ومآل ذلك على صحة العقيدة الإسلامية بل والدين الإسلامي برمته كما تقدّم؛ لذا فقد حذّر في خطبة حجة الوداع من الكذب عليه قائلاً: «قد كثرت علي الكذابة وستكثر بعدي فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده

من النار فإذا أتاكم الحديث عني فاعرضوه على كتاب الله وسنتي، فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوا به، وما خالف كتاب الله وسنتي فلا تأخذوا به».(4)

ص: 302


1- الإسراء 65.
2- النحل 99.
3- صحيح البخاري ج4 ص 138.
4- الاحتجاج للطبرسي ج2 ص 246.

وعملاً بقوله(صلی الله علیه و آله و سلم) هذا، فإننا لو عرضنا هذه الرواية وأمثالها على القرآن الكريم، فإننا نقطع بمخالفتها للقرآن الكريم؛ لأنه(صلی الله علیه و آله و سلم) من أفضل عباد الله المخلصين.

وبالإضافة إلى تفنيد القرآن الكريم لهذا الحديث المكذوب، فإن سيرته العطرة(صلی الله علیه و آله و سلم) هي الأخرى تضرب بهذا الحديث عرض الجدار وتنفي مضمونه جملةً وتفصيلاً، فهو(صلی الله علیه و آله و سلم) قبل أن يُبعث كان يُلقب بالصادق الأمين، كما أنه لم يسجل التأريخ عليه ارتكابه لمعصيةٍ واحدة مهما صغرت، أو كان من المتعارف عليها في الزمن الجاهلي، كشرب الخمر وارتكاب الفاحشة والسجود للصنم، بل ولم يصدر منه أي فعل مخالف للمرؤة.

فما هذا الحديث وأمثاله إلا خزعبلات وترهات ينبغي أن نُجل أيّ إنسانٍ عظيمٍ ملتزمٍ بما أمره الله(عزوجل) عنها، فكيف بالنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)؟!

التتمة الثالثة:

مما يؤسف له حقاً أنَّ روايات العامة يغلب على بعض منها -إن لم يكن الكثير منها- طابع الاستخفاف بقدسية الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، فتارةً تصوره على ما تقدم، وأخرى كإنسان والعياذ بالله ماجن، وثالثة أنه يستمع للغناء، وما شاكل ذلك.

فإن كان هؤلاء المسلمون يصورون نبيهم على هذه الشاكلة، فلا غرو إذن أن يصوره الأعداء على ما صوروه في أفلامهم المسيئة له(صلی الله علیه و آله و سلم).

لذا فمن واجب المسلمين أجمع قبل التعبير عن الشجب والاستنكار لتلك الأفلام، أن يلتفتوا التفاتة جادة إلى مضمون كتبهم وما تحمله من مآسٍ وظلامات بحق منقذهم من الضلالة وأعظم ما خلق الله(عزوجل) من أول الخلق إلى يوم القيامة، كما أشار الشيخ(رحمه الله علیه) في آخر عبارته إلى هذا المعنى عندما قال: «ذلك من أول نشأة البشر إلى يوم القيامة، فلا يدانيه أحد في فضل».

ص: 303

ص: 304

عقيدتنا في القرآن الكريم

اشارة

قال الشيخ(رحمه الله علیه):

«عقيدتنا في القرآن الكريم:

نعتقد أن (القرآن) هو الوحي الإلهي المنزل من الله(عزوجل) على لسان نبيه الأكرم فيه تبيان كل شيء، وهو معجزته الخالدة التي أعجزت البشر عن مجاراتها في البلاغة والفصاحة وفيما احتوى من حقائق ومعارف عالية، لا يعتريه التبديل والتغيير والتحريف، وهذا الذي بين أيدينا تتلوه هو نفس القرآن المنزل على النبي، ومن ادعى فيه غير ذلك فهو مخترق أو مغالط أو مشتبه، وكلهم على غير هدى، فإنه كلام الله الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه».

ومن دلائل إعجازه أنه كلما تقدم الزمن وتقدمت العلوم والفنون، فهو باقٍ على طراوته وحلاوته وعلى سمو مقاصده وأفكاره، ولا يظهر فيه خطأ في نظرية علمية ثابتة، ولا يتحمل نقض حقيقة فلسفية يقينية، على العكس من كتب العلماء وأعاظم الفلاسفة مهما بلغوا في منزلتهم العلمية ومراتبهم الفكرية، فإنه يبدو بعض منها على الأقل تافهاً أو نابياً أو مغلوطاً، كلما تقدمت الأبحاث العلمية وتقدمت العلوم بالنظريات المستحدثة، حتى من مثل أعاظم فلاسفة اليونان كسقراط وإفلاطون وأرسطو الذين اعترف لهم جميع من جاء بعدهم بالأبوة العلمية والتفوق الفكري.

ونعتقد أيضاً بوجوب احترام القرآن الكريم وتعظيمه بالقول والعمل، فلا يجوز

ص: 305

تنجيس كلماته حتى الكلمة الواحدة المعتبرة جزء منه على وجه يقصد أنها جزء منه، كما لا يجوز لمن كان على غير طهارة أن يمس كلماته أو حروفه (لا يمسه إلا المطهرون) سواء كان محدثاً بالحدث الأكبر كالجنابة والحيض والنفاس وشبهها، أو محدثاً بالحدث الأصغر حتى النوم، إلا إذا اغتسل أو توضأ على التفاصيل التي تذكر في الكتب الفقهية.

كما أنه لا يجوز إحراقه، ولا يجوز توهينه بأي ضربٍ من ضروب التوهين الذي يُعدُّ في عرف الناس توهينا، مثل رميه أو تقذيره أو سحقه بالرجل أو وضعه في مكان مستحقر، فلو تعمد شخص توهينه وتحقيره بفعل واحد من هذه الأمور وشبهها فهو معدود من المنكرين للإسلام وقدسيته المحكوم عليهم بالمروق عن الدين والكفر برب العالمين». انتهى.

عقيدتنا في القرآن الكريم.

اشارة

نعتقد أنَّ القرآن هو الوحي الإلهي المنزل من الله تعالى على لسان النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)...

أشار الشيخ(رحمه الله علیه) في هذه العقيدة إلى عدة امور نذكرها في نقاط:

النقطة الأولى: الوحي.

الوحي لغة: هو الخطاب الخفي، وقد استعمل القرآن الكريم كلمة الوحي بهذا المعنى، وهو ينقسم الى قسمين:

القسم الأول: الوحي الرسالي: وهو وسيلة الاتصال بين الله(عزوجل) وبين أنبيائه، ولا يوحي الله جل جلاله بهذا الوحي إلا للأنبياء كما هو واضح، يقول عز من قائل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾(1)

ص: 306


1- يوسف 109.

وقال جل شأنه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾(1)

فهو خطاب خفي إلى الرجال خاصة مع قيد ادّعاء النبوة.

القسم الثاني: الوحي غير الرسالي: وهو الخطاب الذي يوحي الله جل جلاله به لغير الأنبياء، سواء كانوا رجالًا أو نساءً، مع عدم ادّعاء النبوة بطبيعة الحال، مع الالتفات إلى أنَّ الوحي غير الرسالي قد يكون للبشر وقد يكون لسواهم، كالنحل وما شابه، لكن ما يهمنا في البحث هو خصوص الوحي للبشر، وهذا النوع من الوحي يشمل كلًا من الرجال والنساء.

فإذا اتضح الفرق بين قسمي الوحي، أمكننا فهم المراد من هذه الكلمة (الوحي) في كل مورد، فمثلاً المراد من الوحي في القول: أنَّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) بوفاته انقطع الوحي، هو خصوص الوحي الرسالي، على حين أنَّ الوحي غير الرسالي هو المراد منه في تلك الروايات التي تحدثت عن أنَّ أمير المؤمنين(علیه السّلام) كان يوحى إليه، وأنَّ السيدة الزهراء(سلام الله علیها) كانت تحدثها الملائكة، أو أنَّ الأئمة(علیهم السّلام) كانوا يقولون: إنهم كان ينقر في آذانهم، وهو نوع من الوحي أيضاً، أو ما ورد في بعض الروايات الشريفة أنَّ الإمام المهدي(عجل الله تعالی فرجه الشریف) إذا أُذِنَ له بالظهور يوحى إليه بهذا المعنى(2)،

أي إنَّ الملائكة تحدثه، كل ذلك مع عدم ادعاء النبوة.

والوحي غير الرسالي ليس بدعاً من الرسل، حيث إنَ القرآن الكريم ذكر أمثلة عليه أوضحها ما ورد في قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ﴾(3)

ص: 307


1- النحل 43.
2- بحار الأنوار ج52 ص 390.
3- القصص 7.

وفي قوله(عزوجل): ﴿إِذْ قَالَتِ المَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾(1)

وفي قوله سبحانه: ﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوب﴾(2)

فهذا الوحي في هذه الآيات لا يمكن أن يكون رسالياً؛ لاختصاص الوحي الرسالي بالرجال؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾(3)

فهذا الوحي لا مانع من استمراره بعد النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، بخلاف الرسالي.

هذا ويسمى الشخص الذي يوحى إليه بالوحي غير رسالي ب-(المُحدَّث).

النقطة الثانية: القرآن تبيان كل شيء.

اشار الشيخ(رحمه الله علیه) إلى أنَّ في هذا القران تبيانًا لكل شيء، وهو ما صرّح به كل من القرآن الكريم والروايات الشريفة أيضاً.

فقد ورد عنه(صلی الله علیه و آله و سلم): «من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن»(4)

أي يفكر في القرآن وتفسيره.

كما روي عن أمير المؤمنين(علیه السّلام) في حديثه حول القرآن الكريم:

ص: 308


1- آل عمران 45.
2- هود 71.
3- النحل 43.
4- كنز العمال للمتقي الهندي ج1 ص 548 ح 2454.

«...أَلَا إِنَّ فِيه عِلْمَ مَا يَأْتِي، والحَدِيثَ عَنِ المَاضِي، ودَوَاءَ دَائِكُمْ ونَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ...»(1)

وعن الإمام الصادق(علیه السّلام): «إِنَّ العَزِيزَ الجَبَّارَ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ كِتَابَه وهُوَ الصَّادِقُ البَارُّ فِيه خَبَرُكُمْ وخَبَرُ مَنْ قَبْلَكُمْ وخَبَرُ مَنْ بَعْدَكُمْ وخَبَرُ السَّمَاءِ والأَرْضِ ولَوْ أَتَاكُمْ مَنْ يُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ لَتَعَجَّبْتُمْ».(2)

وعنه(علیه السّلام) أيضاً: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلَّا وله أصل في كتاب الله(عزوجل)، ولكن لا تبلغه عقول الرجال»(3).

وقد يرد سؤال مفاده:

إن كان في القرآن تبيان كل شيء، فلماذا لا نجد فيه علاج مرض معين أو قانون في الفيزياء وما شابه؟

في مقام الإجابة نقول(4):

إن هذا القرآن الكريم وإن كان فيه تبيان كل شيء، إلا أن إدراكه ليس متاحاً لكل أحد، بل هو أشبه ما يكون مشتملاً على خزائن من العلوم، ولكن ليس كل أحد يملك مفتاح تلك الخزائن.

ص: 309


1- نهج البلاغة ج2 ص 54.
2- الكافي للكليني ج2 ص 599 كِتَابُ فَضْلِ القُرْآنِ ح3.
3- الكافي للكليني 1: 60/ باب الردِّ إلىٰ الكتاب والسُّنَّة.../ ح 6.
4- للجواب وجوه أُخر أكثر دقة وعمقًا، نتركها لدراسات أعلى.

وقد أكد القرآن الكريم هذا المعنى بقوله عز من قائل: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ﴾.(1)

وفي الرواية عن الامام الصادق(علیه السّلام) يقول: «نحن الراسخون في العلم، ونحن نعلم تأويله»(2).

النقطة الثالثة: إعجاز القرآن.

ذكر الشيخ(رحمه الله علیه) أن القرآن الكريم يمثل معجزة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم).

ووجوه إعجاز القرآن الكريم كثيرة، نذكر منها:

الوجه الأول: بلاغته الفريدة.

كان العرب يعلّقون المعلقات على الكعبة تقديساً لبلاغتها، فلما نزل القرآن الكريم ورأوا بلاغته وقاسوها إلى ما هو موجود في تلك المعلقات، وجدوا أنّها سمجة جداً بالقياس إلى القرآن الكريم، فأنزلوها ليلاً خجلاً منها.(3)

وبالإضافة إلى عملهم هذا الموضح لمدى إكبارهم لبلاغة القرآن الكريم، فقد صرحوا بها في الكثير من المناسبات، فهذا الوليد بن المغيرة (ريحانة العرب) لمَّا سمع الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) يتلو آيات سورة غافر والتي أوَّلها: ﴿حم* تَنْزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللهِ العَزِيزِ العَلِيمِ* غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ....﴾(4)،

فانطلق الوليد حتَّىٰ أتىٰ مجلس قومه بني مخزوم فقال: «والله، لقد سمعت من محمّد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجنِّ، إنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أعلاه لمثمر، وإنَّ أسفله لمغدق، وإنَّه يعلو وما يُعلىٰ»(5).

ص: 310


1- آل عمران: 7.
2- الكافي للكليني 1: 213/ باب أنَّ الراسخين في العلم هم الأئمَّة(علیهم السّلام)/ ح 1.
3- نُقِلَ هذا المعنى عن السيِّد عبد الله شبَّر في كتابه حقُّ اليقين 1: 113؛ وذكره السيِّد حسن الشيرازي في كتابه الإمام المهدي نظرة وجيزة شاملة، وهو مقدّمة كتابه كلمة الإمام المهدي(علیه السّلام): 32.
4- غافر: 1 - 3.
5- راجع: تفسير جوامع الجامع للطبرسي 3: 673.

وقد لا نتذوق اليوم مدى بلاغته الراقية، لا لشيءٍ إلا لأننا ابتعدنا عن البلاغة ومقاييسها، ومع ذلك يمكننا إدراك بعض بلاغته عن طريق مطالعة الروايات وكلمات علمائنا الأعلام الواردة في تفسير بعض الآيات، وكيفية استخراج الأحكام البلاغية منها.

الوجه الثاني: عدم الاختلاف والتناقض في آياته الكريمة.

فالقرآن الكريم لا يمكن نقضه بتاتاً؛ فهو على نسقٍ واحد لا اختلاف بين آياته ولا تناقض، على الرغم من كثرة آياته نسبياً، ونزوله في مواقف مختلفة، وعند أحداث متباينة، وعلى مدى سنوات متمادية، فلو كان من تأليف البشر لتأثر حتماً بالظروف التي تحيط به والأحداث، ولتغيّرت طريقة كتابته على أقل التقادير، فكما هو معلوم أن الإنسان لو كتب كتابةً -بغض النظر عن جنسها الأدبي- فإنه بلا أدنى شك وعندما يعود إلى مطالعته بعد أشهر، فإنه يشعر بضرورة تغيير كلمةٍ أو تقديم فقرةٍ أو تأخيرها وما شابه ذلك، ومن هنا احتج القرآن الكريم لإثبات أنّ مصدره الله جلّ في علاه بعدم تناقضه بل بعدم اختلافه، قال(عزوجل): ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾(1)

ومن ذلك ما رواه هشام بن الحكم، قال: اجتمع ابن أبي العوجاء، وأبو شاكر الديصاني الزنديق، وعبد الملك البصري، وابن المقفَّع، عند بيت الله الحرام، يستهزؤون بالحاجِّ ويطعنون بالقرآن.

فقال ابن أبي العوجاء: تعالَوا ننقض كلُّ واحد منّا ربع القرآن، وميعادنا من قابل في هذا الموضع، نجتمع فيه وقد نقضنا القرآن كلَّه، فإنَّ في نقض القرآن إبطال نبوَّة محمّد، وفي إبطال نبوَّته إبطال الإسلام، وإثبات ما نحن فيه، فاتَّفقوا علىٰ ذلك وافترقوا.

فلمَّا كان من قابل اجتمعوا عند بيت الله الحرام، فقال ابن أبي العوجاء: أمَّا أنا فمفكِّر

ص: 311


1- النساء 82.

منذ افترقنا في هذه الآية: ﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا﴾(1)، فما أقدر أن أضمَّ إليها في فصاحتها وجميع معانيها شيئاً، فشغلتني هذه الآية عن التفكُّر في ما سواها.

فقال عبد الملك: وأنا منذ فارقتكم مفكِّر في هذه الآية: ﴿يا أَي-ُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ﴾(2)، ولم أقدر علىٰ الإتيان بمثلها.

فقال أبو شاكر: وأنا منذ فارقتكم مفكِّر في هذه الآية: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا﴾(3)،

لم أقدر علىٰ الإتيان بمثلها.

فقال ابن المقفَّع: يا قوم، إنَّ هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر، وأنا منذ فارقتكم مفكِّر في هذه الآية: ﴿وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الماءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَىٰ الجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾(4)،

لم أبلغ غاية المعرفة بها، ولم أقدر علىٰ الإتيان بمثلها.

قال هشام بن الحكم: فبينما هم في ذلك، إذ مرَّ بهم جعفر بن محمّد الصادق(علیهم السّلام)، فقال: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا القُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرا﴾(5)

فنظر القوم بعضهم إلىٰ بعض وقالوا: لئن كان للإسلام حقيقة لما انتهت أمر وصيَّة

ص: 312


1- يوسف: 80.
2- الحجّ: 73.
3- الأنبياء: 22.
4- هود: 44.
5- الإسراء: 88.

محمّد إلَّا إلىٰ جعفر بن محمّد، والله ما رأيناه قطُّ إلَّا هبناه واقشعرَّت جلودنا لهيبته، ثمّ تفرَّقوا مقرّين بالعجز(1).

وفي قضية الكندي وهو الفيلسوف الذي شغل نفسه بتأليف كتاب في تناقض القرآن، إذ روي أنَّ إسحاق الكندي الذي كان فيلسوف العراق في زمانه أخذ في تأليف تناقض القرآن وشغل نفسه بذلك وتفرَّد به في منزله، وأنَّ بعض تلامذته دخل يوماً علىٰ الإمام الحسن العسكري، فقال له أبو محمّد(علیه السّلام): «أمَا فيكم رجل رشيد يردع أُستاذكم الكندي عمَّا أخذ فيه من تشاغله القرآن؟».

فقال التلميذ: نحن من تلامذته، كيف يجوز منّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟

فقال له أبو محمّد: «أتؤدّي إليه ما أُلقيه إليك؟».

قال: نعم.

قال: «فصر إليه وتلطَّف في مؤانسته ومعونته علىٰ ما هو بسبيله، فإذا وقعت الأُنسة في ذلك فقال: قد حضرتني مسألة أسألك عنها، فإنَّه يستدعي ذلك منك، فقل له: إن أتاك هذا المتكلِّم بهذا القرآن، هل يجوز أن يكون مراده بما تكلَّم منه غير المعاني التي قد ظننتها أنَّك ذهبت إليها؟ فإنَّه سيقول لك: إنَّه من الجائز، لأنَّه رجل يفهم إذا سمع، فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يُدريك لعلَّه قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه، فيكون واضعاً لغير معانيه».

فصار الرجل إلىٰ الكندي وتلطَّف إلىٰ أن ألقىٰ عليه هذه المسألة فقال له: أعد عليَّ، فأعاد عليه، فتفكَّر في نفسه، ورأىٰ ذلك محتملاً في اللغة وسائغاً في النظر، فقال: أقسمت عليك إلَّا أخبرتني من أين لك؟

ص: 313


1- الاحتجاج للطبرسي 2: 142 و143.

فقال: إنَّه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك.

فقال: كلَّا، ما مثلك من اهتدىٰ إلىٰ هذا ولا من بلغ هذه المنزلة، فعرِّفني من أين لك هذا؟

فقال: أمرني به أبو محمّد.

فقال: الآن جئت به، وما كان ليخرج مثل هذا إلَّا من ذلك البيت، ثمّ إنَّه دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألَّفه(1).

الوجه الثالث: الإخبارات العلمية الموجودة في القرآن الكريم.

هناك عدة كتب أُلِّفت في هذه الإخبارات، والمقصود من الإخبار العلمي: أن تُشير آيةٌ قرآنية إلى معنى معين يفهمه العرب آنذاك، ثم يُفهم منها معنى آخر وينكشف بتقدم الزمن وتطور العلم، نحو قوله تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾. فما فهمه العرب من اللواقح في ذلك الزمن هو ما تدفع به السفن الشراعية، حيث لم يكن في ذلك الوقت مكائن ومحركات، فتأتي الرياح وتلقح السفن وتمشي بها في البحار، ولكن مع تطور العلم انكشف أنّ هذه الرياح تنقل العنصر الذكري في النباتات أحادية المسكن إلى العنصر الانثوي فتلقحه، ومع تطور العلم أكثر وجدوا هناك معنى ثالثًا لهذه الآية، وهو: عندما تشرق الشمس تسخّن مياه البحار فتصبح بخاراً، فتهب الرياح لتنقل هذه القطرات المتبخرة من البحار وتصعد بها الى السماء فتلقح الغيوم لتنزل الأمطار، وهكذا اتضح أكثر من معنى للآية الواحدة وفقاً لتطور العلم، وهناك آيات أخرى كثيرة يمكن لمن يريد الاطلاع على المزيد أن يراجع موسوعات القرآن العلمية.

ص: 314


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 3: 525 و526.
النقطة الرابعة: القرآن الكريم خالد وغير مُحرَّف.

أما كونه خالداً فباعتبار أنَّ القرآن هو دستور الدين الخاتم الذي سيبقى إلى يوم القيامة، ومادام الدين سيبقى إلى يوم القيامة فدستوره كذلك، وهذا هو المقصود من الخلود. ولم يختلف في هذا الأمر أحد من المسلمين.

أما كونه غير محرف فلابُدّ قبل الولوج في الحديث عنه أن نقدم توضيحًا لمعنى التحريف.

معنى التحريف

اشارة

يُطلق التحريف ويُراد به أحد معنيين:

الأول: التحريف المعنوي:

ويكون بتفسير ألفاظ القرآن الكريم على غير معناها وتأويلها بما لم تنزل فيه، بلا دليل لغوي ولا رواية صحيحة عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وأهل بيته الطاهرين(علیهم السّلام).

وهذا المعنى من التحريف بلا شك هو واقع ومعترف به بلسان القال أو الحال، يشهد على ذلك الاختلاف الكبير بين المفسرين في تفسير بعض الآيات القرآنية.

المعنى الثاني: التحريف اللفظي:

بمعنى ادّعاء وجود زيادة في ألفاظ القرآن الكريم لم تكن من القرآن المُنزل من الله(عزوجل)، أو ادّعاء وجود نقيصة في آياته، أي ادّعاء أن هناك آيات وألفاظًا قد حُذِفت من القرآن الكريم، أو ادّعاء أن هناك تبديلاً في بعض الآيات القرآنية.

وبعبارة أخرى: التحريف يعني أنَه قد نزل من القرآن ألف من الألفاظ على النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) ولكن الموجود الآن هو ألف وعشرة، أو أن الموجود الآن تسعمائة وتسعون،

ص: 315

أو لا يوجد لا زيادة ولا نقيصة، وإنما حصل تبديل في الآيات الكريمة ولو بخمس كلمات رُفِعت وجيء بخمسٍ أخريات، بل ولو بكلمة واحدة.

وقد أجمع علماء الإمامية على أنه لا تحريف في القرآن بهذا المعنى أبدًا.

الأدلة على عدم تحريف القرآن الكريم:

اشارة

هناك العديد من الأدلة التي تدل على عدم تحريفهِ، وسنقتصر على شيءٍ قليل منها:

الدليل الأول: القرآن الكريم يشهد لنفسهِ على أنّه غير مُحرّف.

إذ قال عزَّ من قائل: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون﴾(1)،

وهي آية واضحة جدًا في الدلالة على أنَّ القرآن الكريم لا تمسه يد التحريف.

قال السيد الخوئي(قدس سره): فإن في هذه الآية دلالة على حفظ القرآن من التحريف، وأن الأيدي الجائرة لن تتمكن من التلاعب فيه.(2)

وربما يُشكل البعض على صحةِ صدور نفس هذه الآية من الله جل وعلا! أي يُشكل بإمكان كونها هي بالأساس مُحرّفة، فكيف يمكن الاستناد إليها في إثبات عدم تحريف القرآن؟ فرُبما يُدّعى أنّ هذه الآية قد دَسّها البعض في القرآن الكريم؛ ليثبت عدم تحريفه، فإن لم تكن من القرآن الكريم فلا دليل على عدم تحريف القرآن الكريم؛ بل هي ستكون آية على تحريفه!

لذا نحتاج إلى تثبيت هذه الآية وأنّها من القرآن الكريم أولًا، ليصح الاستدلال بها على عدم التحريف.

ص: 316


1- الحجر: 9.
2- البيان في تفسير القرآن للسيد الخوئي(قدس سره) ص 207.

ويمكن ذلك وبكل سهولةٍ من خلال إثبات نقلها بالتواتر، وقد تقدّم معنى التواتر، وأنه نقل الدليل الشرعي بألفاظ معينة من قبل مجموعة كبيرة يمتنع عقلًا اجتماعهم على الكذب، وهؤلاء أيضًا كانوا قد نقلوا ذلك الدليل من قبل مجموعةٍ قبلهم يمتنع عقلًا اجتماعهم على الكذب، وهكذا إلى أنْ نصل إلى زمن المعصوم وزمن الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم).

وأصلًا قد ثبتت صحة صدور القرآن الكريم بأجمعه من الخالق عزّ وجل بمجموعة من الأدلة أهمها وأقواها النقل بالتواتر، وهذه الآية منه، إذن فقد نقلت هي الأخرى بالتواتر، وبالتالي تصلح لتكون دليلَ إثباتٍ لعدم تحريف القرآن الكريم.

الدليل الثاني: السنة الشريفة تثبت عدم تحريف القرآن الكريم.

فقد أشارت الكثير من الروايات إلى هذه الحقيقة:

فمنها: ما دلَّ على أنَّ القرآن الكريم هو الفيصل في غربلة الروايات:

فقد علم الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) بكثرة ما سينسب إليه من أحاديث مكذوبة وأدرك خطورتها على الدين الإسلامي، فصرّح بهذه الحقيقة وقدّم العلاج الناجع لتمييز السليم من الروايات من السقيم منها، وذلك بعرضها على كتاب الله المجيد، كما روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله(علیه السّلام) قَالَ:

قَالَ رَسُولُ الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «إِنَّ عَلَى كُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً وعَلَى كُلِّ صَوَابٍ نُوراً، فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللهِ فَخُذُوه، ومَا خَالَفَ كِتَابَ الله فَدَعُوه».(1)

وعَنْ أَبي عَبْدِ الله(علیه السّلام) لمّا سُئل عَنِ اخْتِلَافِ الحَدِيثِ يَرْوِيه مَنْ نَثِقُ بِه ومِنْهُمْ مَنْ لَا نَثِقُ بِه فقَالَ(علیه السّلام): «إِذَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ حَدِيثٌ فَوَجَدْتُمْ لَه شَاهِداً مِنْ كِتَابِ اللهِ أَوْ مِنْ قَوْلِ

ص: 317


1- الكافي للكليني ج1 ص 69 بَابُ الأَخْذِ بِالسُّنَّةِ وشَوَاهِدِ الكِتَابِ ح1.

رَسُولِ الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، وإِلَّا فَالَّذِي جَاءَكُمْ بِه أَوْلَى بِه».(1)

ولو كان القرآن محرفًا لما صحَّ أنْ يكون فيصلًا لتمييز الحق من الباطل، فهذه الروايات لا موضوعية لها إلا مع القول بعدم التحريف، بمعنى أنه لو كان القرآن محرفًا، فكيف يمكن ان يكون هو المميز للحق من الروايات من الباطل منها، إن كونه كذلك لا يستقيم إلا مع افتراض كونه غير محرف، ليصح أن نميز به الحق من الباطل.

ومنها: رواية التمسك بالثقلين:

وهي رواية متواترة عند الفريقين، فقد روي أنه قَالَ رَسُولُ الله(صلی الله علیه و آله و سلم) فِي آخِرِ خُطْبَتِه يَوْمَ قَبَضَه الله عَزَّ وجَلَّ إِلَيْه: «إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ، لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ الله وعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَإِنَّ اللَّطِيفَ الخَبِيرَ قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ كَهَاتَيْنِ -وجَمَعَ بَيْنَ مُسَبِّحَتَيْه- ولَا أَقُولُ كَهَاتَيْنِ -وجَمَعَ بَيْنَ المُسَبِّحَةِ والوُسْطَى- فَتَسْبِقَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى، فَتَمَسَّكُوا بِهِمَا لَا تَزِلُّوا ولَا تَضِلُّوا، ولَا تَقَدَّمُوهُمْ فَتَضِلُّوا».(2)

فكل من القرآن الكريم والعترة الطاهرة باقيان إلى يوم القيامة، ومن يتمسك بهما فلن يضل أبدًا، فلو كان القرآن محرفًا أو يمكن أن يقع فيه التحريف، فإن التمسك به ضلال وليس هداية، وبناءً على ذلك فإن الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) عندما يأمرنا بالتمسك بغير المعصوم وبما هو سيُحرّف فلا يخلو الأمر من أحد احتمالين: إما أنّه يعلم أنّ القرآن سيُحرّف، وبالرغم من ذلك يأمر بالتمسك به، فإنه والحال هذه يدعو إلى الضلالة والعياذ بالله، أو أنّه يدعو إلى التمسك بالقرآن لعدم علمهِ بأنّه سيحرف، فالقول بهذا

ص: 318


1- الكافي للكليني ج1 ص 69 بَابُ الأَخْذِ بِالسُّنَّةِ وشَوَاهِدِ الكِتَابِ ح2.
2- الكافي للكليني ج2 ص 415 بَابُ أَدْنَى مَا يَكُونُ بِه العَبْدُ مُؤْمِناً أَوْ كَافِراً أَوْ ضَالاًّ- ح1.

كفرٌ، يُجلُّ عنه الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم)، فإن الله تعالى الذي يأمر عباده بطاعته(صلی الله علیه و آله و سلم) مطلقًا في قوله: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾(1)،

بل جعل قوله وحياً: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾(2)

إن القول بتحريف القرآن الكريم قولٌ على الخطورة بمكان؛ وذلك لأنه مصدر المصادر الإسلامية في كل شيء في حياة الفرد والمجتمع، من الفكر والعقيدة، إلى الأحكام والتشريع بكلا شقيه العبادي والمعاملاتي، إلى الجانب القيمي والأخلاقي، إلى تنظيم الدول داخليًا وما يتعلق بعلاقاتها الخارجية،... فهو علاوةً على حجيّته، فقد منح الحجية للسنة المُطهّرة، أضف إلى ذلك أنّه الفيصل في الحكم على الروايات وغربلتها كما تقدم.

فلو قيل بتحريف القرآن وسُلِّمَ به من قبل المسلمين، لما بقي للإسلام مرجعٌ يرجع إليه عند الاختلاف، فإذا جاءت رواية تقضي بجواز نزع الحجاب بالنسبةِ للنساء مثلًا، أنّى لنا أن نثبت خطأها؟ فإن استندنا إلى آية ﴿يا أَيهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنىٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾.(3)

مثلًا، لأمكن أن يُقال بأنها آية محرّفة...

ولذا فقد حفظ الله تبارك وتعالى القرآن كحفظه لعِدْلِه وهو الإمام المنتظر(عجل الله تعالی فرجه الشریف)؛ لأن بهما معًا قوام الدين ونجاة المسلمين، فهما حقًا حبل الله الممدود..

محاكمة المذهب ينبغي أن تكون بما هو مُجمع عليه.

ص: 319


1- الحشر7.
2- النجم 3 - 4.
3- الأحزاب 59.

ادعى البعض أنَّ الشيعة يقولون بتحريف القرآن الكريم، وهي دعوى عارية عن الصحة لكثير من الأدلة أوضحها: أن القرآن الكريم الذي يتلونه تقربًا به إلى الله تعالى ويستنبطون منه عقيدتهم وأحكامهم إنما هو نفس القرآن الكريم لدى جميع المسلمين في مختلف بلدان العالم الإسلامي، لا يختلف عنه في لفظ بل ولا في حرف، ولا حتى حركة، وهو الذي نزل على الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم).

أما الاعتماد في اتهام الإمامية بالقول بالتحريف استنادًا على قول عالمٍ من هنا أو هناك اشتبه عليه الأمر وقال بإمكان تحريف القرآن الكريم، فهذا لو صح، فإنه يمثل رأيًا خاصًا بنفسه ولا يمثل رأي المذهب، ولا يؤخذ هذا الرأي الشاذ على أنّه وجه للمذهب، وإلا إن كان الأمر كذلك –أي جواز محاكمة المذهب بما يتضمنه من الأقوال الشاذة وجعلها هي المدار في الحكم عليه والوجه العام له- فإنه لا يخلو مذهبٌ من أقوال شاذة، أفيصح لنا محاكمته وفقًا لذلك الرأي الشاذ؟ فنحاكم مثلًا مذهباً ما بالقول بجواز الوضوء بالنبيذ؛ فقط لأن من بين علمائه عالمًا يقول بهذا الرأي الشاذ؟! أم يصح لنا محاكمة مذهبٍ لقولٍ شاذ فيه يعد تقديم البنت للضيف من الكرم؟!

فكما ينبغي علينا عدم محاكمة تلك المذاهب بناءً على ما يرد فيها من آراءٍ شاذة، والاعتماد على ما هو مشهورٌ فقط بل ومجمع عليه، كذلك يجب على علماء سائر المذاهب أّلا يحاكموا مذهبنا وفقًا لرأي شاذ، وأن يعتمدوا فقط على ما يرد فيه من آراء مشهورة ومجمع عليها.

ومن المعلوم لكل منصف أنَّ علماءَنا يقولون بأنَ كل ما موجود اليوم بين دفتي المصحف إنما هو نفس القرآن الذي أنزل على الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، ولم يقل أيُّ منهم بتحريف القرآن لا بالزيادة ولا بالنقيصة ولا بالتغيير، بل على العكس.

ص: 320

إنّ هناك العديد من الروايات التي تقول بتحريف القرآن في كتب من يرمينا بهذه التهمة زورًا وبهتانًا، ومنها صحيحا البخاري ومسلم لمن أراد المتابعة والتحقيق.

أحكام فقهية تقدس القرآن.

اشارة

اشار الشيخ (طيب الله ثراه) في كتابه إلى بعض الأحكام الفقهية الواجبة التي تقدِّس القرآن الكريم، من قبيل: عدم جواز إهانته، وعدم جواز مس ألفاظه من قبل المحدث، وغيرها من الأحكام الفقهية المذكورة في الكتب الفقهية.

إشارتان:

الإشارة الأولى: ماهي حقيقة مصحف أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه؟

استغل البعض من العامة هذا اللفظ ليُطبل ضدّ مذهب أهل البيت(علیهم السّلام) مدعيًا أن لدى الشيعة قرآنًا خاصًا بهم، وأنهم لا يعترفون بهذا القرآن الموجود عند المسلمين، وأن اسم قرآنهم (مُصحف علي) ويدّعون أنّه موجود عند إمامهم المهدي(عجل الله تعالی فرجه الشریف)، وبالتالي فإن الشيعة يدّعون تحريف القرآن!

فما هي صحة هذه الدعوى؟

الجواب:

أما القول: «إنَّ الشيعة لهم مصحف اسمه مصحف علي(علیه السّلام)».، فصحيحٌ، بل تؤكد الروايات الشريفة أنّه من مصادر علوم أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) بل أكثر من ذلك، فإن الروايات تؤكد على أن للأمير(علیه السّلام) كتابًا ومصحفًا أيضًا.

وأما القول بأنهم يقولون بتحريف القرآن الكريم أو أنّهم لا يحترمون هذا القرآن الموجود بين المسلمين أو أنّهم يقولون أنّ مصحف علي هو بديل لهذا المصحف الموجود

ص: 321

بين أيدينا فكلها أقاويل خاطئة ودعاوى فارغة لا أساس لها من الصحة.

أمَّا عن مصحف علي(علیه السّلام)، فقصَّته أنَّه (بعدما ارتحل النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) إلىٰ الرفيق الأعلىٰ جلس علي(علیه السّلام) _ الذي كان بنصٍّ من النبيّ أعلم الناس بالقرآن _ في بيته حتَّىٰ جمع القرآن في مصحف علىٰ ترتيب النزول، ولم يمض ستَّة أشهر من استشهاد الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) إلَّا كان علي قد فرغ من عمل الجمع وحمله للناس علىٰ بعير..).(1).

فلمَّا أكمله خرج به إلىٰ المسجد وعرضه عليهم، ولكنَّهم رفضوا أن يلتزموه، فأخفاه عنهم الإمام(علیه السّلام) وقال: «أمَا والله لا ترونه بعد يومكم هذا أبداً»، حتَّىٰ يُظهِره الله تعالىٰ علىٰ يدي الإمام المهدي(علیه السّلام)(2).

ولهذا المصحف خصّيصتان(3):

الخصّيصة الأُولىٰ: كان مرتَّباً علىٰ ترتيب النزول، فكان أوَّله: اقرأ، ثمّ المدَّثِّر، ثمّ نون، ثمّ المزَّمِّل، ثمّ تبَّت، ثمّ التكوير، وهكذا إلىٰ آخر المكّي والمدني، نقله في الإتقان عن ابن فارس...(4).

وهو بهذا يختلف عن المصحف الموجود بين أيدينا، لأنَّ الموجود عندنا اليوم مرتَّب لا علىٰ حسب النزول كما هو واضح.

وليس في هذا أيّ نوع من التحريف، إذ لا زيادة ولا نقيصة فيه، إنَّما هو نفس المصحف الموجود اليوم مع اختلاف ترتيب الآيات والسور حسب النزول.

ص: 322


1- القرآن في الإسلام للعلَّامة الطباطبائي: 134 و135.
2- أُنظر: بصائر الدرجات: 213/ باب في الأئمَّة أنَّ عندهم جميع القرآن الذي أُنزل علىٰ رسول الله 9/ ح 3.
3- انظر: شذرات مهدوية- الشيخ حسين الأسدي – ص 73 – 75.
4- تفسير الميزان 12: 126.

ولذا روي أنَّه عندما يُخرِجه الإمام المهدي(علیه السّلام) فإنَّه سيكون صعباً، لتعوِّد الناس علىٰ تأليف غير التأليف الذي سيُخرِجه المهدي(علیه السّلام).

فقد روي أنَّه «إذا قام قائم آل محمّد(علیهم السّلام)ضرب فساطيط لمن يُعلِّم الناس القرآن علىٰ ما أنزل الله(عزوجل)، فأصعب ما يكون علىٰ من حفظه اليوم، لأنَّه يخالف فيه التأليف»(1).

الخصّيصة الثانية: أنَّه يحتوي علىٰ التفسير الصحيح الذي أخذه أمير المؤمنين(علیه السّلام) عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) عن جبرئيل(علیه السّلام)، كتبه أمير المؤمنين(علیه السّلام) مع الآيات، أي كأنَّه كتب التفسير كحاشية للمصحف الشريف أو ما يشبه الحاشية.

وذلك لأنَّ أعلم الناس بالقرآن الكريم هو أمير المؤمنين(علیه السّلام)، كما روي عن عامر بن واثلة، قال: خطبنا أمير المؤمنين(علیه السّلام) علىٰ منبر الكوفة، فحمد الله وأثنىٰ عليه، وذكر الله بما هو أهله، وصلّىٰ علىٰ نبيِّه، ثمّ قال: «أيّها الناس، سلوني سلوني، فوَالله لا تسألوني عن آية من كتاب الله إلَّا حدَّثتكم عنها بما نزلت، بليل أو بنهار؟ أو في مقام أو في مسير؟ أو في سهل أم في جبل؟ وفيمن نزلت، أفي مؤمن أم في منافق؟ وما عني به، أخاصَّة أم عامَّة؟ ولئن فقدتموني لا يُحدِّثكم أحد حديثي...»(2).

وأمَّا عن كتاب أو صحيفة علي(علیه السّلام)، فقد روي عن الإمام الصادق(علیه السّلام): «إنَّ عندنا ما لا نحتاج معه إلىٰ الناس، وإنَّ الناس ليحتاجون إلينا، وإن عندنا الصحيفة سبعون ذراعاً بخطّ علي(علیه السّلام) وإملاء رسول الله صلّىٰ الله عليهما وعلىٰ أولادهما، فيها من كلّ حلال وحرام»(3).

ص: 323


1- بحار الأنوار 52: 339/ ح 85، عن الإرشاد 2: 386.
2- بحار الأنوار 36: 190/ ذيل الحديث 192، عن سعد السعود: 108 و109.
3- بحار الأنوار 26: 21 و22/ ح 8، عن بصائر الدرجات: 162/ باب في الأئمَّة أنَّ عندهم الصحيفة الجامعة التي هي إملاء رسول الله وخط على(علیه السّلام) بيده.../ ح 1.
الاشارة الثانية: التأكيد على ضرورة تعاهد القرآن الكريم.

ورد التأكيد الشديد في الروايات الشريفة على ضرورة تعاهد القرآن الكريم تعلمًا وتعليمًا وحفظًا وعملًا وعدم هجره على أية حال من الأحوال.

فينبغي للمؤمن أن يضع في جدوله اليومي تلاوة القرآن الكريم، وقد روي عن الإمام الصادق(علیه السّلام) أنَّه قال: «القرآن عهد الله إلىٰ خلقه، فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده وأن يقرأ منه في كلِّ يوم خمسين آية»(1).

وفي هذا المجال وردت روايات كثيرة نذكر البعض منها ما روي عن الإمام الصادق(علیه السّلام) أنَّه قال: «ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتَّىٰ يتعلَّم القرآن أو يكون في تعليمه»(2).

وعن النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله و سلم) أنّه قال: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله(عزوجل) يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده».(3)

وعنه(صلی الله علیه و آله و سلم) أنّه قال: «إنّ الذي ليس في جوفه شيئًا من القرآن كالبيت الخرب».(4)

وعنه(صلی الله علیه و آله و سلم) أنّه قال: «وليس ينبغي لحامل القرآن أنْ يسفه فيمن يسفه أو يغضب فيمن يغضب أو يحتد فيمن يحتد ولكن يعفو ويصفح لفضل القرآن الكريم».(5)

وفي حديث آخر عنه(صلی الله علیه و آله و سلم): «إنَّ القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد»، قيل: فما جلاؤها

ص: 324


1- الكافي للكليني 2: 609/ باب في قراءته/ ح 1.
2- الكافي للكليني 2: 607/ باب من يتعلَّم القرآن بمشقَّة/ ح 3.
3- مستدرك الوسائل للنوري ج3 ص 363 ح 3788/ 20.
4- كنز العمال للمتقي الهندي ج1 ص 512 ح 2276.
5- كنز العمال للمتقي الهندي ج1 ص 525 ح 2349.

يا رسول الله؟ قال: «كثرة تلاوة كتاب الله تعالىٰ، وكثرة الذكر لله(عزوجل)»(1).

تنبيه:

إن في قراءة القرآن استحباباً نفسياً، ولكن الهدف من قراءته هو هدف طريقي للعمل به ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾(2)

ص: 325


1- كنز العمّال للمتَّقي الهندي 2: 241/ ح 3924.
2- محمد 24.

ص: 326

طريقة اثبات الاسلام والشرائع السابقة

اشارة

قال الشيخ(رحمه الله علیه):

«طريقة إثبات الإسلام والشرائع السابقة:

لو خاصمنا أحدٌ في صحّة الدين الاسلامي، نستطيع أن نخصمه بإثبات المعجزة الخالدة له، وهي القرآن الكريم على ما تقدّم من وجه إعجازه. وكذلك هو طريقنا لإقناع نفوسنا عند ابتداء الشك والتساؤل اللَّذين لا بدَّ أن يمرّا على الإنسان الحر في تفكيره عند تكوين عقيدته أو تثبيتها.

أمّا الشرائع السابقة، كاليهودية والنصرانية، فنحن قبل التصديق بالقرآن الكريم، أو عند تجريد أنفسنا عن العقيدة الاسلامية، لا حجّة لنا لإقناع نفوسنا بصحتها، ولا لإقناع المشكّك المتسائل؛ إذ لا معجزة باقية لها كالكتاب العزيز، وما ينقله أتباعها من الخوارق والمعاجز للأنبياء السابقين فهم متّهمون في نقلهم لها أو حكمهم عليها، وليس في الكتب الموجودة بين أيدينا المنسوبة إلى الأنبياء كالتوراة والإنجيل ما يصلح أن يكون معجزة خالدة تصح أن تكون حجّة قاطعة، ودليلاً مقنعاً في نفسها قبل تصديق الإسلام لها.

وإنّما صحَّ لنا نحن المسلمين أن نقرَّ ونصدّق بنبوة أهل الشرائع السابقة، فلأنّا بعد تصديقنا بالدين الاسلامي كان علينا أن نصدّق بكل ما جاء به وصدّقه، ومن جملة ما جاء به وصدّقه نبوّة جملة من الأنبياء السابقين على نحو ما مرّ ذكره.

ص: 327

وعلى هذا فالمسلم في غنى عن البحث والفحص عن صحّة الشريعة النصرانية وما قبلها من الشرائع السابقة بعد اعتناقه الإسلام لاَنّ التصديق به تصديقٌ بها، والإيمان به إيمان بالرسل السابقين والأنبياء المتقدمين، فلا يجب على المسلم أن يبحث عنها ويفحص عن صدق معجزات أنبيائها، لأن المفروض أنه مسلم قد آمن بها بإيمانه بالإسلام، وكفى.

نعم لو بحث الشخص عن صحة الدين الإسلامي فلم تثبت له صحته، وجب عليه عقلا - بمقتضى وجوب المعرفة والنظر - أن يبحث عن صحة دين النصرانية، لأنه هو آخر الأديان السابقة على الإسلام فإن فحص ولم يحصل له اليقين به أيضاً وجب عليه أن ينتقل فيفحص عن آخر الأديان السابقة عليه، وهو دين اليهودية حسب الفرض...

وهكذا ينتقل في الفحص حتى يتم له اليقين بصحة دين من الأديان أو يرفضها جميعا.

وعلى العكس فيمن نشأ على اليهودية أو النصرانية، فإن اليهودي لا يعنيه اعتقاده بدينه عن البحث عن صحة النصرانية والدين الإسلامي بل يجب على النظر والمعرفة بمقتضى حكم العقل. وكذلك النصراني ليس له أن يكتفي بإيمانه بالمسيح(علیه السّلام)، بل يجب أن يبحث ويفحص عن الإسلام وصحته، ولا يعذر في القناعة بدينه من دون بحث وفحص، لأن اليهودية وكذا النصرانية لا تنفي وجود شريعة لا حقة لها ناسخة لأحكامها. ولم يقل موسى ولا المسيح(علیهما السّلام) أنه لا نبي بعدي.

فكيف يجوز لهؤلاء النصارى واليهود أن يطمئنوا إلى عقيدتهم ويركنوا إلى دينهم قبل أن يفحصوا عن صحة الشريعة اللاحقة لشريعتهم كالشريعة النصرانية بالنسبة إلى اليهود، والشريعة الإسلامية بالنسبة إلى اليهود والنصارى. بل يجب بحسب فطرة العقول أن يفحصوا عن صحة هذه الدعوى اللاحقة، فإن ثبتت لهم صحتها انتقلوا في

ص: 328

دينهم إليها، وإلا صح لهم في شريعة العقل حينئذ البقاء على دينهم القديم والركون إليه.

أما المسلم - كما قلنا - فإنه إذا اعتقد بالإسلام لا يجب عليه الفحص لا عن الأديان السابقة على دينه ولا عن اللاحقة التي تدعى، أما السابقة فلأن المفروض أنه مصدق بها فلماذا يطلب الدليل عليها؟ وإنما فقط قد حكم له بأنها منسوخةٌ بشريعته الإسلامية فلا يجب عليه العمل بأحكامها ولا بكتبها. وأما اللاحقة فلأن نبي الإسلام محمد(صلی الله علیه و آله و سلم) قال: «لا نبي بعدي» وهو الصادق الأمين كما هو المفروض، (لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) فلماذا يطلب الدليل على صحة دعوى النبوة المتأخرة إن ادعاها مدعٍ؟

نعم على المسلم - بعد تباعد الزمان عن صاحب الرسالة واختلاف المذاهب والآراء وتشعب الفرق والنحل - أن يسلك الطريق الذي يثق فيه أنه يوصله إلى معرفة الأحكام المنزلة على محمد صاحب الرسالة، لأن المسلم مكلف بالعمل بجميع الأحكام المنزلة في

الشريعة كما أنزلت ولكن كيف يعرف أنها الأحكام المنزلة كما أنزلت والمسلمون مختلفون والطوائف متفرقة فلا الصلاة واحدة، ولا العبادات متفقة، ولا الأعمال في جميع المعاملات على وتيرةٍ واحدة!... فماذا يصنع؟ بأية طريقةٍ من الصلاة - إذن - يصلي؟ وبأية شاكلة من الآراء يعمل في عباداته ومعاملاته كالنكاح والطلاق والميراث والبيع والشراء وإقامة الحدود والديات وما إلى ذلك؟

ولا يجوز له أن يقلد الآباء، ويستكين إلى ما عليه أهله وأصحابه بل لا بد أن يتيقن بينه وبين نفسه وبينه وبين الله(عزوجل)، فإنه لا مجاملة هنا ولا مداهنة ولا تحيز ولا تعصب، نعم لا بد أن يتيقن بأنه قد أخذ بأمثل الطرق التي يعتقد فيها بفراغ ذمته بينه وبين الله من التكاليف المفروضة عليه منه(عزوجل)، ويعتقد أنه لا عقاب عليه ولا عتاب منه تعالى باتباعها وأخذ الأحكام منها. ولا يجوز أن تأخذه في الله لومة لائم ﴿أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ

ص: 329

سُدًى﴾ ﴿بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾.

﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ وأول ما يقع التساؤل فيما بينه وبين نفسه أنه هل يأخذ بطريقة آل البيت أو يأخذ بطريقه غيرهم. وإذا أخذ بطريقة آل البيت فهل الطريقة الصحيحة طريقة الإمامية الاثني عشرية أو طريقة من سواهم من الفرق الأخرى. ثم إذا أخذ بطريقة أهل السنة فمن يقلد من المذاهب الأربعة أو من غيرهم من المذاهب المندرسة؟ هكذا يقع التساؤل لمن أعطي الحرية في التفكير والاختيار، حتى يلتجئ من الحق إلى ركن وثيق.

ولأجل هذا وجب علينا -بعد هذا- أن نبحث عن الإمامة، وأن نبحث عما يتبعها في عقيدة الإمامية الاثني عشرية». انتهى.

ما ذكره الشيخ(رحمه الله علیه) في عبارته واضح ولا يحتاج إلى كثير من العناء، ولكن هناك عدة ملاحظات مهمة تنفع في المقام:

الملاحظة الأولى:

إنَّ البحث عن الدين الصحيح يدخل تحت كبرى: (وجوب النظر والمعرفة) بالمعنى المتقدم، أي إنَّه واجبٌ عقليٌ قبل أن يكون شرعيًا، ومن نفس هذا المنطلق وتحت هذه الكبرى ذكر الشيخ هذا البحث ليشيرَ إلى ضرورة أنْ يبحث كل متدين بدين سماوي عن الدين الذي يجب اتّباعه الآن.

الملاحظة الثانية:

يجب أنْ يكون البحث عن الدين (الحق) مبتنيًا على أسس متينة ليصل الباحث فيه إلى اليقين بأن يعتمد التالي:

ص: 330

أولًا: أنْ يكون بحثه صادقًا:

أي يطلب فيه الحقيقة ليؤمن بها، فلا يكفي البحث من أجل الترف الفكري، كالذي يبحث ليكتب رسالةٍ ما، فضلًا عن أن يكون هدفه مجرد نقض الآخر وليس طلبًا للحق، كما فعل الكثير من المستشرقين في بحثهم عن الإسلام، إذ دخلوا البلاد الإسلامية وبحثوا في الإسلام من أجل أنْ يظهروا نقاط الضعف في الدين الإسلامي، والقليل منهم فقط من أسلم.

ثانيًا: لا بُد أنْ يكون البحث عن الدين الحق معتمدًا على مصادر ذلك الدين المعتبرة.

ولا يكفي في الحكم على الدين أو في معرفته أن يكون ذلك من خلال أعدائه، وهذا أمر وجداني، فليس منهجيًا ما يفعله البعض عندما يبحث عن مذهب أهل البيت(علیهم السّلام) ويحكم على عقائدهم عبر ما يكتبه النواصب، فهذا بحث غير منهجي، فلا بد للتعرف على عقائد مذهبٍ أو دين أو الحكم عليه من التعرف عليه من خلال كتبه ومصادره المعتبرة حصرًا.

ثالثًا: أنْ يكون البحث من خلال مراجعة المتخصصين في ذلك الدين.

لأنَّ المتخصص أعرف بمداخل الدين، فيكون هو الأجدر بالمراجعة، وهذا ما كان يسلكه بعض اليهود في بحثهم عن صحة الدين الإسلامي حسبما ورد في العديد من الروايات، فقد كانوا يأتون إلى المدينة ويسألون عن الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) ليجيبهم على أسئلتهم، وبعد رحيله (صلوات الله وسلامه عليه وآله) كانوا يأتون إلى خليفته ويوجهون أسئلتهم إليه، فإن لم يُجِبْ، علموا أنَّه ليس من المتخصصين في هذا الدين، وبالتالي يعرفون عدم أحقيته بالخلافة، فمثلًا ورد في كتاب الخصال للشيخ الصدوق عن طاووس قال: أتى

ص: 331

قوم من اليهود عمر بن الخطاب وهو يومئذ والي على الناس فقالوا: أنت والي هذا الأمر بعد نبيكم، وقد أتيناك نسألك عن أشياء إن أنت أخبرتنا بها آمنا وصدقنا واتبعناك، فقال عمر: سلوا عما بدا لكم، قالوا: أخبرنا عن أقفال السماوات السبع ومفاتيحها، وأخبرنا عن قبر سار بصاحبه؟ وأخبرنا عمن أنذر قومه ليس من الجن ولا من الإنس؟ وأخبرنا عن موضع طلعت فيه الشمس ولم تعد إليه، وأخبرنا عن خمسة لم يُخلقوا في الأرحام، وعن واحد واثنين وثلاثة وأربعة وخمسة وستة وسبعة، وعن ثمانية وتسعة وعشرة وحادي عشر وثاني عشر؟

قال: فأطرق عمر ساعة ثم فتح عينيه ثم قال: سألتم عمر بن الخطاب عما ليس له به علم، ولكن ابن عم رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) يخبركم بما سألتموني عنه، فأرسل إليه فدعاه فلما أتاه قال له: يا أبا الحسن، إن معاشر اليهود سألوني عن أشياء لم أجبهم فيها بشيء وقد ضمنوا لي إن أخبرتهم أنْ يؤمنوا بالنبي(صلی الله علیه و آله و سلم). فقال لهم علي(علیه السّلام): «يا معشر اليهود اعرضوا عليّ مسائلكم» فقالوا له مثل ما قالوا لعمر، فقال لهم علي(علیه السّلام): «أتريدون أن تسألوا عن شيء سوى هذا»؟ قالوا لا: يا أبا شبر وشبير.

فقال لهم علي(علیه السّلام): «أما أقفال السماوات فالشرك بالله، ومفاتيحها قول لا إله إلا الله.

وأما القبر الذي سار بصاحبه فالحوت سار بيونس في بطنه البحار السبعة.

وأما الذي أنذر قومه ليس من الجن ولا من الإنس فتلك نملة سليمان بن داود(علیهما السّلام).

أما الموضع الذي طلعت فيه الشمس فلم تعد إليه فذاك البحر الذي أنجى الله(عزوجل) فيه موسى(علیه السّلام) وغرق فيه فرعون وأصحابه.

وأما الخمسة الذين لم يُخلقوا في الأرحام فآدم وحواء وعصا موسى وناقة صالح وكبش إبراهيم(علیهم السّلام).

ص: 332

وأما الواحد فالله الواحد لا شريك له، وأما الاثنان فآدم وحواء، وأما الثلاثة فجبريل وميكائيل وإسرافيل، وأما الأربعة فالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وأما الخمس فخمس صلوات مفروضات على النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، وأما الستة فقول الله(عزوجل):

﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾، وأما السبعة فقول الله(عزوجل): ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا﴾، وأما الثمانية فقول الله(عزوجل) ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾، وأما التسعة فالآيات المنزلات على موسى بن عمران(علیه السّلام)، وأما العشرة فقول

الله(عزوجل): ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ﴾، وأما الحادي عشر فقول يوسف لأبيه ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا﴾، وأما الاثني عشر فقول الله(عزوجل) لموسى(علیه السّلام): ﴿اضْرِبْ بِعَصَاكَ الحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا﴾».

قال: فأقبل اليهود يقولون: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، وإنك ابن عم رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، ثم أقبلوا على عمر فقالوا: نشهد أنَّ هذا أخو رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) والله، إنه أحق بهذا المقام منك. وأسلم من كان معهم وحسن إسلامهم.(1)

رابعًا: حيث أنَّ بحثنا في الأديان السماوية فلا بد من الاعتماد على الكتاب الذي يعتقد أهل ذلك الدين أنَه كتابهم السماوي ودستورهم.

فنبحث عن الدين الإسلامي في القرآن الكريم، وعن الدين اليهودي في التوراة، وعن الدين النصراني في الإنجيل وهكذا، وهناك بعض الروايات تؤكد هذا المعنى، منها ما روي عن الإمام الصادق(علیه السّلام) أنَّه قال: «مَن عَرَفَ دينَهُ مِن كِتابِ اللهِ عزّ وجلّ زالَتِ الجِبالُ قَبلَ أنْ يَزولَ، ومَن دَخَلَ في أَمر بِجَهل خَرَجَ مِنهُ بِجَهل».(2)

ص: 333


1- الخصال للصدوق ص456و457/ باب الواحد الى اثني عشر/ح1.
2- بحار الأنوار : 23/ 103/ 11.

وقال8: «مَن دَخَلَ في هذَا الدّينِ بِالرِّجالِ أَخرَجَهُ مِنهُ الرِّجالُ كَما أَدخَلوهُ فيهِ، ومَن دَخَلَ فيه بالكتابِ والسنَّةِ زالَتِ الجبالُ قبلَ أَن يَزولَ».(1)

والمقصود ب-(الرجال) هنا خصوص غير المتخصصين في الدين قطعًا كما هو واضح.

الملاحظة الثالثة:

يؤكد القرآن الكريم وبعض الروايات الشريفة على أنَّ الشرائع السماوية واحدة، يقول الله(عزوجل): ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَىٰ المُشْ-رِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾.(2)

عن أمير المؤمنين(علیه السّلام): «أَلَا وإِنَّ شَرَائِعَ الدِّينِ وَاحِدَةٌ وسُبُلَه قَاصِدَةٌ».(3)

وعَنْ أَبِي عَبْدِ الله(علیه السّلام) قَالَ: «إِنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى أَعْطَى مُحَمَّداً(صلی الله علیه و آله و سلم) شَرَائِعَ نُوحٍ وإِبْرَاهِيمَ ومُوسَى وعِيسَى(علیهم السّلام): التَّوْحِيدَ والإِخْلَاصَ وخَلْعَ الأَنْدَادِ والفِطْرَةَ الحَنِيفِيَّةَ السَّمْحَةَ ولَا رَهْبَانِيَّةَ ولَا سِيَاحَةَ أَحَلَّ فِيهَا الطَّيِّبَاتِ وحَرَّمَ فِيهَا الخَبَائِثَ ووَضَعَ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ثُمَّ افْتَرَضَ عَلَيْه فِيهَا الصَّلَاةَ والزَّكَاةَ والصِّيَامَ والحَجَّ والأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ والحَلَالَ والحَرَامَ والمَوَارِيثَ والحُدُودَ والفَرَائِضَ والجِهَادَ فِي سَبِيلِ الله...»(4)

ص: 334


1- الغيبة للنعماني ص 28.
2- الشورى 13.
3- نهج اليبلاغة ج1 ص 233.
4- الكافي للكليني ج2 ص 17 بَابُ الشَّرَائِعِ ح1.

ما معنى تلك الوحدة في هذه الشرائع؟

المقصود من الوحدة بين الأديان السماوية هي وحدة الأصول العامة للأديان، فهناك اتحاد في جوهر الأديان، وأما الاختلافات فخارجة عن ذلك الجوهر، فكل الأديان السماوية متفقة على أصل التوحيد وأصل النبوة وأصل المعاد، بل متفقةٌ حتى على أصل العدل، وحتى على أصل الإمامة أو قل الوصاية والخلافة. فقد روي عن الإمام السجاد(علیه السّلام) لما سُئل عن جميع الشرائع قال: «قول الحق والحكم بالعدل والوفاء بالعهد».(1)

ورب سائلٍ يسأل: إذا كانت هناك وحدة بين الأديان السماوية، فلماذا الاختلاف بين اتباع تلك الاديان؟

وللجواب عن ذلك نقول:

إنَّ الاختلاف يرجع إلى عدة أسباب:

الأول: عدم المعرفة الصحيحة بالدين.

الثاني: الخطأ في التطبيق، فجميع اليهود كانوا يعلمون أنَ النبي عيسى(علیه السّلام) سيكون منقذًا لهم، ولكنهم أرادوا أنْ يطبقوا ذلك على غيره، كما أنَ كلًا من اليهود والمسيح كانوا ينتظرون النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) ولكنهم أرادوا أنْ يطبّقوا ذلك على غيره، أو لنقُل: أخطأوا في التطبيق إن أردنا أنْ نحسن الظن بهم.

الثالث: في كثير من الأحيان كان أنْ تولّى زمام الأمور من هم ليسوا أهلًا لذلك، وربما هذا من أهم الأسباب للاختلاف بين الأديان والمذاهب.

ص: 335


1- بحار الأنوار ج72 ص 92.

الملاحظة الرابعة:

اشارة

كيف نثبت أنَّ الإسلام هو الحق وأنَّه يلزم على اليهود والنصارى أنْ يصبحوا مسلمين؟

ذكر الشيخ(رحمه الله علیه) أنَّ الطريق الى ذلك من خلال:

الأول: المعجزة:

وهذا طريق صحيح وعقلائي ويورث الاطمئنان، فالقرآن الكريم هو معجزة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) التي من خلالها يثبت أنَّ محمدًا(صلی الله علیه و آله و سلم) نبي آخر الزمان، وبالتالي على جميع المتدينين بالأديان السماوية أنْ يؤمنوا بالإسلام.

بل هو السبيل إلى الإيمان بسائر الأنبياء وكتبهم الحقيقية فضلًا عن معاجزهم؛ لأننا إذا جرَّدنا أنفسنا من القرآن فلا يوجد دليل آنذاك على إثباتها، فالقرآن أيضًا يثبت نبوة الأنبياء السابقين.

وهذا ما أشار له الشيخ(رحمه الله علیه) بقوله: «أما الشرائع السابقة كاليهودية والنصرانية فنحن قبل التصديق بالقرآن الكريم أو عند تجريد أنفسنا بالعقيدة الإسلامية، لا حجة لنا بإقناع نفوسنا بصحتها ولا لإقناع المشكك المتسائل..».

وهنا نكتة مستفادة من عبارة الشيخ هذه، وهي:

إن معجزة المسلمين باقية، وهي القرآن الكريم، أما معجزة اليهود مثلًا بشق البحر لموسى(علیه السّلام)فهي غير باقية، فنستطيع أن نتهم اليهود بالكذب مثلًا، وأنه لم تكن هناك معجزة لنبيهم بهذا المعنى، ولا مثبت لها إلا بالرجوع إلى القرآن الكريم، إذ إن كتبهم قد حُرّفت.

ص: 336

وهذا من معاني أن التصديق بالإسلام هو تصديق بالأديان السابقة، وعلى النصارى واليهود أن يفحصوا عن صحة الشريعة اللاحقة لهم حيث أن انبياءهم بشروا بديانة لاحقة لهم- ولا يصح لهم البقاء على دينهم، وهذا ما سيتبين أكثر في الطريق الثاني.

الثاني: طريق الاحتياط.

بمعنى: أنَّ الإيمان بالإسلام يستلزم الإيمان بكل الأديان، بخلاف الإيمان بالمسيحية أو اليهودية (الموجودتين الآن)؛ إذ إنَّه لا يستبطن الاعتراف بالإسلام، وعليه، فإنَ الإيمان بالإسلام هو مقتضى الاحتياط الذي يحكم به العقل؛ لأنه إيمانٌ بجميع الأديان السماوية، إيمان بالإسلام صراحةً وبما سبقه ضمنًا، فأيٌّ منها كان هو الدين الصحيح فقد أتى به المكلف، بخلاف الإيمان بالنصرانية مثلًا، فهو إيمانٌ لا يشمل سوى الإيمان بديانتين: النصرانية وسابقتها وهي اليهودية، وفضلًا عن الإيمان باليهودية؛ لأنه إيمانٌ بديانةٍ واحدةٍ فقط.

وهو احتجاجٌ لطيفٌ، وقد احتج به بعض الأئمة(علیهم السّلام) على بعض الزنادقة.

فقد روي عن الإمام الصادق(علیه السّلام) انه قال لعبد الكريم ابن أبي العوجاء: «يا عبد الكريم... إِنْ يَكُنِ الأَمْرُ كَمَا تَقُولُ ولَيْسَ كَمَا تَقُولُ، نَجَوْنَا ونَجَوْتَ. وإِنْ يَكُنِ الأَمْرُ كَمَا نَقُولُ وهُوَ كَمَا نَقُولُ، نَجَوْنَا وهَلَكْتَ».

فَأَقْبَلَ عَبْدُ الكَرِيمِ عَلَى مَنْ مَعَه، فَقَالَ: وَجَدْتُ فِي قَلْبِي حَزَازَةً فَرُدُّونِي، فَرَدُّوه، فَمَاتَ لَا رَحِمَه الله.(1)

وعن محمد بن عبد الله الخراساني خادم الرضا(علیه السّلام) قال: دخل رجل من الزنادقة علي أبي الحسن(علیه السّلام) وعنده جماعة فقال أبو الحسن8: «أَيُّهَا الرَّجُلُ، أرَأَيْتَ إِنْ كَانَ القَوْلُ

ص: 337


1- نفس المصدر ص78 ح2.

قَوْلَكُمْ ولَيْسَ هُوَ، كَمَا تَقُولُونَ ألَسْنَا وإِيَّاكُمْ شَرَعاً سَوَاءً، لَا يَضُرُّنَا مَا صَلَّيْنَا وصُمْنَا وزَكَّيْنَا وأَقْرَرْنَا؟» فَسَكَتَ الرَّجُلُ. ثُمَّ قَالَ أَبُو الحَسَنِ(علیه السّلام): «وإِنْ كَانَ القَوْلُ قَوْلَنَا وهُوَ قَوْلُنَا ألَسْتُمْ قَدْ هَلَكْتُمْ ونَجَوْنَا؟!»(1)

ومن مناظرة للإمام الصادق(علیه السّلام) مع الطبيب الهندي: «أرأيت إنْ كان القول قولك، فهل يُخاف علي شيء مما أخوّفك به من عقاب الله؟» قال: لا. قلتُ: «أفرأيت إنْ كان كما أقول والحقُّ في يدي ألستُ قد أخذتُ فيما كنتُ أحاذر من عقاب الخالق بالثقة، وأنك قد وقعتَ بجحودك وإنكارك في الهلكة؟» قال: بلى. قلتُ: «فأينا أولى بالحزم وأقرب من النجاة؟» قال: أنت.(2)

ص: 338


1- نفس المصدر ح3.
2- بحار الأنوار- العلامة المجلسي- ج 3- ص 154.

ص: 339

ص: 340

المحتویات

الإهداء... 5

مقدمة المعهد... 7

المقدمة... 9

تمهيد... 13

المقدمة الأولى: تعريف العلم (علم الكلام). ... 14

المقدمة الثانية : موضوع العلم. ... 14

ما هو موضوع علم الكلام ؟ وعن ماذا تبحث مسائل علم الکلام؟... 14

المقدمة الثالثة : الغرض من علم الكلام. ... 15

المقدمة الرابعة: المنفعة من علم الكلام. ... 15

المقدمة الخامسة : مرتبة علم الكلام... 16

المقدمة السادسة: من أي العلوم هو ؟... 16

تنبیه: ... 16

عقیدتنا في النظر والمعرفة ... 17

معنی العقیدة والنظر والمعرفة... 18

العقیدة: ... 18

النظر: ... 19

المعرفة: ... 19

ص: 341

ما هو المقصود من هذا البحث؟ ... 19

هل يجوز التقليد في النظر والمعرفة؟ ... 22

ملاحظة: ... 23

س/ ما هو الدليل على أن النظر والمعرفة واجب عقلي؟ ... 24

دليل دفع الضرر المحتمل. ... 24

عقيدتنا في التقليد بالفروع ... 25

النقطة الأولى: أهم الفروق بين الفروع والاصول: ... 25

النقطة الثانية: معنى التقليد. ... 27

النقطة الثالثة: ما هي فروع الدين؟ ... 28

النقطة الرابعة: التقليد لا موضوعية له. ... 28

النقطة الخامسة هل يجوز للمكلف الاحتياط ؟ ... 29

عقيدتنا في الاجتهاد ... 31

من أين جاءت فكرة الاجتهاد؟ ... 32

إشارة: بيان الثابت والمتغير في الشريعة. ... 35

أولا الكتاب الكريم: ... 36

ثانيا: السنة: ... 37

إشارة: فعل المعصوم يدل على الإباحة بالمعنى الأعم ... 37

ما هو معنی التقریر هنا؟ ... 39

ثالثا: الاجماع: ... 39

رابعا: العقل: ... 40

احتیاج الاجتهاد الی جهد و توفیق. ... 41

ص: 342

عقيدتنا المجتهد ... 43

نكتة: في معنى الحدود والتعزيرات. ... 46

الإلهيات ... 47

عقيدتنا في الله تعالى ... 47

ملاحظات تمهيدية؛ ... 48

الملاحظة الأولى: لماذا لم يذكر الشيخ (قدس سره) أدلة إثبات... 48

الملاحظة الثانية: تنبيهات لا أدلة. ... 49

الملاحظة الثالثة: برهان النظم. ... 49

الخطوة الأولى: بيان برهان النظام. ... 50

هذه هي خلاصة برحان النظم. ... 51

بيان الصغرى: ... 51

بيان الكبرى : ... 52

الخطوة الثانية لماذا ركز القرآن الكريم على هذا البرهان؟ ... 54

الملاحظة الرابعة بيان معنى الواجب والممكن. ... 55

ما هي خصائص واجب الوجود؟ ... 55

وأما مميزات وخصائص واجب الوجود فني التالي: ... 56

إشارة: بيان معنى لفظ الجلالة وحس- عدم إمكان المعرفة التامة. ... 57

أولا: و الواحد الاحد. ... 59

ثانیا: «لیس کمثله شیء»: ... 60

ثالثا: قدیم لم یزل ولا یزال: ... 61

رابعا« الأول و الأخر: ... 62

ص: 343

خامسا: عليم: ... 62

ما معنى العلم الحضوري؟ ... 63

سادساً: الحكيم: ... 63

دليل غائية الأفعال الإلهية. ... 65

سابعا: عادل: ... 66

سبب تأصيل صفة العدل. ... 66

ثامنا: حي: ... 66

تاسعا: قادر: ... 67

عاشرا: غني: ... 67

حادي عشر، سميع بصیر: ... 68

الماذا يركز القرآن الكريم على صفتي السمع والبصر أكثر من غيرها؟ ... 68

استطراد في سبب عدم تسمية الله تعالى بالشام والذائق واللامس. ... 69

بیان معنى توقيفية الأسماء. ... 70

1. فليس هو بجسم. ... 72

2. قال(رحمه الله علیه):«ولا صورة». ... 72

الصورة ما عملها ؟ ... 73

نکته: ... 73

3. قال(رحمه الله علیه):«ولیس جوهرا». ... 74

4. قال(رحمه الله علیه):«ولا عرضا» ...74

6. قال(رحمه الله علیه):«و لیس له ثقل أو خفة». ... 75

6. قال(رحمه الله علیه):«ولا حرکة أو سکون». ... 75

ص: 344

7. قال(رحمه الله علیه): «ولا مكان ولا زمان». ... 76

8 . قال(رحمه الله علیه): «ولا يُشار إليه». ... 77

9. ثم قال(رحمه الله علیه): «كما لا ند له». ... 77

الند: ... 78

توضيح المسألة: ... 79

10 . قال(رحمه الله علیه): «ولا شبه». ... 79

11 . ثم قال(رحمه الله علیه): «ولا ضد» ... 80

12 . ثم قال(رحمه الله علیه): «لا صاحبة له ولا ولد». ... 82

13 . قال(رحمه الله علیه): «ولا شريك». ... 82

14. قال(رحمه الله علیه):«ولم يكن له كفوا أحد». ... 83

15 . قال(رحمه الله علیه): لا تدركه الأبصار». ...83

من شروط الرؤية البصرية :84

16 . قال(رحمه الله علیه): «وهو يدرك الابصار» ... 84

تتمة: ... 84

ملاحظة في الصفا الخبریة: ... 85

طريقة : ... 87

ملاحظة مهمة: ... 90

والخلاصة : ... 93

تطبيقات في الصفات الخبرية: ... 93

الجواب الآول: ... 97

الجواب الثاني: ... 95

ص: 345

عقيدتنا في التوحيد ... 97

التوحيد في الذات. ... 99

الجهة الأولى التوحيد الواحدي: ... 99

المعنى الأول: الوحدة العددية: ... 99

المعنى الثاني: الوحدة الحقيقية: ... 99

من هم المخالفون في هذه المسألة؟ ... 102

الجهة الثانية: التوحيد الأحدي: ... 103

التوحيد في العبادة ... 104

النقطة الأولى: محور الخلاف في التوحيد في العبادة. ... 104

النقطة الثانية: ما هو معنى العبادة؟ ... 105

النقطة الثالثة: تطبيقات: ... 106

النقطة الرابعة: فائدة جانبية ... 107

التقسيم الأول: تنقسم العبادة إلى: ... 108

التقسيم الثاني: بلحاظ التكرار وعدمه. ... 108

التقسيم الثالث: تقسم العبادة إلى: ... 118

الفرق بين عبادة غير الله تعالى وإشراكه في العبادة: ... 110

ملاحظة: ... 110

عقيدتنا في صفاته (تعالى) ... 113

أنواع الصفات ... 114

النوع الأول: الصفات الثبوتية الكمالية الحقيقية. ... 114

البحث المهم في هذا النوع: ... 116

ص: 346

تفاصيل الأقوال: ... 117

القول الأول: للأشاعرة: 117

الإشكال على هذا الرأي: ... 118

المحذور الأول: ... 118

المحذور الثاني: ... 119

المحذور الثالث: ... 119

الرأي الثاني: للمعتزلة : ... 120

النقاش في هذا الرأي: ... 120

والحاصل: ... 121

الرأي الثالث: للإمامية (أتباع أهل البيت(علیهم السّلام)) ... 121

النوع الثاني: الصفات الثبوتية الكمالية الاضافية (الفعلية). ... 124

ملاحظة: ... 124

ما معنى القيومية ؟ ... 124

الأول: القائم بذاته: ... 125

الثاني: القائم بشؤون غيره: ... 125

النوع الثالث: الصفات السلبية: ... 126

الأول: الصفات السلبية الذاتية: ... 126

الثاني : الصفات السلبية الفعلية: ... 127

رجوع الصفات السلبية إلى سلب الإمكان. ... 128

مبحث جانبي أشار له الشيخ المظفر(قدس سره) : ... 129

هل الصفات الثبوتية ترجع إلى السلبية أو بالعكس ؟ ... 129

ص: 347

بیان معنى الصمد: ... 131

عقيدتنا في العدل ... 133

النقطة الأولى: سبب تأصيل صفة العدل. ...134

النقطة الثانية: العدل صفة فعلية. ... 137

تنبيه رجوع الصفات الفعلية إلى الذاتية. ... 138

النقطة الثالثة: ما هو معنى العدل الالهي؟ ... 138

التعريف الأول: أن العدل هو الإعطاء بالسوية (بالتساوي). ... 138

التعريف الثاني: أن العدل هو إعطاء كل ذي حق حقه. ... 140

والجواب: ... 141

التعريف الثالث: أن عدل الله تعالى يعني....141

بیانه: ... 141

الأول: بعد الإمكانات والاستعدادات. ... 142

الثاني: بعد الجزاء ونتائج الأفعال. ... 143

النقطة الرابعة امتدادات العدل الإلهي في الأفعال. ... 143

النقطة الخامسة: ما هو الدليل على اتصاف الله(رحمه الله علیه)بالعدل ؟ ... 144

النقطة السادسة: التعويض الإلهي استحقاق أم منة؟ ... 145

سابعا: الوعد والوعيد. ... 149

الجهة الأولى: الوعد: ... 149

الجهة الثانية: الوعيد. ... 151

تنبيهان: ... 152

التنبيه الأول: ضرورة عدم الاغترار بعفو الله تعالى. ... 152

ص: 348

التنبيه الثاني: ضرورة تشريع قانون العقوبات. ... 153

الأول: لزوم لغوية التشريع والتقنين. ... 153

الثاني: لزوم تضييع حقوق الناس. ... 154

الثالث: تغرير العاصي بالمعصية. ... 154

النقطة الثامنة: هل الحسن والقبح عقليان أو شرعيان؟ ... 154

الخطوة الأولى تحرير محل النزاع: ... 155

الخطوة الثانية: أقسام الأفعال التكوينية من حيث الحسن والقبح. ... 156

الخطوة الثالثة: أدلة الحسن والقبح العقليين. ... 157

استدلال الأشاعرة على أن الحسن والقبح شرعيين: ... 160

احتمالات ثلاثة أخرى في الآية: ... 161

الاحتمال الأول: ... 161

الاحتمال الثاني: ... 163

الاحتمال الثالث: ... 163

عقيدتنا في التكليف ... 165

ما هو التكليف؟ ... 166

النقطة الأولى معنى الخطاب. ... 166

1/القول: ... 166

2/ الفعل: ... 167

3/التقرير: ... 167

لماذا كان تقرير المعصوم يدل على الحكم الشرعي ؟... 168

النقطة الثانية معنى المولى. ... 170

ص: 349

النقطة الثالثة: معنى الواصل: ... 175

النقطة الرابعة: معنى المكلف. ... 176

الخطوة الأولى: هل المكلف هو فقط الإنسان أو إنه... ... 176

الخطوة الثانية: ما هي شروط التكليف؟ ... 177

النقطة الأولى: الأحكام التكليفية الإلزامية: ... 181

النقطة الثانية: الأحكام التكليفية غير الإلزامية: ... 181

النقطة الثالثة: الأحكام الوضعية: ... 182

الخطوة الثالثة إثبات حسن التكليف من المولى. ... 184

عقيدتنا في القضاء والقدر ... 187

مصطلحات البحث: ... 189

المصطلح الأول: القدر. ... 189

المصطلح الثاني: القضاء. ... 189

المصطلح الثالث: الجبر. ... 191

المصطلح الرابع: التفويض. ... 191

النوع الأول: التفويض التكويني: ... 192

الثاني: التفويض التشريعي: ... 192

المذهب الأول: مذهب الجبر. ... 193

الخطوة الأولى: مؤسسو مذهب الجبر: ... 193

الخطوة الثانية خلاصة دعوى الجبر: ... 194

الخطوة الثالثة: منشأ هذه الدعوى : ...195

الخطوة الرابعة: إبطال الجبر. ... 197

ص: 350

المذهب الثاني: التفويض المعتزلي. ... 202

الخطوة الأولى: منشأ عقيدة التفويض. ... 202

الخطوة الثانية خلاصة دعوى التفويض. ... 203

الخطوة الثالثة: الاستدلال على بطلان عقيدة التفويض. ... 204

المذهب الثالث: الأمر بين الأمرين. ... 206

الخطوة الأولى: خلاصة نظرية الأمر بين الأمرين. ... 206

الخطوة الثانية: مثالان توضيحيان: ... 208

الخطوة الثالثة: نصوص دينية تؤيد نظرية الأمر بين الأمرين. ... 210

إشارات: ... 210

الإشارة الأولى: رجوع بعض أهل السنة إلى نظرية الأمر بين الأمرين. ... 210

الإشارة الثانية: ضرورة الإيمان بالقضاء والقدر تعبداً. ... 212

الإشارة الثالثة: حث الروايات على عدم الخوض كثيراً في القضاء والقدر. ... 212

الخلاصة: ... 213

عقيدتنا في البداء ... 215

الجهة الأولى: البداء بمعناه اللغوي. ... 216

الجهة الثانية: البداء بمعناه الاصطلاحي. ... 218

ركائز البداء ... 219

الركيزة الأولى: السلطة المطلقة الله(عزوجل)والقدرة غير المحدودة. ... 219

الركيزة الثانية: أن الله تعالى حكيم. ... 219

الركيزة الثالثة: العلم الإلهي المطلق. ... 219

الجهة الثالثة: أين يقع البداء، وأقسام القضاء والقدر. ... 219

ص: 351

الجهة الرابعة: ما المصلحة من البداء؟ ... 221

الأولى: البداء يولد الأمل في النفوس. ... 222

الثانية: البداء من أقوى الدوافع نحو التوبة. ... 222

استطراد: ... 222

الجهة الخامسة: ما الفرق بين النسخ والبداء؟ ... 223

ما الفرق بين النسخ والبداء؟ ... 224

توضيح: ... 225

عقيدتنا في أحكام الدين ... 227

النقطة الأولى: أن الله تعالى حكماً في كل واقعة. ... 228

النقطة الثانية: استناد الأحكام إلى المصالح والمفاسد الواقعية. ... 228

النقطة الثالثة: عدم التكليف بمعرفة العلل الواقعية للأحكام. ... 229

النقطة الرابعة: انحصار استكشاف. ... 230

النقطة الخامسة: تقسيم الأحكام الشرعية. ... 231

الأول: الأحكام الواقعية: ... 231

الثاني: الأحكام الظاهرية: ... 231

النقطة السادسة علاقة الحكم الظاهري بالواقع. ... 232

الأمر الأول: ما هو موقع الاجتهاد ( عند الشيعة) من مصادر التشريع؟ ... 232

الأمر الثاني: التخطئة والتصويب. ... 233

النقطة السابعة: رجوع مصالح التكليف للعياد. ... 235

ص: 352

عقيدتنا في النبوة ... 237

الخطوة الأولى: النبوة العامة. ... 239

النقطة الأولى: تعريف النبوة والنبي. ... 239

النقطة الثانية: خصائص النبوة. ... 240

التعيين الإلهي. ... 240

النقطة الثالثة: ما هو الهدف من إرسال الانبياء؟ ... 243

الهدف الأول: تكامل الإنسان. ... 243

الهدف الثاني: تعليم الكتاب والحكمة. ... 244

الهدف الثالث: تزكية الاخلاق. ... 244

النقطة الرابعة هل النيوة واجبة أو لا ؟ ... 244

النقطة الخامسة: لزوم طاعة الأنبياء. ... 245

النبوة لطف ... 247

المقدمة الأولى: ... 249

المقدمة الثانية: ... 250

المقدمة الثالثة: ... 250

عقيدتنا في معجزة الأنبياء ... 253

نقطتان: ... 255

النقطة الأولى: ضرورة المعجزة: ... 255

النقطة الثانية: ماهي المعجزة وما هي خصائصها ؟ ... 255

الخصيصة الأولى: خرق العادة. ... 255

نكتة: ... 256

ص: 353

الخصيصة الثانية: التحدي لأهل الفن. ... 257

الخصيصة الثالثة: عدم المعارضة. ... 258

الخصيصة الرابعة: أن يكون الإتيان بهذا الأمر ... ... 259

الخصيصة الخامسة: مع المطابقة للدعوى. ... 259

عقيدتنا في عصمة الأنبياء ... 261

النقطة الأولى: تعريف العصمة. ... 262

النقطة الثانية الآراء في العصمة. ... 262

الأول: العصمة في الاعتقاد. ... 262

الثاني: العصمة في التبليغ. ... 263

الثالث: العصمة في أفعال النبي وسيرته. ... 263

النقطة الثالثة: هل العصمة تجبر المعصوم على ترك المعصية؟ ... 264

النقطة الرابعة ما هو الدليل على ضرورة العصمة في النبي؟ ... 266

الدليل الأول: ... 266

الدليل الثاني: ... 266

عقيدتنا في صفات النبي ... 269

أولا: أن يكون النبي أفضل أهل زمانه في كل شيء. ... 269

ثانيا: أن يكون النبي كامل العقل والذكاء والفطنة وقوة الرأي وعدم... ... 270

ثالثا: أن يكون النبي منزها عن كل ما ينفر عنه الطباع. ... 271

عقيدتنا في الأنبياء وكتبهم ... 273

الإشارة الأولى: ... 274

الإشارة الثانية: ... 274

ص: 354

الإشارة الثالثة: ... 274

إضاءتان ... 276

الإضاءة الأولى: ما الفرق بين الإمامية وسواهم في ... ... 276

الإضاءة الثانية: ما هو الفرق بين النبي والرسول؟ ... 278

عقيدتنا في الإسلام ... 279

الإشارة الأولى: ما هو الفرق بين الاسلام والايمان؟ ... 282

الإشارة الثانية مستويات القوانين الأخلاقية في القرآن الكريم. ... 284

المستوى الأول: القدوة الصالحة. ... 284

المستوى الثاني: تصحيح المفاهيم بما يناسب روح الإسلام. ... 285

المستوى الثالث: ربط الأعمال بالداعي الإلهي. ... 286

المستوى الرابع: تأسيس القوانين الأخلاقية. ... 287

المستوى الخامس : بيان ثمرات الأعمال الأخلاقية. ... 287

الإشارة الثالثة: بدء المسلمين بالانحطاط والتردي الأخلاقي والديني. ... 288

مخططات تدمير الإسلام ... 289

عقيدتنا في مشرع الإسلام ... 293

الخطوة الثانية النبوة الخاصة. ... 293

الإشارة الأولى: أن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)هو أفضل ما خلق الله(عزوجل). ... 293

الإشارة الثانية: اتصافه(صلی الله علیه و آله و سلم)بالأخلاق الفاضلة. ... 294

الإشارة الثالثة: ديانة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)قبل بعثته في عمر الأربعين. ... 296

أقوال في ديانة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): ... 296

تتمات: ... 298

ص: 355

عقيدتنا في القرآن الكريم ... 305

عقيدتنا في القرآن الكريم. ... 306

النقطة الأولى: الوحي. ... 306

النقطة الثانية: القرآن تبيان كل شيء. ... 308

النقطة الثالثة: إعجاز القرآن. ... 310

الوجه الأول: بلاغته الفريدة. ... 310

الوجه الثاني: عدم الاختلاف والتناقض في آياته الكريمة. ... 311

الوجه الثالث: الإخبارات العلمية الموجودة في القرآن الكريم. ... 314

النقطة الرابعة: القرآن الكريم خالد وغير محرف. ... 315

معنى التحريف ... 315

الأول: التحريف المعنوي: ... 315

المعنى الثاني: التحريف اللفظي: ... 315

الأدلة على عدم تحريف القرآن الكريم : ... 316

الدليل الأول: القرآن الكريم يشهد لنفسه على أنه غير محرف. ... 316

الدليل الثاني: السنة الشريفة تثبت عدم تحريف القرآن الكريم. ... 317

أحكام فقهية تقدس القرآن. ... 321

إشارتان: ... 321

الإشارة الأولى: ما هي حقيقة مصحف أمير المؤمنين... ... 321

الاشارة الثانية: التأكيد على ضرورة تعاهد القرآن الكريم. ... 324

طريقة اثبات الاسلام والشرائع السابقة ... 327

الملاحظة الأولى: ... 330

ص: 356

الملاحظة الثانية: ... 330

الملاحظة الثالثة: ... 334

ما معنى تلك الوحدة في هذه الشرائع؟ ... 335

الملاحظة الرابعة: ... 336

الأول: المعجزة: ... 336

الثاني: طريق الاحتياط. ... 337

ص: 357

المجلد 2

هوية الکتاب

العَتَبَةُ العَبَاسِیَةُ المُقَدَسة

قِسمُ الشُّؤُونُ الفِیکرِیَّة و الثَقَافِّیَّة

مَعهَدُ تُزَاثُ الأنبِیاء علیهم السلام لِلدِّراسَاتِ الحَوزَونَة الألِکتِرونَیة

المَنَاهِج الدِّراسِّیة

دُرُوسُ مَنهَجِیَّةُ

فِی شَرحِ عَقَائِدِ الإمَامِیَّة

لِلشَّیخ مُحَمَّد رِضَا المُظَفَّر رحمه الله

1322 - 1383 ه

1904 - 1964م

الجُزءُ الثَّانی

الشَیخ حُسَین عَبد الرِّضَا الأسَدی

ص: 1

اشارة

العَتَبَةُ العَبَاسِیَةُ المُقَدَسة

قِسمُ الشُّؤُونُ الفِیکرِیَّة و الثَقَافِّیَّة

www.alkafeel.net

info@alkafeel.net

nashra@alkafeel.net

کربلاء المقدسة

ص.ب (233)

هاتف: 322600، داخلی: 163-175

الکتاب : دُرُوسُ مَنهَجِیَّةُفِی شَرحِ عَقَائِدِ الإمَامِیَّة.

تالیف: الشَیخ حُسَین عَبد الرِّضَا الأسَدی.

الناشر: قِسمُ الشُّؤُونُ الفِیکرِیَّة و الثَقَافِّیَّة فی العَتَبَةُ العَبَاسِیَةُ المُقَدَسة مَعهَدُ تُزَاثُ الأنبِیاء لِلدِّراسَاتِ الحَوزَونَة الألِکتِرونَیة.

الاخراج الطباعی : علاء سعید الاسدی، محمد قاسم النصراوی.

المطبعة: دار الکفیل للطباعة و النشر.

الطبعة: الأولی.

عدد النسخ: 500.

ربیع الآخر 1442ه - تشرین الثانی 2020م

ص: 2

بِسمِ اللهِ الرَّحمن الرَّحیم

ص: 3

ص: 4

عقیدتا فی الإمامة

اشارة

قال الشيخ رحمه الله:

«عقيدتنا في الإمامة:

نعتقدُ أنّ الإمامة أصلٌ من أصول الدين لا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها، ولا يجوز فيها تقليد الآباء والأهل والمربين مهما عظموا وكبروا، بل يجب النظر فيها كما يجب النظر في التوحيد والنبوة.

وعلى الأقلِّ أنّ الاعتقاد بفراغ ذمة المكلف من التكاليف الشرعية المفروضة عليه يتوقف على الاعتقاد بها إيجاباً أو سلباً، فإذا لم تكنْ أصلاً من الأصول لا يجوز فيها التقليد لكونِها أصلاً فإنّه يجب الاعتقاد بها من هذه الجهة أي من جهة أنّ فراغ ذمة المكلف من التكاليف المفروضة عليه قطعاً من الله عزوجل واجبٌ عقلاً، وليست كُلُّها معلومةً من طريقةٍ قطعية، فلا بُدّ من الرجوع فيها إلى من نقطع بفراغ الذمة باتباعه، أما الإمام على طريقة الإمامية أو غير على طريقة غيرهم.

كما نعتقد أنّها كالنبوة لطفٌ من الله عزو جل، فلا بُدّ أنْ يكون في كُلِّ عصرٍ إمامٍ هادٍ يخلف النبي في وظائفه من هداية البشر وإرشادهم إلى ما فيه الصلاح والسعادة في النشأتين، وله ما للنبي من الولاية العامة على الناس لتدبير شؤونهم ومصالحهم وإقامة العدل بينهم ورفع الظلم والعدوان من بينهم.

وعلى هذا، فالإمامة استمرارٌ للنبوة. والدليل الذي يوجب إرسال الرسل وبعث الأنبياء هو نفسه يوجب أيضاً نصب الإمام بعد الرسول.

ص: 5

فلذلك نقول: إن الإمامة لا تكون إلا بالنص من الله عزوجل على لسان النبي أو لسان الإمام الذي قبله. وليست هي بالاختيار والانتخاب من الناس، فليس لهم إذا شاءوا أنْ ينصبوا أحداً نصبوه، وإذا شاءوا أنْ يعينوا إماماً لهم عينوه، ومتى شاءوا أنْ يتركوا تعيينه تركوه، ليصحّ لهم البقاء بلا إمام، بل «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» على ما ثبت ذلك عن الرسول الأعظم بالحديث المستفيض.

وعليه لا يجوز أن يخلو عصرٌ من العصور من إمامٍ مفروض الطاعة منصوبٍ من الله عز وجل، سواء أبى البشر أم لم يأبوا، وسواء ناصروه أم لم يناصروه، أطاعوه أم لم يطيعوه، وسواء كان حاضراً أم غائباً عن أعين الناس، إذ كما يصح أن يغيب النبي كغيبته في الغار والشعب صح أن يغيب الإمام، ولا فرق في حكم العقل بين طول الغيبة وقصرها.

قال الله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾، وقال: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾.» انتهى.

في هذا الفصل يبدأ الشيخ رحمه الله ببحثٍ مفصلي في علم الكلام، ربما يكون هو أهم البحوث على الإطلاق، وقد أشار الشيخ إلى عدة نقاط:

ص: 6

النقطة الأولى:

هل الإمامة أصلٌ من أصول الدين أو فرعٌ من فروعه؟

ذهب الإمامية أتباع مذهب أهل البيت علیهم السلام إلى أنَّ الإمامة أصلٌ من أصول الدين. وتترتبُ على قولهم هذا عدة نتائج:

الأولى: أنَّ الإيمان بها ضروري على حدّ التوحيد والنبوة، وهذا ما أشار إليه الشيخ رحمه الله بقوله: «لا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها».

الثانية: يجب تحصيل اليقين فيها ولا يكفي الظن فضلًا عن التقليد، بل لابد من اليقين والجزم والاعتقاد الواضح، وهذا ما أشار إليه الشيخ رحمه الله بقوله: «ولا يجوز فيها تقليد الآباء والأهل والمربين مهما عظموا وكبروا».

الثالثة: أنَّ البحث فيها سيدخل تحت كبرى: لزوم النظر والمعرفة، ذلك اللزوم والوجوب العقلي قبل أنْ يكون شرعيًا، وقد أشار الشيخ رحمه الله إلى ذلك قائلًا: «بل يجب النظر فيها كما يجب النظر في التوحيد والنبوة».

أما العامة فجلُّهم ذهب إلى أنًّها مسألة فرعية، وعليه فيكفي فيها الظن والتقليد، وليس للعقل في ثبوتها أو عدمه مسرحٌ؛ لأنها تابعة لاجتهاد المجتهدين.

وقد أنتج هذا الخلاف منظومتين فكريتين قسّمتا الأمة الإسلامية إلى مدرستين، اختلفتا في الكثير من النتائج على مستوى العقيدة وعلى مستوى الفقه، بل وعلى مستوى السلوك أيضًا.

ص: 7

سبب الاختلاف في كون الإمامة أصلاً أو فرعاً:

اشارة

يرجع هذا الاختلاف في الحقيقة إلى خلافٍ أعمق منه، وسيشير إليه الشيخ لاحقًا في (عقيدتنا في أنَّ الإمامة بالنص)، فمن قال: إنَّها لابد أنْ تكون بالنص (أي إنَّ التعيين فيها يكون من قبل الله عزوجل حصرًا)، فقد جعلها والنبوة على حدٍ سواء من هذه الناحية (التعيين)، وبما أنَّ النبوة أصل من أصول الدين، فالإمامة كذلك.

أما من قال بكفاية الانتخاب أو الشورى أو اختيار أهل الحل والعقد أو حتى الانقلاب العسكري في تعيين الإمام، فلا محالة سينتهي إلى القول بأنَّها مسألة فرعية تابعة للاجتهادات والاختيارات البشرية.

ما هو الدليل على أنَّ الإمامة أصل من أصول الدين؟
مقدمة:

قبل الولوج في الجواب عن هذا السؤال يحسُن بنا أن نقدمَ مقدمة، مفادها: ما هو الملاك أو المعيار أو الضابط في كون عقيدةٍ ما أصلًا من أصول الدين؟

الظاهر أنَّ المعيار في جعل عقيدةٍ ما أصلًا من أصول الدين يكمن في أهمية تلك العقيدة، أي مقدار دورها ووظيفتها في المنظومة الأساسية للإسلام، فقد تقدم أنه على الرغم من أنَّ العدل صفة من الصفات الكمالية لله جل وعلا، ولكنه جُعِل أصلًا من أصول الدين لما يترتب على الإيمان به أو عدمه من الثمرات الخطيرة جداً، ونفس هذا المعيار يأتي في الإمامة، حيث إنَّ لها دورًا ضخماً جدًا في منظومة الإسلام عموماً.

ومن هنا يجدر بمن يحاجّ ويناظر أتباع مدرسة الخلفاء أن يسلّط الضوء كل الضوء ويكثف الجهد كل الجهد على مسألة الإمامة، ولا يهدر جهده ووقته على النقاش في المسائل التفصيلية التي ما هي إلا فروع أثمرت من أساس تلك المسألة، من قبيل

ص: 8

الاختلاف في التكتف في الصلاة أو إسبالهما، والاختلاف في حلّية الزواج المنقطع أو حرمته، والاختلاف في جواز السجود على التربة أو عدمه، والاختلاف في جواز التوسل بالأولياء أو عدمه...؛ فإن النقاش فيها عقيمٌ في العادة؛ لأنها نتائج لخلاف أسبق يكمن فيمن هو الخليفة الشرعي لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟ فإن تمكن المناظر والمحاجج من إثبات أنه هو أمير المؤمنين علي علیه السلام ، أغناه ذلك عن النقاش في جميع تلك المسائل التفصيلية، لأنها ستثبت بتلقائية حسب ما يراه أمير المؤمنين علیه السلام .

ويرجع الاختلاف في تعيين الإمام أو الخليفة الشرعي إلى اختلاف أسبق ورئيسي مفاده: هل إنَّ الإمامة بالنص أو لا؟

فإن ثبت أنها بالنص، فقد توجّب البحث عن النصوص والأدلة الشرعية التي عيّنت الإمام، وحينئذٍ يثبت أنَّ أمير المؤمنين علیه السلام وحده هو الخليفة الشرعي؛ إذ ما من نصٍ معتبرٍ أشار إلى سواه بالإمامة، وهذا ما ذهب إليه الإمامية، على خلاف مدرسة الخلفاء التي نفت الإمامة النصّية من رأس، وبالتالي نفت تعيين أي إمامٍ، متخبطةً في أمر تعيين الخليفة بين عدة نظرياتٍ، ما وضعت إلا لتصحيح واقع متناقض وشرعنة أحداث منحرفة سيأتي الحديث عنها لاحقًا.

كما نعتقد أنَّ الإمامة ليست مجرد مسألة مهمة من مسائل الإسلام، بل هي أهم مسائله؛ وذلك لأن أصلي التوحيد والنبوة ثابتان بصورة عامة لدى المسلمين، وإن كان هناك خلاف في بعض الجزئيات، على حين أنَّ الإمامة مختلفٌ فيها اختلافًا جذريًا يمتد إلى أصلها وأساسها.

أدلة كون الإمامة أصلًا من أصول الدين:

الدليل الاول: قوله عزو جل: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ

ص: 9

الشَّاكِرِينَ﴾.(1)

أنبأت هذه الآية أنَّ هناك حدثًا سيقع بعد رحيل رسول الله صلی الله علیه وآله و سلم يؤدي الى الانقلاب على العقب، والانقلاب على العقب كناية عن الخروج عن الدين، وإذا رجعنا إلى التاريخ المتفق عليه نجد: أنَّ الأمة الإسلامية بعد رحيل النبي صلی الله علیه وآله و سلم مباشرة، وقبل أنْ يُدفن صلی الله علیه وآله و سلم، فإنه قد حدث نزاعٌ ضخم حول (منا أمير ومنكم أمير) أي الخلاف على الإمامة، وكان هذا الخلاف سبب انقلاب الكثير منهم على العقب، بغضّ النظر عن حقّانية دعوى كل فريق، ولكن من كان على باطل فإنّه يخرج عن الدين والإسلام، وهنا تكمن خطورة الإمامة في كونها مسألةً يدور عليها الإسلام ثبوتًا ونفيًا، وبالتالي فإنَّ مسألةً هي الملاك في إيمان الإنسان وكفره لهي جديرةٌ بكل تأكيد أن تكون أصلًا من أصول الدين.

الدليل الثاني: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾.(2)

الذي نزل في حجة الوداع يوم غدير خم، وعلى إثره جمع الرسول الاعظم صلی الله علیه وآله و سلم المسلمين، فأمر المتقدم أنْ يرجع والمتأخر أنْ يلحق، وعمل منبرًا من أقتاب الإبل، وصعد عليه وخطب خُطبة عظيمة ثم أردفها: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ وَلِيُّكُمْ وأَوْلَى بِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ؟ فَقَالُوا: الله ورَسُولُه. فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاه فَعَلِيٌّ مَوْلَاه اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاه وعَادِ مَنْ عَادَاه ثَلَاثَ مَرَّاتٍ..».(3)

فنزول الأمر الإلهي بالتبليغ بمسألةٍ ما، والمقرون بالتشديد على أهميته، بحيث

ص: 10


1- آل عمران 144
2- المائدة 67
3- الحديث متواتر لدى العامة والخاصة، انظر مثلًا: الكافي للكليني ج1 ص293 باب الإشارة والنص على أمير المؤمنين علیه السلام ح (3) ومسند أحمد بن حنبل ج1 ص 118 وسنن ابن ماجة لمحمد بن يزيد القزويني ج1 ص 45 وغيرها.

يكون عدم الامتثال له وعدم تبليغ رسالة السماء من رأس سواءً بسواء، أي يوجب ضياع أتعاب ثلاثٍ وعشرين سنةً من التبليغ للرسالة الإلهية أدراج الرياح، لهو ادلُّ دليلٍ على عظم هذه المسألة وخطورتها وأهميتها البالغة، فلا يعقل أن تكون مجرد مسألة فرعية أبداً، ولا يناسبها إلا أنْ تكون أصولية.

ومما يؤكد ذلك أيضًا، أنه ما أن بلّغ الرسول صلی الله علیه وآله و سلم وبايع المسلمون أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه حتى نزل قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾(1) أي إن الدين لم يكتمل ولم يرضه الله دينًا إلا بالتبليغ بولاية الإمام علي علیه السلام .

الدليل الثالث: الحديث المستفيض والمتفق عليه بين المسلمين بل والمتواتر أيضًا، حديث «من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية» هو دليلٌ آخر على أنَّ الإمامة أصلٌ لا فرع؛ لترتب خروج الإنسان من الدين على الجهل بالإمام وعدم معرفته، ومثله الحديث الوارد عن رسول الله صلی الله علیه وآله و سلم أنَّه قال: «من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية»(2).

الدليل الرابع: قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾(3).

وفي تفسيره روي عن رسول الله صلی الله علیه وآله و سلم أنه قال: «يدعى كل قوم بإمام زمانهم وكتاب الله وسنة نبيهم».(4)

وعَنْ مَالِكٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام : «يَا مَالِكُ، أمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تُقِيمُوا الصَّلَاةَ وتُؤْتُوا الزَّكَاةَ وتَكُفُّوا وتَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، يَا مَالِكُ، إِنَّه لَيْسَ مِنْ قَوْمٍ ائْتَمُّوا بِإِمَامٍ فِي الدُّنْيَا إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَلْعَنُهُمْ ويَلْعَنُونَه، إِلَّا أَنْتُمْ ومَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ حَالِكُمْ، يَا مَالِكُ،

ص: 11


1- المائدة 3
2- كمال الدين للصدوق: 413 و414/ باب 39/ ح 15.
3- الإسراء 71
4- عيون أخبار الرضا ج2 ص 37.

إِنَّ الْمَيِّتَ والله مِنْكُمْ عَلَى هَذَا الأَمْرِ لَشَهِيدٌ بِمَنْزِلَةِ الضَّارِبِ بِسَيْفِه فِي سَبِيلِ الله».(1)

أي: إلا الذين يوالون أهل البيت علیهم السلام.

إذن تخصيص النداء يوم القيامة بالإمام يدل بوضوح على أنَّ الإمامة مسألة مصيرية، وفقها يكون مصير الإنسان يوم القيامة في الجنة أو النار، وهذا يتناسب مع كونها مسألة أصولية لا فرعية.

الدليل الخامس: ما دلَّ من الروايات على أنَّ منكر الإمام كافر، أي خارج عن الدين، ومن الواضح أنَّ الذي يوجب الخروج عن الدين هو الأصل لا الفرع، فمثلًا: من لا يصلي وهو يعترف أنَّها أمر من الله تعالى، لكنه لا يصلي، فإنه يقال عنه: فاسق، لا كافر، أما بالنسبة لمنكر الإمامة فيُقال عنه: كافر لا فاسق، كما ورد عن الإمام الباقر صلوات الله عليه أنَه قال في قوله تعالى: ﴿كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾(2): «الَّذِي لَا يَعْرِفُ الإِمَامَ».(3)

بل الأوضح ما ورد عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: سَمِعْتُه يَقُولُ: «نَحْنُ الَّذِينَ فَرَضَ الله طَاعَتَنَا لَا يَسَعُ النَّاسَ إِلَّا مَعْرِفَتُنَا ولَا يُعْذَرُ النَّاسُ بِجَهَالَتِنَا مَنْ عَرَفَنَا كَانَ مُؤْمِناً، ومَنْ أَنْكَرَنَا كَانَ كَافِراً، ومَنْ لَمْ يَعْرِفْنَا ولَمْ يُنْكِرْنَا كَانَ ضَالاًّ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْهُدَى الَّذِي افْتَرَضَ اللهَ عَلَيْه مِنْ طَاعَتِنَا الْوَاجِبَةِ، فَإِنْ يَمُتْ عَلَى ضَلَالَتِه يَفْعَلِ الله بِه مَا يَشَاءُ».(4)

وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق علیه السلام : «الإمام علم بين الله عز و جل وبين خلقه، فمن

ص: 12


1- الكافي للكليني ج8 ص 146 ح122.
2- الأنعام 122
3- الكافي للكليني ج1 ص 185 بَابُ مَعْرِفَةِ الإِمَامِ والرَّدِّ إِلَيْه ح13.
4- الكافي للكليني ج1 ص 187 بَابُ فَرْضِ طَاعَةِ الأَئِمَّةِ علیهم السلام / ح11.

عرفه كان مؤمنًا، ومن أنكره كان كافراً».(1)

الدليل السادس: ما دلَّ الدليل من الروايات الشريفة على أنَّ من تولّى غير إمام الحق فإنَّه بمنزلة المشرك، كما روي عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «مَنْ أَشْرَكَ مَعَ إِمَامٍ إِمَامَتُه مِنْ عِنْدِ الله مَنْ لَيْسَتْ إِمَامَتُه مِنَ الله كَانَ مُشْرِكاً بِالله».(2)

وفي رواية عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: «قَالَ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى: لأُعَذِّبَنَّ كُلَّ رَعِيَّةٍ فِي الإِسْلَامِ دَانَتْ بِوَلَايَةِ كُلِّ إِمَامٍ جَائِرٍ لَيْسَ مِنَ الله، وإِنْ كَانَتِ الرَّعِيَّةُ فِي أَعْمَالِهَا بَرَّةً تَقِيَّةً..».(3)

الدليل السابع: السيرة العملية للمخالفين، فالمخالفون الذين قالوا بأنَّ الإمامة فرع من فروع الدين هم أنفسهم قد تعاملوا مع الإمامة على أنَّها اصلٌ من أصول الدين. فقد روي أنه لمَّا دخل الحجّاج مكَّة وصلب ابن الزبير راح عبد الله بن عمر إليه وقال: مُدَّ يدك لأُبايعك لعبد المَلِك، قال رسول الله صلی الله علیه وآله و سلم : «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية»، فأخرج الحجّاج رجله وقال: خذ رجلي فإنَّ يدي مشغولة، فقال ابن عمر: أتستهزئ منّي؟ قال الحجّاج: يا أحمق بني عدي ما بايعت مع عليٍّ وتقول اليوم: من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، أوَما كان عليٌّ إمام زمانك؟ والله ما جئت إليَّ لقول النبيِّ صلی الله علیه وآله و سلم ، بل جئت مخافة تلك الشجرة التي صُلِبَ عليها ابن الزبير.(4)

ففعلُ عبد الله بن عمر هذا يكشف وبشكل جلي أنَّه كان يتعامل مع الإمامة على أنَّها مسألة مهمة جدًا –بغض النظر عن حقيقة توجهه الذي كشفه له الحجاج-

ص: 13


1- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 412 باب 39 ح 9.
2- الكافي للكليني ج1 ص 373 بَابُ مَنِ ادَّعَى الإِمَامَةَ ولَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ ومَنْ جَحَدَ الأَئِمَّةَ أَوْ بَعْضَهُمْ ومَنْ أَثْبَتَ الإِمَامَةَ لِمَنْ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ ح6.
3- الكافي للكليني ج1 ص 376 بَابٌ فِيمَنْ دَانَ الله عز و جلّ بِغَيْرِ إِمَامٍ مِنَ الله جَلَّ جَلَالُه ح4.
4- الكنىٰ والألقاب للشيخ عبّاس القمّي: ج 1/ ص 363.

أضف إلى ذلك: الفتاوى الكثيرة التي صدرت ولازالت تصدر بأنَّ من يشتم الخليفة يُقتل، على حين أنَّ من يشرب الخمر أو لا يصلي لا يُقتل، وإنَّما يجلد وحسب، فنلاحظ أن تعاملهم مع المسائل الفرعية مختلف تمامًا عن تعاملهم مع الإمامة، فإنَّ سيرتهم العملية مع الإمامة تكشف عن أنهم يتعاملون معها على أنها مسألة من صميم الإسلام، وهذا مؤشر على أنَّهم يرفعونها عمليًا عن مرتبة الفروع، وإن كانوا نظريًا يقولون بأنَّها ليست من الأصول.

إن مجموع هذه المؤشرات أو المؤيدات يصلح –كل واحد منها أو مجموعها- دليلًا على أنَّ الإمامة أصل من أصول الدين.

ص: 14

النقطة الثانية:

منشأ الضرورة في البحث عن الإمامة.

قال الشيخ رحمه الله : «وعلى الأقل أنَّ الاعتقاد بفراغ ذمة المكلف من التكاليف الشرعية المفروضة عليه يتوقف على الاعتقاد بها سلباً أو ايجاباً».

قد يتساءل البعض: هل هناك من ضرورة في البحث في الإمامة؟ وإذا كانت هناك ضرورة فما هو منشؤها؟

أشار الشيخe إلى أنَّ البحث في الإمامة أمر ضروري، وأنَّ ضرورته تنبع من أحد أمرين - بحسب ما أشار إليه الشيخ -:

الأول: أنَّ الإمامة أصل من أصول الدين، وبالتالي فهي تدخل في صميم الانتماء للدين الاسلامي، بمعنى أنَّ الإمامة مدار الإسلام وأصله، وأنَّ الإيمان متوقفٌ على الاعتقاد بها، وهذا ما تقدم في الروايات التي ذُكرت في النقطة الأولى.

الثاني: البحث في الإمامة يستلزمه الاحتياط العقلي، ويُلزم هذا الأمرُ من لا يعتقد بأنَّ الإمامة أصلٌ من أصول الدين، وبيان ذلك:

إنَّ المسلم يواجه مدرستين أساسيتين على الأقل في باب تفريغ ذمته من التكاليف المفروضة عليه من الله عز و جل، إحداهما تذهب إلى أنَّ الخلافة إنما تثبت بالنص، وأنَّ الخلفاء بعد رسول الله الأعظم صلی الله علیه وآله و سلم هم الأئمة من أهل البيت علیهم السلام فقط، وأنَّهم معصومون، ولهم الولايتان التكوينية والتشريعية، وتجب مودتهم والطاعة والتسليم المطلق لهم.

والأخرى تذهب إلى غير هذا، فتكتفي فيها بالانتخاب أو الشورى بل وحتى

ص: 15

الانقلاب العسكري، ولا تلتزم بضرورة العصمة ولا بالولاية التشريعية فضلًا عن التكوينية.

ثم إنَّ المسلم مكلفٌ بتكاليف واجبة على كلا المستويين العقائدي والفقهي، ولا تفرغ ذمته إلا بعد الإتيان بها على الوجه الصحيح، ولا يختلف اثنان على أنَّ هناك اختلافًا جذريًا بين هاتين المدرستين في بعض تلك الموضوعات، لاسيما تلك المسائل التي تتعلق بالتوحيد وصفات الله عز و جل والعدل والنبوة على المستوى العقدي، وإسبال اليدين أو تكتيفهما والوضوء ووقت الإفطار وغيرها.

وبالتالي فإنَّ المكلف عندما يلتزم بإحدى المدرستين بصورة عفوية أو نتيجة تقليد الآباء لا يمكنه القطع بأنَّه قد جاء بالتكاليف على الوجه الذي يطلبه الشارع الأقدس، مما يعني أنَّ فراغ ذمته من تلك التكاليف سيكون مشكوكًا؛ ولأن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، فإنَّ العقل يحكم بضرورة بحث المكلف عن المدرسة الحقّ التي ينهل من فكرها ويعتقد بعقائدها ويلتزم بأحكامها بحثًا موضوعيًا منهجيًا بعيدًا عن الأهواء والتعصب؛ حتى يصل إلى القطع بحقّانية إحدى المدرستين؛ ليجزم بعد ذلك بفراغ ذمته لسلامة عقيدته من الانحراف ولصحة ما يأتي به من تكاليف.

ص: 16

النقطة الثالثة:

الإمامة لطف من الله تعالى

اشارة

قال رحمه الله : «كما نعتقد أنها كالنبوة لطف من الله تعالى».

لا بدّ من الإشارة بادئ ذي بدء أنَّ دليل اللطف يثبت ضرورة المبدأ ولا يشخص القائم بالمبدأ، بمعنى: أنَّ دليل اللطف في النبوة مثلًا، يثبت ضرورة إرسال الأنبياء والرسل من الله تعالى، ولكن لا يُشخِّص لنا خصوص شخص النبي وأن فلانًا هو النبي لا غيره، فنحتاج إلى مثبتات أخرى لإثبات الشخص، كالمعجزة، وكذلك اللطف في مسألة الإمامة، هو يثبت لزوم تعيين إمامٍ أو خليفةٍ بعد الرسول، لكن لا يُعيِّن لنا شخص الإمام.

نكتة:

إن لطف الله تعالى ذاته دليلٌ عقلي على ضرورة وجود الإمام المهدي عج الله تعالی فرجه الشریف حيًا في هذا العصر، وإن كان قاصرًا عن تشخيص شخصه المبارك الذي هو موكول إلى الدليل النقلي.

وقد تقدم تعريف اللطف بأنَّه: ما يكون سببًا في تقريب العبد إلى الطاعة وإبعاده عن المعصية، وهو لازم على الله تعالى لزومًا عقليًا، كلزوم الزوجية للعدد أربعة، إذ لم يفرض أحدٌ عليه ذلك سوى طبيعة ذاته. وكذا الله جل وعلا إذ لم يوجب اللطف ويفرضه أحدٌ عليه، ولكن طبيعة كمال ذاته اللامتناهي قد اقتضت ذلك، فهو الحكيم دائمًا وأبدًا، فلا يفعل إلا الفعل الأكمل ورحمته ولطفه وسعا كل شيء، فلا يفعل إلا ما

ص: 17

يُقرِّب العبد إلى الطاعة والكمال.

كما إنّه سبحانه وتعالى يعلم أنَّ الإنسان لا يصل إلى الطاعة إلا إذا بيَّن هو عزوجل له الطريق المؤدي إليها، وإلا فلا يستطيع أنْ يصل إليها بمفرده، وبالتالي تكون عقوبته على المخالفة قبيحة عقلًا، والله تعالى لا يفعل إلا الحسن، فلزم ألّا يصدر منه قبيحٌ قط، وبذا لزم عليه -لطفًا بعباده- أنْ يبعث الأنبياء والرسل ويُعيِّن الائمة، فهو إلزام من باب الكمال الذاتي، لا أنه إلزام من الخارج.

ومن الواضح جدًا أنَّ وجود الإمام بين الناس، يُبيِّن لهم الأحكام الشرعية، ويقطع في نزاعاتهم، ويعلم الجاهل ويرد المتجاوز على الحدود الشرعية، ويفسر القرآن الكريم، ويقيم القسط بين الناس ويردُّ الشبهات، لا شك أنَّها من الأمور التي تقرب العبد إلى الطاعة وتبعده عن المعصية، إذن وجود الإمام لطف، وحيث إنَّ اللطف واجب على الله تعالى، إذن الإمامة واجبة على الله تعالى من باب اللطف.

ومن ألطف الأدلة الروائية في بيان مجال اللطف ما روي عَنْ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ قَالَ: «كَانَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِه مِنْهُمْ حُمْرَانُ بْنُ أَعْيَنَ ومُحَمَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ وهِشَامُ بْنُ سَالِمٍ والطَّيَّارُ وجَمَاعَةٌ فِيهِمْ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ وهُوَ شَابٌّ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام : يَا هِشَامُ، ألَا تُخْبِرُنِي كَيْفَ صَنَعْتَ بِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وكَيْفَ سَأَلْتَه؟ فَقَالَ: هِشَامٌ: يَا ابْنَ رَسُولِ الله إِنِّي أُجِلُّكَ وأَسْتَحْيِيكَ ولَا يَعْمَلُ لِسَانِي بَيْنَ يَدَيْكَ.(1)

فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَافْعَلُوا.(2)

قَالَ هِشَامٌ: بَلَغَنِي مَا كَانَ فِيه عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وجُلُوسُه فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ، فَعَظُمَ

ص: 18


1- وهذا أدب من هشام بين يدي الإمام المعصوم علیه السلام.
2- إذ الطاعة أولى من الأدب كما يُقال.

ذَلِكَ عَلَيَّ.(1)

فَخَرَجْتُ إِلَيْه ودَخَلْتُ الْبَصْرَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَأَتَيْتُ مَسْجِدَ الْبَصْرَةِ، فَإِذَا أَنَا بِحَلْقَةٍ كَبِيرَةٍ فِيهَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وعَلَيْه شَمْلَةٌ سَوْدَاءُ مُتَّزِراً بِهَا مِنْ صُوفٍ، وشَمْلَةٌ مُرْتَدِياً بِهَا، والنَّاسُ يَسْأَلُونَه، فَاسْتَفْرَجْتُ النَّاسَ فَأَفْرَجُوا لِي، ثُمَّ قَعَدْتُ فِي آخِرِ الْقَوْمِ(2)عَلَى رُكْبَتَيَّ، ثُمَّ قُلْتُ:

أَيُّهَا الْعَالِمُ إِنِّي رَجُلٌ غَرِيبٌ تَأْذَنُ لِي فِي مَسْأَلَةٍ؟

فَقَالَ لِي: نَعَمْ. فَقُلْتُ: لَه ألَكَ عَيْنٌ؟! فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، أَيُّ شَيْءٍ هَذَا مِنَ السُّؤَالِ! وشَيْءٌ تَرَاه كَيْفَ تَسْأَلُ عَنْه؟! فَقُلْتُ: هَكَذَا مَسْأَلَتِي. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ سَلْ وإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَتُكَ حَمْقَاءَ! قُلْتُ: أَجِبْنِي فِيهَا. قَالَ لِي: سَلْ. قُلْتُ: ألَكَ عَيْنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهَا؟ قَالَ: أَرَى بِهَا الأَلْوَانَ والأَشْخَاصَ.

قُلْتُ: فَلَكَ أَنْفٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ فَمَا تَصْنَعُ بِه؟ قَالَ أَشَمُّ بِه الرَّائِحَةَ.

قُلْتُ: ألَكَ فَمٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِه؟ قَالَ: أَذُوقُ بِه الطَّعْمَ.

قُلْتُ: فَلَكَ أُذُنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهَا؟ قَالَ: أَسْمَعُ بِهَا الصَّوْتَ.

قُلْتُ: ألَكَ قَلْبٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِه؟ قَالَ: أُمَيِّزُ بِه كُلَّ مَا وَرَدَ عَلَى هَذِه الْجَوَارِحِ والْحَوَاسِّ.

قُلْتُ: أولَيْسَ فِي هَذِه الْجَوَارِحِ غِنًى عَنِ الْقَلْبِ؟ فَقَالَ: لَا. قُلْتُ: وكَيْفَ ذَلِكَ وهِيَ صَحِيحَةٌ سَلِيمَةٌ؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنَّ الْجَوَارِحَ إِذَا شَكَّتْ فِي شَيْءٍ شَمَّتْه أَوْ رَأَتْه أَوْ ذَاقَتْه أَوْ

ص: 19


1- وهو أمر لا بد أن يكون همّ كل داعٍ ومؤمن، إذ إن الاهتمام بأمور المسلمين مما ندب إليه الدين ودعا إليه.
2- ولعله من باب الأدب؛ لأن عمر هشام كان صغيرًا، ولعله من باب إرادة أن يسمع الجميع حوارهما.

سَمِعَتْه، رَدَّتْه إِلَى الْقَلْبِ فَيَسْتَيْقِنُ الْيَقِينَ ويُبْطِلُ الشَّكَّ.(1)

قَالَ هِشَامٌ: فَقُلْتُ لَه: فَإِنَّمَا أَقَامَ الله الْقَلْبَ لِشَكِّ الْجَوَارِحِ؟! قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: لَا بُدَّ مِنَ الْقَلْبِ وإِلَّا لَمْ تَسْتَيْقِنِ الْجَوَارِحُ؟!(2)

قَالَ: نَعَمْ.

فَقُلْتُ لَه: يَا أَبَا مَرْوَانَ، فَالله تَبَارَكَ وتَعَالَى لَمْ يَتْرُكْ جَوَارِحَكَ حَتَّى جَعَلَ لَهَا إِمَاماً يُصَحِّحُ لَهَا الصَّحِيحَ ويَتَيَقَّنُ بِه مَا شُكَّ فِيه، ويَتْرُكُ هَذَا الْخَلْقَ كُلَّهُمْ فِي حَيْرَتِهِمْ وشَكِّهِمْ واخْتِلَافِهِمْ لَا يُقِيمُ لَهُمْ إِمَاماً يَرُدُّونَ إِلَيْه شَكَّهُمْ وحَيْرَتَهُمْ، ويُقِيمُ لَكَ إِمَاماً لِجَوَارِحِكَ تَرُدُّ إِلَيْه حَيْرَتَكَ وشَكَّكَ؟!

قَالَ: فَسَكَتَ ولَمْ يَقُلْ لِي شَيْئاً، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ لِي: أَنْتَ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ؟ فَقُلْتُ: لَا. قَالَ: أمِنْ جُلَسَائِه؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. قَالَ: فَأَنْتَ إِذاً هُوَ! ثُمَّ ضَمَّنِي إِلَيْه وأَقْعَدَنِي فِي مَجْلِسِه وزَالَ عَنْ مَجْلِسِه! ومَا نَطَقَ حَتَّى قُمْتُ.

قَالَ: فَضَحِكَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام وقَالَ: يَا هِشَامُ مَنْ عَلَّمَكَ هَذَا؟ قُلْتُ: شَيْءٌ أَخَذْتُه مِنْكَ وأَلَّفْتُه.(3)

فَقَالَ علیه السلام: هَذَا والله مَكْتُوبٌ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ ومُوسَى.(4)

ص: 20


1- وفي هذا إشارة واضحة إلى أن أصحاب المنهج الحسي لا يكفيهم الحس للوصول إلى اليقين من دون الرجوع إلى (القلب) أو العقل.
2- كرّر السؤال نفسه بعبارات مختلفة ليُقرّه على ما أجاب به، حتى لا يتمكن من الهروب من لوازمه فيما بعد.
3- وفي هذا إشارة إلى تواضع هشام وأدبه في حضرة الإمام علیه السلام ، فلم ينسب هذه المناظرة لنفسه، وفيه إشارة أيضًا إلى جواز الاجتهاد والاستنباط، إذ هشام أخبر الإمام علیه السلام بأنه ألّف هذا المعنى مما سمعه منه، والإمام أقرّه عليه.
4- الكافي للكليني ج1 ص169 - 171 باب الاضطرار الى الحجة ح3.

النقطة الرابعة:

إنَّ الإمامة استمرار للنبوة

اشارة

قال الشيخ رحمه الله :«كما نعتقد أنّها كالنبوة لطفٌ من الله~، فلا بُدّ أن يكون في كُلِّ عصرٍ إمامٌ هادٍ يخلف النبي في وظائفه...».

نعتقد أنَّ كلَّ وظائف النبي تكون للإمام الذي يخلف، من بيان الأحكام الشرعية وتفسير القرآن والقضاء بين الناس ورد الشبهات، فلا فرق من حيث الوظيفة بين النبي والإمام، إنّما الفرق بينهما يكون في أنَّ النبي يوحى إليه وحيًا رساليًا، أما الإمام فلا يوحى إليه هذا النوع من الوحي، ولا يُفهم من ذلك أنَّنا نقول بمساواة الإمام للنبي والعياذ بالله، فإنَّ الإمام علی علیه السلام نفسه كان يقول: إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ مُحَمَّدٍصلی الله علیه وآله و سلم.(1)

فإذا كانت الإمامة استمرارًا للنبوة، فهذا يعني أنَّ الأحكام المتعلقة بالنبوة والمميزات والركائز الأساسية، كلها لا بُدَّ أنْ تتوفر في الإمامة وهي الآتية:

1/أنْ تكون الإمامة بالنص.

2/ضرورة وجود الإمام في كل عصر.

3/ أنَّ وجود الإمام لا يتوقف على إطاعة الخلق له، بل إنَّ وظيفته الهداية

ص: 21


1- في الكافي للكليني (ج1 ص 89 - 90 باب بَابُ الْكَوْنِ والْمَكَانِ ح5): عَنْ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: «جَاءَ حِبْرٌ مِنَ الأَحْبَارِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ8 فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَتَى كَانَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ لَه: ثَكلَتْكَ أُمُّكَ! ومَتَى لَمْ يَكُنْ حَتَّى يُقَالَ مَتَى كَانَ؟ كَانَ رَبِّي قَبْلَ الْقَبْلِ بِلَا قَبْلٍ، وبَعْدَ الْبَعْدِ بِلَا بَعْدٍ، ولَا غَايَةَ ولَا مُنْتَهَى لِغَايَتِه، انْقَطَعَتِ الْغَايَاتُ عِنْدَه، فَهُوَ مُنْتَهَى كُلِّ غَايَةٍ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَفَنَبِيٌّ أَنْتَ. فَقَالَ: وَيْلَكَ إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ مُحَمَّدٍصلی الله علیه وآله و سلم ».

الاختيارية، فيبقى الاختيار للناس، فقد يطيعونه وقد لا، كما في النبي تمامًا، كما أنَّ القرآن هدى للناس، ولكنّه لا يجبر الناس على الهداية.

4/ أنَّ ضرورة وجود الإمام لا تتوقف على كونه ظاهرًا، بل يكفي وجوده الواقعي وإنْ كان غائبًا، وإنْ لم نعلم به أو نصل إليه، وهناك العديد من الروايات الشريفة تؤكد أنَّ الحجة سواء كان إمامًا أو نبيًا فإنه قد يكون ظاهرًا أو غائبًا، فقد رويَ عن أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه: «اللهُمَّ بَلَى، لَا تَخْلُو الأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لله بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ الله وبَيِّنَاتُه».(1)

كما رويَ عن الإمام الصادق علیه السلام : «لم تخلُ الأرض منذ خلق الله آدم من حجة الله فيها، ظاهر مشهور، أو غائب مستور، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة الله فيها، ولولا ذلك لم يعبد الله...»(2)

بل في بعض الروايات يسأل البعض الإمام عن صحة الروايات التي تقول: إنَّ الله تعالى لا يرفع الحجة من الأرض إلا إذا غضب عليهم، فنفى الإمام ذلك معللًا بأن رفع الحجة يوجب أنْ تسيخ الأرض بأهلها.

فقد روي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا علیه السلام قَالَ: «قُلْتُ لَه: أتَبْقَى الأَرْضُ بِغَيْرِ إِمَامٍ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَإِنَّا نُرَوَّى عَنْ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام أَنَّهَا لَا تَبْقَى بِغَيْرِ إِمَامٍ إِلَّا أَنْ يَسْخَطَ الله تَعَالَى عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ أَوْ عَلَى الْعِبَادِ؟ فَقَالَ: لَا، لَا تَبْقَى إِذاً لَسَاخَتْ».(3)

وعلى الرغم من أنَّ ظهور الحجة وعدمه سيّان من هذه الناحية، إلا أنَّ ظهوره بلا شك أعظم من غيبته، من جهة إمكان الاستفادة منه مباشرة؛ ولذا كان الأصلُ هو

ص: 22


1- نهج البلاغة ج4 ص 37. من الحكمة رقم (147)
2- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 207 باب 21 ح 22.
3- الكافي للكليني ج1 ص 179 بَابُ أَنَّ الأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ حُجَّةٍ ح11.

ظهور الحجة، فإذا غاب كان خلاف الأصل، وحينئذٍ يشرع السؤال عن سبب غيابه، وسيأتي تفصيل الجواب في عقيدتنا في المهدي عج الله تعالی فرجه الشریف إن شاء الله تعالى.

5/ كفاية وجود الحجة الواقعي فيما إذا كان غائبًا طالما أنَّه قائمٌ بوظائفه، وكانت غيبته وفقًا لحكمة الله تعالى، سواءً طالت غيبته أو قصرت؛ لأن العقل لا يفرق بين الغيبة القصيرة أو الطويلة، حيث إنَّه في كلا الحالتين قد اضطرّ إلى بعض مسؤولياته التي تقتضي ظهوره كالقيادة المباشرة لهم وما إلى ذلك من مسؤوليات، أما الأمور الأخرى ككونه أمانًا لأهل الأرض كما إنَّ النجوم أمان لأهل السماء فهو لا زال يقوم بها على أتمّ وجه، وستأتي التفاصيل في محلها إن شاء الله تعالى.

إشكالٌ (الفترة) وجوابه:

تقدّم أنَّ من الركائز الأساسية للنبوة: أنْ يكون في كل عصر نبيٌّ يهدي الناس يوضح لهم الشريعة ويردهم عن الظلم والطغيان، والقرآن الكريم يؤكد هذه المسألة في كثير من الآيات، ومنها ما ذكره الشيخe قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾.(1)

إلا أن هناك ما ربما يتنافى -لأول وهلة- مع هذه الحقيقة، من قبيل قوله عز من قائل: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ﴾.(2)

والفترة: من الفتور، أي السكون بعد الحدة، أو اللين بعد الشدة، أو الضعف بعد القوة.

ومعنىٰ (الفترة) هي ما بين الرسولين، فهذه الآية تقول: إنَّ الله تعالىٰ أرسل الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله و سلم في فترة كانت خالية من الرُّسُل، وهذا يتنافىٰ مع الآية المتقدِّمة الدالّة علىٰ أنَّ

ص: 23


1- فاطر 24
2- المائدة 19

كلَّ أُمَّة كان فيها نذير.

وقد يرد نفس هذا الإشكال على غيبة الإمام المهدي عجل الله فرجه بمعنى (على فترة من الإمامة)؟

والجواب:

أوَّلاً: الآية قالت: إنَّه صلی الله علیه وآله و سلم جاء علىٰ فترة من الرُّسُل لا الأنبياء، ومعلوم أنَّ الأنبياء أكثر بكثير من الرُّسُل، فلا ملازمة بين عدم وجود رسول وبين عدم وجود نبيٍّ، فقد يكون في زمن لا يوجد رسول ولكنَّه يوجد نبيٌّ. وهذا هو المروي، حيث ذكرت بعض الروايات وجود بعض الأنبياء بين النبيِّ الأكرم صلی الله علیه وآله و سلم وبين النبيِّ عيسىٰ علیه السلام ، كخالد بن سنان العبسي كما سيأتي بعد قليل.

ثانياً: فضلاً عن هذا فإنَّه وبوجود الكتاب السماوي (الإنجيل) وبوجود العلماء والأوصياء في تلك الفترة فإنَّ الحجَّة قائمة علىٰ الناس، وإنَّما يرسل الله تعالىٰ الرُّسُل لإتمام الحجَّة عليهم، فإذا كانت الحجَّة تامَّة لم يكن عدم الإرسال منافياً لهداية الدعوة، إذ الهداية موجودة حسب الفرض.

ثالثاً: أنَّ المقصود من الفترة هو خلوّها من حجَّة ظاهر، وأمَّا الحجَّة غير الظاهر فقد كان موجوداً في تلك الفترة.

وهذا المعنىٰ - أي عدم خلوِّ الأرض من حجَّة ولو غير ظاهر - هو ما صرَّح به أمير المؤمنين علیه السلام بقوله: «اللهُمَّ بَلَىٰ لَا تَخْلُو الأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ للهِ بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وَإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَبَيِّنَاتُه»(1).

وهذا ما ذهب إليه الشيخ الصدوق؛ في إكماله، حيث قال ما نصُّه:

ص: 24


1- نهج البلاغة: 497/ ح 147.

«وإنَّما معنىٰ الفترة أنَّه لم يكن بينهما رسول ولا نبيٌّ ولا وصيٌّ ظاهر مشهور كمن كان قبله، وعلىٰ ذلك دلَّ الكتاب المنزل أنَّ الله عزوجل بعث محمّداً صلی الله علیه وآله وسلم علىٰ حين فترة من الرُّسُل، لا من الأنبياء و الأوصياء، ولكن قد كان بينه وبين عيسى علیه السلام أنبياء وأئمَّة مستورون خائفون، منهم خالد بن سنان العبسي، نبيٌّ لا يدفعه دافع ولا ينكره منكر، لتواطئ الأخبار بذلك عن الخاصِّ والعامِّ، وشهرته عندهم، وأنَّ ابنته أدركت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ودخلت عليه، فقال النبيُّ صلی الله علیه وآله وسلم: «هذه ابنة نبيٍّ ضيَّعه قومُه، خالد بن سنان العبسي»(1)،وكان بين مبعثه ومبعث نبيِّنا محمّد صلی الله علیه وآله وسلم خمسون سنة...»(2).

نكتة مهدوية:

ذكرت بعض الروايات الشريفة أنَّ الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه يظهر بعد فترة من الأئمَّة، بمعنىٰ أنَّه يظهر بعد وجود فاصل زمني بينه وبينه آخر ظهور وحضور للمعصوم.

ص: 25


1- في الكافي للكليني (ج 8/ ص 342 و343/ ح 540، حديث ابنة خالد بن سنان): عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «بينما رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم جالساً إذ جاءته امرأة، فرحَّب بها وأخذ بيدها وأقعدها، ثمّ قال: ابنة نبيٌّ ضيَّعه قومه، خالد بن سنان، دعاهم فأبوا أن يؤمنوا، وكانت نار يقال لها: نار الحدثان تأتيهم كلَّ سنة فتأكل بعضهم، وكانت تخرج في وقت معلوم، فقال لهم: إن رددتها عنكم تؤمنون؟ قالوا: نعم»، قال: «فجاءت فاستقبلها بثوبه فردَّها، ثمّ تبعها حتَّىٰ دخلت كهفها ودخل معها، وجلسوا علىٰ باب الكهف وهم يرون ألَّا يخرج أبداً، فخرج وهو يقول: هذا هذا وكلُّ هذا من ذا (أي هذا شأني وإعجازي)، زعمت بنو عبس أنّي لا أخرج وجبيني يندىٰ (أي يبتلُّ من العرق)، ثمّ قال: تؤمنون بي؟ قالوا: لا، قال: فإنّي ميِّت يوم كذا وكذا، فإذا أنا متُّ فادفنوني، فإنَّها ستجيء عانة (القطيع من حمر الوحش) من حمر يقدمها عَير أبتر (والعَير بالفتح: الحمار الوحش-ي، وقد يُطلَق علىٰ الأهلي أيضاً. والأبتر: المقطوع الذنب) حتَّىٰ يقف علىٰ قبري، فانبشوني وسَلوني عمَّا شئتم، فلمَّا مات دفنوه، وكان ذلك اليوم إذ جاءت العانة اجتمعوا وجاؤوا يريدون نبشه، فقالوا: ما آمنتم به في حياته، فكيف تؤمنون به بعد موته؟ ولئن نبشتموه ليكون سبَّة عليكم، فاتركوه، فتركوه».
2- كمال الدين للصدوق: 659/ باب 58/ ذيل الحديث 2.

فقد روي عن أبي حمزة، قال: «دخلت علىٰ أبي عبد الله علیه السلام ، فقلت له: أنت صاحب هذا الأمر؟ فقال: لا، فقلت: فولدك؟ فقال: لا، فقلت: فولد ولدك هو؟ قال: لا، فقلت: فولد ولد ولدك؟ فقال: لا، قلت: من هو؟ قال: الذي يملؤها عدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً، علىٰ فترة من الأئمَّة، كما أنَّ رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم بُعِثَ علىٰ فترة من الرُّسُل»(1).

استطراد:

لاصطلاح (صاحب الأمر) الذي ورد في الرواية الآنفة معنيان:

الأول: هو الإمام المفترض الطاعة من الله عروجل وهذا المعنى ينطبق على كل أئمتنا صلوات الله عليهم.

الثاني: يُراد به الإمام الذي يقوم بإزالة الظلم والجور، والذي يقوم بإقامة الدولة العادلة ويملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما مُلِأت ظلمًا وجورًا، وهو الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف .

وهكذا الحال في اصطلاح (القائم) إذ إنَّه ايضًا له معنيان:

الأول: هو من يقوم بأمور الولاية التكوينية والتشريعية خلافة عن النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم، وهذا ينطبق على كل أئمتنا علیهم السلام ؛ لذلك ورد في زيارة الإمام الحسن علیه السلام التعبير عنه بالقائم. وهكذا في زيارات بعض الأئمة علیهم السلام .

وأما المعنى الثاني فهو: القائم الذي يقوم بدولة العدل الإلهية، وهو الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف .

وقد أشارت بعض الروايات إلى كلا المعنيين، كما روي في رد بعض الأئمة صلوات الله عليهم عن سؤال: أأنت القائم بهذا الأمر؟ فيروى عنهم أنَّهم كانوا يقولون: نعم، أنا

ص: 26


1- الكافي للكليني 1: 341/ باب في الغيبة/ ح 21.

القائم بهذا الأمر ولكنّي لست بالذي أملأها قسطًا وعدلًا.(1)

ص: 27


1- في كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 376 باب35 ح 7: عن الريان بن الصلت قال: «قلت للرضا علیه السلام : أنت صاحب هذا الامر؟ فقال: أنا صاحب هذا الامر ولكني لست بالذي أملاها عدلا كما ملئت جورا، وكيف أكون ذلك على ما ترى من ضعف بدني، وإن القائم هو الذي إذا خرج كان في سن الشيوخ ومنظر الشبان، قويًا في بدنه، حتى لو مد يده إلى أعظم شجرة على وجه الأرض لقلعها، ولو صاح بين الجبال لتدكدكت صخورها، يكون معه عصا موسى، وخاتم سليمان علیه السلام. ذاك الرابع من ولدي، يغيبه الله في ستره ما شاء، ثم يظهره فيملأ [ به] الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما».

ص: 28

عقيدتنا في عصمة الإمام

قال الشيخ رحمه الله:

«عقيدتنا في عصمة الإمام:

ونعتقد أنّ الإمام كالنبي يجب أن يكون معصوماً من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن، من سن الطفولة إلى الموت، عمداً وسهواً. كما يجب أن يكون معصوماً من السهو والخطأ والنسيان، لأن الأئمة حفظة الشرع والقوامون عليه حالهم في ذلك حال النبي، والدليل الذي اقتضانا أن نعتقد بعصمة الأنبياء هو نفسه يقتضينا أن نعتقد بعصمة الأئمة، بلا فرق.

ليس على الله بمستنكرٍ أن يجمع العالم في واحد» انتهى.

قبل الشروع في شرح هذه العقيدة لابد من الإشارة إلى أنَّ هناك بحثين يجدر بنا أن نفرِّق بينهما:

أولهما: أصل الحاجة إلى الإمامة، وهل يلزم وجود إمام أو لا يلزم، وما هو الدليل على لزوم الإمام؟ وقد تقدم الحديث عن كل ذلك فيما عنونه الشيخ رحمه الله (عقيدتنا في الإمامة).

ثانيهما: في صفات الإمام ومؤهلاته التي لا بد أن تتوفر فيه ليشغل هذا المنصب المهم، وهذا ما تناوله الشيخ رحمه الله في: (عقيدتنا في عصمة الإمام) و(عقيدتنا في صفات الإمام وعلمه).

ص: 29

عقيدتنا في عصمة الإمام.

تقدم أنَّ الإمام هو القائم مقام النبي صلی الله علیه وآله وسلم في جميع وظائفه، وأنَّه لا فرق بينهما من هذه الناحية إلا بالوحي الرسالي الذي يوحى به إلى النبي دون الإمام، وبالتالي فإنَّ قيام الإمام بكل تلك المهام يستلزم العصمة.

ما الدليل على لزوم عصمة الإمام؟

اشارة

يمكن الاستدلال على عصمة الإمام من خلال التالي:

أولًا: إنَّ العصمة إثباتًا ونفيًا مرتبطةٌ بتفسير الإمامة، فمن فسرها بأنَّها مجرد منصب دنيوي يحكم فيها الإمام عباد الله تعالى، بغض النظر عن طريقة وصوله إلى هذا الحكم، وبغض النظر عن مقدار التزامه الديني ومقامه العلمي، فإنه ينتهي بلا ريب إلى أنه لا تُشترط العصمة فيها، وأما من فسرها بأنَّها منصبٌ إلهي خلافةً عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم في كل ما يقوم به، خلا تلقي الوحي الرسالي، أي إنَّها امتداد للنبوة، فلا محالة ينتهي إلى أنَّ العصمة أمرٌ جوهري بالنسبة للإمامة وعنصر من عناصرها الذاتية لا تتقوم إلا بها.

ولذا قال علماء مدرسة الخلفاء بعدم لزوم العصمة، مستشهدين بسيَر خلفائهم وكونهم ليسوا معصومين ويرتكبون الأخطاء بإقرارهم، كما ورد عن أبي بكر أنَّه قال: إنَ لي شيطانًا يعتريني فإنْ استقمت فأعينوني، وإنْ زغت فقوموني(1).

وعن عمر بن الخطاب كان يقول: ...إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وإنها

ص: 30


1- في الطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ص 183: لما ولي أبو بكر خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أمبعد أيها الناس قد وليت أمركم ولست بخيركم ولكن نزل القرآن وسن النبي صلی الله علیه وآله وسلم السنن فعلمنا فعلمنا اعملوا أن أكيس الكيس التقوى وأن أحمق الحمق الفجور وأن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه وأن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق أيها الناس إنما أنا متبع ولست بمبتدع فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوموني.

قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرها...(1)

كما ذكر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة أن عمر قال: كل النساء أفقه من عمر حتى ربات الحجال في خدورهن.(2)

وفي الحقيقة، أنَّ ما ذكروه إنما هو مصادرة على الدليل - أيّ الاستشهاد بالنتيجة كدليل-، فهم استدلوا على لزوم عدم عصمة الإمام بعدم عصمة خلفائهم، على حين أنَّ عصمة الإمام واجبة، وبما أنَّهم ليسوا بمعصومين، لذا فإنهم ليسوا بأئمةٍ من رأس.

ثانيًا: تقدّم أنَّ الإمامة امتدادٌ للنبوة، وأنَّها منصبٌ إلهي كما النبوة، فثمرتها هي حفظ الشريعة من حيث التبليغ والتعليم وردّ الشبهات عن الدين وتفسير القرآن الكريم والقضاء بين الناس وما شابه ذلك، ولازم كل ذلك: العصمة، وإلا لما كان الإمام حافظًا للدين، فلو جاز على الإمام الخطأ وارتكاب المعصية، لكان المسلمون أمام خيارين لا ثالث لهما: إما وجوب الطاعة أو لا، فإن وجبت الطاعة عليهم، كان ذلك تغريرًا لهم - للمسلمين - بهما - أي بالخطأ والمعصية - فكيف سيحاسبهم الله تعالى عليهما؟! وإن لم تجب الطاعة كانت الإمامة لغوًا وعبثًا.(3)

ص: 31


1- صحيح البخاري ج8 ص 26.
2- في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج1 ص 182: قال مرة: لا يبلغني أن امرأة تجاوز صداقها صداق نساء النبي إلا ارتجعت ذلك منها، فقالت له امرأة: ما جعل الله لك ذلك، إنه تعالى قال: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ فقال: كل النساء أفقه من عمر، حتى ربات الحجال! ألا تعجبون من إمام أخطأ وامرأة أصابت، فأضلت إمامكم ففضلته!
3- في الشافي في الإمامة للشريف المرتضى ج1 ص 179 – 180.قال السيد المرتضى في تقريب هذا البيان: قد علمنا أن شريعة نبينا صلی الله علیه وآله وسلم مؤبدة غير منسوخة، ومستمرة غير منقطعة، فإن التعبّد لازم للمكلفين إلى أوان قيام الساعة، ولا بد لها من حافظ، لأن تركها بغير حافظ إهمال لأمرها، وتكليف لمن تعبّد بها ما لا يطاق، وليس يخلو أن يكون الحافظ معصومًا أو غير معصوم، فإن لم يكن معصومًا لم يُؤْمَنْ من تغييره وتبديله، وفي جواز ذلك عليه - وهو الحافظ لها - رجوع إلى أنها غير محفوظة في الحقيقة، لأنه لا فرق بين أن تحفظ بمن جائز عليه التغيير والتبديل والزلل والخطأ وبين أن لا تحفظ جملة إذا كان ما يؤدي إليه القول بتجويز ترك حفظها يؤدي إليه حفظها بمن ليس بمعصوم، وإذا ثبت أن الحافظ لا بد أن يكون معصومًا، استحال أن تكون محفوظة بالأمة وهي غير معصومة، والخطأ جائز على آحادها وجماعتها، وإذا بطل أن يكون الحافظ هو الأمة فلا بد من إمام معصوم حافظ لها.

كما أنَّ وظيفة الإمامة هي الحفاظ على الدين، وهل يُنتظر ممن يُخطئ أنْ يُحكم الرد على جميع الشبهات الواردة عليه؟ أو يُفسر آيات القرآن الكريم بما لا يمكن أنْ يُخطِئه العلم مهما تقدّم أو تطور.

وعليه فلابُدَّ أنْ يكون الإمام معصومًا ولو في الجملة، أي على نحو العصمة المتفق عليها بين الفرق الكلامية للنبيصلی الله علیه وآله وسلم وهي العصمة في تبليغ الأحكام الشرعية وتعليم الإسلام وتفسير القرآن الكريم والقضاء بين الناس وما شابه. لا سيما أنْ لا دليل على انحصار العصمة بالنبي صلی الله علیه وآله وسلم–علمًا أننا نؤمن بالعصمة المطلقة للأئمة علیهم السلام-

لماذا كانت العصمة أمرًا جوهريًا في الإمامة عند الإمامية؟

في مقام الجواب توجد عدة أدلة، ولكننا نقتصر على أحدها، وهو قوله عز من قائل: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾(1)،

فالآية تحكي أنَّ النبي ابراهيم علیه السلام بعد نجاحه في الاختبار والابتلاء، بلغ مرحلةً جعله الله تعالى فيها إمامًا، وعندما طلب لذريته هذا المقام أجابه الله سبحانه وتعالى: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾.

ويمكن الاستفادة من هذه الآية المباركة بحوثًا كثيرةً قيّمةً، ولكننا نشير إلى بعضها بإيجاز بما يناسب هذه المرحلة بنقاط:

الأولى: قال تعالى: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، جاءت كلمة (عهدي) هنا فاعلًا، والظالمين مفعولًا به، مما يعني أنَ الإمامة هي التي تنال الناس، لا أنَّ الناس هم الذين

ص: 32


1- البقرة 124

ينالونها، وفيها إشارة إلى التنصيب الإلهي.

الثانية: نسب الله تعالى العهد إلى نفسه، مما يبطل نظرية الشورى في تنصيب الإمام التي يتشبث بها علماء العامة جملةً وتفصيلًا، إذ إنّ عهد الإمامة عهد الله تعالى يضعه حيث من يشاء.

الثالثة: يمكن تقسيم الناس على أساس الظلم وعدمه قسمة عقلية إلى أربعة أقسام:

الأول: من يكون ظالمًا من بداية حياته إلى أن يموت، وهذا لا يستحق الإمامة قطعًا.

الثاني: من يكون محسنًا في بداية حياته ثم يصبح ظالمًا، وهذا أيضًا من الواضح جدًا أنه لا يكون إمامًا.

الثالث: من يكون ظالمًا في بداية حياته سواء كان كافرًا أو مشركًا أو منافقًا ثم أصبح محسنًا، وهذا أيضًا لا يستحق الإمامة؛ وذلك لأن الآية أطلقت عدم نيل العهد الإلهي للظالم، أي لكل ظالم، وإن اتصف بالظلم بمقدار ثوانٍ من حياته.

الرابع: من كان محسنًا من بداية حياته إلى أنْ يموت، أي لم يظلم ولو بمقدار ثانيةٍ منها، ولا يعني ذلك إلا العصمة، وهو الذي يستحق الإمامة.

وهذا يدلُّ على أنًّ العصمة أمرٌ جوهري في استحقاق الإمامة وهو المطلوب.

ثالثًا: بطلان التسلسل:

ببيان:

اشارة

لو فرضنا أنَّ الإمام غير معصوم، فإنَّ عدم عصمته يعني أنَّه سيجهل بعض الأحكام الشرعية، وعليه لو سُئل عن حكم مسألةٍ شرعيةٍ مثلًا، فإنَّ الأمر لا يخلو من أحد احتمالين هما:

ص: 33

1/أنْ يكون جاهلًا بالجهل المركب، فيُجيب خطأً، لأنه جاهلٌ بالحكم، وهنا يترتب على وجوب اتباعه الوقوع في المعصية، ويترتب على عدمها عبثية الإمامة ولغويتها.

2/أنْ يعلم أنَّه جاهلٌ فلا يُجيب، وهنا:

أ/ إما أنْ يُكرِه السائلَ على عدم البوح بجهله، والتكتّم عليه وإلا يُنزل به العقاب، وهذا خلاف اللطف الالهي؛ لأنه سيؤدي الى ضياع الأحكام الشرعية.

ب/ أو لا، فيذهب السائل إلى شخصٍ آخر ليسأله، وحينئذٍ لا يخلو الأمر: إما أنْ يكون –ذاك الثاني- عالمًا بالحكم الشرعي أو لا، فإنْ كان عارفًا بكل الأحكام كان هو الأولى أن يكون الإمام، وإلا يذهب السائل إلى غيره وهكذا يتسلسل، أي لا نصل إلى شخص نتمكن من معرفة الحكم الشرعي الواقعي منه... ومعلومٌ أنَّ التسلسل باطلٌ في هكذا أمور، لاسيما بوجود قاعدة اللطف، فلا بُدَّ من انتهائه عند حد، والعصمة هي التي تقطع التسلسل بالانتهاء إلى الإمام المعصوم؛ ولذا فمن باب اللطف فإن الله تعالى يُنصب للناس إمامًا معصومًا لئلا يبقى الناس من دون حكم شرعي، وبذا نصل إلى ضرورة عصمة الإمام.(1)

ملاحظة:

إن استقراء سير الأئمة علیهم السلام يكشف بكل وضوح عن عصمتهم، فمثلًا أمير المؤمنين علیه السلام نجد أنه لم يخطئ ولم يجهل ولم ينس ولم يسه على الاطلاق، فواقعه علیه السلام دليل عصمته.

ص: 34


1- في رسائل الشريف المرتضى- الشريف المرتضى- ج1 ص 324. قال السيد المرتضى رحمه الله في بيان هذا التقريب: والذي يدل على عصمة الإمام: أن علة الحاجة إليه هي جواز الخطأ وفعل القبيح من الأمة. قال: فليس يخلو الإمام من أن يكون يجوز عليه ما جاز على رعيته أو لا يجوز ذلك عليه. قال: وفي الأول وجوب إثبات إمام له، لأن علة الحاجة إليه موجودة فيه وإلا كان ذلك نقضًا للعلة، وهذا يؤدي إلى إثبات ما لا يتناهى من الأئمة، أو الانتهاء إلى إمام معصوم، وهو المطلوب.

وهذا ليس دليلًا مستقلًا، وإنما نذكره للاستئناس.

بالإضافة إلى الأدلة المتقدمة، هناك الأدلة النقلية، وأهمها:

أولًا: آية التطهير: قال تعالى ﴿إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾.(1)

وكلمة (يريد) في الآية المباركة تصرّح بكل وضوح أنَّ الله عزوجل هو الذي يريد أن يذهب عن أهل البيت علیهم السلام الرجس، والرجس: كل ما يلوث النفس الإنسانية. وقد أذهب الله تعالى هذا الرجس عنهم علیهم السلام، فهم معصومون.

ثانيًا: حديث الثقلين المتواتر: الذي قال فيه النبي صلی الله علیه وآله وسلم: انى تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما.(2)

وروي أنه قَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم فِي آخِرِ خُطْبَتِه يَوْمَ قَبَضَه الله عزوجل إِلَيْه: «إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ، لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ الله وعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَإِنَّ اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ كَهَاتَيْنِ -وجَمَعَ بَيْنَ مُسَبِّحَتَيْه- ولَا أَقُولُ كَهَاتَيْنِ -وجَمَعَ بَيْنَ الْمُسَبِّحَةِ والْوُسْطَى- فَتَسْبِقَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى، فَتَمَسَّكُوا بِهِمَا لَا تَزِلُّوا ولَا تَضِلُّوا، ولَا تَقَدَّمُوهُمْ فَتَضِلُّوا».(3)

إنَّ عبارة «لن تضلوا بعدي» تنفي الضلال بصورة مؤبدة لمن يتمسك بهم، وهي دليل جلي على عصمتهم علیهم السلام هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنَّ الرسول صلی الله علیه وآله وسلم قد قرن

ص: 35


1- الأحزاب 33
2- الحديث متواتر، انظر مثلًا: مسند أحمد بن حنبل ج3 ص 14 و ج5 ص 182 وسنن الترمذي ج5 ص 329 والمستدرك للحاكم النيسابوري ج3 ص 110 وج3 ص 148 ومجمع الزوائد للهيثمي ج9 ص 162 وغيرها من المصادر.
3- الكافي للكليني ج2 ص 415 بَابُ أَدْنَى مَا يَكُونُ بِه الْعَبْدُ مُؤْمِناً أَوْ كَافِراً أَوْ ضَالاًّ- ح1.

بين العترة وبين القرآن الكريم، وحيث إنَّ القرآن معصومٌ، فقرينه لابُدَّ أنْ يكون كذلك، وإلا لا يصح القرن بينهما.

ثالثًا: عن أبي سخيلة، قال: أتيت أبا ذرe فقلت: يا أبا ذر، إني قد رأيت اختلافا، فبماذا تأمرني؟ قال: عليك بهاتين الخصلتين: كتاب الله، والشيخ علي بن أبي طالب علیه السلام، فإني سمعت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم يقول: «هذا أول من آمن بي، وأول من يصافحني يوم القيامة، وهو الصديق الأكبر، وهو الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل».(1)

ص: 36


1- أمالي الشيخ الصدوق ص 274 ح 304/ 5. وانظر شرح ابن أبي الحديد ج 13 ص 228.

عقيدتنا في صفات الإمام وعلمه

اشارة

قال الشيخ رحمه الله:

«عقيدتنا في صفات الإمام وعلمه:

ونعتقد أنّ الإمام كالنبي يجب أنْ يكون أفضل الناس في صفات الكمال من شجاعةٍ وكرمٍ وعفةٍ وصدقٍ وعدلٍ، ومن تدبيرٍ وعقلٍ وحكمةٍ وخلقٍ. والدليل في النبي هو نفسه الدليل في الإمام...

أما علمه فهو يتلقى المعارف والأحكام الإلهية وجميع المعلومات من طريق النبي أو الإمام من قبله. وإذا استجدّ شيءٌ لا بُدّ أنْ يعلمه من طريق الإلهام بالقوة القدسية التي أودعها الله عروجل فيه، فإنْ توجّه إلى شيءٍ وشاء أنْ يعلمه على وجهه الحقيقي، لا يخطأ فيه ولا يشتبه يد معلم، من مبدأ طفولتهم إلى سنِّ الرشد، حتى القراءة والكتابة، ولم يثبت عن أحدهم أنّه دخل الكتاتيب أو تتلمذ على يد أستاذ في شيءٍ من الأشياء، مع ما لهم من منزلةٍ علميةٍ لا تجاري. وما سُئلوا عن شيءٍ إلا أجابوا عليه في وقته، ولم تمر على ألسنتهم كلمة (لا أدري)، ولا تأجيل الجواب إلى المراجعة أو التأمل أو نحو ذلك. في حين أنّك لا تجد شخصا مترجماً له من فقهاء الإسلام ورواته وعلمائه إلا ذكرت في ترجمته تربيته وتلمذته على غيره وأخذه الرواية أو العلم على المعروفين وتوقفه في بعض المسائل أو شكه في كثير من المعلومات، كعادة البشر في كُلِّ عصرٍ ومصرٍ.» انتهى.

يتعرض الشيخ رحمه الله في هذه العقيدة إلى ضرورة أنْ يكون الإمام الذي يخلف الرسول صلی الله علیه وآله وسلم جامعًا للكمالات التي تجعله أفضل الناس على الإطلاق؛ لأنَّ لمنصب

ص: 37

الإمامة ومقام الحجية أهمية عظيمة، بحيث وصفته الروايات الشريفة بأنه لولا (القائم) على هذا المنصب لساخت الأرض ومن عليها، فهو الأمان لأهل الأرض كما أنَّ النجوم أمان لأهل السماء، وبالتالي فليس لأي أحد أنْ يدّعي هذا المقام إلا إذا كان متصفًا بما يجعله أفضل من غيره على الإطلاق –بالإضافة إلى ما تقدم من ضرورة النص-.

وأما الدليل على ذلك فهو نفس الدليل الذي ذُكر في لزوم كون النبي أفضل الموجودين قاطبةً، وقد تقدّم أنَّ هناك عدة أدلة لإثبات هذه المسألة، منها: أننا لو قسنا الإمام إلى غيره فلا يخلو الأمر: إما أنْ يكون مساويًا له أو أقل منه أو أفضل، فإن كان مساويًا لغيره فإن ترجحيه على الغير يكون ترجيحًا بلا مرجح، وإذا كان أقل فالعقل يحكم بتقديم الأفضل، فلا يبقى سوى تقديم الافضل وترجيحه.

ثم تطرّق الشيخ رحمه الله إلى ذكر بعض الصفات المتوفرة لدى الإمام، ثم أشار إلى تفسيرٍ لمعنى الإلهام أو النكت بالقلب.

ومن المناسب بعد هذا البيان، ذكر إشارتين:

الإشارة الأولى: أنواع كمالات الإمام

اشارة

قبل الولوج في إيضاح أنواع كمالات المعصوم، لابُد من التنويه على أنَّ ما سنتناوله من كمالاتٍ تقتصر على الكمالات الذاتية للمعصوم، فلا يشتمل حديثنا مثل (التنصيص الإلهي على المعصوم) على الرغم من كونه هو الآخر كمالًا.

تعتقد المدرسة الإمامية بأنَّه ليس لأيٍ كان الحق بادّعاء الإمامة بل لابُدَّ من توفره على كمالات من عدة أنواع، فإذا هي توفرت فيه، أمكن أنْ يكون إمامًا وخليفة عن الرسول صلی الله علیه وآله وسلم وإلا فلا، وبما أنَ أنواع الكمالات هذه مشتركة بين الأنبياء والأئمة، فمن المفيد التحدّث عنها تحت عنوان الكمالات في الحجة ليشملهما معًا، وهي:

ص: 38

النوع الأول: الكمال البدني او الخَلقي.

فلابُدَّ أنْ يكون جسم الحجة عمومًا خاليًا من التشوهات البدنية والعلامات الفارقة الدالة على النقص كالعرج والعمى والخرس وغيرها، كذلك يجب أنْ يكون جسم الحجة خاليًا من المُنفِّرات كالرائحة النتنة المقرفة سواءً كانت ولاديةً (أي منذ الولادة) أو عارضةً (كأن تعرض عليه لمرضٍ ونحوه)؛ ولذا تجد أنَّ الأئمة علیهم السلام قد نفوا ما تضمنته بعض الروايات الموضوعة من نسبة التشوهات الخلقية إلى بعض المعصومين، وأشهرها تلك التي وردت في قصة النبي أيوب علیه السلام حيث ذكرت أنَّ جسمه وصل إلى مرحلة من التعفن بحيث أنَّ الدود كان ينمو في جسده!

فعن الإمام الباقر علیه السلام أنَّه قال: «إن أيوب من جميع ما ابتلي به، لم تنتن له رائحة، ولا قبحت له صورة، ولا خرجت منه مدة من دم ولا قيح، ولا استقذره أحد رآه، ولا استوحش منه أحد شاهده، ولا تدوّد شيء من جسده، وهكذا يصنع الله~ بجميع من يبتليه من أنبيائه وأوليائه المكرمين عليه، وإنما أجتنبه الناس لفقره وضعفه في ظاهر أمره لجهلهم بما له عند ربه تعالى ذكره من التأييد والفرج».(1)

ومن لطيف ما ورد عن جابر بن عبد الله قال: «كان في رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم خصال: لم يكن يمر في طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه قد سلكه من طيب عرفه...».(2)

وعن ثابت بن أنس بن مالك قال: إن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم كان أزهر اللون، كأن لونه اللؤلؤ، وإذا مشى تكفأ، وما شممت رائحة مسك ولا عنبر أطيب من رائحته، ولا مسست ديباجة ولا حريرا ألين من كف رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم كان أخف الناس صلاة في تمام.(3)

ص: 39


1- بحار الأنوار للمجلسي ج12 ص 348.
2- مناقب الإمام أمير المؤمنين علیه السلام لمحمد بن سليمان الكوفي ج1 ص 55.
3- بحار الأنوار للمجلسي ج16 ص 238.

علاوة على ذلك، فقد كان صلی الله علیه وآله وسلم دائمًا ما يضع العطور ويتطيَّب، ويؤكد عليه، بل روي أنَّه ما أنفقت في الطيب فليس بسرف(1)، وأنَّه كان رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم يُنفِق في الطيب أكثر ممَّا يُنفِق في الطعام(2)،

وأنَّه كان يُعرَف موضع سجود أبي عبد الله علیه السلام بطيب ريحه(3).

فالتطيُّب أمرٌ لطيف يسهم في التحابب والتقارب بين المؤمنين، على عكس الرائحة المنفرّة التي تكون داعيةً للفرقة والتباعد؛ ولذا فقد ورد في بعض الروايات كراهة حضور المسجد لمن تنبعث من فمه رائحة الثوم وما الى ذلك، حتى يبقى على رائحة طيبة.(4)

النوع الثاني: الكمال النفسي

بمعنى أنْ تكون التصرفات النفسية للحجة مستقيمة، في الحالات الاعتيادية وفي الحياة اليومية مما يراه الناس منه بحيث تكشف بنفسها عن تفرّده عن سائر الناس بصفات استثنائية.

وبعبارة أخرى: أنْ تكون أفعاله تكشف عن مقام الحجية، فتجد الحجة يتصف بالسكينة والهدوء وإنْ كان يمرُّ بأحلك الصعاب، كما نقل الشيخ المفيد في حالات الامام الحسين علیه السلام عن حميد بن مسلم قال: فوالله ما رأيت مكثورًا قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشا ولا أمضى جنانا منه علیه السلام ، إن كانت الرجالة لتشد عليه فيشد عليها بسيفه، فتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب.(5)

ص: 40


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 512/ باب الطيب/ ح 16).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 512/ باب الطيب/ ح 18).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 511/ باب الطيب/ ح 11).
4- في الكافي للكليني ج6 ص 375 – 376 بَابُ الثُّومِ ح1 «عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُه عَنْ أَكْلِ الثُّومِ؟ قَالَ: إِنَّمَا نَهَى رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم عَنْه لِرِيحِه، فَقَالَ: مَنْ أَكَلَ هَذِه الْبَقْلَةَ الْخَبِيثَةَ فَلَا يَقْرَبْ مَسْجِدَنَا فَأَمَّا مَنْ أَكَلَه ولَمْ يَأْتِ الْمَسْجِدَ فَلَا بَأْسَ».
5- الإرشاد للشيخ المفيد ج2 ص 111.

كذلك يجب أنْ يتصف الحجة بالتوكل المطلق على الله عزوجل ، كما ورد في أحوال الإمام السجاد سلام الله عليه عن إبراهيم بن أدهم، وفتح الموصلي قال كل واحد منهما: «كنت أسيح في البادية مع القافلة فعرضت لي حاجة فتنحيت عن القافلة فإذا أنا بصبي يمشي فقلت: سبحان الله بادية بيداء وصبي يمشي! فدنوت منه وسلمت عليه فرد علي السلام، فقلت له: إلى أين؟ قال: أريد بيت ربي، فقلت: حبيبي انك صغير ليس عليك فرض ولا سنة، فقال: يا شيخ ما رأيت من هو أصغر سنا منى مات؟ فقلت: أين الزاد والراحلة؟ فقال: زادي تقواي وراحلتي رجلاي وقصدي مولاي، فقلت، ما أرى شيئا من الطعام معك! فقال: يا شيخ هل يستحسن أن يدعوك انسان إلى دعوة فتحمل من بيتك الطعام؟ قلت: لا، قال: الذي دعاني إلى بيته هو يطعمني ويسقيني، فقلت: ارفع رجلك حتى تدرك، فقال علي الجهاد وعليه الابلاغ أما سمعت قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾(1)...»(2)

وهذا يكشف عن شدة توكل الإمام زين العابدين علیه السلام على صغر سنه.

ومن صفات الحجة: هيبته في القلوب، رغم أنَّه لا يخرج عن الحد المتعارف في

ص: 41


1- العنكبوت 69
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج3 ص 280، وتمام الرواية:...قال: فبينا نحن كذلك إذا أقبل شاب حسن الوجه عليه ثياب بيض حسنة فعانق الصبي وسلم عليه فأقبلت على الشاب وقلت له: أسألك بالذي حسن خلقك من هذا الصبي؟ فقال: أما تعرفه! هذا علي ابن الحسين بن علي بن أبي طالب، فتركت الشاب وأقبلت على الصبي فقلت: أسألك بآبائك من هذا الشاب؟ فقال: أما تعرفه؟ هذا أخي الخضر يأتينا كل يوم فيسلم علينا، فقلت: أسألك بحق آبائك لما أخبرتني بما تجوز المفاوز بلا زاد؟ قال: بلى أجوز بزاد وزادي فيها أربعة أشياء، قلت: وما هي؟ قال: أرى الدنيا كلها بحذافيرها مملكة الله، وأرى الخلق كلهم عبيد الله واماءه وعياله، وأرى الأسباب والأرزاق بيد الله، وأرى قضاء الله نافذا في كل أرض الله، فقلت: نعم الزاد زادك يا زين العابدين وأنت تجوز بها مفاوز الآخرة فكيف مفاوز الدنيا.

التص-رف مع أصحابه، وقد وصف ضرارُ أميرَ المؤمنين علیه السلام في مجلس معاوية بأوصاف كان جُلُّها التواضع لله تعالىٰ والناس، حيث روي أنَّه قال: «... كان والله فينا كأحدنا، يُدنينا إذا أتيناه، ويُجيبنا إذا سألناه، ويُقرِّبنا إذا زرناه، لا يُغلَق له دوننا باب، ولا يحجبنا عنه حاجب، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منّا لا نُكلِّمه لهيبته، ولا نبتديه لعظمته، فإذا تبسَّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم...»(1).

ومن صفات الحجة: وضعه الشيء في موضعه، ومن ذلك اهتمامه البالغ بالوقت وحرصه على استثماره خير استثمار، فقد نقل ابن حجر في الصواعق في أولاد الإمام الهادي صلوات الله عليه ما نصه «أجلّهم أبو محمد الحسن الخالص.... ووقع لبهلول معه أنه رآه وهو صبي يبكي، والصبيان يلعبون، فظن أنه يتحسر على ما في أيديهم، فقال: أشتري لك ما تلعب به؟ فقال:يا قليل العقل، ما للعب خلقنا. فقال له:فلماذا خُلقنا؟ قال: للعلم والعبادة! فقال له: من أين لك ذلك؟ قال من قول الله عزوجل ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ﴾(2)، ثم سأله أن يعظه فوعظه بأبيات، ثم خرّ الحسن مغشياً عليه، فلما أفاق قال له: ما نزل بك وأنت صغير لا ذنب لك؟! فقال: إليك عني يا بهلول،إني رأيت والدتي توقد النار بالحطب الكبار، فلا تتّقد إلا بالصغار، وإني أخشى أن أكون من صغار حطب نار جهنم».(3)

النوع الثالث: الكمال الأخلاقي

نعتقد أنَّ الحجة عمومًا والإمام خصوصًا يجب أنْ يتحلى ليس بمجرد الأخلاق، وإنّما أنْ يكون على قمة الهرم الأخلاقي، فمثلًا يقر القرآن الكريم بقانونين أخلاقيين:

ص: 42


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 41/ ص 15).
2- المؤمنون 115
3- الصواعق المحرقة لأحمد بن حجر الهيتمي المكي ص 207.

أحدهما: ردُّ الاعتداء ﴿فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ﴾(1)

والآخر أرقى منه وهو قانون العفو والمغفرة ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾(2) فعلى الرغم من إن كليهما أخلاقي، وبأيٍ منهما التزم المؤمن فإنه لا يخرج عن دائرة التعامل الأخلاقي، إلا أن الإمام لا يتعامل إلا بالثاني منهما عادة، ولذا فهو لا يتصف بالأخلاق وحسب، بل بالكمال الأخلاقي أيضًا.

رُوِيَ أَنَّ أمير المؤمنين علیه السلام «كَانَ جَالِساً فِي أَصْحَابِه، فَمَرَّتْ بِهِمُ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ فَرَمَقَهَا الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقَالَ علیه السلام: إِنَّ أَبْصَارَ هَذِه الْفُحُولِ طَوَامِحُ وإِنَّ ذَلِكَ سَبَبُ هِبَابِهَا، فَإِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى امْرَأَةٍ تُعْجِبُه فَلْيُلَامِسْ أَهْلَه، فَإِنَّمَا هِيَ امْرَأَةٌ كَامْرَأَتِه. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ، قَاتَلَه الله كَافِراً مَا أَفْقَهَه! فَوَثَبَ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوه، فَقَالَ علیه السلام رُوَيْداً إِنَّمَا هُوَ سَبٌّ بِسَبٍّ أَوْ عَفْوٌ عَنْ ذَنْبٍ».(3)

ولم ينقل التاريخ أنه عاقبه، فهنا الإمام علیه السلام اختار القانون الأرقى.

وروي عن المبرَّد وابن عائشة: أنَّ شامياً رأىٰ الحسن بن عليٍّ علیه السلام راكباً فجعل يلعنه! و الحسن لا يردُّ. فلمَّا فرغ أقبل الحسن علیه السلام فسلَّم عليه وضحك، فقال:

«أيُّها الشيخ أظنُّك غريباً، ولعلَّك شبهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرَّكْتَ رحلك إلينا، وكنت ضيفنا إلىٰ وقت ارتحالك، كان

ص: 43


1- البقرة 194
2- آل عمران 134
3- نهج البلاغة ج4 ص 98 – 99 الحكمة 420.

أعود عليك، لأنَّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً».

فلمَّا سمع الرجل كلامه، بكىٰ ثمّ قال: أشهد أنَّك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليَّ، والآن أنت أحبُّ خلق الله إليَّ، وحوَّل رحله إليه، وكان ضيفه إلىٰ أن ارتحل، وصار معتقداً لمحبَّتهم(1).

وقال نصراني للإمام الباقر علیه السلام : أنت بقر؟ قال: «أنا باقر»، قال: أنت ابن الطبّاخة؟ قال: «ذاك حرفتها»، قال: أنت ابن السوداء الزنجية البذيَّة؟ قال: «إن كنت صدقت غفر الله لها، وإن كنت كذبت غفر الله لك»، قال: فأسلم النصراني(2).

ولم يكتفِ الأئمة علیهم السلام بالقمم من الأخلاق لأنفسهم، بل حثُّوا شيعتهم على الاتصاف بها أيضًا، منها ما روي عن الإمام الصادق علیه السلام أنَّه قال: «...فمن قال لك: إنْ قلت واحدة سمعت عشراً، فقل: إنْ قلت عشراً لم تسمع واحدة، ومن شتمك فقل: إنْ كنت صادقاً فيما تقول فالله أسأل أنْ يغفرها لي، وإنْ كنت كاذباً فيما تقول فالله أسأل أنْ يغفرها لك، ومن وعدك بالجفاء فعده بالنصيحة والدعاء...»(3).

فعلى من يدّعي التشيع أنْ يتصف بمعالي ومكارم الاخلاق، وقد كان مالك الأشتر من خير من امتثل لأقوالهم علیهم السلام واتصف بصفاتهم، فقد حُكِيَ أنَّ مالِكاً الأَشتَرَ رحمه الله كانَ مُجتازاً بِسوقِ الكوفَةِ وعَلَيهِ قَميصٌ خامٌ وعِمامَةٌ مِنهُ، فَرَآهُ بَعضُ السّوقَةِ فَازدَرى بِزِيِّهِ، فَرَماهُ بَبُندُقَة تَهاوُناً بِهِ، فَمَضى ولَم يَلتَفِت. فَقيلَ لَهُ: وَيلَكَ! أتَدري بِمَن رَمَيتَ؟ فَقالَ: لا، فَقيلَ لَهُ: هذا مالِكٌ صاحِبُ أميرِ المُؤمِنينَ علیه السلام. فَارتَعَدَ الرَّجُلُ ومَضى إلَيهِ لِيَعتَذِرَ مِنهُ، فَرَآهُ وقَد دَخَلَ مَسجِداً وهُوَ قائِمٌ يُصَلّي، فَلَمَّا انفَتَلَ أكَبَّ الرَّجُلُ عَلى قَدَمَيهِ

ص: 44


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3/ ص 184).
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 3: 337.
3- مشكاة الأنوار لعليٍّ الطبرسي (ص 564).

يُقَبِّلُهُما، فَقالَ: ما هذَا الأَمرُ؟ فَقالَ: أعتَذِرُ إلَيكَ مِمّا صَنَعتُ. فَقالَ: لا بَأسَ عَلَيكَ ؛ فَوَاللهِ ما دَخَلتُ المَسجِدَ إلاّ لاَِستَغفِرَنَّ لَكَ.(1)

كما نُقِل عن الخواجة نصير الدين الطوسي، قيل: إن ورقة حضرت إليه من شخص من جملة ما فيها: يا كلب بن كلب. فكان الجواب: أما قولك (يا كذا) فليس بصحيح، لأن الكلب من ذوات الأربع، وهو نابح طويل الأظفار، وأما أنا فمنتصب القامة بادي البشرة عريض الأظفار ناطق ضاحك، فهذه الفصول والخواص غير تلك الفصول والخواص. وأطال في نقض كلما قاله. هكذا رد عليه بحسن طوية وتأن غير منزعج، ولم يقل في الجواب كلمة قبيحة.(2)

فكان جوابه منطقيًا لا ردًّا عليه بالمثل.

وأيضًا نقل أنه في أحد الأيام التي كان شيخ الفقهاء العظام المرحوم الحاج الشيخ جعفر صاحب (كشف الغطاء) موجودًا في (أصفهان) أنه قسّم مرة حقوقًا شرعية على الفقراء قبل شروعه بالصلاة. فعند انتهائه من تلك الصلاة، وقيامه للصلاة الأخرى جاءه أحد السادات الفقراء - الذين أخبروا بالأمر - بين الصلاتين، وقال له: أعطني من مال جدي. فقال له: لقد جئت متأخرًا، ولا يوجد عندي الآن شيء لأعطيك منه. فغضب ذلك السيد، وبصق على لحية الشيخ المباركة. فقام الشيخ من المحراب، ورفع طرف ردائه وأخذ يدور في صفوف الجماعة وهو يقول: (من كان يحترم شيبة الشيخ فليساعد هذا السيد). فملأ الناس طرف ثوبه بالأموال، ثم أعطاها الشيخ للسيد. وبعد ذلك توجه لصلاة العصر.(3)

ص: 45


1- تنبيه الخواطر لورام بن أبي فراس ص10.
2- خاتمة المستدرك للميرزا حسين النوري الطبرسي ج2 ص 423.
3- منازل الآخرة للشيخ عباس القمي ص 215.
النوع الرابع: الكمال العلمي

من المعلوم أنَّه لابُدَّ أنْ يكون الإمام عالمًا، وبشروط:

1/أنْ يكون أعلم اناس.

2/أنْ لا يكون قد أخذ هذا العلم من غيره، إلا إذا كان ذلك الغير نبيًا أو إمامًا مثله، كما روي عن أبي جعفر علیه السلام قال: «قال علي علیه السلام: علمني رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ألفَ باب، يفتح ألفَ باب».(1)

وعن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «إن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم علّم عليًا علیه السلام بابًا من العلم، ففتح ألف باب، لكل باب فتح له الف باب». (2)

3/أنْ يكون عالمًا باللغات المختلفة، وهذا ما يقتضيه كونه حجة الله على الأرض والمكلف ببيان الأحكام الإلهية لكل الناس.

4/أنْ يكون الإمام يعرف حتى لغة الحيوانات.

وقد أثبتت السيَر العطرة لأئمتنا علیهم السلام أنَهم أعلم الناس رغم صغر سنهم، فالإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف استلم الإمامة وعمره خمس سنوات، والإمام الهادي علیه السلام استلم الإمامة وعمره ست أو ثمان سنوات، والإمام الجواد علیه السلام استلم الإمامة وعمره ست سنوات، ومن يقرأ التاريخ يجد كيف أنَّ الإمام الجواد علیه السلام مثلًا ردَ على يحيى بن الأكثم عندما سأله عن محرمٍ قتل صيدًا وكيف فصّل له وفرّع له فروعًا متكثرة من هذا السؤال، بحيث عجز ابن الأكثم أنْ يجيبه(3)،

وأنه علیه السلام سأل ابن أكثم فقال له: «يا أبا محمد ما تقول في رجل

ص: 46


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 647.
2- بصائر الدرجات للصفار ص 323 الباب (16) باب في ذكر الأبواب التي علم رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم أمير المؤمنين علیه السلام ح (5).
3- تحف العقول للحراني 452...

حرمت عليه امرأة بالغداة وحلت له ارتفاع النهار وحرمت عليه نصف النهار، ثم حلت له الظهر، ثم حرمت عليه العصر، ثم حلت له المغرب، ثم حرمت عليه نصف الليل، ثم حلت له الفجر، ثم حرمت عليه ارتفاع النهار، ثم حلت له نصف النهار؟ فبقي يحيى والفقهاء بلسًا خرسًا(1)،

فقال المأمون: يا أبا جعفر أعزك الله بين لنا هذا؟ قال علیه السلام : هذا رجل نظر إلى مملوكة لا تحل له، اشتراها فحلت له. ثم أعتقها فحرمت عليه، ثم تزوجها فحلت له. فظاهر منها فحرمت عليه. فكفر الظهار فحلت له، ثم طلقها تطليقة فحرمت عليه، ثم راجعها فحلت له، فارتد عن الاسلام فحرمت عليه. فتاب ورجع إلى الاسلام فحلت له بالنكاح الأول، كما أقر رسول الله عروجل نكاح زينب مع أبي العاص بن الربيع حيث أسلم على النكاح الأول.»(2)

وفي هذه المحاورة لم يكن الإمام علیه السلام قد بلغ الحلم بعد!

بل إنَهم كانوا يعرفون حتى لغات الحيوان، ففي رواية عن عبد الله بن قيس قال: كنت مع من غزى مع أمير المؤمنين علیه السلام في صفين وقد أخذ أبو أيوب الأعور السلمي الماء وحرزه عن الناس فشكى المسلمون العطش فأرسل فوارس على كشفه فانحرفوا خائبين، فضاق صدره، فقال له ولده الحسين علیه السلام أمضي إليه يا أبتاه؟ فقال: امض يا ولدي، فمضى مع فوارس فهزم أبا أيوب عن الماء، وبنى خيمته وحط فوارسه، وأتى إلى أبيه وأخبره. فبكى علي علیه السلام فقيل له: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ وهذا أول فتح ببركة الحسين علیه السلام فقال: ذكرت أنه سيقتل عطشانا بطف كربلا، حتى ينفر فرسه ويحمحم ويقول: الظليمة الظليمة لأمة قتلت ابن بنت نبيها.(3)

ص: 47


1- البلس - بالضم -: جمع أبلس: المتحير. والخرس - بالضم -: جمع أخرس: الذي انعقد لسانه عن الكلام. [هامش المصدر]
2- تحف العقول للحراني ص 454.
3- بحار الأنوار للمجلسي ص 266.
النوع الخامس: الكمال الغيبي

أي أنْ تكون للحجة قدرات غيبية لا يمكن لغيره أنْ يفعلها، كالإخبار بالمغيبات (المستقبليات) وكمعرفته ما في داخل النفس، وكإحياء الموتى وما شابه ذلك من الأمور.

وكل ما تقدم إنّما هي كمالات لابُدَّ أنْ يتسم بها من يدّعي أنَّه حجة الله.

وقد شهد التاريخ على أنَّ أئمتنا (سلام الله عليهم) هم فقط -دون سواهم- المصاديق الحقيقية لأئمة الإسلام وخلفاء الرسول الأكرمصلی الله علیه وآله وسلم؛ لما اتّسموا به من مختلف هذه الكمالات لذا نجد أنْ لا أحد يستطيع أنْ ينكرها لهم، لاسيما المعتزلة الذين اعترفوا بأفضلية أمير المؤمنين علیه السلام.

ومن يقرأ التاريخ بعين الإنصاف يتجلَّ له وبشكلٍ واضح الإمام الحقّ عمّا سواه، لأن الكامل هو من يحتاج إليه الناس ولا يحتاج إلى أحد، وهذا أحد الأدلة التي استخدمها الفراهيدي لما سُئل عن أفضلية علي بن أبي طالب سلام الله عليه قال: «احتياج الكل إليه واستغناؤه عن الكل دليل إمامته»، ولكن التعصب الأعمى حال دون هدايتهم، فحيث إنَّهم لم يستطيعوا أنْ ينكروا أفضليته علیه السلام، فقد عمدوا إلى إنكار قاعدة عقلية ووجدانية أيضًا، إذ قالوا بعدم لزوم اتباع الفاضل بل يجوز تقديم المفضول على الفاضل! وهم في هذا إنّما خالفوا وجدانهم واستهانوا بعقلهم؛ لأن كلًا من العقل والوجدان يستقبحان تقديم المفضول مع وجود الفاضل.

وقد أشار الشيخرحمه الله إلى ضرورة أنْ يتصف الإمام بكل صفات الكمال فقال: «ونعتقد أنَّ الإمام كالنبي يجب أنْ يكون أفضل الناس في صفات الكمال من شجاعة وكرم وعفة وصدق وعدل ومن تدبير وعقل وحكمة وخُلق (خَلق) والدليل في النبي هو نفسه الدليل في الإمام....».

ص: 48

قال الشيخرحمه الله :

«أما علمه، فهو يتلقى المعارف والأحكام الإلهية وجميع المعلومات من طريق النبي أو الامام من قبله...».

الإشارة الثانية: مصادر علوم أهل البيت علیهم السلام

اشارة

إن من يطالع التاريخ العام والخاص، يجد أن هناك ظاهرة ملفتة للنظر في حق أهل البيت علیهم السلام، وهي أنهم كانوا أعلم الناس في زمانهم على الإطلاق، رغم أنهم لم يأخذوا العلم من أي أحد، فلم ينقل لنا التاريخ – عامه وخاصه – عن أحد كان أستاذاً لأحد الأئمة علیهم السلام، فالكل كان عيالاً على أهل البيت علیهم السلام، وهذا ما يدعو إلى الاستغراب، فكيف يخرج أحدهم عالماً رغم أنه لم يأخذ العلم من أي معلم!

إن هذا يدعونا لأن نبحث عن المصادر التي كان أهل البيت علیهم السلام يعتمدون عليها في ذلك، وهذا ما أغنتنا به مكتبة أهل البيت علیهم السلام العلمية الغنية الأحاديث الشريفة في كل المجالات.

فما هي المصادر التي كان أهل البيت (سلام الله عليهم) يعتمدونها على ذلك؟

ويمكن الإجابة بجوابين:

أولهما: إجمالي:

حيث إننا نعتقد أنَّ الإمام معصوم، فلا غرابة حينئذٍ في عدم تعلّمه من غير المعصوم؛ لأن العصمة تعني فيما تعنيه: العلم الخاص الذي يتمتع به المعصوم منذ نعومة أظفاره، وهو علمٌ لدني، أي هو من لدن الله تبارك وتعالى.

وثانيهما: تفصيلي:
اشارة

عندما نرجع لكلماتهم علیهم السلام نجد أنّهم قد بّينوا العديد من مصادر العلوم التي

ص: 49

أغنتهم عن غيرهم، وتلك المصادر على نحو الإجمال هي التالي:

الأول: القرآن الكريم

لا شك أن أهم مصادر العلوم الإسلامية عموماً هو القرآن الكريم، ولكن القرآن الكريم والروايات تؤكد أن الذي يستطيع فهم القرآن هم الراسخون في العلم وهم أهل البيت علیهم السلام ، فعن أبي بصير عن أبي عبد الله علیه السلام قال: نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله.(1)

وهذا ينبغي أن يكون واضحاً، إذ القرآن نزل في بيوتهم، وأهل البيت أدرى بما فيه.

إذا عرفنا هذا، فاعلم أن من أهم مصادر علوم أهل البيت علیهم السلام هو القرآن الكريم.

فعن محمد بن شريح قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلم يقول: «والله لولا أن الله فرض ولايتنا ومودتنا وقرابتنا ما أدخلناكم بيوتنا، ولا أوقفناكم على أبوابنا، والله ما نقول بأهوائنا، ولا نقول برأينا، ولا نقول إلا ما قال ربنا».(2)

إن الروايات الشريفة تؤكد على أن أعلم الناس بالقرآن الكريم هو أمير المؤمنين علیه السلام، هذا ما تؤكده الآيات القرآنية المفسرة بالروايات الشريفة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، يقول تعالى ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾.(3)

إن صريح هذه الآية في أن هناك شهيداً بين الذين يكذبون النبي الأكرم صلی الله علیه وآله و سلم وبينه، وهو الله تعالى ومن عنده علم الكتاب، فمن هو من عنده علم الكتاب؟

قيل هو (الله) تعالى، وهو رأي ترده نفس الآية، لأن الآية تقول: إن الشهود اثنين،

ص: 50


1- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - ص 224 باب 11 ح 5.
2- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - ص 320 باب 14 ح 5.
3- سورة الرعد(43).

وهما الله تعالى ومن عنده علم الكتاب.

وقيل: هو عبد الله بن سلام، وقيل: هو سلمان المحمدي الفارسي، وهذا أيضاً مردود، لأنهما أسلما في المدينة، وهذه الآية هي من سورة الرعد، وهي سورة مكية!

والصحيح هو ما روي عن النبي الأكرم صلی الله علیه وآله و سلم عن أبي سعيد الخدري قال: سألت رسول الله صلی الله علیه وآله و سلم عن قول الله جل ثناؤه: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ﴾؟ قال: ذاك وصي أخي سليمان بن داود. فقلت له: يا رسول الله: ﴿قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾؟ قال: ذاك علي بن أبي طالب.(1)

والالتفات إلى الفرق بين ﴿عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ الذي يعني العلم الجزئي، و﴿عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ الذي يعني العلم الكلي، يكش-ف البون الشاسع بين آصف بن برخيا وصي سليمان علیه السلام وعلي علیه السلام.(2)

الثاني: تعاليم النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم

وهذا واضح جدًا في روايات أهل البيت (سلام الله عليهم).

ففي رواية أنه قال رسول الله صلی الله علیه وآله و سلم لأمير المؤمنين علیه السلام: «اكتب ما أملي عليك. فقال: يا نبي الله، أتخاف علي النسيان؟ فقال صلی الله علیه وآله و سلم: لست أخاف عليك النسيان، وقد دعوت الله لك أن يحفظك ولا ينسيك، ولكن اكتب لشركائك.

قال: قلت: ومن شركائي، يا نبي الله؟

قال: الأئمة من ولدك، بهم تسقى أمتي الغيث، وبهم يستجاب دعاؤهم، وبهم يصرف الله عنهم البلاء، وبهم ينزل الرحمة من السماء، وهذا أولهم. وأومى بيده إلى

ص: 51


1- أمالي الشيخ الصدوق ص 659 ح 892/ 3.
2- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج 12 - ص 74.

الحسن بن علي علیهما السلام، ثم أومى بيده إلى الحسين علیه السلام ، ثم قال: الأئمة من ولده».(1)

من هنا روي عن جابر قال: «قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقرعلیهم السلام : إذا حدثتني بحديث فأسنده لي، فقال: حدثني أبي، عن جدي، عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، عن جبرئيل علیه السلام، عن الله عزوجل، وكل ما أحدثك بهذا الإسناد. وقال: يا جابر لحديث واحد تأخذه عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها».(2)

لذا يسأل البعض إذا ورد حديث عن الإمام الصادق صلوات الله وسلامه عليه أنستطيع أنْ نقول عن الرسول صلی الله علیه وآله وسلم والجواب فيما روي عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: «قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله علیه السلام : الْحَدِيثُ أَسْمَعُه مِنْكَ أَرْوِيه عَنْ أَبِيكَ أَوْ أَسْمَعُه مِنْ أَبِيكَ أَرْوِيه عَنْكَ؟ قَالَ علیه السلام : سَوَاءٌ، إِلَّا أَنَّكَ تَرْوِيه عَنْ أَبِي أَحَبُّ إِلَيَّ. وقَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام لِجَمِيلٍ: مَا سَمِعْتَ مِنِّي فَارْوِه عَنْ أَبِي».(3)

إشارة هامة:

إنَّ أهل البيت سلام الله عليهم يؤكدون على الكتابة لا الحفظ، ففي الكافي(4) عَنْ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: «الْقَلْبُ يَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابَةِ».

وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام يَقُولُ: «اكْتُبُوا فَإِنَّكُمْ لَا تَحْفَظُونَ حَتَّى تَكْتُبُوا».

وعَنْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام : «احْتَفِظُوا بِكُتُبِكُمْ فَإِنَّكُمْ سَوْفَ تَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا».

ص: 52


1- أمالي الشيخ الصدوق ص 485 ح 659/ 1.
2- أمالي الشيخ المفيد ص 42 ح 10.
3- الكافي للكليني: ج1، ص 51، بَابُ رِوَايَةِ الْكُتُبِ والْحَدِيثِ وفَضْلِ الْكِتَابَةِ والتَّمَسُّكِ بِالْكُتُبِ ح4.
4- الكافي للكليني: ج1، ص52، باب رواية الكتب والحديث، الأحاديث: 8 و9 و10 و11.

وعَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهعلیه السلام : «اكْتُبْ، وبُثَّ عِلْمَكَ فِي إِخْوَانِكَ، فَإِنْ مِتَّ فَأَوْرِثْ كُتُبَكَ بَنِيكَ، فَإِنَّه يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانُ هَرْجٍ لَا يَأْنَسُونَ فِيه إِلَّا بِكُتُبِهِمْ».

وكذا أوصانا أساتذتنا في الحوزة العلمية المباركة، ولقد كان الأستاذ الشيخ باقر الأيرواني (حفظه الله) يقول: هذه المطالب العلمية مثل السمكة، كلما أمسكتها من جهة أفلتت من جهة أخرى؛ لذا يجب أنْ تُقيد بالكتابة والمراجعة.

فإذا أدركنا أهمية الكتابة في حفظ العلوم وتوارثها، تبين لنا مدى فداحة الجريمة التاريخية العظمى في منع تدوين أحاديث النبي الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، والروايات صريحة جدًا وثابتة حتى عند أهل العامة، بأنَّ الخلفاء: أبا بكر وعمر وعثمان وأول الملوك الجبابرة في الإسلام معاوية، عملوا على منع ليس فقط تدوين الحديث وإنّما تناقل الحديث أيضًا سوى الأحاديث التي كانت موجودة في زمن أبي بكر وعمر. وليت الأمر توقف عند منع تدوينها وتناقلها، بل تعداهما إلى الأمر بإحراق الأحاديث المدونة عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم بأمر من أبي بكر برواية عن عائشة بنت أبي بكر.

قال عائشة: جمع أبي الحديث عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فكانت خمسمائة حديث، فبات ليلة يتقلب كثيرا، قالت: فغمني فقلت تتقلب لشكوى أو لشيء بلغك؟ فلما أصبح قال: أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك فجئته بها فدعا بنار فأحرقها وقال، خشيت أن أموت وهي عندك فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدثني فأكون قد تقلدت ذلك.(1)

فحُرقت أحاديث الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم على الرغم من علمهم بأنه ليس فيها سوى الحق، بل يظهر من بعض الروايات أن هناك محاولات للتقليل من شأن أحاديث

ص: 53


1- كنز العمال للمتقي الهندي ج10 ص 285.

النبي صلی الله علیه وآله وسلم في حياته، ومنع البعض من تدوين الأحاديث لأجل ذلك، فقد روي عن عبد الله بن عمرو، قال: كنت أكتب كلَّ شيء أسمعه من رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم أُريد حفظه، فنهتني قريش عن ذلك، وقالوا: تكتب ورسول الله صلی الله علیه وآله وسلم يقول في الغضب والرضا! فأمسكتُّ، حتَّىٰ ذكرت ذلك لرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، فقال: «اكتب فوَالذي نفسي بيده ما خرج منه إلَّا حقٌّ»(1).

وفي الحقيقة، لم ترتكب جريمة منع تدوين الأحاديث أول مرة بعد رحيل رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، بل ارتكبت وبكل جرأة ووقاحة في محضره روحي فداه، وهي الكلمة التي قيلت في حضرة النبيِّ الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم في مرضه الذي توفّي فيه، عندما طلب من المسلمين أن يأتوه بدواة وكتف ليكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده أبداً، فقال قائلهم: «إنَّ الرجل ليهجر»(2)، أو«حسبنا كتاب الله»(3)،

قاصدين بذلك عدم الحاجة لأحاديث النبيِّ

ص: 54


1- مسند أحمد بن حنبل 2: 192.
2- عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال: اشتكىٰ النبيُّ صلی الله علیه وآله وسلم يوم الخميس، فجعل - يعني ابن عبّاس - يبكي ويقول: يوم الخميس وما يوم الخميس، اشتدَّ بالنبيِّ صلی الله علیه وآله وسلم وجعه، فقال: «ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً»، قال: فقال بعض من كان عنده: إنَّ نبيَّ الله ليهجر! قال: فقيل له: ألَا نأتيك بما طلبت؟ قال: «أوَبعد ما قال!؟ - أو بعد ماذا؟ - فلم يدع به...» (الطبقات الكبرىٰ لابن سعد 2: 242). أقول: لاحظ كيف أنَّهم لا يُصرِّحون بالقائل لتلك الكلمة رغم وضوح أنَّه عمر، وما ذاك إلَّا لأنَّهم يريدون الحفاظ علىٰ قداسته عندهم وإن كانت من نوع المكابرة، ولو علىٰ حساب إخفاء الحقيقة.
3- عن ابن عبّاس، قال: ل-مَّا حض-ر رسول اللهs وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطّاب، قال النبيُّ صلی الله علیه وآله وسلم: «هلمَّ أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده»، فقال عمر: إنَّ النبيَّ صلی الله علیه وآله وسلم قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قرِّبوا يكتب لكم النبيُّ صلی الله علیه وآله وسلم كتاباً لن تضلّوا بعده. ومنهم من يقول ما قال عمر. فلمَّا أكثروا اللغو والاختلاف عند النبيّ صلی الله علیه وآله وسلم قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم : «قوموا». قال عبيد الله: وكان ابن عبّاس يقول: إنَّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول اللهsوبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. (صحيح البخاري 7: 9).

الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم.

ثم ما الذي حدث ليتحول الممنوع إلى مسموح به؟! حيث أخذ القوم -- وعلى خلاف أئمتهم -- بتدوين الأحاديث في كتب الصحاح واعتمادها بل وجعلها بالمرتبة الثانية بعد القرآن مباشرة.

الثالث: أصول العلم

من الواضح إنَّ للعلم أصولًا، والأصول تعني: قواعد عامة يمكن أنْ يستخرج منها أحكام وجزئيات لتلك القاعدة العامة، والذي يستطيع استخراج الأحكام الجزئية هو من يعرف تلك الأصول، لذلك ورد أنَ أهل البيت صلوات الله عليهم ألقوا إلى أصحابهم أصول العلم وتركوا التفريع لعلماء الشيعة ليفتحوا بذلك باب الاجتهاد الأصولي الشيعي المعروف. فقد روي عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول، وعليكم أن تفرعوا».

وما روي عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبي الحسن الرضا علیه السلام قال: «علينا إلقاء الأصول إليكم، وعليكم التفريع».(1)

وبمطالعة الروايات الشريفة يتضح أنَّ لأهل البيت (سلام الله عليهم) أصول علم، تُفتح لهم من تلك العلوم علوم أخرى، عن أبي جعفر علیه السلام قال: «قال علي علیه السلام : علمني رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ألفَ باب، يفتح ألفَ باب».(2)

وعن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سمعت أبا عبد الله8 يقول: «إن رسول اللهs علّم عليًا8 بابًا من العلم، ففتح ألف باب، لكل باب فتح له الف باب».(3)

ص: 55


1- مستطرفات السرائر لابن إدريس الحلي ص 575.
2- الخصال للشيخ الصدوق ص 647.
3- بصائر الدرجات للصفار ص 323 الباب (16) باب في ذكر الأبواب التي علم رسول اللهs أمير المؤمنين8 ح (5).

وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام قال: «لما حضرت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم الوفاة دعاني فلما دخلت عليه قال لي: يا علي أنت وصيي وخليفتي على أهلي وأمتي، في حياتي وبعد موتي، وليك وليي ووليي ولي الله، وعدوك عدوي، وعدوي عدو الله، يا علي المنكر لولايتك بعدي كالمنكر لرسالتي في حياتي لأنك مني وأنا منك، ثم أدناني فأسرّ إلي ألف باب من العلم، كل باب يفتح ألف باب».(1)

الرابع: كتب الأنبياء السابقين (غير المُحرّفة)

لا شك أنَّ جميع الديانات السماوية النازلة من الله عزجل كانت أصول الشرائع فيها واحدة، قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾.(2)

فأصول الدين واحدة والكتب التي نزلت من الله تعالى غير المحرفة لا شك أنَ فيها علوماً تنفع الأمم، وفيها معارف ثرة تعالج كثيرًا من جوانب الحياة، فمن يعلمها لاشك أنها تُغنيه بعلوم تنفعه في إفتائه ووعظه وإرشاده، وأهل البيت علیهم السلام كانت عندهم تلك العلوم، لذا نجد الكثير من الروايات أنَّ الإمام الصادق علیه السلام يروي حديثاً عن النبي عيسى علیه السلام مثلاً، أو حكم لقمان أو قضايا عن النبي إبراهيم علیه السلام ، وهذا يعني: أنَّه يدعونا إلى الامتثال لقول النبي عيسى علیه السلام .

وهناك روايات كثيرة تؤكد هذا المعنى، منها ما روي عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام قال: «قَالَ لِي: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، إِنَّ الله عزوجل لَمْ يُعْطِ الأَنْبِيَاءَ شَيْئاً إِلَّا وقَدْ أَعْطَاه مُحَمَّداً صلی الله علیه وآله وسلم.

ص: 56


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 652.
2- الشورى: 13.

قَالَ: وقَدْ أَعْطَى مُحَمَّداً جَمِيعَ مَا أَعْطَى الأَنْبِيَاءَ، وعِنْدَنَا الصُّحُفُ الَّتِي قَالَ الله عزوجل: ﴿صُحُفِ إِبْراهِيمَ ومُوسى﴾ قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، هِيَ الأَلْوَاحُ؟ قَالَ نَعَمْ».(1)

وعَنْ يُونُسَ عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ فِي حَدِيثِ بُرَيْه،«أَنَّه لَمَّا جَاءَ مَعَه إِلَى أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام فَلَقِيَ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ علیه السلام فَحَكَى لَه هِشَامٌ الْحِكَايَةَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ علیه السلام لِبُرَيْه: يَا بُرَيْه، كَيْفَ عِلْمُكَ بِكِتَابِكَ؟ قَالَ: أَنَا بِه عَالِمٌ. ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ ثِقَتُكَ بِتَأْوِيلِه؟ قَالَ: مَا أَوْثَقَنِي بِعِلْمِي فِيه. قَالَ: فَابْتَدَأَ أَبُو الْحَسَنِ علیه السلام يَقْرَأُ الإِنْجِيلَ. فَقَالَ بُرَيْه: إِيَّاكَ كُنْتُ أَطْلُبُ مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً أَوْ مِثْلَكَ. قَالَ: فَآمَنَ بُرَيْه وحَسُنَ إِيمَانُه وآمَنَتِ الْمَرْأَةُ الَّتِي كَانَتْ مَعَه. فَدَخَلَ هِشَامٌ وبُرَيْه والْمَرْأَةُ عَلَى أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام، فَحَكَى لَه هِشَامٌ الْكَلَامَ الَّذِي جَرَى بَيْنَ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى علیه السلام وبَيْنَ بُرَيْه، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ فَقَالَ بُرَيْه: أَنَّى لَكُمُ التَّوْرَاةُ والإِنْجِيلُ وكُتُبُ الأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ علیه السلام : هِيَ عِنْدَنَا وِرَاثَةً مِنْ عِنْدِهِمْ، نَقْرَؤُهَا كَمَا قَرَؤُوهَا،ونَقُولُهَا كَمَا قَالُوا، إِنَّ الله لَا يَجْعَلُ حُجَّةً فِي أَرْضِه يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي».(2)

لذلك ورد في روايات المستقبل أنَّ الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف بأنَّه سيجلس مع أصحاب كل الديانات وكل حسب كتابه يناظره ويناقشه، عن جابر بن يزيد الجعفي، عن الإمام الباقر علیه السلام أنَّه قال: «... فمن أطاعه فقد أطاع الله ومن عصاه فقد عصىٰ الله، فإنَّما سُمّي المهدي لأنَّه يهدي لأمر خفي، يستخرج التوراة وسائر كتب الله من غار بأنطاكية، فيحكم بين أهل التوراة بالتوراة، وبين أهل الإنجيل بالإنجيل، وبين أهل الزبور بالزبور، وبين

ص: 57


1- الكافي للكليني ج1 ص 225 بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ وَرِثُوا عِلْمَ النَّبِيِّ وجَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ والأَوْصِيَاءِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ح5.
2- الكافي للكليني ج1 ص 227 بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ علیهم السلام عِنْدَهُمْ جَمِيعُ الْكُتُبِ الَّتِي نَزَلَتْ مِنْ عِنْدِ الله عزوجل وأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا عَلَى اخْتِلَافِ أَلْسِنَتِهَا ح1.

أهل الفرقان بالفرقان...»(1).

وهذا لا يُعدّ إقرارًا لهم على دياناتهم، وإنّما هي مناقشة لعلمائهم بكتبهم في مقام البيان العلمي ليثبت لهم أنَّه الحق من كتبهم.

الخامس: كتاب علي علیه السلام

وقد تقدّم معنى هذا المصحف(2)،

وأنَّ فيه خصيصتين الأولى: أنَّه مرتب حسب النزول، والثانية: أنه كُتِب فيه تفسير القرآن الكريم الذي أخذه عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم، وهذا بحد ذاته يعتبر علمًا يستفاد منه، وصحيفة علي صلوات الله عليه التي تحوي على الأمور الفقهية.

السادس: مصحف فاطمة صلوات الله وسلامه عليها

وقد رويت فيه عدة روايات: عن أبي بصير، عن الإمام الصادق علیه السلام ، قال: «إنَّ عندنا لمصحف فاطمة علیها السلام، وما يدريهم ما مصحف فاطمة علیها السلام ؟!»، قال: قلت: وما مصحف فاطمة علیها السلام ؟ قال: «مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرّات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد»(3).

وعن حمّاد بن عثمان، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «تظهر الزنادقة في سنة ثمان وعشرين ومائة، وذلك أنّي نظرت في مصحف فاطمة علیها السلام»، قال: قلت: وما مصحف فاطمة؟ قال: «إنَّ الله تعالىٰ لمَّا قبض نبيَّه صلی الله علیه وآله وسلم دخل علىٰ فاطمة علیها السلام من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلَّا الله عزوجل، فأرسل الله إليها ملكاً يُسلّي غمّها ويُحدِّثها، فشكت ذلك إلىٰ أمير المؤمنين علیه السلام ، فقال: إذا أحسستِ بذلك وسمعتِ الصوت قولي لي، فأعلمته بذلك،

ص: 58


1- بحار الأنوار 51: 29/ ح 2، عن علل الشرائع 1: 161/ باب 129/ ح 3.
2- انظر: عقيدتنا في القرآن الكريم.
3- الكافي 1: 239/ باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة علیها السلام / ح 1.

فجعل أمير المؤمنين علیه السلام يكتب كلَّما سمع حتَّىٰ أثبت من ذلك مصحفاً»، قال: ثمّ قال: «أمَا إنَّه ليس فيه شيء من الحلال والحرام، ولكن فيه علم ما يكون»(1).

وعن الحسين بن أبي العلاء قال: «سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: عندي الجفر الأبيض. قال: قلنا: وأي شيء فيه؟ قال: فقال علیه السلام لي: زبور داود وتوراة موسى وإنجيل عيسى وصحف إبراهيم والحلال والحرام، ومصحف فاطمة، ما أزعم ان فيه قرآناً وفيه ما يحتاج الناس إلينا ولا نحتاج إلى أحد حتى أن فيه الجلدة ونصف الجلدة وثلث الجلدة وربع الجلدة وأرش الخدش..».(2)

والمصحف لغةً هو ما فيه أوراق تُتصفح، أي هي أوراق مجموعة في جلد واحد وتُتصفح، وهذا المعنى المراد من مصحف فاطمة (سلام الله عليها)، وفيما بعد انتقل لفظ (مصحف) إلى القرآن الكريم.

ويظهر من الروايات أنَ هناك مصحفين للزهراء صلوات الله وسلامه عليها، وهما:

1/مصحف العلوم الغيبية المستقبلية، وهو ما روي عن حماد بن عثمان.

2/مصحف التكاليف الشرعية، وهو ما روي عن الحسين بن أبي العلاء، فهو رسالة عملية فيها الأحكام الشرعية وعلى الأقل كتاب فقهي في الديات وأحكامها.

السابع: الجامعة

يظهر من بعض الروايات الشريفة أنَ الجامعة كتاب فيه الأحكام الشرعية التي يحتاجها المسلم، فهو شبيه بالرسالة العملية أو بأحد مصاحف فاطمة صلوات الله عليها، لكنها من إملاء رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم.

عن أبي بصير، عن الإمام الصادق علیه السلام أنَّه قال له: «يا أبا محمّد، وإنَّ عندنا الجامعة،

ص: 59


1- الكافي 1: 240/ باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة علیها السلام / ح 2.
2- بصائر الدرجات للصفار ص 170 باب الجامعة ومصحف فاطمة عليها السلام ح1.

وما يدريهم ما الجامعة؟»، قلت: جُعلت فداك، وما الجامعة؟ قال: «صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، وإملائه من فلق فيه وخطّ علي بيمينه، فيها كلّ حلال وحرام، وكلّ شيء يحتاج الناس إليه حتَّىٰ الأرش في الخدش»، وضرب بيده إليَّ فقال: «تأذن لي يا أبا محمّد؟»، قلت: جُعلت فداك، إنَّما أنا لك فاصنع ما شئت، فغمزني بيده وقال: «حتَّىٰ أرش هذا _ كأنَّه مغضب _...» الخ(1).

الثامن: الجفر

الظاهر من الروايات أنَّه العلم المشتمل علىٰ علم المنايا والبلايا، كما في رواية عن الإمام الصادق علیه السلام يتكلَّم مع أصحابه، فقال فيما قال: «... نظرت في كتاب الجفر صبيحة هذا اليوم، وهو الكتاب المشتمل علىٰ علم المنايا والبلايا والرزايا وعلم ما كان وما يكون إلىٰ يوم القيامة الذي خُصَّ به محمّداً والأئمَّة من بعده علیهم السلام ، وتأمَّلت منه مولد غائبنا وغيبته وابطاءه وطول عمره وبلوىٰ المؤمنين في ذلك الزمان وتولّد الشكوك في قلوبهم من طول غيبته وارتداد أكثرهم عن دينهم وخلعهم ربقة الإسلام من أعناقهم...»(2).

فهذه الرواية تُبيِّن معنىٰ الجفر، وتدلُّ علىٰ أنَّه من العلوم الموجودة عند الإمام علیه السلام ، وهو ما دلَّت عليه أيضاً رواية الإمام الرضا علیه السلام في علامات الإمام حيث يقول: «... عنده الجفر الأكبر والأصغر...»(3).

نعم، ورد في رواية عن الإمام الصادق علیه السلام أنَّ الجفر ليس علماً خاصَّاً، وإنَّما هو وعاءٌ فيه علوم، فهو بمثابة الخزينة أو المكتبة(4)، ففي الرواية: «وأمَّا الجفر الأحمر فوعاء

ص: 60


1- الكافي 1: 238 و239/ باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة علیها السلام/ ح 1.
2- كمال الدين: 353 و354/ باب 33/ ح 50.
3- عيون أخبار الرضا8 1: 192 و193/ ح 1.
4- جاء في تاج العروس (ج 6/ ص 205/ مادَّة جفر) ما يمكن أن يكون مشيراً إلىٰ هذا المعنىٰ، قال: والجفير: جعبة من جلود لا خشب فيها، أو من خشب لا جلود، وفي بعض الأُصول الجيّدة: لا جلد فيها، وهي من جلود مشقوقة في جنبها، يُفعَل ذلك بها ليدخلها الريح، فلا يأتكَّل الريش. وقال الأحمر: الجفير والجعبة: الكنانة. وقال الليث: الجفير شبه الكنانة إلَّا أنَّه أوسع منها، يُجعَل فيها نشاب كثير. وفي الحديث: «من اتَّخذ قوساً عربيةً وجفيرها نفىٰ الله عنه الفقر».

فيه سلاح رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، ولن يخرج حتَّىٰ يقوم قائمنا أهل البيت. وأمَّا الجفر الأبيض فوعاء فيه توراة موسىٰ وإنجيل عيسىٰ وزبور داود وكتب الله الأُولىٰ...»(1).

ولا تعارض بين المعنيين للجفر، إذ لا إشكال في وجود الجفر بكلا معنييه عندهم علیهم السلام.

التاسع: الإلهام

وقد ذكره الشيخ رحمه الله في كتابه.

روي عَنْ عَمَّارٍ السَّابَاطِيِّ قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام عَنِ الإِمَامِ يَعْلَمُ الْغَيْبَ؟ فَقَالَ علیه السلام : لَا، ولَكِنْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ الشَّيْءَ أَعْلَمَه الله ذَلِكَ».(2)

وعن الحرث بن المغيرة النضري قال: «قلت لأبي عبد الله علیه السلام : جعلت فداك، الذي يُسأل عنه الامام وليس عنده فيه شيء، من أين يعلمه؟ قال علیه السلام ينكت في القلب نكتاً، أو يُنقر في الاذن نقراً».(3)

فالإلهام قوة خاصة عند الإمام المعصوم علیه السلام، يُمكنه من خلالها أنْ يعلم ما لا يعلمه، وهي مرتبة متقدمة وعالية جدًا من الذكاء الذي إحدى مراحله الحدس -كما أشار الشيخ رحمه الله-، إذ قد يحدس الإنسان شيئًا فيقع، فإنْ تطور الحدس صار إلهامًا.

وللإمام أعلى مستويات الذكاء والإلهام بلا شك، فإذا أراد شيئًا أعلمه الله تعالى،

ص: 61


1- بحار الأنوار 26: 18/ ح 1، عن الإرشاد 2: 186، والاحتجاج 2: 134.
2- الكافي للكليني ج1 ص 257 بَابٌ نَادِرٌ فِيه ذِكْرُ الْغَيْبِ ح4.
3- بصائر الدرجات للصفار ص 336 باب (3) باب ما يفعل بالامام من النكت والقذف والنقر في قلوبهم واذنهم ح1.

فعلمه حينئذٍ ليس ذاتيًا إنّما مكتسب من الله تعالى، والإلهام مصدر علمي قوي جدًا لا يتوقف معه الإمام عند حدٍ من العلوم.

قال الشيخ رحمه الله: «...أن قوة الالهام عند الإمام التي تسمى بالقوة القدسية تبلغ الكمال في أعلى درجاته، فيكون في صفاء نفسه القدسية على استعداد لتلقي المعلومات في كل وقت وفي كل حالة، فمتى توجه إلى شئ من الأشياء وأراد معرفته استطاع علمه بتلك القوة القدسية الإلهامية بلا توقف ولا ترتيب مقدمات ولا تلقين معلم. وتنجلي في نفسه المعلومات كما تنجلي المرئيات في المرآة الصافية لا غطش فيها ولا إبهام..».

العاشر: الزيادة المستمرة للعلوم

حيث ورد في بعض الروايات الشريفة أنَّ الإمام علیه السلام في ازدياد مستمر للعلوم، منها ما روي عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام يَقُولُ: «لَوْلَا أَنَّا نَزْدَادُ لأَنْفَدْنَا. قَالَ: قُلْتُ: تَزْدَادُونَ شَيْئاً لَا يَعْلَمُه رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم؟ قَالَ: أَمَا إِنَّه إِذَا كَانَ ذَلِكَ عُرِضَ عَلَى رَسُولِ الله صلی الله علیه وآله وسلم ثُمَّ عَلَى الأَئِمَّةِ، ثُمَّ انْتَهَى الأَمْرُ إِلَيْنَا».(1)

ورب سائل يتساءل: إن كان النبي صلی الله علیه وآله وسلم قد بيّن الحلال والحرام فما مورد هذه الزيادة؟

الجواب فيما روي عن سليمان قال: «سألت أبا عبد الله علیه السلام فقلت: جعلت فداك، سمعتك وأنت تقول غير مرة لولا أنا نزاد لأنفدنا. قال: أما الحلال والحرام، فقد والله أنزله الله على نبيه بكماله ولا يزاد الامام في حلال ولا حرام. قال: فقلت: فما هذه الزيادة؟ قال: في سائر الأشياء سوى الحلال والحرام».(2)

الحادي عشر: الناموس

وهو عبارة عن كتاب فيه أسماء الشيعة كلّهم، فأهل البيت علیهم السلام يعرفون شيعتهم

ص: 62


1- الكافي للكليني ج1 ص 255 بَابُ لَوْ لَا أَنَّ الأَئِمَّةَ علیهم السلام يَزْدَادُونَ لَنَفِدَ مَا عِنْدَهُمْ ح3.
2- بصائر الدرجات للصفار ص 413 باب 9 ح 5.

بواسطته.

عن رجل من بني حنيفة، قال: كنت مع عمّي فدخل علىٰ علي بن الحسين علیهما السلام ، فرأىٰ بين يديه صحائف ينظر فيها، فقال له: أيّ شي ء هذه الصحف جُعلت فداك؟قال: «هذا ديوان شيعتنا»، قال: أفتأذن أطلب اسمي فيه؟! قال: «نعم»، فقال: فإنّي لست أقرأ و ابن أخي معي علىٰ الباب فتأذن له يدخل حتَّىٰ يقرأ؟! قال: «نعم»، فأدخلني عمّي، فنظرت في الكتاب، فأوَّل شي ء هجمت عليه اسمي، فقلت: اسمي وربّ الكعبة، قال: ويحك، فأين أنا؟ فجزت بخمسة أسماء أو ستَّة ثمّ وجدت اسم عمّي. فقال علي بن الحسين علیه السلام : «أخذ الله ميثاقهم معنا علىٰ ولايتنا لا يزيدون ولا ينقصون، إنَّ الله خلقنا من أعلىٰ علّيين وخلق شيعتنا من طينتنا أسفل من ذلك، وخلق عدوّنا من سجّين وخلق أولياءهم منهم من أسفل ذلك»(1).

وعن ابن فضّال، عن ظريف بن ناصح وغيره، عمَّن رواه، عن حبّابة الوالبية(2)، قالت: قلت لأبي عبد الله علیه السلام : إنَّ لي ابن أخ وهو يعرف فضلكم، وإنّي أُحِبُّ أن تُعلِمني أمن شيعتكم؟ قال: «و ما اسمه؟»، قالت: قلت: فلان بن فلان. قالت: فقال: «يا فلانة، هات الناموس، فجاءت بصحيفة تحملها كبيرة، فنشرها، ثمّ نظر فيها فقال: نعم هو ذا اسمه و اسم أبيه هاهنا»(3).

ص: 63


1- بحار الأنوار 26: 121 و122/ ح 11، عن بصائر الدرجات: 191/ باب ما عند الأئمَّة علیهم السلام من ديوان شيعتهم.../ ح 2.
2- عن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «إنَّ حبّابة الوالبية كان إذا وفد الناس إلىٰ معاوية وفدت هي إلىٰ الحسين8، وكانت امرأة شديدة الاجتهاد قد يبس جلدها علىٰ بطنها من العبادة...». (بصائر الدرجات: 191/ باب ما عند الأئمَّة علیهم السلام من ديوان شيعتهم.../ ح 4).
3- بحار الأنوار 26: 121/ ح 10، عن بصائر الدرجات: 190/ باب ما عند الأئمَّة علیهم السلام من ديوان شيعتهم.../ ح 1.
الثاني عشر: التوسم

التوسّم هو القدرة علىٰ تمييز النوايا والخفايا والاطّلاع عليها من خلال نظر العين، وهذه القدرة لا تكون لأيّ أحد كما هو واضح، إنَّما تكون للمؤمنين الذين وصلوا إلىٰ مراتب كمالية تُهيِّئهم لهذا المقام.

وهي كما صرحت الروايات الشريفة سيكون عند الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف. فعن الإمام الباقر علیه السلام: «كأنّي أنظر إلىٰ القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف وأصحابه في نجف الكوفة، كأنَّ علىٰ رؤوسهم الطير، قد شنت مزادهم، وخُلِقت ثيابهم، متنكّبين قسيّهم، قد أثَّر السجود بجباههم، ليوث بالنهار رهبان بالليل، كأنَّ قلوبهم زبر الحديد، يُعطىٰ الرجل منهم قوَّة أربعين رجلاً، ويعطيهم صاحبهم التوسم، لا يقتل أحد منهم إلَّا كافراً أو منافقاً، فقد وصفهم الله بالتوسّم في كتابه: ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾(1)»(2).

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام فِي قَوْلِ الله عزوجل: «﴿إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾(3) قَالَ: هُمُ الأَئِمَّةُ علیهم السلام ، قَالَ رَسُولُ اللهs: اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّه يَنْظُرُ بِنُورِ الله عزوجل».(4)

وعن معاوية الدهني عن أبي عبد الله علیه السلام في قول الله عزول ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ﴾(5). فقال علیه السلام : «يا معاوية، ما يقولون في هذا؟ قال: قلت: يزعمون أن الله تبارك وتعالى يعرف المجرمون بسيماهم يوم القيمة فيأمر بهم فيؤخذ

ص: 64


1- الحجر: 75.
2- منتخب الأنوار المضيئة: 344.
3- الحجر: 75.
4- الكافي للكليني ج1 ص 218 بَابُ أَنَّ الْمُتَوَسِّمِينَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ الله تَعَالَى فِي كِتَابِه هُمُ الأَئِمَّةُ علیهم السلام والسَّبِيلُ فِيهِمْ مُقِيمٌ ح3.
5- الرحمن 41.

بنواصيهم واقدامهم ويلقون في النار.

قال: فقال لي: وكيف يحتاج الجبار تبارك وتعالى إلى معرفة خلق أنشأهم وهو خلقهم؟!

قال: فقلت: فما ذاك، جعلت فداك؟

قال علیه السلام: ذلك لو قد قام قائمنا اعطاء الله السيما، فيأمر بالكافر فيؤخذ بنواصيهم وأقدامهم ثم يخبط بالسيف خبطاً».(1)

وبعد أن علمنا مصادر علم الأئمة علیهم السلام بشكل اجمالي، ينبغي أنْ نلتفت إلى ضرورة أن لا نطلب العلم إلا منهم علیهم السلام. وقد جاء في وصية أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه إلى كميل بن زياد: يا كميل لا تأخذ إلا عنا تكن منا.(2)

كما روي عن محمّد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر علیه السلام يقول: «ليس عند أحد من الناس حقٌّ ولا صواب، ولا أحد من الناس يقض-ي بقضاء حقٍّ إلَّا ما خرج منّا أهل البيت، وإذا تشعَّبت بهم الأُمور كان الخطأ منهم والصواب من عليٍّ علیه السلام»(3).

كما علينا أنْ نأخذ بعين الاعتبار أنَّ أعمالنا تعرض عليهم، وكل مؤمن بيده أنْ يدخل السرور على قلب الإمام أو يحزنه، في مكاتبة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف للشيخ المفيد ; يقول فيها: «فليعمل كلُّ امرئ منكم بما يقرب به من محبَّتنا، ويتجنَّب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا، فإنَّ أمرنا بغتة فجاءة حين لا تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابنا ندم علىٰ حوبة»(4).

ص: 65


1- بصائر الدرجات للصفار ص 376 باب 17 ح 8.
2- تحف العقول للحراني ص 171.
3- الكافي للكليني 1: 399/ باب أنَّه ليس شيء من الحقِّ في يد الناس إلَّا ما خرج من عند الأئمَّة علیهم السلام.../ ح 1.
4- الاحتجاج للطبرسي 2: 323 و324.

ص: 66

عقيدتنا في طاعة الأئمة

اشارة

قال الشيخ رحمه الله:

«عقديتنا في طاعة الأئمة

ونعتقد أنَّ الأئمة هم أولو الأمر الذين أمر الله عزوجل بطاعتهم، وأنّهم الشهداء على الناس، وأنّهم أبواب الله والسبل إليه والأدلاء عليه، وأنّهم عيبة علمه وتراجمة وحيه وأركان توحيده وخزان معرفته، ولذا كانوا أماناً لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء على حدِّ تعبيره صلی الله علیه وآله وسلم. وكذلك -على حدِّ قوله أيضاً- «أن مثلهم في هذه الأمة كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى»، وأنّهم حسبما جاء في الكتاب المجيد ﴿عِبَادٌ مُكْرَمُونَ* لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ وأنّهم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

بل نعتقد أنّ أمرهم أمر الله عزوجل، ونهيهم نهيه، وطاعتهم طاعته، ومعصيتهم معصيته، ووليهم وليه، وعدوهم عدوه، ولا يجوز الرد عليهم، والراد عليهم كالراد على الرسول والراد على الرسول كالراد على الله~. فيجب التسليم لهم والانقياد لأمرهم والأخذ بقولهم.

ولهذا نعتقد أنّ الأحكام الشرعية الإلهية لا تستقى إلا من نمير مائهم، ولا يصحُّ أخذها إلا منهم، ولا تفرغ ذمة المكلف بالرجوع إلى غيرهم، ولا يطمئن بينه وبين الله إلى أنه قد أدى ما عليه من التكاليف المفروضة إلا من طريقهم. أنّهم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق في هذا البحر المائج الزاخر بأمواج الشبه والضلالات،

ص: 67

والادعاءات والمنازعات.

ولا يهمنا من بحث الإمامة في هذه العصور إثبات أنّهم هم الخلفاء الشرعيون وأهل السلطة الإلهية، فإن ذلك أمر مضى في ذمة التاريخ، وليس في إثباته ما يعيد دورة الزمن من جديد أو يعيد الحقوق المسلوبة إلى أهلها. وإنّما الذي يهمنا منه ما ذكرنا من لزوم الرجوع إليهم في الأخذ بأحكام الله الشرعية، وتحصيل ما جاء به الرسول الأكرم على الوجه الصحيح الذي جاء به. وأنّ في أخذ الأحكام من الرواة والمجتهدين الذين لا يستقون من نمير مائهم ولا يستضيئون بنورهم ابتعاداً عن محجة الصواب في الدين، ولا يطمئن المكلف من فراغ ذمته من التكاليف المفروضة عليه من الله عزوجل؛ لأنّه مع فرض وجود الاختلاف في الآراء بين الطوائف والنحل فيما يتعلق بالأحكام الشرعية اختلافاً لا يرجى معه التوفيق، لا يبقى للمكلف مجال أن يتخير ويرجع إلى أي مذهب شاء ورأى اختار، بل لا بد له أن يفحص ويبحث حتى تحصل له الحجة القاطعة بينه وبين الله عزوجل على تعيين مذهبٍ خاصٍ يتيقن أنّه يتوصل به إلى أحكام الله وتفرغ به ذمته من التكاليف المفروضة، فإنّه كما يقطع بوجود أحكام مفروضة عليه يجب أنْ يقطع بفراغ ذمته منها، فإنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

والدليل القطعي دالٌ على وجوب الرجوع إلى آل البيت وأنهم المرجع الأصلي بعد النبي لأحكام الله المنزلة. وعلى الأقل قوله عليه أفضل التحيات «إنّي قد تركت فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: الثقلين، وأحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبلٌ ممدودٌ من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي. ألا وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض». وهذا الحديث اتفقت الرواية عليه من طرق أهل السنة والشيعة.

فدقِّق النظر في هذا الحديث الجليل تجد ما يقنعك ويدهشك في مبناه ومعناه، فما أبعد المرمى في قوله: «إنْ تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً» والذي تركه فينا هما الثقلان

ص: 68

معا إذ جعلهما كأمرٍ واحدٍ ولم يكتفِ بالتمسك بواحد منهما فقط، فبهما معاً لن نضل بعده أبداً.

وما أوضح المعنى في قوله: «لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» فلا يجد الهداية أبدا من فرق بينهما ولم يتمسك بهما معا. فلذلك كانوا «سفينة النجاة» و «أماناً لأهل الأرض» ومن تخلّف عنهم غرق في لُجج الضلال ولم يأمن من الهلاك. وتفسير ذلك بحبهم فقط من دون الأخذ بأقوالهم واتباع طريقهم هروب من الحق لا يلجأ إليه إلا التعصب والغفلة عن المنهج الصحيح في تفسير الكلام العربي المبين.» انتهى.

إنَّ بحث لزوم طاعة الأئمة علیهم السلام يترتب على بحث الاعتراف بإمامتهم أولًا، والطاعةُ - كما هو ثابت عقلًا - لا يمكن أن تلزم على أحدٍ إلا لسبب ومسوّغ؛ لأنَّ الأصل هو عدم لزوم طاعة الآخر، فإذا لزمت الطاعة على أحدٍ كان له الحق أنْ يسأل: لماذا لزمت؟ ما سبب لزومها؟

أسباب أو مقتضيات لزوم الطاعة

هناك عدّة مُقتضيات تقتضي على الفرد لزوم طاعته للغير عقلًا، وهي:

الأول: أنْ يكون ذلك الغير مُنعِمًا على الفرد، كما إذا كان خالقًا أو رازقًا أو كان قادرًا وذلك الفرد عاجز، فيكون لزوم الطاعة حينئذٍ نابعًا إما من لزوم شكر المُنعم، فالعقل يحكم بلزوم شكر الله عزوجل مثلًا؛ لأنه أخرج ذلك الفرد من كتم العدم إلى حيز الوجود، ورزقه بمختلف النعم، أو يكون لزوم الطاعة نابعًا من الاحتياج، كاحتياج العاجز إلى القادر، واحتياج الجاهل إلى العالم، فالنب موسى علیه السلام عندما طلب من الخضر علیه السلام أن يعلّمه، أمره الخضر بالطاعة كما في القصة التي ذكرها القرآن الكريم، ومن المناسب الإشارة إلى أنَّ النبي موسى علیه السلام كان أعلم من الخضر، وأما اتباعه إيّاه لأجل التعلم فله تخريجٌ ليس هذا محل ذكره.

ص: 69

الثاني: أنْ تكون طاعة الغير مؤدية إلى إرضاء من تجب طاعته، كما إذا علم العبد -وبصورة قطعية- أنَّ امتثاله لأوامر ابن المولى الصغير من الأمور التي تحقق رضا المولى، فالعقل حينئذٍ يجد طاعة العبد لابن المولى أمرًا حسنًا، بل ويأمره بذلك أيضًا، تحصيلاً لرضا المولى نفسه.

وقد ورد نظير هذا المقتضي في بعض الروايات الشريفة، مُلزِمًا المسلمين بطاعة أهل البيت علیهم السلام كما روي عن النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم: «إنَّ الله يرضى لرضا فاطمة»، فالعقل هنا يُلزِم المسلمين قاطبةً بطاعة السيدة فاطمة علیها السلام وإرضائها إرضاءً لله عزوجل.

الثالث: أنْ يأمر من تجب طاعته بإطاعة شخصٍ ما، كأمر الملك عبده بالذهاب مع فلان، وأن يسمع أمره كما لو أنه أمر الملك، فحينئذٍ يوجب العقل على العبد أن يطيع فلاناً طاعةً للملك، فإن لم يطِع هذا العبد فلاناً كان مُلامًا ومذمومًا عند العقلاء؛ لأنه عندما خالف فلاناً ولم يُطعه، فإنَّه في الحقيقة خالف الملك ولم يُطعهُ.

وبناءً على هذا المُقتضي وجبت طاعة الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم، في قوله عزوجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾(1)، وبما أنَّ الله عزوجل تجبُ طاعته على جميع المخلوقات، وقد أمر بإطاعة الرسول صلی الله علیه وآله وسلم، فقد وجبت طاعته على جميع المخلوقات أيضًا، فإن ادعى شخصٌ الاكتفاء بطاعته لله عزوجل دون طاعة الرسول صلی الله علیه وآله وسلم كان مُلامًا ومذمومًا بنظر العقلاء، تمامًا كالعبد الذي خالَف أمر الملك في المثال السابق، بل كان أكثر منه وأشد؛ لأنَّ وجوب طاعة العبد للملك وجوب عرضي، أيّ لأجل المملوكية الاعتبارية، لكونه ملكاً عليه، فإنْ هو تنحّى عن الملوكية أو غُصِبت منه، فلربما ينتفي لزوم طاعته على العبد، وأما طاعة الله عزوجل فهي واجبة دائمًا وأبدًا وفي كلِّ زمان ومكان بل وفي كلِّ عالمٍ من العوالم كلها. وعليه فإنَّ عدم طاعة الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم إنما هي عدم

ص: 70


1- النساء 59.

طاعة الله سبحانه و تعالی ومن ثم فهي معصية له عزوجل.

ولم يكتفِ القرآن الكريم بأمره بطاعة الرسول وأولي الأمر عزوجل في الآية المتقدمة، بل وقال أيضًا: ﴿وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ﴾(1)حيث أوجب الله عزوجل طاعة الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم على جميع المسلمين، وأمرهم بوجوب الأخذ بما يأتيهم من أوامر والانتهاء عمّا نهاهم عنه، وقد أمر الرسول الأكرمs صلی الله علیه وآله وسلم بوجوب طاعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام، فمن خالَف ذلك بعدئذٍ ولم يُطِع الإمام عليا علیه السلام فهو في حقيقة الأمر لم يُطِع الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم، ومن ثم لم يُطعِ الله عزوجل؛ لذا ورد في الحديث المشهور عن الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم: «أيها الناس، من عصى علياً فقد عصاني، ومن عصاني فقد عصى الله عزوجل، ومن أطاع علياً فقد أطاعني، ومن أطاعني فقد أطاع الله».(2)

وهذا هو معنى أن الراد عليهم كالراد على الله عزوجل وهو على حدِّ الشرك بالله عزوجل.

فقد روي عن سَعِيد الأَعْرَج قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وسُلَيْمَانُ بْنُ خَالِدٍ عَلَى أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام فَابْتَدَأَنَا فَقَالَ:«يَا سُلَيْمَانُ، مَا جَاءَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ علیه السلام يُؤْخَذُ بِه، ومَا نَهَى عَنْه يُنْتَهَى عَنْه، جَرَى لَه مِنَ الْفَضْلِ مَا جَرَى لِرَسُولِ الله صلی الله علیه وآله وسلم ولِرَسُولِ الله صلی الله علیه وآله وسلم الْفَضْلُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ خَلَقَ الله، الْمُعَيِّبُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ علیه السلام فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِه كَالْمُعَيِّبِ عَلَى الله عزوجل وعَلَى رَسُولِه صلی الله علیه وآله وسلم، والرَّادُّ عَلَيْه فِي صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ عَلَى حَدِّ الشِّرْكِ بِالله..».(3)

فإذا أُيدَت هذه المؤيدات العقلية بمؤيداتٍ وأوامر شرعية، كان اللزوم والوجوب لا مناص منه ولا مهرب، وهذا ما ندّعيه في لزوم طاعة أهل البيت علیهم السلام ، فإنَّ جميع

ص: 71


1- الحشر 7
2- معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص 373.
3- الكافي للكليني ج1 ص 197 بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ هُمْ أَرْكَانُ الأَرْضِ ح2.

مقتضيات الطاعة متوفرة فيهم علیهم السلام ولا سبيل للنجاة إلا بطاعتهم والامتثال لأوامرهم.

والخُلاصة: أنَّ طاعة أهل البيت علیهم السلام لها أسبابها العقلية والنقلية (الشرعية)، وقبل الولوج في الأدلة النقلية (الشرعية) التي توجب طاعتهم علیهم السلام، لا بُدَّ من الإشارة إلى ملاحظات مهمة.

ملاحظات مهمة

الأولى

الأولی: أن طاعة أهل البيت علیهم السلام عين في طاعة الرسول صلی الله علیه وآله وسلم

نعتقدُ أنَّ طاعة الأئمة علیهم السلام ليست في عرض طاعة الله عزوجل ورسوله صلی الله علیه وآله وسلم بل هي في طولها، ومعنى ذلك: أنَّ طاعتهم مترشحة من طاعة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ونابعة منها، كما أنَّ طاعة الرسول صلی الله علیه وآله وسلم هي الأخرى نابعة من طاعة الله عزوجل.

ومعه، فلا يصحُّ أن يُشكل علينا أحد بدعوى أننا نطيع أهل البيت علیهم السلام أكثر من طاعتنا لرسول اللهs أو أننا نقدِّم طاعتهم على طاعته؛ وذلك لأنَّ طاعتنا لأهل البيت علیهم السلام إنَّما هي في حقيقتها طاعة للرسولs؛ لأنه هو من أمرنا بطاعتهم.

فالإشكال المذكور لا صحة له ولا واقع، بل على العكس، هم من عصى الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم ولم يُطيعوه إذ لم يأتمروا بأوامره، وما تمسكهم به إلا كتمسكهم بسائر الشبهات التي يسددونها إزاء المدرسة الإمامية ظلمًا وزورًا والناتجة عن جهلهم وعدم معرفتهم بالعقيدة الحقّة لهذه المدرسة الطاهرة، وهم لا يُعذرون فيه بعد أنْ بيّنها ووضحها الأئمة علیهم السلام بأنفسهم، وأكّدوا أنَّ كل ما عندهم هو من رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم كما أكد أميرهم أمير المؤمنين علیها السلام أنّه ما هو إلا عبد من عبيد محمدٍ صلی الله علیه وآله وسلم.(1)

ص: 72


1- الكافي للكليني ج1 ص 90 بَابُ الْكَوْنِ والْمَكَانِ ح5.
الثانیة

الثانية: أنَّ معنى طاعة أهل البيت علیهم السلام تعني التالي:

1/أنَّ أخذ أحكام الإسلام وتفسير القرآن والقضاء في الأمور المتنازع عليها وكلَّ ما يتعلق بالتكاليف الشرعية سينحصر بطريقٍ واحد هو طريقهم علیهم السلام، وهذا يعني أن أخذ العلم «أي التكاليف الشرعية والحلال والحرام والتفاسير...» يجب أنْ يكون منهم لا من غيرهم، فإنَّ أخذ العلم الشرعي منهم يساوق طاعتهم علیهم السلام، والعكس بالعكس، وهذا ما أشار له الشيخ رحمه الله بعبارته: «ولهذا نعتقد أنَّ الأحكام الشرعية الإلهية لا تُستقى إلا من نمير مائهم، ولا يصح أخذها إلا منهم،ولا تفرغ ذمة المكلف بالرجوع إلى غيرهم...».

2/ويتفرع عليه: أن طاعتهم علیهم السلام تعني ترجيح وتقديم قولهم على قول غيرهم فيما لو تعارضا واختلفا، فمثلًا لو سافر شخصٌ ما وكان سفره ليس فيه معصية ولا سفر عمل ولا بنية إقامة لمدة عشرة أيام، فما حكم صلاته؟ ومن أين يستقيه؟ هل يأخذ بما تحكم به مدرسة أهل البيت علیهم السلام وهو أنْ يُقصر في صلاته، أو بما تحكم به مدارس غيرهم وهو التخيير بين القصر والتمام؟

فهنا حكمان متعارضان، والمُطيع لأهل البيت علیهم السلام لا يختار سوى أحكامهم، بل لا يُفكر بأن يعمل يومًا بأحكام سواهم ولو مجرد تفكير، ولذا فإنَّه يؤدي صلاته قصرًا، بل لا معنى للمُقايسة بين قولهم وقول غيرهم، إذ لا معنى للاجتهاد مقابل النص؛ لأن قولهم علیهم السلام إنَّما هو قول رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، وقوله صلی الله علیه وآله وسلم معصوم بنص القرآن الكريم: ﴿وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحىٰ﴾(1)

فقولهم نص شرعي، وأما قول غيرهم فلا يعدو أنْ يكون اجتهادًا شخصياً غير مستند على دليل قطعي شرعياً كان أو عقلياً، وحينئذٍ ما من عاقلٍ يجوِّز وضع كلا القولين

ص: 73


1- النجم 3 -4.

على منضدة المقايسة، وبالتالي فإنَّ قولهم دائمًا هو المُقدّم، وهذا معنى طاعتهم علیهم السلام.

الثالثة: هناك فرق بين الاعتراف النظري والاعتراف العملي بطاعة أهل البيت علیهم السلام.

فالاعتراف النظري هو مجرد الاعتقاد بأنَّ أهل البيت علیهم السلام هم خلفاء لرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ، واقتصار الاعتراف بطاعتهم على المستوى النظري لا يؤدي إلى الطاعة العملية، بدليل أنَّ من يعترف من المخالفين بأنَّ عليًا علیه السلام هو خليفة لرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم إلا أنَّه الخليفة الرابع، فهو يعتقد بإمامة أمير المؤمنين علیه السلام لكن في مقام الطاعة يُقدِّم طاعة غيره عليه علیه السلام، فيقول بسنة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وسنة الشيخين، أي لا مكان لطاعة أمير المؤمنين وسنته علیه السلام لديه أساسًا!

فالاعتراف النظري بهم علیهم السلام لا بد أن يستتبعه عمل بما يقولون ويأمرون به، أي أن تتحول الطاعة من النظرية إلى العملية، فهذا هو المنجي.

الأدلة الدالة على لزوم طاعة أهل البيت علیهم السلام

الدليل الأول: استلزام مفهوم الإمامة لوجوب الطاعة

إنَّ معنى الإمامة في حدِّ نفسه يستلزم وجوب الطاعة، فلا معنى لإمامٍ لا يُطاع، فهذا بمثابة التفرقة بين الذات والذاتي، كالتفرقة بين الإنسان والناطق؛ لأنه تقدم أنَّ معنى الإمامة هي الخلافة عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم في جميع شؤونه ووظائفه، وأنَّ الفرق بين النبي والإمام ينحصر بالوحي الرسالي، وحيث إنَّ وظائف وشؤون النبي صلی الله علیه وآله وسلم لا تتم إلا بالطاعة، فلذلك من يقوم مقام النبي (صلّى الله عليه وآله و سلم) في تلك الشؤون يجب أنْ يُطاع.

وبعبارة أخرى: حيث إنَّ تلك الوظائف لا تتم ولا تتفعل إلا إذا كان المسلمون

ص: 74

يطيعون رسول الله صلّى الله عليه وآله و سلم، كذلك من يقوم مقام النبي صلّى الله عليه وآله و سلم في تلك الوظائف لا يتم إلا بطاعة المسلمين له، وهم الأئمة علهم السلام ، قال عزوجل: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾(1)

وهذا الأمر نفسه يجري في أئمة أهل البيت علیهم السلام .

إذًا لزوم الطاعة نابع من نفس الاعتقاد بالإمامة، وإلا كان شبه التفرقة بين الذات والذاتي.

الدليل الثاني: حديث الثقلين:

وهو حديثٌ ثابت عند كلٍّ من العامة والخاصة، وبتعبير بعض العلماء أنه حديث لا يُدانيه في الثبوت حديث سوى حديث الغدير، فهو حديثٌ متواتر مُتَفَق عليه وإنْ حصل بعض التحريف في بعض الكتب العامية، حيث حرّفوه بتبديل عبارة «كتاب الله وعترتي» ب«كتاب الله وسنتي»، وقد ورد هذا الحديث بألفاظ عديدة ومعناها واحد.

فقد روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله و سلم: «إني تارك فيكم أمرين: أحدهما أطول من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض..».(2)

وأما من حيث دلالته، فإنَّه وما يُحيط به من قرائن يدلُّ على العديد من الدلالات المهمة، ومن أهم تلك القرائن التي وضّحت مُراد الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله و سلم من الحديث ما ورد في بعض الروايات بأن العلاقة بين القرآن والعترة هي كالعلاقة بين السبابتين، لا بين الوسطى والسبابة، لئلا تزيد إحداهما على الأخرى، فقد روي أنه قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وآله و سلم

ص: 75


1- النساء 65.
2- الخصال للشيخ الصدوق ص 65 ح 97. وانظر مسند أحمد بن حنبل ج3 ص 14 وسنن الترمذي ج5 ص 329 وغيرها من المصادر.

فِي آخِرِ خُطْبَتِه يَوْمَ قَبَضَه الله عزوجل إِلَيْه: «إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ، لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ الله وعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَإِنَّ اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ كَهَاتَيْنِ -وجَمَعَ بَيْنَ مُسَبِّحَتَيْه- ولَا أَقُولُ كَهَاتَيْنِ -وجَمَعَ بَيْنَ الْمُسَبِّحَةِ والْوُسْطَى- فَتَسْبِقَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى، فَتَمَسَّكُوا بِهِمَا لَا تَزِلُّوا ولَا تَضِلُّوا، ولَا تَقَدَّمُوهُمْ فَتَضِلُّوا».(1)

وهناك عدة دلالات في حديث الثقلين، نذكر منها:

الأولى: دلالته على إمامة أهل البيت علیهم السلام ، فكما أنَّ القرآن الكريم إمام الناس وطاعته لازمة عليهم، فكذلك هم أهل البيت علیهم السلام بمقتضى المساواة والإقران بينهما.

الثانية: دلالته على عصمة أهل البيت علیهم السلام ، فكما أنَّ القرآن معصومٌ ﴿وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ* لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾(2)

فكذلك الثقل الثاني الذي قُرِنَ به، وهم أهل البيت علیهم السلام.

الثالثة: دلالته على الهداية، فحيث إنَّ القرآن الكريم ﴿إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾(3)،

فكذلك من قُرِنوا به، وهم أهل البيت علیهم السلام فهم يهدون إلى الطريق الأقوم.

الرابعة: دلالته على أنَّ الهداية إنَّما تتحقق بهما معًا على نحو الكلِّ المجموعي، ونقصد بالكلِّ المجموعي أن المجموع بما هو مجموع مطلوبٌ، ولتقريب المعنى نضرب مثالًا:

لو طلبتُ منك إكرام كلّ من في الدار، وكنت أقصد بالكلِّ في قولي الكل المجموعي الاستغراقي، فالامتثال لهذا الأمر إنَّما يكون بإكرام كلّ فردٍ في الدار، فلو كان عددهم مثلا (100) فردٍ، فقد وجب إكرامهم كلهم لتكون ممتثلًا للأمر، فإنْ أكرمتَ (99) فردًا

ص: 76


1- الكافي للكليني ج2 ص 415 بَابُ أَدْنَى مَا يَكُونُ بِه الْعَبْدُ مُؤْمِناً أَوْ كَافِراً أَوْ ضَالاًّ- ح1.
2- فصلت 41 – 42
3- الإسراء 9

مثلًا، فلا يُقال عنك عندئذٍ إنّك امتثلت للأمر بنسبة (99)، بل يُقال: إنّك لم تمتثل الأمر أصلاً، وتستحق عقوبة من لم يمتثل الأمر رأساً.

وعليه، فإنَّ قوله صلّى الله عليه وآله و سلم: «ما إنْ تمسكتم بهما»، هو على نحو الكُلي المجموعي، أيّ إنَّ الهداية وعدم الضلالة تتحقق بالتمسك بهما (القرآن الكريم والعترة المُطهّرة) معًا، فبهما معًا يهتدي المُكلَّفون وينجون من الضلالة، ولن يهتديَ أبدًا من أخذ بأحدهما دون الآخر، كما لن يهتديَ أبدًا من تمسك ببعض العترة دون بعض؛ وذلك لأنَّ العترة تعني اثني عشر إمامًا، ومن لم يؤمن ولو بإمامٍ واحدٍ منهم، فهو كمن لم يؤمن بجميعهم أصلاً.

وعليه، فإنَّ من قال بالاكتفاء بكتاب الله عزوجل دون العترة فهو ضال، وهو ممن انقلب على عقبيه في قوله تعالى ﴿وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلىٰ أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُ-رَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾.(1)

وقوله ليس بكلمة حقٍ يراد بها باطل، بل هي كلمة باطلة؛ لمخالفتها كتاب الله العزيز من جهة، والسنة النبوية المطهرة من جهةٍ أخرى.

ومثل من قال بالاكتفاء بكتاب الله عزوجل في الضلالة وعدم الهداية والانقلاب على الأعقاب، من قال بالاكتفاء ببعض الأئمة دون بعض، نحو بعض الفرق الشيعية كالزيدية والواقفية مثلًا.

الخامسة: دلالته على وجوب طاعة أهل البيت علیهم السلام ؛ لأمر الله عزوجل باتباع القرآن الكريم وباتخاذه هاديًا وأنّه شفاء لما في الصدور؛ وذلك بمقتضى الاقتران بينه وبينهم علیهم السلام .

السادسة: دلالته على أنَّ الأرض لا تخلو من إمام؛ وذلك للإقران بينهما في قولهs:

ص: 77


1- آل عمران 144.

«وإنَّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»، والقرآن الكريم باقٍ دستورًا للأمة ومرجعًا لها ما بقيت الأرض، فالعترة الهادية هي الأخرى باقية ما بقيت الأرض مرجعًا وهاديًا.

كما يُثبت هذا الحديث أيضًا ضرورة وجود الإمام الثاني عشر علیه السلام في زمننا هذا؛ لأنَّ القول بعدم وجوده يلزم منه التفكيك بين القرآن الكريم والعترة الطاهرة، ويلزم من هذا تكذيب النبي صلّى الله عليه وآله و سلم إذ قال: «لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»، وحاشاه من ذلك، وحيث إنَّ النبي لا يكذب فلابُدَّ من انطباق هذا الحديث بتمام معنى الكلمة، وهذا لا يتم الا بالاعتراف بوجود الامام الثاني عشر علیه السلام، وأما مسألة إثبات أنَّه خصوص الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف دون سواه فإنها موكولةٌ إلى الأدلة النقلية المستفيضة والكثيرة التي تدل وبشكلٍ قاطع على أنَّه هوf وأنَّه المولود في الخامس عشر من شعبان... إلى آخر الأدلة النقلية التي تحدثت عنه (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء).

الدلیل الثالث: قوله عز من قائل

الدليل الثالث: قوله عز من قائل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾.(1)

وللاستدلال بهذه الآية المباركة على وجوب طاعتهم علیم السلام لابُدَّ من تقديم مقدمات:

المقدمة الأولى: كلمة (أطيعوا) فعل الأمر، جاءت بصورةٍ منفردة مع الله عزوجل، وأما مع الرسول وأولي الأمر (عليهم الصلاة والسلام) فقد جاءت بصورةٍ مشتركة لكليهما، وهذا يدلُّ على أنَّ هناك اختلافًا بين حقيقة طاعة الله عزوجل وبين طاعة (النبي الأعظم وأولي الأمر)، فطاعته عزوجل واجبةٌ بالذات على العباد؛ لأنَّه الخالق والمدبر والرازق والرب، وأما طاعة النبي وأولي الأمر فهي واجبةٌ بالعرض؛ أي لأنَّ الله عزوجل أوجبها.

وفي نفس الوقت، فإنه لا يخفى أنَّ استعمال فعل أمرٍ واحد لكلِّ من الرسول وأولي

ص: 78


1- النساء 59.

الأمر يدلُّ على وحدة الطاعة، أيّ إنَّ طاعة الرسول تتحقق بطاعة أولي الأمر، وطاعة أولي الأمر هي طاعة الرسول صلّى الله عليه وآله و سلم.

المقدمة الثانية: من هم أولوا الأمر؟

اختلف المفسرون على ثلاثة أقوال:

الرأي الأول: هم الأمراء.

الرأي الثاني: هم العلماء.

الرأي الثالث: هم صنف خاص من الأمة، وهم أهل البيت علیهم السلام.

بقطع النظر عن الروايات، وبتأملٍ قليل في معنى وجوب طاعة أولي الأمر، يُفهَم منه وجوب كونهم معصومين؛ لاستحالة أن يأمر الله عزوجل وهو الحكيم بوجوب طاعة من يمكن أن يعصي ويخطئ ويسهو، فذلك تغرير بالمعصية بلا شك.

ومنه يتضح أنَّ الرأي الثالث هو الصحيح وأنَّ أولي الأمر الواجب طاعتهم هم أهل البيت المعصومون عزوجل دون غيرهم.

تفصيل المُلازمة بين وجوب الطاعة والعصمة.

لابُدَّ أنْ يكون من تجب طاعته معصومًا، وذلك للنقاط الآتية:

أولًا: أطلق الله عزوجل وجوب طاعة أولي الأمر ولم يُقيّدها بقيد، مما يعني وجوب طاعتهم في كلِّ أوامرهم، وهذا يستلزم أنْ تخلو جميع أوامرهم من كلِّ معصية مهما صغرت، وأنْ تكون مطابقة لما يريده الله عزوجل، أي إنَّ أفعال وأقوال وتقريرات كلّ شخصٍ منهم مطابقة لما يريده الله عزوجل، وهذا هو معنى العصمة.

ويؤيد المعنى المتقدم -مُلازمة الاطلاق في الطاعة للعصمة- تقييد الله عزوجل لأمره بوجوب طاعة الوالدين مثلاً بقوله: ﴿وَإِنْ جاهَداكَ عَلىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ

ص: 79

عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً﴾(1)، فطاعة الوالدين رغم أنَّها قُرِنت بعبادة الله عزوجل: ﴿وَقَض-ىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً﴾(2)، إلا أنَّها مُقيّدة بما تقدم، على حين إنَّ طاعة أولي الأمر مطلقة ولم تقيد بأيّ قيد.

ثانيًا: تقدّم أنَّ كلمة (أطيعوا) في الآية المباركة قد وردت مرتين، مرةً أفرِدت للأمر بطاعة الله عزوجل، وأخرى كانت مشتركة، أيّ للأمر بطاعة الرسول صلّى الله عليه وآله و سلم وأولي الأمر علیهم السلام، ومُقتضى الاشتراك بأمر بالطاعة لكليهما هي وحدة الطاعة، وبما أنَّ طاعة الرسولs على نحو الإطلاق لقوله عزوجل: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَانَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾(3)لأنه صلّى الله عليه وآله و سلم معصومٌ لقوله (عزّ من قائل): ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾(4)، فكذلك هي طاعة أولي الأمر؛ لوحدة الملاك الموجب لكلٍ منهما، وهي العصمة.

كما أنَّ من الواضح جدًا أنَّ الأمراء وحتى العلماء لا تؤمَن منهم المعصية، ومثلهم في الحكم الخلفاء المسمون بالراشدين وأمراء السرايا، وعليه، فلا تصدق الآية والحال هذه إلا على المعصومين، وبالتالي علينا أنْ نرجع إلى الأدلة القطعية لنعرف من هم المعصومون ليكونوا هم أولي الأمر، وحديث الثقلين المُتقدِّم يُثبت عصمة العترة الطاهرة بالبيان المتقدم.

ونخلص من كل ذلك إلى أنَّ المقصود من أولي الأمر هم المعصومون وهم أهل البيت علیهم السلام.

ص: 80


1- لقمان 15
2- الإسراء 23
3- الحشر 7؛
4- النجم 3 -4

أولوا الأمر هم أهل البيت علیهم السلام نقلًا.

تبين بالقرائن والأدلة العقلية أنَّ أولي الأمر الذين أوجب الله~ طاعتهم لابُدَّ أنْ يكونوا معصومين، وقد تقدم إثبات عصمة أهل البيت علیهم السلام في حديث الثقلين، وبذا يكون المقصود بأولي الأمر هم أهل البيت علیهم السلام ، ولكنْ هناك طريق أقصر للوصول إلى هذه النتيجة، من خلال الروايات التي صرّحت أنَّ المقصود بأولي الأمر هم أهل البيت علیهم السلام ، منها روي عن جابر بن يزيد الجعفي أنّه قال: سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: «لما أنزل الله~ على نبيّه محمد صلّى الله عليه وآله و سلم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾(1)

قلت: يا رسول الله عرفنا الله ورسوله، فمن أولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال صلّى الله عليه وآله و سلم: هم خلفائي يا جابر، وأئمّة المسلمين [من] بعدي؛ أوّلهم علي بن أبي طالب، ثمّ الحسن والحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمّد بن علي المعروف في التوراة بالباقر، وستدركه يا جابر، فإذا لقيته فأقرئه منّي السلام، ثمّ الصادق جعفر بن محمد، ثمّ موسى بن جعفر، ثمّ علي بن موسى، ثمّ محمد بن علي، ثمّ علي بن محمد، ثمّ الحسن بن علي، ثمّ سميّي وكنيّي حجّة الله في أرضه، وبقيّته في عباده ابن الحسن بن علي، ذاك الذي يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الارض ومغاربها...»(2).

ص: 81


1- سورة النساء: 59.
2- كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق،ج 1، ص 253 باب 23 ح 3.

ص: 82

دلالات حديث السفينة

اشارة

ورد عن النبي صلّى الله عليه وآله و سلم بعِدّة ألفاظٍ كلّها تُشبِّه أهلَ بيته علیهم السلام بسفينة نوح، وأنَّ من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق، وأحد ألفاظ هذا الحديث ما ورد عنه صلّى الله عليه وآله و سلم: «يا علي مثلك في أمتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق».(1)

فما هي أوجه الشبه بين سفينة نوح علیه السلام وأهل البيت علیهم السلام؟

هناك عدة وجوه نذكر منها التالي:

1/كلتا السفينتين وُجِدَت بأمر الله عزوجل:

فكما أنَّ صنع السفينة من قبل نوح علیه السلام لم يكن من تلقاء نفسه، وإنَّما بأمرٍ ووحيٍ من الله عزوجل؛ لقوله عزوجل: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا﴾(2)و﴿فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا﴾(3)، فكذلك كانت خلافة أمير المؤمنين وأهل البيت علیهم السلام بأمرٍ من الله عزوجل في قوله (عزَّ من قائل): ﴿يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الكافِرِينَ﴾(4)

ص: 83


1- الخصال للشيخ الصدوق ص573/ أبواب السبعين. وفي لفظٍ آخر ما ورد عنه صلّى الله عليه وآله و سلم فيما رواه الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا سلام الله عليه ج1 ص30.: «مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها زج في النار».
2- هود 37
3- المؤمنون 27
4- المائدة 67

وقد اتفقت الروايات على أنَّ هذه الآية قد نزلت في يوم غدير خُم(1)،

حيث جمع الرسول صلّى الله عليه وآله و سلم الناس وقال: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه».

وما يؤيد هذا المعنى ما روي عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال: «لمّا كان رسول الله صلّى الله عليه وآله و سلم بغدير خم، فنادى في الناس فاجتمعوا، فأخذ بيد علي علیه السلام فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فشاع ذلك وطار في البلاد، فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري، فأتى رسولَ الله صلّى الله عليه وآله و سلم وهو في مَلأٍ من أصحابه، على ناقة، حتى أتى المدينة فنزل عن ناقته فأناخها وعقلها، وأتى النبي صلّى الله عليه وآله و سلم فقال: يا محمد، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصلي خمسًا فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصوم شهر رمضان فقبلنا، وأمرتنا أن نحج البيت فقبلنا، ثمَّ لم ترض بهذا حتى رفعت بضُبعي ابن عمك ففضَّلْته علينا؟ وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، وهذا شيء منك أم من الله؟

فقال صلّى الله عليه وآله و سلم: والذي لا إله إلا هو أنه من أمر الله.

فولّى الحارث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول: اللهم إنْ كان ما يقول محمدٌ حقًّا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر

ص: 84


1- وقد اتفقت الشيعة الإمامية على نزول الآية في يوم غدير خم، وافقهم على ذلك لفيف من المحدثين والمؤرخين، فقد ذكر الواقعة الطبري في تفسيره، كما رواها السيوطي في الدر المنثور عن جماعة من الحفاظ، منهم: 1 - الحافظ ابن أبي حاتم أبو محمد الحنظلي الرازي (المتوفى 327 ه). 2 - الحافظ أبو عبد الله المحاملي (المتوفى 330 ه). 3 - الحافظ أبو بكر الفارسي الشيرازي (المتوفى 407 ه). 4 - الحافظ ابن مردويه (المتوفى 716 ه). وغيرهم من أعلام الحديث والتاريخ، وقد جمع المحقق الأميني أسماء من روى نزول هذه الآية في يوم غدير خم من أصحاب السنة فبلغ 30 رجلًا. [انظر: مفاهيم القرآن للشيخ جعفر سبحاني ج10 ص 116 – 119.]

فسقط على هامته فخرج من دبره فقتله، وأنزل الله تعالى ﴿سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍQ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ﴾»(1)(2)

2/كلٌّ من النبي نوح علیه السلام والنبي محمد صلّى الله عليه وآله و سلم واجها الاستهزاء من قومهما بسبب سفينة النجاة.

فقد استهزأ قوم نوح به حتى نعتوه بالجنون، ولكنَّ ذلك لم يكن ليؤثر فيه أو يتسبب في تراجعه عن صنع سفينته، بل كان يتلذذ أيضًا؛ لعلمه ويقينه التام بأنَّ ما يفعله إنَّما هو بعين الله عزوجل، وقد قال (عزَّ من قائل): ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا﴾.(3)

وقد واجه النبي صلّى الله عليه وآله و سلم مثل هذا الأمر عندما نصَّب أمير المؤمنين عزوجل وذلك في حديث الدار، «يقول المفسرون: لما نزل قوله سبحانه: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ* وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾(4)أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله و سلم علي بن أبي طالب8 علیه السلام أن يُعدّ طعامًا ولبَنًا، فدعا خمسة وأربعين رجلًا من وجوه بني هاشم، ولما فرغوا من الطعام تكلم رسول الله صلّى الله عليه وآله و سلم فقال: إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو، إني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس عامة، والله لتموتُن كما تنامون، ولتبعثُن كما تستيقظون، ولتحاسبُن بما تعملون، وإنها الجنة أبدًا أو النار أبدًا.

ثم قال: يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم شابًا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله عزوجل أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟

ص: 85


1- المعارج 1-2.
2- روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه/ محمد تقي المجلسي (الأول) ص 245، ومناقب ابن شهر آشوب ج2 ص 240 – 241.
3- هود 37.
4- الشعراء 214 – 215.

ولما بلغ النبي صلّى الله عليه وآله و سلم إلى هذه النقطة، وبينما أمسك القوم وسكتوا عن آخرهم وأخذوا يفكرون مليًا في ما يؤول إليه هذا الأمر العظيم، وما يكتنفه من أخطار، قام علي علیه السلام فجأة، وهو آنذاك في الثالثة أو الخامسة عشرة من عمره، وقال وهو يخترق بكلماته الشجاعة جدار الصمت والذهول: أنا يا رسول الله أكون وزيرك على ما بعثك الله.

فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله و سلم: اجلس، ثم كرّر دعوته ثانية وثالثة وفي كل مرة يُحجم القوم عن تلبية دعوته، ويقوم عليٌّ ويعلن عن استعداده لمؤازرة النبي صلّى الله عليه وآله و سلم، ويأمره رسول الله صلّى الله عليه وآله و سلم بالجلوس، حتى إذا كانت المرة الثالثة أخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله و سلم بيده والتفت إلى الحاضرين من عشيرته الأقربين، وقال: إن هذا أخي، ووصيي، وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا.

فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع وجعله عليك أميرًا.

هذا موجز ما ذكره المفسرِّون والمحدِّثون حول الآية، وفي صحاحهم ومسانيدهم».(1)

لذلك شجّع الله عزوجل رسوله الأكرم صلّى الله عليه وآله و سلم في آية التبليغ إذْ قال: ﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾.(2)

3/لم يقتنع كلٌّ من قوم النبي نوح علیه السلام وقوم النبي محمدصلّى الله عليه وآله و سلم بما أمرهم الله به في أمر سفينتهما.

فأما عدم قناعة قوم النبي نوح علیه السلام فكما في قوله عزوجل: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ

ص: 86


1- انظر: مفاهيم القرآن للشيخ جعفر سبحاني ج 10 ص 109 – 110، نقل هذه الحادثة عن: تاريخ الطبري: 2/ 62 - 63، الكامل في التاريخ: 2/ 40 - 41، مسند أحمد: 1/ 111، شرح نهج البلاغة: 13/ 210 - 211.
2- المائدة 67.

مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ﴾.(1)

واما قوم النبي محمد صلّى الله عليه وآله و سلم فتتجلى عدم قناعتهم وسخريتهم بأمر تنصيب الإمام علي علیه السلام في حديث الدار المذكور آنفًا.

4/انحصار النجاة بالسفينتين فقط، كل منهما في زمنها.

فقد حدثنا القرآن الكريم عن أنَّ الحل الوحيد في النجاة من الهلاك كان منحصرًا في السفينة التي صنعها نوح علیه السلام، ولم يكن حتى لمثل الجبل أن يُجدي في النجاة!

قال عزوجل: ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ* قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾(2)

فكان مصير كل من تخلّف عنها الهلاك بما فيهم ابنه!

والأمر مشابهٌ لذلك تمامًا بالنسبة إلى أهل البيت علیهم السلام، إذْ هم الحل الوحيد للخلاص من الضلالة والهلاك الدنيوي ومن ثم الآخروي، فقد روي عن الإمام الرضا علیه السلام أنَّه قال: رسول الله صلّى الله عليه وآله و سلم: ستكون بعدي فتنة مظلمة، الناجي منها من تمسك بالعروة الوثقى، فقيل: يا رسول الله وما العروة الوثقى؟ قال: ولاية سيد الوصيين، قيل: ومن سيد الوصيين؟ قال: أمير المؤمنين، قيل: يا رسول الله ومن أمير المؤمنين؟ قال: مولى المسلمين وإمامهم بعدي، قيل: يا رسول الله من مولى المسلمين وإمامهم بعدك؟ قال: أخي علي بن أبي طالب».(3)

وعن عبد الرحمن بن سمرة، قال: قلت: يا رسول الله، أرشدني إلى النجاة، فقال: «يا

ص: 87


1- هود 38
2- هود 42 – 43
3- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج26 ص 20.

ابن سمرة، إذا اختلفت الأهواء، وتفرقت الآراء، فعليك بعلي بن أبي طالب، فإنه إمام أمتي، وخليفتي عليهم من بعدي، وهو الفاروق الذي يميز بين الحق والباطل، من سأله أجابه، ومن استرشده أرشده، ومن طلب الحق من عنده وجده، ومن التمس الهدى لديه صادفه، ومن لجأ إليه آمنه، ومن استمسك به نجاه، ومن اقتدى به هداه».(1)

5/الكلُّ محتاج إلى السفينتين، كل في زمنها.

ولا غرو في ذلك طالما كانت كل من السفينتين المنجى الوحيد لمن عاصر زمنها من المكلفين، ففي زمن النبي نوح علیه السلام كان هو فقط وفقط السفينة، اذ كان الكلُّ محتاجًا اليها لتُنجيه من الغرق، وكذلك أهل البيت علیهم السلام كان ولازال الكلُّ محتاجًا إليهم، إذْ لم يستغنِ عنهم أحدٌ أبداً، فكم من مرةٍ قال عمر بن الخطاب: «لولا علي لهلك عمر»(2)،

وقال عنه عثمان «لولا علي لهلك عثمان»(3) وقال عنه عمر «لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن»(4)...

ص: 88


1- أمالي الشيخ الصدوق ص 78 ح 45/ 3.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج12 ص 179 وغيره من المصادر.
3- الغدير للشيخ الأميني ج8 ص 214 قال: أخرج الحافظ العاصمي في كتابه (زين الفتى في شرح سورة هل أتى) من طريق شيخه أبي بكر محمد بن إسحاق بن محمشاد يرفعه: أن رجلا أتى عثمان بن عفان وهو أمير المؤمنين وبيده جمجمة إنسان ميت فقال: إنكم تزعمون النار يعرض على هذا و إنه يعذب في القبر وأنا قد وضعت عليها يدي فلا أحس منها حرارة النار. فسكت عنه عثمان وأرسل إلى علي بن أبي طالب المرتضى يستحضره، فلما أتاه وهو في ملأ من أصحابه قال للرجل: أعد المسألة. فأعادها، ثم قال عثمان بن عفان: أجب الرجل عنها يا أبا الحسن! فقال علي: ايتوني بزند وحجر. والرجل السائل والناس ينظرون إليه فأتي بهما فأخذهما وقدح منهما النار، ثم قال للرجل: ضع يدك على الحجر. فوضعها عليه ثم قال: ضع يدك على الزند. فوضعها عليه فقال: هل أحسست منهما حرارة النار فبهت الرجل فقال عثمان: لولا علي لهلك عثمان.
4- في أنساب الأشراف للبلاذري ج2 ص 100 ح 29 - حدثني إسحاق بن الحسين، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، عن مؤمل ابن إسماعيل عن سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: قال عمر: لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو حسن.

وهو أمرٌ ثابت، وعلى من يشكك فيه مراجعة كتب العامة، كما أنَّ أبا بكر عندما استولى على الخلافة كان أول أقواله: لست بخيركم.(1)

وعندما سئلَ عن الكلالة، قال: أقول فيها برأيي فإنْ اصبتُ فمن الله وإنْ أخطأتُ فمن نفسي ومن الشيطان.(2)

وأما أمير المؤمنين علیه السلام فقد كان يقول: «أَيُّهَا النَّاسُ، سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَلأَنَا بِطُرُقِ السَّمَاءِ أَعْلَمُ مِنِّي بِطُرُقِ الأَرْضِ».(3)

وقد كان الكلُّ محتاجًا إليهم علیهم السلام، والروايات في هذا المجال كثيرة، فقد روي أنَّ عبد الملك بن مروان واجه مشكلة بينه وبين ملك الروم حول طباعة شعار الكفر (الاب والابن وروح القدس) على العملة النقدية المتداولة في الدولة الإسلامية والتي كانت تُسك في بلاد الروم، فأراد عبد الملك أنْ يُغيّر الشعار ورفض ملك الروم ذلك، وضرب حصارًا اقتصاديًا على البلاد الإسلامية، فوقع حينها عبد الملك في حيرةٍ كبيرة، لم يُخرجه منها إلا الإمام الباقر علیه السلام بناءً على اقتراح أحد وزرائه، فبعث إلى الإمام الباقر

ص: 89


1- في كنز العمال للمتقي الهندي ج5 ص 631 ح (14112) عن عيسى بن عطية قال: قام أبو بكر الغد حين بويع فخطب الناس فقال: يا أيها الناس إني قد أقتلكم رأيكم إني لست بخيركم فبايعوا خيركم.
2- في الإرشاد للشيخ المفيد ج1 ص 201: وسئل أبو بكر عن الكلالة فقال: أقول فيها برأيي، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان. فبلغ ذلك أمير المؤمنين علیه السلام فقال: ما أغناه عن الرأي في هذا المكان! أما علم أن الكلالة هم الإخوة والأخوات من قبل الأب والأم، ومن قبل الأب على انفراده، ومن قبل الأم أيضا على حدتها، قال الله عز قائلا: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ﴾. وقال جلت عظمته: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾.
3- نهج البلاغة ج2 ص 130.

يترجاه ويتوسل إليه بأنَّ أمَّة النبي صلی الله علیه وآله وسلم في خطر، عندها علّمهم الإمام الباقر علیه السلام كيفية سكِّ النقود وبأوزانٍ خاصة، وطبعوا عليها سورة التوحيد من جهة والشهادتين من الجهة الثانية.(1)

ص: 90


1- في حياة الحيوان للدميري ج1 ص 95 – 97: قال الكسائي: دخلت على الرشيد ذات يوم، وهو في ديوانه، وبين يديه مال كثير، قد شق عنه البدر شقا. وأمر بتفريقه في خدمه الخاصة، وبيده درهم تلوح كتابته، وهو يتأمله وكان كثيرا ما يحدثني، فقال: هل علمت أول من سن هذه الكتابة في الذهب والفضة؟ قلت: يا سيدي هو عبد الملك بن مروان. قال: فما كان السبب في ذلك؟ قلت: لا علم لي، غير أنه أوّل من أحدث هذه الكتابة. فقال: سأخبرك كانت القراطيس للروم وكان أكثر من بمصر نصرانيا على دين ملك الروم، وكانت تطرز بالرومية، وكان طرازها أبا وابنا وروحا، فلم يزل ذلك كذلك صدر الإسلام كله، يمضي على ما كان عليه، إلى أن مَلَكَ عبد الملك بن مروان، فتنبه له، وكان فطنا فبينما هو ذات يوم، إذ مر به قرطاس، فنظر إلى طرازه، فأمر أن يترجم بالعربية، ففعل ذلك فأنكره، وقال: ما أغلظ هذا في أمر الدين والإسلام، أن يكون طراز القراطيس، وهي تحمل في الأواني والثياب، وهما يعملان بمصر وغير ذلك مما يطرز من ستور وغيرها من عمل هذا البلد، على سعته وكثرة ماله، والبلد يخرج منه هذه القراطيس تدور في الآفاق والبلاد، وقد طرزت بسطر مثبت عليها، فأمر بالكتاب إلى عبد العزيز ابن مروان، وكان عامله بمصر، بإبطال ذلك الطراز على ما كان يطرز به من ثوب وقرطاس وستر وغير ذلك، وأن يأمر صناع القراطيس، أن يطرزوها بصورة التوحيد: شهد الله أن لا إله إلا هو، وهذا طراز القراطيس خاصة، إلى هذا الوقت، لم ينقص ولم يزد ولم يتغير، وكتب إلى عمال الآفاق جميعا بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم، ومعاقبة من وجد عنده بعد هذا النهي شيء منها بالضرب الوجيع، والحبس الطويل. فلما ثبتت القراطيس بالطراز المحدث بالتوحيد، وحمل إلى بلاد الروم منها انتشر خبرها ووصل إلى ملكهم وترجم له ذلك الطراز، فأنكره وغلظ عليه واستشاط غيظا، فكتب إلى عبد الملك: أن عمل القراطيس بمصر وسائر ما يطرز هناك للروم، ولم يزل يطرز بطراز الروم، إلى أن أبطلته فإن كان من تقدمك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت، وإن كنت قد أصبت فقد أخطأوا، فاختر من هاتين الحالتين أيهما شئت وأحببت، وقد بعثت إليك بهدية تشبه محلك، وأحببت أن تجعل رد ذلك الطراز إلى ما كان عليه، في جميع ما كان يطرز من أصناف الأعلاق، حاجة أشكرك عليها، وتأمر بقبض الهدية، وكانت عظيمة القدر. فلما قرأ عبد الملك كتابه، رد الرسول وأعلمه أنه لا جواب له، ورد الهدية فانصرف بها إلى صاحبه، فلما وافاه أضعف الهدية ورد الرسول إلى عبد الملك، وقال: إني ظننتك استقللت الهدية فلم تقبلها ولم تجبني عن كتابي، فأضعفت الهدية وإني أرغب إليك إلى مثل ما رغبت فيه، من رد الطراز إلى ما كان عليه أولا. فقرأ عبد الملك الكتاب، ولم يجبه ورد الهدية فكتب إليه ملك الروم يقتضي أجوبة كتبه ويقول: إنك قد استخففت بجوابي وهديتي ولم تسعفني بحاجتي، فتوهمتك استقللت الهدية، فأضعفتها فجريت على سبيلك الأول، وقد أضعفتها ثالثة وأنا أحلف بالمسيح، لتأمرن برد الطراز إلى ما كان عليه، أو لأمرن بنقش الدنانير والدراهم، فإنك تعلم أنه لا ينقش شيء منها إلا ما ينقش في بلادي، ولم تكن الدراهم والدنانير نقشت في الإسلام، فينقش عليها شتم نبيك فإذا قرأته أرفض جبينك عرقا فأحب أن تقبل هديتي، وترد الطراز إلى ما كان عليه، ويكون فعل ذلك هدية تودني بها، ونبقى على الحال بيني وبينك. فلما قرأ عبد الملك الكتاب، صعب عليه الأمر وغلظ، وضاقت به الأرض، وقال: أحسبني أشأم مولود ولد في الإسلام، لأني جنيت على رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم من شتم هذا الكافر ما يبقى غابر الدهر، ولا يمكن محوه من جميع مملكة العرب، إذا كانت المعاملات تدور بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم، فجمع أهل الإسلام واستشارهم، فلم يجد عند أحد منهم رأيا يعمل به، فقال له روح بن زنباع: إنك لتعلم المخرج من هذا الأمر ولكنك تتعمد تركه، فقال: ويحك من؟ فقال: عليك بالباقر من أهل بيت النبي صلی الله علیه وآله وسلم! قال: صدقت، ولكنه ارتج علي الرأي فيه فكتب إلى عامله بالمدينة أن أشخص إلى محمد بن علي بن الحسين مكرما ومتعه بمائة ألف درهم لجهازه، وبثلاثمائة ألف لنفقته، وارح عليه في جهازه وجهاز من يخرج معه، من أصحابه، وحبس الرسول قبله إلى موافاة محمد بن علي فلما وافاه، أخبره الخبر، فقال له محمد رحمه الله تعالى: لا يعظم هذا عليك، فإنه ليس بشيء من جهتين: إحداهما أن الله~، لم يكن ليطلق ما تهدد به صاحب الروم، في رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، والأخرى وجود الحيلة فيه. قال: وما هي؟ قال: تدعو في هذه الساعة بصناع، فيضربون بين يديك سككا للدراهم والدنانير، وتجعل النقش عليها صورة التوحيد، وذكر رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، أحدهما في وجه الدرهم والدينار، والآخر في الوجه الثاني، وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه، والسنة التي يضرب فيها تلك الدراهم والدنانير، وتعمد إلى وزن ثلاثين درهما عددا من الأصناف الثلاثة، التي العشرة منها وزن عشرة مثاقيل، وعشرة منها وزن ستة مثاقيل، وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل، فتكون أوزانها جميعا إحدى وعشرين مثقالا، فتجزئها من الثلاثين، فتصير العدة من الجميع وزن سبعة مثاقيل، وتصب صنجات من قوارير لا تستحيل إلى زيادة ولا نقصان، فتضرب الدراهم على وزن عشرة، والدنانير على وزن سبعة مثاقيل. وكانت الدراهم، في ذلك الوقت، إنما هي الكسروية [نسبة إلى كسرى ملك الفرس]، التي يقال لها اليوم البغلية، لأن رأس البغل ضربها لعمر رضي الله تعالى عنه، بسكة كسروية في الإسلام مكتوب عليها صورة الملك وتحت الكرسي مكتوب بالفارسية «نوش خور» أي كل هنيئا. وكان وزن الدرهم منها، قبل الإسلام، مثقالا والدراهم التي كان وزن العشرة منها وزن ستة مثاقيل، والعشرة وزن خمسة مثاقيل، هي السمرية والخفاف والثقال، ونقشها نقش فارس ففعل ذلك عبد الملك، وأمره محمد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه أن يكتب السكك في جميع بلدان الإسلام، وأن يتقدم إلى الناس في التعامل بها. وأن يتهدد بقتل من يتعامل بغير هذه السكة من الدراهم والدنانير وغيرها، وأن تبطل وترد إلى مواضع العمل، حتى تعاد إلى السكك الإسلامية ففعل عبد الملك ذلك. ورد رسول ملك الروم إليه بذلك بقوله: إن الله عزوجل مانعك مما قد أردت أن تفعله، وقد تقدمت إلى عمالي في أقطار البلاد بكذا وكذا، وبإبطال السكك والطروز الرومية. فقيل لملك الروم إفعل ما كنت تهددت به ملك العرب، فقال: إنما أردت أن أغيظه بما كتبت إليه لأني كنت قادرا عليه، والمال وغيره برسوم الروم، فأما الأن فلا أفعل، لأن ذلك لا يتعامل به أهل الإسلام، وامتنع من الذي قال. وثبت ما أشار به محمد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه إلى اليوم. وقد علق المرحوم السيد جعفر مرتضى العاملي رحمه الله على هذه الرواية في مقال له بعنوان (ضرب النقود في الإٍسلام) بقوله ما نصه: إن هذه الرواية تقول: إن الإمام الباقر علیه السلام هو الذي أمر عبد الملك بذلك. و إن روح بن زنباغ إنما أشار على عبد الملك به.. و هذا غير معقول؛ لأن البعض يقول: إن عبد الملك قد ضرب النقود سنة 74ﻫ [فتوح البلدان - للبلاذري: قسم 3 ص 574 و 575، و التراتيب الإدارية: ج1 ص421، و العقد المنير: ج1 ص49.]، والبعض الآخر يقول: إنه ضربها في سنة 75ﻫ [مآثر الانافة: ج 3 ص 345، و تاريخ الخلفاء: ص 218، و البحر الزخار: ج 3 ص 50 عن التخليص عن ابن سعد في الطبقات، و التراتيب: ج 1 ص 417 و 421 عن الطبقات، وعن المدائني.]، وفريق ثالث يرى أن ذلك كان في سنة 76ﻫ، و قال البلاذري: «عبد الملك بن مروان أول من ضرب الذهب و الورق بعد عام الجماعة» [فتوح البلدان - للبلاذري القسم الثالث: ص576.]، وعلى كل حال فإنهم متفقون على أن ضرب عبد الملك للنقود كان ما بين ال-74و77 وعليه فإننا إذا ما أضفنا إلى ذلك: أن ولادة الباقر علیه السلام كانت في سنة 57ﻫ. و وفاة والده زين العابدين علیه السلام كانت سنة 94ﻫ. فإننا سنرى: أن عُمْرَ الباقر حين ضرب النقود كان ما بين 17 و 19 سنة ؛ فهو في مقتبل عمره؛ و لم يكن له بعد من الشهرة ما يغطي على شهرة أبيه، و لا من الشخصية ما يضارع شخصيته، و لا كان ذكره قد سار في الآفاق بحيث يغطي على أبيه، إلى حد أن يهمل أمره، و تذهب منزلته لا سيما و أن أباه كان يتمتع باحترام كبير جداً، و شهرة واسعة، فاقت كل ذلك الذي منحه الناس و بالأخص الأمويون لأي من أبنائه، بل و حتى آبائه الطاهرين. فالظاهر: أن صاحب هذه القضية مع عبد الملك هو الإمام زين العابدين بالذات، و ليس هو الإمام الباقر علیه السلام. قال الصعدي: «قال في الانتصار: و أول من ضرب الدراهم في الإسلام عبد الملك بن مروان سنة خمس و سبعين من الهجرة، و كان السبب في ذلك: أن القرطاس كان يحمل إلى الروم، و كان يكتب على عنوانه: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم. فشق ذلك على صاحب الروم لما كان كافراً ؛ فكتب إلى عبد الملك: أما أن تزيلوا ما تكتبون على القرطاس، أو يأتيكم على الدراهم ما تكرهون. فتحير عبد الملك في الجواب ؛ فاستحضر علي بن الحسين زين العابدين ؛ فاستشاره في ذلك. فقال: حَرِّم التبايع إلا بما تضربه من الدراهم، فبطل بذلك كيد صاحب الروم. فأمر أن يكتب عليها ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ إلى آخر السورة غيظاً للروم» انتهى، و في الشفاء نحو حديث الدراهم [راجع: جواهر الأخبار و الآثار - المطبوع بهامش البحر الزخار: ج3 ص150.] و قد صرح بذلك الشهيد رحمه الله في البيان، في باب زكاة النقدين، حيث قال: «و الدنانير في الدينار بزنة المثقال، و هو لم يختلف في الإسلام و لا قبله، و في الدرهم: ما استقر عليه في زمن بني أمية بإشارة زين العابدين الخ..» [البيان: ط هجرية ص185.].و حكى في الوسائل ذلك عنه في الذكرى. كما أن صاحب الجواهر قد صرح في كتاب الزكاة، في مسألة أن عشرة دراهم سبعة مثاقيل: بأن ذلك كان بإشارة زين العابدين علیه السلام. و قال ابن كثير وهو يتحدث عن السجاد: «و قد استقدمه عبد الملك بن مروان مرة أخرى إلى دمشق، فاستشاره في جواب ملك الروم عن بعض ما كتب إليه في أمر السكة، و طراز القراطيس».[ البداية و النهاية: ج9 ص104]. و يؤيد ذلك: ان في بعض نسخ المحاسن و المساوئ قوله: «الباقي من أهل بيت النبي». بدل: الباقر من... الخ.. و قوله: إلى موافاته علياً؛ فلما وافاه أخبره الخبر ؛ فقال له علي الخ.. بدل قوله: موافاة محمد بن علي.. و فقال له محمد بن علي الخ. [العقد المنير: ج1 ص72/73.].. لكن باقي ما في الرواية بقى على حاله. و بعد كل الذي قدمناه نقول: إن كون زين العابدين علیه السلام هو المشير على عبد الملك هو الحق الذي لا محيص عنه.

ص: 91

ص: 92

وفي زمن الإمام الهادي علیه السلام ادعت امرأة أنَّها زينب بنت علي علیهما السلام، فاضطر المتوكل أنْ يبعث إلى الإمام الهادي علیه السلام، فحلَّ الإمام علیه السلام بقولٍ مختصر: إن كنتِ فعلًا زينب ابنة أمير المؤمنين فإنَّ لحوم بني فاطمة علیها السلام مُحرّمة على السباع، فسمع المتوكل ذلك وكان يتحين الفرص لقتل الامام الهادي علیه السلام، وكان عنده سباع فجوّعها، وطلب من الإمام الهادي علیه السلام أن ينزل أولًا، فنزل الإمام، وإذا بالأسود جاءت وسجدت عند الإمام

ص: 93

الهادي علیه السلام، وعند ذلك رأت المرأة ما رأت قالت: يا بن رسول الله أنا أتوب على يديك فأنا امرأة محتاجة...(1)

ص: 94


1- في الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي ج1 ص 406 روي أن أبا هاشم الجعفري قال: ظهرت في أيام المتوكل امرأة تدعي أنها زينب بنت فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فقال لها المتوكل: أنت امرأة شابة وقد مضى من وقت وفاة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ما مضى من السنين. فقالت: إن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم مسح على رأسي وسأل الله أن يرد علي شبابي في كل أربعين سنة، ولم أظهر للناس إلى هذه الغاية، فلحقتني الحاجة فصرت إليهم. فدعا المتوكل كل مشايخ آل أبي طالب، وولد العباس وقريش فعرفهم حالها. فروى جماعة وفاة زينب [بنت فاطمة علیها السلام] في سنة كذا، فقال لها: ما تقولين في هذه الرواية؟ فقالت: كذب وزور، فإن أمري كان مستورا عن الناس، فلم يعرف لي حياة ولا موت. فقال لهم المتوكل: هل عندكم حجة على هذه المرأة غير هذه الرواية؟ قالوا: لا. قال: أنا برئ من العباس إن [لا] أنزلها عما ادعت إلا بحجة [تلزمها]. قالوا: فأحضر [علي بن محمد] ابن الرضا - علیه السلام فلعل عنده شيئا من الحجة غير ما عندنا. فبعث إليه فحضر فأخبره المرأة. فقال: كذبت فإن زينب توفيت في سنة كذا في شهر كذا في يوم كذا. قال: فإن هؤلاء قد رووا مثل هذه الرواية وقد حلفت أن لا أنزلها عما ادعت إلا بحجة تلزمها. قال: ولا عليك فههنا حجة تلزمها وتلزم غيرها. قال: وما هي؟ قال: لحوم ولد فاطمة محرمة على السباع، فأنزلها إلى السباع فإن كانت من ولد فاطمة فلا تضرها [السباع]. فقال لها: ما تقولين؟ قالت: إنه يريد قتلي. قال: فههنا جماعة من ولد الحسن والحسين علیهما السلام فأنزل من شئت منهم. قال: فوالله لقد تغيرت وجوه الجميع. فقال بعض المتعصبين: هو يحيل على غيره، لم لا يكون هو؟ فمال المتوكل إلى ذلك رجاء أن يذهب من غير أن يكون له في أمره صنع. فقال: يا أبا الحسن لم لا يكون أنت ذلك؟ قال: ذاك إليك. قال: فافعل! قال: أفعل [إن شاء الله]. فأتى بسلم وفتح عن السباع وكانت ستة من الأسد. فنزل [الامام] أبو الحسن علیه السلام إليها، فلما دخل وجلس صارت [الأسود] إليه، ورمت بأنفسها بين يديه، ومدت بأيديها، ووضعت رؤوسها بين يديه. فجعل يمسح على رأس كل واحد منها بيده، ثم يشير له بيده إلى الاعتزال فيعتزل ناحية، حتى اعتزلت كلها وقامت بإزائه. فقال له الوزير: ما كان هذا صوابا، فبادر بإخراجه من هناك، قبل أن ينتشر خبره. فقال له: أبا الحسن ما أردنا بك سوءا وإنما أردنا أن نكون على يقين مما قلت، فأحب أن تصعد. فقام وصار إلى السلم وهي حوله تتمسح بثيابه. فلما وضع رجله على أول درجة التفت إليها وأشار بيده أن ترجع. فرجعت وصعد فقال: كل من زعم أنه من ولد فاطمة فليجلس في ذلك المجلس. فقال لها المتوكل: انزلي. قالت: الله الله ادعيت الباطل، وأنا بنت فلان حملني الضر على ما قلت. فقال [المتوكل]: ألقوها إلى السباع، فبعثت والدته واستوهبتها منه وأحسنت إليها.
6/كلتا السفينتين آوت كلَّ من لجأ إليها وأنجته من الهلاك.

وقد قصَّ الله عزوجل قصة سفينة نوح علیه السلام حيث آوت كل من لجأ اليها ولم تترك أحدًا ممن آمن بقائدها وبرسالته ليغرق ويموت في الدنيا أو يحترق بنار جهنم في الآخرة، قال عزوجل: ﴿حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ* وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ* وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ* قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾(1)

وهكذا هم أهل البيت علیهم السلام فقد كانوا ولازالوا يُمثلون الإسلام الحقيقي الذي بولايتهم كمُلَ، فإن تكلّمنا عن أهل البيت فإنَّما نكون قد تكلّمنا عن الإسلام، فهم كانوا النعمة السابغة التي عمّت الجميع، وكانوا يسيرون على هدى رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم الذي قال فيه القرآن الكريم: ﴿وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾(2)

وفي آيةٍ أخرى ﴿وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾(3)

لذا كان أهل البيت علیهم السلام رحمةً عامةً للعالمين، فتجدهم يحاولون أنْ يهدوا كل من لجأ إليهم، سواء كان جاهلًا أو عالمًا أو يدّعي الإسلام أو يهوديًا أو نصرانيًا بل وحتى إنْ كان زنديقًا ومُلحدًا.

ص: 95


1- هود 40 – 43.
2- سبأ 28.
3- الأنبياء 107.
7/وحدة القيادة في كلٍ من السفينين.

فكما كان القائد الوحيد للسفينة هو النبي نوح علیه السلام وكل شيءٍ في السفينة يرجع إليه، كان القائد لأهل البيت علیهم السلام هو الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم وهم بلسانهم كانوا يصرحون بأنَّ كلَّ ما عندهم هو من عند رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم.

فقد روي عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ وحَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ وغَيْرِه، قَالُوا: سَمِعْنَا أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام يَقُولُ: «حَدِيثِي حَدِيثُ أَبِي، وحَدِيثُ أَبِي حَدِيثُ جَدِّي، وحَدِيثُ جَدِّي حَدِيثُ الْحُسَيْنِ علیه السلام، وحَدِيثُ الْحُسَيْنِ حَدِيثُ الْحَسَنِ علیه السلام، وحَدِيثُ الْحَسَنِ حَدِيثُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ علیه السلام وحَدِيثُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ حَدِيثُ رَسُولِ الله صلی الله علیه وآله وسلم، وحَدِيثُ رَسُولِ الله صلی الله علیه وآله وسلم قَوْلُ الله عزوجل.(1)

وعن جابر قال: قال أبو جعفر علیه السلام: «يا جابر، لو كنا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنا من الهالكين، ولكنا نفتيهم بآثار من رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وأصول علم عندنا، نتوارثها كابراً عن كابر، نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم».(2)

8/كلتا السفينتين كانت فاتحة عهدٍ جديد.

فأما سفينة نوح علیه السلام فقد أبقت المؤمنين فقط على وجه البسيطة، حتى كُنيَ نوحٌ علیه السلام ب(الأبِ الثاني للبشر)، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك قائلًا: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ﴾.(3)

وكذلك هم أهل البيت علیهم السلام فقد فتحوا عهدًا جديدًا؛ وذلك من جهاتٍ عديدة:

الجهة الأولى: فتحوا عهدًا جديدًا في الخلافة؛ إذْ لم يكن خليفةً فيما سبق إلا وهو

ص: 96


1- الكافي للكليني ج1 ص 53 بَابُ رِوَايَةِ الْكُتُبِ والْحَدِيثِ وفَضْلِ الْكِتَابَةِ والتَّمَسُّكِ بِالْكُتُبِ ح14.
2- بصائر الدرجات للصفار ص 320 باب 14 ح 4.
3- الإسراء 3

نبي، وأما الأئمة علیهم السلام فليسوا بأنبياء؛ لأنَّ النبوّة خُتِمت بالرسول الخاتم صلی الله علیه وآله وسلم.

الجهة الثانية: كانت سفينة نجاة الأمة الإسلامية (أهل البيت علیهم السلام) فاتحة عهدٍ جديد؛ لأنها أكملت الدين الإسلامي، حيث لم تنزل آية إكمال الدين وإتمام النعمة إلا بعد تبليغ الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم المسلمين بولاية أمير المؤمنين علیه السلام في غدير خُمٍ.

الجهة الثالثة: كانت إمامة أهل البيت علیهم السلام هي الخاتمة لجميع الخلافات والوصايات لجميع الأنبياء، فإنَّ الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف هو خاتم الأوصياء.

9/لم يركب السفينتين إلا خلفاء الأرض، كلٌ في زمنه.

فقد صرَّح القرآن الكريم بأنَّ الذين ركبوا سفينة نوح هم كانوا خلفاء الأرض، يقول عزوجل: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ﴾(1)وكذلك

القرآن الكريم يؤكد أنَّ خلفاء أهل الأرض هم أهل البيت علیهم السلام ومن تبعهم، إذْ قال: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ﴾.(2)

وقد روي عن أمير المؤمنين علیه السلام في تفسيرها: هم آل محمد صلی الله علیه وآله وسلم، يبعث الله مهديهم بعد جهدهم فيعزهم ويذل عدوهم.(3)

فكما أنَّ من ركب سفينة نوح علیه السلام ورث الأرض، فكذلك من ركب سفينة أهل البيت علیهم السلام سيرث الأرض ولو بعد حين.

10/قلة من ركب كلًّا من السفينتين.

يُصرِّح القرآن الكريم بأنَّ الذين آمنوا بنوحٍ علیه السلام كانوا قليلاً، قال تعالى: ﴿ما آمَنَ

ص: 97


1- يونس 73.
2- القصص 5.
3- الغيبة للطوسي ص 184 ح 143.

مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ (1)، وهم ثمانية(2)،

وروي أنَّهم ثمانون في أكثر الاحتمالات(3).

وكذلك الذين يؤمنون بأهل البيت (سلام الله عليهم) فإنَّ نسبتهم إلى المسلمين عمومًا لا تصل حتى إلى الربع، وهي نسبة ضئيلة، بل حتى من يدّعون التشيّع أنفسهم، كم منهم اتبع أهل البيت علیهم السلام حقًا؟!

فعَنْ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: «سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ علیه السلام يَقُولُ: لَيْسَ كُلُّ مَنْ قَالَ بِوَلَايَتِنَا مُؤْمِناً، ولَكِنْ جُعِلُوا أُنْساً لِلْمُؤْمِنِينَ».(4)

وعن أمير المؤمنين علیه السلام : «ولم يخل أرضه من عالم بما يحتاج إليه الخليقة، ومتعلم على سبيل النجاة، أولئك هم الأقلون عدداً، وقد بين الله ذلك في أمم الأنبياء وجعلهم مثلا لمن تأخر، مثل قوله في قوم نوح علیه السلام: و﴿ما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾(5)».(6)

11/الارتباط بكلٍّ من سفينتي النجاة ارتباط عقائدي لا نَسَبي.

فكما أنَّ النجاة انحصرت بمن ارتبط بسفينة نوحٍ علیه السلام ارتباطًا عقائديًا لا نسبيًا، يشهد على ذلك هلاك ابن نوح علیه السلام في قوله عزوجل: ﴿وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ* قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ* قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ﴾.(7)

ص: 98


1- هود: 40.
2- عن حمران، عن أبي جعفر علیه السلام في قول الله عزوجل: ﴿وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾، قال: «كانوا ثمانية». (معاني الأخبار للصدوق: 151/ باب معنىٰ القليل/ ح 1).
3- راجع: تفسير مجمع البيان للطبرسي 5: 279.
4- الكافي للكليني ج2 ص 244 بَابٌ فِي قِلَّةِ عَدَدِ الْمُؤْمِنِينَ ح7.
5- هود: 40
6- الاحتجاج للطبرسي ج1 ص 368.
7- هود 45 – 47

فكذلك الارتباط بأهل البيت علیهم السلام لابُدَّ أن يكون عقائديًا لا نسبيًا، وإنْ كُنا نقدس أولاد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ونُجلهم، لكن دخول الجنة ليست له علاقة بارتباط النسب، الإمام زين العابدين علیه السلام يقول لطاووس اليماني: «هيهاتَ هيهاتَ يا طاووس، دع عنّي حديث أبي وأُمّي وجدّي، خلق الله الجنَّة لمن أطاعه وأحسن ولو كان حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيِّداً قرشياً، أمَا سمعت قوله تعالىٰ: ﴿فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ﴾(1)؟

والله لا ينفعك غداً إلَّا تقدمة تُقدِّمها من عمل صالح»(2).

ص: 99


1- المؤمنون 101.
2- في مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3/ ص 291 و292): عن طاووس الفقيه، قال: رأيت الإمام زين العابدين علیه السلام يطوف من العشاء إلىٰ السحر ويتعبَّد، فلمَّا لم يرَ أحداً رمق السماء بطرفه وقال: «إلهي غارت نجوم سماواتك، وهجعت عيون أنامك، وأبوابك مفتَّحات للسائلين، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدّي محمّد في عرصات القيامة»، ثمّ بكىٰ، وقال: «وعزَّتك وجلالك، ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاكٌّ، ولا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك متعرِّض، ولكن سوَّلت لي نفسي وأعانني علىٰ ذلك سترُك المرخىٰ به عليَّ، فأنا الآن من عذابك من يستنقذني، وبحبل من اعتصم إنْ قطعت حبلك عنّي، فوا سوأتاه غداً من الوقوف بين يديك إذا قيل للمخفِّين: جوزوا، وللمثقلين: حطُّوا، أمع المخفِّين أجوز أم مع المثقلين أحطُّ؟ ويلي كلَّما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب، أمَا آنَ لي أنْ أستحي من ربّي؟»، ثمّ بكىٰ، ثم أنشأ يقول: أتحرقني بالنار يا غاية المنىٰ *** فأين رجائي ثمّ أين محبَّتي أتيتُ بأعمالٍ قباح رديَّة *** وما في الورىٰ خلقٌ جنىٰ كجنايتي ثمّ بكىٰ وقال: «سبحانك تُعصىٰ كأنَّك لا ترىٰ، وتحلمُ كأنَّك لم تُعْصَ، تتودَّد إلىٰ خلقك بحسن الصنيع كأنَّ بك الحاجة إليهم، وأنت يا سيِّدي الغنيُّ عنهم». ثمّ خرَّ إلىٰ الأرض ساجداً، فدنوت منه وشلتُ رأسه ووضعته علىٰ ركبتي وبكيت حتَّىٰ جرت دموعي علىٰ خدِّه، فاستوىٰ جالساً وقال: «من ذا الذي أشغلني عن ذكر ربّي؟!». فقلت: أنا طاووس يا ابن رسول الله ما هذا الجزع والفزع؟ ونحن يلزمنا أنْ نفعل مثل هذا ونحن عاصون جافون! أبوك الحسين بن عليٍّ، وأُمُّك فاطمة الزهراء، وجدُّك رسول الله. فالتفت إليَّ وقال: «هيهاتَ هيهاتَ يا طاووس، دع عنّي حديث أبي وأُمّي وجدّي، خلق الله الجنَّة لمن أطاعه وأحسن ولو كان حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيِّداً قرشياً، أمَا سمعت قوله تعالىٰ: ﴿فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ﴾ [المؤمنون: 101]، والله لا ينفعك غداً إلَّا تقدمة تُقدِّمها من عمل صالح».

12/ركوب كلٍّ من السفينتين لا يعصم من الذنوب.

لم يُعصم من الذنب والخطأ أو من دخول جهنم كلُّ من ركب سفينة نوح علیه السلام بمجرد ركوبه السفينة، وبعبارة منطقية: ركوب السفينة لم يكن علةً تامة لدخول الجنة والعصمة من الخطأ، بل كان مقتضيًا لدخول الجنة مع لزوم رفع الموانع.

وكذلك من آمن بأهل البيت علیهم السلام لا يكفيهم مجرد ادعاء مودتهم ومحبتهم، بل لا بد من طاعتهم، روي أنه قال رجل للحسن بن علي علیهما السلام: يا بن رسول الله أنا من شيعتكم. فقال الحسن بن علي علیهما السلام: «يا عبد الله، إن كنت لنا في أوامرنا وزواجرنا مطيعاً فقد صدقت، وإن كنت بخلاف ذلك فلا تزد في ذنوبك بدعواك مرتبة شريفة لست من أهلها! لا تقل: أنا من شيعتكم، ولكن قل: أنا من مواليكم ومحبيكم، ومعادي أعدائكم، وأنت في خير، وإلى خير».(1)

إن حديث السفينة يلزمنا بطاعة أهل البيت علیهم السلام ، لذلك روي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام أنَّه قال: «امتحنوا شيعتنا عند ثلاث: عند مواقيت الصلاة كيف محافظتهم عليها، وعند أسرارهم كيف حفظُهم لها عند عدوِّنا، وإلى أموالهم كيف مواساتهم لإخوانهم فيها»(2).

وعن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «ما كان في شيعتنا فلا يكون فيهم ثلاثة أشياء: لا يكون فيهم من يسأل بكفِّه، ولا يكون فيهم بخيل، ولا يكون فيهم من يُؤتىٰ في دُبُره».(3)

ص: 100


1- التفسير المنسوب للإمام العسكري8 ص 308 – 309 ح 153.
2- الخصال للشيخ الصدوق (ص 103/ ح 62).
3- الخصال للشيخ الصدوق: ص 131.

دلالات حديث النجوم

اشارة

وردت الكثير من الروايات التي شبّه فيها الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم -كما شبّه الائمة من بعده علیهم السلام- أهل البيت علیهم السلام بنجوم السماء في كونهم أمانًا لأهل الأرض كما أنَّ النجوم أمانٌ لأهل السماء. وقد اختلفت ألفاظ بعضها ولكن المعنى واحد، ومن تلك الروايات:

ما روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أنَّ النجوم أمانٌ لأهل السماء».(1)

وروي عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم: «النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهبتِ النجوم أتى أهل السماء ما يكرهون، وإذا ذهب أهل بيتي أتى أهل الأرض ما يكرهون».(2)

وروي عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «إنَّ النجوم في السماء أمان من الغرق، وإنَّ أهل بيتي أمان لأمتي من الضلالة في أديانهم لا يهلكون فيها مادام فيهم من يتبعون هديه وسنته».(3)

وروي عن الإمام علي علیه السلام : «ألا إنَّ مثل آل محمدٍ صلی الله علیه وآله وسلم كمثل نجوم السماء إذا خوى (غاب) نجمٌ طلع نجم».(4)

ص: 101


1- ينابيع المودة ج1 ص72.
2- علل الشرائع للشيخ الصدوق ج1 ص123و124.
3- التفسير المنسوب للإمام العسكري علیه السلام ص546.
4- نهج البلاغة لأمير المؤمنين علیه السلام ج1 ص194.
دلالات حديث النجوم
اشارة

على الرغم من قصر تراكيب حديث النجوم وقلة ألفاظه إلا أنَّه يحمل من الدلالات المهمة ما يحمل، وبيانه بالتالي:

أولًا: دلالة فوائد النجوم:
اشارة

للنجوم فوائد عديدة ذكرها القرآن الكريم في آياته المباركة أبرزها:

1/الهداية.

كما في قوله عز وجل: ﴿وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾.(1)

فقد كانت النجوم وسيلة مهمة لهداية الناس فيما مضى إلى الاتجاهات، حيث لم تكن الآلات الحديثة والخرائط البحرية متوفرة، فكانوا يهتدون من خلال النجوم، لاسيما أولئك الذين يسافرون عبر البحار أو الصحاري، إذ كان بعضها يُشير إلى بعض الاتجاهات، فالدب القطبي دائمًا يُشير إلى جهة الشمال، فإن كان خلف الشخص علم أنَّه متجه نحو الجنوب، والعكس بالعكس، وبذا يستطيع أيضًا أنْ يعرف المشرق والمغرب؛ لذلك عبّرت بعض الأحاديث أنَّ النجوم أمانٌ للناس من الغرق، وقد بلغ اعتمادهم على النجوم في الاهتداء إلى السبيل الصحيح درجةً أنْ يتوقفوا عن الإبحار عندما تكون السماء ملبدةً بالغيوم؛ لأنهم من دونها لا يعرفون المقصد الذي يبغون إليه.

وتشبيه أهل البيت علیهم السلام بالنجوم يُشير إلى هذه الحقيقة، وهي عدم إمكان اهتداء الناس إلى الحق من دون التمسك بهم وبنهجهم علیهم السلام ، لاسيما في فتن الدنيا وكثرة السبل المتفرقة، حيث يكونون بأمس الحاجة إلى علامة توصلهم إلى الصراط المستقيم، والى الله عزوجل.

ص: 102


1- النحل 16

فكما أنَّ الناس يهتدون بالنجوم للوصول إلى الهدف، كذلك الناس يهتدون بأهل البيت علیهم السلام للوصول إلى الهدف؛ لذلك روي عن دَاوُد الْجَصَّاص قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام يَقُولُ: ﴿وعَلاماتٍ وبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ قَالَ: «النَّجْمُ رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم والْعَلَامَاتُ هُمُ الأَئِمَّةُ%».(1)

وعَنِ الْوَشَّاءِ قَالَ: سَأَلْتُ الرِّضَا8 عَنْ قَوْلِ الله تَعَالَى: ﴿وعَلاماتٍ وبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ قَالَ: نَحْنُ الْعَلَامَاتُ، والنَّجْمُ رَسُولُ اللهs.(2)

وعن أمير المؤمنين علیه السلام قال: ﴿بِنَا اهْتَدَيْتُمْ فِي الظَّلْمَاءِ وَتَسَنَّمْتُمْ ذُرْوَةَ الْعَلْيَاءِ﴾.(3)

وقد أشار الله تعالى في ايات عديدة عن فوائد النجوم منها قوله عز من قائل: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾.(4)

2/المنع من الضلال.

يصرح القرآن الكريم بأنَّ مهمة بعض النجوم هو رجم الشياطين، فهي رجومٌ للشياطين، فإذا أراد شيطانٌ ما أنْ يطّلع على ما في السماء من غيبٍ، فهناك نجومٌ ترصدُ تحركاته وتمنعه من الوصول إلى ذلك، قال عزوجل: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ* وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ* لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ* دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ* إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ﴾.(5)

إننا وإن لم نصل إلى فهم معنى وكيفية رصد النجوم للشياطين ودحرهم، ولكن

ص: 103


1- الكافي للكليني ج1 ص 206 بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ علیهم السلام هُمُ الْعَلَامَاتُ الَّتِي ذَكَرَهَا الله عزوجل فِي كِتَابِه ح1.
2- الكافي للكليني ج1 ص 207 بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ% هُمُ الْعَلَامَاتُ الَّتِي ذَكَرَهَا الله~ فِي كِتَابِه ح3.
3- نهج البلاغة ج1 ص 38.
4- الأنعام 97.
5- الصافات 6 – 10.

علينا التسليم والأخذ به ولو تعبدًا، لنصّ القرآن الكريم على ذلك، فالنجوم تمثل مانعًا من توسع خط الضلالة، وهم الشياطين، وبذا يشبه أهل البيت% النجوم؛ إذ إنَّهم% يُمثِّلون المانع الأقوى ضد حزب الشيطان وحزب الضلالة، فمن أراد أنْ يعرف المخرج من الفتن والشبهات فعليه أنْ يتمسك بأهل البيت%.

ثانيًا: دلالة دوام البقاء ما بقيت الدنيا.

فكما أنَّ الله عزوجل قد قضى بوجود النجوم ما دامت السماء، أي قضى باستمرار وجودها إلى يوم القيامة؛ لأنها الأمان لأهل السماء، فإن انعدم وجودها هلكوا، فكذلك قد قضى أنْ يستمر وجود أهل البيت علیهم السلام إلى يوم القيامة أماناً لأهل الأرض، فإن رُفِعوا منها ولو قليلًا من الزمن ساخت الأرض بأهلها، وهذا معنى ما روي متواتراً:لولا الإمام لساخت الأرض.

وهذا يدل على ضرورة وجود الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف في لحظة استشهاد الإمام العسكري علیه السلام وحتى يومنا هذا وإلى أن يأذن الله تعالى له بالظهور.

ثالثًا: دلالة دوام الهداية.

قد تقدّم أنَّ الله عزوجل قد قضى بوجود النجوم أمانًا لأهل السماء، ومعلومٌ أنَّ وجودها لا ينفك عن هدايتها لبني البشر إلى سبيل الصواب دائمًا وأبدًا، وكذلك هم أهل البيت علیهم السلام فإنَّ وجودهم لا ينفك عن هدايتهم لهم، إذ إنَّ هدايتهم للإنسان ليست بالمنقطعة أو المؤقتة بوقتٍ محدود، بل مستمرة إلى يوم القيامة، وفي أيةِ لحظةٍ تنتفي فإنَّ الناس يضلون، وهذا دليلٌ واضحٌ على عدم إمكانية غصب إمامتهم وإن تمكن الظالمون من غصب بعض شؤونها ظاهرًا وهي الخلافة السياسية فقط. فهم الأئمة المفروضة طاعتهم على الأمة دائمًا وأبدًا، فإن نُحيّت عنهم الخلافة السياسية فذلك لأنَّ الأمة لم تطعهم ولم تقم بالواجب عليهم في ذلك، لا لأنهم علیهم السلام فقدوا الإمامة أو غصبت

ص: 104

عنهم؛ لأن الإمامة منصبٌ إلهي لا يمكن غصبه كالنبوة تمامًا.

رابعًا: دلالة عصمة الهداية.

فالنجوم حيث إنَّها ثابتة في السماء فإنّها تهدي من يرجع إليها إلى سبيل الصواب دائمًا وأبدًا، ولا تخدعه يومًا أو توقعه في الخطأ ولو ساعةً ما؛ لأنَّ عصمتها تكوينية، فالله عزوجل هو الذي جعلها وفق نظام ثابت خاص وهو نظام معصوم، وكذلك هي هداية أهل البيت علیهم السلام معصومة لا يعتريها خطأ ولا يجوز عليها البتة، والحديث موضوع البحث، حيثُ إنه شبههم بالنجوم، فهو أحد الأدلة -أو على الأقل المنبهات- التي تثبت عصمتهم علیهم السلام. وتوجد غيره الكثير من الأدلة العقلية والنقلية بشقيها الآيات المباركة والروايات الشريفة.

خامسًا: دلالة التعاقب:

من الواضح جدًا أنَّ النجوم تتعاقب في البزوغ، أي تبزغ في السماء ثم تأفل، لكن كُلّما يأفل نجمٌ يبزغ نجمٌ آخر، وتشبيه أهل البيت علیهم السلام بالنجوم له نفس المعنى حيثُ إنه كُلّما غابَ إمامٌ ظهرَ امامٌ آخر، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين عیه السلام في نهج البلاغة حيث قال: «أَلَا إِنَّ مَثَلَ آلِ مُحَمَّدٍ صلی الله علیه وآله وسلم كَمَثَلِ نُجُومِ السَّمَاءِ، إِذَا خَوَى نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ».(1)

سادسًا: دلالة عدم أو مانعية الخلو.

ونقصد بها أنه كما أنَّ النجوم لا تخلو منها السماء ولو لجزء من الثانية، إذ إنَّها موجودةٌ حتى في النهار -وإن لم نتمكن من رؤيتها- فضلًا عن الليل، فكذلك هم الائمة علیهم السلام لا تخلو منهم الأرض ولو لجزء من الثانية، وهذا يشير إلى ضرورة أن يكون الإمام المهدي عجل الله تعاعلی فرجه الشریف مولودًا وموجودًا واقعًا، وإنْ لم يظهر للناس في غيبته حتى يأذن الله

ص: 105


1- نهج البلاغة ج1 ص 194.

في الوقت المناسب.

ومن الجدير بالذكر قول البعض بإمكانية رؤية النجوم نهارًا إذا ما نظر الناظر في البئر، فإنَّ ذلك مُشابهٌ لما يُقال من أنَّ رؤية الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وإن كانت غير متاحة للجميع إلا أنَّها تتاح عند توفر شروطٍ خاصة.

سابعًا: دلالة مجهولية الحقيقة.

في كثيرٍ من الأحيان لا يُمكننا أنْ ندرك غور النجوم حتى مع التلسكوبات الحديثة، حيث إنَّها تصل إلى غور السماء إلى حدٍ معين من السنوات الضوئية وإنْ بلغت المليون أو أكثر لكنها تقف عند حدٍّ معين لا يُمكننا معرفة حقيقة وغور النجوم بعده، وكذلك هي حقيقة أهل البيت (سلام الله عليهم) مجهولةٌ عندنا، فلا يستطيع أحدٌ أنْ يُدركها، بل إنَّ أحاديثهم لا يُمكن لنا إدراكها تمام الإدراك، فكيف بحقيقتهم؟!

روي عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ علیه السلام: «قَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم: إِنَّ حَدِيثَ آلِ مُحَمَّدٍ صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ، لَا يُؤْمِنُ بِه إِلَّا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أَوْ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ أَوْ عَبْدٌ امْتَحَنَ الله قَلْبَه لِلإِيمَانِ».(1)

وفي حديث الإمام الرضا علیه السلام: «إن في أخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن، ومحكَماً كمحكم القرآن، فردوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها؛ فتضلوا».(2)

وأما حقيقتهم فمن بابٍ أولى لأنها مما لا يمكن إدراكه، ومن ذلك ما روي عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم: «يا علي، ما عرف الله إلا أنا وأنت، وما عرفني إلا الله وأنت، وما عرفك إلا

ص: 106


1- الكافي للكليني ج1 ص 410 بَابٌ فِيمَا جَاءَ أَنَّ حَدِيثَهُمْ صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ ح1.
2- عيون أخبار الرضا8 للشيخ الصدوق ج1 ص 261 ح39.

الله وأنا».(1)

كما روي عن أبي عبد الله علیه السلام أنه قال: «﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ الليلة فاطمة، والقدر الله تعالى، فمن عرف فاطمة حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر، وإما سميت فاطمة لأن الخلق فطموا عن معرفتها...»(2)

فما نعرفه نحن عن أهل البيت علیهم السلام مجرد خطوطٍ عامة وشعاعٍ يصلنا من نورهم، أما حقيقتهم فهي مجهولة بالنسبة لنا.

ثامنًا: دلالة عدم التعارض.

فكما لا تصادم بين النجوم في السماء، بل ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾(3)، فكذلك هم أهل البيت علیهم السلام لا تصادم بينهم وبين أحاديثهم، لذلك كان هناك بحثٌ طويل ومهم في علم الأصول يحلُّ مسألة التعارض الظاهري بين الأدلة؛ إذ لا يمكن أنْ يكون تعارض حقيقي بين أقوالهم علیهم السلام ؛ فهم كالقرآن لا ينقض بعضه بعضًا، قال عزوجل : ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾.(4)

بل ورد في أحاديث الأئمة علیهم السلام أمرٌ بردِّ الحديث إلى أهله فيما إذا جاء عنهم علیهم السلام حديث ولم يُعرف معناه او حلُّه، ومن ذلك ما روي عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ علیه السلام: «قَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم: إِنَّ حَدِيثَ آلِ مُحَمَّدٍ صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ، لَا يُؤْمِنُ بِه إِلَّا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أَوْ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، أَوْ عَبْدٌ امْتَحَنَ الله قَلْبَه لِلإِيمَانِ، فَمَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَدِيثِ آلِ مُحَمَّدٍ صلی الله علیه وآله وسلم فَلَانَتْ لَه قُلُوبُكُمْ وعَرَفْتُمُوه فَاقْبَلُوه، ومَا اشْمَأَزَّتْ مِنْه قُلُوبُكُمْ وأَنْكَرْتُمُوه فَرُدُّوه إِلَى الله

ص: 107


1- مختصر بصائر الدرجات للشيخ الحلي ص 125.
2- تفسير فرات الكوفي ص 581 ح 747/ 2.
3- الأنبياء 33
4- النساء 82

وإِلَى الرَّسُولِ وإِلَى الْعَالِمِ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وإِنَّمَا الْهَالِكُ أَنْ يُحَدِّثَ أَحَدُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْه لَا يَحْتَمِلُه، فَيَقُولَ: والله، مَا كَانَ هَذَا، والله مَا كَانَ هَذَا، والإِنْكَارُ هُوَ الْكُفْرُ».(1)

ولذا فإن علماءنا في بعض الأحيان عندما يصلون إلى رواياتٍ صحيحة ولكن لا يجدون مخرجاً لها، فإنهم يقولون: هذا الحديث لا نُنكره ولكن نردُّ علمه إلى أهله، فإذا أدركنا الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف فإنَّه سيبين لنا ما اختلف فيه.

تاسعًا: دلالة وحدة المحور.

من المعلوم أنَّ كلَّ مجموعةٍ نجمية ترجع إلى محورٍ واحد، فمجموعتنا الشمسية مثلًا تدور حول الشمس، وكذلك هم أهل البيت علیهم السلام فإنَّهم يدورون حول محورٍ واحدٍ وهو الرسول الأعظم (صلوات الله وسلامه عليه وآله)، كما تقدم في رواية داود الجصاص.

عاشرًا: الدلالة على قدرة الله تعالى وحكمته.

أقسم الله عزوجل بالنجوم، وذكر أنّه قسمٌ عظيم؛ وذلك لأنَّ ثبات مواقع النجوم رغم دوران الأرض حول نفسها، ودوران الأرض حول الشمس، والنسق الدقيق في ذلك، هو أمرٌ تتجلى فيه عظمة قدرة الله عزوجل وحكمته غير المتناهيتين، وتشبيه أهل البيت علیهم السلام بالنجوم يُشير أيضًا إلى هذا المعنى، فإنَّ الله (سبحانه وتعالى) عندما اختارهم علیهم السلام ليكونوا خلفاء للرسول صلی الله علیه وآله وسلم، فإنَّه اختارهم بقدرته وحكمته غير المتناهيتين؛ لِما علِمَ أنْ ليس هناك من هو مؤهل ليكون خليفةً عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم إلا هم علیهم السلام، وقضى بإمامتهم، فلا بد أنْ يرضخ له كلُّ بني البشر لذلك، فليس أمام هذا الجعل الإلهي إلا التسليم.

ص: 108


1- الكافي للكليني ج1 ص 410 بَابٌ فِيمَا جَاءَ أَنَّ حَدِيثَهُمْ صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ ح1.
أحد عشر: دلالة عدم التصادم بين الوظائف.

فكلُّ نجمٍ من النجوم يدور في مسارٍ ثابت ليؤدي وظيفته الخاصة، فالشمس تجري لمستقر لها لتؤدي وظيفتها الخاصة، وكذلك القمر يسير في مساره الخاص ليؤدي وظيفته الخاصة، وهكذا بقية النجوم، فكلٌّ له دوره الخاص الذي يُكمِّل دور النجم الآخر ولا يعارضه، فالشمس تضيئ في النهار، ليأتي دور القمر ليلًا، من دون أيّ تعارضٍ بينهما، فكما لا تصادم في المسارات بين النجوم، ولا تصادم في وظائفها، وكذلك أهل البيت علیهم السلام، فأمير المؤمنين علیه السلام جلس ما يقارب خمسًا وعشرين سنةً في بيته؛ لأن وظيفته كانت الجلوس، وعندما صارت وظيفته الحكم الظاهري قام بها، كما قام بكل ما يترتب عليها من مهام، فقاتل على التأويل كلًّا من الناكثين والقاسطين والمارقين، وأما الإمام الحسن علیه السلام فقد كانت وظيفته أنْ يُهادن، والإمام الحسين علیه السلام كانت وظيفته أنْ يقاتل.

إنَّ لكلٍ منهم علیهم السلام الخصائص ذاتها، فكلٍ منهم ثائر وكلٍ منهم مُطالب بالإصلاح، وكلٍ منهم كاظم وهكذا، وعليه فلو كان الإمام الحسن في موضع الإمام الحسين علیه السلام لقاتل، فأدوارهم شتى والهدف واحدٌ، بحيث إن كلّ دورٍ من الأدوار يكون مكمّلاً للدور الآخر، فصلح الإمام الحسن علیه السلام هو الذي مهّد لثورة الإمام الحسين علیه السلام، وثورة الإمام الحسين علیه السلام هي التي مهّدت لظهور الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، وعليه فهناك علاقة بين الإصلاح الحسيني وتحقيق العدل المهدوي، فنتيجة الإصلاح هو العدل الذي لم يتحقق في ثورة الإمام الحسين علیه السلام حيث وقف الناس موانع. وللسيد الشهيد محمد باقر الصدر رحمه الله كتابٌ مهمٌ يوضح هذه المسألة بعنوان (تنوع أدوار ووحدة هدف).

إشارة: في مناقشة حديث: أصحابي كالنجوم.

ورد في بعض أحاديث العامة أنَّهم رووا عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم أنَّه قال: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم.

ص: 109

واستدلوا به على ضرورة تقديس كلِّ صحابةِ النبي صلی الله علیه وآله وسلم، وعدم جواز تخطئة أحدٍ منهم، أو القول بمجانبته للصواب، فما مدى صحة هذا الحديث؟

الجواب:

بدايةً وبضميمة ما كان يقوم به بعض الرواة من وضع الروايات على لسان النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم لقاء ملذات دنيا رخيصة يلعقونها من يد حاكمٍ تتصبب يداه من دماء الأبرياء، فإنَّ من الواضح جدًا أنَّ هذا الحديث إنّما وُضِعَ ليثبت كرامةً لمن لا يستحق، إزاء كرامةٍ أثبتها من لا ينطق عن الهوى، لمن هو يستحق وبكلِّ جدارة، أيّ ليقابل الحديث الثابت عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم في تشبيهه لأهل بيته علیهم السلام بالنجوم، وقد تكررت بصمات الجريمة ذاتها في حديث «أبو بكر وعمر سيدا شيوخ أهل الجنة»، إزاء حديث مروي عن الصادق الأمين صلی الله علیه وآله وسلم: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة»؛ بدليل اقتضاء حكمة اللهعزوجل أنْ يقوم نظام الجنة -إن صحَّ التعبير- على اقتصار أهلها على الشباب فقط، وانعدام وجود الشيوخ فيها.

وأما بالنسبة إلى الجواب، فإنَّ هذا الحديث من المحال نسبته إلى الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم؛ للأسباب التالية:

أولًا: لمعارضته الحديث الصحيح الوارد عن الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم عند كتب الفريقين، فقد روي عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم في صحيح البخاري أنَّه قال: «ألا وإنه يُجاء برجالٍ من أمّتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا ربي أصحابي، فيُقال إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾(1)، فيُقال: إنَّ هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ

ص: 110


1- المائدة 117

فارقتهم».(1)

ثانيًا: لاستلزامه عصمة جميع أصحابه صلی الله علیه وآله وسلم، حيث إنَّ لفظ: «بأيّهم اقتديتم اهتديتم» لا تعني إلا أن التمسك بأيٍّ منهم موصلٌ إلى الجنة، على حين أنَّ التاريخ المحرف فضلًا عن الصحيح قد روى قصص اختلافهم إلى حدِّ التقاتل! فكلٌّ من معاوية الذي يعدونه صحابيًا وأمير المؤمنين الإمام علي علیه السلام قد دخلا في حربٍ طحنت الكثير من النفوس وسفكت فيها الكثير من الدماء، فكيف يمكن أن يكون كلاهما على حقٍ وصوابٍ ويهديان إلى الجنة؟!

بل كيف يمكن للمسلم أن يتمسك بكليهما وهما على طرفي نقيض! فطريقَ من يسلك وبمن يقتدي؟! فما هذا إلا جمع بين متضادين، بل كيف يكون كلاهما على سرر متقابلة في الفردوس وأحدهما قد قاتل بل قتل الآخر!

وقد أخبر النبي صلی الله علیه وآله وسلم صراحةً ببغي فئةٍ من المسلمين من بعده، بقوله صلی الله علیه وآله وسلم: «يا عمار تقتلك الفئة الباغية»(2)، وقد تحقق قتل عمار (رضوان الله عليه) على يد جيش معاوية، فبعد التصريح ببغي معاوية كيف يُعقل أنْ يُقتدى به ويهتدى به إلى الجنة؟!

ثم كيف نؤدي عباداتنا وصلواتنا؟ هل نتكتف أو نُسبل؟ لا سيما أنَّ مذهبًا يقول بوجوبه وآخر يقول ببطلان الصلاة به!

لكلِّ ما تقدّم لا يُمكن نسبة هذا الحديث إلى الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم.

ثالثًا: الحديث المروي حتى وإن كان حقًا قد صدر من الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم، فإنّه لا يمكن الاحتجاج به على عدالة جميع الصحابة؛ وذلك لأنَّه ليس بمطلقٍ، إذ لا بد من تقييده بمن لم يغير ولم يبدل، كما روي عن الإمام الرضا علیه السلام أنه سُئِل عن قول النبي صلی الله علیه وآله وسلم:

ص: 111


1- البخاري/ج5/ص191- 192.
2- دعائم الإسلام للقاضي المغربي ج1 ص 392.

«أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»، وعن قوله علیه السلام: دعوا لي أصحابي».

فقال علیه السلام: «هذا صحيح، يريد من لم يُغيّر بعده ولم يبدّل».

قيل: وكيف يعلم أنهم قد غيروا أو بدلوا؟

قال: لما يرْوونه من أنه صلی الله علیه وآله وسلم قال: «ليذادن برجال من أصحابي يوم القيامة عن حوضي كما تذاد غرائب الإبل عن الماء فأقول: يا رب أصحابي، أصحابي فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك؟ فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: بعداً وسحقاً لهم. أَفَترى هذا لمن لم يغير ولم يبدل؟!».(1)

ص: 112


1- عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق/ج2/ص 93/ح33.

دلالات حديث المنزلة

اشارة

وهو من الأحاديث المسندة والمتواترة عند الفريقين، فلا ينبغي الكلام في هذه الجهة؛ لأنّها ثابتة ولا مناص من الاعتراف بصدور هذا الحديث من الرسول الأعظم محمد صلی الله علیه وآله وسلم، كل ما في الأمر أنَّه روي بعدة ألفاظ متقاربة جدًا لا تضر بالمعنى العام للحديث الشريف، ومن هذه الألفاظ:

عن سعيد بن المسيب، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم لعلي: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنَّه لا نبي بعدي».

قال سعيد: فأحببتُ أن أشافه بها سعدًا، فلقيت سعدًا فحدثته بما سمعته من عامر، فقال: أنا سمعته، قلت: أنت سمعته؟! قال: فوضع إصبعيه على أذنيه فقال: نعم، وإلا استُكتا.(1)

و عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: «أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا فقال ما منعك أن تسب أبا تراب؟ قال: أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فلن أسبه لان تكون لي واحدة منهن أحب إلى من حمر النعم، سمعت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم يقول لعلي وخلفه في بعض مغازيه؟ فقال له علي: يا رسول الله تخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي. وسمعته يقول يوم خيبر: لأعطينّ الراية رجلاً يحب الله، ورسوله ويحبه الله

ص: 113


1- صحيح مسلم ج7 ص 120.

ورسوله...»(1)

وسأل رجل معاوية عن مسألة فقال: «سل عنها عليّ بن أبي طالب فانّه أعلم، قال له: يا أمير المؤمنين قولك فيها أحبُّ إليَّ من قول عليِّ بن أبي طالب، فقال: بئس ما قلت، ولَؤُمَ ما جئت به، لقد كرهت رجلاً كان رسول اللهs يُغرُّه بالعلم غرّاً. ولقد قال له رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: أنت مِنّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيَّ بعدي، ولقد كان عمر ابن الخطّاب يسأله فيأخذ عنه، ولقد شهدت عمر إذا أشكل عليه شيء قال: هاهنا عليّ؟ قم لا أقام الله رِجلَيك. ومحا اسمه من الديوان..».(2)

و عن عبد الله بن عبّاس: «سمعت عمر بن الخطّاب يقول: كفّوا عن ذكر عليّ بن أبي طالب ؛ فقد رأيت من رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فيه خصالاً لأن تكون لي واحدة منهنّ في آل الخطّاب أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس: كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة في نفر من أصحاب رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، فانتهيت إلى باب أُمّ سلمة وعليٌّ قائم على الباب، فقلنا: أردنا رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، فقال: يخرج إليكم. فخرج رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فسرنا إليه، فاتّكأ على عليّ بن أبي طالب ثمّ ضرب بيده منكبه، ثمّ قال: إنّك مخاصم تخاصم ؛ أنت أوّل المؤمنين إيماناً، وأعلمهم بأيّام الله، وأوفاهم بعهده، وأقسمهم بالسويّة، وأرأفهم بالرعيّة، وأعظمهم رزيّة، وأنت عاضدي، وغاسلي، ودافني، والمتقدّم إلى كلّ شديدة وكريهة، ولن ترجع بعدي كافراً، وأنت تتقدّمني بلواء الحمد، وتذود عن حوضي.

ثمّ قال ابن عبّاس من نفسه: ولقد فاز عليّ بصهر رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، وبسطةً في العشيرة، وبذلاً للماعون، وعلماً بالتنزيل، وفقهاً للتأويل، ونيلاً للأقران.(3)

ص: 114


1- سنن الترمذي ج5 ص310 - 302
2- مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص 51 – 52 ح 53.
3- كنز العمال للمتقي الهندي ج13 ص 116 – 117 ح 36378.

وغيرها من الطرق الكثيرة.

إشكالٌ وجوابه:

وبالرغم من كلِّ ما تقدم، فقد أشكل بعض المنحرفين عن خط أمير المؤمنين علیه السلام عليه، وهو الطريق الذي يسلكه النواصب عادةً، إذ إنهم ما إنْ يُغلق أمامهم طريق الطعن في صحة سند الحديث، حتى يسلكوا طريق إفراغ متن الحديث من محتواه الصحيح ودلالته الحقّة، وقد وقع هذا التعامل مع حديث الغدير، كما وقع مع هذا الحديث أيضًا، حديث المنزلة، وحاصل هذا الإشكال:

عدم دلالة هذا الحديث على أكثر من أن عليًا علیه السلام خليفة للرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم في حياته فقط دون ما بعد وفاته، أي اقتصار دلالته على أنّ عليًا علیه السلام خليفة للرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم في حياته فقط، أي إن هذا الحديث واردٌ في موردٍ خاص، وهو في غزوة تبوك، فلا يشمل ما بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم...

وفي مقام الجواب نقول(1):

إن هذا الكلام باطل؛ للأسباب الآتية:

أولًا: ورود الاستثناء في سياق حديث النبي صلی الله علیه وآله وسلم دليلٌ واضحٌ على عمومه؛ لأن الاستثناء لا يرد إلا على العام – كما اتفقت على ذلك كلمات النحاة -. ومن ثم فإن نفس كلام الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم كان عامًا لا خصوص فيه، فكيف أمكنهم الادعاء بتخصيصه في مورد!

ثم إنّك تلاحظ أن النبي صلی الله علیه وآله وسلم يؤكد دائمًا على جملة «إلا أنَّه لا نبي بعدي»، أي على استثناء خصوص النبوة، ولو كان استخلاف الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم لعلي علیه السلام خاصًا بغزوة

ص: 115


1- انظر التفاصيل في المراجعات للسيد عبد الحسين شرف الدين، المراجعة رقم (30).

تبوك، لما احتاج الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم إلى التأكيد على هذه المسألة، ونفي النبوة من بعده.

إذن، تأكيد الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم على ذلك يدل على عموم استخلاف علي علیه االسلام له صلی الله علیه وآله وسلم، ولكن قطعًا لادعاء النبوة قال تلك الجملة.

ثانيًا: خصوص المورد لا يخصص الوارد، فحتى لو سلَّمنا أنَّ مورد هذا الحديث خاص، ولكن خصوص مورده لا يخرجه عن عمومه!

وهذه القاعدة مسلمة عند العلماء، فلو رأيت أحدًا يريد أن يشرب كأس خمر فقلت له (هذا الخمر حرام شربه)، فهل هذا الحكم خاص بخصوص هذا الكأس، وغيره من الخمر حلال؟! قطعًا لا، وكذا لو رأيت الجنب يمس آية الكرسي مثلاً فقلت له: لا يمسنّ آيات القرآن محدثٌ، أيكون هذا خاصًا بمورده أم عامًا شاملًا لجميع آيات القرآن الكريم، ولكل محدثٍ؟!

وقد وردت الكثير من الأحكام على لسان أهل البيت علیهم السلام جوابًا لأسئلةٍ سُئلوا بها أو تعليقًا على حادثةٍ وقعت أمامهم، ولو كانت قاعدة تخصيص المورد بالوارد لانتفى الاستدلال بها جميعًا، ولما أمكن للعلماء الاستناد عليها في بيان الأحكام الشرعية.

إذن، حتى لو كان هذا الحديث خاصًا بغزوة تبوك، فهذا لا يجعل خلافة أمير المؤمنين علیه السلام خاصة بتلك الغزوة؛ لأنّ خصوص المورد لا يخصص الوارد.

ثالثًا: ورود الحديث في موارد عديدة وكثيرة

فلو سلّمنا أنَّ المورد (وهو قول النبي صلی الله علیه وآله وسلم هذا الحديث) يُخصص الوارد (وهو استخلاف النبي للإمام (عليهما وآلهما السلام))، فإنَّ هذا الحديث قد ورد في موارد عديدة وكثيرة، ففي قصة مؤاخاة النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم لعلي علیه السلام قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم:- «والذي بعثني بالحق نبيًا، ما أخّرتك إلا لنفسي، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى

ص: 116

غير انه لا نبي بعدي، وأنت أخي ووارثي...».(1)

وفي حديث الدار والإنذار قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «فأيكم يقوم فيبايعني على أنه أخي ووزيري ووارثي دون أهلي ووصيي وخليفتي في أهلي ويكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي؟»(2)

وفي قضية سدِّ الأبواب قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «وإن عليًا مني بمنزلة هارون من موسى»(3) وغيرها من الموارد الكثيرة.

دلالات حديث المنزلة
اشارة

وفيه فقرتان:

الفقرة الأولى: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى».

الفقرة الثانية: «إلا أنَّه لا نبي بعدي».

الفقرة الأولى: دلالات «أنت مني بمنزلة هارون من موسى»:
اشارة

تمثل دلالات حديث المنزلة منازل الإمام علي علیه السلام من النبي صلی الله علیه وآله وسلم، وللتعرف عليها لا بُدَّ من التعرف إلى منازل هارون من موسى علیه السلام والثابتة في القرآن الكريم. لا سيما أنَّ الله عزوجل قد أجاب سؤل موسى علیه السلام.

قال تعالى: ﴿قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي* وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي

ص: 117


1- كنز العمال للمتقي الهندي ج9 ص 167 ح 25554 و ص 170 ح 25555 و ج13 ص 105 – 106 ح 36345 وغيرها.
2- تفسير فرات الكوفي ص 303.
3- ينابيع المودة للقندوزي ج1 ص 259 باب 16 ح 8.

أَمْرِي* كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً* وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً* إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً﴾(1)

المنزلة الأولى: الوزارة.

قال عزوجل حكاية عن موسى علیه السلام: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي﴾(2)وقال عزوجل ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَىٰ الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً﴾.(3)

وفقًا لهاتين الآيتين يكون هارون وزيرًا لموسى، وعليه فيكون عليٌ وزيرًا لرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم.

والوزير لغةً مشتق من: (الوِزر) بمعنى الثقل، أو قل من: (الوَزَر) بفتحتين بمعنى الجبل الذي يُلتجأ إليه، وبناءً على المعنى الأول إنما سُمي الوزير وزيرًا؛ لأنه يحمل ثقل الملك، وأما بناءً على المعنى الثاني فقد سُمي كذلك؛ لأن الملك يلتجأ إليه في آرائه وأحكامه.

وعليه، فإنَّ طلب موسى علیه السلام من الله عزوجل أن يجعل أخاه هارون وزيرًا له، إنما يدل على معرفته علیه السلام بكثرة وصعوبة وثقل أعباء الرسالة، مما يحتاج إلى من يساعده ويؤازره ويشد أزره؛ لذا قال: ﴿اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي﴾ فموسى علیه السلام طلب أن يكون له من يحمل ثقله ويساعده فيه، وأن يكون له من يساعده في آرائه وأحكامه وأدائه للرسالة، فكان هارون وزيره.

وعلي علیه السلام قد حاز هذه المرتبة والمنزلة أيضًا، فكان وزير الرسول الأعظمs، وقد ورد أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم قال لابن عباس: «إنَّ أول ما كلمني به [أي الله عزوجل في ليلة الإسراء والمعراج] أنْ قال: يا محمد، انظر تحتك، فنظرت إلى الحجب قد انخرقت، وإلى أبواب

ص: 118


1- طه 25 – 35.
2- طه 29.
3- الفرقان 35.

السماء قد فُتحت، ونظرت إلى علي وهو رافع رأسه إليّ، فكلمني وكلمته، وكلمني ربي عزوجل.

فقلت (أي ابن عباس): يا رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، بمَ كلمك ربك؟

قالs: قال لي: يا محمد، إنّي جعلته وصيُّك ووزيرك وخليفتك من بعدك، فأعلمه».(1)

وقد قال صلی الله علیه وآله وسلم لعلي علیه السلام: «إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وتَرَى مَا أَرَى، إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ ولَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ، وإِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ..».(2)

المنزلة الثانية: الأخوّة وشدِّ الأزر.

قال عزوجل حكاية عن موسى علیه السلام: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾ فأجابه الله عزوجل: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَىٰ الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً﴾(3)

لا بُدَّ من التنويه أولًا إلى أنَّ الأنبياء أعلى وأرقى من التقيّد بالقيود المادية، فهم ينظرون إلى الروابط من منظارٍ روحي عقائدي، وعليه، فإنَّ الأخوة هنا لا تُقصر على المعنى النسبي المادي المعروف؛ فقد اتخذ صلی الله علیه وآله وسلم أبا لهب عدوًا رغم قرابته، وسلمان المحمدي من أهله رغم أنه غريبٌ، ومن ثم فإنَّ الرسول الأعظمs لم يتخذ الإمام علي علیه السلام أخًا لأجل قرابته فحسب، كما أنَّ موسى علیه السلام لم يتخذ هارون علیه السلام أخًا بناءً على إخوته النسبية فحسب، بل لأجل قوله عزوجل ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾(4)، أيّ لأجل الإخوة الإيمانية، وهكذا

ص: 119


1- الثاقب في المناقب لابن حمزة الطوسي ص 141 – 142 و الأملي للشيخ الطوسي ص 104 – 105 ح 161/ 15.
2- نهج البلاغة ج2 ص 158.
3- الفرقان 35.
4- الحجرات 10.

جاء جوابه عزوجل بالتأكيد على أنَّ هارون أخوه ﴿وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ﴾.

وهكذا علي علیه السلام كان أخًا لرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم بالإخوة الإيمانية، فضلًا عن كونه ابن عمه، وقد أكد هذا المعنى رسول اللهs عندما آخى بينه وبين علي علیه السلام ولعدة مراتٍ، القدرُ المتيقن منها مرتان، وذكر حديث المنزلة، كما تقدم قبل قليل.

ولقد أكّد أمير المؤمنين علیه السلام على الصلة الوثيقة بينه وبين الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم حينما قال: «وقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ الله صلی الله علیه وآله وسلم، بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ والْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ، وَضَعَنِي فِي حِجْرِه وأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِه، ويَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِه ويُمِسُّنِي جَسَدَه، ويُشِمُّنِي عَرْفَه، وكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيه، ومَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ ولَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ، ولَقَدْ قَرَنَ الله بِه صلی الله علیه وآله وسلم مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِه، يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَه ونَهَارَه، ولَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُه اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّه، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِه عَلَماً، ويَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِه، ولَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ، فَأَرَاه ولَا يَرَاه غَيْرِي، ولَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ الله صلی الله علیه وآله وسلم وخَدِيجَةَ وأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ والرِّسَالَةِ وأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ، ولَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْه صلی الله علیه وآله وسلم، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ الله مَا هَذِه الرَّنَّةُ، فَقَالَ صلی الله علیه وآله وسلم: هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِه، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وتَرَى مَا أَرَى، إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ ولَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وإِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ»(1)

وكما أنَّ هارون علیه السلام قد شدّ أزر موسى علیه السلام، فكذا أمير المؤمنين علیه السلام قد شدّ أزر النبي صلی الله علیه وآله وسلم، وبذل مهجته فيه في كل المواطن، ليلة بات على فراشه، ويوم أحد إذ تركه المسلمون، وغيرها من المواقف الكثيرة التي شهد التاريخ بها.

ص: 120


1- نهج البلاغة ج2 ص 157 - 158.
المنزلة الثالثة: الإشراك في الأمر.

وكان مما طلبه النبي موسى علیه السلام أنْ يُشرك اللهُ عزوجل أخاه هارون معه في أمره، قال عزوجل حكايةً عنه ﴿وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾.

ولا شك أنَّ أمر موسى علیه السلام لم يكن سوى الرسالة والتبليغ الإلهي وهداية الناس، وقد أجاب الله عزوجل نبيه موسى إلى ذلك، فقال عزوجل: ﴿قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسىٰ﴾(1) ولذا فقد أرسلهما كليهما ﴿ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسىٰ وَهارُونَ إِلىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلاَئِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ﴾.(2)

وقال سبحانه و تعالی: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسىٰ وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾.(3)

وقد ثبتت هذه المنزلة لأمير المؤمنين علیه السلام بدلالة حديث المنزلة، ولا يعني هذا أنَّ عليًا علیه السلام نبيٌ، كلا، إذ لا نبيَّ بعد نبيِّ الإسلام، ولكنّه يعني أنّه علیه السلام كان شريكَ الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم في تبليغ الرسالة الإلهية، ولذا قال له رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم عندما خرج لغزوة تبوك: «إنه بد من أن أقيم أو تقيم».(4)

ولذا أرسل رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم علياً8 وراء أبي بكر ليأخذ منه سورة براءة ويبلغها هو علیه السلام دونه، وقال له رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم حين بعثه: «لا يذهب بها إلا رجل هو مني وأنا منه».(5)كما في حديثٍ لابن عباس.

وفي رواية أخرى قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «... ولكن جبرائيل جاء فقال: لن يؤدي

ص: 121


1- طه 36.
2- يونس 75.
3- المؤمنون 45.
4- الطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ص 24.
5- مسند أحمد ج1 ص 331.

عنك إلا أنت أو رجل منك».(1)

فكما كان هارون الناطق الرسمي والمبلغ لموسى علیه السلام: ﴿وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلىٰ هارُونَ﴾(2)،

﴿وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي﴾.(3)

كذلك كان الإمام علي علیه السلام هو المبلغ الوحيد عن الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم؛ بدليل تبليغ سورة براءة الذي تقدّم، علاوةً على ما ورد عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم أنَّه قال له علیه السلام: (أنت تبين لأمتي ما اختلفوا فيه من بعدي).(4)

ومن هنا نجد أنَّ القرآن الكريم لم يعتبر تبليغ الإسلام كاملًا إلا عندما بلّغ الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم الناس بإمامة علي علیه السلام، يوم غدير خم، ولمّا أتم التبليغ نزل قوله عزوجل: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً﴾.(5)

فلم يكن هذا كله إلا لأنَّ عليًا علیه السلام كان شريكًا للرسول الكريم محمد صلی الله علیه وآله وسلم في أمر الرسالة وتبليغها.

إشارة: معنى العقدة في لسان النبي موسى علیه السلام:

قيل: إنّ النبي موسى علیه السلام إنما قال: ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي﴾؛ لأنه كان في حجر فرعون ومدَّ يده على لحيته ثم سحبها، فقال فرعون: إنَّه اسرائيلي، وخشي أنْ يقتله، فقالوا له: إنَّه طفل لا يفهم، فقال لهم: ما الدليل على ذلك؟ فقربوا إليه جمرة وحلاوة، فمدَّ يده على الجمرة ووضعها في فمه، فصار في لسانه (رتة لا يفصح معها بالحروف شبه

ص: 122


1- مسند أحمد ج1 ص 151.
2- الشعراء 13.
3- القصص 34.
4- تاريخ ابن عساكر ج42 ص 387.
5- المائدة 3.

التمتمة)»(1)

ويمكن النقاش في هذه الدعوى؛ لأنَّ الأنبياء علیهم السلام كاملون في جميع الجهات وعلى مختلف الأصعدة، وأما العقدة التي ذكرها النبي صلی الله علیه وآله وسلم فهي النعمة التي تربى فيها في بيت فرعون فلا يستطيع أنْ يُحاجّهم ويُكلمهم؛ لأنهم سرعان ما سيعيرونه بإقامته عندهم لسنين من عمره المبارك، وفعلًا هذا ما قد حصل على ما حكاه قوله عزوجل: ﴿فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ* قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ* وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾.(2)مما يعني أنَّ النبي موسى علیه السلام كان ملتفتًا إلى هذه القضية.

المنزلة الرابعة: الخلافة:

قال عزوجل : ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾.(3)

تصرح هذه الآية بأنَّ هارون علیه السلام كان خليفةً لموسى عزوجل حين ذهب إلى الميقات، فهو خليفته.

ولا يقال: إنَّ المورد خاص، حيث إنَّ خلافة هارون كانت عندما ذهب موسى للميقات فقط.

لأننا نقول: تقدّم أن خصوص المورد لا يخصص الوارد، فراجع التفصيل.

وبمقتضى حديث المنزلة قد ثبتت هذه المنزلة للإمام علي علیه السلام، أيّ إنَّه خليفة للرسول الأعظمs بلا فصلٍ.

ص: 123


1- مجمع البيان للشيخ الطبرسي ج7 ص 18 – 19 عن سعيد بن جبير ومجاهد والسدي.
2- الشعراء 16 – 19.
3- الأعراف 142.

وهذا من الأمور المختلف فيها بين المدرستين، فعلى الرغم من اتفاقهما على أنَّ الإمام علي علیه السلام خليفةٌ للمسلمين، إلا أن الخلاف وقع في كون خلافته بلا فصلٍ كما تذهب إلى ذلك الإمامية وهو الحق بدلالة حديث المنزلة وغيره من الأحاديث، أو كون خلافته تأتي بعد الفصل بينها وبين الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بثلاثة خلفاء؟

إنّ حديث المنزلة مطلقٌ، فيدل ويقتضي أن يكون8 خليفةً للرسولs مباشرة وبلا فصل، فعندما يقول الرسول الأعظمs بأنَّ عليًا منه بمنزلة هارون من موسى، وكانت تلك المنزلة هي الخلافة، فإطلاق ذلك الكلام يدلُّ على أنّه علیه السلام خليفته صلی الله علیه وآله وسلم مباشرةً وبلا فصل.

وحينئذٍ يكون كلُّ من تجرأ وغصب ذلك المنصب ظاهرًا بعد الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم مباشرة قد عصى الله عزوجل ورسوله صلی الله علیه وآله وسلم؛ لأنَّ نص ذلك الحديث دال على أنَّ عليًا علیه السلام هو الوحيد الذي يكون خليفةً للرسول صلی الله علیه وآله وسلم مباشرةً وبلا فصل.

المنزلة الخامسة: التصديق:

قال عزوجل حكاية عن موسى علیه السلام: ﴿وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ﴾(1)

إن موسى علیه السلام طلب من الله عزوجل أنْ يكونَ معه أخوه هارون ردءًا أي معينًا، ويُصدِّقه ببيان الحجة ورفع الشبهة، وقد أجابه الله عزوجل بقوله عزوجل: ﴿قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ﴾.(2)

وقد حاز هذه المنزلة أميرُ المؤمنين علیه السلام، فقد كان الردء والمعين للرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم، وكان هو قاضي دَينه ومنجز عداته من بعده، وقد كان أول من صدّق الرسول

ص: 124


1- القصص 34.
2- القصص 35.

الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، روي عن أبي جعفر علیه السلام أنَّه قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «إنَّ أمتي عُرضت عليّ عند الميثاق، وكان أول من آمن بي وصدّقني علي، وكان أول من آمن بي وصدّقني حين بُعثتُ، فهو الصدّيق الأكبر».(1)

بل قد روي عن أبي هريرة، عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، قال: «مكتوب على العرش: أنا الله لا إله إلا أنا، وحدي لا شريك لي، ومحمد عبدي ورسولي، أيدته بعلي. فأنزل الله عزوجل ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾(2)فكان النصر علياً علیه السلام، ودخل مع المؤمنين، فدخل في الوجهين جميعا (صلى الله عليه)».(3)

لقد كان علیه السلام ردءًا للرسول صلی الله علیه وآله وسلم عندما بات على فراشه، وحينما صدع بالدعوة فأجابه في حديث الدار، وعندما تركه الجميع في أحد، وعندما تركه الجميع عند وفاته وتغسيله وتكفينه إلا القليل من خُلّص الصحابة كابن عباس، كما صدّق أمير المؤمنين علیه السلام رسول اللهs في جميع أقواله وأفعاله ودافع عنها بالحجة والبيان والبنان، وصدّقه في إسرائه ومعراجه؛ ولذا قال فيه رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «لكلِّ أمة صدّيق وفاروق، وصدّيق هذه الأمة وفاروقها علي بن أبي طالب».(4)

ولا غرو في ذلك ما دام عليٌ من الرسول (عليهما وآلهما السلام) بمنزلة هارون من موسى علیه السلام.

ومن اللطيف، أنَّ الله عزوجل عندما أجاب موسى علیه السلام فإنه عزوجل قد جعل السلطان لهما معًا، وجعل الغلبة لهما كليهما ولمن اتبعهما كليهما، وهكذا الحال مع الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وأمير

ص: 125


1- مختصر بصائر الدرجات/ حسن بن سليمان الحلي ص 165. وبصائر الدرجات للصفار ص 103 باب 14 ح3.
2- الأنفال 62.
3- أمالي الشيخ الصدوق ص 284 ح 312/ 3.
4- عيون أخبار الرضا8 للشيخ الصدوق ج2 ص 17 ح 30.

المؤمنين علیه السلام، فإن السلطان والغلبة لهما كليهما، والنجاة إنما تكون باتباعهما كليهما؛ ولذا قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «يا علي، كذب من زعم أنه يحبني ويبغضك».(1)

وسيأتي إنْ شاء الله عزوجل ما يؤيد هذا المطلب.

وقد قال تعالى في شأن موسى وهارون علیهما السلام: ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلىٰ مُوسىٰ وَهارُونَ* وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ* وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ﴾.(2)

وكذا الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وأمير المؤمنين علیه السلام.

المنزلة السادسة: إتيان الكتاب:

قال عزوجل متكلمًا عن موسى وهارون ﴿وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ﴾.(3)

إنَّ الكتاب -الذي هو التوراة- قد آتاه الله عزوجل لكلٍ من موسى وهارون علیهما السلام، ذلك الكتاب الذي «يستبين المجهولات الخفية فيبينها، وهي التي يحتاج إليها الناس في دنياهم وأخرتهم...»(4)،

ذلك الكتاب قد أنزل على موسى علیه السلام وكان هارون المطبق الأول له، والناطق الرسمي.

وهكذا أمير المؤمنين علیه السلام، فلقد كان الكتاب الناطق الذي نطق بالكتاب الصامت الذي نزل على رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وهو القرآن الكريم.

أضف إلى ذلك فإنّه هو المحامي عنه والحافظ له بعد الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم إذ قاتل على تأويله، كما سبقه صلی الله علیه وآله وسلم بالقتال على تنزيله. فقد روي عن أبي سعيد الخدري قال: «كنا جلوسًا ننظر إلى رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فخرج إلينا وقد انقطع شسع نعله فرمى به إلى علي علیه السلام

ص: 126


1- المحاسن للبرقي ج1 ص 151 باب الحب ح 71.
2- الصافات 114 – 116.
3- الصافات 117.
4- تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي ج17 ص 157.

فقال: إنَّ منكم رجلًا يقاتل الناس على تأويل القرآن كما قاتلتُ على تنزيله. قال أبو بكر: أنا؟ قال: لا قال عمر: أنا؟ قال: لا، ولكن خاصف النعل.

قال: فأتينا علياً نبشره بذلك، فكأنه لم يرفع به رأساً، وكأنه قد سمعه قبل».(1)

فعليٌ علیه السلام هو القرآن الناطق، والمقاتل على تأويله.

وقد ارتبط القرآن الكريم بعلي علیه السلام ارتباطًا وثيقًا كما ارتبط برسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وهذا ما أكده رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم كثيرًا خصوصًا في حديث الثقلين المشهور والمتواتر: «إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدًا، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».

من هنا تجد أن الإمام الصادق علیه السلام يؤكد هذه العلاقة، فقد روي عن أبي عبد الله علیه السلام: «إن الله جعل ولايتنا أهل البيت قطب القرآن، وقطب جميع الكتب، عليها يستدير محكم القرآن، وبها نوهت الكتب ويستبين الايمان، وقد أمر رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم أن يقتدى بالقرآن وآل محمد، وذلك حيث قال في آخر خطبة خطبها: انى تارك فيكم الثقلين: الثقل الأكبر، والثقل الأصغر، فأما الأكبر فكتاب ربي، وأما الأصغر فعترتي أهل بيتي؛ فاحفظوني فيهما فلن تضلوا ما تمسكتم بهما».(2)

المنزلة السابعة: الهداية:

يقول عزوجل متعرضًا للنعم التي وهبها لموسى وهارون علیهما السلام : ﴿وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾.(3)

لقد هُدي موسى وهارون علیهما السلام إلى الصراط المستقيم، ذاك الصراط الذي ورد

ص: 127


1- أمالي الشيخ الطوسي ص 254 حديث النعل 458/ 50.
2- تفسير العياشي ج1 ص 5 ح 9.
3- الصافات 118.

في سورة الفاتحة ﴿اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾(1)

فالصراط المستقيم هو صراط الذين أنعم الله عليهم، وفي قضية موسى وهارون علیهما السلام، فإن الله عزوجل هداهما إلى ذلك الصراط المستقيم، وهو الطريق الموصل إلى الحق...

والمُراد بها الهداية بتمام معنى الكلمة، ولذا خصها بهما ولم يشرك فيها معهما قومهما، وهكذا رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وأمير المؤمنين علیه السلام قد هُديا إلى الصراط المستقيم، إذ هما من أنعم الله عليهما، وهذه الهداية خاصة بهما دون سائر الأمة.

إذن، الصراط المستقيم هو الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وعلي علیهم السلام.

روى الثعلبي في تفسير ﴿اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ قال: قال مسلم بن حيان: سمعت أبا بريده يقول: صراط محمد وآل محمد.(2)

وهم الهُداة إليه، قال عزوجل: ﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلىٰ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.(3)

وبعد أنْ بيّن الله عزوجلف من هم الصراط المستقيم الذين يدعون المؤمنين لاتباعه، أمر المؤمنين باتباع هذا الصراط: ﴿وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ معتبراً إياه وصيته لنوع الإنسان ﴿ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(4)

وما أمره سبحانه تعالی باتباع الصراط إلا أمره باتباعهم وطاعتهم (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)

ص: 128


1- الفاتحة 6 – 7.
2- الطرائف في معرفة مذهب الطوائف للسيد بن طاووس ص 131 ح 204.
3- المؤمنون 73.
4- الأنعام 153.

والهداية إلى الصراط المستقيم أمرٌ لا يوفق إليه إلا من آمن بالله واعتصم به، قال سبحانه تعالی: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً﴾(1)وقال عزوجل أيضًا: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً* وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً* وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً﴾.(2)

وقال سبحانه تعالی: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلىٰ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.(3)

وغيرها من الآيات الكثير.

ولأنَّ طاعتهم هي سبيل النجاة، فقد حرص الشيطان أنْ يحول دون وصول المؤمنين إليها جهد إمكانه؛ لأجل غوايتهم وإضلالهم؛ ولذا ﴿قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ﴾.(4)

فإنه – أي الشيطان – إنما يقعد أولًا على الصراط المستقيم ليغوي الناس بإبعادهم عن خط أهل البيت علیهم السلام وعن طاعتهم، فإن استطاع ذلك سَهُل عليه حينئذٍ إتيانهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم؛ ولذا فقد وصف الله عزوجل الذين لم يؤمنوا بصراط النبي صلی الله علیه وآله وسلم بأنهم ناكبون عنه في قوله: ﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلىٰ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ﴾.(5)

كما وصفهم بأنهم غاوون في قوله عزوجل: ﴿قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ* إِنَّ عِبادِي

ص: 129


1- النساء 175.
2- النساء 66 – 68.
3- آل عمران 101.
4- الأعراف 16 – 17.
5- المؤمنون 73 – 74.

لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ﴾.(1)

ومن الجدير بالذكر، أنّ البحث عن الصراط المستقيم في الكتاب والسنة بحثٌ طويل الذيل، وإنما ذكرنا هنا ما يتعلق بموضوعنا، ولابد من الالتفات إلى أنَّ التمسك بالصراط المستقيم في الدنيا يعني الجواز على الصراط في يوم القيامة وبنفس الشروط، ولذا ورد عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم، قال: «إذا كان يوم القيامة ونصب الصراط على جهنم لم يجز عليه إلا من معه جواز فيه ولاية علي بن أبي طالب، وذلك قوله عزوجل: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ﴾(2)يعني عن ولاية علي بن أبي طالب علیه السلام».(3)

كما روي في قوله عزوجل: ﴿يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً﴾(4)أنّ الإمام أبا جعفر الباقر علیه السلام قال في تفسيره: «يا ليتني اتخذت مع الرسول عليًا».(5)

و عن أبي حمزة الثمالي عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «سألته عن قول الله عزجل ﴿وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ﴾(6)؟قال علیه السلام: هو والله عليٌّ، الميزان والصراط».(7)

وعن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(8)سألت الله أن يجعلها لعلي ففعل.(9)

نسأل الله عزوجل أنْ يجعلنا من المتمسكين بالصراط المستقيم، صراط محمد وعلي (صلى

ص: 130


1- الحجر 41 – 42.
2- الصافات 24.
3- الأمالي للشيخ الطوسي ص 290 ح 564/ 11.
4- الفرقان 27.
5- تفسير القمي ج2 ص 113.
6- الأنعام 153.
7- بصائر الدرجات للصفار ص 99 باب 11 ح 9.
8- الأنعام 153.
9- روضة الواعظين للفتال النيسابوري ص 106.

الله عليهما وآلهما) الذي هو الإسلام الحقيقي.

المنزلة الثامنة: السلام:

قال عزوجل: ﴿سَلامٌ عَلىٰ مُوسىٰ وَهارُونَQ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾.(1)

وفي هذه الآيات يصف الله عزوجل نبيه موسى وهارون علیهما السلام بعدة صفات:

1/ السلام عليهما من الله عزوجل:

وهو رمزٌ لسلامة الدين والإيمان والرسالة والاعتقاد والمذهب، السلام الذي يوضح النجاة والأمن من العقاب والعذاب في هذه الدنيا وفي الآخرة.

وكذلك سلّم الله عزوجل على محمد وعلي (صلوات الله عليهما) في قوله عزوجل: ﴿سَلامٌ عَلىٰ إِلْ ياسِينَ﴾.(2)

وقرأ ابن عامر ونافع ورويس عن يعقوب: «آل يس».(3)

وهذا يعني «محمداً وآل محمد».

كما روي «في المعاني بإسناده إلى قادح عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عن علي علیهم السلام في قول الله عزوجل: ﴿سَلامٌ عَلىٰ إِلْ ياسِينَ﴾ قال: يس محمد صلی الله علیه وآله وسلم، ونحن آل ياسين».(4)

وعليٌ هو أول آل محمد، فيكون عزوجل قد سلّم على محمد صلی الله علیه وآله وسلم وعلي علیه السلام كما سلّم على موسى وهارون علیهم السلام.

ص: 131


1- الصافات 120 – 122.
2- الصافات 130.
3- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي ج8 ص 328.
4- أمالي الشيخ الصدوق ص 558 ح 743/ 1.

فإنْ أبى البيان المتقدم مَن في قلبه مرض، فإنَّ قوله عزوجل: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَىٰ النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾(1)واضحٌ وضوح الشمس، إذ أمر الله عزوجل بالصلاة على محمد والتسليم له صلی الله علیه وآله وسلم، وقد روي عن كعب بن عجزة: «خرج علينا رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فقلنا: يا رسول الله، كيف السلام عليك، كيف الصلاة عليك؟ قال صلی الله علیه وآله وسلم: قولوا: اللهم صلى على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وآل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد».(2)

فيتحصل أنًّ الصلاة الصحيحة هي التي تضم إلى محمدٍ آلَه (صلوات الله عليهم أجمعين)، وعليٌ علیه السلام هو أول آله كما هو معلوم.

2/ أنهما من المحسنين:

نستفيد من الآيات المباركة المتقدمة أنَّ موسى وهارون علیهما السلام من المحسنين، ثم ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾(3)، ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾(4)بل ﴿وَإِنَّ اللهَ لَمَع الْمُحْسِنِينَ﴾(5)

وهل يشكُ منصفٌ في أنَّ محمدًا وعليًا علیهم السلام أول المحسنين؟!

أضف إلى ذلك: فقد ثبت أنهما من المحسنين بمقتضى حديث المنزلة، وبمقتضى أنَّ أفضل الأنبياء والمرسلين هو محمد صلی الله علیه وآله وسلم فيكون من المحسنين وبلا ريب، وأمير المؤمنين علیه السلام هو نفسه بنص القرآن الكريم –كما في آية المباهلة- فيكون كذلك، علاوةً

ص: 132


1- الأحزاب 56.
2- روضة الواعظين للفتال النيسابوري ص 322- 323.
3- البقرة 195.
4- الأعراف 56.
5- العنكبوت 69.

على أنَّ منزلته من الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم هي بمنزلة هارون من موسى.

3/ أنهما من المؤمنين:

فكذلك محمد وعلي (صلوات الله عليهما وآلهما)، وقد روي أنه قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «إن الله أوحى إليّ في علي ثلاثة أشياء ليلة أُسريَ بي: أنه سيد المؤمنين، وقائد الغر المحجلين، وإمام المتقين».(1)

وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: ما أنزل الله آية (يا أيها الذين آمنوا) إلا وعليٌّ أميرها وشريفها.(2)

المنزلة التاسعة: الإصلاح:

كان من وصية موسى علیه السلام لهارون أن قال له ﴿وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾.(3)

فكان المصلح من بعد موسى هو هارون علیه السلام.

وكذلك كان أمير المؤمنين علیه السلام هو مصلح هذه الأمة، ولذا فهو الذي قاتل على تأويل القرآن كما تقدمت الأحاديث في ذلك.

هذا مجمل ما ذكره القرآن الكريم من منازل كانت لهارون من موسى علیه السلام، والتي أثبتها حديث المنزلة لعلي من محمد (صلوات الله عليهم أجمعين)، وليس ما ذكرناه هو كلّ الأوجه، فربما يستطيع أحدٌ أن يستخرج أكثر مما ذكرناه هنا.

أوجه الشبه بين هارون وعلي علیهما السلام.

وتتميمًا للفائدة، نذكر فيما يلي بعض أوجه الشبه بين هارون وعلي علیهما السلام مما بان على

ص: 133


1- مجمع الزوائد للهيثمي ج9 ص 121.
2- روضة الواعظين للفتال النيسابوري ص 104.
3- الأعراف 142.

الواقع الخارجي، لتؤكد تلك الأوجه أن منزلة علي علیه السلام من الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم هي نفسها منزلة هارون من موسى علیه السلام.

1/ خيانة الأمة والاستضعاف.

إن القرآن الكريم يحدثنا عن قوم موسى علیه السلام وكيف خانوه ولم يطيعوا وصيته في جعل هارون علیه السلام خليفةً عليهم عندما ذهب إلى الميقات، وكيف أنهم عبدوا العجل، وأن هارون علیه السلام اعتذر لموسى علیه السلام بأنه بقي ملتزمًا بوصيته له، ولم يرد أن يفرّق بين بني إسرائيل، قال عزوجل: ﴿وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي* قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسىٰ* قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا* أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي* قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾.(1)

بل إن بني إسرائيل قد هدّدوا هارون بالقتل إن اعترض، وكان هذا أيضًا يمثل عذرًا لهارون، وهذا ما ينقله القرآن الكريم: ﴿قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي﴾.(2)

وما حصل لهارون علیه السلام بعد غياب موسى علیه السلام، هو بعينه قد حصل لأمير المؤمنين علیه السلام بعد غياب الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، فكلِّ المسلمين يعلمون أنه صلی الله علیه وآله وسلم جعل الخلافة لعلي علیه السلام، وكلهم يعلمون أن لا أحد يستطيع تحمّل ذلك المنصب سواه علیه السلام، ومع ذلك فقد أقدموا على غصب هذا الحق منه وجعلوه في غير أهله، فقد روي عن أبي عمر خطبة خطبها الحسن بن علي علیه السلام في الناس بحضور معاوية قال علیه السلام:«فقد تركت بنو إسرائيل هارون، وهم يعلمون انه خليفة موسى فيهم واتبعوا السامري، وقد تركت هذه الأمة

ص: 134


1- طه 90 – 94.
2- الأعراف 150.

أبي وبايعوا غيره، وقد سمعوا رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم يقول: «أنت منى بمنزلة هارون من موسى الا النبوة»...».(1)

ولم يكن يمنع عليًا أن يقوم ليأخذ حقه -كما لم يكن يمنعه ذلك حين منع الظالمون الزهراء علیها السلام فدكاً، ولم يكن يمنعه حين قادوه بجنادل سيفه، ولم...- إلا ما أوصاه به الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بأن لا يشق عصا المسلمين، و أن يُقدم المصلحة العليا للإسلام على مصالحه الشخصية.

ولقد أوضح كل هذا في خطبة له علیه السلام وهي المعروفة بالشقشقية: «أَمَا والله، لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ، وإِنَّه لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ ولَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ، فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً، وطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ، يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ ويَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ، ويَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّه، فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرْتُ وفِي الْعَيْنِ قَذًى وفِي الْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً..».(2)

وورد: وإن أبا بكر... تفقد قوما تخلفوا عن بيعته عند علي كرم الله وجهه، فبعث إليهم عمر، فجاء فناداهم وهم في دار علي، فأبوا أن يخرجوا فدعا بالحطب وقال: والذي نفس عمر بيده، لتخرجن أو لأحرقنها على من فيها، فقيل له يا أبا حفص. إن فيها فاطمة؟فقال وإنْ!

فخرجوا فبايعوا إلا علياً، فإنه زعم أنه قال: حلفت أن لا أخرج ولا أضع ثوبي على عاتقي حتى أجمع القرآن، فوقفت فاطمة رضي الله عنها على بابها، فقالت: لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم، تركتم رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم جنازة بين أيدينا، وقطعتم

ص: 135


1- حلية الأبرار للسيد هاشم البحراني ج2 ص 80.
2- نهج البلاغة ج1 ص 30 – 31.

أمركم بينكم، لم تستأمرونا، ولم تردوا لنا حقا. فأتى عمر أبا بكر، فقال له: ألا تأخذ هذا المتخلف عنك بالبيعة؟ فقال أبو بكر لقنفد وهو مولى له: اذهب فادع لي علياً، قال فذهب إلى علي فقال له: ما حاجتك؟ فقال يدعوك خليفة رسول الله، فقال علي: لسريع ما كذبتم على رسول الله. فرجع فأبلغ الرسالة، قال: فبكى أبو بكر طويلاً. فقال عمر الثانية: لا تمهل هذا المتخلف عنك بالبيعة، فقال أبو بكر لقنفد: عد إليه، فقل له: خليفة رسول الله يدعوك لتبايع، فجاءه قنفد، فأدى ما أمر به، فرفع علي صوته فقال: سبحان الله! لقد ادعى ما ليس له، فرجع قنفد، فأبلغ الرسالة، فبكى أبو بكر طويلا، ثم قام عمر، فمشى معه جماعة، حتى أتوا باب فاطمة، فدقوا الباب، فلما سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها: يا أبتِ، يا رسول الله، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة، فلما سمع القوم صوتها وبكاءها، انصرفوا باكين، وكادت قلوبهم تنصدع، وأكبادهم تنفطر، وبقي عمر ومعه قوم، فأخرجوا علياً، فمضوا به إلى أبي بكر، فقالوا له: بايع، فقال: إن أنا لم أفعل فمه؟ قالوا: إذا والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك، فقال: إذا تقتلون عبد الله وأخا رسوله، قال عمر: أما عبد الله فنعم، وأما أخو رسوله فلا، وأبو بكر ساكت لا يتكلم، فقال له عمر: ألا تأمر فيه بأمرك؟ فقال: لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه، فلحق علي بقبر رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم يصيح ويبكي، وينادي: يا بن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني».(1)

2/ ما أُحل لهارون وعلي علیهما السلام.

ويتلخص هذا الوجه بقضية سد الأبواب، فلقد أوضحت الأحاديث الشريفة هذا المعنى بما لا يحتاج إلى مزيد بيان، وبما يؤكد عموم المشابهة بين هارون وعلي علیهما السلام، فقد روي عن أبي رافع قال: إن رسول صلی الله علیه وآله وسلم خطب الناس فقال: «يا أيها الناس، ان الله عزوجل أمر

ص: 136


1- الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري (تحقيق الزيني) ج1 ص 19 – 20.

موسى وهارون أن يبنيا لقومها بمصر بيوتاً، وأمرهما أن لا يبيت في مسجدهما جُنُبٌ، ولا يقرب فيه النساء إلا هارون وذريته، وإنعليا علیه السلام مني بمنزلة هارون من موسى، فلا يحل لأحد أن يقرب النساء في مسجدي ولا يبيت فيه جُنُبٌ إلا علي وذريته، فمن ساءه ذلك فهاهنا. وضرب بيده نحو الشام».(1)

وعن محمد و عبد الرحمن ابني جابر [عن أبيهما] قال: «كنا نياماً في المسجد وفينا علي بن أبي طالب، فخرج علينا رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فقال: أتنامون في مسجدي؟ إنه لا يُنام في مسجدي قال: فخرجنا وخرج عليٌّ معنا، قال صلی الله علیه وآله وسلم: إلا أنت يا عليّ، أنت ليس كهيئتهم، إنه يحل لك في المسجد ما يحل لي».(2)

وعنه صلی الله علیه وآله وسلم: «يا علي، لا يحل لأحد أن يجنب في المسجد غيري وغيرك».(3)

وعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: أمر رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم بسد الأبواب إلا باب عليّ، قالوا: يا رسول الله، سددت الأبواب كلها إلا باب علي؟ فقال: ما أنا سددت أبوابكم، ولكن الله سدّها.(4)

وعن زيد بن أرقم قال: «كان لنفر من أصحاب رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم أبواب شارعة في المسجد. قال: فقال يوماً: سدوا هذه الأبواب إلا باب علي. قال: فتكلم في ذلك الناس. قال: فقام رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فحمد الله تعالى وأنثى عليه ثم قال: أما بعد، فإني أُمرتُ بسدّ هذه الأبواب إلا باب عليّ، وقال فيه قائلكم، وإني والله ما سددْت شيئاً ولا فتحتُه، ولكني أُمرتُ بشيء فاتبعته».(5)

ص: 137


1- علل الشرائع للشيخ الصدوق ج1 ص 202.
2- مناقب الإمام أمير المؤمنين علیه السلام لمحمد بن سليمان الكوفي ج2 ص 46 ح 960.
3- سير أعلام النبلاء للذهبي ج13 ص 272.
4- المعجم الأوسط للطبراني ج4 ص 186
5- مسند أحمد ج4 ص 369.

3/ أسماء أولادهما.

عن زيد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين علیهم السلام، قال: «لما ولدت فاطمة الحسن علیه السلام، قالت لعلي علیه السلام: سمِّهْ. فقال: ما كنت لأسبق باسمه رسول الله. فجاء رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، فأخرج إليه في خرقة صفراء، فقال: ألم أنهكم أن تلفوه في [ خرقة] صفراء، ثم رمى بها وأخذ خرقة بيضاء فلفه فيها، ثم قال لعلي علیه السلام: هل سميته؟ فقال: ما كنت لأسبقك باسمه؟ فقال صلی الله علیه وآله وسلم: وما كنت لأسبق باسمه ربي عزوجل، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى جبرئيل أنه قد ولد لمحمد ابن فاهبط واقرئه السلام وهنئه، وقل له: إن عليا منك بمنزلة هارون من موسى، فسمه باسم ابن هارون. فهبط جبرئيل علیه السلام فهنأه من الله عزوجل، ثم قال: إن الله عزوجل يأمرك أن تسميه باسم ابن هارون. قال: وما كان اسمه؟ قال: شبر. قال: لساني عربي. قال: سمه الحسن، فسماه الحسن.

فلما ولد الحسين علیه السلام أوحى الله عزوجل إلى جبرئيل أنه قد ولد لمحمد ابن، فاهبط إليه وهنئه، وقل له: إن عليا منك بمنزلة هارون من موسى، فسمه باسم ابن هارون. قال: فهبط جبرئيل فهنأه من الله تبارك وتعالى، ثم قال: إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى، فسمه باسم ابن هارون. قال: وما اسمه؟ قال: شبير. قال: لساني عربي. قال: سمه الحسين، فسماه الحسين.(1)

وقد روي أن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم قال: «إنما سميتهم بأسماء ولد هارون: شبر وشبير ومشبر».(2)

كل ذلك تحقيقًا منه صلی الله علیه وآله وسلم وتأكيدًا للمشابهة بين الهارونين: هارون وعلي علیهما السلام. ونعم الشبه بينهما في جميع المنازل وسائر الشؤون.

ص: 138


1- أمالي الشيخ الصدوق ص 197 ح 209/ 3.
2- مسند أحمد ج1 ص 98.

4/ المحنة المشتركة:

وقد ورد في زيارة أمير المؤمنين علیه السلام المطولة ليوم الغدير التصريح بوجه شبه آخر جاء في هذه الزيارة، وهذا نصه: «ثُمَّ مِحْنَتُكَ يَوْمَ صِفِّينَ وَقَدْ رُفِعَتِ المَصاحِفُ حِيلَةً وَمَكْراً فَأَعْرَضَ الشَّكُّ وَعُرِفَ الحَقُّ وَاتُّبَعَ الظَّنُّ أَشْبَهْتْ مِحْنَةَ هارُونَ إِذْ أَمَّرَهُ مُوسى عَلى قَوْمِهِ فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ وَهارُونُ يُنادِي بِهِمْ وَيَقُولُ: ﴿يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى﴾، وَكذلِكَ أَنْتَ لَمَّا رُفِعَتِ المَصاحِفُ قُلْتَ: يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِها وَخُدِعْتُمْ فَعَصَوكَ، وَخالَفُوا عَلَيْكَ وَاسْتَدْعَوا نَصْبَ الحَكَمَيْنِ فَأَبَيْتَ عَلَيْهِمْ وَتَبَرَّأْتَ إِلى الله مِنْ فِعْلِهِمْ وَفَوَّضْتَهُ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَسْفَرَ الحَقُّ وَسَفِهَ المُنْكَرُ وَاعْتَرَفُوا».(1)

الفقرة الثانية: (إلا أنه لا نبي بعدي).
اشارة

قد استدرك بهذه العبارة الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم كلامه السابق عليها، فبعد أن أثبت لعلي علیه السلام جميع منازل هارون من موسى علیهما السلام ، قال كلمته «إلا أنه لا نبي بعدي».

وفي الحقيقة، يمكن استخراج حقيقتين من هذه الكلمة، وربما يأتي من يستخرج حقائق أكثر:

الحقيقة الأولى: ختم النبوة به صلی الله علیه وآله وسلم.

وهذا ما قطع الطريق على كل من تسول له نفسه ادّعاء النبوة بعده، فهذا علي علیه السلام على عظمته وعلى ما حازه من المنازل العظيمة، إلا أنه ليس بنبي، بل لا نبي بعد نبي الإسلام. وبهذا قطع الطريق على أمثال مسيلمة الكذاب، ذاك الذي كتب إلى رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك، أما بعد، فإني قد أُشرِكتُ في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريش

ص: 139


1- المزار لمحمد بن جعفر المشهدي ص 279.

قوم يعتدون..».

فلمّا جاء الكتاب، كتب رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم إلى مسيلمة الكذاب، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين».(1)

وهكذا ليقطع الطريق على أمثال (طليحة بن خويلد الأسدي) و(سجاح بنت الحارث بنت سويد التميمية). ويروى أن أمرها قد أخاف مسيلمة، فاجتمعا وعرض عليها أن يتزوجا وقال: «هل لك أن أتزوجك فآكل بقومي وقومك العرب؟» فأجابته، وانصرفت إلى قومها فقالوا: ما عندك؟ قالت: كان على الحق فاتبعته فتزوجته.(2)

وفي الحقيقة، لم تكن نبوتها إلا زفافًا على مسيلمة، وما كانت هي إلا امرأة!

وهكذا ليقطع الطريق على أمثال الأسود العنسي.

على أن القرآن الكريم قد أوضح هذه الحقيقة في صريح آياته، قال~: ﴿ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾.(3)

الحقيقة الثانية: خلافة الإمام علیه السلام خلافة وصاية بلا نبوة.

وهي أن الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم أراد أن يبين للأمة أن خلافته ليست كخلافة الأنبياء من قبله، إذ كان خلفاء الأنبياء أنبياء أيضًا، وأما خلفاؤهs فهم أوصياء لا أنبياء، يقول السيد الشهيد محمد باقر الصدر رحمه الله:

والإمامة ظاهرة ربانية ثابتة على مرّ التاريخ، وقد اتخذت شكلين ربانيين:

ص: 140


1- البداية والنهاية لابن كثير ج5 ص 62 وتاريخ الإسلام للذهبي ج2 ص 686.
2- تاريخ الطبري ج2 ص 499.
3- الأحزاب 40

أحدهما: شكل النبوة التابعة لرسالة النبي القائد، فقد كان في كثير من الأحيان يخلف النبي الرسول أنبياء غير مرسلين، يُكلّفون بحماية الرسالة القائمة ومواصلة حملها، وهؤلاء أنبياء يوحى إليهم، وهم أئمة بمعنى أنهم أوصياء على الرسالة وليسوا أصحاب رسالة، ﴿وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ * وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ﴾(1)وقال عزوجل: ﴿وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ﴾.(2)

والشكل الآخر: هو الوصاية بدون نبوة، وهذا هو الشكل الذي اتخذه رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم بأمر من الله عزوجل، فعيّن أوصياءه الاثني عشر من أئمة أهل البيت علیهم السلام، ونصّ على وصيه المباشر بعده علي بن أبي طالب في أعظم ملأٍ من المسلمين...

... ويلاحظ في تاريخ العمل الرباني على الأرض: أن الوصاية كانت تعطى غالبًا لأشخاص يرتبطون بالرسول القائد ارتباطًا نسبيًا أو لذريته وأبنائه، وهذه الظاهرة لم تتفق فقط في أوصياء النبي محمد صلی الله علیه وآله وسلم، بل اتفقت في أوصياء عدد كبير من الرسل. قال الله (سبحانه وتعالى): ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ﴾ [الحديد 26] وقال: ﴿وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ..﴾. [الأنعام 84]

فاختيار الوصي كان يتم عادة من بين الأفراد الذين انحدروا من صاحب الرسالة ولم يروا النور إلا في كنفه وفي إطار تربيته، وليس هذا من أجل القرابة بوصفها علاقة مادية تشكل أساسا للتوارث، بل من أجل القرابة بوصفها تشكل عادة الإطار السليم

ص: 141


1- الأنبياء 72- 73.
2- لقمان 24.

لتربية الوصي وإعداده للقيام بدوره الرباني. وأما إذا لم تحقق القرابة هذا الإطار فلا أثر لها في حساب السماء، قال تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾.(1)

ولذلك تجد أنَّ الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم كثيراً ما كان يعبر عن أمير المؤمنين علیه السلام بالوصي.

روي عن ابن عمر قال: «مرّ سلمان الفارسي وهو يريد أن يعود رجلاً ونحن في حلقة، وفينا رجل يقول: لو شئتُ لأنبأتكم بأفضل هذه الأمة بعد نبيها، وأفضل من هذين الرجلين (أبي بكر وعمر)، فسُئل سلمان فقال: أما والله، لو شئتُ لأنبأتكم بأفضل هذه الأمة بعد نبيها، وأفضل من هذين الرجلين (أبي بكر وعمر) ثم مضى، فقيل له: يا أبا عبد الله، ما قلت؟ قال: دخلت على رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وهو في غمرات الموت فقلت: يا رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، هل أوصيت؟ قال: يا سلمان، أتدري من الأوصياء؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإن آدم كان وصيه شيث، وكان أفضل من تركه من بعده من ولده. وكان وصي نوح سام، وكان أفضل من تركه من بعده. وكان وصي موسى يوشع، وكان أفضل من تركه بعده. وكان وصي سليمان آصف بن برخيا، وكان أفضل من تركه بعده. وإني أوصيت إلى علي، وهو أفضل من أتركه بعدي».(2)

وعن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «لكلِّ نبيِّ وَصِيُّ ووارث وإنَّ وَصِيِّي ووارثي عليُّ بن أبي طالب».(3)

ص: 142


1- الإمامة وأهل البيت علیهم السلام النظرية والاستدلال، السيد محمد باقر الحكيم، ص 60 عن الإسلام يقود الحياة: 157.
2- مناقب الإمام أمير المؤمنين علیه السلام لمحمد بن سليمان الكوفي ج1 ص 389 ح 311.
3- مناقب علي بن أبي طالب علیه السلام لابن المغازلي ص 167 ح 212.

إشارات في عبارة الكتاب

الإشارة الأولى

هم الشهداء على الناس

قال رحمه الله: «وأنّهم الشهداء على الناس».

ورد في بعض الروايات الشريفة أنهم (سلام الله عليهم) هم الشهداء على الناس تفسيرًا لبعض الآيات المباركة، فقد ورد عَنْ سَمَاعَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام فِي قَوْلِ الله عزوجل: ﴿فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً﴾(1)قَالَ:«نَزَلَتْ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلی الله علیه و آله وسلم خَاصَّةً، فِي كُلِّ قَرْنٍ مِنْهُمْ إِمَامٌ مِنَّا شَاهِدٌ عَلَيْهِمْ، ومُحَمَّدٌ صلی الله علیه و آله وسلم شَاهِدٌ عَلَيْنَا».(2)

فقد فسّر الإمام الصادق علیه السلام هذه الآية بأنَّها نزلت بخصوص النبي الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم، وأنَّ الشهداء الذين سيأتون من بعده هم أهل البيت علیهم السلام والنبي صلی الله علیه و آله وسلم سيكون شهيدًا عليهم. وواضحٌ أنَّ المراد من الشهادة هو ما يسمى في العرف بالتزكية، أي الشهادة بأن الشخص كان مطيعًا وممتثلًا لأوامر الله عزوجل أو لا.

الإشارة الثانية

هم أبواب الله

وقد ورد هذا المعنى في رواياتٍ عديدة منها، ما روي عن الأصبغ بن نباتة، عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يقول: «معاشر الناس، اعلموا أن الله تعالى جعل لكم باباً من دخله أمن من النار ومن الفزع الأكبر.

ص: 143


1- النساء: 41.
2- الكافي للكليني ج1 ص 290 بَابٌ فِي أَنَّ الأَئِمَّةَ شُهَدَاءُ الله عزوجل عَلَى خَلْقِه ح1.

فقام إليه أبو سعيد الخدري، فقال: يا رسول الله، اهدنا إلى هذا الباب حتى نعرفه.

قال صلی الله علیه و آله وسلم: هو علي بن أبي طالب، سيد الوصيين، وأمير المؤمنين، وأخو رسول رب العالمين، وخليفة الله على الناس أجمعين.

معاشر الناس من أحب أن يتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها فليتمسك بولاية علي بن أبي طالب علیه اسلام فإن ولايته ولايتي، وطاعته طاعتي، معاشر الناس من أحب أن يعرف الحجة بعدي فليعرف علي بن أبي طالب علیه السلام، معاشر الناس، من أراد أن يتولى الله ورسوله فليقتد بعلي بن أبي طالب بعدي والأئمة من ذريتي، فإنهم خزان علمي.

فقام جابر بن عبد الله الأنصاري فقال: يا رسول الله، وما عدة الأئمة؟

فقال: يا جابر، سألتني رحمك الله عن الاسلام بأجمعه، عدتهم عدة الشهور وهي عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض، وعدتهم عدة العيون التي انفجرت لموسى بن عمران علیه السلام حين ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، وعدتهم عدة نقباء بني إسرائيل، قال الله تعالى: ﴿وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَ-رَ نَقِيباً﴾(1)

فالأئمة يا جابر إثنا عشر إماماً، أولهم علي بن أبي طالب علیه السلام وآخرهم القائم المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.(2)

وهذا يعني: أنَّ المقصود من الباب هو ما يُستفاد منه أو الفائدة المترتبة عليه، وهو الدخول عبره إلى مكانٍ لا يمكن الدخول إليه إلا عبره فقط، لا بما هو هو، أو بما يعنيه من معنى مادي. وقد استعير هذا اللفظ في الدخول إلى الجنة بلحاظ هذا المعنى، فلا يمكن الدخول إليها إلا عبر بابٍ واحدٍ، وهو باب أهل البيت علیهم السلام، إذًا المنفذ أو

ص: 144


1- المائدة 12.
2- مائة منقبة لمحمد بن أحمد بن علي بن الحسين القمي (ابن شاذان) ص 71 - 72 المنقبة الحادية والأربعون.

السبيل للخلاص من جهنم هي طاعة أهل البيت (صلوات الله سلامه عليهم).

الإشارة الثالثة

هم السبب إليه والأدلّاء عليه.

أما السبب الذي يوصل إلى الله عزوجل أي الشيء الذي إذا تمسكنا به فإنّه موجبٌ لرضا الله عزوجل، وموصلٌ إليه. وأما الأدلاءُ فجمعُ دليلٍ، وأهلُ البيت علیهم السلام يدلون على الله عزوجل وعلى الطريق الذي يوصل إليه عزوجل.

الإشارة الرابعة: هم عيبةُ علمه.

عيبة: بمعنى موضع السر، يُقال: فلان عيبة الرجل: أي فلان موضع سره.

والأئمة علیهم السلام هم موضع سر الله عزوجل، وهم موضع سر العلم؛ لذلك فإنَّ علومهم إلهية.

الإشارة الخامسة

هم تراجمة وحيه.

الترجمان: هو المبيِّن والموضح، فاذا تكلمت مع من يتحدث بغير لغتك فإنّك تحتاج إلى من يترجم لك ما يقوله ويترجم له ما تقوله.

وأهل البيت (سلام الله عليهم) هم ترجمان الوحي، بمعنى أنَّهم هم من يبينون ما نزل على رسول اللهs، أي يُبينون القرآن وأحكام الإسلام، وهذا ما تُشير إليه الكثير من الروايات الشريفة الواردة عن أمير المؤمنين علیه السلام من قبيل أنه علیه السلام قال: «سلوني عن كتاب الله عزوجل، فوالله ما نزلت آية منه في ليل أو نهار ولا مسير ولا مقام إلا وقد أقرأنيها رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وعلمني تأويلها»...(1)

والواقع أيضًا يشهد على أنَّه لم يكن في التاريخ الإسلامي مبين ومفسر للقرآن الكريم مثل أهل البيت علیهم السلام.

ص: 145


1- أمالي الشيخ الطوسي ص 523 ح 1158/ 65.
الإشارة السادسة

هم أركان توحيده.

التوحيد له أركان يقوم عليها، والإيمان بأهل البيت علیهم السلام يمثل تلك الأركان؛ لذلك كان التبليغ بولاية أمير المؤمنين علیه السلام هو اختزال لكلِّ رسالة النبي الأعظم صلی الله علیه و آله وسلم، قال عزوجل: ﴿يا أَي-ُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ﴾ [المائدة 67].

وكلام الله عزوجل متواترٌ؛ لقطعية صدوره، وهذه الآية واضحةٌ لا لبس في مفهومها؛ لقطعية دلالتها؛ لذا لا يمكن لأيّ أحد إنكار مدلولها، مع ضم الروايات الكثيرة والمتواترة في حادثة الغدير.

الإشارة السابعة

هم خزان معرفته.

ومعناه واضح، كما تقدّمت الكثير من الآيات والروايات دليلًا وإثباتًا عليه.

ومن مجموع ما تقدّم من أنّهم هم أولوا الأمر الذين تجب طاعتهم، وبهم يدخل الناس إلى الجنة، وهم الشهداء على الناس يوم القيامة، وهم الأبواب إلى الله (جلّ وعلا)؛ لذا كانوا أمانًا لأهل الأرض كما إنَّ النجوم أمانٌ لأهل السماء. على حد تعبيره صلی الله علیه و آله وسلم في أكثر من موضع.

قال الشيخ رحمه الله:

وكذلك على حد قوله صلی الله علیه و آله وسلم: «إنَّ مثلهم في هذه الأمة كسفينةِ نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك وهوى..».

وقد تقدّم الكلام عن حديث السفينة ودلالاته.

الإشارة الثامنة

هم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.

قبل الولوج في توضيح المراد من هذه الإشارة، لا بُد من الإشارة إلى أنَّ هناك

ص: 146

آياتٍ قد تنزل في حادثةٍ معينة في شخص معين، لكنها تمثل قاعدةً عامة تنطبق على الحالات المشابهة، على الأشخاص الذين يتطابقون من حيث المواصفات مع الشخص الذي نزلت فيه الآية، أيّ إنّها تنظر إلى علة الحدث أو وصف الشخص- لا إلى ذاتيهما-وتنزل، فيكون المدار لا على نفس الشخص أو نفس الحادثة، بل على العنوان العام الذي انطبق على الشخص أو الحادثة.

ولعلَّ هذه كبرى في التفسير القرآني، تندرج تحتها العديد من الآيات الكريمة، منها ما روي عن ابن عباس: ما أنزل الله في القرآن ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، إلّا وعلي أميرها وشريفها.(1)

لكن هذا لا يعني أنّها خاصة بأمير المؤمنين علیه السلام، إنَّما تعني أنّه علیه السلام يمثل المصداق الأبرز لهذا العنوان.

والخلاصة: أنَّ هناك آياتٍ قرآنيةً تُشير إلى العنوان، فتنطبق هذه الآية على كلِّ مصداق ينطبق عليه ذلك العنوان.

ص: 147


1- روضة الواعظين للفتال النيسابوري ص 104. وفي مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج2 ص 252: روى جماعة من الثقات عن الأعمش عن عباية الأسدي عن علي علیه السلام، والليث عن مجاهد، والسدي عن أبي مالك، وابن أبي ليلى، عن داود بن علي، عن أبيه وابن جريح عن عطاء، وعكرمة وسعيد بن جبير، كلهم عن ابن عباس. وروى العوام بن حوشب عن مجاهد، وروى الأعمش عن زيد بن وهب عن حذيفة كلهم عن النبي أنه قال: «ما انزل الله تعالى آية في القرآن فيها يا أيها الذين آمنوا إلا وعلي أميرها وشريفها». وفي رواية حذيفة «الا كان لعلي بن أبي طالب لبها ولبابها». وفي روايات «إلا على رأسها وأميرها». وفي رواية يوسف بن موسى القطان، ووكيع بن الجراح «أميرها وشريفها لأنه أول المؤمنين ايمانا»، وفي رواية إبراهيم الثقفي، وأحمد بن حنبل وابن بطة العكبري، عن عكرمة، عن ابن عباس «الا علي رأسها وشريفها وأميرها». وفي صحيفة الرضا علیه السلام «ليس في القرآن يا أيها الذين آمنوا الا في حقنا ولا في التوراة يا أيها الناس الا فينا»، وفي تفسير مجاهد قال: ما كان في القرآن يا أيها الذين آمنوا فان لعلي سابقه ذلك الآية لأنه سبقهم إلى الاسلام فسماه الله في تسع وثمانين موضعا أمير المؤمنين وسيد المخاطبين إلى يوم الدين.

ومن هذه الآيات ما ذكرها الشيخ رحمه الله في قوله: «وأنّهم حسب ما جاء في الكتاب المجيد ﴿وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾(1)

فقد وردت هذه الآية وصفًا للملائكة، كما في خُطبةٍ لأمير المؤمنين علیه السلام في نهج البلاغة(2)،

كما وردت في رواياتٍ أخرى وصفًا لأهل البيت علیهم السلام؛ وذلك لاشتراكهما في عنوان العصمة، وأنّهم ليسوا أبناء الله عزوجل ولا أربابًا، بل هم عبادٌ له عزوجل موصوفون بالعصمة، ومن ثم فكلُّ عبدٍ معصوم يصحُ أن يكون معنونًا بهذا العنوان، ويدخل تحت وصف هذه الآية المباركة؛ لذلك فسرت تارةً بالملائكة، وأخرى بأهل البيت علیهم السلام، بنفس اللحاظ أي إنَّهم مخلوقون معصومون.

وقد ورد في بعض الروايات الشريفة استشهاد أهل البيت علیهم السلام بهذه الآية على نفي الربوبية عنهم، إذ غالت فئةٌ من المسلمين بالإمام علي علیه السلام، حتى ادعت إلوهيته، وادّعت أيضًا ألوهية بعض الأئمة علیهم السلام، كما ادعت النصارى أنَّ المسيح ابن الله، وادّعت اليهود أنَّ العزير ابن الله كما ورد في القران الكريم(3)،فكانوا علیهم السلام ينفون عنهم الألوهية

ص: 148


1- الأنبياء 26 – 27.
2- في نهج البلاغة ج1 ص 169 قال أمير المؤمنين علیه السلام: «ثُمَّ خَلَقَ سُبْحَانَه لإِسْكَانِ سَمَاوَاتِه، وعِمَارَةِ الصَّفِيحِ الأَعْلَى مِنْ مَلَكُوتِه، خَلْقاً بَدِيعاً مِنْ مَلَائِكَتِه، ومَلأَ بِهِمْ فُرُوجَ فِجَاجِهَا وحَشَا بِهِمْ فُتُوقَ أَجْوَائِهَا، وبَيْنَ فَجَوَاتِ تِلْكَ الْفُرُوجِ زَجَلُ الْمُسَبِّحِينَ، مِنْهُمْ فِي حَظَائِرِ الْقُدُسِ، وسُتُرَاتِ الْحُجُبِ وسُرَادِقَاتِ الْمَجْدِ، ووَرَاءَ ذَلِكَ الرَّجِيجِ الَّذِي تَسْتَكُّ مِنْه الأَسْمَاعُ، سُبُحَاتُ نُورٍ تَرْدَعُ الأَبْصَارَ عَنْ بُلُوغِهَا، فَتَقِفُ خَاسِئَةً عَلَى حُدُودِهَا، وأَنْشَأَهُمْ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَاتٍ وأَقْدَارٍ مُتَفَاوِتَاتٍ، (أُولِي أَجْنِحَةٍ) تُسَبِّحُ جَلَالَ عِزَّتِه، لَا يَنْتَحِلُونَ مَا ظَهَرَ فِي الْخَلْقِ مِنْ صُنْعِه، ولَا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَخْلُقُونَ شَيْئاً مَعَه مِمَّا انْفَرَدَ بِه ﴿بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَه بِالْقَوْلِ وهُمْ بِأَمْرِه يَعْمَلُونَ﴾..».
3- قال تعالى: ﴿وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارىٰ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ﴾ [التوبة 30].

مستشهدين بهذه الآية المباركة؛ ليبينوا أنَّهم عباد مخلوقون، والمخلوق ليس ربًا، نعم، هم موصوفون بالعصمة.

منها ما روي عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ أَنَا والْقَاسِمُ شَرِيكِي ونَجْمُ بْنُ حَطِيمٍ وصَالِحُ بْنُ سَهْلٍ بِالْمَدِينَةِ، فَتَنَاظَرْنَا فِي الرُّبُوبِيَّةِ، قَالَ: فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: مَا تَصْنَعُونَ بِهَذَا نَحْنُ بِالْقُرْبِ مِنْه، ولَيْسَ مِنَّا فِي تَقِيَّةٍ، قُومُوا بِنَا إِلَيْه. قَالَ: فَقُمْنَا، فَوَالله مَا بَلَغْنَا الْبَابَ إِلَّا وقَدْ خَرَجَ عَلَيْنَا بِلَا حِذَاءٍ ولَا رِدَاءٍ، قَدْ قَامَ كُلُّ شَعْرَةٍ مِنْ رَأْسِه مِنْه، وهُوَ يَقُولُ: لَا، لَا يَا مُفَضَّلُ، ويَا قَاسِمُ، ويَا نَجْمُ، لَا، لَا، بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، لَا يَسْبِقُونَه بِالْقَوْلِ وهُمْ بِأَمْرِه يَعْمَلُونَ.(1)

الإشارة التاسعة

هم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا.

قال قدس سره: «وأنًّهم الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا».

هذه إشارةٌ إلى آية التطهير التي تواتر نزولها بشأن أهل البيت علیهم السلام، إذ نقلها عددٌ كبير من الصحابة يبلغ حد التواتر، ولا يشكك بها إلا ضعيف المعرفة في أصول الحديث وأصول التفسير.

وتثبت هذه الآية أنَّ الأئمة علیهم السلام مطهرون من الرجس، أي أنهم مطهرون من جميع الذنوب والمعاصي، فإذا ثبت ذلك ثبت أنَّهم معصومون، وثبت أنَّهم حججٌ علينا؛ لأنَّ أقوالهم دائمًا معصومة، ومن ثم يثبت لزوم طاعتهم وهو المطلوب.

فإنه إنْ كانت كلُّ أقوالهم مطابقةً لما يريد الله عزوجل ولا يحتمل فيها الخطأ أبدًا على مستوى القول والعمل، وجب علينا أنْ نطيعهم؛ لأنهم لا يأمرون إلا بما يريد الله ولا ينهون إلا عمّا نهى عنه.

ص: 149


1- الكافي للكليني ج8 ص 231 ح 303.
الإشارة العاشرة

عدم جواز الرد عليهم.

قال رحمه الله: «ولا يجوز الرد عليهم، والراد عليهم كالراد على رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، والراد على رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم كالراد على الله عزوجل».

وقد اتضح فيما تقدّم كونهم علیهم السلام معصومين؛ ومطابقة أقوالهم أفعالهم، وحركاتهم وسكناتهم لما يريده الله عزوجل، كما اتضح أنَّ الله عزوجل ورسوله صلی الله علیه و آله وسلم قد أمروا بطاعتهم، فمن البديهي جدًا أنْ يكون الراد عليهم رادًا على الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، ومن ثم يكون رادًا على الله عزوجل.

الإشارة الحادية عشرة

عدم فراغ الذمة إلا بالرجوع إليهم.

قال رحمه الله: «ولا تفرغ ذمة المكلف بالرجوع إلى غيرهم».

وذلك لأنَّهم معصومون، وغيرهم ليس بمعصوم، وطبقًا لقاعدة الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، ونحن على يقين بأننا مكلفون بأحكامٍ شرعية كالصلاة والصوم والحج وغيرها، فإذا أطعنا غير المعصوم في صلاتنا مثلًا؛ فإننا لا نتيقن فراغ الذمة منها؛ لاحتمال إتياننا بها على النحو الخاطئ، والإتيان بها على النحو الخاطئ كعدمه، فمن يطلب منك أن تسقي زهرةً مثلًا كي تنمو ولا تموت، فإن سقيتها من دون دراية ومن دون استشارة أهل التخصص، لربما قلّلت من كمية الماء اللازمة، ولربما أكثرت، وفي كلتا الحالتين لم تحقق الغاية التي استهدفها من أمرك بسقايتها، وبالتالي فإنَّ هذا الامتثال كعدمه.

من هُنا فإنَّ العقل -قبل الأدلة الشرعية- هو الذي يحكم بالاستناد إلى المعصوم عند الامتثال للأحكام الشرعية؛ لضمان إبرائها للذمة، وبالتالي يحكم بلزوم طاعة المعصوم لفراغ الذمة مما انشغلت به من تكاليف.

الإشارة الثانية عشرة

المهم في بحث الإمامة إثبات لزوم الرجوع إليهم في الأخذ بأحكام

ص: 150

الله تعالى الشرعية.

قال رحمه الله: «ولا يهمنا من بحث الامامة في هذه العصور إثبات أنَّهم هم الخلفاء الشرعيون وأهل السلطة الإلهية، فإنَّ ذلك أمر مضى في ذمة التاريخ، وليس في إثباته ما يعيد دورة الزمن من جديد، أو يعيد الحقوق المسلوبة إلى أهلها، وإنما الذي يهمنا منه ما ذكرنا من لزوم الرجوع إليهم في الأخذ بأحكام الله الشرعية، وتحصيل ما جاء به الرسول الأكرم على الوجه الصحيح الذي جاء به».

هنا يشير الشيخ رحمه الله إلى عدم الحاجة إلى إثبات أصل الإمامة وأنَّ الأئمة علیهم السلام هم الخلفاء بعد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بلا فصل؛ لأنَّه أمر تاريخي، وإنّما فقط المهم أنْ نثبت لزوم الرجوع إليهم لأخذ الأحكام الشرعية منهم.

وقد يُعترض في هذا الأمر على قول الشيخ رحمه الله، إذ إنَّ الإمامة تعد أُس وأساس الإسلام كما ورد في بعض الروايات الشريفة، وورد في أخرى أنّه لم يُنادَ في الإسلام كما نودي بالولاية، فقد روي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: عَلَى الصَّلَاةِ والزَّكَاةِ والصَّوْمِ والْحَجِّ والْوَلَايَةِ، ولَمْ يُنَادَ بِشَيْءٍ كَمَا نُودِيَ بِالْوَلَايَةِ».(1)

وهكذا فإن البحث عن الإمامة يُعدُّ من أهم المباحث العقائدية!

لكن ربما قال الشيخ رحمه الله ما قال - والله العالم - من باب المجاراة مع القوم الذين لا يعترفون بخلافتهم المباشرة، فكأنّما يرد عليهم من باب ﴿قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلىٰ كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾.(2)

فكأنه يقول لهم: حتى وإنْ سلّمنا أنّهم ليسوا بخلفاء بعد النبي صلی الله علیه و آله وسلم بلا فصل، فإنَّنا

ص: 151


1- الكافي للكليني ج2 ص 18 بَابُ دَعَائِمِ الإِسْلَامِ ح1..
2- آل عمران 64

نتيقن بأننا مكلفون بتكاليف شرعية أولًا، وأنَّ هناك مذاهب متعددة تعتقد بجواز الرجوع إلى أي مذهبٍ منها ثانيًا، وأنَّ الاختلاف بين المذاهب قد يصل إلى حد التضاد أحيانًا ثالثًا، والعقل يحكم بضرورة فراغ ذمة المكلف من الأحكام الشرعية رابعًا، وعليه لابُد من البحث عن المذهب الذي نتيقن بفراغ ذمة المكلف بالالتزام به.

فإن كان المدار البحث عن الأعلم والأكمل، فهل تعرفون لهم من نظير بين علماء الإسلام كلهم؟ هل هناك من هو معصومٌ كما هم؟ أو هل هناك من قال في حقهم الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم ما قال فيهم في حديث الثقلين والنجوم وغيرها.

إذًا يجب علينا أنْ نطيعهم لا أنْ نطيع غيرهم، ونستقي العلوم منهم لا من غيرهم، ونمتثل للأحكام الشرعية بناءً على قولهم لا على قول غيرهم.

مما تقدم وبعدّهم (سلام الله عليهم) في عداد العلماء دون خلافة أو إمامة يتوصل الشيخ رحمه الله إلى دليل عقلي قطعي في وجوب طاعتهم، فيقول:

«والدليل القطعي دالٌ على وجوب الرجوع إلى آل البيت وأنّهم المرجع الأصلي بعد النبي لأحكام الله تعالى المنزلة وعلى الأقل قوله (عليه أفضل التحيات): «إنّي قد تركت فيكم ما إنْ تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا، الثقلين، وأحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ألا وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»، وقد اتفقت الرواية على هذا الحديث من قبل السنة والشيعة».

ثم يؤكد سماحته رحمه الله على دقة انتقاء الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله وسلم للألفاظ التي تشير بوضوح إلى تأكيدهs على ضرورة الرجوع إلى أهل البيت علیهم السلام، فقال (رحمه الله تعالى): «فدقق النظر في هذا الحديث الجليل تجد ما يقنعك ويدهشك في مبناه ومعناه، فما أبعد المرمى في

قوله: «إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا» والذي تركه فينا هما الثقلان معا إذ جعلهما كأمر واحد ولم يكتف بالتمسك بواحد منهما فقط، فبهما معا لن نضل بعده أبدا».

ص: 152

إشكالٌ وجوابه:

ربما يُشكل أحدهم مُدعيًا أنَّ كلَّ هذه الأحاديث الصحيحة التي تقدّمت إنما وردت على لسان الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم للدلالة على وجوب حبهم فقط لا على لزوم طاعتهم.

وفي مقام الرد نقول:

إنّا وإنْ سلّمنا بصحة ادعاء المُشكل هذا، فها هو القرآن الكريم ذا يُشير إلى أنَّ المحبة لا تكون إلا منبثقةً من الطاعة، قال (عزّ من قائل): ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.(1)

فحبٌ من دون طاعة إنّما هو محالٌ؛ لأنه تفريقٌ بين اللازم وملزومه، والتفريق بينهما غير صحيح، وما القول به إلا حياد من الصواب وهروب من الحق.

ص: 153


1- آل عمران 31

ص: 154

عقيدتنا في حب آل البيت عليهم السلام

اشارة

قال الشيخ رحمه الله: «عقديتنا في حُبِّ آلِ البيت:

قال الله عزوجل: ﴿قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبىٰ﴾(1)

نعتقد أنّه زيادةً على وجوب التمسك بآل البيت، يجب على كُلِّ مسلمٍ أن يدين بحبهم ومودتهم، لأنه عزوجل في هذه الآية المذكورة حصر المسؤول عليه الناس في المودة في القربى.

وقد تواتر عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم أنّ حُبًّهم علامة الإيمان، وأنَّ بغضهم علامة النفاق، وأنَّ من أحبهم أحبّ الله ورسوله، ومن أبغضهم أبغض الله ورسوله.

بل حبهم فرضٌ من ضروريات الدين الإسلامي التي لا تقبل الجدل والشك. وقد اتفق عليه جميع المسلمين على اختلاف نحلهم وآرائهم، عدا فئةٍ قليلةٍ اعتُبِروا من أعداء آل محمد، فنُبِزوا باسم (النواصب) أي من نصبوا العداوة لآلِ بيت محمد. وبهذا يُعدّون من المُنكرين لضرورةٍ إسلاميةٍ ثابتةٍ بالقطع. والمنكر للضرورة الإسلامية كوجوب الصلاة والزكاة يعد في حكم المنكر لأصل الرسالة، بل هو على التحقيق مُنكرٌ للرسالة، وإن أقرَّ في ظاهر الحال بالشهادتين، ولأجل هذا كان بغض آل محمد من علامات النفاق وحبهم من علامات الإيمان. ولأجله أيضاً كان بغضهم بغضاً لله ولرسوله.

ولا شكَّ أنّه عزوجل لم يفرض حبهم ومودتهم إلا لأنهم أهلٌ للحب والولاء، من ناحية قربهم إليه سبحانه و تعالی، ومنزلتهم عنده، وطهارتهم من الشرك والمعاصي ومن كُلِّ ما يُبعد عن

ص: 155


1- الشورى 23

دار كرامته وساحة رضاه.

ولا يمكن أنْ تتصور أنّه عزوجل يفرض حُبّ من يرتكب المعاصي أو لا يُطيعه حقَّ طاعته، فإنّه ليس له قرابةٌ مع أحدٍ أو صداقةٌ وليس عنده الناس بالنسبة إليه إلا عبيداً مخلوقين على حدٍ سواء، وإنّما أكرمهم عند الله أتقاهم. فمن أوجب حبه على الناس كلهم لا بد أن يكون أتقاهم وأفضلهم جميعاً، وإلا كان غيره أولى بذلك الحب، أو كان الله يفضل بعضاً على بعض في وجوب الحب والولاية عبثاً أو لهواً بلا جهة استحقاق وكرامة.» انتهى.

إنَّ جميع من يدّعي الإسلام لا يجدُ مناصًا من حب آل البيت علیهم السلام، ولا يخالف هذه المسألة إلا النواصب،وهم بذلك يخرجون عن الإسلام.

وقد اعتمد الشيخ في هذه العقيدة على قوله تعالى ﴿قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبىٰ﴾.(1)

ولمزيدٍ من الإيضاح حول ما ذكره الشيخ رحمه الله في هذه المسألة نذكر عدة أسئلة تتعلق بها:

السؤال الأول:

ما هو معنى هذه الآية؟

وردت العديد من التفسيرات لهذه الآية المباركة، بعضها ضعيفٌ جدًا فأثرنا عدم التعرض إليه فنقتصر على آراءٍ ثلاثة:

الأول: إنَّ النبي صلی الله علیه و آله وسلم في هذه الآية يخاطب قريش، طالبًا منهم أن لا يؤذوه وإنْ لم يكونوا مؤمنين به؛ وذلك للقرابة التي تربطه بهم، فتكون كلمة (في) في قوله: ﴿إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبىٰ﴾ هي (في السببية)، على غرار (دخلت امرأةٌ النار في هِرّةٍ حبستها حتى ماتت).

ص: 156


1- الشورى 23

وهذا الرأي واضحُ البطلان وضعيفٌ جدًا، إذ كيف يُتصور طلب الأجر ممن لم يؤمن به صلی الله علیه و آله وسلم؟! فإنَّ الأجر إنَّما يكون إزاء خدمةٍ مُعترفٍ بها من قبل الطرف الآخر، والمشركون لم يعترفوا بذلك ليصح طلب الأجر منهم.

الثاني: إنَّ النبي صلی الله علیه و آله وسلم يخاطب جميع المسلمين طالبًا منهم أنْ يحبوا من يتقرب إلى الله عزوجل بالطاعة، فتكون القربى هنا بمعنى (التقرب إلى الله)، وهذا هو أجر رسالته صلی الله علیه و آله وسلم.

وهذا الرأي ضعيفٌ باطلٌ من جهتين:

أولهما: نصَّ أهل اللغة على أنَّ كلمة القُربى لا تُستعمل في (التقرب)، وإنَّما هي بمعنى القرابة، وهذا خلاف الرأي هذا.

ثانيهما: ورد في النصوص المتواترة أنَّ المقصود من (القُربى) هو خصوص قرابة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، فيكون تفسيرها ب(التقرب) حينئذٍ اجتهادًا في مقابل النص، والاجتهاد في مقابل ما ثبت في الشريعة الإسلامية كنصٍ واضحٍ باطلٌ، فيكون هذا التفسير باطلًا.

الثالث: إنَّ النبي صلی الله علیه و آله وسلم يُخاطب المسلمين جميعًا طالبًا منهم أنْ يودوا قرابته وهو المعنى المُتعين.

السؤال الثاني:

بعد أنْ علمنا أنَّ معنى (القربى) هم قرابة الرسولs، فالآية المباركة قصدت أيًّا منهم تحديدًا؟

الجواب: ذكر المفسرون رأيين:

الرأي الأول: إنَّ المقصود ب(القربى) جميع أقرباء الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، أيّ إنَّ المسلمين جميعًا مأمورون بمودة كل من يمتُّ إليه بقرابة، فيشمل ذلك جميع قريش، وهذا الرأي واضحُ البطلان لجهاتٍ ثلاث:

الجهة الأولى: للقرينة العقلية، إذْ لا يُتصور أنْ يُطلب من المسلمين أنْ يودوا قرابة

ص: 157

الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بما فيهم من مؤمنين ومشركين وكافرين، وبما فيهم أبو لهب الذي نصَّ القرآن الكريم على لعنه ﴿تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾.(1)

الجهة الثانية: لمعارضته قوله عزوجل: ﴿لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(2)

فهذه الآية صريحةٌ في أنَّ الذي يؤمنُ بالله واليوم الآخر لا يودُّ من يُحادِّ الله ورسوله وإنْ كان أبًا أو ابنًا أو أخًا، ونحن نعلم أنَّ أيَّ مقولةٍ تتعارض مع القرآن الكريم يُضرب بها عرض الجدار.

الجهة الثالثة: من المعلوم أنَّ النبي صلی الله علیه و آله وسلم كان يظهر منه الاعتناء بمجموعة خاصة من قرابته وهم أهل الكساء، والروايات كثيرة في هذا المجال تبين بأنّه صلی الله علیه و آله وسلم كان يُفضلهم على كلِّ أقربائه، ويجعلهم كنفسه، ويتألم لألمهم، ويفرح لفرحهم، فكيف نتصور أنْ يساويهم بذلك المشرك الذي شهر السيف بوجهه صلی الله علیه و آله وسلم، وإنْ أسلم فإنَّ إسلامه بعد اللتيا والتي.

الرأي الثاني: إنَّ المقصود من القرابة هم خصوص أصحاب الكساء وهم (عليٌ، وفاطمة والحسنان صلوات الله وسلامه عليهم)، وهذا هو المعنى المتعين، والذي دلت عليه الروايات الكثيرة من كتب القوم فضلًا عن كتبنا، فمثلًا رووا عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ قالوا: يا رسول الله، من قرابتك التي افترض الله علينا مودتهم؟ قال: «عليٌّ وفاطمة وولدها. يردّدها».(3)

ص: 158


1- المسد 1.
2- المجادلة 22.
3- شواهد التنزيل لقواعد التفضيل للحاكم الحسكاني ج2 ص 191 ح 824.

والروايات في هذا المجال كثيرة وعديدة.

السؤال الثالث:

أشكل البعض خصوصًا السلفية والوهابية، وملخص إشكالهم: إنَّ آية المودة وردت في سورة الشورى، وسورة الشورى مكية، وإنَّ عليًا علیه السلام تزوج بفاطمة (سلام الله عليها) في المدينة المنورة، فكيف نتصور أنّ هذه الآية وهي من سورة الشورى المكية نزلت في علي وفاطمة وابنيهما وهما لم يتزوجا بعد ولم يولد الحسنان بعد؟

ويمكن الجواب عنه من جهتين:

الأولى: إنَّ أهل الفن نصوا على أنَّ خصوص هذه الآية مدنية، أيّ إنَّ سورة الشورى مكية إلا آية المودة وما بعدها من آيتين أو ثلاث فهن آياتٌ مدنيات، وأنْ تجمع سورةٌ واحدةٌ آياتٍ مكية وأخرى مدنية أمرٌ مُتعارفٌ عليه في القرآن الكريم، وقد نصَّ أهل الفن وأكدوا على أنّ هذه الآية من سورة الشورى مدنية.

الثانية: حتى وإن سلّمنا جدلًا بأنّ هذه الآية مكية، فقد جاءت على نحو القضية الحقيقية، وهي القضية التي تتحقق في أيِّ وقتٍ وجِدَ من تنطبقُ عليه في الخارج، كما في الأحكام الشرعية المأخوذة على نحو القضية الحقيقية لا الخارجية، ومنها الآيات التي أوجبت علينا الصلاة ولم نكن موجودين خارجًا عند نزول القرآن الكريم، ولكن لكونها على نحو القضية الحقيقية فمتى ما وجِد المكلفون انطبق حكمها عليهم وهو وجوب الصلاة.

وعليه، فإنَّ آية المودة ليست م-أخوذة على نحو القضية الخارجية، أي إنَّها تنطبقُ على خصوص الأفراد الموجودين من القرابة في الخارج فعلًا وقت النزول، بل على نحو القضية الحقيقة، أي متى ما وجد الأفراد الذين تنطبق عليهم في الخارج فإنَّها تتحقق ولو في المستقبل، ومن تنطبق عليه هم الذين ذكرهم رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، فمتى ما وجدوا في الخارج انطبقت عليهم الآية المباركة.

ص: 159

السؤال الرابع:

هل تختص الآية بعلي وفاطمة والحسن والحسين علیهم السلام فقط؟ أو تشمل بقية الأئمة علیهم السلام؟

الجواب: بل تشمل الأئمة كلهم علیه السلام للروايات الخاصة والدالة على ذلك، ومنها ما روي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام فِي قَوْلِه تَعَالَى: ﴿قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْه أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى﴾، قَالَ: هُمُ الأَئِمَّةُ علیهم السلام.(1)

السؤال الخامس:

كيف يطلب النبي صلی الله علیه وآله وسلم أجرًا على رسالته، على حين أنّ الأنبياء عمومًا لم يطلبوا ذلك، وكان قولهم: ﴿وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلىٰ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾(2)فكيف

يطلب النبي صلی الله علیه وآله وسلم هذا الأجر؟

قبل الجواب عن هذا السؤال، تجدر الإشارة إلى أنَّه لعله يتضمن جرأةً وجهلًا في آنٍ واحد، فأما الجرأة؛ ففي التطاول على مقام القرآن العزيز والنبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم، وأما الجهل؛ ففي فهم آيات القرآن الكريم، إذ لابُدَّ أنْ يؤخذ القرآن الكريم ككلٍّ واحدٍ في تفسير آياته؛ لأنَّها تفسر بعضها بعضًا، ولذا ذمَّ الله عزوجل من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، وهنا دعوة إلى الرجوع إلى أهل البيت علیهم الاسلام في تفسير القران.

والجواب: بناءً على ما تقدّم، فإنَّ القرآن الكريم بيّن أنَّ هذا الأجر الذي طلبه النبي صلی الله علیه وآله وسلم يمثل السبيل الأقوم لمن يبتغي الوصول إلى رضا الله عزوجل، قال عزوجل: ﴿قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً﴾(3)،ومن ثم فإنَّ الالتزام به يعود بالفائدة على الملتزم نفسه لا على الرسول صلی الله علیه وآله وسلم، فلا يصحَّ السؤال، قال (عزَّ من قائل): ﴿قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ اللهِ وَهُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ

ص: 160


1- الكافي للكليني ج1 ص413 بَابٌ فِيه نُكَتٌ ونُتَفٌ مِنَ التَّنْزِيلِ فِي الْوَلَايَةِ ح7.
2- الشعراء109
3- الفرقان 57

شَهِيدٌ﴾.(1)

السؤال السادس:

لو سلّمنا أنّ مفاد آية المودة هو إظهار المودة لأهل البيت علیهم السلام كأجرٍ للرسالة، فما الدليل على أنَّ مودتهم تستلزم إطاعتهم؟ فلنقل: إنه تلزم مودتهم ولكن في باب الطاعة فتتم إطاعة غيرهم؟!

الجواب: ربما يصحُّ هذا الكلام في المودة الاعتيادية، أما في مودةٍ تُمثل أجرًا للرسالة الخاتمة، أي تُمثل أجرًا لما قدّمه النبي الأكرمs من تضحيات جسيمة، وما تحمّله من أذى بالغ حتى قال: «ما أوذي نبي قط كما اوذيت»(2)، فهذه المودة يجب أنْ تكون متناسبةً مع عظمةِ الرسالة، ولا يُمكن أنْ نتصور أنَّ هذه المودة التي تمثل أجر رسالة النبي صلی الله علیه وآله وسلم كمودة أحدنا للآخر مما لا تستلزم الطاعة.

إشارات:
الإشارة الأولى:

إنَّ وجوب الحب والمودة لآل البيت علیهم السلام يدلُّ على طهارتهم من الشرك والمعاصي، أي يدلُّ على عصمتهم، وهذا ما أشار إليه الشيخ رحمه الله بقوله: «ولا شك أنه تعالى لم يفرض حبهم ومودتهم إلا لأنهم أهل للحب والولاء، من ناحية قربهم إليه سبحانه، ومنزلتهم عنده، وطهارتهم من الشرك والمعاصي ومن كل ما يبعد عن دار كرامته وساحة رضاه.

ولا يمكن أن تتصور أنه تعالى يفرض حب من يرتكب المعاصي أو لا يطيعه حق طاعته، فإنه ليس له قرابة مع أحد أو صداقة وليس عنده الناس بالنسبة إليه إلا عبيداً مخلوقين على حد سواء، وإنما أكرمهم عند الله أتقاهم. فمن أوجب حبه على الناس كلهم لا بد أن يكون أتقاهم وأفضلهم جميعاً، وإلا كان غيره أولى بذلك الحب، أو كان الله

ص: 161


1- سبأ 47.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج3 ص 42.

تعالى يفضّل بعضاً على بعض في وجوب الحب والولاية عبثاً أو لهواً بلا جهة استحقاق وكرامة».

فلا يُعقل أنْ يأمرنا الله عزوجل بمحبتهم وهم يمارسون المعصية، وعليه؛ فإنَّ هذا الوجوب يكشفُ عن طهارتهم وعصمتهم، ومن ثم ذُكرت هذه الآية المباركة كدليلٍ على عصمتهم.

الإشارة الثانية:

إنَّ وجوب حبِّهم يُلازم خروج مُبغضهم عن الدين والإسلام؛ لأنَّ بغضهم يعني تكذيبًا لرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وردّاً لأمر الله عزوجل، حيث إنَّهما يقولان بوجوب حب أهل البيت علیهم السلام، فيكون بغضهم علیهم السلام ونصب العداء لهم مخالفةً لأمر الله عزوجل، ومن ثم الخروج عن الإسلام، وهذا ما أشار إليه الشيخ رحمه الله أيضًا في كلامه حيث قال: «وقد تواتر عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم أن حبهم علامة الإيمان، وأن بغضهم علامة النفاق، وأن من أحبهم أحب الله ورسوله، ومن أبغضهم أبغض الله ورسوله. بل حبهم فرض من ضروريات الدين الاسلامي التي لا تقبل الجدل والشك... بل هو على التحقيق منكر للرسالة، وإن أقر في ظاهر الحال بالشهادتين، ولأجل هذا كان بغض آل محمد من علامات النفاق وحبهم من علامات الإيمان. ولأجله أيضاً كان بغضهم بغضاً لله ولرسوله».

الإشارة الثالثة:

إنَّ لزوم المحبة يعني لزوم الاتباع؛ إذ لا معنى للحُبِّ من دون طاعة؛ لقوله (عزَّ من قائل): ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.(1)

فمن دون اتباع أهل البيت علیهم السلام لا تصدق المودة.

وهذا الأمر يجري حتى على من يدّعي التشيع؛ فادعاء حبهم لا يكفي، بل لابد من الاتباع العملي لهم علیهم السلام، وقد ورد عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: قَالَ لِي: «يَا

ص: 162


1- آل عمران 31.

جَابِرُ، أيَكْتَفِي مَنِ انْتَحَلَ التَّشَيُّعَ أَنْ يَقُولَ بِحُبِّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ! فَوَالله مَا شِيعَتُنَا إِلَّا مَنِ اتَّقَى الله وأَطَاعَه، ومَا كَانُوا يُعْرَفُونَ يَا جَابِرُ، إِلَّا بِالتَّوَاضُعِ، والتَّخَشُّعِ، والأَمَانَةِ، وكَثْرَةِ ذِكْرِ الله، والصَّوْمِ والصَّلَاةِ والْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ، والتَّعَاهُدِ لِلْجِيرَانِ مِنَ الْفُقَرَاءِ وأَهْلِ الْمَسْكَنَةِ والْغَارِمِينَ، والأَيْتَامِ، وصِدْقِ الْحَدِيثِ وتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وكَفِّ الأَلْسُنِ عَنِ النَّاسِ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ، وكَانُوا أُمَنَاءَ عَشَائِرِهِمْ فِي الأَشْيَاءِ.

قَالَ جَابِرٌ: فَقُلْتُ: يَا ابْنَ رَسُولِ الله، مَا نَعْرِفُ الْيَوْمَ أَحَداً بِهَذِه الصِّفَةِ!

فَقَالَ علیه السلام: يَا جَابِرُ، لَا تَذْهَبَنَّ بِكَ الْمَذَاهِبُ، حَسْبُ الرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ أُحِبُّ عَلِيّاً وأَتَوَلَّاه ثُمَّ لَا يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ فَعَّالاً!

فَلَوْ قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ رَسُولَ الله صلی الله علیه وآله وسلم، فَرَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ علیه السلام، ثُمَّ لَا يَتَّبِعُ سِيرَتَه ولَا يَعْمَلُ بِسُنَّتِه، مَا نَفَعَه حُبُّه إِيَّاه شَيْئاً، فَاتَّقُوا الله واعْمَلُوا لِمَا عِنْدَ الله، لَيْسَ بَيْنَ الله وبَيْنَ أَحَدٍ قَرَابَةٌ، أَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى الله عزوجل وأَكْرَمُهُمْ عَلَيْه أَتْقَاهُمْ وأَعْمَلُهُمْ بِطَاعَتِه، يَا جَابِرُ، والله مَا يُتَقَرَّبُ إِلَى الله تَبَارَكَ وتَعَالَى إِلَّا بِالطَّاعَةِ، ومَا مَعَنَا بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ، ولَا عَلَى الله لأَحَدٍ مِنْ حُجَّةٍ مَنْ كَانَ لله مُطِيعاً فَهُوَ لَنَا وَلِيٌّ، ومَنْ كَانَ لله عَاصِياً فَهُوَ لَنَا عَدُوٌّ، ومَا تُنَالُ وَلَايَتُنَا إِلَّا بِالْعَمَلِ والْوَرَعِ.(1)

ص: 163


1- الكافي للكليني ج2 ص 74 – 75 بَابُ الطَّاعَةِ والتَّقْوَى ح3.

ص: 164

عقيدتنا في الأئمة عليهم السلام

اشارة

قال الشيخ قدس سره: «عقيدتنا في الأئمة:

لا نعتقد في أئمتنا ما يعتقده الغُلاة والحلوليون (كبُرت كلمةٌ تخرجُ من أفواههم). بل عقديتنا الخاصة أنهم بشرٌ مثلنا، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وإنّما هم عبادٌ مكرمون اختصهم الله عزوجل بكرامته وحباهم بولايته، إذ كانوا في أعلى درجات الكمال اللائقة في البشر من العلم والتقوى والشجاعة والكرم والعفة وجميع الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة، لا يدانيهم أحدٌ من البشر فيما اختصوا به. وبهذا استحقوا أن يكونوا أئمةً وهُداةً ومرجعاً بعد النبي في كل ما يعود للناس من أحكام وحكم، وما يرجع للدين من بيان وتشريع، وما يختص بالقرآن من تفسير وتأويل.

قال إمامنا الصادق علیه السلام: «ما جاءكم عنا مما يجوز أن يكون في المخلوقين ولم تعلموه ولم تفهموه فلا تجحدوه وردوه إلينا، وما جاءكم عنا مما لا يجوز أن يكون في المخلوقين فأجحدوه ولا تردوه إلينا».» انتهى.

بعد أن انتهينا إلى أنَّهم علیهم السلام خلفاء رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم حقًا وثبت لهم من الصفات ما لم تثبت لغيرهم، كالعصمة والعلم الخاص، فقد يخطر على الذهن ما يُردده بعض المخالفين، من أنَّ الشيعة يغالون في أئمتهم ويجعلونهم أربابًا وما شابه هذا الكلام؛ لذا كان من الفني جدًا أنْ يتطرّق الشيخ رحمه الله إلى هذه العقيدة (عقيدتنا في الأئمة علیهم السلام )، والتي أوضح من خلالها حدَّ الاعتقاد بأهلِ البيت علیهم السلام، ويمكن تلخيصها في نقطتين:

ص: 165

النقطة الأولى:

اشارة

لا يخلو مسلمٌ من الاعتقاد بهم.

إنَّ مسألة الاعتقاد بأهل البيت علیهم السلام هي مسألةٌ لا يخلو منها مسلم سلبًا أو إيجابًا، فكلُّ مسلمٍ مطالبٌ بأنْ يعتقد بأهل البيت صلوات الله عليهم، نعم، قد يكون هذا الاعتقاد إيجابياً (موافقا للأسس العامة للإسلام)، وقد يكون سلبيًا، وهذا السلبي قد يكون على نحو الإفراط في الاعتقاد بهم علیهم السلام وهو (الغلو)، وقد يكون على نحو التفريط بالاعتقاد بهم علیهم السلام.

وهذا يعني أنَّ الناس في هذه المسألة على ثلاثِ مراتب، وقد أشار إليها أمير المؤمنين علیه السلام في قوله: «الْيَمِينُ والشِّمَالُ مَضَلَّةٌ، والطَّرِيقُ الْوُسْطَى هِيَ الْجَادَّةُ، عَلَيْهَا بَاقِي الْكِتَابِ، وآثَارُ النُّبُوَّةِ، ومِنْهَا مَنْفَذُ السُّنَّةِ، وإِلَيْهَا مَصِيرُ الْعَاقِبَةِ...».(1)

والمراتبُ هي:

الأولى: مرتبة المُقصِّرة.

وهم الذين أنكروا مقامات أهل البيت علیهم السلام ومنازلهم التي وهبها لهم رب العالمين، وربما عادوا أهل البيت وحاربوهم وأنكروا خلافتهم وإمامتهم، ولهم عدة أنحاء:

الأول: من أنكر إمامتهم، وهذا قصَّر في الاعتقاد بأهل البيت علیهم السلام.

الثاني: من ساوى غيرهم بهم من المسلمين، فضلًا عمن فضّل غيرهم عليهم.

الثالث: من أنكر عصمتهم، ولعله يعترف بخلافتهم وإمامتهم.

الرابع: من أنكر كراماتهم ومعاجزهم.

وفي بعض الأحيان نجد بعض هذه المراتب حتى فيمن يدّعي التشيع، خصوصًا لدى من انغمس بالماديات كثيرًا، ويعتبر نفسه مثقفًا فينكر ما يصدر عن الأئمة علیهم السلام

ص: 166


1- نهج البلاغة ج1 ص 50.

من كرامات.

الثانية: مرتبة الغلاة.

وهؤلاء على أنحاء:

الأول: من ادعى الألوهية لهم علیهم السلام، وهذا واضحٌ جدًا بأنّه كفر.

الثاني: من أدى اعتقاده بالأئمة إلى إنكار نبوة النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم، وهذا أيضًا من الكفر، وهذا الذي يدّعيه البعض علينا بأنَّ الشيعة يقولون: خان الأمين، خان الأمين، أي إنَّ الوحي نزل وكان مكلفًا بإعطاء النبوة للإمام علي علیه السلام، لكنّه لم يجده فأعطاها للنبي صلی الله علیه وآله وسلم، وبهذا قد خان الأمانة!

وهو ادعاءٌ باطل ومكذوب على الشيعة، وأدلُّ دليلٍ على ذلك قول الشيعة أنفسهم بكفر من يعتقد بخيانة الأمين هذه، ولا يوجد شيعي يقول بهذا الشيء، ولكن ذكرناه من باب الاستقصاء العلمي.

الثالث: الذي اعتقد بأنَّ الأئمة علیهم السلام مُستقلون في أفعالهم عن الله عزوجل، وهذا مشركٌ؛ إذ كما تقدم في مبحث التفويض أنَّ التفويض:

أ: التفويض المعتزلي: ومفاده أنَّ الإنسان مستقل بأفعاله عن الله عزوجل وهذا يؤدي إلى الشرك.

ب: التفويض الذي ذكره القرآن الكريم: كتفويض قبض الأرواح إلى ملك الموت، وكتفويض النبي عيسى علیه السلام في إحياء الموتى، فهذا التفويض يعني التوكيل، ولا يعني أنَّ أيًا من ملك الموت أو النبي عيسى علیه السلام مستقلٌ في فعله عن الله عزوجل، بل يبقيان محتاجين إلى الإذن الإلهي، وهذا النحو من التفويض لا يؤدي إلى الشرك؛ لأنّه بإذن الله عزوجل وفي طول إرادته.

ص: 167

وعليه فإنَّ من يطلب من الأئمة حاجةً، كأن يطلب منه أنْ يرزقه ذرية مثلًا، فهذا إنْ كان يعتقد أنَّ الله عزوجل لا يستطيع أنْ يرزقه الذرية وأنَّ عليًا علیه السلام هو الذي يستطيع ذلك مستقلًا عنه عزوجل، فإن مثل هذا الشخص يُعدّ مشركًا، وإنْ كان يعتقد أنَّ الإمام علیه السلام يرزقه ذريةً بإذن الله تعالى وبكرامته عند الله (جلّ وعلا) لم يكن مشركًا البتة.

وهذا ما تعتقد المدرسة الإمامية؛ لأنَّ الائمة (سلام الله عليهم) تصدر منهم كرامات، وأما الرازق الحقيقي فهو الله عزوجل بتوسط ولاية أمير المؤمنين علیه السلام . فهذا تفويضٌ لكن لا على نحو الاستقلال، وأما الغلو فيقع فيما إذا اعتقد شخصٌ ما باستقلال أهل البيت علیهم السلام عن الله عزوجل، ومن لم يكن معتقدًا بهذا الأمر فلا يُعدُّ مُغاليًا؛ لتوافق اعتقاده مع ما جاء في القرآن الكريم الذي ذكر مسألة التفويض بصورةٍ واضحة.

الرابع: من قال بالحلول، يعني أن أرواح الأئمة علیهم السلام تحلُّ (تنتقل وتدخل) إلى أجساد بعض الناس، والذي عبّر عنهم الشيخ ب(الحلوليين)، وهذا التيار كان موجودًا حتى في زمن الأئمة (سلام الله عليهم) وفي بدايات الغيبة الصغرى، أما الآن فلا وجود علنياً له. نعم، ظهرت بعض التيارات في بعض السنوات السابقة ما تسمى ب(السلوكيين) وهو قريب من الحلول أو هو نفسه.

المرتبة الثالثة: (النمرقة الوسطى).

وهم الآخذون بالحدِّ الوسط، فلا ينكرون مقاماتهم وكراماتهم كما يفعل المقصرة، ولا يرفعونهم إلى مقام الألوهية كما يفعل الغلاة. وهذه المرتبة هي المتوافقة مع النظام العام للإسلام، وهي المرتبة التي أرادها منّا أهل البيت علیهم السلام، وهي ما يلتزم به الشيعة في كلِّ الأزمنة وفي كلِّ أنحاء الأرض، روي عن أمير المؤمنين علیه السلام في بيان هذه المراتب: نَحْنُ النُّمْرُقَةُ الْوُسْطَى، بِهَا يَلْحَقُ التَّالِي، وإِلَيْهَا يَرْجِعُ الْغَالِي.(1)

ص: 168


1- نهج البلاغة ج4 ص 26 الحكمة 109.

النقطة الثانية: حد الاعتقاد (النمرقة الوسطى).

هناك مجموعة من الأحاديث الشريفة تبين لنا أنَّ هذه المرتبة من الاعتقاد في الحقيقة هي مرتبةٌ عاليةٌ جدًا، ولا يعني الالتزام بها الوصول إلى حقيقة مقاماتهم أو معرفة كنه منازلهم علیهم السلام، ومما يُنبِّه على عِظَمِ هذه المرتبة ويُبين حدَّها الدقيقَ -وفي نفس الوقت الغامضَ؛ إذ لا يمكن إدراك غوره- عدة روايات:

ما روي أنه قال أمير المؤمنين علیه السلام: جلَّ «مقام آل محمد عن وصف الواصفين ونعت الناعتين، وأنى يُقاس بهم أحد من العالمين؟ وكيف وهم النور الأول...».(1)

وروي عنهم علیهم السلام: «نزهونا عن الربوبية(2)وارفعوا عنا حظوظ البشرية، فلا يقاس بنا أحد من الناس».(3)

وفي ما روي عنهم من إخبارهم بالمغيبات وتصحيح فكر الآخر بكونهم عبيدًا لله تعالى ما روي عن إسماعيل بن عبد العزيز قال: «قال لي أبو عبد الله علیه السلام ضع لي في المتوضأ ماءً. قال: فقمت فوضعت له فدخل، قال: فقلت في نفسي: أنا أقول فيه كذا وكذا ويدخل المتوضأ! فلم يلبث أن خرج فقال: يا إسماعيل بن عبد العزيز، لا ترفعوا

ص: 169


1- مشارق أنوار اليقين للحافظ البرسي ص 177 وبحار الأنوار للعلامة المجلسي ج25 ص 171 - 172
2- في هذه الرواية وُجّه سؤال إلى السيد الخوئي نُقل في صراط النجاة - الميرزا جواد التبريزي - ج 2 - ص 452 تحت رقم السؤال 1421:«نزهونا عن الربوبية وقولوا فينا ما شئتم» هل أن هذه المقولة حديث؟ وإلى من تنسب من الأئمة الأطهار:؟ ج/ الخوئي: لا يحتاج تنزيههم عن صفات الرب المختصة به واتصافهم بجميع ما عدى تلك من صفات الكمال التي يمكن أن تنالها البشرية في قدسيتها، كما هم منزهون عن ما لا يليق أن يتصف به المخلوق المعصوم عن الزلل والمعاصي لا تحتاج تلك إلى ورود رواية حتى نثبته بمضمونها إن كانت معتبرة، أو نطرحها إن كانت ضعيفة غير معتبرة، والله العالم.
3- مشارق أنوار اليقين للحافظ البرسي ص 101.

البناء فوق طاقتنا فينهدم، اجعلونا عبيدًا مخلوقين، وقولوا فينا ما شئتم...».(1)

وعن خالد بن نجيح الجوار قال: «دخلت على أبي عبد الله علیه السلام وعنده خلقٌ، فقنعت رأسي فجلست في ناحية وقلت في نفسي: ويحكم ما أغفلكم عند من تكلمون؟ عند رب العالمين! قال: فناداني: ويحك يا خالد، إني والله عبد مخلوق، لي ربٌّ أعبده، إن لم أعبدْه والله عذّبني بالنار. فقلت: لا والله لا أقول فيك أبدا إلا قولك في نفسك».(2)

وفي رواية عن أمير المؤمنين علیه السلام أنه قال لأبي ذر: «اعلم يا أبا ذر أنا عبد الله عزوجل وخليفته على عباده لا تجعلونا أربابًا، وقولوا في فضلنا ما شئتم، فإنكم لا تبلغون كنه ما فينا ولا نهايته، فإن الله عزوجل قد أعطانا أكبر وأعظم مما يصفه واصفُكم، أو يخطر على قلب أحدكم، فإذا عرفتمونا هكذا فأنتم المؤمنون».(3)

وهذه الروايات تحكي واقعًا صحيحًا، وهو أنَّ الائمة علیهم السلام ليسوا آلهة لكنهم من العظمة بمكان بحيث لا ندرك حقيقتهم.

وهو بحثٌ خاصٌ بالمدرسة الإمامية؛ وذلك لأنها هي الوحيدة التي تُنزل أهل البيت علیهم السلام المنزلة الوسطى، حيث لا إفراط ولا تفريط، لا غلو ولا تقصير. فمن الضروري التعرف إليها ليعلم كلٌّ منا أين موقعه ومرتبته في اعتقاده بهم علیهم السلام، لا سيما أنَّها هي الأخرى على مراتب متعددة، وهي على نحو الإجمال:

ص: 170


1- بصائر الدرجات للصفار (ص 261 باب (10) باب في الأئمة انهم يعرفون الاضمار وحديث النفس قبل ان يخبروا به/ ح 22)
2- بصائر الدرجات للصفار (ص 261 – 262 باب (10) باب في الأئمة انهم يعرفون الاضمار وحديث النفس قبل ان يخبروا به/ ح 25)
3- بحار الأنوار للمجلسي ج26 ص 2.

مراتب المعرفة بأهل البيت عليهم السلام

المرتبة الأولى: المعرفة الإجمالية:

فهناك من لا يعرف عن أهل البيت علیهم السلام إلا أسماءهم، وأنهم هم الذين تجب طاعتهم وموالاتهم، وهم أهل الكساء والذرية المعصومة من الإمام الحسين علیه السلام، وهذه المرتبة على بساطتها أفضل ممن يُنكر مقاماتهم، ولكنها معرفةٌ متواضعة جدًا، لا ترتقي بالإنسان الموالي إلى مراتب الكمال المطلوبة. نعم، بالنسبة للعجائز أو ممن عقله لا يُحسن أنْ يحمل أكثر من هذا المقدار فهذا معذورٌ، لكن الإنسان الذي يتمتع بعقلٍ يمكنه المعرفة أكثر من ذلك، ويستطيع أن يصل إلى كمالٍ أعلى بطلب العلم، فلا يُكتفى منه بهذه المرتبة.

المرتبة الثانية: الجمع بين محبتهم ومحبة أعدائهم.

هناك من يعرف أسماء أهل البيت علیهم السلام، ويعتقد بأفضليتهم وأعلميتهم ومنزلتهم من الرسول صلی الله علیه وآله وسلم، ولكنه رغم ذلك لا يُعادي عدوهم، ولا يرضى بأن يبتعد عن دائرة أعدائهم بحجةٍ أو بأخرى، كأن يقول عنهم: إنَّهم صحابة ولا بد أنْ نحبهم، أو يقول: نوكل حسابهم إلى الله عزوجل، بالنتيجة هو يحبهم ويحب أعداءهم!

وهذه المرتبة غير مقبولة في التشيع أبدًا؛ لأنَّ أهل البيت علیهم السلام أنفسهم قد نصّوا على أنَّ الالتحاق بهم لا يكون إلا بحبهم الذي يعني في نفس الوقت معاداة أعدائهم، وبهذه الطريقة تكتملُ النمرقة الوسطى.

وقد أكّدت الروايات على أنَّ تمام الولاية في البراءة من أعداء أهل البيت علیهم السلام،

ص: 171

وقد روي عن الإمام الصادق علیه السلام: «من شك في كفر أعدائنا والظالمين لنا فهو كافر».(1)

وقيل للصادق علیه السلام: «إن فلانًا يواليكم إلا أنه يضعف عن البراءة من عدوكم، فقال: هيهات، كذب من ادعى محبتنا ولم يتبرّأ من عدونا».(2)

كما روي عن الإمام الرضا علیه السلام أنَّه قال: «كمال الدين ولايتنا والبراءة من عدونا».(3)

ومن الجدير بالذكر، أنَّ الجمع بين حبهم وحب أعدائهم مما يمكن أنْ نجده في خارج دائرة التشيُّع وربما بكثرة، وما يعتقده العامة من المسلمين اليوم أدلُّ دليلٍ على ذلك، فضلًا عما وردنا من روايات، فقد ورد أنَّ معاوية سأل سعد بن أبي وقاص: «ما يمنعك أنْ تَسُبَّ ابن أبي طالب؟ فقال سعد: لا أسبه؛ ما ذكرتُ ثلاثًا قالهن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم لئن يكون لي واحدة منهن أحبُّ إليَّ من حُمرِ النعم:

لا أسبه ما ذكرتُ حين نزل الوحي عليه فأخذ عليًا وابنيه وفاطمة وأدخلهم تحت ثوبه، ثم قال: ربي هؤلاء أهل بيتي وأهلي، ولا أسبه ما ذكرت حين خلّفه في غزوةٍ غزاها، قال عليٌ: خلّفتني مع الصبيان والنساء؟! قال: أو لا ترضى أنْ تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنَّه لا نبيَّ بعدي، ولا أسبه ما ذكرتُ يوم خيبر حين قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: لأعطين الراية رجلًا يحب الله ورسوله ويفتح الله على يديه فتطاولنا، فقال: أين علي؟ فقالوا: هو أرمد، قال: ادعوه، فدعوه فبصق في عينيه ثم أعطاه الراية ففتح الله عليه».(4)

ولكن رغم ذلك فإن موقف ابن أبي وقاص من أمير المؤمنين علیه السلام واضح للعيان.

ص: 172


1- الاعتقادات في دين الإمامية للشيخ الصدوق ص 104.
2- مستطرفات السرائر لابن إدريس الحلي ص 266.
3- مستطرفات السرائر لابن إدريس الحلي ص 640.
4- المستدرك للحاكم النيسابوري ج3 ص 108 – 109 وخصائص أمير المؤمنين علیه السلام للنسائي ص 81- 82.
المرتبة الثالثة: محبتهم وطاعتهم دون الاعتقاد بمقاماتهم العالية.

وهي نظرية (علماء أبرار)، بمعنى أنه قد يوالي أهل البيت (سلام الله عليهم)، ويعتقد بوجوب طاعتهم، ولكنه لا يُقرُّ بمقاماتهم العالية؛ لاعتقاده أنَّ أهل البيت علیهم السلام كسائر عبيد الله عزوجل، إلا أنَّهم أفضل منهم إلى درجةٍ لا تصل إلى بلوغهم تلك المقامات العالية، كقدرتهم علیهم السلام على معرفة ما في النفوس مثلًا، أو قدرتهم (سلام الله عليهم) على معرفة بعض الغيبيات، أو القيام ببعض المعجزات والكرامات، متهمًا كلَّ من يعتقد بذلك بالغلو فيهم علیهم السلام وربما تأليههم، رغم أنَّه يعتقد تمامًا بأنَّ صدور تلك المعاجز من الأنبياء علیهم السلام لا غلو فيه ولا تأليه؛ مستندًا إلى الأدلة الدالة على معجزاتهم لا سيما في القرآن الكريم.

والغريب أنه إنْ جاز صدور المعجزات في حدِّ ذاته، ولم ينافِ توحيد الله (تبارك وتعالى)، بل كان متماشيًا مع إيمان المسلم طالما صدرت عن أفرادٍ دلّت الأدلة الشرعية على صدورها منهم أو قدرتهم عليها؛ لما بلغوا من مراتب عليا في الكمال، فما الضير إذاً في أن يكون أئمة أهل البيت علیهم السلام كذلك؟! وهم الذين دلّت الأدلة الشرعية أيضًا على قدرتهم على الإتيان بالمعجزات؛ وقد بلغوا أعلى المراتب الكمالية، التي تفوق مراتب الأنبياء علیهم السلام أيضًا؟!

وهذه المرتبة غير مقبولة في التشيع.

المرتبة الرابعة: الاتباع المصلحي.

هناك من يتبع أهل البيت علیهم السلام طالما كانت مصلحته الشخصية في اتباعهم، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الديانون؛ لعدم بلوغهم درجةً من الإيمان تؤهلهم للاستعداد عن التخلي عن مصالحهم الشخصية فيما إذا تعارضت مع اتباعهم للأئمة علیهم السلام، وأبرز مثال على ذلك هم من تخلوا عن نصرة الإمام الحسين علیه السلام رغم اعتقاده بإمامته وأنَّه على حق.

ص: 173

وهذه المرتبة غير مقبولة في التشيُّع؛ لذا استحق الخاذلون للإمام الحسين علیه السلام من السيدة زينب علیها السلام الملام والتوبيخ.

المرتبة الخامسة: الاعتقاد المطلق بولايتهم والبراءة من أعدائهم.

وهي مرتبة الاعتقاد بأهل البيت (سلام الله عليهم) اعتقادًا مطلقًا يتمثل بالإيمان بولايتهم، وبالبراءة من عدوهم، والإقرار بأنَّهم قد تمَّ تنصيبهم من الله عزوجل؛ فيلزم اتباعهم بلا نقاش، فنؤمن بكلِّ ما ورد عنهم ونأتمر بكلِّ أوامرهم بقطع النظر عن مسألةِ المنافع الدنيوية التي تجرُّها إلينا الولاية، أو تمنعنا منها.

ولسان حال هذه المرتبة –كما في الزيارة الجامعة-: «فَالرَّاغِبُ عَنْكُمْ مارِقٌ وَاللازِمُ لَكُمْ لاحِقٌ وَالمُقَصِّرُ فِي حَقِّكُمْ زاهِقٌ وَالحَقُّ مَعكُمْ وَفِيكُمْ وَمِنْكُمْ وَإِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ أَهْلُهُ وَمَعْدِنُهُ، وَمِيراثُ النُّبُوَّةِ عِنْدَكُمْ وَإِيابُ الخَلْقِ إِلَيْكُمْ وَحِسابُهُمْ عَلَيْكُمْ وَفَصْلُ الخِطابِ عِنْدَكُمْ وَآياتُ الله لَدَيْكُمْ وَعَزائِمُهُ فِيكُمْ وَنُورُهُ وَبُرْهانُهُ عِنْدَكُمْ وَأَمْرُهُ إِلَيْكُمْ.

مَنْ وَالاكُمْ فَقَدْ وَالى الله وَمَنْ عاداكُمْ فَقَدْ عادى الله وَمَنْ أَحَبَّكُمْ فَقَدْ أَحَبَّ الله وَمَنْ أَبْغَضَكُمْ فَقَدْ أَبْغَضَ الله وَمَنْ اعْتَصَمَ بِكُمْ فَقَدْ اعْتَصَمَ بِاللهِ، أَنْتُمُ الصِّراطُ الأقْوَمُ وَشُهَداءُ دارِ الفَناءِ وَشُفَعاءُ دارِ البَقاءِ وَالرَّحْمَةُ المَوْصُولَةُ وَالآيَةُ المَخْزُونَةُ وَالاَمانَةُ المَحْفُوظَةُ وَالبابُ المُبْتَلى بِهِ النَّاسُ، مَنْ أَتاكُمْ نَجا وَمَنْ لَمْ يَأْتِكُمْ هَلَكَ...

فَمَعَكُمْ مَعَكُمْ لا مَعَ غَيْرِكُمْ آمَنْتُ بِكُمْ وَتَوَلَّيْتُ آخِرَكُمْ بِما تَوَلَّيْتُ بِهِ أَوَّلَكُمْ وَبَرِئْتُ إِلى الله عزوجل مِنْ أَعْدائِكُمْ، وَمِنَ الجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَالشَّياطِين وَحِزْبِهِمُ الظَّالِمِينَ لَكُمْ الجاحِدِينَ لِحَقِّكُمْ وَالمارِقِينَ مِنْ وِلايَتِكُمْ وَالغاصِبِينَ لاِرْثِكُمْ الشَّاكِّينَ فِيكُمْ المُنْحَرِفِينَ عَنْكُمْ وَمِنْ كُلِّ وَلِيجَةٍ دُونَكُمْ وَكُلِّ مُطاعٍ سِواكم، وَمِنَ الأَئِمَّةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلى النَّارِ..».

وأصحابُ هذه المرتبة لا يبالون بما يجري عليهم في موالاة أهل البيت علیهم السلام ولو قُطِّعوا إربًا، يقول الإمام أمير المؤمنين علیه السلام: «إن الله تبارك وتعالى أطلع إلى الأرض

ص: 174

فاختارنا، واختار لنا شيعة، ينصروننا ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا أولئك منا وإلينا..».(1)

وعن أبي جعفر علیه السلام، قال: «كان علي بن الحسين علیه اسلام يقول: أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي علیهما السلام دمعة حتى تسيل على خده بوأه الله بها في الجنة غرفا يسكنها أحقابا، وأيما مؤمن دمعت عيناه حتى تسيل على خده فينا للذي مسنا من عدونا في الدنيا بوأه الله بها في الجنة مبوأ صدق، وأيما مؤمن مسه أذى فينا فدمعت عيناه حتى تسيل على خده من مضاضة ما أوذي فينا صرف الله، عن وجهه الأذى وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار».(2)

إشارة: في لزوم التسليم لهم علیهم السلام .

إنَّ الأئمة علیهم السلام هم فوق مستوى البشر؛ لما بلغوا من كمالاتٍ عالية، بحيث لا ندرك مقاماتهم الحقيقية، ولذا فمن الممكن أنْ يعسر علينا فهم أو إدراك بعض أقوالهم، فوظيفتنا حينئذ لزوم التسليم فضلًا عن عدم الجحود بها طالما ثبت صدروها عنهم سواء كانت متواترةً أو أخبار ثقة سلسلتها صحيحة مائة بالمائة؛ لأنَّ عدم فهم حديثٍ ما لا يُسوِّغ رفضه، ولا يبرر الجحود به، بل يلزم قبوله وإرجاع فهمه إلى الإمام نفسه. أي يجب الإيمان بما لا ندركه من الأحاديث تعبدًا؛ لوجوب طاعتهم علیهم السلام بأمر رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، الذي أمرنا الله عزوجل بوجوب طاعته، فيتحصّل أنَّ الله عزوجل هو من أمرنا بأنْ نطيعهم.

وقد أرشدت الروايات الشريفة إلى ذلك، منها ما روي عن الإمام الصادق علیه السلام أنَّه قال: «ما جاءكم منا مما يجوز أن يكون في المخلوقين، ولم تعلموه ولم تفهموه، فلا

ص: 175


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 635 حديث أربعمائة...
2- كامل الزيارات لجعفر بن محمد بن قولويه ص 201 الباب (32) ثواب من بكى على الحسين بن علي3 ح 285/ 1.

تجحدوه، وردوه إلينا، وما جاء كم عنا مما لا يجوز أن يكون في المخلوقين، فاجحدوه ولا تردوه إلينا».(1)

وهذا مقتضى الإيمان بمقام إمامتهم علیهم السلام، وبعصمتهم التي تمنعهم من الخطأ، وبلزوم طاعتهم.

ص: 176


1- مختصر بصائر الدرجات للحسن بن سليمان الحلي ص 92.

عقيدتنا في أنَّ الإمامة بالنص

اشارة

قال قدس سره: «عقيدتنا في أن الإمامة بالنص

نعتقد أنّ الإمامة كالنبوة لا تكون إلا بالنص من الله عزوجل على لسان رسوله أو لسان الإمام المنصوب بالنص إذا أراد أن ينص على الإمام من بعده، وحكمها في ذلك حكم النبوة بلا فرق، فليس للناس أن يتحكموا فيمن يعينه الله هادياً ومرشداً لعامة البشر، كما ليس لهم حق تعيينه أو ترشيحه أو انتخابه، لأن الشخص الذي له من نفسه القدسية استعداد لتحمل أعباء الإمامة العامة وهداية البشر قاطبة يجب ألا يعرف إلا بتعريف الله ولا يعين إلا بتعيينه.

ونعتقد أنّ النبي صلی الله علیه وآله وسلم نص على خليفته والإمام في البرية من بعده، فعيّن ابن عمه علي بن أبي طالب أميراً للمؤمنين وأميناً للوحي وإماماً للخلق في عدة مواطن، ونصبه وأخذ البيعة له بإمرة المؤمنين يوم الغدير فقال: «ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدِرِ الحقَّ معه كيفما دار».

ومن أول مواطن النص على إمامته قوله حينما دعا أقرباءه الأدنين وعشيرته الأقربين فقال: «هذا أخي ووصيي وخليفتي من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا» وهو يومئذٍ صبيٌ لم يبلغ الحلم. وكرّر قوله له في عدة مرات: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنّه لا نبي بعدي» إلى غير ذلك من رواياتٍ وآياتٍ كريمةٍ دلّت على ثبوت الولاية العامة له كآية ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ

ص: 177

وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾، وقد نزلت فيه عندما تصدق بالخاتم وهو راكعٌ ولا يساعد وضع هذه الرسالة على استقصاء كُلِّ ما ورد في إمامته من الآيات والروايات ولا بيان وجه دلالتها.

ثم إنّه علیه السلام نصَّ على إمامة الحسن والحسين، والحسين نصَّ على إمامة ولده علي زين العابدين وهكذا إماماً بعد إمامٍ ينصُّ المتقدم منهم على المتأخر إلى آخرهم وهو أخيرهم على ما سيأتي.» انتهى.

يُعدُّ هذا البحث من الأبحاث المهمة والرئيسية في الإسلام؛ وذلك لأنَّ إثبات مضمون هذا البحث أو نفيه هو السبب الرئيسي الذي أدى إلى انقسام المسلمين إلى فرقتين عظيمتين جدًا، وهما: فرقةُ أتباع أهل البيت علیهم السلام، وفرقةُ العامة، لذا فما من نقاشٍ يمكن أنْ يكون مثمرًا بين هاتين الفرقتين إلا إذا كان مدخله هذه النقطة، وهو (بحثُ الإمامة، وهل هي بنصٍ من الله عزوجل أو لا؟).

ولمزيدٍ من التوضيح نذكر عدة نقاطٍ في هذا المجال:

ص: 178

النقطة الأولى:

اشارة

الآراء في كيفية جعل الإمام

هناك رأيان أساسيان في هذه المسألة، تولّدت منهما نظريتان، ترتب على تلكما النظريتين الكثير من الآثار على مستوى العقيدة أو الفقه أو السلوك، وهما:

النظرية الأولى: نظريةُ قبولِ الأمر الواقع:

وتبتني هذه النظرية على أنَّ خلافة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ليس لها أساسٌ مُسبقٌ تبتني عليه إلا ما وجدنا في التاريخ من الأمر الذي وقع، بمعنى أننا نصوغ الخلافة على أساس ما وقع، فالمؤسس لهذه النظرية نفسُ الذي وقع لا أمرٌ سابق، فإنْ حصلت الخلافة عن طريق الشورى فبها ونعمت، وإنْ حصلت عن طريق التعيين أو عن طريق اختيار الحل والعقد فلا إشكال، بل وإنْ حصلت عن طريق القهر والسيف فلا إشكال أيضًا.

وبعبارةٍ صريحةٍ جدًا: إنَّ هذه النظرية تقول بشرعية حكم كلِّ من وصل إلى كرسي الحكم بقطع النظر عن الطريقة التي وصل عبرها إليه.

والأشاعرة هم من قالوا بهذه النظرية؛ وذلك من خلال مطالعتهم لما حدث وتصحيحه أيًا كان ليس إلا، فهم وجدوا أنَّ خلافة أبي بكر اجتمع عليها بعض الأشخاص مثل عمر بن أبي الخطاب والذين كانوا معه كما جاء في الروايات وكما حفظ التاريخ أسماءهم (عمر بن أبي الخطاب، ابو عبيدة الجراح، أُسيد بن خضير، بشر بن سعد وأسلم مولى أبي حذيفة)، فهؤلاء الخمسة هم من بايعوا أبا بكر وخرجوا من السقيفة يدعون الناس إلى مبايعته، فكتبوا البند الأول في نظريتهم: إنَّ الخلافة يمكن

ص: 179

أنْ تنعقد بأهل الحل والعقد.

وعندما وجدوا أنَّ خلافة عمر بن أبي الخطاب جاءت بتعيينٍ من أبي بكر، أضافوا بندًا آخر مفاده صحة انعقاد الخلافة بالتعيين، وعندما وجدوا أنَّ خلافة عثمان بن عفان صارت بالشورى عن طريق ستة أشخاص، بل باتفاق ثلاثة لو كان فيهم شخص معين (وهو عبد الرحمن بن عوف)، قالوا بصحتها، وعندما وجدوا أنَّ خلافة أمير المؤمنين علیه السلام جاءت بالإجماع أي بإجماع أهل المدينة، قالوا بصحتها أيضًا، ولأنَّ معاوية أصبح خليفةً بالسيف، فقد أضافوا إلى نظريتهم ما يصحح انعقاد الخلافة بالقوة والسيف!

وعليه فإنَّ كلَّ أنواع طرق الوصول إلى هذه الخلافة هي مقبولةٌ لديهم، ويُعدُّ الواصل إلى الحكم -من أيِّ طريق كان- خليفةً وإمامًا، وتجب طاعته والخارج عليه هو خارج على إمام زمانه إلا إذا تاب، وإذا لم يتُب قُتِل وهو باغٍ.

ومن الجدير بالذكر: أنَّ هذه النظرية ما وضعت إلا لتصحيح السبل التي سلكها من يسمونهم بالخلفاء في الوصول إلى الحكم وإن كانت ظلمًا وجورًا، ومن ثَمّ فإنَّ الهدف من وضعها محاولة شرعنة المخالفات الشرعية وإسباغ حكم الإباحة على ما حرّمه الشارع الأقدس، وتبرير مختلف الجرائم التي ارتُكبت في سبيل الوصول إلى الحكم.

ومن جهةٍ أخرى فإنَّها تضفي الشرعية على كلِّ من يحاول الوصول إلى الحكم مهما كانت السبل التي يسلكها -ملتوية أو إجرامية وما شاكل ذلك-.

فهي نظرية -علاوة على قبولها بالظلم فيما مضى- فإنَّها تؤسس للظلم فيما هو آتٍ.

النظرية الثانية: نظرية النص:

وهي ما يصرّ أهل البيت علیهم السلام على تبنيها في مسالة تعيين الامام، هذه النظرية تمثل أساسا لتعيين الإمام، فهي سابقة على كون الإمام إماماً، أي إن هناك أساسًا، ومن انطبق عليه الأساس فإنه يكون هو الخليفة.

ص: 180

النقطة الثانية:

اشارة

ماذا يعني النص؟

يُقصد بالنص: التنصيب الإلهي، أي إنَّ من يجعل الشخص إمامًا وخليفةً عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ليس هو إلا الله عزوجل، فيكون حالُ الإمامة في ذلك حالَ النبوة في أنَّ من يجعل النبي ليس هو إلا الله عزوجل.

وبما أنَّ التنصيب من الله عزوجل، وهو سبحانه وتعالی لا يمكن الاتصال به من سائر البشر؛ لذا لا بد من كاشف لنا عن هذا التنصيب، وقد أمكن الكشف عنه بأحد الطرق الثلاثة التالية:

الطريق الأول: التبليغ.

فيكون التنصيب بتبليغ النبيs، فينص على أنَّ خليفته فلان، أو أنْ ينص الإمام الذي ثبتت إمامته على إمامة الإمام اللاحق، وهذا النص من الرسول أو الإمام يمثل واسطةً في نقل الأمر الإلهي إلى الناس، لا أنَّ النبي صلی الله علیه وآله وسلم أو الإمام هما من ينصّبان الإمام؛ لأنَّ مسألة الإمامة هي حقٌّ مختصٌ بالله عزوجل وحده.

الطريق الثاني: المعجزة.

من الواضح جدًا أنَّ المعجزة تثبت نبوة النبي، فمن بابٍ أولى أنَّها تثبت إمامة الإمام؛ لذا فمن طرق كشف من يدّعون إمامة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف مثلاً، هو مطالبتهم بالمعجزة، وقد ورد أنَّ الخراساني أو الحسني عندما يطالب الإمام بالمعجزة فإن الإمام يأخذ غصنًا من خشبٍ يابس يغرسه فيورق من ساعته.

ص: 181

ففي رواية: «ويلحقه الحسني في اثني عشر ألفاً، فيقول له: أنا أحقُّ منك بهذا الأمر، فيقول له: هات علامة، هات دلالة، فيومئ إلىٰ الطير فيسقط علىٰ كتفه، ويغرس القضيب الذي بيده فيخضرّ ويعشوشب، فيُسلِّم إليه الحسني الجيش، ويكون الحسني علىٰ مقدمته...»(1).

الطريق الثالث: الطريق العقلي.

ويُسمى أيضًا طريق جمع القرائن، أو ملاحظة الصفات والخصائص والأفعال المتوفرة لدى شخصٍ ما، بحيث يتيقن الإنسان العاقل من خلال مشاهدة هذه الخصائص والصفات بأنَّ هذا الشخص هو إمامٌ معصوم.

وقد أثبتت الحوادث التاريخية اكتشاف العديد من الأشخاص نبوة النبي أو إمامة الإمام عن طريق تجميع القرائن فقط، كما يظهر ذلك بشكل جلي من رواية دحية الكلبي قال: بعثني رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم بكتاب إلى قيصر، فأرسل إلى الأسقف فأخبره بمحمد صلی الله علیه وآله وسلم وكتابه فقال: هذا النبي الذي كنا ننتظره، بشرنا به عيسى بن مريم.

فقال الأسقف: أما أنا فمصدقه ومتبعه. فقال قيصر: أما أنا إن فعلت ذلك ذهب ملكي. ثم قال قيصر: التمسوا لي من قومه ها هنا أحدا أسأله عنه.

وكان أبو سفيان وجماعة من قريش دخلوا الشام تجارا فأحضرهم، قال: ليدنُ مني أقربكم نسبا به. فأتاه أبو سفيان فقال: أنا سائل عن هذا الرجل الذي يقول: إنه نبي. ثم قال لأصحابه: إن كذب فكذبوه.

قال أبو سفيان: لولا الحياء أن يأثر أصحابي عني الكذب لأخبرته بخلاف ما هو عليه.

ص: 182


1- الملاحم والفتن لابن طاووس: 295 و296.

فقال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: ذو نسب.

قال: فهل قال هذا القول منكم أحد؟ قلت: لا.

قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل؟ قلت: لا.

قال: فأشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم؟ قلت: ضعفاؤهم.

قال: [ فهل] يزيدون أو ينقصون؟ قلت: يزيدون.

قال: يرتد أحد منهم سخطًا لدينه؟ قلت: لا.

قال: فهل يغدر؟ قلت: لا.

قال: فهل قاتلكم؟ قلت: نعم.

قال: فكيف حربكم وحربه؟ قلت: ذو سجال، مرة له، ومرة عليه.

قال: هذه آية النبوة. قال: فما يأمركم؟ قلت: يأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئا، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصوم والعفاف والصدق وإداء الأمانة والوفاء بالعهد.

قال: هذه صفة نبي، وقد كنت أعلم أنه يخرج ولم أظن أنه منكم، فإنه يوشك أن يملك ما تحت قدمي هاتين، ولو أرجو أن أخلص إليه لتجشمت لقياه، ولو كنت عنده لغسلت قدميه.

وإن النصارى اجتمعوا على الأسقف ليقتلوه فقال: اذهب إلى صاحبك فاقرأ عليه سلامي، وأخبره أني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن النصارى أنكروا ذلك علي. ثم خرج إليهم فقتلوه.(1)

كما وقعت الكثير من الحوادث بين الأئمة علیهم السلام وأعدائهم ممن ينكرون فضلهم

ص: 183


1- الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي ج1 ص 131 – 132 ح 217

فضلًا عن إمامتهم، ولكن ما إنْ يروا دماثة خلقهم حتى يحكمون بإمامتهم، منها ما روي أنَّه قالَ نَصرانِيٌّ للإِمامِ الباقِرِ علیه السلام: «أنتَ بَقَرٌ! قالَ: أنَا باقِرٌ. قالَ: أنتَ ابنُ الطَّبّاخَةِ! قالَ: ذاكَ حِرفَتُها. قالَ: أنتَ ابنُ السَّوداءِ الزِّنجِيَّةِ البَذِيَّةِ! قالَ: إن كُنتَ صَدَقتَ غَفَرَ اللهُ لَها، وإن كُنتَ كَذَبتَ غَفَرَ اللهُ لَكَ. قالَ: فَأَسلَمَ النَّصرانِيُّ».(1)

ص: 184


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج3 ص 337.

النقطة الثالثة:

اشارة

أدلة وجوب التنصيب الإلهي

عرفنا أنَّ الإمامية يقولون بنظرية النص، فما هو الدليل على وجوب جعل الإمام من الله عزوجل؟

وفي مقام الجواب استند الإمامية على عدة أدلة، ومنها التالي:

الدليل الاول:

دليل اللطف:

وهو الدليل المشهور عند الإمامية، وخلاصته: أنَّ نصب الإمام لطفٌ، وهذه هي الصغرى، وأما الكبرى: فاللطفُ واجبٌ على الله عزوجل، والنتيجة: أنَّ جعل الإمام واجبٌ على الله عزوجل، وكما تقدم أنَّ هذا الوجوب ليس من الخارج، أي لا توجد قوة خارجية هي التي أوجبت على الله عزوجل اللطف، بل إنّه هو سبحانه وتعالی من أوجبه على نفسه؛ إذ إنّه من الصفات الكمالية.

ودليل الصغرى (إنَّ تنصيب الإمام لطفٌ)، دليلٌ وجداني؛ إذ إنَّ كلَّ واحدٍ منا يحكم وجدانًا بأنَّ وجود الإمام بين الناس أمرٌ يقرب الرعية من الطاعة ويبعدهم عن المعصية، وأنَّ الإمام الكامل في صفاته ومن لديه علمٌ لدني، يكشف بعض الحقائق، فهو مفسر للقرآن الكريم، يقضي بين الناس بالحق، يحل نزاعاتهم و...، وكل ذلك من شأنه أن يجرَّ الناس إلى الطاعة ويبعدهم عن المعصية، وهذا هو اللطف.

وأما دليل الكبرى (وجوب اللطف على الله عزوجل)؛ فقد تقدم أنَّ اللطف من الصفات الكمالية التي يتصف بها واجب الوجود، وأنَّ عدمها يعني أنَّ الله عزوجل يعلم بعدم إمكانية

ص: 185

العبيد من الوصول إلى طاعته، إلا بمعونة هذا اللطف، ورغم ذلك لا يفعله، وهذا خلاف الكمال الإلهي، فيكون اللطف المقرب إلى الطاعة والمبعد عن المعصية واجبًا.

فضلًا عن أنَّ اللطف في حدِّ ذاته هو من الصفات الكمالية، وذات الله (جلَّ شأنه) منبع كل كمال من جهة، فلا بد أن تكون قد اشتملت على هذه الصفة، وافتقارها إلى هذه الصفة نقصٌ من جهةٍ أخرى، فلا بد أيضًا من اشتمالها عليها.

الدليل الثاني:

الإمام المجعول من الله عزوجل يمثل الحل الأمثل والأصلح للمجتمع:

لو وازنّا بين أنْ نتولى نحن اختيار الإمام وبين أنْ يختاره الله عزوجل، لكان الأفضل والأصلح جزمًا هو أن يتولى الله سبحانه و تعالی ذلك، وفعل الأصلح واجبٌ على الله عزوجل عقلًا؛ لأنه هو ما يليق بساحة الكمال الإلهي، فإن لم يفعل، فإنَّ الأمر لا يخلو إما أن يكون لجهلٍ أو لبخلٍ أو لعبثٍ أو لعجزٍ، والله (جل في علاه) منزهٌ عن كلِّ هذه النقائص، فثبت أنَّ الله عزوجل دومًا يفعل الأصلح، وقد تقدم أنّ تنصيب الإمام أصلح، فتعيّن أنَّ الله عزوجل هو من يتولى تنصيب الإمام.

الدليل الثالث:

تنصيب الإمام مهمة الله عزوجل وحده:

تقدم أنَّ الإمام لابدَّ أنْ يكون معصومًا؛ لشرطية العصمة في الإمامة، والعصمة أمرٌ خفي لا يمكن أنْ يُدركه الناس بحواسهم، ولا يستطيعون أنْ يُحرزوه في شخصٍ ما مهما بذلوا من جهود؛ لانحصار تعاملهم مع الآخرين ضمن دائرة الظاهر المحسوس، وأما ما خفي عنهم من باطن فهو خارج تكليفهم، بل وخارج مقدورهم أيضًا. ومن ثم يكون تكليفهم بتنصيب الإمام تكليفاً بما لا يُستطاع، وبما هو أزيد من الوسع والقدرة؛ لأن الناس لا يستطيعون أنْ يُدركوا المعصوم بطرقهم الاعتيادية، وحيث إنَّ الله عزوجل لا يُكلف الناس بما لا يُطيقون، قال عزوجل: ﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾(1)؛لذا فقد

ص: 186


1- البقرة286

أعفاهم من هذا التكليف، وتولّاه بنفسه (سبحانه وتعالى)، وبذا ننتهي إلى أنَّ تنصيب الإمام مهمةُ الله عزوجل وفعله وهو المطلوب.

فإنْ قيل: إنَّ ذلك يتعارض مع ما قدمتموه في أنَّ تجميع القرائن طريقٌ من طرق كشف الإمام؟

فيُقال: لم نقل إنَّ ذلك الطريق متاحٌ للجميع، بل هو لفئةٍ خاصةٍ ممن يذعنون للحق فور معرفته، ولا تحول دون ذلك أية شبهات أو أهواء.

كما سيأتي أيضًا إمكانية تشخيص الإمام من قِبل العقلاء الذين يحسنون استخدام العقل، وكانت أنفسهم مجردةً من الأهواء؛ وذلك عبر تتبع سلسلة مقدماتٍ تشير نتيجتها إلى الإمام بعينه، ولكن يبقى هذا الطريق مقتصرًا على البعض، وبالتالي فلا تعارض بينه وبين ما ذهبنا إليه من أنَّ تنصيب الإمام مهمة إلهية؛ لتعذر تكليف الناس بها.

إشارات:

الإشارة الأولى: إنَّ النص على الإمام يوفر لنا بعدين مهمين:

الأول: أن التعيين والتنصيب أمرٌ خاصٌ بالله عزوجل

وهذا البعد يكشف لنا عن أنَّ قضية تعيين الإمام لم تفوض إلى النبي صلی الله علیه وآله وسلم، فضلًا عن الأمة وقبول سياسة الأمر الواقع، قال عزوجل: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾.(1)

الثاني: أن التنصيب الإلهي لإمامٍ ما كاشفٌ عن مؤهلاته الخاصة وأهمها: العصمة والعلم الخاص.

ص: 187


1- الأحزاب 36

فالنص الإلهي الذي ينصب الأئمة علیهم السلام يوفر لنا الكشف عن ذواتهم الطاهرة، ويكشف لنا عن أنَّ هذا الإمام الذي نصَّ الله عزوجل على إمامته هو مؤهلٌ تمامَ الأهلية لأن يكون إمامًا ووليًا لله عزوجل على الناس، ومن أهم تلك المؤهلات التي يكشفها لنا النص الإلهي: العصمة والعلم الخاص الذي يتمتع به الإمام.

ومن هنا يتضح ما أشرنا إليه سابقًا من أنَّ واحدًا من طرق كشف النص الإلهي هو جمعُ القرائن، وبيانه:

أننا تارةً ننظر من جهةِ النص إلى الإمام، فينكشف لنا أنَّ الإمام معصومٌ وله علمٌ خاص.

وتارةً أخرى ومن دون نصٍ ولا رواية، نجمّع القرائن عن شخصٍ ما فتقودنا إلى أنَّ ذلك الشخص هو الإمام، كما لو وجدنا أنَّ لديه من العلم ما ليس لغيره، أو جاء بما يعجز عنه البشر عادةً من معجزات، أو وجدناه على درجةٍ عالية جدًا من الخلق الرفيع مما لا يتوفر عند سائر البشر عادةً، فنتوقع عصمته.

والكشف بالقرائن عن الإمام هو كشف إنّي عن وجود النص، أي كشف المعلول عن علته، وهذا هو معنى الدليل العقلي.

ومن هنا يمكن أن نفهم حديث أبي ذر (رضوان الله عليه) عن النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم: «من استعمل غلامًا في عصابة فيها من هو أرضى لله منه، فقد خان الله».(1)

حيث ذكر صاحب البحار هذا الحديث في باب أن الإمامة لا تكون إلا بالنص(2)، وأنت ترى أنه لا نص في هذا الحديث على إمامة الأئمة علیهم السلام، وهذا يعني أن ذكره في هذا الباب إشارة إلى أن النص ليس مجهول الملاك، وإنما الملاك فيه هو توفّر الأئمة على

ص: 188


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج1 ص 221.
2- بحار الأنوار - ج 23 - ص 75.

كمالات كانوا بها أرضى لله تعالى من غيرهم، أهّلتهم لمنصب الإمامة والولاية، ولذلك كانت تنصيب المفضول مع وجود الفاضل خيانة لله تعالى، وهذا ما يُدركه العقلاء بمتابعة سيرة أهل البيت علیهم السلام.

الإشارة الثانية: هل يمكن للعقل أن يُدرك الإمام الحق؟

نعم يمكن للعقل ذلك، عن طريق جمع القرائن -كما تقدّم-، ولكن ليس أيّ عقلٍ -كما تقدمت الإشارة إلى ذلك أيضًا-، بل هو طريق خاص لفئةٍ خاصةٍ من الناس، وهي تلك الفئة التي كملت عقولها بما يكفي لهذه المعرفة، وخلت نفوسها من الأهواء والشبهات، فنظروا بعين الواقع وطبقوا ما يرونه على أحكام العقل، حتى نتج لهم أنَّ هذا هو الإمام.

فطريق العقل إذًا طريقٌ خاص، ولذا احتيج إلى طريقٍ عام في تعيين الإمام، يستعين به كافة الناس عالمهم وجاهلهم، ولا يحتاج إلى تكلف العناء والبحث والمقدمات، وهو النص الإلهي.

وعلاوةً على ذلك، فإنَّ النص الإلهي يمتاز عن العقل بوجهين آخرين، وهما:

الوجه الأول: مقام المولوية.

إنَّ تعيين العقل وإنْ صدر من كُمَّل العقلاء، فإنّه يبقى أقل مرتبةً من النص الإلهي في الجانب الإلزامي؛ لافتقاره إلى ما يتمتع به النص الإلهي من مقام المولوية والألوهية. فيبقى حكم العقل حكمًا راجحًا وحسنًا، إلا أنَّه ليس بواجبٍ شرعًا، مما يُقلل من عزم المكلف على الإتيان به، ويُدخل في نفسه التراخي عن الامتثال إليه، بخلاف الحكم المولوي الذي يبثُ في نفس المكلف روح الإلزام، ويدعوها بعزم إلى الامتثال إليه.

وكمثال على ذلك: فإنَّ الإحسان إلى اليتيم هو أمرٌ حسنٌ بحكم العقل، لكن لا

ص: 189

ضير في مخالفته، على حين لو كان الإحسان إلى اليتيم واجبًا، فلا تجوز مخالفته شرعاً، وعليه فإنَّ حكم العقل في أمرٍ ما وإنْ كانت له قوة الحسن والرجحان، إلا أنَّ النص الإلهي إنْ وافقه فيه، فإنّه يزيده قوةً إلى قوته.

الوجه الثاني: النص الإلهي يكشف جميع المقامات.

إنَّ العقل له القدرة على كشف بعض المقامات التي يتمتع بها الإمام، أما النص الإلهي فيكشف عن جميعها، ما يمكن للعقل أنْ يصل إليها وما لا يمكنه بمفرده.

فمقام علم الإمام الخاص الذي لا يجهل معه شيئاً ما، ومقام كلٍّ من الولاية التكوينية والتشريعية، لا يمكن للعقل كشفها بمفرده، وكذلك مقام الشهادة على الأعمال، وأنَّ صحف الناس ترفع إليه مثلاً، وفي النصف من شعبان وليلة القدر حسب ما ورد في الروايات التي فسرت قول الله عزوجل: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَىٰ اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾.(1)

بخلاف النص الإلهي، الذي يكشف كل ذلك وأكثر.

إذن العقل حتى وإنْ كان قادراً على استكشاف ما يُفيده النص الإلهي بخصوص التنصيب، لكنّه لا يُلغي دور النص؛ لأنَّ النص يمثل:

1/أمرًا مولويًا يُضيف قوةً إلى قوة الواقع الذي يستكشفه العقل.

2/وسيلةً عامةً لكلِّ الناس، وليس كالعقل الذي هو وسيلةٌ خاصةٌ للكشف.

3/كاشفًا عن كلِّ المقامات الكمالية للإمام، بخلاف حكم العقل الذي لا يمكنه ذلك لو خُلّي وحده.

ص: 190


1- التوبة 105.
الإشارة الثالثة: لماذا لم يُذكر اسم الإمام عليٍّ علیه السلام في القرآن؟

يستبطن هذا السؤال الإشارة إلى أنَّ إثبات الخلافة بالنص لأمير المؤمنين علیه السلام، إنّما هو فرعُ ذكر اسمه علیه السلام صراحةً في القرآن الكريم، ومن ثم فإنَّه يحصر مسألة النص بلفظ القرآن الكريم الصريح.

يمكننا تقديم عدة أجوبة عن هذا السؤال، يصلح كلٌّ منها أن تكون جوابًا بمفرده، فإنْ اتسم المقابل بالعناد كما هي عادتهم، تكون هذه الأجوبة بمجموعها ردًا قاطعًا:

الجواب الأول: يستبطن هذا السؤال القول إنًّ العقيدة لا يمكن أن تُقبل إلا إذا ذُكِرت صريحًا في القرآن الكريم، وهذا الرد أضحى وكأنه قاعدةٌ يتمسك بها المخالفون لاسيما السلفية الوهابية في أي نقاش ديني، فما إنْ تشرع معه في نقاشٍ حتى يبادر إلى مطالبتك بآية.

والرد عليه سهلٌ يسير، وهو أن نقول له: ما هو الدليل الصريح من القرآن الكريم على صحة هذه القاعدة؟

ولمّا لم يكن هناك نصٌ صريحٌ على تلك القاعدة، فإنَّهم سيحاولون الاستناد على دليلٍ روائي، حينئذٍ يمكننا نحن أيضًا أنْ نحتج بالروايات؛ إذ طالما صحَّ أن تكون لهم حجة، فهي كذلك بالنسبة إلينا.

وها هي ذي كتب الحديث ومن الفريقين أيضًا فيها ما فيها من الروايات التي تدل على أنَّ أمير المؤمنين علیه السلام هو الخليفة وهذا يكفي.

الجواب الثاني: مطالبتهم بآيةٍ تتضمن اسم أمير المؤمنين علیه السلام كدليلٍ على خلافته، إنّما يهدفون من ورائها إلى الحصول على دلالةٍ نصية قطعية على أنَّ الخلافة لا تكون إلا بالنص.

وقد غاب عن أذهانهم أو ربما غيّبوه، أنَّ تحصيل القطع منهجيًا لا يتوقف على ذكر

ص: 191

الاسم الصريح؛ لأنَّ الكناية أبلغ من التصريح كما قالت العرب، أي إنَّ الكناية أكثرُ دِلالةً في الوصول إلى المقصود من التصريح، وكمثالٍ على ذلك، فإنَّ قولك: فلانٌ كثير الرماد، أكثرُ دلالةً على كرمه من قولك: فلانٌ كريم؛ لأنَّ كثرة الرماد لم تحصل إلا لكثرة ما يقدمه إلى ضيوفه من طعام.

وعليه فإنَّ مسالة النص على ولاية خصوص أمير المؤمنين علیه السلام لا تتوقف على ذكر اسمه في القرآن الكريم.

الجواب الثالث: يقرر القرآن الكريم أنَّ الله عزوجل قد فوّض إلى الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم مهمة بيان وتفسير الأمور والتعاليم الدينية الضرورية، يقول عزوجل: ﴿وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾.(1) وفي آيةٍ أخرى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾.(2)

وإنَّما جاء هذا التفويض لهs؛ لأنَّ القران الكريم لم يُتَح للجميع أنْ يفهموه حقّ فهمه، فلا بُدَّ له من مُبيّن، ومُبيّنه من نزل عليه، وهو رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم؛ ومن ثم إذا عرض علينا أمرٌ ديني مهم فلا بُد من أنْ نرجع إلى رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم.

وما تقدّم إنّما هي كبرى الجواب.

وأما صغراه: فالأحاديث الواردة عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم التي تنص على تنصيب أمير المؤمنين من قِبَلِه علیه السلام.

وهذا ما قام به الشيخ المظفر (طيّب الله ثراه) في عبارة الكتاب، إذ ذكر بعض الأحاديث الثابتة في كتب الفريقين والواردة عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم التي تذكر بكلِّ صراحة

ص: 192


1- النحل 44
2- الجمعة 2

تنصيب الإمام علي علیه السلام للخلافة.

ثم إنَّ السؤال عن أنه «لماذا لم يذكر اسم علي علیه السلام في القرآن الكريم؟» ليس وليد الساعة، بل طُرِح على الأئمة علیهم السلام من قبلُ، وقد أجابوا عنه بأجوبةٍ من ضمنها هذا الجواب الثالث.

ففي رواية عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام عَنْ قَوْلِ الله عزوجل: ﴿أَطِيعُوا الله وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾(1)فَقَالَ: «نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ والْحَسَنِ والْحُسَيْنِ علیهم السلام».

فَقُلْتُ لَه: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: فَمَا لَه لَمْ يُسَمِّ عَلِيّاً وأَهْلَ بَيْتِه علیهم السلام فِي كِتَابِ الله عزوجل؟

قَال: فَقَالَ علیه السلام: قُولُوا لَهُمْ:

إِنَّ رَسُولَ الله صلی الله علیه وآله وسلم نَزَلَتْ عَلَيْه الصَّلَاةُ ولَمْ يُسَمِّ الله لَهُمْ ثَلَاثاً ولَا أَرْبَعاً حَتَّى كَانَ رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم هُوَ الَّذِي فَسَّرَ ذَلِكَ لَهُمْ، ونَزَلَتْ عَلَيْه الزَّكَاةُ ولَمْ يُسَمِّ لَهُمْ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَماً دِرْهَمٌ حَتَّى كَانَ رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم هُوَ الَّذِي فَسَّرَ ذَلِكَ لَهُمْ، ونَزَلَ الْحَجُّ فَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ طُوفُوا أُسْبُوعاً حَتَّى كَانَ رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم هُوَ الَّذِي فَسَّرَ ذَلِكَ لَهُمْ ونَزَلَتْ ﴿أَطِيعُوا الله وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ ونَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ والْحَسَنِ والْحُسَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم فِي عَلِيٍّ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاه فَعَلِيٌّ مَوْلَاه، وقَالَ صلی الله علیه وآله وسلم: أُوصِيكُمْ بِكِتَابِ الله وأَهْلِ بَيْتِي، فَإِنِّي سَأَلْتُ الله عزوجل أَنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يُورِدَهُمَا عَلَيَّ الْحَوْضَ فَأَعْطَانِي ذَلِكَ، وقَالَ: لَا تُعَلِّمُوهُمْ فَهُمْ أَعْلَمُ مِنْكُمْ.

وقَالَ: إِنَّهُمْ لَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ بَابِ هُدًى ولَنْ يُدْخِلُوكُمْ فِي بَابِ ضَلَالَةٍ، فَلَوْ سَكَتَ رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم فَلَمْ يُبَيِّنْ مَنْ أَهْلُ بَيْتِه لَادَّعَاهَا آلُ فُلَانٍ وآلُ فُلَانٍ، ولَكِنَّ الله عزوجل أَنْزَلَه فِي كِتَابِه تَصْدِيقاً لِنَبِيِّه صلی الله علیه وآله وسلم: ﴿إِنَّما يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ

ص: 193


1- النساء 59

تَطْهِيراً﴾(1)، فَكَانَ عَلِيٌّ والْحَسَنُ والْحُسَيْنُ وفَاطِمَةُ علیهم السلام فَأَدْخَلَهُمْ رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم تَحْتَ الْكِسَاءِ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، ثُمَّ قَالَ: اللهُمَّ إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ أَهْلاً وثَقَلاً، وهَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وثَقَلِي.

فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: ألَسْتُ مِنْ أَهْلِكَ؟ فَقَالَ: إِنَّكِ إِلَى خَيْرٍ ولَكِنَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي وثِقْلِي.

فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم كَانَ عَلِيٌّ أَوْلَى النَّاسِ بِالنَّاسِ، لِكَثْرَةِ مَا بَلَّغَ فِيه رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم وإِقَامَتِه لِلنَّاسِ وأَخْذِه بِيَدِه...».(2)

الجواب الرابع: هناك مجموعةٌ من الآيات التي لا يمكن أنْ تُفسّر إلا بالأئمة علیهم السلام ، لكنها نزلت بمواصفاتهم لا بأسمائهم. وذكر الفرد بصفاته المختصة به والتي لا يمكن أن تنطبق على غيره أبدًا بمنزلة ذكر الاسم، بل أبلغ في الدلالة عليه، كآية المودة وآية التطهير وآية التصدق حال الركوع وآية المباهلة وآية التبليغ وغيرها عشرات الآيات التي لا تنطبق إلا على أهل البيت علیهم السلام.

الجواب الخامس: يُقرر القرآن الكريم أنَّ الأمة ستمر بحالةٍ من الانقلاب على العقب بعد وفاة النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم بقوله عزوجل: ﴿وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلىٰ أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾.(3)

وقد ظهرت بوادر هذا الانقلاب في حياتهs والتي كان آخرها قولهم: «إن النبي أو الرجل يهجر أو غلبه الوجع!»(4)

ص: 194


1- الأحزاب 33
2- الكافي للكليني ج1 ص 286 – 288 بَابُ مَا نَصَّ الله عزوجل ورَسُولُه عَلَى الأَئِمَّةِ ع وَاحِداً فَوَاحِداً/ح1.
3- آل عمران 144
4- انظر: مسند أحمد ج1 ص 325 و ج1 ص 355 وصحيح البخاري ج1 ص 37 و ج5 ص 138 و ج8 ص 161 و صحيح مسلم النيسابوري ج5 ص 76 وغيرها من مصادر العامة.

وهذه المقدمة الأولى.

والقرآن الكريم قد أخبر أنَّ القرآن سيكون محفوظًا من التحريف، فقال تعالى ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾.(1)

وهذا الحفظ جاء بوسائل عادية ومادية وشهودية بالإضافة إلى بعض الوسائل الغيبية والإعجازية في القرآن الكريم. وهذه المقدمة الثانية.

وأما المقدمة الثالثة: فلا يشكك أحدٌ بوجود أعداءٍ أظهروا عداءهم للإمام علي علیه السلام في حياة الرسول صلی الله علیه وآله وسلم فضلًا عمّا بعد وفاته.

وعليه، ألا يُحتمل أنْ يتعرض القرآن الكريم إلى التحريف فيما لو كان قد صرح باسم الإمام علي وأولاده علیهم السلام في آياته؟!

كما لو قام أولئك الذين أخبر القرآن عن انقلابهم على أعقابهم -وهم أعداء الإمام علي علیه السلام- بتحريف تلك الآيات التي صرّحت باسمه وباسم أولاده.

وهذا ليس بالأمر المحتمل أو المظنون به، بل من المؤكد ومما لا شكَّ فيه، بدليل أنَّهم -كما في بعض رواياتنا-كانوا يرفضون تفسير الإمام علي علیه السلام للآيات رغم صحة تفسيره وإخبارهم أنه تفسير الرسول صلی الله علیه وآله وسلم، فمن باب أولى أنْ يُحرَّفوا الآيات التي يُذكر فيها اسمه واسم أولاده (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) إما بالحذف أو التغيير.(2)

لذا كان عدم ذكر الله سبحانه و تعالی أسماءَ الأئمة علیهم السلام في القرآن الكريم هو سببٌ من أسباب

ص: 195


1- الحجر 9.
2- في علل الشرائع للشيخ الصدوق ج2 ص 531 باب 315 ح1: عن أبي إسحاق الإرجاني رفعه قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: «أتدري لم أمرتم بالأخذ بخلاف ما تقول العامة؟ فقلت: لا ندري، فقال: ان عليا علیه السلام لم يكن يدين الله بدين الا خالف عليه الأمة إلى غيره إرادة لإبطال أمره، وكانوا يسألون أمير المؤمنين علیه السلام عن الشيء الذي لا يعلمونه فإذا أفتاهم جعلوا له ضدا من عندهم ليلبسوا على الناس».

حفظه من التحريف.

الجواب السادس: يقرّرُ القرآن الكريم مبدأ ابتلاء الناس في الدنيا في آيات كثيرة، قال تعالى ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾.(1)

وقال تعالى ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ﴾.(2)

ومنهجية البلاء والاختبار يضعها الله عزوجل حسب ما يراه من الحكمة.

فما المانع إذًا من أنْ تكون قضية الإمامة من اختبارات وابتلاءات الأمة؛ لتمحيص المؤمنين، فلربما لو ذُكِر اسم الإمام علي علیه السلام صراحةً في القرآن الكريم، لم يتحقق ذلك الاختبار، فيكون إخفاء التصريح بالاسم واحدًا من الابتلاءات التي أرادها الله (جل جلاله) للمسلمين.

الجواب السابع: إنَّ نظرية الإمامة نظرية قرآنية بكلِّ ما يرتبط بها من التنصيص عليها، وشرطية العصمة فيها، واختصاصها بالولايتين التشريعية والتكوينية، والعلم الخاص اللدني، ولكن رغم ذلك لو تنزلنا وسلّمنا جدلًا بأنَّ القرآن الكريم لم يُشِر إليها من قريب ولا من بعيد، فإنه تبقى لدينا أحاديث النبي صلی الله علیه وآله وسلم المتواترة الكثيرة التي صرّحت بإمامته وإمامة أولاده من بعده.

ألا تورث كلُّ هذه الأحاديث الكثيرة والروايات الوفيرة التي دلّت على إمامته علیه السلام بالقطع وبالتواتر وضوحًا لا يُمكن إنكاره إلا من المكابر المعاند؟!

الجواب الثامن: المنفي عن القرآن الكريم هو التحريف، وأما القراءات المختلفة

ص: 196


1- العنكبوت 2.
2- البقرة 214.

من قبيل كلمة (هيت) في قوله عزوجل: ﴿وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾(1)، فإنّها تُقرأ (هَيت) و(هِيت) أي بفتح الهاء وكسرها، فلا تعدُّ كذلك؛ لذا لم ينكرها الخاصة ولا العامة.

وقد صرّحت بعض القراءات بذكر اسم الإمام علي علیه السلام في القرآن الكريم، فوفق تعدد القراءات، فإنه توجد عدة آيات صرّحت باسم علي علیه السلام وفق بعض القراءات، ومنها التالي:

1/ ما ورد في قراءة أخرى لقوله تعالى ﴿قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ﴾(2)حيث قُرئ بلفظ (صِراطُ عَلَيٍّ).

روي عن أبي حمزة الثمالي عن أبي عبد الله علیه السلام: ﴿قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ﴾(3) قال: «هو والله علي، هو والله علي الميزان والصراط».(4)

«وروى الصادق، عن أبيه، عن جده علیهم السلام قال: «قال يوما الثاني لرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: إنك لا تزال تقول لعلي: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، فقد ذكر الله هارون في أم القرآن ولم يذكر عليًا، فقال: يا غليظ يا جاهل، أما سمعت الله سبحانه يقول: هذا صراطُ عليٍّ مستقيم.».

موسى بن جعفر، عن أبيه، عن جده علیهم السلام: «هذا صراطُ عليٍّ مستقيم. وقُرئ مثله في رواية جابر».

أبو بكر الشيرازي، في كتابه بالإسناد، عن شعبة، عن قتادة قال: «سمعت الحسن البصري يقرأ هذا الحرف: هذا صراط علي مستقيم، قلت: ما معناه؟ قال: هذا طريق

ص: 197


1- يوسف: 23.
2- الحجر 41.
3- الحجر 41.
4- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - ص 532 وتفسير أبي حمزة الثمالي ص 226.

علي بن أبي طالب، ودينه طريق دين مستقيم، فاتبعوه وتمسكوا به فإنه واضح لا عوج فيه.»(1)

2/ عن أبي بصير، عن الصادق علیه السلام، في خبر: «أن إبراهيم علیه السلام كان قد دعا الله أن يجعل له لسان صدق في الآخرين، فقال الله تعالى: ﴿وَهَبْنا لَه إِسْحاقَ ويَعْقُوبَ وكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا ووَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾(2)يعني علي بن أبي طالب علیه السلام».(3)

3/ في التهذيب في دعاء الغدير: «وأشهد أنه الإمام الهادي المهدي الرشيد أمير المؤمنين الذي ذكرته في كتابك، وإنك قلت: ﴿وإِنَّه فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾(4)»(5)

ومن الروايات التي ذكرت أن اسم علي علیه السلام قد ذُكر صريحًا في القرآن الكريم:

عن أبي عبد الله علیه السلام في قول الله عزوجل: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ قال: «هو أمير المؤمنين علیه السلام ومعرفته، والدليل على أنه أمير المؤمنين علیه السلام قوله عزوجل: ﴿وإِنَّه فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾(6)وهو أمير المؤمنين علیه االسلامفي أم الكتاب في قوله عزوجل: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾».(7)

ص: 198


1- انظر بحار الأنوار للمجلسي ج 35 ص 59. هذا وقد ذكر قدس سره عدة آيات بهذا المعنى، يمكن مراجعة المصدر لمطالعتها.
2- مريم 49 و 50.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرا آشوب ج2 ص 302 وعنه البحار ج35 ص 59 والبرهان في تفسير القرآن للسيد هاشم البحراني ج3 ص 717.
4- الزخرف 4.
5- التهذيب للشيخ الطوسي ص 748، وذكره أيضًا في مناقب آل أبي طالب لابن شهرا آشوب ج2 ص 302. والمزار لمحمد بن جعفر المشهدي ص 287 وغيرها.
6- الزخرف 4.
7- معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص 23.

وعن محمد بن علي بن جعفر قال: سمعت الرضا علیه السلام يقول: «قال أبي علیه السلام وقد تلا هذه الآية ﴿وإِنَّه فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾(1)،قال: هو علي بن أبي طالب علیه السلام».(2)

العلا، قال: «سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد علیهما السلام عن قول الله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾. قال: هو أمير المؤمنين علي علیه السلام أوتي الحكمة وفصل الخطاب وورث علم الأولين وكان [أي اسم علي] اسمَه في الصحف الأولى وما أنزل الله تعالى كتابا على نبي مرسل إلا ذكر فيه اسم رسوله محمد صلی الله علیه وآله وسلم واسمه وأخذ العهد بالولاية له علیه السلام».(3)

وفي المزار لابن المشهدي في زيارته علیه السلام: «السلام على أمين الله في أرضه وخليفته في عباده، والحاكم بأمره، والقيم بدينه، والناطق بحكمته، والعامل بكتابه، أخي الرسول، وزوج البتول، وسيف الله المسلول، السلام على صاحب الدلالات والآيات الباهرات والمعجزات القاهرات، المنجي من الهلكات، الذي ذكره الله في محكم الآيات، فقال تعالى ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾.

وفي زيارته علیه السلام الأخرى: «السلام عليك أيها النبأ العظيم، السلام عليك يا من انزل الله فيه: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾، السلام عليك يا صراط المستقيم».

وفي دعاء يوم الغدير: «وأشهد أنه الإمام الهادي الرشيد أمير المؤمنين الذي ذكرت في كتابك فإنك قلت وقولك الحق ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾».

وعن أبي عبد الله علیه السلام وقد سأله سائل عن قول الله عزوجل: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾. قال: «هو أمير المؤمنين».

ص: 199


1- الزخرف 4.
2- الغارات لإبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي ج2 ص 894.
3- شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي ج1 ص 244.

والخلاصة:

أنَّ السؤال عن عدم ذكر اسم الإمام علي وأولاده علیهم السلام في القرآن هو سؤالٌ يفتقر إلى الصحة والمنهجية، فإنْ قبلناه، فما تقدّم من أجوبة تكفي في الرد عنه.

الإشارة الرابعة: نظرية التنصيب أمرٌ متصور لدى المسلمين منذ صدر الإسلام.

عندما نرجع إلى العصر الأول للإسلام، عصر وجود رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وما بعده بقليل، نجد أنَّ المسلمين قد أخذوا تصورًا واضحًا بأنَّ الإمامة والخلافة لابد أنْ تكون بالنص، وأنّه لا يُتصور لراعٍ حكيم أنْ يترك رعيته من دون أنْ يجعل عليهم وليًا من بعده يُسيّر أمورهم بما يصبُّ في صالحهم، والروايات التي نقلت لنا هذا التصور كثيرةٌ نذكر منها:

1/روي أنه صلی الله علیه وآله وسلم أتى بني عامر فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم: «أرأيت إنْ نحن تابعناك فأظهرك الله على من خالفك، أيَكون لنا الأمر من بعدك؟ قال صلی الله علیه وآله وسلم: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. قال له: أفَنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا ظهرت كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك!».(1)

2/ وروي أيضًا أنه صلی الله علیه وآله وسلم «بعث سليط بن عمرو العامري... إلى هوذة بن علي الحنفي يدعوه إلى الإسلام، وكتب معه كتابًا، فقدم عليه وأنزله وحباه وقرأ كتاب النبي صلی الله علیه وآله وسلم، وردّ ردًّا دون رد، وكتب إلى النبي صلی الله علیه وآله وسلم: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم، والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعْك. وأجاز سليط بن عمرو بجائزة وكساه أثوابًا من نسْج هجَر، فقدم بذلك كله على النبيs وأخبره عنه بما قال، وقرأ كتابه، وقال صلی الله علیه وآله وسلم: لو سألني سيابة من الأرض ما فعلتُ، بادَ وبادَ ما في يديه، فلما

ص: 200


1- الكامل في التاريخ لابن الأثير ج2 ص 93 (واللفظ له) وتاريخ الطبري لمحمد بن جرير الطبري ج2 ص 84.

انصرف من عام الفتح، جاءه جبريل فأخبره أنه قد مات».(1)

وفي رواية ابن الأثير:

«وأما هوذة بن علي، فكان ملك اليمامة، فلما أتاه سليط بن عمرو يدعوه إلى الإسلام وكان نصرانياً أرسل إلى النبي صلی الله علیه وآله وسلم وفداً فيهم مُجاعة بن مرارة والرجّال بن عُنفوة يقول له: إنْ جعل الأمر له من بعده أسلم وسار إليه ونصَره، وإلا قصد حربه. فقال رسول اللهّ صلی الله علیه وآله وسلم: لا، ولا كرامة، اللهم اكفنيه، فمات بعد قليل».(2)

3/استخلاف عثمان بن عفان عن طريق الشورى بين ستةِ أشخاصٍ عيّنهم عمر بن الخطاب، فضلًا عن قيام أبي بكر بتعيين عمرَ خليفةً له، يدلُّ على أنَّ تنصيب الخليفة كان أمرًا مرتكزًا في الأذهان، وأنَّ مسألة الخلافة يجب أنْ تكون عن طريق الجعل والتعيين.

ومن المفارقات أن من المناقب التي ذكرها القوم لأبي بكر أنَّه لم يترك الأمة من بعده بلا راعٍ؛ إذ عيّن عمر بن الخطاب للخلافة في عهدٍ كتبه عثمان بن عفان، فإنْ كان عمر قد تفطّن إلى هذا الأمر حتى كُتِب من مناقبه، فكيف لم يتفطن له النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم، وترك الأمة من بعده بلا راعٍ؟

4/ أن عائشة قالت لابن عمر: «يا بني، أبلغ عمر سلامي، وقل له: لا تدع أمة محمد بلا راعٍ، استخلف عليهم، ولا تدعهم بعدك هَمَلًا، فإني أخشى عليهم الفتنة، فأتى عبدُ الله فأعْلمه، فقال: ومن تأمرني أن أستخلف؟ لو أدركت أبا عبيدة بن الجراح باقيًا استخلفتُه ووليته، فإذا قدمت على ربي فسألني وقال لي: من وليت على أمة محمد؟ قلت إي ربي، سمعت عبدك ونبيك يقول: «لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح»، ولو أدركت معاذ بن جبل استخلفتُه، فإذا قدمت على ربي فسألني: من وليت على أمة محمد؟ قلت: إي ربي، سمعت عبدك ونبيك يقول: «إن معاذ بن جبل يأتي بين يدي العلماء يوم القيامة». ولو أدركت خالد بن الوليد لوليته، فإذا قدمت على ربي فسألني: من

ص: 201


1- الطبقات الكبرى لابن سعد ج1 ص 262.
2- الكامل في التاريخ لابن الأثير ج2 ص 215.

وليت على أمة محمد؟ قلت إي ربي، سمعت عبدك ونبيك يقول: «خالد بن الوليد سيف من سيوف الله سله على المشركين»، ولكني سأستخلف النفر الذين توفي رسول الله وهو عنهم راض، فأرسل إليهم فجمعهم..».(1)

5/عن ابن عمر قال: «دخلت على حفصة، فقالت: أَعَلِمتَ ان أباك غير مستخلف؟! قال: قلت: ما كان ليفعل. قالت: إنه فاعل. قال: فحلفت أني أكلمه في ذلك، فسكت حتى غدوت ولم أكلمه، قال: فكنت كأنما أحمل بيميني جبلًا حتى رجعت فدخلت عليه، فسألني عن حال الناس وأنا اخبره. قال: ثم قلت له: إنى سمعتُ الناس يقولون مقالة، فآليت أن أقولها لك: زعموا أنك غير مستخلف، وأنه لو كان لك راعي إبل أو راعي غنم، ثم جاءك وتركها، رأيت أن قد ضيّع، فرعاية الناس أشد..».(2)

6/ وممن كان يتبنى هذه النظرية أيضًا معاوية بن أبي سفيان، وأنه كان يرى أن عدم تنصيب خليفة من بعده يؤدي إلى ضياع الأمة، فقال لابن عمر: «إني كرهت أن أدع أمة محمد بعدي كالضأن لا راعي لها».(3)

الإشارة الخامسة: علة جعل الإمامة في ذرية الإمام الحسين دون الإمام الحسن علیهما السلام؟

مما هو معلومٌ في مدرسة أهل البيت علیهم السلام أنَّ الإمام الحسن علیه السلام أكبر من الإمام الحسين علیه السلام، وأنَّه أفضل منه أيضًا حسب بعض الروايات، فلماذا صارت الإمامة في ذرية الإمام الحسين علیه السلام دون الإمام الحسن علیه السلام؟ لاسيما أنَّ هذا الأمر يُضفي خصوصية

ص: 202


1- الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري (تحقيق الزيني) ج1 ص 28.
2- صحيح مسلم النيسابوري ج6 ص 5.
3- الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري (تحقيق الزيني) ج1 ص 159.

للإمام الحسين عللیه السلام تجعله أفضل من الإمام الحسن علیه السلام.

يحمل السؤال المتقدم نقطتين لابُدَّ من تسليط الضوء عليهما عند الإجابة، أولاهما السؤال بعينه، والأخرى الملازمة بين خصوصية جعل الأئمة علیهم السلام في ذرية الإمام الحسين علیه السلام وبين الأفضلية، وهما ما سنجيب عنهما في نقطتين:

الأولى: تنصيب الإمام إلهيٌّ، والله تعالى لا يُسأل عن فعله.

في مقام الجواب عن السؤال، لابُدَّ أنْ نذكر بأننا نتحدث وفقًا لنظرية التنصيب الإلهي، ومعه، فإنَّ أمر تنصيب الإمام مختصٌ فقط بالله (جلّ في علاه)، وما من مخلوقٍ له الحق في ذلك، ومن ثَمّ فليس لنا الحق في أنْ نسأله عن سبب جعل الإمامة في ذرية الإمام الحسن أو الحسين (سلام الله عليهما) طالما علمنا أنَّ أفعاله عزوجل كلها حسنةٌ وحكيمةٌ، والحكيم لا يُسأل عما يفعل.

وعليه فإنّ هذا السؤال غير منهجي وغير صحيح من رأس، وهذا ما استفيد من روايةٍ للإمام الرضا علیه السلام عن محمد بن أبي يعقوب البلخي، قال: «سألت أبي محمد الرضا علیه السلام فقلت له: لأي علةٍ صارت الإمامة في ولد الحسين دون ولد الحسن علیه السلام؟ فقال الإمام الرضا8: لأن الله عزوجل جعلها في ولد الحسين ولم يجعلها في ولد الحسن والله لا يُسأل عمّا يفعل.(1)

نعم، ورد في بعض الروايات الشريفة أنَّ مسألة جعل الأئمة من ذرية الإمام الحسين علیه السلام هي مسألة تعويضٍ له علیه السلام عمّا قدّمه في سبيل الله عزوجل، فقد ورد عن محمد بن مسلم قال: «سمعت أبا جعفر وجعفر بن محمد علیهم السلام يقولان: أن الله عزوجل عوض الحسين علیه السلام من قتله أن جعل الإمامة في ذريته، والشفاء في تربته، وإجابة الدعاء عند قبره، ولا تعد أيام زائريه جائياً وراجعاً من عمره.

ص: 203


1- علل الشرائع للشيخ الصدوق/ ج1/ص208 باب 156 ح 10.

قال محمد بن مسلم: فقلت لأبي عبد الله علیه السلام: هذا الجلال ينال بالحسين علیه السلام فماله في نفسه؟ قال: إن الله عزوجل ألحقه بالنبي صلی الله علیه وآله وسلم فكان معه في درجته ومنزلته، ثم تلا أبو عبد الله ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾».(1)

الثانية: عدم الملازمة بين الخصوصية والأفضلية.

وأما افتراض السائل أنَّ جعل الأئمة من ذرية الإمام الحسين علیه السلام يستلزم تفضيله على أخيه الإمام الحسن علیه السلام فهو افتراضٌ عارٍ عن الصحة.

نعم، كون الأئمة علیهم السلام من ولد الإمام الحسين علیه السلام خصوصيةً خصَّ الله عزوجل بها الإمام الحسين دون الإمام الحسن علیهما السلام، ولكن لا ملازمة بين الخصوصيات والتفضيل، فيبقى للإمام الحسن علیه السلام مقام الأفضلية على الإمام الحسين علیه السلام رغم أنَّ الأئمة من ذرية الأخير؛ يدُلُّنا على ذلك ما لأمير المؤمنين علیه السلام من خصوصياتٍ عظيمة اختص بها دون رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، ومنها أنَّه ولِد في الكعبة دون الرسولs، وأنَّه أخو رسولٍ دونه أيضًا، وأنّه زوج بنت رسولٍ دونه أيضًا، وأنَّ ولديه إمامان دونه (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

كما استفيد معنى عدم الملازمة بين الخصوصية والأفضلية من روايات أهل البيت (سلام الله عليهم)، فقد روي عن هشام بن سالم قال: «قلت للصادق جعفر بن محمد علیه السلام: الحسن أفضل أم الحسين؟ فقال: الحسن أفضل من الحسين. [قال:] قلت: فكيف صارت الإمامة من بعد الحسين في عقبه دون ولد الحسن؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى أحب أن يجعل سنة موسى وهارون جارية في الحسن والحسين علیهما السلام، ألا ترى أنهما كانا شريكين في النبوة كما كان الحسن والحسين شريكين في الإمامة وإن الله عزوجل جعل

ص: 204


1- الطور 21.

النبوة في ولد هارون ولم يجعلها في ولد موسى وإن كان موسى أفضل من هارون علیه السلام.

قلت: فهل يكون إمامان في وقت واحد؟

قال: لا إلا أن يكون أحدهما صامتاً مأموماً لصاحبه، والآخر ناطقاً إماماً لصاحبه، فأما أن يكونا إمامين ناطقين في وقت واحد فلا.

قلت: فهل تكون الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين علیهما السلام؟

قال: لا إنما هي جارية في عقب الحسين علیه السلام كما قال الله عزول: ﴿وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾.(1)

ثم هي جارية في الأعقاب وأعقاب الأعقاب إلى يوم القيامة.(2)

الإشارة السادسة: شبهة الإمامة بسنٍ مبكرة:

من الثابت في المدرسة الإمامية أنَّ بعض الأئمة قد تسلّم منصب الإمامة في سنٍ مبكرة، كالإمام الجواد الذي صار إمامًا في السابعة من عمره، والإمام الهادي الذي صار إمامًا في الثامنة من عمره، والإمام المهدي الذي صار إمامًا في الخامسة من عمره (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

بيدَ أنَّ البعض استشكل على ذلك ومنهم من يُسمى ب(أحمد الكاتب) وغيره؛ إذ قالوا كيف يكون بعض الأئمة الذين ادعوا الشيعة أنَّهم أئمة وهم لا زالوا صبيانًا؟!

يمكن الجواب عن هذا السؤال بطريقين هما:

الأول: الجواب بطريق النقض:

كيف يُفسر المعترضون إتيان الله عزوجل النبوة لبعض الأنبياء حال صباهم، كما أتى

ص: 205


1- الزخرف 28.
2- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 417 باب 40 ح 9.

النبوة والحكم للنبي يحيى علیه السلام وهو صبيٌ يقول الله عزوجل: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾(1)، بل كيف يُفسر جعل النبي عيسى علیه السلام نبيًا وهو بعدُ في المهد، قال عزوجل: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾.(2)

فبنفس تفسيرهم لجعل الله عزوجل النبوة لبعض الأنبياء حال صباهم، يمكن تفسير جعله عزوجل الإمامة لبعض الأئمة حال صباهم.

الثاني: الجواب بطريق الحل:

ويمكن ذلك بعدة وجوهٍ، إن لم يكف أحدها، فبمجموعها صالحة للجواب، وهي:

الأول: تقدّم مرارًا أنَّ الإمامة إنَّما تكون بالجعل والنص الإلهي؛ لذا فإنَّ هذا السؤال لا يكون منطقيًا، إذ ما دام جعل الإمام تابعًا لإرادة الله عزوجل، وهو من فعله عزوجل، ونحن نعلم أنَّ أفعاله سبحانه و تعالی حكيمةٌ لا لغو فيها ولا عبث، فلا يصح حينئذٍ أنْ نسأل لمَ جعل الله عزوجل الإمام الجواد علیه السلام مثلًا إمامًا في هذا العمر.

الثاني: إنَّ النص الإلهي له بعدان: أولهما، إنَّ جعل الإمامة أمرٌ خاصٌ بالله عزوجل، والثاني إنَّ النص الإلهي يكشفُ عن مؤهلاتٍ موجودةٍ في الإمام تجعله مستحقًا لذلك المنصب، وبالتالي لا مانع أنْ يكون الإمام صغيرًا في عمره طالما أنَّه يمتلك تلك المقامات والكمالات الوجودية التي تؤهله لمنصب الإمامة.

الثالث: إنَّ هذا السؤال إنَّما يصدر ممن لا يعرف حقيقة الإمام، وعظم علاقته بالسماء، فإنَّ الإمام وإن كان بشرًا مثلنا إلا أنَّ علاقته بالسماء تتجاوز الحدود الطبيعية للبشر من حيث الفهم والعلم والحكمة، وهذا ما تكشف عنه النقاشات والبحوث التي

ص: 206


1- مريم 12.
2- مريم 29 و 30.

قام بها الإمام الجواد علیه السلام مثلاً مع يحيى بن أكثم وغيره من فقهاء البلاط العباسي في ذلك الوقت كما هو مذكور في الروايات الشريفة.

وكذلك ما كان يتمتع به الإمام الهادي علیه السلام من الفضائل والكمالات التي تبين تلك العلاقة الغيبية بالسماء، تلك الفضائل التي كانت للإمام الجواد والهادي (سلام الله عليهما) التي دعت أعداءهم إلى الإقرار بفضلهم وعلمهم، وبالتالي لا يصح أنْ نسأل كيف صار الإمامُ أمامًا وهو لا زال صبيًا.

الرابع: بالإضافة إلى ما تقدَّم من أجوبةٍ دينية، نضيف جوابًا يتماشى مع الفكر المادي، مفاده:

من المسلّم به لدى الجميع وجود العباقرة والنوابغ ممن هم صغار السن، بعمر ثلاث سنوات أو خمس، فلماذا لا يُعترض على هؤلاء العباقرة كيف أصبحوا كذلك بهذا العمر الصغير؟!

ولا شك أنَّ الموحدين يبررونها على أنَّ الله عزوجل وهب لهم عقلًا خارقًا، فلماذا لا يُبرر هذا الأمر جعل الإمامة لبعض الأئمة (سلام الله عليهم) في صغر سنهم؟!

ص: 207

ص: 208

عقيدتنا في عدد الأئمة عليهم السلام

اشارة

قال الشيخ رحمه الله:

«عقيدتنا في عدد الأئمة:

ونعتقد أنَّ الأئمة الذين لهم صفة الإمامة الحقّة هم مرجعنا في الأحكام الشرعية المنصوص عليهم بالإمامة اثنا عشر إماماً، نصَّ عليهم النبي صلی الله علیه وآله وسلم جميعاً بأسمائهم، ثم نصّ المتقدِّم منهم على من بعده، على النحو الآتي:

1 - أبو الحسن علي أبي طالب (المرتضى) المتولد سنة 23 قبل الهجرة والمقتول سنة 40 بعدها.

2 - أبو محمد الحسن بن علي (الزكي)، (2 - 50) .

3 - أبو عبد الله الحسين بن علي (سيد الشهداء)، (3 - 61).

4 - أبو محمد علي بن الحسين (زين العابدين)، (38 - 95).

5 - أبو جعفر محمد بن علي (الباقر)، (57 - 114).

6 - أبو عبد الله جعفر بن محمد (الصادق)، (83 - 148).

7 - أبو إبراهيم موسى بن جعفر (الكاظم)، (128 - 183).

8 - أبو الحسن علي بن موسى (الرضا)، (148 - 203).

9 - أبو جعفر محمد بن علي (الجواد)، (195 - 220).

10 - أبو الحسن علي بن محمد (الهادي)، (212 - 254).

ص: 209

11 - أبو محمد الحسن بن علي (العسكري)، (232 - 260).

12 - أبو القاسم محمد بن الحسن (المهدي)، (256 -...) وهو الحجة في عصرنا الغائب المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف، ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعد ما مُلئت ظلماً وجوراً.» انتهى.

قد حسب الشيخ رحمه الله لكلِّ كلمةٍ من هذه الكلمات حسابًا، وفي كلٍّ منها كان له مغزى.

فالإمامةُ الحقّة:

هي الإمامة التي تكون بتنصيبٍ من الله عزوجل، لا من البشر، لا بالشورى ولا بالقوة ولا غيرها مما تقدم من طرق الوصول إلى الحكم وفقًا لنظرية الأمر الواقع.

وهم مرجعنا في الأحكام الشرعية:

هم (سلام الله عليهم) مرجعنا في كلِّ الأمور المتعلقة في الدين، من أصول وفروع وثمرتهما الأخلاق. ولكن بما أنَّ الأحكام الشرعية تدخل في كلِّ مجالات الحياة، فحياتنا عبارة عن وقائعَ وأحداثٍ، ولكلٍّ منها حكمٌ شرعيٌ؛ إذ ما من واقعةٍ إلا ولها حكمٌ، لذا ذكرها الشيخ (طيب الله ثراه).

المنصوص عليهم بالإمامة:

وقد تقدّم الحديث مفصلًا في أنَّ الإمامة لا تكون إلا بالنص الإلهي.

وأكملe: نصَّ عليهم الرسول صلی الله علیه وآله وسلم جميعًا بأسمائهم، ثم نصَّ المتقدم منهم على من بعده على النحو الآتي:

فيذكر الشيخ أنَّ الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم قد نصَّ عليهم جميعًا، وذكر أسماءهم (سلام الله عليهم)، ثم نص الإمام المتقدِّم منهم على الذي يليه.

ص: 210

شبهة الاختلاف في عدد الأئمة علیهم السلام:

أثار بعض المشككين ومنهم أحمد الكاتب شبهةً في نشرةٍ عنوانها الشورى، مفادها: إنَّ الشيعة اختلفوا فيما بينهم في عدد أئمتهم، وإنَّ الشيعة افترقوا فرقتين في هذا المجال، فالبعض يقول: إنَّ الأئمة اثنا عشر، والبعض يقول: إنَّ الأئمة ثلاثة عشر. وهذا الاختلاف يترتب عليه أنَّ الشيعة ليسوا على حق ومذهبهم باطل، والدليلُ على بطلانه هو اختلافهم فيما بينهم على عدد أئمتهم.(1)

في مقام الجواب نقول:

بعد تسليم وجود بعض الروايات التي قد يظهر منها أنَّ الأئمة بعد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ثلاثة عشر، وهذه الروايات خمسةٌ ذكرها الشيخ الكليني رحمه الله في كتابه الكافي، ج1 بَابُ مَا جَاءَ فِي الِاثْنَيْ عَشَرَ والنَّصِّ عَلَيْهِمْ علیهم السلام.

وقد يظهر من هذه الروايات أنَّ عدد الأئمة ثلاثة عشر.(2)

ص: 211


1- نُقل عنه النص التالي: وعندما نشأت فكرة تحديد عدد الائمة، بعد القول بوجود وغيبة الامام الثاني عشر علیهم السلام كان الشيعة الامامية يختلفون فيما بينهم حول تحديد عددهم باثني عشر أو ثلاثة عشر، إذ برزت في ذلك الوقت روايات تقول، بان عدد الائمة ثلاثة عشر، وقد نقلها الكليني في (الكافى) (ج1ص534) ووجدت في الكتاب الذي ظهر في تلك الفترة ونسب إلى سليم بن قيس الهلالي، حيث تقول إحدى الروايات، ان النبي صلی الله علیه وآله وسلم قال لامير المؤمنين علیه السلام: «أنت واثنا عشر من ولدك أئمة الحق». وهذا ما دفع هبة الله بن احمد بن محمد الكاتب، حفيد أبي جعفر محمد بن عثمان العمري، الذي كان يتعاطى (الكلام) لان يؤلف كتابا في الامامة، يقول فيه، ان الائمة ثلاثة عشر، ويضيف إلى القائمة المعروفة (زيد بن علي) كما يقول النجاشي في (رجاله)
2- الروايات في الكافي للكليني ج1 بَابُ مَا جَاءَ فِي الِاثْنَيْ عَشَرَ والنَّصِّ عَلَيْهِمْ علیهم السلام: 1/الحديث 7: عَنْ زُرَارَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَر علیه السلام يَقُولُ «الِاثْنَا عَشَرَ الإِمَامَ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ صلی الله علیه وآله وسلم كُلُّهُمْ مُحَدَّثٌ مِنْ وُلْدِ رَسُولِ الله صلی الله علیه وآله وسلم ومِنْ وُلْدِ عَلِيٍّ ورَسُولُ الله وعَلِيٌّ علیه السلام هُمَا الْوَالِدَانِ...». 2/الحديث 9: عنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله الأَنْصَارِيِّ قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى فَاطِمَةَ$ وبَيْنَ يَدَيْهَا لَوْحٌ فِيه أَسْمَاءُ الأَوْصِيَاءِ مِنْ وُلْدِهَا، فَعَدَدْتُ اثْنَيْ عَشَرَ آخِرُهُمُ الْقَائِمُ عجل الله تعالی فرجه الشریف، ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ مُحَمَّدٌ وثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ عَلِيٌّ. 3/الحديث 14: عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام يَقُولُ: «الِاثْنَا عَشَرَ الإِمَامَ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ كُلُّهُمْ مُحَدَّثٌ مِنْ وُلْدِ رَسُولِ الله صلی الله علیه وآله وسلم ووُلْدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ8، فَرَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم وعَلِيٌّ علیه السلام هُمَا الْوَالِدَانِ». 4/الحديث 17: عَنْ أَبِي الْجَارُودِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: «قَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم: إِنِّي واثْنَيْ عَشَرَ مِنْ وُلْدِي وأَنْتَ يَا عَلِيُّ زِرُّ الأَرْضِ يَعْنِي أَوْتَادَهَا وجِبَالَهَا بِنَا أَوْتَدَ الله الأَرْضَ أَنْ تَسِيخَ بِأَهْلِهَا فَإِذَا ذَهَبَ الِاثْنَا عَشَرَ مِنْ وُلْدِي سَاخَتِ الأَرْضُ بِأَهْلِهَا ولَمْ يُنْظَرُوا». 5/الحديث 18: عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم: مِنْ وُلْدِيَ اثْنَا عَشَرَ نَقِيباً نُجَبَاءُ مُحَدَّثُونَ مُفَهَّمُونَ آخِرُهُمُ الْقَائِمُ بِالْحَقِّ يَمْلأُهَا عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً».

ويكون رد هذه الشبهة بجوابٍ تفصيلي تارةً، أي بالتعرض إلى هذه الروايات روايةً روايةً، وإثبات ضعف سندها، وما توصل إليه العلماء في بحثهم في متونها بالرجوع إلى مصادر الأمهات، وخلاصته أنَّ تصحيفًا، أو خطأً أو اشتباهًا من النُساخ حدث في إضافة حرفٍ، ترتب عليه دلالتها على أنَّ الأئمة ثلاثة عشر.

ويكون بجوابٍ إجمالي تارةً أخرى، ولأن الأخير كافٍ في رد هذه الشبهة، فقد استغنينا عن التعرض للأول. وللجواب الإجمالي وجهان هما:

الأول: من الأصول الموضوعية عند الشيعة: عدم وجود كتابٍ يوصف بصحةِ كلِّ ما ورد فيه من الغلاف إلى الغلاف سوى القرآن الكريم، فكلُّ كتابٍ عندنا سوى القرآن الكريم هو خاضعٌ للنقاش وللأخذ والرد ولتصحيح بعض ما ورد فيه وتخطئةِ البعض الآخر.

وهذا خلاف العامة الذين وصفوا بعض كتبهم بالصحاح، وهو وصفٌ يعني أنَّ كلَّ ما موجود بين دفتيها هو صحيحٌ، ويمثل عقيدتهم ودينهم، والتزامهم بهذا الأمر

ص: 212

يُلزمهم بالامتثال والاعتقاد بكلِّ ما ورد فيها.

أما نحن -كأتباع المدرسة الإمامية- فلا كتاب صحيحاً عندنا سوى القرآن الكريم، وعليه لو تضمن أثمن الكتب وأهمها ما يُخالف عقيدةً ثابتة راسخةً، فتركه ورفضه لا يخرج عن الحدود العلمية التي بنينا عليها معارفنا.

وهذا يعني: خضوع أيّ روايةٍ موجودةٌ في كتبنا المعرفية والحديثية إلى قوانين علم الرجال وغيرها من العلوم، كعلم الكلام والفقه والقرآن الكريم، ومن ثَمّ فإنَّ هذه الروايات الخمس التي قد يُستظهر منها أنَّ عدد الأئمة ثلاثة عشر يمكننا أنْ نرفضها بكلِّ سهولةٍ ولا تؤثر على عقيدتنا في شيء.

علاوةً على ذلك فإنَّ هذه الروايات إما ضعيفةُ السند -وكُلُّها كذلك-، وإما ثبت تصحيفها وزيادةِ حرفٍ أو كلمةٍ فيها، كما ذكر علماؤنا المحققون في هذا المجال، أو يمكن أنْ تُحمَل على معانٍ كنائية تتوافق مع الاعتقاد بأنَّ الأئمة اثنا عشر فقط، كما ذهب البعض إلى أنَّ المقصود منها هو إدخال السيدة الزهراء (سلام الله عليها)؛ لأنها حجةٌ من حُجج الله عزوجل، فيما ذهب البعض إلى أنَّ ذلك من باب عطف العام على الخاص، أيّ ذكر الإمام عليٍّ علیه السلام ثم ذكره ضمن الاثني عشر إمامًا، فمن الممكن حملها على هكذا محامل تتوافق مع عقيدتنا، هذا بقطع النظر عن سندها الضعيف، وكونها ضعيفةً بمفرده يكفي في عدم الاستناد عليها في أمرٍ فقهي فضلًا عن العَقَدي.

بل يمكن الجزم بوقوع خطأٍ من النُساخ (تصحيف) عندما كتبوا الكافي، أو ربما يكون اشتباهًا من نفس الشيخ الكلينيe كما لو كتب اثني عشر عوضًا عن أحد عشر لما هو مترسخٌ في الذهن أنَّ الائمة اثنا عشر.

وجزمنا بوقوع الاشتباه هذا لم يأتِ اعتباطًا، بل يتأتى من ذكر الشيخ رحمه الله هذه الروايات الخمسة في بابٍ سمّاه ب-(بَابُ مَا جَاءَ فِي الِاثْنَيْ عَشَرَ والنَّصِّ عَلَيْهِمْ علیهم السلام.)،

ص: 213

فلا يُعقل أن يثبت رواياتٍ تدلُّ على أنَّ الأئمة ثلاثة عشر في بابٍ ما عقده إلا ليُثبت فيه عقيدته بأنَّ الأئمة من بعد النبي صلی الله علیه وآله وسلم هم اثنا عشر.

كما أنَّه رحمه الله قد ذكر في هذا الباب عشرين رواية للاستدلال بها على أنَّ الأئمة اثنا عشر، ومن ضمنها ذكر هذه الروايات الدالّة على أنَّ الأئمة ثلاثة عشر!

ومن هنا يمكن الجزم بوقوع الخطأ أو الاشتباه من الشيخ الكليني رحمه الله، ولكننا نجلّه عن هذا الخطأ، فلربما صدر من أحد النُساخ، ومعه لا تكون هذه الروايات معارضةً لعقيدتنا في أنَّ الأئمة اثنا عشر فقط.

الثاني: إنَّ من الأمور المُسلّمة لدى الشيعة، والتي لا يختلف فيها اثنان، من عوامهم فضلًا عن خواصهم في أنَّ أئمتنا وخلفاء النبي صلی الله علیه وآله وسلم هم اثنا عشر إمامًا لا غير، بل إنَّ مذهبنا معروفٌ بالاثني عشرية.

نعم، نُقِل أنَّ الذي قال بتلك المقالة هو هبة الله بن أحمد بن محمد الكاتب، المُكنّى بأبي نصر، والمعروف بابن برنية، وكان قد حضر في مجلس أبي الحسين بن أبي شيبة العلوي الزيدي، فأراد هبة الله أنْ يتقرب إلى دنيا أبي الحسين فكتب له كتابًا، ذكر فيه إنَّ الأئمة ثلاثة عشر، بإضافة (زيد بن علي) لكون الرجل (أبي الحسين) زيدياً.

وقد احتج هبة الله على ذلك بحديثٍ جاء في كتاب سُليم بن قيس الهلالي، وتلك الرواية من إحدى الروايات الخمسة التي ذكرها الشيخ الكليني ومفاده أن «الأئمة اثنا عشر من ولد أمير المؤمنين».(1)

ص: 214


1- قد عدَّ ابن الغضائري وجود هذه الرواية في كتاب سليم بن قيس إحدى العلامات على وضعه. وأجاب عنه العلامة التستري بقوله «انه من سوء تعبير الرواة وإلا فمثله في الكافي أيضاً موجود»، ولزيادة الفائدة: نذكر ترجمة هبة الله على ما ورد في مستدركات علم الرجال للنمازي الشاهرودي ج8 ص 140 – 141 رقم (15863) هبة الله بن أحمد بن محمد الكاتب أبو نصر المعروف بابن برنية: هكذا عنونه النجاشي والعلامة، ثم قالا: وكان يتعاطى الكلام ويحضر مجلس أبي الحسين بن الشبيه العلوي الزيدي المذهب، فعمل له كتاب وذكر أن الأئمة ثلاثة عشر مع زيد بن علي بن الحسين واحتج بحديث في كتاب سليم بن قيس الهلالي أن الأئمة اثنا عشر من ولد أمير المؤمنين علیه السلام. وزاد النجاشي على ذلك: أنه كان يذكر أن أمه أم كلثوم بنت أبي جعفر محمد بن عثمان العمري. وله كتاب في الإمامة، وكتاب في أخبار أبي عمرو وأبي جعفر العمريين. ورأيت أبا العباس بن نوح قد عول عليه في الحكاية في كتابه أخبار الوكلاء. وكان هذا الرجل كثير الزيارات. وآخر زيارة حضرها معنا يوم الغدير سنة أربعمائة بمشهد مولانا أمير المؤمنين علیه السلام. انتهى. وظاهره اعتماد أبي العباس عليه. ونقل العلامة المامقاني عن الفاضل التفرشي أنه علق على قول النجاشي: (واحتج بحديث - الخ): أنه ليس في كتاب سليم بن قيس أن الأئمة اثنا عشر من ولد أمير المؤمنين علیه لسلام، بل فيه: أن الأئمة ثلاثة عشر من ولد إسماعيل وهم رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم مع الأئمة الاثني عشر، فكأنه اشتبه على النجاشي أو غيره. انتهى. أقول: ولو فرض وجود الحديث لا يدل على أن الأئمة ثلاثة عشر لأن الكلام بعد قوله (اثنا عشر) منقطع، فكأنه يقال: الأول معلوم والباقي من ولد من يكونون؟ فأجاب: من ولد أمير المؤمنين. فتدبر جيدا.

والخلاصة: أنَّ الشيعة لم يفترقوا فرقتين كما ذهبت إليه الشبهة، وإنّما هم مُطبقون على أنَّ الأئمة اثنا عشر، وأما (هبة الله) الذي أراد الدنيا فكتب كتابًا يتقرب به إلى دنيا أبي الحسين العلوي الزيدي، فهو شاذٌ نادر.

فعقيدتنا في الأئمة أنَّهم اثنا عشر، وأما من ادّعى سوى ذلك بأنْ زاد على ذلك أو أنقص فهو خارجٌ بدعواه هذه عن المذهب.

ص: 215

ص: 216

عقيدتنا في المهدي عجل الله فرجه الشريف

اشارة

قال قدس سره:

«عقيدتنا في المهدي:

إن البشارة بظهور (المهدي) من ولد فاطمة في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلئت ظلماً وجوراً - ثابتةٌ عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم بالتواتر، وسجلها المسلمون جميعاً فيما رووه من الحديث عنه على اختلاف مشاربهم.

وليست هي بالفكرةِ المُستحدثة عند (الشيعة) دفع إليها انتشار الظلم والجور، فحلموا بظهور من يطهر الأرض من رجس الظلم، كما يريد أن يصوّرها بغض المغالطين غير المنصفين.

ولولا ثبوت (فكرة المهدي) عن النبي على وجه عرفها جميع المسلمين وتشبعت في نفوسهم واعتقدوها لما كان يتمكن مدعو المهدوية في القرون الأولى كالكيسانية والعباسيين وجملةٍ من العلويين وغيرهم، من خدعة الناس واستغلال هذه العقيدة فيهم طلباً للملك والسلطان، فجعلوا ادعاءهم المهدوية الكاذبة طريقاً للتأثير على العامة وبسط نفوذهم عليهم.

ونحن مع إيماننا بصحة الدين الاسلامي وأنّه خاتمة الأديان الإلهية ولا تترقب ديناً آخر لإصلاح البشر، ومع ما نشاهد من انتشار الظلم واستشراء الفساد في العالم على وجه لا تجد للعدل والصلاح موضع قدم في الممالك المعمورة، ومع ما نرى من انكفاء المسلمين

أنفسهم عن دينهم وتعطيل أحكامه وقوانينه في جميع الممالك الإسلامية، وعدم

ص: 217

التزامهم بواحدٍ من الألف من أحكام الإسلام - نحن مع كل ذلك لا بُدّ أنْ ننتظر الفرج بعودة الدين الاسلامي إلى قوته وتمكينه من إصلاح هذا العالم المنغمس بغطرسة الظلم والفساد.

ثم لا يمكن أن يعود الدين الإسلامي إلى قوته وسيطرته على البشر عامة، وهو على ما هو عليه اليوم وقبل اليوم من اختلاف معتنقيه في قوانينه وأحكامه وفي أفكارهم عنه، وهم على ما هم عليه اليوم وقبل اليوم من البدع والتحريفات في قوانينه والضلالات في ادعاءاتهم.

نعم لا يمكن أنْ يعود الدين إلى قوته إلا إذا ظهر على رأسه مصلحٌ عظيمٌ يجمع الكلمة ويرد عن الدين تحريف المبطلين، ويبطل ما ألصق به من البدع والضلالات بعنايةٍ ربانيةٍ وبلطفٍ إلهي؛ ليجعل منه شخصاً هادياً مهدياً، له هذه المنزلة العظمى والرياسة العامة والقدرة الخارقة ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلئت ظلماً وجوراً.

والخُلاصة أنّ طبيعة الوضع الفاسد في البشر البالغة الغاية في الفساد والظلم، مع الإيمان بصحة هذا الدين وأنّه الخاتمة للأديان - يقتضي انتظار هذا المصلح (المهدي)، لإنقاذ العالم مما هو فيه.

ولأجل ذلك آمنت بهذا الانتظار جميع الفرق المسلمة، بل الأمم من غير المسلمين غير أنّ الفرق بين الإمامية وغيرها هو أن الإمامية تعتقد أنّ هذا المصلح المهدي هو شخصٌ معينٌ معروفٌ ولد سنة 256 هجرية ولا يزال حياً، هو ابن الحسن العسكري واسمه (محمد).

وذلك بما ثبت عن النبي وآل البيت من الوعد به وما تواتر عندنا من ولادته واحتجابه.

ولا يجوز أنْ تنقطع الإمامة وتحول في عصر من العصور، وإنْ كان الإمام مخفياً،

ص: 218

ليظهر في اليوم الموعود به من الله عزوجل الذي هو من الأسرار الإلهية التي لا يعلم بها إلا هو عزوجل.

ولا يخلو من أن تكون حياته وبقاؤه هذه المدة الطويلة معجزةً جعلها الله عزوجل له، وليست هي بأعظم من معجزة أن يكون إماماً للخلق وهو ابن خمس سنين يوم رحل والده إلى الرفيق الأعلى، ولا هي بأعظم من معجزة عيسى إذ كلّم الناس في المهد صبياً وبُعِثَ في الناس نبياً.

وطول الحياة أكثر من العمر الطبيعي أو الذي يُتخيّل أنّه العمر الطبيعي لا يمنع منها فنُ الطب ولا يحيلها، غير أنّ الطب بعد لم يتوصل إلى ما يمكنه من تعمير حياة الانسان.

وإذا عجز عنه الطب فإنّ الله عزوجل قادرٌ على كُلِّ شيءٍ، وقد وقع فعلاً تعمير نوح وبقاء عيسى علیه السلام كما أخبر عنهما القرآن الكريم.. ولو شكَّ الشاك فيما أخبر به القرآن فعلى الإسلام السلام.

ومن العجب أنْ يتساءل المسلم عن إمكان ذلك وهو يدّعي الإيمان بالكتاب العزيز.

ومما يجدر أنْ نذكره في هذا الصدد ونذكِّر أنفسنا به أنّه ليس معنى انتظار هذا المصلح المنقذ (المهدي)، أنْ يقف المسلمون مكتوفي الأيدي فيما يعود إلى الحق من دينهم، وما يجب عليهم من نصرته والجهاد في سبيله والأخذ بأحكامه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

بل المسلم أبداً مكلفٌ بالعمل بما أنزل من الأحكام الشرعية، وواجبٌ عليه السعي لمعرفتها على وجهها الصحيح بالطرق الموصلة إليها حقيقة وواجبٌ عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ما تمكّن من ذلك وبلغت إليه قدرته «كُلُّكم راعٍ، وكُلُّكم مسؤولٌ عن رعيته».

ص: 219

فلا يجوز له التأخر عن واجباته بمُجرد الانتظار للمصلح المهدي والمبشر الهادي، فإنّ هذا لا يُسقِطُ تكليفاً، ولا يؤجل عملاً، ولا يجعل الناس هملاً كالسوائم.» انتهى.

إنَّ قضية الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف تمثل قضيةً محوريةً في الدين الإسلامي؛ لذا سنحاول التفصيل فيها نوعًا ما، لمعالجة أمورٍ مهمة ذكرها الشيخ رحمه الله في طيّات حديثه عنها، وأخرى من المناسب أن نتعرض إليها، على شكل مباحثَ مستقلةٍ، في كلٍّ منها نتناول جانبًا من جوانب هذه القضية.

ص: 220

المبحث الأول

اشارة

هل إنَّ القضية المهدوية من مختصات الشيعة؟

من المسلَّم به أنَّ القضية المهدوية مما تؤمن بها المدرسة الإمامية كما سيأتي تفصيله بإذن الله عزوجل، وهناك من عزا ظهور هذا الاعتقاد في الشيعة؛ نتيجةً لتعرضهم لبعض الظروف القاسية كما ادعى ذلك أحمد الكاتب وغيره؛ إذ قالوا: إنّها فكرة مُستحدثة عند الشيعة نتيجةً للظروف الصعبة التي مرّوا بها من ظلم وطغيان وما شابه، ولكي يوفروا لأنفسهم قبسَ أملٍ يعيشون من أجله، اخترعوا هذه القضية.

فهل القضية المهدوية من مختصات الشيعة؟ بمعنى أنه لا توجد فرقة عقائدية ولا فكر إنساني يؤمن بها؟

للجواب عن ذلك لا بُدَّ من البحث خارج الدائرة الإمامية، ولكي يكون البحث متسلسلًا لا بُدَّ من التدرج شيئًا فشيئًا في البحث حتى نصل إلى المعتقد الإمامي، ضمن المطالب التالية:

المطلب الأول: هل القضية المهدوية قضية إنسانية؟

المطلب الثاني: ما هو اعتقاد أهل الديانات السماوية والوضعية بالقضية المهدوية؟

المطلب الثالث: ما هو اعتقاد أهل السنة بالقضية المهدوية؟ وفيه:

أولًا: الروايات التي أثبتت القضية المهدوية.

ثانيًا: شبهة عدم ذكر البخاري ومسلم لأحاديث المهدي دليل على بطلانها!

ص: 221

المطلب الرابع: ادعاء المهدوية دليلٌ على صحة القضية المهدوية، وفيها:

أولًا: أسباب الدعاوى المهدوية.

ثانيًا: أقسام الدعاوى المهدوية.

ثالثًا: الخطوط العامة للدعاوى المهدوية.

رابعًا: كيف نواجه مدعي المهدوية؟

خامسًا: طرق النقاش في القضايا المهدوية.

المطلب الأول

هل إنَّ القضية المهدوية قضية إنسانية؟

تتلخص القضية المهدوية بشكلٍ عام، أو قل: نظرية المنقذ أو المخلص، بالاعتقاد بأنَّ هناك شخصًا ما يأتي في آخر الزمان؛ ليزيل الظلم عن وجه المعمورة، ويملأ الدنيا قسطًا وعدلًا، ويُحوِّل الأرض إلى جنةٍ دنيويةٍ، أو شخصًا يحقق المدينة الفاضلة بحسب تعبير أفلاطون.

إنَّ القضية المهدوية بشكلها العام المتقدم -أو قل نظرية المنقذ أو المُخلِّص بقطع النظر عن شخص ذلك المنقذ وذلك المخلص- إنَّما هي في الحقيقة قضيةٌ تنطلق من أسسٍ متينة تمتد جذورها إلى الماضي السحيق، بل تجدُ أثرها جليًا في ضمير أيِّ إنسانٍ لم يمُت ضميره، ومن ثم فهي قضيةٌ إنسانية؛ لأنها:

أولًا: تنطلق من أسسٍ تاريخية رصينة وقوية جدًا، وهذا الأمر واضحٌ؛ إذ إنَّ فكرةً تتمحور حول محورٍ واحدٍ وهو ظهور شخصٍ يُزيل الظلم ويُحلّ محله العدل، وتتعاقب عليها العصور والأجيال والحضارات على اختلاف معتقداتها وممارساتها وطقوسها، هي بلا أدنى شكٍ فكرةٌ متأصلة في النفوس، تمتد بجذورها في الماضي السحيق.

ثانيًا: هي من الأمور الفطرية؛ إذ إنَّ للأمور الفطرية خصائص وصفات، ومن

ص: 222

أهمها اشتراك جميع البشر فيها، كمسألة الجوع مثلًا، فإنَّ الشعور به أمرٌ مشترك بين جميع البشر على اختلاف توجهاتهم الدينية والسياسية، بل وعلى اختلاف مراحلهم العمرية وأجناسهم وأعراقهم.

وقد اشترك بالقضية المهدوية جميع البشر على اختلاف دياناتهم السماوية والوضعية، مما يكشف عن فطرية هذه الفكرة ويزيدها قوة.

فهي قضية تتناغم مع فطرة الإنسان المُحِبة للخير؛ إذ إنَّ الإنسان -- كما يذكر علم النفس -- قد فُطِر على عدة أمورٍ: حب الجمال، وحب الاستطلاع (الفضول العلمي)، وحب التدين أي أنْ يكون له إلهٌ يعبده، ومنها حب الخير، والقضية المهدوية تتناغم مع حب الخير، ولو بأدنى مستوياته وهو حب الإنسان الخير لنفسه؛ لأنَّها تجلب الخير على أقل التقادير لنفس الإنسان، فإذا أحسّ الشخص بالأمان وتطبيق العدل على الجميع، وأنَّ حقوقه سيأخذها تامةً لا نقص فيها، فهذا أمرٌ يتوافق مع حبِّه للخير على الأقل لذاته.

المطلب الثاني
اشارة

ما هو اعتقاد أهل الديانات السماوية والوضعية بالقضية المهدوية؟

لم تقتصر القضية المهدوية في إطارها العام (نظرية المخلص) على الوجدان الإنساني والفطرة البشرية وحسب، بل تجد خيوطها واضحةً في جميع الديانات. فقد استأثرت بحيزٍ واضحٍ في التراث الديني سماويًا كان أم وضعيًا، نذكر منها(1):

أولًا: الديانات السماوية:

أ/ الديانة اليهودية:

ووصلنا منها عدة أمور تتصل بجذور القضية المهدوية، وهي:

ص: 223


1- انظر: حقيقة الاعتقاد بالإمام المهدي المنتظر - المحامي أحمد حسين يعقوب - ص 154 – 159 ط. المجمع العالمي للمبلغين.

1/ التأكيد على الفكرة الرئيسية، أي أنَّ هناك مهديًا سيزيل الظلم من على الأرض ويحل محله العدل.

2/ الإشارة العامة إلى أصول المهدي النسبية، فذكرت أنَّه من نسل إسماعيل علیه السلام، وأنَّه واحدٌ من اثني عشر عظيمًا.

3/ الإشارة إلى الظروف والمخاطر التي ستحيط بولادته.

4/ صرّحت الديانة اليهودية بأنَّ الله عزوجل سيغيبه عن الناس من أجل أنْ يحفظه، وسيظهره بعد ذلك في الوقت المناسب.

ب/ الديانة المسيحية:

أشارت إلى عهد الظهور، وركّزت على ظهور السيد المسيح علیه السلام على وجه الخصوص، وركزت عليه تركيزًا خاصًا. وهذا لا يتعارض مع الديانة الإسلامية؛ إذ أنَّ للسيد المسيح علیه السلام دورًا خاصًا، وإنّه سيصلي خلف الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.

ج/الديانة الإسلامية:

وسيأتي الحديث عنها مفصلًا.

ثانيًا: الديانات الوضعية:

فقد اعتقد الزرادشتيون بفكرة الظهور، واعتقدوا أنَّ منقذهم هو بهرام شاه الذي سيملأ الأرض قسطًا وعدلًا.

فيما اعتقد المجوس بعودة أرشيدو.

أما البوذيون فقد اعتقدوا بعودة بوذا.

وتنقل بعض المصادر أنَّ الإسبان آمنوا بعودة ملكهم روذريق.

وأنَّ المغول اعتقدوا بعودة جنكيز خان.

ص: 224

وأن مسيحيي الأحباش اعتقدوا بعودة ملكهم ثيودور.

ومثل هذه الاعتقادات نجدها عند قدماء المصريين وفي كتب الصينيين القديمة.

أضف إلى ذلك فإنَّ بعض المفكرين ذكروا في كتاباتهم ما يشير إلى اعتقادهم بالقضية المهدوية، أو قل بنظرية المنقذ أو المصلح بقطع النظر عن شخصيته، فالفيلسوف الانكليزي برت راند راسل يقول: «إنَّ العالم بانتظار مصلح يوحد العالم تحت علمٍ واحد وشعارٍ واحد».

كما نُقِل عن أينشتاين صاحب النظرية النسبية المعروف أنَّه قال: «إنَّ اليوم الذي يسود العالم كله الصلح والصفا ويكون الناس متحابين ليس ببعيد».

وأما الفيلسوف الانكليزي برنارد شو فلديه كتاب باسم (الإنسان والسوبر مان)، علّق عليه الكاتب عباس محمود العقاد قائلًا: «يلوح لنا أنَّ سوبر مان (شو) ليس بالمستحيل، وأنَّ دعوته إليه لا تخلو من حقيقة ثابتة».

وبشكل مجمل، فإنَّ أصحاب هذه الكلمات وإن اختلفوا فيمن هو ذلك المنقذ، أو المخلص أو المصلح، حتى اعتقد بعضهم بأنَّ أشخاصًا كانوا معروفين قد اختفوا في ظروفٍ اكتنفها الغموض، أو أنَّهم كانوا مشهورين وماتوا، واعتقدوا بعودتهم، إلا أنَّهم قد آمنوا جميعًا بفكرة ظهور المنقذ وأنَّ العالم محتاجٌ إليه، وهو الذي سيعمل على إنقاذ البشرية وتحقيق السعادة وإحالة الأرض إلى جنة دنيوية، وهي لا تختلف عمّا ورد في الروايات من انه «سيملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعدما مُلئت ظلمًا وجورًا».

المطلب الثالث
اشارة

ما هو اعتقاد أهل السنة بالقضية المهدوية؟

من الواضح جدًا لكلِّ مُطلع أنَّ الاعتقاد بالمهدي هو من الاعتقادات الثابتة والراسخة عند مدرسة الخلفاء، فهي قضية مفروغ منها وقد آمنوا بها. نعم، هناك

ص: 225

اختلافاتُ بيننا وبينهم في التفاصيل، ولكن أصل الفكرة المهدوية مُتفقٌ عليها، يدلُّنا على ذلك ما ورد في كتبهم الحديثية من روايات.

علاوةً على هذا الدليل فإن هناك مؤيدًا لها وهو ادعاء المهدوية، والذي سنتناوله في مطلبٍ مستقل، بعد الاستدلال بالروايات.

وقد ذكرت القضيةَ المهدويةَ جميعُ الكتب الحديثية سوى صحيحي البخاري ومسلم، فلم يذكرانها –كما قيل-؛ لذا كان لابُد من تناول تلك الروايات أولًا، ليكون ما بعدها في معالجة عدم ذكر ذينك الصحيحين لها.

أولًا: بعض الروايات العامية التي أثبتت القضية المهدوية.

ذكرت هذه الروايات في عدد من الكتب الحديثية، هي:

1/ سنن الترمذي: وهو الكتاب الذي قيل عنه: «من كان في بيته هذا الكتاب فكأنما في بيته نبيٌّ يتكلم»(1)،فهو كتابٌ معتمدٌ عندهم، ويقدسونه ويحترمون ما فيه، وقد ذكر فيه الترمذي عدة أحاديث عن المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، ومنها حديثٌ قال عنه الترمذي: (حديث صحيح) ونصه التالي:

حدثنا عبيد بن أسباط بن محمد القرشي، أخبرنا أبي، أخبرنا سفيان الثوري عن عصام بن بهدلة عن زر عن عبد الله قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجلٌ من أهلِ بيتي يواطئ اسمه اسمي». (2)

2/ سنن أبي داوود: وهو كتابٌ قال عنه ابن الإعرابي: لو أن رجلاً لم يكن عنده من العلم إلا المصحف الذي في كتاب الله، ثم هذا المصحف، لم يحتج معهما إلى شيء من

ص: 226


1- فضائل سنن الترمذي للإسعردي ص 32.
2- سنن الترمذي - الترمذي - ج 3 - ص 343.

العلم البتة.(1)

وقد ذكر أحاديث عديدة أيضاً، ومنها(2):

حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا الفضل بن دكين، ثنا فطر عن القاسم بن أبي بزة، عن أبي الطفيل، عن علي رضى الله تعالى عنه، عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم قال: «لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلا من أهل بيتي يملأها عدلا كما ملئت جورا».

ومنها: حدثنا أحمد بن إبراهيم، ثنا عبد الله بن جعفر الرقي، ثنا أبو المليح الحسن بن عمر، عن زياد بن بيان، عن علي بن نفيل، عن سعيد بن المسيب، عن أم سلمة، قالت: سمعت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم يقول: «المهدى من عترتي من ولد فاطمة»(3).

3/ سنن ابن ماجة: وفي سنن ابن ماجة أيضاً ذكر العديد من هذه الأحاديث ومنها(4):

حدثنا هدية بن عبد الوهاب، ثنا سعد بن عبد الحميد بن جعفر، عن علي بن زياد اليمامي، عن عكرمة بن عمار، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم يقول: «نحن ولد عبد المطلب سادة أهل الجنة، أنا وحمزة وعلى وجعفر والحسن والحسين والمهدي».

من الجدير بالإشارة إليه، أنَّ النبيs في حديثه هذا قد ركّز على عبد المطلب في قوله: «نحن ولد عبد الملطلب»، ولا بُدَّ أن يكون التركيز عليه لسبب، ومن سياق الحديث أنَّ ذلك السبب هو الفخر، مما يعني أنه قد كان عبد المطلب أهلًا لافتخار

ص: 227


1- تاريخ الإسلام للذهبي ج 27 ص 166.
2- سنن أبي داود - ابن الأشعث السجستاني - ج 2 - ص 310.
3- سنن أبي داود - ابن الأشعث السجستاني - ج 2 - ص 310.
4- سنن ابن ماجة - محمد بن يزيد القزويني - ج 2 - ص 1368.

النبي صلی الله علیه وآله وسلم بالانتساب إليه؟ وهل يصح أن يفتخر بكافرٍ قد مات على غير دين الله عزوجل كما يدّعون؟!

الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف في كلمات المعاصرين من مدرسة الخلفاء:

ورد ذكره علیه السلام في كلمات بعض العلماء المعاصرين، نقتصر بالذكر على اثنين فقط:

1/ مقالة الشيخ ناصر الدين الالباني.

للشيخ الألباني مقالةٌ بعنوان (حول المهدي)، نُشِرت في مجلة التمدن الإسلامي، قال في المقدمة ما نصه: «أما مسألة المهدي فليُعلم أنَّ في خروجه أحاديثَ كثيرةً صحيحةً، قسمٌ كبيرٌ منها له أسانيد صحيحة».

2/ الشيخ محمود الغرباوي.

وهو المفتش بوزارة الأوقاف في مديرية أوقاف الجيزة، قال في مقدمة كتابه (بشرى البشر في حقيقة المهدي المنتظر) ما نصه: «فقد وردت الأحاديث بلا نزاعٍ مؤكدةً ظهور المهدي المنتظر منها الصحيح ومنها الحسن ومنها ما يُقوّي بعضها بعضًا».(1)

كما ذكر في الفصل الأول من نفس الكتاب في (ص 11) ما نصه: «روى أحاديث المهدي أكثر المحدثين منهم: الإمام أحمد بن حنبل، والإمام الترمذي، والإمام أبو داوود، والإمام ابن ماجة، والطبراني، والبزاز، والحاكم، وأبو يعلي، وغيرهم من أئمة الحديث والمعاجم والأسانيد».

مما تقدّم يتبين بكلِّ وضوحٍ أنَّ أصل قضية خروج المنقذ أو المُخلِّص أو المهدي أمرٌ مفروغٌ عنه عند الإنسانية جمعاء.

ص: 228


1- بشرى البشر في حقيقة المهدي المنتظر- الشيخ محمود الغرباوي- ص 5/ دار الكتاب العربي – الطبعة الأولى 2004.

وينتج عن هذا الأمر عدة نتائج:

1/إنَّ القضية متينة، وهذا يمثل مصدرًا من مصادر القضية؛ كونها موجودة عند جميع البشرية.

2/وهذا سيرسم لنا طريقًا واضحًا إلى النصر المهدوي.

ثانيًا: شبهة عدم ذكر البخاري ومسلم لأحاديث المهدي.

تقدّم أن الاعتقاد بالقضية المهدوية ليس خاصًا بالشيعة، بل يمتد ليشمل المسلمين أيضًا. ولكن رغم ذلك، فقد أشكل بعض أهل العناد قائلًا: لو كان الاعتقاد بالمهدي من المعتقدات الإسلامية، والنبي صلی الله علیه وآله وسلم قد بشّر به لأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، والحال أنَّهما لم يذكراه، إذًا لا صحة له.

وإنّ الذي نظّر لهذه الفكرة هو عبد الرحمن بن محمد بن خلدون صاحب المقدمة المتوفي سنة 808 هجرية، فحاول الاستدلال بعدم تخريج البخاري ومسلم لأحاديث المهدي على بطلان الاعتقاد به. وافقه في ذلك أحمد أمين المصري، بقوله: ومما يشهد بالفخار للبخاري والمسلم أنَّهما لم تتسرب إليهما من هذه الأحاديث وإنْ تسربت إلى غيرهما من الكتب.

ومن المعلوم أنَّ ابن خلدون مؤرخٌ، وعليه فليس له الحق في أنْ يدُسَّ أنفه في علم الرجال والحديث، وهذا فضولٌ منه لا مبرر له. ولكن مع ذلك نرد هذه الشبهة، ومن المناسب قبل الولوج في ذلك ذكر مقدمةٍ.

تعريف موجز للبخاري ومسلم:

البخاري هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن مغيرة بن بردزيه البخاري، وبردزيه مجوسي ومات على المجوسية، وأما المُغيرة فقد أسلم على يدي اليمان الجعفي والي بخارى.

ص: 229

يُذكر أنَّ قول البخاري بخلق القرآن في المحنة المعروفة ب-(محنة خلق القرآن) تسبب في نقمةِ الناس عليه وطرده من بلدهم.

ومحنة خلق القرآن: مسألةٌ كلامية فكرية ولكن عظم الخلاف فيها حتى بلغ مبلغ سفك الدماء، موضوعها أن كلام الله عزوجل حادث أم قديم، وقد كانت السلطات الحاكمة تبدّل رأيها في المسألة مع تبدّل الخليفة، فمن وافقه عاش في سلام، ليكون الظلم والتشريد وربما القتل من نصيب من يخالفها في ذلك. وكانت السلطة آنذاك تقول بقدم القرآن فأصدرت الأوامر بطرده من البلاد وبمقاطعته.

ويذكر أنَّ شيخ البخاري (محمد بن يحيى الذهلي) قال: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن زعم لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع، ولا يُجالس، ولا يُكلم، ومن ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل فاتهموه، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مذهبه.(1)

فانقطع عنه الناس بعد هذه الحادثة سوى مسلم بن الحجاج صاحب صحيح مسلم، وأحمد بن سلمة.

وأما مسلم، فهو مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد بن كوشاذ القشيري النيسابوري، وكان يحضر مجلس كلٍّ من البخاري وشيخه، حتى قال محمد بن يحيى في أحد مجالسه: «ألا من قال باللفظ (أي أنَّ القرآن مخلوق) فلا يحلُّ له أنْ يحضر مجلسنا»، فأخذ مسلم رداءه فوق عمامته وقام على رؤوس الناس وخرج من المجلس.(2)

وبعد هذه المقدمة، نشرع في الجواب عن الشبهة بعدّةِ وجوهٍ:

الوجه الأول: عدم وجود قاعدةٍ عند العامة تقضي بأنَّ ما لم يوجد في البخاري ومسلم وُوجد في غيرهما من المصادر فهو باطل، إذ إنهما لم يجمعا بين دفتي كتابيهما كلَّ

ص: 230


1- انظر: التاريخ الصغير للبخاري ج1 ص 16 (المقدمة).
2- انظر: التاريخ الصغير للبخاري ج1 ص 16 (المقدمة).

ما في الدين الإسلامي.

وعليه فلا يصحُّ أنْ نستدل على بطلان عقيدةٍ ما بعدم ذكر أحاديثها في البخاري ومسلم؛ لأنَّ لازم الاستدلال على بطلان أحاديث المهدي بعدم ورودها في البخاري ومسلم، هو أنَّ البخاري ومسلم قد ذكرا كل الدين أصولًا وفقهًا وسلوكًا وسياسةً في أحاديثهم، ولم يقل أحدٌ بهذا اللازم فضلًا عن القول بصحته.

بل إنَّ نفس البخاري ومسلم صرّحا بأنّهما لم يذكرا كلَّ حديثٍ صحيح، بل اختارا أحاديث صحيحةً سطراها في صحيحيهما. من ذلك قول البخاري: «لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحًا وما تركتُ من الصحيح أكثر.(1)

و في عبارةٍ أخرى يقول: ما أدخلت في كتابي الجامع الا ما صح، وتركت من الصحيح؛ حتى لا يطول.(2)

كما أنَّ مسلم القشيري كذلك لم يذكر كل الأحاديث الصحيحة، كما نقل ابن الصلاح عنه قوله: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هنا - يعني في كتابه (الصحيح) - إنما وضعت ها هنا ما أجمعوا عليه.(3)

وفي أخرى يقول: إنما أخرجت هذا الكتاب وقلت هو صحاح، ولم أقل إن ما لم أخرجه من الحديث في هذا الكتاب فهو ضعيف.(4)

فهما يصرحان بأنًّ كل ما أخرجاه هو صحيحٌ، وهذا لا يعني بأنَّ كلَّ ما لم يخرجاه ليس بصحيح وضعيف، بل وقد صرّحا بذلك كما تقدَّم. وعليه، فإنَّ الاستدلال على

ص: 231


1- مقدمة فتح الباري على شرح صحيح البخاري لابن حجر/ج1/ص5.
2- مقدمة فتح الباري على شرح صحيح البخاري لابن حجر/ج1/ص5.
3- صحيح ابن حبان ج1 ص 6 مقدمة التحقيق.
4- شرح صحيح مسلم للنووي ج1 ص 26.

بطلان عقيدةٍ أو أيِّ أمرٍ؛ لعدم ذكره في كتابيهما غير صحيح.

الوجه الثاني: يبدو أنَّ تصحيح كلِّ ما في صحيح مسلم والبخاري حكمٌ عام؛ لذا عُرِف عن مدرسة الخلفاء أنَّها تعدهما دينها الذي تدين به، قال النووي: «ثم ما كان في صحيحي البخاري ومسلم أو في أحدهما اقتصر على إضافته إليهما لحصول الغرض وهو صحته، فإن جميع ما فيهما صحيح».(1)

بيدَ أنَّ الأمر خلاف الواقع؛ فقد وجد بعض العلماء في البخاري ومسلم من الأحاديث ما لا يمكن الحكم بصحته، بل ووجدوا ما يلزم منه أمور فاسدة كثيرة مما لا يسكت عنه أيضًا، مما حدا بهم –أو ببعضهم على الأقل- إلى التنازل عن الحكم بصحة كلِّ ما فيهما.

ومن أولئك: الألباني حيث نقل عنه في السلسلة الصحيحة/ج6/ ص93 في تعليقه على أحد الأحاديث، ما نصه: «هذا الشذوذ في هذا الحديث مثالٌ من عشرات الأمثلة التي تدلُّ على جهلِ بعض الناشئين الذين يتعصبون لصحيح البخاري وكذا لصحيح مسلم تعصبًا أعمى، ويقطعون بأنَّ كلَّ ما فيهما صحيح».

وقال ابن حجر: «أخرج البخاري عن مسروق عن أم رومان... وهى أم عائشة طرفاً من حديث الإفك، وهو وهمٌ، لم يسمع مسروق من أم رومان... لأنها توفيت في عهد النبي صلی الله علیه وآله وسلم وكان لمسروق حين توفيت ست سنين قال وخفيت هذه العلة على البخاري، وأظن مسلما فطن لهذه العلة فلم يخرجه له...».(2)

بل إنه نُقل أن البخاري ومسلم ما كانا يتعاملان مع كتب بعضهما على أن كلا ما فيهما صحيح، فقد قال الباجي المالكي: «وقد أخرج البخاري أحاديث اعتقد صحتها تركها مسلم لما اعتقد فيها غير ذلك وأخرج مسلم أحاديث اعتقد صحتها

ص: 232


1- الأذكار النووية- النووي- ص 14.
2- مقدمة فتح الباري لابن حجر ص 371.

تركها البخاري لما اعتقد فيها غير معتقده وهو يدل على أن الامر طريقه الاجتهاد لمن كان من أهل العلم بهذا الشأن وقليل ما هم».(1)

وهذا يعني أنّه كما اشتبه البخاري ومسلم وأوردا في صحيحيهما أحاديثَ قالا إنَّها صحيحة وتبيّن بأنّها ضعيفة، فيُحتمل أنَّهما تركا أحاديث صحيحة ولم يخرجاها في صحيحيهما اشتباهًا منهما وظنّا أنَّها ضعيفة وموضوعة. (هذا إذا أردنا أن نحسن الظن طبعاً).

ومن ثم فلا يُستدلُّ على بطلان كلِّ ما لم يخرجاه من أحاديث، ومنها أحاديث المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف..

الوجه الثالث: إنَّ ما تقدّم يبتني على أنَّ البخاري ومسلم فعلًا لم يخرجا أيَّ حديثٍ يتعلق بالمهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف لا صراحةً ولا بالإشارة، وهذا الأمرُ فيه نقاش؛ وذلك لأننا عندما نتابع صحيحيهما نجدُ فيهما أحاديث مضامينها متعلقة ومتصلة بالمهدي، وإنْ لم يُصرحا باسمه، تدلُّنا عليها أحاديث صحيحة وبنفس المضامين وردت في غيرهما مُصرحةً باسم المهدي، فتكون بذلك مُفسرة لما أبهِم من تلك الأحاديث في صحيحي البخاري ومسلم.

وأما سبب عدم ذكر البخاري ومسلم اسم المهدي فيها، فلربما لتعمد الإبهام منهما، فإنْ أردنا أنْ نُحسن الظن بهما فقد يكون بسبب خطأ من قبل النساخ.

وعلى هذا لا يمكن لنا القول: إنَّ البخاري ومسلم لم يخرجا أحاديث عن الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف في كتابيهما، وبذا تنتفي دعوى ابن خلدون من رأس.

ص: 233


1- الجرح والتعديل لسليمان بن خلف بن سعد، ابن أيوب الباجي المالكي ج1 ص 286.

نماذج عن تلك الأحاديث:

النموذج الأول: روى مسلم بسنده عن أبي الزبير أنَّه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت النبي صلی الله علیه وآله وسلم يقول: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، فينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم: تعالَ صلِّ بنا، فيقول: لا، إنَّ بعضكم على بعض أمراء تكرمةَ الله لهذه الأمة».(1)

والإبهام في كلمة أميرهم: «فيقول أميرهم: تعالَ صلِّ بنا»، والتي وردت في حديثٍ آخر عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «ينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم المهدي: تعالَ صلِّ بنا، فيقول: لا، إنَّ بعضهم أميرُ بعضٍ تكرمةَ الله لهذه الأمّة».(2)

النموذج الثاني: روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة، قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم، وإمامكم منكم».(3)

والكلمة المبهمة في الرواية (إمامكم)، وهي التي تفسرها الرواية التي أخرجها المروزي في الفتن والمقدسي في عقد الدرر عن عبد الله بن عمر قال: «المهدي الذي ينزل عليه عيسى بن مريم ويصلي خلفه عيسى».(4)

النموذج الثالث: روى مسلم بسنده عن أبي سعيد وعن جابر بن عبد الله قالا: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده».(5)

والإبهام كما هو واضح في كلمة (خليفة)، وقد فسرتها رواية احمد عن أبي سعيد

ص: 234


1- صحيح مسلم (ج1 ص 95).
2- ينابيع المودة لذوي القرى للقندوزي ج3 ص343 ب85 والصواعق المحرقة لابن حجر ص164.
3- صحيح البخاري (ج4 ص143)، وفي صحيح مسلم (ج1ص 194).
4- الفتن لنعيم بن حمد المروزي ص 230، وعقد الدرر للمقدسي ص 230.
5- صحيح مسلم (ج8 ص 185).

الخدري قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «أبشركم بالمهدي يبعث في أمتي على اختلاف من الناس وزلازل فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض يقسم المال صحاحاً. فقال له رجل: ما صحاحاً؟ قال: بالسوية بين الناس. قال: ويملأ الله قلوب أمة محمدs غنىً، ويسعهم عدله، حتى يأمر منادياً فينادى فيقول: من له في مال حاجة، فما يقوم من الناس إلا رجل، فيقول: ائت السدان، يعنى الخازن، فقل له: إن المهدى يأمرك أن تعطيني مالاً، فيقول له: احث، حتى إذا جعله في حجره وأبرزه ندم، فيقول: كنت أجشع أمة محمد نفساً أوَ عجز عني ما وسعهم.

قال: فيرده، فلا يقبل منه، فيقال له: إنا لا نأخذ شيئاً أعطيناه، فيكون كذلك سبع سنين أو ثمان سنين أو تسع سنين، ثم لا خير في العيش بعده. أو قال: ثم لا خير في الحياة بعده».(1)

وقال عنه الهيثمي: قلت رواه الترمذي وغيره باختصار كثير، رواه أحمد بأسانيد وأبو يعلى باختصار كثير ورجالهما ثقات.(2)

الوجه الرابع: تواتر أحاديث المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.

إنَّ شبهة ضعف أحاديث المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف إنّما تصحُّ لو كانت قليلةً، ولم يصل الحدُّ فيها إلى التواتر. والتواتر: من الدرجات العليا لتوثيق الحديث، والحال أن الأحاديث فيه علیه السلام متواترةٌ؛ فلا تصحُّ هذه الشبهة.

وقد صرّح جملةٌ من العلماء والحفاظ والمحدثين العامة بتواتر أحاديث المهديf عجل الله تعالی فرجه الشریف.

ومن أولئك العلماء:

1/ قال أبو الحسن الآبري: قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها [أي

ص: 235


1- مسند أحمد بن حنبل ج3 ص 37.
2- مجمع الزوائد للهيثمي ج7 ص 314.

أحاديث المهدي] عن المصطفى بخروجه [أي المهدي]، وأنه من أهل بيته، وأنه يملأ الأرض عدلاً، وأنه يخرج مع عيسى (على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام) فيساعده على قتل الدجال بباب لد بأرض فلسطين، وأنه يؤم هذه الأمة، ويصلي عيسى خلفه.(1)

2/ محمد بن رسول الحسيني البرزنجي، توفي 1103 ه، فقد قال في كتابه الإشاعة في أشراط الساعة: الباب الثالث في الاشراط العظام والامارات القريبة التي تعقبها الساعة وهي أيضا كثيرة فمنها المهدي وهو أولها، واعلم أن الأحاديث الواردة فيه على اختلاف رواياتها لا تكاد تنحصر.(2)

وقال أيضاً: قد علمت أن أحاديث وجود المهدي وخروجه آخر الزمان وأنه من عترة رسول الله صلی الله علیه وآله و سلم من ولد فاطمة بلغت حد التواتر المعنوي فلا معنى لإنكارها.(3)

وقال أيضاً: وغاية ما ثبت بالأخبار الصحيحة الكثيرة الشهيرة التي بلغت حد التواتر المعنوي وجود الآيات العظام التي منها بل أولها خروج المهدي وأنه يأتي في آخر الزمان من ولد فاطمة يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما.(4)

والتواتر منه لفظي: كتواتر حديث «من كنت مولاه فهذا علي مولاه» الذي ذُكِر بهذه الألفاظ من جماعة عن جماعة وهكذا إلى أنْ يصل إلى رسول الله صلی الله علیه وآله و سلم، ومن دون أي تغيير فيها. ومنه المعنوي، أي التواتر بالمعنى، ولكن مع اختلاف اللفظ، بأن تكون كلّ الألفاظ تشير إلى معنى واحد، وقد ثبت إسنادها جميعًا إلى رسول الله صلی الله علیه وآله و سلم.

3/ وقال السفاريني في عقيدته المسماة (بالدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية):

ص: 236


1- الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي ص 167.
2- الإشاعة في أشراط الساعة (87).
3- الإشاعة في أشراط الساعة (112).
4- الإشاعة في أشراط الساعة (189).

وما أتى في النص من أشراط *** فكله حق بلا شطاط

منها الإمام الخاتم الفصيح *** محمد المهدي والمسيح

وقال أيضا في شرحها: كثرت الأقوال في المهدي حتى قيل: لا مهدي إلا عيسى، والصواب الذي عليه أهل الحق: إن المهدي غير عيسى، وإنه يخرج قبل نزول عيسى علیه السلام، وقد كثرت بخروجه الروايات حتى بلغت حد التواتر المعنوي، وشاع ذلك بين علماء السنة حتى عد من معتقداتهم.(1)

المطلب الرابع
اشارة

ادعاء المهدوية دليلٌ على صحة قضيتها.

قال الشيخ رحمه الله: «ولولا ثبوت فكرة المهدي عن النبي صلی الله علیه وآله و سلم على وجهٍ عرفها جميع المسلمين وتشبعت في نفوسهم واعتقدوها، لما كان يتمكن مُدّعو المهدوية في القرون الأولى كالكيسانية والعباسيين وجملة من العلويين وغيرهم من خدعةِ الناس واستغلال هذه العقيدة فيهم طلبًا للملك والسلطان، فجعلوا ادعاءهم للمهدوية الكاذبة طريقًا للتأثير على العامة وبسط نفوذهم عليهم».

تقدَّم الاستدلال بروايات مدرسة الخلفاء على أنَّ القضية المهدوية ذات صبغةٍ إسلامية، وكُنا قد ذكرنا أنَّ هناك ما يؤيد صحة هذه القضية أيضًا وهو ادعاء المهدوية، وهو ما ذكره الشيخ رحمه الله في هذا المقطع.

وعليه، فإنَّ فكرة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف هي فكرةٌ حقّة على الأقل على المستوى الإسلامي، ولا يمكن لمسلمٍ على الأقل أنْ ينكر هذه العقيدة أو يقول ببطلان أصل فكرتها.

ويمكن طرح خلاصة ما يريد إثباته الشيخ رحمه الله في هذا المقطع ليكون مؤيدًا لفكرة المهدي، على شكل مقدمات متسلسلة ونتيجة:

ص: 237


1- شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي ج 33 ص 921، و الإمام المهدي عند أهل السنة (ج2 ص20).

المقدمة الأولى: إنَّ هناك مدعين للمهدوية في القرون الأولى، أي القرون القريبة من زمن النص، حيث كان المعصومون موجودين، وحيث كان بعض الصحابة أو التابعين موجودين.

المقدمة الثانية: انقسم الناس على إثر ذلك إلى قسمين: فمنهم من صدَّق هذه الدعاوى، واتبع من كان يزعم أنّه المهدي، ومنهم اعترض ولم يؤمن به.

المقدمة الثالثة: لم يكن اعتراض القسم الثاني من الناس على نفس فكرة المهدي، فهو يُسلِّم بها ويُذعن لها، إلا أنَّ اعتراضه كان لعدم انطباق مواصفات المهدي على مدعي المهدوية آنذاك.

النتيجة: هذا يعني أنَّ الناس في ذلك الوقت مؤمنون بأصل فكرة المهدي، بل هي من المسلمات عندهم؛ لذا لم يعترضوا على أصل الفكرة، وإنَّما اعترضوا على التطبيق.

هذا من جانب.

ومن جانبٍ آخر فإنَّ المدعي لأي منصبٍ من المناصب خصوصًا المناصب الدينية، عادةً ما يحاول أنْ يدّعي منصبًا معترفًا به من المسلمين؛ ليستطيع أنْ يحكمهم بذلك المنصب، كادّعاء الأمويين والعباسيين أنّهم خلفاء رسول الله صلی الله علیه وآله و سلم؛ ولذا حكموا الناس باسم الإسلام رغم أنَّ كلَّ أفعالهم كانت ضد الإسلام، وعليه فهذا الذي يدّعي المهدوية لم يدّعِها إلا بعد علمه برسوخها بين الناس، ليحاول من خلالها حكم الناس.

وقد ادّعاها الكثير، فهي إذن من القضايا الراسخة بين الناس والمتسالم عليها عندهم.

بيان: في الدعاوى المهدوية الباطلة والنقاش فيها:

ولتوضيح الدعاوى المهدوية، لا بُدَّ من التعرف على أسبابها أولًا، وأقسامها ثانيًا،

ص: 238

والخطوط العامة لها ثالثًا، فإذا تمَّ ذلك كان لا بُدَّ من التعرض إلى كيفية مواجهتها، وإتمامًا للفائدة نذكر طرق النقاش في القضية المهدوية بشكلٍ عام، فهذه مطالبُ خمسةٌ سنتناولها تباعًا:

أولًا: أسباب الدعاوى المهدوية

ثانيًا: أقسام الدعاوى المهدوية

ثالثًا: الخطوط العامة للدعاوى المهدوية

رابعًا: كيف نواجه مدعو المهدوية؟

خامسًا: طرق النقاش في القضايا المهدوية

أولًا: أسباب الدعاوى المهدوية:

حيث إنَّ الفكرة المهدوية كانت ثابتة وراسخة في أذهان الناس، وحيث إنَّها منصب قيادي يُلزم الغير بالاتباع، بل ذلك المنصب يعطي لصاحبه أولوية في التصرف بالأموال بل وبالنفوس؛ لذلك كثرت الدعاوى المهدوية.

والنفس الإنسانية عادة تُحبُّ التسلط، وأنْ تكون مسموعةَ الكلمة، وحيث إنَّ المنصب المهدوي عظيمٌ جدًا، ويلزم منه أنْ يكون هذا الشخص هو الآمر والناهي والمتصرف في أموال بل ونفوس الناس، لذا تجد أن بعض أصحاب النفوس المريضة حالوا خداع بسطاءَ من الناس، وقد اتخذوا من ادعاء المهدوية سبيلًا للوصول الى مآربهم.

فالنفس المريضة، وعظم المنصب، وحب التملك، من أهم أسباب أدّعاء المهدوية.

ثانيًا: أقسام الدعاوى المهدوية:

بمتابعة الظروف التي نشأت فيها الدعاوى المهدوية يمكن أنْ نقسم أصل الدعاوى

ص: 239

إلى ثلاثة أقسام(1):

الأول: من نُسبت إليه المهدوية وهو لم يدعِها، وهو بريءٌ منها.

الثاني: من ادّعاها بدافع حب الرئاسة والجاه، وربما خُدِع فيها.

الثالث: من ادّعى المهدوية بخطة من الاستعمار وإيعاز منهم.

وهذه الأقسام تقريبًا هي الأقسام العامة لادعاء المهدوية، وسنذكر لكلِّ قسم منها نماذج:

نماذج من القسم الأول: من نُسبت إليه المهدوية وهو منها بريء:

الفرقة الأولى: الكيسانية:

وهذه الفرقة كان اتباعها يدّعون أنَّ المهدي هو محمد بن أمير المؤمنين8 المعروف بابن الحنفية، وسُميت ب(الكيسانية) نسبةً إلى كيسان.

أما من هو كيسان؟ فقد اختلف العلماء على أقوال، هي:

1/ محمد بن الحنفية، وكان يسمى بكيسان.

2/ مولى لأمير المؤمنين علیه السلام، أو لمحمد بن الحنفية نفسه. وقيل: كان هو المنظِّر لهذه الفرقة.

3/ المختار بن عُبيدة الثقفي، حيث إنَّ البعض اتهم المختار بأنه يدّعي أنَّ ابن الحنفية هو المهدي.

4/ صاحب شرطة المختار الذي كان يكنى ب(أبي عمرة). وقيل كان هو المنظِّر لهذه الفرقة.

ومن الواضح جدًا أنَّ محمداً بن الحنفية أجلُّ من أنْ يدّعي مثل هذه الدعوى وهو

ص: 240


1- انظر: ادّعياء المهدوية- أحمد الفرج الله- مركز الدراسات الاستراتيجية.

منها بريء؛ بل «أن محمدا رضي الله عنه لم يدع قط الإمامة لنفسه، ولا دعا أحدا إلى اعتقاد ذلك فيه»(1).

وقد روي أن أبا خالد الكابلي كان يخدم محمد بن الحنفية دهرا، وما كان يشك أنه إمام، حتى أتاه يوما فقال: إن لي حرمة، فأسألك برسول الله وبأمير المؤمنين إلا أخبرتني: أنت الامام الذي فرض الله طاعته؟

فقال: علي، وعليك، وعلى كل مسلم الإمام علي بن الحسين.

فجاء أبو خالد إلى علي بن الحسين علیهما السلام، فلما سلم عليه قال له: مرحبا بك يا كنكر، ما كنت لنا بزوار! ما بدا لك فينا؟

فخر أبو خالد ساجداً لله تعالى لما سمعه منه، وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى عرفت إمامي.

قال: كيف عرفت؟

قال: إنك دعوتني باسمي الذي سمتني به أمي، ولقد كنت في عماء من أمري، ولقد خدمت محمد بن الحنفية عمرا، فناشدته اليوم: أنت إمام؟ فأرشدني إليك فقال: هو الإمام علي، وعليك، وعلى الخلق كلهم، فلما دنوت منك سميتني باسمي الذي سمتني به أمي، فعلمت أنك الامام الذي فرض الله علي وعلى كل مسلم طاعته.(2)

من أهم عقائد الكيسانية:

1/إنَّ المهدي هو ابن الحنفية، وهو وصي أمير المؤمنين علیه السلام ؛ لذا فليس لأحدٍ من أهل بيته أنْ يخالفه، أو يخرج عن إمامته، أو حتى أنْ يُشهِر السيف -أي يقوم بثورة- إلا بإذنه. وبعضهم ذهب إلى إمامته بعد

ص: 241


1- الفصول المختارة للشيخ المفيد ص 300 و بحار الأنوار ج37 ص 5.
2- الخرائج والجررائح لقطب الدين الراوندي ج1 ص 261.

أخويه الحسنين علیه السلام، وبعضهم إلى إمامته بعد أبيه أمير المؤمنين علیه السلام،(1)

وهذا يعني أنَّ كلّاً من خروج الإمام الحسن علیه السلام للحرب على معاوية، وصلحه أيضًا، وخروج الإمام الحسين علیه السلام كان بإذنٍ من ابن الحنفية، بل قالوا: إنَّ الحسن والحسين (سلام الله عليهما) لو خرجا من دون إذنه لضلّا، والعياذ بالله.

2/إنَّ من خالف محمدًا بن الحنفية فهو كافر ومشرك.

3/إنَّ خروج المختار للطلب بثأر الإمام الحسين علیه السلام كان بإذنِ ابن الحنفية.

وأما المبرر لدعوى مهدوية ابن الحنفية، فالظاهر -- والله العالم -- استنادهم إلى ما ورد عن النبي الأكرم صلی الله علیه وآله و سلم: «نَّ المهدي اسمه اسمي»، فطبقوا الحديث على ابن الحنفية، ولكنهم تناسوا أنَّ الاحاديث التي قالت: إنَّ اسم المهدي كاسم النبي صلی الله علیه وآله و سلم قالت أيضًا: «إنَّه من ولد فاطمة علیها السلام»، وأنَّ ابن الحنفية ليس من ولدها علیها السلام.

وبعد أنْ مات ابن الحنفية ادعت الكيسانية عدم موته، وأنَّه حيٌ مقيم في جبل رضوى من جبال تهامة، وأنَّه يجلس بين أسدٍ ونمر يحفظانه، وأنَّ عنده عينيين تجريان بعسلٍ وماءٍ، وأنَّه غاب وسيعود بعد غيبته ليملأ الأرض قسطًا وعدلاً.

وهذه الفرقة منقرضة ليس لها أي وجودٍ اليوم.

الفرقة الثانية: الفرقة الباقرية:

وهم من ادعوا أنَّ الإمام محمد الباقر علیه السلام بأنّه هو المهدي.

الفرقة الثالثة: الناووسية:

«وهم الذين قالوا: إن جعفر بن محمد علیهما السلام حي لم يمت ولا يموت حتى يظهر ويلي أمور الناس، وأنه هو المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وزعموا أنهم رووا عنه أنه قال: «إن رأيتم رأسي قد أهوى عليكم من جبل فلا تصدقوه، فإني أنا صاحبكم» وأنه قال لهم: «إن جاءكم

ص: 242


1- لاحظ: كليات في علم الرجال للشيخ السبحاني ص 406.

من يخبركم عني أنه غسلني وكفنني فلا تصدقوه، فإني صاحبكم صاحب السيف».

وهذه الفرقة تسمى الناووسية، وسميت بذلك لرئيس لهم من أهل البصرة يقال له فلان بن فلان الناووس. [وقيل إنَّ اسمه (عبد الله بن ناووس).]

وقال عبد القاهر: وهم أتباع رجل من أهل البصرة كان ينتسب إلى (ناووس) بها وهم يسوقون الإمامة إلى جعفر الصادق بنص الباقر عليه وأنه المهدي المنتظر.

وقال الشهرستاني قريبا منه ; غير أنه قال: هم أتباع رجل يقال له ناووس.»(1)

ومن أهم عقائدهم بالإضافة إلى ادعائهم أنَّ المهدي هو الإمام جعفر الصادق علیه السلام، أنَّهم قالوا بإمامة ستة أئمة علیهم السلام: الإمام علي، والإمام الحسن، والإمام الحسين، والإمام زين العابدين، والإمام الباقر، والإمام الصادق (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

وهذه الفرقة ليس لها وجود اليوم.

الفرقة الرابعة: المباركية:

نشأت بعد وفاة الإمام الصادق علیه السلام، وزعموا أنَّ الإمامة بعد الإمام الصادق علیه السلام كانت لمحمد بن إسماعيل بن الإمام الصادق علیه السلام؛ لاعتقادهم أنَّ أمر الإمامة كان لإسماعيل بن الإمام الصادق علیه السلام، ولكنّه توفي في حياة الإمام الصادق علیه السلام، فانتقلت الإمامة بعد استشهاد الإمام الصادق إلى (محمد) وهو ابن اسماعيل بن الإمام الصادق علیه السلام.

وسميت الفرقة ب-(المباركية)؛ نسبةً إلى رئيسهم: مبارك الذي كان عبدًا لإسماعيل ابن الإمام الصادق علیه السلام.

الفرقة الخامسة: الإسماعيلية:

وهي من الفرق الباطنية التي انتسبت إلى إسماعيل بن الإمام الصادق علیه السلام، ولها

ص: 243


1- انظر: كليات في علم الرجال للشيخ السبحاني ص 408 – 409.

امتدادٌ إلى هذا اليوم، ولها فرقٌ عديدة.

قال النوبختي: فرقة زعمت أن الامام بعد جعفر بن محمد، ابنه إسماعيل بن جعفر وأنكرت موت إسماعيل في حياة أبيه، وقالوا: كان ذلك على جهة التلبيس من أبيه على الناس، لأنه خاف فغيبه عنهم، وزعموا أن إسماعيل لا يموت حتى يملك الأرض ويقوم بأمر الناس، وأنه هو القائم لأن أباه أشار إليه بالإمامة بعده، وقلدهم ذلك له وأخبرهم أنه صاحبه، والإمام لا يقول إلا الحق، فلما ظهر موته علمنا أنه قد صدق وأنه القائم وأنه لم يمت وهذه الفرقة هي الإسماعيلية الخالصة.(1)

كما ادعى البعض أنَّ زيدًا بن علي الشهيد هو المهدي، ولكن عقائد الزيدية اليوم لا تقول بهذا، ونستبعده؛ وذلك لأنَّ اسمه ليس بمحمد، وأنَّ أغلبية من نُسبت المهدوية إليهم كانوا يحملون اسم محمد.

القسم الثاني: من ادعى المهدوية بدافع حب الرئاسة والجاه والمنصب، ومنها:

الشخصية الأولى: محمد المحض(2).

وهو محمد بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الإمام الحسن المجتبى المعروف

ص: 244


1- كليات في علم الرجال للسبحاني ص 410 نقلاً عن فرق الشيعة: الصفحة 89..
2- ترجم له السيد الخوئيv في معجم رجاله (ج17 ص 249 – 250 رقم 11110) بما نصه: محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن: ابن علي بن أبي طالب علیه السلام، أبو عبد الله المدني: ذكر ابن داود (1391) من القسم الأول والسيد التفريشي (481) والميرزا في رجاليه، والمولى القهبائي: عد الشيخ إياه في رجاله من أصحاب الصادق علیه السلام، وأنه قتل سنة (145) بالمدينة، وزاد ابن داود قوله: « الملقب بالنفس الزكية». والنسخة المطبوعة خالية عن ذكره. ثم إن محمدا هذا أدعى الخلافة، دعا الصادق جعفر بن محمد علیهما السلام إلى بيعته، وتكلم معه بكلام غليظ حتى بلغ الامر إلى أنه أمر بحبسه سلام الله عليه، وكان الصادق علیه السلام يعظه ويصرفه عما أراد، ويخبره بأن الامر لا يتم له، ولكنه لم يصغ إلى ذلك، وأصر على ما أراد حتى انتهى الامر إلى قتله، راجع الكافي: الجزء 1، باب ما يفصل به بين دعوى المحق والمبطل في أمر الإمامة (81)، الحديث 17. وروى الصفار باسناده، عن المعلى بن خنيس، قال: كنت عند أبي عبد الله علیه السلام إذ أقبل محمد بن عبد الله بن الحسن فسلم، ثم ذهب، ورق له أبو عبد الله علیه السلام ودمعت عينه، فقلت له: لقد رأيتك صنعت به ما لم تكن تصنع، قال: «رققت له، لأنه ينسب في أمر ليس له، لم أجده في كتاب علي في خلفاء هذه الأمة، ولا ملوكها». وروى عن عبد الله بن جعفر، عن محمد بن عيسى، عن صفوان، عن العيص بن القاسم، قال: قال لي أبو عبد الله علیه السلام: «ما من نبي ولا وصي ولا ملك إلا في كتاب عندي، والله ما لمحمد بن عبد الله فيه اسم». بصائر الدرجات: الجزء 4، باب 2، في الأئمة عندهم الكتب التي فيها أسماء الملوك، الحديث 6. أقول: الروايات في أن محمدا هذا أدعى الخلافة ولم ينته بنهي الصادق علیه السلام، حتى انتهى أمره إلى القتل متعددة...

ب-(المحض)، وقد ثار قبيل ظهور الدولة العباسية، وكان المنصور الدوانيقي من أنصاره؛ ليسقط الدولة الأموية.

وقد ابتدعوا حديثًا عن النبي صلی الله علیه وآله و سلم مضمونه: «المهدي اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي» تبريرًا لهذه الدعوى. وممن بايعه على أنَّه المهدي: أبوه عبد الله بن محمد، والمنصور الدوانيقي.

وتذكر الروايات أنَّ الإمام الصادق علیه السلام أخبرهم بأنَّه ليس صاحب هذا الأمر، وأنَّه سيقتل، ولكنهم لم يصدقوه، بل البعض رماه بالحسد!

وقيل: إنَّه تاب، والأمر موكولٌ إلى البحث والتحقيق؛ لأننا في مقام بيان مطلبٍ تاريخي ليس إلا، وكانت نهاية أمره كما تنبأ الإمام الصادق علیه السلام، حيث قُتِل.

الشخصية الثانية: الخليفة العباسي الملقب بالمهدي.

وهو محمد بن عبد الله المنصور الدوانيقي الخليفة العباسي الملقب بالمهدي، وقد اتخذ من كون اسمه (محمد بن عبد الله) مبررًا لادعائه المهدوية بالاستناد إلى نفس الحديث المبتدع عن الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله و سلم المذكور آنفًا. وممن بايعه أبوه المنصور الدوانيقي، بل

ص: 245

وكان يدعو إلى مبايعته على أنَّه هو المهدي.

وكان السبب الرئيسي وراء ادعاء هاتين الشخصيتين المهدوية هو الوصول إلى مآربهما في الجاه والرئاسة. علمًا أنَّ البعض أحصى عدد مدعي المهدوية فكانوا خمسين شخصية، دفع أغلبيتهم إلى هذا الادعاء الجاه والرئاسة أيضًا.

القسم الثالث: من كانت للاستعمار يدٌ في ادعائه المهدوية، ويبرز في هذا المجال:

علي بن محمد الملقب بالباب:

ذكروا أن جاسوساً روسيًا جاء إلى إيران، وأقام فيها فترة ثم جاء إلى العراق، مرتديًا الزي الديني، ومدعيًا أنَّ اسمه الشيخ (عيسى لنكراني)، على حين أنّ اسمه الحقيقي كان (كنياز دالكوركي)!

ويقال إنَّه حضر درس السيد كاظم الرشتي، وتعرَّف على رجل يشرب الحشيشة اسمه علي محمد، وكان هذا الجاسوس يستغل الفترة التي كان يفقد بها علي محمد عقله، ويخاطبه بلقب صاحب الزمان.

في بادئ الأمر أنكر علي محمد عليه هذا الأمر، حتى أقنعه بذلك في يومٍ من الأيام وبدأ يوحي إليه، فشرع بادعاء أنّه الباب، أي الباب إلى الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، وظهرت دعوته أولًا في كربلاء ولاقت رفضًا ثم ذهب إلى إيران، فانتشرت دعوته على أنَّه الباب، ثم تطور أمره وأصبح يدّعي أنَّه هو الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وأسس الفرقة البهائية.

وتذكر بعض الروايات أنَّ نقاشًا دار فيما بينه وبين بعض العلماء، وترك دعواه، ولكن الحاكم الجديد أمر بإعدامه، فأعدِم. وبقطع النظر عمّا إذا تاب أو لا، فإنَّ ادعاءه المهدوية ما جاء إلا بيدٍ من الاستعمار؛ لتشق الوحدة الإسلامية، ومن ثم الوصول إلى مآربها.

ص: 246

واليوم نجد العديد من المدعين للمهدوية، الذين نجهل الأيادي الخفية التي تحركهم، والتي تمولهم بأموال طائلة، مما يرجح احتمال كونهم منصّبين من قبل دولٍ لها مصالح في نشر مثل هذه الدعاوى، سواء كانت ترتدي زي الإسلام أو غيره، بل ويمكن الاطمئنان بذلك أيضًا.

ثالثًا: الخطوط العامة لدعاوى السفارة والمهدوية:

على الرغم من اختلاف دوافع دعاوى السفارة والمهدوية واختلاف أقسامها، إلا أنَّها تشترك بخطوط عامة يمكن أنْ نلاحظها فيمن يدّعي السفارة أو المهدوية، وهي:

الخط الأول: إلغاء مسألة التقليد.

وهو أول عملٍ يقوم به مدعو المهدوية أو السفارة؛ لأنَّه ينتج نتيجتين مهمتين كلتاهما تصب في صالحهم، وهما:

الأولى: ضمان رجوع الناس أليهم، وهذا مما يؤدي إلى فصل المجتمع عن المرجعية، فيبقى المجتمع كغنمٍ بلا راعٍ يدخل فيها الذئب يصنع ما يشاء.

الثانية: أن الحقوق الشرعية ستؤول إليهم.

الخط الثاني: لا وجود لدليلٍ ملموس على حقانية الدعوى.

فإنَّ جميع أدلتهم تستند إلى الرؤى والاستفتاح بالقرآن وما شاكل ذلك، وأما الأدلة التي دعا إليها الشرع لإثبات مثل هكذا دعاوى من قبيل المعجزات أو الدليل القطعي، فهم عاجزون عنها.

وهذا من أهم سبل فضحهم وكشف بطلان دعواهم، كما حُكيَ أنَّ أحد هؤلاء المدعين ذهب إلى أحد العلماء، فلم يناقشه الأخير في شيءٍ سوى أنَّه طلب منه إزاء إيمانه به أن يعيد إلى لحيته البيضاء سوادها. وهي الطريقة التي كان اعتمدها الحسين بن

ص: 247

روح رحمه الله في رد بعض المدّعين(1)..

الخط الثالث: لا مجال للتريث في تصديق الدعوى.

فإما أنْ تؤمن أو تكفر.

الخط الرابع: كلُّ من لا يؤمن بالدعوى فهو كذابٌ أشر.

وإذا كان كاذبًا فلا يُسمع كلامه ولا يُصدّق في أية كلمةٍ يقولها أو ينقلها سواء كان عن المدعي أو غيره ولو كانت آيةً أو روايةً.

ص: 248


1- ورد عن أبي نصر هبة الله بن محمّد الكاتب ابن بنت أُمّ كلثوم بنت أبي جعفر العمري، قال: لمَّا أراد الله تعالى أن يكشف أمر الحلّاج ويُظهِر فضيحته ويُخزيه، وقع له أنَّ أبا سهل إسماعيل بن عليّ النوبختي رحمه الله ممَّن تجوز عليه مخرقته وتتمُّ عليه حيلته، فوجَّه إليه يستدعيه، وظنَّ أنَّ أبا سهل كغيره من الضعفاء في هذا الأمر بفرط جهله، وقدر أن يستجرّه إليه فيتمخرق (به) ويتسوف بانقياده على غيره، فيستتبُّ له ما قصد إليه من الحيلة والبهرجة على الضعفة، لقدر أبي سهل في أنفس الناس ومحلّه من العلم والأدب أيضاً عندهم، ويقول له في مراسلته إيّاه: إنّي وكيل صاحب الزمان عجل الله تعالی فرجه - وبهذا أوَّلاً كان يستجرُّ الجهّال ثمّ يعلو منه إلى غيره -، وقد أُمرت بمراسلتك وإظهار ما تريده من النصرة لك لتقوي نفسك، ولا ترتاب بهذا الأمر. فأرسل إليه أبو سهل0 يقول له: إنّي أسألك أمراً يسيراً يخفُّ مثله عليك في جنب ما ظهر على يديك من الدلائل والبراهين، وهو أنّي رجل أُحِبُّ الجواري وأصبو إليهنَّ، ولي منهنَّ عدَّة أتحظّاهنَّ، والشيب يُبعِدني عنهنَّ [ويُبغِّضني إليهنَّ]، وأحتاج أن أُخضبه في كلِّ جمعة، وأتحمَّل منه مشقَّة شديدة لأستر عنهنَّ ذلك، وإلَّا انكشف أمري عندهنَّ، فصار القرب بعداً والوصال هجراً، وأُريد أن تغنيني عن الخضاب وتكفيني مؤنته، وتجعل لحيتي سوداء، فإنّي طوع يديك، وصائر إليك، وقائل بقولك، وداع إلى مذهبك، مع ما لي في ذلك من البصيرة ولك من المعونة. فلمَّا سمع ذلك الحلّاج من قوله وجوابه علم أنَّه قد أخطأ في مراسلته وجهل في الخروج إليه بمذهبه، وأمسك عنه ولم يرد إليه جواباً، ولم يُرسِل إليه رسولاً، وصيَّره أبو سهل رحمه الله حدوثة وضحكة ويطنز(طنز يطنز طنزاً: كلَّمه باستهزاء. (هامش المصدر).) به عند كلِّ أحد، وشهر أمره عند الصغير والكبير، وكان هذا الفعل سبباً لكشف أمره وتنفير الجماعة عنه. [الغيبة لطوسي: 401 و402/ ح 376.]
رابعًا: كيف نواجه مدّعي السفارة أو المهدوية؟

لم يُشِر الشيخ رحمه الله في كتابه إلى كيفية مواجهة مدعي السفارة أو المهدوية، ولكننا نذكرها استطرادًا، لا سيما إننا في زمنٍ كثرت فيه مثل هذه الدعاوى، فنكون بأمس الحاجة إليها. فنذكر بعض الأمور العملية:

الأمر الأول: متابعة الظروف التي أحاطت بالمدّعي.

قبل كلِّ شيءٍ لابُدَّ أنْ نتابع الظروف التي أحاطت بالمدعي، نحو: مسيرته في الحياة، أساتذته في العلم، أصحابه، أخلاقه في بيته ، مكسبه أي من أين يكسب الأموال.

وهذا لمن يدّعي السفارة، أما بالنسبة لمن يدّعي المهدوية فيكفي تتبع نسبه ليكشف عن كذبه.

الأمر الثاني: التريُّث في تصديق الدعوى.

إنَّ أمر أهل البيت علیهم السلام هو أوضح من الشمس وأبين من الأمس، ومع وجود غموض في دعوةٍ ما، فإنه يحق لأيِّ إنسان أنْ يتريث ويبحث حتى يصل إلى اليقين، لاسيما في الأصول الاعتقادية التي يُطلب فيها اليقين، واليقين عادة ما يحتاج إلى وقتٍ وفكرٍ ونظرٍ وتأملٍ، وربما مراجعة حتى يصل المرء إلى اليقين، وهذا ما أشار إليه ما روي عن أبي جعفر علیه السلام أنه قال:«كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحق فلا يعطونه، ثم يطلبونه فلا يعطونه، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم فيعطون ما سألوه فلا يقبلونه حتى يقوموا ولا يدفعونها إلا إلى صاحبكم قتلاهم شهداء أما إني لو أدركت ذلك لاستبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر».(1)

أي إنه حتى مع ثبوت حقانية تلك الحركة، فإنّي أفضل انتظار صاحب الأمر،

ص: 249


1- الغيبة للنعماني ص 282 و 283 باب 14 ح 50.

وأبقي نفسي له.

يجرنا ما تقدّم إلى سؤال ربما يتبادر إلى الأذهان:

هل يجب الالتحاق باليماني حال خروجه؟

لعله يُقال: بعدم وجود رواية تدلُّ على لزوم اتباع اليماني ووجوب اللحاق به، وإنَّما الوارد هو حرمة الالتواء عليه، وهناك فرق بين حرمة الالتواء ووجوب الاتباع، فلا يجوز الاعتراض عليه وتثبيط الناس عنه، ولكن في نفس الوقت ليس هناك ما يدل على لزوم الالتحاق به.

وأما حال ظهور الإمام فلا بُدَّ من الالتحاق به كما هو واضح، فقد روي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر علیهما السلام في حديثه مع أبي الجارود قال: «يا أبا الجارود، إذا دارت الفلك، وقال الناس: مات القائم أو هلك، بأي واد سلك، وقال الطالب: أنى يكون ذلك وقد بليت عظامه فعند ذلك فارجوه، فإذا سمعتم به فأتوه ولو حبواً على الثلج».(1)

الأمر الثالث: النظر في مدى مطابقة دعوى مدّعي السفارة أو المهدوية لضرورات الدين أو المذهب.

والضرورات: هي الأحكام الشرعية والأصول الاعتقادية التي اتفق جميع المسلمين على ثبوتها وعلى صدقها؛ لوجود نص قرآني أو نص شرعي متواتر صحيح وما شابه هذا الأمر، كوجوب أصل الصلاة.

فلو ادعى شخص عدم وجوب الصلاة أو عدم وجوب الحجاب، أو ادعى موت الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وأنَّه هو من يجب اتباعه؛ لأنه ابنه أو خليفته، فلمخالفتهما لضرورة من ضرورات الدين يحكم بزيفها من دون تردد.

ص: 250


1- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 326 باب 32 ح 5.

الأمر الرابع: المطالبة بإقامة الكرامة.

ربما لم تُجدِ أيًا من الأمور السابقة في الكشف عن حقانية مدّعي السفارة أو المهدوية من عدمها، فحينئذٍ لا بُدَّ من المطالبة بدليل قطعي. ولا دليل قطعياً أدلُّ على حقانية الدعاوى المرتبطة بالسماء من الكرامات، والكرامة كالمعجزة لا تختلف عنها إلا في خلوها من ادعاء النبوة، فيجوز ادعاء سواها من المناصب الغيبية المتصلة بالسماء كالإمامة والسفارة وغيرها؛ لذا فما من نبي دعا قومه إلا وطولب بمعجزةٍ دليلًا على صدق دعواه.

وعليه، فلا يجوز للمدعي أن يتنصل من إثبات حقانية دعواه بالطريق الإعجازي، أو يُنكر هذا الأمر على من يطالبه به؛ لأنه علاوةً على كونه عرفًا عامًا في التعامل مع الدعاوى الغيبية، فهو عرفٌ خاص في خصوص التعامل مع الدعاوى المهدوية؛ للروايات الواضحة في هذا المجال، ومنها ما عن المفضَّل بن عمر، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبتين: يرجع في أحدهما إلىٰ أهله، والأُخرىٰ يقال: هلك، في أيِّ وادٍ سلك؟»، قلت: كيف نصنع إذا كان ذلك؟ قال: «إن ادَّعىٰ مدعٍ فاسألوه عن تلك العظائم التي يجيب فيها مثله»(1).

والعظائم التي يجيب فيها مثله هي الأمور الغيبية، أو حلِّ معضلةٍ علمية عجز العلماء عن حلها.

وقد ورد في بعض الروايات أنَّ الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف نفسه يستجيب لمن يطلب منه الكرامة، ولا ينكر عليه ذلك، ففي رواية أُخرىٰ: «ويلحقه الحسني في اثني عشر ألفاً، فيقول له: أنا أحقُّ منك بهذا الأمر، فيقول له: هات علامة، هات دلالة، فيومئ إلىٰ الطير فيسقط علىٰ كتفه، ويغرس القضيب الذي بيده فيخضرّ ويعشوشب، فيُسلِّم إليه

ص: 251


1- الغيبة للنعماني: 178/ باب 10/ فصل 4/ ح 9.

الحسني الجيش، ويكون الحسني علىٰ مقدمته...»(1).

خامسًا: طرق النقاش في القضايا المهدوية

خامسًا: طرق النقاش في القضايا المهدوية(2).

إتمامًا للفائدة، من المناسب أن نتعرض إلى كيفية المناقشة في القضايا المهدوية لكشف المزيفة منها. وهناك عدة طرق للنقاش مع أصحاب الدعاوى المزيفة لكشف زيفهم، وهذه الطرق مختلفة باختلاف المستوى العلمي للمدعين، وباختلاف الظروف الموضوعية التي قد تصل إلى حد التباين، وهي كالتالي:

الطريق الأول: الطريق الفكري.

إنَّ لكلِّ علم من العلوم وكلّ جانب من جوانب المعرفة أُصولاً موضوعية تؤخذ فيه على أنَّها أُصول ثابتة لا تنازل عنها، أي إنَّ الداخل في جانب من جوانب المعرفة سيجد فيه أساسات ومرتكزات يبتني عليها هذا الجانب المعرفي، وبالتالي على من يريد النقاش والحوار في هذا الجانب أن يلتزم أُصوله الموضوعية.

هكذا تقضي الأُصول العلمية المتعارفة في الأوساط المعرفية.

ومن هنا، فإنَّ الحوار في القضيَّة المهدوية له أساساته وأُصوله الموضوعية، وخلاصتها التالي:

أوَّلاً: إنَّ مفردات القضيَّة المهدوية هي من نوع الروايات التاريخية أو الملاحم المستقبلية، وعليه فالروايات تُمثِّل أساساً لا يُتنازل عنه فيها، فلا موضع للتخمينات ولا للظنّيات...

ثانياً: إنَّ هذا الأمر يخضع للعلوم المتعلّقة بالروايات، كالفقه وأُصوله وقواعدهما،

ص: 252


1- الملاحم والفتن لابن طاووس: 295 و296.
2- نشر هذا البحث في مجلة الموعود العدد 3/ جمادى الآخرة/ 1438ه- الصادرة عن مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي8 مع تفاصيل أكثر.

وقواعد التعارض والتراجيح، وعلم الرجال والتراجم، وعلم الدراية...

ثالثاً: إنَّ هذا يعني ضرورة الرجوع إلى المتخصِّص في هذه العلوم، ولا يُسمَح لغير المتخصِّص فيها أن يتطفَّل عليها.

فإذا تحقَّقت هذه العناصر أمكن أن يكون النقاش مثمراً، وصار إثبات الرأي الصائب قريباً جدّاً من حيِّز الوقوع.

أمثلةٌ مواجهة المدعين بالطريق الفكري

المثال الأول: دعوى سفارة أحمد بن إسماعيل.

ادَّعى جماعة أحمد إسماعيل گاطع أنَّه وليّ مفترض الطاعة، وأنَّه يجب على كلِّ شيعي أن يبايعه، استناداً إلى رواية أسموها برواية الوصيَّة، وهي رواية رواها الشيخ الطوسي في غيبته، وقد ورد في ذيلها:

«... ثمّ يكون من بعده اثنا عش-ر مهدياً، (فإذا حض-رته الوفاة) فليُسلِّمها إلى ابنه أوَّل المقرَّبين، له ثلاثة أسامي: اسم كاسمي، واسم أبي وهو عبد الله وأحمد، والاسم الثالث: المهدي، هو أوَّل المؤمنين»(1)

فادَّعى ابن گاطع - وصفَّق له جماعته - بأنَّه هو المقصود بأوَّل المقرَّبين وأوَّل المؤمنين، وبالتالي يجب على الشيعة أن يبايعوه و...

ووفق هذا الطريق الفكري يكون الردّ على هذه الدعوى بمنتهى العلمية والمهنية وفي نفس الوقت بمنتهى السهولة، ذلك لأنَّ هذه الرواية ضعيفة السند جدّاً، فلا تصلح للاستدلال الفقهي فضلاً عن العقائدي.

فإنَّ الشيخ رواها بالسند التالي:

ص: 253


1- الغيبة للطوسي: 151/ ح 111.

«أخبرنا جماعة، عن أبي عبد الله الحسين بن عليّ بن سفيان البزوفري، عن عليّ بن سنان الموصلي العدل، عن عليّ بن الحسين، عن أحمد بن محمّد بن الخليل، عن جعفر بن أحمد المص-ري، عن عمِّه الحسن بن عليّ، عن أبيه، عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد، عن أبيه الباقر، عن أبيه ذي الثفنات سيِّد العابدين، عن أبيه الحسين الزكي الشهيد، عن أبيه أمير المؤمنين علیه السلام، قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ...».

وهذا السند غاية في الضعف، لاشتماله على عدَّة مجاهيل وضعفاء، فإنَّ (عليّ بن سنان الموصلي العدل)، وكذلك (أحمد بن محمّد بن الخليل)، و(جعفر بن أحمد المصري)، و(عمّه الحسن بن عليّ، عن أبيه) كلّهم مجاهيل، فلا تصلح رواية وردوا في طريقها للاستدلال.(1)

المثال الثاني: خروج اليماني من البصرة لا من اليمن.

ومثال آخر على هذا الطريق، هو ما قد يدَّعيه البعض - ومنهم أحمد الگاطع - أنَّ اليماني من العراق من البصرة بالخصوص، وأنَّ اليماني المقصود منه النسبة إلى اليُمْن.

ويكون ردُّ هذه الدعوى وفق هذا الطريق بالرجوع أوَّلاً إلى الروايات، لنرى ما يُستفاد منها، وبالرجوع إلى أهل اللغة العربية لنرى ماذا يستفيدون من كلمة (اليماني).

وبالرجوع لهذين العلمين نجد أنَّ الروايات يُستفاد منها أنَّ اليماني من اليمن بالخصوص، فإنَّه قد ورد عن هشام، عن الإمام الصادق علیه السلام، قال: «لمَّا خرج طالب الحقِّ قيل لأبي عبد الله علیه السلام: نرجو أن يكون هذا اليماني؟ فقال: «لا، اليماني يوالي عليّاً وهذا يبرأ»(2).

ص: 254


1- للتفاصيل راجع كتاب: الردُّ القاصم لدعوة المفتري على الإمام القائم للشيخ عليّ آل محسن: 28 - 34/ تقديم مركز الدراسات التخصّصية في الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه.
2- أمالي الصدوق: 661/ ح (1375/19).

فتجد أنَّ الإمام الصادق علیه السلام لم ينفِ اليمانية عن هذا المسمّى (الطالب للحقِّ) من جهة أنَّه خرج من اليمن لا من العراق، بل نفاها من جهة عدم موالاته لأمير المؤمنين علیه السلام، ولو كان ثَمَّة جهة أُخرى لكان مناسباً للإمام علیه السلام أن يُبيِّنها.

فيظهر من هذا أنَّ كون اليماني من اليمن هو من الواضحات في الذهنية الشيعية عموماً آنذاك، أي في عصر الإمام علیه السلام، وسكوت الإمام علیه السلام عن ذلك إقرار منه بصحَّة هذا الفهم في الذهنية العامَّة.

وهكذا لو رجعنا لأهل اللغة، لرأينا أنَّهم يفهمون من (اليماني) النسبة إلى اليَمَن، كما يفهمون من (الحبرة اليمانية) انتسابها إلى اليمن، ومن الركن اليماني الجهة المقابلة من الكعبة لليمن، وأنَّ النسبة المأخوذة من (اليُمْن) هي (ميمون) لا (يماني)، بل إنَّ المتبادر من (اليماني) هو النسبة إلى اليمن، والتبادر علامة الحقيقة، ولا ينصرف إلى غير هذا المعنى إلَّا بقرينة صارفة، وهي مفقودة في المقام.

الطريق الثاني: الطريق الخطابي.

من أهمّ الأساليب الإقناعية وأقدمها وأكثرها تأثيراً في الجمهور هو أُسلوب الخطابة، ذلك الأُسلوب الذي يكون القصد المباشر منه إقناع الجمهور والطرف الآخر، سواء كانت القضايا المستعملة فيه علمية أو مشهورة أو من نوع المسلَّمات وما شابه، فليس المقصود فيها أكثر من إقناع الطرف الآخر، بغضِّ النظر عن نوع القضيَّة المستعملة في الإقناع.

ولا نريد الخوض في أجزاء الخطابة وقوامها، فإنَّ الكلام فيه طويل الذيل.

المهمّ أن نعرف أنَّ هذا الأُسلوب نافع في الكثير من الأحيان، خصوصاً إذا كان الحوار يدور على مرأى ومسمع من جمهور متوسّط الثقافة أو قليلها.

ص: 255

وعندما نرجع إلى أساليب أهل البيت علیهم السلام في الحوار نجد أنَّهم علیهم السلام قد يستعملون الأُسلوب والطريق الفكري العلمي، وقد يستعملون الأُسلوب والطريق الخطابي، وما ذاك إلَّا لأنَّهم كانوا يلاحظون الظروف الموضوعية المحيطة بالحالة، فيتخيَّرون المناسب من طرق الإقناع.

وكتطبيق عملي لهذه الفكرة، نجد في الروايات الشريفة سؤالاً واحداً توجَّه إلى اثنين من أئمَّة أهل البيت علیهم السلام، وقد أجابا عنه بجوابين مختلفين، وما ذاك إلَّا لاختلاف حال السائل معهما، حيث ورد أنَّ الديصاني - وهو أحد أقطاب الزنادقة الذين كانوا يُشكِّكون بوجود الله تعالى - قال لهشام بن الحكم: ألك ربٌّ؟ قال: بلى. قال: أقادرٌ؟ قال: بلى. قال: أيقدر أن يُدخِل الدنيا كلّها في البيضة، لا يُكبِّر البيضة ولا يُصغِّر الدنيا؟ فجاء هشام إلى الإمام الصادق علیه السلام وقال له: قال لي الديصاني كذا وكذا. فقال علیهم السلام له: «كم حواسّك؟»، قال: خمس. قال علیه السلام: «أيّها أصغر؟»، قال: الناظر. قال علیه السلام: «كم قدر الناظر؟»، قال: مثل العدسة أو أقلّ. قال علیه السلام: «فانظر أمامك وفوقك وأخبرني بما ترى». قال: أرى سماءً وأرضاً ودوراً وقصوراً وجبالاً وأنهاراً. فقال علیه السلام: «إنَّ الذي قدر على أن يُدخِل الذي تراه العدسة أو أقلّ منها قادر أن يُدخِل الدنيا كلّها البيضة، لا يُصغِّر الدنيا ولا يُكبِّر البيضة»(1).

ونفس هذا السؤال أجاب عنه أمير المؤمنين علیه السلام بجواب آخر، فعن عمر بن أذينة، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «قيل لأمير المؤمنين علیه السلام: هل يقدر ربّك أن يُدخِل الدنيا في بيضة من غير أن يُصغِّر الدنيا أو يُكبِّر البيضة؟ قال: «إنَّ الله تبارك وتعالى لا يُنسَب إلى العجز، والذي سألتني لا يكون»(2).

ص: 256


1- التوحيد للصدوق: 122.
2- التوحيد للصدوق: 129 و130.

فنلاحظ أنَّ جواب الإمام الصادق علیه السلام كان جواباً خطابياً اسكاتياً، وأمَّا جواب أمير المؤمنين علیه السلام فقد كان جواباً علمياً برهانياً، مفاده أنَّ ما يقوله السائل يستلزم محالاً عقلياً، فإنَّ قدرة الله تعالى تتعلَّق بالأمر الممكن، وأمَّا الأمر الممتنع ذاتاً فإنَّ القدرة لا تتعلَّق به، لأنَّه ممتنع بالذات، وإدخال الدنيا في البيضة مخالف لقانون عقلي متسالم عليه، وهو عدم إمكان أن يكون الصغير ظرفاً للكبير، لأنَّ قانون الظرفية العقلي يقتضي أن يكون الكبير ظرفاً للصغير.

فهنا امتناع إدخال الدنيا في البيضة لنقص في البيضة لا لنقص في قدرة الله تعالى، تماماً كما إذا كان هناك رسّام ماهر يجيد كلَّ أنواع الرسم، فيأتيه شخص ويقول له: أتستطيع أن ترسم لي لوحة على الماء أو الهواء!؟ فهل عدم استطاعة الرسّام لذلك يعني أنَّ الرسام ليس ماهراً أم أنَّ نفس الرسم على الماء والهواء مستحيل!؟ حكِّم عقلك واخرج بنتيجة.

تطبيق في القضيَّة المهدوية:

إنَّ جماعة أحمد الگاطع وحتَّى يتملَّصوا من الردِّ العلمي على رواية الوصيَّة، أنكروا (علم الرجال) ونتائجه، فلا يكفي القول بضعف سندها لردِّها، ونحن لو تنزَّلنا عن هذا الأمر، فإنَّه يمكن أن نجيبهم بجواب خطابي لا يمكنهم أن يتملَّصوا منه، وخلاصته التالي:

إنَّ رواية الوصيَّة نصَّت على أنَّ (ابن المهدي) و(أوَّل المقرَّبين) سيتولّى مهام قيادة الدولة المهدوية بعد وفاة أبيه، إذ أنَّها قالت ما نصّه: «... ثمّ يكون من بعده اثنا عش-ر مهدياً، (فإذا حضرته الوفاة) فليُسلِّمها إلى ابنه أوَّل المقرَّبين، له ثلاثة أسامي: اسم كاسمي، واسم أبي وهو عبد الله وأحمد، والاسم الثالث: المهدي، هو أوَّل المؤمنين»(1).

وهنا نقول: لو سلَّمنا أنَّ رواية الوصيَّة صحيحة السند، وأنَّ (أحمد إسماعيل گاطع)

ص: 257


1- الغيبة للطوسي: 151/ ح 111.

هو ابن الإمام، ولكن لا يجب علينا أن نبايعه ونتَّبعه إلَّا بعد ظهور الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وحكمه الأرض ووفاته، لأنَّ هذا هو ما نصَّت عليه الرواية، وبالتالي فلا دليل على لزوم اتِّباعه اليوم إلَّا أن يخالف الوجدان ويدَّعي ظهور الإمام وموته!

الطريق الثالث: طلب الكرامة أو المعجزة.

الاتِّصال بالغيب، ليس له أدوات حسّية للإثبات في الأعمِّ الأغلب، لذا أيَّد الله تعالى رسله وأنبياءه بالمعجزات الكثيرة، حتَّى يتمكَّنوا من إثبات اتِّصالهم بالسماء.

ذلك لأنَّ المعجزة حيث إنَّها «أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدّي، مع عدم المعارضة»(1).

وهذا الأمر لا يحصل لأيِّ مدَّعٍ، فإنَّ جريان المعجزة إنَّما يكون بإذن الله تعالى، وهو ما صرَّح به القرآن الكريم على لسان النبيِّ عيسى علیه السلام: ﴿وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْن اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(2)

فجريانها إنَّما يكون بإذن الله تعالى، فلو جرت على يدي مدَّعٍ كاذب، كان هذا إغراءً من الله تعالى بالمعصية، وهو بحكم العقل قبيح، والله تعالى منزَّهٌ فعلُه عن أيِّ قبيح.

فالحكمة الإلهية واللطف الإلهي يمنع من إجراء المعجزة إلَّا على يدي الصادق، ومن له علاقة بالسماء.

ومن هنا حكم العقل بصدق من تجري المعجزة على يديه، بل وضرورة طاعته.

ومن يدَّعِ الاتِّصال بالإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف - وهو نوع من أنواع الاتِّصال بالغيب، إذ

ص: 258


1- محاضرات في الإلهيات للسبحاني: 258.
2- آل عمران: 49.

ليس له أدوات إثبات حسّية – فإن عليه أن يُثبِت ذلك بنفس الكيفية، إذ ما من طريق يقيني يورث الاطمئنان بذلك إلَّا أن يأتي المدَّعي بما يكشف عن صدق دعواه، وذلك بأن يأتي بشيءٍ خارق للعادة، من دون سابق إنذار، ومن دون تعليم مسبق، لا كما يفعل المشعوذون والسحرة.

وهذا الأمر له شواهد عديدة، نذكر منها التالي:

أوَّلاً: عن المفضَّل بن عمر، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبتين: يرجع في أحدهما إلى أهله، والأُخرى يقال: هلك، في أيِّ وادٍ سلك؟»، قلت: كيف نصنع إذا كان ذلك؟ قال: «إن ادَّعى مدَّعٍ فاسألوه عن تلك العظائم التي يجيب فيها مثله»(1).

فالإمام الصادق علیه السلام يدلّنا على أنَّ من يدَّعي مقاماً غيبياً كالمهدوية، أو حتَّى الاتِّصال بالمهدي والسفارة عنه، فعليه أن يجيب من يسأله عن أُمور عظائم، لا يجيب عليها إلَّا الإمام أو من يرسله الإمام ويعطيه المؤيِّدات على ذلك، ومن تلك العظائم بل وعلى رأسها المعجزة.

ثانياً: ما ورد عن الحسين بن عليّ بن محمّد المعروف بأبي عليّ البغدادي، قال: رأيت في تلك السنة بمدينة السلام امرأة، تسأل عن وكيل مولانا علیه السلام من هو؟ فأخبرها بعض القمّيين أنَّه أبو القاسم الحسين بن روح، وأشار لها إليه وأنا عنده. فقالت له: أيّها الشيخ أيّ شيء معي؟ فقال: ما معكِ اذهبي فألقيه في دجلة، ثمّ ائتيني حتَّى أُخبركِ. قال: فذهبت المرأة، وحملت ما كان معها، فألقته في دجلة، ثمّ رجعت، ودخلت إلى أبي القاسم الروحي، وأنا عنده. فقال أبو القاسم لمملوكته: أخرجي إليَّ الحقَّة فأخرجت إليه الحقَّة، فقال للمرأة: هذه الحقَّة التي كانت معكِ، ورميتِ بها في دجلة، أُخبرك بما فيها أم

ص: 259


1- الغيبة للنعماني: 178.

تخبريني؟ قالت: بل تخبرني أنت. قال: في هذه الحقَّة زوج سوار ذهب، وحلقة كبيرة فيها جواهر وخاتمان أحدهما فيروزج، والآخر عقيق. وكان الأمر كما ذكر لم يغادر منه شيئاً. ثمّ فتح الحقَّة، فعرض عليَّ ما فيها، ونظرت المرأة إليه فقالت: هذه التي حملتها بعينها، ورميت بها في دجلة. فغش-ي عليَّ وعلى المرأة لما شاهدناه من صدق الدلالة والعلامة.(1).

ثالثاً: ما ورد عن محمّد بن الحسن الصيرفي الدورقي المقيم بأرض بلخ يقول: أردت الخروج إلى الحجِّ، وكان معي مال بعضه ذهب وبعضه فضَّة، فجعلت ما كان معي من الذهب سبائك وما كان معي من الفضَّة نقراً، وكان قد دُفِعَ ذلك المال إليَّ لأُسلِّمه من (إلى) الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح رحمه الله، قال: فلمَّا نزلت سرخس ضربت خيمتي على موضع فيه رمل، فجعلت أُميِّز تلك السبائك والنقر، فسقطت سبيكة من تلك السبائك منّي وغاضت في الرمل وأنا لا أعلم، قال: فلمَّا دخلت همدان ميَّزت تلك السبائك والنقر مرَّة أُخرى اهتماماً منّي بحفظها، ففقدت منها سبيكة وزنها مائة مثقال وثلاثة مثاقيل - أو قال: ثلاثة وتسعون مثقالاً -، قال: فسبكت مكانها من مالي بوزنها سبيكة وجعلتها بين السبائك، فلمَّا وردت مدينة السلام قصدت الشيخ أبا القاسم الحسين بن روح (قدَّس الله روحه)، وسلَّمت إليه ما كان معي من السبائك والنقر، فمدَّ يده من بين [تلك] السبائك إلى السبيكة التي كنت سبكتها من مالي بدلاً ممَّا ضاع منّي، فرمى بها إليَّ، وقال لي: ليست هذه السبيكة لنا، وسبيكتنا ضيَّعتها بس-رخس حيث ضربت خيمتك في الرمل، فارجع إلى مكانك وانزل حيث نزلت واطلب السبيكة هناك تحت الرمل فإنَّك ستجدها، وستعود إلى هاهنا فلا تراني. قال: فرجعت إلى سرخس ونزلت حيث كنت نزلت، فوجدت السبيكة تحت الرمل وقد نبت عليها الحشيش، فأخذت السبيكة وانصرفت إلى بلدي، فلمَّا كان بعد ذلك حججت ومعي السبيكة

ص: 260


1- الخرائج والجرائح للراوندي 3: 1125 و1126.

فدخلت مدينة السلام وقد كان الشيخ أبو القاسم الحسين بن روح قدس الله روحه مضى، ولقيت أبا الحسن عليّ بن محمّد السمري قدس سره، فسلَّمت السبيكة إليه.(1).

ومن هذه الإشارات نفهم:

أوَّلاً: ضرورة التروّي في اتِّباع أيّ مدَّعٍ لدعاوى الارتباط بالغيب، وعدم الاستعجال والدخول معه من دون بصيرة.

ثانياً: يجوز لنا أن نطالب مدَّعي الاتِّصال بالغيب بآية تُثبِت صدق دعواه، فإذا رفض كان ذلك علامة كذبه.

الطريق الرابع: الإهمال.

هل من الصحيح أن نواجه علناً كلَّ من ادَّعى دعوى غيبية؟

وهل من الصحيح أن نجالس كلَّ من طالبنا بالنقاش والمحاججة؟

وهل طاولة النقاش مفتوحة لكلِّ من هبَّ ودبَّ؟

الجواب:

إنَّ التفكير المنطقي الموزون يقضي بضرورة الجلوس والنقاش مع البعض، وفي نفس الوقت يحكم بضرورة اتِّخاذ إجراء (الإهمال المتعمَّد) مع بعض آخر، فإنَّه يكون أبلغ جواب له هو إهماله، إذ لعلَّ مناقشته ترفع من شأنه وهو وضيع، وقد تُلفِت الأنظار إليه فينخدع به من لا بصيرة له، فيكون التصرّف الحكيم معه هو إهماله، والاجتناب عن الجلوس معه، ليعرف الجميع ضعته وزيفه، وأنَّه لا يصل إلى منزلة يستحقُّ معها إنفاق بعض الوقت والجهد لأجله.

وهذا الأُسلوب قد استعمله بعض الأئمَّة الأطهار مع بعض الخصوم والمدَّعين،

ص: 261


1- كمال الدين للصدوق: 516 و517.

فقد ورد أنَّ أبا سَلَمة الخلال، وهو أحد نقباء الدولة العبّاسية، والعضو الفعّال في قيادة الثورة العبّاسية، بعث كتاباً إلى الإمام الصادق علیه السلام يُعلِن فيه استعداده للدعوة إليه والتخلّي عن بني العبّاس، فكان جواب الإمام: «ما أنا وأبو سَلَمة، وأبو سَلَمة شيعة لغيري»، فقال رسول أبي سَلَمة: إنّي رسول، فتقرأ كتابه وتجيبه. فدعا الإمام الصادق علیه السلام بسراج ثمّ أخذ كتاب أبي سَلَمة فوضعه على السراج حتَّى احترق، وقال للرسول: «عرِّفْ صاحبك بما رأيت»(1).

فالإهمال في بعض الأحيان جواب كافٍ ووافٍ لمن يدَّعي ما ليس فيه.

وهذا ما فعله السفير الثالث الشيخ الحسين بن روح مع الشلمغاني، فقد ورد أنَّه أنفذ محمّد بن عليّ الشلمغاني العزاقري إلى الشيخ الحسين بن روح يسأله أن يباهله، وقال: أنا صاحب الرجل وقد أمرت بإظهار العلم، وقد أظهرته باطناً وظاهراً، فباهلني، فأنفذ إليه الشيخ رحمه الله في جواب ذلك: أيّنا تقدَّم صاحبه فهو المخصوم، فتقدَّم العزاقري فقُتِلَ وصُلِبَ...(2).

وكذلك ما فعله السفير الأوَّل عثمان بن سعيد العمري الأسدي مع محمّد بن نصير النميري الذي ادَّعى أنَّه رسول نبيّ، وكان يقول بربوبية عليّ علیه السلام، ويقول بإباحة المحارم وتحليل نكاح الرجال...، فقد ورد أنَّه لمَّا ظهر محمّد بن نصير بما ظهر لعنه أبو جعفر قدس سره وتبرَّأ منه، فبلغه ذلك، فقصد أبا جعفر قدس سره ليعطف بقلبه عليه أو يعتذر إليه، فلم يأذن له وحجبه وردَّه خائباً.(3).

ص: 262


1- اُنظر: مروج الذهب للمسعودي 3: 253.
2- الغيبة للطوسي: 307/ ح 258.
3- الغيبة لطوسي: 398/ ح 370.

الطريق الخامس: الاستهزاء.

نحن نعرف أنَّ الإسلام دين الاحترام وتقييم الآخر، فليس فيه دعوة أو حثّ على الاستهزاء بالآخرين، ومعه فما معنى أن يكون الاستهزاء طريقاً للنقاش والحوار وإثبات الرأي؟

إنَّ المقصود هنا هو عدم إعطاء المدَّعي - إذا ما ثبت تعمّده الكذب واختلاق مقام ليس هو من أهله - أيّ فرصة لإثبات نفسه أو شخصيته، وعدم السماح له بالنبس ببنت شفة، وإظهار أمره لخطورة دعواه الباطلة، فإنَّ ذلك في الوقت الذي قد يُؤثِّر إيجاباً على نفسية المدَّعي، بأن يرتدع عن الخوض في الباطل، أو على الأقلّ أن يُخفِّف من التبشير بدعواه خوفاً من الفضيحة والاستهزاء، كذلك فإنَّه يقف حاجزاً دون السماح للآخرين باتِّباع المبطل، فإنَّ الناس إذا رأوا حقارة ذلك المدَّعي وعدم هيبته، فإنَّهم سيحاولون الحفاظ على كرامتهم بالابتعاد عنه، وبالتالي نكون قد حصلنا على نتيجتين في آنٍ واحد: ردع المدَّعي بالباطل، ومنع الناس من اتِّباعه.

وهذا التص-رّف يحتاج إلى حنكة اجتماعية وذكاء وجداني يستطيع من خلاله الإنسان أن يعرف التصرّف المناسب مع المدَّعي، كما فعله الشيخ ابن بابويه والد الشيخ الصدوق رحمه الله مع الحلّاج، فقد ورد أنَّ ابن الحلّاج صار إلى قمّ، وكاتب قرابة أبي الحسن - وهو والد الشيخ الصدوق - يستدعيه ويستدعي أبا الحسن أيضاً ويقول: أنا رسول الإمام ووكيله.

قال الصدوق: فلمَّا وقعت المكاتبة في يد أبي رحمه الله خرقها، وقال لموصلها إليه: ما أفرغك للجهالات؟ فقال له الرجل:... فإنَّ الرجل قد استدعانا فلِمَ خرقت مكاتبته!؟

وضحكوا منه وهزؤا به. ثمّ نهض إلى دكّانه ومعه جماعة من أصحابه وغلمانه. قال: فلمَّا دخل إلى الدار التي كان فيها دكّانه نهض له من كان هناك جالساً غير رجل رآه

ص: 263

جالساً في الموضع فلم ينهض له ولم يعرفه أبي، فلمَّا جلس وأخرج حسابه ودواته كما يكون التجّار أقبل على بعض من كان حاضراً، فسأله عنه، فأخبره، فسمعه الرجل يسأل عنه، فأقبل عليه وقال له: تسأل عنّي وأنا حاضر؟ فقال له أبي: أكبرتك أيّها الرجل وأعظمت قدرك أن أسألك. فقال له: تخرق رقعتي وأنا أُشاهدك تخرقها؟ فقال له أبي: فأنت الرجل إذاً.

ثمّ قال: يا غلام برجله وبقفاه، فخرج من الدار العدوّ لله ولرسوله، ثمّ قال له: أتدَّعي المعجزات عليك لعنة الله؟ أو كما قال، فأُخرج بقفاه، فما رأيناه بعدها بقم.(1).

ومنه ما ورد عن أبي نصر هبة الله بن محمّد الكاتب ابن بنت أُمّ كلثوم بنت أبي جعفر العمري، قال: لمَّا أراد الله تعالى أن يكشف أمر الحلّاج ويُظهِر فضيحته ويُخزيه، وقع له أنَّ أبا سهل إسماعيل بن عليّ النوبختي قدس الله روحه ممَّن تجوز عليه مخرقته وتتمُّ عليه حيلته، فوجَّه إليه يستدعيه، وظنَّ أنَّ أبا سهل كغيره من الضعفاء في هذا الأمر بفرط جهله، وقدر أن يستجرّه إليه فيتمخرق (به) ويتسوف بانقياده على غيره، فيستتبُّ له ما قصد إليه من الحيلة والبهرجة على الضعفة، لقدر أبي سهل في أنفس الناس ومحلّه من العلم والأدب أيضاً عندهم، ويقول له في مراسلته إيّاه: إنّي وكيل صاحب الزمان عجلالله تعالی فرجه الشریف - وبهذا أوَّلاً كان يستجرُّ الجهّال ثمّ يعلو منه إلى غيره -، وقد أُمرت بمراسلتك وإظهار ما تريده من النصرة لك لتقوي نفسك، ولا ترتاب بهذا الأمر. فأرسل إليه أبو سهل رضي الله عنه يقول له: إنّي أسألك أمراً يسيراً يخفُّ مثله عليك في جنب ما ظهر على يديك من الدلائل والبراهين، وهو أنّي رجل أُحِبُّ الجواري وأصبو إليهنَّ، ولي منهنَّ عدَّة أتحظّاهنَّ، والشيب يُبعِدني عنهنَّ [ويُبغِّضني إليهنَّ]، وأحتاج أن أُخضبه في كلِّ جمعة، وأتحمَّل منه مشقَّة شديدة لأستر عنهنَّ ذلك، وإلَّا انكشف أمري عندهنَّ، فصار

ص: 264


1- الغيبة للطوسي: 402 و403/ ح 377.

القرب بعداً والوصال هجراً، وأُريد أن تغنيني عن الخضاب وتكفيني مؤنته، وتجعل لحيتي سوداء، فإنّي طوع يديك، وصائر إليك، وقائل بقولك، وداع إلى مذهبك، مع ما لي في ذلك من البصيرة ولك من المعونة. فلمَّا سمع ذلك الحلّاج من قوله وجوابه علم أنَّه قد أخطأ في مراسلته وجهل في الخروج إليه بمذهبه، وأمسك عنه ولم يرد إليه

جواباً، ولم يُرسِل إليه رسولاً، وصيَّره أبو سهل رضي الله عنه أُحدوثة وضحكة ويطنز(1) به عند كلِّ أحد، وشهر أمره عند الصغير والكبير، وكان هذا الفعل سبباً لكشف أمره وتنفير الجماعة عنه.(2)

ص: 265


1- طنز يطنز طنزاً: كلَّمه باستهزاء. (هامش المصدر).
2- الغيبة لطوسي: 401 و402/ ح 376.

ص: 266

المبحث الثاني

اشارة

ضرورة القضية المهدوية

قال الشيخ رحمه الله:

«...ونحن مع إيماننا بصحة الدين الاسلامي وأنه خاتمة الأديان الإلهية ولا نترقب ديناً آخر لإصلاح البشر، ومع ما نشاهد من انتشار الظلم واستشراء الفساد في العالم على وجه لا تجد للعدل والصلاح موضع قدم في الممالك المعمورة، ومع ما نرى من انكفاء المسلمين أنفسهم عن دينهم وتعطيل أحكامه وقوانينه في جميع الممالك الإسلامية، وعدم التزامهم بواحد من الألف من أحكام الإسلام - نحن مع كل ذلك لا بد أن ننتظر الفرج بعودة الدين الاسلامي إلى قوته وتمكينه من إصلاح هذا العالم المنغمس بغطرسة الظلم والفساد...»

يُشير الشيخ في هذا المقطع، إلى ضرورة ولزوم وجود يوم الظهور، أي ضرورة أنْ يأتي ذلك اليوم الذي يُزال فيه الظلم ويحلُّ محله العدل والقسط.

لسنا بحاجةٍ إلى الحديث عن ضرورة القضية المهدوية فضلًا عن إثباتها لمن يعتقد بالمدرسة الإمامية؛ لتسليمه المطلق بها حدَّ البداهة، وإنَّما الحديث عن ذلك لمن هو خارج هذه المدرسة اعتقادًا من عامة المسلمين، فضلًا عمّن هو خارج دائرة الدين الإسلامي من معتنقي سائر الأديان السماوية الأخرى.

أولًا: إثبات ضرورة القضية المهدوية للعامة من المسلمين.
اشارة

ويمكن إثبات ضرورتها بعدة طرق [غير ما تقدم من الاتفاق عليها وورود

ص: 267

النصوص المتواترة فيها] ولكننا سنقتصر على ما ذكره الشيخ رحمه الله:

الدليل العقلي: دليل نقض الغرض.

ونقتصر فيه على المقدمات التي ذكرها الشيخe:

المقدمة الأولى: إنَّ آخر الأديان هو الإسلام، وأنَّه الدين الأصلح للبشرية.

وهذه المقدمة مسلَّمةٌ عند جميع المسلمين، ومن ينكرها يخرج عن الإسلام؛ لأنَّ القرآن الكريم صرّح وبوضوحٍ أنَّ النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم هو خاتم النبيين، والقول بأنَّ الإسلام ليس بآخر الأديان يستلزم القول بعدم خاتمية النبي الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، ومن ثم تكذيب القرآن، ومن يُكذِّب القرآن والنبي صلی الله علیه وآله وسلم فإنه يخرج عن الإسلام.

المقدمة الثانية: إنَّ أحد أهم أهداف الخلقة هو الوصول بالجن والإنس إلى العبادة المطلقة لله عزوجل، قال عزوجل: ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾.(1)

وهو ما لم يتحقق حتى الآن وجدانًا.

المقدمة الثالثة: إنَّ الأرض كانت ولا زالت تئنُّ من الظلم وترضخ تحت الجور، وإنَّ الظلم والجور مستمران وباشتداد، وإنَّ الأرض لم تعِش يومًا من أيامها في عدلٍ ورخاء وسعادة وهناء بشكل مطلق، ولا غرو في ذلك؛ إذ لم يحكم جميع أرجائها الدينُ الحقُّ قط.

وعليه، فإنَّ استمرار الحياة على هذه الوتيرة من انعدام العدل وانتشار الظلم إلى الأبد، يؤدي إلى نقض الغرض من خلقها، أي إنَّ ذلك الغرض والهدف من خلقتها والذي تقدّم -- الوصول بالجن والإنس إلى العبادة -- لم يتحقق، وهذا يعني نقض الغرض من الخلقة.

ص: 268


1- الذاريات 56.

إشكالٌ وجواب: ربما يُشكل على دليلنا أحدٌ بالقول: ما الضير في انتقاض هذا الغرض أو الهدف؟

والجواب: إنَّ نقض الغرض يستلزم العبث، وإنَّ الله عزوجل حيث إنّه حكيمٌ فهو منزهٌ عن العبث.

كما أنَّه يستلزم الكذب؛ لأنَّ الله سبحانه تعالی صرَّح بأنّه لم يخلق الجن والإنس إلا ليعبدون، وهو (جلَّ وعلا) منزهٌ عن الكذب أيضًا.

وعودٌ إلهية...

ومن الجدير بالذكر أنَّ الله سبحانه تعالی قد وعد بأمورٍ أخرى تتحقق في الحياة الدنيا غير وصول الثقلين من الجن والإنس إلى العبادة، ومنها:

1/استخلاف الذين آمنوا في الأرض، قال عروجل: ﴿وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.(1)

2/وراثة الأئمة الذين استضعفوا الأرضَ، قال عزوجل: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾.(2)

3/ظهور الدين الإسلامي على الدين كلّه، قال عزوجل: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَىٰ الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾(3)

﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَىٰ اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ.

ص: 269


1- النور 55.
2- القصص 5.
3- الصف 9.

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَىٰ الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْ-رِكُونَ﴾.(1)

وفي آيةٍ أخرى ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَىٰ الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفىٰ بِاللهِ شَهِيداً﴾.(2)

ومن المعلوم وجدانًا عدم تحقق أيٍّ من هذه الأمور فيما مضى، كما لا يمكن الادعاء بتحقق خصوص الظهور على الدين كله ولو في زمن النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم كما ذهب إلى ذلك البعض؛ لإطلاق ظهور الدين في الآية المباركة، مما يعني ظهوره على الدين كله في جميع أرجاء المعمورة.

وهذا ما لا يمكن أنْ يتحقق إلا بالظهور المهدوي، وبما أنَّ عدم تحققها خلفٌ للوعد الإلهي، وخلفُ الوعد قبيحٌ عليه (جل شأنه)، فتثبت بذلك ضرورة القضية المهدوية أيضًا.

والنتيجة إذًا:

لابد أنْ يأتي يومٌ ينتشر فيه الإسلام في ربوع الأرض تحقيقًا للغرض الإلهي، ويصل الناس كل الناس إلى مرحلة (ليعبدون)، وهذا هو ما نُسميه بيوم الظهور.

وبه يتضح أن البشرية تسير تلقائيا باتجاه نحو يوم الظهور.

وأن هذا اليوم الذي سيحقق فيه الهدف الإلهي لا يمكن ان يتحقق إلا على يدي رجل إلهي ومصلح عظيم بعيد عن الخطأ وصاحب حِنكة وحكمة وذي علم عظيم، يستطيع به ردّ الشبهات وكشف الواقع، وهو عبارة عن العصمة، إذ لو لم يكن كذلك فإن احتمال خطئه وانحراف مسيرته واردٌ جداً، وبالتالي لا يتحقق ذلك الهدف على يديه، وهذه النتيجة هي ما يمكن ان يكون ترجمة لما رُوى عن الامام الباقر علیه السلام من قوله: دولتنا

ص: 270


1- التوبة 32 و 33.
2- الفتح 28.

آخر الدول، ولن يبق أهل بيت لهم دولة إلا ملكوا قبلنا لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا: إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء، وهو قول الله عزوجل: ﴿وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾(1).(2)

إذاً لابدّ أن يتحقق هذا الغرض في يوم من الأيام، وهذا اليوم هو الذي نسميه اليوم الموعود وهذا هو ما ذكرته الروايات الشريفة عن عمار بن موسى السباطي عن الإمام الصادق علیه السلام قال عمار: سمعته وهو يقول علیه السلام: «لم تخلُ الارض منذُ كانت من حجهٍ عالما يُحيي فيها ما يُميِتون من الحق ثم تلا هذه الآية: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾»(3).

وفي رواية اخرى عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله الصادق علیه السلام في قوله تعالى «﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ والله ما نزل تأويلها بعد ولا ينزل تأويلها حتى يخرج القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف فاذا خرج القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف لم يبق كافرٌ بالله العظيم ولا مشركٌ بالأمام إلا كرِه خروجه».(4)

المقصود من الإظهار في الآية:

ذكرت الآيات المتقدمات أنَّ الغاية من إرسال النبي صلی الله علیه وآله وسلم هو إظهار الإسلام على كلِّ الأديان، بمعنى غلبته، ولكن ما هو المقصود من هذا الإظهار وهذه الغلبة؟

يمكن أنْ يُذكر هنا ثلاثة معانٍ نعرضها لنعرف المناسب منها:

الأول: الإظهار والغلبة المنطقية.

مما لا شكّ فيه لو دار نقاش بين الإسلام وبين بقية الأديان لرجحت كفة الإسلام

ص: 271


1- القصص 83.
2- الغيبة للشيخ الطوسي ص 472 ح 493.
3- كمال الدين، ص 221، باب 22، حديث رقم 4.
4- كمال الدين، ص 670، باب 58، حديث، 16.

على غيره؛ لما فيه من قوانين منطقية ثابتة وقواعد واقعية بالإضافة إلى خلوه من الخرافات والتحريفات التي ابتليت بها بقية الأديان بعد التحريف.

وهذا المعنى صحيحٌ، لكن ليس هو المراد من الإظهار في هذه الآية؛ لأنّه موجودٌ وثابتٌ منذ الصدر الأول للإسلام، والآية في صدد الحديث عن أمر مستقبلي، وقد مرَّ ذكر الرواية التي قالت: ما نزل تأويلها بعد.

الثاني: إظهار الإسلام وغلبته على الأديان ولو على بعض الأرض.

وهذا المعنى تحقق في الأزمنة الماضية في الحجاز والعراق وبلاد فارس وغيرها.

ولكنّه ليس المقصود من الآية؛ لأن الآية تتحدث عن إظهاره على الدين كله، وليس على بعض الدين.

الثالث: إظهار الإسلام وغلبته على سائر الأديان وعلى كلِّ الأرض.

وهذا هو المتناسب مع الآية الكريمة، وهو المعنى الذي صرّحت به الروايات الشريفة، منها ما روي عن عباية بن ربعي: «أنَّه سمع أمير المؤمنين علیه السلام يقول في تفسير الآية وكأنّه يتساءل مع بعض أصحابه: أ ظهر ذلك بعد؟ قالوا: نعم، فقال صلی الله علیه وآله وسلم: كلا والذي نفسي بيده حتى لا يبقى قرية إلا ونودي فيها بشهادة أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا صلی الله علیه وآله وسلم رسول الله بكرةً وعشيًا».(1)

وفي روايةٍ أخرى عن ابن عباس في نفس الآية قال: «لا يكون ذلك حتى لا يبقى يهودي ولا نصراني ولا صاحب ملة إلا دخل في الإسلام... وذلك قوله ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ وذلك يكون عند قيام القائم».(2)

ص: 272


1- تأويل الآيات الظاهرة/ج2/ص689/ح8.
2- تأويل الآيات الظاهرة/ج2/ص689/ح9.
ثانيًا: إثبات ضرورة القضية المهدوية لمعتنقي سائر الديانات الإلهية الأخرى.

لم يذكر الشيخ رحمه الله كيفية إثبات ضرورة القضية المهدوية لمعتنقي سائر الديانات الأخرى؛ لأنّه لم يكتب هذا الكتاب المبارك لإثبات عقائدنا في مقابل الأديان الأخرى، بل لإثباتها في مقابل العامة.

ولكن إتمامًا للفائدة نقول:

بإمكاننا أنْ نستدل لغير المسلم عليها بطريقين هما:

الأول: بالدليل العقلي المتقدم.

ولكن ينبغي قبل ذلك أنْ نثبت خاتمية نبوة النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم، وكذا خاتمية الدين الإسلامي.

الثاني: بالأدلة النقلية الواردة في الكتب المسيحية أو اليهودية أو غيرها.

ص: 273

ص: 274

المبحث الثالث

اشارة

شخصية الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف بين المدرستين

المطلب الأول: أهم الفروق بين المدرستين في شخصيته عجل الله تعالی فرجه الشریف.

قال الشيخ رحمه الله:

«غير أنَّ الفرق بين الإمامية وغيرها هو أنَّ الإمامية تعتقد أنَّ هذا المصلح المهدي هو شخصٌ معينٌ معروفٌ، ولد سنة 256ه- ولا يزال حيًا(1)،هو ابن الحسن العسكري، واسمه محمد، وذلك بما ثبت عن النبي وآل البيت علیهم السلام من الوعد به، وما تواتر عندنا من ولادته واحتجابه...».

بعد أنْ أشار الشيخe إلى أنَّ القضية المهدوية من المسائل التي اتفقت عليها كلمة المسلمين بصورةٍ عامة، أشار في هذا المقطع إلى أنَّ هناك اختلافًا بينهم في تفاصيل هذه القضية، كما في بقية المسائل الأخرى كالصلاة مثلًا، فإنَّه وإنْ كان الاتفاق بين المدرستين حاصلًا على وجوبها، وعددها، وعدد ركعاتها، إلا أنَّهما اختلفتا في بعض تفاصيلها، ككون البسملة جزءًا من السورة أو لا؟ وهل تُقرأ جهراً أو إخفاتًا؟ وهل الواجب في الصلاة هو التكتف أو إسبال اليدين؟ وهل يجوز الجمع بين صلاتي الظهرين أو العشائين في غير السفر أو لا؟ وما إلى ذلك

والقضية المهدوية هي الأخرى وإنْ تمَّ الاتفاق عليها بشكلٍ عام، إذ يعتقد الجميع بلا بُدية وجوده في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعد أنْ مُلأت ظلمًا وجورًا،

ص: 275


1- إلا أن المشهور هو أنه ولد سنة (255) للهجرة.

لكن الاختلاف موجودٌ أيضًا في التفاصيل ومن عدة جهات، من قبيل: علامات الظهور، وما هو الواجب على الإنسان في التمهيد لعملية الظهور، والاختلاف في شخص المهدي.

ولأهمية الاختلاف الأخير، فقد اختاره الشيخ رحمه الله لتسليط الضوء عليه، حيث ذكر عدة فروقٍ في شخصٍ الإمام المهدي فيما يعتقده العامة وما يعتقده الخاصة، ورومًا للإيجاز سنقتصر على ذكرها وهي:

الفرق الأول: أنَّ المهدي عند الشيعة هو من ولد الإمام الحسين علیه السلام، وأمَّا عند العامَّة فهو من ولد الإمام الحسن المجتبىٰ علیه السلام.

الفرق الثاني: أنَّ المهدي عند الشيعة اسمه (محمّد بن الحسن)، وأمَّا عند العامَّة فاسمه (محمّد بن عبد الله).

الفرق الثالث: أنَّ المهدي عند الشيعة كان قد وُلِدَ سنة (255 أو 256) للهجرة، وما زال حيّاً إلىٰ أنْ يُظهِره الله (تعالىٰ) في الوقت الذي لا يعلمه إلَّا هو عزوجل، وأمَّا عند العامَّة فإنَّه يُولَد في آخر الزمان.

الفرق الرابع: أنَّ المهدي حيٌ منذ ولادته وحتى وفاته بعد ظهوره المبارك وملئه الأرض قسطًا وعدلًا، ومن ثم فهو الآن حيٌ بالقطع واليقين عند الشيعة، على حين لا تقول العامة بحياته الآن؛ لأنهم لم يؤمنوا بولادته، فضلًا عن طول عمره. وعليه، فلربما كان حيًا عندهم فيما إذا قرب الظهور، وربما لا يكون كذلك فيما إذا كان الظهور بعيدًا.

الفرق الخامس: أنَّ المهدي عند الشيعة ينصره الله (تعالىٰ) بالملائكة(1)،

وبالأولياء الذين سيُرجِعهم الله (تعالىٰ) بإذنه(2)، وأمَّا المهدي عند العامَّة فلم أجد أنهم يذكرون له

ص: 276


1- الغيبة للنعماني: 239 و240/ باب 13/ ح 22.
2- الإرشاد للمفيد 2: 386.

هذه النصرة، خصوصًا وأنَّهم لا يؤمنون بالرجعة أصلًا.

الفرق السادس: أنَّ مهدي الشيعة معصومٌ، كما هو الحال في النبي الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، أما مهدي السنة فليس بالضرورة أنْ يكون معصومًا.

الفرق السابع: أنَّ المهدي عند الشيعة يقومُ بتجهيزه بعد موته الإمامُ الحسينُ علیه السلام، وأمَّا عند العامَّة فليس كذلك؛ لأنَّهم لا يؤمنون بالرجعة كما أسلفنا.

وهذه هي أوضح الفروق بين المدرستين فيما يخص شخص الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.

المطلب الثاني: من أدلة ولادة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.
اشارة

قال الشيخ رحمه الله: «وهذا ما تواتر عندنا من ولادته واحتجابه».

أولًا: العامة وولادة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف

بادئ ذي بدءٍ لا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ الأصل في الإنسان هو عدم الولادة، فإنْ ادُعيَ خلاف ذلك طُلِب الدليل، وعليه فلا غرو في مطالبة العامة إيّانا بالدليل، لكن فيما لو عدموا الأدلة على ولادته في كتبهم ورواياتهم.

بيدَ أنَّ الأمر على خلاف ذلك؛ لسببين:

الأول: إثبات العديد من علمائهم ولادته علیه السلام سنة 255 هجرية، فقد اعترفوا بوجود ولدٍ للإمام العسكري علیه السلام، ولم يذكروا أنّه توفي البتة، مما يعني أنَّه لازال على قيد الحياة. وهم علماءٌ كُثُر، أحصاهم بعض الباحثين فكانوا أكثر من تسعةٍ وخمسين عالمًا، ومنهم –على سبيل المثال لا الحصر-

1/ابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة في ترجمة الإمام العسكري علیه السلام: قال: «ولم يُخلّف غير ولده أبي القاسم محمد الحجة، وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين، لكن

ص: 277

آتاه الله فيها الحكمة، ويسمى القائم المنتظر».(1)

2/ابن خلكان في وفيات الأعيان: قال في ترجمة الإمام العسكري علیه السلام ما نصّه: «أبو محمّد الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسى بن الرضا بن جعفر الصادق ابن محمّد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب علیهم السلام، أحد الأئمّة الاثني عشر على اعتقاد الإمامية، وهو والد المنتظر صاحب السرداب ويعرف بالعسكري، وأبوه علي يعرف أيضاً بهذه النسبة».(2)

3/ ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة، قال: وروى ابن الخشّاب في كتابه مواليد أهل البيت يرفعه بسنده إلى عليّ بن موسى الرضا علیهما السلام أنه قال: الخلف الصالح من ولد أبي محمّد الحسن بن عليّ العسكري، وهو صاحب الزمان القائم وهو المهدي...

... ولد أبو القاسم محمّد بن الحجة بن الحسن الخالص بسرّ من رأى ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين للهجرة، وأمّا نسبه أباً واُمّاً فهو: أبو القاسم محمّد بن الحجة بن الحسن الخالص ابن علي الهادي بن محمّد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر ابن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب (صلوات الله عليهم أجمعين).

وأمّا اُمّه فاُمّ ولد يقال لها نرجس خير أمَة، وقيل اسمها غير ذلك. وأما كنيته فأبو القاسم، وأمّا لقبه فالحجة والمهدي والخلف الصالح والقائم المنتظر وصاحب الزمان، وأشهرها المهدي.(3)

الثاني: إن ما ورد من روايات في كتبهم حول المهدي، عبرت عنه بما يتلاءم مع كونه مولوداً غائباً ويظهر عند الوقت المعلوم عند الله تعالى، وذلك لمجيئها بلفظ (يظهر

ص: 278


1- الصواعق المحرقة لأحمد بن حجر الهيثمي المكي ص 208.
2- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان ج2 ص 94.
3- الفصول المهمة في معرفة الأئمة لابن الصباغ المالكي ص 1102 – 1104.

في آخر الزمان)، ولا توجد ولو رواية واحدة تعبّر بأنَّه (يولد في آخر الزمان)، ومن الواضح أنَّ (يظهر) تتناسب مع كونهِ قد ولِدَ سابقًا وغاب ثم ظهر.

وعليه، فلا يصح منهم الادعاء بما يخالف هذين الأمرين إلا بعد دحضهما، ولمّا لم يتمكن علماؤهم من ذلك، فلا يحقُّ لهم ادعاء عدم ولادته، فإن ادعوا -- وإنهم لفاعلون -- فقد خالفوا أصول الاستدلال وقواعده، وحينئذٍ لا قيمة لدعواهم في الميزان العلمي.

ثانيًا: من أدلة الإمامية على ولادة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.
الدليل الأول: حديث الثقلين:

وهو من الأحاديث المتواترة والتي لا يستطيع أحدٌ أنْ ينكر صدوره عن الرسول صلی الله علیه وآله وسلم؛ فقد رواه الترمذي في صحيحه بإسناده عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «إنّي تاركٌ فيكم ما إنْ تمسكتم به لنْ تضلوا أبدًا، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما».(1)

فقد صرّح الرسول صلی الله علیه وآله وسلم فيه بامتناع افتراق العترة عن القرآن بقوله: «لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»، أيّ إلى يوم القيامة.

وهذا يعني دوام وجود عترة الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم ما دام القرآن موجودًا، والمراد من العترة في الحديث ليس هو عموم ذرية النبيs، بل خصوص الأئمة المعصومين علیهم السلام الذين هم أمانٌ لأهل الأرض كما أنَّ النجوم أمانٌ لأهل السماء.

وعليه، فإن قلنا بعدم وجود أحدٍ من عترة النبي صلی الله علیه وآله وسلم، فهذا يعني أنَّ القرآن الكريم غير موجود، والتالي باطلٌ؛ لوجود القرآن، فالمقدم معه في البطلان.

ص: 279


1- سنن الترمذي/ج5/ص663/ رقم 3788.

وإن قلنا بوجود القرآن دون العترة، فهو تكذيب للنبي صلی الله علیه وآله وسلم، وهذا هو والكفر سواء.

إذن لابد من وجود أحدٍ من عترة النبي صلی الله علیه وآله وسلم مع القرآن الكريم، وهذا هو المطلوب.

ولحديث الثقلين دلالاتٌ أخرى، منها الدلالة على عصمة الأئمة لأن القرآن معصوم، وغيرها، ولكن أعرضنا عنها؛ فلتطلب في مظانّها.

والخلاصة: أنَّ الحديث يصرح بوجود قرينٍ للقرآن الكريم يكوِّن مع القرآن حبلًا لنجاة المسلمين، من يتمسك به يرفعه عن مستنقع الظلام والضلالة، ومن يعرض عنه فإنه يهوي فيهما، وذاك الرجل في زماننا الحاضر هو الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.

الدليل الثاني: روايات عدم خلو الأرض من حجة.

تُفيد مجموعةٌ كبيرة من الرواياتٍ -المتفق عليها- معنىً واحدًا، وهو: عدم خلو الأرض من حجة، فإنْ خلت ساخت وماجت بأهلها، ومنها:

ما روي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا علیه السلام قَالَ: «قُلْتُ لَه: أتَبْقَى الأَرْضُ بِغَيْرِ إِمَامٍ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَإِنَّا نُرَوَّى عَنْ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام أَنَّهَا لَا تَبْقَى بِغَيْرِ إِمَامٍ إِلَّا أَنْ يَسْخَطَ الله تَعَالَى عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ أَوْ عَلَى الْعِبَادِ؟ فَقَال: لَا، لَا تَبْقَى، إِذاً لَسَاخَتْ».(1)

كما جاء في بعض الروايات بأن الله عزوجل في آخر الزمان يرفع الحجة من الأرض وبعد أربعين يومًا تنتهي الدنيا وتقوم القيامة.

فعن أبي عبد الله علیه السلام قال: «ما زالت الأرض ولله فيها حجة يعرف الحلال والحرام، ويدعو إلى سبيل الله، ولا ينقطع الحجة من الأرض إلا أربعين يوما قبل يوم القيامة، فإذا رفعت الحجة أغلق باب التوبة ولم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أن ترفع الحجة

ص: 280


1- الكافي للكليني ج1 ص 179 بَابُ أَنَّ الأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ حُجَّةٍ - ح11..

وأولئك شرار من خلق الله، وهم الذين يقوم عليهم القيامة».(1)

وبما أنَّ الأرض لم تسَخ ولم تمُج بأهلها بعدُ، فهذا يدلَّ ذلك على وجود حجةٍ على الأرض هو صمام الأمان لها ولأهلها. والمقصود من الحجة هو من له علاقةٌ خاصة بالسماء، أي من جعله الله تعالى حجة على الأرض، وكان معصومًا، والمتمثل بالإمام المهدي المنتظر في زماننا الحاضر.

الدليل الثالث: روايات: من مات أو بات ولم يعرف إمام زمانه فميتته جاهلية.

وهي متواترة بين العامة والخاصة تواترًا معنويًا، بمعنى وحدة المعنى وإن تعددت واختلفت الألفاظ، ولربما تواتر بعضها تواترًا لفظيًا أيضًا.

وبناءً على ادعاء العامة، لو كان إمام الزمان غير مولود بعد، لكانت ميتة الناس كلهم ميتةً جاهلية. وهو خلاف اللطف الإلهي والصفات الكمالية لوجوده (جلَّ وعلا)، وخلف تلك الروايات.

ومن تلك الروايات هي التالي:

عن أبان بن تغلب، قال: «قلت لأبي عبد الله علیه السلام: من عرف الأئمَّة ولم يعرف الإمام الذي في زمانه أمؤمن هو؟ قال: لا، قلت: أمسلم هو؟ قال: نعم»(2).

وعن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم أنَّه قال: «من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية»(3).

وعن الإمام أبي جعفر علیه السلام أنَّه قال: «من مات لا يعرف إمامه، مات ميتة جاهلية كفر ونفاق وضلال»(4).

ص: 281


1- المحاسن للبرقي ج1 ص 236 باب 22 باب حجج الله على خلقه ح202.
2- كمال الدين للصدوق: 410/ باب 39/ ح 3.
3- كمال الدين للصدوق: 413 و414/ باب 39/ ح 15.
4- الإمامة والتبصرة لابن بابويه: 82/ ح 69.
الدليل الرابع: روايات الاثني عشر إمامًا أو وصيًا كلهم من قريش.

وهي من الروايات الموجودة في صحاح العامة(1)،

ولا خلاف فيها. فقد روى البخاريّ في صحيحه عن جابر بن سمرة أنّ النبي صلی الله علیه وآله وسلم قال: «يكون اثني عشر أميراً، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي إنّه قال: كلّهم من قريش»(2).

وروى مسلم في صحيحه عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم حديث الأئمّة الاثني عشر بثمانية طرق وبألفاظ مختلفة؛ غير أنّها متّفقة جميعاً في «اثني عشر» و «كلّهم من قريش»؛ منها: «لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً... كلّهم من قريش»(3).

ولو بحثنا عن مصداقٍ لها في كلِّ من ادعوا الخلافة من بني أُمية وبني العباس وسواهم فلن نجد إلا تيهًا عندهم وضياعًا في تحديد الاثني عشر خليفة. ولا غرو في ذلك، فمهما شرّقوا أو غرّبوا فلن يجدوا من تنطبق عليه سوى أئمة أهل البيت الاثني عشر المعصومين علیهم السلام، أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم الإمام المهدي علیهم السلام. ولو لم يكن مولودًا لاستلزم ذك اشتباه النبي الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وحيث إنّه معصومٌ -ولو في نطاق التبليغ كما ذهبت إليه العامة-، فلا بد من ولادة ولدٍ للإمام الحسن العسكري علیه السلام.

روي عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «إن خلفائي و أوصيائي، وحجج الله على الخلق بعدي اثنا عشر: أولهم أخي وآخرهم ولدي، قيل: يا رسول الله ومن أخوك؟ قال: علي بن أبي طالب، قيل: فمن ولدك؟ قال: المهدي الذي يملأها قسطًا وعدلًا كما ملئت جورًا وظلمًا، والذي بعثني بالحق نبيًا لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه ولدي المهدي، فينزل روح الله عيسى بن مريم فيصلي

ص: 282


1- للتفاصيل انظر: الكلام الإسلامي المعاصر ج3 ص 206 – 209.
2- صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب الاستخلاف، حديث 1148؛ سنن الترمذيّ، ج 4، ح 2223؛ مستدرك الحاكم، ج 3، ص 715، ح 6586.
3- صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب 1.

خلفه، وتشرق الأرض بنوره ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب».(1)

المطلب الثالث:طول عمر الإمام عجل الله فرجه الشریف.

قال رحمه الله: «ولا يخلو من أنْ تكون حياته وبقاؤه هذه المدة الطويلة معجزةً جعلها الله عزوجل له، وهي ليست بأعظم من معجزة أن يكون إمامًا للخلق وهو ابن خمس سنين يوم رحل والده إلى الرفيق الأعلى، ولا هي بأعظم من معجزة عيسى إذ كلم الناس في المهد صبيًا وبعث في الناس نبيًا. وطول الحياة أكثر من العمر الطبيعي -أو الذي يُتخيّل أنَّه العمر الطبيعي- لا يمنع منها فن الطب ولا يحيلها، غير أنَّ الطب لم يتوصل إلى ما يُمكنه من تعمير حياة الإنسان، وإذا عجز عنه الطب فإنَّ الله عزوجل قادرٌ على كلِّ شيءٍ وقد وقع فعلًا تعمير نوح وبقاء عيسى علیه السلام كما أخبر عنهما القرآن الكريم، ولو شكّ الشاك فيما أخبر عنهما القرآن فعلى الإسلام السلام. ومن العجب أن يتساءل المسلم عن إمكان ذلك وهو يدّعي الإيمان بالكتاب العزيز»

تقدّم إثبات أنّ الإمام المهدي عجل الله فرجه الشریف قد ولِد سنة 255 ه، ولم تثبت وفاته، بل لم يقُل بها أحدٌ، وهذا يلزم منه القول إنّه ما زال حيًا، وقد تجاوز عمره الشريف1280 سنة(2). وهو عمرٌ لا يعسر على المؤمن بقدرة الله عروجل حقًا التصديقُ به، فضلًا عن أدلةٍ أخرى سنتعرض لها لاحقًا، ولكن مخالفي المدرسة الإمامية جعلوه من المستحيلات، مثيرين بشأنها شبهةً من الشبهات؛ ليجعلوا من عقيدة شيعة أهل البيت علیهم السلام عقيدة خرافية لا حقيقة لها.

وللرد على هذه الشبهة لا بُدَّ من التطرق إلى أسئلةٍ مهمة والجواب عنها، وهي:

ما الضابط في كون أمرٍ ما مستحيلُا؟

ص: 283


1- كمال الدين للشيخ الصدوق ص280 باب 24 ح27.
2- في فترة طرح هذه الدروس.

وهل يمكن للإنسان أن يُعمِّر عمرًا يتجاوز 1280سنة أم أنّ ذلك مستحيلٌ؟

وما الأدلة على إمكانه فيما لو كان ممكنًا؟

أولًا: متى نحكم على أن شيئًا ما مستحيلٌ؟

الجواب: نحكم على أنَّ شيئًا ما مستحيلٌ وغير ممكن في حالتين لا ثالث لهما:

الأولى: عند مخالفته قانونًا عقليًا، نحو: مخالفته قانون اجتماع النقيضين، أو مخالفته لقانون أن الكل أعظم من الجزء، أو مخالفة ضرورة كون الظرف أكبر من المظروف.

الثانية: عند مخالفته ضرورةً شرعية أو حكمًا ثابتًا شرعيًا، نحو: كون الصلاة واجبةً، وكون الخمر حرامًا.

وطول عمر الإنسان ليس فيها أيةِ مخالفةٍ للقانون العقلي ولا للضرورة الشرعية، فليس من المستحيل أن يعمّر إنسانٌ ما لآلاف السنين.

ثانيًا: هل يمكن للإنسان أنْ يُعمِّر عمرًا يتجاوز 1280سنة؟

الجواب: من الممكن ذلك للتالي:

1/ الدليل الشرعي:

من المعلوم أنَّ من لم يؤمن بوجود شجرةٍ فمن البديهي أنْ يُنكر وجود ثمرتها. وعليه، ففي خصوص إثبات إمكانية طول عمر الإمام المهديf فإننا لا نناقش ملحدًا لا يقر بوجود الله عزوجل، ولا نناقش من لا يعتقد بالكمال المطلق لله عروجل والقدرة المطلقة له، فلا موضوعية للكلام معهما في طول عمر الإمام علیه السلام.

وإنّما كلامنا يقع في دائرة المعتقدين به سبحانه تعالی والمؤمنين بقدرته إيمانًا مطلقًا، فنقول: ما المانع الذي يمنع من طول عمر الإمام علیه السلام إذا كان الله عزوجل هو من أراد ذلك؟ وحينئذٍ لا يخلو الجواب من أحد الأمرين:

ص: 284

إما أنْ يُجيب بسؤالٍ مفاده: وما هي خصوصية الإمام المهدي عجل الله فرجه الشریف؛ ليطيل الله عمره؟

والجواب: إنَّ له خصوصيةً، وهو أنه هو الذي يملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعد ما ملئت ظلمًا وجورًا، الأمر الذي يقتضي توفر الظروف وفق العلم والحكمة الإلهية، وقد يستلزم إطالة العمر، كما هو الواقع في اعتقادنا.

أو يتمسك بأنَّ طول العمر بهذا الحد خلاف المعتاد.

والجواب: طالما تعلقت به قدرة الله عروجل، فليكن من خلاف المعتاد، إذ ما المانع من الإعجاز الإلهي نفسه؟!

2/ الدليل الطبي:

إنّ الطبَّ لم ينفِ إمكانية طول عمر الإنسان، ولم يقل باستحالته، بل نسمع اليوم عن محاولاتٍ طبيةٍ علمية لإطالة عمر الإنسان، ولو كانت أمرًا مستحيلًا لما سعى إليها الطب، ولما هدر العلماء وقتهم وجهدهم. فقد نُقِل عن الدكتور الأمريكي كي لورد أنَّه قال: إنَّ علم الطب في هذا اليوم بمعونةِ علم التغذية رفع الموانع والحدود التي تمنع البشر من أنْ يُعمروا، ونحن اليوم على خلافِ ما كان عليه أجدادنا وآباؤنا نأمل أنْ نعيش أعمارًا طويلة.

كما نُقِل أنَّ الدكتور جورج رئيس الجامعات في المانيا قام بالتحقيق على نباتٍ طفيلي (سابرولينا مسكتا) وهذا النبات يعيش على ظهر الذباب الأزرق وعمره لا يتجاوز الأسبوعين، ولكن عندما زرعه في ظروفٍ خاصة، عاش لستِ سنواتٍ، بمعنى أنَّه ضاعف عمره 10920 مرةً، أي ما يُقارب أحد عشر ألف مرة!

وعليه فلو ضاعفنا عمر الإنسان الطبيعي إلى عشرة آلاف مرة، لكان خمسين ألف سنة –كمعدل-، فما المانع من أنَّ الله عزوجل يضاعف عمر الإمام المهدي عجل الله فرجه الشریف؟!

ص: 285

3/ الدليل التاريخي:

فقد ثبت تاريخيًا أنَّ هناك معمرين عاشوا أكثر من الأعمار الطبيعية للإنسان، مثل الخضر علیه السلام، الذي عاصر النبي موسى علیه السلام، وقد ذكر لنا القرآن الكريم قصته المعروفة معه، ولا زال حيَ-ًا حتى الآن.

والنبي عيسى علیه السلام فإنَّه طبقًا لعقيدتنا تمَّ رفعه إلى السماء وحتى الآن ما زال حيًا.

والنبي نوح علیه السلام الذي قال عنه القرآن الكريم: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا﴾(1)وهذه مدة دعوته إلى الله تعالى فقط.

كما أنَّ النبي آدم علیه السلام كان عمره 930 سنة.

والنبي سليمان علیه السلام في روايةٍ كان عمره 100 سنة، وفي روايةٍ أخرى 1712 سنة.

ونبي الله شيث علیه السلام كان عمره 920 سنة.

ونبي الله هودعلیه السلام 670 سنة.

بل ولم يقتصر طول العمر على الصالحين فقط، فقد قيل: إنَّ شداد بن عاد عاش 900 سنة، وعمر بن عامر عاش 800 سنة.(2)

فإذًا، فضلًا عن الإمكان العقلي والشرعي فإنَّ هناك شواهدَ من الواقع على وقوع طول العمر، ولا يرفض هذا الأمر إلا من يخالف وجدانه.

ص: 286


1- العنكبوت 14
2- راجع التفاصيل: كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق، الباب الرابع والخمسون: ذكر المعمرين.

المبحث الرابع

اشارة

الانتظار المهدوي

المطلب الأول : فضل الإنتظار

المطلب الأول: فضل الانتظار(1)

من عادة العاقل أنَّه لا يخطو خطوة إلَّا إذا حسب لها حسابها الخاصّ، وعرف ما سيجنيه منها، وهذه العادة عمَّت حتَّىٰ المقولات الدينية، ولذا نرىٰ أنَّ أصحاب كلّ حركة أو مذهب، أوَّل ما يُعلِنون فإنَّهم يُعلِنون عمَّا سيجنيه الفرد من فوائد وأرباح من اتّباعه لهم..

وقد جرىٰ الدين الحقّ في ذلك هذا المجرىٰ، وخصَّص جزءاً كبيراً من أدبياته وتربويّاته في آياته ورواياته لبيان الفوائد _ الدنيوية والأُخروية _ المترتّبة علىٰ دين الحقّ، وذكر الجنَّة وما فيها من نعم لا تُعَدُّ ولا تُحصىٰ تصبُّ في هذا المعنىٰ..

وعلىٰ نفس هذا السياق، جاءت الروايات الشريفة لتؤكّد فضل الانتظار والمنتظرين، وهي روايات كثيرة جدَّاً، ويمكن استخلاص عدَّة عناوين لذلك الفضل:

1 _ إنَّ الانتظار من أفضل العبادات وأحبّها إلىٰ الله تعالىٰ:

فعن موسىٰ بن بكر الواسطي، عن أبي الحسن، عن آبائه علیهم السلام أنَّ رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم قال: «أفضل أعمال أُمَّتي انتظار الفرج من الله عزوجل»(2).

وعن أمير المؤمنين علیه السلام في حديث الأربعمائة: «انتظروا الفرج، ولا تيأسوا من روح

ص: 287


1- شذرات مهدوية- الشيخ حسين الأسدي ص 131 – 134.
2- كمال الدين: 644/ باب 55/ ح 3.

الله، فإنَّ أحبَّ الأعمال إلىٰ الله عزوجل انتظار الفرج ما دام عليه العبد المؤمن...»(1).

ومن هنا فقد رتَّبت الروايات الكثير من الآثار العظيمة علىٰ عبادة الانتظار، فعن العلاء بن سيابة، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «من مات منكم علىٰ هذا الأمر منتظراً له كان كمن كان في فسطاط القائم8»(2).

وعن أبي بصير ومحمّد بن مسلم، عن أبي عبد الله، عن آبائه، عن أمير المؤمنين علیه السلام، قال: «المنتظر لأمرنا كالمتشحّط بدمه في سبيل الله»(3).

وقال أمير المؤمنين علیه السلام: «الآخذ بأمرنا معنا غداً في حظيرة القدس، والمنتظر لأمرنا كالمتشحّط بدمه في سبيل الله»(4).

وعن عمرو بن ثابت، قال: قال سيّد العابدين علیه السلام: «من ثبت علىٰ موالاتنا في غيبة قائمنا أعطاه الله عزوجل أجر ألف شهيد مثل شهداء بدر وأُحُد»(5).

وعن جابر الجعفي، عن أبي جعفر الباقر علیه السلام أنَّه قال: «يأتي علىٰ الناس زمان يغيب عنهم إمامهم، فيا طوبىٰ للثابتين علىٰ أمرنا في ذلك الزمان، إنَّ أدنىٰ ما يكون لهم من الثواب أن يناديهم البارئ عزوجل فيقول: عبادي وإمائي! آمنتم بسرّي وصدَّقتم بغيبي، فأبشروا بحسن الثواب منّي، فأنتم عبادي وإمائي حقَّاً، منكم أتقبَّل، وعنكم أعفو، ولكم أغفر، وبكم أسقي عبادي الغيث، وأدفع عنهم البلاء، ولولاكم لأنزلت عليهم عذابي»، قال جابر: فقلت: يا ابن رسول الله، فما أفضل ما يستعمله المؤمن في ذلك

ص: 288


1- الخصال: 616.
2- كمال الدين: 644/ باب 55/ ح 1.
3- كمال الدين: 645/ باب 55/ ح 6.
4- الخصال: 625/ حديث الأربعمائة.
5- كمال الدين: 323/ باب 31/ ح 7.

الزمان؟ قال: «حفظ اللسان، ولزوم البيت»(1).

2 _ إنَّ الانتظار هو الأمل الذي تُحيىٰ به النفوس، وهو ما عبَّرت عنه الروايات بأنَّ انتظار الفرج هو الفرج بعينه:

فعن محمّد بن الفضيل، عن أبي الحسن الرضا علیه السلام قال: «سألته عن شيء من الفرج، فقال: أوَليس تعلم أنَّ انتظار الفرج من الفرج؟ إنَّ الله يقول:﴿فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾(2)»(3).

وعن الحسن بن الجهم، قال: «سألت أبا الحسن علیه السلام عن شيء من الفرج، فقال: أوَلست تعلم أنَّ انتظار الفرج من الفرج؟، قلت: لا أدري إلَّا أن تُعلِّمني، فقال: نعم، انتظار الفرج من الفرج»(4).

3 _ إنَّ الانتظار سبب القرب الإلهي:

فعن المفضَّل بن عمر، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «أقرب ما يكون العباد من الله جلَّ ذكره، وأرضىٰ ما يكون عنهم، إذا افتقدوا حجَّة الله عزوجل ولم يظهر لهم ولم يعلموا مكانه، وهم في ذلك يعلمون أنَّه لم تبطل حجَّة الله جلَّ ذكره ولا ميثاقه، فعندها فتوقَّعوا الفرج صاحباً ومساءً، فإنَّ أشدَّ ما يكون غضب الله علىٰ أعدائه إذا افتقدوا حجَّته ولم يظهر لهم، وقد علم أنَّ أولياءه لا يرتابون، ولو علم أنَّهم يرتابون ما غيَّب حجَّته عنهم طرفه عين، ولا يكون ذلك إلَّا علىٰ رأس شرار الناس»(5).

ص: 289


1- كمال الدين: 330/ باب 32/ ح 15.
2- الأعراف: 71
3- تفسير العيّاشي 2: 138/ ح 50.
4- الغيبة للطوسي: 459/ ح 471.
5- الكافي 1: 333/ باب نادر في حال الغيبة/ ح 1.

4 _ إنَّ الانتظار سبب لتكامل العقول والمعرفة:

فعن أبي خالد الكابلي، عن علي بن الحسين علیه السلام، قال: «... ثمّ تمتدُّ الغيبة بوليّ الله عزوجل الثاني عشر من أوصياء رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم والأئمَّة بعده. يا أبا خالد، إنَّ أهل زمان غيبته، القائلين بإمامته، والمنتظرين لظهوره أفضل من أهل كلّ زمان، لأنَّ الله تبارك وتعالىٰ أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم بالسيف، أُولئك المخلصون حقَّاً، وشيعتنا صدقاً، والدعاة إلىٰ دين الله عزوجل سرَّاً وجهراً...»(1).

5 _ إنَّ الانتظار مخرج من المهلكات، وباب رزق _ معنوي ومادّي _ من الله تعالىٰ، وهو موجب لرحمة الله تعالىٰ:

عن عبد الحميد الواسطي، عن أبي جعفر محمّد بن علي الباقر علیهم السلام، قال: قلت له: أصلحك الله لقد تركنا أسواقنا انتظاراً لهذا الأمر، فقال علیه السلام: «يا عبد الحميد، أترىٰ من حبس نفسه علىٰ الله عزوجل لا يجعل الله له مخرجاً؟ بلىٰ والله ليجعلنَّ الله له مخرجاً، رحم الله عبداً حبس نفسه علينا، رحم الله عبداً أحيا أمرنا»، قال: قلت: فإن متُّ قبل أن أدرك القائم؟ قال: «القائل منكم أن لو أدركت قائم آل محمّد نصرته، كان كالمقارع بين يديه بسيفه، لا بل كالشهيد معه»(2).

المطلب الثاني: الفوائد التربوية للانتظار.

المطلب الثاني: الفوائد التربوية للانتظار.(3)

للانتظار وجهتان: وجهة فردية، وأُخرىٰ اجتماعية.

والانتظار في وجهتيه يُمثِّل حالة من الصراع النفسي، وعملاً باستمرار وجهد

ص: 290


1- كمال الدين: 320/ باب 31/ ح 2.
2- كمال الدين: 644/ باب 55/ ح 2.
3- شذرات مهدوية- الشيخ حسين الأسدي- ص 138 – 140.

ونصب إلىٰ أن يسيطر المؤمن علىٰ شهواته، ويجعل قيادة وجوده بيد عقله الواعي، فإذا عرفنا أنَّ الانتظار هو عبادة من العبادات، بل هو من أفضلها _ كما تقدَّم قبل قليل _ حينئذٍ أمكننا الجزم بفائدة الانتظار علىٰ المستوىٰ الفردي، ويمكن تلخيص ذلك ب-:

1 _ إنَّ الانتظار يُمثِّل عملاً عبادياً مهمَّاً، فإذا اقترن بالنيَّة الخالصة ترتَّب عليه الثواب العظيم، وما يستتبعه من لطف إلهي خفي وظاهر، ومن توفيق للعمل وفق فطرة الدين.

2 _ والانتظار _ حاله في ذلك حال بقيَّة العبادات _ يصبُّ في عملية بناء الفرد بناءً متكاملاً، وليس الفرد فقط بل والمجتمع، فإنَّ الدين عموماً جاء من أجل هذه الغاية، خصوصاً عندما يُتعرَّف علىٰ المعنىٰ الصحيح للانتظار..

3 _ والانتظار _ بمعناه الصحيح _ يُمثِّل شعلة أمل تبثُّ إلىٰ النفس قوَّة العمل، ووهج نور ينير الطريق بالاتّجاه الصحيح، ذلك أنَّ المؤمن المنتظر لا بدَّ وأن يتعايش مع المجتمع المنحرف، ذلك المجتمع الذي يكون المؤمن فيه (كالقابض علىٰ جمرة بيده)، وأنت تعرف حالة القابض علىٰ جمرة! خصوصاً إذا علمنا أنَّه لا يمكنه الاستغناء عن تلك الجمرة، إذ أنَّه لا يرىٰ وجوده وكيانه إلَّا بالقبض عليها(1)!

وإنسان بهذه الصفة يعيش حالة من الاضطراب والألم، وصراعاً نفسياً عظيماً،

ص: 291


1- عن أبي بصير، عن أبي جعفر علیه السلام، قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ذات يوم وعنده جماعة من أصحابه: اللّهمّ لقِّني إخواني مرَّتين، فقال من حوله من أصحابه: أمَا نحن إخوانك يا رسول الله؟ فقال: لا إنَّكم أصحابي، وإخواني قوم من آخر الزمان آمنوا بي ولم يروني، لقد عرَّفنيهم الله بأسمائهم وأسماء آبائهم من قبل أن يُخرِجهم من أصلاب آبائهم وأرحام أُمَّهاتهم، لأحدهم أشدّ بقيَّة علىٰ دينه من خرط القتاد في الليلة الظلماء، أو كالقابض علىٰ جمر الغضا، أُولئك مصابيح الدجىٰ، ينجيهم الله من كلّ فتنة غبراء مظلمة». (بصائر الدرجات: 104/ باب في رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم أنَّه عرف ما رأىٰ في الأظلَّة والذرّ وغيره/ ح 4).

بين اتّجاهين في وجوده: اتّجاه يناديه: ألق ما في يدك، وعش بحرّية مع الناس، وفق مبدأ (حشر مع الناس عيد)، واتّجاه يناجيه: اثبت علىٰ مبدئك، ولا تخشَ الناس، إنَّ الله معك.

في صراع كهذا، يأتي الانتظار ليلقي بالصبر والأمل في قلب المؤمن، ليجعله ليس فقط يتحمَّل أذىٰ الجمرة، وإنَّما ليجعله يعيش حالة من اللذَّة والفرح بقبضه عليها، ذلك عندما يرىٰ كثرة الساقطين في الطريق، وهو يرىٰ نفسه ثابتاً في خطواته علىٰ طريق الحقّ.

إنَّ من الآثار المهمَّة للاعتقاد بوجود الإمام المهدي عجل الله فرجه الشریف هو شحن طاقات الأُمَّة وبعث روح الأمل فيها..، ففرق بين من يسير وليس له هدف مرجو ومحدَّد، وبين من يسير ويحدوه الأمل الكبير..، ومن هنا تأكَّد الأمر بانتظار الفرج، وأنَّه أفضل الأعمال، ومن الواضح أنَّ المراد بانتظار الفرج هو تهيئة الأسباب لقدوم من ننتظر فرجه..، وذلك يكون في كلِّ شخص بحسب قدراته العقلية والجسدية.

المطلب الثالث: معنى الانتظار

قال الشيخ رحمه الله: ومما يجدر أنْ نذكره في هذا الصدد ونذكر أنفسنا به أنّه ليس معنى انتظار هذا المصلح المهدي أنْ يقف المسلمون مكتوفي الأيدي فيما يعود من الحق إلى دينهم...

نذكر هنا أموراً:

الأمر الأول: ما معنى الانتظار؟ ولماذا كان أفضل الأعمال؟

المراد بانتظار الفرج هو تهيئة الأسباب لقدوم من ننتظر فرجه..، وذلك يكون في كلِّ شخص بحسب قدراته العقلية والجسدية.

والتفصيل أنَّ مفهوم الانتظار مفهومٌ مركب من أربعةِ عناصر ضرورية يجب أنْ

ص: 292

تتوفر كلُّها ليتحقق معنى الانتظار التام:

العنصر الأول: العنصر الاعتقادي.

فالاعتقاد في كلِّ عملٍ هو الأساس فيه، وما من عملٍ لاسيما -إن كان دينيًا- يؤتي أكله ما لم يؤسس على أساسٍ عقائدي، ومن هنا كان الانتظار قائمًا على أساس الإيمان بالله عزوجل وبصفاته الكمالية والجلالية، وبنبوةِ النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم وبكلِّ ما أمر به ونهى عنه، والإيمان بأئمة الهدى علیهم السلام، والإيمان باليوم الآخر..

فانتظار الإمام المهدي عجل الله فرجه الشریف إنَّما هو انتظار لأحد الأئمة علیهم السلام، فلا بُدَّ من الإيمان بإمامتهم، وهم خلفاء الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، فلا بُدَّ من الإيمان به، والرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم إنَّما هو رسول الله عزوجل فلا بُدَّ من الإيمان به وبصفاته، وأنَّه عادلٌ حكيمٌ ما خلق الخلق في الدنيا لهوًا ولا عبثًا، وإنَّما خلقهم ليُعيدهم في يومٍ يُثيب فيه المطيعين ويعاقب العاصين، وهو يوم المعاد، فلا بُدَّ من الإيمان بالعدل والمعاد.

وبذا فقد اختزل الانتظار الإيمان بأصول الدين كافة فضلًا عن معرفتها، وهذا يعني: أنَّ كلَّ شخصٍ ينتظر الإمام المهدي عجل الله فرجه الشریف عليه أنْ يبحث عن عقائده الحقّة ويُثبتها بالدليل القطعي، عن سدير، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: طوبىٰ لمن أدرك قائم أهل بيتي وهو مقتدٍ به قبل قيامه، يأتمّ به وبأئمَّة الهدىٰ من قبله، ويبرء إلىٰ الله عزوجل من عدوّهم، أُولئك رفقائي وأكرم أُمَّتي عليَّ»(1).

العنصر الثاني: العنصر الفقهي.

ويعني الالتزام العملي بالتكاليف الشرعية، أيّ: فعل الواجبات وترك المحرّمات، وهذا هو المُستفاد مما روي عن يمان التمّار، قال: كنّا عند أبي عبد الله علیه السلام جلوساً فقال لنا:

ص: 293


1- كمال الدين: 286 و287/ باب 25/ ح 3.

«إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبة، المتمسّك فيها بدينه كالخارط للقتاد _ ثمّ قال هكذا بيده _، فأيّكم يُمسِك شوك القتاد بيده؟»، ثمّ أطرق مليَّاً، ثمّ قال: «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبة، فليتَّق الله عبد وليتمسَّك بدينه»(1).

والتقوى عنوان لأمرٍ مركب من عنصرين، هما: الورع والاجتهاد، أي الورع عن محارم الله عزوجل والاجتهاد في عبادته، ويشمل اجتناب الظلم والكذب والسرقة وشرب الخمر وكلِّ المحرمات، وأداء الصلاة والصوم والخمس والحج وكلِّ الواجبات.

العنصر الثالث: العنصر السلوكي.

وهو أشمل من العنصر الفقهي، ويتضمن -علاوة على أداء الواجبات والانتهاء عن المحرمات- القيام بالمستحبات وترك المكروهات، لا على المستوى الفردي وحسب، بل وعلى المستوى الاجتماعي أيضًا، فلا بُدَّ من الالتزام بآداب العشرة (حقوق الأهل والجيران والأصدقاء وما يُذكر في كتب الأخلاق).

عن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السلام أنَّه قال ذات يوم: «ألَا أُخبركم بما لا يقبل الله عزوجل من العباد عملاً إلَّا به؟»، فقلت: بلىٰ، فقال: «شهادة أن لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمّداً عبده ورسوله، والإقرار بما أمر الله، والولاية لنا، والبراءة من أعدائنا _ يعني الأئمَّة خاصَّة_، والتسليم لهم، والورع والاجتهاد، والطمأنينة، والانتظار للقائم عجل الله فرجه الشریف»، ثمّ قال: «إنَّ لنا دولة يجيء الله بها إذا شاء»، ثمّ قال: «من سرَّه أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق، وهو منتظِر، فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر من أدركه، فجدوا وانتظروا، هنيئاً لكم أيَّتها العصابة المرحومة»(2).

ص: 294


1- الكافي 1: 335 و336/ باب في الغيبة/ ح 1.
2- الغيبة للنعماني: 207/ باب 11/ ح 16.

العنصر الرابع: الاستعداد العملي.

وهو مستبطن في العناصر الثلاثة المتقدمة، ولكن لأهميته ولأثره الفعّال في التمهيد المهدوي؛ فقد تم إفراده كعنصرٍ مستقل.

فعن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: «ليعدنَّ أحدكم لخروج القائم ولو سهماً، فإنَّ الله تعالىٰ إذا علم ذلك من نيَّته رجوت لأن ينسئ في عمره حتَّىٰ يُدرِكه، فيكون من أعوانه وأنصاره»(1).

يُنقل أنَّ بعض العلماء كان ينام وسيفه تحت وسادته؛ ليكون متهيئًا لظهور الإمامعجل الله فرجه الشریف، وفي هذا المضمار لا يبعد أنْ يكون التدريب على السباحة أو كمال الأجسام بنية التهيئة لظهور الإمام عجل الله فرجه الشریف ولنصرته من مفردات انتظاره عجل الله فرجه الشریف.

والخُلاصة: الانتظار هو الإسلام.

الانتظار أفضل الأعمال.

عن موسىٰ بن بكر الواسطي، عن أبي الحسن، عن آبائه علیهم السلام أنَّ رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم قال: «أفضل أعمال أُمَّتي انتظار الفرج من الله عزوجل»(2).

ولا غرو في ذلك؛ لما تقدّم من أنَّ الانتظار الصحيح يتضمن عناصر متعددة هي بمجموعها تمثل الإسلام بجميع مفاصله، من اعتقادٍ صحيحٍ راسخ، وأداء الواجبات بشقيها العبادية والأخلاقية والانتهاء عن المحرمات بجميع أشكالها، بل والتحلّي بمكارم الأخلاق ومحاسنها من المروءة والكرم وطلاقة الوجه، وطيب الكلام وما شابهها من سلوكيات..

ومنه نعرف أنه وإن كانت الصلاة عمود الدين، ومعراج المؤمن، إنْ قُبِلت قُبِل ما

ص: 295


1- الغيبة للنعماني: 335/ باب 21/ ح 10.
2- كمال الدين: 644/ باب 55/ ح 3.

سواها، وإنْ رُدَّت رُدَّ ما سواها، إلا أنها على عظم أهميتها، لا تعدو أن تكون مفردةً من عنصرٍ من عناصر الانتظار الأربعة.

الأمر الثاني: بيان المراد من روايات لزوم البيت.

كيف نوفق بين ما تقدم من: ضرورة التهيئة العملية لظهور الإمام عجل الله فرجه الشریف، وبين الروايات الآمرة بعدم التحرك وبلزوم البيت، ومنها: «كونوا أحلاس بيوتكم وألبدوا ما ألبدنا»، و«كونوا أحلاس بيوتكم فإنَّ الغبرة على من أثارها»، و«كفُّوا ألسنتكم وألزموا بيوتكم»؟

تدلُّ ظواهر هذه الروايات على لزوم الابتعاد عن ساحة الصراع في الحياة، وكأنّها تقول: قِفوا على التل، ولا تذهبوا يمينًا ولا شمالًا، أي كن متفرجًا فقط.

ولكن إذا قسنا هذه الروايات إلى العنصر الرابع من الانتظار -وهو التهيؤ العملي ولو بتحضير سهمٍ للظهور المبارك- نجد أن هناك تنافراً وتعانُداً بين الأمرين، فكيف نوفق بينهما؟

والجواب(1):

أوَّلاً: أنَّ هذا الكلام دعوة صريحة لإلغاء أهمّ مبدأ من مبادئ الإسلام، ذلك المبدأ الذي به كانت هذه الأُمَّة خير أُمَّة أُخرجت للناس، وهو المبدأ الذي كان مقدّمة مهمَّة، بل أهمّ مقدّمات الإيمان، ألَا وهو مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالىٰ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله...﴾(2)، ويكفينا جواباً عن هذا الإشكال دعوته إلىٰ ذلك.

وثانياً: إنَّ من الأساليب الملتوية للمغرضين هو أنَّهم يستندون إلىٰ جزء رواية

ص: 296


1- انظر: شذرات مهدوية- الشيخ الحسين الأسدي ص 14- - 144.
2- آل عمران: 110

ويقطعونه عن بقيَّة الرواية، أو ينظرون إلىٰ الروايات بنظرة تجزيئية لا ربط لها بالروايات الأُخر..

وهذا ما لا يمكن القبول به، فإنَّ الدين كلٌّ واحدٌ، يُفسِّر بعضه بعضاً، ويرتبط أوَّله بآخره، ونظرة كهذه من شأنها أن تحلَّ أمثال هذه الإشكالات، وعليه فنقول في الجواب:

إنَّ تتبّعاً بسيطاً لأجواء صدور مثل تلك الروايات يكشف عن أنَّ أهل البيت علیهم السلام أطلقوها في أجواء ومناسبات خاصَّة، كانت فيها السلطات تتحيَّن الفرص بأتباع أهل البيت علیهم السلام من جانب، وكانت بعض الصيحات اللامسؤولة تتعالىٰ بالثورات والقتال من جانب آخر..

وبين هذين الجانبين، كان أهل البيت علیهم السلام يلاحظون الظروف الموضوعية لمثل تلك الحركات، وكانوا يعلمون أنَّها ستنتهي بالفشل الذريع، وأنَّها لا يُجنىٰ منها إلَّا القتل والتشريد، لأنَّها ستُعطي الظالمين العذر المشروع لتتبّع أنصارها والقضاء عليهم..

وفي ظروف كهذه صدرت بعض الروايات الآمرة بعدم الخروج والانطواء تحت رايات تلك الحركات(1)، بمعنىٰ أنَّهم علیهم السلام أمروا أتباعهم بالقعود عن تأجيج الفتن وعن الانغماس فيها، ولكن في نفس الوقت هناك روايات كثيرة تدعو إلىٰ أنَّه متىٰ ما ظهر الإمام المهدي عجل الله فرجه الشریف فلا بدَّ من الخروج معه ولو حبواً، ويلزم من هذا ضرورة التهيّؤ لخروجه والعمل علىٰ توفير الظروف المناسبة للظهور، وهو معنىٰ الانتظار الصحيح _ كما ستعرف قريباً إن شاء الله تعالىٰ _.

وعلىٰ كلِّ حالٍ، فالروايات تلك بعضها جاء علىٰ نحو القضيَّة الخارجية المحدودة

ص: 297


1- ولا يعني هذا أنَّ تلك الحركات كانت باطلة ومحرَّمة بأجمعها، وإنَّما كانت تنتهي بالفشل رغم حقّانية بعضها، وما كان الشيعة رخيص-ي الثمن عند أهل البيت علیهم السلام ليسمحوا لهم بالانخراط في معركة خاسرة، فمثل حركة زيد بن علي ;انتهت بالفشل، ولكن الإمام الصادق علیه السلام ترحَّم علىٰ عمّه زيد كثيراً، وكان يبكي عليه كلَّما تذكَّره.

بحدودها، ومن تلك الروايات ما ورد: عن أبي عبد الله علیه السلام أنَّه قال: «كفّوا ألسنتكم، والزموا بيوتكم، فإنَّه لا يصيبكم أمر تخصّون به أبداً، ويصيب العامَّة، ولا تزال الزيدية وقاء لكم أبداً»(1).

فهذه الرواية يظهر منها أنَّها صدرت في زمن تحرّك الزيدية، والإمام الصادق علیه السلام أمر أتباعه بعدم الانخراط في تلك الحركة، لأنَّ تلك الحركة ستلهي السلطات عن متابعة الشيعة، بمعنىٰ أنَّ تلك الحركة ستكون بمثابة الغطاء الذي يُخفي الشيعة(2).

وبعض تلك الروايات جاءت علىٰ نحو القضيَّة الحقيقية التي تنطبق علىٰ أيّ مورد مشابه لمورد الرواية، ومن تلك الروايات التالي:

1 _ عن أبي بكر الحضرمي، قال: دخلت أنا وأبان علىٰ أبي عبد الله علیه السلام وذلك حين ظهرت الرايات السود بخراسان، فقلنا: ما ترىٰ؟ فقال: «اجلسوا في بيوتكم، فإذا رأيتمونا قد اجتمعنا علىٰ رجل فانهدّوا إلينا بالسلاح»(3).

وهذه الرواية ظاهرة المعنىٰ في أمر أهل البيت علیهم السلام أتباعهم بعدم الانخراط في أيّ حركة ليس لهم فيها دور، فإذا كان لهم علیهم السلام فيها دور فيجب التحرّك إليها بالسلاح وبسرعة.

2 _ عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر الباقر علیه السلام أنَّه قال: «اسكنوا ما سكنت السماوات والأرض، أي لا تخرجوا علىٰ أحد فإنَّ أمركم ليس به خفاء، ألَا إنَّها آية من

ص: 298


1- الغيبة للنعماني: 203 و204/ باب 11/ ح 7.
2- وربَّما يكون هذا من أهداف حركة زيد بن علي، فلعلَّه رأىٰ توجّه السلطات إلىٰ الإمام الصادق علیه السلام وأتباعه الذين سيقومون بدور نشر المذهب والتعريف به، فقام بثورته ليُبعد أنظار السلطات عنهم، خصوصاً وإنَّ السلطات كانت ترىٰ القضاء علىٰ المعارضة المسلَّحة أهمّ من القضاء علىٰ المعارضة الفكرية.
3- الغيبة للنعماني: 203/ باب 11/ ح 6.

الله عزوجل ليست من الناس، ألَا إنَّها أضوء من الشمس لا تخفىٰ علىٰ برّ ولا فاجر، أتعرفون الصبح؟ فإنَّها كالصبح ليس به خفاء»(1).

وكم هي واضحة هذه الرواية في اتّباع الحقّ إذا ظهر، والابتعاد عن الشبهات، لأنَّها ربَّما تُهلِك المؤمن من حيث لا يشعر.

وخلاصة القول في الجواب هو أنَّ أهل البيت علیهم السلام دعوا إلىٰ:

أ) عدم الانخراط في الحركات المنحرفة.

ب) الصبر إلىٰ حين تحرّكهم علیهم السلام.

ج-) الإسراع بالالتحاق بحركة يقومون بها هم علیهم السلام .

ووفق هذه المعاني يكون تأويل الروايات الواردة بلزوم البيت وحفظ اللسان وما شابه.

ولذلك، فإنَّ أيَّة حركة تقوم، ويكون منهجها منهج أهل البيت علیهم السلام، فإنَّه يمكن للمنتظر أن ينخرط فيها، ويكون من دعاتها، لأنَّها حركة تُمثِّل أهل البيت علیهم السلام، وفي المقابل فإنَّ أيَّة حركة لا تكون في طول خطّ أهل البيت علیهم السلام ولا تقوم وفق منهجهم صلوات الله عليهم تكون مشمولة للنهي الوارد في تلك الروايات.

ولذلك نجد علماءنا أفتوا بالجهاد وبالقيام إذا اقتضت الظروف الموضوعية ذلك، كما حصل في ثورة العش-رين وفتوىٰ الشيخ محمّد تقي الشيرازي (رضوان الله عليه) بالجهاد، وكما عشناه من فتوىٰ السيّد علي السيستاني (دام ظلّه) بالجهاد ضدّ أعداء أهل البيت علیهم السلام في العراق.

ص: 299


1- الغيبة للنعماني: 207 و208/ باب 11/ ح 17.

الأمر الثالث: مفاهيم مغلوطة للانتظار.

تقدَّم أنَّ الانتظار يتضمن عناصر تجعل منه مبدأً فعالًا حركيًا مؤثرًا منتجًا.

بيدَ أنَّ البعض انقلب على ما تسالم عليه العلماء وعموم الشيعة، بل وانقلب على ما نصت عليه الروايات بشكلٍ واضحٍ وصريح، فنظّر لنظرياتٍ مغلوطة عن الانتظار أفرزت حركات منحرفة ودعاوى مُضِلة، أطلق عليها بعض الباحثين مصطلح (الانتظار السلبي).

بدايةً نتساءل: هل هناك انتظار سلبي وانتظار إيجابي؟

في الحقيقة أن الانتظار هو ما تقدم معناه، وهو بذاك المعنى انتظار إيجابي حركي تفاعلي، وأما ما يُسمى بالانتظار السلبي، فإنه من باب السالبة بانتفاء الموضوع، فهو ليس انتظاراً أصلاً، إلا أن بعض الباحثين جرى على هذا الاصطلاح لبيان المفاهيم المغلوطة للانتظار؛ والتي تخلو من مقوماته، فلا تكون انتظارًا.

ولتقريب المعنى نقول: لو كان للنبي عيسى علیه السلام أبٌ، لأمكن حينئذٍ السؤال عن خصائصه من عمر وعمل وغيرها، وأما لو لم يكن له أبٌ، لما صحَّ السؤال من رأس، لعدم وجود موضوع نحمل عليه الجواب. وهذا معنى سالبة بانتفاء الموضوع، فلا يمكن تثبيت حكمٍ لما هو بالأساس غير ثابتٍ أو موجود، وكما يُقال (العرش ثم النقش) أي ثبت العرش ومن ثم النقش، أي ثبِّت الموضوع ثم الصفات.

إذاً ليس هناك سوى انتظارٍ بمعنى العمل والتمهيد، وأما (الانتظار السلبي) فهو ما اصطلحه بعض الباحثين قاصدًا به بيان بعض المفاهيم المغلوطة من الانتظار.

ومن تلك المفاهيم المغلوطة للانتظار:

ص: 300

الأول: الانتظار يعني السكون.

حاول البعض تصوير أنَّ الانتظار يستلزم السكون والهدوء وكف الألسن، وعدم تقديم قدمٍ ولا تأخير أخرى، وكأنّ المنتظر جالسٌ بانتظار دوره عند الطبيب، يلتزم الهدوء ويترقب دوره دون أنْ ينبس ببنت شفة أو يقوم بأيّ عمل. ولسان حاله يقول:

هي النفسُ نفسي يذهبُ الكلُّ عندها إذا سلُمت، فليذهبْ الكونُ عاطبًا

فإذا حان الظهور المقدس فإنَّه سوف يتنعم بدولة العدل الإلهي.

ويظهر أن هذه النظرية استند أصحابها إلى نصوص مقتطعة من الروايات يظهر منها الأمر بلزوم السكون وعدم التحرك، والتي تقدّمت مناقشتها.

الثاني: الانتظار بنشر الفساد لأجل تعجيل الفرج.

لم تتوقف هذه النظرية –أو على الأصح: الحركة- عند المستوى النظري، بل أفرزت حركات أخذت على عاتقها الترويج إلى مثل هذه الأفكار، وحجتهم في ذلك:

أن الروايات صرّحت بأن الإمام المهدي عجل الله فرجه الشریف لا يظهر إلا إذا امتلأت الأرض ظلمًا وجورًا، وهذه المقدمة الأولى وهي صحيحة وقد استندت إلى الروايات التي تصرِّح بهذه الحقيقة: (...يملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعدما ما ملأت ظلمًا وجورًا).

وحيث إننا مطالبون للعمل بتعجيل الفرج والظهور... وهذه صحيحة أيضًا.

فالنتيجة: إذا أردنا أنْ نعجل الظهور، فعلينا أنْ نحقق سببه، وهو: أنْ تمتلأ الأرض ظلمًا وجورًا، فعلينا أنْ ننشر الظلم والفساد والانحراف، ونمارسه أيضًا؛ فالمرأةُ تلقي حجابها وتترك العفة، والرجل يرتكب المحرمات، وسيكونا في عبادةٍ، حيث إنَّه يقومان بخطوةٍ في تعجيل الظهور!

ص: 301

والجواب(1):

في البداية لا بدَّ أن نضع نُصب أعيننا أنَّ أيَّ مقولة إذا أردنا أن نعرف صحَّتها من سقمها، فعلينا أن نزنها بميزان القرآن الكريم وسُنَّة النبيِّ الأكرم وأهل البيت الطاهرين علیهم السلام، إذ هما المرجع في مثل هذه الأُمور.

ووفق هذا المقياس الواضح، نجد التالي:

أوَّلاً: أنَّ القرآن الكريم يقول: ﴿إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾(2)

ثانياً: أنَّ الإمام الصادق علیه السلام في ضمن كلامٍ له عن زمن الغيبة الكبرىٰ يقول: «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبة فليتَّق الله عبد وليتمسَّك بدينه»(3).

ثالثاً: من الواضح جدّاً أنَّه «لا يُطاع الله من حيث يُعصىٰ»، إذ العقل يحكم بأنَّ طاعة المولىٰ تكون كما يُحِبُّ هو، لا كما يحلو للعبد ولو كان الفعل مبغوضاً للمولىٰ.

ومن هنا ورد عن الإمام الصادق علیه السلام أنَّه قال في رواية: «... قال الله تبارك وتعالىٰ للملائكة: اسجدوا لآدم، فسجدوا له، فأخرج إبليس ما كان في قلبه من الحسد، فأبىٰ أن يسجد، فقال الله تعالى: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾(4)»،

قال الصادق علیه السلام: «فأوَّل من قاس إبليس واستكبر، والاستكبار هو أوَّل معصية عُصِيَ الله بها»، قال: «فقال إبليس: يا ربِّ، اعفني من السجود لآدم، وأنا أعبدك عبادةً لم يعبدكها ملك مقرَّب ولا نبيُّ مرسل، فقال الله: لا حاجة لي إلىٰ عبادتك، إنَّما أُريد أن أُعبد من حيث أُريد لا من حيث تريد، فأبىٰ أن

ص: 302


1- على ضفاف الانتظار- الشيخ حسين الأسدي ص 104 و 105.
2- المائدة: 27
3- كمال الدين للصدوق: 343/ باب 33/ ح 25.
4- الأعراف: 12

يسجد، فقال الله تبارك وتعالىٰ: ﴿قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌQ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ﴾(1)»(2).

ووفق هذه المعطيات، ينكشف بسهولة زيغ وزيف تلك المقولة، وأنَّ هناك أيدٍ خفيَّة تعمل من وراء الكواليس هدفها تمييع القضيَّة المهدوية وتحويلها إلىٰ سبب للفساد والدمار الشامل.

فعلىٰ المؤمن أن ينتبه لخدع أبالسة الجنِّ والإنس، ولا يُدخِل يده في جُحر أفعىٰ، فإنَّ اللدغة مميتة.

ص: 303


1- الحجر: 34 و35
2- تفسير القمّي 1: 41 و42.

ص: 304

المبحث الخامس

اشارة

الغَيبة المهدوية

بعد أن أثبت الشيخ رحمه الله ولادة الإمام المهدي عجل الله فرجه الشریف ، وأنْ لا غرابة في مسألة طول عمره الشريف، تعرَّض إلى مفهوم الانتظار وما يتعلق به من تفريعات تشبع الأساسيات في هذا المطلب.

ولفهم موضوع الغيبة لابُدَّ من التعرَّف على معناها، وعللها، والفوائد المترتبة على كلٍ منها ومن الإمام الغائبf. وهذا ما سنتناوله، مفردين لكل جانبٍ منها مطلبًا خاصًا، مقدمين مطلب العلل على معنى الغيبة؛ لترتب توضيح معنى الغيبة وترجيح أحد معنييه على بعض ما نورده في مطلب العلل.

المطلب الأول: علل الغيبة والحكمة منها.
اشارة

المطلب الأول: علل الغيبة والحكمة منها.(1)

لابد أنْ نسلم أولًا وهذا هو المفروض على كلِّ مسلمٍ بضميمة ما تقدم من أبحاث في الإلهيات من إثبات حكمة الله عزوجل أنَّ ما أراده الله سبحانه و تعالی لابُدَّ أنْ يكون هو الأصلح للبشر، وحيث إنَّه عزوجل أراد للإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف أنْ يغيب، إذاً الغيبة هي الأصلح للبشر.

وقد تقدَّم في بحث (عقيدتنا في الأحكام الشرعية) أنَّ العلل الواقعية للأحكام -مِلاكات الأحكام- ليست مُتاحةً لنا، وبالتالي فنحن لسنا مكلّفين بمعرفتها وإنْ كُنا مكلّفين بالامتثال للأحكام.

بيدَ أنَّ القول بمجهولية علل وملاكات أمرٍ ما، لا يعني خلوه من المصالح والحِكَم،

ص: 305


1- يُنظر: شذرات مهدوية- الشيخ حسين الأسدي- ص 106 – 109.

وهو ما نريد التأكيد عليه في مسألة معرفة العلة الحقيقية لغيبة الإمام المهدي عجل الله فرجه الشریف، حسب ما أثبتته بعض الروايات الشريفة، منها ما روي عن عبد الله بن الفضل الهاشمي قال: سمعت الصادق جعفرًا بن محمدٍ علیهما السلام يقول: «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبةً لابد منها يرتاب فيهل كلُّ مُبطل، فقلت: ولِمَ جُعِلتُ فداك؟ فقال الإمام علیه السلام: لأمرٍ لم يؤذن لنا في كشفهِ لكم. قلتُ: فما وجه الحكمة في غيبته؟ فقال الإمام علیه السلام: وجهُ الحكمةِ في غيبتِه وجهُ الحكمةِ في غيبيات من تقدّمه من حُججِ الله عزوجل ذكره. إنَّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشفُ إلا بعد ظهوره كما لم ينكشف وجه الحكمة لما أتاه الخضر علیه السلام من خرقِ السفينةِ، وقتلِ الغلامِ، وإقامةِ الجدار لموسى علیه السلام إلا وقت افتراقهما. إنَّ هذا الأمرَ أمرٌ من أمرِ الله عزوجل وسرٌ من سرِ الله وغيبٌ من غيبِ الله، ومتى علمنا أنَّه عزوجل حكيمٌ صدّقنا بأنَّ أفعاله كُلَّها حكمة وإنْ كان وجهها غير منكشف».(1)

فالعلة أو المِلاك في أمرِ الغيبة منكشفٌ بالنسبةِ للإمام علیه السلام لكن لم يؤذن له في كشفه لنا.

ونفس الكلام يُقال في علمه علیه السلام بساعة الظهور المبارك (ساعةُ الصفر بالتعبير الحديث) وهو التوقيت الذي نُهينا عنه؛ لأنَّ عدم علم المعصوم بذلك خلاف العصمة وما تقتضيه من العلمِ اللدني.

ثم إنَّ إسدال ستار الغيب على بعض الأمور الغيبية أمام سائر الناس إنّما لعلةٍ ما هي منتفيةٌ تمامًا في المعصومين علیهم السلام؛ ولذا فلا مانع من رفع هذا الستار أمامهم، كعلمهم بزمان ومكان وكيفية موتهم دون سائر البشر.

وعليه فلا مشكلة من معرفة الإمامf بساعةِ الصفر أي ساعة الظهور، وبملاكات الأمور والأحكام، ومنها الغيبة، وإنْ لم يؤذن له أنْ يكشف لنا ذلك.

ص: 306


1- كمال الدين ص481، 482 باب45 ح11.

وعلى كل حال، فإن من الحكم التي ذكرتها الروايات من غيبته عجل الله فرجه الشریف هي:

أ) الخوف من القتل:

عن زرارة، قال: سمعت أبا جعفر علیه السلام يقول: «إنَّ للغلام غيبة قبل أن يقوم، وهو المطلوب تراثه»، قلت: ولِمَ ذلك؟ قال: «يخاف _ وأومأ بيده إلىٰ بطنه، يعني القتل_»(1).

ذلك الخوف الذي فُسِّر بأنَّه علیه السلام يخاف علىٰ نفسه من أعدائه، والخوف علىٰ النفس ليس معناه الجبن، بل هو الخوف علىٰ دين الله وشريعة جدّه سيّد المرسلين صلی الله علیه وآله وسلم.

ب) التمييز والتمحيص:

عن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السلام أنَّه قال: «مع القائم عجل الله فرجه الشریف من العرب شيء يسير»، فقيل له: إنَّ من يصف هذا الأمر منهم لكثير، قال: «لا بدَّ للناس من أن يُمحَّصوا ويُميَّزوا ويُغربَلوا، وسيخرج من الغربال خلق كثير»(2).

وفي حديث أمير المؤمنين علیه السلام السابق: «وليبعثنَّ الله رجلاً من ولدي في آخر الزمان يطالب بدمائنا، وليغيبنَّ عنهم تمييزاً لأهل الضلالة حتَّىٰ يقول الجاهل: ما لله في آل محمّد من حاجة»(3).

ج) حتَّى لا يبايع ظالماً:

ورد في جواب الإمام المهدي عجل الله فرجه الشریف لمسائل إسحاق بن يعقوب: «وأمَّا علَّة ما وقع من الغيبة فإنَّ الله عزوجل يقول:﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾(4)، إنَّه لم يكن أحد من آبائي علیهم السلام إلَّا وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه، وإنّي أخرج

ص: 307


1- الغيبة للنعماني: 182 و183/ باب 10/ فصل 4/ ح 20.
2- الغيبة للنعماني: 212/ باب 12/ ح 6.
3- الغيبة للنعماني: 143/ باب 10/ ح 1.
4- المائدة: 101

حين أخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي...»(1).

وطبعاً هذا يعتبر واحداً من خصائصه التي تميَّز بها عن آبائه الطاهرين صلوات الله عليهم.

د) السنن التاريخية:

عن سدير، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «إنَّ للقائم منّا غيبة يطول أمدها»، فقلت له: يا ابن رسول الله، ولِمَ ذلك؟ قال: «لأنَّ الله عزوجل أبىٰ إلَّا أن تجري فيه سنن الأنبياء علیهم السلام في غيباتهم، وإنَّه لا بدَّ له يا سدير من استيفاء مدد غيباتهم»، قال الله تعالىٰ:﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ﴾(2)، أي سنن من كان قبلكم»(3).

ه) أن لا تضيع ودائع الله عزوجل:

أي المؤمنين الذين يظهرون من أصلاب الكافرين، فعن أبي عبد الله علیه السلام في حديث ابن أبي عمير، عمَّن ذكره، قال: قلت له _ يعني أبا عبد الله علیه السلام _: ما بال أمير المؤمنين لم يقاتل مخالفيه في الأوَّل؟ قال: «لآية في كتاب الله تعالىٰ:﴿لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً﴾(4)»،

قال: قلت: وما يعني بتزايلهم؟ قال: «ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين، فكذلك القائم عجل الله فرجه الشریف لم يظهر أبداً، حتَّىٰ تخرج ودائع الله عزوجل، فإذا خرجت ظهر علىٰ من ظهر من أعداء الله عزوجل فقتلهم»(5).

و) قبائح أعمال العباد، وفضائح أفعالهم، ممَّا يُسبِّب قلَّة العدد المطلوب من

ص: 308


1- كمال الدين: 485/ باب 45/ ح 4.
2- الانشقاق: 19
3- كمال الدين: 480 و481/ باب 44/ ح 6.
4- الفتح: 25
5- كمال الدين: 641/ باب 54.

الأنصار:

فإنَّها المانعة عن ظهوره عجل الله فرجه الشریف عقوبةً علينا كما ورد عن أمير المؤمنين علیه السلام أنَّه قال: «واعلموا أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة لله عزوجل، ولكنَّ الله سيُعمي خلقه عنها، بظلمهم وجورهم وإسرافهم علىٰ أنفسهم...» الخبر(1).

وفي توقيع الحجَّة عجل الله فرجه الشریف إلىٰ الشيخ المفيد: «ولو أنَّ أشياعنا وفَّقهم الله لطاعته علىٰ اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخَّر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجَّلت لهم السعادة بمشاهدتنا، علىٰ حقِّ المعرفة، وصدقها منهم بنا، فما يُحبِسنا عنهم إلَّا ما يتَّصل بنا ممَّا نكرهه، ولا نُؤثِره منهم، والله المستعان...»(2).

ولربما لا ينحصر الارتباط بين غيبة الإمام وقبائح الأعمال في العقوبة وحسب، إذ من البديهي أنْ يؤدي ارتكاب المعاصي لا سيما كثرته إلى قلة العدد المطلوب من الأنصار كشرطٍ للظهور.

وسواء كان الأمر عقابًا أو تأخرًا في تحقق الشرط (العدد المطلوب من الأنصار) فيتأخر المشروط (وهو الظهور)، فإن على كلٍّ منا أنْ يدرك أنّه قد ساهم في تأخير الظهور في حال ارتكابه للذنوب، وإنْ لم تكن مساهمته على نحو العلة التامة فهي من قبيل الجزء من العلة بلا شك. ومن ثم فإنَّ كلًا منّا بكلِّ فعلٍ من أفعاله لا يخلو إما أنْ يعجل أو يؤخر بالظهور ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾.

ز) إظهار عجز من يسعى للإصلاح الكامل من غير أهل البيت علیهم السلام وإن كان محقَّاً:

عن أبي صادق، عن أبي جعفر علیهم السلام، قال: «دولتنا آخر الدول، ولن يبقَ أهل بيت لهم

ص: 309


1- الغيبة للنعماني: 144/ باب 10/ ح 2.
2- الاحتجاج 2: 325.

دولة إلَّا ملكوا قبلنا، لئلَّا يقولوا إذا رأوا سيرتنا: إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء، وهو قول الله عزوجل :﴿وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾(1)»(2).

المطلب الثانی: معنی الغیبة
اشارة

المطلب الثاني: معنى الغيبة.(3)

اقتضت الحكمة الإلهية حفظ الإمام المهدي عجل الله فرجه الشریف من كيد الأعداء إلىٰ اليوم الموعود للظهور المبارك، وتلك الحكمة استوجبت اتّخاذ طريقة عملية مزدوجة، يتمُّ فيها حفظ الإمام علیه السلام من جانب، وضمان اطّلاعه علىٰ الأوضاع الجارية ومتابعتها ومعايشتها عن كثب من جانب آخر..

تلك الطريقة كانت هي الغيبة..

ولكن ما هو معناها؟

هل معناها هو أنَّ الإمام علیه السلام وبمعجزة إلهية اختفىٰ عن الأنظار، بحيث فقد جسمه أيّ لون أو أصبح مثالياً أو شفّافاً أو شيئاً من هذا القبيل؟

أو أنَّ معناها هو أنَّه علیه السلام لا زال يراه الناس، ولكنَّهم لا يعرفون انطباق عنوان المهدي عليه، وإنَّما قد يرونه لكن بشخصية شاب وقور عليه سيماء الصالحين؟

الصحيح هو الثاني، ويمكن الاستدلال عليه:

1 _ عرفنا فيما سبق أنَّ واحداً من أسباب الغيبة هو حفظ الإمام عجل الله فرجه الشریف من أعدائه، إذ هم يحاولون القضاء عليه، لأنَّ وجوده يقلق مضاجعهم. وهذه الغاية من الغيبة يكفي فيها أن لا يعرفوه بشخصه وإن رأوه، ولا داعي للانتقال إلىٰ إخفائه، لأنَّ هذه الطريقة تعني جريان المعجزة، وقد قيل بأنَّ المعجزة إنَّما تجري عادَّة فيما لو توقَّف إثبات الحقّ

ص: 310


1- الأعراف: 128.
2- الغيبة للطوسي: 472 و473/ ح 493.
3- انظر: شذرات مهدوية- الشيخ حسين الأسدي ص 110 – 113.

عليها، أمَّا إذا كان لإثباته طريقة أُخرىٰ من دون جريان المعجزة فلا تجري، وفي المقام حيث أمكن حفظ الإمام عجل الله فرجه الشریف بإخفاء هويَّته وشخصيته، فلا موجب لاتّخاذ الطريقة الأُخرىٰ.

2 _ وقد كان من أسباب الغيبة أيضاً هو جريان السنن التاريخية في الأنبياء السابقين عليه عجل الله فرجه الشریف، وقد كانت غيبتهم بابتعادهم عن الناس من دون اختفاء الجسد، بل ما زالوا يمكن رؤيتهم بالعين المجرَّدة. وبمقتضىٰ وحدة تلك السنن الجارية، يثبت أنَّ غيبة الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف هي بنفس النحو..

عن سدير الصيرفي، قال: سمعت أبا عبد الله الصادق علیه السلام يقول: «إنَّ في صاحب هذا الأمر لشبهاً من يوسف»، فقلت: فكأنَّك تُخبِرنا بغيبة أو حيرة؟! فقال: «ما ينكر هذا الخلق الملعون أشباه الخنازير من ذلك؟ إنَّ إخوة يوسف كانوا عقلاء ألبّاء أسباطاً أولاد أنبياء دخلوا عليه فكلَّموه وخاطبوه وتاجروه وراودوه وكانوا إخوته وهو أخوهم لم يعرفوه حتَّىٰ عرَّفهم نفسه، وقال لهم: أنا يوسف، فعرفوه حينئذٍ، فما تنكر هذه الأُمَّة المتحيّرة أن يكون الله عزوجل يريد في وقت من الأوقات أن يستر حجَّته عنهم، لقد كان يوسف النبيّ ملك مصر، وكان بينه وبين أبيه مسيرة ثمانية عشر يوماً، فلو أراد أن يُعلِمه بمكانه لقدر علىٰ ذلك، والله لقد سار يعقوب وولده عند البشارة تسعة أيّام من بدوهم إلىٰ مصر، فما تنكر هذه الأُمَّة أن يكون الله يفعل بحجَّته ما فعل بيوسف، وأن يكون صاحبكم المظلوم المجحود حقَّه صاحب هذا الأمر يتردَّد بينهم، ويمشي في أسواقهم، ويطأ فرشهم، ولا يعرفونه حتَّىٰ يأذن الله له أن يُعرِّفهم نفسه كما أذن ليوسف حين قال له إخوته:﴿قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ﴾(1)»(2).

ص: 311


1- يوسف: 90
2- الغيبة للنعماني: 166 و167/ باب 10/ فصل 3/ ح 4.

3 _ الروايات التي تُص-رِّح بإمكان رؤيته عجل الله تعالی فرجه الشریف لكن من دون معرفته بشخصيته الواقعية..

عن عبد الله بن جعفر الحميري، عن محمّد بن عثمان العمري قدس الله سره قال: سمعته يقول: «والله إنَّ صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كلّ سنة فيرىٰ الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه»(1).

وعنه، قال: سألت محمّد بن عثمان العمري قدس الله سره فقلت له: أرأيت صاحب هذا الأمر؟ فقال: نعم، وآخر عهدي به عند بيت الله الحرام وهو يقول: «اللّهمّ أنجز لي ما وعدتني»(2).

وفي رواية: رأيته صلوات الله عليه متعلِّقاً بأستار الكعبة في المستجار وهو يقول: «اللّهمّ انتقم لي من أعدائي»(3).

إشارة:

نحن وإن انتهينا إلىٰ أنَّ معنىٰ الغيبة هو ما تقدَّم، لكن هذا لا يمنع من أن يتَّخذ الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف طريقة اختفاء الجسد (الشخص)، بمعنىٰ أنَّ قدرته علىٰ ذلك ما زالت موجودة، والإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف يمكنه أن يستعمل هذه الطريقة متىٰ شاء أو اضطرَّته الظروف الموضوعية إلىٰ ذلك.

وبهذا يتَّضح المغزىٰ من بعض الروايات الشريفة التي صرَّحت باختفاء شخص الإمام صلوات الله عليه، ومنها التالي:

الرواية الأُولىٰ: عن عبيد بن زرارة، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «يفقد

ص: 312


1- كمال الدين: 440/ باب 43/ ح 8.
2- كمال الدين: 440/ باب 43/ ح 9.
3- كمال الدين: 440/ باب 43/ ح 10.

الناس إمامهم، يشهد الموسم فيراهم ولا يرونه»(1).

الرواية الثانية: ما ورد عن يعقوب بن منقوش، قال: دخلت علىٰ أبي محمّد الحسن بن علي علیهم السلام وهو جالس علىٰ دكّان في الدار، وعن يمينه بيت وعليه ستر مسبل، فقلت له: [يا] سيّدي، من صاحب هذا الأمر؟ فقال: «ارفع الستر»، فرفعته فخرج إلينا غلام خماسي له عشر أو ثمان أو نحو ذلك، واضح الجبين، أبيض الوجه، درّي المقلتين، شثن الكفّين(2)، معطوف الركبتين(3)،

في خدّه الأيمن خال، وفي رأسه ذؤابة، فجلس علىٰ فخذ أبي محمّد علیه السلام، ثمّ قال لي: «هذا صاحبكم»، ثمّ وثب فقال له: «يا بنيّ، أُدخل إلىٰ الوقت المعلوم»، فدخل البيت وأنا أنظر إليه، ثمّ قال لي: «يا يعقوب، أُنظر من في البيت؟»، فدخلت فما رأيت أحداً(4).

المطلب الثالث: قائدة الغائب و الغیبة
اشارة

المطلب الثالث: فائدة الغائب والغيبة.(5)

من الأسئلة التي ترد كثيراً حول القضيَّة المهدوية سؤالان:

السؤال الأوَّل: ما الفائدة في إمام غائب عن قواعده وعن مباشرة ما أُوكل إليه من مهام؟

السؤال الثاني: وأصلاً، ما الفائدة من أصل ظاهرة الغيبة؟

أمَّا جواب السؤال الأوَّل فهو:

إنَّ هذا السؤال يستبطن اعترافاً بوجود الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف، حتَّىٰ لو كان هذا الاعتراف

ص: 313


1- الكافي 1: 337 و338/ باب في الغيبة/ ح 6.
2- أي خشن الكفّين.
3- أي منحني الكتفين.
4- كمال الدين: 407/ باب 38/ ح 2.
5- انظر: شذرات مهدوية – الشيخ حسين الأسدي ص 113- 117.

تنزّلياً، ومع تسليم وجود الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف فالفوائد المترتّبة عليه _ حتَّىٰ وهو غائب _ كثيرة، منها:

أوَّلاً: إنَّ الشعور بوجود إمام مفترض الطاعة، مطَّلع علىٰ الأعمال، وعلىٰ ما يجري علىٰ أتباعه، يتألَّم لألمهم ويفرح لفرحهم، يُولِّد إحساساً بالطمأنينة، ودافعاً لتحمّل المصاعب ما دامت بعين الإمام، وبصيص أمل للمستضعفين، بأنَّ ما يمرُّ عليهم من مصاعب مهما طال زمنها فإنَّها لا محالة منتهية وزائلة، وأنَّ العاقبة لهم، وأنَّ عاقبة أمرهم هي الراحة والس-رور والطمأنينة، إنْ في الدنيا لو أدركوا زمن ظهور إمامهم، وإنْ في الآخرة بالنعيم الأبدي.

ثانياً: إنَّ من أدوار الإمام _ أيّ إمام _ هو دور الرعاية الأبوية لأتباعه وشيعته، وهذا الدور يمكن تأديته _ وعلىٰ وجه حسن _ حتَّىٰ لو كان الراعي غائباً عن الأنظار..

ومعه نقول: إنَّ الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف له دور رعاية أتباعه وهو غائب عنهم ما دام لم يؤذن له بعد بالظهور..

في مكاتبة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف للشيخ المفيد؛ يقول عجل الله تعالی فرجه الشریف: «... إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء...»(1).

ثالثاً: إنَّ للإمام _ أيّ إمام _ ثلاثة أدوار _ غير دور الرعاية الأبوية _:

الدور الأوَّل: دور المبيِّن للأحكام الش-رعية، وهذا الدور يرتكز علىٰ العلم والورع، قال تعالىٰ:﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾.(2)

عن يونس بن عبد الرحمن، عن أبي الصباح، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «إنَّ الله

ص: 314


1- الاحتجاج 2: 323.
2- آل عمران: 164.

تبارك وتعالىٰ لم يدع الأرض إلَّا وفيها عالم يعلم الزيادة والنقصان، فإذا زاد المؤمنون شيئاً ردَّهم وإذا نقصوا شيئاً أكمله لهم، ولولا ذلك لالتبست علىٰ المؤمنين أُمورهم»(1).

وعن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: «إنَّ الله عزوجل لم يدع الأرض بغير عالم، ولولا ذلك لما عُرِفَ الحقُّ من الباطل»(2).

وعن عبد الأعلىٰ بن أعين، عن أبي جعفر علیه السلام، قال: سمعته يقول: «ما ترك الله الأرض بغير عالم يُنقِص ما زادوا ويزيد ما نقصوا، ولولا ذلك لاختلطت علىٰ الناس أُمورهم»(3).

الدور الثاني: دور الحاكم الأعلىٰ للدولة، وهذا الدور مرتكز علىٰ العلم والأمانة، قال تعالىٰ حكايةً عن النبيّ يوسف علیه السلام :﴿قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾.(4)

الدور الثالث: دور الحجَّة، والواسطة بين الله تعالىٰ وبين جميع عالم الإمكان..، الحجَّة الذي يجب أن يوجد علىٰ الأرض حتَّىٰ لو لم يبقَ علىٰ الأرض إلَّا شخصان لكان أحدهما الحجَّة..، الحجَّة الذي هو أمان لأهل الأرض كما أنَّ النجوم أمان لأهل السماء..، الحجَّة الذي لو رُفِعَ من الأرض طرفة عين لساخت الأرض ومن فيها..

عن عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن أبي جعفر علیه السلام، قال: سمعته يقول: «لو بقيت الأرض يوماً بلا إمام منّا لساخت بأهلها، ولعذَّبهم الله بأشدِّ عذابه، إنَّ الله تبارك وتعالىٰ جعلنا حجَّةً في أرضه، وأماناً في الأرض لأهل الأرض، لم يزالوا في أمان من أن تسيخ بهم الأرض ما دمنا بين أظهرهم، فإذا أراد الله أن يُهلِكهم ثمّ لا يمهلهم ولا ينظرهم ذهب بنا

ص: 315


1- كمال الدين: 203/ باب 21/ ح 11.
2- كمال الدين: 203 و204/ باب 21/ ح 12.
3- كمال الدين: 204 و205/ باب 21/ ح 16.
4- يوسف: 55

من بينهم ورفعنا إليه، ثمّ يفعل الله ما شاء وأحبّ»(1).

هذه هي الأدوار الثلاثة للحجَّة علىٰ الأرض..

ولكن هل يجب أن يُفعِّل الحجَّة هذه الأدوار الثلاثة كلّها بنفسه أم يمكن أن يوكلها إلىٰ غيره؟ وهل يمكن لأحدٍ أن يسلبها منه بطريقة أو بأُخرىٰ أو لا يمكن ذلك؟

في هذا تفصيل:

أمَّا الدور الأوَّل (دور العلم)، فلا يمكن لأحدٍ أن يسلبه منه، وهل يمكن لأحدٍ أن يسلب علم غيره!؟

نعم، لظروف موضوعية تحيط بالحجَّة لعلَّه لا يُظهِر علمه، ولكن هذا لا يمنعه من إيكال هذه المهمَّة إلىٰ غيره ممَّن أخذوا العلم عنه وحفظوه ووعوه..، ولذا فالإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وإن ابتعد عن مباشرة دور التعليم، ولكنَّه أوكل هذه المهمَّة للفقهاء الذي يستقون علمهم من مناهل أهل البيت علیهم السلام ويُعلِّمونه للشيعة..

وأمَّا الدور الثاني (دور الحاكم الأعلىٰ للبلاد)، فليس هو دوراً أساسياً للحجَّة، وإنَّما هو دور كمالي أو تكميلي، فما دام هو العالم بأحكام الله تعالىٰ والمبيِّن لها، فمن المناسب أن يكون هو الحاكم السياسي الأعلىٰ للدولة، ومعه فلو أخذ ظالم هذا المركز فهذا لا يُؤثِّر في مقام الحجّية شيئاً، بل تجد الظالمين رغم أخذهم الحقّ من أصحابه الش-رعيين يعرفون في دخائل أنفسهم ويعترفون بأنَّ الحقَّ للحجَّة لا لهم.

فتلخَّص: أنَّ الدورين الأوَّل والثاني بحاجة إلىٰ ظروف موضوعية مناسبة حتَّىٰ يقوم الإمام والحجَّة نفسه بأدائهما.

وأمَّا الدور الثالث (دور الحجَّة)، فهذا الدور ذاتي للإمام، ولا يمكن لأحدٍ أن

ص: 316


1- كمال الدين: 204/ باب 21/ ح 14.

يسلبه إيّاه أو يمنعه من أدائه كما هو واضح، ويمكن للإمام أن يؤدّيه سواء كان ظاهراً أو مغموراً، وهو ما عبَّر عنه أمير المؤمنين علیه السلام بقوله: «اللهُمَّ بَلَىٰ، لَا تَخْلُو الأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ للهِ بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وَإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَبَيِّنَاتُه»(1).

وهنا تظهر واحدة من فوائد وجود الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف في زمن الغيبة _ وإن كان غائباً _، فهو الحجَّة علىٰ الأرض الذي به نُرزَق، وهو الأمان علىٰ الأرض، وهو الذي لولاه لساخت الأرض وما فيها في طرفة عين..

الفائدة من أصل ظاهرة الغيبة.

وأمَّا جواب السؤال الثاني: أصلاً، ما الفائدة من أصل ظاهرة الغيبة؟ فتكمن الفائدة من أُسلوب الغيبة الطويلة في عدَّة أُمور أيضاً، هذه بعضها باختصار:

1 _ إنَّ الغيبة أفضل أُسلوب للتمحيص ولفرز المخلصين عن غيرهم، خصوصاً إذا طالت مدَّة الاختبار، وهي سُنَّة إلهية تاريخية للتمحيص، كما في قضيَّة النبيّ نوح علیه السلام.

2 _ إنَّ الغيبة فرصة سانحة ومهمَّة للتوبة والإنابة قبل الظهور وعدم التوفيق للتوبة، في مكاتبة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف للشيخ المفيد: «فليعمل كلّ امرء منكم بما يقرب به من محبّتنا، ويتجنَّب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا، فإنَّ أمرنا بغتة فجاءة حين لا تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابنا ندم علىٰ حوبة. والله يلهمكم الرشد، ويلطف لكم في التوفيق برحمته»(2).

3 _ إنَّ فترة الغيبة أفضل فترة يمكن للمؤمن أن يُهيِّئ نفسه فيها للظهور المبارك ونصرة المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف..، وهو الذي عبَّرت عنه الروايات الشريفة بلزوم الانتظار.

4 _ إنَّ من أهمّ عناصر انتصار ثورة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف علىٰ أعدائه المتهيّئين له

ص: 317


1- نهج البلاغة: 497/ ح 147.
2- الاحتجاج 2: 323 و324.

علىٰ الدوام هو عنصر المباغتة، وحتَّىٰ يكون عنصر المباغتة تامَّاً لا بدَّ من تكتيك منظَّم يُنسي الظالمين لحظة الظهور، وليس هو أفضل من تكتيك الغيبة الطويلة.

ص: 318

المبحث السادس

اشارة

كيف لنا أن نُميّز المهدي الحقّ؟(1)

مع غيبة الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف، وعدم رؤيتنا له مباشرة، وعدم وجود صورة شخصية له، ومع كثرة المدَّعين للمهدوية زمن الغيبة الكبرىٰ، ما هي الطريقة التي يُمكِننا من خلالها معرفة المهدي الحقّ من مدَّعيها زوراً؟

الجواب: هناك نحوان من الطرق(2):

النحو الأوَّل: طرق تشخيصية:

بمعنى أنَّ من خلالها يمكن تشخيص المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وعدم اشتباهه بغيره أبداً، ونذكر طريقين في هذا المجال:

الأوَّل: سؤاله عمَّا يعجز غيره عن الإجابة عنه: كسؤاله عن معضلة تاريخية أو مسألة علمية عجز عنها أهل الاختصاص كلّهم، وما شابه ممَّا يعجز عنه الناس كلّهم، ولا يستطيع أن يجيب عنها إلَّا الإمام المفترض الطاعة من الله عزوجل، وعلىٰ غرار قول أمير المؤمنين علیه السلام: «سلوني قبل أن تفقدوني»(3).

عن المفضَّل بن عمر، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «إنَّ لصاحب هذا الأمر

ص: 319


1- انظر: شذرات مهدوية: الشذرة رقم (19)
2- يضاف إلىٰ هذين النحوين ما تقدَّم من صفاته الخاصَّة به (في الشذرة الثانية)، وبعض مواريث الأنبياء التي تحمل صفة إعجازية (كما في الشذرة السادسة)، وكذلك بعض مختصّاته كخروجه شابَّاً لا يتغيَّر بتطاول السنين.
3- نهج البلاغة 2: 130/ ح 189.

غيبتين: يرجع في أحدهما إلىٰ أهله، والأُخرىٰ يقال: هلك، في أيِّ وادٍ سلك؟»، قلت: كيف نصنع إذا كان ذلك؟ قال: «إن ادَّعىٰ مدعٍ فاسألوه عن تلك العظائم التي يجيب فيها مثله»(1).

الثاني: سؤاله المعجزة: فإنَّ الله تعالىٰ يؤيِّد رسله وحججه بالمعجزات الخارقة للعادة، والتي لا يستطيع أيّ إنسان عادي أن يأتي بها، والإمام يمكنه القيام بذلك فيما إذا اقتضت الحكمة الإلهية ذلك، فإنَّ الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف عنده القدرة علىٰ ذلك بلا شكّ، وأوضح ما ورد في ذلك ما جاء في إقامة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف المعجزة الواضحة للحسني عندما يطالبه بها لإثبات أنَّه الحقّ(2).

النحو الثاني: طرق تقريبية:

بمعنىٰ أنَّها لا تُشخِّص المهدي بالضبط، وإنَّما تفيد في تقريب الصورة، ممَّا يساعد علىٰ التهيّؤ النفسي لظهور الإمام8، ونذكر هنا طريقين أيضاً:

الأوَّل: زيادة المعرفة المهدوية زمن الغيبة الكبرىٰ، فإنَّ لها أثراً مهمَّاً في التعرّف علىٰ الواقع المعاش وعلىٰ قرب الظهور وعلىٰ تمييز الحقّ من الباطل، كما ورد ذلك عن أهل البيت علیهم السلام في عدَّة روايات:

في كتاب الغيبة للنعماني(3)

وردت الروايات التالية:

1 _ عن زرارة بن أعين، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «ينادي منادٍ من السماء: إنَّ فلاناً هو الأمير، وينادي منادٍ: إنَّ عليَّاً وشيعته هم الفائزون»، قلت: فمن يقاتل المهدي بعد هذا؟ فقال: «إنَّ الشيطان ينادي: إنَّ فلاناً وشيعته هم الفائزون

ص: 320


1- الغيبة للنعماني: 178/ باب 10/ فصل 4/ ح 9.
2- راجع: الهداية الكبرىٰ: 404.
3- الغيبة للنعماني: 272 - 274/ باب 14/ ح 28 و31 و32.

_لرجل من بني أُميَّة_»، قلت: فمن يعرف الصادق من الكاذب؟ قال: «يعرفه الذين كانوا يروون حديثنا، ويقولون: إنَّه يكون، قبل أن يكون، ويعلمون أنَّهم هم المحقّون الصادقون».

فالرواية واضحة في أنَّ إبليس وأعوانه سيحاولون خداع الناس، وأنَّ الناس في معرض الوقوع في تلك الخُدع، ولكن الذين عندهم معرفة مسبقة بالحقِّ، سوف ينجحون في هذا الاختبار ويتجاوزونه.

وربَّما يكون قول الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف: «الذين كانوا يروون حديثنا» إشارة إلىٰ ضرورة التفقّه المعمَّق والفهم الدقيق لرواياتهم علیهم السلام.

ولعلَّه إشارة إلىٰ ضرورة استشارة الفقهاء المأمونين علىٰ الدين ممَّن ثبت كونه نائباً عامَّاً للمعصوم علیه السلام في زمن الغيبة الكبرىٰ، فيكون الرجوع إليهم عاملاً مساعداً في كشف الفتنة.

2 _ عن هشام بن سالم، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «هما صيحتان: صيحة في أوَّل الليل، وصيحة في آخر الليلة الثانية»، قال: فقلت: كيف ذلك؟ قال: فقال: «واحدة من السماء، وواحدة من إبليس»، فقلت: وكيف تُعرَف هذه من هذه؟ فقال: «يعرفها من كان سمع بها قبل أن تكون».

3 _ عن عبد الرحمن بن مسلمة الجريري، قال: قلت لأبي عبد الله علیه السلام: إنَّ الناس يُوبِّخونا ويقولون: من أين يُعرَف المحقّ من المبطل إذا كانتا؟ فقال: «ما تردّون عليهم؟»، قلت: فما نردّ عليهم شيئاً، قال: فقال: «قولوا لهم: يُصدِّق بها إذا كانت من كان مؤمناً يؤمن بها قبل أن تكون»، قال: «إنَّ الله عزوجل يقول:﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾(1)».

ص: 321


1- يونس: 35

وهنا إشارة مهمَّة جدَّاً، وهي أنَّه لا بدَّ أن تكون المعرفة من الطريق الذي رسمه لنا أهل البيت علیهم السلام، وهو طريق العلماء الذين بذلوا أنفسهم لاستنباط الأحكام الشرعية، وتداول أحاديث أهل البيت علیهم السلام، فهم صمّام الأمان للأُمَّة الإسلاميَّة لو اتَّبعناهم بصدق.

الثاني: علامات الظهور: إنَّ أهل البيت علیهم السلام ذكروا علامات حتمية لظهور الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف، وكونها علامات يعني أنَّها أُمور فارقة من خلالها يمكننا تمييز المهدي الحقّ، مع الالتفات إلىٰ أنَّ العلامات لها فائدة من جهتين:

الجهة الأُولىٰ: القطع بكذب وزيف مدَّعي المهدوية قبل وقوعها، تطبيقاً للتوقيع الشريف الأخير الذي صدر للسفير الرابع: «بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي بن محمّد السمري، أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنَّك ميّت ما بينك وبين ستَّة أيّام، فاجمع أمرك، ولا توص إلىٰ أحدٍ يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية، فلا ظهور إلَّا بعد إذن الله عزجل، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتي من يدَّعي المشاهدة، ألَا فمن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العلي العظيم»(1).

الجهة الثانية: إنَّ وقوعها مؤشِّر مهمّ لقرب ظهور الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف .

وهذا لا يعني امتناع أن يدَّعي أحد المهدوية بعد وقوع العلامات، فتكون فائدة العلامة آنذاك هو التريّث والبحث عن صدق المدَّعي بأحد الطريقين المتقدّمين.

ولذا، توجَّه البحث إلىٰ معرفة أمر لطالما سأل عنه كثير من الناس، وهو معرفة علامات الظهور.

ص: 322


1- كمال الدين: 516/ باب 45/ ح 44.
إشارة: في بعض الصفات المختصة بالإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف:

1/ عدم تغيّر هيأته وقوَّته بمرور الدهور والسنين، وخروجه يوم يخرج شاباً كأقوىٰ ما يكون الإنسان، وإن كان عمره أكبر من عمر أيّ شيخ موجود:

فعن أبي الصلت الهروي، قال: قلت للرضا علیه السلام : ما علامات القائم منكم إذا خرج؟ قال: «علامته أن يكون شيخ السنّ، شابّ المنظر، حتَّىٰ أنَّ الناظر إليه ليحسبه ابن أربعين سنة أو دونها، وإنَّ من علاماته أن لا يهرم بمرور الأيام والليالي حتَّىٰ يأتيه أجله»(1).

2/ تظليل غمامة علىٰ رأسه الشريف دائماً، وصوت من تلك الغمامة يسمعه الثقلان بأنَّ هذا مهدي آل محمّد، وبعض الروايات قالت بأنَّ المنادي بذلك الصوت هو ملك، ولا منافاة بين الروايتين كما هو واضح.

فعن الإمام الصادق علیه السلام: «... يظهر في آخر الزمان [و]علىٰ رأسه غمامة تظلّه من الشمس تدور معه حيثما دار تنادي بصوت فصيح هذا المهدي»(2).

وعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «يخرج المهدي وعلىٰ رأسه غمامة فيها منادٍ ينادي: هذا المهدي خليفة الله فاتَّبعوه»(3).

وفي رواية أُخرىٰ عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله: «يخرج المهدي وعلىٰ رأسه ملك ينادي: ألَا إنَّ هذا المهدي فاتَّبعوه»(4).

3/ يكون عليه درس رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم بخاصيته التي ذكرتها الروايات الشريفة، فقد روي عن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: قلت له: جُعلت فداك، إنّي أُريد أن

ص: 323


1- كمال الدين: 652/ باب 57/ ح 12.
2- كشف الغمَّة 3: 275.
3- كشف الغمَّة 3: 270/ ح 16.
4- الصراط المستقيم 2: 259/ ح 1.

ألمس صدرك. فقال: «افعل»، فمسست صدره ومناكبه، فقال: «ولِمَ يا أبا محمّد؟»، فقلت: جُعلت فداك، إنّي سمعت أباك وهو يقول: «إنَّ القائم واسع الصدر مسترسل المنكبين عريض ما بينهما»، فقال: «يا [أبا] محمّد، إنَّ أبي لبس درع رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وكانت تستخب علىٰ الأرض، وأنا لبستها فكانت وكانت، وإنَّها تكون من القائم كما كانت من رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم مشمرة، كأنَّه ترفع نطاقها بحلقتين، وليس صاحب هذا الأمر من جاز أربعين»(1).

وفي رواية أُخرىٰ عن الإمام الصادق علیه السلام يذكر فيها بعض مواريث الأنبياء التي ورثها أهل البيت علیهم السلام: «ولقد لبس أبي درع رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فخطَّت علىٰ الأرض خطيطاً، ولبستها أنا فكانت وكانت، وقائمنا من إذا لبسها ملأها إن شاء الله»(2).

ص: 324


1- بصائر الدرجات: 208 و209/ باب ما عند الأئمَّة من سلاح رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم.../ ح 56.
2- الكافي 1: 233/ باب ما عند الأئمَّة من سلاح رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ومتاعه/ ح 1.

المبحث السابع

اشارة

علامات الظهور(1)

شاءت إرادة المولىٰ جلَّ وعلا أن يجعل قبيل ظهور وليّ من أوليائه أو مزامناً له إرهاصات كونية ملفتة لنظر عموم الناس حتَّىٰ يستعدَّ من كان ينتظره لتفعيل مقتضىٰ انتظاره، وهذا ما وجدناه في حركات أغلب الأنبياء، فالنبيّ موسىٰ علیه السلام كانت قبله نبوءة من أتباع بلاط فرعون بأنَّ مولوداً من بني إسرائيل سيزيل ملكه، وقتل لأجل التخلّص منه أكثر من عشرين ألف مولود ذكر، ولكن شاء المولىٰ أن يعيش من يزيل ملك فرعون في بيت فرعون نفسه...(2).

والنبيّ عيسىٰ علیه السلام كانت علامة ولادته نجماً في السماء معروفاً بصفات محدَّدة، وقد تتبَّعه بعض العلماء في ذلك الزمن حتَّىٰ وصلوا إلىٰ فلسطين، وفي بيت لحم بناحية بيت المقدس، حيث وُلِدَ النبيّ عيسىٰ علیه السلام...(3).

والنبيُّ الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم صلی الله علیه وآله وسلم كذلك، حيث سقطت شرف طاق كسرىٰ، وخمدت نار فارس وهي التي لم تخمد مذ نشبت، وغارت بحيرة ساوة، وفاض وادي السماوة...(4).

ص: 325


1- انظر: شذرات مهدوية- الشيخ حسين الأسدي ص 247 - 273.
2- راجع: كمال الدين: 354/ باب 33/ ح 50.
3- راجع: سعد السعود: 553 و54.
4- عن أبان بن عثمان، عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام، قال: «كان إبليس لعنه الله يخترق السماوات السبع، فلمَّا وُلِدَ عيسىٰ علیه السلام حُجِبَ عن ثلاث سماوات، وكان يخترق أربع سماوات، فلمَّا وُلِدَ رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم حُجِبَ عن السبع كلّها، ورُميت الشياطين بالنجوم، وقالت قريش: هذا قيام الساعة الذي كنّا نسمع أهل الكتب يذكرونه، وقال عمرو بن أُميَّة، وكان من أزجر أهل الجاهلية: أُنظروا هذه النجوم التي يُهتدىٰ بها، ويُعرَف بها أزمان الشتاء والصيف، فإن كان رُمي بها فهو هلاك كلّ شيء، وإن كانت ثبتت ورُمي بغيرها فهو أمر حدث. وأصبحت الأصنام كلّها صبيحة مولد النبيّ صلی الله علیه وآله وسلم ليس منها صنم إلَّا وهو منكبٌّ علىٰ وجهه، وارتجس في تلك الليلة إيوان كسرىٰ، وسقطت منه أربعة عشر شرفة، وغاضت بحيرة ساوة، وفاض وادي السماوة، وخمدت نيران فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، ورأىٰ المؤبذان في تلك الليلة في المنام إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً، قد قطعت دجلة، وانسربت في بلادهم، وانقصم طاق الملك كسرىٰ من وسطه، وانخرقت عليه دجلة العوراء، وانتشر في تلك الليلة نور من قِبَل الحجاز، ثمّ استطار حتَّىٰ بلغ المشرق، ولم يبقَ سرير لملك من ملوك الدنيا إلَّا أصبح منكوساً، والملك مخرساً لا يتكلَّم يومه ذلك، وانتزع علم الكهنة، وبطل سحر السحرة، ولم تبقَ كاهنة في العرب إلَّا حُجِبَت عن صاحبها، وعظمت قريش في العرب، وسمّوا آل الله عزوجل»، قال أبو عبد الله الصادق علیه السلام: «إنَّما سمّوا آل الله عزوجل لأنَّهم في بيت الله الحرام». (أمالي الصدوق: 360 و361/ ح 444/1).

فهذه هي سنن ولادات الأنبياء علیهم السلام، أو قل: هذه هي علامات ظهور حركة جديدة تُغيِّر مساراً سارت عليه الأُمَّة لقرون متمادية، وتلك هي العلامات التي ينتظرها المؤمنون.

إذن، «مسألة العلامات تُمثِّل إرهاصات لظهور الحقّ، وتمهيد الناس لاستقبال الحدث المهمّ، وهو أمر جرىٰ في الأنبياء السابقين...»(1).

وهي عادةً تشير إلىٰ أُمور غير مألوفة أو غير طبيعية، وربَّما حوت بعضها علىٰ عنصر المعجزة، من شأنها أن تهزّ كيان الإنسان، وأن تُحرِّك شعوره وفضوله حول معرفة ما يجري حوله، وبالتالي الاستعداد لذلك الحدث المهمّ.

علامات الظهور قسمان:

إنَّ علامات الظهور كثيرة جدَّاً، وقد قُسِّمت إلىٰ حتمية وغير حتمية، ولكن «النبيّ صلی الله علیه وآله وسلم والأئمَّة علیهم السلام يختارون بعض الحوادث الكبرىٰ الملفتة للنظر، ممَّا يعلمون وقوعه في المستقبل، بالوحي والإلهام، فيُخبِرون به مرتبطاً بالظهور، حتَّىٰ إذا ما وقعت

ص: 326


1- مجلَّة الانتظار/ العدد 4/ ص 11.

الحادثة في الأزمان ثبت عند الجيل المعاصر لها والأجيال المتأخّرة عنها صدق هذه الأخبار بالحسِّ والوجدان...»(1).

ومن هنا، سنذكر بعضاً من مهمّ العلامات.

لعلامات الظهور فهمان:

ولكن قبل ذكر ذلك، لا بدَّ أن نعرف أنَّه يمكن فهم العلامات بنوعين من الفهم، أحدهما سمّي بالفهم الحرفي، والآخر بالفهم الرمزي، فالأوَّل يعني فهم العلامة حرفياً كما وردت في الرواية، فالدجّال والسفياني شخصان يقودان خطّ الفساد ومحاولة القضاء علىٰ حركة المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، واليماني رجل يُمثِّل خطّ الإيمان والتمهيد للمهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، والفهم الثاني يعني فهم الروايات بفهم رمزي تأويلي، وعليه يكون الدجّال والسفياني رمزين للحركات المنحرفة العاملة ضدّ المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.

وعلىٰ كلِّ حالٍ، الظاهر من الروايات الشريفة لمن اطَّلع عليها أنَّ مثل السفياني واليماني والخراساني هم شخصيات حقيقية لا رمزية، نعم، مثل الدجّال لو صحَّت رواياته فربَّما يظهر منها أنَّه يُمثِّل حركة فكرية لا شخصاً بعينه، علىٰ أنَّه يمكن حمله علىٰ الشخص الحقيقي، وعلىٰ كلِّ حالٍ، لا يهمّنا التعرّض لمثل هذه المسألة الآن.

المهمّ لنا الآن أن نتعرَّف علىٰ العلامات البارزة كما ذكرت ذلك الروايات الشريفة.

والعلامات المذكورة في الروايات كثيرة، ولكن سأُحاول هنا ذكر ما له دخل في التمحيص الإلهي والابتلاءات التي تمرُّ علىٰ المؤمن زمن الغيبة، حتَّىٰ نكون علىٰ اطّلاع بها، وبالتالي نضمن _ ولو جزئياً _ عدم الوقوع في شراكها.

وأهمّ العلامات هي ما ورد عن أبي عبد الله علیه السلام: «قبل قيام القائم خمس علامات

ص: 327


1- تاريخ الغيبة الكبرىٰ للسيّد محمّد الصدر: 443 و444.

محتومات: اليماني، والسفياني، والصيحة، وقتل النفس الزكيَّة، والخسف بالبيداء»(1).

هل من ضرورةٍ لمعرفة العلامات؟

ينبغي أن يكون واضحاً أنَّ الله تعالىٰ لم يجعل علامات الظهور بمحض الصدفة أو العبثية، وإنَّما جعلها لأهداف تربوية ونفسية، وتلك الفوائد لا يمكن لأحد أن يشعر بها إلَّا إذا اطَّلع علىٰ تلك العلامات، وهذا هو أساس الفوائد المرجوَّة من العلامات، وهذا يعني أنَّه لولا المعرفة بها، لحصلت عدَّة أُمور لا تُحمَد عقباها، وهي:

1 _ اشتباه الحقّ بالباطل، حيث إنَّ المنحرفين يحاولون تغرير البسطاء من الناس ببعض تصرّفاتهم، خصوصاً مدَّعي المهدوية.

2 _ فقدان عنصر الاستعداد النفسي والسلوكي، الذي يُعتَبر من أهمّ فوائد معرفة العلامات، بمعنىٰ أنَّ من كان يعرف العلامات، لو حدثت، فإنَّه سيعمل علىٰ تفعيل ما كان قد تجهَّز به زمن الغيبة، أو زيادة التعبئة والتهيئة عند وقوعها، أمَّا من فَقَدَ هذه المعرفة، فستمرُّ عليه تلك العلامات من دون أن تترك أيّ أثر في نفسه وسلوكه، وبالتالي لربَّما ظهر الإمام8 وهو غافل بالكلّية عنه وعن الاستعداد له.

3 _ هذا فضلاً عن أنَّ معرفتها قبل حصولها، من ِشأنه أن يكون دافعاً مهمَّاً وحافزاً قويَّاً للتدارك إذا ما حصلت، فهي بمثابة المنبّهات من الخطر، الأمر الذي يدفع إلىٰ تجنّبه.

والخطر يكمن في أن يعيش المرء حالة الفساد والانحراف إلىٰ أن يظهر الإمامعجل الله تعالی فرجه الشریف، وحينئذٍ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً(2)، إذ لعلَّ

ص: 328


1- كمال الدين: 650/ باب 57/ ح 7.
2- عن أبي بصير، قال: قال الصادق جعفر بن محمّد علیهما السلام في قول الله عزوجل:﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها﴾، «يعني خروج القائم المنتظر منّا»، ثمّ قال علیه السلام: «يا أبا بصير، طوبىٰ لشيعة قائمنا، المنتظرين لظهوره في غيبته، والمطيعين له في ظهوره، أُولئك أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون». (كمال الدين: 357/ باب 33/ ح 54).

المنحرف لا يُوفَّق للتدارك زمن الظهور، خصوصاً مع سرعة عمليات التطهير من براثن الانحراف، ممَّا نسمعه في الروايات الشريفة.

إذن، لمعرفة العلامات فوائد عديدة ظهرت، وقد عبَّرت الروايات عنها بعدَّة تعبيرات، فمرَّة يقول الإمام الصادق علیه السلام: «يعرفها من كان سمع بها قبل أن تكون»(1).

وأُخرىٰ قال علیه السلام لعبد الرحمن بن مسلمة الجريري حينما قال له: إنَّ الناس يُوبِّخونا ويقولون: من أين يُعرَف المحقّ من المبطل إذا كانتا؟ فقال: «ما تردّون عليهم؟»، قلت: فما نردّ عليهم شيئاً، قال: فقال: «قولوا لهم: يُصدِّق بها إذا كانت من كان مؤمناً يؤمن بها قبل أن تكون»، قال: «إنَّ الله عزوجل يقول:﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [يونس: 35]»(2).

إشارةٌ مهمّة:

لا يعني هذا ضرورة التعمّق الكبير والغور في أعماق معرفة العلامات، فالمهمّ هو البحث عن وتطبيق عوامل الظهور، وأمَّا علامات الظهور فهي واضحة جدَّاً بحيث لا تقبل التشكيك، فإنَّها إمَّا قائمة علىٰ الإعجاز _ كالخسف والصيحة _، وإمَّا علىٰ كونها ظواهر اجتماعية أو سياسية غريبة ملفتة للأنظار بشكل كبير، كتحرّك ثلاث قوىٰ ومن ثلاثة محاور إلىٰ مركز واحد (السفياني من الشام، واليماني من اليمن، والخراساني من بلاد المشرق إيران)، في يوم واحد باتّجاه الكوفة أو العراق عموماً)، وكقتل النفس الزكيَّة في حرم الله الآمن بين الركن والمقام.

المهمّ لنا الآن أن نتعرَّف علىٰ العلامات البارزة كما ذكرت ذلك الروايات الشريفة.

والعلامات المذكورة في الروايات كثيرة، ولكن سأُحاول هنا ذكر ما له دخل في

ص: 329


1- الغيبة للنعماني: 273 و274/ باب 14/ ح 31.
2- الغيبة للنعماني: 274/ باب 14/ ح 32.

التمحيص الإلهي والابتلاءات التي تمرُّ علىٰ المؤمن زمن الغيبة، حتَّىٰ نكون علىٰ اطّلاع بها، وبالتالي نضمن _ ولو جزئياً _ عدم الوقوع في شراكها.

وأهمّ العلامات هي ما ورد عن أبي عبد الله علیه السلام : «قبل قيام القائم خمس علامات محتومات: اليماني، والسفياني، والصيحة، وقتل النفس الزكيَّة، والخسف بالبيداء»(1).

العلامة الأُولى والثانية: السفياني والخسف في البيداء:
اشارة

يعتبر السفياني من البلاءات والاختبارات الصعبة التي تمرُّ بها الأُمَّة الإسلاميَّة المؤمنة علىٰ مشارف الظهور، ويمكن متابعة حركته من خلال ثلاثة مواقف متسلسلة تاريخياً:

الموقف الأوَّل: مبدأ ظهوره وتحرّكه:

تُحدِّثنا الروايات الشريفة بالتالي:

عن عيسىٰ بن أعين، عن أبي عبد الله علیه السلام أنَّه قال: «السفياني من المحتوم، وخروجه في رجب، ومن أوَّل خروجه إلىٰ آخره خمسة عشر شهراً، ستَّة أشهر يقاتل فيها، فإذا ملك الكور الخمس ملك تسعة أشهر، ولم يزد عليها يوماً»(2).

إشارة مهمَّة جدَّاً:

يظهر من الأخبار أنَّه حين يتوجَّه إلىٰ العراق والكوفة، فإنَّه يقع قتلاً بشيعة علي علیه السلام، فعن عمر بن أبان الكلبي، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «كأنّي بالسفياني أو لصاحب السفياني قد طرح رحله في رحبتكم بالكوفة، فنادىٰ مناديه: من جاء برأس [رجل من] شيعة علي فله ألف درهم، فيثبُ الجار علىٰ جاره يقول: هذا منهم، فيضرب عنقه ويأخذ

ص: 330


1- كمال الدين: 650/ باب 57/ ح 7.
2- الغيبة للنعماني: 310/ باب 18/ ح 1.

ألف درهم. أمَا إنَّ إمارتكم يومئذٍ لا تكون إلَّا لأولاد البغايا...»(1).

ولكن ينبغي الالتفات إلىٰ أنَّ أصل خروج السفياني هو من الأُمور الحتمية كما نصَّت الروايات علىٰ ذلك، ولكنَّ هذا لا يعني أنَّه إذا خرج فإنَّ علينا أن نخنع له، وأن نستسلم له، وأن ننتظر سيفه ليصل إلىٰ أعناقنا، كلَّا أبداً، إنَّ هذه الفكرة هي ما يحاول البعض أن يقنع بها الشيعة والمنتظرين، ممَّا يُولِّد الخوف والفزع عندهم من السفياني، والحال أنَّه يمكن أن نقول التالي:

1 _ إنَّ أهل البيت علیهم السلام حينما ذكروا لنا ما يفعله السفياني بالشيعة، لا يعني هذا أنَّهم يأمروننا بأن نستسلم لهذا الأمر، وإنَّما يعني أنَّهم يريدون تحذيرنا منه، ممَّا يعني أنَّهم يدعوننا إلىٰ أخذ الحيطة والحذر منه، وإلىٰ الاستعداد تمام الاستعداد لتحرّكه في أيّ وقت.

2 _ وهذا يعني أنَّه لو اتَّحد المؤمنون يداً واحدة، ووقفوا ضدّ أطماع السفياني التوسّعية، وانضووا تحت لواء قياداتهم المخلصة ومرجعياتهم الدينية، لأمكن أن يقفوا في وجه السفياني، وأن يمنعوه من إيقاع القتل والتشريد فيهم.

3 _ إذن، لا ينبغي للمؤمن أن يعيش حالة الخوف والفزع من السفياني بقدر ما يلزم عليه أن يُهيّئ نفسه لمواجهته في أيَّة لحظة.

الموقف الثاني: بعثه بالجيش خلف المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف والخسف به:

يظهر من بعض الروايات أنَّ السفياني إذا ظهر في الشام وملك كورها الخمسة، فإنَّه سيعلم _ من طريق جواسيسه المنتش-رين في بقاع الأرض _ أنَّ ثمَّة ظهوراً جزئياً للمهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف في المدينة، فيبعث السفياني بجيش ليقتله، ولكن الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف يخرج إلىٰ مكّة، فيصل الجيش ويعلم بذلك، فيتبعه، ولكن مكّة حرم الله الآمن، والمهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف هو الموعود لتطبيق الوعد الإلهي، فتقتضي الحكمة الإلهية أن يُخسَف بذلك الجيش في البيداء، ولا

ص: 331


1- الغيبة للطوسي: 450/ ح 453.

ينجو منه إلَّا المخبر عن ذلك الخسف.

ويظهر أيضاً أنَّ ذلك الجيش فيه بعض من كره قتال المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، ولكنَّه خرج مكرهاً، وسيشمله الخسف، ولكن في يوم القيامة سيُحاسب علىٰ نيَّته الواقعية.

عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «يعوذ عائذ بالبيت، فيبعث إليه بعث، فإذا كان ببيداء من الأرض يُخسَف بهم»، فقلنا: يا رسول الله، فكيف بمن كان كارهاً؟ قال: «يُخسَف به معهم، ولكنَّه يُبعَث يوم القيامة علىٰ نيَّته»(1).

الموقف الثالث: القضاء عليه:

بعد حصول الخسف بجيش السفياني، تحصل عنده حجَّة واضحة بأنَّ الحقّ مع المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، فيقرُّ بذلك، ويلتقي بالإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف في الكوفة، وفي محاولة من الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف لهدايته، يبايعه السفياني، ولكنَّها بيعة لا عن اعتقاد قلبي راسخ، وإنَّما عن خوف وفرق منه8، ولذلك حينما يرجع إلىٰ أخواله _ وهم قبيلة كلب _ يُعيِّرونه بذلك، فينكث بيعته، فيقاتل المهدي، فيقتله الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف، وبذلك تنتهي حركة السفياني إلىٰ الأبد.

عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر علیه السلام، قال: «إذا بلغ السفياني أنَّ القائم قد توجَّه إليه من ناحية الكوفة، يتجرَّد بخيله حتَّىٰ يلقىٰ القائم، فيخرج فيقول: أُخرجوا إليَّ ابن عمّي، فيخرج عليه السفياني فيُكلِّمه القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف، فيجيء السفياني فيبايعه، ثمّ ينصرف إلىٰ أصحابه، فيقولون له: ما صنعت؟ فيقول: أسلمت وبايعت، فيقولون له: قبَّح الله رأيك، بين ما أنت خليفة متبوع فصرت تابعاً، فيستقبله فيقاتله، ثمّ يمسون تلك الليلة، ثمّ يصبحون للقائم عجل الله تعالی فرجه الشریف بالحرب، فيقتتلون يومهم ذلك. ثمّ إنَّ الله تعالىٰ يمنح القائم وأصحابه أكتافهم، فيقتلونهم حتَّىٰ يفنوهم، حتَّىٰ أنَّ الرجل يختفي في الشجرة

ص: 332


1- صحيح مسلم 8: 167.

والحجرة، فتقول الشجرة والحجرة: يا مؤمن، هذا رجل كافر فاقتله، فيقتله...»(1).

وتكشف لنا الروايات المتقدمة عن:

1/ أن باب التوبة مفتوحٌ زمن الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف.

2/أنَّ الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف رجلُ سلامٍ غيرُ مُحبٍّ للقتل والدماء، يشبه في ذلك جده المصطفى صلی الله علیه وآله وسلم؛ إذ كلاهما أُرسِل رحمةً للعالمين.

العلامة الثالثة: اليماني:
اشارة

وهو من الشخصيات التي تعمل علىٰ تمهيد الأوضاع للإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، خصوصاً في ما يتعلَّق بمجابهة حركة السفياني، ويبدو أنَّه «نطلق من اليمن إثر أنباء قادمة من الكوفة بتوجّه السفياني إليها، وهو صاحب حركة إصلاحية تتَّخذ اليمن معقلاً لها تهدف إرجاع الناس إلىٰ الحقّ...»(2).

ويظهر من الروايات أنَّ اليماني يبدأ حركته متزامناً مع حركة السفياني، ليوقف من مدّ جذوره في الكوفة، وكذلك متزامناً مع تحرّك الخراساني، الذي يعمل أيضاً علىٰ إيقاف تحرّكات السفياني والقضاء عليه.

ولا يخفىٰ ما لهاتين الحركتين من أثر مهمّ يومذاك في مجابهة السفياني، فالخراساني من الشرق (إيران)، واليماني من الجنوب الغربي (اليمن)، فيُطوِّقان حركة السفياني ويوقفانها في الكوفة، ويحدّان من توسّعها لغير العراق.

وعموماً، فالذي يظهر من الروايات هو أنَّ هناك ثورة عارمة ستحدث في اليمن علىٰ يدي شخص سمَّته باليماني، وهي راية هدىٰ، «بل تصفها عدَّة روايات بأنَّها أهدىٰ

ص: 333


1- بحارالأنوار 52: 388/ ح 206.
2- موجز دائرة معارف الغيبة: 186.

الرايات في عصر الظهور علىٰ الإطلاق...»(1).

قال الإمام الباقر علیه السلام: «خروج السفياني واليماني والخراساني في سنة واحدة، في شهر واحد، في يوم واحد، نظام كنظام الخرز يتبع بعضه بعضاً، فيكون البأس من كلّ وجه، ويل لمن ناواهم، وليس في الرايات راية أهدىٰ من راية اليماني، هي راية هدىٰ، لأنَّه يدعو إلىٰ صاحبكم، فإذا خرج اليماني حرم بيع السلاح علىٰ الناس وكلّ مسلم، وإذا خرج اليماني فانهض إليه فإنَّ رايته راية هدىٰ، ولا يحلُّ لمسلم أن يلتوي عليه، فمن فعل ذلك فهو من أهل النار، لأنَّه يدعو إلىٰ الحقّ وإلىٰ طريق مستقيم»(2).

عن سيف بن عميرة، عن بكر بن محمّد الأزدي، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «خروج الثلاثة: الخراساني والسفياني واليماني في سنة واحدة في شهر واحد في يوم واحد، وليس فيها راية بأهدىٰ من راية اليماني، يهدي إلىٰ الحقّ»(3).

أسئلة وأجوبة مفيدة

أسئلة وأجوبة مفيدة(4):

السؤال الأوَّل: ما هي مقوّمات وأُسس معرفة اليماني التي هي غير واضحة عندنا.

الجواب:

أوَّلاً: كون اليماني لا يخرج عن بديهيات المذهب الجعفري، ولا يخالف ضروريات المذهب من عدم مخالفة الحجَّة الشرعية في زمن الغيبة الكبرىٰ وهم الفقهاء العدول، وهذا ما أمر به أهل البيت علیهم السلام من انحصار طريق أخذ التكليف الشرعي من طريق الفقهاء.

ص: 334


1- عصر الظهور للشيخ علي الكوراني العاملي: 113.
2- الغيبة للنعماني: 264/ باب 14/ ح 13.
3- الغيبة للطوسي: 446 و447/ ح 443.
4- مستفادة من مركز الدراسات التخصّصية في الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.

أو كونه منهم حقيقة لا مجرَّد ادِّعاء، وهذا أهمّ أمر، علماً أنَّه لم يرد في الروايات أنَّه من فقهاء وعلماء الطائفة.

ثانياً: خروجه من اليمن.

ثالثاً: التزامن الواحد في الخروج بين اليماني والخراساني والسفياني، فقد ورد عن الإمام الباقر علیه السلام: «خروج السفياني واليماني والخراساني في سنة واحدة، في شهر واحد، في يوم واحد، نظام كنظام الخرز يتبع بعضه بعضاً»(1).

السؤال الثاني: من هو اليماني في عصرنا؟

الجواب:

ليس اليماني ولا السفياني ولا الخراساني شخصية مستنسخة يمكن أن نُوجِد لها شاخصاً في كلّ عصر حتَّىٰ يصحَّ السؤال عن من هو اليماني في عصرنا.

وكأنَّ اليماني في العصور الماضية كان شخصية أُخرىٰ وفي عصرنا هذا شخصية ثانية وفي عصر الظهور شخصية ثالثة، كلَّا، فإنَّ اليماني هو شخصية واحدة تظهر قبيل ظهور الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، ويواكب ظهوره ظهور كلّ من الخراساني والسفياني، كما في تعبير الروايات: «اليماني والسفياني كفرسي رهان»(2)،

وأنَّ رايته أهدىٰ الرايات الثلاث.

السؤال الثالث: إذا ظهر اليماني بعد السفياني هل يجب علينا وإن كنّا في كلّ مكان من العالم الالتحاق به؟

الجواب:

ورد في الروايات ما يمكن أن يدلَّ علىٰ لزوم اتّباع اليماني وحرمة الالتواء عليه، فعن الإمام الباقر علیه السلام أنَّه قال: «خروج السفياني واليماني والخراساني في سنة واحدة، في شهر

ص: 335


1- الغيبة للنعماني: 264/ باب 14/ ح 13.
2- الغيبة للنعماني: 316 و317/ باب 18/ ح 15.

واحد، في يوم واحد، نظام كنظام الخرز، يتبع بعضه بعضاً، فيكون البأس من كلّ وجه، ويل لمن ناواهم، وليس في الرايات راية أهدىٰ من راية اليماني، هي راية هدىٰ، لأنَّه يدعو إلىٰ صاحبكم، فإذا خرج اليماني حرم بيع السلاح علىٰ الناس وكلّ مسلم، وإذا خرج اليماني فانهض إليه فإنَّ رايته راية هدىٰ، ولا يحلُّ لمسلم أن يلتوي عليه، فمن فعل ذلك فهو من أهل النار، لأنَّه يدعو إلىٰ الحقّ وإلىٰ طريق مستقيم»(1).

هذا، ولكن الرواية يمكن المناقشة في صحَّة سندها، بالإضافة إلىٰ أنَّ معنىٰ عدم الالتواء هو عدم معاداته ومحاربته، وهذا غير الالتحاق به.

علىٰ أنَّ النص-رة تختلف باختلاف الزمان والمكان وقدرات الشخص، فلعلَّ نصرة رجل يعيش في اليمن تتحقَّق بالالتحاق بجيش اليماني، ولكن نصرة رجل يعيش في بلاد الهند أو السند تكون بتأييده قلباً وذكره لساناً.

علىٰ أنَّ القاعدة في مثل هذه الحالة هو الرجوع إلىٰ المراجع الذين أُمرنا باتّباع أوامرهم في زمن الغيبة الكبرىٰ.

العلامة الرابعة: الصيحة:

ذكرت الروايات أنَّه ستحصل حادثة غريبة من نوعها، تكون المعجزة سِمتُها الظاهرة، عبَّرت عنها الروايات الشريفة بعدَّة تعبيرات، كالصيحة والفزعة والنداء في السماء، حيث يظهر من الروايات «أنَّ أخبار الصيحة والفزعة وأخبار النداء بأقسامها تشير إلىٰ معنىٰ مشترك وحادثة واحدة، لا اختلاف فيها وإن تعدَّدت أساليب الأخبار، ولا تعارض بينها في الحقيقة...»(2).

وخلاصة هذه العلامة هي: في الليلة الثالثة والعشرين _ ليلة جمعة _ من شهر

ص: 336


1- الغيبة للنعماني: 264/ باب 14/ ح 13.
2- تاريخ ما بعد الظهور للسيّد محمّد الصدر: 130.

رمضان، سينادي جبرئيل علیه السلام بالحقّ: أنَّ الحقَّ مع آل محمّد عموماً ومع قائمهم عجل الله تعالی فرجه الشریف خصوصاً، وحينئذٍ سيحصل فزع عظيم، بحيث يصل إلىٰ كلّ من علىٰ وجه البسيطة، وستفزع حتَّىٰ الفتاة الحيية من خدرها، ويعلم الجميع بالحقّ، فتخضع رقاب الظالمين وأعداء الله تعالىٰ، لأنَّ إعلامهم المنحرف ضدّ القضيَّة المهدوية سيذهب أدراج الرياح بسبب ذلك النداء الإعجازي(1)، وستكون هذه العلامة أقرب العلامات نسبياً للظهور المبارك، إذ أنَّها تحصل في شهر رمضان، والظهور سيكون في محرَّم الحرام. وسيكون لذلك النداء أثر مهمّ في قيام ذكر المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف علىٰ ألسنة الناس، حتَّىٰ يُشربوا حبَّه، وسيكون موضوع الساعة _ كلّ ساعة _ هو الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.

والروايات في هذا المجال عديدة، نذكر منها:

عن الحارث بن المغيرة، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «الصيحة التي في شهر رمضان تكون ليلة الجمعة لثلاث وعشرين مضين من شهر رمضان»(2).

وعن الإمام الباقر علیه السلام: «الصيحة لا تكون إلَّا في شهر رمضان، لأنَّ شهر رمضان شهر الله، والصيحة فيه هي صيحة جبرائيل إلىٰ هذا الخلق»، ثمّ قال: «ينادي منادٍ من السماء باسم القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف فيسمع من بالمشرق ومن بالمغرب، لا يبقىٰ راقد إلَّا استيقظ، ولا قائم إلَّا قعد، ولا قاعد إلَّا قام علىٰ رجليه فزعاً من ذلك الصوت، فرحم الله من اعتبر بذلك الصوت فأجاب، فإنَّ الصوت الأوَّل هو صوت جبرئيل الروح الأمين علیه السلام»، ثمّ قال علیه السلام: «يكون الصوت في شهر رمضان في ليلة جمعة ليلة ثلاث وعشرين فلا تشكّوا في ذلك، واسمعوا وأطيعوا...، فإذا سمعتم الصوت في شهر رمضان فلا تشكّوا فيه

ص: 337


1- وكون النداء إعجازياً يمنع من صدور نداء معارض بأنَّ الحقّ مع (آل فلان) كما عبَّرت بعض الروايات، اللّهمّ إلَّا أن يُحمَل النداء علىٰ معنىٰ طبيعي، والتفاصيل في تاريخ الغيبة الكبرىٰ: 131 و132.
2- كمال الدين: 650/ باب 57/ ح 6.

أنَّه صوت جبرئيل، وعلامة ذلك أنَّه ينادي باسم القائم واسم أبيه علیهم السلام حتَّىٰ تسمعه العذراء في خدرها فتُحرِّض أباها وأخاها علىٰ الخروج...»(1).

وأخرج ابن طاووس ; عن أبو نعيم بإسناده عن علي علیه السلام، قال: «إذا نادىٰ منادٍ من السماء أنَّ الحقَّ في آل محمّد، فعند ذلك يظهر المهدي علىٰ أفواه الناس، ويشربون حبَّه، فلا يكون لهم ذكر غيره»(2).

والصيحة أوضح العلامات على الإطلاق؛ وذلك لمواصفاتها الواضحة:

1/صوتٌ من السماء.

2/في ليلةٍ معينةٍ ومحددة ليلة الجمعة ليلة 23 من شهر رمضان وهي ليلة القدر.

3/يسمعها كلُّ الناسِ كلٌّ بلغته.

4/كونها مُفزعة.

5/ وأنَّ من كان عالمًا بهذه الصيحة فإنه يستطيع أنْ يُميّزها عن صيحة الباطل الأخرى التي تم ذكرها سابقاً.

العلامة الخامسة: قتل النفس الزكية:

بعد أن يلجأ المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف إلىٰ مكّة، ويخسف بجيش السفياني، يقبل أصحاب المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف عليه ويقترحون أن يعلن ظهوره ويبدأ بحركته المباركة في مكّة، فيجيبهم بأنَّ أهل مكّة لا ينصرونه، ولكن من باب إلقاء الحجَّة، ورجاء هدايتهم أو هداية بعضهم، فإنَّه يُرسِل بعض المؤمنين من خاصَّته _ وهو الذي سمَّته الروايات بالنفس الزكيَّة _ ليدعوهم إلىٰ نصرته، فيطيع أمره، ويذهب إلىٰ مكّة، وعند بيت الله الحرام يخطب بهم

ص: 338


1- الغيبة للنعماني: 262 و263/ باب 14/ ح 13.
2- الملاحم والفتن لابن طاووس: 129/ ح 136.

ويدعوهم لنصرة المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، ولكن أهل مكّة يقتلونه في حرم الله الآمن، ليقترفوا بذلك أنواعاً من المعاصي في آنٍ واحد، هي:

1 _ هتك حرمة البيت الحرام، الذي اعتبره القرآن الكريم حرماً آمناً.

2 _ قتل النفس المحرَّمة بدون حقّ، قال تعالىٰ:﴿مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرضِ لَمُسْرِفُونَ﴾(1)

3 _ رفض نصرة المظلومين، وقد قال النبيُّ صلی الله علیه وآله وسلم: «من أصبح لا يهتم بأُمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع رجلاً ينادي: يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم»(2).

ولا يخفىٰ أنَّ قتل أهل مكّة إيّاه إعلان منهم لمعارضة حركة المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وتمرّدهم عليه، وهذا ما يحدو به عجل الله تعالی فرجه الشریف لتطهيرها بداية ظهوره، ولعلَّ تسميته بالنفس الزكيَّة لبراءته وكونه يُقتَل مظلوماً، وقد ورد هذا التعبير في القرآن الكريم:﴿أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً﴾(3)،

أي بريئة من الذنب، كما عليه المفسِّرون(4).

هذا وتُحدِّثنا الروايات الشريفة أنَّ ظهور المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف التامّ سيكون بعد مقتل النفس الزكيَّة بخمس عشرة ليلة، لتكون هذه العلامة أقرب العلامات للظهور المبارك.

عن أبي جعفر علیه السلام في حديث طويل إلىٰ أن قال: «يقول القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف لأصحابه: يا قوم، إنَّ أهل مكّة لا يريدونني، ولكنّي مرسل إليهم لاحتجَّ عليهم بما ينبغي لمثلي أن يحتجَّ

ص: 339


1- المائدة: 32.
2- الكافي 2: 164/ باب الاهتمام بأُمور المسلمين والنصيحة لهم ونفعهم/ ح 5.
3- الكهف: 74.
4- موجز دائرة معارف الغيبة: 173.

عليهم. فيدعو رجلاً من أصحابه، فيقول له: امض إلىٰ أهل مكّة، فقل: يا أهل مكّة، أنا رسول فلان إليكم وهو يقول لكم: إنّا أهل بيت الرحمة، ومعدن الرسالة والخلافة، ونحن ذرّية محمّد وسلالة النبيّين، وأنّا قد ظلمنا واضطهدنا وقهرنا وابتزَّ منّا حقّنا منذ قُبِضَ نبيّنا إلىٰ يومنا هذا، فنحن نستنصركم فانصرونا. فإذا تكلَّم هذا الفتىٰ بهذا الكلام، أتوا إليه فذبحوه بين الركن والمقام، وهي النفس الزكيَّة، فإذا بلغ ذلك الإمام قال لأصحابه: ألَا أخبرتكم أنَّ أهل مكّة لا يريدوننا...»(1).

وعن صالح مولىٰ بني العذراء، قال: سمعت أبا عبد الله الصادق علیه السلام يقول: «ليس بين قيام قائم آل محمّد وبين قتل النفس الزكيَّة إلَّا خمسة عشر ليلة»(2).

ص: 340


1- بحار الأنوار 52: 307/ ح 81.
2- كمال الدين: 649/ باب 57/ ح 2.

المبحث الثامن

اشارة

أسئلةٌ حول الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف

السؤال الأول: ما هو سلاح الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف إذا ظهر؟

الجواب:

لقد وردت روايات عديدة تصرح بأن الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف سيقوم بالسيف، من قبيل التالي:

عن المفضل بن عمر، قال: «قلت لأبي عبد الله علیه السلام: ما علامة القائم؟ قال: إذا استدار الفلك، فقيل: مات أو هلك، في أي واد سلك؟ قلت: جعلت فداك، ثم يكون ماذا؟ قال: لا يظهر إلا بالسيف».(1)

وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السلام أنه قال: «ما تستعجلون بخروج القائم، فوالله ما لباسه إلا الغليظ، ولا طعامه إلا الجشب، وما هو إلا السيف، والموت تحت ظل السيف».(2)

وهذا النوع من اللباس والطعام خاص بالإمام علیه السلام، أما رعيته فسيلعقهم العسل ولا يتعامل معهم بالشدة، إلا جيشه؛ لأنه يريد منهم رباطة الجأش.

ولكن ما المقصود بالسيف؟ هل هو هذا السيف الحقيقي؟ أي الآلة الحديدية، أو إنَّ كلمة السيف رمزٌ يراد به غير المعنى الموضوع له؟

ص: 341


1- كتاب الغيبة - محمد بن إبراهيم النعماني - ص 158 – 159 الباب 10 الحديث 19.
2- نفس المصدر ص 238 – 239 الباب 13 الحديث 20.

لا شك أن القرآن الكريم والرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وأهل البيت علیهم السلام كانت لهم طريقة معينة في إلقاء الخطابات الشرعية وروايات المستقبل، وتلك الطريقة لا شك أنها اتصفت بالخطاب الذي يتناسب مع أفهام المخاطبين وحدودهم العلمية، وإن كانت هناك في بعض الأحيان إشارات لمفاهيم ومعانٍ علمية مستقبلية أوسع بكثير مما كان يفهمه المخاطبون في عصر النص.

ولكن الطريقة العامة والمتعارفة في تلك الخطابات هي أن تكون متناسبة مع المستوى العلمي للمخاطبين.

وعلى هذا شواهد عديدة، نذكر منها:

عن الإمام الصادق علیه السلام: «ما كلَّم رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم العباد بكنه عقله قطُّ»، وقال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «إنّا معاشر الأنبياء أُمِرْنا أن نُكلِّم الناس علىٰ قدر عقولهم»(1).

وقال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «لا تحدثوا أمتي من أحاديثي إلا بما تحمله عقولهم».(2)

ومن هنا نجد أن الروايات الشريفة ذكرت أسلحة البر والبحر، ولم تذكر سلاح الجو رغم أن المتكلم عالم بما ستؤول إليه حالة الأسلحة وتطورها.

ومن هذا القبيل ورد في الصحيح أنّ رجلاً من أهل الشام سأل الإمام الحسن علیه السلام:...كم بين المشرق والمغرب؟ فقال: بين المشرق والمغرب مسيرة يوم للشمس تنظر إليها حين تطلع من مشرقها وحين تغيب من مغربها.(3)

فنحن نعتقد أن الإمام علیه السلام –باعتبار عصمته وعلمه اللدني- يعلم مقدار المسافة بالميل أو بالكيلو متر مثلاً وبالدقة، ولكنه8 لم يذكر المسافة إلا بما يفهمه الناس

ص: 342


1- الكافي للكليني 1: 23/ كتاب العقل والجهل/ ح 15.
2- كنز العمال للمتقي الهندي ج10 ص 242 ح 29284.
3- الشيخ الصدوق في الخصال:441 ضمن ح33 باب العشرة.

والسائل آنذاك.

ومن هنا، يتضح لنا جلياً السبب في تعبير أهل البيت علیهم السلام عن سلاح الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف بأنه يخرج بالسيف، فما ذاك إلا لأن السيف هو رمز القوة والغلبة على مر العصور.

وإلا فتصوروا دهشة وحيرة أصحاب الأئمة علیهم السلام في ذلك العصر لو كان أهل البيت علیهم السلام أخبروهم بأن المهدي يخرج مثلاً بدبابة من طراز كذا! أو أن عنده مسدس ليزر قدرته كذا! أو أن طائراته أسرع من لمح البصر!

وبعبارة واضحة: نحن نعتقد أن الإمام صلوات الله عليه سيظهر بأسلحة أقوى بكثير مما هو معروف اليوم، أسلحة لا تقاوم ما هو موجود اليوم وحسب، وإنما تنتصر عليه أيما انتصار.

أما أنه يرجع إلى عصر السيف (بالمعنى الحقيقي) فهو رجوع بالحضارة إلى الوراء، وهو مما لا يتناسب مع عصر العلم الذي سيفجره الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف بصورة لم يسبق لها مثيل، فقد ورد عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «العلم سبعة وعشرون حرفا فجميع ما جاءت به الرسل حرفان فلم يعرف الناس حتى اليوم غير الحرفين، فإذا قام القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف أخرج الخمسة والعشرين حرفاً، فبثّها في الناس، وضمّ إليها الحرفين، حتى يبثَّها سبعة وعشرين حرفا».(1)

وعن جابر قال: «قال أبو جعفر علیه السلام في قول الله تعالى ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾(2)قال:

«ينزل في سبع قباب من نور لا

ص: 343


1- مختصر بصائر الدرجات - الحسن بن سليمان الحلي - ص 117.
2- البقرة 210.

يعلم في أيها هو حين ينزل في ظهر الكوفة، فهذا حين ينزل».(1)

وقال أبو جعفر علیه السلام «إنه نازل في قباب من نور حين ينزل بظهر الكوفة».(2)

وهكذا ما قد يقال من إنه عندما يخرج بالسيف فإنه وبإشارة واحدة من سيفه فإنه سيوقف جميع أجهزة الاتصالات، وسيوقف عمل جميع الأسلحة، ولو أطلقت عليه قوة غاشمة صاروخاً، فإنه سيرجعه على المنصة التي انطلق منها بإشارة من سيفه، فكل ذلك هو مجرد تخرصات وكلام مضحك للثكلى وألفاظ لا دليل عليها أبداً، ولا يعني هذا أننا لا نعتقد بامتلاك الإمام علیه السلام لتلك القدرة، كلا، بل هو صاحب الولاية التكوينية بلا أدنى ريب، ولكن هذا مما لا دليل عليه ولا داعي له، وهو خروج عن النظام العام للدنيا ولحركة الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف الذي هو نظام الأسباب والمسببات الطبيعية، وأن العصمة استثناء من هذا النظام.

فالأولى إذن والصحيح أن نلتزم بالنتيجة التي انتهينا إليها.

وهو ما عليه المحققون من العلماء.

وقال السيد محمد الصدر رحمه الله: «من الواضح بالضرورة أن المهدي يستعمل سلاح عصره ولا معنى لاستعمال سلاح آخر...».(3)

وقال الشيخ خليل رزق: «لا بد من حمل السيف على المعنى الرمزي الذي يراد به أي سلاح»(4)

ص: 344


1- تفسير العياشي - محمد بن مسعود العياشي - ج 1 - ص 103 الحديث 301.
2- نفس المصدر الحديث 303.
3- تاريخ ما بعد الظهور ص 404.
4- الإمام المهدي واليوم الموعود ص 93.
إشارة:

إذا أبى البعض إلا التمسك بظاهر الروايات الواردة في السيف، فيمكن القول:

إن الإمام علیه السلام سيظهر بالسيف حقيقة – سيف ذي الفقار- ولكنه يظهر به من باب أنه من المواريث المهمة لديه، للدلالة على ارتباط قيامه المبارك بأمير المؤمنين علیه السلام الذي يمثل الإسلام المحمدي الأصيل، فيقوم بأحدث التقنيات، لكنه يرتدي ذلك السيف، وهذا الأمر طبيعي جداً، بل نرى اليوم أن الكثير من الرؤساء من يرتدي شيئاً يمثل ارتباطه بقوميته أو بدينه أو حتى ببلده، رغم امتلاكه أنواع الأسلحة الحربية للقتال.

السؤال الثاني: هل المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف قاتلٌ سفاح وقصّاب أرواح؟ أو هو داعيةُ سلام؟!

الجواب:

عندما نطالع الروايات في قضية الإمام المهدي سلام الله عليه نجد أنَّ هناك كمًا من الروايات أشارت إلى أنَّ الإمام علیه السلام سيستعمل السيف، أي سيقتل عدة طوائف من الناس، فاستغلها البعض في توظيفها لتصوير الإمام علیه السلام كرجل محب للدماء، مُزهق للأرواح، لا رحمة في قلبه، لا همَّ له إلا استئصال الآخر، فهل هذا الأمر صحيح؟

للجواب بصورةٍ واضحةٍ جليّة، نذكر عدةِ خطوات:

الخطوة الأولى: ركائز الدولة إداريًا.
اشارة

إنَّ قيام أيّ دولةٍ يحتاج إلى ثلاث ركائز بعد الفراغ عن ضرورة وجود القائد والجمهور، وهذه المسألة ليس لها علاقة بالدين أو الشريعة بمعنى أنَّها قضية عقلائية:

1/السلطة التشريعية

ومهمتها تشريع الأحكام وسنِّ القوانين التي تحكم الدولة، وكذلك تشريع الجزاءات المناسبة لموافقة أو مخالفة تلك التشريعات، كقانون المرور مثلًا.

ص: 345

2/السلطة التنفيذية.

ومهمتها تنفيذ القوانين، ولأنَّ القوانين تقيد السلوك البشري ضمن إطارها، وتمنع من ارتكاب المخالفات والجرائم التي تنزع ضعاف النفوس إلى ممارستها، احتيج إلى جهازٍ يكفل تنفيذ القوانين بالقوة، وتقديم من لا يلتزم بها من الشعب إلى القضاء؛ لينال جزاءه العادل، وهو جهاز الشرطة مثلاً. والسلطة التنفيذية مهمة؛ إذ لا فائدةٍ تُرجى من القوانين إنْ لم تُنفّذ.

3/السلطة القضائية.

ومهمتها إرجاع الأمور الى نصابها عند حدوث خرقٍ للقانون، فمن أمن العقاب أساء الأدب.

فهي نوع من التدخلات الإجرائية والعملية عند حدوث خرق للقانون أو تطاول عليه، من أجل إرجاع الأمور إلى نصابها.

ولا ينفرد القانون الوضعي بالنص على هذه السلطة، ودورها في إصدار الأحكام والعقوبات على من يخالفه، بل القانون الإلهي ينص على ذلك أيضًا، وإلا فما خلق الله عزوجل نار جهنم إلا لهذا الغرض، ولولاها لترك جُلَّ الناس طاعته عزوجل، ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾.(1)

ولكن عندما علم الأنسان أنَّ هناك مراقبة وملائكة تسجل كلَّ ما يقوم به بل وتنسخه، وأنَّ هناك حساباً أخروياً، حينها علم أنَّ عليه عدم المخالفة.

وهذا أمرٌ عقلائي، ولا تقوم دولة منظمة من دون هذه الركائز الثلاثة، ونتيجة لهذا الأمر نقول التالي:

ص: 346


1- المؤمنون 37.

إنَّ الروايات وإنْ ذكرت أن الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف سيقوم ببعض الحروب وبقتل بعض الاصناف من الناس، إلا أن هذا لا يخرج من الإطار العقلائي لإقامة الدولة، فبالنتيجة فإن الإمام علیه السلام لديه تشريعات ويريد أن يقيمها، فمن قام بالمخالفة يجب أن يحاسب وفق إجراءات عملية، والتي اسماها الإسلام (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وبهذا هو لم يخرج عن الإسلام حيث ان الإسلام امرنا بذلك في رواية «أُمرت أن أُقاتل الناس حتَّىٰ يقولوا: لا إله إلَّا الله، فإذا قالوها فقد حرم عليَّ دماؤهم وأموالهم»(1)، ووضع القوانين تحت عنوان (القصاص والحد والتأديب وما الى ذلك)، وعليه فإن الإمام علیه السلام غير خارج عن الإطار العقلائي ولا الإسلامي لإقامة الدولة.

الخطوة الثانية: لماذا يخاف البعض من ظهور الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف؟

إذا كانت المسالة عقلائية إلى هذه الدرجة، فلماذا نجد أنَّ بعض الناس -سواء أأظهروا هذا الأمر أم أبقوه في كامن شعورهم- يتصورون أنَّ الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف عندما يخرج لا يكون له همٌ إلا القتل والذبح والتشريد؟

وهذا نجده حتى في بعض الأوساط الشيعية -- مع بالغ الأسف --، إذ بمجرد أنْ يُذكر الإمام علیه السلام عند البعض، تتوارد هذه الأفكار السلبية، ولا يحضر تصور أنَّ الإمام سيأتي كما أتى جده المصطفى (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) رحمةً للعالمين، وأنّه سيبني مدينة سلامٍ وجنةً على الأرض، فلا يستحضر النظرة الإيجابية، وإنّما بعض مهمٌّ من الناس في اللاشعور يرى الجانب السلبي فقط؛ لذلك يخاف من ظهور الإمام علیه السلام، فما سبب هذا الشعور الداخلي لديه، وتلك النظرة؟

الجواب:

من الممكن تصور عدة أسباب وراء هذه النظرة السلبية تجاه الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف،

ص: 347


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 65/ ص 242): عن عليٍّ علیه السلام، قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم...

وأهمها:

1/الجهل بقضية الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وبأهدافه التي يقوم من أجلها، وعدم الاطلاع الكافي على روايات هذه القضية الطاهرة، وهو من أهم الأسباب، فكثيرٌ من الناس يتصور أنَّ الإمام علیه السلام ما إنْ يخرج حتى يبدأ بقتل علماء الشيعة رغم عدم وجود حتى روايةٍ واحدة تشير إلى ذلك، فهذا كلامٌ من دون دليل، وهو نتيجة الجهل المطبق، أو الحقد الدفين لأهل العلم.

2/القراءة السطحية والساذجة لروايات فتن واختبارات الظهور، من دون الرجوع لأهل الاختصاص فيها ومعرفة الهدف منها وتخريجاتها العقائدية والفقهية والعقلائية، فإنَّ أهل الاختصاص يدخلون في أعماق الرواية ويعطون الفهم الصحيح لها.

3/تعمُّد بثّ تلك الفكرة الخاطئة في نفوس الناس من قبل بعض المُغرضين، وهذا الأمر له مؤشراتٌ كثيرة، فهناك كثيرٌ من الفئات تعمل خلف الكواليس وهدفها بثّ أفكار يائسة سلبية تجاه الدين عمومًا، نحو: الدين يقيد الحرية، ولا يقبل بالعلم، ومنها قضية الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.

الخطوة الثالثة: من هم الذين سيقتلهم الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف؟
اشارة

الجواب: ذكرت الروايات العديد من الأصناف الذين سيقتلهم الإمام علیه السلام، نذكر منهم ثلاثة عناوين:

1/السفياني:

ومن الواضح أنه لا نحتاج إلى تبرير مقاتلة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف للسفياني، ولكن مع ذلك فالمبررات لذلك عديدة، نذكر منها:

أولاً: إن السفياني هو من يبدأ الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف القتال، بل ويبعث البعث تلو الآخر

ص: 348

في محاولة قتل الإمام صلوات الله عليه، ومن الواضح أن حكم من يريد قتل الإمام المفترض الطاعة هو القتل على أقل تقدير.

عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «ويعوذ عائذ بالبيت، فيبعث إليه بعث، فإذا كان ببيداء من الأرض يخسف بهم، فقلنا: يا رسول الله، كيف بمن كان كارها؟ قال: يخسف به معهم، ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته..».(1)

ثانياً: أن السفياني يمثل امتداداً للعداء المتأصل بين بني هاشم وبني أمية، القتال الذي كان محوره تصديق الله عزوجل وعدمه.

فقد ورد عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إنَّا وآل أبي سفيان أهل بيتين تعادينا في الله، قلنا: صدق الله. وقالوا: كذب الله. قاتل أبو سفيان رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وقاتل معاوية علي بن أبي طالب علیه السلام. وقاتل يزيد بن معاوية الحسين بن علي علیه السلام، والسفياني يقاتل القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف.»(2)

ثالثاً: إن السفياني مجرم حرب، بل مجرم إنسانية، وهو يعمل على قتل كل من ينتمي لخط أهل البيت% كما ذكرت الروايات ذلك، وأنه يقتل كل من اسمه على أسماء أهل البيت%.

ولا ريب أن من وظيفة الإمام علیه السلام هو الدفاع عن المظلومين عموماً وعن شيعته خصوصاً.

جاء في خطبة البيان المنسوبة لأمير المؤمنين علیه السلام انه قال: «ولا يزال السفياني يقتل كل من اسمه محمد وعلي وحسن وحسين وفاطمة وجعفر وموسى وزينب وخديجة ورقية بغضاً وحنقاً لآل محمد..».(3)

ص: 349


1- مسند أحمد: ج 6 ص 290 ومسلم: ج 4 ص 2208 ب 52 ح 2882.
2- معاني الأخبار - الشيخ الصدوق - ص 346.
3- الزام الناصب ج2 ص173 خطبة البيان.

وعن أمير المؤمنين علیه السلام: ثم يبعث فيجمع الاطفال ويغلي الزيت لهم فيقولون: إن كان آباؤنا عصوك فنحن ما ذنبنا؟ فيأخذ منهم اثنين اسمهما حسن وحسين فيصلبهما، ثم يسير الى الكوفة فيفعل بها كما فعله بالأطفال ويصلب على باب مسجدها طفلين اسمهما حسن وحسين فتغلي دماؤهما كما غلي دم يحيى بن زكريا....».(1)

وسواء صحت هذه الروايات من حيث السند ام لم تصح، فإنها تعطي صوراً واضحة –وبضم الروايات الاخرى التي بيّنت سيرة السفياني في خروجه وتحركاته- عن سلوك السفياني وعقيدته وسيرته في الناس، فإنها تشير الى بغضه الصارخ لآل البيت علیهم السلام ولكل من يمتّ اليهم بصلة ولو بالاسم، ويشير الى انه يعتبر التسمية رابطة عقائدية تشير الى مدلول باطني، فهو يقتل من ينتسب الى اهل البيت علیهم السلام ولو بالاسم.

رابعاً: إن السفياني ينكث البيعة مع الإمام علیه السلام كما ذكرت ذلك بعض الروايات الشريفة، ونكثه للبيعة يساوق خروجه ضد الإمام، والخارج على إمام زمانه المفترض الطاعة حكمه أن يُقاتَل.

فعن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر علیه السلام قال: «إذا بلغ السفياني أن القائم قد توجه إليه من ناحية الكوفة، يتجرد بخيله حتى يلقى القائم فيخرج فيقول: أخرجوا إلى ابن عمي، فيخرج عليه السفياني فيكلمه القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف فيجيء السفياني فيبايعه ثم ينصرف إلى أصحابه فيقولون له: ما صنعت؟ فيقول: أسلمت وبايعت فيقولون له: قبح الله رأيك بين ما أنت خليفة متبوع فصرت تابعا فيستقبله فيقاتله، ثم يمسون تلك الليلة، ثم يصبحون للقائم عجل الله تعالی فرجه الشریف بالحرب فيقتتلون يومهم ذلك. ثم إن الله تعالى يمنح القائم وأصحابه أكتافهم فيقتلونهم حتى يفنوهم حتى أن الرجل يختفي في الشجرة والحجرة، فتقول الشجرة

ص: 350


1- عقد الدرر 93 و 94.

والحجرة: يا مؤمن هذا رجل كافر فاقتله، فيقتله..».(1)

2/البترية.

يظهر من الروايات الشريفة أنَّهم خطّ منحرف عقائدياً، حيث إنَّهم لا يتبرَّؤون من أعداء الإمام علي علیه السلام، وإنَّهم بتروا أمر أهل البيت علیهم السلام بعدم البراءة من أعدائهم، ولهم جذور تاريخية تمتدُّ إلىٰ زمن الإمام زين العابدين علیه السلام، ولمزيد بيان ننقل ما أورده الشيخ الصدوق: «البترية _ بضمِّ الباء الموحَّدة وسكون التاء المثنّاة الفوقية والراء المكسورة _، والنسبة بتري، وهم طائفة من الزيدية يُجوِّزون تقديم المفضول علىٰ الفاضل، يقولون: إنَّ أبا بكر وعمر إمامان وإن أخطأت الأُمَّة في البيعة لهما مع وجود علي علیه السلام، ولكنَّه خطأ لم ينته إلىٰ درجة الفسق، وتوقَّفوا في عثمان، ودعوا إلىٰ ولاية أمير المؤمنين علیه السلام، ويرون الخروج مع بطون ولد علي علیه السلام، ويذهبون في ذلك إلىٰ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويُثبِتون لكلِّ من خرج من أولاد علي علیه السلام عند خروجه الإمامة، وهم أصحاب كثير النواء والحسن بن صالح بن حيّ وسالم بن أبي حفصة والحكم بن عتيبة وسَلَمة بن كهيل أبي يحيىٰ الحضرمي، وأبي المقدام ثابت بن هرمز الحدّاد.»(2).

وروىٰ أيضاً بإسناده عن سدير، قال: «دخلت علىٰ أبي جعفرعلیه السلام ومعي سَلَمة بن كهيل وأبو المقدام ثابت الحدّاد وسالم بن أبي حفصة وكثير النواء وجماعة منهم، وعند أبي جعفر علیه السلام أخوه زيد بن علي علیه السلام، فقالوا لأبي جعفر علیه السلام: نتولّىٰ عليَّاً وحسناً وحسيناً ونتبرَّأ من أعدائهم، قال: «نعم»، قالوا: فنتولّىٰ أبا بكر وعمر ونتبرَّأ من أعدائهم، قال: فالتفت إليهم زيد بن علي علیه السلام وقال لهم: «أتتبرَّؤون من فاطمة علیها السلام، بترتم أمرنا بتركم

ص: 351


1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 52 - ص 388.
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق: ج4، ص544-545

الله» فيومئذٍ سمّوا البترية»(1).

وروىٰ بإسناده عن ابن أبي عمير، عن سعد الجلَّاب، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «لو أنَّ البترية صف واحد ما بين المشرق إلىٰ المغرب ما أعزَّ الله بهم ديناً»(2) (3).

وعلى كل حال، فقد ذكرت بعض الروايات أنهم سيخرجون ضد الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وسيقاتلهم ويقتلهم، ففي بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي: روىٰ أبو الجارود، عن أبي جعفر علیه السلام في حديث طويل أنَّه قال: «إذا قام القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف سار إلىٰ الكوفة، فيخرج منها بضعة عشر آلاف أنفس يُدعون البترية، عليهم السلاح فيقولون له: ارجع من حيث جئت فلا حاجة لنا في بني فاطمة، فيضع فيهم السيف حتَّىٰ يأتي علىٰ آخرهم»(4).

وهذه الرواية علىٰ فرض ثبوتها فيها ما يأتي:

1 _ الرواية تتحدَّث عن أُناس منحرفين عقائدياً، حيث أطلقت عليهم الرواية اسم البترية، وهم طائفة من الزيدية يقولون بالنصِّ علىٰ أمير المؤمنين علیه السلام والحسنين وزين العابدين علیهم السلام فقط، ويدَّعون أنَّ الإمامة بعدهم شورىٰ في أولاد الحسنين لمن قام منهم بالسيف.

2 _ إنَّ هذه الطائفة توالي قوماً غصبوا حقوق أهل البيت علیهم السلام وأزالوهم عن مراتبهم.

3 _ إنَّ هؤلاء الأقوام الذين يقتلهم الإمام الحجَّة عجل الله تعالی فرجه الشریف رفعوا السلاح في وجهه وردّوا دعوته ولم يستمعوا إليه.

ص: 352


1- اختيار معرفة الرجال 2: 504 و505/ ح 429.
2- اختيار معرفة الرجال 2: 499/ ح 422.
3- من لايحضره الفقيه 4: 544 و545.
4- بحار الأنوار 52: 338/ ح 81، عن الإرشاد 2: 384.

4 _ إنَّ هؤلاء ليسوا من رجال العلم والعلماء، بل هم من جهلة الأُمَّة، فالروايات تُعبِّر عن علماء الدين برواة الحديث، ففي توقيع الإمام الحجَّة عجل الله تعالی فرجه الشریف: «وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلىٰ رواة حديثنا فإنَّهم حجَّتي عليكم وأنا حجَّة الله عليهم»(1).

ومن هنا يتَّضح أنَّ دعوىٰ قتل الإمام الحجَّة عجل الله تعالی فرجه الشریف لعلماء الدين دعوىٰ باطلة منشؤها الجهل بتعابير الروايات، فأصحاب هذه الدعوىٰ قد وقعوا في جهل مركب.

3/ذراري قتلة الإمام الحسين علیه السلام:

حتى نعرف حقيقة الحال في هذا العنوان علينا أن نتبين أمرين:

الأمر الأول: إن من الأمور الواضحة للعيان أن قيام أية دولة ستواجهه العديد من المشاكل والتلكؤات، ومن الطبيعي جدا أن الدولة ومن أجل أن تبني نفسها وتحافظ على كيانها فإنها تعمل على إزالة الأشواك من طريقها قبل تعبيده.

وإذا كانت الدولة تنشد العدل وتطبق القسط، فإن العقل والطبيعة والفطرة الإنسانية تتفق على قبول بعض الإجراءات العملية ولو كانت صعبة قليلة، ولو استلزمت القيام ببعض الأعمال التي قد لا يتعرف الناس على مناشئها العقلية أو نتائجها الإنسانية إلا بعد حين، لكنهم حينما يتعرفون النتائج العظيمة لتلك الأفعال، فإنهم سيحكمون بحسنها بل وبضرورتها في وقتها، وما نحن فيه من هذا القبيل.

الأمر الثاني: هناك مبدأ إسلامي يقرره القرآن الكريم وتؤكده الروايات الشريفة، وهو أن العلاقة العقائدية القائمة على الرضا القلبي من أقوى العلاقات التي تجمع بين بني البشر على اختلاف جنسياتهم وقومياتهم، بل ورغم اختلاف أزمنتهم.

وهذا ما نجده بوضوح في الروايات الشريفة.

ص: 353


1- كمال الدين: 484/ باب 45/ ح 4.

فقد ورد عن عبد السلام بن صالح الهروي، عن الرضا علیه السلام قال: «من غاب عن أمر فرضي به كان كمن شهده وأتاه».(1)

وعن الحسن بن علي الوشاء، عن الرضا علیه السلام، قال: سمعته يقول (في شأن ابن نوح الذي غرق): «كذبوا هو ابنه ولكن الله عزوجل نفاه عنه حين خالفه في دينه».(2)

وعن أمير المؤمنين علیه السلام: أيها الناس، إنما عقر ناقة صالح واحد فأصابهم الله بعذابه بالرضا لفعله، وآية ذلك قوله عزوجل: ﴿فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطىٰ فَعَقَرَ* فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ﴾(3)،

وقال: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها * وَلا يَخافُ عُقْباها﴾(4)،

ألا ومن سئل عن قاتلي فزعم أنه مؤمن فقد قتلني.(5)

ولما أظفر الله أمير المؤمنين علیه السلام بأصحاب الجمل، قَالَ لَه بَعْضُ أَصْحَابِه: وَدِدْتُ أَنَّ أَخِي فُلَاناً كَانَ شَاهِدَنَا، لِيَرَى مَا نَصَرَكَ الله بِه عَلَى أَعْدَائِكَ.

فَقَالَ لَه علیه السلام: أَهَوَى أَخِيكَ مَعَنَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ.

قَالَ علیه السلام: فَقَدْ شَهِدَنَا، ولَقَدْ شَهِدَنَا فِي عَسْكَرِنَا هَذَا أَقْوَامٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ، وأَرْحَامِ النِّسَاءِ، سَيَرْعَفُ بِهِمُ الزَّمَانُ ويَقْوَى بِهِمُ الإِيمَانُ.(6)

ومن هذا المنطلق، وهذا المبدأ، يمكن أن نفهم ما ورد من أن الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف سيقتل ذراري قتلة الإمام الحسين علیه السلام لرضاهم بفعال آبائهم.

فقد ورد أنَّ عبد السلام بن صالح الهروي، قال: قلت لأبي الحسن عليِّ بن موسىٰ

ص: 354


1- التوحيد - الشيخ الصدوق - ص 392.
2- عيون أخبار الرضا علیه السلام - الشيخ الصدوق - ج 1 - ص 82.
3- القمر 29 و 30.
4- الشمس 14 و 15.
5- الغيبة للنعماني ص 35 مقدمة المؤلف.
6- نهج البلاغة - خطب الإمام علي علیه السلام - ج 1 - ص 44.

الرضا علیه السلام: يا بن رسول الله، ما تقول في حديث روي عن الصادق علیه السلام أنَّه قال: «إذا خرج القائم قتل ذراري قتلة الحسين علیه السلام بفعال آبائها»؟ فقال علیه السلام: «هو كذلك»، فقلت: فقول الله عزوجل: ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ﴾(1)، ما معناه؟ فقال: «صدق الله في جميع أقواله، لكن ذراري قتلة الحسين يرضون أفعال آبائهم ويفتخرون بها، ومن رضي شيئاً كان كمن أتاه، ولو أنَّ رجلاً قُتِلَ في المشرق فرضي بقتله رجل في المغرب كان الراضي عند الله شريك القاتل، وإنَّما يقتلهم القائم إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم»(2).

ويُقرِّر الإمام الصادق علیه السلام هذا المبدأ أكثر فيما روىٰ عنه محمّد بن الأرقط حيث قال له الإمام الصادق علیه السلام: «تنزل الكوفة؟»، قلت: نعم، قال: «ترون قتلة الحسين علیه السلام بين أظهركم؟»، قال: قلت: جُعلت فداك، ما بقي منهم أحداً، قال: «فأنت إذاً لا ترىٰ القاتل إلَّا من قُتِلَ أو من ولي القتل؟! ألم تسمع إلىٰ قول الله: ﴿قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾(3)، فأيُّ رسول قتل الذين كان محمّد صلی الله علیه وآله وسلم بين أظهرهم، ولم يكن بينه وبين عيسىٰ رسول، إنَّما رضوا قتل أُولئك فسمّوا قاتلين»(4).

وهو الأمر الذي أشارت له العديد من زيارات الإمام الحسين علیه السلام بعنوان: «وَلَعَنَ اللهُ أُمَّةً سَمِعَتْ بِذلِكَ فَرِضِيَتْ بِهِ»(5).

الخطوة الرابعة: الإمامُ داعيةُ سلام.

هنا مؤشرات لابد أنْ نلتفت إليها حتى تطمئن النفوس وتنشرح الصدور وتتحول

ص: 355


1- الأنعام: 164.
2- علل الشرائع للصدوق 1: 229/ باب 164/ ح 1.
3- آل عمران: 183.
4- تفسير العيّاشي 1: 209/ ح 165.
5- مصباح المتهجِّد للطوسي: 721/ ح (806/75).

النظرةٍ إلى نظرةٍ إيجابية تجاه الإمام علیه السلام، فتكون دافعًا للعمل والتهيئة لدولته،

والمؤشِّرات علىٰ ذلك كثيرة، نذكر منها التالي:

1 - وصفه بأنَّه رحمةً للعالمين في بعض الروايات الشريفة، ففي حديث اللوح الوارد عن جابر، عن الإمام الباقر علیه السلام: «وأختم بالسعادة لابنه عليٍّ وليّي وناصري والشاهد في خلقي وأميني علىٰ وحيي، أخرج منه الداعي إلىٰ سبيلي والخازن لعلمي الحسن، وأُكمل ذلك بابنه (م ح م د) رحمةً للعالمين، عليه كمال موسىٰ وبهاء عيسىٰ وصبر أيّوب...»(1).

2 - قبوله لبيعة السفياني رغم أفعاله الشنيعة، كما ذكرت ذلك بعض الروايات(2).

3 - ما ورد من إرساله الجند إلىٰ القسطنطينية، ممَّا يظهر منه أنَّه أرسلهم للقتال، لكن عندما يستسلم أهاليها فإنَّ جنده يتركون القتال، ويدخلون المدينة سلماً(3).

4 - ما ورد من جلوسه لمحاججة أهل الديانات بالدليل، ممَّا يعني أنَّه يُقدِّم الحجَّة والدليل العلمي علىٰ القتال...(4).

5 - ما ورد من أنَّه علیه السلام سوف لا يقاتل إلَّا من يقاتله، ولا يزيد علىٰ ذلك شيئاً، وهو أمر لا تجده إلَّا عند من تتمثَّل الإنسانية والأحكام الش-رعية في سلوكه رغم ما عنده من أسباب القوَّة ما لا يحتاج معه إلىٰ التودّد إلىٰ أحد.

فقد روي بالإسناد إلىٰ الكابلي، عن أبي جعفر علیه السلام، قال: «يبايع القائم بمكّة علىٰ كتاب الله وسُنَّة رسوله، ويستعمل علىٰ مكّة، ثمّ يسير نحو المدينة فيبلغه أنَّ عامله قُتِلَ، فيرجع إليهم فيقتل المقاتلة، ولا يزيد علىٰ ذلك»(5).

ص: 356


1- الكافي للكليني 1: 528/ باب فيما جاء في الاثني عشر والنصّ عليهم علیهم السلام/ ح 3.
2- راجع: بحار الأنوار للمجلسي 52: 388/ ح 206.
3- الغيبة للنعماني: 334 و335/ باب 21/ ح 8.
4- علل الشرائع للصدوق 1: 161/ باب 129/ ح 3.
5- بحار الأنوار للمجلسي 52: 308/ ح 83.

6 - ما ورد من أنَّه وأصحابه يعظون بعض الخارجين عليهم قبل أن يبدؤوهم القتال، ممَّا يعني أنَّهم يرجون أن لا يكون بينهم قتال، ولكن لو لم يكن إلَّا الكيّ فهو آخر العلاج.

فقد ورد عن الإمام الباقر علیه السلام: «ثمّ يرسل جريدة خيل إلىٰ الروم فيستحضرون بقيَّة بني أُميَّة، فإذا انتهوا إلىٰ الروم قالوا: أخرجوا إلينا أهل ملَّتنا عندكم، فيأبون ويقولون: والله لا نفعل، فيقول الجريدة: والله لو أمرنا لقاتلناكم، ثمّ ينطلقون إلىٰ صاحبهم...»(1).

إنَّ هذه المؤشِّرات وغيرها واضحة في أنَّ الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف رغم تمتّعه بموقع القوَّة والهيمنة، إلَّا أنَّه لا يبدأ المشركين، بل الزنادقة وأهل الردَّة بالقتال، وإنَّما يُظهِر لهم من قوَّة التسامح وقبول التوبة أكثر ممَّا يُظهِر لهم من قوَّة البطش والقتل، وما هذا إلَّا لأنَّه داعية صلاح وسلام، اللّهمّ إلَّا من يأبىٰ منهم، أو من يبادر الإمام علیه السلام بالقتال أو بالمكر لحركة الإصلاح المهدوية العالمية، فإنَّه يتعامل معه التعامل الإسلامي الواضح والذي فعله قبله رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عندما كان يضطرُّ إلىٰ ذلك.

هذا فضلاً عن توافق هذا الفعل مع القانون العقلائي القاضي بإزاحة العقبات عن طريق الإصلاح.

فيتلخص:

1/إنَّ الإمام علیه السلام سيقوم ببعض المعارك؛ لأنَّ هذه مسألةٌ طبيعية لبناء الدولة وهي غير خارجة عن حدود الإسلام، وإنَّ النبي صلی الله علیه وآله وسلم أيضًا فعل ذلك.

2/لا يكون القتال هو الطابع العام لحركة الإمام علیه السلام، فيقتل بصورةٍ عشوائية وغير مبررة كما يتصور البعض. وإنَّما كلِّ ما سيقوم به الإمام علیه السلام من قتالٍ مبررٌ إسلاميًا وإنسانيًا وعقلائيًا.

ص: 357


1- تفسير العيّاشي 2: 60/ ح 49.

ص: 358

المبحث التاسع

اشارة

ضمانات الانتصار المهدوي

للدول الكافرة منظومة ضخمة جدًا من الأسلحة، ترسانةٌ بإمكانها أن تفني الأرض ست مراتٍ حسب بعض التقارير، ومع كلِّ هذا التطور في تلك الدول، كيف سيواجه الإمام علیه السلام تلك القوى؟ هل هناك ضماناتٌ توضح لنا كيفية انتصار الإمام علیه السلام على أعدائه؟

الجواب:

نجيب ببعض العناوين؛ لأنّ البحث في هذا الموضوع ضخمٌ جدًا، ولكن قبل الجواب من المناسب أنْ نشير إلى ملاحظةٍ جدًا مهمة وهي تبعث الاطمئنان في النفوس، وهي:

إنَّ الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف هو وعد الله عزوجل، وقد أخبر الله عزوجل والروايات الشريفة الكثيرة المتواترة لدى الطرفين أنَّ الإمام علیه السلام سينتصر، وأنَّ الله عزوجل سيؤيده بالنصر ويُمكِّن له الأرض، وهذه هي النتيجة. أما الضمانات فمعرفتها قد تدخل في باب الفضول العلمي الذي يزيد من الاطمئنان في النفوس ويساعد في جدال الطرف المقابل.

وعلى كل حال، فهناك عدةُ ضماناتٍ تساعد في انتصار القضية المهدوية:

الضمان الأول: قوة مصادر القضية المهدوية.

وهذا ما أشرنا إليه في بداية البحث في القضية المهدوية، وإنَّ من أهم مصادر قوة

ص: 359

هذه القضية كونها قضية إنسانية أولًا، وكونها نابعةً من الواقع لمعالجة الواقع ثانيًا، وكونها وعدًا إلهيًا وأصلًا اعتقاديًا ثالثًا.

الضمان الثاني: عنصر المباغتة:

المباغتة: بضم الميم وفتح الغين من بغته الامر، أي: فاجأه. ولقيته بغتة، أي: فجأة، ومنه: مباغتة العدو.(1)

من الأمور التي أكدت عليها الروايات الشريفة بشأن الظهور المبارك، أمران:

الأمر الأول: إن وقت الظهور غير محدد.

والروايات في هذا المعنى عديدة، نذكر منها التالي:

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَثِيرٍ قَالَ: «كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام إِذْ دَخَلَ عَلَيْه مِهْزَمٌ، فَقَالَ لَه: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا الأَمْرِ الَّذِي نَنْتَظِرُ مَتَى هُوَ؟ فَقَالَ: يَا مِهْزَمُ، كَذَبَ الْوَقَّاتُونَ وهَلَكَ الْمُسْتَعْجِلُونَ ونَجَا الْمُسَلِّمُونَ».(2)

وعن محمد بن مسلم، قال: «قال أبو عبد الله علیه السلام: يا محمد، من أخبرك عنا توقيتاً فلا تهابنّ أن تكذبه، فإنا لا نوقّت لأحد وقتاً».(3)

وهنا قد يرد إلى الذهن سؤال(4):

ما هي الحكمة من عدم التوقيت والنهي عنه؟

أوَ لم يكن الأفضل أن يذكر لنا أهل البيت علیهم السلام وقت الظهور بالضبط، حتى نكون على بينة من أمرنا؟

ص: 360


1- معجم لغة الفقهاء - محمد قلعجي - ص 399.
2- الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 368 – 369 باب كراهية التوقيت، الحديث 2.
3- كتاب الغيبة - محمد بن إبراهيم النعماني - ص 300 الباب 16 الحديث 3.
4- مستفاد من مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.

الجواب:

لابد أن يعلم أنه إن كان المقصود من الحكمة هي العلة التامة، فلا يعلم العلة التامة الا الله جل وعلا.

أما إن كان المقصود منها الحكمة أو الفائدة فنقول: هناك فوائد كثيرة:

أولاً: إن انتظار الفرج بمعنى ترقب ظهور المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف في كل زمان، يستوجب -في ما يستوجب- أن يكون المؤمن متهيأً للظهور في أية لحظة، وهذا يناسبه عدم التوقيت، بحيث يتوقع المؤمن الظهور في أية لحظة، على غرار ما ورد «فتوقعوا الفرج صباحاً ومساءً»(1)

ثانياً: إن الظهور ممكن جداً في العصر الراهن، بدليل الروايات الشريفة التي تصرح بأن ظهور الإمام هو أمر مخفي ويحصل فجأة، من قبيل «فليعمل كل امرئٍ منكم بما يقرب به من محبتنا، ويتجنب ما يدنيه من كراهيتنا وسخطنا، فإن أمرنا بغتة فجاءة، حين لا تنفعه توبة، ولا ينجيه من عقابنا ندم على حوبة»(2).

ومن قبيل «يصلح الله له أمره في ليلة».(3)

ثالثاً: إن التوقيت يولد اليأس والإحباط، وهذا أمر وجداني، فلو علمت يقيناً بأن الظهور سوف يكون في سنة 3000 ميلادية، فإن اليأس سيدب أكيداً في ذهني ويمنعني من العمل على تهيئة الظروف المناسبة للظهور، فإني أكيداً لن أدركه.

ورابعاً: لو علم الشخص بأن وقت الظهور مثلاً هو في عام 2050 فإن إمكانية انحراف الشخص عن سبيل الشريعة وارد جداً، وإذا دعوته إلى التوبة لأخبرك بأنه

ص: 361


1- كمال الدين وتمام النعمة - الشيخ الصدوق - ص 337 الباب 23 الحديث 10.
2- الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج 2 - ص 323 – 324.
3- كمال الدين وتمام النعمة - الشيخ الصدوق - ص 152 الباب 6 الحديث 13.

سيتوب قبيل الظهور! وهذا المعنى يكون أوضح إذا نظرنا إلى قضية الموت.

الأمر الثاني: إن الظهور حيث إنه لم يحدد وقته، فسيكون الظهور مفاجأة وبغتة.

وهو أمر أكّدته الروايات كثيراً.

روي أن النبي صلی الله علیه وآله قيل له: يا رسول الله متى يخرج القائم من ذريتك؟ فقال صلی الله علیه وآله و سلم: مثله مثل الساعة التي ﴿لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً﴾(1).(2)

وعن أبي حمزة الثمالي أنه سئل الإمام الباقر علیه السلام عن قوله تعالى: «﴿حَتَّىٰ إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾(3)، فقال: يعنى قيام القائم».(4)

وفي مكاتبة الإمام المهديf للشيخ المفيد رحمه الله:...فليعمل كل امرئٍ منكم بما يقرب به من محبتنا، ويتجنب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا، فإن أمرنا بغتة فجاءة حين لا تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابنا ندم على حوبة.(5)

وهذا الأمر في الحقيقة سيمثل واحداً من الضمانات لانتصار الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، إذ لا شك أن غفلة العدو، وتناسيه أمر المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، سيعطي فرصة مواتية للإمام وأصحابه بالانقضاض على مراكز القوة لدى العدو، وتهديم بنيانه من الأساس.

وهو ما حدث في غزوة بني النضير كما حكى القرآن لنا ذلك في قوله عز من قائل: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي

ص: 362


1- الأعراف 187
2- كمال الدين وتمام النعمة - الشيخ الصدوق - ص 373.
3- الأنعام 44
4- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - ص 98.
5- الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج 2 - ص 323 – 324.

قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾.(1)

ولعنصر المباغتة فوائد مزدوجة:

الأول: عنصرُ قوةٍ في المجال العسكري للإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.

الثاني: عنصرُ إنذارٍ للذين ابتعدوا عن الطريق الصحيح، فالتشيع الحقيقي لا يقتصر على الادعاء والأقوال المجردة عن واقعٍ يصدقها؛ إذ إنَّ الدين كلَّه عملٌ يجسد العقيدة، وليس الإيمان قول بلا عمل، بل إن الإيمان عمل كله، فعلى من يدّعي التشيع أن يعجل بالتوبة وأن يستمر بالسير على الصراط المستقيم، إذ لعل الظهور يحدث فجأة وهو في غفلة لو كان عاصياً.

الضمان الثالث: التركيبة الاستثنائية للقيادة والجيش.
اشارة

فهي على مستوى عالٍ من القوة والانضباط والإيمان والجهاد، وكلُّ هذه الأمور تؤدي إلى جيشٍ قوي لا يُقهر. وفي هذه القضية جهتين:

الجهة الأولى: شخصية القائد:

لا شك أنَّ شخصية القائد لها تأثير مباشر إيجابي أو سلبي على الجيش، فإذا كانت شخصيةً فذة وكان القائد قائدًا محنكًا لا يخاف فإنَّ الجيش ستكون معنوياته قوية جدًا، والعكس بالعكس.

فلا يختلف اثنان في أن هناك صفات واقعية إذا ما توفرت في القائد، فإن من شأنها أن تولّد إخلاصاً لا مثيل له في الأفراد، مما يجعلهم مستعدين للتضحية من أجل قضيتهم، سواء بالأموال أم بالأنفس.

وشخصية المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف احتوت على الكثير من الصفات تلك، ومن أهمها التالي:

ص: 363


1- الحشر: 2.

الصفة الأولى: العصمة: وهذه الصفة وإن كانت مختصة بمن يعتقد بها في الإمام، لكنها على كل حال ستفرز سلوكاً اجتماعياً مميزاً، يجعل كل من يراه يطمئن قلبه له، على غرار ما روي عن عبد السلام بن صالح الهروي، قال: سمعت أبا الحسن الرضا علیه السلام يقول: «رحم الله عبداً أحيىٰ أمرنا»، فقلت له: وكيف يُحيي أمركم؟ قال: «يتعلَّم علومنا ويُعلِّمها الناس، فإنَّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتَّبعونا...»(1).

وهذه سيرة أهل البيت علیهم السلام، تشهد بصراحة على أن سلوكهم الاجتماعي المعصوم كان من أهم الأسباب التي أدت إلى اطمئنان المخالفين لهم إن لم نقل هدايتهم والانضواء تحت لوائهم.

والعصمة تنضوي في حقيقتها على علمٍ لدني، ينكشف معه الواقع للمعصوم، وهذا ما يفرز سلوكاً مزدوجاً ذا أثرين:

الأثر الأول: إنه يولّد لدى الأتباع إحساساً بمراقبة الإمام الدائمة والمستمرة لهم، خصوصاً مع تصريح الروايات بهذا المعنى.

الأثر الثاني: إنّه يولّد إحساساً بالاطمئنان بأن الأتباع هم في عين قائدهم، وهو يتابع أمورهم باستمرار، فينامون قريري العيون بتلك المتابعة.

الصفة الثانية: الإنصاف: فقد ذكرت بعض الروايات الشريفة أن من أنصافه عجل الله تعالی فرجه الشریف أنه سيشترط شروطاً على أصحابه، في قبال التزامات يُلزم بها نفسه، وهذا من الإنصاف الذي قلما يوجد عند قائد، فقد روي أنه علیه السلام يقول لأصحابه: «إني لست قاطعاً أمراً حتى تبايعوني على ثلاثين خصلة تلزمكم، لا تغيرون منها شيئاً، ولكم علي ثمان خصال.

قالوا: قد فعلنا ذلك، فاذكر ما أنت ذاكر يا بن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ، فيخرجون معه إلى

ص: 364


1- معاني الأخبار للصدوق: 180/ باب معنىٰ قول الصادق علیه السلام: من تعلَّم علماً ليماري به السفهاء.../ ح 1.

الصفا، فيقول: أنا معكم على أن لا تولوا، ولا تسرفوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا محرماً، ولا تأتوا فاحشة، ولا تضربوا أحداً إلا بحقه، ولا تكنزوا ذهباً ولا فضة ولا تبراً ولا شعيراً، ولا تأكلوا مال اليتيم، ولا تشهدوا بغير ما تعلمون، ولا تخربوا مسدداً، ولا تقبحوا مسلماً، ولا تعلنوا مؤاجراً إلا بحقه، ولا تشربوا مسكراً، ولا تلبسوا الذهب ولا الحرير ولا الديباج، ولا تبيعوها رباً، ولا تسفكوا دماً حراماً، ولا تغدروا بمستأمن، ولا تبقوا على كافر ولا منافق، وتلبسون الخشن من الثياب، وتتوسدون التراب على الخدود، وتجاهدون في الله حق جهاده، ولا تشتمون، وتكرهون النجاسة، وتأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر.

فإذا فعلتم ذلك فعلي أن لا أتخذ حاجباً، ولا ألبس إلا كما تلبسون، ولا أركب إلا كما تركبون، وأرضى بالقليل، وأملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وأعبد الله عز ودجل حق عبادته، وأفي لكم وتفوا لي.

قالوا: رضينا واتبعناك على هذا.

فيصافحهم رجلاً رجلاً.»(1)

الصفة الثالثة: التعامل الحازم مع خوارق النظام.

عن أبي عبد الله علیه السلام أنه قال: «بينا الرجل على رأس القائم يأمره وينهاه إذ قال: أديروه، فيديرونه إلى قدامه فيأمر بضرب عنقه، فلا يبقى في الخافقين شيء إلا خافه».(2)

الصفة الرابعة: المنهجية المتكاملة لبناء الدولة.

والتي تشمل:

1/منهج الطاعة المطلقة لله عزوجل.

ص: 365


1- عقد الدرر في أخبار المنتظر ليوسف بن يحيى المقدسي ص 93 و 94.
2- الغيبة للنعماني ص 345 و 346 ب13 ح 32.

2/منهج اليقين.

3/المنهج العلمي.

4/المنهج الأخلاقي.

5/المنهج الاقتصادي.

6/منهج الأمن العام.

7/ منهج الصحة العامة.

وكل هذه الجهات صرحت بها الروايات الشريفة، وعلى من يحب التوسع مراجعة الروايات الواردة بشأن بركات الدولة المهدوية.(1)

الجهة الثانية: الجيش.
اشارة

وجيش الإمام سيكون مركبًا من:

القسم الأوَّل: أصحاب الألوية:

وهم الأصحاب الذين يبدأ الإمام معهم نهضته، وهم ال- (313) رجلاً.

قال الإمام الصادق علیه السلام لمفضَّل بن عمر: «كأنّي أنظر إلىٰ القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف علىٰ منبر الكوفة وحوله أصحابه ثلاثة مائة وثلاثة عشر رجلاً، عدَّة أهل بدر، وهم أصحاب الألوية، وهم حكّام الله في أرضه علىٰ خلقه»(2).

القسم الثاني: الجيش الذي سيخرج به من مكّة المكرَّمة:

وقد اختلفت الروايات في تحديد عدده بين (10) أو (12) أو (15) ألفاً.

ص: 366


1- للتوسع يمكن مراجعة كتاب: في رحاب حكومة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف للشيخ نجم الدين الطبسي- ترجمة الشيخ أحمد وهبي- مطبعة نكارش- الطبعة الأولى سنة النشر 1425 ه-.ق. ص 71 وما بعدها.
2- كمال الدين للصدوق: 672 و673/ باب 58/ ح 25.

ورد عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: «لا يخرج القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف حتَّىٰ يكون تكملة الحلقة»، قلت: وكم تكملة الحلقة؟ قال: «عشرة آلاف...» (1).

وقد روىٰ السيِّد ابن طاووس في (الملاحم والفتن)(2)

عن ابن زرير الغافقي أنَّه سمع عليّاً علیه السلام يقول: «يخرج المهدي في اثني عشر ألفاً إن قلوا، وخمسة عشر ألفاً إن كثروا...».

يُضاف إلى ذلك من سيلتحق به في قادم الأيام، كالحسني وجيشه، وأمثاله، وبقية المؤمنين.

الضمان الرابع: مساندة العنصر الغيبي لتلك القضية:
اشارة

صحيح أن الصفة العامة لحركة التغيير المهدوية هي الصفة الطبيعية، أي اتخاذ الإجراءات العملية بصورة طبيعية لا إعجازية، وهذا الأمر هو ما قد يكون من أسباب تأخر اليوم الموعود إلى حين اكتمال التهيئة الطبيعية بعناصرها المختلفة (الزمنية والبشرية)، وهو ما قد تشير له بعض الروايات الشريفة، من قبيل ما ورد عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: لا يخرج القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف حتى يكون تكملة الحلقة. قلت: وكم تكملة الحلقة؟ قال: عشرة آلاف..».(3)

وعن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: «ليعدن أحدكم لخروج القائم ولو سهما..».(4)

إن هذا كله صحيح.

ص: 367


1- الغيبة للنعماني: 319 و320/ باب 19/ ح 2.
2- الملاحم والفتن لابن طاووس: 138/ ح 158.
3- كتاب الغيبة - محمد بن إبراهيم النعماني - ص 320.
4- كتاب الغيبة - محمد بن إبراهيم النعماني - ص 335.

ولكن مع ذلك، نجد أن السنة الإلهية اقتضت أن يكون هناك تأييد غيبي للحركات الرسالية، وهذا التأييد له عدة مبررات، يمكن إجمالها بالتالي:

أولاً: قد يقتضي إثبات الحق في بعض الأحيان قدرات غيبية، حينما تعجز القدرات الطبيعية عن إنجاز ذلك.

ثانياً: إنها تزيد من قوة الأتباع وإصرارهم وثباتهم على مبدئهم، فإن رؤيتهم للعنصر الغيبي بين يدي قائدهم يطمئنهم بأن الغيب معهم، وبأن قوة -أعلى من قوة أي إنسان وأية قوة- تسير معهم وبجانبهم.

ثالثاً: إن الإعجاز خير دليل على حقانية الحركة، لذلك كانت المعجزة هي أول ما يطالب به الناس الأنبياء إبان دعواتهم الإلهية.

أو قل: إنها فيصل مهم يميز الحركة الحق من الأخرى الكاذبة، ولذلك يمكننا أن نطالب من يدّعي المهدوية بما لا يستطيع أن يأتي به إلا من عنده تأييد إلهي غيبي، على غرار ما ورد عن المفضَّل بن عمر، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «...إن ادَّعى مدعٍ فاسألوه عن تلك العظائم التي يجيب فيها مثله».(1)

وأوضح ما ورد في ذلك ما جاء في إقامة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف المعجزة الواضحة للحسني عندما يطالبه بها لإثبات أنَّه الحقّ.(2)

وكل هذا يولّد نقطة قوة لا مثيل لها في أية حركة تصاحبها المعجزة، أو قل: يصاحبها التأييد الغيبي.

والقضية المهدوية شأنها شأن الحركات التغييرية للأنبياء، ستقوم وفق القانون الطبيعي، لكن العنصر الغيبي سيكون حاضراً فيها بصورة واضحة جداً، وهو ما

ص: 368


1- الغيبة للنعماني: 178/ باب 10/ فصل 4/ ح 9.
2- راجع: الهداية الكبرى: 404.

حدّثتنا به روايات الملاحم وعصر الظهور.

المفردة الأولى: الصيحة:

فإن عنصر التأييد الغيبي فيها واضح جداً، فالمنادي بها هو جبرئيل علیه السلام، والصوت يصل إلى الجميع في لحظة واحدة، بل ويفهمها الجميع مرة واحدة، والصوت يوضح وبصراحة أن الحق هو مع المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف .(1)

المفردة الثانية: الخسف في البيداء.

فعندما يلحق جيش السفياني بالمهدي، يؤمر به، فيُخسف به في البيداء بين مكة والمدينة، وهي علامة إعجازية بحتة.

المفردة الثالثة: الرعب:

ففي الرواية عن أبي جعفر علیه السلام: «...يسير الرعب أمامه شهرا وخلفه شهرا...».(2)

وعن علي علیه السلام: «...ويسير الرعب بين يديه...».(3)

المفردة الرابعة: بعض خصائص الإمام علیه السلام:

1/ عدم تغيّر هيأته وقوَّته بمرور الدهور والسنين، وخروجه يوم يخرج شاباً كأقوىٰ ما يكون الإنسان، وإن كان عمره أكبر من عمر أيّ شيخ موجود:

فعن أبي الصلت الهروي، قال: قلت للرضا علیه السلام: ما علامات القائم منكم إذا خرج؟ قال: «علامته أن يكون شيخ السنّ، شابّ المنظر، حتَّىٰ أنَّ الناظر إليه ليحسبه ابن أربعين

ص: 369


1- غيبة النعماني/ باب 14.
2- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 52 - ص 343 عن تفسير العياشي ج2 ص 59
3- الملاحم والفتن - السيد ابن طاووس - ص 138 عن نعيم.

سنة أو دونها، وإنَّ من علاماته أن لا يهرم بمرور الأيام والليالي حتَّىٰ يأتيه أجله»(1).

ولذا، فمن فتن وامتحانات الظهور هو خروج الإمام علیه السلام شابَّاً وهم يظنّونه شيخاً كبيراً، فعن أبي عبد الله علیه السلام أنَّه قال: «لو قد قام القائم لأنكره الناس، لأنَّه يرجع إليهم شابَّاً موفَّقاً، لا يثبت عليه إلَّا من قد أخذ الله ميثاقه في الذرّ الأوَّل»، وفي غير هذه الرواية أنَّه قال علیه السلام: «وإنَّ من أعظم البلية أن يخرج إليهم صاحبهم شابَّاً وهم يحسبونه شيخاً كبيراً»(2).

2/ تظليل غمامة علىٰ رأسه الشريف دائماً، وصوت من تلك الغمامة يسمعه الثقلان بأنَّ هذا مهدي آل محمّد، وبعض الروايات قالت بأنَّ المنادي بذلك الصوت هو ملك، ولا منافاة بين الروايتين كما هو واضح.

فعن الإمام الصادق علیه السلام: «... يظهر في آخر الزمان [و]علىٰ رأسه غمامة تظلّه من الشمس تدور معه حيثما دار تنادي بصوت فصيح هذا المهدي»(3).

وعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «يخرج المهدي وعلىٰ رأسه غمامة فيها منادٍ ينادي: هذا المهدي خليفة الله فاتَّبعوه»(4).

وفي رواية أُخرىٰ عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «يخرج المهدي وعلىٰ رأسه ملك ينادي: ألَا إنَّ هذا المهدي فاتَّبعوه»(5).

3/عنده مواريث الأنبياء(6)،

ومن تلك المواريث ما صفته إعجازية كعصا موسى

ص: 370


1- كمال الدين: 652/ باب 57/ ح 12.
2- الغيبة للنعماني: 194 و195/ باب 10/ فصل 4/ ح 43.
3- كشف الغمَّة 3: 275.
4- كشف الغمَّة 3: 270/ ح 16.
5- الصراط المستقيم 2: 259/ ح 1.
6- انظر لتفاصيل تلك المواريث: شذرات مهدوية- الشيخ حسين الاسدي- الشذرة السادسة.

ودرعي رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، فإنَّ هناك درعان ذكرتهم الروايات، أحدهما: يسمى ب(درع الإمامة)، ولا يلبسه إلا المعصوم، فإذا ما لبسه غير المعصوم لا يستوي عليه، وأما الدرع الآخر: فيسمى ب(درع الخاتمية)، وهذا لا يستوي إلا على الرسول صلی الله علیه وآله وسلم والإمام المهدي عجل الله فرجه الشریف، وقد روي عن الإمام الصادق علیه السلام يذكر فيها بعض مواريث الأنبياء التي ورثها أهل البيت علیهم السلام : «ولقد لبس أبي درع رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فخطَّت علىٰ الأرض خطيطاً، ولبستها أنا فكانت وكانت، وقائمنا من إذا لبسها ملأها إن شاء الله»(1).

المفردة الخامسة: نصرته بالملائكة.

وهو ما ذكرته الروايات الكثيرة أيضًا، فعن أبي حمزة الثمالي، قال: سمعت أبا جعفر محمّد بن علي علیهما السلام يقول: «لو قد خرج قائم آل محمّد صلی الله علیه وآله وسلم لنصره الله بالملائكة المسوّمين والمردفين والمنزلين والكرّوبيين، يكون جبرائيل أمامه، وميكائيل عن يمينه، وإسرافيل عن يساره، والرعب يسير مسيرة شهر أمامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله، والملائكة المقرَّبون حذاه...»(2).تذكر

بعض الروايات الشريفة

أنَّ مجموعة من الملائكة نزلوا لنصرة الإمام الحسين علیه السلام، ولكنَّهم لم يُؤذَن لهم، وكان رئيسهم اسمه (منصور)، وأنَّهم ينتظرون قيام القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف لينصروه وليكونوا معه.

وعن الإمام الصادق علیه السلام : «... وأربعة آلاف هبطوا يريدون القتال مع الحسين علیه السلام لم يُؤذَن لهم، فرجعوا في الاستيمار، فهبطوا وقد قُتِلَ الحسين علیه السلام، فهم عند قبره شعث غبر يبكونه إلىٰ يوم القيامة، ورئيسهم ملك يقال له: منصور، فلا يزوره زائر إلَّا استقبلوه، ولا يُودِّعه مودِّع إلَّا شيَّعوه، ولا مريض إلَّا عادوه، ولا يموت ميِّت إلَّا صلّوا عليه

ص: 371


1- الكافي 1: 233/ باب ما عند الأئمَّة من سلاح رسول الله 9 ومتاعه/ ح 1.
2- الغيبة للنعماني: 239 و240/ باب 13/ ح 22.

واستغفروا له بعد موته، فكلُّ هؤلاء ينتظرون قيام القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف...»(1).

وغيرها من الروايات.

المفردة السادسة: إحياء بعض الموتى وحضورهم في ركبه عجل الله تعالی فرجه الشریف:

عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «يُخرِج القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف من ظهر الكوفة سبعة وعشرين رجلاً، خمسة عشر من قوم موسىٰ علیه السلام الذين كانوا يهدون بالحقّ وبه يعدلون، وسبعة من أهل الكهف، ويوشع بن نون، وسلمان، وأبا دجانة الأنصاري، والمقداد، ومالكاً الأشتر، فيكونون بين يديه أنصاراً وحكّاماً»(2).

وموضوع الرجعة موضوع مستقل، لذلك أفرده الشيخ رحمه الله ببحث خاص.

ص: 372


1- الغيبة للنعماني: 323/ باب 20/ ح 5.
2- الإرشاد 2: 386.

عقيدتنا في الرجعة

اشارة

قال سماحة الشيخ المظفر (رحمه الله وطيّب ثراه):

«عقيدتنا في الرجعة:

إنّ الذي تذهب إليه الإمامية أخذاً بما جاء عن آل البيت علیهم السلام أنّ الله عزوجل يعيد قوماً من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها، فيُعِزُّ فريقاً ويُذِلُّ فريقاً آخر، ويديل المُحقين من المُبطلين والمظلومين منهم من الظالمين، وذلك عند قيام مهدي آل محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام.

ولا يرجع إلا من علت درجته في الإيمان أو من بلغ الغاية من الفساد، ثم يصيرون بعد ذلك إلى الموت، ومن بعده إلى النشور وما يستحقونه من الثواب أو العقاب، كما حكى الله عزوجل في قرآنه الكريم تمني هؤلاء المُرتجعين الذين لم يُصلحوا بالارتجاع فنالوا مقت الله أنْ يخرجوا ثالثاً لعلهم يُصلحون: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ﴾.

نعم قد جاء القرآن الكريم بوقوع الرجعة إلى الدنيا، وتظافرت بها الأخبار عن بيت العصمة.

والإمامية بأجمعها عليه إلا قليلون منهم تأولوا ما ورد في الرجعة بأنّ معناها رجوع الدولة والأمر والنهي إلى آل البيت بظهور الإمام المنتظر، من دون رجوع أعيان الأشخاص وإحياء الموتى.

والقول بالرجعة يُعدُّ عند أهل السنة من المستنكرات التي يستقبح الاعتقاد بها،

ص: 373

وكان المؤلفون منهم في رجال الحديث يُعدّون الاعتقاد بالرجعة من الطعون في الراوي والشناعات عليه التي تستوجب رفض روايته وطرحها.

ويبدو أنّهم يُعدّونها بمنزلة الكفر والشرك بل أشنع، فكان هذا الاعتقاد من أكبر ما تنبز به الشيعة الإمامية ويشنع به عليهم.

ولا شكَّ في أنَّ هذا من نوع التهويلات التي تتخذها الطوائف الإسلامية فيما غبر ذريعة لطعن بعضها في بعض والدعاية ضده.

ولا نرى في الواقع ما يبرر هذا التهويل، لأنَّ الاعتقاد بالرجعة لا يخدش في عقيدة التوحيد ولا في عقيدة النبوة، بل يؤكد صحة العقيدتين، إذ الرجعة دليل القدرة البالغة لله عزوجل كالبعث والنشر، وهي من الأمور الخارقة للعادة التي تصلح أن تكون معجزةً لنبينا محمد وآل بيته (صلى الله عليه وعليهم) وهي عيناً معجزة إحياء الموتى التي كانت للمسيح علیه السلام، بل أبلغ هنا؛ لأنّها بعد أنْ يصبح الأموات رميماً ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾

وأما من طعن في الرجعة باعتبار أنّها من التناسخ الباطل، فلأنّه لم يفرق بين معنى التناسخ وبين المعاد الجسماني، والرجعة من نوع المعاد الجسماني، فإن معنى التناسخ هو انتقال النفس من بدن إلى بدن آخر منفصل عن الأول، وليس كذلك معنى المعاد الجسماني، فإن معناه رجوع نفس البدن الأول بمشخصاته النفسية فكذلك الرجعة.

وإذا كانت الرجعة تناسخاً فإنّ إحياء الموتى على يد عيسى علیه السلام كان تناسخاً، وإذا كانت الرجعة تناسخاً كان البعث والمعاد الجسماني تناسخاً.

إذن، لم يبقَ إلا أنْ يناقش في الرجعة من جهتين (الأولى) أنّها مستحيلة الوقوع (الثانية) كذب الأحاديث الواردة فيها.

وعلى تقدير صحة المناقشتين فإنّه لا يعتبر الاعتقاد بها بهذه الدرجة من الشناعة التي

ص: 374

هو لها خصوم الشيعة.

وكم من معتقداتٍ لباقي طوائف المسلمين هي من الأمور المستحيلة أو التي لم يثبت فيها نص صحيح، ولكنّها لم توجب تكفيراً وخروجاً عن الإسلام، ولذلك أمثلةٌ كثيرةٌ: منها الاعتقاد بجواز سهو النبي أو عصيانه، ومنها الاعتقاد بقدم القرآن، ومنها القول بالوعيد، ومنها الاعتقاد بأنّ النبي لم ينص على خليفة من بعده.

على أنَّ هاتين المناقشتين لا أساس لهما من الصحة، أما أنّ الرجعة مستحيلةٌ فقد قلنا أنّها من نوع البعث والمعاد الجسماني غير أنّها بعثٌ موقوتٌ في الدنيا، والدليل على إمكان البعث دليلٌ على إمكانها.

ولا سبب لاستغرابها إلا أنّها أمرٌ غير معهودٍ لنا فيما ألفناه في حياتنا الدنيا، ولا نعرف من أسبابها أو موانعها ما يقربها إلى اعترافنا أو يبعدها وخيال الإنسان لا يسهل عليه أنْ يتقبّل تصديق ما لم يألفه، وذلك كمن يستغرب البعث فيقول: ﴿مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ فيقال له: ﴿يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾.

نعم في مثل ذلك، مما لا دليل عقلي لنا على نفيه أو إثباته أو نتخيل عدم وجود الدليل، يلزمنا الرضوخ إلى النصوص الدينية التي هي من مصدر الوحي الإلهي، وقد ورد في القرآن الكريم ما يثبت وقوع الرجعة إلى الدنيا لبعض الأموات كمعجزة عيسى علیه السلام في إحياء الموتى ﴿وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ﴾، وكقوله عزوجل: ﴿أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ والآية المتقدمة: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ..﴾، فإنّه لا يستقيم معنى هذه الآية بغير الرجوع إلى الدنيا بعد الموت، وإنْ تكلّف بعض المفسرين في تأويلها بما لا يروي الغليل ولا يُحقِّق معنى الآية.

وأما المناقشة الثانية، وهي دعوى أنَّ الحديث فيها موضوع، فإنّه لا وجه لها؛ لأنّ الرجعة من الأمور الضرورية فيما جاء عن آل البيت من الأخبار المتواترة.

ص: 375

وبعد هذا، أفلا تعجب من كاتب شهير يدعي المعرفة مثل أحمد أمين في كتابه (فجر الإسلام) إذ يقول: «فاليهودية ظهرت في التشيع بالقول بالرجعة»، فأنا أقول له على مدعاه: فاليهودية أيضاً ظهرت في القرآن بالرجعة، كما تقدم ذكر القرآن لها في الآيات المتقدمة.

ونزيده فنقول: والحقيقة أنّه لا بُدّ أنْ تظهر اليهودية والنصرانية في كثيرٍ من المعتقدات والأحكام الإسلامية؛ لأنّ النبي الأكرم جاء مصدقاً لما بين يديه من الشرائع السماوية وإنْ نسخَ بعض أحكامها، فظهور اليهودية أو النصرانية في بعض المعتقدات الإسلامية ليس عيباً في الإسلام، على تقدير أنّ الرجعة من الآراء اليهودية كما يدّعيه هذا الكاتب.

وعلى كُلِّ حالٍ فالرجعة ليست من الأصول التي يجب الاعتقاد بها والنظر فيها، وإنّما اعتقادنا بها كان تبعاً للآثار الصحيحة الواردة عن آل البيت علیهم السلام الذين ندين بعصمتهم من الكذب، وهي من الأمور الغيبية التي أخبروا عنها، ولا يمتنع وقوعها.» انتهى.

أشار الشيخ إلى عدة نقاطٍ نتناولها بشيءٍ من التوضيح تباعًا، وهي:

النقطة الأولى: معنى الرجعة.

اشارة

إنَّ الرجعة بعبارة بسيطة هي: رجوع بعض الأموات بأجسادهم التي دُفِنوا بها إلى دار الدنيا عند ظهور الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف؛ ليُكملوا حياةً أخرى لهم من النقطة التي ماتوا عندها، لا من نقطة الصفر.

فتختلف رجعة الإنسان عن ولادته في أن الولادة هي خروج من رحم الأم ومن نقطة الصفر، ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.(1)

ص: 376


1- النحل 78

كما تختلف عن البعث يوم القيامة من عدة جهات، منها: أنّها خاصة، ورجوعٌ إلى عالم الدنيا، ومتبوعةٌ بالموت، أما البعث فهو عام لجميع البشرية التي وجدت على وجه الأرض بل حتى الحيوانات، ولا يكون إلا في عالم الآخرة، وهو يوم الخلود.

وتختلف أيضًا عن التناسخ الذي يعتقد به البعض؛ لأنَّ التناسخ يعني تحول وانتقال الروح إلى جسمٍ جديد إنساني أو حيواني، ويبدأ التكامل من نقطة الصفر، على حين أنَّ الرجعة هي رجوعُ الروح إلى نفس الجسد الذي خرجت منه لا إلى غيره، وترجع إليه وهو بنفس الحالة الكمالية التي كانت عندما خرجت الروح منه.

تفسيرٌ آخر للرجعة ومناقشته:

حاول البعض أنْ يفسر الرجعة بتفسيرٍ غير ما تقدّم، وخلاصته: رجوع الحق والإمامة إلى أصحابها الشرعيين أهل البيت علیهم السلام في زمن الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، لا رجوع الأموات إلى الحياة.

وهو تفسيرٌ ليس وليد اليوم، إنَّما يظهر من بعض الروايات الشريفة أنَّه موجود في زمن الأئمة علیهم السلام، وقد أطلق الإمام الصادق علیه السلام على من يقول بهذه المقولة من الشيعة (مقصرة الشيعة).

وهو تفسيرٌ مخالفٌ لصريح الروايات الشريفة لاسيما تلك الروايات التي شخّصت بعض الأفراد بأنَّهم سيرجعون زمن ظهور الإمام علیه السلام.

روي أنَّ الإمام الصادق علیه السلام سأل المفضل بن عمر: «فمن أين قلت برجعتنا ومقصرة شيعتنا أن معنى الرجعة أن يرد الله الينا ملك الدنيا فيجعله للمهدي، ويحهم متى سلبنا الملك حتى يرد إلينا.

قال المفضل: لا والله يا مولاي ما سلبتموه ولا تسلبونه لأنه ملك النبوة والرسالة

ص: 377

والوصية والإمامة.

قال الصادق علیه السلام: يا مفضل، لو تدبر القرآن شيعتنا لما شكُّوا في فضلنا، أما سمعوا قول الله جل من قائل: ﴿وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتىٰ قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلىٰ وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(1)،

فأخذ إبراهيم علیه السلام أربعة أطيار فذبحها وقطعها وأخلط لحومها وريشها حتى صارت قبضة واحدة ثم قسّمها أربعة اجزاء وجعلها على أربعة أجبال ودعاها فأجابته وأقرت وأيقنت بوحدانية وبرسالة إبراهيم بصورها الأولية..».(2)

وأخذ الإمام علیه السلام يعدد بعض الآيات التي تدل على وقوع الرجعة في الأمم السابقة...

النقطة الثانية: القيمة الاعتقادية للرجعة.

إنَّ الاعتقاد بالرجعة لا يُعدُّ أصلًا من أصول الدين بحيث يكفر منكرها أو يخرج عن المذهب فيما إذا كان إنكاره لها عن شبهةٍ أو عن شيءٍ اعتقد به دليلًا على عدم وقوعها.

وبعبارةٍ أخرى: لو قال شخصٌ بعدم ثبوت أدلة الرجعة عنده، فلا يكفر ولا يخرج عن المذهب؛ لذلك تجد أنَّ هناك خلافًا في إثباتها أو نفيها بين العلماء. وبهذا الاعتبار، فلا يصح جعلها مفصلًا يكفر عليها الإنسان إثباتًا أو نفيًا.

نعم، إن كان إنكارها راجعًا إلى إنكار قدرة الله عزوجل عليها، أي استلزم إنكارها إنكار قدرتهسبحانه تعالی على إحياء الموتى، فهذا يستلزم الكفر، ولكن لا من جهة إنكار الرجعة بما هي هي، ولكن لاستلزامها إنكار صفةٍ ذاتيةٍ من صفاته عزوجل وهي القدرة الثابتة عقلًا ونقلًا.

ص: 378


1- البقرة 260
2- الهداية الكبرى للخصيبي ص419 و 420.

والقول بعدم ترتب الكفر على منكر الرجعة لا يعني أنَّها ليست من المسائل العقائدية الضرورية، بل هي ضرورية؛ للأدلة المتواترة التي أقيمت عليها، بل أشار السيد الطباطبائي في تفسيره الميزان إلى أنَّ الروايات الدالة على الرجعة قد بلغت ما يقرب من الخمسمائة رواية.(1)

وقال في موضع آخر: وأخبار الرجعة من طرق الشيعة كثيرة جدا.(2)

وقال الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في كتابه أصل الشيعة وأصولها: «ليس التديُّن بالرجعة في مذهب الشيعة بلازمٍ ولا إنكارها بضارٍ، ولا يُناط التشيع بها وجودًا وعدمًا، وليست هي إلا كبعض أنباء الغيب وحوادث المستقبل وأشراط الساعة مثل نزول عيسى من السماء وظهور الدجال وخروج السفياني وأمثالها من القضايا الشائعة عند المسلمين وما هي من الإسلام في شيء، وليس إنكارها خروجًا منه ولا الاعتراف بها بذاته دخولًا فيه وكذا حال الرجعة عند الشيعة».(3)

النقطة الثالثة: هل الرجعة أمر ممكن أو مستحيل؟

اشارة

إننا نحكم ببطلان عقيدةٍ ما إذا كانت متصفةً بإحدى صفتين:

الأولى: أن تكون مخالفةً لضرورة عقلية.

كقول النصارى: إنَّ الله عزوجل في عين كونه واحدًا هو ثلاثة (الأب والابن وروح القدس)، وكادعاء بعض المجسمة -ومنهم الوهابية- أنَّ لله عزوجل يدًا مادية وعينًا مادية وما شاكل ذلك، فإنَّ هذا يستلزم التركيب والجسمية والمحدودية، مما يعني وجود الله عروجل في مكانٍ دون آخر، وهو محالٌ؛ لأنّ التركيب والجسمية والمحدودية من صفات الإمكان،

ص: 379


1- تفسير الميزان للطباطبائي ج2 ص 106.
2- تفسير الميزان للطباطبائي ج15 ص 406.
3- أصل الشيعة وأصولها- الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء- ص167

وهو (جلّ في علاه) واجبٌ. تعالى الله عما يصفون علوًا كبيرًا.

الثانية: أن تكون مخالفةً لضرورةٍ نقلية.

كادعاء أنَّ النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم يهجر أو يخطئ؛ لأنه مخالفٌ لقوله عزوجل: ﴿وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحىٰ﴾(1)

وليس في الرجعة ما يخالف ضرورة نقلية ولا عقلية.

بل إنَّ العقل والنقل دلّا على إمكان البعث يوم القيامة، وهو رجوعٌ بصورةٍ شاملة وعامة وأكثر وأعقد من الرجعة، فكلُّ من آمن بالبعث والمعاد يلزمه أن يقول بإمكان الرجعة.

النقطة الرابعة: هل الرجعة أمرٌ واقعٌ خارجًا أو إنه باقٍ في حيز الإمكان؟

إنَّ الرجعة وقعت في الأمم السابقة، وما دامت وقعت سابقًا فلا مانع من وقوعها في المستقبل، خصوصًا مع ما ورد عن النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم: «لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة»، وفي روايةٍ أخرى: «حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه».(2)

وهناك أدلةٌ قرآنيةٌ كثيرة تدلُّ على وقوع الرجعة في الأمم السابقة، منها ما يأتي(3):

ألف: في ما يتعلق بالنبي الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، وعظام أهلها نخرة متفرقة هنا وهناك. فتساءل في نفسه وقال: أنى يحيى هذه الله بعد موتها فأماته الله مئة عام ثم أحياه فقال له: كم لبثت؟! قال: لبثت يوما أو بعض يوم قال: بل لبثت مئة عام. [مؤدى الآية 259 - من سورة البقرة]. وسواء كان هذا النبي عزيراً أم سواه، فلا فرق في ذلك، المهم أن القرآن صرح بحياته بعد موته في هذه الدنيا فأماته الله

ص: 380


1- النجم 4 و 5.
2- دعائم الإسلام للقاضي المغربي ج1 ص 1.
3- انظر: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج 12 - ص 142 – 144.

مئة عام ثم بعثه!

ب - يتحدث القرآن - في الآية (243) من سورة البقرة ذاتها - عن جماعة أخرى خرجت من ديارها خوفا من الموت، وامتنعت من الذهاب إلى سوح القتال بحجة مرض الطاعون، فأماتها الله ثم أحياها ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ وبالرغم من أن بعض المفسرين لم يتحملوا وقوع مثل هذه الحادثة غير المألوفة، وعدوها مثالا فحسب، إلا أن من الواضح أن مثل هذه التأويلات إزاء ظهور الآية - بل صراحتها - لا يمكن المساعدة عليه!

ج - وفي الآيتين 55 و 56 من سورة البقرة أيضاً، يتحدث القرآن عن بني إسرائيل فيقول: وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون، ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون.

د - ونقرأ في الآية (110) ضمن معاجز عيسى قوله تعالى: ﴿وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي﴾. ويدل هذا التعبير على أن المسيح علیه السلام أحيا الموتى فعلا، بل التعبير بالفعل المضارع (تخرج) يدل على أنه أحيا الموتى مرارا، وهذا الأمر بنفسه يعد نوعا من الرجعة لبعضهم!

ه - وأخيرا ففي الآيتين (72) و (73) من سورة البقرة، إشارة إلى مقتل رجل من بني إسرائيل ووقوع الجدال والنزاع في شأن قاتله، وما أمرهم الله أن يفعلوه بضرب القتيل ببعض البقرة - الواردة خصائصها في الآية 71 و 72 - إذ يقول سبحانه: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتىٰ وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾.

وبالإضافة إلى هذه المواطن الخمسة التي أشرنا إليها، فهناك مواطن أخر في القرآن،

ص: 381

منها قصة أصحاب الكهف، وهي قصة تشبه الرجعة. وقصة الأربعة من الطير التي أمر إبراهيم أن يذبحها فأتينه سعيا بعد ذبحهن وتفريقهن على رأس كل جبل جزءا منهن، ليتضح له إمكان المعاد للناس ويكون مجسدا برجوع هذه الطيور إلى الدنيا.

النقطة الخامسة: استدلال آخر على الرجعة قرآنيًا.

اشارة

من الأدلة التي استُدِلَ بها على الرجعة هي الآية القرآنية التي تحكي حال بعض الناس مع الله عزوجل: ﴿قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلىٰ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ﴾(1)

ببيان:

إنَّ هؤلاء يتكلمون مع الله عزوجل بقولهم: ﴿رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ والإماتة الأولى وقعت في الحياة الدنيا، وأنهت حياتهم الأولى، وبعد ذلك رجعوا إلى الدنيا، ومن ثم أماتهم الله عزوجل مرةً ثانية، وهذه الإماتة أيضًا وقعت في الحياة الدنيا، وأنهت حياتهم الثانية فيها. وبعد أن ماتوا أعاد الله عروجل لهم الحياة مرة ولكن هذه المرة في الحياة الأخروية.

وبذا كانت هناك إماتتان وإحياءان، ومعنى الآية لا يستقيم إلا بالقول بالرجعة. وهذا ما اشار إليه الشيخ رحمه الله في عبارة كلامه، حيث قال: «كما حكى الله تعالى في قرآنه الكريم تمني هؤلاء المرتجعين الذين لم يصلحوا بالارتجاع فنالوا مقت الله أن يخرجوا ثالثا لعلهم يصلحون:﴿قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلىٰ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ﴾.»

ثم أشار (طيّب الله ثراه) إلى أنَّ البعض قد حاول أنْ يناقش في هذه الآية ويفسرها بتفسيرٍ آخر لا يتلاءم مع الرجعة، ومن هذه التفاسير ما نقله فخر الدين الطريحي في

ص: 382


1- غافر 11.

تفسير غريب القرآن:

التفسير الأول:

قال: «فالموتة الأولى: كونهم نطفا في أصلاب آبائهم لأن النطفة ميتة، والحياة الأولى إحياء الله إياهم من النطفة، والموتة الثانية إماتة الله إياهم بعد الحياة، والحياة الثانية إحياء الله إياهم للبعث فهاتان موتتان وحياتان.»(1)

وهذا التفسير غير مقبول؛ لأنّه لا يُقال عن النطفة في صلب الرجل إنَّها ميتة؛ لأنَّ الموتَ يكون عن حياة، أي هناك حياةٌ تسبق الموت، والعلم أثبت أنَّ النطفة ليست ميتة.

التفسير الثاني:

إنَّ الحياة الأولى هي حياتهم في عالمِ الذر، وبعد عالم الذر ماتوا الموتة الأولى، ثم صار عندهم حياة في الدنيا ثم ماتوا، حيث نقل الطريحي: «وقيل: إن الموتة الأولى التي كانت بعد إحياء الله إياهم في الذر إذ سألهم ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلىٰ﴾(2)، ثم أماتهم بعد ذلك ثم أحياهم بإخراجهم إلى الدنيا، ثم أماتهم ثم يبعثهم الله إذا شاء، فهذه موتتان وحياتان».(3)

وهذا التفسير أغرب من سابقه كما هو واضح.

النقطة السادسة: محاولة الكيد بالتشيع من خلال القول بالرجعة.

حاول البعض (مثل أحمد أمين المصري في كتابه فجر الإسلام) أنْ ينكر القول بالرجعة ويحاول الكيد بالتشيع فيقول: فاليهودية ظهرت في التشيع بالقول بالرجعة.(4)

والحال أنَّه مع إمكانها وتصريح القرآن بوقوعها لا مجال لإنكارها، وأما اعتقاد

ص: 383


1- تفسير غريب القرآن للشيخ فخر الدين الطريحي ص 138.
2- الأعراف 172
3- تفسير غريب القرآن للشيخ فخر الدين الطريحي ص 138.
4- راجع: أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين ج1 ص55.

اليهود بها فلا يبطل حقانيتها، فإنَّ الذي يمكن أنْ يُشنَّع به على أحد هو الاعتقاد بالباطل، أما إذا كان اعتقادًا صحيحًا فلا.

وإلا فاليهود يعتقدون بوجوب الختان والذبح بالسكين أيضًا، أفمن اللازم أنْ نتخلى عن تلك الأحكام لاعتقادهم بها، بل هم يعتقدون أيضًا بأن الله عزوجل هو الخالق، أفنكفر بذلك لنظفر برضا أحمد أمين وأمثاله قليلي العقل والمنطق؟!

ثم لا أدري كيف يجيب أحمد أمين وأمثاله على أمر عمر بن الخطاب بالتكتف في الصلاة وجعله واجبًا بعد أنْ شاهده عند مجموعةٍ من اليهود تبجيلًا لعظمائهم، فاستحسنه وحمله على المسلمين في صلاتهم!

النقطة السابعة: ما هي فلسفة الرجعة؟

ذكر العلماء العديد من النكات والحكم للرجعة في الدنيا، نذكر منها:

1 – هي دليلٌ آخر على إمكان وقوع البعث يوم القيامة.

2 – هي فرصةٌ لتكامل المؤمنين الذي حالت الظروف دون وصولهم إلى كمالهم الذي كان من الممكن أن يصلوا إليه.

3 – هي انتقامٌ معجل لأولئك الظلمة الذين ماتوا من دون أنْ يؤخذ الحق منهم.

4 – إنَّ كثيرًا ممن يرجعون سيكون لهم أدوار مهمة في دولة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، ولذلك نجد الترابط واضحًا بين الرجعة ودولة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.

النقطة الثامنة: هل ذكرت الروايات الشريفة أسماء بعض الذين يرجعون؟

نعم، والروايات في هذا المجال كثيرة، منها:

عن الإمام الصادق علیه السلام: «أول من تنشق الأرض عنه ويرجع إلى الدنيا الحسين بن

ص: 384

علي علیهما السلام».(1)

وعنه علیه السلام : «إنَّ أول من يكر في الرجعة الحسين بن علي علیه السلام، ويمكث في الأرض أربعين سنة حتى يسقط حاجباه على عينيه».(2)

وعن الإمام الحسين علیه السلام: «أكون أول من ينشق الأرض عنه، فأخرج خرجة يوافق ذلك خرجة أمير المؤمنين وقيام قائمنا».(3)

وعن الإمام الباقر علیه السلام - لبكير بن أعين: «إنَّ رسول الله صلی اللععلیه وآله وسلم وعليًا سيرجعان».(4)

وعن الإمام الصادق علیه السلام : «كأني بحمران بن أعين وميسر بن عبد العزيز يخبطان الناس بأسيافهما بين الصفا والمروة».(5)

وعن الإمام علي علیه السلام : «...وليبعثنهم الله أحياءً من آدم إلى محمد صلی الله علیه وآله وسلم كل نبي مرسل، يضربون بين يدي بالسيف هام الأموات والأحياء والثقلين جميعًا... وإن لي الكرة بعد الكرة والرجعة بعد الرجعة، وأنا صاحب الرجعات والكرات وصاحب الصولات والنقمات».(6)

وعن الإمام الباقر علیه السلام: «كأني بعبد الله بن شريك العامري عليه عمامة سوداء وذؤابتاها بين كتفيه مصعدًا في لحف الجبل بين يدي قائمنا أهل البيت في أربعة آلاف مكبرون، ومكرون».(7)

ص: 385


1- مختصر بصائر الدرجات - الحسن بن سليمان الحلي - ص 24.
2- مختصر بصائر الدرجات - الحسن بن سليمان الحلي - ص 18.
3- مختصر بصائر الدرجات - الحسن بن سليمان الحلي - ص 37.
4- مختصر بصائر الدرجات - الحسن بن سليمان الحلي - ص 37.
5- مختصر بصائر الدرجات - الحسن بن سليمان الحلي - ص 25.
6- مختصر بصائر الدرجات - الحسن بن سليمان الحلي - ص 33.
7- اختيار معرفة الرجال - الشيخ الطوسي - ج 2 - ص 481 رقم 390.

وعن الإمام الصادق علیه السلام: «إنّي سألت الله في إسماعيل أنْ يبقيه بعدي فأبى ولكنه قد أعطاني فيه منزلة أخرى أنَّه يكون أول منشور في عشرة من أصحابه ومنهم عبد الله بن شريك وهو صاحب لوائه».(1)

وفي رواية الإرشاد عن الإمام الصادق علیه السلام : «يُخرج القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف من ظهر الكوفة سبعة وعشرين رجلا، خمسة عشر من قوم موسى علیه السلام الذين كانوا يهدون بالحق وبه يعدلون، وسبعة من أهل الكهف، ويوشع بن نون، وسلمان، وأبا دجانة الأنصاري، والمقداد، ومالكا الأشتر، فيكونون بين يديه أنصارا وحكاما»(2).

وهناك روايات أخرى، نكتفي بهذا القدر منها.

النقطة التاسعة: رجوع الإمام الحسين علیه السلام ودوره؟

اشارة

إنَّ مما أكدته الروايات الشريفة هو رجوع الإمام الحسين علیه السلام، وأنّه أول من سيرجع وتنشق الأرض عنه، ومن تلك الروايات الواردة في هذا المجال ما روي عن أبي جعفر الباقر علیه السلام: «أنّ الحسين علیه السلام قال لأصحابه: «أبشروا بالجنة، فوالله! إنّا نمكث ما شاء الله بعد ما يجري علينا، ثم يخرجنا الله وإياكم حتى يظهر قائمنا، فينتقم من الظالمين وأنا وأنتم نشاهدهم في السلاسل والأغلال وأنواع العذاب».(3)

وورد أنَّ الله عزوجل أخبر رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وبشّره بالحسين علیه السلام قبل حمله وأنَّ الإمامة تكون في ولده إلى يوم القيامة ثم أخبره بما يُصيبه من القتل والمصيبة في نفسه وولده ثم عوضه بأنْ جعل الإمامة في عقبه وأعلمه أنَّه يُقتل، ثم يرده إلى الدنيا وينصره حتى يقتل

ص: 386


1- اختيار معرفة الرجال - الشيخ الطوسي - ج 2 - ص 481 رقم 391.
2- الإرشاد للشيخ المفيد: ج2، ص386.
3- موسوعة كلمات الإمام الحسين علیه السلام - لجنة الحديث في معهد باقر العلوم علیه السلام - ص 498 الحديث 476.

أعداءه ويملكه الأرض وهو قوله عزوجل: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَىٰ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ﴾(1).(2)

وقد ذكر بعض العلماء بأنَّ رجوعه هو من أجل:

1/ الوصول بالأمة إلى هدفه الذي نهض من أجله وحالت الظروف دون وصوله إليه «الإصلاح في أمة جدي رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم »...(3)

2/ قيادة دولة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف بعد قتله، ولذلك ذكرت الرواية أنَّ الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف سيكون موته بعد استقرار معرفة الناس بأن هذا هو الحسين علیه السلام ...

إن الإصلاح الذي ثار من أجله الإمام الحسين علیه السلام غايته العدل والقسط، وهو ما لم تتح الفرصة المواتية لتحقيقه آنذاك، وهو ما سيتم على يدي المهديf وسيكون للإمام الحسين علیه السلام دور في ذلك أيضاً.

3/ إنه هو الذي يلي أمر الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف بعد وفاته، لأن الوصي لا يلي أمره إلا الوصي.

فهو علیه السلام من سيغسل الإمام المهديf ويلي أمره.

فقد روي عَنْ عَبْدِ الله بْنِ الْقَاسِمِ الْبَطَلِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله8 فِي قَوْلِه تَعَالَى: ﴿وقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ﴾ قَالَ: قَتْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ علیه السلام وطَعْنُ الْحَسَنِ علیه السلام ﴿ولَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً﴾ قَالَ: قَتْلُ الْحُسَيْنِ علیه السلام ﴿فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما﴾ فَإِذَا جَاءَ نَصْرُ دَمِ الْحُسَيْنِ علیه السلام ﴿بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ﴾ قَوْمٌ يَبْعَثُهُمُ الله قَبْلَ خُرُوجِ الْقَائِمِ عجل الله تعالی فرجه الشریف فَلَا يَدَعُونَ وَتْراً

ص: 387


1- القصص 5.
2- تفسير القمي - علي بن إبراهيم القمي - ج 2 - ص 297.
3- الشيخ محمد السند في حوار أجرته معه مجلة الإصلاح الحسيني العدد الثاني ص 31.

لآِلِ مُحَمَّدٍ إِلَّا قَتَلُوه ﴿وكانَ وَعْداً مَفْعُولاً﴾ خُرُوجُ الْقَائِمِ عجل الله تعالی فرجه الشریف: ﴿ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ﴾ خُرُوجُ الْحُسَيْنِ علیه السلام فِي سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِه عَلَيْهِمُ الْبَيْضُ الْمُذَهَّبُ لِكُلِّ بَيْضَةٍ وَجْهَانِ الْمُؤَدُّونَ إِلَى النَّاسِ أَنَّ هَذَا الْحُسَيْنَ قَدْ خَرَجَ حَتَّى لَا يَشُكَّ الْمُؤْمِنُونَ فِيه وأَنَّه لَيْسَ بِدَجَّالٍ ولَا شَيْطَانٍ والْحُجَّةُ الْقَائِمُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَإِذَا اسْتَقَرَّتِ الْمَعْرِفَةُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّه الْحُسَيْنُ علیه السلام جَاءَ الْحُجَّةَ الْمَوْتُ فَيَكُونُ الَّذِي يُغَسِّلُه ويُكَفِّنُه ويُحَنِّطُه ويَلْحَدُه فِي حُفْرَتِه الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ علیه السلام،ولَا يَلِي الْوَصِيَّ إِلَّا الْوَصِيُّ.(1)

سؤال: كم هي مدة دولة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف؟

سؤال: كم هي مدة دولة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف(2)؟

ينبغي علينا في هذا الموضوع أن نُميِّز بين أمرين:

الأمر الأوَّل: مدَّة الدولة المهدوية العادلة:

وهنا يمكن القول بأنَّ الدولة ستبقىٰ إلىٰ يوم القيامة، إذا لاحظنا التالي - مع الالتفات إلىٰ أنَّ المقصود من الدولة المهدوية ما يشمل حكم الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وحكم الأئمَّة علیهم السلام في الرجعة -:

أوَّلاً: ما ورد من أنَّ دولتهم علیهم السلام هي آخر الدول علىٰ الأرض، ممَّا يعني عدم قيام دولة أُخرىٰ بعدها.

عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله علیه السلام أنَّه قال: «ما يكون هذا الأمر حتَّىٰ لا يبقىٰ صنف من الناس إلَّا وقد ولّوا علىٰ الناس حتَّىٰ لا يقول قائل: إنّا لو ولّينا لعدلنا، ثمّ يقوم القائم بالحقِّ والعدل»(3).

وعن أبي جعفر علیه السلام، قال: «دولتنا آخر الدول، ولن يبقَ أهل بيت لهم دولة إلَّا ملكوا

ص: 388


1- الكافي للكليني ج8 ص 206 و 207 ح 250.
2- انظر: على ضفاف الانتظار- الشيخ حسين الأسدي ص 276 عنوان رقم (105)
3- الغيبة للنعماني: 282/ باب 14/ ح 53.

قبلنا، لئلَّا يقولوا إذا رأوا سيرتنا: إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء، وهو قول الله عزوجل: ﴿وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾(1)»(2).

ثانياً: ما ورد من تصريح بكونها ستبقىٰ إلىٰ يوم القيامة، مثل الحديث القدسي الشريف: «ولأُطَهِّرَنَّ الأرض بآخرهم من أعدائي، ولأُمَكِّنَّنَه مشارق الأرض ومغاربها، ولأُسَخِّرَنَّ له الرياح، ولأُذَلِلَنَّ له السحاب الصعاب، ولأُرَقِيَّنَّه في الأسباب، ولأنصرنَّه بجندي، ولأمدنَّه بملائكتي حتَّىٰ تعلو دعوتي ويجتمع الخلق علىٰ توحيدي، ثمّ لأديمنَّ ملكه، ولأُداولنَّ الأيّام بين أوليائي إلىٰ يوم القيامة»(3).

ثالثاً: أنَّ قيام دولة أُخرىٰ بعدها يعني رجوع الأرض إلىٰ الظلم والجور ولو بالتدريج، وهذا خلاف ما ورد من أنَّ الأرض ستكون نهايتها بيد الصالحين، الأمر الذي يستدعي قيام مهدي آخر ليُحقِّق هذا الوعد الإلهي، ومن الواضح أنَّه لا مهدي بعد مهدي آل محمّد علیهم السلام.

الأمر الثاني: مدَّة ملك الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف:

والروايات الواردة في هذا المجال جاءت بلفظ: «يملك القائم».

وقد اختلفت الروايات في تحديد تلك المدَّة بين سبع وثمان وتسع وتسع عشرة سنة وأشهراً وسبعين وثلاثمائة وتسع سنين.

وقد يكون سبب اختلاف الروايات في تحديد هذه المدَّة راجعاً إلىٰ أحد الأُمور التالية:

أ - إمكان حصول البداء في هذه المدَّة.

ص: 389


1- الأعراف: 128
2- الغيبة للطوسي: 472 و473/ ح 493.
3- علل الشرائع للصدوق 1: 7/ باب 7/ ح 1.

ب - أنَّ الصحيح منها رواية واحدة في علم الله تعالىٰ ذكرت مدَّة معيَّنة، ولكن نحن لا نعلمها لسبب وآخر.

ج - تعمّد إخفاء أهل البيت علیه السلام المدَّة الحقيقية لسبب ما، ولعلَّه إشارة إلىٰ أنَّه ليس مهمّاً طول الفترة التي يملك بها الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، بل المهمُّ أنَّه سيُثبِّت أركان الدولة العادلة، ليستلمها من بعده من يستمرُّ بها من دون أن يزيغ عن الحقِّ قيد أنملة.

والأرجح من هذه الروايات هي الروايات التي قالت: إنَّه يملك ثلاثمائة وتسع سنين، لأنَّها واردة في كتبنا، وأكثر الروايات الأُخر واردة في كتب العامَّة.

فعن أبي الجارود، قال: قال أبو جعفر علیه السلام: «إنَّ القائم يملك ثلاثمائة وتسع سنين كما لبث أهل الكهف في كهفهم، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً...»(1).

سؤال: من الذي يلي أمر المعصوم؟

إذا كان الوصي لا يلي أمره إلا الوصي، فعند موت الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف يلي أمره الإمام الحسين علیه السلام، فإن مات الإمام الحسين علیه السلام من الذي يلي أمره؟

لو قيل: يأتي بعده أمير المؤمنين علیه السلام وهو الذي يلي أمره وهكذا، إذا وصلنا إلى آخر معصوم بحيث لا يرجع بعده معصوم آخر ليَلي أمره، فمن الذي يغسله؟

الجواب: نذكر أمرين:

الأول: هل إنَّ قاعدة (لا يلي أمر المعصوم إلا المعصوم) قاعدة عقلية؟

للتوضيح: القاعدة العقلية هي القاعدة التي لا تختلف ولا تتخلف، كمجموع زوايا المثلث التي تساوي 180 درجة، فلا يمكن أنْ تختلف باختلاف الظروف والزمان والمكان، كما لا يمكن أن تتخلف فيكون مثلثٌ ما من المثلثات مجموع زواياه أقل أو أكثر

ص: 390


1- الغيبة للطوسي: 473 و474/ ح 496.

من 180 درجة. وكاجتماع النقيضين فهو أمرٌ محال، لا يختلف في ذلك ولا يتخلف ولا يقبل الاستثناء.

ومعه، فمن الواضح أنَّ قاعدة (لا يلي أمر المعصوم إلا المعصوم) هي ليست قاعدة عقلية، وإنَّما هي قاعدة عادية إن صحّ التعبير، بمعنى أننا وجدنا أن من علامات الإمام اللاحق أنه يغسل ويصلي على الإمام السابق، وهو كما ذكر في الروايات الشريفة، لذلك عندما توفي الإمام الحسن العسكري علیه السلام خرج جعفر ليصلي عليه، فخرج الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وكان صبيًا وعمره خمس سنوات وقال: «تأخر يا عم، فأنا أحق بالصلاة على أبي»، فتأخر جعفر، وقد أربد وجهه واصفر.(1)

فهي قاعدة عاديّة لا عقلية ويمكن أنْ تختلف وتتخلف.

الثاني: نحن نؤمن بأنَّ الله عزوجل سيهيئ شخصًا لائقًا ليلي أمر المعصوم الأخير.

تنبيه:

يظهر من الروايات الشريفة التالي:

1/أن انتظار الفرج بمعناه الصحيح الذي تقدم الكلام عنه تفصيلاً، يجعل المؤمن مهيئاً ومرشحاً ليكون من الراجعين.

2/ صرَّحت بعض الروايات بأنَّ سؤالاً كان يُقلِق مضاجع بعض المؤمنين في زمن المعصومين علیهم السلام، لذلك كانوا قد توجَّهوا للأئمَّة علیهم السلام بالسؤال عنه، وهو أنه ما هو مصير المؤمن المنتظر الذي مات قبل الظهور وهو يأمل أن يُدرك ظهور مولاه الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف؟

وقد ألقىٰ إليهم الأئمَّة جواباً يُثلِج الصدور ويُبرِّد الغليل.

ص: 391


1- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 475 ب43.

إنَّ المؤمن المنتظر إذا مات قبل ظهور الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف فإنَّه سيُبشَّر بذلك وهو في قبره، وقد يُخيَّر في الرجوع إلىٰ الدنيا لنصرة القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف.

وهذا ما أشارت إليه الروايات الشريفة، فقد روي عن الإمام الصادق علیه السلام - وهو يتحدَّث عن زمن الظهور المبارك -: «... ولا يبقىٰ مؤمن ميِّت إلَّا دخلت عليه تلك الفرحة في قبره، وذلك حيث يتزاورون في قبورهم ويتباشرون بقيام القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف»(1).

وعن المفضَّل بن عمر، قال: ذكرنا القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف ومن مات من أصحابنا ينتظره، فقال لنا أبو عبد الله علیه السلام: «إذا قام أُتِىٰ المؤمن في قبره فيقال له: يا هذا! إنَّه قد ظهر صاحبك، فإن تشأ أن تلحق به فالحق، وإن تشأ أن تقيم في كرامة ربِّك فأقم»(2).

وفي نفس السياق جاء عن الإمام الباقر علیه السلام: «... وإنَّ لأهل الحقّ دولة إذا جاءت ولّاها الله لمن يشاء منّا أهل البيت، فمن أدركها منكم كان عندنا في السنام الأعلىٰ، وإن قبضه الله قبل ذلك خار له...»(3).

فقوله علیه السلام: «خار له» يُراد منه ما أشارت له الرواية السابقة من التخيير بين البقاء أو الرجوع، والله العالم.

ص: 392


1- الغيبة للنعماني: 323/ باب 20/ ح 5.
2- الغيبة للطوسي: 458 و459/ ح 470.
3- الغيبة للنعماني: 201/ باب 11/ ح 2.

الحَمدُ لله ربِّ العَالَمِین

ص: 393

ص: 394

المحتویات

عقیدتنا فی الإمامة ... 5

هل الامامة اصلٌ من اصول الدین أو فرعٌ من فروعه ... 7

سبب الختلاف فی کون الامامة أصلاً أو فرعاً ... 8

ماهو الدلیل علی أنّ الامامة اصل من اصول الدین؟ ... 8

مقدمة: ... 8

أدلة كون الإمامة أصلا من أصول الدین: ... 9

منشأ الضرورة في البحث عن الإمامة ... 15

الإمامة لطف من الله تعالی ... 17

نکتة: ... 17

إنّ الإمامة استمرار للنبوة ... 21

اشکالٌ ( الفترة) و جوابه: ... 23

و الجواب: ... 24

نکتة مهدویة: ... 25

استطراد: ... 26

عقیدتنا فی عصمة الإمام ... 29

عقیدتنا فی عصمة الإمام. ... 30

ما الدلیل علی لزوم عصمة الإمام؟ ... 30

ص: 395

لماذا كانت العصمة أمرًا جوهريًا في الإمامة عند الإمامية؟ ... 32

ثالثًا: بطلان التسلسل ... 33

ببيان: ... 33

ملاحظة: ... 34

عقيدتنا في صفات الإمام وعلمه ... 37

الإشارة الأولى: أنواع كمالات الإمام ... 38

النوع الأول: الكمال البدني او الخَلقي. ... 39

النوع الثاني: الكمال النفسي ... 40

النوع الثالث: الكمال الأخلاقي ... 42

النوع الرابع: الكمال العلمي ... 46

النوع الخامس: الكمال الغيبي ... 48

الإشارة الثانية: مصادر علوم أهل البيت علیهم السلام ... 49

أولهما: إجمالي: ... 49

وثانيهما: تفصيلي: ... 49

الأول: القرآن الكريم ... 50

الثاني: تعاليم النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم ... 51

إشارة هامة: ... 52

الثالث: أصول العلم. ... 55

الرابع: كتب الأنبياء السابقين(غير المُحرّفة) ... 56

الخامس: كتاب علي علیه السلام ... 58

السادس: مصحف فاطمة صلوات الله وسلامه عليها. ... 58

ص: 396

السابع: الجامعة: ... 59

الثامن: الجفر ... : 60

التاسع: الإلهام. ... 61

العاشر: الزيادة المستمرة للعلوم: ... 62

الحادي عشر: الناموس: ... 62

الثاني عشر: التوسم: ... 64

عقيدتنا في طاعة الأئمة ... 67

أسباب أو مقتضيات لزوم اطلاعة ... 69

ملاحظات مهمة: ... 72

الأولى: أن طاعة أهل البيت عين في طاعة الرسول صلی الله علیه وآله ... 72

الثانية: أنَّ معنى طاعة أهل البيت علیهم السلام تعني التالي: ... 73

الثالثة: هناك فرق بين الاعتراف النظري والاعتراف العملي ... 74

الأدلة الدالة على لزوم طاعة أهل البيت ... 74

الدليل الأول: استلزام مفهوم الإمامة لوجوب الطاعة. ... 74

الدليل الثاني: حديث الثقلين: ... 75

الدليل الثالث: قوله عز من قائل: ﴿يَا أَ اُّهيَ الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ و... ... 78

أولوا الأمر هم اهل البیت علیهم السلام نقلاً ... 81

د لالات حديث السفينة ... 83

1/كلتا السفينتين وُجِدَت بأمر الله ... 83

2/كلٌّ من النبي نوح علیه السلام والنبي محمد صلی الله علیه وآله واجها الاستهزاء... ... 85

3/لم يقتنع كلٌّ من قوم النبي نوح علیه السلام وقوم النبي... ... 86

ص: 397

4/انحصار النجاة بالسفينتين فقط، كل منهما في زمنها. ... 87

5/الكلُّ محتاج إلى السفينتين، كل في زمنها. ... 88

6/كلتا السفينتين آوت كلَّ من لجأ إليها وأنجته من الهلاك. ... 95

7/وحدة القيادة في كلٍ من السفينين. ... 96

8/كلتا السفينتين كانت فاتحة عهدٍ جديد. ... 96

9/لم يركب السفينتين إلا خلفاء الأرض، كلٌ في زمنه. ... 97

10 /قلة من ركب ك من السفينتين. ... 97

11 /الارتباط بكلٍّ من سفينتي النجاة ارتباط عقائدي لا نَسَبي. ... 98

12 /ركوب كلٍّ من السفينتين لا يعصم من الذنوب. ... 100

دلالات حديث النجوم ... 101

دلالات حديث النجوم ... 102

أولًا: دلالة فوائد النجوم: ... 102

1/الهداية. ... 102

2/المنع من الضلال. ... 103

ثانيًا: دلالة دوام البقاء ما بقيت الدنيا. ... 104

ثالثًا: دلالة دوام الهداية. ... 104

رابعًا: دلالة عصمة الهداية. ... 105

خامسًا: دلالة التعاقب: ... 105

سادسًا: دلالة عدم أو مانعية الخلو. ... 105

سابعًا: دلالة مجهولية الحقيقة ... . 106

ثامنًا: دلالة عدم التعارض ... 107

ص: 398

تاسعًا: دلالة وحدة المحور ... 108

عاشرًا: الدلالة على قدرة الله تعالى وحكمته ... 108

أحد عشر: دلالة عدم التصادم بين الوظائف. ... 109

إشارة: في مناقشة حديث: أصحابي كالنجوم ... 109

الجواب: ... 110

دلالات حديث المنزلة ... 113

إشكا وجوابه: ... 115

دلالات حديث المنزلة ... 117

الفقرة الأولى: دلالان «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» ... 117

المنزلة الأولى: الوزارة. ... 118

المنزلة الثانية: الأخوّة وشدِّ الأزر. ... 119

المنزلة الثالثة: الإشراك في الأمر. ... 121

إشارة: معنى العقدة في لسان النبي موسى علیه السلام ... 122

المنزلة الرابعة: الخلافة: ... 123

المنزلة الخامسة: التصديق: ... 124

المنزلة السادسة: إتيان الكتاب: ... 126

المنزلة السابعة: الهداية: ... 127

المنزلة الثامنة: السلام: ... 131

1/ السلام عليهما من الله عزوجل ... 131

2/ أنهما من المحسنين: ... 132

3/ أنهما من المؤمنين: ... 133

ص: 399

المنزلة التاسعة: الإصلاح: ... 133

أوجه الشبه بين هارون وعلي علیهما السلام ... 133 .

1/ خيانة الأمة والاستضعاف. ... 134

2/ ما أُحل لهارون وعلي علیهما السلام ... 136 .

3/ أسماء أولادهما ... . 138

4/ المحنة المشتركة: ... 139

الفقرة الثانية: (إلا أنه لا نبي بعدي) ... 139

الحقيقة الأولى: ختم النبوة به صلی الله علیه وآله وسلم ... 139 .

الحقيقة الثانية: خلافة الإمام علیه السلام خلافة وصاية بلا نبوة. ... 140

إشارات في عبارة الكتاب ... 143

الإشارة الأولى: هم الشهداء على الناس ... 143

الإ شارة الثانية: هم أبواب الله ... 143

الإ شارة الثالثة: هم البسب إليه والأدلّاء عليه ... 145

الإ شارة الرابعة: هم عيبةُ علمه ... 145

الإشارة الخام سة: هم تراجمة وحيه ... 145

الإشارة السادسة: هم أركان توحيده. ... 146

الإشارة السابعة: هم خزان معرفته ... 146

الإشارة الثامنة: هم عباد مكرمون لا یسبقونه بالقول وهم بأمره یعملون ... 146

الإشارة التاسعة: هم الذني أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم طتهيرًا. ... 149

الإشارة العاشرة: عدم جواز الرد عليهم. ... 150

الإ شارة الحادية عشرة: عدم فراغ الذمة إلا بالرجوع إليهم. ... 150

ص: 400

الإشارة الثانية عشرة: المهم في بحث الإمامة إثبات لزوم الرجوع إليهم .... 150

إشكال وجوابه: ... 153

عقيدتنا في حب آل البيت عليهم السلام ... 155

إشارات: ... 161

عقيدتنا في الأئمة عليهم السلام ... 165

النقطة الأولى: لا يخول مسلمٌ من الاعتقاد بهم. ... 166

الأولى: مر بتة المُقصرة ... 166

الثانية: مربتة الغلاة ... 167

المر بتة الثالثة: (النمرقة الوسطى) ... 168

النقطة الثانية: حد الاعتقاد (النمرقة الوسطى) ... 169

مراتب المعرفة ب أهل البيت عليهم السلام ... 171

المر بتة الأولى: المعرفة الإجمالية: ... 171

المر بتة الثانية: الجمع بين محتبهم ومحبة أعدائهم. ... 171

المر بتة الثالثة: محتبهم وطاعتهم دون الاعتقاد بمقاماتهم ا علالية. ... 173

المر بتة الرابعة: الاتباع المصحي. ... 173

المر بتة الخامسة: الاعتقاد الم لطق بتيلاوهم والبراءة من أعدائهم. ... 174

إشارة: في لزوم التسليم لهم علیهم السلام ... 175

عقيدتنا في أنَّ الإمامة بالنص ... 177

الآراء في كيفية جعل الإمام ... 179

النظرية الأولى: نظريةُ قلوبِ الأمر اولاقع: ... 179

النظرية الثانية: نظرية النص: ... 180

ص: 401

ماذا يعني النص؟ ... 181

الطریق الأول: البتليغ. ... 181

الطریق الثاني: المعجزة ... 181

الطریق الثالث: ا طلريق ا علقلي. ... 182

أدلة وجوب التنصيب الإلهي ... 185

الدليل الاول: دليل اللطف: ... 185

الدليل الثاني: الإمام المجلوع من الله عزوجل يمثل الحل الأمثل ... 186

الدليل الثالث: تنصيب الإمام مهمة الله عزوجل وحده: ... 186

إشارات: ... 187

الإشارة الأولى: إنَّ النص على الإمام يوفر لنا بعدين مهمين: ... 187

الإشارة الثانية: له يمكن عللقل أن يُدرك الإمام الحق؟ ... 189

الوجه الأول: مقام المولویة. ... 189

الوجه الثاني: النص الإلهي يكشف جميع المقامات ... 190

الإشارة الثالثة: لماذا لم يُذكر اسم الإمام عليٍّ علیه السلام في القرآن ... 191

والخلاصة: ... 200

الاشارة الرابعة: نظرية التنصيب أمرٌمتصور لدى ... ... 200

الإشارة الخام سة: علة جعل الإمامة في ذرية الإمام الحسين ... ... 202

الأولى: تنصيب الإمام إلهيٌّ، والله تعالى لا یُسأل عن فعله ... 203

الثانية: عدم الملازمة بين الخصو صية والأفضلية ... 204

الإشارة السادسة: شبهة الإمامة بسٍن مبكرة: ... 205

ص: 402

عقيدتنا في عدد الأئمة عليهم السلام ... 209

شبهة الاختلاف في عدد الأئمة علیهم السلام ... 211

عقيدتنا في المهدي عجل الله فرجه الشريف ... 217

هل إنَّ القضية المهدوية من مختصات الشيعة؟ ... 221

المطلب الأول: هل إن القضية المهدوية قضية إنسانية؟ ... 222

المطلب الثاني: ما هو اعتقاد لهأ الديانات المساوية والوضعية ... ... 223

أولًا: الديانات المساوية: ... 223

ثانيًا: الديانات الوضعية: ... 224

المطلب الثالث: ما وه اعتقاد اهل السنة بالقضية المهدوية؟ ... 225

أولًا: بعض الروايات العامية التي أثبتت القضية المهدوية. ... 226

الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه في كملات المعاصرین من مدرسة الخفلاء: ... 228

ثانيًا: شبهة عدم ذكر البخاري ومسلم لأحاديث المهدي. ... 229

عتر في موجز بللخاري ومسلم: ... 229

نماذج عن لتك الأحاديث: ... 234

المطلب الرابع: ادعاء المهدوية دلي على صحة قضيتها. ... 237

بيان: في الدعاوى المهدوية الباطلة والنقاش فيها: ... 238

أولًا: أسباب الدعاوى المهدوية: ... 239

ثانيًا: أقسام الدعاوى المهدوية: ... 239

نماذج من القسم الأول: من نُسبت إليه المهدوية و هو منها بريء: ... 240

الفرقة الأولى: الكيسانية: ... 240

من أهم عقائد الكيسانية: ... 241

ص: 403

الفرقة الثانية: الفرقة الباقرية: ... 242

الفرقة الثالثة: الناووسية: ... 242

الفرقة الرابعة: المباركية: ... 243

الفرقة الخامسة: الإسماعيلية: ... 243

القسم الثاني: من ادعى المهدوية بدافع حب الرئاسة والجاه والمنصب، ومنها: ... 244

الشخصية الأولى: محمد المحض. ... 244

الشخصية الثانية: الخليفة العباسي الملقب بالمهدي. ... 245

القسم الثالث: من كانت للاستعمار يدٌ في ادعائه المهدوية ... ... 246

علي بن محمد الملقب بالباب: ... 246

ثالثًا: الخطوط العلامة لدعاوى الفسارة والمهدوية: ... 247

رابعًا: كيف نواجه مدّعي السفارة أو المهدوية؟ ... 249

الأمر الأول: متابعة الظروف التي أحاطت بالمدّعي. ... 249

الأمر الثاني: التريُّث في تصديق الدعوى. ... 249

الأمر الثالث: النظر في مدى مطابقة دعوى مدّعي السفارة... ... 250

الأمر الرابع: المطالبة بإقامة الكرامة. ... 251

خامًسا: طرق النقاش في القضايا المهدوية. ... 252

الطريق الأول: الطريق الفكری ... 252

المثال الأول: دعوى سفارة أحمد بن إسماعيل ... . 253

المثال الثاني: خروج اليماني من البصرة لا من اليمن. ... 254

ا طلريق الثاني: الطريق الخطابي. ... 255

تطبيق في القضيَّة المهدوية: ... 257

ص: 404

الطريق الثالث: طلب الكرامة أو المعجزة. ... 258

الطريق الرابع: الإهمال. ... 261

الطريق الخامس: الاستهزاء. ... 263

ضرورة القضية المهدوية ... 267

أولًا: إثبات ضرورة القضية المهدوية عللامة من المسلمين. ... 267

الدليل العلقلي: دليل نقض الغرض ... 268

وعودٌ إلهية ... 269

ثانيًا: إثبات ضرورة القضية المهدوية لمعتنقی سائر الديانات الإلهية الأخرى. ... 273

شخصية الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف بين المدرستين ... 275

المطلب الأول: أهم الفروق بين المدرتسين في شخصيته علیه السلام ... 275

المطلب الثاني: من أدلة ولادة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه ... 277

أولًا: العامة و ولادة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه ... 277

ثانيًا: من أدلة الإمامية على ولادة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه ... 279

المطلب الثالث: طلو عمر الإمام عجل الله تعالی فرجه ... 283 .

1/ الدليل الشرعي: ... 284

2/ الدليل الطبي: ... 285

3/ الدليل التاريخي: ... 286

الانتظار المهدوي ... 287

المطلب الأول: فلض الانتظار ... 287

المطلب الثاني: الفوائد التربيویة للانتظار. ... 290

المطلب الثالث: معنى الانتظار. ... 292

ص: 405

الأمر الأول: ما معنى الانتظار؟ ولماذا كان أفضل الأعمال ... 292

العنصر الأول: العنصر الاعتقادي. ... 293

العنصر الثاني: العنصر الفقهي. ... 293

العنصر الثالث: العنصر السلوكي ... 294

العنصر الرابع: الاستعداد العملي ... 295

الأمر الثاني: بيان المراد من روايات لزوم البيت ... 296

الأمر الثالث: مفاهيم مغولطة للانتظار ... . 300

الأول: الانتظار يعني السكون. ... 301

الثاني: الانتظار بنشر الفساد لأجل تعجيل الفرج ... 301

الغَيبة المهدوية ... 305

الم لطب الأول: علل الغيبة والحكمة منها. ... 305

أ) الخوف من القتل: ... 307

ب) التمييز والتمحيص: ... 307

ج)حتَّى لا يبايع ظالماً: ... 307

د) السنن التاريخية: ... 308

ه) أن لا تضيع ودائع الله ... 308

و) قبائح أعمال العباد، وفضائح أفعالهم، ممَّا يُسبِّب قلَّة ... 308

ز) إظهار عجز من يسعى للإصلاح الكامل من غير ... 309

المطلب الثاني: معنى الغيبة. ... 310

إشارة: ... 312

المطلب الثالث: فائدة الغائب والغيبة. ... 313

ص: 406

الفائدة من أصل ظاهرة الغيبة. ... 317

كيف لنا أن يُمنّز المهدي الحقّ؟ ... 319

النحو الأولَّ: طرق تشخيصية: ... 319

النحو الثاني: طرق تقربيية: ... 320

إشارة: في بعض الصفات المخصتة بالإمام المهدي علیه السلام ... 323 :

علامات الظهور ... 325

علامات الظهور قسمان: ... 326

لعلامات الظهور فهمان: ... 327

إشارةٌ مهمّةَ: ... 329

العلامة الأُولى والثانية: السفياني والخسف في البيداء: ... 330

الموقف الأوَّل: مبدأ ظهوره وتحرّكه: ... 330

الموقف الثاني: بعثه بالجيش خلف المهدي علیه السلام والخسف به: ... 331

الموقف الثالث: القضاء عليه: ... 332

العلامة الثالثة: اليماني: ... 333

أسئلة وأجوبة مفيدة: ... 334

العلامة الرابعة: الصيحة: ... 336

العلامة الخامسة: قلت النفس الزكية: ... 338

أسئلةٌ حول الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف ... 341

السؤال الأول: ما هو سلاح الإمام المهدي علیه السلام إذا ظهر؟ ... 341

إشارة: ... 345

السؤال الثاني: له المهدي علیه السلام قا تلٌ سفاح وقصاب أرواح؟ أو هو داعيةُ سلام! ... 345

ص: 407

الخطوة الأولى: ركائز الدولة إداريًا. ... 345

1/السلطة التشريعية ... 345

2/السلطة التنفيذية. ... 346

3/السلطة القضائية. ... 346

الخطوة الثانية: لماذا يخاف البعض من ظهور الإمام المهدي علیه السلام؟ ... 347

الخطوة الثالثة: من هم الذين سيقتلهم الإمام المهدي علیه السلام؟ ... 348

1/السفياني: ... 348

2/البترية. ... 351

3/ذراري قتلة الإمام الحسين علیه السلام ... 353

الخطوة الرابعة: الإمامُ داعيةُ سلام. ... 355

ضمانات الانتصار المهدوي ... 359

الضمان الأول: قوة مصادر القضية المهدوية. ... 359

الضمان الثاني: عنصر المباغتة: ... 360

الضمان الثالث: التركيبة الاستثنائية للقيادة والجيش. ... 363

الجهة الأولى: شخصية القائد: ... 363

الجهة الثانية: الجيش. ... 366

القسم الأوَّل: أصحاب الألوية: ... 366

القسم الثاني: الجيش الذي سيخرج به من مكّة المكرَّمة: ... 366

الضمان الرابع: مساندة العنصر الغيبي لتلك القضية: ... 367

المفردة الأولى: الصيحة: ... 369

المفردة الثانية: الخسف في البيداء. ... 369

ص: 408

المفردة الثالثة: الرعب: ... 369

المفردة الرابعة: بعض خصائص الإمام ... 369

المفردة الخامسة: نصرته بالملائكة. ... 371

المفردة السادسة: إحياء بعض الموتى وحضورهم في ركبه ... 372

عقيدتنا في الرجعة ... 373

النقطة الأولى: معنى الرجعة. ... 376

تفسيرٌ آخر للرجعة ومناقشته ... 377

النقطة الثانية: القيمة الاعتقادية للرجعة. ... 378

النقطة الثالثة: له الرجعة أمر ممكن أو متسحيل ... 379

الأولى: أن تكون مخالفةً لضرورة عقلية. ... 379

الثانية: أن تكون مخالفةً لضرورةٍ نقلية. ... 380

النقطة الرابعة: هل الرجعة أمرٌ واقعٌ خارجًا أو إنه باقٍ في حيز الإمكان ... 380

النقطة الخامسة: استدلال آخر على الرجعة قرآنيًا. ... 382

التفسير الأول: ... 383

التفسير الثاني: ... 383

النقطة السادسة: محاولة الكيد بالتشيع من خلال القلو بالرجعة. ... 383

النقطة السابعة: ما هي فلسفة الرجعة؟ ... 384

النقطة الثامنة: له ذكرت الروايات الشریفة أسماء بعض الذين يرجعون ... 385

النقطة التاسعة: رجعو الإمام الحسين علیه السلام ودوره؟ ... 386

سؤال: كم هي مدة دولة الإمام المهدي علیه السلام؟ ... 388 ؟

الأمر الأولَّ: مدةَّ الدولة المهدوية العادلة: ... 388

ص: 409

الأمر الثاني: مدَّة ملك الإمام المهدي عج الله تعالی فرجه ... 389

سؤال: من الذي یلي أمر المعصوم ... 390

ص: 410

المجلد 3

هوية الکتاب

العتبة العباسيّة المقدسة

قسم الشئون الفکریة و الثقافیة

معهد تراث الانبیاء (علیهم السلام) للدراسات الحوزویة الاکترونیّه

المناهج الدراسیّة

دروس منهجیّة

في شرح عقائد الامامیّة

للشیخ محمد رضا المظفّر (رحمه الله)

1322- 1383 ه

1904 -1964 م

الجزء الثّالث

الشیخ حسین عبدالرضا الاسدي

الکتاب: دروس منهجیّة في شرح عقائد الامامیّة

تألیف :الشیخ حسین عبدالرضا الاسدي

ص: 1

اشارة

الناشر :قسم الشئون الفکریة و الثقافیة في العتبة العباسية المقدسة ،معهد تراث الانبیاء للدراسات الحوزویة الاکترونیّه

الاخراج الطباعي: علاء سعید الاسدي ، محمد قاسم النصراوي .

المطبعة : دار الکفیل للطباعة و النشر .

عدد النسخ : 500

ربیع الآخر 1442 ه - تشرین الثانی 2020 م

ص: 2

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ »

ص: 3

ص: 4

عقيدتنا في التقية

النقطة الأولى: معنى التقية.

قال الشيخ المظفر(رحمه الله):

«عقيدتنا في التقية:

روي عن صادق آل البيت (علیهم السّلام) في الأثر الصحيح: «التقية ديني ودين آبائي» و«من لا تقية له لا دين له».

وكذلك هي، لقد كانت شعاراً لآل البيت (علیهم السّلام)، دفعاً للضرر عنهم وعن أتباعهم وحقناً لدمائهم، واستصلاحاً لحال المسلمين وجمعاً لكلمتهم، ولمّاً لشعثهم.

وما زالتْ سمةٌ تُعرفُ بها الإماميةُ دون غيرها من الطوائف والأمم، وكُلُّ إنسانٍ إذا أحسَّ بالخطر على نفسه أو ماله بسبب نشر مُعتقده أو التظاهر به لا بُدّ أنْ يتكتم ويتقي في مواضع الخطر.

وهذا أمرٌ تقضيه فطرةُ العقول، ومن المعلوم أنّ الإمامية وأئمتهم لاقوا من ضروب المحن وصنوف الضيق على حرياتهم في جميع العهود ما لم تلاقه أية طائفةٍ أو أمةٍ أخرى، فاضطروا في أكثر عهودهم إلى استعمال التقية بمكاتمة المُخالفين لهم وترك مُظاهرتهم وستر اعتقاداتهم وأعمالهم المُختصّة بهم عنهم، لما كان يعقب ذلك من الضرر في الدين والدنيا؛ ولهذا السبب امتازوا (بالتقية) وعرفوا بها دون سواهم.

وللتقية أحكامٌ من حيثُ وجوبها وعدم وجوبها بحسب اختلاف مواقع خوف الضرر مذكورةٌ في أبوابها في كتب العلماء الفقهية.

ص: 5

وليست هي بواجبةٍ على كُلِّ حال، بل قد يجوز أو يجب خلافها في بعض الأحوال كما إذا كان في إظهارِ الحقِّ، والتظاهر به نصرةً للدينِ وخدمةً للإسلام، وجهاد في سبيله، فإنّه عند ذلك يستهان بالأموال ولا تعز النفوس.

وقد تحرم التقية في الأعمال التي تستوجب قتل النفوس المحترمة أو رواجاً للباطل، أو فساداً في الدين، أو ضرراً بالغاً على المسلمين بإضلالهم أو إفشاء الظلم والجور فيهم.

وعلى كُلِّ حالٍ ليس معنى التقية عند الإمامية أنّها تجعل منهم جمعيةً سريةً لغاية الهدم والتخريب، كما يُريد أنْ يصوّرها بعض أعدائهم غير المُتورعين في إدراك الأمور على وجهها، ولا يكلفون أنفسهم فهم الرأي الصحيح عندنا.

كما أنّه ليس معناها أنّها تجعل الدين وأحكامه سراً من الأسرار لا يجوز أنْ يُذاع لمن لا يدين به، كيف وكتب الإمامية ومؤلفاتهم فيما يخصُّ الفقه والأحكام ومباحث الكلام والمعتقدات قد ملأت الخافقين وتجاوزت الحد الذي يُنتظرُ من أيةِ أمّةٍ تدينُ بدينها.

بلى! إنّ عقيدتنا في التقية قد استغلها من أراد التشنيع على الإمامية، فجعلوها من جملة المطاعن فيهم، وكأنّهم كان لا يشفى غليلهم إلا أنْ تُقدَّم رقابهم إلى السيوف لاستئصالهم عن آخرهم في تلك العصور التي يكفي فيها أنْ يُقال هذا رجلٌ شيعيٌ ليُلاقي حتفه على يد أعداء آل البيت من الأمويين والعباسيين، بله العثمانيين.

وإذا كان طعن من أراد أنْ يطعن يستند إلى زعم عدم مشروعيتها من ناحيةٍ دينيةٍ، فإنا نقول له:

أولاً: أننا متبعون لأئمتنا (علیهم السّلام) ونحن نهتدي بهداهم، وهم أمرونا بها وفرضوها علينا وقت الحاجة، وهي عندهم من الدين وقد سمعت قول الصادق (علیه السّلام): «من لا تقية له لا دين له».

ص: 6

وثانياً: قد ورد تشريعها في نفس القرآن الكريم ذلك قوله (عزّ و جلّ): ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾، وقد نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر الذي التجأ إلى التظاهر بالكفر خوفاً من أعداء الإسلام، وقوله (عزّ و جلّ) : ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾، وقوله (عزّ و جلّ): ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾». انتهى.

ولتوضيح هذه العقيدة نتناولها من جوانب عدة في النقاط الآتية:

النقطة الأولى: معنى التقية.

التقية لغةً: هي مصدر بمعنى التحفظ والتوقي والتحرز، ويقال فيها: تقية وتقوى من الفعل (اتقى)، فهي مطلق التحفظ والتحرز عن الضرر.

وخلاصة معناها هو:

أنَّها إما تكون من الخالق فتسمى حينئذٍ (تقوى)، بمعنى (التقية من الضرر المتوجه من عدم امتثال أوامر الخالق(سبحانه و تعالی)، وقد تعارف إطلاق (تقوى) عليها إذا كانت تقيةً من الخالق وإلا فهي أيضًا تقية.

وقد تكون من المخلوق (التقية)، ولها قسمان:

1/ تقيةٌ من الأمور التكوينية: كالحر والبرد والمرض والشمس والمطر، فيتقي الإنسان هذه الأمور، وعادة يطلق عليها (توقّياً) أو (وقاية).

2/ تقيةٌ من غير الأمور التكوينية: ولها قسمان:

أ. إما من الحيوان وتسمى أيضًا (توقياً)، فيتوقّى من حيوان مفترس أو جراثيم وفايروسات وما إلى ذلك.

ب. أو قد تكون من الإنسان الظالم، وهذه ما تسمى بالتقية الاصطلاحية.

فمعنى التقية اصطلاحًا: التحفظ عن الظالم خوفًا منه على النفس أو المال أو ما

ص: 7

يتعلق به من النفوس والأمور المحترمة، كالخوف على الابن أو الزوج أو الأخ أو على إنسانٍ مؤمنٍ من الظالم سواء أكان الظالم كافرًا أم لا.

والتقية: إما أنْ تكون فعلًا، كأن تدفع الضرر عن نفسك بواسطة فعلٍ من الأفعال، كما لو توضأت، وخوفًا من الظالم تمسح على الخف أو تغسل قدميك بدل مسحهما، أو تفطر عند سقوط القرص أو الوقوف في عرفات، فهي أفعالٌ لتحفظ بها نفسك.

وإما أن تكون قولاً، كأن تقول بلسانك ما لا تعتقد به بداخلك، كما فعل عمار بن ياسر (رضوان الله عليه) إذ أظهر الكفر وقلبه مطمئنٌ بالإيمان.

النقطة الثانية: التقية الاصطلاحية:

الخطوة الأولى: أدلة التقية.
الدليل الأول: الكتاب.

وهنا خطوتان:

يمكن الاستدلال على شرعية التقية وجواز استعمالها بالأدلة الأربعة: (الكتاب والسنة والإجماع والعقل):

ونذكر عدة آيات:

1- قوله (عزّ و جلّ): ﴿لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَىٰ اللهِ الْمَصِيرُ﴾(1)

فالآية ظاهرة في أنه لا يجوز لك أنْ تتخذ من الكافرين ولاة لك إلا في حالة التقية، فيجوز أنْ تتخذهم ولاةً لك حينئذٍ في الظاهر.

ص: 8


1- آل عمران 28.

2- قوله (عزّ و جلّ): ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾(1)

وقد بيّنت الروايات أنّها نزلت في عمار بن ياسر (رضوان الله عليه وعلى أبويه) عندما أُكرِه على أنْ يُكذِّب النبي (صلّی الله علیه و آله) ويُكفِّر رسالته بلسانه.(2)

فالقرآن الكريم لم يجلد عماراً بهذا الفعل، وإنّما برّر له ذلك؛ لأن قلبه كان مطمئنًا بالإيمان فأظهر خلاف ما يبطنه خوفًا على نفسه من القتل، فدفع ضرر الظالم عن نفسه، والقرآن دلَّ على أنَّ هذا الأمر جائز في هذا المورد.

3- قوله(عزّ و جلّ) حكاية عن ذي القرنين: ﴿قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً... فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً﴾(3)

وقد روي عن المفضل قال: سألت الصادق (علیه السّلام) عن قوله ﴿أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً..). قال: «التقية». ﴿فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً﴾ قال: «ما

ص: 9


1- النحل 106.
2- فعَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ قَالَ: قِيلَ لأَبِي عَبْدِ الله(علیه السّلام): إِنَّ النَّاسَ يَرْوُونَ أَنَّ عَلِيّاً (علیه السّلام) قَالَ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ سَتُدْعَوْنَ إِلَى سَبِّي فَسُبُّونِي، ثُمَّ تُدْعَوْنَ إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنِّي فَلَا تَبَرَّءُوا مِنِّي. فَقَالَ (علیه السّلام): «مَا أَكْثَرَ مَا يَكْذِبُ النَّاسُ عَلَى عَلِيٍّ (علیه السّلام)». ثُمَّ قَالَ (علیه السّلام): «إِنَّمَا قَالَ: إِنَّكُمْ سَتُدْعَوْنَ إِلَى سَبِّي فَسُبُّونِي، ثُمَّ سَتُدْعَوْنَ إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنِّي، وإِنِّي لَعَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ (صلّی الله علیه و آله)، ولَمْ يَقُلْ: لَا تَبَرَّءُوا مِنِّي». فَقَالَ لَه السَّائِلُ: أرَأَيْتَ إِنِ اخْتَارَ الْقَتْلَ دُونَ الْبَرَاءَةِ؟ فَقَالَ (علیه السّلام): «والله مَا ذَلِكَ عَلَيْه، ومَا لَه إِلَّا مَا مَضَى عَلَيْه عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، حَيْثُ أَكْرَهَه أَهْلُ مَكَّةَ وقَلْبُه مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ فَأَنْزَلَ الله(عزّ و جلّ) فِيه: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِه وقَلْبُه مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمانِ﴾ فَقَالَ لَه النَّبِيُّ (صلّی الله علیه و آله): عِنْدَهَا يَا عَمَّارُ إِنْ عَادُوا فَعُدْ، فَقَدْ أَنْزَلَ الله(عزّ و جلّ) عُذْرَكَ وأَمَرَكَ أَنْ تَعُودَ إِنْ عَادُوا». [الكافي للكيني ج2 ص219 باب التقية ح11.]
3- الكهف 95 و97.

استطاعوا له نقباً: إذا عمل بالتقية لم يقدروا في ذلك على حيلة، وهو الحصن الحصين، وصار بينك وبين أعداء الله سدّاً لا يستطيعون له نقباً...»(1)

الدليل الثاني: الروايات الشريفة:

وهي قد وصلت إلى حدِّ الاستفاضة بل التواتر، نذكر بعضًا منها:

1- في صحيحة زرارة عن الإمام الباقر (علیه السّلام) قال: «التَّقِيَّةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ يُضْطَرُّ إِلَيْه ابْنُ آدَمَ فَقَدْ أَحَلَّه الله لَه»(2)

وهي تدلّ بوضوح على أنَّ وظيفة الإنسان عند الاضطرار هي التقية.

2- عن حريز عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنّه قال: «التَّقِيَّةُ تُرْسُ(3) الله بَيْنَه وبَيْنَ خَلْقِه».(4)

3- عن أبي جعفر الباقر (علیه السّلام): «التَّقِيَّةُ فِي كُلِّ ضَرُورَةٍ وصَاحِبُهَا أَعْلَمُ بِهَا حِينَ تَنْزِلُ بِه».(5)

4- عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: «اتَّقُوا عَلَى دِينِكُمْ فَاحْجُبُوه بِالتَّقِيَّةِ، فَإِنَّه لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا تَقِيَّةَ لَه، إِنَّمَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ كَالنَّحْلِ فِي الطَّيْرِ، لَوْ أَنَّ الطَّيْرَ تَعْلَمُ مَا فِي أَجْوَافِ النَّحْلِ مَا بَقِيَ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا أَكَلَتْه، ولَوْ أَنَّ النَّاسَ عَلِمُوا مَا فِي أَجْوَافِكُمْ أَنَّكُمْ تُحِبُّونَّا أَهْلَ الْبَيْتِ لأَكَلُوكُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ ولَنَحَلُوكُمْ(6)فِي السِّرِّ والْعَلَانِيَةِ، رَحِمَ الله عَبْداً مِنْكُمْ كَانَ عَلَى

ص: 10


1- تفسير العياشي ج2 ص351 ح 86.
2- الكافي للكيني ج2 ص220 باب التقية ح 18.
3- (ترس الله) أي يمنع الخلق من عذاب الله أو من البلايا النازلة. [هامش المصدر].
4- الكافي للكيني ج2 ص220 باب التقية ح 19.
5- الكافي للكيني ج2 ص219 باب التقية ح 13.
6- نحله القول كمنعه: نسبه إليه. ونحل فلانا: سابه. وفى بعض النسخ [نجلوكم] بالجيم وفى القاموس نجل فلانا ضربه بمقدم رجله وتناجلوا: تنازعوا. [هامش المصدر].

وَلَايَتِنَا».(1)

وظاهر هذه الرواية هو الأمر بالتقية، لا مجرد الإخبار بأن التقية أمر نافع.

الدليل الثالث: الإجماع

فمما أجمع عليه الفقهاء وتسالم بينهم أنَّ التقية واجبة لو اضطر الإنسان لحفظ نفسه من الظالم فيجب عليه أن يتقي، إلا أنَّ وجوبها في الجملة، والوجوب في الجملة يُشير إلى أنَّ هناك مُستثنيات، إذ قد تكون مكروهة أحيانًا –كما سيتبين إن شاء الله تعالى-، والإجماع على وجوبها يدلُّ على جوازها من بابٍ أولى.

الدليل الرابع: العقل.

فسيرة العقلاء قائمةٌ على وجوب حفظ النفس فيما إذا دار الأمر بينه وبين إظهار شيءٍ ما قولًا أو فعلًا، وهو معنى التقية، خصوصًا إذا أخذنا بنظر الاعتبار إنَّ أحكام الدين إنّما شُرِّعت لسعادة الإنسان في حياته، فإذا كانت هذه السعادة متوقفة على التقية من الأعداء لفترةٍ من الزمن، فالعقل حينئذ يستقلُّ بالحكم بحُسنِ التقية.

ومعنى قولنا (يستقل بالحكم)، أي يمكن للإنسان التوصل إلى هذا الحكم وإن لم يكن عارفًا بأي شريعةٍ؛ وذلك لأن العقل يحكم بوجوب تقديم الأهم على المهم، وبذا يكون حكمه تأسيسيًا.

فالتقية إذاً هي عبارة عن دوران الأمر بين الأهم والمهم، وتقديم الأهم. [مع ملاحظة المستثنيات التي ستأتي إن شاء الله تعالى].

الخطوة الثانية: نماذج للتقية من التاريخ:

1/ عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: «إن قابيل أتى هبة الله (علیه السّلام)، فقال: ان أبي قد أعطاك

ص: 11


1- الكافي للكيني ج2 ص218 باب التقية ح 5.

العلم الذي كان عنده، وأنا كنت أكبر منك وأحق به منك، ولكن قتلت ابنه فغضب عليّ فآثرك بذلك العلم عليّ، وإنك والله إن ذكرت شيئاً مما عندك من العلم الذي ورثك أبوك؛ لتتكبر به عليّ ولتفتخر عليّ لأقتلنك كما قتلت أخاك.

فاستخفى هبة الله بما عنده من العلم لينقضي دولة قابيل؛ ولذلك يسعنا في قومنا التقية، لأن لنا في ابن آدم أسوة، قال: فحدث هبة الله ولده بالميثاق سراً، فجرت والله السنة بالوصية من هبة الله في ولده، ومن يتخذه يتوارثونها عالم بعد عالم، وكانوا يفتحون الوصية كل سنه يوماً، فيحدثون أن أباهم قد بشرهم بنوح (علیه السّلام)...»(1)

2/ عن محمد بن أبي عمير قال: قلت لموسى بن جعفر (علیهما السّلام): أخبرني عن قول الله (عزّ و جلّ) لموسى وهارون: ﴿اذْهَبا إِلىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىٰ. فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشىٰ﴾(2)؟

فقال (علیه السّلام): «أما قوله: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً﴾ أي كنيّاه، وقولا له: يا أبا مصعب، وكان أسم فرعون: أبا مصعب الوليد بن مصعب».(3)

4- قوله(عزّ و جلّ): ﴿وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾(4)

تصف الآية المباركة الرجل بأنَّه كان يكتم إيمانه، وهذا يدلُّ أيضاً على شرعية التقية.

النقطة الثالثة: هل التقية نفاق ودجل؟

أراد البعض أن يصور التقية على أنَّها نفاقٌ ودجل، وأنَّ الشيعة منافقون ودجالون؛

ص: 12


1- قصص الأنبياء للراوندي ص 69 و 70 الباب الأول ح46.
2- طه 43 – 44.
3- علل الشرائع للشيخ الصدوق ج1 ص 67ب57 ح1.
4- غافر 28.

لأنهم في بعض الأحيان يُظهرون ما لا يعتقدون به.

والصحيح أنَّ التقية ليست كذلك؛ لأن القرآن الكريم حكم بشرعيتها ولم ينهَ عنها، وكذا السنة المطهرة، فضلًا عن سيرة العقلاء وحكم العقل المستقل، فإنَّ الإنسان إذا تُرك وفطرته وعقله ولو من دون أي معرفةٍ بدينٍ أو شريعة فإنّه يُقدِّم الأهم فيما إذا دار أمره بين الأهم والمهم، ومعلومٌ أن حفظ النفس هو الأهم بشكلٍ عام طالما لم يكن هناك أهم منها.

الفرق بين التقية والنفاق:

إنَّ المنافق يظهر الإيمان ويبطن الكفر، فعقيدته وما بنى عليه أمره هو الكفر، وإنّما يُظهر الإيمان ليخدع المؤمنين ولمآرب أخرى، مثل التجسس عليهم، فيأخذ منهم غرتهم ويسلب أموالهم، لذا كان القصد من إظهار الإيمان هو الإضرار بالمسلمين.

على حين أنّ المؤمن عندما يمارس التقية فإنه يبقى في داخله محتفظًا بالإيمان، والإيمان هو ما انعقد عليه القلب لا مجرد ما أظهره اللسان، ولكنه يُظهر بلسانه أو بفعله ما يخالف الحق؛ بقصد دفع الضرر عن نفسه، لا بقصد إضرار الآخر كما يفعل المنافق.

النقطة الرابعة: مستثنيات التقية:

المورد الأول: لا تقية في الدم.

هناك موارد حكم الفقهاء فيها بعدم تشريع التقية رغم أنَّ عدم ممارسة التقية يؤدي إلى الضرر بالنفس؛ لأن للتقية حدوداً، كما أنّها كما تقدّم (دوران الأمر بين الأهم والمهم)، فإن تردد الأمر بين النفس وأمر هو أهم منها أو ما يساويها، فلا يُعمل بالتقية حينها، وسنذكر موردين:

المورد الأول: لا تقية في الدم.

كما لو أمرك الظالم بقتل نفسٍ وإلا قتلك، فهُنا لا يُعمل بالتقية بل تحرم؛ فلا يشرع

ص: 13

لك قتل الآخر الذي دمه حرام، لأنّ نفسك ليست أهم من نفس الآخر.

المورد الثاني: لا تقية فيما يوجب فساد الدين.

هناك أفرادٌ يترتب على تقيتهم فساد الدين، كالعالم مثلًا، فلو مارس التقية لأمكن أن يؤدي ذلك إلى فساد الدين ولو عند العامة؛ كمن يتقي فيقول: إنَّ الإمام علي (علیه السّلام) هو الخليفة الرابع، وهذا ما يوجب انحراف الأمة، لذا لا توجد تقية في أصول الدين مطلقًا.

النقطة الخامسة: التقوى.

الأولى: فعل الواجبات وترك المحرمات.

تقدَّم أنَّ التقية إنّما تكون دفعًا للضرر عن النفس، أما إذا كانت حذرًا من مخالفة الله (سبحانه و تعالی) سميت ب(التقوى). والتقوى في حقيقتها مفهومٌ مركبٌ من جزأين، الأول: الاجتهاد، وهو فعل الواجبات، والثاني: الورع، وهو ترك المحرمات. وكلا الجزأين (الاجتهاد والورع) يقيان الإنسان من الغضب الإلهي المتولد من مخالفة القانون التشريعي الذي شرعه الله(عزّ و جلّ).

وما ذكرناه من معنى للتقوى إنما يمثل المرتبة الأولى لها، تلك المرتبة التي لا يعذر فيها مسلم، أما إذا تجاوزنا هذه المرتبة فهناك مرتبتان أخريان، وهذا يعني أنَّ للتقوى مراتب ثلاث:

الأولى: فعل الواجبات وترك المحرمات.

وهذه لا يُعذر المسلم في مخالفتها، وإنّ المخالف لها ب(ترك واجبٍ أو فعل محرمٍ) إذا كانت مخالفته مع الاعتراف بوجوب الواجب وحرمة المحرم كان فاسقًا، كتارك الصلاة مع اعترافه بوجوبها، وسامع الأغاني مع الاعتراف بحرمتها، أما إذا كانت مخالفته مع إنكار وجوب الواجب وحرمة المحرم، فقد استلزمت تكذيب النبي (صلّی الله علیه و آله)، ومن ثم كان کافراً.

ص: 14

الثانية: فعل المستحبات وترك المكروهات.

وميزتها عدم الإلزام فيها، إذ يستطيع الفرد ترك المستحب وفعل المكروه، ولا يستلزم ذلك خروجه عن الإيمان، بل كلُّ ما في الأمر أنه يكون قد فوَّت على نفسه ثوابًا عظيمًا.

الثالثة: تقوى الفكر.

بمعنى: عدم التفكير بمخالفة الحكم الشرعي سواء كان بفعل الواجب أو المستحب وبترك المحرم أو المكروه.

وغاية هذه المرتبة أنَّ الإنسان همته وغايته كلُّ ما يُرضي الله(عزّ و جلّ)، وروي عن أبي عبد الله (علیه السّلام)، قال: «اجتمع الحواريون إلىٰ عيسىٰ (علیه السّلام)، فقالوا له: يا معلِّم الخير أرشدنا، فقال لهم:... إنَّ موسىٰ نبيَّ الله (علیه السّلام) أمركم أن لا تزنوا وأنا آمركم أن لا تُحدِّثوا أنفسكم بالزنا فضلاً عن أن تزنوا، فإنَّ من حدَّث نفسه بالزنا كان كمن أوقد في بيت مزوق فأفسد التزاويق الدخان وإن لم يحترق البيت»(1).

فإنّ في النفس شهوات كامنة واتجاهاً سلبياً كامناً، وعلى الإنسان الفطن أنْ يحرص على عدم إثارتها أو تحريكها؛ لذا ينبغي عليه أنْ يبعد نفسه عن التفكير في مخالفة الأمر الإلهي؛ للمحافظة على صفاء النفس وعدم تكديرها.

قال تعالىٰ: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكىٰ لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ. وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلىٰ جُيُوبِهِنَّ﴾(2)

فإنَّ بداية حفظ الفرج عن الحرام هو غض البصر عنه؛ لذلك يحكم بعض الفقهاء

ص: 15


1- الكافي للكليني 5: 542/ باب الزاني/ ح 7.
2- النور: 30 و31.

بحرمة تكلم المرأة مع رجلٍ ليس من محارمها في حالةِ الخوف من الوقوع في الحرام؛ لأنه يجر إلى الحرام بأنْ يتجسد في سلوك خارجي.

كما أنّ لنيةِ ارتكاب الحرام أثراً كبيراً على الإنسان يوم الحساب، فعن الإمام الصادق (علیه السّلام): «إنَّما خُلِّد أهل النار في النار لأنَّ نيّاتهم كانت في الدنيا أنْ لو خُلِّدوا فيها أنْ يعصوا الله أبداً، وإنَّما خُلِّد أهل الجنَّة في الجنَّة لأنَّ نيّاتهم كانت في الدنيا أنْ لو بقوا فيها أنْ يُطيعوا الله أبداً، فبالنيّات خُلِّد هؤلاء وهؤلاء»، ثمّ تلا قوله تعالىٰ: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلىٰ شاكِلَتِهِ﴾(1)، قال: «علىٰ نيَّته»(2).

إشارتان:

الإشارة الأولى: آثار الذنوب.
1/فساد القلب

إنّ ابتعاد الإنسان عن المحرمات هو أمرٌ مرغوب ومطلوب، ولكي يتولد الدافع لدى الإنسان في هذا الابتعاد ذكرت الروايات الشريفة الآثار المترتبة على الذنوب. وقد تنوّعت تلك الآثار بين الآثار المعنوية والآثار المادية، من الممكن أنْ نجد لكلٍ من تلك الآثار عدة عناوين، أهمها:

فساد القلب :

عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: «كَانَ أَبِي (علیه السّلام) يَقُولُ: مَا مِنْ شَيْءٍ أَفْسَدَ لِلْقَلْبِ مِنْ خَطِيئَةٍ، إِنَّ الْقَلْبَ لَيُوَاقِعُ الْخَطِيئَةَ، فَمَا تَزَالُ بِه حَتَّى تَغْلِبَ عَلَيْه، فَيُصَيِّرَ أَعْلَاه أَسْفَلَه».(3)

أي إنه يصير القلب منكوسًا، فإذا نزلت الرحمة الإلهية فلن يكون قابلًا لها.

ص: 16


1- الإسراء: 84.
2- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 2/ ص 330 و331/ح 94).
3- الكافي للكليني ج2 ص268 بَابُ الذُّنُوبِ ح1.

وفي حديثٍ آخر عن الإمام الصادق (علیه السّلام): «إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت، وإن زاد زادت، حتَّىٰ تغلب علىٰ قلبه فلا يفلح بعدها أبداً»(1).

وعن الإمام الباقر (علیه السّلام): «ما من عبد إلَّا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادىٰ في الذنوب زاد ذلك السواد حتَّىٰ يُغطّي البياض، فإذا [ت]غطّىٰ البياض لم يرجع صاحبه إلىٰ خير أبداً، وهو قول الله(عزّ و جلّ): ﴿كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾(2)»(3).

2/زوال النعمة

تؤكد الروايات الشريفة أنَّ الله(عزّ و جلّ) حيث إنّه كريم منّان على عباده وغير محتاج إليهم، وأنه لا بخل في ساحته ولا عوز، فإنّه تعالى إذا أنعم على عبدٍ نعمةً، فلا يسلبها منه إلا إذا أحدث العبد ما يوجب سلب تلك النعمة منه.

وبعبارةٍ أخرى: إنَّ الله(عزّ و جلّ) يريد أنْ يعطي فهو كريمٌ جواد (فالمقتضي تام) وعند إعطائه المفروض أن يستمر لدى ذلك العبد، ولكنه متى ما أذنب أحدث مانعًا من استمرار تلك النعمة عنده فتسلب منه.

لذا على العبد إنْ يلتفت إلى نفسه فيما إذا سُلِبت منه نعمة، يقول الإمام الصادق (علیه السّلام): «ما أنعم الله علىٰ عبد نعمة فسلبها إيّاه حتَّىٰ يذنب ذنباً يستحقُّ بذلك السلب»(4).

وفي رواية أخرى عنه (علیه السّلام): «إنَّ الرجل يذنب الذنب فيحرم صلاة الليل، وإنَّ العمل

ص: 17


1- الكافي 2: 271/ باب الذنوب/ ح 13.
2- المطفّفين: 14.
3- الكافي 2: 273/ باب الذنوب/ ح 20.
4- الكافي 2: 274/ باب الذنوب/ ح 24.

السيِّئ أسرع في صاحبه من السكّين في اللحم»(1).

3/حلول النقمة.

وهذا أيضًا ما تؤكده الروايات الشريفة، كما تؤكد على أنَّ حلول النقمة في عين كونه عقوبةً على الإنسان بسبب ما ارتكبه من ذنوب، فهو سببٌ لتكفير الذنوب عنه، وبذلك نتلمس عظيم كرمه وسعة رحمته (عزّ و جلّ)؛ إذ حتى في حلول النقمة كرمٌ منه(عزّ و جلّ) ورحمة لما فيه من تكفيرٍ لذنوبه.

ولكن هذا الأمر ليس بشكلٍ دائم، فإنّ الله(عزّ و جلّ) في الوقت الذي هو كريمٌ رحيمٌ، فإنّه شديد العقاب، فلا يصلنّ بالعبد الاغترار برحمة الله(عزّ و جلّ) إلى أن يتجاوز بارتكاب الذنوب.

ولنتذكر قوله تعالى ﴿وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ﴾(2)

عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: «أَمَا إِنَّه لَيْسَ مِنْ عِرْقٍ يَضْرِبُ ولَا نَكْبَةٍ ولَا صُدَاعٍ ولَا مَرَضٍ إِلَّا بِذَنْبٍ، وذَلِكَ قَوْلُ الله(عزّ و جلّ) فِي كِتَابِه: ﴿وما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ويَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ﴾ ثُمَّ قَالَ (علیه السّلام): ومَا يَعْفُو الله أَكْثَرُ مِمَّا يُؤَاخِذُ بِه».(3)

إن قلت: بماذا نفسر مرض المعصوم؟ هل من ذنب أم ماذا؟

قلت: ليس المرض هو العلة الوحيدة للأمراض، بل إنها قد تكون من باب الابتلاء لرفع الدرجة، كما صرحت بعض الروايات بذلك، فقد جاء في الروايات الشريفة أنَّ الله(عزّ و جلّ) يبتلي الإنسان ببدنه وبماله وأهله، لأنه يريد (سبحانه و تعالی )أنْ يزيد هذا العبد من درجته الكمالية فيبتليه فيحمد العبد ربه فترتفع درجته الكمالية.

ص: 18


1- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 115).
2- الشورى 30.
3- الكافي 2: 269/ باب الذنوب/ ح 3.

ومن ذلك ما روي عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنه قال لِزِنديق وقَد سَأَلَهُ: فَبِمَا استَحَقَّ الطِّفلُ الصَّغيرُ ما يُصيبُهُ مِنَ الأَوجاعِ وَالأَمراضِ بِلا ذَنب عَمِلَهُ ولا جُرم سَلَفَ مِنهُ؟

فَقالَ (علیه السّلام): «إنَّ المَرَضَ عَلى وُجوه شَتّى: مَرَضُ بَلوى، وَمرَضُ عُقوبَة، ومَرَضٌ جُعِلَ عِلَّةً لِلفَناءِ، وأنتَ تَزعُمُ أنَّ ذلِكَ مِن أغذِيَة رَدِيَّة، وأشرِبَة وَبِيَّة أو عِلَّة كانَت بِأُمِّهِ، وتَزعُمُ أنَّ مَن أحسَنَ السِّياسَةَ لِبَدَنِهِ وأجمَلَ النَّظَرَ في أحوالِ نَفسِهِ وعَرَفَ الضّارَّ مِمّا يَأكُلُ مِنَ النّافِعِ لَم يَمرَض، وتَميلُ في قَولِكَ إلى مَن يَزعُمُ أنَّهُ لا يَكونُ المَرَضُ وَالمَوتُ إلاّ مِنَ المَطعَمِ وَالمَشرَبِ! قَد ماتَ (أرَسطا طاليسُ) مُعَلِّمُ الأَطِبّاءِ، و (أفلاطونُ) رَئيسُ الحُكَماءِ، و (جالينوسُ) شاخَ ودَقَّ بَصَرُهُ، وما دَفَعَ الموتَ حينَ نَزَلَ بِساحَتِهِ، ولَم يَألوا حِفظَ أنفُسِهِم، وَالنَّظَرَ لِما يُوافِقُها، كَم مِن مَريض قَد زادَهُ المُعالِجُ سُقماً؟ وكَم مِن طَبيب عالِم وبَصير بِالأَدواءِ وَالأَدوِيَةِ ماهِر ماتَ، وعاشَ الجاهِلُ بِالطِّبِّ بَعدَهُ زَماناً؟! فَلا ذاكَ نَفَعَهُ عِلمُهُ بِطِبِّهِ عِندَ انقِطاعِ مُدَّتِهِ وحُضورِ أجَلِهِ، ولا هذا ضَرَّهُ الجَهلُ بِالطِّبِّ مَعَ بَقاءِ المُدَّةِ وتَأَخُّرِ الأَجَلِ!»(1)

4/آثار تكوينية.

إنّ الروايات الشريفة تذكر أنّ للذنوب مدى تأثيرٍ يتجاوز الفاعل (المذنب نفسه)، مثل الإشعاعات الجرثومية التي هي ليست محددةً بمنطقةٍ معينة، وإنّما قد تنتشر إلى مدن أخرى، فالإنسان عندما يُذنب لا يؤثر على نفسه فقط، بل قد يؤثر على ذريته وعلى ما يمتلكه من أموال، بل حتى قد يؤثر على نزول المطر، والقرآن يقول: ﴿ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾(2)

وعن أبي حمزة، عن أبي جعفر (علیه السّلام)، قال: سمعته يقول: «إنَّه ما من سنة أقلّ مطراً من

ص: 19


1- الاحتجاج للطبرسي ج2 ص84 و 85.
2- الروم: 41.

سنة، ولكنَّ الله يضعه حيث يشاء، إنَّ الله(عزّ و جلّ) إذا عمل قوم بالمعاصي صرف عنهم ما كان قدَّر لهم من المطر في تلك السنة إلىٰ غيرهم وإلىٰ الفيافي والبحار والجبال. وإنَّ الله ليُعذِّب الجعل في جُحرها بحبس المطر عن الأرض التي هي بمحلِّها بخطايا من بحضرتها. وقد جعل الله لها السبيل في مسلك سوىٰ محلَّة أهل المعاصي»، قال: ثمّ قال أبو جعفر (علیه السّلام): «فاعتبروا يا أُولي الأبصار»(1).

ويشمل أيضاً الآثار علىٰ الأفراد الآخرين: وهي ما روي عن النبيِّ الأعظم (صلّی الله علیه و آله): «الذنب شؤم علىٰ غير فاعله، إن عيَّره ابتلي به، وإن اغتابه أثم، وإن رضي به شاركه»(2).

آثار خاصة لبعض الذنوب:

عن أبي عبد الله (علیه السّلام)، قال: «الذنوب التي تُغيِّر النعم البغي، والذنوب التي تورث الندم القتل، والتي تُنزِل النِّقَم الظلم، والتي تهتك الستر شرب الخمر، والتي تحبس الرزق الزنا، والتي تُعجِّل الفناء قطيعة الرحم، والتي تردُّ الدعاء وتُظلِم الهواء عقوق الوالدين».(3)

وعن إسحاق بن عمّار قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السّلام) يقول: «كان أبي (علیه السّلام) يقول: نعوذ بالله من الذنوب التي تُعجِّل الفناء، وتُقرِّب الآجال، وتُخلي الديار، وهي قطيعة الرحم، والعقوق، وترك البرِّ». (4)

وقال أبو عبد الله (علیه السّلام): «إذا فشا أربعة ظهرت أربعة: إذا فشا الزنا ظهرت الزلزلة، وإذا فشا الجور في الحكم احتبس القطر، وإذا خفرت الذمَّة أُديل لأهل الشرك من أهل

ص: 20


1- الكافي للكليني 2: 272/ باب الذنوب/ ح 15.
2- الجامع الصغير للسيوطي 1: 668/ ح 4353.
3- الكافي 2: 447 و448/ باب في تفسير الذنوب/ ح 1.
4- الكافي 2: 447 و448/ باب في تفسير الذنوب/ ح 2.

الإسلام، إذا منعت الزكاة ظهرت الحاجة».(1)

وروي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «ثلاثة من الذنوب تُعجَّل عقوبتها ولا تُؤخَّر إلىٰ الآخرة: عقوق الوالدين، والبغي علىٰ الناس، وكفر الإحسان»(2).

وعن الإمام الباقر (علیه السّلام): «أربعة أسرع شيء عقوبةً: رجل أحسنت إليه ويكافيك بالإحسان إليه إساءة، ورجل لا تبغي عليه وهو يبغي عليك، ورجل عاهدته علىٰ أمر فمن أمرك الوفاء له ومن أمره الغدر بك، ورجل يصل قرابته ويقطعونه»(3).

وعنه (علیه السّلام): «في كتاب عليٍّ (علیه السّلام): ثلاث خصال لا يموت صاحبهنَّ أبداً حتَّىٰ يرىٰ وبالهنَّ: البغي، وقطيعة الرحم، واليمين الكاذبة»(4).

وقال الإمام عليّ (علیه السّلام) - لمَّا سُئِلَ: أيُّ ذنب أعجل عقوبةً لصاحبه؟ -: «من ظلم من لا ناصر له إلَّا الله، وجاور النعمة بالتقصير، واستطال بالبغي علىٰ الفقير»(5).

الإشارة الثانية: طرقٌ مختصرةٌ إلى التقوى.
1/الوقاية خير من العلاج،

الإشارة الثانية: طرقٌ مختصرةٌ إلى التقوى.(6)

1/الوقاية خير من العلاج، فالابتعاد عن الذنب أفضل من التوبة منه بعد اقترافه، فمن أذنب وتاب يكون حاله كالإناء المكسور الذي تم تصليحه، فإنه وإن كنا نراه تاماً، لكنَّه حتمًا لم يعد كالأول.

2/التعجيل بالتوبة.

ص: 21


1- الكافي 2: 447 و448/ باب في تفسير الذنوب/ ح 3.
2- أمالي الشيخ المفيد (ص 237/ ح 1).
3- الخصال: 230/ ح 71.
4- الكافي 2: 347/ باب قطيعة الرحم/ ح 4.
5- الاختصاص: 234.
6- للتفاصيل انظر: ملاك التفاضل في الإسلام- الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي- ص59 وما بعدها.

فإنْ لم يتمكن الإنسان من وقاية نفسه من المعاصي، فعليه المبادرة إلى إعلان التوبة بعد ارتكابها مباشرةً، يقول أمير المؤمنين (علیه السّلام) في وصيَّته لولده الإمام الحسن (علیه السّلام): «... وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلآخِرَةِ لَا لِلدُّنْيَا، وَلِلْفَنَاءِ لَا لِلْبَقَاءِ، وَلِلْمَوْتِ لَا لِلْحَيَاةِ، وَأَنَّكَ فِي قُلْعَةٍ وَدَارِ بُلْغَةٍ، وَطَرِيقٍ إِلَىٰ الآخِرَةِ، وَأَنَّكَ طَرِيدُ المَوْتِ الَّذِي لَا يَنْجُو مِنْه هَارِبُه، وَلَا بُدَّ أَنَّه مُدْرِكُه، فَكُنْ مِنْه عَلَىٰ حَذَرِ أَنْ يُدْرِكَكَ وَأَنْتَ عَلَىٰ حَالٍ سَيِّئَةٍ قَدْ كُنْتَ تُحَدِّثُ نَفْسَكَ مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ فَيَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ ذَلِكَ، فَإِذَا أَنْتَ قَدْ أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ...»(1).

3/لا تضع نفسك في مأزق.

فعن داود الرقّي، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السّلام) يقول: «لا ينبغي للمؤمن أن يذلَّ نفسه»، قيل له: وكيف يذلُّ نفسه؟ قال: «يتعرَّض لما لا يطيق»(2)،

في رواية أُخرىٰ: «يدخل فيما يُتعذَّر منه»(3).

وللهروب من المأزق مصاديق، منها:

أ/ اهرب من الفتوى:

يقول الإمام الصادق (علیه السّلام) في نصيحته لعنوان البصري: «... واهرب من الفتيا هربك من الأسد، ولا تجعل رقبتك للناس جسراً»(4).

ب/ابتعد عن الشبهات:

يقول رسول الله الأعظم (صلّی الله علیه و آله): «الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما أُمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتَّقىٰ الشبهات استبرأ لعِرضه ودِينه، ومن وقع في الشبهات

ص: 22


1- نهج البلاغة (ج 3/ ص 48 و49).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 63 و64/ باب كراهة التعرُّض لما لا يطيق/ح 4).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 63 و64/ باب كراهة التعرُّض لما لا يطيق/ح 5).
4- مشكاة الأنوار لعليٍّ الطبرسي (ص 564).

وقع في الحرام، كراعٍ يرعىٰ حول الحمىٰ يُوشِك أن يواقعه»(1).

ج/لا تُثر في نفسك الشهوات المحرمة، ويدخل ضمن هذا المعنى:

-لا تمش خلف امرأة وتنظر لمحاسنها:

روي عن الإمام الكاظم (علیه السّلام) في قوله تعالىٰ: ﴿قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾(2)،

«قال لها شعيب (علیه السّلام): يا بنيَّة، هذا قويٌّ قد عرفتيه برفع الصخرة، الأمين من أين عرفتيه؟ قالت: يا أبتِ إنّي مشيت قدّامه، فقال: امشي من خلفي فإن ضللت فأرشديني إلىٰ الطريق فإنّا قوم لا ننظر في أدبار النساء»(3).

-لا تنفرد بامرأة:

روي عن محمّد الطيّار، قال: دخلت المدينة وطلبت بيتاً أتكاراه، فدخلت داراً فيها بيتان بينهما باب وفيه امرأة، فقالت: تكاري هذا البيت؟ قلت: بينهما باب وأنا شابٌّ، قالت: أنا أُغلق الباب بيني وبينك، فحوَّلتُ متاعي فيه، وقلت لها: أغلقي الباب، فقالت: تدخل عليَّ منه الرَّوح، دعه، فقلت: لا، أنا شابٌّ وأنت شابَّة أغلقيه، قالت: اقعد أنت في بيتك فلست آتيك ولا أقربك، وأَبَتْ تغلقه، فأتيت أبا عبد الله (علیه السّلام) فسألته عن ذلك، فقال: «تحوَّل منه، فإنَّ الرجل والمرأة إذا خليا في بيت كان ثالثهما الشيطان»(4).

-لا تنظر إلى امرأة نظرة محرَّمة:

قال أبو عبد الله (علیه السّلام): «النظرة سهم من سهام إبليس مسموم من تركها لله(عزّ و جلّ) لا لغيره

ص: 23


1- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 3/ ص 428 و429/ح 7291).
2- القَصص: 26.
3- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 4/ ص 19/ ح 4974).
4- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3/ ص 252/ ح 3913).

أعقبه الله إيماناً يجد طعمه»(1).

وروي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «... ومن ملأ عينيه من امرأة حراماً، حشاهما الله تعالىٰ يوم القيامة بمسامير من النار، وحشاهما ناراً، حتَّىٰ يقضي بين الناس، ثمّ يُؤمَر به إلىٰ النار»(2).

وهكذا بالنسبة للمرأة أيضًا، فعليها أنْ لا تظهر مفاتنها، وأن لا تنظر إلى الرجلِ بريبة، وأنْ لا تختلي برجل غير محرم.

4/لا تهتك ستر مؤمن:

روي عنه (صلّی الله علیه و آله): «من اطَّلع في بيت جاره فنظر إلىٰ عورة رجل أو شعر امرأة أو شيء من جسدها، كان حقًّا علىٰ الله أن يُدخِله النار مع المنافقين، الذين كانوا يبتغون عورات الناس في الدنيا، ولا يخرج من الدنيا حتَّىٰ يفضحه الله، ويُبدي للناس عورته في الآخرة»(3).

5/ لا تتعرب بعد الهجرة.

أي (أنْ ينتقل المكلَّف من بلد يتمكَّن فيه من تعلُّم ما يلزمه من المعارف الدِّينية والأحكام الشرعية، ويستطيع فيه أداء ما وجب عليه في الشريعة المقدَّسة، وترك ما حرم عليه فيها، إلىٰ بلد لا يستطيع فيه علىٰ ذلك كلّاً أو بعضاً)(4).

ص: 24


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 4/ ص 18/ ح 4969).
2- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ص 286).
3- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ص 282).
4- فقه الحضارة للسيِّد السيستاني (ص 135).
6/ لا تَعِد بما لا تستطيع فعله.

فعن أمير المؤمنين (علیه السّلام): «المنع الجميل أحسن من الوعد الطويل»(1).

وعنه (علیه السّلام): «لا تَعد ما تعجز عن الوفاء به»(2).

7/ لا تطمع بما عند الناس.

فإنَّه يوجب الوقوع في الذلِّ، فإنَّ الطمع مركب أعمىٰ، لا يرىٰ إلَّا الوصول إلىٰ إشباع حاجته، ولو علىٰ حساب ذلِّ النفس، فمن كان طمّاعاً كان إلىٰ الذلِّ أقرب منه إلىٰ العزِّ. وقد روي عن الإمام الباقر (علیه السّلام) أنَّه قال: «لا ذلَّ كذلِّ الطمع»(3).

8/ لا تكذب.

فقد روي أنه قال رجل له (صلّی الله علیه و آله): المؤمن يزني؟ قال: «قد يكون ذلك»، قال: المؤمن يسرق؟ قال (صلّی الله علیه و آله): «قد يكون ذلك»، قال: يا رسول الله، المؤمن يكذب؟ قال: «لا، قال الله تعالىٰ: ﴿إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ﴾(4)»(5).

وعن أبي جعفر (علیه السّلام)، قال: «إنَّ الله (عزّ و جلّ) جعل للشرِّ أقفالاً وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، والكذب شرٌّ من الشراب»(6).

9/لا تغضب.

عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (علیه السّلام)، قال: «إنَّ هذا الغضب جمرة من الشيطان،

ص: 25


1- عيون الحكم والمواعظ لليثي الواسطي: 67.
2- عيون الحكم والمواعظ لليثي الواسطي: 517.
3- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 286).
4- النحل: 105
5- الدعوات لقطب الدِّين الراوندي (ص 118/ ح 275).
6- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 338/ باب الكذب/ ح 3).

تُوقَد في قلب ابن آدم، وإنَّ أحدكم إذا غضب احمرَّت عيناه وانتفخت أوداجه ودخل الشيطان فيه، فإذا خاف أحدكم ذلك من نفسه فليلزم الأرض، فإنَّ رجز الشيطان ليذهب عنه عند ذلك»(1).

والظاهر أنَّ المقصود من (دخل الشيطان فيه) ليس المعنىٰ الحقيقي، وإنَّما الكناية عن تملُّك الشيطان زمام الأمر عند الغضب، ممَّا يعني الوقوع في مصائد الندم والحسرة وعضِّ الأنامل!

10/تواضع.

فقد ذكرت الروايات الشريفة أنَّ الأمر الذي كان وراء انتجاب النبي موسى الكليم (علیه السّلام) هو التواضع، فعن أبي عبد الله (علیه السّلام)، قال: «أوحىٰ الله إلىٰ موسىٰ بن عمران (علیه السّلام): أتدري يا موسىٰ لم انتجبتك من خلقي واصطفيتك لكلامي؟

فقال: لا يا ربِّ.

فأوحىٰ الله إليه: إنّي اطَّلعت إلىٰ الأرض فلم أجد عليها أشدّ تواضعاً لي منك.

فخرَّ موسىٰ ساجداً وعفَّر خدَّيه في التراب تذلُّلاً منه لربِّه (عزّ و جلّ).

فأوحىٰ الله إليه: ارفع رأسك يا موسىٰ، وأمر يدك في موضع سجودك، وامسح بها وجهك وما نالته من بدنك، فإنَّه أمان من كلِّ سقم وداء وآفة وعاهة»(2).

نلفت النظر إلى أن هناك علاقات بين الأمور التشريعية والتكوينية لنسمِّها بالعلاقات العكسية، فمن أراد أن يكون عظيمًا عند الناس فعليه أن يتواضع لهم، ولذا النبي (صلّی الله علیه و آله) كان يسلم حتى على الصبيان. فقد روي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «خمس لا أدعهنَّ

ص: 26


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 304 و305/ باب الغضب/ح 12).
2- الدعوات لقطب الدِّين الراوندي (ص 78/ ح 188).

حتَّىٰ الممات:الأكل علىٰ الحضيض مع العبيد، وركوبي الحمار مؤكفاً، وحلب العنز بيدي، ولبس الصوف، والتسليم علىٰ الصبيان، لتكون سُنَّة من بعدي».(1)

11/أخلِص العمل.

فمن دون الإخلاص في النية يكون المؤمن غافلًا، يقول الإمام الصادق (علیه السّلام): «ولا بدَّ للعبد من خالص النيَّة في كلِّ حركة وسكون، إذ لو لم يكن بهذا المعنىٰ يكون غافلاً، والغافلون قد وصفهم الله بقوله: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾ (الفرقان: 44)»(2).

12/احبس جوارحك.

أنْ يحبس الإنسان جوارحه عن الحرام، وفي هذا المجال يصف أمير المؤمنين (علیه السّلام) المتَّقين فيما يصفهم: «... فالمتَّقون فيها هم أهل الفضائل، منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد ومشيهم التواضع، غضُّوا أبصارهم عمَّا حرَّم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم علىٰ العلم النافع لهم...»(3).

13/لا تستمع الغناء.

فإنَّ الغناء يفتكُ بالتقوى، فعن مسعدة بن زياد، قال: كنت عند أبي عبد الله (علیه السّلام)، فقال له رجل: بأبي أنت وأُمّي إنَّني أدخل كنيفاً لي ولي جيران عندهم جوار يتغنَّين ويضربن بالعود، فربَّما أطلت الجلوس استماعاً منّي لهنَّ؟ فقال: «لا تفعل»، فقال الرجل: والله ما آتيهنَّ إنَّما هو سماع أسمعه بأُذُني! فقال: «لله أنت، أمَا سمعت الله(عزّ و جلّ)

ص: 27


1- الخصال للشيخ الصدوق: ص 271.
2- مستدرك الوسائل للميرزا النوري (ج 1/ ص 99/ح 86/3)، عن مصباح الشريعة.
3- نهج البلاغة (ج 2/ ص 160 و161).

يقول: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً﴾(1)؟!»،

فقال: بلىٰ والله لكأنّي لم أسمع بهذه الآية من كتاب الله من أعجمي ولا عربي، لا جرم إنَّني لا أعود إن شاء الله، وإنّي أستغفر الله.

فقال له: «قم فاغتسل(2)

وسَلْ ما بدا لك، فإنَّك كنت مقيماً علىٰ أمر عظيم، ما كان أسوء حالك لو متَّ علىٰ ذلك! احمد الله وسَلْه التوبة من كلِّ ما يكره فإنَّه لا يكره إلَّا كلَّ قبيح، والقبيح دعه لأهله فإنَّ لكلٍّ أهلاً»(3).

14/ اصبر.

فعن أبي عبد الله (علیه السّلام)، قال: «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان»(4).

15/اقرأ عن المتقين.

فإنَّ القدوة الحسنة لها تأثيرٌ على سلوك الإنسان، وعلى رأس المتقين أئمتنا (علیهم السّلام).

النقطة السادسة: كيف حمى أهل البيت (علیهم السّلام) شيعتهم وأتباعهم؟

1/التقية.

الجواب: لبيان الإجراءات العملية التي قام بها أهل البيت (علیهم السّلام) لحماية شيعتهم، نذكر عدة طرق:

1/التقية.

وهو طريق عقلائي، وقد عُرِفت الشيعة بها لما مرت عليهم من ظروف صعبة

ص: 28


1- الإسراء: 36
2- الظاهر أنَّ المراد هنا هو غُسل التوبة.
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 432/ باب الغناء/ ح 10).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 87/ باب الصبر/ ح 2).

ألزمتهم أنْ يتخذوا هذا الإجراء الوقائي دفعًا لضرر أعدائهم.

وفي هذا المجال روي أن علي بن يقطين كتب إلى [الإمام] موسى بن جعفر (علیه السّلام): اختلف في (المسح على الرجلين)، فان رأيت أن تكتب ما يكون عملي عليه فعلت.

فكتب أبو الحسن (علیه السّلام): «الذي آمرك به أن تتمضمض ثلاثاً، وتستنشق ثلاثاً، وتغسل وجهك ثلاثاً، وتخلل شعر لحيتك، وتغسل يديك ثلاثاً، وتمسح رأسك كله، وتمسح ظاهر أذنيك وباطنهما، وتغسل رجليك ثلاثاً، ولا تخالف ذلك إلى غيره. فامتثل أمره، وعمل عليه».

فقال الرشيد [يوماً]: أحب أن أستبرئ أمر علي بن يقطين، فإنهم يقولون: إنه رافضي، والرافضة يخففون في الوضوء [فطلبه] فناطه بشيء من الشغل في الدار حتى دخل وقت الصلاة، فوقف الرشيد من وراء حائط الحجرة بحيث يرى علي بن يقطين، ولا يراه هو، وقد بعث إليه بالماء للوضوء، فتوضأ كما أمره موسى (علیه السّلام)، (فقام الرشيد وقال): كذب من زعم أنك رافضي.

فورد على علي بن يقطين [بعد ذلك] كتاب موسى بن جعفر (علیه السّلام): من الآن توضأ كما أمر الله تعالى: اغسل وجهك مرة فريضة، وأخرى إسباغاً، واغسل [يديك] من المرفقين كذلك، وامسح مقدم رأسك، وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك، فقد زال ما يخاف عليك.(1)

2/العمل داخل البلاط الحاكم.

فقد أمروا (علیهم السّلام) بعض الشيعة أن يدخلوا في البلاط الحاكم، مع عدم إظهارهم التشيع، رغم وجود العديد من الروايات التي تحرم على الشيعة أنْ يكونوا في بلاط

ص: 29


1- الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي ج1 ص335 ب8 ح 26.

الظالم؛ وذلك لرواياتٍ جاء فيها أمرٌ لخُلِّصِ الشيعة أنْ يبقوا داخل البلاط، وأشهر ما يذكر لهذه المسألة هو علي بن يقطين من أصحاب الإمام الكاظم (علیه السّلام)، فهذا المكان لا يتمكن أي واحدٍ أن يكون ثابتًا ومحافظًا على دينه فيه، لكن الأئمة (علیهم السّلام) كانوا يعرفون شيعتهم وأيهم يستطيع البقاء والثبات، لذا أذن الإمام الكاظم (علیه السّلام) لابن يقطين بالبقاء في بلاط الحكام، بشرط الثبات والحفاظ على الدين، فإن في بقائه فائدة للشيعة، فقد يستطيع من خلال سلطته أنْ يُخفف الظلم عنهم، كما سيكون عينًا لهم فيوصل أخبار السلطة الظالمة السرية إليهم عمومًا وإلى الإمام خصوصًا ليتم توخّي الحذر منهم، ولربما يستطيع بطريقةٍ أو أخرى أنْ يؤثر ولو جزئيًا على الحاكم باعتباره من الحاشية.

فقد روي أنه لما قدم أبو إبراهيم موسى بن جعفر(علیهما السّلام) العراق، قال علي بن يقطين: أما ترى

حالي وما أنا فيه؟! فقال (علیه السّلام): «يا علي، إن لله تعالى أولياء مع أولياء الظلمة، ليدفع بهم عن أوليائه، وأنت منهم يا علي».(1)

وفي رواية أخرى أنه قال أبو الحسن (علیه السّلام) لعلي بن يقطين: «اضمن لي خصلة أضمن لك ثلاثاً». فقال علي: جعلت فداك وما الخصلة التي أضمنها لك، وما الثلاث اللواتي تضمنهن لي؟

فقال أبو الحسن (علیه السّلام): «الثلاث اللواتي أضمنهن لك: أن لا يصيبك حر الحديد أبداً بقتل، ولا فاقة، ولا سجن حبس»، قال، فقال علي: وما الخصلة التي أضمنها لك؟ قال، فقال: «تضمن أن لا يأتيك وليٌّ أبدا الا أكرمته»، قال: فضمن عليٌّ الخصلة، وضمن له أبو الحسن الثلاث.(2)

ص: 30


1- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) للشيخ الطوسي ج2 ص 731 رقم (817).
2- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) للشيخ الطوسي ج2 ص 731 و732 رقم (818).
3/ذمُّ بعض شيعتهم.

وهو من أغرب الطرق، فكان الأئمة (علیهم السّلام) في بعض الأحيان يذمون بل يلعنون بعض أصحابهم لإبعاد عيون الأعداء عنهم، وأوضح مثال على ذلك ما ورد في لعن الإمام الصادق (علیه السّلام) لزرارة. وزرارة ذلك الذي قال فيه الإمام الصادق (علیه السّلام): «بشر المخبتين بالجنة: بريد بن معاوية العجلي، وأبو بصير بن ليث البختري المرادي، ومحمد بن مسلم، وزرارة، أربعة نجباء أمناء الله على حلاله وحرامه، لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست».(1)

وعن جميل بن دراج، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السّلام) يقول: «أوتاد الأرض، وأعلام الدين أربعة: محمد بن مسلم، وبريد بن معاوية، وليث بن البختري المرادي، وزرارة بن أعين».(2)

ورغم كلِّ ذلك المقام الرفيع لزرارة، إلا أنَّ هناك رواية بين الإمام الصادق (علیه السّلام) وزياد بن أبي الحلال حيث سأل الإمام الصادق (علیه السّلام) عن مسألةٍ فقهية نقلها زرارة عن الإمام، فيقول الإمام الصادق (علیه السّلام): «ليس هكذا سألني ولا هكذا قلت، كذب عليّ والله، كذب عليّ والله، لعن الله زرارة، لعن الله زرارة».(3)

ولكي لا نكون في حيرةٍ من أمرنا من تضارب هاتين الروايتين، نذكر الرواية التي كانت للإمام الصادق (علیه السّلام) مع ابن زرارة عبد الله، والتي تبين حقيقة الحال من رواية اللعن.

عن عبد الله بن زرارة قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السّلام): «اقرأ مني على والدك السلام،

ص: 31


1- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) للشيخ الطوسي ج1 ص 398 رقم (286).
2- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) للشيخ الطوسي ج2 ص 507 رقم (432).
3- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) للشيخ الطوسي ج1 ص 359 -361 رقم (234).

وقل له: إني إنما أعيبك دفاعاً مني عنك، فإن الناس والعدو يسارعون إلى كل من قرّبناه وحمدنا مكانه لإدخال الأذى في من نحبه ونقربه، يرمونه لمحبتنا له وقربة ودنوّه منا، ويرون إدخال الأذى عليه وقتله ويحمدون كل من عبناه نحن وأن نحمد أمره.

فإنما أعيبك لأنك رجل اشتهرت بنا ولمَيلك إلينا، وأنت في ذلك مذموم عند الناس غير محمود الأثر لمودتك لنا ولمَيلك إلينا، فأحببت أن أعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك، ويكون بذلك منا دفع شرهم عنك يقول الله جل وعز ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً﴾(1)، هذا التنزيل من عند الله صالحة، لا والله ما عابها إلا لكي تسلم من الملك ولا تعطب على يديه، ولقد كانت صالحة ليس للعيب منها مساغ والحمد الله.

فافهم المثل يرحمك الله، فإنك والله أحب الناس إلي، وأحب أصحاب أبي (علیه السّلام) حياً وميتاً، فإنك أفضل سفن ذلك البحر القمقام الزاخر، أن من ورائك ملكاً ظلوماً غصوباً يرقب عبور كل سفينة صالحة ترد من بحر الهدى ليأخذها غصباً ثم يغصبها وأهلها، فرحمة الله عليك حيا ورحمته ورضوانه عليك ميتا، ولقد أدى إليّ ابناك الحسن والحسين رسالتك، أحاطهما الله وكلأهما ورعاهما وحفظهما بصلاح أبيهما كما حفظ الغلامين، فلا يضيقن صدرك من الذي أمرك أبي (علیه السّلام) وأمرتك به، وأتاك أبو بصير بخلاف الذي أمرناك به، فلا والله ما أمرناك ولا أمرناه إلا بأمر وسعنا ووسعكم الأخذ به، ولكل ذلك عندنا تصاريف ومعان توافق الحق، ولو أذن لنا لعلمتم أن الحق في الذي أمرناكم به، فردوا إلينا الأمر وسلّموا لنا واصبروا لأحكامنا وارضوا بها، والذي فرّق بينكم فهو راعيكم الذي استرعاه الله خلقه، وهو أعرف بمصلحة غنمه في فساد أمرها، فان شاء فرق بينها لتسلم، ثم يجمع بينها لتأمن من فسادها وخوف عدوها في آثار ما يأذن الله

ص: 32


1- الكهف 79.

تعالى، ويأتيها بالأمن من مأمنه والفرج من عنده، عليكم بالتسليم والرد إلينا وانتظار أمرنا وأمركم وفرجنا وفرجكم...»(1)

وكقاعدةٍ كلية لهذا الطريق، روي عَنْ نَصْرٍ الْخَثْعَمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (علیه السّلام) يَقُولُ: «مَنْ عَرَفَ أَنَّا لَا نَقُولُ إِلَّا حَقّاً، فَلْيَكْتَفِ بِمَا يَعْلَمُ مِنَّا، فَإِنْ سَمِعَ مِنَّا خِلَافَ مَا يَعْلَم، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ دِفَاعٌ مِنَّا عَنْه».(2)

4/عدم إدخال الشيعة في حربٍ خاسرة.

لأنَّ ذلك يعني التصفية الشاملة من دون مبرر ومن دون فائدة، وهذا الأمر يرجع بالخسارة على الشيعة بالخصوص، ويتجلى هذا الطريق فيما ورد عنهم (علیهم السّلام) من عدم قيامهم لعدم توفر الأنصار بالعدد الكافي.

عَنْ سَدِيرٍ الصَّيْرَفِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) فَقُلْتُ لَه: والله مَا يَسَعُكَ الْقُعُودُ!

فَقَالَ (علیه السّلام): «ولِمَ يَا سَدِيرُ؟»

قُلْتُ: لِكَثْرَةِ مَوَالِيكَ وشِيعَتِكَ وأَنْصَارِكَ، والله لَوْ كَانَ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السّلام) مَا لَكَ مِنَ الشِّيعَةِ والأَنْصَارِ والْمَوَالِي مَا طَمِعَ فِيه تَيْمٌ ولَا عَدِيٌّ.

فَقَالَ (علیه السّلام): «يَا سَدِيرُ، وكَمْ عَسَى أَنْ يَكُونُوا؟»، قُلْتُ: مِائَةَ أَلْفٍ. قَالَ (علیه السّلام): «مِائَةَ أَلْفٍ؟!» قُلْتُ: نَعَمْ، ومِائَتَيْ أَلْفٍ. قَالَ (علیه السّلام): «مِائَتَيْ أَلْفٍ؟!» قُلْتُ: نَعَمْ، ونِصْفَ الدُّنْيَا!

قَالَ: فَسَكَتَ عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: «يَخِفُّ عَلَيْكَ أَنْ تَبْلُغَ مَعَنَا إِلَى يَنْبُعَ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِحِمَارٍ وبَغْلٍ أَنْ يُسْرَجَا، فَبَادَرْتُ فَرَكِبْتُ الْحِمَارَ، فَقَالَ (علیه السّلام): «يَا سَدِيرُ، أتَرَى أَنْ تُؤْثِرَنِي

ص: 33


1- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) للشيخ الطوسي ج1 ص 349 و 350 رقم (221)
2- الكافي للكليني ج1 ص65 و66 بَابُ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ ح6.

بِالْحِمَارِ؟!» قُلْتُ: الْبَغْلُ أَزْيَنُ وأَنْبَلُ. قَالَ (علیه السّلام): «الْحِمَارُ أَرْفَقُ بِي». فَنَزَلْتُ فَرَكِبَ الْحِمَارَ، ورَكِبْتُ الْبَغْلَ، فَمَضَيْنَا فَحَانَتِ الصَّلَاةُ، فَقَالَ (علیه السّلام): «يَا سَدِيرُ، انْزِلْ بِنَا نُصَلِّ». ثُمَّ قَالَ (علیه السّلام): «هَذِه أَرْضٌ سَبِخَةٌ، لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا»، فَسِرْنَا حَتَّى صِرْنَا إِلَى أَرْضٍ حَمْرَاءَ، ونَظَرَ إِلَى غُلَامٍ يَرْعَى جِدَاءً، فَقَالَ (علیه السّلام): «والله يَا سَدِيرُ، لَوْ كَانَ لِي شِيعَةٌ بِعَدَدِ هَذِه الْجِدَاءِ مَا وَسِعَنِي الْقُعُودُ».

ونَزَلْنَا وصَلَّيْنَا فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ الصَّلَاةِ عَطَفْتُ عَلَى الْجِدَاءِ فَعَدَدْتُهَا، فَإِذَا هِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ!(1)

فالمشكلة ليست في أهل البيت (علیهم السّلام)، بل في المجتمع؛ إذ لم يُنتج عددًا كافيًا من الأصحاب الخُلّص الذين هم على مستوى من الثقة والإيمان والثبات للقيام بمثل هذا الأمر.

وهذا ما صرح به الإمام الحسن (علیه السّلام)، حيث روي أنّه دخل أحدهم على الإمام (علیه السّلام) بعد الصلح مع معاوية فسلّم عليه وقال: السلام عليك يا مذل المؤمنين، فيجيبه الإمام (علیه السّلام): «ما أنا بمذل المؤمنين ولكني معز المؤمنين، إني لما رأيتكم ليس بكم عليهم قوة سلمت الامر لأبقى أنا وأنتم بين أظهرهم، كما عاب العالم السفينة لتبقى لأصحابها وكذلك نفسي وأنتم لنبقى بينهم...»(2)

لذا كان أهل البيت (علیهم السّلام) عندما يرون أنَّ هناك حرباً خاسرة، فإنهم يأمرون شيعتهم بالقعود عنها؛ لأنها سوف لا تكون إلا عبارة عن تصفية جسدية ومعنوية لهم.

5/أمرهم (علیهم السّلام) شيعتهم بالعمل المخفي.

رغم أنَّه كان لبعض الشيعة مهام عظيمة أُلقيت عليهم، لكن بترتيبٍ من أهل

ص: 34


1- الكافي للكليني ج2 ص242 و243 بَابٌ فِي قِلَّةِ عَدَدِ الْمُؤْمِنِينَ ح4.
2- تحف العقول للحراني ص 308.

البيت (علیهم السّلام) أمروهم بعملٍ معين تغطيةً على أمرهم، وأوضح شاهد على ذلك هو السفير الأول عثمان بن سعيد الملقب بالعمري والأسدي والعسكري والسمان، حيث كان يتجر بالسمن تغطيةً على أمره؛ كونه سفيرًا للإمام (علیه السّلام) حيث كان موضع ثقةٍ للإمام الهادي والعسكري والمهدي (علیهم السّلام)، فكان يضع الأموال والرسائل في جراب السمن خوفًا من أن يُكشف أمره، وبهذه الطريقة كان أمثال عثمان بن سعيد (رضوان الله تعالى عليه) يتجاوزون الخطر.

الخلاصة: كان أهل البيت (علیهم السّلام) يعملون قدر الإمكان على الحفاظ على شيعتهم حبًا بهم ومن أجل أن لا تنقطع جذورهم ويحفظ التشيع.

التقية المداراتية:

بالإضافة إلى النوعين المتقدمين من التقية، هناك نوع آخر يُسمى بالتقية المداراتية قد أشار إليها الشيخ(رحمه الله)بقوله «واستصلاحًا للمسلمين وجمعًا لكلمتهم ولمًا لشعثهم»، والغاية منها ليس هو دفع الضرر خوفًا من المقابل، وإنّما من أجل جذبه إلى الحق، بمعنى أنْ لا يُظهر الشيعي معتقده للمخالف في بادئ الأمر ويتحفظ عليه حتى ينجذب له ويطمئن، حينئذٍ يُظهر له الأمر.

وهناك مطلبٌ فقهيٌ بخصوص التقية، أشار إليه الشيخ رحمه الله(عزّ و جلّ) بقوله: (وللتقية أحكام من حيث وجوبها وعدم وجوبها بحسب اختلاف مواقع خوف الضرر مذكورة في أبوابها في كتب العلماء الفقهية). إشارة منه إلى أن التقية تدخل في أبواب الأحكام التكليفية الخمسة حسب اختلاف المورد، وفي ذلك تتم مراجعة الكتب الفقهية.

ص: 35

ص: 36

الفصل الرابع: ما أدّب به أهل البيت عليهم السلام شيعتهم

النقطة الأولى: ما هو ربط هذه الآداب بأصول الدين؟

قال(قدّس سرّه):

«تمهيد:

إنَّ الأئمة من آل البيت (علیهم السّلام) علموا من ذي قبل أنّ دولتهم لن تعود إليهم في حياتهم، وأنّهم وشيعتهم سيبقون تحت سلطان غيرهم ممن يرى ضرورة مكافحتهم بجميع وسائل العنف والشدة.

فكان من الطبيعي - من جهة - أنْ يتخذوا التكتم «التقية» ديناً وديدناً لهم ولأتباعهم، ما دامت التقية تُحقَنُ من دمائهم ولا تُسيئ إلى الآخرين ولا إلى الدين، ليستطيعوا البقاء في هذا الخضم العجاج بالفتن والثائر على آل البيت بالإحن.

وكان من اللازم بمقتضى إمامتهم - من جهةٍ أخرى - أن ينصرفوا إلى تلقين أتباعهم أحكام الشريعة الإسلامية، وإلى توجيههم توجيها دينياً صالحاً، وإلي أنْ يسلكوا بهم مسلكاً اجتماعياً مفيداً، ليكونوا مثال المسلم الصحيح (العادل).

وطريقة آل البيت في التعليم لا تُحيط بها هذه الرسالة، وكتب الحديث الضخمة متكلفةٌ بما نشروه من تلك المعارف الدينية، غير أنّه لا بأس أنّ نُشير هنا إلى بعض ما يشبه أنْ يدخل في باب العقائد فيما يتعلق بتأديبهم لشيعتهم، بالآداب التي تسلك بهم المسلك الاجتماعي المفيد، وتُقربهم زلفى إلى الله(عزّ و جلّ)، وتطهر صدورهم من درن الآثام والرذائل،

ص: 37

وتجعل منهم عدولاً صادقين. وقد تقدّم الكلام في (التقية) التي هي من تلك الآداب المفيدة اجتماعياً لهم، ونحن ذاكرون هنا بعض ما يعنُّ لنا من هذه الآداب». انتهى.

ذكر المصنف (قدّس سرّه) مطلباً نبينه في نقطتين:

النقطة الأولى: ما هو ربط هذه الآداب بأصول الدين؟

ذكر الشيخ (قدّس سرّه) في هذا الفصل العديد من الآداب الإسلامية التي توارثها الشيعة من أهل البيت (علیهم السّلام).

وقد يتبادر إلى الذهن سؤالٌ وهو: إنّ كتاب عقائد الإمامية قد عُدّ لبيان عقائد الشيعة وأصول دينهم، فما هو ارتباط هذه الآداب بأصول الدين؟

ويمكن الجواب عن هذا السؤال بعدةِ وجوه، هي:

الوجه الأول:

إنَّ تلك الآداب التي ذكرها الشيخ(رحمه الله)إنّما هي آدابٌ من مختصات الشيعة الإمامية ولو في بعض مراتبها، كزيارة القبور مثلًا، وبالتالي قد يُستشكل على الشيعة، أو يتم اتهامهم بأنّهم قد أسسوا لأمورٍ لا تمت إلى الإسلام بصلة، ومن ثم تكون بدعةً (أي إدخال شيءٍ ليس من الدين بالدين)، ونحن كشيعة نحتاج حينئذٍ إلى بيان حقيقة الأمر فيها.

وحيث أُخِذت تلك الآداب عن أهل البيت (علیهم السّلام) الذين ثبتت حجيتهم في المباحث السابقة، كان المقامُ مناسبًا لطرحها لصلتها الوثيقة بما تمّ بحثه، إذ ما داموا هم حجة علينا، فيجوز الأخذ بقولهم تعبدًا، وقد حثّوا على زيارة القبور والدعاء وغيرها من الآداب التي يذكرها الشيخ(رحمه الله)، وبذا نُثبت شديد الصلة بين تلك الآداب والإسلام.

وينتج: أن هذه الآداب ليست بدعة؛ لأنها مأخوذة من أهل البيت (علیهم السّلام)، وقد

ص: 38

عرفنا أنّ أهل البيت (علیهم السّلام) قد صرّحوا في مناسباتٍ كثيرة أنّهم يستمدون ما عندهم من رسول الله (صلّی الله علیه و آله).

فعَنْ قُتَيْبَةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ أَبَا عَبْدِ الله (علیه السّلام) عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَأَجَابَه فِيهَا، فَقَالَ الرَّجُلُ: أرَأَيْتَ إِنْ كَانَ كَذَا وكَذَا مَا يَكُونُ الْقَوْلُ فِيهَا؟ فَقَالَ (علیه السّلام) لَه: «مَه، مَا أَجَبْتُكَ فِيه مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ عَنْ رَسُولِ الله (صلّی الله علیه و آله)، لَسْنَا مِنْ: (أرَأَيْتَ) فِي شَيْءٍ».(1)

الوجه الثاني:

إنَّ تلك الآداب -وعلى الأقل في بعض مراتبها- كانت مثارًا لطرح الشبهات على الشيعة، مثلًا في الدعاء، فإن غيرنا وإن كان يدعو أيضًا لكنه جعل الدعاء الجماعي من البدعة، والقول بأنَّ أمرًا ما عند الشيعة بدعةٌ يعني أنَّ هناك خللًا في عقيدتهم، لذا نحتاج إلى أن نقدم جوابًا عن ذلك، وكذا في زيارة القبور، فقد عدّها البعضُ شركًا وبالتالي فلها ارتباطٌ وثيقٌ بالتوحيد وبقية أصول الدين.

وعلى أساس هذين الوجهين –وربما غيرهما- وضع الشيخ (رحمه الله) هذه الآداب في كتاب العقائد.

النقطة الثانية: لماذا فتح أهل البيت (علیهم السّلام) باب هذه الآداب لشيعتهم؟

عقيدتنا في الدعاء
الخطوة الأولى: الدعاء سبب معنوي.

لعدةِ أسباب أهمها:

أولًا: إنَّ تلك الآداب -كالدعاء وعدم التعامل مع الظالمين وما شابه- هي على كلِّ حالٍ مما يقرب العبد لله(عزّ و جلّ)، واللطف يقتضي بيانها بشكلٍ تفصيلي حتى يستطيع العبد التقرب الى الله(عزّ و جلّ).

ثانيًا: وهو ما أشار إليه الشيخ(رحمه الله)في عبارته:

ص: 39


1- الكافي للكيني ج1 ص58 بَابُ الْبِدَعِ والرَّأْيِ والْمَقَايِيسِ ح21.

إنَّ تلك الآداب كانت وسيلةً مهمةً لإيصال:

1- الأحكام الشرعية.

2- العقائد الصحيحة.

3- أنظمة الحياة السلوكية.

ومثالُ ذلك (الأدعية)، فإنَّ لكلِّ أئمتنا (علیهم السّلام) أدعية تضمنت في داخلها (أحكاماً شرعية، عقائد وسلوكاً).

وكان بثُّ هذه الأحكام من خلال الأدعية لأجل إيصالها لشيعتهم من دون إلفات نظر السلطات إليهم؛ لأن السلطات في ذلك الوقت كان لها شعار (خذوهم على التهمة)(1)

فكان القاصي والداني يعلم أنَّ شيعة أهل البيت (علیهم السّلام) قد ذاقوا الأمرين من هذه السلطات.

لقد وصل الأمر بالناس في ذلك الوقت أن يتعاملوا مع أهل البيت (علیهم السّلام) تعاملاً غير لائق، فقد روي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: «كُنْتُ أَطُوفُ وسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ قَرِيبٌ مِنِّي، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الله، كَيْفَ كَانَ رَسُولُ الله (صلّی الله علیه و آله) يَصْنَعُ بِالْحَجَرِ إِذَا انْتَهَى إِلَيْه؟ فَقُلْتُ [أي الإمام الصادق (علیه السّلام)]: كَانَ رَسُولُ الله (صلّی الله علیه و آله) يَسْتَلِمُه فِي كُلِّ طَوَافِ فَرِيضَةٍ ونَافِلَةٍ.

قَالَ: فَتَخَلَّفَ عَنِّي قَلِيلاً، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى الْحَجَرِ جُزْتُ ومَشَيْتُ فَلَمْ أَسْتَلِمْه، فَلَحِقَنِي فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الله، ألَمْ تُخْبِرْنِي أَنَّ رَسُولَ الله (صلّی الله علیه و آله) كَانَ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ فِي كُلِّ طَوَافِ

ص: 40


1- من كتاب يزيد (لعنه الله) إلى عبيد الله بن زياد في الكوفة: أما بعد:... وإنه قد بلغني أن حسينا قد توجه إلى العراق فضع المناظر والمسالح واحترس، واحبس على الظنة واقتل على التهمة، واكتب إلي فيما يحدث من خبر إن شاء الله. [الإرشاد للشيخ المفيد ج2 ص65 و 66]

فَرِيضَةٍ ونَافِلَةٍ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: فَقَدْ مَرَرْتَ بِه فَلَمْ تَسْتَلِمْ! فَقُلْتُ: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَرَوْنَ لِرَسُولِ الله (صلّی الله علیه و آله) مَا لَا يَرَوْنَ لِي، وكَانَ إِذَا انْتَهَى إِلَى الْحَجَرِ أَفْرَجُوا لَه حَتَّى يَسْتَلِمَه، وإِنِّي أَكْرَه الزِّحَامَ».(1)

وهذه الرواية إنْ دلت على شيءٍ فإنّما تدلُّ على قلة احترام الناس للأئمة (علیهم السّلام)، كما تدلُّ على أنَّ الإمام يعمل على إيصال الأحكام الشرعية للشيعة وإنْ لم يُتح له امتثالها.

ص: 41


1- الكافي للكليني ج4 ص404 و 405 بَابُ الْمُزَاحَمَةِ عَلَى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ ح2.

ص: 42

عقيدتنا في الدعاء:

قال الشيخ(رحمه الله):

«عقيدتنا في الدعاء:

قال النبي (صلّی الله علیه و آله): «الدعاء سلاح المؤمن، وعمود الدين، ونور السماوات والأرض»، وكذلك هو، أصبح من خصائص الشيعة التي امتازوا بها، وقد ألفوا في فضله وآدابه وفي الأدعية المأثورة عن آل البيت ما يبلغ عشرات الكتب من مطولة ومختصرة. وقد أودع في هذه الكتب ما كان يهدف إليه النبي وآل بيته (علیهم السّلام) من الحث على الدعاء والترغيب فيه. حتى جاء عنهم: «أفضل العبادة الدعاء» و «أحبُّ الأعمال إلى الله(عزّ و جلّ) في الأرض الدعاء» بل ورد عنهم: «إنّ الدعاء يرد القضاء والبلاء»، و «أنّه شفاءٌ من كُلِّ داءٍ».

وقد ورد أنّ أمير المؤمنين (علیه السّلام) كان رجلاً (دعّاءً)، أي كثير الدعاء. وكذلك ينبغي أنْ يكون وهو سيد الموحدين وإمام الآلهيين. وقد جاءت أدعيته كخطبه آيةٍ من آيات البلاغة العربية كدعاء كميل بن زياد المشهور، وقد تضمّنت من المعارف الإلهية والتوجيهات الدينية ما يُصلِحُ أنْ تكون منهجاً رفيعاً للمسلم الصحيح.

وفي الحقيقة إنّ الأدعية الواردة عن النبي وآل بيته (علیهم السّلام) خيرُ منهجٍ للمسلم - إذا تدبرها - تبعث في نفسه قوة الإيمان، والعقيدة وروح التضحية في سبيل الحق، وتعرفه، سر العبادة، ولذة مناجاة الله(عزّ و جلّ) والانقطاع إليه، وتلقنه ما يجب على الانسان أنْ يعلمه لدينه وما يقربه إلى الله(عزّ و جلّ) زلفى. ويُبعده عن المفاسد والأهواء والبدع الباطلة. وبالاختصار أنّ هذه الأدعية قد أودعت فيها خُلاصة المعارف الدينية من الناحية الخلقية

ص: 43

والتهذيبية للنفوس، ومن ناحية العقيدة الإسلامية، بل هي من أهمِّ مصادر الآراء الفلسفية والمباحث العلمية في الإلهيات والأخلاقيات.

ولو استطاع الناس - وما كلهم بمستطيعين - أن يهتدوا بهذا الهدى الذي تُثيره هذه الأدعية في مضامينها العالية، لما كنت تجد من هذه المفاسد المُثقلة بها الأرض أثراً، ولحلّقت هذه النفوس المُكبّلة بالشرور في سماء الحقّ حرةً طليقةً، ولكن أنّى للبشر أنْ يصغي إلى كلمة المصلحين والدعاة إلى الحق، وقد كشف عنهم قوله(عزّ و جلّ): ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾، ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾.

نعم، إنّ ركيزة السوء في الانسان اغتراره بنفسه وتجاهله لمساوئه ومغالطته لنفسه في أنّه يُحسِن صنعاً فيما اتخذ من عملٍ: فيظلم ويتعدّى ويكذب ويراوغ ويُطاوع شهواته ما شاء له هواه، ومع ذلك يُخادع نفسه أنّه لم يفعل إلا ما ينبغي أن يفعل، أو يغضَّ بصره متعمداً عن قبيح ما يصنع ويستصغر خطيئته في عينه. وهذه الأدعية المأثورة التي تستمدُّ من منبع الوحي تجاهد أن تحمل الانسان على الاختلاء بنفسه والتجرد إلى الله(عزّ و جلّ)؛ لتُلقِّنه الاعتراف بالخطأ وأنّه المُذنب الذي يجب عليه الانقطاع إلى الله(عزّ و جلّ) لطلب التوبة والمغفرة، ولتُلمِسه مواقع الغرور والاجترام في نفسه، ومثل أنْ يقول الداعي من دعاء كميل بن زياد:

«إلهي ومولاي! أجريت عليَّ حكماً اتبعت فيه هوى نفسي ولم أحترس فيه من تزيين عدوي، فغرّني بما أهوى، وأسعده على ذلك القضاء، فتجاوزتُ بما جرى عليَّ من ذلك بعض حدودك، وخالفتُ بعض أوامرك».

ولا شكَّ أنّ مثل هذا الاعتراف في الخلوة أسهل على الانسان من الاعتراف علانيةً مع الناس، وإن كان من أشق أحوال النفس أيضاً.

وإنْ كان بينه وبين نفسه في خلواته ولو تمَّ ذلك للإنسان فله شأنٌ كبيرٌ في تخفيف

ص: 44

غلواء نفسه الشريرة وترويضها على طلب الخير. ومن يُريد تهذيب نفسه لا بُدّ أنْ يصنع لها هذه الخلوة والتفكير فيها بحُريةٍ لمُحاسبتها، وخيرُ طريقٍ لهذه الخلوة والمحاسبة أنْ يواظب على قراءة هذه الأدعية المأثورة التي تصل بمضامينها إلى أغوار النفس، مثل أنْ يقرأ في دعاء أبي حمزة الثمالي (رضي الله عنه):

«أي رب! جللني بسترك، واعفُ عن توبيخي بكرم وجهك!» فتأمّل كلمة (جلِّلني.). فإنّ فيها ما يُثيرُ في النفس رغبتها في كتم ما تنطوي عليه من المساوئ، ليتنبه الإنسان إلى هذه الدخيلة فيها ويستدرجه إلى أنْ يعترف بذلك حين يقرأ بعد ذلك:

«فلو اطلع اليوم على ذنبي غيرك ما فعلته ولو خفتُ تعجيل العقوبة لاجتنبتُه».

وهذا الاعتراف بدخيلة النفس وانتباهه إلى الحرص على كتمان ما عنده من المساوئ يستثيران الرغبة في طلب العفو والمغفرة من الله(عزّ و جلّ) لئلا يُفتضَح عند الناس لو أراد الله أنْ يُعاقبه في الدنيا أو الآخرة على أفعاله، فيلتذّ الإنسانُ ساعتئذٍ بمُناجاة السر، وينقطع إلى الله(عزّ و جلّ) ويحمده أنّه حلمَ عنه وعفا عنه بعد المقدرة فلم يفضحه، إذ يقول في الدعاء بعد ما تقدم:

«فلك الحمد على حلمك بعد علمك وعلى عفوك بعد قدرتك»، ثم يوحي الدعاء إلى النفس سبيل الاعتذار عما فرّط منها على أساس ذلك الحلم والعفو منه(عزّ و جلّ)، لئلا تنقطع الصلة بين العبد وربه، ولتلقين العبد أنّ عصيانه ليس لنكران الله واستهانة بأوامره إذ يقول: «ويحملني ويجرئني على معصيتك حلمك عني، ويدعوني إلى قلة الحياء سترك عليَّ. ويسرعني إلى التوثب على محارمك معرفتي بسعة رحمتك وعظيم عفوك».

وعلى أمثال هذا النمط تنهج الأدعية في مناجاة السر لتهذيب النفس وترويضها على الطاعات وترك المعاصي. ولا تسمح الرسالة هذه بتكثير النماذج من هذا النوع، وما أكثرها.

ص: 45

ويعجبني أنْ أورد بعض النماذج من الأدعية الواردة بأسلوبِ الاحتجاج مع الله(عزّ و جلّ) لطلب العفو والمغفرة، مثل ما تقرأ في دعاء كميل بن زياد: «وليت شعري يا سيدي ومولاي! أتسلط النار على وجوهٍ خرّت لعظمتك ساجدة، وعلى ألسنٍ نطقت بتوحيدك صادقة وبشكرك مادحة، وعلى قلوبٍ اعترفت بإلهيتك مُحققة، وعلى ضمائر حوت من العلم بك حتى صارت خاشعة، وعلى جوارح سعت إلى أوطان تعبدك طائعة، وأشارت باستغفارك مذعنة، ما هكذا الظن بك ولا أخبرنا بفضلك».

كرِّر قراءة هذه الفقرات، وتأمّل في لطف هذا الاحتجاج وبلاغته وسحر بيانه، فهو في الوقت الذي يوحي للنفس الاعتراف بتقصيرها وعبوديتها، يُلقّنها عدم اليأس من رحمة الله(عزّ و جلّ) وكرمه، ثم يكلم النفس بابن عم الكلام ومن طرفٍ خفي لتلقينها واجباتها العليا، إذ يفرض فيها أنّها قد قامت بهذه الواجبات كاملة، ثم يُعلِّمها أنَّ الإنسانِ بعمل هذه الواجبات يستحقُّ التفضُّلَ من الله بالمغفرة، وهذا ما يُشوِّق المرء إلى أن يرجع إلى نفسه فيعمل ما يجب أن يعمله إن كان لم يؤد تلك الواجبات.

ثم تقرأ أسلوباً آخر من الاحتجاج من نفس الدعاء، «فهبني يا إلهي وسيّدي وربي صبرتُ على عذابك فكيف أصبر على فراقك؟! وهبني يا إلهي صبرتُ على حرِّ نارك فكيف أصبرُ عن النظر إلى كرامتك؟!».

وهذا تلقينٌ للنفس بضرورةِ الالتذاذ بقرب الله(عزّ و جلّ) ومشاهدة كرامته وقدرته، حباً له وشوقاً إلى ما عنده، وبأنَّ هذا الالتذاذ ينبغي أنْ يبلغ من الدرجة على وجهٍ يكون تأثير تركه على النفس أعظم من العذاب وحر النار، فلو فرض أنّ الإنسان تمكّنَ من أنْ يصبر على حرِّ النار فإنّه لا يتمكنُ من الصبر على هذا الترك، كما تفهمنا هذه الفقرات أنّ هذا الحب والالتذاذ بالقرب من المحبوب المعبود خير شفيعٍ للمذنب عند الله لأن يعفو ويصفح عنه. ولا يخفى لطف هذا النوع من التعجب والتملُّق إلى الكريم الحليم قابل

ص: 46

التوب وغافر الذنب.

ولا بأس في أنْ نختم بحثنا هذا بإيراد دعاءٍ مُختصرٍ جامعٍ لمكارم الخلاق ولما ينبغي لكُلِّ عضوٍ من الإنسان وكُلِّ صنفٍ منه أنْ يكون عليه من الصفات المحمودة:

«اللهمَّ ارزقنا توفيق الطاعة وبعد المعصية، وصدق النية وعرفان الحرمة، وأكرمنا بالهدى والاستقامة، وسدِّد ألسنتنا بالصواب والحكمة، واملأ قلوبنا بالعلم والمعرفة، وطهِّر بطوننا من الحرام والشبهة، واكفف أيدينا عن الظلم والسرقة، واغضض أبصارنا عن الفجور والخيانة، واسدُد أسماعنا عن اللغو والغيبة، وتفضّل على علمائنا بالزهد والنصيحة، وعلى المتعلمين بالجهد والرغبة، وعلى المستمعين بالاتباع والموعظة، وعلى مرضى المسلمين بالشفاء والراحة، وعلى موتانا بالرأفة والرحمة، وعلى مشايخنا بالوقار والسكينة وعلى الشباب بالإنابة والتوبة، وعلى النساء بالحياء والعفة، وعلى الأغنياء بالتواضع والسعة، وعلى الفقراء بالصبر والقناعة، وعلى الغُزاة بالنصر والغلبة، وعلى الأُسَرَاء بالخلاص والراحة، وعلى الأمراء بالعدل والشفقة، وعلى الرعية بالإنصاف وحسن السيرة، وبارك للحجاج والزوار في الزاد والنفقة، واقضِ ما أوجبت عليهم من الحج والعمرة، بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين».

وإنّي لموصٍ إخواني القراء ألا تفوتهم الاستفادة من تلاوة هذه الأدعية، بشرط التدبُّر في معانيها ومراميها وإحضار القلب والاقبال والتوجه إلى الله بخشوعٍ وخضوعٍ، وقراءتها كأنّها من إنشائه للتعبير بها عن نفسه، مع اتباع الآداب التي ذكرت لها من طريقة آل البيت، فإنّ قراءتها بلا توجُهٍ من القلب صرف لقلقة في اللسان، لا تزيد الانسان معرفة. ولا تُقرِّبه زلفى، ولا تكشف له مكروباً، ولا يُستجاب معه له دعاء.

«إنّ الله(عزّ و جلّ) لا يستجيب دعاءً بظهر قلبٍ ساهٍ، فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثم استيقن بالإجابة»». انتهى.

ص: 47

نحاول أن نوضح هذه العقيدة عبر خطوات:

الخطوة الأولى: الدعاء سبب معنوي.

من الواضح جدًا أنَّ الله(عزّ و جلّ) خلق العالم وجعله يسير وفق نظام العلة والمعلول، فلكي تصل إلى شيءٍ ما لابدّ أنْ تسلك السبل والأسباب المؤدية له. وهذا النظام لم يُستثنَ منه شيءٌ في هذا الوجود الإمكاني (العالم)، فكلُّ شيءٍ إما علة أو معلولًا إلى أن نصل إلى علة العلل التي ليس فوقها علة وهو الله(عزّ و جلّ).

وإنّ العلل منها ما لها أسبابٌ منظورة معروفة، فالماءُ علة الإرواء، والنارُ علة الإحراق، والشمسُ علةُ وجود الضوء، ومدُّ الماء وجزره يرتبط بالقمر. ومنها ما له أسباب غير معروفة وغير مرئية، وإنّما نحسُّ بآثارها، كما يقال في مسألة التوفيق الإلهي؛ فإنَّ التوفيق والتسديد الإلهي لاشكَّ أنّه علة لحفظ الإنسان وحصوله على بعض العلوم وتحقيقه لبعض الأهداف، لكنه لا يُرى بالعين وإنّما هو أمرٌ معنوي.

والدعاءُ يدخل في سلسلةِ العلل المعنوية، فالدعاءُ سببٌ للوصول إلى الأهداف، وهذا الأمر أكدت عليه الروايات كثيرًا، فقد ورد في أثر الدعاء عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنّه قال: «عليكم بالدعاء فإنه شفاء من كل داء، وإذا دعوت فظُنّ أن حاجتك بالباب».(1)

وفي روايةٍ عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) أنّه قال: «ادفعوا أمواج البلاء عنكم بالدعاء، قبل ورود البلاء».(2)

وعن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنّه قال: «مَنْ تَخَوَّفَ مِنْ بَلَاءٍ يُصِيبُه فَتَقَدَّمَ فِيه بِالدُّعَاءِ لَمْ يُرِه الله(عزّ و جلّ) ذَلِكَ الْبَلَاءَ أَبَداً».(3)

ص: 48


1- الدعوات للراوندي ص18.
2- الخصال للشيخ الصدوق ص621 حديث أربعمائة.
3- الكافي للكليني ج2 ص472 بَابُ التَّقَدُّمِ فِي الدُّعَاءِ ح2.
الخطوة الثانية: الدعاء مفتاح الإجابة.

حيثُ إنَّ الدعاء يمثل سببًا لتحقيق هدفٍ هو الإجابة من الله(عزّ و جلّ)، لذلك عبّرت عنه الروايات الشريفة بأنّه (مفتاحٌ للإجابة)، فعن الإمام الحسن (علیه السّلام) قال: «ما فتح الله(عزّ و جلّ) على أحدٍ بابَ مسألةٍ فخزن عنه باب الإجابة»، وعن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) قال: «من فتح له من الدعاء منكم فتحت له أبواب الإجابة».

ومن المعلوم أنَّ لكلِّ بابٍ مفتاحاً خاصاً، وهذا المفتاح له نتوءات خاصة به، تكون متوافقة تمامًا مع تجويف القفل؛ لكي يفتحه بصورة صحيحة، وأنَّ أيّ خللٍ في تلك النتوءات يؤدي إلى أن لا يفتح القفل ومن ثم لا يفتح ذلك الباب، هذا في عالم الماديات.

وحيث إنَّ الدعاء مفتاحُ الإجابة، مما يعني أنَّ هناك كنوزًا جُعِل عليها بابٌ، وأقفل هذا الباب وجُعِل لقفله مفتاحٌ، وهذا المفتاح هو الدعاء، فلا بُدَّ أنْ يكون الدعاء متناسبًا مع قفل الباب الذي تريد فتحه، لذا يجب أنْ يأتي بالدعاء الخاص بقفل ذلك الباب، ولذلك فعلى من يريد أن يصل إلى الإجابة، أنْ يراعي كلَّ قواعد إجابة الدعاء.

عن عبد الله بن سنان، قال: قال أبو عبد الله (علیه السّلام): «ستصيبكم شبهة فتبقون بلا علم يُرىٰ، ولا إمام هدىٰ، ولا ينجو منها إلَّا من دعا بدعاء الغريق»، قلت: كيف دعاء الغريق؟ قال: «يقول: يا الله يا رحمن يا رحيم يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي علىٰ دينك»، فقلت: يا الله يا رحمن يا رحيم يا مقلِّب القلوب والأبصار ثبت قلبي علىٰ دينك»، قال: «إنَّ الله(عزّ و جلّ) مقلِّب القلوب والأبصار، ولكن قل كما أقول لك: يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي علىٰ دينك»(1).

وفي هذه الرواية نكتة لطيفة، وهي: أنَّ الدعاء مفتاح الإجابة، وأهل البيت (علیهم السّلام) يعطون المفتاح الملائم تماماً لفتح باب الإجابة، فلا ينبغي الزيادة أو النقيصة في دعاء

ص: 49


1- كمال الدين: 351 و352/ باب 33/ ح 49.

وارد عنهم (علیهم السّلام)، إذ لعلَّ تلك الزيادة أو النقيصة تعرقل فتح الباب، تماماً كما أنَّ أيّ مفتاح لو حصل له ذلك لما فتح بابه، ومن هنا ينبغي التأكّد من كون لفظ الدعاء موافقاً حتَّىٰ للقواعد النحوية، إذ لهذا الأمر - وغيره ممَّا يدخل في سرعة استجابة الدعاء - أثر مهمّ في الإجابة.

وعَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْقَصِيرِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنِّي اخْتَرَعْتُ دُعَاءً.

قَالَ (علیه السّلام): «دَعْنِي مِنِ اخْتِرَاعِكَ، إِذَا نَزَلَ بِكَ أَمْرٌ فَافْزَعْ إِلَى رَسُولِ الله (صلّی الله علیه و آله)، وصَلِّ رَكْعَتَيْنِ تُهْدِيهِمَا إِلَى رَسُولِ الله (صلّی الله علیه و آله)».

قُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ؟

قَال (علیه السّلام): «تَغْتَسِلُ وتُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ تَسْتَفْتِحُ بِهِمَا افْتِتَاحَ الْفَرِيضَةِ، وتَشَهَّدُ تَشَهُّدَ الْفَرِيضَةِ، فَإِذَا فَرَغْتَ مِنَ التَّشَهُّدِ وسَلَّمْتَ قُلْتَ:

اللهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ ومِنْكَ السَّلَامُ وإِلَيْكَ يَرْجِعُ السَّلَامُ، اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ وبَلِّغْ رُوحَ مُحَمَّدٍ مِنِّي السَّلَامَ، وأَرْوَاحَ الأَئِمَّةِ الصَّادِقِينَ سَلَامِي، وارْدُدْ عَلَيَّ مِنْهُمُ السَّلَامَ، والسَّلَامُ عَلَيْهِمْ ورَحْمَةُ الله وبَرَكَاتُه، اللهُمَّ إِنَّ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ هَدِيَّةٌ مِنِّي إِلَى رَسُولِ الله (صلّی الله علیه و آله)، فَأَثِبْنِي عَلَيْهِمَا مَا أَمَّلْتُ ورَجَوْتُ فِيكَ وفِي رَسُولِكَ، يَا وَلِيَّ الْمُؤْمِنِينَ.

ثُمَّ تَخِرُّ سَاجِداً وتَقُولُ: ﴿يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، يَا حَيُّ لَا يَمُوتُ، يَا حَيُّ لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ، يَا ذَا الْجَلَالِ والإِكْرَامِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ﴾ أَرْبَعِينَ مَرَّةً.

ثُمَّ ضَعْ خَدَّكَ الأَيْمَنَ فَتَقُولُهَا أَرْبَعِينَ مَرَّةً.

ثُمَّ ضَعْ خَدَّكَ الأَيْسَرَ فَتَقُولُهَا أَرْبَعِينَ مَرَّةً.

ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ وتَمُدُّ يَدَكَ وتَقُولُ أَرْبَعِينَ مَرَّةً.

ص: 50

ثُمَّ تَرُدُّ يَدَكَ إِلَى رَقَبَتِكَ وتَلُوذُ بِسَبَّابَتِكَ وتَقُولُ ذَلِكَ أَرْبَعِينَ مَرَّةً.

ثُمَّ خُذْ لِحْيَتَكَ بِيَدِكَ الْيُسْرَى وابْكِ أَوْ تَبَاكِ وقُلْ: يَا مُحَمَّدُ، يَا رَسُولَ الله، أَشْكُو إِلَى الله وإِلَيْكَ حَاجَتِي وإِلَى أَهْلِ بَيْتِكَ الرَّاشِدِينَ حَاجَتِي، وبِكُمْ أَتَوَجَّه إِلَى الله فِي حَاجَتِي.

ثُمَّ تَسْجُدُ وتَقُولُ: يَا الله يَا الله -حَتَّى يَنْقَطِعَ نَفَسُكَ- صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ، وافْعَلْ بِي كَذَا وكَذَا».

قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (علیه السّلام): «فَأَنَا الضَّامِنُ عَلَى الله(عزّ و جلّ) أَنْ لَا يَبْرَحَ حَتَّى تُقْضى حَاجَتُه».(1)

لذا فمن الأفضل أن ندعو بالآيات الكريمة التي جاءت بصيغة الدعاء، والأدعية الواردة عن أهل البيت (علیهم السّلام)؛ لأنهم يعلمون مفاتيح الإجابة.

الخطوة الثالثة: آداب الدعاء.

يشير الشيخ (رحمه الله) في هذه العقيدة إلى أنَّ أهل البيت (علیهم السّلام) عندما أتحفونا بالكثيرِ من الأدعية فذلك لأنَّ الأدعية تتضمن:

1- الآداب الإسلامية.

2- المعارف التوحيدية والفقهية والسلوكية.

من جهة أخرى، ذكرت الروايات الشريفة بعض الآداب التي ينبغي للمؤمن التأدب بها عند قراءة الدعاء حتى يُعطي الدعاء أثره ويكون ذا شأنيةٍ ليُستجاب. وهي من الأمور الكمالية التي توصل الدعاء إلى مرحلة الإجابة، ومنها:

1/ البسملة، ففي الرواية عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «لا يرد دعاء أوله بسم الله الرحمن الرحيم».(2)

ص: 51


1- الكافي للكليني ج3 ص476 بَابُ صَلَاةِ الْحَوَائِجِ ح1.
2- الدعوات للراوندي ص52 ح 131.

2/ التمجيد، أي تمجيد الله(عزّ و جلّ) وتقديسه وذكر صفاته الرحمانية وما شابه، فعن أبي عبد الله (علیه السّلام): «كُلُّ دُعَاءٍ لَا يَكُونُ قَبْلَه تَحْمِيدٌ فَهُوَ أَبْتَرُ، إِنَّمَا التَّحْمِيدُ ثُمَّ الثَّنَاءُ».

قُلْتُ [بعض أصحابه]: مَا أَدْرِي مَا يُجْزِي مِنَ التَّحْمِيدِ والتَّمْجِيدِ؟

قَالَ (علیه السّلام): «يَقُولُ: اللهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، وأَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».(1)

3/الصلاة على النبي محمد وآله (علیهم السّلام)، عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) أنَّه قال: «كلُّ دعاء محجوب حتَّىٰ يُصلّي علىٰ النبيِّ (صلّی الله علیه و آله)»(2).

4/ الاستشفاع بالصالحين، فعَنْ سَمَاعَةَ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو الْحَسَنِ [الكاظم] (علیه السّلام): «إِذَا كَانَ لَكَ يَا سَمَاعَةُ إِلَى الله(عزّ و جلّ) حَاجَةٌ، فَقُلِ: (اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وعَلِيٍّ،فَإِنَّ لَهُمَا عِنْدَكَ شَأْناً مِنَ الشَّأْنِ، وقَدْراً مِنَ الْقَدْرِ، فَبِحَقِّ ذَلِكَ الشَّأْنِ وبِحَقِّ ذَلِكَ الْقَدْرِ، أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ وأَنْ تَفْعَلَ بِي كَذَا وكَذَا).

فَإِنَّه إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لَمْ يَبْقَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ ولَا مُؤْمِنٌ مُمْتَحَنٌ إِلَّا وهُوَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ».(3)

5/ الإقرار بالذنب، فإنَّ الإنسان إذا أقرَّ بذنبه أمام الله(عزّ و جلّ) فُتِح له باب الإجابة، ففي الحديث عن الإمام الصادق (علیه السّلام): «إِنَّمَا هِيَ الْمِدْحَةُ ثُمَّ الثَّنَاءُ ثُمَّ الإِقْرَارُ بِالذَّنْبِ ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ إِنَّه والله مَا خَرَجَ عَبْدٌ مِنْ ذَنْبٍ إِلَّا بِالإِقْرَارِ».(4)

ص: 52


1- الكافي للكليني ج2 ص503 و 504 بَابُ التَّحْمِيدِ والتَّمْجِيدِ ح6.
2- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 1/ ص 490 و491/ ح 2153).
3- الكافي للكليني ج2 ص562 بَابُ الدُّعَاءِ لِلْكَرْبِ والْهَمِّ والْحُزْنِ والْخَوْفِ ح21.
4- الكافي للكليني ج2 ص484 بَابُ الثَّنَاءِ قَبْلَ الدُّعَاءِ ح3.

6/ التضرع والابتهال، فقد روي أنه كان النبي (صلّی الله علیه و آله) يرفع يديه إذا ابتهل ودعا كما يستطعم المسكين، وكان (صلّی الله علیه و آله) يتضرع عند الدعاء يكاد يسقط رداؤه.(1)

7/ أنْ يصلي ركعتين، فإنَّ من مظان إجابة الدعاء التي لم يخِبْ من طلبَ الخير فيها هو أنْ يصلي الداعي ركعتين يُتِم ركوعهما وسجودهما، ثم يدعو.

فقد روي عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (علیه السّلام) يَقُولُ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ وصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَأَتَمَّ رُكُوعَهُمَا وسُجُودَهُمَا، ثُمَّ جَلَسَ فَأَثْنَى عَلَى الله(عزّ و جلّ) وصَلَّى عَلَى رَسُولِ الله (صلّی الله علیه و آله)، ثُمَّ سَأَلَ الله حَاجَتَه، فَقَدْ طَلَبَ الْخَيْرَ فِي مَظَانِّه، ومَنْ طَلَبَ الْخَيْرَ فِي مَظَانِّه لَمْ يَخِبْ».(2)

8/ ألّا يستصغر الداعي شيئًا من الدعاء، فإنَّ الروايات الشريفة تؤكد على أهمية طلب أيّ شيءٍ من الله(عزّ و جلّ) مهما قلّ شأنه ويسُرَ نواله حتى ملح الطعام؛ لأنَّ ما لا يتيسر من الله(عزّ و جلّ) فلن يتيسر أبدًا.

ولا ينحصر الدعاء في الحصول على شيءٍ ما نحتاجه، بل يشمل طلب العون منه(سبحانه و تعالی)، وفي هذا أيضًا لا ينبغي أن يستصغر الداعي فعلًا ما لإحرازه قدرته عليه، بل حثت الروايات على الدعاء طلبًا للعون منه (تبارك وتعالى) حتى في مثل إصلاح شسع النعل إذ انقطع!

فعن أمير المؤمنين (علیه السّلام): «إنَّ الله تبارك وتعالىٰ أخفىٰ أربعة في أربعة: أخفىٰ رضاه في طاعته، فلا تستصغرنَّ شيئاً من طاعته، فربَّما وافق رضاه وأنت لا تعلم. وأخفىٰ سخطه في معصيته، فلا تستصغرنَّ شيئاً من معصيته، فربَّما وافق سخطه معصيته وأنت لا تعلم. وأخفىٰ إجابته في دعوته، فلا تستصغرنَّ شيئاً من دعائه، فربَّما وافق إجابته وأنت لا

ص: 53


1- الدعوات للراوندي ص22 ح24.
2- الكافي للكليني ج3 ص478 بَابُ صَلَاةِ الْحَوَائِجِ ح5.

تعلم. وأخفىٰ وليَّه في عباده، فلا تستصغرنَّ عبداً من عبيد الله، فربَّما يكون وليَّه وأنت لا تعلم».(1)

9/ ما دام الله(عزّ و جلّ) كريمًا، وكرمه لا يمكن قياسه بقياسٍ ماديٍ أو مفهوم عندنا، وبالتالي فمن آداب الدعاء المهمة أنْ لا يستكثر الداعي مطلوبًا من الله(عزّ و جلّ)، بل من العيب أنْ نستكثر شيئًا على الله(عزّ و جلّ)؛ لأنه هو الكريم الغني المطلق؛ لذا روي عن الرسول (صلّی الله علیه و آله): «ذر الناس يعملون، فان الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة وأوسطها، وفوقها عرش الرحمن، ومنها تفجر أنهار الجنة، فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس».(2)

عن محمد بن عجلان، قال: أصابتني فاقة شديدة ولا صديق لمضيق، ولزمني دين ثقيل وغريم يلج باقتضائه، فتوجهت نحو دار الحسن بن زيد، وهو يومئذ أمير المدينة لمعرفة كانت بيني وبينه، وشعر بذلك من حالي محمد بن عبد الله بن علي بن الحسين، وكان بيني وبينه قديم معرفة، فلقيني في الطريق فأخذ بيدي وقال لي: قد بلغني ما أنت بسبيله، فمن تؤمل لكشف ما نزل بك؟ قلت: الحسن بن زيد. فقال: إذن لا تقضى حاجتك ولا تسعف بطلبتك، فعليك بمن يقدر على ذلك، وهو أجود الأجودين، فالتمس ما تؤمله من قبله، فإني سمعت ابن عمي جعفر بن محمد يحدث عن أبيه عن جده، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه علي بن أبي طالب (علیهم السّلام)، عن النبي (صلّی الله علیه و آله) قال: «أوحى الله إلى بعض أنبيائه في بعض وحيه إليه. وعزتي وجلالي لأقطعن أمل كل مؤمل غيري بالإياس، ولأكسونه ثوب المذلة في الناس، ولأبعدنه من فرجي وفضلي، أيؤمل عبدي في الشدائد غيري، أو يرجو سواي! وأنا الغني الجواد، بيدي مفاتيح الأبواب وهي

ص: 54


1- الخصال للشيخ الصدوق (ص 209 و210).
2- كنز العمال للمتقي الهندي ج14 ص455 ح 39238.

مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني، ألم يعلم أنه ما أوهنته نائبة لم يملك كشفها عنه غيري، فما لي أراه بأمله معرضا عني، قد أعطيته بجودي وكرمي ما لم يسألني، فأعرض عني ولم يسألني وسأل في نائبته غيري! وأنا الله ابتدئ بالعطية قبل المسألة، أفأسأل فلا أجيب؟ كلا أوليس الجود والكرم لي، أوليس الدنيا والآخرة بيدي، فلو أن أهل سبع سماوات وأرضين

سألوني جميعا فأعطيت كل واحد منهم مسألته، ما نقص ذلك من ملكي مثل جناح بعوضة، وكيف ينقص ملك أنا قيمه؟ فيا بؤس لمن عصاني ولم يراقبني».

فقلت: يا بن رسول الله، أعد علي هذا الحديث، فأعاده ثلاثا فقلت: لا والله لا سألت أحدا بعد هذا حاجة، فما لبثت أن جاءني برزق وفضل من عنده. (1)

وعن رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «يدخل الجنة رجلان كانا يعملان عملاً واحداً، فيرى أحدهما صاحبه فوقه فيقول: يا رب بمَ أعطيته وكان عملنا واحداً؟ فيقول الله تبارك وتعالى: سألني ولم تسألني».

ثم قال (صلّی الله علیه و آله): «اسألوا الله واجزلوا(2)،

فإنه لا يتعاظمه شيء».(3)

10/أن يطلب عظيمًا من الله(عزّ و جلّ)، فلو دخل إنسانٌ على ملكٍ وأراد ذلك الملك أنْ يكرمه فأخبره بأنْ يطلب ما يشاء، فإنْ طلب منه شيئًا حقيرًا فهو بهذا يتجرأ على الملك وربما فيه إهانة له، فكيف بمن هو عظيم العظماء؟!

على المؤمن أن يعلم أنَّ الله(عزّ و جلّ) قادرٌ على كلِّ شيءٍ وليطلب منه العظيم مما يشاء.

روي عن ربيعة بن كعب قال: قال لي ذات يوم رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «يا ربيعة، خدمتني سبع سنين، أفلا تسألني حاجة؟» فقلت: يا رسول الله أمهلني حتى أفكر، فلما أصبحت

ص: 55


1- أمالي الشيخ الطوسي ص 584 ح 1208 / 13.
2- أجزلت لهم في العطاء: أكثرت [هامش المصدر].
3- عدة الداعي لابن فهد الحلي ص36.

ودخلت عليه. قال لي: «يا ربيعة هات حاجتك»، فقلت: تسأل الله(عزّ و جلّ) أن يدخلني معك الجنة، فقال لي: «من علمك هذا؟!» فقلت: يا رسول الله ما علمني أحد، لكن فكرت في نفسي وقلت: إن سألته مالاً كان إلى نفاد، وإن سألته عمراً طويلاً وأولاداً كان عاقبتهم الموت.

قال ربيعة: فنكس (صلّی الله علیه و آله) رأسه ساعة ثم قال: «أفعل ذلك، فأعني بكثرة السجود».(1)

11/تعميم الدعاء، فقد روي عن النبي (صلّی الله علیه و آله): «إذا دعا أحدكم فليعم، فإنه أوجب للدعاء، ومن قدم أربعين رجلا من إخوانه قبل أن يدعو لنفسه، استُجيب له فيهم وفي نفسه».(2)

12/اختيار الأوقات المناسبة، كعقب الفريضة، وعند نزول المطر، وعند ظهور آيةٍ معجزة لله(عزّ و جلّ) في أرضه، وفي الأسحار قبيل الفجر، وعند زيارة المريض وفي المساجد، وفي يوم عرفة، وفي شهر رمضان، وتحت قبة الإمام الحسين (علیه السّلام)، فلهذه الأوقات والأماكن لها مدخلية في إجابة الدعاء.

13/الإلحاح على الله(عزّ و جلّ)، فلا تيأس من الله(عزّ و جلّ)، إذ لا خلل في ساحة الله(عزّ و جلّ) ففي الحديث عن الرسول (صلّی الله علیه و آله): «إنَّ الله يحب السائل اللحوح».(3)

وفي حديثٍ آخر عنه (صلّی الله علیه و آله): «رَحِمَ الله عَبْداً طَلَبَ مِنَ الله(عزّ و جلّ) حَاجَةً، فَأَلَحَّ فِي الدُّعَاءِ، اسْتُجِيبَ لَه أَوْ لَمْ يُسْتَجَبْ لَه. وتَلَا هَذِه الآيَةَ: ﴿وأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾»(4).(5)

ص: 56


1- الدعوات للراوندي ص 39 ح 95.
2- الدعوات للراوندي ص26 ح 40.
3- عدة الداعي لابن فهد الحلي ص143.
4- مريم 48.
5- الكافي للكليني ج2 ص475 بَابُ الإِلْحَاحِ فِي الدُّعَاءِ والتَّلَبُّثِ ح6.

وهذه الرواية تبين أنَّ الإلحاح مطلوبٌ ليس لطلب الإجابة فقط، وإنّما هو بنفسه مطلوب لذاته.

هل الدعاء الجماعي بدعة؟
الرد الأول: مناقشة استنادهم إلى عدم فعل النبي (صلّی الله علیه و آله)

من الإشكالات التي أوردها بعض العامة على المدرسة الإمامية: أنَّ الدعاء الجماعي بدعةٌ، وواضحٌ أنَّ الدعاء الجماعي يكون إمّا بدعاء شخصٍ يؤمّن عليه جماعةٌ من المؤمنين، أو أنْ يشترك جماعةٌ بالدعاء.

ومستندهم على أنَّ الدعاء الجماعي بدعةٌ أنَّ النبي (صلّی الله علیه و آله) لم يفعله، وكذلك الصحابة.

وحيث إنَّ الدعاء الجماعي ظاهرةٌ بارزةٌ عند الشيعة، لذا كان من الضروري التصدي لرد هذه الشبهة عبر التالي:

تقدّم أنّ استدلالهم على أنَّ الدعاء الجماعي بدعة هو عدم فعله من قبل النبي (صلّی الله علیه و آله) والصحابة، وهو مستندهم في إثارة الكثير من الشبهات والإشكالات حول الفكر الإمامي. ويمكن ردّه: بأنَّ فعل المعصوم مطلقًا يدلُّ على الإباحة بالمعنى الأعم، بمعنى عدم حرمته، فربما يكون واجبًا أو مستحبًا أو مباحًا، وكذلك ترك المعصوم لفعلٍ ما يدلُّ على عدم وجوبه، فقد يكون تركه لأنه حرامٌ أو مكروهٌ أو مباحٌ.

إذن عدم فعل النبي (صلّی الله علیه و آله) لا يدلُّ على الحرمة فقط، فقد يكون مكروهًا أو مباحًا، بل وفقًا لرأي الجانب الآخر قد يكون مستحبًا؛ لقولهم بإمكان ترك المعصوم للمستحب. وعلى أيٍ من الأحوال المتقدمة، فإنَّ استدلالهم هذا غير صحيح.

الرد الثاني: مناقشة استنادهم إلى حجية عدم فعل الصحابة.

ومما استندوا عليه على كون الدعاء الجماعي بدعةً هو عدم فعله من قبل الصحابة،

ص: 57

والصحيح أنْ لا حجية لذلك؛ لأن الحجية تقتصر على المعصوم بفعله وقوله وتقريره، وحيث لا صحابي معصومٌ (غير أهل البيت (علیهم السّلام)، إذن لا حجية لعدم فعلهم مطلقًا.

ولو تنزلنا، فيأتي فيهم ما أوردناه في الرد الأول.

الرد الثالث: الأصل في الأعمال الإباحة.

كلُّ عملٍ لم يرد نصٌ في تحريمه، ولم يكن مصداقًا من مصاديق فعل المحرم، أي لم يدخل تحت عنوان محرم هو فعلٌ مباح؛ لأنَّ الأصل في الأفعال الإباحة، كما أنّ الأصل في الأشياء الإباحة. وحيثُ لم يرد نصٌ بتحريم الدعاء الجماعي، ولم يكن مصداقًا من مصاديق عملٍ محرم، فهو مباح.

الرد الرابع: أعمال جماعية مشروعة.

هناك الكثير من الأعمال العبادية المتفق عليها هي في الحقيقة نوعٌ من أنواع الدعاء الجماعي، نحو صلاة الجماعة وصلاة الاستسقاء، فهذه الصلوات تتضمن دعاء، بل إنَّهم يؤدون دعاءً جماعيًا طويلًا بعد إكمالهم الركعة المائة من صلاة التراويح، وطالما جازت تلك العبادات فالدعاء الجماعي أيضًا يجوز وإلا كان تحريمهم للدعاء الجماعي من قبيل الكيل بمكيالين.

كل ما تقدّم من ردودٍ إنّما هي ردودٌ جدلية، وأما الرد الأمثل أو الجواب الحلي فهو ما سيأتي.

الرد الخامس: الدعاء الجماعي ثابتٌ بالسنة المطهرة.

اتفقت كلمة المسلمين على أنَّ السنة النبوية المطهرة هي ثاني مصادر التشريع بعد القرآن الكريم، وهناك أحاديث كثيرة وردت عن أئمتنا (علیهم السّلام) تدلُّ على استحباب الدعاء الجماعي، وحيثُ إنّه ثبت أنهم (علیهم السّلام) يُفتون عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله)، فالدعاء الجماعي

ص: 58

إذن ثابتٌ بالسنة النبوية المطهرة.

وهذا الدليل يكفينا في شرعية الدعاء الجماعي، فإن قنع الآخر فبها، وإلا فنحن لسنا ملزمين باتباعه ولا بإقناعه إن كان معانداً.

في الرواية عن الإمام الصادق (علیه السّلام): «مَا مِنْ رَهْطٍ أَرْبَعِينَ رَجُلاً اجْتَمَعُوا فَدَعَوُا الله(عزّ و جلّ) فِي أَمْرٍ، إِلَّا اسْتَجَابَ الله لَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَرْبَعِينَ فَأَرْبَعَةٌ يَدْعُونَ الله(عزّ و جلّ) عَشْرَ مَرَّاتٍ إِلَّا اسْتَجَابَ الله لَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَرْبَعَةً فَوَاحِدٌ يَدْعُو الله أَرْبَعِينَ مَرَّةً فَيَسْتَجِيبُ الله الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ لَه».(1)

وفي روايةٍ أخرى عنه (علیه السّلام) قَالَ: «كَانَ أَبِي (علیه السّلام) إِذَا حَزَنَه أَمْرٌ، جَمَعَ النِّسَاءَ والصِّبْيَانَ ثُمَّ دَعَا وأَمَّنُوا».(2)

وفي حديثٍ آخر عنه (علیه السّلام): «الدَّاعِي والْمُؤَمِّنُ فِي الأَجْرِ شَرِيكَانِ».(3)

والخلاصة: أنَّ ادعاءهم مجرد شبهةٍ واهية ولا دليل علمي لها.

ص: 59


1- الكافي ج2ص487/ بَابُ الِاجْتِمَاعِ فِي الدُّعَاءِح1.
2- الكافي ج2ص487/ بَابُ الِاجْتِمَاعِ فِي الدُّعَاءِح3
3- الكافي ج2ص487/ بَابُ الِاجْتِمَاعِ فِي الدُّعَاءِح4.

ص: 60

أدعية الصحيفة السجادية
النقطة الأولى: الدعاء في منظومة وعقيدة أهل البيت (علیهم السّلام).

قال الشيخ(رحمه الله):

«أدعيةُ الصحيفة السجادية:

بعد واقعة الطفِّ المُحزنة، وتملُّك بني أمية ناصية أمر الأمة الإسلامية، فأوغلوا في الاستبداد وولغوا في الدماء واستهتروا في تعاليم الدين بقي الإمام زين العابدين وسيد الساجدين (علیه السّلام) جليس داره محزوناً ثاكلاً، وجليس بيته لا يقربه أحدٌ ولا يستطيع أنْ يُفضي إلى الناس بما يجب عليهم وما ينبغي لهم.

فاضطرّ أن يتخذ من أسلوب الدعاء -الذي قُلنا إنّه أحدُ الطرق التعليمية لتهذيب النفوس- ذريعةً لنشر تعاليم القرآن وآداب الإسلام وطريقة آل البيت، ولتلقين الناس روحية الدين والزهد، وما يجب من تهذيب النفوس والأخلاق وهذه طريقةٌ مُبتكرةٌ له في التلقين لا تحوم حولها شبهة المُطاردين له، ولا تقوم بها عليه الحجة لهم، فلذلك أكثرَ من هذه الأدعية البليغة، وقد جمعت بعضها (الصحيفة السجادية) التي سُميَت ب-(زبور آل محمد). وجاءت في أسلوبها ومراميها في أعلى أساليب الأدب العربي وفي أسمى مرامي الدين الحنيف وأدقِّ أسرار التوحيد والنبوّة، وأصح طريقة لتعليم الأخلاق المحمدية والآداب الإسلامية. وكانت في مُختلف الموضوعات التربوية الدينية، فهي تعليمٌ للدين والأخلاق في أسلوب الدعاء، أو دعاءٌ في أسلوب تعليمٍ للدين والأخلاق. وهي بحق بعد القرآن ونهج البلاغة من أعلى أساليب البيان العربي وأرقى المناهل الفلسفية في الإلهيات والأخلاقيات:

ص: 61

فمنها: ما يُعلِّمُك كيف تُمجِّدُ اللهَ وتُقدِّسه وتحمده وتشكره وتنوبُ إليه.

ومنها: ما يُعلِّمك كيف تُناجيه وتخلو به بسرِّك وتنقطع إليه.

ومنها: ما يبسط لك معنى الصلاة على نبيه ورسله وصفوته من خلقه وكيفيتها.

ومنها: ما يُفهِمك ما ينبغي أنْ تبرَّ به والديك.

ومنها: ما يشرحُ لك حقوق الوالد على ولده أو حقوق الولد على والده أو حقوق الجيران أو حقوق الأرحام أو حقوق المسلمين عامة أو حقوق الفقراء على الأغنياء وبالعكس.

ومنها: ينبهك على ما يجب إزاء الديون للناس عليك وما ينبغي أنْ تعمله في الشؤون الاقتصادية والمالية، وما ينبغي أنْ تُعامل به أقرانك وأصدقاءك وكافة الناس ومن تستعملهم في مصالحك.

ومنها: ما يجمع لك بين جميع مكارم الأخلاق ويصلُحُ أنْ يكون منهاجاً كاملاً لعلمِ الأخلاق.

ومنها: ما يُعلِّمك كيف تصبر على المكاره والحوادث، وكيف تُلاقي حالاتِ المرض والصحة. ومنها: ما يشرحُ لك واجباتِ الجيوش الإسلامية وواجبات الناس معهم.. إلى غير ذلك مما تقتضيه الأخلاق المُحمّدية والشريعة الإلهية، وكُلُّ ذلك بأسلوب الدعاء وحده.

والظاهرةُ التي تطغو على أدعية الإمام عدة أمور:

الأول: التعريف بالله(عزّ و جلّ)، وعظمته وقدرته، وبيان توحيده، وتنزيهه بأدقِّ التعبيرات العلمية وذلك يتكرّرُ في كُلِّ دعاءٍ بمختلف الأساليب، مثل ما تقرأ في الدعاء الأول: «الحمد لله الأول بلا أول كان قبله، والآخر بلا آخر يكون بعده، الذي قصُرت عن

ص: 62

رؤيته أبصار الناظرين، وعجزت عن نعته أوهام الواصفين. ابتدع بقدرته الخلق ابتداعاً واخترعهم على مشيته اختراعاً» فتقرأ دقيق معنى الأول والآخر وتنزه الله(عزّ و جلّ) عن أنْ يُحيطُ به بصرٌ أو وهمٌ، ودقيق معنى الخلق والتكوين.

ثم تقرأ أسلوباً آخر في بيان قدرته(عزّ و جلّ) وتدبيره في الدعاء 6: «الحمد لله الذي خلق الليل والنهار بقوته، وميّز بينهما بقدرته وجعل لكُلِّ منهما حدّاً محدوداً، يولجُ كُلُّ واحدٍ منهما في صاحبه ويولج صاحبه فيه، بتقديرٍ منه للعباد فيما يغذوهم به وينشئهم عليه، فخلق لهم الليل ليسكنوا فيه من حركات التعب ونهضات النصب، وجعله لباساً ليلبسوا من راحته ومقامه فيكون ذلك لهم جماماً وقوةً لينالوا به لذةً وشهوةً» إلى آخر ما يُذكر من فوائد خلق النهار الليل وما ينبغي أن يشكره الانسان من هذا النعم.

وتقرأ أسلوباً آخر في بيان أنّ جميع الأمور بيده(عزّ و جلّ) في الدعاء 7: «يا من تُحلُّ به عُقَدُ المكاره ويا من يُفثأ به حدُّ الشدائد، ويا من يُلتَمَس منه المخرج إلى روح الفرج، ذلّت لقُدرتك الصعاب، وتسبّبت بلُطفك الأسباب وجرى بقُدرتك القضاء، ومضت على إرادتك الأشياء، فهي بمشيتك دون قولك مؤتمرة، وبإرادتك دون نهيك منزجرة».

الثاني: بيان فضل الله(عزّ و جلّ) على العبد وعجز العبد عن أداء حقّه، مهما بالغ في الطاعة والعبادة والانقطاع إليه(عزّ و جلّ) كما تقرأ في الدعاء 37: «اللهم إنَّ أحداً لا يبلغ من شكرك غاية إلا حصل عليه من إحسانك ما يلزمه شكراً، ولا يبلغ مبلغاً من طاعتك وإن اجتهد إلا كان مقصراً دون استحقاقك بفضلك، فأشكر عبادك عاجزٌ عن شكرك، وأعبدهم مُقصرٌ عن طاعتك».

وبسبب عظم نعم الله(عزّ و جلّ) على العبد التي لا تتناهى يعجز عن شكره، فكيف إذا كان يعصيه مجترئاً، فمهما صنع بعدئذٍ لا يستطيع أنْ يُكفِّر عن معصيةٍ واحدة. وهذا ما تصوره الفقرات الآتية من الدعاء 16: «يا إلهي لو بكيتُ إليك حتى تسقط أشفار

ص: 63

عيني، وانتحبتُ حتى ينقطع صوتي، وقمتُ لك حتى تتنشر قدماي، وركعتُ لك حتى ينخلع صلبي، وسجدتُ لك حتى تتفقأ حدقتاي، وأكلتُ تراب الأرض طول عمري، وشربتُ ماء الرماد آخر دهري، وذكرتك في خلال ذلك حتى يكلَّ لساني، ثم لم أرفع طرفي إلى آفاق السماء استحياءً منك ما استوجبت بذلك محو سيئةٍ واحدةٍ من سيئاتي».

الثالث: التعريف بالثواب والعقاب والجنة والنار، وأنَّ ثواب الله(عزّ و جلّ) كُلُّه تفضل، وأنّ العبد يستحقُّ العقاب منه بأدنى معصيةٍ يجتري بها، والحجة عليه فيها لله(عزّ و جلّ). وجميع الأدعية السجادية تلهج بهذه النغمة المؤثرة، للإيحاء إلى النفس الخوف من عقابه تعالى

والرجاء في ثوابه. وكلها شواهد على ذلك بأساليبها البليغة المختلفة التي تبعث في قلب المتدبر الرعب والفزع من الإقدام على المعصية.

مثل ما تقرأ في الدعاء 46: «حُجتك قائمةٌ، وسلطانك ثابتٌ لا يزول، فالويل الدائم لمن جنح عنك، والخيبة الخاذلة لمن خاب منك، والشقاء الأشقى لمن اغتر بك. ما أكثر تصرفه في عذابك، وما أطول تردّده في عقابك! وما أبعد غايته من الفرج! وما أقنطه من سهولة المخرج! عدلاً من قضائك لا تجور فيه، وإنصافاً من حكمك لا تحيف عليه، فقد ظاهرت الحجج وأبليت الأعذار».». انتهى.

أشار الشيخ(رحمه الله)إلى عدة أمور نذكرها -أو نبينها بطريقة أخرى- في نقطتتين إن شاء الله تعالى:

النقطة الأولى: الدعاء في منظومة وعقيدة أهل البيت (علیهم السّلام).

قد يرد إلى الذهن سؤالٌ مفاده: لماذا تميَّز مذهب أهل البيت (علیهم السّلام) بعنصر الدعاء، هذا التميز الذي تُرجِم إلى واقعٍ عملي في صورة دعاءٍ جماعي أو توسل بأهل البيت (علیهم السّلام)، أو بكثرة كتب الأدعية وكثرة الروايات الواردة في باب الدعاء، فما هو السبب في ذلك؟

ص: 64

الجواب:

تقدَّم في مباحث التوحيد والعدل الإلهي -وتحديدًا في مبحث (لا جبر ولا تفويض وإنّما أمرٌ بين أمرين)- أنّ في القضاء والقدر ثلاثة آراء:

1/الجبر:

وقال به الأشاعرة المجبرة، الذين نفوا أنْ يكون للإنسان أيَّ دورٍ في ما يجري في الكون عمومًا وفي فعله خصوصًا، وحصروا العلة للفعل في الله(عزّ و جلّ)، وأما الإنسان فهو مُجبرٌ و مجرد آلة.

وعلى هذا القول فما الغاية من الدعاء؟ فإنْك إنْ دعوت أو لم تدعُ فالأمرُ سيّان، إذ القدر الإلهي جارٍ على أيِّ حال، لذا لا نجد مظهرًا واضحًا للدعاء في عقيدة المجبرة.

2/التفويض:

وقال به المعتزلة، حيث ذهبوا إلى تجريد الله(عزّ و جلّ) من سلطانه في هذا الكون، فكانوا على طرفِ النقيض مع المجبرة، إذ قالوا: إنَّ كلَّ ما في هذا الكون من فعلٍ بصورةٍ عامة وفعل الإنسان بصورةٍ خاصة هو موكلٌ إلى الإنسان، أي إنَّ العلة التامة هي بيد الإنسان.

وبعبارةٍ فلسفية: إنَّ الله(عزّ و جلّ) علةٌ في حدوث العالم لا في استمراره، وهو هو ما قالت به اليهود كما حكاه الله تعالى عنهم بقوله عز من قائل: ﴿وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ﴾(1)

وعلى هذا الرأي فلا وجود للدعاء أو لا فائدة فيه أصلاً، إذ هم يقولون: إنَّ المؤثر في هذا العالم هو الأسباب المادية فقط، وحيث إنَّ الدعاء سببه غيبي، وبه يُطلب التدخل

ص: 65


1- المائدة 64.

الإلهي لتغيير مجريات الكون، أو لدفع بلاء معين، أو لرزق معين، وما شابه، فلا تأثير له في العالم، إذ لا دور لله تعالى في هذا العالم حسب معتقدهم البائس.

3/ الأمر بين أمرين:

وهو المذهب الحق لأهل البيت (علیهم السّلام)، ومؤداه: أنَّ الفاعل المستقل في هذا الوجود هو فقط الله(عزّ و جلّ)، ولكنه أذن للإنسان أنْ يكون فاعلًا أيضًا، فالإنسان فاعلٌ بالإذن الإلهي. بمعنى أنَّ الإنسان يفعل الأفعال حقيقةً، لكن ضمن دائرة قدرة الله(عزّ و جلّ) وسلطانه وإرادته؛ فإرادته(عزّ و جلّ) لم تُسلب، بل هي متسلطة على هذا الكون، وفي الوقت عينه لم تسلبنا اختيارنا وتجبرنا على الاختيار، بل شاء الله تعالى أن يجعلنا مختارين في هذا العالم.

وقد تقدَّم تفصيل هذا البحث في العدل الإلهي، وعليه، فإن الله(عزّ و جلّ) ترك لنا الخيار، لكن قدرته ما زالت جاريةً على حياة الإنسان وأفعاله ومؤثرة فيها، بل في الكون كله، ولذا كان للدعاء أهميته البالغة، فالإنسان يتوسل بالأسباب المادية، ويبذل جهده فيها، لكن في نفس الوقت يرفع يديه للسماء ويدعو الله(عزّ و جلّ) طالبًا منه المدد الغيبي والتوفيق الإلهي.

والدعاء من أفعال الإنسان، وبما أنَّ سلطة الله(عزّ و جلّ) ما زالت موجودة، فهو قادرٌ على أنْ يعطيه أو يغير من مجريات الحياة.

وعليه، فإنَّ فلسفة الدعاء الحقيقية وثمراته المرجوة منحصرةٌ بعقيدة أهل البيت (علیهم السّلام)، وغيرهم وإنْ شاركهم فيه، إلا أن اعتقادهم بالدعاء أقرب إلى لقلقة اللسان منه إلى حقيقته.

ولاستجابة الدعاء أسبابٌ أحدها: التوسل بأهل البيت (علیهم السّلام)، وقد أشكل البعض على توسل الشيعة بأهل البيت (علیهم السّلام) مُدعيًا أنَّ الشيعة قد شابهوا المشركين عندما توسلوا

ص: 66

بالوثن، فكلاهما يعتقدُ بأنَّ ما يتوسل به يُقربه إلى الله(عزّ و جلّ)!

على حين أنَّ الفرق واضحٌ بين الاثنين، فالمشركون يتوسلون بالوثن مع اعتقادهم الجازم أنّه مستقلٌ في فعله عن الله(عزّ و جلّ)، وأما الشيعة فلا تعتقد بذلك، بل يعتقدون أنَّ كلَّ ما يفعله أهل البيت (علیهم السّلام) إنما هو بإذن الله(عزّ و جلّ) وبعونه لا على نحوٍ مستقل، تمامًا كما كان نبي الله عيسى (علیه السّلام) يُبرئ الأكمه والأبرص ويُحيي الموتى بإذن الله(عزّ و جلّ).

كما أنَّ الله (سبحانه و تعالی)هو من جعل أهل البيت (علیهم السّلام) الطريق والوسيلة إليه والسبب المتصل بين السماء والأرض، وذلك على نقيض ما فعله مع الأوثان، إذ نهى عن التوسل بهم، وجعل ذلك جرمًا عظيمًا لا يغفر لمرتكبه حتى يتوب.

أضف إلى ذلك: فإنّ الشيعة لم يتوسلوا بأهل البيت (علیهم السّلام) إلى الله(عزّ و جلّ) عن طريق عبادتهم، بخلاف المشركين الذين كانوا يعبدون الأوثان بكلِّ ما لكلمة العبادة من معنى.

والخلاصة: أنَّ قضية الدعاء لا تتبلور فلسفيًا أو عمليًا إلا في عقيدة أهل البيت (علیهم السّلام).

النقطة الثانية: الأدوار البارزة في حياة الإمام السجاد صلوات الله وسلامه عليه.
الأولى: ظاهرة البكاء.

بمراجعةٍ عامةٍ لحياة الإمام السجاد (علیه السّلام) تبرز ظواهرُ أربع نذكرها إجمالاً بعد الأخذ بنظر الاعتبار أمرين مهمين:

الأمر الأول: كان الإمام (علیه السّلام) يمثل الامتداد الشرعي لصاحب أعظم ثورةٍ انطلقت ضد طغيان بني أمية، ومن ثم فمن الطبيعي جدًا أنْ تتوجه أنظار السلطة الظالمة لتراقب كلَّ حركاته وسكناته (علیه السّلام).

الأمر الثاني: يذكر التاريخ أنَّ الفتوحات العسكرية قد اتسع مداها في زمن الإمام السجاد (علیه السّلام) الأمر الذي أدى إلى تضخمٍ عظيم في الثروة عند شريحةٍ واسعة من الناس،

ص: 67

بسبب كثرة الغنائم، ويمكن القول: إنه كُلما زادتِ الرفاهية المادية كُلما نَقُص الجانب الروحي، وإنْ لم يكن دائمًا ولكن على الأغلب.

هنا برزت في حياة الإمام السجاد (علیه السّلام) ظواهر أربعة:

الأولى: ظاهرة البكاء.

عُدَّ الإمام السجاد (علیه السّلام) من البكاءين الخمسة.(1)

وقد نقل في أحواله (علیه السّلام) أنَّه ما قُدِّم إليه طعامٌ ولا شرابٌ إلا وبكى وتذكر عطش أبيه الإمام الحسين (علیه السّلام).

الثانية: الإعتاق.

حيث ورد في سيرته (علیه السّلام) أنّه كان يشتري الكثير من العبيد ويُبقيهم عنده سنةً كاملةً يعلّمهم فيها القرآن الكريم وأحكام الدين فإنْ كان عيد الفطر أعتقهم.

ومن الروايات التي دلت على كثرة إعتاقه ما روي عن محمد بن عجلان قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السّلام) يقول: «كان علي بن الحسين (علیهما السّلام) إذا دخل شهر رمضان لا يضرب

ص: 68


1- عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: «البكاؤون خمسة: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمد، وعلي بن الحسين (علیهم السّلام). فأما آدم فبكى على الجنة حتى صار في خديه أمثال الأودية، وأما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره، وحتى قيل له: (تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين) وأما يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذى به أهل السجن فقالوا له: إما أن تبكي الليل وتسكت بالنهار، وإما أن تبكي النهار وتسكت بالليل، فصالحهم على واحد منهما، أما فاطمة فبكت على رسول الله (صلّی الله علیه و آله) حتى تأذى بها أهل المدينة فقالوا لها: قد آذيتنا بكثرة بكائك، فكانت تخرج إلى المقابر مقابر الشهداء فتبكي حتى تقضي حاجتها ثم تنصرف، وأما علي ابن الحسين فبكى على الحسين (علیه السّلام) عشرين سنة أو أربعين سنة ما وضع بين يديه طعام إلا بكى حتى قال له مولى له: جعلت فداك يا ابن رسول الله إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله مالا تعلمون) إني ما أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني لذلك عبرة». [الخصال للشيخ الصدوق ص272 و 273 ح15]

عبداً له ولا أمة، وكان إذا أذنب العبد والأمة يكتب عنده: أذنب فلان، أذنبت فلانة، يوم كذا وكذا، ولم يعاقبه فيجتمع عليهم الأدب، حتى إذا كان آخر الليلة من شهر رمضان، دعاهم وجمعهم حوله، ثم أظهر الكتاب ثم قال: يا فلان فعلت كذا وكذا ولم أؤدبك أتذكر ذلك؟ فيقول: بلى يا بن رسول الله، حتى يأتي على آخرهم ويقررهم جميعاً.

ثم يقول وسطهم ويقول لهم: ارفعوا أصواتكم وقولوا: يا علي بن الحسين إن ربك قد أحصى عليك كل ما عملت، كما أحصيت علينا كل ما عملنا، ولديه كتاب ينطق عليك بالحق، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة مما أتيت إلا أحصاها، وتجد كل ما عملت لديه حاضراً، كما وجدنا كل ما عملنا لديك حاضراً، واصفح كما ترجو من المليك العفو وكما تحب أن يعفو المليك عنك، فاعف عنا تجده عفوّاً، وبك رحيماً، ولك غفوراً ولا يظلم ربك أحداً، كما لديك كتاب ينطق علينا بالحق، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة مما أتيناها إلا أحصاها.

فاذكر يا علي بن الحسين ذلّ مقامك بين يدي ربك الحكم العدل الذي لا يظلم مثقال حبة من خردل، ويأتي بها يوم القيامة، وكفى بالله حسيباً وشهيداً، فاعف واصفح يعفو عنك المليك ويصفح، فإنه يقول: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ﴾(1)

قال: وهو ينادي بذلك على نفسه ويلقّنهم، وهم ينادون معه، وهو واقف بينهم يبكي وينوح، ويقول: ربِّ إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا فقد ظلمنا أنفسنا، فنحن قد عفونا عمن ظلمنا، كما أمرت، فاعف عنا فإنك أولى بذلك منا ومن المأمورين، وأمرتنا أن لا نرد سائلاً عن أبوابنا، وقد أتيناك سُؤّالاً ومساكين، وقد أنخنا بفنائك وببابك، نطلب نائلك ومعروفك وعطاءك، فامنن بذلك علينا، ولا تخيبنا فإنك أولى بذلك منا ومن المأمورين، إلهي كرمت فأكرمي، إذ كنت من سؤالك، وجدت بالمعروف فاخلطني

ص: 69


1- النور 22.

بأهل نوالك يا كريم.

ثم يقبل عليهم ويقول: قد عفوت عنكم فهل عفوتم عني ومما كان مني إليكم من سوء ملكة، فإني مليك سوء، لئيم ظالم، مملوك لمليك كريم جواد عادل محسن متفضل.

فيقولون: قد عفونا عنك يا سيدنا وما أسأت.

فيقول لهم قولوا: اللهم أعف عن علي بن الحسين كما عفى عنا، وأعتقه من النار كما أعتق رقابنا من الرق، فيقولون ذلك، فيقول: اللهم آمين يا رب العالمين، اذهبوا فقد عفوت عنكم، وأعتقت رقابكم رجاء للعفو عني وعتق رقبتي فيعتقهم.

فإذا كان يوم الفطر أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عما في أيدي الناس، وما من سنة إلا وكان يعتق فيها آخر ليلة من شهر رمضان ما بين العشرين رأساً إلى أقل أو أكثر.

وكان يقول: إن لله تعالى في كل ليلة من شهر رمضان عند الإفطار سبعين ألف ألف عتيق من النار، كلاً قد استوجب النار، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق فيها مثل ما أعتق في جميعه، وإني لأحب أن يراني الله، وقد أعتقت رقاباً في ملكي في دار الدنيا، رجاء أن يعتق رقبتي من النار.

وما استخدم خادماً فوق حول، كان إذا ملك عبداً في أول السنة أو في وسط السنة، إذا كان ليلة الفطر أعتق واستبدل سواهم في الحول الثاني، ثم أعتق كذلك كان يفعل حتى لحق بالله تعالى، ولقد كان يشتري السودان وما به إليهم حاجة يأتي بهم إلى عرفات، فيسد بهم تلك الفُرَج والخلال، فإذا أفاض أمر بعتق رقابهم وجوائز لهم من المال».(1)

الثالثة: الإنفاق.

كان الإمام (علیه السّلام) كثيرَ الإنفاق سرًا، حتى إنَّ بعض الفقراء لم يعلموا به إلا بعد وفاته.

ص: 70


1- إقبال الأعمال للسيد بن طاووس ج1 ص 443 – 445.

فقد جاء في سيرة الإمام زين العابدين (علیه السّلام) أنَّه كان (علیه السّلام) ليخرج في الليلة الظلماء فيحمل الجراب علىٰ ظهره وفيه الصُّرَر من الدنانير والدراهم، وربَّما حمل علىٰ ظهره الطعام أو الحطب حتَّىٰ يأتي باباً باباً فيقرعه، ثمّ يناول من يخرج إليه، وكان يُغطّي وجهه إذا ناول فقيراً لئلَّا يعرفه، فلمَّا تُوفّي (علیه السّلام) فقدوا ذلك، فعلموا أنَّه كان عليَّ بن الحسين3، ولمَّا وُضِعَ (علیه السّلام) علىٰ المغتسل نظروا إلىٰ ظهره وعليه مثل رُكَب الإبل ممَّا كان يحمل علىٰ ظهره إلىٰ منازل الفقراء والمساكين...(1).

وعن محمّد بن إسحاق: أنَّه كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون [من] أين معاشهم، فلمَّا مات عليُّ بن الحسين فقدوا ما كانوا يُؤتَون به بالليل(2).

الرابعة: الدعاء.

فقد ورثنا منه (علیه السّلام) تراثًا ضخمًا جدًا من الأدعية كالصحيفة السجادية ودعاء أبي حمزة الثمالي وغيرها من الأدعية.

ولكلِّ ظاهرةٍ من الظواهر المتقدمة فلسفةٌ خاصةٌ بها، نتعرف عليها تباعًا:

أولًا: فلسفة الإعتاق:

ورد في أحواله (علیه السّلام) كما تقدّم، أنّه كان يشتري عبيدًا يبقيهم عنده فترة من الزمن وبعدها يعتقهم بصورةٍ لطيفة جدًا، ويعطيهم أموالًا ليقيموا بها أمورهم.

ونحن لا نعلم السبب الواقعي وراء ذلك، ولعله لأجل أن عملية شراء مجموعة عبيد يبقيهم عنده فترة، ثم يعتقهم، هي عملية ذكيةٌ جدًا من الإمام السجاد (علیه السّلام) فمن خلالها يربّي (علیه السّلام) ثُلةً من الشيعةِ المتقين المخلصين، عارفين بأمور دينهم، قادرين على نشر

ص: 71


1- الخصال للشيخ الصدوق (ص 517/ ذكر ثلاث وعشرين خصلة من الخصال المحمودة التي وُصِفَ بها عليُّ بن الحسين زين العابدين3/ ح 4).
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3/ ص 292).

الدين، ما إنْ يعودوا إلى بلادهم حتى يعملوا على نشر التشيع. ومما كان يزيد في أهمية هذا الأمر هو اختلاف بلدانهم التي قدموا منها، بل إنَّ مجرد نقلهم في تلك البلدان لسمات الإمام (علیه السّلام) وعظيم أخلاقه وكيفية تعامله معهم له عظيم الأثر في انجذاب أهل تلك البلدان إلى أهل البيت (علیهم السّلام) وحبهم لهم، لا سيما أنَّ بعض العبيد كانوا تحت أيدي بني أمية الذين يعاملونهم بقسوة وشدة، ولا يحترمونهم ولا يزوجونهم ولا يبايعونهم، بل كانوا يعتبرونهم طبقةً خادمة، أقل من سائر البشر، فإنْ بقي العبيد عندهم فقط فإنّهم سيكرهون الإسلام حتمًا وينقلون صورةً مشوهةً عن الإسلام.

أما الإمام السجاد (علیه السّلام) فقد كان يقدم الإسلام بأبهى صوره لهم ولبلدانهم بعد رجوعهم إليها؛ وذلك عبر معاملته الحسنة، حتى أنّه زوّج أمّه (إحدى زوجات الإمام الحسين (علیه السّلام)) لعبدٍ من عبيده.

روي أنه كَانَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ عَيْنٌ بِالْمَدِينَةِ يَكْتُبُ إِلَيْه بِأَخْبَارِ مَا يَحْدُثُ فِيهَا، وإِنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (علیه السّلام) أَعْتَقَ جَارِيَةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، فَكَتَبَ الْعَيْنُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، فَكَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (علیه السّلام): أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي تَزْوِيجُكَ مَوْلَاتَكَ، وقَدْ عَلِمْتُ أَنَّه كَانَ فِي أَكْفَائِكَ مِنْ قُرَيْشٍ مَنْ تَمَجَّدُ بِه فِي الصِّهْرِ وتَسْتَنْجِبُه فِي الْوَلَدِ، فَلَا لِنَفْسِكَ نَظَرْتَ،ولَا عَلَى وُلْدِكَ أَبْقَيْتَ، والسَّلَامُ.

فَكَتَبَ إِلَيْه عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (علیه السّلام): «أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِي كِتَابُكَ تُعَنِّفُنِي بِتَزْوِيجِي مَوْلَاتِي، وتَزْعُمُ أَنَّه كَانَ فِي نِسَاءِ قُرَيْشٍ مَنْ أَتَمَجَّدُ بِه فِي الصِّهْرِ وأَسْتَنْجِبُه فِي الْوَلَدِ، وأَنَّه لَيْسَ فَوْقَ رَسُولِ الله (صلّی الله علیه و آله) مُرْتَقاً فِي مَجْدٍ ولَا مُسْتَزَادٌ فِي كَرَمٍ، وإِنَّمَا كَانَتْ مِلْكَ يَمِينِي خَرَجَتْ مَتَى أَرَادَ الله(عزّ و جلّ) مِنِّي بِأَمْرٍ أَلْتَمِسُ بِه ثَوَابَه، ثُمَّ ارْتَجَعْتُهَا عَلَى سُنَّةٍ، ومَنْ كَانَ زَكِيّاً فِي دِينِ الله فَلَيْسَ يُخِلُّ بِه شَيْءٌ مِنْ أَمْرِه، وقَدْ رَفَعَ الله بِالإِسْلَامِ الْخَسِيسَةَ، وتَمَّمَ بِه النَّقِيصَةَ، وأَذْهَبَ اللُّؤْمَ، فَلَا لُؤْمَ عَلَى امْرِئٍ مُسْلِمٍ، إِنَّمَا اللُّؤْمُ لُؤْمُ الْجَاهِلِيَّةِ، والسَّلَامُ».

ص: 72

فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ رَمَى بِه إِلَى ابْنِه سُلَيْمَانَ فَقَرَأَه، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ... لَشَدَّ مَا فَخَرَ عَلَيْكَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (علیه السّلام)! فَقَالَ: يَا بُنَيَّ لَا تَقُلْ ذَلِكَ، فَإِنَّه أَلْسَنُ بَنِي هَاشِمٍ الَّتِي تَفْلِقُ الصَّخْرَ وتَغْرِفُ مِنْ بَحْرٍ، إِنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (علیه السّلام) يَا بُنَيَّ يَرْتَفِعُ مِنْ حَيْثُ يَتَّضِعُ النَّاسُ.(1)

وينقل في أحواله (علیه السّلام) إن مولى له (علیه السّلام) كان يتولى له عمارة ضيعة، فجاء ليطلعها، فأصاب منها فساداً وتضييعاً كثيراً أغاضه من ذلك ما رآه، فغمه، فقرع المولى بسوط كان في يده وكان ذلك ما لم يكن منه إلى أحد قبله مثله، وندم على ما كان منه ندامة شديدة، فلما انصرف إلى منزله أرسل يطلب المولى، فأتاه فوجده مقارباً والسوط بين يديه، فظن يريد عقوبته، فاشتد خوفه. فأخذ علي بن الحسين (علیه السّلام) السوط، ومد يده إليه، وقال: «يا هذا قد كان مني إليك ما لم يتقدم لي مثله، وكانت هفوة وزلة. فدونك السوط اقتص مني».

فقال المولى: يا مولاي والله إن ظننت إلا أنك تريد عقوبتي، وأنا مستحق العقوبة فكيف أقتص منك؟! قال (علیه السّلام): «ويحك اقتص». قال: معاذ الله أنت في حل وسعة. فكرّر عليه مراراً والمولى في ذلك يتعاظم قوله ويجلله، فلما لم يره يقتص قال له (علیه السّلام): «أما إذا أبيت، فالضيعة صدقة عليك، فأعطاه إياه».(2)

بهذه الصورة المنقطعة النظير يعودون إلى بلدانهم حاملين معهم تعاليم الدين الإسلامي الصحيح فينشرونها هناك، من دون أن يُثير حفيظةَ أو أنظار السلطة إليه؛ فكما قلنا: إنَّ مسألة شراء العبيد مسألة هينة في ذلك الوقت، وأما إعتاقهم فهو أمرٌ مستحب في الإسلام، وبذا انتشر التشيع في بلدان العالم.

ص: 73


1- الكافي للكليني ج5 ص 344 ح4.
2- شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي ج3 ص262 ح
ثانيًا: فلسفة الإنفاق:

الإنفاق واضحٌ استحبابه في الإسلام، فينبغي على المؤمن أنْ يكون منفقًا، وهو نوع ٌمن أنواع التعبد، ولا حاجةَ إلى الغور به كثيرًا.

ثالثًا: فلسفة البكاء:

يُنقل في أحوال الإمام (علیه السّلام) أنّه كان يستثمر كلَّ فرصةٍ لتذكير الناس بقضيةِ أبيه الإمام الحسين (علیه السّلام). ولعله -والله العالم- من أجل إحياء فاجعة الإمام الحسين (علیه السّلام) بصورةٍ مستمرة، حتى أصبحت ثورته (علیه السّلام) فيما بعد مفتاحًا لثوراتٍ عديدة ضد السلطة الظالمة، بعد أنْ كان المسلمون لا يخرجون على السلطان وإنْ كان ظالمًا أو فاسقًا ويخافون منه، ولكن الإمام الحسين (علیه السّلام) أسقط نظرية التصنيم لمن يُسمّي نفسه بخليفة رسول الله (صلّی الله علیه و آله)، وبالتالي فتح الباب للوقوف بوجه الطاغية.

وتحتاج هذه الشعلة إلى وقودٍ مستمر، والإمام السجاد (علیه السّلام) كان دومًا يُثير قضية الإمام الحسين (علیه السّلام) حتى تبقى هذه الشعلة متوهجةً في نفوسهم، وخصوصًا أنَّ التوجه الروحي عند الناس يقلُّ إذا زادت الرفاهية في الجملة، فكان البكاء على الإمام الحسين (علیه السّلام) وكذا الإنفاق والإعتاق تُرجع الإنسان إلى الجنبة الروحية، فكان الإمام (علیه السّلام) يستهدف -والله العالم- أنْ يُرجعَ الناس إلى تلك العلاقة الروحية ويحاول أنْ يخفف علاقتهم بالمادة.

رابعًا: فلسفة الدعاء:

وهو من أبرز الظواهر الواضحة في حياة الإمام السجاد (علیه السّلام)، فلِمَ ركّز الإمام كثيرًا على مسألة الدعاء؟

ربما لأنَّ الدعاء يمثل حركةً محورية في التوحيد مع الله (عزّ و جلّ)، قال(عزّ و جلّ): ﴿قُلْ ما يَعْبَؤُا

ص: 74

بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً﴾(1)

بالإضافة إلى هذا فإنَّ الدعاء من الممكن أنْ يضمَّ بين جنبتيه الكثير من المعارف، تبثّ إلى المسلمين من دون أنْ تكون ملفتةً للأنظار، فهي رسالةٌ مشفّرة يفهمها الذي له علاقة مع الإمام السجاد (علیه السّلام)، فقد يرسل رسالةً تشير إلى مطلبٍ عقائدي أو مطلب فقهي أو سياسي أو اقتصادي أو ثقافي من خلال الدعاء.

وبذلك يعمل الإمام السجاد سلام الله عليه على بثِّ المعارف إلى المؤمنين وسط جوٍ مشحون بالجواسيس والعيون التي تتقصى الإمام (علیه السّلام).

ومن أبرز تلك الأدعية أدعية الصحيفة السجادية، ولأهميتها وعمقها المعرفي، أولاها العلماء أهميةً عظمى تجلّت بكثرة الشروح لها –كما تقدمت الإشارة إليه-، حتى بلغت في بعض الإحصائيات أكثر من سبعين شرحًا تحت عناوين مختلفة(2).

وهي تحتوي على أربعةٍ وخمسين دعاءً مختلفًا مشتملًا على أكثر المجالات التي يحتاجها المؤمن بدعائه.

هذا وقد رويت هذه الصحيفة بأسانيدَ عديدة ومنها: سندها الذي ينتهي إلى يحيى بن زيد الشهيد بن علي السجاد (علیه السّلام)، حيث نقل يحيى عن أبيه زيد بن علي أنّه أخذ هذه الأدعية إملاءً من الإمام الباقر (علیه السّلام)، وأنَّ الإمام الصادق (علیه السّلام) أخبره أنّها أدعيةُ أبيه الإمام السجاد (علیه السّلام).(3)

وعلى كل حال، فقد كانت ولا زالت الصحيفة السجادية موضوع الكثير من

ص: 75


1- الفرقان 77.
2- الذريعة- آقا بزرك الطهراني- ج13 ص 345 وما بعدها، حيث ذكر عناوين تلك الشروح، ولا شك أنه بعد إحصائية الطهراني(رحمه الله)كتبت شروح أخرى للصحيفة.
3- انظر: مدينة المعاجز للسيد هاشم البحراني ج6 ص 138 وما بعدها، والرواية طويلة.

البحوث والكتب، بل تم تبويبها من قبل بعض العلماء تبويباً موضوعيًا على غرار التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، فتشكلت بعض المطالب الاقتصادية والسياسية والثقافية والعسكرية والحربية وغيرها.

وما يعنينا هو الجانب العقائدي فيها، لذا نذكر مثالًا عنه.

قال مولانا الإمام السجّاد (علیه السّلام) في دعائه عند ختم القرآن: «اللهُمَّ وَكَمَا نَصَبْتَ بِه مُحَمَّداً عَلَماً لِلدَّلَالَةِ عَلَيْكَ، وَأَنْهَجْتَ بِآلِه سُبُلَ الرِّضَا إِلَيْكَ، فَصَلِّ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَآلِه، وَاجْعَلِ الْقُرْآنَ وَسِيلَةً لَنَا إِلَىٰ أَشْرَفِ مَنَازِلِ الْكَرَامَةِ، وَسُلَّماً نَعْرُجُ فِيه إِلَىٰ مَحَلِّ السَّلَامَةِ»(1).

كلُّ سفر من أسفار بني آدم، لا بدَّ فيه من ثلاثة أُمور ضرورية، لأجل الوصول بسلامة إلىٰ الغاية والهدف، فحتَّىٰ تكون الرحلة ناجحة، مربحة، مريحة، فلا بدَّ من توفير الوسائل المهمَّة لهذه الأُمور.

وخلاصتها ثلاثة أُمور:

1 - الدليل، وكان الدليلُ سابقاً شخصاً له معرفة بطرق الصحراء ومداخلها ومخارجها، يستعمل النجوم والعلامات الطبيعية من تضاريس أرضية وغيرها للتوصُّل إلىٰ الغاية، وكان نادراً ما يخطأ.

وأمَّا في العصر الحديث، فتحوَّل الدليل إلىٰ علامات تُنصَب علىٰ الطرق، وإلىٰ خرائط ترسم الطرق ومخارجها، وإلىٰ اتِّصالات عبر الأقمار الصناعية، وغيرها من الأُمور. وعلىٰ كلِّ حالٍ، لا بدَّ من دليل يدلُّك علىٰ هدفك الذي تريد أن تصل إليه.

2 - السبيل، بمعنىٰ طريق تمشي عليه، ومن المعلوم أنَّه كلَّما كان الطريق جيِّداً من

ص: 76


1- الصحيفة السجّادية: 178/ الدعاء رقم 42. وراجع: قطاف شهر رمضان/ القسم الثالث: قبسات من الصحيفة السجادية- الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي- المقال رقم (15)/ ص 179 – 181.

حيث المسالك ووضوح الخطَّة، وكلَّما كان أكثر اختصاراً بالنسبة إلىٰ الهدف، كلَّما كان النجاح بسلوكه أوفق، والنجاة في سبيله أوثق.

3 - الوسيلة، وقد اختلفت وسيلة التنقُّل عبر العصور، فلقد كانت هي ما ذكرته الآية الكريمة: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾، ثمّ تطوَّرت إلىٰ ما وصلت إليه اليوم من سيّارات وطائرات وغير ذلك.

إذن، هذا ما يحتاجه الإنسان في سفره الدنيوي.

أمَّا عن السفر الأُخروي، فيُحدِّد الإمام السجّاد (علیه السّلام) هذه الأُمور الثلاثة فيه بالتالي:

1 - الدليل والعلم:

وذكر الإمام السجّاد (علیه السّلام) أنَّه هو رسول الله الأعظم محمّد (صلّی الله علیه و آله)، حيث قال: «اللهُمَّ وَكَمَا نَصَبْتَ بِه مُحَمَّداً عَلَماً لِلدَّلَالَةِ عَلَيْكَ».

فهو (صلّی الله علیه و آله) النور الذي أخرج الناس من ظلمات الجاهلية، إلىٰ نور التوحيد، وأخرج الناس من ظلام الظلم والجهل وقتل الأولاد خشية الإملاق ووأد البنات وضياع القيم وغياب الفضيلة...، فهو معلِّم الناس الأوَّل، وقد روي أنَّه (صلّی الله علیه و آله) مرَّ بمجلسين في مسجده، فقال: «كلاهما علىٰ خير، وأحدهما أفضل من صاحبه. أمَّا هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه، فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم. وأمَّا هؤلاء فيتعلَّمون الفقه والعلم ويُعلِّمون الجاهل، فهم أفضل. وإنَّما بُعِثْتُ معلِّما»، قال: ثمّ جلس فيهم(1).

2 - سبيل الآخرة وطريقها:

وقد ذكر الإمام السجّاد (علیه السّلام) أنَّ طريق الآخرة المستقيم هم أهل البيت (علیهم السّلام): «وَأَنْهَجْتَ بِآلِه سُبُلَ الرِّضَا إِلَيْكَ»، فهم الصراط المستقيم الذي ندعو الله تعالىٰ أن يهدينا

ص: 77


1- سنن الدارمي 1: 99 و100.

إليه كلَّ يوم في صلواتنا: ﴿اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾(1)

عن محمّد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر (علیه السّلام) يقول: «ليس عند أحد من الناس حقٌّ ولا صواب، ولا أحد من الناس يقضي بقضاء حقٍّ إلَّا ما خرج منّا أهل البيت، فإذا تشعَّبت بهم الأُمور كان الخطأ منهم والصواب من قِبَل عليٍّ (علیه السّلام)»(2).

3 - الوسيلة:

ويذكر الإمام السجّاد (علیه السّلام) أنَّ أفضل وسيلة لطريق الآخرة هو القرآن الكريم، حيث يقول (علیه السّلام): «وَاجْعَلِ الْقُرْآنَ وَسِيلَةً لَنَا إِلَىٰ أَشْرَفِ مَنَازِلِ الْكَرَامَةِ، وَسُلَّماً نَعْرُجُ فِيه إِلَىٰ مَحَلِّ السَّلَامَةِ».

وهذا ما ذكره صريحاً رسول الله الأعظم (صلّی الله علیه و آله) في ما روي عن أبي عبد الله، عن آبائه (علیهم السّلام)، قال: قال رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «أيُّها الناس، إنَّكم في دار هدنة، وأنتم علىٰ ظهر سفر، والسير بكم سريع، وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يبليان كلَّ جديد ويُقرِّبان كلَّ بعيد ويأتيان بكلِّ موعود، فأعدّوا الجهاز لبعد المجاز، قال: فقام المقداد بن الأسود الكندي فقال: يا رسول الله، وما دار الهدنة؟ فقال: دار بلاغ وانقطاع، فإذا التبست عليكم الأُمور كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنَّه شافع مشفَّع وماحل مصدَّق، من جعله أمامه قاده إلىٰ الجنَّة، ومن جعله خلفه ساقه إلىٰ النار»(3).

وهنا ملاحظتان:

الأولى: في قوله (علیه السّلام) «وكما نصبت به»، إشارة إلى أنَّ قضية النبوة قضيةُ تنصيبٍ إلهي وكذلك قضيةُ خلافةِ الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله). وقد أشار إلى هذا المطلب العقائدي الضخم

ص: 78


1- الفاتحة: 6.
2- بصائر الدرجات للصفّار: 539/ الجزء 10/ باب 19/ ح 4.
3- الكافي للكليني 2: 598 و599/ باب في تمثُّل القرآن وشفاعته لأهله/ ح 2.

بكلمةٍ واحدة.

الثانية: إنَّ النبي (صلّی الله علیه و آله) قد دمج بين السبيل والوسيلة وجعلهما شيئًا واحدًا، بحيث إنَّ الإنسان إذا أراد أنْ يصل إلى الهدف -وهو رضا الله(عزّ و جلّ)- فإنه لا يستغني عن أحدهما. وعليه، فمقولة «حسبنا كتاب الله» مقولةٌ باطلة تخالف ما نصّ عليه الرسول (صلّی الله علیه و آله) بقوله: إني تارك فيكم أمرين: أحدهما أطول من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض...(1)

فالتمسك بواحدٍ فقط فمؤداه إلى الضلالة لا محالة.

إشارة: تراث الإمام السجاد (علیه السّلام).

خلّف الإمام السجاد (علیه السّلام) تراثًا عظيمًا تمثل ب:

1/الصحيفة السجادية.

2/رسالة الحقوق.

3/دعاء أبي حمزة الثمالي.

4/روايات كثيرة في مختلف الأبواب الفقهية والعقائدية والوصايا وغيرها.

ص: 79


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 65 ح 97. وانظر مسند أحمد بن حنبل ج3 ص 14 وسنن الترمذي ج5 ص 329 وغيرها من المصادر.

ص: 80

عقيدتنا في زيارة القبور
النقطة الأولى: الآراء في زيارة القبور.

قال الشيخ(رحمه الله):

«عقيدتنا في زيارة القبور:

وممّا امتازت به الإمامية العناية بزيارة القبور (قبور النبيّ والائمة (عليهم الصلاة والسلام)) وتشييدها وإقامة العمارات الضخمة عليها، ولأجلها يضحّون بكُلّ غالٍ ورخيص عن إيمانٍ وطيب نفس.

ومردّ كُلُّ ذلك إلى وصايا الأئمة، وحثّهم شيعتهم على الزيارة، وترغيبهم فيما لها من الثواب الجزيل عند الله(عزّ و جلّ)، باعتبار أنّها من أفضل الطاعات والقربات بعد العبادات الواجبة، وباعتبار أنّ هاتيك القبور من خير المواقع لاستجابة الدعاء والانقطاع إلى الله(عزّ و جلّ).

وجعلوها أيضاً من تمام الوفاء بعهود الأئمة، «إذ أنّ لكلّ إمامٍ عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وأنّ من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبةً في زيارتهم وتصديقاً بما رغبوا فيه كان أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة».

وفي زيارة القبور من الفوائد الدينيّة والاجتماعيّة ما تستحق العناية من أئمتنا، فإنّها في الوقت الذي تزيد من رابطة الولاء والمحبّة بين الأئمة وأوليائهم، وتجدّد في النفوس ذكر مآثرهم وأخلاقهم وجهادهم في سبيل الحقّ تجمع في مواسمها أشتات المسلمين المتفرّقين على صعيدٍ واحدٍ؛ ليتعارفوا ويتآلفوا، ثم تطبع في قلوبهم روح الانقياد إلى الله(عزّ و جلّ) والانقطاع إليه وطاعة أوامره، وتلقنهم في مضامين عبارات الزيارات البليغة الواردة عن آل البيت حقيقة التوحيد والاعتراف بقدسية الإسلام والرسالة المحمّديّة، وما يجب على

ص: 81

المسلم من الخلق العالي الرصين والخضوع إلى مدبّر الكائنات وشكر آلائه ونعمه، فهي من هذه الجهة تقوم بنفس وظيفة الأدعية المأثورة التي تقدّم الكلام عليها، بل بعضها يشتمل على أبلغ الأدعية وأسماها كزيارة (أمين الله) وهي الزيارة المرويّة عن الإمام زين العابدين (علیه السّلام) حينما زار قبر جده أمير المؤمنين (علیه السّلام).

كما تفهّم هذه الزيارات المأثورة مواقف الأئمة (علیهم السّلام) وتضحياتهم في سبيل نصرة الحقّ وإعلاء كلمة الدين وتجرّدهم لطاعة الله(عزّ و جلّ)، وقد وردت بأسلوبٍ عربيّ جزل، وفصاحةٍ عالية، وعباراتٍ سهلةٍ يفهمها الخاصّة والعامّة، وهي مُحتويةٌ على أسمى معاني التوحيد ودقائقه والدعاء والابتهال إليه(عزّ و جلّ). فهي بحقّ من أرقى الأدب الديني بعد القرآن الكريم ونهج البلاغة والأدعية المأثورة عنهم؛ إذ أودعت فيها خلاصة معارف الأئمة (علیهم السّلام) فيما يتعلق بهذه الشؤون الدينيّة والتهذيبيّة.

ثم إنّ في آداب أداء الزيارة أيضاً من التعليم والإرشاد ما يؤكد من تحقيق تلك المعاني الدينيّة السامية: من نحو رفع معنوية المسلم وتنمية روح العطف على الفقير، وحمله على حسن العشرة والسلوك والتحبب إلى مخالطة الناس. فإنّ من آدابها: ما ينبغي أنْ يصنع قبل البدء بالدخول في المرقد المطهّر وزيارته.

ومنها: ما ينبغي أن يصنع في أثناء الزيارة وفيما بعد الزيارة. ونحن هنا نعرض بعض هذه الآداب للتنبيه على مقاصدها التي قلناها:

1. من آدابها أنْ يغتسل الزائر قبل الشروع بالزيارة ويتطهّر، وفائدة ذلك فيما نفهمه واضحةٌ، وهي أن ينظف الإنسان بدنه من الأوساخ ليقيه من كثير من الأمراض والأدواء، ولئلا يتأفّف من روائحه الناس، وأنْ يُطهّر نفسه من الرذائل. وقد ورد في المأثور أنْ يدعو الزائر بعد الانتهاء من الغسل لغرض تنبيهه على تلكم الأهداف العالية فيقول: «اللهم اجعل لي نوراً وطهوراً وحرزاً كافياً من كُلّ داءٍ وسقمٍ ومن كُلّ آفةٍ وعاهةٍ، وطهّر به

ص: 82

قلبي وجوارحي وعظامي ولحمي ودمي وشعري وبشري، ومخّي وعظمي وما أقلّت الأرض منّي، واجعل لي شاهداً يوم حاجتي وفقري وفاقتي».

2. أنْ يلبس أحسن وأنظف ما عنده من الثياب، فإنّ في الأناقة في الملبس في المواسم العامّة ما يُحبّب الناس بعضهم إلى بعضٍ، ويُقرّب بينهم ويزيد في عزّة النفوس والشعور بأهميّة الموسم الذي يشترك فيه.

ومما ينبغي أنْ نلفت النظر إليه في هذا التعليم أنّه لم يفرض فيه أنْ يلبس الزائر أحسن الثياب على العموم، بل يلبس أحسن ما يتمكن عليه؛ إذ ليس كلّ أحد يستطيع ذلك وفيه تضييق على الضعفاء لا تستدعيه الشفقة فقد جمع هذا الأدب بين ما ينبغي من الأناقة وبين رعاية الفقير وضعيف الحال.

3. أنْ يتطيّب ما وسعه الطيب، وفائدته كفائدة أدب لبس أحسن الثياب.

4. أنْ يتصدق على الفقراء بما يعنّ له أن يتصدّق به. ومن المعلوم فائدة التصدّق في مثل هذه المواسم، فإنّ فيه معاونة المعوزين وتنمية روح العطف عليهم.

5. أنْ يمشي على سكينةٍ ووقارٍ غاضّاً من بصره. وواضحٌ ما في هذا من توقيرٍ للحرم والزيارة، وتعظيمٍ للمزور، وتوجهٍ إلى الله(عزّ و جلّ) وانقطاعٍ إليه، مع ما في ذلك من اجتناب مزاحمة الناس ومضايقتهم في المرور وعدم إساءة بعضهم إلى بعض.

6. أنْ يُكبّر بقول: «الله أكبر»، ويكرّر ذلك ما شاء. وقد تحدّد في بعض الزيارات إلى أنْ تبلغ المائة. وفي ذلك فائدة إشعار النفس بعظمة الله وأنّه لا شيء أكبر منه. وأنّ الزيارة ليست إلّا لعباده الله وتعظيمه وتقديسه في إحياء شعائر الله وتأييد دينه.

7. وبعد الفراغ من الزيارة للنبيّ أو الإمام يصلي ركعتين على الأقل تطوّعاً وعبادةً لله(عزّ و جلّ)؛ ليشكره على توفيقه إياه، ويهدي ثواب الصلاة إلى المزور. وفي الدعاء المأثور الذي

ص: 83

يدعو به الزائر بعد هذه الصلاة ما يفهم الزائر أنّ صلاته وعمله إنّما هو لله وحده وأنّه لا يعبد سواه، وليست الزيارة إلّا نوع التقرب إليه(عزّ و جلّ) زلفى؛ إذ يقول: «اللهم لك صليت ولك ركعت ولك سجدت وحدك لا شريك لك؛ لأنّه لا تكون الصلاة والركوع والسجود إلّا لك، لأنّك أنت اللهُ لا إله إلّا أنت. اللهم صلِّ على محمّدٍ وآل محمّد، وتقبّل منّي زيارتي وأعطِني سُؤلي بمحمّدٍ وآله الطاهرين».

وفي هذا النوع من الأدب ما يوضّح لمن يريد أنْ يفهم الحقيقة عن مقاصد الأئمة وشيعتهم تبعاً لهم في زيارة القبور، وما يُلقِمُ المتجاهلين حجراً حينما يزعمون أنّها عندهم من نوع عبادة القبور والتقرّب إليها والشرك بالله. وأغلب الظن أنّ غرض أمثال هؤلاء هو التزهيد فيما يجلب لجماعة الإمامية من الفوائد الاجتماعية الدينيّة في مواسم الزيارات؛ إذ أصبحت شوكةً في أعين أعداء آل بيت محمّد، وإلّا فما نظنهم يجهلون حقيقة مقاصد آل البيت فيها. حاشا أولئك الذين أخلصوا لله نيّاتهم وتجرّدوا له في عباداتهم، وبذلوا مهجهم في نُصرة دينه أنْ يدعو الناس إلى الشرك في عبادة الله.

8. ومن آداب الزيارة أن يلزم للزائر حسن الصحبة لمن يصحبه وقلّة الكلام إلّا بخير، وكثرة ذكر الله، والخشوع وكثرة الصلاة والصلاة على محمّدٍ وآل محمّد، وأنْ يغضّ من بصره، وأنْ يعدو إلى أهل الحاجة من إخوانه إذا رأى منقطعاً، والمواساة لهم، والورع عمّا نهى عنه وعن الخصومة وكثرة الإيمان والجدال الذي فيه الإيمان.

ثم إنّه ليست حقيقة الزيارة إلّا السلام على النبيّ أو الإمام باعتبار أنّهم «أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»؛ فهم يسمعون الكلام ويردّون الجواب، ويكفي أنْ يقول فيها مثلاً: «السلام عليك يا رسول الله» غير أنّ الأولى أنْ يقرأ فيها المأثور الوارد من الزيارات عن آل البيت؛ لما فيها -كما ذكرنا- من المقاصد العالية والفوائد الدينيّة، مع بلاغتها وفصاحتها، ومع ما فيها من الأدعية العالية التي يتّجه بها الإنسان إلى الله تعالى وحده». انتهى

ص: 84

هناك عدةُ عناوين تُبحث في هذا المجال، خلاصتها التالي:

الأول: الاستشفاع بالأئمة والتوسل بهم لقضاء الحوائج، وفيه أخذٌ ورد وله أدلته.

الثاني: الصلاة عند القبور.

الثالث: بناء القبور.

الرابع: القسم بالأولياء والصالحين.

الخامس: القسم على الله بالأولياء والصالحين، (اللهم إنّي أقسِمُ عليك بنبيك (صلّی الله علیه و آله)).

السادس: الإسراج على القبور.

السابع: التبرك بالقبور، من تقبيل الأضرحة وأخذ شيءٍ منها للبركة مثلًا.

الثامن: زيارة القبور.

التاسع: زيارة النساء للقبور.

وقد اقتصر المصنف(رحمه الله)على زيارة القبور، وجريًا على ما ذكر نقتصر على ما ذكره فقط.

وفي زيارة القبور عدة نقاط:

النقطة الأولى: الآراء في زيارة القبور.

لم يُنقل عن أحدٍ من المسلمين الخلاف في استحباب زيارة قبور الصالحين، وهذا أمرٌ اتفق عليه جميع المسلمين، قال صاحب كتاب الفقه في المذاهب الأربعة (زيارة القبور مندوبة للاتعاظ وتذكر الآخرة، وتتأكد يوم الجمعة، ويوما قبلها، ويوما بعدها، عند الحنفية، والمالكية، وخالف الحنابلة، والشافعية، فانظر مذهبيهما تحت الخط وينبغي للزائر الاشتغال بالدعاء والتضرع والاعتبار بالموتى وقراءة القرآن للميت، فإن ذلك

ص: 85

ينفع الميت على الأصح، ومما ورد أن يقول الزائر عند رؤية القبور: «اللهم رب الأرواح الباقية والأجسام البالية، والشعور المتمزقة، والجلود المتقطعة، والعظام النخرة التي خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنة، أنزل عليها روحا منك، وسلاما مني» ومما ورد أيضا أن يقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» ولا فرق في الزيارة بين كون المقابر قريبة أو بعيدة، وخالف الحنابلة، فانظر مذهبهم تحت الخط، بل يندب السفر لزيارة الموتى خصوصا مقابر الصالحين: أما زيارة قبر النبي (صلّی الله علیه و آله)، فهي من أعظم القرب، وكما تندب زيارة القبور للرجال تندب أيضا للنساء العجائز اللاتي لا يخشى منهم الفتنة إن لم تؤد زيارتهن إلى الندب أو النياحة، وإلَّا كانت محرمة..».(1)

فزيارة القبور مسألةٌ متفقٌ عليها بين المسلمين، إلا أنّه وكعادته خالف ابن تيمية ونقل عنه أن شدَّ الرحال إلى المشاهد من الشرك الذي تهدر معه الدماء والأموال.

والخلاصة إنَّ عامة المسلمين قالوا باستحباب زيارة القبور إلا ابن تيمية فقد خالفهم والوهابية تبعًا له.

النقطة الثانية: مشروعية زيارة القبور.

من الواضح إنَّ الكلام مع المسلمين، والمسلم عمومًا يعتمد على دليلين أساسيين: القرآن الكريم وسنة النبي الأكرم (صلّی الله علیه و آله)، والعامة يُضيفون فعل الصحابة، فإذا وجدوا صحابيًا يفعل أمرًا ما، فإنهم يقولون بمشروعيته، كقولهم بمشروعية عبارة (الصلاةُ خيرٌ من النوم) في أذان الفجر؛ استنادًا على قول صحابي.

وعليه، فإذا أردنا أنْ نتكلم عن مشروعية زيارة القبور، فليس علينا إلا أنْ نرجع إلى الروايات الشريفة لنجد أفعال النبي (صلّی الله علیه و آله) وأفعال الصحابة، هل كانوا يزورون القبور

ص: 86


1- الفقه على المذاهب الأربعة ومذهب أهل البيت (علیهم السّلام)- الجزيري، الغروي، مازح- ج1 ص 694 – 698.

أو لا؟

وقد يقول قائل: لا إشكال في الاستدلال بفعل الرسول (صلّی الله علیه و آله)؛ لأنه هو المشرع، وفعله يدل -على أقل التقادير- على الإباحة، وأما الاستدلال بفعل صحابي من الصحابة، فهو أمر غير صحيح.

والجواب:

إنَّ السائل لا يخلو: إما أنْ يقبل بفعل الصحابي -كعبد الله بن عمر أو الزهراء(علیها السّلام)(1)- حجةً ودليلًا، ويقبل بفعل التابعين وتابعيهم كالشافعي أو أحمد بن حنبل، كذلك، أو لا.

فإن قبل، قلنا هذا ما نقبله من فعل المعصومين (علیهم السّلام)، ونحن يكفينا أنَّ الزهراء(علیها السّلام) كانت تزور قبر عم أبيها الحمزة (علیه السّلام)، فحتى لو لم تكن هناك روايةٌ عن الرسول (صلّی الله علیه و آله) يكفينا فعلها على الأقل من جهة كونها صحابية (علیها السّلام).

وإلّا، أي لم يقبل بفعل الصحابي حجةً بذاته، فنقول حينها: إنّ زيارة القبور في ذلك الزمن كانت سيرةً (بمعنى أنَّ المتدينين في ذلك الوقت كانوا يزورون القبور)، فإن كان فعلهم هذا محرمًا لزم على خليفة رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنْ ينبه الناس ويبين لهم الحلال والحرام، فكيف كان يفعل هذا الفعل أمثال عبد الله بن عمر، وخليفة المسلمين في ذلك الوقت لم يردعه عن هذا الفعل؟ إذن يكشف ذلك عن رضا الخليفة بهذا الفعل، ومن ثم فإنَّ هذا يُدلل على مشروعيته.

وخلاصة القول: أنَّ زائر هذه القبور إما أن نعتقد بحجية فعله كالرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله)، أو لا، فإن كان فعله بنفسه حجة كفي به دليلًا، وإلا، فقد كان فعله على

ص: 87


1- نحن نعتقد أن الزهراء(علیها السّلام) حجة الله تعالى، وقولها حجة بلا أدنى تردد، وإنما ذكرناها هنا كصحابية من باب الإلزام.

مرأى ومسمع من الحاكم خليفة رسول الله (صلّی الله علیه و آله)، وحيث إنَّ الخليفة لم ينبه أو يردع أو ينهى عنه، إذن هو فعلٌ مشروع ولا إشكال فيه.

شواهد على مشروعية زيارة القبور:

إن الشواهد على مشروعية زيارة القبور عند المسلمين في الصدر الأول للإسلام كثيرة، ونحن نذكر هنا بعضاً منها مما ورد في كتب القوم:

عن عبد الله بن بريدة الأسلمي عن أبيه بريدة بن الحصيب عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) قال: «إني كنت قد نهيتكم عن ثلاث: عن زيارة القبور، فزوروها فان زيارتها عظة وعبرة...»(1)

وعن ابن أبي مليكة أن النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم قال: «ائتوا موتاكم فسلموا عليهم وصلوا عليهم، فإن لكم فيهم عبرة قال ابن أبي مليكة: ورأيت عائشة تزور قبر أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر، ومات بالحبشي(2)،

وقبره بمكة».(3)

وعن النبي (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «ألا فزوروا القبور، فإنها تزهّد في الدنيا وتذكّر الآخرة»(4)

وعن أبي الجوزاء أوس بن عبد الله قال: قحط أهل المدينة قحطاً شديداً، فشكوا إلى عائشة فقالت: انظروا قبر النبي (صلّی الله علیه و آله) فاجعلوا منه كوى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف. قال: ففعلوا فمطرنا مطراً حتى نبت العشب، وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم، فسمي عام الفتق.(5)

ص: 88


1- المعجم الأوسط للطبراني ج5 ص 147.
2- جبل بأسفل مكة على ستة أميال [هامش المصدر]
3- المصنف- عبد الرزاق الصنعاني ج3 ص570 ح 6710.
4- المستدرك للحاكم النيسابوري ج1 ص 375.
5- سنن الدرامي بعد الله بن الرحمن الدرامي ج1 ص43 و44.

وهذا يعني أنّهم زاروا القبر الشريف واستشفعوا به [سنن الدارمي].

وعن عبد الجبار بن الورد قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: ركبت عائشة فخرج إلينا غلامها فقلت: أين ذهبت أم المؤمنين؟ قال: ذهبت إلى قبر أخيها عبد الرحمن تسلم عليه.(1)

وفي نقل البيهقي: عن عبد الله بن أبي مليكة أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر فقلت لها: يا أم المؤمنين، من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن بن أبي بكر. فقلت لها: أليس كان رسول الله (صلّی الله علیه و آله) نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، كان نهى ثم أمر بزيارتها.(2)

ونُقِل أنّ الإمام الشافعي عندما كان ببغداد كان يتوسل بضريح الإمام أبي حنيفة ويجيء إلى ضريحه ويزوره ويسلم عليه ويتوسل إلى الله(عزّ و جلّ) به في قضاء حوائجه.

فقد نقل الخطيب البغدادي: عن علي بن ميمون قال: سمعت الشافعي يقول: إني لأتبرك بأبي حنيفة وأجئ إلى قبره في كل يوم - يعني زائراً - فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين وجئت إلى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده، فما تبعد عني حتى تقضى.(3)

وكذلك ورد أنَّ أحمد شيخ الحنابلة كان يتوسل بقبر الإمام الشافعي في طلب العافية وقضاء الحوائج، «وقد كان الإمام أحمد يزور قبر الشافعي ويتوسل به إلى الله تعالى، بل رووا أنه غسل قميص الشافعي وشرب ماءه..».(4)

ص: 89


1- التمهيد لابن عبد البر ج3 ص235.
2- السنن الكبرى للبيهقي ج4 ص78.
3- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج1 ص135.
4- الانتصار للعاملي ج1 ص218.

وقال العيني: «وكان الشارع [يقصد النبي الأعظم (صلّی الله علیه و آله)] يأتي قبور الشهداء عند رأس الحول فيقول: «السلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار»، وكان أبو بكر وعمر وعثمان... يفعلون ذلك، وزار الشارع قبر أمه، يوم الفتح في ألف مقنع ذكره ابن أبي الدنيا، وذكر ابن أبي شيبة عن علي وابن مسعود وأنس، رضي الله تعالى عنهم، إجازة الزيارة، وكانت فاطمة (علیها السّلام) تزور قبر حمزة(رضي الله عنه) عنه، كل جمعة. وكان عمر... يزور قبر أبيه فيقف عليه ويدعو له، وكانت عائشة... تزور قبر أخيها عبد الرحمن وقبره بمكة، ذكره أجمع عبد الرزاق. وقال ابن حبيب: لا بأس بزيارة القبور والجلوس إليها والسلام عليها عند المرور بها، وقد فعل ذلك رسول الله (صلّی الله علیه و آله)، وسئل مالك عن زيارة القبور؟ فقال: قد كان نهى عنه ثم أذن فيه، فلو فعل ذلك إنسان ولم يقل إلاَّ خيرا لم أر بذلك بأسا. وفي (التوضيح) أيضاً: والأمة مجمعة على زيارة قبر نبينا (صلّی الله علیه و آله) وأبي بكر وعمر... وكان ابن عمر إذا قدم من سفر أتي قبره المكرم فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه»(1)

وعن الإمام الباقر (علیه السّلام): «أن فاطمة بنت رسول الله (صلّی الله علیه و آله) كانت تزور قبر حمزة (رضی الله عنه) ترمه وتصلحه، وقد تعلمته بحجر»(2)

وفي روايةٍ أخرى: أنَّ فاطمة ابنة رسول الله (صلّی الله علیه و آله) كانت تزور قبور الشهداء بين اليومين والثلاثة، إذ روي: «وكانت فاطمة بنت رسول الله (صلّی الله علیه و آله) تأتيهم بين اليومين والثلاثة. فتبكي عندهم وتدعو».(3)

ص: 90


1- عمدة القاري للعيني ج8 ص70.
2- تاريخ المدينة لابن شبة النميري ج1 ص132.
3- المغازي للواقدي ج1 ص313.
النقطة الثالثة: الأهداف من زيارة القبور، وما يترتب على زيارة قبور الصالحين والأئمة (علیهم السّلام) من منافع.

إنَّ البحث عن أهداف هذه الشعيرة الإلهية لا يعني البحث عن العلة التامة لتشريع استحبابها، وإنّما هي محاولةٌ للبحث عن الحِكم والمنافع والفوائد في الروايات الشريفة وفي الواقع المعاش للزائرين لقبور الأئمة (علیهم السّلام)، وقد تقدّم الحديث عن الفرق بين العلة والحكمة.

وقد أشار الشيخ المظفر(رحمه الله)إلى أهدافٍ معينة من زيارة القبور، وهي كالتالي:

1/إنَّ زيارة القبور تمثل امتثالًا لحثِّ أهل البيت (علیهم السّلام) على الزيارة، فهناك رواياتٌ كثيرة تحثُّ على ذلك.

فعَنْ زَيْدٍ الشَّحَّامِ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام): مَا لِمَنْ زَارَ أَحَداً مِنْكُمْ؟ قَالَ (علیه السّلام): «كَمَنْ زَارَ رَسُولَ الله (صلّی الله علیه و آله)».(1)

وروي أنه قَالَ رَسُولُ الله (صلّی الله علیه و آله): «يَا عَلِيُّ، مَنْ زَارَنِي فِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدَ مَوْتِي، أَوْ زَارَكَ فِي حَيَاتِكَ أَوْ بَعْدَ مَوْتِكَ، أَوْ زَارَ ابْنَيْكَ فِي حَيَاتِهِمَا أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِمَا، ضَمِنْتُ لَه يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ أُخَلِّصَه مِنْ أَهْوَالِهَا وشَدَائِدِهَا حَتَّى أُصَيِّرَه مَعِي فِي دَرَجَتِي».(2)

وعَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي وَهْبٍ الْقَصْرِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَدِينَةَ فَأَتَيْتُ أَبَا عَبْدِ الله (علیه السّلام) فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَتَيْتُكَ ولَمْ أَزُرْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السّلام). قَال (علیه السّلام):َ «بِئْسَ مَا صَنَعْتَ، لَوْلَا أَنَّكَ مِنْ شِيعَتِنَا مَا نَظَرْتُ إِلَيْكَ! ألَا تَزُورُ مَنْ يَزُورُه اللهُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ ويَزُورُه الأَنْبِيَاءُ ويَزُورُه الْمُؤْمِنُونَ!»

قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ مَا عَلِمْتُ ذَلِكَ. قَالَ (علیه السّلام): «اعْلَمْ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السّلام) أَفْضَلُ

ص: 91


1- الكافي للكليني ج4 ص 579 بَابُ فَضْلِ الزِّيَارَاتِ وثَوَابِهَا ح1.
2- الكافي للكليني ج4 ص 579 بَابُ فَضْلِ الزِّيَارَاتِ وثَوَابِهَا ح2.

عِنْدَ الله مِنَ الأَئِمَّةِ كُلِّهِمْ، ولَه ثَوَابُ أَعْمَالِهِمْ وعَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فُضِّلُوا».(1)

2/ إنَّ الإنسان بطبعه يحب أنْ يُستجاب دعاؤه، وإجابة الدعاء لها شروط، ومن تلك الشروط هو أنْ يتحرى الداعي الأوقات والأماكن التي هي مظنة إجابة الدعاء، كمن يدعو في ليلة القدر ووقت السحر، هناك أماكن فيها مظنة استجابة الدعاء ومن تلك الأماكن هو قبور الأئمة (علیهم السّلام).

عن محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر وجعفر بن محمد3 يقولان: «إن الله(عزّ و جلّ) عوض الحسين (علیه السّلام) من قتله: أن جعل الإمامة في ذريته، والشفاء في تربته، وإجابة الدعاء عند قبره، ولا تعد أيام زائريه جائياً وراجعاً من عمره».

قال محمد بن مسلم: فقلت لأبي عبد الله (علیه السّلام): هذا الجلال ينال بالحسين (علیه السّلام) فماله في نفسه؟ قال: إن الله(عزّ و جلّ) ألحقه بالنبي (صلّی الله علیه و آله) فكان معه في درجته ومنزلته، ثم تلا أبو عبد الله ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ﴾(2).(3)

3/ورد في الروايات الشريفة أنّ من تمام الوفاء بالعهد للأئمة (علیهم السّلام) عدة أمور، منها أنَّ من يذهب للحج فإن من تمام حجه أنْ يزور الأئمة (علیهم السّلام)، والروايات في هذا المجال عديدة، فعَنِ الْفُضَيْلِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السّلام) قَالَ: نَظَرَ إِلَى النَّاسِ يَطُوفُونَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ فَقَالَ (علیه السّلام): «هَكَذَا كَانُوا يَطُوفُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، إِنَّمَا أُمِرُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهَا ثُمَّ يَنْفِرُوا إِلَيْنَا فَيُعْلِمُونَا وَلَايَتَهُمْ ومَوَدَّتَهُمْ، ويَعْرِضُوا عَلَيْنَا نُصْرَتَهُمْ» ثُمَّ قَرَأَ هَذِه الآيَةَ: ﴿فَاجْعَلْ

ص: 92


1- الكافي للكليني ج4 ص 579 و580 بَابُ فَضْلِ الزِّيَارَاتِ وثَوَابِهَا ح3.
2- الطور 21
3- الأمالي للشيخ الطوسي ص317 ح644 / 91.

أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾(1).(2)

وعن الإمام الصادق (علیه السّلام): «إذا حَجَّ أحَدُكُم فَليَختِم حَجَّهُ بِزِيارَتِنا؛ لنَّ ذلِكَ مِن تَمامِ الحَجِّ».(3)

4/ إنَّ زيارة قبور الأئمة (علیهم السّلام) من شأنها أن تقوّي الرابطة المعنوية بين المؤمن وبين إمامه، وهذه المسألة وجدانية وواضحة جدًا، فعند زيارة المؤمن الإمام البعيد رغم التكاليف المادية التي من الصعب توفيرها على البعض، لكنه بالوجدان انًا يشعر بأنَّ علاقته تقوى بالإمام (علیه السّلام) وأنَّ هناك جانبًا ماديًا أضيف إلى إيمانه المعنوي، وأنَّ هناك انجذابًا بين روحه وبين تلك الأعتاب الطاهرة، وهذا ما يستشعره كلُّ غريب عن أئمته.

5/ إنَّ المؤمن عندما يذهب إلى زيارة قبور أئمته (علیهم السّلام) فإنّه يتذكر مآثرهم وأخلاقهم وتعبهم وجهادهم الذي بذلوه من أجل تثبيت أركان الدين، ويتذكر ورعهم وزهدهم في الدنيا وكيف أنَّهم كانوا قد زهدوا بالدنيا بتمام معنى الكلمة، الأمر الذي يستلزم أنْ يتمثل المؤمن بتلك الأخلاق، وأنْ يحولها إلى سلوكٍ عملي في حياته.

ينقل عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) أنَّ بيته كان من البساطة بمكان حتى كان إذا رفع يده (علیه السّلام) فإنّها تضرب بالسقف، واليوم ينظر المؤمن إلى قبر أمير المؤمنين (علیه السّلام) كيف يحيط به الذهب من كلِّ مكان، والمؤمن سيعرف حينها أنه (علیه السّلام) عندما ترك الدنيا، فقد جاءته مرغمة لتسجد عند أعتابه.

6/إنَّ مواسم الزيارة تعمل كما يعمل الحج في جمع أشتات المسلمين من جميع أنحاء

ص: 93


1- إبراهيم 37
2- الكافي للكليني ج1 ص392 بَابُ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى النَّاسِ بَعْدَ مَا يَقْضُونَ مَنَاسِكَهُمْ أَنْ يَأْتُوا الإِمَامَ فَيَسْأَلُونَه عَنْ مَعَالِمِ دِينِهِمْ ويُعْلِمُونَهُمْ وَلَايَتَهُمْ ومَوَدَّتَهُمْ لَه- ح1.
3- علل الشرائع للشيخ الصدوق ج2 ص459 باب 221 ح1.

العالم ليؤدوا شعيرة إلهية.

7/ إنَّ زيارة قبور الأئمة (علیهم السّلام) بما فيها من بذل جهد ومال ومفارقة أهل وأولاد تعمل على ترويض النفس الإنسانية المؤمنة بالانقياد إلى الأئمة (علیهم السّلام) وبالانقطاع إلى الله(عزّ و جلّ) وتنفيذ أوامره.

8/ إنَّ الزيارات الواردة عن الأئمة (علیهم السّلام) تحوي مضامين عالية وإشارات بليغة في التوحيد والنبوة ومقامات النبي (صلّی الله علیه و آله)، وتكشف عن مقامات أهل البيت (علیهم السّلام) والصالحين من أتباعهم.

مثال ذلك: ما ورد في زيارة أبي الفضل (علیه السّلام) أنّ الإمام الصادق (علیه السّلام) يخاطبه بأنَّ قتله استُحلت فيه حرمة الإسلام «ولعن الله أمة استحلت منك المحارم، وانتهكت حرمة الاسلام»(1)،

وهذا يكشف عن مقام عظيم لأبي الفضل (علیه السّلام)، فهو لم يكن مجرد قائد عسكري في جيش الإمام الحسين(علیه السّلام) وإّنما كان من العلماء في ركب الحسين (علیه السّلام)؛ لأننا نعلم أنَّ حرمة الإسلام حسب ما ورد في الروايات الأخرى تنتهك بقتل العالم.

ومما يشير إلى ذلك ما روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: «إِذَا مَاتَ الْمُؤْمِنُ الْفَقِيه ثُلِمَ فِي الإِسْلَامِ ثُلْمَةٌ لَا يَسُدُّهَا شَيْءٌ».(2)

9/إنّ تلك الزيارات تحكي عن مواقف الأئمة (علیهم السّلام) وتضحياتهم في سبيل الدين ونشر الإسلام والدعوة إلى طاعة الله(عزّ و جلّ).

ص: 94


1- المزار لمحمد بن جعفر المشهدي ص391.
2- الكافي للكليني ج1 ص38 بَابُ فَقْدِ الْعُلَمَاءِ- ح2.
عقيدتنا في معنى التشيع عند آل البيت عليهم السلام
النقطة الأولى: معنى التشيع لغةً واصطلاحًا.

قال الشيخ(رحمه الله):

«عقيدتنا في معنى التشيّع عند آل البيت:

إنّ الأئمة من آل البيت (علیهم السّلام) لم تكن لهم همّة بعد أنِ انصرفوا عن أنْ يرجع أمر الامّة إليهم إلّا تهذيب المسلمين وتربيتهم تربيةً صالحةً كما يريدها الله(عزّ و جلّ) منهم، فكانوا مع كُلّ من يواليهم ويأتمنونه على سرّهم يبذلون قصارى جهدهم في تعليمه الأحكام الشرعية وتلقينه المعارف المحمّديّة، ويعرّفونه ما له وما عليه.

ولا يعتبرون الرجل تابعاً وشيعةً لهم إلّا إذا كان مطيعاً لأمر الله، مجانباً لهواه، آخذاً بتعاليمهم وإرشاداتهم. ولا يعتبرون حبّهم وحده كافياً للنجاة كما قد يمنّي نفسه بعض من يسكن إلى الدعة والشهوات ويلتمس عذراً في التمرّد على طاعة الله (سبحانه و تعالی). إنّهم لا يعتبرون حبّهم وولاءهم منجاةً إلّا إذا اقترن بالأعمال الصالحة وتحلّى الموالي لهم بالصدق والأمانة والورع والتقوى.

«يا خيثمة! أبلغ موالينا أنّه لا نغني عنهم من الله شيئاً إلّا بعمل، وأنّهم لن ينالوا ولايتنا إلّا بالورع، وإنّ أشدّ الناس حسرةً يوم القيامة من وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره».

بل هم يريدون من أتباعهم أنْ يكونوا دعاةً للحقّ وأدلّاء على الخير والرشاد، ويرون أنّ الدعوة بالعمل أبلغ من الدعوة باللسان: «كونوا دعاةً للناس بالخير بغير ألسنتكم، ليروا منكم الاجتهاد والصدق والورع».

ص: 95

ونحن نذكر لك الآن بعض المحاورات التي جرت لهم مع بعض أتباعهم، لتعرف مدى تشديدهم وحرصهم على تهذيب أخلاق الناس:

1. محاورة أبي جعفر الباقر (علیه السّلام) مع جابر الجعفي: «يا جابر! أيكتفى من ينتحل التشيع أن يقول بحبّنا أهل البيت! فو الله ما شيعتنا إلّا من أتقى الله وأطاعه.

وما كانوا يعرفون إلّا بالتواضع، والتخشع، والأمانة، وكثرة ذكر الله، والصوم والصلاة، والبرّ بالوالدين، والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكف الألسن عن الناس إلّا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء.

فاتقوا الله واعملوا لما عند الله! ليس بين الله وبين أحدٍ قرابةٌ، أحبّ العباد إلى الله(عزّ و جلّ) أتقاهم وأعملهم بطاعته.

يا جابر والله ما نتقرب إلى الله (سبحانه و تعالی)إلّا بالطاعة، وما معنا براءةٌ من النار، ولا على الله لأحدٍ من حُجّة. من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ. وما تُنالُ ولايتنا إلّا بالعمل والورع».

2. محاورة أبي جعفر أيضاً مع سعيد بن الحسن:

أبو جعفر: «أيجيء أحدكم إلى أخيه فيُدخل يده في كيسه فيأخذ حاجته فلا يدفعه؟»

سعيد: ما أعرف ذلك فينا.

أبو جعفر: «فلا شيء إذن».

سعيد: فالهلاك إذن.

أبو جعفر: «إنّ القوم لم يعطوا أحلامهم بعد».

ص: 96

3. محاورة أبي عبد الله الصادق (علیه السّلام) مع أبي الصباح الكناني:

الكناني لأبي عبد الله: ما نلقى من الناس فيك؟!

أبو عبد الله: «وما الذي تلقى من الناس؟»

الكناني: لا يزال يكون بيننا وبين الرجل الكلام، فيقول: جعفريّ خبيث.

أبو عبد الله: «يعيّركم الناس بي؟!»

الكناني: نعم!

أبو عبد الله: «ما أقلّ والله من يتّبع جعفراً منكم! إنّما أصحابي من اشتدّ ورعه، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه. هؤلاء أصحابي!»

4 ولأبي عبد الله (علیه السّلام) كلمات في هذا الباب نقتطف منها ما يلي:

أ. «ليس منّا -ولا كرامة- من كان في مِصرٍ فيه مائة ألف أو يزيدون، وكان في ذلك المصر أحدٌ أورع منه».

ب. «إنّا لا نعدّ الرجل مؤمناً حتّى يكون لجميع أمرنا متّبعاً ومريداً، ألا وإن من اتّباع أمرنا وإرادته الورع، فتزيّنوا به يرحمكم الله».

ج-. «ليس من شيعتنا من لا تتحدث المُخدّرات بورعه في خدورهن، وليس من أوليائنا من هو في قريةٍ فيها عشرة آلاف رجلٍ فيهم خلقٌ لله أورع منه».

د. «إنّما شيعة (جعفر) من عفّ بطنه وفرجه واشتدّ جهاده وعمل لخالقه ورجا ثوابه وخاف عقابه. فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر»). انتهى.

رغم أنَّ لهذه العقيدة العديد من المداخل التي يمكن للباحث أنْ يدخل من خلالها، إلا أنَّ الشيخ(قدّس سرّه) في عبارة متن كتابه اكتفى بالإشارة إلى الجانب التربوي للتشيّع، وحتى تتم الفائدة نخرج قليلًا عن عبارة الكتاب، ونُدرج النقاط الآتية:

ص: 97

النقطة الأولى: معنى التشيع لغةً واصطلاحًا.

قال علماء اللغة: شيعة الرجل أتباعه وأنصاره، وقالوا: شايعه إذا تابعه ووالاه على الأمر، فالشيعةُ في اللغة تعني الأتباع والأنصار.(1)

وقد استعمل القرآن الكريم لفظ التشيع في عدة آياتٍ، منها ما جاء في وصف إبراهيم (علیه السّلام) بأنّه كان من أتباع لوط (علیه السّلام) أيّ على ديانته قال(عزّ و جلّ): ﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ﴾(2)ومنها ما ورد في قصة نبي الله موسى (عليه وعلى نبينا وآله السلام) ﴿وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَىٰ الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسىٰ فَقَضىٰ عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ﴾(3)

فمن شيعته يعني ممن شايعه وتابعه على دينه من بني إسرائيل، وأصل الشيعة هي الفرقة من الناس.

أما المعنى الاصطلاحي فهو اسمٌ يُطلق على كلِّ من يتولى أمير المؤمنين (علیه السّلام)، حتى صار اسم (الشيعة) خاصًا بأتباعه (علیه السّلام).

النقطة الثانية: الآراء في نشأة الشيعة:

هل التشيع ووجودُ جماعةٍ باسم الشيعة يوالون عليًا وأولاده أجمعين (علیهم السّلام) كان من زمن النبي الأعظم (صلّی الله علیه و آله)، أو هو أمرٌ وظاهرةٌ طارئة جاءت بعد زمن النبي (صلّی الله علیه و آله)، أفرزتها بعض الضغوط والعوامل على مجموعة من الناس، أو ماذا؟

وبعبارةٍ أخرى: هل التشيع فعلٌ أو ردةُ فعلٍ؟

ص: 98


1- الصحاح للجوهري ج3 ص1240.
2- الصافات 83.
3- القصص 15.

هل إنَّ التشيع ظاهرة متأصلة في الإسلام أو طارئة عليه؟

هناك عدة أقوال في هذه المسألة، نستعرضها لنعرف الحق منها:

الأول: إنَّ التشيع ولد في الفترة التي أعقبت وفاة الرسول الأكرم (صلّی الله علیه و آله)، حيث تخلَّف مجموعةٌ من المهاجرين والأنصار عن بيعة أبي بكر، أي كان التشيع ردة فعلٍ. وممن يذهب إلى هذا الرأي اليعقوبي، حيث قال: «وتخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار، ومالوا مع علي بن أبي طالب، منهم: العباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، والزبير بن العوام بن العاص، وخالد بن سعيد، والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب، وأبي بن كعب...»(1)

وأحمد أمين المصري إذ يقول: «وكانت البذرة الأولى للشيعة الجماعة الذين رأوا بعد وفاة النبي (صلّی الله علیه و آله) أن أهل بيته أولى الناس أن يخلفوه».(2)

الثاني: إنَّ التشيّع بدأ أيام خلافة أمير المؤمنين (علیه السّلام)، فبعد أنْ رجعت الخلافة الظاهرية لأمير المؤمنين (علیه السّلام) سنحت لمحبيه وأتباعه فرصةً ليُبرزوا حبهم وولاءهم له، خصوصًا عندما انشق طلحة والزبير عليه (علیه السّلام)، ومنذ حرب الجمل أطلِق على من قاتلوا مع أمير المؤمنين (علیه السّلام) اسم (الشيعة).

ويذهب إلى هذا الرأي بن إسحاق حيث قال ابن النديم: «قال محمد بن إسحاق. لما خالف طلحة والزبير على علي (علیه السّلام). وأبيا الا الطلب بدم عثمان بن عفان، وقصدهما علي (علیه السّلام) ليقاتلهما حتى يفيئا إلى أمر الله جل اسمه، تسمى من اتبعه على ذلك، الشيعة. فكان يقول شيعتي، وسماهم (علیه السّلام)».(3)

ص: 99


1- تاريخ اليعقوبي ج2 ص124.
2- أحمد أمين فجر الإسلام ص 266 ط بيروت.
3- فهرست ابن النديم- ابن النديم البغدادي ص223.

وذهب البعض إلى نشأة التشيع بعد حرب صفين لا الجمل، ومنهم عبد العزيز الدهلوي حيث قال: «ظهر لقب الشيعة في سنة 37 هجرية وفي هذه السنة حصلت واقعة صفين».(1)

وعلى كلا القولين فإنّ التشيع إنما نشأ كردة فعل.

الثالث: إنَّ التشيُّع ظهر نتيجة لما أفرزته واقعة كربلاء من تطورات على الساحة السياسية في الإسلام، وذهب إلى هذا الرأي الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه التصوف والتشيع، حيث قال: «على أننا نرى أن التشيع السياسي، وإن كان ظهر في الفترة التي افترضها الباحثون السابقون، إلا أن دلالة الاصطلاح (شيعة) على الكتلة التي ندرسها من المسلمين وانصرافه إليهم دون غيرهم، قد بدأ بحركة التوابين التي ظهرت سنة 61 ه-، وانتهت بالفشل سنة 64 ه-، وكان قائد الحركة يلقب بشيخ الشيعة».(2)

وكذلك برو كلمان في تاريخ الشعوب الإسلامية، حيث يعتبر أن نشأة التشيع كردة فعلٍ بعد واقعة عاشوراء، فقال: «والحق أن ميتة الشهداء التي ماتها الحسين والتي لم يكن لها أي أثر سياسي، قد عجلت في التطور الديني للشيعة حزب علي، الذي أصبح في ما بعد ملتقى جميع النزعات المناوئة للعرب»(3)

ص: 100


1- الترمانيني: أحداث التأريخ الإسلامي ج1 ص360/ ط. دمشق- نقله عنه: آية الله العلامة السيد عبد الله الغريفي- التشيع نشوؤه، مراحله، مقوماته ص20 / ط التاسعة 1429ه-/2008م/ دار الإسلام.
2- الشيبي: الصلة بين التصوف والتشيع ج1 ص22/ط. بيروت- نقله عنه: آية الله العلامة السيد عبد الله الغريفي- التشيع نشوؤه، مراحله، مقوماته ص21 / ط التاسعة 1429ه-/2008م/ دار الإسلام.
3- بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية ص128/ط. بيروت- نقله عنه: آية الله العلامة السيد عبد الله الغريفي- التشيع نشوؤه، مراحله، مقوماته ص21 / ط التاسعة 1429ه-/2008م/ دار الإسلام.

الرابع: إنَّ التشيع أنّما ولد في زمن الإمام الصادق (علیه السّلام)، حيث ظهرت مقولة النص على خلافة النبي (صلّی الله علیه و آله) التي كان يروّج لها هشام بن الحكم. وممن يقول بهذا الرأي الدكتور محمد عمارة حيث يقول: «تأريخ نشأة الشيعة مقترن بالفترة الزمنية التي نشأت فيها عقيدة النص ودعوى الوصية من الرسول (صلّی الله علیه و آله) إلى علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، ومن هنا كان صواب ما ذهب إليه المعتزلة عندما قالوا: إن فترة إمامة جعفر الصادق (علیه السّلام) وهي التي نهض فيها هشام بن الحكم بدور واضع قواعد التشيع ومهندس بنائه الفكري، هي الفترة التي يؤرخ بها لهذه النشأة...»(1).

من الملاحظ أنَّ كلَّ هذه الآراء تجتمع في نقطةٍ هي: أنَّ التشيع حالةٌ طارئة على الإسلام، أيّ لم تكُ معروفةً في زمن الرسول (صلّی الله علیه و آله) وإنّما نشأ بعد وفاته سواء مباشرةً أو بعد ثلاثين سنة في حكم أمير المؤمنين أو بعد واقعة عاشوراء أو في زمن الإمام الصادق (علیه السّلام).

والصحيح أنَّ التشيع ليس معنى آخر غير الإسلام، فالإسلام هو التشيع والتشيع هو الإسلام، فليس هناك اثنينية، ومن يرى الاثنينية هو من يعتقد أنَّ التشيع طارئٌ على الإسلام. أما نحن ففي اعتقادنا أنَّ التشيع ولد منذ اللحظة الأولى التي ولد فيها الإسلام، فهو نفس الإسلام، ويدلُّ على هذه الحقيقة عدة أمور، وسنكتفي بذكر اثنين منها:

الأول: آية التبليغ:

قال(عزّ و جلّ): ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ

ص: 101


1- محمد عمارة: الإسلام وفلسفة الحكم ص158/ط. بيروت- نقله عنه: آية الله العلامة السيد عبد الله الغريفي- التشيع نشوؤه، مراحله، مقوماته ص22 / ط التاسعة 1429ه-/2008م/ دار الإسلام.

وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾(1)

ومعلومٌ سبب نزول هذه الآية، حيثُ توقف الرسول (صلّی الله علیه و آله) في غدير خم آمرًا جميع الحجيج بالاجتماع هناك، بعودة من تقدم منهم ولحوق من تأخر منهم، وما إن اجتمعوا جميعًا حتى عُمِل له منبر فرقاه خاطبًا فيهم خطبة التبليغ التي تضمنت تبليغ المسلمين بمن يخلفه بعده قائلًا: «من كنتُ مولاه فهذا عليٌ مولاه»، فنزلت الآية الكريمة في قوله(عزّ و جلّ): ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً﴾(2).

فالإسلام الذي ارتُضيَ هو الإسلام المكتمل ببيعة أمير المؤمنين (علیه السّلام)، فيكون اتباعه (علیه السّلام) هو اتباعٌ للإسلام، مما يعني أنَّ التشيع ولد مع الإسلام، فلا إسلام بلا تشيع ولا تشيع بلا إسلام. وأما الإسلام الذي يخلو من ولايته (علیه السّلام) فهو إسلامٌ ناقص، ليس بمرضي من قبله(سبحانه و تعالی).

الثاني: الأحاديث الكثيرة:

صرّح النبي الأكرم (صلّی الله علیه و آله) بأنّ هناك شيعةً للإمام علي (علیه السّلام) في العديد من أحاديثه المباركة، وتناول ذكرهم فيها بالمديح والثناء، مما يدلُّ على وجود شيعة الإمام علي (علیه السّلام) في زمن النبي (صلّی الله علیه و آله)، كما يدلُّ على أنّهم مرضيون أيضًا.

روي عن جابر بن عبد الله، قال: كنا عند النبي (صلّی الله علیه و آله) فأقبل علي بن أبي طالب (علیه السّلام) فقال النبي (صلّی الله علیه و آله): «قد أتاكم أخي، ثم التفت إلى الكعبة فضربها بيده، ثم قال: والذي نفسي بيده، إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة، ثم قال: إنه أولكم إيمانا معي، وأوفاكم بعهد الله، وأقومكم بأمر الله، وأعدلكم في الرعية، وأقسمكم بالسوية، وأعظمكم عند الله

ص: 102


1- (67) من سورة المائدة.
2- المائدة: 3

مزية، قال: فنزلت ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾(1)»قال:

وكان أصحاب محمد رسول الله (صلّی الله علیه و آله) إذا أقبل علي (علیه السّلام) قالوا: قد جاء خير البرية.(2)

فالنبي (صلّی الله علیه و آله) عبّر «إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة» مادحًا إيّاهم، مما يعني وجودهم في زمنه (صلّی الله علیه و آله).

وفي حديثٍ آخر ينقله ابن حجر عن ابن عباس أيضًا في نزول هذه الآية: أخرج الحافظ جمال الدين الزرندي عن ابن عباس(رضي الله عنه) أن هذه الآية لما نزلت قال النبي لعلي: «هو أنت وشيعتك تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ويأتي عدوك غضابا مقمحين». قال: «ومن عدوي؟» قال: «من تبرأ منك ولعنك».(3)

النقطة الثالثة: المراحل التي مر بها التشيع، أو السير التاريخي للتشيع.
المرحلة الأولى: في زمن النبي الأكرم (صلّی الله علیه و آله).

وسنختصر خطوطًا عامة لسير التشيع من زمن النبي الأكرم (صلّی الله علیه و آله) إلى الغيبة الكبرى.

إنَّ البذرة الأولى للتشيع ولدت مع الإسلام، ولكن رغم هذا نجد أنَّ التشيع مرَّ بمراحل عديدة نذكرها على نحو الإجمال:

حيث أسس النبي (صلّی الله علیه و آله) للمذهب الحق عبر التصريح في عدةِ مناسباتٍ وبعدةِ أساليب، ومنها بالإخبار بوقوع الاختلاف بعده (صلّی الله علیه و آله) وأنَّ المنجى من هذا الاختلاف يكمن في مذهبٍ واحدٍ لا غير، وأنَّ ذلك المذهب هو مذهب العترة الطاهرة كما تُصرِّح به الكثير من الأحاديث مثل حديث السفينة والثقلين والنجوم وغيرها.

ص: 103


1- البينة 7.
2- أمالي الشيخ الطوسي ص 251 و 252 ح 448 / 40.
3- الصواعق المحرقة لأحمد بن حجر الهيثمي المكي ص161.

وقد تقدم الكلام تفصيلًا حول دلالات هذه الأحاديث، وفي هذه المرحلة أيضًا بدأ المذهب يبرز في بعض الصحابة كما في أبي ذر وسلمان وعمار والمقداد وغيرهم.

المرحلة الثانية: في زمن الخلفاء.

وفي هذه المرحلة التزم الشيعة بأوامر أمير المؤمنين (علیه السّلام) في خدمة الدين وبيان الحقِّ بالإضافة إلى قيام بعض الشيعة بالدفاع عن ولاية أمير المؤمنين (علیه السّلام) وعن الحق عمومًا كمواقف أبي ذر وسلمان وعمار.

والشيعة في هذه المرحلة كانوا يعملون وفق ما أسسه أمير المؤمنين (علیه السّلام) من تقديم مصلحةِ الإسلام العامة على المصلحة الخاصة، وهو ما عبر عنه أمير المؤمنين (علیه السّلام) من خطبة له (علیه السّلام) لما عزموا على بيعة عثمان: «لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي، ووَ الله لأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ، ولَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً، الْتِمَاساً لأَجْرِ ذَلِكَ وفَضْلِه، وزُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوه مِنْ زُخْرُفِه وزِبْرِجِه».(1)

وبهذا المعنى يمكن أنْ نجد التبرير المناسب لما كان يفعله أمير المؤمنين (علیه السّلام) من تقديم النصيحة للخلفاء أو إجابته عن أسئلتهم أو حل المعضلات التي كانت تواجههم، فقد كان كل ذلك نابعًا من حرصه على مصلحة الإسلام العامة، فهي مرحلة تمشية الأمور العامة للمسلمين وإنْ كان فيها جورٌ خاصٌ على الشيعة فضلًا عن إمامهم (علیه السّلام).

المرحلة الثالثة: زمن الخلافة الظاهرية لأمير المؤمنين (علیه السّلام).

وفي هذه المرحلة من الواضح جدًا أنَّ المؤمنين قد جهروا بحبهم لأمير المؤمنين (علیه السّلام) وجاهدوا وقاتلوا بين يديه في صفين والجمل ونهروان، وهذه المرحلة كانت قصيرة نسبيًا؛ إذ لم تتجاوز الأربع سنوات.

ص: 104


1- نهج البلاغة ج1 ص124.
المرحلة الرابعة: في زمن الإمام الحسن (علیه السّلام).

حيث الظروف الموضوعية القاسية التي أحاطت بالإمام الحسن (علیه السّلام)، من خذلان الجيش له، وكثرة الخيانات، وتكتل الجبهة الأموية بقيادة معاوية ضده، وفقدان الأنصار وندرتهم إلا الثلة القليلة؛ لذلك آثر الإمام الحسن (علیه السّلام) أنْ يحافظ على تلك الثلة القليلة للمؤمنين ولا يعرضهم للقتل، الأمر الذي عبّر عنه الإمام الباقر (علیه السّلام): بأنَّ الذي فعله الإمام الحسن (علیه السّلام) لهذه الأمة أفضل لها مما طلعت عليه شمس.

حيث روي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السّلام) أنه قَالَ: «والله، لَلَّذِي صَنَعَه الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ3 كَانَ خَيْراً لِهَذِه الأُمَّةِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْه الشَّمْسُ، والله لَقَدْ نَزَلَتْ هَذِه الآيَةُ: ﴿ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ﴾(1)إِنَّمَا هِيَ طَاعَةُ الإِمَامِ، وطَلَبُوا الْقِتَالَ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ مَعَ الْحُسَيْنِ (علیه السّلام): ﴿قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ ﴿نُجِبْ دَعْوَتَكَ ونَتَّبِعِ الرُّسُلَ﴾(2) أَرَادُوا تَأْخِيرَ ذَلِكَ إِلَى الْقَائِمِ (علیه السّلام)».(3)

المرحلة الخامسة: في زمن الإمام الحسين (علیه السّلام).

حيث أفرزت كربلاء ثلةً من الأصحاب لم ولن يأتي شبيهٌ لهم؛ لقول الإمام الحسين (علیه السّلام) في حقهم: «فإني لا أعلم أصحابا ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أصحابي وأهل بيتي»(4)

فقد قاموا تلبيةً لأمر الإمام الحسين (علیه السّلام) وناهضوا بني أمية عقائديًا وعسكريًا؛

ص: 105


1- النساء 77.
2- مأخوذ من الآية السبعة والسبعين في سورة النساء والآية الأربعة والأربعين في سورة إبراهيم.
3- الكافي للكليني ج8 ص330 ح506.
4- روضة الواعظين للفتال النيسابوري ص183.

ليُثبتوا الكثير من الركائز التي أسست لجماعة الشيعة فيما بعد.

المرحلة السادسة: في إمامة الإمام السجاد (علیه السّلام).

وفي هذه المرحلة انقسم الشيعة إلى قسمين:

الأول: من كان يعمل سرًا حسب مقتضيات المرحلة من قضاء الحوائج للمؤمنين وتسهيل أمورهم وغيرها، وكان الإمام زين العابدين (علیه السّلام) قد عمل على فتح الأبواب لذلك عبر الظواهر الأربعة المشهورة في حياته كما تقدم وهي (البكاء والدعاء والإنفاق والإعتاق). فمن خلال هذه الطرق الأربعة كان الإمام (علیه السّلام) يوصل الرسائل العقائدية والفكرية وغيرها إلى من يريد أنْ يوصل كلامه إليه.

الثاني: من كان يعمل جهارًا مثل عبد الله بن حنظلة، الذي سُميّ أبوه حنظلة ب(غسيل الملائكة)؛ لحادثةٍ معروفة في زمن الرسول الأكرم (صلّی الله علیه و آله).(1)

وكان عبد الله بن

ص: 106


1- روي أنه كان حنظلة بن أبي عامر رجل من الخزرج، قد تزوج في تلك الليلة التي كان في صبيحتها حرب أحد، بنت عبد الله بن أبي سلول ودخل بها في تلك الليلة، واستأذن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) ان يقيم عندها فأنزل الله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلىٰ أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور 62] فأذن له رسول الله (صلّی الله علیه و آله)، فهذه الآية في سورة النور واخبار أحد في سورة آل عمران فهذا دليل على أن التأليف على خلاف ما أنزله الله، فدخل حنظلة باهله وواقع عليها فأصبح وخرج وهو جنب، فحضر القتال فبعث امرأته إلى أربعة نفر من الأنصار لما أراد حنظلة ان يخرج من عندها وأشهدت عليه انه قد واقعها فقيل لها لم فعلت ذلك؟ قالت رأيت في هذه الليلة في نومي كأن السماء قد انفرجت فوقع فيها حنظلة ثم انظمت، فعلمت انها الشهادة فكرهت ان لا اشهد عليه، فحملت منه. فلما حضر القتال نظر حنظلة إلى أبي سفيان على فرس يجول بين العسكرين فحمل عليه فضرب عرقوب فرسه فاكتسعت الفرص وسقط أبو سفيان إلى الأرض وصاح يا معشر قريش أنا أبو سفيان وهذا حنظلة يريد قتلي وعدا أبو سفيان ومر حنظلة في طلبه فعرض له رجل من المشركين فطعنه فمشى إلى المشرك في طعنه فضربه فقتله، وسقط حنظلة إلى الأرض بين حمزة وعمرو بن الجموح وعبد الله بن حزام وجماعة من الأنصار، فقال رسول الله (صلّی الله علیه و آله) رأيت الملائكة يغسلون حنظلة بين السماء والأرض بماء المزن في صحائف من ذهب، فكان يسمى غسيل الملائكة. [تفسير القمي ج1 ص118]

حنظلة بعد واقعة عاشوراء قد ذهب إلى يزيد في قصره، فرآه كيف يلاعب القردة ويشرب الخمر فأنكر ذلك وأعلن التمرد على ملك يزيد، حيث روي: لما وثب أهل المدينة ليالي الحرة فأخرجوا بني أمية عن المدينة وأظهروا عيب يزيد بن معاوية وخلافه أجمعوا على عبد الله بن حنظلة فأسندوا أمرهم إليه فبايعهم على الموت وقال يا قوم اتقوا الله وحده لا شريك له فوالله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمي بالحجارة من السماء، إن رجلا ينكح الأمهات والبنات والأخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت لله فيه بلاء حسناً. فتواثب الناس يومئذ يبايعون من كل النواحي، وما كان لعبد الله بن حنظلة تلك الليالي مبيت إلا المسجد.(1)

فوقعت على إثر ذلك وقعة الحرة التي قُتِل فيها خيرةُ الشيعة ومنهم ابن حنظلة وثمانية من أولاده، كما قُتِل من وجوه قريش حوالي 700 رجلًا! وكانت وقعةً عجيبةً غريبةً ومن أسوأ ما مرَّ على المسلمين في ذلك الوقت.

وكذلك ثورة يزيد بن علي الذي قام بالثورة ضد الغاصبين لحقِّ أهل البيت (علیهم السّلام).

المرحلة السابعة: في إمامة الإمامين الباقرين(علیهما السّلام).

وفي هذه المرحلة عمل الإمامان الباقران(علیهما السّلام) على طرح أفكارٍ ومفاهيمَ وتصوراتٍ لبناء الجماعة الصالحة، وبناء التشيع بناءً فكريًا وعقائديًا وسلوكيًا رصينًا؛ لذلك نجد أنَّ المذهب اليوم يُسمى ب(المذهب الجعفري)، ليس لأنه تأسس في زمن الإمام الصادق (علیه السّلام)، وإنّما لأنّ الإمام الصادق والباقر(علیهما السّلام) قد بيّنا الركائز الأساسية للتشيع، وكأنما صرحوا بتلك الركائز التي كانت مغمورة قبلهم من جهةٍ، ولتأكيدهما3 على

ص: 107


1- الطبقات الكبرى لابن سعد ج5 ص66.

ضرورة التواصل والانفتاح والحضور الدائم في داخل الأمة من جهةٍ أخرى. حتى أنهما كانا يأمران شيعتهما بالصلاة على جنائز سائر المسلمين، والحضور في جماعتهم، بل وتولّي الأذان في مساجدهم؛ ليروا من الشيعة الورع والعمل.

حيث روىٰ زيد الشحّام عن الإمام جعفر بن محمّد (علیهما السّلام) أنَّه قال: «يا زيد، خالقوا الناس بأخلاقهم، صلُّوا في مساجدهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، وإن استطعتم أن تكونوا الأئمَّة والمؤذِّنين فافعلوا، فإنَّكم إذا فعلتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، رحم الله جعفراً، ما كان أحسن ما يُؤدِّب أصحابه، وإذا تركتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، فعل الله بجعفر، ما كان أسوء ما يُؤدِّب أصحابه»(1).

ففي الوقت الذي بيّن الإمامان الباقران (علیهما السّلام) ركائز التشيع وأدلته، أمروا شيعتهم بعدم الانعزال عن المجتمع بالتقوقع حول الذات، بل بالدخول في أحشاء المجتمع، وأنْ يمارسوا حياتهم الاجتماعية بصورةٍ لا تنقطع عن التواصل مع الآخر حتى لو كان الآخر على ضلال.

لذلك روي عن ابن مسكان، قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السّلام): «إنّي لأحسبك إذا شُتِمَ عليٌّ بين يديك لو تستطيع أن تأكل أنف شاتمه لفعلت»، فقلت: إي والله جُعلت فداك، إنّي لهكذا وأهل بيتي، فقال لي: «فلا تفعل، فوَالله لربَّما سمعتُ من يشتم عليّاً وما بيني وبينه إلَّا أُسطوانة فأستتر بها، فإذا فرغت من صلاتي فأمر به فأُسلِّم عليه وأُصافحه»(2).

وقد كان هذا في وقتٍ كانت فيه التقية مكثفةً والضغط السياسي مشددًا على الإمام (علیه السّلام)، ولكن في نفس الوقت فإنَّ الإمام (علیه السّلام) يريد من الشيعة أن يتواصلوا مع الآخر...

ص: 108


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 1/ ص 383/ ح 1128).
2- المحاسن 1: 259 و260/ ح 313.

وقد خلّف انفتاح الشيعة على سائر المسلمين فوائد كثيرة، منها: انغلاق باب التهمة الذي كان سيبقى مفتوحًا لو التزم الشيعة بالتقوقع، ومن تلك التهم: اتهام الشيعة بقول: (خان الأمين) بعد صلاتهم، ومنها اتهامهم بوجود الاختلاط المحرم في زياراتهم للمراقد المقدسة، وغيرها من التهم التي مكَّن الانفتاح على سائر المسلمين اطلاعهم على كذب وزور تلك التهم والدعاوى الباطلة التي ما فتئ أعداء الشيعة يلصقونها بهم، لما رأوا عن كثب أنَّ أعمال الشيعة لا تخرج عن المبادئ الأساسية للإسلام.

أضف إلى ذلك فإنّ تغلغل الشيعة مع الآخر ربما يكون سببًا في اهتداء واستبصار الآخر، وهي فائدة مرجوة ويقصدها أهل البيت (علیهم السّلام).

المرحلة الثامنة: في حياة الإمام الكاظم (علیه السّلام).

حيث قضى الكثير من سنوات إمامته في السجن، ولكي يضمن تواصله مع شيعته ولئلا تتوقف الأمور الإدارية والاقتصادية والحسبية عمومًا وما تتوقف عليه حياة الناس والمجتمع، قام الإمام الكاظم (علیه السّلام) بتفعيل مبدأ الوكالة بصورةٍ واسعة جدًا، فأقام (علیه السّلام) وكلاء عنه يقومون باستلام الحقوق الشرعية وإيصالها إلى مستحقيها، بالإضافة إلى قيامهم بحلِّ النزاعات والإجابة عن الأسئلة وما شابه ذلك من أمور.

والظاهر أنَّ مبدأ الوكالة كان موجودًا منذ زمن الإمامين الباقرين (علیهما السّلام)، فقد كانوا يُشيرون إلى بعض أصحابهم عندما يُسألون من أين نأخذ ديننا؟ وقد تقدم الكلام في ذلك. بل وحتى في زمن أمير المؤمنين (علیه السّلام) بل وزمن الرسول (صلّی الله علیه و آله) إذ كان يرسل الولاة إلى المدن، بيدَ أنَّ هذا المبدأ في زمن الإمام الكاظم (علیه السّلام) تفعّل بشكلٍ أكثر؛ بسبب الظرف الموضوعي الذي عاشه الإمام (علیه السّلام).

وقد كان للإمام الكاظم (علیه السّلام) العديد من الوكلاء، ولكن –وللأسف- انقلب

ص: 109

البعض منهم على أعقابه بعد استشهاد الإمام الكاظم (علیه السّلام)؛ طمعًا فيما وقع تحت أيديهم من أموالٍ وحقوقٍ شرعية، وابتلاءً من الله(عزّ و جلّ) لتمحيص الشيعة وامتحانهم. فقد ادعوا أنَّ الإمام الكاظم (علیه السّلام) لم يمت بل غاب، وأنّه هو الإمام المهدي! وبذا أنكروا إمامة الإمام الرضا (علیه السّلام)، فأطلِق عليهم اسم (الواقفية)؛ لوقفوهم على إمامة الإمام الكاظم (علیه السّلام).

ومن أشهر الواقفية: علي بن حمزة البطائني، الذي كان محل ثقة الإمام (علیه السّلام) ووكيلًا له، لكنه خان الأمانة بعد وفاة الإمام الكاظم (علیه السّلام)، وقد وقع بسبب خيانته للإمام خلافٌ في رواياته بين علماء الرجال، فمنهم من يرفض رواياته تمامًا، ومنهم من يقبلها تمامًا، ومنهم من يفصل، فيأخذ بما روي عنه قبل انحرافه، أي قبل وفاة الإمام الكاظم (علیه السّلام)، ويرد ما سواها من روايات.

وهكذا استمر التشيع من مرحلةٍ إلى أخرى يتعايش مع الظرف الموضوعي الذي يفرض نفسه بقوة السلطة وبالقبضة الحديدية عليه، وبالتالي استمر التشيع من زمن النبي (صلّی الله علیه و آله) وأخذ أدوارًا ومراحل عديدة،ولم ينقطع هذا المدد من إمامٍ إلى إمامٍ حسب الظرف الموضوعي المُعاش حتى وصل إلى زمن الإمامين العسكريين (علیهما السّلام)، حيث أخذ الإمامان (علیهما السّلام) على عاتقهما التمهيد لغيبة الإمام الحجة (عجّل الله تعالی فرجه )؛ وذلك بتعويد الناس على عدم اللقاء المباشر بهما، وأخذا بالابتعاد شيئًا فشيئًا عن اللقاء المباشر بهم بغيباتٍ متقطعة وبفترات قصيرة.

أضف إلى ذلك أنّهم كانوا يدفعون بالناس إلى مراجعة من ينصبونه لهم وكيلًا عنهما، فعن أحمد بن إسحاق، قال: سألت أبا الحسن (علیه السّلام) وقلت: من أعامل، أو عمَّن آخذ، وقول من أقبل؟ فقال له: «العمري ثقتي، فما أدّىٰ إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطع، فإنَّه الثقة المأمون»(1).

ص: 110


1- الكافي للكليني 1: 329 و330/ باب في تسمية من رآه (علیه السّلام)/ ح 1.

وهكذا عوّد الإمام الهادي (علیه السّلام) الذهنية الشيعية على أخذ الحكم الشرعي لا من الإمام مباشرة بل بواسطةٍ منه، أي ممن ينصبه الإمام (علیه السّلام) رغم أنَّ الإمام موجودٌ وظاهرٌ.

وقد سار الإمام العسكري (علیه السّلام) على نهج أبيه (علیه السّلام)، فعن أحمد بن إسحاق أنَّه سأل أبا محمّد (علیه السّلام) عن مثل ذلك(1)،

فقال له: «العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنَّهما الثقتان المأمونان...»(2).

وهما السفيران الأول والثاني للإمام المهدي (علیه السّلام)، فجعل قولهما حجة، وبذلك بدأت الذهنية الشيعية تدريجيًا تألف أخذ الحكم الشرعي ممن يُنصبه الإمام (علیه السّلام) أكثر من ذي قبل، أي إنه رغم تعود الشيعة الأخذ عن ثقات المعصومين (علیهم السّلام)، إلا أن الفكرة ترسخت أكثر في زمن الإمامين الهاديين(علیهما السّلام).

وعندما وصلت الإمامة إلى الإمام المهدي (عجّل الله تعالی فرجه ) كانت الذهنية الشيعية قد تعوّدت غياب الإمام وأخذ الأحكام الشرعية عن طريق الوكلاء، فغاب الإمام (علیه السّلام)، ونقل مُهمة بيان الأحكام الشرعية إلى السفراء أو النواب الخاصين بتأسيسٍ منه ومن قبله الإمامان العسكريان (علیهما السّلام).

إلا أنَّه بعد انتهاء الغيبة الصغرى بوفاة السفير الرابع انتهت فترة السفارة الخاصة للإمام (عجّل الله تعالی فرجه )، ووقعت الغيبة الكبرى، والتي كان من أبرز سماتها أنَّ الوكلاء هذه المرة لا يُعيَّنون بشخصهم من قبل الإمام، وإنما يُعينون بصفاتهم التي وردت في بعض الروايات، من قبيل ما روي عن الإمام الحسن العسكري (علیه السّلام): «فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه...»(3)

ص: 111


1- أي ما ورد في الرواية السابقة.
2- الكافي للكليني 1: 329 و330/ باب في تسمية من رآه (علیه السّلام)/ ح 1.
3- الاحتجاج للشيخ الطبرسي ج2 ص263.

وما ورد عن الإمام المهدي (عجّل الله تعالی فرجه ): «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله عليهم».(1)

وهكذا أخذ التشيع منحىً جديدًا، يغيب فيه الإمام المعصوم (علیه السّلام) عن شيعته، ولكن تبقى تربطهم به واسطةٌ، تارةً بشكلٍ مباشر كما في السفراء الأربعة، وتارةً أخرى بشكلٍ غير مباشر، عن طريق ما يعبر عنه اليوم بالمجتهد الجامع لشرائط التقليد، فإنْ كان بهذا المستوى من العلم فيمكن لغير المجتهد أنْ يأخذ الأحكام الشرعية منه.

ولا يخفى على الشيعي والمطلع على أحوال الشيعة، الدور البارز في المرحلة الأخيرة للعلماء والمجتهدين.

النقطة الرابعة: منزلة ولاية أهل البيت (علیهم السّلام) في الإسلام.

إذا رجعنا إلى الأدلة الإسلامية من آياتٍ ورواياتٍ، نجد أنْ لا شيء في الإسلام أهم من ولايةِ أهل البيت (علیهم السّلام)، فمتى ما آمنت بالله(عزّ و جلّ) وآمنت برسوله الأكرم (صلّی الله علیه و آله) فلا أهم حينئذٍ من ولاية أهل البيت (علیهم السّلام)، وهذا له عدة مؤشرات:

الأول: إن الولاية وحسب الروايات الشريفة هي الأمانة التي عرضها الله(عزّ و جلّ) على الموجودات وتحمّلها الإنسان في قوله(عزّ و جلّ): ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَىٰ السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾(2).

تكشف هذه الآية أنَّ هذه الأمانة من العظمة بمكان بحيث لم يتحملها إلا الموجود العاقل وهو الإنسان، وأما الجبال والسماوات والأرض -على كبر حجم جثتها إنْ صحَّ التعبير- فإنها لم تتحمل حمل هذه الأمانة.

ص: 112


1- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ج2، ص440، ب45، ح4.
2- الأحزاب: 72

وقد فسرت الروايات الشريفة هذه الأمانة بأنها إمامة وولاية أهل البيت (علیهم السّلام).

فعن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنَّه قال في قوله تعالىٰ: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَىٰ السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً 72﴾: «هي ولاية عليِّ بن أبي طالب (علیه السّلام)»(1).

وعن الحسين بن خالد، قال: سألت أبا الحسن عليَّ بن موسىٰ الرضا (علیه السّلام) عن قول الله(عزّ و جلّ): ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَىٰ السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها﴾، فقال: «الأمانة: الولاية، من ادَّعاها بغير حقٍّ فقد كفر»(2).

وهذا يكشف عن عظيم منزلة الولاية في الإسلام بل عند الله(عزّ و جلّ)؛ فهي أمانةٌ من الله(عزّ و جلّ) عند الإنسان، فإذا لم يؤدِ حقها كان ظلومًا جهولًا.

الثاني: بولاية اهل البيت (علیهم السّلام) تمَّ الإسلام وارتضاه الله(عزّ و جلّ) لنا دينًا، وهو ما صرحت به آية إكمال الدين وإتمام النعمة التي نزلت في واقعة الغدير، حيث كان جهاد وعناء ونصب النبي (صلّی الله علیه و آله) طيلة ثلاث وعشرين سنة، منها ثلاث عشرة سنة في مكة وفيها قال (صلّی الله علیه و آله): «ما أُوذي نبيٌّ مثل ما أُوذيت»(3)،

وعشر سنين في المدينة وما تضمنتها من حروبٍ وقتالٍ وأكثر من 80 غزوة ومعركة قادها الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله)، وفي حجة الوداع وقبل التحاق الرسول (صلّی الله علیه و آله) إلى الرفيق الأعلى بأيامٍ قلائل لا تتجاوز ثمانين يومًا ينزل عليه الوحي: ﴿يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ﴾(4).

ص: 113


1- بصائر الدرجات للصفّار (ص 96).
2- عيون أخبار الرضا (علیه السّلام) للشيخ الصدوق (ج 2/ ص 273 و274).
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 3: 42.
4- المائدة: 67.

وكأن كلَّ ذلك الجهاد والعناء الذي تقدّم لا يكتمل إلا بتبليغ هذا الأمر، وإلا كان هباءً منثورًا، فيمتثل النبي (صلّی الله علیه و آله) الأمر الإلهي، «حيث أوقف النبيُّ (صلّی الله علیه و آله) مائة ألف من المسلمين أو أكثر حجّوا معه حجَّة الوداع وعادوا معه، فلمَّا بلغوا غدير خُمٍّ حيث مفترق طرقهم إلىٰ مواطنهم، نادىٰ مناديه أن يرد المتقدِّم، وينتظر المتأخّر حتَّىٰ يلحق، ثمّ قام فيهم خطيباً وهو آخذ بيد علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، فقال: «ألست أولىٰ بالمؤمنين من أنفسهم؟»، قالوا: بلىٰ، قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه»(1)».

ويأمر المسلمين بمبايعته (عليه أزكى الصلاة والسلام) فيبايعونه، وكان ممَّن أطنب في تهنئته بالمقام عمر بن الخطّاب، فأظهر له المسرَّة به وقال فيما قال: «بخ بخ يا علي، أصبحت مولاي ومولىٰ كلّ مؤمن ومؤمنة»(2).

وبعد أن بلَّغ النبيُّ الأكرم (صلّی الله علیه و آله) رسالة ربِّه هذه، نزل عليه الخطاب الإلهي صادحاً: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً﴾(3).

فبولاية أمير المؤمنين (علیه السّلام) تمَّ الإسلام ورضيَه الله(عزّ و جلّ) لنا دينًا.

الثالث: إنَّ الولاية هي حصن الله الآمن، وهي شرط التوحيد الذي ينجي من أهوال يوم القيامة، في حديث السلسلة الذهبية للإمام الرضا (علیه السّلام)، حيث روي عن إسحاق بن راهويه، قال: لما وافى أبو الحسن الرضا (علیه السّلام) نيسابور، وأراد أن يرحل منها إلى المأمون، اجتمع إليه أصحاب الحديث، فقالوا له: يا بن رسول الله، ترحل عنا ولا تحدثنا بحديث فنستفيده منك، وقد كان قعد في العمارية فأطلع رأسه، وقال: «سمعت

ص: 114


1- دلائل الإمامة: 18/ تقديم الناشر؛ وراجع: كمال الدين: 238/ باب 22/ ح 55.
2- الإرشاد 1: 176 و177.
3- المائدة: 3.

أبي موسى بن جعفر يقول: سمعت أبي جعفر بن محمد يقول: سمعت أبي محمد بن علي يقول: سمعت أبي علي بن الحسين يقول: سمعت أبي الحسين بن علي يقول: سمعت أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیهم السّلام) يقول: سمعت رسول الله (صلّی الله علیه و آله) يقول: سمعت جبرئيل (علیه السّلام) يقول: سمعت الله(عزّ و جلّ) يقول: لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمن عذابي. فلما مرت الراحلة نادانا: بشروطها، وأنا من شروطها».(1)

وللمزيد من الإيضاح نذكر التالي:

1. إنَّ الروايات تُصرح بأنَّ التوحيد يقودُ إلى الجنة لا محالة، فقد روي عن النبي الأعظم (صلّی الله علیه و آله): «والذي بعثني بالحق بشيرا، لا يعذب الله بالنار موحدا أبدا، وإن أهل التوحيد ليشفعون فيشفعون...»(2)

2. هذا التوحيد الذي يقود إلى الجنة مشروطٌ بأمرٍ خاص، وهو الإخلاص، فعنه (صلّی الله علیه و آله): «إن (لا إله إلا الله) كلمة عظيمة كريمة على الله(عزّ و جلّ)، من قالها مخلصًا استوجب الجنة، ومن قالها كاذبًا عصمت ماله ودمه، وكان مصيره إلى النار».(3)

3. حقيقة الإخلاص الذي هو شرط التوحيد ويؤدي إلى الجنة هو تولي أهل البيت (علیهم السّلام)، فعن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: جاء أعرابي إلى النبي (صلّی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله، هل للجنة من ثمن؟ قال: «نعم». قال: ما ثمنها؟ قال: «(لا إله إلا الله) يقولها العبد الصالح مخلصا بها». قال: وما إخلاصها؟ قال: «العمل بما بعثت به في حقه، وحب أهل بيتي». قال: وحب أهل بيتك لمن حقها؟ قال: «أجل، إن

ص: 115


1- الأمالي للشيخ الصدوق ص 305 و306 ح 349 / 8.
2- أمالي الشيخ الصدوق ص372 ح 469 / 10.
3- التوحيد للشيخ الصدوق ص23 ح18.

حبهم لأعظم حقها».(1)

وفي صحيحة أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من شهد أن لا إله إلا الله فليدخل الجنة. قال: قلت: فعلى مَ تخاصم الناس إذا كان من شهد أنْ لا إله إلا الله دخل الجنة؟! فقال: إنه إذا كان يوم القيامة نسوها».(2)

وفي صحيحته الثانية عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: «يَا أَبَانُ، إِذَا قَدِمْتَ الْكُوفَةَ فَارْوِ هَذَا الْحَدِيثَ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله مُخْلِصاً وَجَبَتْ لَه الْجَنَّةُ. قَالَ: قُلْتُ لَه: إِنَّه يَأْتِينِي مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الأَصْنَافِ، أفَأَرْوِي لَهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ؟! قَالَ: نَعَمْ يَا أَبَانُ، إِنَّه إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وجَمَعَ الله الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ فَتُسْلَبُ (لَا إِلَه إِلَّا الله) مِنْهُمْ، إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى هَذَا الأَمْرِ».(3)

النقطة الخامسة: مقتضيات الولاية
الأول: حبهم (علیهم السّلام).

ما هي الأمور التي يلزم على من يدعي التشيع أنْ يلتزم بها؟

إنّ لكلِّ عقيدةٍ نظرياتٍ تبتني عليها تمثل المنهجية العامة لها، وهذه النظريات ليست مقصودةً بالذات، وإنّما المقصود منها هو تطبيقها على أرض الواقع.

والتشيع كمذهبٍ له أصوله وله أساسياته وله تاريخه العريق وله أئمته ومتخصصوه ورواده...

هذا المذهب له نظرياته، والمطلوب في هذه النظريات هو تحويلها إلى سلوكٍ خارجي وتطبيقٍ عملي، وقد أخذ أهلُ البيت (علیهم السّلام) على عاتقهم بيان كلِّ تلك النظريات التي تحدد المذهب وتميّز أتباعه، وبعد هذا البيان يبقى على الأتباع والشيعة أنْ يُترجموا ما سمعوه من أئمتهم (علیهم السّلام) إلى واقعٍ وأفعالٍ خارجية، وهذا ما أكد عليه أئمة أهل البيت (علیهم السّلام) في

ص: 116


1- أمالي الشيخ الطوسي ص583/ ح 1207/ 12.
2- المحاسن للبرقي ج1 ص 181 باب 42 ح 173.
3- الكافي للكليني ج2 ص521 بَابُ مَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مُخْلِصاً ح1.

العشرات من الأحاديث الواردة عنهم (علیهم السّلام).

وبعبارةٍ أخرى:

إنّ كلَّ مؤسسةٍ تضع شروطًا للانتساب إليها، وتُلزم بها من يريد ذلك، أي إنَّ هناك شروطًا يجب على من يريد الانتساب إليها الالتزام بها، ولا يكفي مجرد الرغبة من دون الالتزام بتلك الشروط والمقتضيات.

ومن هنا ورد أمر أهل البيت (علیهم السّلام) شيعتهم ومحبيهم بالالتزام بشروط الانتماء للمذهب، وبيّنوا (علیهم السّلام) أنّ من أراد أنْ يحسب نفسه من أتباعهم (علیهم السّلام) فإن عليه أن يلتزم بالتعليمات والأدبيات التي ذكروها (علیهم السّلام)، ولا يكفي مجرد الرغبة والحب النظري لأهل البيت (عليهم الصلاة والسلام).

وقد أشار الشيخ(قدّس سرّه) في عبارة الكتاب إلى تلك المقتضيات، نذكر عناوينها باختصار:

الاول:

إنَّ حب أهل البيت (علیهم السّلام) يمثل الخطوة الأولى للنجاح وللنجاة، وتبقى بعد هذه الخطوة خطواتٌ عديدة لا بُدّ أنْ يخطوها المؤمن.

الثاني: الورع.

دائمًا ما كان يحثُّ أهل البيت (علیهم السّلام) شيعتهم على أن يكونوا ورعين.

والورع هو الابتعاد عن المحرمات، في قبال الاجتهاد الذي يعني هنا فعل الواجبات).

وهو ما عبَّر عنه أمير المؤمنين (علیه السّلام) بقوله: «أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ»(1)،

يعني بترك المحرمات وفعل الواجبات.

ص: 117


1- نهج البلاغة: 417/ ح 45.

ومن هنا، روى البزنطي، عن صفوان الجمال قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السّلام): قد عرفتني بعملي(1)،

تأتيني المرأة أعرفها بإسلامها وحبها إياكم وولايتها لكم ليس لها محرم، قال (علیه السّلام): «إذا جاءت المرأة المسلمة فاحملها، فإن المؤمن محرم المؤمنة»(2)،

ثم تلا هذه الآية: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ﴾(3).(4)

وكأنّه (علیه السّلام) يقول له: إنّ هذه المرأة جاءت إليك ووثقت بك، فعليك أنْ تتمثل الورع وتبتعد عن كلِّ حالة تشوش الحالة الإيمانية.

وعن الحسين بن المختار، عن أبي بصير، قال: كنت أُقرئ امرأة كنت أُعلِّمها القرآن، فمازحتها بشيء، فقدمت علىٰ أبي جعفر (علیه السّلام)، فقال لي: «أيّ شيء قلت للمرأة؟»، فغطَّيت وجهي، فقال: «لا تعودنَّ إليها»(5).

فالإمام (علیه السّلام) لم يرتضِ بهذا الشيء، وعاتبه مباشرةً، لكي لا يعود لمثلها.

وقد ذكر الشيخ(رحمه الله)في الكتاب رواية أبي جعفر (علیه السّلام) حيث قال لخيثمة: «يا خيثمة، أبلغ موالينا أنّا لا نُغني عنهم من الله شيئاً إلَّا بعمل، وأنَّهم لن ينالوا ولايتنا إلَّا بالورع،

ص: 118


1- أي كنت عرفت أنى جمال. [هامش المصدر].
2- أي يجوز لك كرايتها والتولي لأمورها. وقال في المدارك: الظاهر أن المراد من قوله (علیه السّلام): «المؤمن محرم المؤمنة» أن المؤمن كالمحرم في جواز مرافقته للمرأة، ومقتضى هذه الروايات الاكتفاء في المرأة بوجود الرفقة المأمونة وهي التي يغلب ظنها بالسلامة معها فلو انتفى الظن المذكور بان خافت على النفس أو البضع أو العرض فلم يندفع ذلك الا بالمحرم اعتبر وجوده قطعا لما في التكليف بالحج مع الخوف من فوات شيء من ذلك من الحرج والضرر.
3- التوبة 71.
4- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج2 ص439 ح 2912.
5- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي (ج 1/ ص 404/ ح 295)؛ ووسائل الشيعة للحرِّ العاملي (ج 20/ ص 198).

وأنَّ أشدَّ الناس حسرةً يوم القيامة من وصف عدلاً ثمّ خالفه إلىٰ غيره»(1).

فإلى هذا المستوى يريد الأئمة (علیهم السّلام) من شيعتهم أنْ يتمثلوا بالورع.

الثالث: الدعوة إلى الحق.

وبعبارةٍ حديثة (ممارسة التغيير).

كثيرًا ما كان أهل البيت (علیهم السّلام) يدعون شيعتهم إلى أنْ يكونوا دعاةً للحق ولا يكونوا دعاةً للباطل، وقد أمروا شيعتهم أنْ تكون دعواهم بالأفعال وليس فقط بالأقوال، كما روي عن أبي عبد الله (علیه السّلام): «كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير، فإنَّ ذلك داعية»(2).

أي: دعوا فعلكم يحكي عن الحق، ويمكن أن يعبر عنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الرابع: التزام مكارم الأخلاق.

ويكفي وضوح العنوان عن التفصيل فيه، وأما الروايات التي ذُكرت في هذا المجال فكثيرة، وقد وضحت المفردات التي يجب على الشيعي أنْ يلتزم بها.

الخامس: التكافل الاجتماعي.
الأولى: التكافل الاجتماعي على نحو الوجوب.

لكي يكون المسلم مؤمنًا شيعيًا تابعًا لأهل البيت (علیهم السّلام) عليه أن يُمارس التكافل الاجتماعي، والتكافل الاجتماعي له مفردتان:

وهذا يتمثل بالخمس والزكاة وزكاة الفطرة، والنفقات الواجبة، كوجوب إنفاق

ص: 119


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 175 و176/ باب زيارة الإخوان/ ح 2).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 78/ باب الورع/ ح 14).

الولد على أبويه إذا كان غنيًا وهما فقيران، وكوجوب إنفاق الأب على أولاده بنفس الشرط، وكوجوب إنفاق الزوج على زوجته مطلقًا، إلا إذا أسقطت هي حقها.

وعن عليِّ بن مهزيار أنَّ الإمام الجواد (علیه السّلام) عندما جاء إلىٰ بغداد في عام (220ه) فرض خمساً آخر غير الخمس الواجب المتعارف عليه في قسم عظيم من الأموال، ولمرَّة واحدة فقط(1)، ولعلَّ ذلك (أنَّه لمَّا جاء الإمام الجواد (علیه السّلام) إلىٰ بغداد، كان الشيعة يعانون الفاقة والضنك، ولذا فرض الإمام (علیه السّلام) الخمس تلك السنة لحلِّ هذه المشكلة الخاصَّة)(2).

وهذا حكمٌ خاصٌ، ميّز الإمام (علیه السّلام) من خلاله أنَّ للضرورة مدخلية في اقتضاء الحكم.

الثانية: التكافل الاجتماعي المستحب.

ويتمثل بالصدقات والعطاء وإطعام الطعام وكسوة المؤمن وتزويج المحتاج ومنها إعارة الأشياء، وهو أيضًا مما دعا إليه أهل البيت (علیهم السّلام).

فقد ورد عن أبي بصير، قال: كنّا عند أبي عبد الله (علیه السّلام)ومعنا بعض أصحاب الأموال، فذكروا الزكاة فقال أبو عبد الله (علیه السّلام):

«إنَّ الزكاة ليس يُحمَد بها صاحبها، وإنَّما هو شيء ظاهر، إنَّما حَقَنَ بها دَمَه، وسُمّي بها مسلماً، ولو لم يُؤدِّها لم تُقبَل له صلاة، وإنَّ عليكم في أموالكم غير الزكاة».

فقلت: أصلحك الله وما علينا في أموالنا غير الزكاة؟

فقال: «سبحان الله، أمَا تسمع الله(عزّ و جلّ) يقول في كتابه: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾(3)؟».

ص: 120


1- تهذيب الأحكام للطوسي 4: 141/ ح (398/20).
2- انظر: نفحات القرآن للشيخ ناصر مكارم الشيرازي 10: 83.
3- المعارج: 24 و25

قال: قلت: ماذا الحقُّ المعلوم الذي علينا؟

قال: «هو الشيء يعمله الرجل في ماله يُعطيه في اليوم أو في الجمعة أو في الشهر قلَّ أو كثر، غير أنَّه يدوم عليه. وقوله(عزّ و جلّ): ﴿وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ﴾(1)»، قال: «هو القرض يُقرضه، والمعروف يصطنعه، ومتاع البيت يُعيره، ومنه الزكاة».

فقلت له: إنَّ لنا جيراناً إذا أعرناهم متاعاً كسروه وأفسدوه، فعلينا جناح أن نمنعهم؟

فقال: «لا، ليس عليكم جناح أن تمنعوهم إذا كانوا كذلك».

ص: 121


1- الماعون: 7

ص: 122

عقيدتنا في الجور والظلم

قال الشيخ(رحمه الله):

«عقيدتنا في الجور والظلم:

من أكبر ما كان يعظّمه الأئمة (علیهم السّلام) على الإنسان من الذنوب العدوان على الغير والظلم للناس، وذلك اتّباعاً لما جاء في القرآن الكريم من تهويل الظلم واستنكاره، مثل قوله(عزّ و جلّ): ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ﴾.

وقد جاء في كلام أمير المؤمنين (علیه السّلام) ما يبلغ الغاية في بشاعة الظلم والتنفير منه، كقوله وهو الصادق المصدّق من كلامه في نهج البلاغة برقم 219: «والله لو أُعطيتُ الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أنْ أعصي الله في نملةٍ أسلبها جلب شعيرةٍ ما فعلت». وهذا غاية ما يمكن أنْ يتصوّره الإنسان في التعفّف عن الظلم والحذر من الجور واستنكار عمله، أنّه لا يظلم (نملة) في قشرة شعيرةٍ وإن أُعطي الأقاليم السبعة. فكيف حال من يلغ في دماء المسلمين وينهب أموال الناس ويستهين في أعراضهم وكراماتهم؟ كيف يكون قياسه إلى فعل أمير المؤمنين؟ وكيف تكون منزلته من فقهه (علیه السّلام)؟ إنّ هذا هو الأدب الإلهي الرفيع الذي يتطلّبه الدين من البشر.

نعم، إنّ الظلم من أعظم ما حرّم الله(عزّ و جلّ)، فلذا أخذ من أحاديث آل البيت وأدعيتهم المقام الأوّل في ذمّه وتنفير أتباعهم عنه.

وهذه سياستهم (علیهم السّلام) وعليها سلوكهم حتّى مع من يعتدي عليهم ويجترئ

ص: 123

على مقامهم. وقصة الإمام الحسن (علیه السّلام) معروفةٌ في حلمه عن الشاميّ الذي اجترأ عليه وشتمه، فلاطفه الإمام وعطف عليه، حتّى أشعره بسوء فعلته. وقد قرأت آنفا في دعاء سيد الساجدين من الأدب الرفيع في العفو عن المعتدين وطلب المغفرة لهم. وهو غاية ما يبلغه السموّ النفسيّ والإنسانيّة الكاملة، وإنْ كان الاعتداء على الظالم بمثل ما اعتدى جائزاً في الشريعة وكذا الدعاء عليه جائزٌ مُباحٌ، ولكنّ الجواز شيءٌ والعفو الذي هو من مكارم الأخلاق شيءٍ آخر، بل عند الأئمة أنّ المُبالغة في الدعاء على الظالم قد تعدّ ظلماً، قال الصادق (علیه السّلام): «إنّ العبد ليكون مظلوماً فما يزال يدعو حتّى يكون ظالماً». أي حتّى يكون ظالماً في دعائه على الظالم بسبب كثرة تكراره. يا سبحان الله! أيكون الدعاء على الظالم إذا تجاوز الحدّ ظلماً؟ إذن ما حال من يبتدئ بالظلم والجور، ويعتدي على الناس، أو ينهش أعراضهم، أو ينهب أموالهم أو يمشي عليهم عند الظالمين، أو يخدعهم فيورّطهم في المهلكات أو ينبزهم ويؤذيهم، أو يتجسّس عليهم؟ ما حال أمثال هؤلاء في فقه آل البيت (علیهم السّلام)؟ إنّ أمثال هؤلاء أبعد الناس عن الله(عزّ و جلّ)، وأشدّهم إثماً وعقاباً، وأقبحهم أعمالاً وأخلاقاً». انتهى.

يريد الشيخ (رحمه الله وطيب ثراه) أن يُبيّن في هذه العقيدة أنَّ مسألة الظلم -بالإضافة إلى تأكيد القرآن الكريم على أنّها من الذنوب العظيمة وأنَّ على الإنسان أنْ يجتنبها- تمثل عقيدةً سلوكيةً من عقائد أهل البيت (علیهم السّلام)؛ لذلك جاءت في روايات أهل البيت (علیهم السّلام) تعليماتٌ وتوصياتٌ تحذر الإنسان من الاقتراب من الظلم وإنْ كان صغيرًا جدًا.

وقد يُتساءل:

نحن نعلم أنَّ الله(عزّ و جلّ) عادلٌ في مملكته، فهو ليس محايدًا، وإنّما هو ينصر المظلوم ضد الظالم، وهذا من مقتضيات العدل، ولكننا نرى الكثير من الظلمة لا ينالون جزاء

ص: 124

ظلمهم في الدنيا، بل ويعيش بعضهم عيشًا مرفهًا، فكيف يتناسب هذا مع عدل الله(عزّ و جلّ)؟

فيُجاب:

إنَّ الله(عزّ و جلّ) يمهل ولا يهمل، فإنّه قد يُمهل الظالم فيؤخر عقوبته، وربما يؤخرها إلى يوم القيامة، ولكنّه لا يهمل عقابه قط، فيعاقبه لاحقًا في الدنيا وإلا ففي يوم القيامة، حيثُ العذاب الأليم وربما المقيم، قال(عزّ و جلّ): ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا. اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾(1)

وفي آيةٍ أخرى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾(2).

كما ورد في الروايات أنَّ على الصراط عقبةً تسمى المرصاد لا يجوزها عبدٌ بمظلمةٍ، فقد روي عنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) فِي قَوْلِ الله(عزّ و جلّ): ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ﴾(3)قَالَ:

«قَنْطَرَةٌ عَلَى الصِّرَاطِ لَا يَجُوزُهَا عَبْدٌ بِمَظْلِمَةٍ».(4)

وأما لماذا لا يعاجل الله(عزّ و جلّ) الظالمين بالعقوبة في الدنيا؛ فذلك لجملةٍ من الأسباب، نذكر منها التالي:

هناك عدَّة أسباب تُبرِّر هذا الإمهال، وهي(5):

1 - لأنَّه تعالىٰ لا يخاف الفوت، وإنَّما يعجل من يخاف الفوت، فإنَّ الذي يستعجل

ص: 125


1- الإسراء 13و14.
2- الكهف 49.
3- الفجر 14.
4- الكافي للكليني ج2 ص331 باب الظلم ح2.
5- انظر: الهدى والضلال في القرآن الكريم- الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي- س 108 – 111.

بالعقوبة أو بالأخذ هو من يخاف أن تفوته الفرصة لو لم يستعجل، أمَّا الله(عزّ و جلّ) فإنَّه محيط بكل شيء، ولا يعزب عنه شيء، ولا يهرب منه شيء، فحتَّىٰ لو لم يعاجل المذنب بالعقوبة فإنَّه لن يهرب منه. وهل يستطيع أحد أن يهرب من الموت!؟ والموت خلقٌ من خلق الله تعالىٰ، قال(عزّ و جلّ): ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾(1)

وقال أمير المؤمنين (علیه السّلام): «وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلآخِرَةِ لَا لِلدُّنْيَا، وَلِلْفَنَاءِ لَا لِلْبَقَاءِ، وَلِلْمَوْتِ لَا لِلْحَيَاةِ، وَأَنَّكَ فِي قُلْعَةٍ وَدَارِ بُلْغَةٍ وَطَرِيقٍ إِلَىٰ الآخِرَةِ، وَأَنَّكَ طَرِيدُ المَوْتِ الَّذِي لَا يَنْجُو مِنْه هَارِبُه، وَلَا يَفُوتُه طَالِبُه، وَلَا بُدَّ أَنَّه مُدْرِكُه...»(2).

2 - لأنَّ رحمته تعالىٰ سبقت غضبه، وهذا الأمر شمل حتَّىٰ المجرمين!

قيل للإمام السجّاد (علیه السّلام) يوماً: قال الحسن البصري: ليس العجب ممَّن هلك كيف هلك، وإنَّما العجب ممَّن نجا كيف نجا، فقال (علیه السّلام): «أنا أقول: ليس العجب ممَّن نجا كيف نجا، إنَّما العجب ممَّن هلك كيف هلك مع سعة رحمة الله»(3).

وروي أنَّه قَدِمَ علىٰ النبيِّ 0 سبي، فإذا امرأة من السبي تحلب ثديها تسقي إذا وجدت صبيّاً من السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبيُّ (صلّی الله علیه و آله): «أترون هذه طارحة ولدها في النار؟»، قلنا: لا وهي تقدر علىٰ أن لا تطرحه، فقال: «الله أرحم بعباده من هذه بولدها»(4).

كلُّ ذلك لأنَّ رحمة الله تعالىٰ سبقت غضبه(5)،

قال تعالىٰ: ﴿قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ

ص: 126


1- الملك: 2.
2- نهج البلاغة: 400/ ح 31.
3- أمالي المرتضىٰ 1: 113.
4- صحيح البخاري 7: 75.
5- قال العلَّامة المجلسي ; في بحار الأنوار (ج 70/ ص 340) في معنىٰ: «إنَّ رحمتي سبقت غضبي»: «هذا يحتمل وجوها: الأوَّل: أن يكون المراد بالسبق الغلبة، أي رحمتي غالبة علىٰ غضبي وزائدة عليه، فإنَّه إذا اشتدَّ سبب الغضب وكان هناك سبب ضعيف للرحمة يتعلَّق الرحمة بفضله تعالىٰ. الثاني: أن يكون المراد به السبق المعنوي أيضاً علىٰ وجه آخر، فإنَّ أسباب الرحمة من إقامة دلائل الربوبية في الآفاق والأنفس وبعثة الأنبياء والأوصياء وإنزال الكتب وخلق الملائكة وبعثهم لهداية الخلق وإرشادهم ودفع وساوس الشياطين وغير ذلك من أسباب التوفيق أكثر من أسباب الضلالة من القوىٰ الشهوانية والغضبية وخلق الشياطين وعدم دفع أئمَّة الضلالة وأشباه ذلك من أسباب الخذلان. الثالث: أن يُراد به السبق الزماني، فإنَّ تقدير وجود الإنسان وإيجاده وإعطاء الجوارح والسمع والبصر وسائر القوىٰ ونصب الدلائل والحجج وغير ذلك، كلُّها قبل التكليف، والتكليف مقدّم علىٰ الغضب والعقاب. ويمكن إرادة الجميع، بل هو الأظهر».

أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾(1).

3 - ويمكن أن يكون إمهال الله تعالىٰ لبعض المجرمين لعلمه بأنَّهم سيتوبون ويُصلِحون ما أفسدوا، كما حصل للفضيل بن عياض، قاطع الطريق المعروف، حيث تاب وأصلح وصار من عبّاد وزهّاد أهل زمانه.

حيث روي أنَّ سبب توبته أنَّه عشق جارية، فواعدته ليلاً، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع قارئاً يقرأ: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ﴾(2)،

فرجع القهقرىٰ وهو يقول: بلىٰ والله قد آن. فآواه الليل إلىٰ خربة، وفيها جماعة من السابلة(3)،

وبعضهم يقول لبعض: إنَّ فضيلاً يقطع الطريق، فقال الفضيل: أواه! أراني بالليل أسعىٰ في معاصي الله، قوم من المسلمين يخافونني! اللّهمّ إنّي قد تبت إليك، وجعلت

ص: 127


1- الأعراف: 156.
2- الحديد: 16.
3- المارون على الطريق المسلوك.

توبتي إليك جوار بيتك الحرام»(1).

4 - لأنَّه تعالىٰ يُمهِل المجرمين في بعض الأحيان لا لكرامة لهم عليه، بل من أجل استدراجهم بالنعم، فلعلَّ المجرم عنده بعض الحسنات فيريد تعالىٰ أن يجازيه بها في الدنيا، فيستدرجه إلىٰ أن تصل لحظة القصم، قال تعالىٰ: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ﴾(2).

5 - وقد يكون إمهالهم لا لكرامتهم هم، بل لأنَّ الله تعالىٰ يعلم أنَّه سيخرج من ذرّيتهم مؤمنون مخلصون، لذلك يُمهِلهم حتَّىٰ تتاح الفرصة للمؤمنين بالوصول إلىٰ عالم الدنيا.

ومن هنا ورد أنَّ من بعض علل غيبة الإمام المهدي (علیه السّلام) هو أن لا تضيع ودائع الله(عزّ و جلّ)، أي المؤمنين الذين يظهرون من أصلاب الكافرين، فعن أبي عبد الله (علیه السّلام) في حديث ابن أبي عمير، عمَّن ذكره، قال: قلت له - يعني أبا عبد الله (علیه السّلام) -: ما بال أمير المؤمنين (علیه السّلام) لم يقاتل مخالفيه في الأوَّل؟ قال: «لآية في كتاب الله تعالىٰ: ﴿لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً﴾(3)»،

قال: قلت: وما يعني بتزايلهم؟ قال: «ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين، وكذلك القائم (علیه السّلام) لم يظهر أبداً حتَّىٰ تخرج ودائع الله(عزّ و جلّ)، فإذا خرجت ظهر علىٰ من ظهر من أعداء الله(عزّ و جلّ) فقتلهم»(4).

قال الشيخ(قدّس سرّه):

«بل عند الأئمة أن المبالغة في الدعاء على الظالم قد تعد ظلما، قال الصادق (علیه السّلام): «ِإنَّ

ص: 128


1- تفسير القرطبي 17: 251.
2- آل عمران: 178
3- الفتح: 25
4- كمال الدين للصدوق: 641.

الْعَبْدَ لَيَكُونُ مَظْلُوماً فَمَا يَزَالُ يَدْعُو حَتَّى يَكُونَ ظَالِماً»(1)

أي حتى يكون ظالما في دعائه على الظالم بسبب كثرة تكراره».

وللعلماء عدة توجيهات لهذه الرواية، ومنها:

التوجيه الأول:

ذُكِر في مستثنيات الغيبة أنّه يجوز للمظلوم أنْ يذكر الظالم في مقام الشكوى، ففي ذلك المورد فقط يجوز للمظلوم أن يتكلم عنه ويدعو عليه، ولكن لا يجوز أن يتعدى عن الجانب الذي ظلمه فيه.

فلو أنَّ الظالم سرق أموال المظلوم، فللمظلوم أنْ يذكر ذلك، ولا يجوز له أن يذكر شرب الظالم للخمر مثلًا، بل إنَّ هذا في نظر المتشرعة سنخٌ من التعدي الذي قد يسلكه المظلوم في مقام الانتقام.

وعليه، فالحديث يحمل دلالة على شدة اهتمام الشارع في عدم التعدي على الحق فيتحول المرء من مظلومٍ إلى ظالم.

التوجيه الثاني(2):

أنه يفرط في الدعاء على الظالم حتى يصير ظالما بسبب هذا الدعاء كأن ظلمه بظلم يسير كشتم أو أخذ دراهم يسيرة، فيدعو عليه بالموت والقتل والفناء أو العمى أو الزمن، وأمثال ذلك، أو يتجاوز في الدعاء إلى من لم يظلمه كانقطاع نسله أو موت أولاده وأحبائه أو استيصال عشيرته، وأمثال ذلك، فيصير في هذا الدعاء ظالماً.

ص: 129


1- الكافي للكليني ج2 ص333- 334 باب الظلم ح17.
2- هذا التوجيه وما بعده ذكرها صاحب البحار(قدّس سرّه) في بحاره ج72 ص 333 334.

التوجيه الثالث:

أن يكون المعنى: أنه يدعو كثيراً على العدو المؤمن ولا يكتفي بالدعاء لدفع ضرره، بل يدعو بابتلائه، وهذا مما لا يرضى الله به، فيكون في ذلك ظالما على نفسه، بل على أخيه أيضاً، إذ مقتضى الاخوة الايمانية أن يدعو له بصلاحه، وكف ضرره عنه، كما ذكره سيد الساجدين (علیه السّلام) في دعاء دفع العدو، وما ورد ومن الدعاء بالقتل والموت والاستيصال فالظاهر أنه كان للدعاء على المخالفين وأعداء الدين، بقرينة أن أعداءهم كانوا كفارا لا محالة كما يومئ إليه قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ﴾(1) وسيأتي عن علي بن الحسين3 أن الملائكة إذا سمعوا المؤمن يذكر أخاه بسوء ويدعو عليه قالوا له: بئس الأخ أنت لأخيك، كف أيها المستر على ذنوبه وعورته وأربع على نفسك، واحمد الله الذي ستر عليك، واعلم أن الله(عزّ و جلّ) أعلم بعبده منك.

التوجيه الرابع:

ما قيل: إنه يدعو كثيراً ولا يعلم الله صلاحه في إجابته، فيؤخرها فييئس من روح الله، فيصير ظالماً على نفسه، وهو بعيد.

التوجيه الخامس:

أن يكون المعنى: أنه يلح في الدعاء حتى يستجاب له فيسلط على خصمه فيظلمه فينعكس الأمر، وكانت حالته الأولى أحسن له من تلك الحالة.

ص: 130


1- يونس 11.

التوجيه السادس:

أن يكون المراد به: لا تدعوا كثيراً على الظلمة، فإنه ربما صرتم ظلمة فيستجيب فيكم ما دعوتم على غيركم.

التوجيه السابع:

ما قيل: كأن المراد من يدعو للظالم يكون ظالما لأنه رضي بظلمه كما روي عن النبي (صلّی الله علیه و آله): «من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه».

وأقول: هذا أبعد الوجوه. (انتهى ما عن البحار)

ص: 131

ص: 132

عقيدتنا في التعاون مع الظالمين
النقطة الأولى: ضرورة الحاكم.

قال الشيخ(رحمه الله):

«عقيدتنا في التعاون مع الظالمين:

ومن عظم خطر الظلم وسوء مغبّته أنْ نهى الله(عزّ و جلّ) عن معاونة الظالمين والركون إليهم، ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ﴾.

هذا هو أدب القرآن الكريم وهو أدب آل البيت (علیهم السّلام)، وقد ورد عنهم ما يبلغ الغاية من التنفير عن الركون إلى الظالمين، والاتصال بهم ومشاركتهم في أيّ عملٍ كان، ومعاونتهم ولو بشقّ تمرة.

ولا شكّ أنْ أعظم ما مني به الإسلام والمسلمون هو التساهل مع أهل الجور، والتغاضي عن مساوئهم، والتعامل معهم، فضلاً عن ممالاتهم ومناصرتهم وإعانتهم على ظلمهم، وما جرّ الويلات على الجامعة الإسلامية إلّا ذلك الانحراف عن جدد الصواب والحقّ، حتّى ضعف الدين بمرور الأيام، فتلاشت قوّته، ووصل إلى ما عليه اليوم، فعاد غريباً، وأصبح المسلمون أو ما يسمّون أنفسهم بالمسلمين، وما لهم من دون الله أولياء ثم لا ينصرون حتّى على أضعف أعدائهم وأرذل المجترئين عليهم، كاليهود الأذلّاء فضلاً عن الصليبيّين الأقوياء.

لقد جاهد الأئمة (علیهم السّلام) في إبعاد من يتصل بهم عن التعاون مع الظالمين، وشدّدوا على أوليائهم في مسايرة أهل الظلم والجور وممالاتهم، ولا يحصى ما ورد عنهم في هذا

ص: 133

الباب، ومن ذلك ما كتبه الإمام زين العابدين (علیه السّلام) إلى محمّد بن مسلم الزهري بعد أنْ حذّره عن إعانة الظلمة على ظلمهم: «أو ليس بدعائهم إيّاك حين دعوك جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم، وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم، وسلّماً إلى ضلالتهم، داعياً إلى غيّهم، سالكاً سبيلهم، يُدخلون بك الشكّ على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهّال إليهم، فلم يبلغ أخصّ وزرائهم ولا أقوى أعوانهم إلّا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم واختلاف الخاصّة والعامّة إليهم، فما أقلّ ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك، وما أيسر ما عمّروا لك في جنب ما خرّبوا عليك. فانظر لنفسك فإنّه لا ينظر لها غيرك، وحاسبها حساب رجلٍ مسؤول...».

ما أعظم كلمة «وحاسبها حساب رجلٍ مسؤولٍ» فإنّ الإنسان حينما يغلبه هواه يستهين في أغوار مكنون سرّه بكرامة نفسه، بمعنى أنّه لا يجده مسؤولا عن أعماله، ويستحقر ما يأتي به من أفعال، ويتخيّل أنّه ليس بذلك الذي يحسب له الحساب على ما يرتكبه ويقترفه، أنّ هذا من أسرار النفس الإنسانيّة الأمّارة، فأراد الإمام أنْ يُنبّه الزهري على هذا السرّ النفساني في دخيلته الكامنة؛ لئلا يغلب عليه الوهم فيفرّط في مسؤوليته عن نفسه.

وأبلغ من ذلك في تصوير حرمة معاونة الظالمين حديث صفوان الجمّال مع الإمام موسى الكاظم (علیه السّلام) وقد كان من شيعته ورواة حديثه الموثقين قال حسب رواية الكشي في رجاله بترجمة صفوان-: دخلت عليه فقال لي: «يا صفوان كلّ شيء منك حسنٌ جميلٌ، خلا شيئاً واحداً».

قلتُ: جُعِلتُ فداك! أيّ شيء؟

قال: «إكراؤك جمالك من هذا الرجل (يعني هارون)».

قلت: والله، ما أكريته أشراً ولا بطراً، ولا للصيد، ولا للهو، ولكن أكريته لهذا

ص: 134

الطريق «يعني طريق مكة» ولا أتولّاه بنفسي ولكن أبعث معه غلماني.

قال: «يا صفوان أيقع كراك عليهم؟»

قلت: نعم جُعِلتُ فداك.

قال: «أتحبّ بقاءهم حتّى يخرج كراك؟»

قلت: نعم.

قال: «فمن أحبّ بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم فهو كان ورد النار».

قال صفوان: فذهبت وبعت جمالي عن آخرها.

فاذا كان نفس حُبّ حياة الظالمين وبقائهم بهذه المنزلة، فكيف بمن يستعينون به على الظلم أو يؤيدهم في الجور؟ وكيف حال من يدخل في زمرتهم أو يعمل بأعمالهم أو يواكب قافلتهم أو يأتمر بأمرهم؟» انتهى.

قد يبدو لأول وهلة أن هذه المسألة فقهية لا عقائدية، فكيف ذكرها الشيخ كعقيدة؟

يظهر أن تأكيده على ذلك من أجل أن يؤكد على اختلاف عقيدتنا عمّا يعتقده العامة، حيث ينظرون إلى الحاكم نظرةً مُقدسةً وإنْ كان ظالمًا وإنْ كان فاسقًا! إذ طالما أظهر الإسلام بلسانه فهو مقدسٌ لديهم ولا يمكن الخروج عليه أو الاعتراض عليه، وبالتالي يلزم الاعتقاد به كإمام مفترض الطاعة، وهذا الاعتقاد بهذه الصيغة يُنتج:

1- أنْ يعيشوا حالةً من الركون والانقياد الأعمى للحاكم وإنْ كان ظالمًا.

2- أنْ يلتزموا بعدم التحرك ضده في أية محاولةٍ لتغييره وإنْ كان ظالمًا.

وهذا ما لا نجده في عقيدة أهل البيت (علیهم السّلام)، ولذلك كان مناسباً للمصنف(قدّس سرّه) بيان حدود علاقة المسلمين مع السلطان، ولتتضح تلك الحدود أكثر نذكر نقطتين بشكلٍ إجمالي، وإلا ففي المسألة مفردات خلافية كلٌّ يراجع فيها مقلَّده:

ص: 135

النقطة الأولى: ضرورة الحاكم.

هناك ضرورة واقعية إلى سلطانٍ يحكم البلاد تفرضها طبيعة نظام الحياة، فإنّ من الواضح أن المفسدين يعيثون في الأرض فسادًا لولا وجود الدولة والنظام والحاكم، وهذا هو معنى ما ورد عن أمير المؤمنين (علیه السّلام): «وإِنَّه لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ، يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِه الْمُؤْمِنُ، ويَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ، ويُبَلِّغُ الله فِيهَا الأَجَلَ ويُجْمَعُ بِه الْفَيْءُ، ويُقَاتَلُ بِه الْعَدُوُّ وتَأْمَنُ بِه السُّبُلُ، ويُؤْخَذُ بِه لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ، حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ ويُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ»(1)

النقطة الثانية: حدود التعامل مع الحاكم الظالم.
1. لا يجوز الركون إلى الظالم والرضا بأفعاله.

صحيح أنَّ وجود الحاكم ضرورةٌ، ولكن هذا لا يعني ضرورة الرضوخ له إذا كان ظالمًا، إذ إنَّ وجود الحاكم كضرورةٍ سياسية لا يستلزم الرضا بأفعاله والركون إليه.

وعليه؛ فإذا كان الحاكم عادلًا منصّبًا من الله(عزّ و جلّ) -كالمعصوم أو من نصّبه المعصوم علينا تنصيبًا عينيًا كالسفير، أو عبر صفاتٍ حددها كالمجتهد الجامع للشرائط- حينئذٍ فقط تجب طاعته علينا. أما إذا كان الحاكم ظالمًا، فعندئذٍ تتأطر العلاقة مع هذا الحاكم بأطرٍ جديدة، فهناك حدودٌ تُرسم إذا كان الحاكم ظالمًا، وتلك الحدود هي التالي:

1. لا يجوز الركون إلى الظالم والرضا بأفعاله.

وهذا أمرٌ لا نجده عند غير المدرسة الإمامية، فغيرنا ذهبوا إلى عدم جواز الخروج على السلطان وإن كان ظالمًا، وهذا يستند إلى عقيدة الإرجاء التي نادى بها المرجئة بقولهم: (الإيمان قولٌ بلا عمل). ولكي يشرعنوا دعواهم هذه فقد رووا روايات بهذا المجال، ومنها ما رووه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «اسمعوا وأطيعوا

ص: 136


1- نهج البلاغة ج1 ص91.

وإن استُعمل حبشي كأن رأسه زبيبة».(1)

ورووا عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه من خالف الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية».(2)

وفي رواية أخرى: «أيما رجل كره من أميره أمراً فليصبر، فإنه ليس أحد من الناس يخرج من السلطان شبراً فمات الا مات ميتة جاهلية».(3)

وهي –بلا شك- روايات موضوعة على الرسول (صلّی الله علیه و آله)، وبصمة الكذب فيها واضحة جدًا.

2.عدم التحاكم إليه مع وجود الحاكم العادل.

فلا يجوز الرجوع إلى الحاكم الظالم في فضِّ المنازعات والفصل في الخصومات مع وجود الحاكم العادل. وعدم جواز التحاكم إلى الظالم وإنْ كان قاعدةً عامة، بيدَ أنَّ الفقهاء يذكرون جملة من الاستثناءات التي ترد عليها، كانحصار استنقاذ الحق بالترافع إلى الحاكم الظالم، مطلقًا كما يذهب إلى ذلك بعض الفقهاء، أو مع تقييدها ببعض القيود كما يذهب إليه آخرون.

والمسألة يُرجع فيها إلى الفقه.

وقد يتبادر إلى الذهن سؤالٌ مفاده ما حكم التحاكم إلى رئيس العشيرة عند حصول بعض النزاعات؟

وجوابًا على ذلك نقول: عادة لا يكون هذا الأمر حكماً أو تحاكماً، وإنّما هو من باب المصالحة، فإنّ بعض الوجهاء وكبار العشيرة يحاولون حلّ النزاعات عبر التوصل إلى

ص: 137


1- صحيح البخاري ج1 ص170.
2- مسند أحمد، ج1، ص275.
3- مسند أحمد، ج1، ص 310.

مصالحةٍ بين الأطراف.

مع الالتفات إلى ضرورة عدم مساس تلك المصالحات بحقوق القاصرين مثلًا، كما في حالة الدية الشرعية، حيث يحاول رئيس عشيرة القاتل أو من يمثله غالبًا تخفيف الدية، فهنا يجوز لعشيرة القتيل التصالح على ذلك التخفيف برضا البالغين من أهل القتيل، وأما لو كان هناك قاصرون، فليس له ذلك؛ فيجب الحفاظ على حصتهم كاملةً عند الولي أو الوصي الشرعي عليهم.

3. عدم محبة دوام الظالم ولو على حساب المصلحة الشخصية.

ربما يميل قلب الإنسان إلى حب بقاء الظالم في بعض الأحيان حفاظًا على مصالحه، وهو حبٌ أو ميلٌ ليس في محله؛ لأنَّ المرء يُحشر مع من أحب. كما منعت الروايات من ذلك، كما في روايةٍ لطيفةٍ عن صفوان الجمال وهو من خُلَّص أصحاب الإمام الكاظم (علیه السّلام)، فعن صفوان بن مهران الجمّال، قال: دخلت علىٰ أبي الحسن الأوَّل (علیه السّلام)، فقال لي: «يا صفوان، كلُّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً»، قلت: جُعلت فداك، أيُّ شيء؟ قال: «اكراؤك جمالك من هذا الرجل - يعني هارون -»، قلت: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا لصيد ولا للهو، ولكنّي أُكريه لهذا الطريق - يعني طريق مكَّة -، ولا أتولّاه بنفسي ولكن أنصب غلماني. فقال لي:

«يا صفوان، أيقع كراؤك عليهم؟»، قلت: نعم جُعلت فداك، قال: فقال لي: «أتُحِبُّ بقاءهم حتَّىٰ يخرج كراؤك؟»، قلت: نعم، قال: «فمن أحبَّ بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان ورد النار».

قال صفوان: فذهبت وبعت جمالي عن آخرها، فبلغ ذلك إلىٰ هارون، فدعاني فقال لي: يا صفوان، بلغني أنَّك بعت جمالك؟ قلت: نعم، فقال: لِمَ؟ قلت: أنا شيخ كبير وإنَّ الغلمان لا يفون بالأعمال. فقال: هيهاتَ هيهاتَ أنّي لأعلم من أشار عليك بهذا موسىٰ بن جعفر، قلت: ما لي ولموسىٰ بن جعفر؟ فقال: دع هذا عنك، فوَالله لولا حسن

ص: 138

صحبتك لقتلتك(1).

وهذه حركةٌ إيمانيةٌ لا يقوى على فعلها أيُّ شخصٍ مالم يكن إيمانه حقيقيًا.

4. عدم تشويه صورة المذهب أو التنازل عن الثوابت من قبل الأشخاص الذين يؤثر كلامهم في الناس.

بمعنى أنَّ الشيعي الذي يكون مسموعَ الكلمة ليس من الصحيح أنْ يذلَّ نفسه أمام الظالم بحيث تضعف معه هيبة المذهب عند الناس.

ينقل أنَّ ابن سكيت كان عالمًا ومربيًا لأبناء المتوكل، وقد نقل في سبب قتله أنه دخل يوماً عليه وكان عنده ولداه المعتز والمؤيد فقال: يا ابن السكيت، أهذان عندك أفضل أم الحسن والحسين(علیهما السّلام)، فشرع ابن السكيت في نقل فضائل الحسنين (علیهما السّلام) وقال: والله، إن قنبر غلام علي (علیه السّلام) عندي خير منك ومن ولديك، فغضب المتوكل لعنه الله وأمر غلمانه من الترك أن يطأوه تحت أرجلهم، وداسوا بطنه بعد أن سلوا لسانه من قفاه، فاستشهد رحمه الله في الخامس من شهر رجب سنة 244.(2)

إن ابن السكيت كان ذا مكانةٍ علميةٍ مرموقة وشأن منيف، لذا فقد عرف أن اللازم أن يكون موقفه قويًا؛ فلا يناسبه أن يذل نفسه ولا أن يتقي، بل ولا يناسب المذهب ذلك؛ لما له من كلمة مؤثرة فيه، فتتأثر به هيبة المذهب ككل سلبًا أو إيجابًا. وفعلًا فقد اتخذ الموقف القوي الذي يرفع به شأن المذهب بأسره ويُعلي مكانته بين المذاهب ويُدخل الرفعة والعزة على نفوس أصحابه؛ لذا بقي موقفه محفوظًا إلى يومنا هذا.

وكذلك عندما بعث الحجاج إلى قنبر وأمره أنْ يتبرأ من أمير المؤمنين علي (علیه السّلام)، إذ روي أن الحجاج بن يوسف الثقفي قال ذات يوم: أحب أن أصيب رجلاً من أصحاب

ص: 139


1- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي (ج 2/ ص 740/ ترجمة رقم 828).
2- هامش بحار الأنوار ج104 ص1.

أبي تراب فأتقرب إلى الله بدمه! فقيل له: ما نعلم أحداً كان أطول صحبة لأبي تراب من قنبر مولاه، فبعث في طلبه فأتي به فقال له: أنت قنبر؟ قال: نعم، قال: أبو همدان؟ قال: نعم، قال: مولى علي بن أبي طالب؟ قال: الله مولاي، وأمير المؤمنين علي ولي نعمتي، قال: أبرأ من دينه. قال: فإذا برئت من دينه تدلني على دين غيره أفضل منه؟ فقال: إني قاتلك فاختر أي قتلة أحب إليك، قال: قد صيرت ذلك إليك، قال: ولم؟ قال: لأنك لا تقتلني قتلة إلا قتلتك مثلها، ولقد خبرني أمير المؤمنين (علیه السّلام) أن منيتي تكون ذبحاً ظلماً بغير حق، قال: فأمر به فذبح.(1)

وهكذا ميثم التمار وكميل بن زياد، فهؤلاء الطبقة المعروفة مسموعة الكلمة لا يتنازلون عن مبدئهم؛ لأنَّ كلمتهم تؤثر في هيبة المذهب، وبناءً على موقفهم قد تضعف عقيدة أو تقوى عقيدة مقابلة.

5. القيام بوجه الظالم متى ما سنحت الفرصة.

وهذا الأمر يحتاج إلى دقةٍ في تشخيص الظروف الموضوعية، والبحث في مدى صحة القيام من عدمه، وفي مدى تحقق النتائج المرجوة من عدمه، إذ ربما يؤدي القيام إلى إبادة الشيعة فيكون الموقف المناسب حينئذٍ هو المهادنة والابتعاد عن المواقف المسلحة، كما فعل الإمام الحسن (علیه السّلام)، فقد أشارت بعض كلماته إلى أنّه لو قاتل معاوية لوقعت إبادة جماعية لكلِّ الشيعة المخلصين؛ لذلك آثر الإمام الحسن (علیه السّلام) الحفاظ على هذه الثلة الطيبة.

فقد روي عن أبي سعيد عقيصا قال: قلت: للحسن بن علي بن أبي طالب: يا بن رسول الله، لِمَ داهنت معاوية وصالحته وقد علمت أن الحق لك دونه وان معاوية ضال باغ؟ فقال: «يا أبا سعيد، ألستُ حجة الله تعالى ذكره على خلقه وإماماً عليهم بعد

ص: 140


1- الإرشاد للشيخ المفيد ج1 ص328.

أبي (علیه السّلام)؟» قلت: بلى. قال: «ألستُ الذي قال رسول الله (صلّی الله علیه و آله) لي ولأخي: الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا؟» قلت: بلى. قال: «فأنا إذن إمام لو قمت، وأنا إمام إذ لو قعدت، يا أبا سعيد، علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول الله (صلّی الله علیه و آله) لبني ضمرة وبني أشجع ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية، أولئك كفار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل، يا أبا سعيد، إذا كنت إماماً من قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يُسفه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة، وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبساً، ألا ترى الخضر (علیه السّلام) لما خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسى (علیه السّلام) فعله لاشتباه وجه الحكمة عليه،حتى أخبره فرضى، هكذا أنا، سخطتم عليّ بجهلكم بوجه الحكمة فيه، ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قتل».(1)

أما إذا كان الدفاع عن الدين أهم من النفوس، فيكون الأمر خلاف ذلك، وهو ما قام به الإمام الحسين (علیه السّلام) حيث قال (علیه السّلام): «أما بعد، فقد علمتم أنَّ رسول الله (صلّی الله علیه و آله) قد قال في حياته: «من رأى سلطانًا جائرًا مستحلًا لحرم الله، ناكثًا لعهد الله، مخالفًا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ثم لم يُغيّر بقولٍ ولا فعلٍ، كان حقيقًا على الله أنْ يُدخله مدخله». وقد علمتم أنَّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان، وتولوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرموا حلاله، وإنّي أحقُّ بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله (صلّی الله علیه و آله)».(2)

وقد كان الحفاظ على الدين الإسلامي من أهم أهداف الإمام الحسين (علیه السّلام).

إذاً، إذا كانت الفرصة مناسبةً للقيام ضد الظالم فلا يسوغ الجلوس حينئذ وعدم القتال، كما حصل في فتوى الجهاد الكفائي التي أصدرها سماحة المرجع السيد

ص: 141


1- علل الشرائع للشيخ الصدوق ج1 ص 211 باب 159 ح2.
2- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 44، ص 382.

السيستاني، وقام الحشد الشعبي بدحض الدواعش، إذ كانت مقدسات الشيعة وبيضة الإسلام في خطر.

6. عدم إعانته في ظلمه ولو ببيع إبرةٍ له!

وهو ما سنتناوله في العقيدة القادمة..

ص: 142

عقيدتنا في الوظيفة في الدولة الظالمة.

قال(قدّس سرّه):

«عقيدتنا في الوظيفة في الدولة الظالمة:

إذا كان معاونة الظالمين ولو بشقّ تمرةٍ بل حُبّ بقائهم من أشدّ ما حذّر عنه الأئمة (علیهم السّلام)، فما حال الاشتراك معهم في الحكم والدخول في وظائفهم وولاياتهم؟! بل ما حال من يكون من جملة المؤسسين لدولتهم، أو من كان من أركان سلطانهم والمُنغمسين في تشييد حكمهم؟!؛ «وذلك أنّ ولاية الجائر دروس الحقّ كلّه، وإحياء الباطل كلّه، وإظهار الظلم والجور والفساد» كما جاء في حديث تحف العقول عن الصادق (علیه السّلام).

غير أنّه ورد عنهم (علیهم السّلام) جواز ولاية الجائر إذا كان فيها صيانة العدل وإقامة حدود الله، والإحسان إلى المؤمنين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر «إنّ لله في أبواب الظلمة من نوّر الله به البرهان ومكّن له في البلاد، فيدفع بهم عن أوليائه ويُصلح بهم أمور المسلمين.... أُولئك هم المؤمنون حقّاً. أُولئك منار الله في أرضه، أُولئك نور الله في رعيته...» كما جاء في الحديث عن الإمام موسى بن جعفر (علیه السّلام).

وفي هذا الباب أحاديثُ كثيرةٌ توضّح النهج الذي ينبغي أنْ يجري عليه الولاة والموظفين، مثل ما في رسالة الصادق (علیه السّلام) إلى عبد الله النجاشي أمير الأهواز (راجع الوسائل: كتاب البيع، الباب 78)». انتهى.

تقدّم أنّ للتعامل مع الحاكم الظالم حدوداً في العقيدة الإمامية على خلاف سائر

ص: 143

المذاهب الأخرى، يمكن جمعها في ستةِ حدودٍ لابُدّ للمؤمنين التقيُّد بها في تعاملهم مع الحاكم الظالم، تناولنا خمسة منها بشيءٍ من التوضيح، فيما أرجأنا الحديث عن السادسة؛ لمناسبةِ تناولها في هذه العقيدة..

6. عدم أعانته في ظلمة ولو ببيع إبرة.

فقد روي عَنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام)، إِذْ دَخَلَ عَلَيْه رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِنَا فَقَالَ لَه: أَصْلَحَكَ الله، إِنَّه رُبَّمَا أَصَابَ الرَّجُلَ مِنَّا الضَّيْقُ أَوِ الشِّدَّةُ فَيُدْعَى إِلَى الْبِنَاءِ يَبْنِيه أَوِ النَّهَرِ يَكْرِيه أَوِ الْمُسَنَّاةِ يُصْلِحُهَا، فَمَا تَقُولُ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ

الله (علیه السّلام): «مَا أُحِبُّ أَنِّي عَقَدْتُ لَهُمْ عُقْدَةً أَوْ وَكَيْتُ لَهُمْ وِكَاءً وإِنَّ لِي مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا، لَا، ولَا مَدَّةً بِقَلَمٍ، إِنَّ أَعْوَانَ الظَّلَمَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي سُرَادِقٍ مِنْ نَارٍ حَتَّى يَحْكُمَ الله بَيْنَ الْعِبَادِ»(1).

هذا إذا كانت الإعانة للظالم في ظلمه، أما إذا كانت الإعانة من أجل حفظ المؤمنين، أي من أجل مصالح المسلمين، فلا بأس بها، ومع ذلك يقيدها بعض الفقهاء بالاضطرار.

فقد روي عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى (علیه السّلام) فَقَالَ لِي: «يَا زِيَادُ، إِنَّكَ لَتَعْمَلُ عَمَلَ السُّلْطَانِ؟»

قَالَ: قُلْتُ: أَجَلْ. قَالَ لِي: «ولِمَ؟» قُلْتُ: أَنَا رَجُلٌ لِي مُرُوءَةٌ(2) وعَلَيَّ عِيَالٌ، ولَيْسَ وَرَاءَ ظَهْرِي شَيْءٌ.

فَقَالَ لِي: «يَا زِيَادُ، لأَنْ أَسْقُطَ مِنْ حَالِقٍ(3)

فَأَتَقَطَّعَ قِطْعَةً قِطْعَةً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَوَلَّى لأَحَدٍ مِنْهُمْ عَمَلاً، أَوْ أَطَأَ بِسَاطَ أَحَدِهِمْ، إِلَّا لِمَاذَا؟»

قُلْتُ: لَا أَدْرِي جُعِلْتُ فِدَاكَ.

ص: 144


1- الكافي للكليني ج5 ص107 بَابُ عَمَلِ السُّلْطَانِ وجَوَائِزِهِمْ ح7.
2- أي اني رجل ذو احسان ومودة وفضل عودت الناس ولا يمكنني تركه. [هامش المصدر].
3- الحالق: الجبل المرتفع. [هامش المصدر].

فَقَالَ (علیه السّلام): «إِلَّا لِتَفْرِيجِ كُرْبَةٍ عَنْ مُؤْمِنٍ، أَوْ فَكِّ أَسْرِه أَوْ قَضَاءِ دَيْنِه، يَا زِيَادُ إِنَّ أَهْوَنَ مَا يَصْنَعُ الله بِمَنْ تَوَلَّى لَهُمْ عَمَلاً: أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْه سُرَادِقٌ مِنْ نَارٍ إِلَى أَنْ يَفْرُغَ الله مِنْ حِسَابِ الْخَلَائِقِ.

يَا زِيَادُ، فَإِنْ وُلِّيتَ شَيْئاً مِنْ أَعْمَالِهِمْ فَأَحْسِنْ إِلَى إِخْوَانِكَ، فَوَاحِدَةٌ بِوَاحِدَةٍ، والله مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ.

يَا زِيَادُ أَيُّمَا رَجُلٍ مِنْكُمْ تَوَلَّى لأَحَدٍ مِنْهُمْ عَمَلاً، ثُمَّ سَاوَى بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمْ، فَقُولُوا لَه: أَنْتَ مُنْتَحِلٌ كَذَّابٌ.

يَا زِيَادُ إِذَا ذَكَرْتَ مَقْدُرَتَكَ عَلَى النَّاسِ، فَاذْكُرْ مَقْدُرَةَ الله عَلَيْكَ غَداً، ونَفَادَ مَا أَتَيْتَ إِلَيْهِمْ عَنْهُمْ وبَقَاءَ مَا أَتَيْتَ إِلَيْهِمْ عَلَيْكَ.. »

وعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي مَحْمُودٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَقْطِينٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي الْحَسَنِ (علیه السّلام): مَا تَقُولُ فِي أَعْمَالِ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ (علیه السّلام): «إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلاً فَاتَّقِ أَمْوَالَ الشِّيعَةِ».

قَالَ: «فَأَخْبَرَنِي عَلِيٌّ أَنَّه كَانَ يَجْبِيهَا مِنَ الشِّيعَةِ عَلَانِيَةً، ويَرُدُّهَا عَلَيْهِمْ فِي السِّرِّ».

ص: 145

ص: 146

عقيدتنا في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية
النقطة الأولى: تأكيد القرآن الكريم على الوحدة بين الديانات.

قال الشيخ(رحمه الله):

«عقيدتنا في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية:

عُرِف آل البيت (علیهم السّلام) بحرصهم على بقاء مظاهر الإسلام، والدعوة إلى عزّته، ووحدة كلمة أهله، وحفظ التآخي بينهم، ورفع السخيمة من القلوب، والأحقاد من النفوس. ولا يُنسى موقف أمير المؤمنين (علیه السّلام) مع الخلفاء الذين سبقوه، مع توجّده عليهم واعتقاده بغصبهم لحقّه، فجاراهم وسالمهم بل حبس رأيه في أنّه المنصوص عليه بالخلافة، حتّى أنّه لم يجهر في حشدٍ عامٍ بالنصّ إلّا بعد أنْ آل الأمر إليه فاستشهد بمن بقي من الصحابة عن نصّ (الغدير) في يوم (الرحبة) المعروف. وكان لا يتأخر عن الإشارة عليهم فيما يعود على المسلمين أو للإسلام بالنفع والمصلحة وكم كان يقول عن ذلك العهد: «فخشيت إنْ لم أنصرِ الإسلام وأهله أنْ أرى فيه ثلماً أو هدماً».

كما لم يصدر منه ما يؤثر على شوكة ملكهم أو يُضعّف من سلطانهم أو يقلّل من هيبتهم، فانكمش على نفسه وجلس حلس البيت، بالرغم مما كان يشهده منهم. كلّ ذلك رعايةً لمصلحة الإسلام العامّة، ورعاية أن لا يرى في الإسلام ثلماً أو هدماً، حتّى عُرِف ذلك منه، وكان الخليفة عمر بن الخطاب يقول ويكرّر القول: «لا كنت لمُعضلةٍ ليس لها أبو الحسن» أو «لو لا عليّ لهلك عمر».

ولا يُنسى موقف الحسن بن علي (علیه السّلام) من الصلح مع معاوية بعد أن رأى أنّ الإصرار على الحرب سيُديل من ثقل الله الأكبر ومن دولة العدل بل اسم الإسلام إلى آخر الدهر،

ص: 147

فتُمحى الشريعة الإلهية ويُقضى على البقية الباقية من آل البيت، ففضّل المحافظة على ظواهر الإسلام واسم الدين، وإنْ سالم معاوية العدوّ الألد للدين وأهله والخصم الحقود له ولشيعته، مع ما يُتوقع من الظلم والذلّ له ولأتباعه وكانت سيوف بني هاشم وسيوف شيعته مشحوذةً تأبى أنْ تُغمد، دون أنْ تأخذ بحقّها من الدفاع والكفاح، ولكن مصلحة الإسلام العُليا كانت عنده فوقع جميع هذه الاعتبارات.

وأمّا الحسين الشهيد (علیه السّلام) فلئن نهض فلأنّه رأى من بني أُمية إنْ دامت الحال لهم ولم يقف في وجههم من يكشف سوء نيّاتهم، سيُمحون ذكر الإسلام ويُطيحون بمجده، فأراد أنْ يُثبت للتأريخ جورهم وعدوانهم ويفضح ما كانوا يبيّتونه لشريعة الرسول، وكان ما أراد. ولو لا نهضته المُباركة لذهب الإسلام في خبر كان يتلهى بذكره التأريخ كأنه دينٌ باطلٌ، وحرص الشيعة على تجديد ذكراه بشتى أساليبهم إنّما هو لإتمام رسالة نهضته في مكافحة الظلم والجور ولإحياء أمره امتثالاً لأوامر الأئمة من بعده.

وينجلي لنا حرص آل البيت (علیهم السّلام) على بقاء عزّ الإسلام وإن كان ذو السلطة من ألد أعدائهم، في موقف الإمام زين العابدين (علیه السّلام) من ملوك بني أُمية، وهو الموتور لهم، والمُنتهكة في عهدهم حرمتهم وحرمه، والمحزون على ما صنعوا مع أبيه وأهل بيته في واقعة كربلاء، فإنّه مع كلّ ذلك كان يدعو في سرّه لجيوش المسلمين بالنصر وللإسلام بالعزّ وللمسلمين بالدعوة والسلامة، وقد تقدّم أنّه كان سلاحه الوحيد في نشر المعرفة هو الدعاء، فعلّم شيعته كيف يدعون للجيوش الإسلامية والمسلمين، كدعائه المعروف ب-(دعاء أهل الثغور) الذي يقول فيه: «اللهم صلّ على محمّدٍ وآل محمّد، وكثّر عددهم، واشحذ أسلحتهم، واحرس حوزتهم، وامنع حومتهم، وألّف جمعهم ودبّر أمرهم، وواتر بين ميرهم، وتوحّد بكفاية مؤنهم، واعضدهم بالنصر، وأعنهم بالصبر، والطف لهم في المكر» إلى أن يقول بعد أن يدعو على الكافرين: «اللهم وقوِّ بذلك محالّ أهل

ص: 148

الإسلام، وحصّن به ديارهم، وثمّر به أموالهم، وفرّغهم عن محاربتهم لعبادتك، وعن منابذتهم للخلوة بك، حتّى لا يُعبد في بقاع الأرض غيرك، ولا تعفر لأحد منهم جبهة دونك»

وهكذا يمضي في دعائه البليغ -وهو من أطول أدعيته- في توجيه الجيوش المسلمة إلى ما ينبغي لها من مكارم الأخلاق وأخذ العدّة للأعداء، وهو يجمع إلى التعاليم الحربيّة للجهاد الإسلامي بيان الغاية منه وفائدته، كما يُنبّه المسلمين إلى نوع الحذر من أعدائهم وما يجب أنْ يتّخذوه في معاملتهم ومكافحتهم، وما يجب عليهم من الانقطاع إلى الله(عزّ و جلّ) والانتهاء عن محارمه، والإخلاص لوجهه الكريم في جهادهم.

وكذلك باقي الأئمة (علیهم السّلام) في مواقفهم مع ملوك عصرهم، وإنْ لاقوا منهم أنواع الضغط والتنكيل بكُلّ قساوةٍ وشدّةٍ، فإنّهم لمّا علموا أنّ دولة الحقّ لا تعود إليهم انصرفوا إلى تعليم الناس معالم دينهم وتوجيه أتباعهم التوجيه الدينيّ العالي.

وكُلُّ الثورات التي حدثت في عصرهم من العلويّين وغيرهم لم تكن عن إشارتهم ورغبتهم، بل كانت كُلُّها مُخالفةً صريحةً لأوامرهم وتشديداتهم، فإنّهم كانوا أحرص على كيان الدولة الإسلامية من كُلِّ أحدٍ حتّى من خلفاء بني العباس أنفسهم.

وكفى أنْ نقرأ وصية الإمام موسى بن جعفر (علیه السّلام) لشيعته: «لا تذلّوا رقابكم بترك طاعة سلطانكم، فإنْ كان عادلاً فاسألوا الله بقاءه، وإن كان جائراً فاسألوا الله إصلاحه، فإنّ صلاحكم في صلاح سلطانكم، وأنّ السلطان العادل بمنزلة الوالد الرحيم فأحبّوا له ما تحبّون لأنفسكم، واكرهوا له ما تكرهون لأنفسكم»

وهذا غاية ما يوصف في محافظة الرعيّة على سلامة السلطان، أنْ يُحبّوا له ما يُحبّون لأنفسهم، ويكرهوا له ما يكرهون لها.

ص: 149

وبعد هذا، فما أعظم تجنّي بعض كتاب العصر إذ يصف الشيعة بأنّهم جمعية سريّة هدّامة، أو طائفة ثوروية ناقمة! صحيحٌ أنّ من خلق الرجل المسلم المُتّبع لتعاليم آل البيت (علیهم السّلام) بغض الظلم والظالمين والانكماش عن أهل الجور والفسوق، والنظرة إلى أعوانهم وأنصارهم نظرة الاشمئزاز والاستنكار، والاستيحاش والاستحقار، وما زال هذا الخلق مُتغلغلاً في نفوسهم يتوارثونه جيلاً بعد جيل، ولكن مع ذلك ليس من شيمتهم الغدر والختل، ولا من طريقتهم الثورة والانتفاض على السلطة الدينية السائدة باسم الإسلام، لا سرّاً ولا علناً، ولا يُبيحون لأنفسهم الاغتيال أو الوقيعة بمسلمٍ مهما كان مذهبه وطريقته، أخذاً بتعاليم أئمتهم (علیهم السّلام) بل المسلم الذي يشهد الشهادتين مصون المال محقون الدم، مُحرّم العرض، «لا يحلّ مال امرئٍ مُسلمٍ إلّا بطيب نفسه»، بل المُسلم أخو المُسلم عليه من حقوق الأخوّة لأخيه ما يكشف عنه البحث الآتي». انتهى.

يتعرض الشيخ(رحمه الله)في هذه العقيدة إلى مفهوم الوحدة الإسلامية ويذكر عدة أمور فيه، وربما نلحظ من بعضها تسامحًا في التعبير، كذكره أنَّ أمير المؤمنين (علیه السّلام) لم يُبين رأيه في الغاصبين لحقِّه، ولعله كان يقصد بذلك(رحمه الله)عدم مطالبته بحقه في الأوقات الحرجة. وعلى كلِّ حالٍ فهنا عدة نقاط تنفع في المقام:

النقطة الأولى: تأكيد القرآن الكريم على الوحدة بين الديانات.

يؤكد القرآن الكريم على الوحدة العامة للديانات السماوية؛ لاشتراكها في الأصول العامة، قال(عزّ و جلّ): ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الله يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾.(1)

ص: 150


1- سورة الشورى: آية 13.

فتشير الآية المباركة إلى أنَّ الدين الذي شُرع للمسلمين هو ما وصى الله(عزّ و جلّ) به نوحًا، ووصى به إبراهيم وموسى وعيسى (علیهم السّلام)، أنْ أقيموا الدين، أي أنّ هناك أصولاً عامة تشترك بها الأديان السماوية.

النقطة الثانية: الاشتراك بين الأديان لا يعني عدم التمايز بينها.

إنّ اشتراك الأديان السماوية في الأصول العامة لا يعني عدم وجود تمايزٍ بينها، فالاختلاف والتمايز واقعٌ معاش لا ينكر. والمسائل الخلافية بين الأديان، بل بين مذاهب الدين الواحد أكثر من أنْ تُحصى في عجالة.

النقطة الثالثة: التمايز والاختلاف هو ما يحفظ كيان المذهب.

فإذا نظرنا إلى المذاهب الإسلامية مثلًا نجد أنّ بينها مشتركات، إذ إنّ كلَّ المسلمين يؤمنون بالله(عزّ و جلّ) وبنبوة النبي الأكرم (صلّی الله علیه و آله)، وأنَّ القرآن هو معجزة النبي الأكرم (صلّی الله علیه و آله)، وكلهم يصلون إلى قبلة واحدة، وكلهم يدفنون موتاهم بكيفيةٍ واحدة، وغيرها من المشتركات.

بيد أنَّ هذه المشتركات لا تميز أو تشخص مذهبًا دون آخر، وإنّما الذي يميز متبعي أهل البيت (علیهم السّلام) مثلًا عن غيرهم هو المسائل المختلفة، سواء كانت عقدية أو فقهية، كالاعتقاد بعينية الصفات، وبعصمة النبي (صلّی الله علیه و آله) المطلقة، وبالعدل الإلهي، وأنَّ الإمامة بالنص، وأنَّ أصحاب الأعراف هم أهل البيت (علیهم السّلام)، وكمسح الرأس وظاهر القدمين لا غسلهما، وبطلان الصلاة بقول (آمين) عمدًا بعد قراءة سورة الفاتحة، والخمس، وغير ذلك من المسائل كثير.

فاختلاف الإمامية الاثني عشرية عمّا سواهم في هذه المسائل وغيرها هو الذي ميّز مذهبهم عن سائر المذاهب الأخرى، فالمذهب يحتفظ بوجوده بمميزاته عن غيره من المذاهب، والتمايز هو ما يحفظ كيان المذهب، ويترتب على هذا أنَّ على اتباع المذهب

ص: 151

أن يصبوا كل اهتمامهم على:

1/بيان مميزاتهم.

2/دفع الشبهات والإشكالات عن تلك المميزات.

3/بيان خطأ مميزات المذاهب الأخرى.

وذلك لأن طبيعة الإنسان أنه يدافع عن مميزاته، وهذا أمرٌ طبيعي، ولكنه لا يعني أنّ كلِّ المذاهب على حقٍ؛ فكما روي عن الإمام علي (علیه السّلام): «مَا اخْتَلَفَتْ دَعْوَتَانِ إِلَّا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا ضَلَالَةً».(1)

النقطة الرابعة: ضرورة عدم التنازل عن الثوابت من أجل الوحدة الإسلامية.

على الرغم من أهمية الدعوة إلى الوحدة الإسلامية، والسعي إلى تحقيقها، إلا أنَّه يلزم أن لا يصطدم بثوابت وضروريات المذهب، وإلا عُدّ تنازلًا عن كيان المذهب نفسه، وقد تقدم أن وجود ما يميز الإمامية عن سواهم هو الذي يحفظ كيان هذا المذهب، وعليه؛ فليس من الصحيح التنازل عن وجوب الخمس والقول ببطلانه، أو التنازل عن الاعتقاد بالرجعة والقول باستحالتها، أو التنازل عن صحة الزواج المنقطع والقول بنسخه، من أجل الوحدة الإسلامية؛ لأن الأمر حينذاك لم يعد وحدةً إسلاميةً، إنّما يصير تنازلًا عن ثوابت المذهب، وتمييعه وتذويبه في المذاهب الأخرى، فلا يبقى له الكيان الخاص به.

فالوحدة الإسلامية لا تعني التنازل عن ثوابت وضروريات المذهب.

النقطة الخامسة: رعاية الأولويات.

كما أنّ من أهم المباني الإسلامية هو مبنى تقديم المصلحة العامة على المصلحة

ص: 152


1- نهج البلاغة ج4 ص43 الحكمة رقم 183.

الشخصية، فإنَّ من أهم المباني الإسلامية أيضًا رعاية الأولويات في الأهمية، وهذا أمرٌ دعا إليه أهل البيت (علیهم السّلام)؛ ولذلك قام أهل البيت (علیهم السّلام) بأعمالٍ وافقت هذا المبدأ، مثل السكوت عن المطالبة بالحق في وقت ما، كما هو موقف أمير المؤمنين (علیه السّلام)، إذ قدّم المصلحة الأكثر أهميةً على ما تليها في الأهمية، فقدّم مسألة الحفاظ على الدين الإسلامي على مسألة خلافته الظاهرية، وقد تبعه في ذلك أهل البيت (علیهم السّلام)، فقد أجلوا وأخروا المطالبة بحقوقهم في أغلب المواقف إلى فرصٍ أخرى وما شابه.

إن علامات الاستفهام كثرت على موقف الإمام علي (علیه السّلام) -في عدم مطالبته بالخلافة الظاهرية- أكثر من غيره من الأئمة (علیهم السّلام)، إمّا استفهامًا، أو احتجاجًا به على صحة خلافة الخلفاء الثلاثة وتأخره عنهم.

ومهما يكن الدافع وراء هذا السؤال، فيمكن الإجابة عنه بما يأتي:

بعد استشهاد رسول الله (صلّی الله علیه و آله) كانت هناك عدة أخطار تحيط بالدولة الإسلامية الفتية:

1. الخطر الخارجي المتمثل بالأكاسرة والقياصرة الذين كانوا قد أعدّوا العدة للهجوم على الإسلام.

2. اليهود الذين كانوا قريبين من الدولة الإسلامية.

3. عدم تعمق الإيمان في قلوب المسلمين، فالكثير منهم كان يتصور أن خلافة رسول الله (صلّی الله علیه و آله) هي عبارةٌ عن ملكٍ، فمن يسبق إليه فهو الأحقُّ فيه، لذلك رُفِعت بعض الشعارات: «منكم أمير ومنا أمير»، و«إنّ ملك قريش لا يذهب لغيرهم».(1)

ص: 153


1- نقل الطبري في تاريخه ج2 ص457 ما نصه: قام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال: يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم فإن الناس في فيئكم وفى ظلكم ولن يجترئ مجترئ على خلافكم ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم أنتم أهل العز والثروة وأولوا العدد والمنعة والتجربة ذوو البأس والنجدة وإنما ينظر الناس إلى ما تصنعون ولا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم وينتقض عليكم أمركم أبى هؤلاء إلا ما سمعتم فمنا أمير ومنكم أمير. فقال عمر: هيهات لا يجتمع اثنان في قرن والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم ولكن العرب لا تمتنع أن تولى أمرها من كانت النبوة فيهم وولى أمورهم منهم ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل أو متجانف لاثم أو متورط في هلكة... انتهى فلاحظ أن عمر بن الخطاب اعتبر ما عليه النبي (صلّی الله علیه و آله) سلطان لعشيرته وأتباعه، وهو امارة لا نبوة، ولله في خلقه شؤون.

وقد فرضت هذه الأخطار ظرفًا موضوعيًا استدعى من أهل البيت (علیهم السّلام) تأجيل الإجهار بالمطالبة بحقوقهم، ولكن في نفس الوقت هذا لا يعني أنّ أهل البيت (علیهم السّلام) تنازلوا عن حقهم أو أنّهم حوّلوا الإمامة إلى غيرهم كما يريد البعض أنْ يُصوّر هذه المسألة. وإنّما كانوا يُسايرون القوم من أجل الحفاظ على الكيان الإسلامي.

فهم من جانبٍ لم يتنازلوا عن مميزاتهم، ومن جانبٍ آخر عملوا قدر الإمكان من أجل الحفاظ على الوحدة الإسلامية، وهذا ما صرّح به أهل البيت (علیهم السّلام) في كثيرٍ من المناسبات، نذكر منها التالي:

ما ورد عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) من خطبة له (علیه السّلام) لما عزموا على بيعة عثمان:

«لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي، ووَ الله لأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ، ولَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً، الْتِمَاساً لأَجْرِ ذَلِكَ وفَضْلِه، وزُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوه مِنْ زُخْرُفِه وزِبْرِجِه».(1)

ومن كتاب له (علیه السّلام) إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لما ولاه إمارتها:

«أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الله سُبْحَانَه بَعَثَ مُحَمَّداً (صلّی الله علیه و آله) نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ ومُهَيْمِناً عَلَى الْمُرْسَلِينَ، فَلَمَّا مَضَى (علیه السّلام) تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الأَمْرَ مِنْ بَعْدِه، فَوَالله مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي، ولَا يَخْطُرُ بِبَالِي

ص: 154


1- نهج البلاغة ج1 ص124.

أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الأَمْرَ، مِنْ بَعْدِه (صلّی الله علیه و آله) عَنْ أَهْلِ بَيْتِه، ولَا أَنَّهُمْ مُنَحُّوه عَنِّي مِنْ بَعْدِه، فَمَا رَاعَنِي إِلَّا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلَانٍ يُبَايِعُونَه، فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الإِسْلَامِ، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ (صلّی الله علیه و آله)، فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الإِسْلَامَ وأَهْلَه أَنْ أَرَى فِيه ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِه عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ، يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ، أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ، فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الأَحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وزَهَقَ، واطْمَأَنَّ الدِّينُ وتَنَهْنَه».(1)

وبهذا المعنى يُبرَّر نصح أمير المؤمنين (علیه السّلام) عمر بن الخطاب بأنْ لا يخرج بنفسه إلى قتال الجيوش؛ لأنَّ أمير المسلمين أمام القياصرة هو عمر بن الخطاب، وإذا قُتِلَ فإنّ الأعداء سيتصورون أنّ الإسلام انتهى أمره وضعف لأن قائدهم قتل، لذا فإنّ نصيحة أمير المؤمنين (علیه السّلام) إيّاه إنّما كانت خوفًا منه على الإسلام لا على نفس عمر.

يشهد بذلك صريح عبارته (علیه السّلام) لمّا شاوره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزو الروم، حيث قال له:

«وقَدْ تَوَكَّلَ الله لأَهْلِ هَذَا الدِّينِ بِإِعْزَازِ الْحَوْزَةِ وسَتْرِ الْعَوْرَةِ، والَّذِي نَصَرَهُمْ وهُمْ قَلِيلٌ لَا يَنْتَصِرُونَ، ومَنَعَهُمْ وهُمْ قَلِيلٌ لَا يَمْتَنِعُونَ، حَيٌّ لَا يَمُوتُ، إِنَّكَ مَتَى تَسِرْ إِلَى هَذَا الْعَدُوِّ بِنَفْسِكَ، فَتَلْقَهُمْ فَتُنْكَبْ، لَا تَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ كَانِفَةٌ دُونَ أَقْصَى بِلَادِهِمْ، لَيْسَ بَعْدَكَ مَرْجِعٌ يَرْجِعُونَ إِلَيْه، فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ رَجُلًا مِحْرَباً، واحْفِزْ مَعَه أَهْلَ الْبَلَاءِ والنَّصِيحَةِ، فَإِنْ أَظْهَرَ الله فَذَاكَ مَا تُحِبُّ، وإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى كُنْتَ رِدْءاً لِلنَّاسِ ومَثَابَةً لِلْمُسْلِمِينَ».(2)

وكذلك ما ورد في سيرة الإمام الباقر (علیه السّلام) من أنَّ ملك الروم هدّد عبد الملك بن مروان أنْ يضرب الدولة الإسلامية بحصار اقتصادي، بعد أنْ طلب عبد الملك بن

ص: 155


1- نهج البلاغة ج3 ص118و119.
2- نهج البلاغة ج2 ص18.

مروان من الروم أن يغيروا شعار العملة -وكان آنذاك شعارًا مسيحيًا- فلم يقبل منه وهدده بقطع الدينار عن الدولة الإسلامية. فخاف عبد الملك واستشار حواشيه فأشار أحدهم بقوله: أنت تعلم أنّ الحل عند محمد بن علي الباقر (علیه السّلام)، فبعث إليه، فعلّمهم الإمام (علیه السّلام) كيفية سكِّ عملةٍ خاصةٍ بهم وطُبِعت شعارات إسلاميةٌ عليها، كما علمهم كيفية تمييز الدينار المغشوش من غيره، وبذا أنقذ الإمام الباقر (علیه السّلام) الدولة الإسلامية من الحصار الاقتصادي.(1)

ص: 156


1- انظر: حياة الحيوان لكمال الدين الدميري ج1 ص 95- 97. حيث قال الإمام الباقر (علیه السّلام) لعبد الملك: «لا يعظم هذا عليك، فإنه ليس بشيء من جهتين: إحداهما أن الله(عزّ و جلّ)، لم يكن ليطلق ما تهدد به صاحب الروم، في رسول الله (صلّی الله علیه و آله)، والأخرى وجود الحيلة فيه». قال: وما هي؟ قال: «تدعو في هذه الساعة بصناع، فيضربون بين يديك سككا للدراهم والدنانير، وتجعل النقش عليها صورة التوحيد، وذكر رسول الله (صلّی الله علیه و آله)، أحدهما في وجه الدرهم والدينار، والآخر في الوجه الثاني، وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه، والسنة التي يضرب فيها تلك الدراهم والدنانير». وقد تقدمت هذه الرواية وترجيح أن هذه الواقعة حدثت مع الإمام زين العابدين (علیه السّلام) في الجزء2 ص90، هامش رقم (1).
عقيدتنا في حقِّ المسلمِ على المسلم

قال الشيخ(رحمه الله):

«عقيدتنا في حقّ المسلم على المسلم:

إنّ من أعظم وأجمل ما دعا إليه الدين الإسلامي هو التآخي بين المسلمين على اختلاف طبقاتهم ومراتبهم ومنازلهم. كما أنّ من أوطأ وأخس ما صنعه المسلمون اليوم وقبل اليوم هو تسامحهم بالأخذ بمُقتضيات هذه الإخوّة الإسلاميّة؛ لأنّ من أيسر مقتضياتها -كما سيجيئ في كلمة الإمام الصادق (علیه السّلام)- «أنْ يُحِبّ لأخيه المسلم ما يُحِبّ لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه».

أنعم النظر وفكّر في هذه الخصلة اليسيرة في نظر آل البيت (علیهم السّلام) فستجد أنّها من أشقّ ما يُفرض طلبه من المسلمين اليوم، وهم على مثل هذه الأخلاق الموجودة عندهم البعيدة عن روحية الإسلام، فكّر في هذه الخصلة لو قُدّر للمسلمين أنْ يُنصفوا أنفسهم ويعرفوا دينهم حقّاً ويأخذوا بها فقط -أنْ يُحِبّ أحدهم لأخيه ما يُحِبّ لنفسه- لما شاهدت من أحدٍ ظلماً ولا اعتداءً، ولا سرقةً ولا كذباً، ولا غيبةً ولا نميمةً، ولا تُهمةً بسوءٍ ولا قدحاً بباطلٍ، ولا إهانةً ولا تجبُراً.

بلى، إنّ المُسلمين لو وقفوا لإدراك أيسر خصالِ الإخوّة فيما بينهم وعملوا بها لارتفع الظلم والعدوان من الأرض، ولرأيت البشر إخواناً على سُرُرٍ مُتقابلين قد كمُلَت لهم أعلى درجات السعادة الاجتماعيّة، ولتحقّق حُلُم الفلاسفة الأقدمين في المدينة الفاضلة، فما احتاجوا حينما يتبادلون الحُبّ والمودة إلى الحكومات والمحاكم، ولا إلى الشرطة

ص: 157

والسجون، ولا إلى قانونٍ للعقوبات وأحكامٍ للحدود والقصاص، ولما خضعوا لمُستعمرٍ ولا خنعوا لجبّارٍ، ولا استبدّ بهم الطغاة، ولتبدّلت الأرض غير الأرض وأصبحت جنّة النعيم ودار السعادة.

أزيدك، أنّ قانون المحبّة لو ساد بين البشر -كما يُريده الدين بتعاليم الإخوّة- لانمحت من قاموس لُغاتنا كلمة (العدل)، بمعنى أنّا لم نعُد نحتاجُ إلى العدل وقوانينه حتّى نحتاج إلى استعمال كلمته، بل كفانا قانون الحبّ لنشر الخير والسلام، والسعادة والهناء؛ لأنّ الإنسان لا يحتاج إلى استعمال العدل ولا يطلبه القانون منه إلّا إذا فقد الحبّ فيمن يجب أنْ يعدل معه، أمّا فيمن يُبادله الحُبّ كالولد والأخ إنّما يُحسن إليه ويتنازل له عن جُملةٍ من رغباته فبدافعٍ من الحُبّ والرغبة عن طيب خاطر، لا بدافع العدل والمصلحة.

وسرّ ذلك أنّ الإنسان لا يُحِبّ إلّا نفسه وما يُلائم نفسه، ويستحيل أنْ يُحِبّ شيئاً أو شخصاً خارجاً عن ذاته إلّا إذا ارتبط به وانطبعت في نفسه منه صورةٌ ملائمةٌ مرغوبةٌ لديه. كما يستحيل أنْ يُضحّي بمحضِ اختياره له، في رغباته ومحبوباته لأجلِ شخصٍ آخر لا يًحِبّه ولا يرغب فيه، إلّا إذا تكوّنت عنده عقيدةٌ أقوى من رغباته مثل عقيدة حُسن العدل والإحسان، وحينئذٍ إذ يُضحّي بإحدى رغباته إنّما يضحّي لأجل رغبةٍ أخرى أقوى كعقيدته بالعدل إذا حصلت التي تكون جزءٌ من رغباته بل جزءٌ من نفسه.

وهذه العقيدة المثالية لأجل أنْ تتكون في نفس الإنسان تتطلّب منه أنْ يسمو بروحه على الاعتبارات الماديّة، ليُدرك المثال الأعلى في العدل والإحسان إلى الغير، وذلك بعد أنْ يعجز أنْ يتكون في نفسه شعور الإخوّة الصادق والعطف بينه وبين أبناء نوعه.

فأوّل درجات المسلم التي يجب أنْ يتّصف بها أنْ يحصل عنده الشعور بالإخوّة مع الآخرين فإذا عجز عنها -وهو عاجزٌ على الأكثر لغلبة رغباته الكثيرة وأنانيّته- فعليه أنْ يكوِّن في نفسه عقيدةً في العدل والإحسان اتباعاً للإرشادات الإسلامية، فإذا عجز عن

ص: 158

ذلك فلا يستحقّ أنْ يكون مسلماً إلّا بالاسم وخرج عن ولاية الله ولم يكن لله فيه نصيبٌ على حدِّ التعبير الآتي للإمام. والإنسان على الأكثر تطغى عليه شهواته العارمة فيكون من أشقّ ما يُعانيه أنْ يهيأ نفسه لقبول عقيدة العدل، فضلاً عن أنْ يحصل عليها عقيدةً كاملةً تفوق بقوّتها على شهواته.

فذلك كان القيام بحقوق الإخوّة من أشقّ تعاليم الدين إذا لم يكن عند الإنسان ذلك الشعور الصادق بالإخوّة. ومن أجل هذا أشفق الإمام أبو عبد الله الصادق (علیه السّلام) أن يوضح لسائله وهو أحد أصحابه «المُعلّى بن خنيس» عن حقوق الإخوان أكثر مما ينبغي أن يوضح له خشية أنْ يتعلم ما لا يستطيع أنْ يعمل به. قال المعلى:

قلتُ له: ما حقّ المسلم على المسلم؟

قال أبو عبد الله: «له سبعة حقوق واجبات، ما منهن حقّ إلّا وهو عليه واجبٌ، إنْ ضيّع منها شيئاً خرج من ولاية الله وطاعته، ولم يكن لله فيه نصيب».

قلتُ له: جُعِلتُ فداك! وما هي؟

قال: «يا مُعلّى، إنّي عليك شفيقٌ، أخاف أنْ تضيّع ولا تحفظ، وتعلم ولا تعمل».

قلتُ: لا قوّة إلّا بالله.

وحينئذٍ ذكر الإمام الحقوق السبعة بعد أنْ قال عن الأوّل منها: «أيسر حقٍّ منها أنْ تُحِبَّ له ما تُحِبّ لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك».

يا سبحان الله! هذا هو الحقّ اليسير! فكيف نجد -نحن المسلمين اليوم- يُسر هذا الحقّ علينا؟ شاهت وجوهٌ تدّعي الإسلام ولا تعمل بأيسر ما يفرضه من حقوق. والأعجب؟ أنْ يلصق بالإسلام هذا التأخر الذي أصاب المسلمين! وما الذنب إلّا ذنب من يُسمّون أنفسهم بالمسلمين، ولا يعلمون بأيسر ما يجب أنْ يعملوه من دينهم.

ص: 159

ولأجل التأريخ فقط، ولنعرف أنفسنا وتقصيرها، أذكر هذه الحقوق السبعة التي أوضحها الإمام (علیه السّلام).

1. أنْ تُحِبّ لأخيك المسلم ما تُحِبّ لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك.

2. أنْ تجتنب سخطه، وتتبع مرضاته، وتُطيع أمره.

3. أنْ تُعينه بنفسك، ومالك، ولسانك، ويدك، ورجلك.

4. أنْ تكون عينه، ودليله، ومرآته.

5. أنْ لا تشبع ويجوع، ولا تروى ويظمأ، ولا تلبس ويعرى.

6. أنْ يكون لك خادمٌ وليس لأخيك خادم، فواجبٌ أنْ تبعث خادمك، فتغسل ثيابه، وتصنع طعامه، وتمهّد فراشه.

7. أنْ تبرّ قسمه، وتُجيب دعوته، وتعود مريضه، وتشهد جنازته.

وإذا علمت له حاجةً تُبادره إلى قضائها، ولا تُلجئه إلى أن يسألكها، ولكن تُبادره مُبادرة».

ثم ختم كلامه (علیه السّلام) بقوله:

«فإذا فعلت ذلك وصلت ولا يتك بولايته وولايته بولايتك».

وبمضمون هذا الحديث رواياتٌ مُستفيضةٌ عن أئمتنا جمع قسماً كبيراً منها كتاب الوسائل في أبوابٍ مُتفرقة.

وقد يتوّهم المُتوهم أنّ المقصود بالإخوّة في أحاديث أهل البيت (علیهم السّلام) خصوص الاخوّة بين المسلمين الذين من أتباعهم «شيعتهم خاصة»، ولكنّ الرجوع إلى رواياتهم كُلّها يطرد هذا الوهم، وإنْ كانوا من جهةٍ أخرى يُشدّدون النكير على من يُخالف طريقتهم ولا يأخذ بهُداهم ويكفي أنْ تقرأ حديث معاوية بن وهب قال:

ص: 160

قلت له -أي الصادق (علیه السّلام)-: كيف ينبغي لنا أنْ نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خُلطائنا من الناس ممن ليسوا على أمرنا، فقال: «تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون، فو الله، إنّهم ليعودون مرضاهم، ويشهدون جنائزهم، ويُقيمون الشهادة لهم وعليهم ويؤدّون الأمانة إليهم».

أمّا الإخوة التي يُريدها الأئمة (علیهم السّلام) من أتباعهم فهي أرفع من هذه الإخوّة الإسلامية، وقد سمعت بعض الأحاديث في فصل تعريف الشيعة. ويكفي أنْ تقرأ هذه المحاورة بين أبان بن تغلب وبين الصادق (علیه السّلام) من حديث أبان نفسه. قال أبان: كنتُ أطوف مع أبي عبد الله فعرض لي رجلٌ من أصحابنا كان سألني الذهاب معه في حاجته، فأشار إليّ، فرآنا أبو عبد الله.

قال: «يا أبان إياك يريد هذا؟»

قلتُ: نعم

قال: «هو على مثل ما أنت عليه؟»

قلتُ: نعم.

قال: «فاذهب إليه واقطع الطواف».

قلتُ: وإنْ كان طواف الفريضة؟

قال: «نعم».

قال أبان: فذهبت، ثم دخلت عليه بعد، فسألته عن حقّ المؤمن

فقال: «دعه لا تردّه!»

فلم أزل أرد عليه حتّى قال: «يا أبان تُقاسمه شطر مالك، ثم نظر إليّ فرأى ما داخلني، فقال: يا أبان، أما تعلم أنّ الله قد ذكر المؤثرين على أنفسهم؟»

ص: 161

قلتُ: بلى

قال: «إذا أنت قاسمته فلم تؤثره، إنّما تؤثره إذا أنت أعطيته من النصف الآخر!»

أقول: إنّ واقعنا المُخجل لا يُطمعنا أنْ نسمّي أنفسنا بالمؤمنين حقّاً. فنحن بوادٍ وتعاليم أئمتنا (علیهم السّلام) في وادٍ آخر. وما داخل نفس أبان يُداخل نفس كُلِّ قارئٍ لهذا الحديث، فيصرف بوجهه مُتناسياً له كأنّ المُخاطب غيره، ولا يُحاسب نفسه حساب رجلٍ مسؤول». انتهى.

لكي يتبين المقصود من هذه العقيدة نذكر الخطوات التالية:

1. يمثل الدين منهاجًا متكاملًا لحياةٍ أفضل، فليس هو مجرد طقوسٍ تُتلى في بيوتِ العبادة، وإنّما بالإضافة إلى تلك الطقوس المقدسة هو منهجٌ عمليٌ يتدخل في جميع مفاصل الحياة.

2. إنّ العلاقات التي يعيشها الفرد متنوعةٌ، فهناك العلاقة العمودية المتمثلة بالعلاقة بالله(عزّ و جلّ) وما يترتب عليها من الاعتقاد بالرسول (صلّی الله علیه و آله) وأهل البيت (علیهم السّلام) وبالكتاب وبالإسلام عمومًا، وهناك علاقةٌ أفقيةٌ هي علاقة الإنسان بالطبيعة عمومًا وبأخيه الإنسان خصوصًا، كعلاقتك برحمك وزميلك بالعمل وجارك وهكذا.

3. جاء الدين لينظم جميع هذه العلاقات عبر الشريعة المقدسة، فهناك أصول الدين التي تنظم العلاقة مع الخالق، وهناك فروع الدين التي تنظم طريقة التقرب إلى الخالق وطريقة إرضائه، وكذلك هناك آداب التعامل وآداب العشرة التي تُعنى بتنظيم العلاقات الأفقية.

إذن فالدين ينظم كلَّ العلاقات الأفقية والعمودية من خلال الشريعة.

4. هناك أحكامٌ شرعية عالجت آداب العشرة، مثل آداب النفقة على الزوجة وعلى

ص: 162

الأبوين وعلى الأبناء بشروطٍ ذُكِرت في كتب الفقه في كتاب النكاح وباب النفقات على الزوجة والأولاد، وكعلاقة الرحم، وآداب السفر والزيارة وغيرها.

وقد أضفت الشريعة المقدسة على بعض تلك الأحكام صفة الإلزام الشرعي، حيث يؤثم المكلف عند مخالفتها، كالنفقة على الزوجة، فهي واجبةٌ حتى وإنْ كان الزوج فقيرًا وكانت الزوجة غنية، فعلى الزوج أنْ ينفق على زوجته مطلقًا، وأما الأبوان والأبناء فيجب على المؤمن الإنفاق عليهم فيما إذا كانوا فقراء وكان هو غنياً.

وإلى جانب الأحكام الإلزامية فقد جاءت الشريعة المقدسة بأحكام شرعية أخرى إلا أنّها مستحبة مؤكدًا، يترتب على فعلها ثواب عظيم.

5. تلك الآداب المستحبة وإنْ كانت غير إلزامية لكنَّ الأدبيات الروائية أطلقت عليها عنوان: الحق، وإنْ كانت ليست حقًا في واقعها، مثل إعارة الشيء، فهو ليس بحق، ويفتقر إلى سمة الإلزام، لكن الروايات أطلقت عليه كلمة (حق)؛ لأنّ الدين يعد العلاقة العقائدية من أقوى العلاقات التي تربط بين أفراد المجتمع، تلك العلاقة التي لا تبتني على مصلحةٍ أو أمرٍ دنيوي، إنّما تكون لوجه الله(عزّ و جلّ)، والدين يعدها من أقوى العلاقات؛ لذلك فابن النبي نوح (علیه السّلام) وإنْ كان ابنه نسبًا، غير أنَّ القرآن الكريم لم يعتبره كذلك، قال(عزّ و جلّ): ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾، فقطع العلاقة بينهما؛ لاختلافهما في العقيدة. على حين «سلمان منا أهل البيت»، إذ روي أنه احتج المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي، وكان رجلاً قوياً، فقال المهاجرون: سلمان منا. وقالت الأنصار: لا، بل سلمان منا. فقال رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «سلمان منا أهل البيت».(1)

فالارتباط العقائدي يجعل هذه العلاقات حقًا لازماً على الآخر، وقد تنوعت تلك الحقوق إلى مفرداتٍ عديدة ذكرها الشيخ(رحمه الله)من خلال عدة روايات، نكتفي هنا بذكر

ص: 163


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج21 ص 408.

واحدة مهمة منها:

عَنْ مُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: قُلْتُ لَه: مَا حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ؟

قَالَ (علیه السّلام): «لَه سَبْعُ حُقُوقٍ وَاجِبَاتٍ، مَا مِنْهُنَّ حَقٌّ إِلَّا وهُوَ عَلَيْه وَاجِبٌ، إِنْ ضَيَّعَ مِنْهَا شَيْئاً خَرَجَ مِنْ وِلَايَةِ الله وطَاعَتِه ولَمْ يَكُنْ لله فِيه مِنْ نَصِيبٍ».

قُلْتُ لَه: جُعِلْتُ فِدَاكَ، ومَا هِيَ؟

قَالَ (علیه السّلام): «يَا مُعَلَّى، إِنِّي عَلَيْكَ شَفِيقٌ، أَخَافُ أَنْ تُضَيِّعَ ولَا تَحْفَظَ، وتَعْلَمَ ولَا تَعْمَلَ».

قَالَ: قُلْتُ لَه: لَا قُوَّةَ إِلَّا بالله.

قَالَ (علیه السّلام): «أَيْسَرُ حَقٍّ مِنْهَا أَنْ تُحِبَّ لَه مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ وتَكْرَه لَه مَا تَكْرَه لِنَفْسِكَ.

والْحَقُّ الثَّانِي: أَنْ تَجْتَنِبَ سَخَطَه وتَتَّبِعَ مَرْضَاتَه وتُطِيعَ أَمْرَه.

والْحَقُّ الثَّالِثُ: أَنْ تُعِينَه بِنَفْسِكَ ومَالِكَ ولِسَانِكَ ويَدِكَ ورِجْلِكَ.

والْحَقُّ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ عَيْنَه ودَلِيلَه ومِرْآتَه.

والْحَقُّ الْخَامِسُ: أَنْ لَا تَشْبَعَ ويَجُوع، ولَا تَرْوَى ويَظْمَأ، ولَا تَلْبَسَ ويَعْرَى.

والْحَقُّ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ لَكَ خَادِمٌ ولَيْسَ لأَخِيكَ خَادِمٌ، فَوَاجِبٌ أَنْ تَبْعَثَ خَادِمَكَ فَيَغْسِلَ ثِيَابَه ويَصْنَعَ طَعَامَه ويُمَهِّدَ فِرَاشَه.

والْحَقُّ السَّابِعُ: أَنْ تُبِرَّ قَسَمَه(1)، وتُجِيبَ دَعْوَتَه، وتَعُودَ مَرِيضَه، وتَشْهَدَ جَنَازَتَه، وإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ لَه حَاجَةً تُبَادِرُه إِلَى قَضَائِهَا، ولَا تُلْجِئُه أَنْ يَسْأَلَكَهَا، ولَكِنْ تُبَادِرُه مُبَادَرَةً.

فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ وَصَلْتَ وَلَايَتَكَ بِوَلَايَتِه ووَلَايَتَه بِوَلَايَتِكَ».(2)

ص: 164


1- الظاهر أن قسمه بفتحتين وهو اسم من الأقسام وأن المراد ببر قسمه قبوله: واصل البر الاحسان ثم استعمل في القبول، يقال بر الله عمله إذا قبله كأنه أحسن إلى عمله بان قبله ولم يرده كذا في الفائق وقبول قسمه وإن لم يكن واجبا شرعا لكنه مؤكد لئلا يكسر قلبه ولا يضيع حقه. [هامش المصدر].
2- الكافي للكليني ج2 ص 169 بَابُ حَقِّ الْمُؤْمِنِ عَلَى أَخِيه وأَدَاءِ حَقِّه ح2.

الفصل الخامس عقيدتنا في البعث والمعاد

المطلب الأول:إثبات الوجود المجرد (إثبات وجود الروح).

المدرسة الأولى: المدرسة المادية:

قال الشيخ (رحمه الله):

«عقيدتنا في البعث والمعاد:

نعتقدُ أنّ الله(عزّ و جلّ) يبعثُ الناس بعد الموت في خلقٍ جديدٍ في اليوم الموعود به عباده، فيُثيب المُطيعين ويُعذِّب العاصين، وهذا أمرٌ على جُملته وما عليه من البساطة في العقيدة اتفقت عليه الشرائعُ السماويةُ والفلاسفةُ، ولا محيص للمُسلم من الاعتراف به عقيدةً قرآنيةً جاء بها نبينا الأكرم (صلّی الله علیه و آله)، فإنَّ من يعتقدُ بالله اعتقادًا قاطعًا ويعتقد كذلك بمُحمّدٍ رسولًا منه أرسله بالهُدى ودين الحق لا بُدّ أنْ يؤمنَ بما أخبرَ به القرآن الكريم من البعثِ والثواب والعقاب والجنة والنعيم والنار والجحيم، وقد صرَّحَ القرآن بذلك ولمحَ إليه بما يقربُ من ألفِ آيةٍ كريمة.

وإذا تطرّقَ الشكُّ في ذلك إلى شخصٍ فليسَ إلا لشكٍ يُخالجه في صاحبِ الرسالة أو وجود خالق الكائنات أو قدرته، بل ليس إلا لشكٍ يعتريه في أصلِ الأديان كُلِّها وفي صحةِ الشرائعِ جميعها». انتهى.

يتناول الشيخ(رحمه الله)في هذه العقيدة الأصل الأخير من الأصول الخمسة للمذهب والدين، وهو أصل المعاد، ويبتدئ الفصل بهذا العنوان (عقيدتنا في البعث والمعاد)، ولكي تتضح هذه العقيدة بصورةٍ جلية لابُدّ من التطرق إلى مطالبَ عدة نتناولها تباعًا ولكن بعد أن نتعرض إلى معنى المعاد:

ص: 165

المعاد: في اللغة: هو الرجوع والعودة.

في الاصطلاح: هو إعادة الروح إلى البدن في يوم القيامة، أو عودة الروح بعد الموت إلى البدن للحساب وللخلود.

وهنا عدة مطالب:

المطلب الأول:إثبات الوجود المجرد (إثبات وجود الروح).

تقدّم أنَّ المعاد هو إعادة الروح إلى البدن، ومعنى البدن واضحٌ جدًا. فهو موجودٌ مادي، يتسم بجميع ما يميز هذا الوجود من مميزات، وهي:

1. الجسمية، يعني له طول وعرض وعمق أو ارتفاع.

2. الكون في جهةٍ من الجهات، بحيث تمكن الإشارة المادية إليه في جهةٍ دون جهة.

3. لا يشغل مكانين في آنٍ واحد، فالموجود المادي إذا كان موجودًا في جهةٍ فهو حتمًا ليس بموجودٍ في جهةٍ أخرى.

4. إنَّ له زمنًا، يعني له بداية من حيث الزمن وله نهاية، فهو ليس أزلياً ولا أبدياً، أي ليس قديمًا ولا خالدًا.

5. إمكانْ إدراكه بالحواس الظاهرة، بحيث تمكن رؤيته بالعين، وسماعه بالأذن وهكذا. نعم، قد يكون بعيدًا جدًا فنحتاج إلى تلسكوب كما في الأنجم البعيدة في أغوار السماء، وقد يكون صغيرًا جدًا فنحتاج إلى مجهر.

6. موجودٌ مركب، أي إنّه مكوّنٌ من أجزاءٍ مجتمعة، كما يمكن تقسيمه إلى تلك الأجزاء.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يقتصر الوجود على الموجود المادي فقط؟ وإنْ لم يكن الأمر كذلك، وكان هناك موجود مجرد، وهي الروح في محل كلامنا، فلِمَ لا

ص: 166

يُمكننا إدراكها؟ بل ما هو معناها؟

فهل هي موجودة؟ ما الدليل على ذلك؟

هناك مدرستان لكلٍّ منهما جوابٌ مختلفٌ عن الآخر. وهما:

المدرسة الأولى: المدرسة المادية:

وهي التي تفترض أنّ كلَّ ما في الوجود موجودٌ ماديٌ، وأيُّ شيءٍ لا يُدرَك بالحواس فهو غير موجود.

وقد وجدت هذه النظرية حتى في بعض المدارس الإسلامية، كما في مدرسة الأشاعرة، إذ لم يرتضوا (عدم إمكان رؤية الله(عزّ و جلّ) بالعين الباصرة)، وهو أمر يستلزم كونه مادياً –وحاشاه-، ومن المضحك المبكي ما يُنقل من أنَّ أستاذ أحد المدارس الوهابية سأل طلابه: كيف تعرفون الله(عزّ و جلّ) يوم القيامة؟ فأجابه أحدهم: ذكر الله(عزّ و جلّ) في القرآن الكريم: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾! وهناك رواية –عندهم- تقول: إنّ الله(عزّ و جلّ) يسأل النار يوم القيامة: هل امتلأت؟ فتقول: هل من مزيد على الرغم من كثرة الناس والحجارة فيها، وهناك روايةٌ أخرى تقول: إنه تعالى يضع رجله فيها، فتقول له: قط قط قط(1)... شبعت. فقال: عندما يكشف عن رجله نرى أنّ ساقه محروقةٌ فنعرف حينئذٍ أنّه هو الله(عزّ و جلّ) وليس جبرائيل!

ولا غرو فيما فهموه من الكتاب العزيز، إذ إنَّ هذا ما يتوصل اليه التفكير المادي،

ص: 167


1- في مسند أحمد ج2 ص276: عن أبي هريرة ان النبي (صلّی الله علیه و آله) قال: «احتجت الجنة والنار، فقالت الجنة: يا رب مالي لا يدخلني إلا فقراء الناس وسقطهم وقالت النار مالي لا يدخلني الا الجبارون والمتكبرون. فقال للنار: أنت عذابي أصيب بك من أشاء. وقال للجنة: أنت رحمتي أصيب بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما الجنة فإن الله يشئ لها ما يشاء، وأما النار فيلقون فيها وتقول: هل من مزيد، حتى يضع قدمه فيها، فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض وتقول: قط قط قط».

وما الروايات التي استدل بها هذا الطالب الوهابي إلا روايات ساذجة بل وباطلة؛ لتعارضها الصريح مع المحكم من آيات التنزيل الحكيم.

بل إنّ التفكير المادي يلغي كلَّ ما هو بديهي من التصورات وما نراه من أمورٍ خارجية وصورٍ تُطبع في الذهن، فهم يقولون: ليس لدينا في الخارج سوى الوجود المادي وليس هناك وجود للجزء المجرد، فالإنسان وكلّ ما في الوجود هو فقط مادة. ومن يعتقد بهذا أنّى له أنْ يعتقد بعودة الروح إلى البدن؟! إذن فهو لا يعتقد بهذا المعاد.

المدرسة الثانية: المدرسة الواقعية:
الأول: الموجود المادي

تفترض هذه المدرسة أنَّ هناك ثلاثة أنواع من الموجودات:

الأول: الموجود المادي

وقد تقدّم بيانه مع بيان موجز لخصائصه.

الثاني: الموجود المثالي

ويشتمل هذا الموجود على طولٍ وعرضٍ وارتفاعٍ، إلا أنَّه مُفرغٌ من المادة، أي إنَّ نفس المادة غير موجودةٍ فيه. ومثاله الصورة في المرآة، فإنها تشتمل على الطول والعرض والارتفاع للشخص المرئي، ولكنها لا تحوي على مادة ذلك الشخص، والبعض أضاف لها الصورة الذهنية للشيء الذي نتصوره من الخارج،، فعند تصوّر صورة زيدٍ في الذهن مثلًا، حيثُ طوله (170سم)، وعرضه (50سم)، وعمقه (30سم)، فهذه الأبعاد وإنْ كانت موجودةً في الذهن، لكن المادة نفسها لم تنتقل إلى الذهن قطعًا. وكذا بالنسبة إلى تصور صورة أي موجودٍ مادي في الذهن مهما صغر حجمه أو كبر، كالفيل، الجبل، الحجر.

وعليه فالموجود المثالي وإنْ كان يتسم ببعض سمات الموجود المادي كالطول والعرض والارتفاع في الذهن، إلا أنّه ليس بمادي لافتقاده إلى المادة ذاتها.

ص: 168

الثالث: الموجود المجرد:
الدليل الأول: الأنا.

وهذا ما لا مادة في وجوده ولا حتى بعض سمات الموجود المادي، وينقسم إلى قسمين:

1/واجب الوجود:

وهو منحصرٌ بالله(عزّ و جلّ) بالوحدة الحقيقية، فلا يُتصور له فردٌ ثانٍ، قال(سبحانه و تعالی): ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾(1)

وقد تقدم الحديث عنه في مباحث التوحيد.

2/ممكن الوجود:

كما في الملائكة والروح، وهي ممكنةٌ لسبقها بالعدم، ولافتقارها في وجودها وبقائها إلى واجب الوجود.

إذا تبين هذا يُسأل: ما الدليل على الوجود المجرد (الروح)؟

الجواب: توجد عدة أدلة على ذلك، أهمها:

الدليل الأول: الأنا.

أثبت العلم الحديث أنَّ ذرات وخلايا هذا الجسم المادي من الإنسان تتعرض لعملية الهدم والبناء، فتموت خلايا وتولد بدلها خلايا أخرى جديدة وهكذا، بحيث إنّ جميعها تتغير في كلِّ ثمانِ سنواتٍ. أي إنَّ الجزء المادي من يد أي إنسانٍ لم يكن موجودًا نفسه قبل ثمان سنوات.

وأما خلايا المخ فقد ذهب البعض إلى أنّها لا تتحول ولا تتغير، بيدَ أنَّ تطور العلوم أثبت أنّ التغير يطال حتى خلايا المخ، لكن بفترةٍ أطول من الفترة التي تستغرقها عملية

ص: 169


1- الأنبياء 22.

تغيير سائر خلايا الجسم الأخرى.

إذن ننتهي الى أنَّ العلم أثبت أنّ جميع خلايا الجسم تتغير، وعليه فإنَّ جسم الإنسان بعد خمسين سنة مثلاً يكون قد تبدّل وتغير ماديًا بالكامل على أقل تقدير خمس مرات. فيمكن القول -بحسب العلم-: إنَّ يد الإنسان اليوم هي ليست نفس اليد قبل خمسين سنة، ولكن رغم هذا التغيّر يشعر الإنسان أنَّ هناك جزءًا في شخصيته لم يتبدل ولم يتغير رغم تغيّر جسمه باستمرار، فما هو هذا الجزء؟

حسب العلم الحديث، قال العلماء إنَّ عملية التجديد تطال جميع خلايا البدن، فإذن هناك شيءٌ آخر لا يتغير، وذلك الجزء هو الذي ما يسميه الإنسان بقوله (أنا)، فمنذُ أنْ كنتُ في الثالثة من عمري مثلًا، وحتى الآن في السابعة والثلاثين سنة يوجد هناك جزءٌ

ثابت أطلق عليه كلمة (أنا) رغم تغيّر جسمي وتبدله. فهذا الجزء الثابت الذي أعبر عنه ب-(الأنا) هو ليس جزءًا ماديًا؛ إذ لو كان ماديًا لتغير.

إذن هناك جزءٌ آخر في جسم الإنسان غير الجزء المادي وهو الجزء المجرد (الروح) الذي إلى الآن لم تُكتشف حقيقتها، قال(عزّ و جلّ): ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾(1)

الدليل الثاني: التقاط الصور:

إننا ومن خلال العين نلتقط صورًا عن الموجودات المادية الخارجية، ومن خلال هذه الصور نتعامل مع الخارج، فعندما تتعامل مع صديقك مثلًا، فإنَّ عينك تنظر إليه وتلتقط صورة له، فتنتقل هذه الصورة من الوجود الخارجي إلى عينك، ومن ثم إلى ذهنك، ومن خلال هذه الصورة تتعامل معه، فعندما تراه مرةً ثانيةً فإنّك تتعرف إليه من

ص: 170


1- الإسراء 85.

خلال مراجعة صورته الموجودة في ذهنك، فتُجري عملية مطابقة بين الصورة الخارجية والصورة المخزونة في ذهنك فتحكم حينئذٍ بأنَّه فلان، وهكذا في كلِّ الأشياء الأخرى.

وحديثنا هنا حول هذه الصورة الذهنية تحديدًا، والتي عندما تغمض عينك تراها موجودةً، وترى صاحبها من خلالها، رغم أنّك لا تراه حقيقةً، بل ربما كان مسافرًا أو ميتًا حتى.

هذه الصورة هل هي مادية أو لا؟

بمعنى: هل لهذه الصورة طولٌ وعرضٌ وعمقٌ وثقلٌ أو لا؟

لو كانت الصورة ماديةً فهذا يعني أنّ لها ثقلًا وجرمًا ومكانًا، ويُشار إليها بالإصبع، وتُرى بالعين المجردة. أيّ إنَّ هناك شيئاً مادياً انتقل من الخارج وصار في الذهن، ويتناسب مع الذي رأيته في الخارج من حيث سماته المادية، فإذا نظرت إلى نملة يأتي إلى ذهنك شيءٌ له ثقلٌ وأبعاد وشكل النملة، وكذا إذا نظرت إلى دبابة، فيأتي إلى ذهنك ثقلٌ وزنها مثلًا 30 طنًا، وكذا إذا نظرت إلى جبلٍ يأتي إلى ذهنك شيءٌ ثقله مئات وآلاف الأطنان وهكذا.

وهذا من الواضح جدًا أنه غير معقول وغير متحقق في الواقع؛ إذ لا قابلية للذهن على استيعاب كل ما يراه بحجمه وثقله الحقيقيين، والحال أنَّ «كُلُّ وِعَاءٍ يَضِيقُ بِمَا جُعِلَ فِيه - إِلَّا وِعَاءَ الْعِلْمِ فَإِنَّه يَتَّسِعُ بِه»(1) كما يقول امير المؤمنين (علیه السّلام).

وعليه، فإنَّ كلَّ تلك الصور الموجودة في الذهن هي ليست من الوجود المادي، وإنّما هي موجودٌ غير مادي، وهو المجرد، وهو المطلوب.

وبذا ثبت أيضًا بطلان ما ذهبت إليه المدرسة المادية من أنَّ جميع ما في الوجود من

ص: 171


1- نهج البلاغة ج4 ص47 الحكمة رقم 205.

موجوداتٍ هي مادية فقط.

الدليل الثالث: تذكّر وتخيّل الصور:

إنَّ لدى الإنسان قدرةً على تذكر صورٍ كثيرةٍ لأشياء مادية كان قد رآها فيما مضى، فلو رأيت مثلًا حديقة غناء قبل عدة سنوات والآن تريد أنْ تحكي عنها فتقول: دخلتُ الحديقة وكان فيها أنواعٌ من الورود وتنظيمها كذا.. في حين أنّك الآن لستَ في تلك الحديقة، لكنك تتكلم عن صورة الحديقة الموجودة في ذهنك.

وكذلك بالنسبة إلى تخيّل الصور، فبمقدورك تخيل ما تشاء منها وإنْ كان غير موجودٍ في الخارج مطلقًا، كما لو كنت تتخيل طائرًا برأسين، أو تتخيل أنّك تطير على بساطٍ سحري.

وهذه القدرة على تذكر الصور وعلى تخيلها موجودةٌ عند الإنسان، ومن الواضح جدًا أنَّ كلًا من تلك الصور التي تتذكرها أو تتخيلها إنما هي صورٌ مجردة عن المادة، فهي وجودٌ إما مثالي أو مجرد، وبالنتيجة فإنّ وجودها وجودٌ غير مادي. والروح هي من الموجود غير المادي.

سؤال: تقدّم أنَّ الوسائل والأدوات التي يُستفاد منها في معرفة الموجودات المادية هي الحواس، فهل يمكن الاستفادة من نفس تلك الوسائل (الحواس) في معرفة الموجود المجرد؟

والجواب: إنَّ الموجود المجرد لا يمكن التعرف عليه من خلال الحواس؛ إذ لا مجال للحواس في ساحة المجردات. والوسيلة الوحيدة لمعرفته هو العقل.

فإذا ثبت هذا نقول:

هل من المنطقي أنْ يطالبنا أحدٌ بإثبات الوجود المجرد بالوسائل المادية؟

ص: 172

إنَّ هذا السؤال غير صحيح؛ لأنَّ الوسائل المادية كالعين مثلًا ليست وسيلةً لأدراك المجرد، فهي وسيلةٌ ماديةٌ لا يدرك بها إلا ما كان ماديًا مثلها، فالسؤال المتقدم غير منطقي، وهذا ما بيّنه أمير المؤمنين (علیه السّلام) وقد سأله ذعلب اليماني، فقال: هل رأيت ربَّك يا أمير المؤمنين؟ فقال (علیه السّلام): «أفأعبد ما لا أرىٰ؟»، فقال: وكيف تراه؟ فقال: «لا تراه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تُدركه القلوب بحقائق الإيمان...»(1).

المطلب الثاني: إمكان المعاد في حد نفسه.

الأول: سبْقُ عالمنا بالعدم.

أي هل إنَّ رجوع الروح للبدن ووجود يوم القيامة هو أمر بالإمكان وقوعه، أو أنَّه ممتنعٌ كاجتماع النقيضين؟

الدليل قائم على الإمكان، وبيانه بالتالي:

تقدّم في الأبحاث السابقة أننا لا نحكم على عقيدةٍ ما بالبطلان وبعدم الصدق إلا إذا استلزمت أحد أمرين:

1/أنْ تخالف حكمًا عقليًا ثابتًا كاجتماع النقيضين.

2/إذا كانت مخالفةً لضرورةٍ من ضروريات الدين.

وليس في المعاد (رجوع الروح للبدن) أي تناقض عقلي، بمعنى أنّه أمرٌ ممكن، فقد يقع أو لا يقع؛ لأنّه لا يخالف حكمًا عقليًا. ومما يشير الى إمكانه عدة أمور:

الأول: سبْقُ عالمنا بالعدم.

فهذا العالم الذي نعيش فيه هو عالمٌ مسبوقٌ بالعدم، إذ لم يكن موجودًا سابقًا، كما تقدم الكلام في هذا سابقًا. وعليه، فإذا أمكن أنْ يقع عالَمٌ لم يكن موجودًا من قبلُ ثم وجد، فإنَّ وجود عالمٍ آخر ليس من العدم، وإنّما هو موجودٌ (فالروحُ موجودةٌ والبدنُ

ص: 173


1- نهج البلاغة (ج 2/ ص 99).

كذلك وإنْ تحلّل إلى ذراتٍ في التراب) ممكنٌ أيضًا، بل هو أسهل؛ لأنَّ إيجاد شيءٍ من العدم حتمًا أصعب من إيجاد شيءٍ مما هو موجودٌ فعلًا.

وكمثال على ذلك –مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ المثال يقرب من جهة ويبعد من جهات-، لو أنَّ هناك شخصًا لا يملك نقودًا وأراد أنْ يشتري بيتًا، فإنَّ حاله بالتأكيد أصعب ممن يمتلك نقودًا ولكنه يحتاج إلى تجميعها من هنا وهناك. وكذلك فإنَّ إعادة عالمٍ موجودٍ أسهل بكثير من إحداث عالمٍ من العدم.

وإذا أمكن الأصعب -وهو إيجاد عالم من العدم- أمكن الأسهل -وهو إعادة المخلوق بدنًا بعد أنْ تتفرق أجزاؤه المادية في التراب وإعادة الروح الموجودة إلى ذلك البدن-.

وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة: ﴿كَمَا بَدَأكُمْ تَعُودُونَ﴾.(1)

لذلك فمن العجيب أنْ يؤمن المرء بأنَّ الله(عزّ و جلّ) أحدثنا أي أوجدنا من العدم ثم ينكر المعاد، وهذا ما يعبر عنه ما روي عَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (علیه السّلام) يَقُولُ: «عَجَبٌ كُلُّ الْعَجَبِ لِمَنْ أَنْكَرَ الْمَوْتَ وهُوَ يَرَى مَنْ يَمُوتُ كُلَّ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ، والْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ لِمَنْ أَنْكَرَ النَّشْأَةَ الأُخْرَى وهُوَ يَرَى النَّشْأَةَ الأُولَى».(2)

الثاني: قاعدة (إن أدل دليل على الإمكان هو الوقوع)

لو أردنا أنْ نعرف شيئًا ما هل هو ممكنٌ أو ممتنعٌ، وصرنا نبحث عن أدلةٍ لنثبت القضية، وأثناء البحث وقع وحدَثَ أمامنا فعلًا، فحينئذٍ لا حاجة بعد ذلك إلى البحث عن دليل للإمكان، لأن الشي إذا وقع فمعناه أنه ممكن، وإلا فلو كان ممتنع الوجود لما وقع، كما لوكنا نبحث عن أدلةٍ عن إمكان ولادة توأمين بنفس الصفات من كلِّ الجهات،

ص: 174


1- الأعراف 29.
2- الكافي للكليني ج3 ص 258 باب النوادر ح 28.

وأثناء البحث العلمي والتحليل ولد توأمان متماثلان بجميع الصفات. فعندئذٍ ليس هناك من داعٍ إلى إكمال البحث؛ لأن وقوع ما كنا نبحث عن أدلةٍ لإثبات إمكان وقوعه أدلُّ دليلٍ على إمكان وقوعه.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى المعاد الذي هو عبارة عن (رجوع الروح إلى البدن) فإنْ وقع هذا الأمر، فهو أمرٌ ممكن بالتأكيد وإلا فكيف وقع؟!

والمُدعى هو أنَّ عودة الروح إلى البدن -وهو عبارةٍ أخرى عن (إحياء الموتى)- قد وقع في الدنيا فعلًا، فهو أمر ممكن إذن، ونذكر لذلك أمثلة:

1/من الطبيعة، قال(عزّ و جلّ): ﴿فَانظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ الله كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.(1)

الآيةُ واضحةٌ أنَّ الله (سبحانه و تعالی)الذي بإمكانه أنْ يُحيي الأرض الميتة فإنَّ بإمكانه أنْ يُحيي الميت الإنساني أيضًا.

2/ما حكاه القرآن الكريم من طلب النبي إبراهيم (علیه السّلام): ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(2)

واضحٌ من الآية أنَّ النبي إبراهيم (علیه السّلام) أخذ أربعةً من الطير وقطّعهن، فماتت وخلط لحمها ووزعها على قمم عشرة جبالٍ، ثم بعد أنْ دعاهن رجعن إليه كحالتهن الأولى، فالقرآن الكريم يذكر أنَّ إعادة أبدان تلك الطيور ورجوع أرواحها إليها قد وقعت في الحياة الدنيا، فإذن المعاد ممكن.

ص: 175


1- الروم 50.
2- البقرة 260.

3/إحياء النبي عيسى (علیه السّلام) الموتى، قال(عزّ و جلّ): ﴿وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ الله وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(1) الآيةُ واضحةٌ جدًا بأنَّ إحياء الموتى ليس فقط ممكن، وإنّما وقع في الدنيا أيضًا.

المطلب الثالث: هل إنَّ المعاد ضروريٌ؟

النقطة الأولى: ضرورة بلوغ الهدف من خلق الإنسان، وإلا كان عبثًا.

بعد أنْ ثبت أنَّ المعاد أمرٌ ممكن وليس بمستحيل، قد يتبادر إلى الذهن سؤال: إمكان وقوع الشيء لا يلازم كونه ضروريًا، فهل المعاد كذلك، أي أنّه ممكن ولكن قد يبقى في حيز الإمكان وليس هناك ضرورة لوقوعه، أم أنَّه ضروريٌ؟

الجواب: من المعلوم أنَّ هناك وعداً ووعيداً، والأول ما يترتب عليه جزاء الأفراد أو الأمم بالخير والأجر والثواب، وأما الثاني فهو ما يترتب عليه جزاء الأفراد والأمم بالعذاب. وقد فرّقت الشريعة المقدسة بينهما من حيث لزوم الوقوع، فالأول واقعٌ لا محالة؛

لأنَّ الله (سبحانه و تعالی)لا يخلف الوعد؛ لأنّ ذلك خلف الكمال، والله(عزّ و جلّ) كله كمالٌ مطلق. وأما الثاني فأمرُ وقوعه بيده (سبحانه و تعالی)قد يأمر بوقوعه، وقد لا؛ وذلك حسبما تقتضيه حكمته ورحمته، وهو لا يخالف الكمال.

وكمثالٍ على ذلك، فقد ذكرت الروايات أنَّ ظهور الإمام المهدي (علیه السّلام) من الوعد، أي إنه واقعٌ بلا أدنى شك، وأما السفياني فإنه وإنْ كان من العلامات الحتمية، إلا أنّه ليس وعدًا من الله(عزّ و جلّ)، فهو أقصى ما يكون كالوعيد منه(سبحانه و تعالی)، والوعيد يمكن مخالفته؛ لأنَّ في ذلك لطفًا إلهيًا.

ص: 176


1- آل عمران 49.

فقد روي عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري، قال: كنّا عند أبي جعفر محمّد بن عليٍّ الرضا3، فجرىٰ ذكر السفياني، وما جاء في الرواية من أنَّ أمره من المحتوم، فقلت لأبي جعفر: هل يبدو لله في المحتوم؟ قال: «نعم»، قلنا له: فنخاف أنْ يبدو لله في القائم، فقال: «إنَّ القائم من الميعاد، والله لا يُخلِف الميعاد»(1).

وعليه، فإنَّ وقوع المعاد أمرٌ ضروري، ومما يشير إلى ضرورته: العدل الإلهي أو الحكمة الإلهية، ويمكن توضيح ذلك بالنقاط الآتية:

النقطة الأولى: ضرورة بلوغ الهدف من خلق الإنسان، وإلا كان عبثًا.

أو عدم عبثية خلق الله(عزّ و جلّ) للإنسان.

ففي مباحث التوحيد ثبت أنَّ الله(عزّ و جلّ) لا يمكن أنْ يصدر منه فعلٌ من دون حكمة، فكلُّ أفعاله حكيمةٌ معللةٌ بالغايات، ولا تصدر عبثاً، وخلقُ الإنسان فعلُ الله(عزّ و جلّ)، وخلقه بالتأكيد لحكمةٍ وهدفٍ، والحكمةُ في قوله(عزّ و جلّ): ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾(2)

فالهدف من وجود الإنسان هو محاولة الوصول به إلى أعلى درجات الكمال الممكنة له؛ وذلك لأنَّ الإنسان له القدرة لأن يكون مخدومًا من قبل الملائكة، فيصل إلى قاب قوسين أو أدنى، وبالمقابل له إمكانية أنْ ينزل إلى أسفل سافلين.

إنَّ الهدف النهائي للإنسان هو العبادة، كما في قوله(عزّ و جلّ): ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾(3)،

وإذا نظرنا إلى حياة الإنسان هل نجد أنَّ الدنيا هي المكان المناسب للحصول على الهدف النهائي لوجود الإنسان ليصل إلى كمالاته الممكنة؟!

كثيرٌ من المؤمنين من يموت وهو شاب أو لم يصل إلى كماله الذي كان يهدف له،

ص: 177


1- الغيبة للنعماني (ص 314 و315/ باب 18/ ح 10).
2- الحجر 99.
3- الذاريات: 56.

وحيث إنَّ الحكمة من وجود الإنسان هو بلوغ الكمال المطلق، فإذا لم يكن هناك عالمٌ آخر يمكن أن يصل فيه المؤمن إلى كماله الممكن، فحينها يكون خلق الإنسان في هذه الدنيا عبثًا؛ لأنّه خُلِق لهدفٍ لم يصل إليه، وهذا يعني أنَّ الحكمة الإلهية تقتضي وجود عالمٍ آخر تتجلى فيه الحكمة الإلهية لإيصال هذا الإنسان إلى كماله الممكن.

الثانية: ضرورة إثابة المطيعين وتعذيب العاصين.

إنَّ المؤمن يُتعِبُ نفسه كثيرًا بالالتزام بالتكاليف الشرعية، وفي عبادة الله(عزّ و جلّ)، فهو ربما لا ينام إلا قليلًا، من دون أنْ يحصل على أجر أعماله في الدنيا. وبالمقابل نجد الظلمة يعبثون في الحياة الدنيا ويعيثون في الأرض فسادًا، دون أنْ يحاسبهم أحدٌ على ظلمهم، فلو لم ينل الأول ثواب عبادته، ولم ينل الثاني عقاب جرمه وفساده، فهذا خلاف الحكمة والعدل.

مما يعني أنَّ عالمنا الذي نعيشه الآن ليس الخطوة الأخيرة في حياة البشرية، وإنَّما هناك خطواتٌ أخرى، يُجزى فيها كلُّ امرئٍ بما يستحق من الجزاء، فيُثاب المطيعون، ويُعذَّب العاصون. وهذا ما يُشير إليه القرآن الكريم في بعض آياته: ﴿قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُل لله كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾(1)فمن

الحكمة والعدل والرحمة الإلهية أنْ يكون هنالك عالمٌ آخر غير هذا العالم الذي يموت فيه المطيع والعاصي من دون أنْ ينالا ما يستحقان من أجرٍ أو عقوبةٍ، وإذا لم يكن هناك عالمٌ آخر لكان هذا ظلمًا وخلاف العدل الإلهي.

ص: 178


1- الأنعام 12.
الثالثة: ضرورة إنصاف المظلومين من الظالمين.

على الرغم من أنَّ الله(عزّ و جلّ) لم يستثنِ أحدًا من مواهبه وعطاياه ومننه من جهة، وأرسل الأنبياء والمرسلين وأردفهم بأوصياء (سلام الله عليهم أجمعين) لبيان شريعته ودينه الذي ارتضاه لبني البشر، فحرّم الإجرام والاعتداء على الآخرين في عرضهم أو أرضهم أو سمعتهم أو دمائهم أو أموالهم وغير ذلك من التشريعات التنظيمية لعلاقة الإنسان مع أبناء نوعه من جهةٍ أخرى، إلا أنَّ بعض البشر لم يقنعوا بما منَّ الله(عزّ و جلّ) عليهم من منن، وامتدت أعينهم إلى من سواهم، لتتبعها أيديهم بالاعتداء والظلم والإجرام، وبالنتيجة كان هناك ظالمون وآخرون مظلومون.

وفي الأعم الأغلب لم ينل الظالمون جزاءهم من العقاب، بل وإن نالوا جزاءهم فربما لا يكون جزاءً عادلًا، كما لو قتل شخصٌ المئات أو الآلاف من البشر، فهل يملك هذا الطاغي إلا نفسًا واحدةً، ومن ثم فإن حُكِم عليه بالقتل فهو وإنْ كان حكمًا شرعيًا يتوافق وهذه النشأة وقوانينها، إلا أنّه ربما لا يكون عادلاً بصورةٍ مطلقة، ومن ثم لا بُدّ من وجود حياةٍ أخرى يُنتصف فيها من الظالمين للمظلومين، ليس هذا فحسب، بل وتتسم بقوانين أخرى بحيث يمكن تنفيذ الحكم العادل بحق كلِّ ظالم، كلٌّ حسب جرمه وجرائمه.

ومن تلك القوانين أنه لا موت فيها، قال(عزّ و جلّ): ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾.(1)

ص: 179


1- النساء 56

المطلب الرابع: هل المعاد جسماني أو روحاني فقط؟

1/تبدل الجلود:

قال(قدّس سرّه):

«عقيدتنا في المعاد الجسماني:

وبعد هذا، فالمعاد الجسماني بالخصوص ضرورةٌ من ضروريات الدين الاسلامي، دلَّ صريح القرآن الكريم عليها: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾، ﴿وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾،

﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾

وما المعاد الجسماني على إجماله إلا إعادة الإنسان في يوم البعث والنشور ببدنه بعد الخراب، وإرجاعه إلى هيئته الأولى بعد أنْ يصبح رميماً. ولا يجب الاعتقاد في تفصيلات المعاد الجسماني أكثر من هذه العقيدة على بساطتها التي نادى بها القرآن، وأكثر مما يتبعها من الحساب والصراط والميزان والجنة والنار والثواب والعقاب بمقدار ما جاءت به التفصيلات القرآنية.

«ولا تجب المعرفة على التحقيق التي لا يصلها إلا صاحب النظر الدقيق، كالعلم بأنّ الأبدان هل تعود بذواتها أو إنّما يعود ما يماثلها بهيئات؟

وأنّ الأرواح هل تُعدَم كالأجساد أو تبقى مُستمرةً حتى تتصل بالأبدان عند المعاد؟ وأنّ المعاد هل يختص بالإنسان أو يجري على كافة ضروب الحيوان؟

وأنّ عودها بحكم الله دفعي أو تدريجي؟

وإذا لزم الاعتقاد بالجنة والنار لا تلزم معرفة وجودهما الآن ولا العلم بأنّهما في السماء أو الأرض أو يختلفان.

وكذا إذ وجبت معرفة الميزان لا تجب معرفة أنّها ميزان معنوية أولها كفتان ولا تلزم

ص: 180

معرفة أنّ الصراط جسمٌ دقيقٌ أو هو الاستقامة المعنوية.

والغرض أنّه لا يُشترَط في تحقيق الإسلام معرفة أنّها من الأجسام.».

نعم، إنّ تلك العقيدة في البعث والمعاد على بساطتها هي التي جاء بها الدين الاسلامي، فإذا أراد الإنسان أنْ يتجاوزها إلى تفصيلها بأكثر مما جاء في القرآن، ليقنع نفسه دفعاً للشُبه التي يُثيرها الباحثون والمُشككون بالتماس البرهان العقلي أو التجربة الحسية - فإنّه إنّما يجني على نفسه ويقع في مُشكلاتٍ ومُنازعاتٍ لا نهاية لها.

وليس في الدين ما يدعو إلى مثل هذه التفصيلات التي حشدت بها كتب المُتكلّمين والمُتفلسفين، ولا ضرورة دينية ولا اجتماعية ولا سياسية تدعو إلى أمثال هاتيك المُشاحنات والمقالات المشحونة بها الكتب عبثاً والتي استنفدت كثيراً من جهود المجادلين وأوقاتهم وتفكيرهم بلا فائدة.

والشُبَه والشكوك التي تُثار حول تلك التفصيلات يكفي في ردّها قناعتنا بقصور الإنسان عن إدراك هذه الأمور الغائبة عنّا والخارجة عن أفقنا ومُحيط وجودنا والمُرتفعة فوق مستوانا الأرضي، مع علمنا بأنّ الله(عزّ و جلّ) العالم القادر أخبرنا عن تحقيق المعاد ووقوع البعث.

وعلوم الإنسان وتجربياته وأبحاثه يستحيل أنْ تتناول شيئاً لا يعرفه ولا يقع تحت تجربته واختباره إلا بعد موته وانتقاله من هذا العالم عالم الحس والتجربة والبحث، فكيف يُنتظر منه أنْ يحكم باستقلال تفكيره وتجربته بنفي هذا الشيء أو إثباته، فضلاً عن أنْ

يتناول تفاصيله وخصوصياته، إلا إذا اعتمد على التكهُّن والتخمين أو على الاستبعاد والاستغراب، كما هو من طبيعة خيال الانسان أنْ يستغرب كُلّ ما لم يألفه ولم يتناوله علمه وحسه، كالقائل المُندفع بجهله لاستغراب البعث والمعاد ﴿مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾.

ص: 181

ولا سند لهذا الاستغراب إلا أنّه لم يرَ ميتاً رميماً قد أُعيدت له الحياة من جديد، ولكنّه ينسى هذا المُستغرب كيف خُلِقت ذاتُه لأول مرة، ولقد كان عدماً، وأجزاء بدنه رميماً تألفت من الأرض وما حملت ومن الفضاء وما حوى، من هُنا وهُنا، حتى صار بشراً سوياً ذا عقلٍ وبيان، ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾.

يُقال لمثل هذا القائل الذي نسيَ خلق نفسه: "يُحييها الذي أنشأها أولَ مرةٍ وهو بكُلِّ خلقٍ عليم"، يُقال له: إنّك بعد أنْ تعترف بخالق الكائنات وقدرته وتعترف بالرسول وما أخبر به، مع قصور علمك حتى عن إدراك سرِّ - خلق ذاتك وسرِّ تكوينك، وكيف كان كان نموك وانتقالك من نطفةٍ لا شعور لها ولا إرادة ولا عقل إلى مراحل مُتصاعدة مؤتلفاً من ذرات مُتباعدة، لبلغ بشراً سوياً عاقلاً مُدبراً ذا شعورٍ وإحساس. يُقال له: بعد هذا كيف تستغرب أنْ تعود لك الحياة من جديد بعد أنْ تُصبِح رميماً، وأنت بذلك تحاول أنْ تتطاول إلى معرفة ما لا قبل لتجاربك وعلومك بكشفه؟

يقال له: لا سبيل حينئذٍ إلا أنْ تُذعِن صاغراً للاعتراف بهذه الحقيقة التي أخبر عنها مُدبر الكائنات العالم القدير وخالقك من العدم والرميم. وكُلُّ محاولةٍ لكشف ما لا يمكن كشفه ولا يتناوله علمك فهي محاولةٌ باطلة، وضربٌ في التيه، وفتحٌ للعيون في الظلام الحالك.

إنّ الإنسان مع ما بلغ من معرفةٍ في هذه السنين الأخيرة، فاكتشف الكهرباء والرادار واستخدم الذرة، إلى أمثال هذه الاكتشافات التي لو حدث عنها في السنين الخوالي لعدّها من أولِ المُستحيلات ومن مواضع التندر والسخرية أنّه مع كُلِّ ذلك لم يستطع كشف حقيقة الكهرباء ولا سر الذرة، بل حتى حقيقة إحدى خواصهما وأحد أوصافهما، فكيف يطمع أنْ يعرف سر الخلقة والتكوين، ثم يترقى فيُريد أنْ يعرف سر المعاد والبعث.

ص: 182

نعم، ينبغي للإنسان بعد الإيمان بالإسلام أنْ يتجنب عن مُتابعة الهوى وأنْ يشغل فيما يُصلِحُ أمر آخرته ودنياه، وفيما يرفع قدره عند الله وأنْ يتفكر فيما يستعين به على نفسه، وفيما يستقبله بعد الموت من شدائد القبر والحساب بعد الحضور بين يدي الملك العلّام وأنْ يتقي يوماً لا تُجزى نفسٌ عن نفسٍ شيئاً ولا يُقبَل منها شفاعةٌ ولا يؤخذ منها عدلٌ ولا هم يُنصرون». انتهى.

ذهب البعض أنَّ المعاد هو للروح فقط، وأنَّ البدن لا يُعاد، فيما يرى آخرون أنَّ المعاد جسماني، أي إنَّ الإنسان يُعاد بجسده وروحه.

والصحيح كما هو واضحٌ أنَّ المعاد جسماني وليس روحانياً فقط، تدلُّ على ذلك آيات كثيرة منها:

1/تبدل الجلود:

قال(عزّ و جلّ): ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾(1)

مما لا شكَّ فيه أنَّ الجلود هي جزءٌ من الجسد، وذكْرُ القرآن الكريم لتبدلها دليلٌ قاطعٌ على أنَّ المعاد جسماني.

2/شهادة الجوارح:

قال(عزّ و جلّ): ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا الله الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾(2)،

ومعلومٌ أنَّ الجوارح إنما هي أجزاءٌ من جسم الإنسان، فشهادتها يوم القيامة دليلٌ على أنَّ المعاد جسماني.

ص: 183


1- النساء 56.
2- فصلت 21.
3/اللذائذ المادية:

تناولت الكثير من الآيات المباركة ما في الجنة من لذائذ مادية أُعدّت للمؤمنين من طعام وشراب وزواج وحور عين. وهذه اللذائذ إنما هي لذائذُ للبدن لا للروح، وحيث ذكرها الله(عزّ و جلّ) دلَّ ذلك على أنّ المعاد ليس بالروح فقط، بل هو بالروح والجسم معًا.

إشكالان حول المعاد جسماني.
الإشكال الأول: إعادة المعدوم.

أثيرت العديد من الإشكالات حول المعاد الجسماني، نشير إلى إشكالين منها مع جوابهما سريعًا:

الإشكال الأول: إعادة المعدوم.

حاصله: أنَّ البدن يُتلف وينعدم بعد الموت، فكيف يرجع المعدوم؟ حيث إنَّ مفاد المعاد الجسماني هو أنّ في يوم القيامة ترجع هذه الروح إلى الجسم المتحلل في التراب بعد الموت، فهذا البدن صار عدمًا في التراب فكيف يعود؟!

الجواب:

أنَّ الإنسان فيه جزأين: جزء مادي وهو البدن، وجزء مجرد وهو الروح. وحيث إنَّ الروح موجودٌ مجردٌ فلا يصيبها أيُّ فسادٍ بالموت ولا تنعدم، فالإشكالُ منصبٌ على البدن فقط.

وقد أثبت العلم أنَّ المادة لا تفنى، وإنّما تتحول من حالةٍ إلى حالة، فالبدنُ يتفسخ ويتحول إلى ذراتٍ وأقصاه يتحول إلى طاقة، لكنها بالنتيجة لا تفنى وإنّما تضيع أو تُستهلك في التراب وتصبح سمادًا يتغذى عليها النبات، أو قد يموت الإنسان في البحر فيتحلل جسمه في البحر وتأكله الأسماك، وعلى كلِّ الأحوال فالخلايا موجودة. وفي يوم القيامة حيث إنّ الله(عزّ و جلّ) عالمٌ بالعلم غير المحدود، وقادر بقدرة غير محدودة، فيمكنه جمع

ص: 184

تلك الخلايا المتفرقة وإرجاع البدن، وإذا أردنا أن نقرب المسألة فإنَّ لكلِّ خليةٍ شفرةً خاصةً، وهناك جهازٌ يلتقط حسب الذبذبات شفرات هذه الخلايا، فأينما كانت وكيفما صارت هذه الخلايا فإنّه يجدها ويرتبها حسب الترتيب الخاص بها، وعليه فإنَّ البدن لم يفنَ، ويمكن إعادته.

والنتيجة أنَّ الأساس الوحيد الذي ابتنت عليه هذه الشبهة من أنَّ البدن يكون عدمًا غير صحيح. نعم، ربما يعدّه العرف كذلك، لكنه في الحقيقة هو موجودٌ تحلّل إلى ذراتٍ متفرقة هنا وهناك لا أكثر.

الإشكال الثاني: شبهة الآكل والمأكول:
الجواب الأول:

تسلم هذه الشبهة بأنَّ المعاد جسماني، وأنَّ هذا البدن الذي يتحلل بعد دفنه في التراب أو يُحرق كما في عقيدة البوذيين، ستتفرق أجزاؤه وتُصبح إما ترابًا لمقلع طينٍ لتكوين طابوق البناء، أو أملاحًا تتغذى عليها النباتات، فتصبح جزءًا من تفاحةٍ أو عشبٍ مثلًا، فيتغذى على تلك التفاحة شخصٌ آخر فيأكلها فتصير جزءًا من جسم ذلك الميت، أو يتغذى على ذلك العشب حيوانٌ كالخروف مثلًا، فتصبح جزءًا من جسمه وما إن يُذبح ويُطهى حتى يتفرّق في أجسام آكليه وهكذا.

وعليه سيكون هناك آكلٌ ومأكولٌ، ومما يزيد الأمر تعقيدًا أنه ربما أجزاء جسم إنسانٍ مؤمن تُصبحَ أجزاءً من جسم إنسانٍ كافر أو العكس، فكيف يدخل جسم الكافر إلى الجنة وينعم فيها، أو بالعكس يدخل جزءٌ من جسم المؤمن إلى النار ويُعذَّب فيها نتيجة وجوده في جسمِ الكافر، فهذه مشكلةٌ تحتاج إلى حلٍ لها.

وقد قُدِّمت عدة أجوبة عن هذه الشبهة، منها التالي:

ص: 185

الجواب الأول:

إنَّ جسم الإنسان يتكون من أجزاء أصلية وأجزاء غير أصلية، وفي الموت عندما يتحلل جسمه تتحلل الأجزاء غير الأصلية وأما الأجزاء الأصلية فلا تتحلل. وفي المعاد يأخذ الله(عزّ و جلّ) ذلك الجزء الأصلي ومنه يكوِّن بقية أجزاء الجسم الأخرى، كما في البلورة التي يصنعون منها البلاستك حيث تدخل في عمليةٍ حرارية.

يقول البعض: إنّ هذا الجزء موجودٌ بأسفل العمود الفقري وهو لا يتحلل، ويستدلون على ذلك ببعض الروايات كما ورد عَنْ عَمَّارِ بْنِ مُوسَى عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: سُئِلَ عَنِ الْمَيِّتِ يَبْلَى جَسَدُه؟ قَالَ (علیه السّلام): «نَعَمْ، حَتَّى لَا يَبْقَى لَه لَحْمٌ ولَا عَظْمٌ، إِلَّا طِينَتُه الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا فَإِنَّهَا لَا تُبْلَى تَبْقَى فِي الْقَبْرِ مُسْتَدِيرَةً، حَتَّى يُخْلَقَ مِنْهَا كَمَا خُلِقَ أَوَّلَ مَرَّةٍ».(1)

وبغض النظر عن سنده –الذي حكم عليه البعض بالضعف-، فإنَّ العلوم الحديثة لم تصل إلى أنَّ هذا الجزء من البدن لا يفنى، وإنّما انتهوا إلى أنَّ الجسم كله يفنى (بمعنى أنه يتحلل)، فعندما تنظر إلى جسمٍ أُحرِق تمامًا فلا يبقى منه هذا الجزء المشار إليه. وعلى كل حال هو خلاف ظاهر القرآن الكريم، وبالنتيجة هو جوابٌ، فإنْ صحَّ فتنتفي به هذه الشبهة.

الجواب الثاني:

أنَّ هذه المواد لا تفنى، وأنَّ كلَّ الخلايا ترجع، وأنَّ هذه الخلية حسب الشبهة التي صارت جزءًا من الجسم الآخر إنما هي مجرد خليةٍ صغيرةٍ منه، وكلُّ جسمٍ سيعيد ما أخذه من خلايا من غيره من الأجسام، وقد يتسبب هذا الأمر بأن يصغر البدن، فمثلًا لو كان طوله (180سم) مثلًا فإنّه سيكون (120سم)، وبذلك فإن كل جسمٍ سيرجع

ص: 186


1- الكافي ، ج3،ص251،ح7.

إلى أصله.

ويستدل على هذا الرأي ببعض الروايات، فقد ورد عن هشام بن الحكم في محاججة الزنديق للإمام الصادق (علیه السّلام)، فقال [الزنديق]: وأنى له بالبعث والبدن قد بلى، والأعضاء قد تفرقت، فعضو ببلدة يأكلها سباعها، وعضو بأخرى تمزقه هوامها، وعضو قد صار ترابا بني به مع الطين حائط؟

قال (علیه السّلام): «إن الذي أنشأه من غير شيء، وصوره على غير مثال كان سبق إليه، قادر أن يعيده كما بدأه».

قال: أوضح لي ذلك.

قال: «إن الروح مقيمة في مكانها، روح المحسن في ضياء وفسحة، وروح المسيء في ضيق وظلمة، والبدن يصير تراباً كما منه خلق، وما تقذف به السباع والهوام من أجوافها، مما أكلته ومزقته كل ذلك في التراب. محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة في ظلمات الأرض، ويعلم عدد الأشياء ووزنها، وأن تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب، فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور، فتربو الأرض ثم تمخضوا مخض السقاء، فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء، والزبد من اللبن إذا مخض، فيجتمع تراب كل قالب إلى قالبه، فينتقل بإذن الله القادر إلى حيث الروح، فتعود الصور بإذن المصور كهيئتها، وتلج الروح فيها، فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا».(1)

والروايةُ واضحةٌ وبها تنحل الشبهة.

ص: 187


1- الاحتجاج للشيخ الطبرسي ج2 ص 97 و 98.
الجواب الثالث:

تقدّم أنّ الإنسان مكونٌ من بدنٍ وروحٍ، وحقيقة الإنسان إنما هي بروحه، وأما البدن فمتغير، إذ تقدّم أنّه يتغير كلَّ ثمانِ سنواتٍ، وخلال أربعين سنة مثلاً يكون البدن قد تغيّر خمس مرات تقريبًا، ومع ذلك تبقى (الأنا) هي نفسها التي كانت قبل أربعين سنة محتفظًا بها. وهذا يدلُّ على أنّ هناك شيئًا ثابتًا في شخصية الإنسان، وهو الذي يستحق الثواب أو العذاب.

وكمثال على ذلك، لو أجرم إنسانٌ قبل خمسين سنة، وأرادوا أن يعاقبوه بعد مرور كل تلك المدة، فهل يُقبل منه أن يقول: إنّما قتلته باليد التي كانت قبل خمسين سنة، وتلك اليد قد تحولت وتغيرت مرارًا، وما ستعاقبونه الآن ليست تلك اليد التي ارتكبت الجريمة وإنما يدٌ أخرى؟! حتمًا سيُقال له: إنما نعاقبك أنت لذاتك ولروحك.

وهذا إنْ دلَّ على شيءٍ إنما يدلُّ على أنّ حقيقة الإنسان بروحه، وأما البدن فهو مجرد آلة للروح ووظيفته تنفيذ أوامر الروح، وهو الذي من خلاله تتأثر الروح، فتُسر وتتنعم أو تحزن وتتألم، فإذا أردت الذهاب إلى المسجد فإنَّ بدنك هو الذي سيأخذك، وهو في خدمتك ويتحرك بأمرك، وإن احتاجت روحك إلى الارتواء فإنَّ جسمك هو الذي سيتحرك ويشرب الماء، فترتوي روحك.

فالجسم مجرد آلةٍ لتأثير وتأثّر الروح؛ لأن هذه الروح ليس لها اتصال بعالم المادة، فهي مجردة وتحتاج إلى آلةٍ تكون حلقة الوصل بينها وبين الماديات، وما تلك الآلة إلا البدن.

فإنْ كان الأمر كذلك فإنَّ الروح بإمكانها أن تُعذّب أو تُنعّم، سواء تلبست بالبدن الأصلي لها أو بسواه؛ لأنَّ العذاب والنعيم إنما تشعر به الروح فقط، وأما الجسم فهو واسطة في إيصال ذلك النعيم أو العذاب ليس إلا.

ص: 188

وعليه، فلو سلّمنا بهذه الشبهة وكان جسم المؤمن أكثره من جسم كافر ودخل الجنة، أو كان جسم الكافر أكثره جسم المؤمن ودخل النار، فلا يقال: إنَّ هذا الكافر هو الذي دخل الجنة ولا إنّ هذا المؤمن دخل النار، كما أنّه لا الكافر سيشعر بالنعيم، ولا المؤمن سيحترق بالجحيم؛ لأنّ كلّاً من العذاب والألم إنما يطالان الروح فقط وفقط، لا الجسم، وأما هو فلا يعدو أنْ يكون واسطةً لإيصال الشعور بألم الجحيم أو لذة النعيم.

ولتقريب الفكرة أكثر، فإنَّ الروح مثل شريحة التلفون فالاتصال لا يرد إلا عليها، مهما تغيّر الجهاز، وما الجهاز إلا آلة لتفعيل الشريحة.

ويشير إلى هذه الفكرة قوله(عزّ و جلّ): ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾(1)

فلو كان البدن هو الذي يُعذب فإنَّ البدن تعذب وانتهى في العذاب الأول وإنما سيأتي الله(عزّ و جلّ) للكافر ببدنٍ آخر.

والخلاصة: نحن نؤمن بأنَّ قدرة الله(عزّ و جلّ) أعظم من هذه الشبهات، وهذا كافٍ للرد على هذه الشبهة.

المطلب الخامس: المعاد وتربية الإنسان

المعاد: هو عود الروح إلى البدن.

الميعاد: هو يوم القيامة.

من الواضح جدًا أنَّ الإيمان بالمعاد والميعاد يتدخل مباشرةً بسلوك الإنسان؛ وذلك لأنّ الإيمان بهما يعني أنّ فعل الإنسان وكلَّ قولٍ يصدر منه لا يذهب سُدى، وإنّما يُحفظُ عند حفيظٍ عليمٍ، لا يعزب عنه أي شيءٍ، إنْ خيرًا فخير وإن شرًا فشر. قال(عزّ و جلّ): ﴿وَكُلَّ

ص: 189


1- سورة النساء: آية 56.

إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾(1)

وهذا يعني: أنَّ كلَّ أعمال الإنسان محفوظة، من طاعةٍ أو معصية، من إحسانٍ أو إساءة، وهناك جزاء من الله(عزّ و جلّ)، حيث يثيب المطيعين ويعاقب العاصين، فهو واسع الرحمة وفي نفس الوقت هو شديد العذاب.

وهذا هو الإيمان بأنَّ هناك يوماً سيُحشر فيه الناس وسيحاسبون على كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ كما قال(عزّ و جلّ): ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾(2)،

وقوله(عزّ و جلّ): ﴿هَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(3)

فالإنسان إذا عاش هذا الإحساس في جميع حركاته وسكناته، فإنّه من باب الدافع الفطري في دفع الضرر عن نفسه من جهة، وفي جلب المنفعة لها من جهةٍ أخرى، سيعمل على الالتزام بالحق والابتعاد عن الباطل بشكلٍ تلقائي.

لو التزم كلَّ الناس بهذه الثمرة المترتبة على الإيمان بالمعاد، فستتحول الأرض إلى جنةٍ أرضية، كلٌّ منهم لا يأخذ إلا حقه، ولا يتجاوز حدوده، ولن يحدث حينئذٍ أيُّ تزاحمٍ أو أيُّ أكلٍ بالباطل، وعندئذٍ سيرتدعُ المجرم عن ارتكاب أي جريمةٍ؛ لأنه يعلم بأنّه إن ارتكبها فستبقى محفوظةً وسيحاسب عليها لا محالة، فلأجل أنْ يدفع الضرر عن نفسه فإنه يجتنب ارتكابها، وكذا فيما لو واجه المؤمن مرارةً في الحياة، فإنّه يفضّل أن

ص: 190


1- الإسراء 13و 14.
2- الكهف: 49.
3- الجاثية 29.

يصبر عليها ويتجرّعها على أنْ يحيد عن الطريق الذي أراده الله(عزّ و جلّ)؛ ولذا تعبر الروايات: «الدنيا سجن المؤمن».

فقد روي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام)، فَشَكَا إِلَيْه رَجُلٌ الْحَاجَةَ، فَقَالَ (علیه السّلام) لَه: «اصْبِرْ، فَإِنَّ الله تعالى سَيَجْعَلُ لَكَ فَرَجاً».

قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الرَّجُلِ فَقَالَ (علیه السّلام): «أَخْبِرْنِي عَنْ سِجْنِ الْكُوفَةِ، كَيْفَ هُوَ؟!» فَقَالَ: أَصْلَحَكَ الله، ضَيِّقٌ مُنْتِنٌ، وأَهْلُه بِأَسْوَأِ حَالٍ. قَالَ (علیه السّلام): «فَإِنَّمَا أَنْتَ فِي السِّجْنِ، فَتُرِيدُ أَنْ تَكُونَ فِيه فِي سَعَةٍ، أمَا عَلِمْتَ أَنَّ الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ».(1)

والدنيا وإن كانت سجنًا للمؤمن، إلا أنها تعقبه فسحةً لا حدَّ لها، جنةً عرضها السماوات والأرض، من هنا سيتولد أملٌ في نفوس المؤمنين بأنَّ أعمالهم وصبرهم وتجرّعهم للآلام لا يمكن أنْ تذهب سدىً، مهما كانت صغيرةً وإن كانت صدقةً بسيطةً لحيوان بعيدًا عن أعين الناس قربةً إلى الله(عزّ و جلّ).

فهذا الإحساس والإيمان بالمعاد يدفع بالإنسان إلى التزام جادة الصواب والتزام الطاعات واجتناب المعاصي، حتى وإنْ لم يكن بدافع جلب النفع ودفع الضرر، فإنه سيؤدي مفعوله، وعلى أي الحالين فالنتيجة واحدة وهي الاستقامة.

المطلب السادس: ما هو المقدار الواجب من الإيمان بالمعاد؟

يُعدُّ ما يحدث يوم القيامة أمرًا مستقبليًا، ومن ثم لا بد من الرجوع فيه إلى الآيات الكريمة والروايات الشريفة، أي لا بد من الرجوع إلى من له الاطلاع على ذلك العالم المستقبلي.

ص: 191


1- الكافي للكليني ج2 ص 250 بَابُ مَا أَخَذَه الله عَلَى الْمُؤْمِنِ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى مَا يَلْحَقُه فِيمَا ابْتُلِيَ بِه ح6.

ويمكن تقسيم ما يحدث يوم القيامة إلى قسمين: ما له أثرٌ عمليٌ في السلوك الإنساني، وما لا أثر عملياً له في السلوك الإنساني، ومن ثم فإنَّ المقدار الواجب الإيمان به من قبل الإنسان هو الأول؛ لما له من مدخلية في عمله -صالحًا كان أو طالحًا-، وأما الثاني، فطالما لم يكن فيه أثر على سلوك الإنسان، فلا يتوجب عليه أنْ يُتعِب نفسه فيها.

وهذا نظير ما قد ذُكِر في قضية الإمام المهدي (عجّل الله تعالی فرجه ) حيث قلنا إنه ليس من الواجب على المؤمن أنْ يُتعب نفسه ويهدر وقته في معرفة علامات الظهور، وإنّما يكفي منه فقط معرفة العلامات الحتمية المؤشرة للظهور.

وكذلك في قضية المعاد فهناك الكثير من التفاصيل التي ليس من الضروري التعرض لها ومعرفتها نحو معرفة كيفية الصراط، أو معنى الميزان، فهذه مسائل لا بأس في معرفتها من باب الفضول العلمي لكن ليس من الواجب إتعاب النفس فيها؛ لأنه يكفينا فقط معرفة ما يعود علينا بالفائدة التربوية، نحو معرفة أنَّ هناك يومًا نُبعث فيه وأنّ الله(عزّ و جلّ) سيُحاسبنا فيه على أعمالنا إنْ خيرًا فخير وإنْ شرًا فشر، وكلٌّ سينال ما يستحق إما يدخل الجنة أو النار والعياذ بالله(عزّ و جلّ)، وأن نؤمن بذلك، وهذا ما اشار له الشيخ(قدّس سرّه) في عبارة كتابه وصرح بها تصريحًا.

حيث قال(قدّس سرّه): وما المعاد الجسماني على إجماله إلا إعادة الانسان في يوم البعث والنشور ببدنه بعد الخراب، وإرجاعه إلى هيئته الأولى بعد أن يصبح رميما. ولا يجب الاعتقاد في تفصيلات المعاد الجسماني أكثر من هذه العقيدة على بساطتها التي نادى بها القرآن، وأكثر مما يتبعها من الحساب والصراط والميزان والجنة والنار والثواب والعقاب بمقدار ما جاءت به التفصيلات القرآنية.

«ولا تجب المعرفة على التحقيق التي لا يصلها إلا صاحب النظر الدقيق، كالعلم بأن الأبدان هل تعود بذواتها أو إنما يعود ما يماثلها بهيئات، وأن الأرواح هل تعدم

ص: 192

كالأجساد أو تبقى مستمرة حتى تتصل بالأبدان عند المعاد، وأن المعاد هل يختص بالإنسان أو يجري على كافة ضروب الحيوان، وأن عودها بحكم الله دفعي أو تدريجي.

وإذا لزم الاعتقاد بالجنة والنار لا تلزم معرفة وجودهما الآن ولا العلم بأنهما في السماء أو الأرض أو يختلفان. وكذا إذ وجبت معرفة الميزان لا تجب معرفة أنها ميزان معنوية أولها كفتان ولا تلزم معرفة أن الصراط جسم دقيق أو هو الاستقامة المعنوية والغرض أنه لا يشترط في تحقيق الإسلام معرف أنها من الأجسام..»..(1)

ص: 193


1- مقتبس من كتاب كشف الغطاء ص 5 للشيخ الكبير كاشف الغطاء.

ص: 194

مُلحق: عوالم الإنسان.

العالم الأول: عالم الذر

النقطة الأولى: المعنى العام للآية:

من باب الاستطراد نتعرض لذكر العوالم الماضية والحاضرة والمستقبلية التي مرّ وسيمرُّ بها الإنسان ابتداءً من عالم الذر إلى القيامة على نحو الإيجاز، وهي ستة عوالم:

عوالم الإنسان:

العالم الأول: عالم الذر

هو من المفاهيم التي اُختُلِف فيها وفي الإيمان به، وإنْ لم يترتب على معرفته والإيمان به أيُّ أثرٍ عملي في سلوك الإنسان. وقد استدل بعض العلماء بآيةٍ قرآنيةٍ على وجود هذا العالم، كما يمكن أن تفسَّر بعض المواقف الحياتية به، كما لو رأيت شخصًا لأول مرةٍ وأنت على ظنٍ كبير ربما متاخمٌ لليقين أنّك رأيته من قبل، فقد يُفسّر ذلك على أنّك ربما رأيته في عالم الذر.

والآية الكريمة التي يُستدلُّ بها على عالم الذر هي قوله(عزّ و جلّ): ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾(1).

وهي من الآيات التي كثُر الكلامُ والاختلاف فيها بين المفسرين، ونذكر هنا بعض النقاط:

ص: 195


1- سورة الأعراف: آية [172و 173]

النقطة الأولى: المعنى العام للآية:

تشير الآية الكريمة إلى أنَّ الله(عزّ و جلّ) جمع الخلق كلَّهم من أول المخلوقين إلى آخرهم، وسألهم: أولستُ بربكم؟ أي أوليس الله(عزّ و جلّ) ربكم ومدبر أموركم، وقد أقرَّ الجميع بربوبيته(سبحانه و تعالی)، إذ أجابوا: بلى.

الهدف من هذا التقرير:

1/عدم السماح للمتمردين على هذا الإقرار بادعاء الغفلة والجهل يوم القيامة؛ لأنهم أقرّوا.

2/منعهم من اتخاذ التقليد للآباء ذريعةً لارتكاب المعاصي.

النقطة الثانية: المعاني التربوية للآية.

تهدف الآية المباركة إلى تذكير الإنسان بأنّه قد أقرَّ في عالم الذر بالربوبية لله(عزّ و جلّ) ومن ثم فليس له أنْ يُقلد الآباء بالباطل، وأن على المرء أنْ يكون حذرًا من مخالفة الأحكام الإلهية؛ لأنَّ الله(عزّ و جلّ) قد أتمَّ الحجة على العباد، ولله(عزّ و جلّ) الحجة البالغة، فأعطاهم عقلًا وأرسل لهم رسلًا، وأقرّهم وقرّرهم على أنفسهم بربوبيته(عزّ و جلّ). فبعد كلِّ ذلك لا عذر لمذنبٍ ولا ذريعةَ لعاصٍ.

روي عن أمير المؤمنين (علیه السّلام): «قَدْ بُصّرْتُمْ إِنْ أَبْصَرْتُمْ، وَقَدْ هُدِيتُمْ إِنِ اهْتَدَيْتُمْ، وأُسْمِعْتُمْ إِنِ اسْتَمَعْتُمْ»(1).

فكُلِّ شيءٍ قد تمَّ تجهيز جميع البشر به، وما بقي عليهم إلا أنْ يُفعِّلوا ما زُوِّدوا به من أجهزة، فمن لم يهتدِ فبسوء اختياره، ولا عذر لمن ضلَّ يوم القيامة إلا الغفلة أو تقليد الآباء وكلاهما قد نبهت الآية على رفض كونهما عذراً بعدما حصل الإقرار من الجميع بربوبية الله تعالى في عالم الذر.

ص: 196


1- نهج البلاغة، الحكمة 154
النقطة الثالثة: معنى عالم الذر:
الرأي الأول:

اختلفت كلماتُ المفسرين بشأنِ تفسير هذه الآية المتقدمة في المراد تحديدًا من عالم الذر؟ وقد نقل الشيخ مكارم الشيرازي ستة آراءٍ حول هذا الأمر(1)،سنذكر منها رأيين مع ضمِّ رأيٍ آخر حديثٍ إليهما طرحه أحد الأساتذة:

الرأي الأول:

طريق المحدّثين وأهل الظاهر حيث يقولون: إنّ المراد هو ما ورد في بعض الأحاديث من أنّ ذريّة آدم بأجمعهم قد خرجوا من ظهره على شكل ذرّات دقيقة وملأوا الفضاء وكانت تتمتّع بالعقل والإحساس والقدرة على النطق، فخاطبهم الله(عزّ و جلّ) وسألهم: «ألست بربّكم؟» فقالوا جميعاً: «بَلى»; وبذلك أخذ العهد الأوّل على التوحيد. وكان بنو الإنسان بأنفسهم شاهدين على ذلك.

وعلى الرغم من شهرة هذا التفسير على الألسن، بيد أنَّه ضُعِّفَ من قبل بعض العلماء مثل الشيخ جعفر سبحاني(2).

ص: 197


1- نفحات القرآن للشيخ ناصر مكارم الشيرازي- ج3 ص 82 – 89.
2- مفاهيم القرآن للشيخ جعفر سبحاني ج 1، ص82و85، حيث قال ما نصه: انتقادات على هذه النظرية: 1. انّ أوضح دليل على قصور هذه النظرية هو عدم موافقتها للمدلول الظاهري للآية، لأنّ ظاهر الآية كما قلنا في النقطة الخامسة يفيد أنّ الله تعالى أخذ من ظهور كل أبناء آدم ذرّيتهم، لا من آدم وحده؛ ولأجل هذا قال سبحانه: ﴿مِن بَنِي آدَمَ﴾ ولم يقل من آدم. كما أنّ الضمائر جاءت في صيغة الجمع: ﴿مِن ظُهُورِهِمْ﴾، ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ لا المفرد. وعلى هذا الأساس لا تطابق هذه النظرية مفاد الآية في هذه الناحية. 2. إذا كان قد أخذ هذا الميثاق من بني آدم وهم في كامل وعيهم، فلماذا لا يتذكره أحد منّا؟ وأجيب عن هذا الإشكال بأنّ ما هو منسي ومغفول عنه هو «وقت هذا الميثاق والإقرار» وليس نفس الميثاق والإقرار والاعتراف، بدليل ما يجده كل إنسان في ذاته من ميل فطري إلى الإذعان بوجود الله وربوبيته، ولا شك أنّ هذا هو امتداد طبيعي لذلك الإقرار المأخوذ في عالم «الذر». لكن هذا الجواب ليس بوجيه جداً كما تصوّر أصحابه، لأنّه ليس من المعلوم أنّ ما نجده من «الميل الفطري» إلى الله في ذواتنا يرتبط حتماً بمثل ذلك الميثاق.. بل ربما يكون نتيجة «فطرية وجود الله وربوبيته» وبداهتهما. وما يقال من أنّ الفاصل الزمني الطويل هو الذي كان سبباً لنسيان الميثاق المذكور ليس بصحيح كما يظهر. لأنّ طول هذا الفاصل لا شك أقل بكثير من طول الفاصل الزمني بين الإنسان في الدنيا ويوم القيامة على حين نجد أنّ الإنسان لا ينسى ما شاهده من حوادث في الدنيا فها هم أهل الجنة مثلاً يقولون لأهل النار: ﴿أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُّم مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ﴾. ونظير ذلك قول بعض أهل الجنة: ﴿إنّي كَانَ لِي قَرينٌ [أي في الدنيا] يقول ءَإِنَّكَ لَمِنَ المُصَدِّقِينَ﴾. ومثله قول بعض أهل النار: ﴿وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَىٰ رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ [أي في الدنيا] مِنَ الأشْرَارِ﴾. وغير ذلك من الآيات الدالة على تذكر أهل القيامة لما جرى لهم في العالم الدنيوي ممّا يدلّ على عدم نسيان الحوادث رغم طول الفاصلة الزمنية. 3. انّ الهدف من أخذ الميثاق أساساً هو أن يعمل الأشخاص بموجب ذلك الميثاق، والعمل فرع للتذكّر، فإذا لم يتذكّر الشخص أي شيء من هذا الميثاق، فكيف ترى يصح الاحتجاج به عليه، وكيف يمكن دفعه إلى العمل وفقه؟ على أنّنا بعد أن كتبنا هذا، وقفنا على كلام للعلاّمة الشريف المرتضى في (أماليه) وهو ينص على ما ذكرنا حيث أبطل هذا الرأي إذ قال: «وقد ظن بعض من لا بصيرة له ولا فطنة عنده، أنّ تأويل هذه الآية: أنّ الله استخرج من ظهر آدم (علیه السّلام) جميع ذريته وهم في خلق الذر، فقررهم بمعرفته وأشهدهم على أنفسهم. وهذا التأويل مع أنّ العقل يبطله ويحيله مما يشهد ظاهر القرآن بخلافه، لأنّ الله تعالى قال: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ﴾ ولم يقل من آدم وقال: ﴿مِن ظُهُورِهِمْ﴾ ولم يقل: من ظهره، وقال: ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ ولم يقل: ذريته. ثم أخبر تعالى بأنه فعل ذلك لئلا يقولوا يوم القيامة أنّهم كانوا عن ذلك غافلين أو يعتذروا بشرك آبائهم، وأنّهم نشأوا على دينهم وسنتهم ». ثم يقول الشريف المرتضى: «فأمّا شهادة العقول فمن حيث لا تخلو هذه الذرية التي استخرجت من ظهور آدم (علیه السّلام) فخوطبت وقررت من أن تكون كاملة العقول مستوفية لشروط التكليف أو لا تكون، فإن كانت بالصفة الأُولى وجب أن يذكر هؤلاء بعد خلقهم وإنشائهم، وإكمال عقولهم ما كانوا عليه في تلك الحال، وما قرّروا به واستشهدوا عليه، لأنّ العاقل لا ينسى ما جرى هذا المجرى وأن بعد العهد وطال الزمان وليس أيضاً لتخلل الموت بين الحالتين تأثير. على أنّ تجويز النسيان عليهم ينقض الغرض في الآية، وذلك لأنّ الله تعالى أخبر بأنّه إنّما قرّرهم وأشهدهم لئلاّ يدّعوا يوم القيامة الغفلة عن ذلك وسقوط الحجة عنهم فيه، فإذا جاز نسيانهم له عاد الأمر إلى سقوط الحجة وزوالها، وإن كانوا على الصفة الثانية من فقد العقل وشرائط التكليف قبح خطابهم وتقريرهم وإشهادهم وصار ذلك عبثاً قبيحاً يتعالى الله عنه». 4. انّ هذه النظرية تؤول إلى نوع من القول بالتناسخ الذي بطلانه من ضروريات الدين، لأنّه يعني على أساس هذه النظرية أنّ الإنسان أتى إلى هذه الدنيا قبل ذلك، ثم بعد العيش القصير ارتحل ثم عاد بصورة تدريجية إلى هذه الدنيا مرة ثانية.. وهو التناسخ الذي أبطله المحقّقون والعلماء المسلمون.

ص: 198

وكذلك الشيخ ناصر مكارم الشيرازي(1).

ص: 199


1- نفحات القرآن ج3 ص87 – 88، حيث قال ما نصُّه: القول الأوّل هو أضعف الأقوال لدى الكثير من المحقّقين، ووجّهوا إليه أغلب الإشكالات، حيث أشكل عليه الطبرسي في (مجمع البيان) والسيّد المرتضى كما نقله العلاّمة المجلسي في مرآة العقول كما انّ الفخر الرازي أورد (12) إشكالا على هذا القول! غير أنّ بعضها ليس جديراً بالإهتمام وبعضها مكرّر أو قابل للإندماج مع غيره، وبصورة عامّة تتوجّه خمسة إشكالات إلى هذا القول: أ إنَّ هذا التفسير لا ينسجم مع كلمة (بني آدم) أبداً، وكذلك مع ضمائر الجمع في الآية، وكلّها تتحدّث عن بني آدم لا آدم نفسه. كما لا يتطابق مع لفظه «ظهور» جمع «ظهر»، والخلاصة هي أنّ الآية تقول: انّ «الذرّية» ظهرت من ظهور «بني آدم» لا من ظهر «آدم»، في حين أنّ الروايات تدور حول نفس آدم. ب لو صحّ أخذ مثل هذا العهد الصريح في عالم سابق لهذا العالم فكيف يعقل نسيان ذلك من قبل البشر بأجمعهم؟! وهذا النسيان العام دليل على إستبعاد هذا التفسير، لأنّ المستفاد من الآيات القرآنية هو أنّ البشر لا ينسون حوادث الدنيا حين تقوم الساعة ولهم حوار بشأنها غالباً، فهل الفاصل الزمني بين عالم الذرّ والدنيا هو أكثر من الفترة بين الدنيا والآخرة؟ ج لو سلّمنا فرضاً بأنّ هذا النسيان العام يمكن تبريره بالنسبة لعالم الذرّ،ولكن النتيجة هي علّية هذا العهد، لأنّه يكون مؤثّراً حينما يتذكّره الناس، أمّا ما ينساه كافّة البشر فانّه يفقد تأثيره التربوي ولا ينفع في إلقاء الحجّة وسدّ باب الأعذار. د يستفاد من الآية 11 من سورة المؤمن ﴿رَبّنا أَمَتَّنا اثنَتَينِ وأَحْييتَنا اثْنَتَيْن﴾ أنّ للبشر موتتين وحياتين «حيث كانوا موجودات ميتة فأحييت ثمّ يموتون ثمّ يحيون يوم القيامة» في حين يكون لهم وفق هذا التفسير أكثر من موتتين وحياتين: «موت وحياة في عالم الذرّ وموتان وحياتان آخران». ه- يستلزم هذا التفسير (التناسخ)، لأنّا نعلم بأنّ التناسخ ليس إلاّ حلول روح واحدة في جسمين أو أكثر، وطبقاً لهذا التفسير فانّ الروح الاُولى تعلّقت أوّلا بالذرّات الدقيقة جدّاً والتي خرجت من ظهر آدم ثمّ خرجت لتتعلّق بالأجسام الحاضرة، وهذا هو عين التناسخ. وبطلان التناسخ هو من المسلّمات في الدين، ولذا فانّ الشيخ المفيد في كتابه (جواب المسائل السروية) عندما يذكر التفسير أعلاه مقروناً ببعض الروايات يضيف: هذه أخبار القائلين بالتناسخ وفيه جمعوا بين الحقّ والباطل. (مرآة العقول: الجزء 7، ص41). وقد ورد هذا الكلام بنفسه في كلام شيخ المفسّرين الطبرسي(رحمه الله). (مجمع البيان: ج4، ص497).

والفخر الرازي أورد اثني عشر إشكالًا عليه(1).

ص: 200


1- تفسير الرازي لفخر الدين الرازي ج15 ص 46 – 49. حيث قال ما نصُّه: واحتجوا على فساد هذا القول بوجوه. الحجة الأولى: لهم قالوا: قوله: ﴿مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ﴾ لا شك أن قوله: ﴿مِنْ ظُهُورِهِمْ﴾ يدل من قوله: ﴿بَنِي آدَمَْ﴾ فيكون المعنى: وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم. وعلى هذا التقدير: فلم يذكر الله تعالى أنه أخذ من ظهر آدم شيئاً. الحجة الثانية: أنه لو كان المراد أنه تعالى أخرج من ظهر آدم شيئاً من الذرية لما قال: ﴿مِنْ ظُهُورِهِمْ﴾ بل كان يجب أن يقول: من ظهره، لأن آدم ليس له إلا ظهر واحد، وكذلك قوله: ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ لو كان آدم لقال ذريته. الحجة الثالثة: أنه تعالى حكى عن أولئك الذرية أنهم قالوا: ﴿إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ﴾ وهذا الكلام يليق بأولاد آدم، لأنه (علیه السّلام) ما كان مشركاً. الحجة الرابعة: أن أخذ الميثاق لا يمكن إلا من العاقل، فلو أخذ الله الميثاق من أولئك الذر لكانوا عقلاء، ولو كانوا عقلاء وأعطوا ذلك الميثاق حال عقلهم لوجب أن يتذكروا في هذا الوقت أنهم أعطوا الميثاق قبل دخولهم في هذا العالم ؛ لأن الإنسان إذا وقعت له واقعة عظيمة مهيبة فإنه لا يجوز مع كونه عاقلاً أن ينساها نسياناً كلياً لا يتذكر منها شيئاً لا بالقليل ولا بالكثير، وبهذا الدليل يبطل القول بالتناسخ. فإنا نقول لو كانت أرواحنا قد حصلت قبل هذه الأجساد في أجساد أخرى لوجب أن نتذكر الآن أنا كنا قبل هذا الجسد في جسد آخر، وحيث لم نتذكر ذلك كان القول بالتناسخ باطلاً. فإذا كان اعتمادنا في إبطال التناسخ ليس إلا على هذا الدليل وهذا الدليل بعينه قائم في هذه المسألة، وجب القول بمقتضاه، فلو جاز أن يقال إنا في وقت الميثاق أعطينا العهد والميثاق مع أنا في هذا الوقت لا نتذكر شيئاً منه، فلم لا يجوز أيضاً أن يقال إنا كنا قبل هذا البدن في بدن آخر مع أنا في هذا البدن لا نتذكر شيئاً من تلك الأحوال. وبالجملة فلا فرق بين هذا القول وبين مذهب أهل التناسخ فإن لم يبعد التزام هذا القول لم يبعد أيضاً التزام مذهب التناسخ. الحجة الخامسة: أن جميع الخلق الذين خلقهم الله من أولاد آدم عدد عظيم وكثرة كثيرة، فالمجموع الحاصل من تلك الذرات يبلغ مبلغاً عظيماً في الحجمية والمقدار وصلب آدم على صغره يبعد أن يتسع لذلك المجموع. الحجة السادسة: أن البنية شرط لحصول الحياة والعقل والفهم، إذ لو لم يكن كذلك لم يبعد في كل ذرة من ذرات الهباء أن يكون عاقلاً فاهماً مصنفاً للتصانيف الكثيرة في العلوم الدقيقة. وفتح هذا الباب يفضي إلى التزام الجهالات. وإذا ثبت أن البنية شرط لحصول الحياة، فكل واحد من تلك الذرات لا يمكن أن يكون عالماً فاهماً عاقلاً ؛ إلا إذا حصلت له قدرة من البنية واللحمية والدمية، وإذا كان كذلك فمجموع تلك الأشخاص الذين خرجوا إلى الوجود من أول تخليق آدم إلى آخر قيام القيامة لا تحويهم عرصة الدنيا، فكيف يمكن أن يقال إنهم بأسرهم حصلوا دفعة واحدة في صلب آدم (علیه السّلام)؟ الحجة السابعة: قالوا هذا الميثاق إما أن يكون قد أخذه الله منهم في ذلك الوقت ليصير حجة عليهم في ذلك الوقت، أو ليصير حجة عليهم عند دخولهم في دار الدنيا. والأول باطل لانعقاد الإجماع على أن بسبب ذلك القدر من الميثاق لا يصيرون مستحقين للثواب والعقاب والمدح والذم ولا يجوز أن يكون المطلوب منه أن يصير ذلك حجة عليهم عند دخولهم في دار الدنيا لأنهم لما لم يذكروا ذلك الميثاق في الدنيا فكيف يصير ذلك حجة عليهم في التمسك بالإيمان؟ الحجة الثامنة: قال الكعبي: إن حال أولئك الذرية لا يكون أعلى في الفهم والعلم من حال الأطفال، ولما لم يكن توجيه التكليف على الطفل، فكيف يمكن توجيهه على أولئك الذوات؟ وأجاب الزجاج عنه فقال: لما لم يبعد أن يؤتى الله النمل العقل كما قال: ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ﴾ (النمل: 18) وأن يعطي الجبل الفهم حتى يسبح كما قال: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ﴾ (الأنبياء: 79) وكما أعطى الله العقل للبعير حتى سجد للرسول، وللنخلة حتى سمعت وانقادت حين دعيت فكذا ههنا. الحجة التاسعة: أن أولئك الذر في ذلك الوقت إما أن يكونوا كاملي العقول والقدرة أو ما كانوا كذلك، فإن كان الأول كانوا مكلفين لا محالة وإنما يبقون مكلفين إذا عرفوا الله بالاستدلال ولو كانوا كذلك لما امتازت أحوالهم في ذلك الوقت عن أحوالهم في هذه الحياة الدنيا، فلو افتقر التكليف في الدنيا إلى سبق ذلك الميثاق لافتقر التكليف في وقت ذلك الميثاق إلى سبق ميثاق آخر ولزم التسلسل وهو محال. وأما الثاني: وهو أن يقال إنهم في وقت ذلك الميثاق ما كانوا كاملي العقول ولا كاملي القدر، فحينئذ يمتنع توجيه الخطاب والتكليف عليهم. الحجة العاشرة: قوله تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ﴾ (الطارق: 5، 6) ولو كانت تلك الذرات عقلاء فاهمين كاملين، لكانوا موجودين قبل هذا الماء الدافق ولا معنى للإنسان إلا ذلك الشيء فحينئذ لا يكون الإنسان مخلوقاً من الماء الدافق وذلك رد لنص القرآن. فإن قالوا: لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى خلقه كامل العقل والفهم والقدرة عند الميثاق ثم أزال عقله وفهمه وقدرته؟ ثم إنه خلقه مرة أخرى في رحم الأم وأخرجه إلى هذه الحياة. قلنا: هذا باطل لأنه لو كان الأمر كذلك لما كان خلقه من النطفة خلقاً على سبيل الابتداء بل يجب أن يكون خلقاً على سبيل الإعادة. وأجمع المسلمون على أن خلقه من النطفة هو الخلق المبتدأ فدل هذا على أن ما ذكرتموه باطل. الحجة الحادية عشرة: هي أن تلك الذرات إما أن يقال هي عين هؤلاء الناس أو غيرهم والقول الثاني باطل بالإجماع، بقي القول الأول. فنقول: إما أن يقال إنهم بقوا فهماء عقلاء قادرين حال ما كانوا نطفة وعلقة ومضغة أو ما بقوا كذلك والأول باطل ببديهة العقل. والثاني: يقتضي أن يقال الإنسان حصل له الحياة أربع مرات: أولها وقت الميثاق، وثانيها في الدنيا، وثالثها في القبر، ورابعها في القيامة. وأنه حصل له الموت ثلاث مرات. موت بعد الحياة الحاصلة في الميثاق الأول، وموت في الدنيا، وموت في القبر، وهذا العدد مخالف للعدد المذكور في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ (غافر: 11). الحجة الثانية عشرة: قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ (المؤمنين: 12) فلو كان القول بهذا الذر صحيحاً لكان ذلك الذر هو الإنسان لأنه هو المكلف المخاطب المثاب المعاقب، وذلك باطل. لأن ذلك الذر غير مخلوق من النطفة، والعلقة، والمضغة، ونص الكتاب دليل على أن الإنسان مخلوق من النطفة والعلقة، وهو قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ وقوله: ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ* مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ* مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ﴾ (عبس: 17، 18) فهذه جملة الوجوه المذكورة في بيان أن هذا القول ضعيف.

وعلى كل حال، فنذكر منها إشكالًا واحدًا:

ص: 201

وهو أنه خلاف ظاهر الآية، إذ ذكرت الآية المباركة في قوله(عزّ و جلّ): ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ﴾(1)، في حين أنَّ التفسير يذكر أنَّ الناس خرجوا كالذر من ظهر آدم فقط.

الرأي الثاني:

إنَّ المراد من عالم الذر هو الذرات الأولى لوجود الإنسان، أي تلك النطفة التي

ص: 202


1- سورة الأعراف: آية [172]

انتقلت من ظهور الآباء إلى أرحام الأمهات إلى أنْ صارت إنسانًا كاملًا، وفي ذلك الحال -حال الانتقال- أعطاها الله(عزّ و جلّ) قوى وقابليات مختلفة، يستفيد منها عندما يُفعِّلها فيما بعد ليُدرك حقيقة التوحيد.

ومعنى هذا: أنَّ الله (سبحانه و تعالی)أعطى في عالم الذر لكلِّ واحدٍ من البشر القابلية على إدراك حقيقة التوحيد، فإذا تأمل خلق الله(عزّ و جلّ) يهتدي إلى التوحيد. وهذه القابليات هي السمع والأبصار والأفئدة أي العقول، كما في قوله(عزّ و جلّ): ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(1)،

فهذه القابليات والقدرات هو العهد الذي أخذه الله(عزّ و جلّ) على العباد.

مما يعني أنَّ المحاورة بين الله(عزّ و جلّ) والمخلوقات إنما كانت محاورةً كنائيةً، أيّ بلسان الحال، وكأنّ الله(عزّ و جلّ) أعطاهم العقل والحواس وغيرها فقالوا بلسان الحال: بلى إذا ما فعّلنا العقل وتلك الحواس سنُقِرُ بالتوحيد، فتخرج من المحاورة من الحقيقة إلى المجاز.

وبما أنَّ الفطرة موجودةٌ عند كافةِ البشر، يؤيد ذلك الرواية عن أبي عبد الله (علیه السّلام) أنَّه قال: «ما من مولود يُولَد إلَّا علىٰ الفطرة، فأبواه اللذان يُهوِّدانه ويُنصِّرانه ويُمجِّسانه...»(2).

والنتيجة: أنّ هذه الفطرة موجودةٌ عند جميع البشر وليس فيها نسيان؛ فلا عذر لأحدٍ في مخالفة التشريع الإلهي.

وهو تفسيرٌ خلاف الآية ظاهرًا؛ لأنَّ الآية تقول: إنَّ الخطاب قد وقع حقيقةً، في حين يرى هذا التفسير أنّه مجازٌ.(3)

ص: 203


1- سورة النحل: آية [78]
2- من لا يحضره الفقيه للصدوق 2: 49/ ح 1668.
3- قال الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في نفحات القرآن ج3 ص 87 و 88: وأمّا القول الثاني الذي يتحدّث عن خلق فطرة التوحيد والقابلية الخاصّة لمعرفة الله في عالم الرحم فأنّه أقلّ الأقوال إشكالا، والإشكال الوحيد الذي أورده عليه هو أنّ ظاهر الآية المبحوث عنها هو أنّ السؤال والجواب جاء بلسان القال لا الحال، وهو ضرب من التشبيه والمجاز، مضافاً إلى انّ جملة (أخذ) دليل على أنّ هذا الأمر قد أخذ في الماضي، في حين أنّ فطرة التوحيد للأجنّة هي أمر مستمرّ ويتحقّق في كلّ زمان، والإشكالان يمكن الإجابة عليهما وذلك لعدم مانعية حمل هذا الكلام على لسان الحال مع القرينة، وقد كثر ذلك في اللغة العربية نثراً وشعراً و...، والإشكالات المهمّة التي ترد على التفسير الأوّل قرينة واضحة على هذا التفسير، والفعل الماضي قد يستعمل في الاستمرار أيضاً، وهذا طبعاً يحتاج إلى قرينة أيضاً، وهذه القرينة موجودة في موضوع البحث.
الرأي الثالث:

للشيخ غلام رضا فياضي، تبعًا لجمعٍ من قدماء المفسرين والمحدثين، حيث اختصر ما بينه بقوله: «أنّ الأرواح الّتي وجدت وستوجد في عالمنا وبشكل بطيء وتدريجي استغرق لحدّ الآن الآلاف من السنين قد وجدت من قبل وتحديداً بعد خلق آدم بشكل سريع وأخذ منها الإقرار بالربوبيّة. ولكن هذه الأرواح لم توجد آنذاك وحدها، كما لم توجد في عالمنا، وإنّما وجدت مع أبدان، غايته أنّها بقيت محفوظة بأشخاصها وهي الّتي تعلّقت بأبدان هذا العالم، وأمّا الأبدان فقد تغيّرت واستبدلت بأبدان أُخرى»(1).

بيانه:

من المعلوم أنَّ الأرواح في عالم الدنيا توجد بشكلٍ تدريجي بهذه الأبدان المادية منذ بداية الخليقة وإلى يومنا هذا، بل وإلى ما شاء الله(عزّ و جلّ)، حيث يولد في كلِّ يومٍ مجموعة من البشر ربما يصل عددهم إلى المليون مثلًا، وهؤلاءِ أيضًا يولدون بشكلٍ تدريجي، فبعضهم في الساعة الأولى من اليوم والبعض يلونهم في الساعة الثانية وهكذا.

أما في عالم الذر، فقد خلق الله(عزّ و جلّ) جميع البشر بعد خلقه لآدم (علیه السّلام) وبشكلٍ هائل السرعة، خلقهم بأبدانٍ تختلف عن هذه الأبدان المادية في عالم الدنيا، وقد جرت بين الله (سبحانه و تعالی)وبينهم تلك المحاورة، وأقرّهم الله(عزّ و جلّ) على ربوبيته، وبقيت تلك الأرواح

ص: 204


1- علم النفس الفلسفي، الطبعة الأولى سنة 2013 ميلادية، ص 245، درس 38.

موجودة في ذلك العالم، وهي التي تنزل بالتدريج لتتلبس بأبدانها المادية في الحياة الدنيا.

ولتقريب الفكرة أكثر نقول:

إنَّ الفيلم السينمائي الذي طوله ثلاث ساعات مثلًا، بإمكانك أن تشاهده بسرعته الاعتيادية فتستغرق حينئذٍ ثلاث ساعاتٍ، كما بإمكانك أن تختزل مشاهدته في ربع ساعة عن طريق تسريع عرضه، وربما عندما تسرعه أكثر يصل بك الأمر أن تشاهده خلال دقيقةٍ واحدةٍ فقط.

فعالم الذر وما جرى فيه أشبه بالعرض السريع للفيلم، على حين أنَّ عالم الدنيا أشبه بعرض الفيلم بسرعته الاعتيادية.

وفي عبارة أخرى له قال ما نصه: إنّ عالم الذرّ حقيقة تمّ فيه وبشكل سريع إيجاد بني آدم وبنفس الكيفيّة الّتي يوجد عليها في عالمنا بشكل بطيء، من أجل أخذ الإقرار منهم بربوبيّة الله تعالى، ثمّ أُعيدوا إلى ما كانوا عليه وأخذوا يتواجدون في عالمنا وبشكل تدريجي هادئ مع المعرفة الّتي زُوّدوا بها.(1).

والمخلوقات أجمعها وإنْ نسيت الموقف إلا أنها لم تنسَ المعرفة، كما لو رأيت شخصًا فعرفته ولكنك نسيت الموقف الذي رأيته فيه فيما مضى، وقد صرّحت بعض الروايات بهذا الجواب، إذ روي عن زرارة قال: سألت أبا جعفر (علیه السّلام) عن قول الله(عزّ و جلّ): ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلىٰ﴾ قال: «ثبتت المعرفة ونسوا الموقف، وسيذكرونه يوماً، ولولا ذلك لم يدرِ أحدٌ مَن خالقُه ولا مَن رازقُه»(2).

ويجيب الشيخ أيضًا على تساؤل النسيان فيقول: وقد أجاب العلاّمة الطباطبائي في

ص: 205


1- علم النفس الفلسفي، الطبعة الأولى سنة 2013 ميلادية، درس 42، ص196.
2- () مختصر بصائر الدرجات للحلي: ص215.

الميزان عن هذا الإشكال بحقّ : إن كان المراد من النسيان المتحقّق نسيان الموقف فلا مشكلة فيه؛ لأنّ اللازم حفظ أصل الميثاق وإن نسي الموقف، وكلّ منّا عند مراجعة داخله يجد أنّ المعرفة موجودة. وقد جاء في الرّواية«ثَبَتَتِ المَعْرِفَةُ وَ نَسُوا الْمَوْقِف».

وإن كان المراد منه نسيان أصل المعرفة فهو ممنوع التحقّق. نعم، يمكن أن ينسوا بأفعالهم الاختيارية وهو لا ينافي تمام الحجّة.

والخلاصة:

أيًا ما كان تفسير عالم الذر، فإنَّه قد ذُكر في الروايات، وتُشير عدة أمور إلى وجوده. ويسمى هذا العالم في بعض الكلمات ب-(عالم الأرواح) حيث كانت الأرواح دون هذه الأبدان، كما يسمى ب-(عالم الأظلة) اي الأرواح، ويسمى أيضًا ب-(عالم الأشباح)؛ لأنَّ الروح ليست مادية فهي أشبه ما تكون بالشبح.

روي أنّ رجلًا جاء إلى أمير المؤمنين (علیه السّلام) فقال له: يا أمير المؤمنين إنّي أُحِبُك، فقال له (علیه السّلام): «لم أرَك تُحبني في الميثاق الأول». ويُفسر قول أمير المؤمنين (علیه السّلام) على معنى أنَّ الأرواح في ذلك العالم تلاقت وتعارفت فما كان منها مؤتلفًا ائتلف وما كان متخالفًا اختلف.

إذ ورد أنَّه جاء رجل إلىٰ عليٍّ وكلَّمه فقال في عرض الحديث: إنّي أُحبّك، فقال له عليٌّ: «كذبت»، قال: لِمَ يا أمير المؤمنين؟ قال: «لأنّي لا أرىٰ قلبي يحبّك، قال النبيُّ (صلّی الله علیه و آله): إنَّ الأرواح كانت تَلاقىٰ في الهواء فتشام، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف»، فلمَّا كان من أمر عليّ ما كان، كان ممَّن خرج عليه(1).

وكذلك ما ورد من أنَّ الله (سبحانه و تعالی)عندما قتل الإمام الحسين (علیه السّلام) وضجت الملائكة إلى

ص: 206


1- بحار الأنوار 25: 14/ ح 27، عن بصائر الدرجات: 108/ ج 2/ باب 15/ ح 7.

الله(عزّ و جلّ) أنْ كيف يُقتل الإمام الحسين وأنت تسكت يا ربّنا؟ فأجابهم أنْ: «قرّوا يا ملائكتي سوف انتقم من قتلته ولو بعد حين». وتذكر الرواية أنّه (سبحانه و تعالی)كشف لهم عن ظلِ القائم (عجّل الله تعالی فرجه )، إذ روي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُمْرَانَ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (علیه السّلام): «لَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحُسَيْنِ (علیه السّلام) مَا كَانَ، ضَجَّتِ الْمَلَائِكَةُ إِلَى الله بِالْبُكَاءِ، وقَالَتْ: يُفْعَلُ هَذَا بِالْحُسَيْنِ صَفِيِّكَ وابْنِ نَبِيِّكَ؟ قَالَ (علیه السّلام): فَأَقَامَ الله لَهُمْ ظِلَّ الْقَائِمِ (علیه السّلام) وقَالَ: بِهَذَا أَنْتَقِمُ لِهَذَا».(1)

وفي روايةٍ أخرى: كشف لهم عن القائم، إذ عن أبي حمزة ثابت بن دينار الثمالي، قال: سألت أبا جعفر محمّد بن عليٍّ الباقر (علیه السّلام)...، فقلت: يا بن رسول الله، فلستم كلّكم قائمين بالحقِّ؟ قال: «بلىٰ»، قلت: فلِمَ سُمّي القائم قائماً؟ قال: «لمَّا قُتِلَ جدّي الحسين (علیه السّلام) ضجَّت عليه الملائكة إلىٰ الله تعالىٰ بالبكاء والنحيب، وقالوا: إلهنا وسيِّدنا، أتغفل عمَّن قتل صفوتك وابن صفوتك وخيرتك من خلقك؟ فأوحىٰ الله(عزّ و جلّ) إليهم: قرّوا ملائكتي، فوَعزَّتي وجلالي لانتقمنَّ منهم ولو بعد حين. ثمّ كشف الله(عزّ و جلّ) عن الأئمَّة من ولد الحسين (علیه السّلام) للملائكة، فسرَّت الملائكة بذلك، فإذا أحدهم قائم يُصلّي، فقال الله(عزّ و جلّ): «بذلك القائم انتقم منهم»(2).

وقد حاول البعض أنْ يُفرِّق بين المعنيين (ظلِّ القائم والقائم)، والبعض الآخر حاول أنْ يستفيد منها بأنَّ ظلَّ القائم هو اليماني وهو وزيره، وهو كلامٌ لا يستند إلى دليل؛ فالرواية في زمن الإمام الحسين (علیه السّلام)، ولم يكُ الإمام المهدي (عجّل الله تعالی فرجه ) مولودًا بعد، ومن ثم فإنَّ الذي كان في عالم الأظلة هو نفس القائم، وإنّما عُبِّر عنه ب-(ظلِّ القائم)؛ لأنه ما زال في ذلك العالم (عالم الأرواح) ولم ينزل إلى العالم المادي بعدُ..(3)

ص: 207


1- الكافي للكليني ج1 ص 465 بَابُ مَوْلِدِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ3- ح6.
2- علل الشرائع للصدوق 1: 160/ باب 129/ ح 1.
3- قال العلامة المجلسي(قدّس سرّه): أي جسده المثالي، أو صورة خلقت شبيهة به، حاكية لأحواله أو روحه المقدسة، قال في القاموس: الظل الخيال من الجن وغيره يرى، ومن كل شيء شخصه. [مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول للعلامة المجلسي ج5 شرح ص 367.].

ص: 208

العالم الثاني: عالم الأصلاب

فائدة تربوية:

عالمٌ مجهولُ الحقيقة، ليس لدينا عنه من معلوماتٍ إلا القليل، فقد شاءت حكمة الله (سبحانه و تعالی)أنْ يجعل بداية أعظمِ مخلوقٍ من ماءٍ مهين، قال(عزّ و جلّ): ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ*خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ* يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾(1). يدعونا الله(عزّ و جلّ) في هذه الآية المباركة لننظر نظرة تدبر وتفكّر في بداية خلقتنا والمادة التي تكوّنت منها أجسامنا، وهو الماء المهين القذر.

وفي الحقيقة هو ماءان: أحدهما يخرج من صلب الرجل أي (فقرات ظهره)، والآخر من بين (ترائب المرأة) أي عظام صدرها العلوية، وقيل: إنَّ الصلب إشارة إلى الرجال والترائب إشارة إلى النساء، وهو صحيحٌ أيضًا، وقد عبر عن الرجل ب(الصلب)؛ لأنه مظهر الصلابة وعبّر عن المرأة ب(الترائب)؛ لأنها مظهر الرقة واللطافة. وعلى كلِّ حالٍ فالآيةُ بصدد ذكر حيمن الرجل وبويضة المرأة، ومنهما تتشكل نطفة خلق الإنسان.

وإنَّ القرآن عبَّر عنهما ب(ماء)؛ لأنهما سيختلطان ليكوِّنا ماءً واحدًا؛ نتيجةَ تلقيح الحيمن للبويضة، وهو الأمشاج في قوله(عزّ و جلّ): (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا)(2).

فائدة تربوية:

تشتمل هذه الآية على فائدةٍ تربويةٍ وهي: أنَّ الإنسان إذا التفت إلى حقيقته بأنَّ

ص: 209


1- الطارق: 5 – 7.
2- الإنسان: 2.

بدايته من ماءٍ قذر يستقذره الإنسان، وهو علاوةً على ذلك متناهي في الصغر لا يُرى بالعين المجردة، قال إلكسيس كارل: «حينما يقذف الرجل بالسائل المنوي إلى الخارج فإنه يكون حليبي اللون - وبحجم 3 سم3، يوجد في كل سنتيمتر مكعب منه من 100 إلى 200 مليون حيمن».(1)

أي إنه ومن أصل ثلاث مئة إلى ستة مئة مليون حيمن فإن حيمنًا واحدًا يُلقح البويضة، فهو في بدايته حقير جدًا قذر جدًا، فيتكون ذلك الإنسان المتكبر، الذي ربما يتعالى ويتكبر حتى على الله(عزّ و جلّ)!

ولو أدرك الإنسان حقيقة أصله وبداية منشئه لتأدب وتواضع ولما فكّر بأن يتكبر يومًا، روي عن الإمام زين العابدين (علیه السّلام) أنّه يقول في أحد أدعيته: «اللهم وإنّك من الضعف خلقتنا وعلى الوهن بنيتنا ومن مهينٍ ابتدأتنا، فلا حول لنا إلا بقوتك ولا قوة لنا إلا بقوتك ولا قوة لنا إلا بعونك»(2).

وقد ورد أيضًا في روايةٍ عن الإمام الصادق(صلوات الله وسلامه عليه) أنّه وقع بين سلمان المحمدي رحمة الله عليه وبين رجلٍ خصومة، فقال الرجل لسلمان: من أنت وما أنت؟ فقال سلمان: «أما أولي وأولك فنطفةٌ قذرة، وأما آخري وآخرك فجيفةٌ منتنةٌ، فإذا كان يوم القيامة ونُصِبتِ الموازين فمن ثَقُلت موازينه فهو الكريم ومن خفّت موازينه فهو اللئيم»(3).

وفي الحديث المشهور لأمير المؤمنين (علیه السّلام): «عجبتُ لابن آدم أوله نطفة وآخره جيفة وهو قائمٌ بينهما وعاء للغائط ثم يتكبر».(4)

ص: 210


1- الإنسان ذلك المجهول، نقله شيخ محمد تقي فلسفي في كتابه (الطفل بين الوراثة والتربية) ج1 ص 84.
2- الصحيفة السجادية، الدعاء التاسع.
3- كتاب من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق، الجزء4، ص404.
4- علل الشرائع للشيخ الصدوق ج1 ص 275 و 276 ب184 ح2.

فإذا وضع الإنسان كل ذلك نصب عينيه، تواضع لله(عزّ و جلّ) وما عُرف في خصاله تعالٍ ولا تكبر، وإذا ما أضاف إلى معرفته السابقة أنّ الله(عزّ و جلّ) قد كرّمه ورفعه من ذلك المستوى من الضعف والقذارة إلى أن يكون سيدًا لكلِّ المخلوقات«خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي»(1)،

﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾، حمد الله (سبحانه و تعالی)وشكره بالطاعة والعبادة والسلوك.

الصفات الوراثية في النطفة:

من الأمور التي أدركها الإنسان ومنذ القدم أنَّ النطفة -على حجمها المتناهي في الصغر- لها القابلية على نقلِ الكثير من الخصائص والصفات من الوالدين إلى الجنين، حالها حال البذور من النباتات، إذ كلّ بذرةٍ تحمل في جوفها الصفات الوراثية للشجرة التي أخذت منها.

وهذه الحقيقة أيضًا موجودةٌ لدى الإنسان، فعند تطور العلوم وباكتشاف المجاهر الدقيقة توصلوا أخيرًا إلى أن منشأ الموجود الحي هي وحدة صغيرة جدًا تسمى (الخلية). وأن الانسان وبشكل معدل متكون من «عشرة ملايين مليار» وحدة حية صغيرة تسمى «الخلية».

كان أول من اكتشف الخلية ووضع لها تسمية، عالمٌ باسم «هوك» في القرن السابع عشر الميلادي. وطبعاً فإنه لم يكن يعلم يومذاك ما في بناء هذه الوحدة الصغيرة من تعقيد يبعث على الحيرة. ولكن العلماء الذين جاؤوا بعده واصلوا مساعيه وتوصلوا إلى أسرار نسرد فيما يلي جانباً من شهاداتهم:

1 يمكن تشبيه خلية مجهرية واحدة بمدينة فيها آلاف التأسيسات مجهزة بمنشآت

ص: 211


1- الجواهر السنية للحر العاملي ص 361.

ومعامل لتبديل المواد الغذائية إلى المواد التي يحتاجها الجسم، بحيث لا يمكن أن نقيس أعظم وأحدث الظواهر الصناعية للبشر بها.

2 تتكون هذه المدينة الصغيرة والصاخبة من ثلاثة أقسام:

أ جدار الخلية وهو بمثابة سور المدينة.

ب القسم الأوسط للخلية (السيتوبلازم).

ج النواة أو مركز القيادة.

إن السور المصنوع حول الخلية من اللطافة والظرافة بحيث لو وضعنا500 ألف من هذه الجدران إلى جانب بعضها فمن الصعب ان تساوي سمك ورقة اعتيادية! ومع هذا فهو حساس ومحكم قبال هجوم العوامل الخارجية إلى درجة أن سور الصين المعروف ليس شيئاً يذكر بالقياس إليه! وهذا السد الرقيق مصنوع بدوره من ثلاثة جدران أو من ثلاث طبقات اصطلاحاً، يتشكل طرفاه من الأنسجة البروتينية وأسفله مليءٌ بالدهنيات وهذه الدهنيات لا تسمح لشيء أبداً بالدخول داخل المدينة إلاّ بمفتاح رمزي،

وهذا المفتاح الرمزي هو: أن المواد التي تريد الدخول إلى المدينة يجب أن تتمكن من إذابة دهون الجدار فيها والنفوذ إلى الداخل، وهذا دليل يثبت أنها صديقة وليست من الأعداء، وبهذا فإن هذه المدينة محروسة بشدة من كل جانب بدون حاجة إلى حارس.

3- يوجد في داخل هذه المدينة (الخلية) قنوات كثيرة تمتد من الجدران إلى أطراف «النواة»، أي حصن قيادة الخلية، تأخذ المواد الغذائية وتحيلها إلى بروتينات.

واللطيف أنّ 23 نوعاً خاصاً من الأحماض تدخل هذه الخلية، والبروتين يتكون من تركيب عدة أنواع منها.

4- النواة الأصلية بمفردِها تمثل ناطحة سحاب مكوّنة من آلاف الطبقات بحيث

ص: 212

تكون ناطحات السحاب المعروفة في نيويورك منزلًا متواضعاً إلى جانبها.

للنواة الأصلية في الخلية وهي مقر القيادة تشكيلات معقدة: غشاء النواة، العصارة الداخلية، والحزمات الرفيعة حولها التي تتولى كل منها مهمّة خاصة.

5- العجيب أنّ في نواة الخلية وحدات صغيرة جدّاً وظريفة تسمى «الجينات» يصل عددها طبقاً لدراسات العلماء إلى حدود 25 ألف جين.

ليست «الجينات» هي الكل في الكل في أعمال الخلايا وحسب، بل إنّها تمسك بكل نشاطات الجسم، ومن أهمها التحكم بالأُمور الوراثية ونقل الصفات والخصائص إلى الخلايا اللاحقة، أي أنّ انتقال كل الصفات الوراثية عند البشر وسائر الحيوانات يتمّ عن طريق الجينات.

ولأنّ العمل الأساسي للجين يقع على عاتق الحامض الخاص في النواة، لذا يمكن تسميته بالعقل الإلكتروني أو كومبيوتر الجين.

والأعجب من هذا، أنّ نفس هذه الجينات متكونة من أجزاء أخرى تصل طبقاتها من 30 إلى 50 ألف حسب ما يعتقد العلماء.

ومختصر الكلام: أنّ هذه المدينة العظيمة بذلك السور العجيب وآلاف المنافذ والبوابات، وآلاف المعامل والمخازن وشبكة الأنابيب ومركز القيادة بتأسيساته الكثيرة وارتباطاته المتعددة والنشاطات الحياتية المتنوعة في تلك الحدود الصغيرة، من أعقد وأدهش مدن العالم، إذ إنّنا لو أردنا أن نصنع مؤسسات تقوم بنفس الأعمال (ولا نستطيع ذلك أبداً)، وجب علينا اقتطاع عشرات الآلاف من الهكتارات من الأرض لوضعها تحت اختيار هذه المؤسسات والأبنية المختلفة والأجهزة المعقدة لتكون جاهزة لمثل هذا البرنامج، لكن المدهش أنّ نظام الخلق قد ضغط كل هذا في مساحة تعادل 15

ص: 213

مليون مليمتر!

أجل، في خلقة الإنسان آلاف آلاف من الآيات والعلامات الإلهيّة: «الْعَظَمَةُ لِلَّهِ الواحِدِ القَهَّارِ».(1)

وقد سبق الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله) العلم والعلماء بالإشارة إلى قانون الوراثة، حيث ذكر هذه الجينات في أحاديثه (صلّی الله علیه و آله) معبرًا عنها ب-(العرق): تزوجوا في الحجز(2)

الصالح، فإن العرق دساس.(3)

وهذا العرق هو الذي يأتي من المرأة فينقل الصفات الوراثية إلى أولادكم.

هذا هو مجمل عالم الأصلاب العالم الذي مرَّ به الإنسان من صلب أبيه بعمليةٍ ميكانيكية مُعقدة تنتقل إلى جسم المرأة، فتتكون الخلية الأولى لوجود الإنسان، فهو بداية لنقلةٍ ما قبل الأخيرة لوجود الإنسان في عالم الدنيا وفيها التأثير على الصفات التي سيكون عليها الولد في المستقبل؛ لذلك فقد أكدت التعليمات التربوية على أنْ يختار كلٌّ من الزوجين الطرف الآخر المناسب لولده، فيختار الرجل المرأة المناسبة لتكون أمًا صالحةً لولده، وكذلك المرأة تختار الرجل المناسب ليكون أبًا صالحًا لولدها. فالاختيار للطرفين، وإلا فقد يُؤدي إلى خللٍ في تكوين الأسرة، قد لا يُعاني من آثاره الطرف المخطئ في الاختيار فقط بل يشمل الأبناء أيضًا.

ص: 214


1- نفحات القرآن للشيخ ناصر مكارم الشيرازي ج2 ص51 – 53.
2- الحجز بالكسر والضم -: العشيرة. العفيف. الطاهر. [هامش مكارم الأخلاق]
3- كنز العمال للمتقي الهندي ج16 ص 2696 ح 44559 ونقله مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي ص 197عن الإمام الصادق (علیه السّلام).

العالم الثالث: عالم الأرحام

المرحلة الأولى: مرحلة العلقة:

قال(عزّ و جلّ): ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِين* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ﴾.(1)

الكلامُ في هذا العالم طويل، وفيه كثيرٌ من الحقوق للجنين والأم، وأمورٌ تربوية أيضًا، ولكن سنكتفي بالتعرض إلى ما أشارت إليه الآية المتقدمة الذكر، لذا سنتعرض على المعنى العام لهذه الآيات لنتعرف ما يجري على الإنسان في ذلك العالم.

تتحدث هذه الآيات عن خلق الإنسان، إذ خُلِقَ من طين ﴿مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾، وهذا الأمر واضحٌ دينياً، فقد روي عن النبي الأعظم (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال لأمير المؤمنين (علیه السّلام): «يا علي: إن الله تبارك وتعالى قد اذهب بالإسلام نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها، ألا إن الناس من آدم وآدم من تراب، وأكرمهم عند الله أتقاهم».(2)

وفي هذا إشارة إلى تساوي جميع الناس من حيث الجنس البشري، فلا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى.

هذا من حيث الأصل الذي لا يختلف عليه اثنان من بني البشر.

ثم تبدأ رحلة الإنسان من هذا الأصل، حيث يكون نطفةً في عالمِ الأصلاب،

ص: 215


1- المؤمنون 12- 14
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج4 ص 363 من حديث 5762.

فتنتقل تلك النطفة لتستقر في رحمِ الأمِّ، ذلك القرار الآمن الذي عبّر عنه القرآن الكريم ب(القرار المكين). وبعد أنْ تنتقل النطفة إلى رحم المرأة تمرُّ بمراحلَ خمسةٍ متتالية أشارت إليها الآيات موضوع البحث. ولهذه المراحل مدخليةٌ في تغيُّر الأحكامٌ الجزائية المترتبة على الاعتداء على الجنين فيها، فحكم الاعتداء على الجنين سواء كان عمدًا أو خطأً يختلف باختلاف المرحلة التي هو فيها.

فمنذ اللحظة الأولى التي تنعقد فيها النطفة مع بويضة المرأة، يصير لتلك البويضة المخصبة حقٌ في الإسلام، وحقها الأول هي الحياة، فلا يُسمح لأيِّ أحدٍ أنْ يعتدي عليها وإن كان الأب أو الأم؛ ولذا فإنَّ الفقهاء يذكرون أنَّ بعض الوسائل التي تستعملها المرأة لمنع الحمل إذا كان يمنع التخصيب فلا بأس بها، وأما إذا كان يقتل البويضة بعد تخصيبها فيحرم استعمالها حينئذٍ.

وهذه المراحل هي:

المرحلة الأولى: مرحلة العلقة:

حيث تتبدل النطفة إلى دمٍ مُتخثرٍ في داخله كثيرٌ من العروق.

المرحلة الثانية: المضغة:

حيثُ يصبح هذا الدم المتخثر على شكلِ قطعةِ لحم.

المرحلة الثالثة: مرحلة العظام:

حيثُ تتبدل كلَّ الخلايا اللحمية إلى خلايا عظمية.

المرحلة الرابعة: مرحلة تغطية العظام باللحم:

حيثُ تُغطي العضلاتُ العظام ﴿فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً﴾.

ص: 216

المرحلة الخامسة: مرحلة بث الروح:

وهنا يتغير سياق الآية من (الفاء) الدالة على الترتيب مع التعقيب، إلى (ثم) الدالة على الترتيب مع التراخي، قال(عزّ و جلّ): ﴿ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ﴾، وذلك لدخول الجنين في مرحلةٍ جديدةٍ من تكوينه، فإلى ما قبل هذه المرحلة (أي المراحل الأربعة الأولى) كان تكوينه من الناحية المادية، أما بعد ذلك فيدخل في خلقٍ جديدٍ أي غير ذلك الخلق المادي، وهو بثُّ الروح، وعند دخول الروح إلى هذا الجسم يدخل الجنين إلى الحياة الإنسانية ويبدأ بالحسِّ والحركةِ ويضعُ قدمه الأولى في عالمِ الحيوانات عمومًا والبشر خصوصًا. وقد روي عن الإمام الباقر (علیه السّلام) في تفسير هذه الآية: ﴿فَهُوَ نَفخُ الرّوحِ فيهِ﴾.(1)

ففي هذه المرحلة يتحول الجنين من شبه الحياة النباتية المتمثلة بالنمو فقط من دون إحساس، إلى عالم وحياة الحيوان من حيثُ الإحساس والحركة؛ لذلك ففي هذه المرحلة يُعدُّ الجنين إنسانًا كاملًا من حيث الأحكام الجزائية في الإسلام، فاذا اُعتُديَ عليه فله ديةُ إنسانٍ كاملٍ، شأنه شأن رجلٍ عمره خمسون سنة.

وبعد هذه المراحل يأتي وصف جميل جدًا ﴿فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ﴾، فهذا التكون للإنسان من الجانب المادي الذي أساسه الطين حيثُ ينمو نموًا نباتيًا، ثم تُبثُّ فيه الروح، فهذه المراحل لا يمكن لأحد أنْ يقوم بها سوى الله(عزّ و جلّ)؛ لأن لا يمكن لسواه (سبحانه و تعالی)أنْ يخلق من العدم شيئًا موجودًا، ومن الشيء القذر ذلك الإنسان العظيم.

وأما غيره(عزّ و جلّ) فليس خالقًا، إنما لا يقوى إلا على صنع ما توفرت مواده الأولية، ويغير من أشياءٍ موجودةٍ بالفعل.

ص: 217


1- تفسير القمي ج2 ص 91.

ص: 218

العالم الرابع: عالمُ الدنيا

نبحث في هذا العالم من خلال قوله(عزّ و جلّ): ﴿والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.(1)

وفيه يتحدد مصير الإنسان الدائمي؛ لأنه العالم الوحيد الذي يُفعِّل الإنسانُ اختياره بتمام إرادته، ففي عالمي الأصلاب والأرحام ليس للإنسان أنْ يختار والديه، على حين يمكنه في عالم الدنيا أنْ يصنع مصيره بيده؛ ولذا كان تكليفُ الإنسان بالأحكام الأصولية والفقهية والسلوكية في هذا العالم دون سواه من العوالم، فيحاسب الإنسان على ما اكتسبه في هذا العالم، ومصيره يحدده عمله الاختياري في هذه الدنيا؛ لذا روي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «لا تسبوا الدنيا، فنعمت مطية المؤمن، فعليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر، إنه إذا قال العبد: لعن الله الدنيا قالت الدنيا: لعن الله أعصانا لربه».(2)

فأخذ الشريف الرضي بهذا المعنى فنظمه بيتاً:

يقولون الزمان به فساد *** فهم فسدوا وما فسد الزمان.(3)

وفي حديثٍ آخر لأمير المؤمنين (علیه السّلام) وقد سمع رجلًا يذمُّ الدنيا من غير معرفة فقال (علیه السّلام): «أَيُّهَا الذَّامُّ لِلدُّنْيَا الْمُغْتَرُّ بِغُرُورِهَا، الْمَخْدُوعُ بِأَبَاطِيلِهَا أَتَغْتَرُّ بِالدُّنْيَا ثُمَّ تَذُمُّهَا، أَنْتَ الْمُتَجَرِّمُ عَلَيْهَا أَمْ هِيَ الْمُتَجَرِّمَةُ عَلَيْكَ، مَتَى اسْتَهْوَتْكَ أَمْ مَتَى غَرَّتْكَ،

ص: 219


1- سورة النحل: آية [78]
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج4 ص 178.
3- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج4 ص 178.

أَبِمَصَارِعِ آبَائِكَ مِنَ الْبِلَى، أَمْ بِمَضَاجِعِ أُمَّهَاتِكَ تَحْتَ الثَّرَى، كَمْ عَلَّلْتَ بِكَفَّيْكَ وكَمْ مَرَّضْتَ بِيَدَيْكَ، تَبْتَغِي لَهُمُ الشِّفَاءَ وتَسْتَوْصِفُ لَهُمُ الأَطِبَّاءَ، غَدَاةَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ دَوَاؤُكَ ولَا يُجْدِي عَلَيْهِمْ بُكَاؤُكَ، لَمْ يَنْفَعْ أَحَدَهُمْ إِشْفَاقُكَ ولَمْ تُسْعَفْ فِيه بِطَلِبَتِكَ، ولَمْ تَدْفَعْ عَنْه بِقُوَّتِكَ، وقَدْ مَثَّلَتْ لَكَ بِه الدُّنْيَا نَفْسَكَ وبِمَصْرَعِه مَصْرَعَكَ، إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا، ودَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا، ودَارُ غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا، ودَارُ مَوْعِظَةٍ لِمَنِ اتَّعَظَ بِهَا، مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ الله ومُصَلَّى مَلَائِكَةِ الله، ومَهْبِطُ وَحْيِ الله ومَتْجَرُ أَوْلِيَاءِ الله، اكْتَسَبُوا فِيهَا الرَّحْمَةَ ورَبِحُوا فِيهَا الْجَنَّةَ، فَمَنْ ذَا يَذُمُّهَا وقَدْ آذَنَتْ بِبَيْنِهَا ونَادَتْ بِفِرَاقِهَا، ونَعَتْ نَفْسَهَا وأَهْلَهَا فَمَثَّلَتْ لَهُمْ بِبَلَائِهَا الْبَلَاءَ، وشَوَّقَتْهُمْ بِسُرُورِهَا إِلَى السُّرُورِ، رَاحَتْ بِعَافِيَةٍ وابْتَكَرَتْ بِفَجِيعَةٍ، تَرْغِيباً وتَرْهِيباً وتَخْوِيفاً وتَحْذِيراً، فَذَمَّهَا رِجَالٌ غَدَاةَ النَّدَامَةِ، وحَمِدَهَا آخَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ذَكَّرَتْهُمُ الدُّنْيَا فَتَذَكَّرُوا وحَدَّثَتْهُمْ فَصَدَّقُوا، ووَعَظَتْهُمْ فَاتَّعَظُوا».(1)

وهناك العديد من اللفتات في الآية الكريمة نذكرها من خلال التالي:

أولاً: ﴿والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾.

وفيها عدة إشارات:

1/عليك أنْ تعلم أنّ الذي أخرجك إلى الدنيا لم يستأذنك في ذلك، فأنت بغير إرادةٍ منك دخلت إليها، وكما دخلت إليها بغير إرادتك، فهكذا ستخرج منها بغير إرادتك ﴿اللهُ يَتَوَفَّىٰ الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها﴾(2)،

فالإرادةُ منحصرةٌ بين الدخول والخروج فقط، وعلى الإنسان أنْ يتفطن ويستثمر هذه الفرصة أفضل استثمار.

2/إنَّ ساعة ولحظة الخروج إلى الدنيا هي بيدِ الله(عزّ و جلّ)، وحتى الأجهزة الحديثة كُلُّ ما تعطيه لا يعدو أن يكون مجرد تخميناتٍ وتقريباتٍ، فعلينا أنْ نلتفت إلى هذه القضية

ص: 220


1- نهج البلاغة ج4 ص 31و 32.
2- الزمر 42.

ونلجأ له في هذا المجال.

3/أكّد الله (سبحانه و تعالی)على أهمية لحظة الولادة ﴿مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ والخروج إلى الدنيا؛ إذ لولا تسهيله(عزّ و جلّ) فإنّه أمرٌ عسير، وهذا الأمر لا تدركه إلا المرأة، لذلك هذه اللحظات التي تلد فيها المرأة ولدها يترتب على أثرها حق في عنق الولد لا يوفيه لأمه مهما صنع.

ثانياً: ﴿مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾:

على الرغم من أنَّ الخروج من بطن الأمهات أمرٌ بديهي، إلا أنَّ القرآن الكريم يذكره، ومن المعلوم أنَّه لا يذكر إلا ما فيه حكمة، ولعل ذكره لذلك لأجل بيان أهمية دورِ الأمِّ والتأكيد على عظمةِ حرمتها بالنسبة للولد؛ لعظم مقدار تضحيتها قياسًا بتضحية الأب، وإنْ كان الأب سببَ وجوده أيضًا.

فالولد لا يأخذ من والده في تكوينه إلا النطفة، وحجمها بالنسبة الى البويضة صغيرٌ جدًا، ومن ثم تبدأ تلك البويضة المخصبة رحلتها على مدى تسعة أشهر تقريبًا، يتغذى الجنين خلالها من الأم، حيثُ تزوِّد الجنين بكلِّ ما يبني جسمه، وإنْ لم يكن لديها خزين، فإنّها تضحي ببعض ما يبني عظامها وجسمها ليكتمل نموه، بالإضافة إلى ما تقدّمه الأم للجنين فإنّها تتحمل أيضًا ما يطرحه في داخلها من سموم تكوينه وفضلاته.

ولأن البويضة لم تكن لتُخصّب لولا ذلك الجسم الغريب (النطفة)، وحيث إنّ جسم الأم -كأيِّ إنسان- مجهزٌ بجهازٍ مناعي يرفض أيَّ جسمٍ غريب؛ فإنّ الأم منذُ بدايةِ الحمل وحتى الوضع تعاني من أعراضٍ جانبية وتتوعك، ولكن الله(عزّ و جلّ) يُحافظ على هذا الجسم الغريب فيجعله في ﴿قَرَارٍ مَكِيْنٍ﴾ فتتحمل الأم كل تلك الصعاب وهي مستبشرة وفرحة.

فإذا ما اكتملت رحلة تكوينه وآن له أنْ ينتقل إلى عالم الدنيا، فإنّه يُعرِّض الأم إلى

ص: 221

ثاني أقوى ألم بعد الحرق حيًا، وهو ألم الولادة والمخاض.

وما إنْ تلتقط أنفاسها بعد ذلك الألم حتى تلج في سلسلةٍ من العناء والإجهاد، من حيث الإرضاع والسهر، ورعاية الأطفال، وتربيتهم.

ومن الجدير بالذكر: أنَّ هذه الظروف التي تمرُّ بها المرأة لم تكن لتنجح فيها لولا وجود دافعٍ قوي يحملُها على تحمل الروائح الكريهة، ومغادرة الفراش الدافئ وهي بأمس الحاجة إلى النوم لترضع وليدها بل وتناغيه وتلاعبه، وما شاكل ذلك، وما ذلك الدافع إلا غريزة الأمومة، وغزارة عاطفتها، وطغيان حنانها.

ولذا شاءت حكمة الله(عزّ و جلّ) أن تكون المرأة أكثر عاطفةً وأوفر حنانًا من الرجل، لتؤدي هذا الدور العظيم، الذي ما ذكره القرآن إلا للتأكيد على أهميته وعظمته، وللتذكير بقيمة الأم وجسامة تضحياتها، ولفت نظر الولد ليبرها حق برها، وزوجها ليراعيها كما تستحق.

ثالثاً: ﴿لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾:

هذه الكلمة فيها عدة إشارات:

1/يولد الإنسان وليس عنده أيّ علمٍ سوى بعض العلوم الفطرية التي تولد معه، مما غرزه الله (سبحانه و تعالی)فيه لتستمر حياته، مثل: حبه لأبويه وهدايته للطريقة السليمة للرضاعة وبكائه عند الجوع وما شابه هذا العلوم، وهي ما تُسمى ب-(الهداية الفطرية) التي يشترك بها مع سائر الحيوانات الأخرى، إلا أنّه سرعان ما يغادر هذه المرحلة ليلتحق بمرحلةٍ أعلى حيث يكون مستعداً لاكتساب مختلف العلوم والمهارات عن طريق أدوات المعرفة التي جُهِّزَ بها، والتي سيأتي الحديث عنها لاحقًا.

2/قد يسأل سائل: لماذا لم يخرجنا الله(عزّ و جلّ) من بطون أمهاتنا علماءَ، فإنه(عزّ و جلّ) على

ص: 222

كلِّ شيءٍ قدير؟

الجواب:

إنَّ في ذلك حكمة، وقد أشارت إلى هذه الحكمة بعض الروايات، فلو كان الطفل من البداية صاحب علمٍ وإدراكٍ، عندئذٍ سيتألم كثيرًا وسيشعر بالذلة والمهانة؛ لأنّه لا يستطيع أنْ يأكل لقمةً إلا إذا أطعمه غيره، ولا يستطيع أنْ يُنظف نفسه، بل حتى لا يستطيع أنْ يتحرك إلا بواسطةِ أحدٍ، فهو عاجزٌ تمامًا، كله كَلٌّ على غيره.

وإذا أردنا أنْ نقرب الصورة أكثر، فلنتصور أنّ انسانًا كبيرًا جدًا بالعمر بحيث يكون طريح الفراش وله إدراكٌ وعقلٌ كاملٌ، ويرى من حوله من يُطعمه ويُنظفه، فهذا الإنسان سيشعرُ بالألم، وقد يدعو الله(عزّ و جلّ) أنْ يعجِّل بوفاته؛ لأنّه يشعر بالذل والحاجة. وكذا لو كان ذلك العاجز في زهرة شبابه وقد أصابه مرضٌ ما أقعده، ولا يقوى على القيام بأموره لوحده فيخدمه غيره، فإذا أحسَّ بأنّ المقابل يخدمه مجبرًا على ذلك فإنّه قد يتمنى الموت.

وأما الطفل، فحيثُ إنّه ليس لديه هذا الإحساس، فهو يبتسم ويضحك، ولا يشعر بشيء من الألم أو الحزن، وهذه إحدى الحكم ولعلها ليست العلة الحقيقية، ولكن هذا ما استفدناه من بعض الروايات، فقد روي عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنّه قال للمفضل بن عمر:« فَإِنَّهُ لَو كانَ يولَدُ تامَّ العَقلِ مُستَقِلاّ بِنَفسِهِ لَذَهَبَ مَوضِعُ حَلاوَةِ تَربِيَةِ الأَولادِ، وما قَدَرَ أن يَكونَ لِلوالِدَينِ فِي الاِشتِغالِ بِالوَلَدِ مِنَ المَصلَحَةِ وما يوجِبُ التَّربِيَةَ لِلآباءِ عَلَى الأَبناءِ مِنَ المُكَلَّفاتِ بِالبِرِّ وَالعَطفِ عَلَيهِم عِندَ حاجَتِهِم إِلى ذلِكَ مِنهُم، ثُمَّ كانَ الأَولادُ لا يَألَفونَ آباءَهُم، ولا يَألَفُ الآباءُ أَبناءَهُم ؛ لاَِنَّ الأَولادَ كانوا يَستَغنونَ عَن تَربِيَةِ الآباءِ وحِياطَتِهِم فَيَتَفَرَّقونَ عَنهُم حينَ يولدونَ، فَلا يَعرِفُ الرَّجُلُ أَباهُ وأُمَّهُ ولا يَمتَنِعُ مِن نِكاحِ أُمِّهِ وأُختِهِ وذَواتِ المَحارِمِ مِنهُ إِذا كانَ لا يَعرِفُهُنَّ، وأَقَلُّ ما في ذلِكَ مِنَ

ص: 223

القَباحَةِ، بَل هُوَ أَشنَعُ وأَعظَمُ وأَفظَعُ وأَقبَحُ وأَبشَعُ لَو خَرَجَ المَولودُ مِن بَطنِ أُمِّهِ وهُوَ يَعقِلُ أن يَرى مِنها ما لا يَحِلُّ لَهُ ولا يَحسُنُ بِهِ أن يَراهُ. أفَلا تَرى كَيفَ أُقيمَ كُلُّ شَيء مِنَ الخِلقَةِ عَلى غايَةِ الصَّوابِ وخَلا مِنَ الخَطَاَ دَقيقُهُ وجَليلُهُ﴾.(1)

وبالنتيجة، هناك حكمٌ كثيرةٌ في خلق الإنسان من دون علوم.

3/كون الإنسان مولودًا بلا علم فعلي يعني أنَّ هناك مسؤوليةً عظيمةً على الأبوين في أنْ يُعلِّماه ما ينفعه، فمُهمةُ التربية تلقى أولًا على الأبوين، لذلك فقد روي عن أبي عبد الله (علیه السّلام) أنَّه قال: «ما من مولود يُولَد إلَّا علىٰ الفطرة، فأبواه اللذان يُهوِّدانه ويُنصِّرانه ويُمجِّسانه...»(2).

رابعاً: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ والأَفْئِدَةَ﴾.

وهذه تمثل الآلات العلمية التي زود الله(عزّ و جلّ) بها الإنسان، وهي على نوعين:

الأول: آلات العلوم الظاهرية والتجريبية:

وهي السمع والبصر، فبهما يكتسبُ الإنسان العلوم الظاهرية والتجريبية. ولقد وضعت الشريعة المقدسة حقوقًا للسمع والبصر على الإنسان أن يؤديها إليهما، وليس هذا محل ذكرها.

الثاني: آلة العلم الباطني:

وهي القلب أو العقل أو الإدراك أو الفؤاد.

وهي تلك القوة التي بها تميّز الإنسان عن الحيوان، ففي الحديث عن الإمام الباقر (علیه السّلام): قَالَ «لَمَّا خَلَقَ الله الْعَقْلَ قَالَ لَه: أَقْبِلْ. فَأَقْبَلَ. ثُمَّ قَالَ لَه: أَدْبِرْ. فَأَدْبَرَ. فَقَالَ:

ص: 224


1- التوحيد للمفضل بن عمر الجعفي ص 15.
2- من لا يحضره الفقيه للصدوق 2: 49/ ح 1668.

وعِزَّتِي وجَلَالِي، مَا خَلَقْتُ خَلْقاً أَحْسَنَ مِنْكَ، إِيَّاكَ آمُرُ وإِيَّاكَ أَنْهَى، وإِيَّاكَ أُثِيبُ وإِيَّاكَ أُعَاقِبُ».(1)

وللعقل في حياة الإنسان دورٌ كبيرٌ جدًا:

أ/بالعقل صارت عنده قدرة التفكر التي يصل من خلالها إلى العلم بالمجهولات.

ب/قدرة الابتكار التي يحلُّ بها المشاكل غير المتوقعة أو حتى المتوقعة كالزلازل، فلقد تمكن من صنع مصداتٍ لها، وللجفاف صنع السدود والبحيرات لحل هذه المشاكل وهكذا.

ج/الذاكرةُ لدى الإنسان والتي لولاها لما استطاع أنْ يعيش في هذه الحياة.

د/ قدرة التحليل والاستنتاج، فهو يحلل القضايا ويستنتج من التجارب.

ه-/قدرة التخيُّل، حيثُ يتخيّل صورًا جديدةً ويوجدها في الخارج كما هو عمل المهندس، وعمل أكثر المخترعين الذين ما كانوا ليخترعوا طائرةً ولا هاتفًا ولا مركبةً فضائية ولا... لولا قدرة عقولهم على التخيُّل.

و/الإرادة والتصميم التي لدى الإنسان والتي أساسها والدافع إليها العقل.

خامساً: ﴿لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾:

كثيرًا ما يُذكِّر القرآن الكريم الإنسان بالشكر بعد ذكره لنعم الله(عزّ و جلّ) الجزيلة ومننه التي لا تُحصى؛ ليؤدي حقها من الشكر.

وهل هناك نعمٌ أجلى مما ذكرتها الآية المباركة بعد نعمة الإيمان؟!

فلا بُدَّ للإنسان أن يسعى إلى شكره (سبحانه و تعالی)قلبًا وقولًا وفعلًا؛ ليزيده الله(عزّ و جلّ) نعمًا،

ص: 225


1- الكافي للكليني ج1 ص 26 كتاب العقل والجهل ح 26.

قال(عزّ و جلّ): ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾(1)

ومن الواضح جدًا أنَّ المؤمن لا يستطيع أنْ يؤدي ما عليه من حقوق لله(عزّ و جلّ)؛ لأنها تفوق حدّ الإحصاء قال(عزّ و جلّ): ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها﴾.(2)

وخير من بيّن هذا المعنى هو الإمام زين العابدين (علیه السّلام) إذ يقول: «أَفَبِلِسانِي هذا الكالِّ أَشْكُرُكَ أَمْ بِغايَةِ جُهْدِي فِي عَمَلِي أُرْضِيكَ وَما قَدْرُ لِسانِي يا رَبِّ فِي جَنْبِ شُكْرِكَ وَما قَدْرُ عَمَلِي فِي جَنْبِ نِعَمِكَ وَإِحْسانِكَ».(3)

وفي مناجاةٍ له (علیه السّلام) يقول هذه الجملة العجيبة: «فَكَيْفَ لِي بِتَحْصِيلِ الشُّكْرِ وَشُكْرِي إِيَّاكَ يَفْتَقِرُ إِلىٰ شُكْرٍ؟! فَكُلَّما قُلْتُ: لَكَ الحَمْدُ، وَجَبَ عَلَيَّ لِذلِكَ أَنْ أَقُولَ: لَكَ الحَمْدُ...»(4).

ما أروعه من تعبيرٍ وما أصدقه!

إنَّ نعمة الحمد تحتاجُ إلى حمدٍ وهكذا تتولد من هذا الحمد نعمةٌ أخرى تحتاج إلى حمد، وهكذا دواليك...

والخلاصة:

أنّ عالم الدنيا هي مرحلةٌ انتقالية من عالمِ الأرحام إلى عالم البرزخ والموت، وفيه تتوفر الفرصة الوحيدة للإنسان في أنْ يحدد مصيره بإرادته واختياره.

ص: 226


1- سورة إبراهيم: آية [7].
2- إبراهيم 34.
3- مصباح المتهجد للشيخ الطوسي ص 591 من دعاء أبي حمزة الثمالي.
4- الصحيفة السجّادية (أبطحي): 410.

العالم الخامس: عالم البرزخ

المحور الأول: الاحتضار.
النقطة الأولى: سبب التسمية.
السبب الأول:

ويسمى أيضًا ب(عالم الموت)، وهو العالم ما بين عالم الدنيا وعالم الآخرة (المعاد) وفيه نتعرض إلى ثلاثة محاور، وهي:

المحور الأول: الاحتضار.

وهو أول المنازل التي يمرُّ بها الإنسان عند الموت، وتعبر عنه الروايات بأنه آخر يومٍ من أيام الدنيا وأول يومٍ من أيام الآخرة، وتشير إليه بعض الآيات القرآنية منها قوله(عزّ و جلّ): ﴿وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ* وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ﴾(1)،

ولنتعرف على هذا المنزل والعالم نتعرض إلى عدة نقاط:

النقطة الأولى: سبب التسمية.

الاحتضار هو لحظة نزع الروح، وأما سبب تسميته بهذا الاسم فقد ذكروا عدة آراء ليست متنافية، فهي ليست على نحو مانعة الجمع وإنّما يمكن قبولها كلها، وهي التالي:

السبب الول :

لحضور الملائكة من جانبٍ والشياطين من جانبٍ آخر عند الإنسان المُحتضر، فالملائكةُ تريد أن تثبت الإنسان على الإيمان لينتقل إلى عالم البرزخ وآخرُ كلمةٍ ينطقها هي كلمة (لا إله إلا الله)؛ فمن كان آخر كلامه (لا إله إلا الله) دخل الجنة، ولذا روي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنه قال: «لقِّنوا موتاكم (لا إله إلا الله) فإن من كان آخر كلامه (لا إله

ص: 227


1- سورة المؤمنون: آية 97 و 98.

إلا الله) دخل الجنة».(1)

وأما الشياطين فهي تحاول قدر إمكانها أنْ يموت الإنسان على غير التوحيد فتُغويه ليخرج من الدنيا كافرًا؛ فقد روي عَنْ أَبِي خَدِيجَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ:« مَا مِنْ أَحَدٍ يَحْضُرُه الْمَوْتُ إِلَّا وَكَّلَ بِه إِبْلِيسُ مِنْ شَيْطَانِه، أَنْ يَأْمُرَه بِالْكُفْرِ ويُشَكِّكَه فِي دِينِه، حَتَّى تَخْرُجَ نَفْسُه، فَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْه، فَإِذَا حَضَرْتُمْ مَوْتَاكُمْ، فَلَقِّنُوهُمْ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُه (صلّی الله علیه و آله)، حَتَّى يَمُوتَ».(2)

لذا ورد في أدبياتنا أنَّ هناك بعض الأدعية والأعمال تنفع في التثبت على الدين لحظة نزع الروح مثل دعاء (العديلة).

والعديلة: هي عدول الإنسان عن الحق إلى الباطل لحظةَ نزعِ الروح، وسُميّ الدعاء الذي يُقرأ لدفع ذلك العدول عن الإنسان بهذا الاسم. وفيه يستعرض الداعي عقائده الحقّة، ويؤمنها عند الله(عزّ و جلّ) ليُرجعها(عزّ و جلّ) إليه ساعة نزع الروح. وكذلك ورد في الروايات أنَّ تسبيح الزهراء(علیها السّلام) من الأمور التي تنفع في تثبيت الدين ساعة الاحتضار.

«وقال في المستدرك: قال فخر المحققين في آخر رسالته المسماة بإرشاد المسترشدين في أصول الدين: ولنختم رسالتنا هذه بمسألة مباركة، وهي أن العديلة عند الموت تقع، فإنه يجئ الشيطان ويعدل الإنسان عند الموت ليخرجه عن الإيمان فيحصل له عقاب النيران، وفي الدعاء قد تعوذ الأئمة (علیهم السّلام) منها، فإذا أراد الإنسان أن يسلم من هذه الأشياء فليستحضر أدلة الإيمان والأصول الخمس بالأدلة القطعية، ويصفي خاطره ويقول: اللهم يا أرحم الراحمين، إني قد أودعتك يقيني هذا وثبات ديني، وأنت خير مستودع، وقد أمرتنا بحفظ الودائع، فردّه علي وقت حضور موتي، ثم يخزي الشيطان

ص: 228


1- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق ص 195.
2- الكافي للكليني ج3 ص 123 بَابُ تَلْقِينِ الْمَيِّتِ ح6.

ويتعوذ منه بالرحمن، ويودع ذلك الله تعالى، ويسأله أن يرده عليه وقت حضور موته وعند ذلك يسلم من العديلة عند الموت قطعاً».(1)

وعن أبي عاصم يوسف عن محمد بن سليمان الديلمي قال: سألت أبا عبد الله (علیه السّلام) فقلت له: جُعِلتُ فِداكَ، إنَّ شيعَتَكَ تَقولُ: إنَّ الإِيمانَ مُستَقَرٌّ ومُستَودَعٌ، فَعَلِّمني شَيئًا إذا أنا قُلتُهُ استَكمَلتُ الإِيمانَ.

فقال (علیه السّلام): «قُل في دُبُرِ كُلِّ صَلاةِ فَريضَة: رَضيتُ بِاللهِ رَبًّا، وبِمُحَمَّد نَبيًّا، وبِالإِسلامِ دينًا، وبِالقُرآنِ كِتابًا، وبِالكَعبَةِ قِبلَةً، وبِعَليٍّ وَليًّا وإمامًا، وبَالحَسَنِ والحُسَينِ والأَئِمَّةِ صَلَواتُ اللهِ عَلَيهِم، اللّهُمَّ إنّي رَضيتُ بِهِم أئِمَّةً، فَارضِني لَهُم، إنَّكَ عَلى كُلِّ شَيء قَديرٌ».(2)

ومن الأمور النافعة لدفع العديلة(3)

هي الصلاة في وقتها، إذ روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ الله (صلّی الله علیه و آله) عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِه وهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِه فَقَالَ: يَا مَلَكَ الْمَوْتِ، ارْفُقْ بِصَاحِبِي، فَإِنَّه مُؤْمِنٌ. فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا مُحَمَّدُ، فَإِنِّي بِكُلِّ مُؤْمِنٍ رَفِيقٌ، واعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ، أَنِّي أَقْبِضُ رُوحَ ابْنِ آدَمَ فَيَجْزَعُ أَهْلُه، فَأَقُومُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ دَارِهِمْ فَأَقُولُ: مَا هَذَا الْجَزَعُ فَوَالله مَا تَعَجَّلْنَاه قَبْلَ أَجَلِه، ومَا كَانَ لَنَا فِي قَبْضِه مِنْ ذَنْبٍ، فَإِنْ تَحْتَسِبُوا وتَصْبِرُوا تُؤْجَرُوا، وإِنْ تَجْزَعُوا تَأْثَمُوا وتُوزَرُوا، واعْلَمُوا أَنَّ لَنَا فِيكُمْ عَوْدَةً، ثُمَّ عَوْدَةً، فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ، إِنَّه لَيْسَ فِي شَرْقِهَا ولَا فِي غَرْبِهَا أَهْلُ بَيْتِ مَدَرٍ ولَا وَبَرٍ إِلَّا وأَنَا أَتَصَفَّحُهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، ولأَنَا أَعْلَمُ بِصَغِيرِهِمْ وكَبِيرِهِمْ مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، ولَوْ أَرَدْتُ قَبْضَ رُوحِ بَعُوضَةٍ مَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا حَتَّى يَأْمُرَنِي رَبِّي بِهَا.

ص: 229


1- مستدرك سفينة البحار للشيخ علي النمازي الشاهرودي ج7 ص 122
2- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج2 ص 109 ح 412 / 180.
3- ذكر الشيخ عباس القمي(قدّس سرّه) في كتابه (منازل الآخرة: العقبة الثانية: العديلة عند الموت) العديد من الأمور النافعة في هذا المجال.

فَقَالَ رَسُولُ الله (صلّی الله علیه و آله): إِنَّمَا يَتَصَفَّحُهُمْ فِي مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُوَاظِبُ عَلَيْهَا عِنْدَ مَوَاقِيتِهَا، لَقَّنَه شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله (صلّی الله علیه و آله) ونَحَّى عَنْه مَلَكُ الْمَوْتِ إِبْلِيسَ».(1)

السبب الثاني:

لحضور النبي الأكرم (صلّی الله علیه و آله) وأهل بيته الطاهرين (علیهم السّلام) ومعهم ملائكة الله العظام ومنهم جبرائيل (علیه السّلام) عند المحتضر، نسأل الله(عزّ و جلّ) حضورهم في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة إن شاء الله(عزّ و جلّ)، وعندئذٍ سيأتمر الملائكة بأوامر النبي الأكرم (صلّی الله علیه و آله) التي سيصدرها لهم حسب عقيدة المحتضر.

روي عن أبي عَبْدِ الله (علیه السّلام) أنه قال:

«مِنْكُمْ والله يُقْبَلُ، ولَكُمْ والله يُغْفَرُ، إِنَّه لَيْسَ بَيْنَ أَحَدِكُمْ وبَيْنَ أَنْ يَغْتَبِطَ ويَرَى السُّرُورَ وقُرَّةَ الْعَيْنِ إِلَّا أَنْ تَبْلُغَ نَفْسُه هَاهُنَا -وأَوْمَأَ بِيَدِه إِلَى حَلْقِه- ثُمَّ قَالَ (علیه السّلام):

إِنَّه إِذَا كَانَ ذَلِكَ واحْتُضِرَ حَضَرَه رَسُولُ الله (صلّی الله علیه و آله) وعَلِيٌّ (علیه السّلام) وجَبْرَئِيلُ ومَلَكُ الْمَوْتِ (علیه السّلام) فَيَدْنُو مِنْه عَلِيٌّ (علیه السّلام) فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ هَذَا كَانَ يُحِبُّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، فَأَحِبَّه، ويَقُولُ رَسُولُ الله (صلّی الله علیه و آله): يَا جَبْرَئِيلُ، إِنَّ هَذَا كَانَ يُحِبُّ الله ورَسُولَه وأَهْلَ بَيْتِ رَسُولِه فَأَحِبَّه، ويَقُولُ جَبْرَئِيلُ لِمَلَكِ الْمَوْتِ3: إِنَّ هَذَا كَانَ يُحِبُّ الله ورَسُولَه وأَهْلَ بَيْتِ رَسُولِه، فَأَحِبَّه وارْفُقْ بِه، فَيَدْنُو مِنْه مَلَكُ الْمَوْتِ فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ الله، أَخَذْتَ فَكَاكَ رَقَبَتِكَ أَخَذْتَ أَمَانَ بَرَاءَتِكَ، تَمَسَّكْتَ بِالْعِصْمَةِ الْكُبْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؟

قَالَ: فَيُوَفِّقُه الله(عزّ و جلّ) فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: ومَا ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: وَلَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیه السّلام). فَيَقُولُ: صَدَقْتَ، أَمَّا الَّذِي كُنْتَ تَحْذَرُه، فَقَدْ آمَنَكَ الله مِنْه، وأَمَّا الَّذِي كُنْتَ

ص: 230


1- الكافي للكليني ج3 ص 136 بَابُ إِخْرَاجِ رُوحِ الْمُؤْمِنِ والْكَافِرِ ج2.

تَرْجُوه فَقَدْ أَدْرَكْتَه، أَبْشِرْ بِالسَّلَفِ الصَّالِحِ، مُرَافَقَةِ رَسُولِ الله (صلّی الله علیه و آله) وعَلِيٍّ وفَاطِمَةَ3، ثُمَّ يَسُلُّ نَفْسَه سَلاًّ رَفِيقاً، ثُمَّ يَنْزِلُ بِكَفَنِه مِنَ الْجَنَّةِ وحَنُوطِه مِنَ الْجَنَّةِ بِمِسْكٍ أَذْفَرَ، فَيُكَفَّنُ بِذَلِكَ الْكَفَنِ ويُحَنَّطُ بِذَلِكَ الْحَنُوطِ، ثُمَّ يُكْسَى حُلَّةً صَفْرَاءَ مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِه فُتِحَ لَه بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، يَدْخُلُ عَلَيْه مِنْ رَوْحِهَا ورَيْحَانِهَا، ثُمَّ يُفْسَحُ لَه عَنْ أَمَامِه مَسِيرَةَ شَهْرٍ وعَنْ يَمِينِه وعَنْ يَسَارِه، ثُمَّ يُقَالُ لَه: نَمْ نَوْمَةَ الْعَرُوسِ عَلَى فِرَاشِهَا أَبْشِرْ بِرَوْحٍ ورَيْحَانٍ وجَنَّةِ نَعِيمٍ ورَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، ثُمَّ يَزُورُ آلَ مُحَمَّدٍ فِي جِنَانِ رَضْوَى، فَيَأْكُلُ مَعَهُمْ مِنْ طَعَامِهِمْ، ويَشْرَبُ مِنْ شَرَابِهِمْ ويَتَحَدَّثُ مَعَهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ، حَتَّى يَقُومَ قَائِمُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، فَإِذَا قَامَ قَائِمُنَا بَعَثَهُمُ الله فَأَقْبَلُوا مَعَه يُلَبُّونَ زُمَراً زُمَراً، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَرْتَابُ الْمُبْطِلُونَ ويَضْمَحِلُّ الْمُحِلُّونَ، وقَلِيلٌ مَا يَكُونُونَ، هَلَكَتِ الْمَحَاضِيرُ، ونَجَا الْمُقَرَّبُونَ.

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ رَسُولُ الله (صلّی الله علیه و آله) لِعَلِيٍّ (علیه السّلام): أَنْتَ أَخِي ومِيعَادُ مَا بَيْنِي وبَيْنَكَ وَادِي السَّلَامِ.

قَالَ (علیه السّلام): وإِذَا احْتُضِرَ الْكَافِرُ، حَضَرَه رَسُولُ الله (صلّی الله علیه و آله) وعَلِيٌّ (علیه السّلام) وجَبْرَئِيلُ ومَلَكُ الْمَوْتِ (علیه السّلام) فَيَدْنُو مِنْه عَلِيٌّ (علیه السّلام) فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ هَذَا كَانَ يُبْغِضُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فَأَبْغِضْه. ويَقُولُ رَسُولُ الله (صلّی الله علیه و آله): يَا جَبْرَئِيلُ، إِنَّ هَذَا كَانَ يُبْغِضُ الله ورَسُولَه وأَهْلَ بَيْتِ رَسُولِه فَأَبْغِضْه. فَيَقُولُ جَبْرَئِيلُ: يَا مَلَكَ الْمَوْتِ، إِنَّ هَذَا كَانَ يُبْغِضُ الله ورَسُولَه وأَهْلَ بَيْتِ رَسُولِه فَأَبْغِضْه واعْنُفْ عَلَيْه.

فَيَدْنُو مِنْه مَلَكُ الْمَوْتِ فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ الله، أَخَذْتَ فَكَاكَ رِهَانِكَ أَخَذْتَ أَمَانَ بَرَاءَتِكَ تَمَسَّكْتَ بِالْعِصْمَةِ الْكُبْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: لَا. فَيَقُولُ: أَبْشِرْ يَا عَدُوَّ الله بِسَخَطِ الله(عزّ و جلّ) وعَذَابِه والنَّارِ، أَمَّا الَّذِي كُنْتَ تَحْذَرُه فَقَدْ نَزَلَ بِكَ، ثُمَّ يَسُلُّ نَفْسَه سَلاًّ عَنِيفاً، ثُمَّ يُوَكِّلُ بِرُوحِه ثَلَاثَمِائَةِ شَيْطَانٍ كُلُّهُمْ يَبْزُقُ فِي وَجْهِه، ويَتَأَذَّى بِرُوحِه، فَإِذَا وُضِعَ

ص: 231

فِي قَبْرِه فُتِحَ لَه بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ فَيَدْخُلُ عَلَيْه مِنْ قَيْحِهَا ولَهَبِهَا».(1)

السبب الثالث:

لحضور وتمثُّل أهم الأشياء عند الإنسان يراها عندما ينكشف عنه الغطاء، وهي ثلاثة أشياء كما جاء في الروايات الشريفة (ماله وولده وعمله).

عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السّلام): «إِنَّ ابْنَ آدَمَ إِذَا كَانَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا وأَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الآخِرَةِ، مُثِّلَ لَه مَالُه ووَلَدُه وعَمَلُه، فَيَلْتَفِتُ إِلَى مَالِه فَيَقُولُ: والله إِنِّي كُنْتُ عَلَيْكَ حَرِيصاً شَحِيحاً، فَمَا لِي عِنْدَكَ؟ فَيَقُولُ: خُذْ مِنِّي كَفَنَكَ.

قَالَ: فَيَلْتَفِتُ إِلَى وَلَدِه فَيَقُولُ: والله، إِنِّي كُنْتُ لَكُمْ مُحِبّاً، وإِنِّي كُنْتُ عَلَيْكُمْ مُحَامِياً، فَمَا ذَا لِي عِنْدَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نُؤَدِّيكَ إِلَى حُفْرَتِكَ، نُوَارِيكَ فِيهَا.

قَالَ: فَيَلْتَفِتُ إِلَى عَمَلِه فَيَقُولُ: والله، إِنِّي كُنْتُ فِيكَ لَزَاهِداً، وإِنْ كُنْتَ عَلَيَّ لَثَقِيلاً، فَمَا ذَا عِنْدَكَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا قَرِينُكَ فِي قَبْرِكَ، ويَوْمِ نَشْرِكَ، حَتَّى أُعْرَضَ أَنَا وأَنْتَ عَلَى رَبِّكَ.

قَالَ (علیه السّلام): فَإِنْ كَانَ لله وَلِيّاً أَتَاه أَطْيَبَ النَّاسِ رِيحاً، وأَحْسَنَهُمْ مَنْظَراً، وأَحْسَنَهُمْ رِيَاشاً فَقَالَ: أَبْشِرْ بِرَوْحٍ ورَيْحَانٍ وجَنَّةِ نَعِيمٍ، ومَقْدَمُكَ خَيْرُ مَقْدَمٍ. فَيَقُولُ لَه: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، ارْتَحِلْ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الْجَنَّةِ. وإِنَّه لَيَعْرِفُ غَاسِلَه، ويُنَاشِدُ حَامِلَه أَنْ يُعَجِّلَه.

فَإِذَا أُدْخِلَ قَبْرَه أَتَاه مَلَكَا الْقَبْرِ يَجُرَّانِ أَشْعَارَهُمَا ويَخُدَّانِ الأَرْضَ بِأَقْدَامِهِمَا، أَصْوَاتُهُمَا كَالرَّعْدِ الْقَاصِفِ، وأَبْصَارُهُمَا كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ، فَيَقُولَانِ لَه: مَنْ رَبُّكَ ومَا دِينُكَ ومَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: الله رَبِّي ودِينِيَ الإِسْلَامُ ونَبِيِّي مُحَمَّدٌ (صلّی الله علیه و آله). فَيَقُولَانِ لَه: ثَبَّتَكَ الله فِيمَا تُحِبُّ وتَرْضَى. وهُوَ قَوْلُ الله(عزّ و جلّ): ﴿يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وفِي

ص: 232


1- الكافي للكليني ج3 ص 132 بَابُ مَا يُعَايِنُ الْمُؤْمِنُ والْكَافِرُ ح4.

الآخِرَةِ﴾.(1)

ثُمَّ يَفْسَحَانِ لَه فِي قَبْرِه مَدَّ بَصَرِه، ثُمَّ يَفْتَحَانِ لَه بَاباً إِلَى الْجَنَّةِ، ثُمَّ يَقُولَانِ لَه: نَمْ قَرِيرَ الْعَيْنِ نَوْمَ الشَّابِّ النَّاعِمِ، فَإِنَّ الله(عزّ و جلّ) يَقُولُ: ﴿أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وأَحْسَنُ مَقِيلاً﴾.(2)

قَالَ (علیه السّلام): وإِنْ كَانَ لِرَبِّه عَدُوّاً، فَإِنَّه يَأْتِيه أَقْبَحَ مَنْ خَلَقَ الله زِيّاً ورُؤْيَا، وأَنْتَنُه رِيحاً، فَيَقُولُ لَه: أَبْشِرْ بِنُزُلٍ مِنْ حَمِيمٍ وتَصْلِيَةِ جَحِيمٍ، وإِنَّه لَيَعْرِفُ غَاسِلَه ويُنَاشِدُ حَمَلَتَه أَنْ يَحْبِسُوه، فَإِذَا أُدْخِلَ الْقَبْرَ أَتَاه مُمْتَحِنَا الْقَبْرِ، فَأَلْقَيَا عَنْه أَكْفَانَه، ثُمَّ يَقُولَانِ لَه: مَنْ رَبُّكَ ومَا دِينُكَ ومَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي. فَيَقُولَانِ: لَا دَرَيْتَ ولَا هَدَيْتَ، فَيَضْرِبَانِ يَافُوخَه بِمِرْزَبَةٍ مَعَهُمَا ضَرْبَةً مَا خَلَقَ الله(عزّ و جلّ) مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا وتَذْعَرُ لَهَا، مَا خَلَا الثَّقَلَيْنِ، ثُمَّ يَفْتَحَانِ لَه بَاباً إِلَى النَّارِ، ثُمَّ يَقُولَانِ لَه: نَمْ بِشَرِّ حَالٍ فِيه مِنَ الضَّيْقِ مِثْلُ مَا فِيه الْقَنَا مِنَ الزُّجِّ، حَتَّى إِنَّ دِمَاغَه لَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ ظُفُرِه ولَحْمِه، ويُسَلِّطُ الله عَلَيْه حَيَّاتِ الأَرْضِ وعَقَارِبَهَا وهَوَامَّهَا، فَتَنْهَشُه حَتَّى يَبْعَثَه الله مِنْ قَبْرِه، وإِنَّه لَيَتَمَنَّى قِيَامَ السَّاعَةِ فِيمَا هُوَ فِيه مِنَ الشَّرِّ».(3)

السبب الرابع:

لحضور المؤمنين وأحباب المحتضر عنده حين يموت، وفي ذلك ترويحٌ عن المحتضر وإنّ فيه إشعارًا لمحبةِ قلوب من يحضرون عنده، وهناك استحبابٌ في هذا المجال كما ورد في بعض الروايات.

فعَنْ عَبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ قَالَ: «سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (علیه السّلام) يَقُولُ: يَنْبَغِي لِلْمَرِيضِ مِنْكُمْ أَنْ يُؤْذِنَ إِخْوَانَه بِمَرَضِه فَيَعُودُونَه، فَيُؤْجَرُ فِيهِمْ ويُؤْجَرُونَ فِيه. قَالَ: فَقِيلَ لَه: نَعَمْ، هُمْ

ص: 233


1- إبراهيم: 26
2- الفرقان: 26
3- الكافي للكليني ج3 ص 231 – 233 بَابُ أَنَّ الْمَيِّتَ يُمَثَّلُ لَه مَالُه ووَلَدُه وعَمَلُه قَبْلَ مَوْتِه ح1.

يُؤْجَرُونَ بِمَمْشَاهُمْ إِلَيْه، فَكَيْفَ يُؤْجَرُ هُوَ فِيهِمْ؟ قَالَ: فَقَالَ (علیه السّلام): بِاكْتِسَابِه لَهُمُ الْحَسَنَاتِ فَيُؤْجَرُ فِيهِمْ، فَيُكْتَبُ لَه بِذَلِكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، ويُرْفَعُ لَه عَشْرُ دَرَجَاتٍ، ويُمْحَى بِهَا عَنْه عَشْرُ سَيِّئَاتٍ».(1)

النقطة الثانية: الأمور التي يفعلهاالمحتضر؟

الشخص الذي علم من نفسه أنّ الموت قرب منه، أو وصل إلى مرحلة الاحتضار، أو كان مريضاً مطلقاً، فيمكن القول بأنه يلزمه –على نحو الوجوب أو الاستحباب- التالي:

أولاً: التوبة.

وإنْ كانت هي واجبةً مطلقًا، تجب على الإنسان كلما صدر منه ذنبٌ، لكنها واجبةٌ مؤكدًا أكثر على الإنسان المحتضر، فعليه أنْ يُقلع عن الذنوب، ويتوب إلى الله(عزّ و جلّ).

ثانياً: أداء حقوق الناس الواجبة.

نحو ردِّ الودائع والأمانات مع الإمكان، فإنْ لم يتمكن، أوصى بها.

ثالثاً: الوصية بالأمور العبادية.

من صومٍ وصلاةٍ وحجٍ، فيُستحب أنْ يوصي أولاده في المستحبات بل في الواجبات كما لو كان الحجُّ مستقرًا في ذمته ولم يؤدِه فيجب عليه أنْ يعطي مالًا لذلك لمن يستأمنه.

الرابع: يُستحب للمريض أنْ يحمد الله(عزّ و جلّ) ويشكره في حال المرض كحال الصحة.

الخامس: يستحب له كتمان المرض وترك الشكاية.

عَنْ بَشِيرٍ الدَّهَّانِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: «قَالَ الله(عزّ و جلّ): أَيُّمَا عَبْدٍ ابْتَلَيْتُه بِبَلِيَّةٍ، فَكَتَمَ

ص: 234


1- الكافي للكليني ج3 ص117 بَابُ الْمَرِيضِ يُؤْذِنُ بِه النَّاسَ ح1.

ذَلِكَ مِنْ عُوَّادِه ثَلَاثاً، أَبْدَلْتُه لَحْماً خَيْراً مِنْ لَحْمِه، ودَماً خَيْراً مِنْ دَمِه،وبَشَراً خَيْراً مِنْ بَشَرِه، فَإِنْ أَبْقَيْتُه أَبْقَيْتُه ولَا ذَنْبَ لَه، وإِنْ مَاتَ مَاتَ إِلَى رَحْمَتِي».(1).

النقطة الثالثة: الأمور التي يفعلها من يحضر عند المحتضر.

1/توجيه المحتضر نحو القبلة، بأن يُجعل باطن قدميه نحو القبلة بحيث لو جلس المحتضر لصار وجهه قبال القبلة، وهو واجب كفائي.

2/يُستحب نقل المحتضر إلى مُصلاه، أي إلى المكان الذي كان يُكثر الصلاة فيه.

3/يُستحب تلقينه الشهادتين والإقرار بالأئمة (علیهم السّلام)، فقد ورد عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنّه قال: إذا حضرت الميت الوفاة فلقنه شهادة أنْ لا اله إلا الله وأنّ محمدًا عبده ورسوله.

4/يُستحب تلقينه كلمات الفرج، فقد ورد في الحديث أيضًا عن الإمام الصادق (علیه السّلام) ينقله عن أمير المؤمنين (علیه السّلام): «لا إله إلا الله العلي العظيم سبحان الله ربِّ السماوات السبع...».

5/يُستحب أنْ يُجعل آخر تلقينه كلمة لا إله إلا الله لما تقدم عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنه قال: لقِّنوا موتاكم (لا إله إلا الله) فإن من كان آخر كلامه (لا إله إلا الله) دخل الجنة.(2)

6/يُستحب قراءة القرآن عند المحتضر لدفع الشياطين المضللين والمشككين، ولأجل البركة.

7/يُستحب أنْ يُسرج عند الميت إذا مات ليلًا ولا يوضع في ظلام.

(علیه السّلام)/يُستحب التعجيل في تجهيزه فإنّه من إكرام الميت، وإنَّ تأخيره ربَّما يُسبِّب نتن

ص: 235


1- الكافي للشيخ الكليني. ج 3، ص 115 ح3.
2- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق ص 195.

جسده، وبالتالي صدور الروائح الكريهة منه، وبالتالي قد يتقزَّز من يحضر جنازته، وربَّما يكون في هذا إهانة للميِّت، واحترامه واجب كما هو معلوم، وقد دلَّت علىٰ ذلك العديد من الروايات الشريفة، ومنها التالي:

عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنَّه قال: «يا معشر الناس لا ألفينَّ رجلاً مات له ميِّت فانتظر به الصبح، ولا رجلاً مات له ميِّت نهاراً فانتظر به الليل، لا تنتظروا بموتاكم طلوع الشمس ولا غروبها، عجِّلوا بهم إلىٰ مضاجعهم يرحمكم الله»، فقال الناس: وأنت يا رسول الله يرحمك الله(1).

وعنه (صلّی الله علیه و آله): «إذا مات الميِّت أوَّل النهار فلا يقيل(2)

إلَّا في قبره»(3).

وعنه (صلّی الله علیه و آله): «كرامة الميِّت تعجيله»(4).

9/يُستحب إعلام المؤمنين بموت المؤمن، فعَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: «يَنْبَغِي لأَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ مِنْكُمْ أَنْ يُؤْذِنُوا إِخْوَانَ الْمَيِّتِ بِمَوْتِه فَيَشْهَدُونَ جَنَازَتَه ويُصَلُّونَ عَلَيْه ويَسْتَغْفِرُونَ لَه، فَيُكْتَبُ لَهُمُ الأَجْرُ، ويُكْتَبُ لِلْمَيِّتِ الِاسْتِغْفَارُ، ويَكْتَسِبُ هُوَ الأَجْرَ فِيهِمْ وفِيمَا اكْتَسَبَ لِمَيِّتِهِمْ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ».(5)

وإجمال ما على الذي يحضر عند المحضر أن يفعله هو ما جاء في فقه الرضا (علیه السّلام) لعلي بن بابويه القمي: «إذا حضرت الميت الوفاة فلقنه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله (صلّی الله علیه و آله)، والإقرار بالولاية لأمير المؤمنين (علیه السّلام) والأئمة (علیهم السّلام) واحدا واحداً».

ص: 236


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 3/ ص 137 و138/ باب تعجيل الدفن/ ح 1).
2- من القيلولة. كناية عن تعجيل الدفن. (هامش المصدر).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 3/ ص 137 و138/ باب تعجيل الدفن/ح 2).
4- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 1/ ص 140/ ح 385).
5- الكافي، الجزء 3، ص166 بَابُ أَنَّ الْمَيِّتَ يُؤْذَنُ بِه النَّاسُ ح1.

ويستحب أن يلقن كلمات الفرج، وهي: لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلي العظيم، سبحان الله رب السماوات السبع ورب الأرضين السبع وما فيهن وما بينهن ورب العرش العظيم، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ولا تحضر الحائض ولا الجنب عند التلقين، فإن الملائكة تتأذى بها، ولا بأس بأن يليا غسله ويصليا عليه، ولا ينزلا قبره، فإن حضرا ولم يجدا من ذلك بداً، فليخرجا إذا قرب خروج نفسه.

وإذا اشتد عليه نزع روحه، فحوله إلى المصلى الذي كان يصلي فيه أو عليه، وإياك أن تمسه.

وإن وجدته يحرك يديه أو رجليه أو رأسه، فلا تمنعه من ذلك كما (يفعل جهال) الناس...(1)

المحور الثاني: الموت
السؤال الأول: ما حقيقة الموت؟

وهو من الأمور الوجدانية التي لا يستطيع أحدٌ أنْ ينكره، وقد أدرجها الإنسان في قائمة المكروهات والمبغوضات واللامشتهيات منذ القدم وما زال، الأمر الذي عبّر عنه أمير المؤمنين (علیه السّلام) بقوله: «واعْلَمُوا أَنَّه لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا ويَكَادُ صَاحِبُه يَشْبَعُ مِنْه ويَمَلُّه، إِلَّا الْحَيَاةَ فَإِنَّه لَا يَجِدُ فِي الْمَوْتِ رَاحَةً..».(2)

لذا نجدُ وجدانًا أنَّ الناس يكرهون الموت مع علمهم أنَّه مصيرٌ لابد منه ﴿كُلُ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوُت﴾.

وتثار حول الموت مجموعة من الأسئلة، سندرج الأهم منها ونجيب عنها تباعًا:

ص: 237


1- فقه الرضا (علیه السّلام) لعلي بن بابويه القمي ص 165- 166باب باب 22 باب غسل الميت وتكفينه.
2- نهج البلاغة – تحقيق صبحي صالح ص 192.

السؤال الأول: ما حقيقة الموت؟

بعض الناس يتصور أنّ الموت أمرٌ عدمي وأن معناه الفناء؛ لأنَّ النظرة إلى الموت هي أنه إعدامٌ للحياة وفناءٌ ونهايةٌ لها. بيدَ أنَّ هذا التصور خلاف ظاهر القرآن الكريم الذي يعدُّ الموت مخلوقاً كالحياة، قال(عزّ و جلّ): ﴿الذي خَلَقَ المَوْتَ والحَياة﴾.(1)

فالموتُ ليس فناءً وليس إعدامًا، وإنّما هو بعبارةٍ بسيطةٍ واضحةٍ: عمليةُ انفصال الروح عن البدن المادي، ذلك البدن الذي ارتبطت به الروح طيلة تواجدها في هذه الحياة الدنيا، ومن ثم فليس فيه فناء ولا نهاية، وبتعبير الروايات الشريفة هو مرحلة انتقالية من مكانٍ إلى آخر؛ لذلك لمّا سُئل الإمام السجاد علي بن الحسين3: ما الموت؟ قال (علیه السّلام): «للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة(2)،

وفك قيود وأغلال ثقيلة، والاستبدال بأفخر الثياب وأطيبها روائح وأوطئ المراكب، وآنس المنازل. وللكافر كخلع ثياب فاخرة، والنقل عن منازل أنيسة، والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها، وأوحش المنازل وأعظم العذاب».(3)

وفي تعبير للإمام الباقر (علیه السّلام) عندما سُئل (علیه السّلام) عن الموت فقال: «هو النوم الذي يأتيكم كل ليلة إلا أنه طويل مدته لا ينتبه منه إلا يوم القيامة، فمن رأى في نومه من أصناف الفرح ما لا يقادر قدره ومن أصناف الأهوال ما لا يقادر قدره؟ فكيف حال فرح في النوم ووجل فيه؟ هذا هو الموت فاستعدوا له».(4)

لذا قال أميرُ المؤمنين (علیه السّلام): «أيها الناس، إنا خلقنا وإياكم للبقاء لا للفناء، لكنكم

ص: 238


1- تبارك: 2
2- ثوب وسخ: علاه الدرن لقلة تعهده بالماء. و (قمل) أي كثر فيه القمل وهو دويبة معروفة. [هامش المصدر]
3- معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص 289.
4- معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص 289.

من دار إلى دار تنقلون، فتزودوا لما أنتم صائرون إليه وخالدون فيه».(1)

السؤال الثاني: لماذا نكره الموت؟
الأول: الجهل بحقيقة الموت.

إذا كان الموت قانونَ الحياة الثابت ﴿كُلُ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوُت﴾، وكلُّ الموجودات التي خلقها الله(عزّ و جلّ) مآلها إلى الموت، وإذا كان الموت هو قدرنا، فلماذا نهربُ منه؟ولماذا نكرهه؟

الجواب: ذكر العلماء عدة أسباب لذلك، منها:

الأول: الجهل بحقيقة الموت.

إنَّ الناس أعداءَ ما جهلوا، فمن البديهي أنْ يكرهوا الموت لجهلهم بحقيقته، لذلك ورد عن الإمام الجواد (علیه السّلام) عندما سُئل ما بال هؤلاء المسلمين يكرهون الموت؟ فقال (علیه السّلام): لأنهم جهلوه فكرهوه، ولو عرفوه وكانوا من أولياء الله(عزّ و جلّ) لأحبوه، ولعلموا أن الآخرة خير لهم من الدنيا، ثم قال (علیه السّلام): يا أبا عبد الله، ما بال الصبي والمجنون يمتنع من الدواء المنقي لبدنه والنافي للألم عنه؟ قال: لجهلهم بنفع الدواء. قال (علیه السّلام): والذي بعث محمداً بالحق نبياً، إن من استعد للموت حق الاستعداد فهو أنفع له من هذا الدواء لهذا المتعالج، أما إنهم لو عرفوا ما يؤدي إليه الموت من النعيم لاستدعوه وأحبوه أشد ما يستدعي العاقل الحازم الدواء لدفع الآفات واجتلاب السلامات.(2)

فإذا ما علم الناس حقيقة الموت وتهيأوا له، زال الخوف منه وانتفت كراهيته، ولعل خير مصداق على ذلك الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله) فقد ورد في الروايات أنّه (صلّی الله علیه و آله) خُيّر بين الخلود في الدنيا وبين الموت فاختار الموت، فقد روي عن أبي جعفر (علیه السّلام) قال: «لما حضرت

ص: 239


1- الإرشاد للشيخ المفيد ج1 ص 238.
2- معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص 290.

النبي (صلّی الله علیه و آله) الوفاةُ، نزل جبرئيل (علیه السّلام) فقال: يا رسول الله هل لك في الرجوع إلى الدنيا؟ فقال: لا، قد بلغت رسالات ربي، فأعادها عليه، فقال: لا بل الرفيق الأعلى»(1)...(2)

وحبيبه وابن عمه وأخوه بل ونفسه أمير المؤمنين (علیه السّلام) روي عنه أنّه قال: «أيهنوا(3)، فوالله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل إلى محالب أمه..».(4)

كما نقل لنا التاريخ أنَّ الإمام الحسين (علیه السّلام) أذن لأصحابه بالتفرق وطلب منهم أنْ يذهبوا ويتخذوا الليل جملًا، لكنهم اختاروا الموت على أنْ يتركوه، بل كانوا يستأنسون بالموت من أجله، فهو استئناسٌ بالموت بعد العلم بحقيقته.(5)

الثاني: الخوف من الموت

فإذا خفتَ شيئًا فمن البديهي أنه تكرهه، وهناك عدة أسباب للخوف من الموت

ص: 240


1- في النهاية «وألحقني بالرفيق الاعلى» الرفيق: جماعة الأنبياء الذين يسكنون أعلى عليين، وهو اسم جاء على فعيل ومعناه الجماعة كالصديق والخليط يقع على الواحد والجمع ومنه قوله تعالى ﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ والرفيق: المرافق في الطريق، وقيل معنى «الحقني بالرفيق الاعلى» أي بالله تعالى، يقال: الله رفيق بعباده، من الرفق والرأفة فهو فعيل بمعنى فاعل. وغلط الأزهري قائل هذا واختار المعنى الأول، ومنه حديث عائشة «سمعته يقول عند موته: «بل الرفيق الاعلى» وذلك أنه خير بين البقاء في الدنيا وبين ما عند الله(عزّ و جلّ) فاختار ما عنده سبحانه. [هامش المصدر]
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج4 ص 163 ح 5370.
3- هذه الكلمة فعل أمر من وهن يوهن كوجل يوجل: إذا ضعف في العمل أو الأمر، أي: كونوا ضعفاء لأنكم خفتم من الموت في سبيل الحق وصار الأمر إلى ما رأيتم... [هامش بحار الأنوار ج29 ص 141].
4- الاحتجاج للطبرسي ج1 ص 128.
5- في موسوعة كلمات الإمام الحسين (علیه السّلام) – لجنة الحديث في معهد باقر العلوم (علیه السّلام) ص 493: ثم قال [السيدة زينب(علیها السّلام)]: «أخي، هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم فإنّي أخشى أن يسلموك عند الوثبة واصطكاك الأسنّة! فبكى (علیه السّلام) وقال: أَما وَاللهِ! لَقَدْ نَهَرْتُهُمْ وَبَلَوْتُهُمْ وَلَيْسَ فيهِمُ [إِلاَّ] الأْشْوَسَ الأْقْعَسَ يَسْتَأْنِسُونَ بِالْمَنِيَّةِ دُوني اسْتِئْناسَ الطِّفْلِ بِلَبَنِ أُمِّهِ...».

منها:

1/فُطِر الإنسانُ على حُبِّ الخلود، بحيث لو أعطاه الله(عزّ و جلّ) ألف سنةٍ لطلب ألفًا ثانية، فإذا اعتقد أنَّ الموت نهايةُ المسيرة الإنسانية، وأنّه إعدامٌ للحياة، فمن البديهي أن يخافه، أما إذا علم أنَّ الموت قنطرةٌ كما عبّر عنه الإمام الحسين (علیه السّلام): «فما الموت إلا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضراء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة، فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر، وما هو لأعدائكم إلا كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب»(1)،

فإنه سيتيقن أنه سينتقل إلى حياة أخرى.

نعم، هو للكافرين كمن ينتقل من قصرٍ إلى سجنٍ وهذا بحثٌ آخر –لأنه لم يكن كذلك إلا لسوء أفعالهم-، أما المؤمن فإذا عرف حقيقة الموت وأنّه سينتقل إلى النعيم فإنّه لن يخافه بعد ذلك، بل يشتاق إليه كما كان المخلصون من البشر.

2/التعلق الأعمى بالدنيا، فمن عشق شيئًا أعشى بصره وأصمَّ سمعه وأمرضَ قلبه، قال(عزّ و جلّ): ﴿اثَّاقَلْتُمْ إِلَىٰ الْأَرضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾(2)؛ إشارة إلى تعلق الإنسان بهذه الدنيا.

قيل: إن رجلاً رأى شابًا قد انحدر من المقبرة فقال له: من أين؟ فقال: من هذه القافلة، فقال: إلى أين؟ فقال الشاب: أتزوّدُ وألحق بها، فسأله: أيُّ شيءٍ قالوا لك وأيُّ شيءٍ قلت لهم؟ فقال: قلت لهم: متى ترحلون؟ قالوا: حين تقدمون.

فلو استشعرنا حقيقة أنَّ الموت هي نهاية المسيرة الإنسانية، لما تعلقنا بهذه الدنيا الفانية.

3/النفس اللوامة، وهو من الأسباب الإيجابية، فإن الإنسان المؤمن إذا آمن بأنّ

ص: 241


1- معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص 289 باب معنى الموت ح3.
2- التوبة 38.

هناك بعثًا وحسابًا وعقابًا، وأنّ الله(عزّ و جلّ) قد استنسخ أعماله كلها وسيعرضها عليه يومئذٍ، ﴿وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَىٰ الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾(1)

فيفكر ذلك المؤمن حينئذٍ بهذه الأمور، ويرى كمّ الذنوب التي احتطبها على ظهره، فعندما يسمع بالموت والحال هذه فسيكرهه ويخافه؛ لأنه يخاف على نفسه أنْ يواجه ربه (سبحانه و تعالی)بهذه الذنوب وبالتالي سيكون مصيره غير جيدٍ، وهذا ما عبّرت عنه الروايات، «عمّرتم الدنيا وأخربتم الآخرة». فرغم معرفة المؤمن بحقيقة الموت، إلا أنّه يخافه لهذا اللحاظ، وليس خوفًا من نفس الموت.

عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي ذَرٍّ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، مَا لَنَا نَكْرَه الْمَوْتَ؟ فَقَالَ: لأَنَّكُمْ عَمَرْتُمُ الدُّنْيَا وأَخْرَبْتُمُ الآخِرَةَ، فَتَكْرَهُونَ أَنْ تُنْقَلُوا مِنْ عُمْرَانٍ إِلَى خَرَابٍ.

فَقَالَ لَه: فَكَيْفَ تَرَى قُدُومَنَا عَلَى الله تعالى؟ فَقَالَ: أَمَّا الْمُحْسِنُ مِنْكُمْ فَكَالْغَائِبِ يَقْدَمُ عَلَى أَهْلِه، وأَمَّا الْمُسِيءُ مِنْكُمْ فَكَالآبِقِ يَرِدُ عَلَى مَوْلَاه.

قَالَ: فَكَيْفَ تَرَى حَالَنَا عِنْدَ الله تعالى؟ قَالَ: اعْرِضُوا أَعْمَالَكُمْ عَلَى الْكِتَابِ، إِنَّ الله يَقُولُ: ﴿إِنَّ الأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾(2).

قَالَ: فَقَالَ الرَّجُلُ: فَأَيْنَ رَحْمَةُ الله؟ قَالَ: رَحْمَةُ الله قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.».(3)

السؤال الثالث: ما أنواع التوفي؟
الأول: توفي النفوس حال النوم.

ذكروا أنّ للإنسان نفوسًا ثلاثة، وأنّ للتوفي معنيين.

ص: 242


1- الكهف 49.
2- الانفطار: 14 و 15.
3- الكافي للكليني ج2 ص 458 بَابُ مُحَاسَبَةِ الْعَمَلِ- ح 20.

فأما النفوس الثلاثة(1)

فهي:

1/النفس النباتية:

وهي النفس التي بها ينمو الإنسان ويكبر، ويحتاج لأجلها إلى الطعام، وبذا يشترك معه سائر الحيوانات، ولو لم يفكر الإنسان إلا بإشباع هذا الجانب من وجوده لكان كما قال القرآن الكريم:

وإلى هذا الحد لا فرق فإذا الإنسان لم يفكر إلا فما الفرق بينه وبين سائر الأنعام؟! ولذا وصفهم القرآن الكريم بقوله عز من قائل: ﴿أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾(2)

كما روي عن أمير المؤمنين8: «... فما خُلِقْتُ ليشغلني أكل الطيِّبات كالبهيمة المربوطة همُّها علفها، أو المرسَلة شغلها تقمُّمها، تكترش من أعلافها وتلهو عمَّا يُراد بها...»(3).

وهذه النفس هي أقلُّ مرتبةٍ من مراتب الإنسان كمالًا.

2/ النفس الحيوانية:

وهي تلك النفس التي يحسُّ بها الإنسان بالألم ويشعرُ بالرغبة والجوع ويتكاثر بها، وهي أرقى من النفس النباتية؛ لأنّ بها شعور وإحساس وتكاثر. ولذا قيل: إنَّ «الأظافر وشعر الإنسان تملك روحًا نباتية فقط، ولهذا السبب لا يشعر بها الإنسان عندما تقطع في عملية تقليم الأظافر وقصّ الشعر، ولكن اللحم والعضلات مضافًا إلى أنّها تملك روحًا نباتية، فلها روح حيوانية أيضًا، فأدنى ضرر أو أذى يلحق بالإنسان تحسّ به هذه

ص: 243


1- يُطلب تفسير هذه النفوس بتفصيل أكثر وما يتعلق بها من قوى مختلفة في علم النفس الفلسفي.
2- الأعراف: 179.
3- نهج البلاغة (ج 3/ ص 72).

العضلات وتتألم».(1)

3/ النفس الإنسانية العقلية:

وهي النفس التي يمتاز بها الإنسان عن الحيوان بميزةِ القوةِ المدركة عنده، وهو (العقل) الذي بنى حياة الإنسان وجعلها حياة متكاملة.(2)

وأما التوفي فله معنيان:

الأول: توفي النفوس حال النوم.

وتتوفى به كلٌّ من النفس الإنسانية العقلية والحيوانية، فتتوقفان عن العمل، ولا تبقى عند النوم إلا النفس النباتية؛ فتعمل حفاظًا على حياة الإنسان. ولذا لا يشعر النائم بالجوع أو العطش مثلًا؛ لأنّه يفقد شعوره وإحساسه بالنفس الإنسانية العقلية والنفس الحيوانية.

الثاني: توفي النفوس في الموت.

وفيه تتوقف جميع مراتب النفس، ويحدث انفصال تام بين الروح والبدن.

ص: 244


1- نفحات الولاية، مكارم الشيرازي، ج9، ص430.
2- وقال الشيخ الشيرازي في نفحات القرآن، ج9، ص430: وطبعًا هناك بعض الأشخاص الذين يملكون نفسًا رابعة أيضًا، وهي التي يطلق عليها بالنفس القدسية، وهذه تدرك الحقائق المجرّدة التي يعجز عن إدراكها الأفراد العاديون «أحيانًا تطلق روح القدس على جبرئيل، وأحيانًا أخرى على ملك أعظم منه» وقد ورد التعبير عنها في بعض الروايات (روح الإيمان) ولعلّ ذلك إشارة إلى هذه المرتبة العالية للنفس الإنسانية. وجاء في حديث شريف عن النبيّ الأكرم (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «إذا زَنَى الرَّجُلُ فارَقَهُ رُوحُ الإيمان»ِ [الكافي، ج 2، ص 280، باب الكبائر، ح 11.]، إلّا أنْ يتوب ويتحرّك على مستوى جبران الخلل. وجاء في بعض الروايات أنّ روح القدس أعلى مرتبةً من روح الإيمان وقد جاءت الأرواح الخمسة فيها [انظر: الكافي، ج 2، ص 282، باب الكبائر، ح 16.]
السؤال الرابع: ما هي أنواع الموت؟
النوع الأول: موت البدن وموت القلب.

السؤال الرابع: ما هي أنواع الموت(1)؟

ذكروا للموت عدة أنواعٍ نذكر فقط اثنين منها للفائدة:

النوع الأول: موت البدن وموت القلب.

ما نعرفه من الموت الذي هو انفصال الروح المجردة عن الجسم المادي، هو موت البدن، الذي يؤدي إلى فساده وتحوّله إلى جيفة، وكثيرًا ما ذكرته الروايات الشريفة، منها ما روي عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) في خطبةٍ رائعةٍ له يصف فيها حالة الإنسان عندما يبدأ بالاحتضار حتى يموت، حيث تُشلُّ يداه ورجلاه، وينعقدُ لسانه فيبقى يسمع بأذنيه ويرى بعينيه، ثم ينغلق سمعه، ولا يبقى إلا نظره إلى أن يموت فيقول (علیه السّلام):

«سُبْحَانَكَ خَالِقاً ومَعْبُوداً، بِحُسْنِ بَلَائِكَ عِنْدَ خَلْقِكَ خَلَقْتَ دَاراً، وجَعَلْتَ فِيهَا مَأْدُبَةً، مَشْرَباً ومَطْعَماً وأَزْوَاجاً، وخَدَماً وقُصُوراً، وأَنْهَاراً وزُرُوعاً وثِمَاراً، ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِياً يَدْعُو إِلَيْهَا، فَلَا الدَّاعِيَ أَجَابُوا، ولَا فِيمَا رَغَّبْتَ رَغِبُوا، ولَا إِلَى مَا شَوَّقْتَ إِلَيْه اشْتَاقُوا، أَقْبَلُوا عَلَى جِيفَةٍ قَدِ افْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا، واصْطَلَحُوا عَلَى حُبِّهَا، ومَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَه، وأَمْرَضَ قَلْبَه، فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ، ويَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَيْرِ سَمِيعَةٍ، قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَه، وأَمَاتَتِ الدُّنْيَا قَلْبَه، ووَلِهَتْ عَلَيْهَا نَفْسُه، فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا، ولِمَنْ فِي يَدَيْه شَيْءٌ مِنْهَا، حَيْثُمَا زَالَتْ زَالَ إِلَيْهَا، وحَيْثُمَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا، لَا يَنْزَجِرُ مِنَ الله بِزَاجِرٍ، ولَا يَتَّعِظُ مِنْه بِوَاعِظٍ، وهُوَ يَرَى الْمَأْخُوذِينَ عَلَى الْغِرَّةِ، حَيْثُ لَا إِقَالَةَ ولَا رَجْعَةَ، كَيْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ، وجَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ، وقَدِمُوا مِنَ الآخِرَةِ عَلَى مَا كَانُوا يُوعَدُونَ، فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ، اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ، وحَسْرَةُ الْفَوْتِ فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ، وتَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ، ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً، فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وبَيْنَ مَنْطِقِه، وإِنَّه لَبَيْنَ أَهْلِه يَنْظُرُ بِبَصَرِه، ويَسْمَعُ بِأُذُنِه

ص: 245


1- وليس التوفي.

عَلَى صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِه، وبَقَاءٍ مِنْ لُبِّه، يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمُرَه، وفِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَه، ويَتَذَكَّرُ أَمْوَالًا جَمَعَهَا أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا، وأَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا ومُشْتَبِهَاتِهَا، قَدْ لَزِمَتْه تَبِعَاتُ جَمْعِهَا، وأَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا، تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَه يَنْعَمُونَ فِيهَا، ويَتَمَتَّعُونَ بِهَا، فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ لِغَيْرِه والْعِبْءُ عَلَى ظَهْرِه، والْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُه بِهَا، فَهُوَ يَعَضُّ يَدَه نَدَامَةً، عَلَى مَا أَصْحَرَ لَه عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِه، ويَزْهَدُ فِيمَا كَانَ يَرْغَبُ فِيه أَيَّامَ عُمُرِه، ويَتَمَنَّى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَغْبِطُه بِهَا، ويَحْسُدُه عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَه، فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِه، حَتَّى خَالَطَ لِسَانُه سَمْعَه، فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِه لَا يَنْطِقُ بِلِسَانِه، ولَا يَسْمَعُ بِسَمْعِه، يُرَدِّدُ طَرْفَه بِالنَّظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ، يَرَى حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ، ولَا يَسْمَعُ رَجْعَ كَلَامِهِمْ، ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِيَاطاً بِه، فَقُبِضَ بَصَرُه كَمَا قُبِضَ سَمْعُه وخَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِه، فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِه، قَدْ أَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِه، وتَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِه، لَا يُسْعِدُ بَاكِياً ولَا يُجِيبُ دَاعِياً، ثُمَّ حَمَلُوه إِلَى مَخَطٌّ فِي الأَرْضِ، فَأَسْلَمُوه فِيه إِلَى عَمَلِه، وانْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِه..».(1)

فهذا هو البدن، كم يُتعب عليه، وتُنفق الأموال لأجله، ما إنْ تخرج منه الروح حتى يُصبح جثةً هامدةً، يُخشى عليها من التعفن والتحلل إنْ تأخر دفنها، حتى يوضع عليه الثلج والعطر صيفًا كيلا تفوح رائحتها النتنة.

وهذا الموت الذي نعرفه ونخافه كثيرًا.

ولكن في الحقيقة هناك نوعٌ آخر من الموت هو أخطر وأعظم مصيبة من موت البدن، وهو ما تعبر عنه الروايات الشريفة بموت القلب.

وليس المقصود من القلب: ذلك العضو الصنوبري الموجود في القفص الصدري، فهذا إنْ مات يعني مات الإنسان موت البدن، وإنّما المراد منه هو موت العقل والوجدان، يعني أنْ يصل العقل أو الوجدان أو الإدراك إلى مرحلةٍ متدنيةٍ من التفكير والتعقل،

ص: 246


1- نهج البلاغة تحقيق صبحي صالح ص 159 – 161.

فكأنه يصير ميتاً من هذه الجهة.

وقد عبّر القرآن الكريم عن هذا الأمر بتعبيراتٍ مختلفة، منها قوله(عزّ و جلّ): ﴿فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ* وَمَا أَنتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ﴾(1).

إنَّ هؤلاء كالأموات، فقلوبهم ميتة، وهم عميان، وإنْ كانوا يُبصرون، ولكن عموا عن طريق الحقِّ، فهم في عداد الموتى؛ لأنَّ لهم صفات الأموات، إنْ تكلّمت معهم لا يسمعون فهم كالحجر.

وفي آيةٍ أخرى يقول الله(عزّ و جلّ): ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(2).

فهذا الإنسان الجاهل كأنّه ميتٌ، ولمّا أُعطيَ نور العلم فكأنّه أُحيي وعاد إلى الحياة، فهناك أناسٌ أبدانهم لم تمت، ولكنهم في الحقيقة يتصرفون تصرفَ الموتى؛ فهم لا يفهمون ولا يسمعون الكلام.

فموت القلب هي حالة نفسية روحية يمرُّ بها الإنسان، رغم أنّه لم يمت بدنه، وإنّما يموت قلبه.

عجيب أمر هذا القلب، فمرةً يكون كما ما روي في الحديث القدسي: «لا يسعني أرضي ولا سمائي، ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن»(3).

ومرةً يصل إلى أنْ يكون كالحجارة بل أشد؛ لأنَّ هناك من الحجارة ما يتفجر منه

ص: 247


1- سورة الروم: آية [52،53]
2- سورة الإنعام: آية [122]
3- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي (ج 4/ ص 7).

الأنهار، قال تعالى ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾(1)

من أسباب موت القلب:

لقد ذكرت الروايات عدة أسباب لموت القلب:

فمنها: عدم تغيير المنكر رغم القدرة عليه.

عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) أنّه قال: «ومِنْهُمْ تَارِكٌ لإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ بِلِسَانِه وقَلْبِه ويَدِه، فَذَلِكَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ».(2)

ومنها أربعة أمور جاءت في الحديث عن رسول الله الأعظم (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: أربع يمتن القلب: الذنب على الذنب، وكثرة مناقشة النساء – يعني محادثتهن - ومماراة الأحمق تقول ويقول ولا يرجع إلى خير [أبداً]، ومجالسة الموتى، فقيل له: يا رسول الله (صلّی الله علیه و آله) وما الموتى؟ قال كل غني مترف.(3)

فأما (الذنبُ على الذنب) فواضحٌ، لما ورد في الروايات أنّ الإنسان إذا أذنب خرج في قلبه نكتةً سوداء قد تطغى على القلب بتراكم الذنوب، فقد روي عن الإمام الصادق (علیه السّلام): «إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت، وإن زاد زادت، حتَّىٰ تغلب علىٰ قلبه فلا يفلح بعدها أبداً»(4).

وعن الإمام الباقر (علیه السّلام): «ما من عبد إلَّا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في

ص: 248


1- البقرة 74.
2- نهج البلاغة تحقيق صبحي صالح ص 542.
3- الخصال للشيخ الصدوق ص 228 ح65.
4- الكافي 2: 271/ باب الذنوب/ ح 13.

النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادىٰ في الذنوب زاد ذلك السواد حتَّىٰ يُغطّي البياض، فإذا [ت-]غطّىٰ البياض لم يرجع صاحبه إلىٰ خير أبداً، وهو قول الله(عزّ و جلّ): ﴿كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطفّفين: 14]»(1).

وأما (مناقشةُ النساء) فكثرة محادثتهن، فلعله باعتبار أنّ هناك غريزة ميلان كلا الجنسين إلى التحدث مع الجنس الآخر، وهذا التحدث إذا لم يكن ضمن الموازين الشرعية فإنّه يؤثر على القلب مباشرة ويُميته، فنفس المحادثة لا بأس بها، فقد كان هناك الكثير من النساء اللاتي يحضرن إلى الرسول (صلّی الله علیه و آله) ويسألنه عن بعض المسائل الشرعية فيأمرها بما تفعله.

وفي زمننا الحاضر حيث شاع استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، فقد كثُرَت الأسئلة التي ترد إلى الفقهاء حول التواصل بين الرجال والنساء عبرها فكان جواب الفقهاء: إذا كان في الكلام أمور محرمة كالمزاح والغزل فبلا شك هو من الحرام، أما إذا لم يكن فيه شيء من ذلك فلا إشكال فيه، إلا إذا احتمل الإنسان أو خاف من الانجرار إلى الوقوع في الحرام في حال استمراره بالكلام، فإنَّ هذا الخوف نفسه كافٍ ليكون مانعًا له، فيحرم عليه استمرار التواصل مع الطرف الآخر.

وأما (الغني المترف) أي إذا كان الغني متعلقًا بالدنيا، فإنَّ الجلوس معه سببٌ من أسباب موت القلب، فالمقصود هو نوع خاصٌّ من الأغنياء، لا كلّ غنيٍّ، فقد روي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «إيّاكم ومجالسة الموتىٰ»، قيل: يا رسول الله، من الموتىٰ؟ قال: «كلُّ غنيٍّ أطغاه غناه»(2).

ومنها ثلاثة أمور رويت عن رسول الله الأعظم (صلّی الله علیه و آله): «ثلاثة مجالستهم تُميت القلب:

ص: 249


1- الكافي 2: 273/ باب الذنوب/ ح 20.
2- تنبيه الخواطر للشيخ ورّام (ج 2/ ص 32).

مجالسة الأنذال، والحديث مع النساء، ومجالسة الأغنياء»(1).

وعنه (صلّی الله علیه و آله) - في مواعظه لأبي ذر -: «إيّاك وكثرة الضحك، فإنَّه يميت القلب»(2).

وقال الإمام عليٌّ (علیه السّلام): «مَنْ قَلَّ وَرَعُه مَاتَ قَلْبُه، وَمَنْ مَاتَ قَلْبُه دَخَلَ النَّارَ»(3).

هذا وقد ورد في الآيات والروايات عناوين لميتي القلب، ومنها التالي:

1/الكفار، قال(عزّ و جلّ): ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ﴾(4).

2/الجهال، عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) يقول: «مَنِ اسْتَحْكَمَتْ لِي فِيه خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ احْتَمَلْتُه عَلَيْهَا، واغْتَفَرْتُ فَقْدَ مَا سِوَاهَا، ولَا أَغْتَفِرُ فَقْدَ عَقْلٍ ولَا دِينٍ، لأَنَّ مُفَارَقَةَ الدِّينِ مُفَارَقَةُ الأَمْنِ، فَلَا يَتَهَنَّأُ بِحَيَاةٍ مَعَ مَخَافَةٍ، وفَقْدُ الْعَقْلِ فَقْدُ الْحَيَاةِ، ولَا يُقَاسُ إِلَّا بِالأَمْوَاتِ».(5)

3/الأذلاء، من يقبل أنْ يعيش ذليلًا، عن أمير المؤمنين (علیه السّلام): «فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ، والْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ».(6)

النوع الثاني: موتُ الفرد وموتُ المجتمع.

من الواضح جدًا كيفية موت الإنسان الفرد، فهو يبدأ من الضعف، ثم تأخذ خلاياه تبني أكثر مما تهدم، وتقوى شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى مرحلةٍ يتساوى فيها الهدم

ص: 250


1- الخصال للشيخ الصدوق (ص 87).
2- () الخصال للصدوق: 526/ ح 13.
3- () نهج البلاغة: 536/ ح 349.
4- سورة فاطر: آية [22]
5- الكافي للكليني ج1 ص 27 كِتَابُ الْعَقْلِ والْجَهْلِ ح 30.
6- نهج البلاغة تحقيق صبحي صالح ص 89.

والبناء، ثم بعد ذلك يبدأ بالنزول تدريجيًا، فيكون الهدم أكثر من البناء حتى يموت.

ونفس هذه المراحل تمرُّ بها الحضارات والأمم؛ حيث يقول علماء الاجتماع: إنّ المجتمعات والحضارات تمرُّ بنفس فترات النمو للإنسان، مرحلة الطفولة ثم الشباب والقوة ثم الشيخوخة إلى أن يصل المجتمع والحضارة إلى فترةٍ يموت فيها فيندثر المجتمع والحضارة. وكم من الحضاراتِ التي قويَت ثم ماتت.

قال الله(عزّ و جلّ): ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾(1).

المحور الثالث: البرزخ
الأولى: البرزخ في اللغة:

وهنا نقاط توضيحية:

هو الفاصل بين شيئين، والمقصود منه هنا في علم الكلام: هو الفاصل بين عالم الدنيا وعالم الآخرة، وعبّر البعض عنه بأنّه الفاصلة بين عالم الدنيا وإلى ما بعد نفخةِ الصور الثانية؛ لوجود نفختين. حيث إنّ النفخة الأولى يموتُ بها كلُّ الناس، والثانية يبعث بها كلُّ الناس.

الثانية: البرزخ غير معلوم الفترة الزمنية:

أيّ ليس لدينا أية معلوماتٍ تدلُّنا على المدة الزمنية للبرزخ، ومتى سينتهي، وكم سيدوم، وكلُّ ما هو معلوم أنّه ينتهي يوم القيامة، فعالمُ الآخرة هو الغاية التي ينتهي عندها البرزخ،وحيثُ إنّ اللحظة التي تقوم فيها القيامة مجهولةٌ لدينا، فنهايةُ البرزخ أيضًا مجهولةٌ لدينا؛ لأنَّ نهاية البرزخ هي بداية القيامة.

ص: 251


1- سورة الأعراف: آية [34]
الثالثة: من عالم البرزخ تحصل الرجعة:

تقدّم في بحث الرجعة أنها تعني رجوع بعض الناس إلى عالم الدنيا من القبر، والقبر هو البرزخ، ورجوعهم لحكمةٍ عند الله(عزّ و جلّ)، فمن البرزخ تحصل الرجعة.

الرابعة: لماذا يطلب بعض الناس أنْ يرجعوا إلى الدنيا؟

يذكر القرآن الكريم في عدة آيات، أنّ الإنسان عندما يدخل عالم البرزخ، فأنّه يتمنى أنْ يرجع إلى الدنيا، ويطلب من الله(عزّ و جلّ) ذلك، ومنها هذان الموردان:

الأول: قال(عزّ و جلّ): ﴿وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ* وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ* حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(1).

في هذه الآية ينقل القرآن الكريم أنّ الإنسان عندما يأتيه الموت ويدخل عالم البرزخ، يطلب من ربّه ﴿قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ﴾، وكأنّه لو سأله الله(عزّ و جلّ): لماذا تريد أنْ ترجع إلى الدنيا؟ فيجيبه: ﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾.

فهو يريد الرجوع لعله يعملُ صالحًا فيما ترك من عمره، وفي هذا تنبيهٌ لنا أنْ نستثمر هذه الساعات القليلة التي نعيشها في هذه الحياة، والتي لا نعلم متى ستنتهي وأين وكيف، فنحن –وللأسف- تشغلنا في بعض الأحيان الدنيا كثيرًا، فنتناسى أننا في سيرٍ مستمرٍ نحو الموت، فنحنُ في كلِّ خطوةٍ بل في كلِّ نفسٍ نحثُّ الخُطى إلى الموت.

هذه الأنفاس التي نتنفسها هي طريقنا نحو الموت والقبر، فقد تأتينا لحظة الموت ونحن في غفلةٍ، وعندئذٍ ينتبه ذلك الإنسان إلى ما ضيّع من ساعاتِ عمره، فيطلبُ من ربِّه أنْ يرجع لعلّه يعملُ صالحًا، فيأتيه الجواب: ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم

ص: 252


1- سورة المؤمنون: آية [97،98، 99،100]

بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾.

الثاني: قال(عزّ و جلّ): ﴿وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾(1).

القرآنُ الكريم يأمرنا أنْ نُنفقَ مما رزقنا(عزّ و جلّ) قبل أنْ يأتي الموت، لئلا تضيع هذه الفرصة العظيمة من يدي الإنسان، فإذا جاءه الموت تحسّر عليها سائلًا الله(عزّ و جلّ) أنْ يُمهله قليلًا ليرجع إلى الدنيا؛ لأجل أنْ يتصدق.

ففي الآيةِ الأولى يريدُ أنْ يرجع ليعمل صالحًا، أما في الآية الثانية فيطلب من الله(عزّ و جلّ) أنْ يُمهله قليلًا، وقد حدد الهدف من ذلك، وهو التصدق.

وهذا إنْ دلَّ على شيءٍ فإنّما يدلُّ على ما للصدقة من عظيم الأثر وبالغ الأهمية للإنسان في حياة البرزخ، بل حتى لو كان من المتصدقين، فإنّه يندم أيضًا ويتمنى لو كان متصدقًا بأكثر مما تصدّق به.

ولا نجد هذا المعنى مقتصرًا على الآيات الكريمة، فهناك رواياتٌ شريفة تشير إليه أيضًا، منها ما ورد عن رسول الله الأعظم (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «إنَّ الصدقة لتطفئ عن أهلها حرَّ القبور وإنّما يستظلُّ المؤمن يومَ القيامة في ظلِّ صدقته».(2)

وعلاوةً على الصدقة، فإنَّ الآية تشير إلى أمرٍ ثانٍ، وهو ﴿وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾، مما يعني أنَّ الصدقة سببٌ من الأسباب التي تؤدي إلى أنْ يكون الإنسان من الصالحين، فهي إحدى الطرق للتدرج في طريق التكامل.

ص: 253


1- سورة المنافقون: آية [10]
2- كنز العمال للمتقي الهندي ج6 ص 348 ح 15996.
الخامسة: البرزخ عالم تكامل.

صحيحٌ أنَّ الدنيا عالم العمل، وأنّ الآخرة عالم الجزاء، إلا أنَّ للإنسان فرصة أخرى للتكامل بعد انتقاله من عالم الدنيا، وتلك الفرصة هي في عالم البرزخ؛ فقد صرّحتِ العديد من الروايات أنَّ الإنسان يستطيعُ أنْ يستفيدَ من بعض الأعمال الصالحة وهو في عالم البرزخ، نذكر منها التالي:

قال الرضا (علیه السّلام): «ما من عبد [مؤمن] زار قبر مؤمن فقرأ عنده ﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ سبع مرّات إلَّا غفر الله له ولصاحب القبر».(1)

فبمنِّ الله(عزّ و جلّ) وكرمه يُمكن أن تُغفر ذنوب صاحب القبر بما يقرأه له المؤمن من القرآن الكريم، وهذا يعني أنه ازدادت درجته الكمالية وهو في عالم البرزخ.

وروي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنَّه قال: «مرَّ عيسىٰ بن مريم (علیه السّلام) بقبر يُعذَّب صاحبه، ثمّ مرَّ به من قابل فإذا هو لا يُعذَّب، فقال: يا ربِّ، مررت بهذا القبر عام أوَّل فكان يُعذَّب، ومررت به العام فإذا هو ليس يُعذَّب؟ فأوحىٰ الله إليه أنَّه أُدرك له ولد صالح فأصلح طريقاً وآوىٰ يتيماً، فلهذا غفرت له بما فعل ابنه...»(2).

وهذا المعنى مطابق لما روي عن النبيِّ (صلّی الله علیه و آله) أنَّه قال: «إذا مات المؤمن انقطع عمله إلَّا من ثلاث: صدقة جارية، أو علمٍ يُنتَفع به، أو ولد صالح يدعو له»(3).

فعن أبي عبد الله (علیه السّلام) أنَّه قال: «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلَّا ثلاث خصال: صدقةٌ أجراها في حياته فهي تجري بعد موته، وسُنَّةُ هدىٰ سنَّها فهي يُعْمَل بها

ص: 254


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 1/ ص 181/ ح 541).
2- الكافي للكليني 6: 3 و4/ باب فضل الولد/ ح 12.
3- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي (ج 2/ ص 53/ ح 139)؛ وبحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 2/ ص 22).

بعد موته، أو ولدٌ صالح يدعو له»(1).

وعن أبي عبد الله (علیه السّلام) أنَّه قال: «ستَّةٌ تلحق المؤمن بعد وفاته: ولدٌ يستغفر له، ومصحفٌ يُخلِفه، وغرسٌ يغرسه، وقليبٌ يحفره(2)،

وصدقةٌ يُجريها، وسُنَّةٌ يُؤخَذ بها من بعده»(3).

ومن الجدير بالذكر: أنَّ على الإنسان أنْ لا يتكل على هذه الأعمال، بل عليه أنْ يعمل بجدٍ، فما دام هو على قيدِ الحياة، فهو يسيرُ في طريق التكامل ويعملُ الكثير من الأعمال الصالحة.

استطراد: منافذ تكامل الإنسان.

لتكامل الإنسان عدة منافذ وطرق، ومنها:

1/الملكات الأخلاقية الموجودة في النفس.

فإنَّ النفس كلما التزمت الملكات الأخلاقية الكمالية، كلما زاد رقي الإنسان وتكامله، نحو (الصدق والصبر والإيمان واليقين والقناعة والرضا بما قسم الله(عزّ و جلّ) والتواضع والمروءة واللين). فالنفسُ إذا التزمت بهذه الملكات الأخلاقية تصفو، ثم تتهيأ للحصول على فيضٍ إلهي، وتتصاعد في طريق التكامل الوجودي.

وأما إذا اتصفت بعكس هذه الصفات من (جزع، وشك، وطمع، واعتراض على الله(عزّ و جلّ)، وتكبر على الناس، وسماجة بالأخلاق) فيتعكر صفاؤها، ثم قد يتوقف الإنسان عن التكامل، بل وربما يتسافل إلى أسفل السافلين والعياذ بالله.

ص: 255


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 7/ ص 56/ باب ما يلحق الميِّت بعد موته/ ح 1).
2- القليب: البئر.
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 7/ ص 56/ باب ما يلحق الميِّت بعد موته/ ح 5).

2/البلاء الدنيوي والعذاب البرزخي.

ففي الروايات الشريفة: إذا صبر الإنسان على ما يُصيبه من البلاء في الحياة الدنيا تُغفر سيئاته وتزيد حسناته ويتكامل بسبب هذا البلاء.

وكذا العذاب البرزخي، فهو أيضًا يساعد في رفع مُلوِّثات النفس ويُطهرها من مُخلّفاتِ الذنوب، فلو كان لبعض المؤمنين ذنوبٌ لم يمحُها البلاء الدنيوي، فإنَّ العذاب البرزخي كفيلٌ بتصفيته منها، ليصل يوم القيامة وهو خالٍ من الذنوب فيدخل الجنة بغير حساب.

3/أعمال الخير التي يقوم بها الإنسان.

وهذه الأعمال يكتب له أجرها وتبقى ثابتة عنده وإنْ كانت من نوع الأعمال التي يبقى أثرها إلى ما بعد الحياة فتنفعه بعد موته، فيترقى في طريق التكامل وهو في قبره، كما تقدمت الروايات الدالة على ذلك.

السادسة: هل بإمكان الميت أنْ يزور أهله ويطّلع عليهم؟

المتعارف عند الناس أنّ الميت يزور أهل بيته كلَّ ليلةِ جمعة، فهل الروايات الشريفة أشارت إلى ذلك؟

الجواب:

كلُّ شخصٍ له أعزاء فارقوا هذه الدنيا، وربما أحدنا يتمنى أنْ يرى شخص أمّه الحبيبة أو أباه العزيز المتوفيين بملءِ الدنيا ذهبًا، ليتحدث معه ويُرضيه، إذ لربما أغضبه في أحدِ الأيام أو عقَّه، فيرغب في رؤيته ومصالحته والفوز برضاه.

هذا وتذكر الروايات الشريفة أنّ الأموات يأتون إلى بيوتهم، وينظرون إلى أهلهم، فيُسمح لأرواحهم أنْ ترى أعزاءهم، وعلينا أنْ نضع بالحسبان أنّ أعمالنا السيئة يطّلع

ص: 256

عليها الأموات، وبالتالي سيتألمون إذا ما رأوا تلك الحقيقة؛ فعلينا أنْ نُحسن التصرف وأنْ نكون على حالٍ جيّدةٍ مع الله(عزّ و جلّ) لنحظى برضا الله(عزّ و جلّ) ونتخلص من العذاب الأخروي من جانبٍ، وندخل السرور على أهالينا وهم في عالم البرزخ من جانبٍ آخر.

وقد أشارت الروايات الشريفة إلى هذه الحقيقة، وأنّ أرواح الأموات ترجع من عالم البرزخ إلى عالم الدنيا ويُسمح لها بزيارة الأهل، كما ذكرت الروايات أنّ هذه الزيارة تتكرر حسب العمل الصالح لذلك الميت، فربما تتكرر كلَّ ليلةِ جمعة، وربّما كلَّ يومٍ، والبعضُ كلَّ سنة، فكلٌّ حسب منزلته.

وقد ذكر الشيخ الكليني(رحمه الله)عدة روايات تدل على ذلك، ومنها ما عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَزُورُ أَهْلَه فَيَرَى مَا يُحِبُّ ويُسْتَرُ عَنْه مَا يَكْرَه، وإِنَّ الْكَافِرَ لَيَزُورُ أَهْلَه فَيَرَى مَا يَكْرَه ويُسْتَرُ عَنْه مَا يُحِبُّ.

قَالَ: ومِنْهُمْ مَنْ يَزُورُ كُلَّ جُمْعَةٍ، ومِنْهُمْ مَنْ يَزُورُ عَلَى قَدْرِ عَمَلِه».(1)

وعنه (علیه السّلام) قَالَ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ ولَا كَافِرٍ إِلَّا وهُوَ يَأْتِي أَهْلَه عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، فَإِذَا رَأَى أَهْلَه يَعْمَلُونَ بِالصَّالِحَاتِ حَمِدَ الله عَلَى ذَلِك، وإِذَا رَأَى الْكَافِرُ أَهْلَه يَعْمَلُونَ بِالصَّالِحَاتِ كَانَتْ عَلَيْه حَسْرَةً».(2)

وعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الأَوَّلِ [الكاظم] (علیه السّلام) قَالَ: «سَأَلْتُه عَنِ الْمَيِّتِ يَزُورُ أَهْلَه؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقُلْتُ: فِي كَمْ يَزُورُ؟ قَالَ: فِي الْجُمْعَةِ، وفِي الشَّهْرِ، وفِي السَّنَةِ، عَلَى قَدْرِ مَنْزِلَتِه. فَقُلْتُ: فِي أَيِّ صُورَةٍ يَأْتِيهِمْ؟ قَالَ: فِي صُورَةِ طَائِرٍ لَطِيفٍ يَسْقُطُ عَلَى جُدُرِهِمْ، ويُشْرِفُ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ رَآهُمْ بِخَيْرٍ فَرِحَ، وإِنْ رَآهُمْ بِشَرٍّ وحَاجَةٍ حَزِنَ واغْتَمَّ».(3)

ص: 257


1- الكافي للكليني ج3 ص 230 بَابُ أَنَّ الْمَيِّتَ يَزُورُ أَهْلَه ح1.
2- الكافي للكليني ج3 ص 230 بَابُ أَنَّ الْمَيِّتَ يَزُورُ أَهْلَه ح2.
3- الكافي للكليني ج3 ص 230 بَابُ أَنَّ الْمَيِّتَ يَزُورُ أَهْلَه ح3.

وهنا سؤال:

ما مدى صحةِ ما يُقال من أنّ أرواح المؤمنين تكون في حوصلة طير؟ فهل هذا صحيحٌ وهل يُعقل هذا الأمر؟

في مقام الجواب نقول:

أولًا: الروايات الشريفة نفت هذا الأمر، وبيّنت أنّ المؤمن أكرم على الله(عزّ و جلّ) من أنْ يضعه في حوصلةِ طير، فعَنْ أَبِي وَلَّادٍ الْحَنَّاطِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: قُلْتُ لَه: جُعِلْتُ فِدَاكَ، يَرْوُونَ أَنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فِي حَوَاصِلِ طُيُورٍ خُضْرٍ حَوْلَ الْعَرْشِ؟ فَقَالَ (علیه السّلام): «لَا، الْمُؤْمِنُ أَكْرَمُ عَلَى الله تعالى مِنْ أَنْ يَجْعَلَ رُوحَه فِي حَوْصَلَةِ طَيْرٍ، ولَكِنْ فِي أَبْدَانٍ كَأَبْدَانِهِمْ».(1)

ولعل الإمام (علیه السّلام) يشير أنَّ الروح تفارق الجسد كما تقدّم، وفي الآخرة ترجع إلى البدن، ولكن في عالم البرزخ هنالك بدنٌ مثالي تحلُّ فيه هذه الروح، شكله شكل هذا البدن، وله آثار هذا البدن، لكن ليس فيه مادة، أي إنّه لا يُحس، وليس له جرم أو مادة أو ثقل، وإنّما شكله الظاهري فقط كشكل بدنه، أشبه بالصورة التي تكون في المرآة، بحيث لو رُفِع الحجاب لنا واطلعنا عليه لرأينا أنّه نفس شكل الجسم المادي ولكن ليس له مادة. ولذا عبّر الإمام (علیه السّلام) عنه ب«أبدان كأبدانهم».

ثانيًا: ورد في بعض الروايات الشريفة ومنها الرواية المذكورة عن إسحاق بن عمار، فقد أردف إسحاق وسأل الإمام (علیه السّلام) فقال: «وفي أيِّ صورةٍ يأتيهم؟

فقال (علیه السّلام): فِي صُورَةِ طَائِرٍ لَطِيفٍ يَسْقُطُ عَلَى جُدُرِهِمْ، ويُشْرِفُ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ رَآهُمْ بِخَيْرٍ فَرِحَ، وإِنْ رَآهُمْ بِشَرٍّ وحَاجَةٍ حَزِنَ واغْتَمَّ».(2)

ص: 258


1- الكافي للكليني ج3 ص 244 بَابٌ آخَرُ فِي أَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ ح1.
2- الكافي للكليني ج3 ص 230 بَابُ أَنَّ الْمَيِّتَ يَزُورُ أَهْلَه ح3.

فهذه الرواية تصف الهيئة التي بها يزور الميتُ أهله، بأنّه يأتي في صورة طائر، وربما هذا الوصف من باب «كلموا الناس على قدر عقولهم»، أي ليس المراد من الطائر هو هذا الطائر المادي الدنيوي، وهذا ما قد أوضحته الرواية المذكورة عن أبي ولّاد.

فلربما المخاطب لم يكن ليفهم معنى الجسم المثالي وما شابه لو أنّ الإمام أخبره به، فعبّر له (علیه السّلام) بقوله: «طائر لطيف». ولعل كلمة «لطيف» تحمل إشارة إلى الجسم المثالي الخالي من المادة، فصورته صورة طير أو صورة الجسم المادي، ولعله لأجل مثل هذه الرواية فهم البعض أنّ أرواح الموتى توضع في حوصلة الطير، ولكنّ الإمام (علیه السّلام) أوضح أنّ المؤمن أكرم من أنْ توضع روحه في حوصلة الطير.

والحاصل: أن روح المؤمن في جسم مثالي، عبرت عنه الرواية لتقريب الفكرة بطائر لطيف.

السابعة: معنى سؤال منكر ونكير.

ورد في الروايات الشريفة أنَّ الميت يُسأل من منكر ونكير، فما معنى سؤال منكر ونكير؟

ورد في الروايات الشريفة أنّ القبر إما روضةٌ من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران، وتحول القبر إلى أحدهما لا يأتي من فراغ، وإنّما على أساس نتيجة الحساب الذي يقوم به الملائكة في القبر.

وتذكر الروايات الشريفة أنَّ الميت يُسأل عن العديد من الأمور، عن دينه، وعن ربه، وعن نبيه، وإمامه، وصلاته، وصومه وإلى آخره، فإنْ كانت أجوبته جيدةً يتحول قبره إلى روضةٍ من رياض الجنة، وإلا يكون حفرةً من حفر النار. ولم تذكر الروايات مدة تلك الفترة التي يتحول بها القبر. وللبرزخ قوانينه، فقد يتحول القبر بمجرد نزول

ص: 259

المؤمن فيه ولا نلحظ ذلك؛ لأننا قد حُجِب عنّا ما يحدث للأموات.

إنَّ السؤال الذي سيُطرح من الملائكة في القبر سيكون عن أمورٍ واقعية، وكذلك الجواب، فليس هناك مجال للإخفاء والإنكار، فعلى الإنسان أنْ يُرتِّب أموره جيدًا ويُتقن فهم عقيدته ويثبتها بحسن تطبيقها عن طريق الامتثال للأحكام الشرعية وحسن الخلق؛ ليكون مستعدًا للسؤال والجواب في عالم البرزخ في القبر.

عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: «مَا مِنْ مَوْضِعِ قَبْرٍ إِلَّا وهُوَ يَنْطِقُ كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: أَنَا بَيْتُ التُّرَابِ، أَنَا بَيْتُ الْبَلَاءِ، أَنَا بَيْتُ الدُّودِ.

قَالَ: فَإِذَا دَخَلَه عَبْدٌ مُؤْمِنٌ قَالَ: مَرْحَباً وأَهْلاً، أَمَا والله لَقَدْ كُنْتُ أُحِبُّكَ وأَنْتَ تَمْشِي عَلَى ظَهْرِي، فَكَيْفَ إِذَا دَخَلْتَ بَطْنِي، فَسَتَرَى ذَلِكَ. قَالَ: فَيُفْسَحُ لَه مَدَّ الْبَصَرِ ويُفْتَحُ لَه بَابٌ يَرَى مَقْعَدَه مِنَ الْجَنَّةِ.

قَالَ: ويَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ رَجُلٌ لَمْ تَرَ عَيْنَاه شَيْئاً قَطُّ أَحْسَنَ مِنْه فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ الله، مَا رَأَيْتُ شَيْئاً قَطُّ أَحْسَنَ مِنْكَ. فَيَقُولُ: أَنَا رَأْيُكَ الْحَسَنُ الَّذِي كُنْتَ عَلَيْه، وعَمَلُكَ الصَّالِحُ الَّذِي كُنْتَ تَعْمَلُه.

قَالَ: ثُمَّ تُؤْخَذُ رُوحُه فَتُوضَعُ فِي الْجَنَّةِ، حَيْثُ رَأَى مَنْزِلَه، ثُمَّ يُقَالُ لَه:نَمْ قَرِيرَ الْعَيْنِ. فَلَا يَزَالُ نَفْحَةٌ مِنَ الْجَنَّةِ تُصِيبُ جَسَدَه يَجِدُ لَذَّتَهَا وطِيبَهَا حَتَّى يُبْعَثَ.

قَالَ: وإِذَا دَخَلَ الْكَافِرُ قَالَ: لَا مَرْحَباً بِكَ ولَا أَهْلاً، أَمَا والله لَقَدْ كُنْتُ أُبْغِضُكَ وأَنْتَ تَمْشِي عَلَى ظَهْرِي، فَكَيْفَ إِذَا دَخَلْتَ بَطْنِي، سَتَرَى ذَلِكَ.

قَالَ: فَتَضُمُّ عَلَيْه فَتَجْعَلُه رَمِيماً ويُعَادُ كَمَا كَانَ، ويُفْتَحُ لَه بَابٌ إِلَى النَّارِ فَيَرَى مَقْعَدَه مِنَ النَّارِ، ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ إِنَّه يَخْرُجُ مِنْه رَجُلٌ أَقْبَحُ مَنْ رَأَى قَط، قَالَ:فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ الله، مَنْ أَنْتَ مَا رَأَيْتُ شَيْئاً أَقْبَحَ مِنْكَ! قَالَ: فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ السَّيِّئُ الَّذِي كُنْتَ تَعْمَلُه، ورَأْيُكَ

ص: 260

الْخَبِيثُ. قَالَ: ثُمَّ تُؤْخَذُ رُوحُه فَتُوضَعُ حَيْثُ رَأَى مَقْعَدَه مِنَ النَّارِ، ثُمَّ لَمْ تَزَلْ نَفْخَةٌ مِنَ النَّارِ تُصِيبُ جَسَدَه فَيَجِدُ أَلَمَهَا وحَرَّهَا فِي جَسَدِه إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُ، ويُسَلِّطُ الله عَلَى رُوحِه تِسْعَةً وتِسْعِينَ تِنِّيناً تَنْهَشُه، لَيْسَ فِيهَا تِنِّينٌ يَنْفُخُ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ فَتُنْبِتَ شَيْئاً».(1)

وعَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَال: «إِنَّ لِلْقَبْرِ كَلَاماً فِي كُلِّ يَوْمٍ يَقُولُ: أَنَا بَيْتُ الْغُرْبَةِ أَنَا بَيْتُ الْوَحْشَةِ، أَنَا بَيْتُ الدُّودِ، أَنَا الْقَبْرُ، أَنَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ».(2)

ص: 261


1- الكافي للكليني ج3 ص 241 و 242 بَابُ مَا يَنْطِقُ بِه مَوْضِعُ الْقَبْرِ- ح1.
2- الكافي للكليني ج3 ص 242 بَابُ مَا يَنْطِقُ بِه مَوْضِعُ الْقَبْرِ- ح2.

ص: 262

العالم السادس: عالم القيامة (المعاد أو اليوم الآخر)

النقطة الأولى: أسماء يوم القيامة.
الاسم الأول: يوم القيامة.

وهنا نذكر عدةَ نقاطٍ لتتضح الصورة:

لعالم القيامة أسماء عديدة، ذكرها العلماء، ومنهم من أحصاها في القرآن الكريم فكانت سبعين عنوانًا.

ويعود سبب تعددها إلى أن كلِّ عنوانٍ منها يُشير إلى حقيقةٍ من حقائق ذلك العالم أو حدثٍ من أحداثه، أي لبيان الحيثيات المختلفة والأحوال المتعددة التي يمرُّ بها الإنسان في ذلك العالم؛ لذا كان للتأمل فيها أثرٌ تربوي وعميق في النفس، ونذكر بعض الأمثلة لذلك:

الاسم الأول: يوم القيامة.

وهو من أشهر أسماء ذلك اليوم، وقد تكرّر ذكره في القرآن الكريم سبعينَ مرةٍ حسب بعض الإحصاءات، ومنها قوله(عزّ و جلّ): ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ﴾(1).

وقد رفع القرآن الكريم السر وراء تلك التسمية، ومن ذلك:

1/أنّه اليوم الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين، قال(عزّ و جلّ): ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ

ص: 263


1- سورة الأنبياء: آية [47]

الْعَالَمِينَ﴾(1)،

فلأنّ الناس يقومون فيه لربِّ العالمين، سُميّ بيوم القيامة.

2/أنّه اليوم الذي يقوم فيه أشرف ملائكة الله (الروح) مع سائر الملائكة، قال الله(عزّ و جلّ): ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾(2).

3/أنّه اليوم الذي يقوم فيه الشهود للشهادة على أعمال الناس، قال(عزّ و جلّ): ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾(3).

4/أنّه اليوم الذي يقوم فيه الحساب، نسأل الله(عزّ و جلّ) أنْ يحاسبنا حسابًا يسيرًا، قال(عزّ و جلّ): ﴿يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾(4).

5/أنّ الموتى يقومون من قبورهم ويرجعون إلى الله(عزّ و جلّ).

الاسم الثاني: يوم الصاخة:

ورد في قوله(عزّ و جلّ): ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ. يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾(5).

والصاخةُ: كلمةٌ مأخوذةٌ من (صخَّ)، وهو الصوت الشديد الذي يكاد يأخذ بسمع الإنسان، ولعلّ فيه إشارة إلى نفخةِ الصور الثانية، وهي الصيحة الرهيبة التي تعيد الحياة إلى الموجودات بعد موتها جميعًا ليبدأ منها يوم المحشر.

وقد بيَّن القرآن الكريم سببَ تسمية هذا اليوم بهذا الاسم؛ وذلك أنّه عندما يحدث

ص: 264


1- سورة المطففين: آية [6]
2- سورة النبأ: آية [38]
3- سورة غافر: آية [51]
4- سورة إبراهيم: آية [41]
5- عبس (33 – 37)

هذا الصوت الشديد، فإن على أثره سيحدث فرار وحالة من الفزع والرعب، بحيث إنّ الإنسان يفر من أقرب الناس إليه!

الإنسان في الدنيا إذا ما أصابته ملمة، فإنه يلجأ إلى أخيه أو أمه وأبيه أو إلى زوجته وأولاده، وهو أمرٌ متعارف في الدنيا، ولكن في الآخرة وعندما تحدث الصاخة، فإن المرء سيهرب من أقرب الناس إليه.

وربما يتبادر إلى الذهن سؤال:

لماذا يفرُّ الإنسان يوم القيامة من أقرب الناس إليه؟

الجواب: هناك عدة أسباب لهذا الفرار، وكُلُّها مستوحاةٌ من الآيات والروايات الشريفة، ومنها:

السبب الأول: إنَّ وحشة ورهبة يوم القيامة لا تُنسي الإنسان علاقته بأخيه وأمه وأبيه وزوجته وأولاده فحسب، فهو ليس مجرد نسيان، وإنّما يتعدى إلى الفرار منهم، وستنقطع كل العلاقات والروابط، فهي وحشةٌ ورهبةٌ تجعل الإنسان -لا يأنس بلْ- يفرُّ من كلِّ المقربين إليه، تلك الوحشة التي كانوا يستجير الأئمة (علیهم السّلام) منها.

السبب الثاني: إنّما يفر المرء للتهرب من الحقوق التي عليه وهو عاجز عن أدائها، فلو استولى أخٌ على إرثِ أبيه وأخذ حقَّ إخوته ولم يستطيعوا أنْ يستردوه منه في الدنيا، ففي يوم القيامة يطالبونه به، فيهرب منهم، لأنه لا يستطيع وفاءهم حقهم، وكذا من استولى على مهر زوجته وحقوقها، وامثال هذه الحالات كثيرة لا تحصى.

فكلُّ ذي حقٍ سيطالب بحقه يوم القيامة ممن ظلمه؛ لذا سيهرب الظالم من المظلوم، والغاصب من المغصوب حقه، وهكذا.

السبب الثالث: إنّما يفرُّ المؤمنون خاصة من أقربائهم من غير المؤمنين، يعني الفرار

ص: 265

لا يكون من كلِّ الناس، وإنّما من خصوص الأقارب غير المؤمنين خوفًا من العقاب الذي قد يصلهم من خلالهم، فالمؤمنون يهربون، رغم أنّ القرآن الكريم يقول ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾(1)،

ولكن ربما ينسون ذلك لشدة الخوف والهلع من أهوال يوم القيامة.(2)

ويذكر القرآن الكريم قاعدةً أساسيةً لسبب هذا الفرار، حاصلها: أنَّ كلَّ إنسانٍ سيكون مشغولًا بنفسه ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾.(3)

عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله)، أنه قال له بعض أهله، يا رسول الله، هل يذكر الرجل يوم القيامة حميمه؟ فقال (صلّی الله علیه و آله): «ثلاثة مواطن لا يذكر أحد أحدا: عند الميزان حتى ينظر أيثقل ميزانه أم يخف، وعند الصراط حتى ينظر أيجوزه أم لا، وعند الصحف حتى ينظر بيمينه يأخذ الصحف أم بشماله، فهذه ثلاثة مواطن لا يذكر فيها أحد حميمه ولا حبيبه ولا قريبه ولا صديقه ولا بنيه ولا والديه، وذلك قول الله تعالى: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيه﴾».(4)

ص: 266


1- الأنعام: 164.
2- ننبه على أنه ليس من الصحيح تطبيق هذا المعنى في الدنيا، فيهرب المؤمن من هذا النوع من الأقارب المذنبين، بل عليه أن لا يقطع رحمه، وفي الوقت عينه أنْ يضع نصب عينه، وفق مبدأ «أمرنا رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أن نلقىٰ أهل المعاصي بوجوه مكفهرَّة» (الكافي 5: 59/ باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر/ ح 10). أما إذا أدرك عصر ظهور صاحب الزمان (علیه السّلام) فعليه أنْ يهرب من المذنبين حتى لو كانوا آباءه وإخوانه وما شاكل ذلك، كما عليه أنْ لا يعترض على حكم الإمام المهدي (علیه السّلام) على المنحرفين وإنْ كانوا أقرب الناس إليه.
3- عبس: 37.
4- البرهان في تفسير القرآن للسيد هاشم البحراني ج5 ص 586 ح 11397 / [3] عن (بستان الواعظين).
الاسم الثالث: يوم الفصل:

قال(عزّ و جلّ): ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا.يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا﴾(1).

الفصل: هو أنْ تفصل شيئًا عن شيءٍ آخر، وهذا معناه واضح، ولكن ما هو الشي الذي سيتم فصله وعزله في ذلك اليوم؟

إنَّ في ذلك اليوم –حسب الآيات المباركة والروايات الشريفة- سيحصل فصلٌ بين عدةِ أمورٍ، نذكر منها التالي:

1/لأنه يومُ فصْلِ الحق عن الباطل.

في الحياة الدنيا تتوالى الفتن على المؤمنين حتى تجعل الحكيم حيرانًا، فيشتبه الحق بالباطل، والبعض يجعل الحقّ باطلًا، والباطل حقًا، أما في يوم القيامة فالحقُّ واضحٌ لا لبس فيه ولا اشتباه مطلقًا، وكذا الباطل واضح، ولا يختلطان معًا.

2/لأنه يوم فصل المؤمنين الصالحين عن المجرمين.

ففي الدنيا قد يتأذى المؤمن من جارٍ فاجر، أو يتأذى الرجل أو المرأة من شريكٍ غير صالحٍ ويكون مجبرًا على البقاء معه ومجالسته وتحمل أذاه، وهكذا... لكن يوم القيامة يجمع الله(عزّ و جلّ) الصالحين قرب الصالحين، والفاجرين قرب الفاجرين، ويفصل بين الصالحين والفاجرين، قال(عزّ و جلّ): ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ* يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُم باللهِ الْغَرُورُ﴾(2).

﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم﴾ يعني بين المؤمنين والكافرين، وهذا الباب الذي بينهم له خصيصة، وهو أنّه في باطنه الرحمة، أي وكأنّه من الداخل هناك مدينة فيها بساتين

ص: 267


1- سورة النبأ: آية [17 و 18]
2- سورة الحديد: آية [13و 14]

وأشجار وأنهار، ومن خارجه شتى ألوان العذاب، فإنّ ظاهر هذا الباب هو العذاب وهو للمنافقين والكافرين.

ومن البديهي أنّ هذا الفصل غير متحقق في الدنيا، فقد يكون المؤمنون والكافرون متجاورين في الدنيا، ولكن يوم القيامة يفصل بينهم بحاجزٍ عظيم، وهذا الحاجز هو تجسم للاعتقادات والأعمال المختلفة، فإن كانت صالحةً تتجلى للمؤمنين براحةٍ نفسيةٍ لهم وأما الأعمال الطالحة للكافرين فتتجلى بعذابٍ لهم.

وهناك خصوصية أخرى لهذا الباب، وهو أنه لا يمنع الصوت؛ لذا ففي الآية التي تليها ينادي الكافرون المؤمنين ﴿أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ﴾ فيجيبهم المؤمنون قالوا: بلى ولكن فُصلنا عنكم بسبب الخطايا والذنوب التي ارتكبتموها، والتي أبعدتنا وفصلتنا عنكم...

3/ لأنّه يوم فصلِ الإنسان عن كل ما يتعلق به من الأحبة والأموال.

ففي يوم القيامة يُفصل الإنسان عن والديه وعن أولاده وعن أخوته، ويُفصل أيضًا عن أمواله، ولا يكون معه سوى كتاب أعماله التي عملها في الدنيا، قال تعالىٰ: ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَىٰ الأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً* وَعُرِضُوا عَلىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً* وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَىٰ الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾.(1)

وقد نبّه الله(عزّ و جلّ) على ذلك بقوله: ﴿لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ واللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.(2)

فلن تنفعهم الأرحام حينئذٍ وإنما يفصل فيما بينهم، ولا تجمعهم إلا رابطة واحدة

ص: 268


1- الكهف: 47 – 49.
2- سورة الممتحنة: آية [3]

وهي رابطة الإيمان.

ملاحظة:

إنَّ العلماء يذكرون –تبعاً لبعض الآيات والروايات- العديد من العلامات والأحداث لاقتراب الساعة والنفخ في الصور والنشر وماهية الصور وعدد النفخات وما شابه ذلك، وهي مسائلُ تُترك لمراحل أعلى؛ لأن البحث فيها طويل الذيل، وإنّما تطرقنا إلى تعدد أسماء ذلك اليوم لنأخذ منها العظة وما نستفيد منه في حياتنا اليومية، وكيف نقي أنفسنا ونستعد لأهوال هذا اليوم.

النقطة الثانية: الحساب.
أولاً: مسائل حسابها دقيق.

إنَّ يوم القيامة هو اليوم الذي ستتمُّ فيه محاسبة جميع الناس على كلِّ ما صدر منهم من أعمالٍ وأقوالٍ، فهو يومٌ يوضع فيه كتابٌ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، وسيجدُ الجميع أعمالهم حاضرةً لديهم، فلا مجال للإنكار ولا مجال للظلم فيه، ويمكننا التعرف على كيفية الحساب وأهم المسائل المتعلقة فيه عبر التالي:

أولاً: مسائل حسابها دقيق.

ما من شكٍ أنّ الإنسان سيُحاسب على كلِ صغيرةٍ وكبيرةٍ، إلا أنّ هناك مسائل مهمة سوف يحاسب عليها الإنسان حسابًا دقيقًا، لذا علينا أنْ نهتم بها كثيرًا، وهذا لا يعني أنْ نهمل ما عداها، ولكن الروايات الشريفة أكدت وركزت عليها، وقد يكون ذلك للآثار المهمة المترتبة عليها. وسنذكر تلك الأمور وفقًا لما نصت عليه الروايات الشريفة وهي كالتالي:

1/ما ورد عن الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال:: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتَّىٰ يُسئل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، و[عن] شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه

ص: 269

وفيما أنفقه، وعن حبِّنا أهل البيت»(1).

وهذا الأربعة سيكون الحساب فيها دقيقًا.

والملاحظ أن الرسول (صلّی الله علیه و آله) فصل الشباب عن العمر رغم أنّ الشباب جزءٌ من العمر، ولعله لأجل أنّه مرحلة خطرة جدًا من جهة، وحسابها يختلف لما يتميز به من قوة وطاقة متفجرة من الممكن أنْ تُستثمر في منفعة الإنسانية ونفسه من جهةٍ أخرى.

وليس المراد هنا فقط في الأمور العبادية، بل في كلِّ المجالات التي فيها جهة إيجابية، فيجب على الشاب أنْ لا يستغل هذه الطاقة في ما لا يرضي الله(عزّ و جلّ) وفي هتك الأعراض والسرقة وغيرها من الأمور.

والسؤال الآخر سيكون عن الأموال، ليس فقط من أين جمعها، وإنما سيكون السؤال: أين أنفقها أيضًا، فالبعض يكتسب المال من حلالٍ ولكنه ينفقه في الحرام، والبعض يكسبه من حرامٍ وينفقه في الحلال، وكلاهما غير مقبول، هذا فضلًا عمن يكسبه من الحرام وينفقه بالحرام. لذا يجب أنْ يُكتسب المال من الحلال وينفق بالحلال أيضًا، فالمؤمنُ محاسبٌ على وارداته وصادراته، وهذا يعني أن المؤمن ليس حراً في تصرفاته بأمواله كيفما شاء، وإنما هو حر في صرفها ما دام الصرف حلالاً.

والسؤال الأخير عن حبِّ أهل البيت (علیهم السّلام) وهو أمرٌ واضحٌ جدًا؛ لأنهم الثقل الأكبر الذي تركه الرسول (صلّی الله علیه و آله) بين أظهرنا.

2/ عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «أنا أول قادم على الله تعالى، ثم يقدم على كتاب الله تعالى، ثم يقدم على أهل بيتي، ثم يقدم على أمتي، فيقفون فيسألهم: ما فعلتهم في كتابي وأهل بيت نبيكم».(2)

ص: 270


1- الخصال للصدوق: 253/ ح 125.
2- بصائر الدرجات للصفار ص 432 باب (17) باب في قول رسول الله (صلّی الله علیه و آله) «اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي»- ح1.

3/ عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال:«إن أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة، فإذا قبلت قبل سائر عمله، وإذا رُدّت رُدّ عليه ساير عمله».(1)

سؤال وجوابه:

ربما يتبادر إلى الذهن سؤال مفاده: ذكرت الروايات أمورًا مختلفة يُسأل عنها العبد يوم القيامة ولا إشكال في ذلك، إنما الإشكال يرد في ذكرها لكلٍ من تلك الأمور على أنّها أول ما يُسأل عنه العبد يوم القيامة، فهل هناك تضاد بين هذه الروايات؟

الجواب: من الواضح أنْ لا تضاد، وإنّما الروايات الشريفة تريدُ أنْ تبين الأمور التي ستكون في أول قائمة الحساب وكأنها هي التي سيُسأل عنها في الجلسة الأولى للحساب وهي المتصدرة في قائمة الحساب.

ثانياً: ما لا يُحاسب عليه الإنسان:

ورد في بعض الروايات الشريفة أنّ الله(عزّ و جلّ) لا يحاسب الإنسان على بعض الأمور، وعند التأمل فيها نجد أنّها تشترك في أنّ الله(عزّ و جلّ) ألجأ الإنسان اليها، إذ جعلها من أساسيات نظام حياته، فهو يحتاج إليها ولا يستغني عنها، فليس من العدل ولا الكرم أنْ يُلجئ الله(عزّ و جلّ) الإنسان إلى شيءٍ ثم يُحاسبه عليه.

وهذا نظير السيارة، فهي لا يمكن أن تسير من دون وقود، فإذا نفد وقودها فليس من العقل بشيء معاقبتها أو محاسبتها؛ لأنها لا تسير، أو لأنها احتاجت إلى الوقود، فلو كان لها ما تنطق به لقالت: إنّ من صنعني صممني على أن أكون محتاجةً إلى هذا الوقود، فليس الذنب ذنبي.

ص: 271


1- الأصول الستة عشر- عدة محدثين- ص 110.

وتلك الأمور التي لا يُحاسب عليها الإنسان هي كما ورد في الروايات الشريفة:

1- الطعام الذي يأكله، فالإنسان لا يستطيع أنْ يعيش من دون طعام؛ لذا لا يحاسبه الله(عزّ و جلّ) عليه يوم القيامة أو يسأله لمَ أكلت طعامًا مثلًا، إذا كان من حلال طبعاً.

2- الثوب الذي يلبسه الإنسان؛ لأنّ الله(عزّ و جلّ) أمرنا بالستر؛ لذا يجب التستر بلبس الثوب، فلا يحاسب الله(عزّ و جلّ) يوم القيامة على الثوب الذي يلبسه.

3- والبيت الذي يسكنه.

4- الزوجة التي يُحصن بها فرجه.

وهذا يعني أنّ الله(عزّ و جلّ) لا يحاسب الإنسان على أصل الإلجاء إلى هذه الأمور، أي على الأكل والثوب والبيت الذي يلتجئ إليه، والزوجة التي يتخذها له

فعن الإمام الباقر (علیه السّلام): «ثلاث لا يُسئل عنها العبد: خرقة يواري بها عورته، وكسرة يسدُّ بها جوعته، أو بيت يكنُّه من الحرِّ والبرد»(1).

وعن أبي عبد الله (علیه السّلام)، قال: «ثلاثة أشياء لا يُحاسَب عليهنَّ المؤمن: طعام يأكله، وثوب يلبسه، وزوجة صالحة تعاونه، ويحصن بها فرجه»(2).

فأصل الإلجاء لا يسأل اللهُ (سبحانه و تعالی)الإنسان عنه، ولكنه تعالى يمكن أن يُحاسبه على طريقة تحصيل هذه الأمور أو طريقة استعمالها، فيسأله: هل طريقة كسبك لهذا الطعام حلال أو حرام؟ فإنْ كان حرامًا فله أنْ يعاقبه، وكذا عن طريقة استعمال هذا الأمر، فلا يجوز للإنسان أن يستخدم بيته في أمورٍ محرمةٍ، وهكذا، كما لا بُدّ من مراعاة مقدار الحاجة فلا يُسرف الإنسان إسرافًا كبيرًا ولا يُبذر تبذيرًا فاحشًا، قال(عزّ و جلّ): ﴿وَلا تُبَذِّرْ

ص: 272


1- تفسير مجمع البيان للطبرسي 10: 433.
2- الكافي للكليني 6: 280/ باب آخر في التقدير وأنَّ الطعام لا حساب له/ ح 2.

تَبْذِيراً. إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً﴾(1)

ثالثاً: مما يُهوّن الحساب.

من الأمور الوجدانية: أنَّ محاسبة الإنسان -ولو في الأمور الدنيوية- تستلزم نوعًا من الضغط النفسي والخوف من التقصير في العمل والخوف من نتائج الحساب وما شابه، فعندما يحاسب مدير العمل موظفيه، يولّد هذا الحساب ضغطًا نفسيًا لدى الموظف؛ لذلك يلجأ الإنسان في الدنيا إلى بعض الأمور التي من شأنها أنْ تُخفف من وطأة الحساب أو تعفيه منه تمامًا، كأن يوسِّط بينه وبين المدير واسطة، أو يُكمل عمله على أكمل وجه ليخفف الضغط النفسي.

فكيف إذا كان المحاسِب هو الله(عزّ و جلّ)، وكان الحاكم هو الشاهد، والشاهد هو الحاكم؟! بل كيف إذا شهدت علينا جوارحنا والأرض التي نمشي عليها والزمان الذي كنا فيه؟!

كيف سيكون الضغط النفسي في وقت الحساب وعند دخولنا قاعة المحكمة؟!

إنّه لموقفٌ عظيم؛ ولذلك ذكرت بعض الروايات الشريفة -من باب الرحمة والمنة والتخفيف على الإنسان- بعض الأمور التي تُهوِّن من الحساب على الإنسان، فعلينا أنْ نلتزم بها ليخفف عنا الحساب يوم القيامة إنْ شاء الله(عزّ و جلّ)، وهي:

1/صلة الرحم:

يقول الإمام الباقر (علیه السّلام): «صلة الأرحام تُزكّي الأعمال، وتُنمّي الأموال، وتدفع البلوىٰ، وتُيسِّر الحساب، وتُنسئ في الأجل»(2).

ص: 273


1- الإسراء 26 و 27.
2- الكافي 2: 150/ باب صلة الرحم/ ح 4.

ويقول الإمام الصادق (علیه السّلام): «إنَّ صلة الرحم والبرَّ ليُهوِّنان الحساب، ويعصمان من الذنوب، فصِلوا أرحامكم، وبرّوا بإخوانكم، ولو بحسن السلام وردِّ الجواب»(1).

فإذا كان الإنسان وصولًا لرحمه، فإنه سيخفف عنه الحساب إن شاء الله تعالى.

2/القناعة:

عن الرسول (صلّی الله علیه و آله): «واقنع بما أُتيته، يخف عليك الحساب».(2)

وهذا يعني: أنه إذا صارت لديك قناعةً بما يقسمه الله(عزّ و جلّ) لك، فإنه سيهون عليك الحساب.

3/ التخفيف من التعلق بالدنيا:

عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنّه قال:...واعلم أن الخلائق لم يوكلوا بشيء أعظم من التقوى، فإنه وصيتنا أهل البيت، فإن استطعت أن لا تنال من الدنيا شيئاً تُسأل عنه غداً فافعل.(3)

يعني أنّ لك أنْ تأخذ من الدنيا، ولكن يجب أنْ يكون بالحلال، وأنْ لا تأخذ منها ما يُخرجك عن دين الله(عزّ و جلّ) وعن التقوى.

4/ حسن الخلق:

عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال:... حسّن خُلُقك، يخفّف اللهُ حسابك..(4)

ص: 274


1- الكافي 2: 157/ باب صلة الرحم/ ح 31.
2- أعلام الدين في صفات المؤمنين للحسن بن محمد الديلمي ص 344.
3- بحار الأنوار ج72 ص 365.
4- الأمالي للشيخ الصدوق ص 278 من حديث 308 / 9.
رابعاً: معنى: سوء الحساب.

ورد في بعض الآيات التعبير عن بعض مواقف الحساب (بسوء الحساب) مثل قوله(عزّ و جلّ): ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ﴾.(1)

فما هو معنى سوء الحساب؟

قد يتصور البعض إلى أنّ الحساب نفسه سيءٌ، ولكن ليس من المعقول ذلك إذا كان الحساب من الله تعالى؛ فإنّه(عزّ و جلّ) الحاكم العدل الرحمن الرحيم، وهو من يحاسب الإنسان برحمته.

وإنّما معنى سوء الحساب هو الاستقصاء على كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ وعدم الغض والتهاون في الأمور الصغيرة، أي يكون الحساب دقيقًا جدًا؛ فيوصف بأنّه حسابٌ سيءٌ؛ لما يشتمل عليه من الضغط النفسي، ولا شك أن الله تعالى لو حاسبنا بهذه الطريقة لضاعت علينا السبل ولم نجد منجىً منه سواه، قال تعالىٰ: ﴿وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾.(2)

وقال تعالىٰ: ﴿وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً﴾.(3)

وهذا ما استفيد من بعض الروايات، فعن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنَّه قال لبعض شيعته: «ما بال أخيك يشكوك؟»، فقال: يشكوني أن استقصيتُ عليه حقّي؟! فجلس (علیه السّلام)

ص: 275


1- الرعد: 21.
2- النحل: 61.
3- فاطر: 45.

مغضباً ثمّ قال: «كأنَّك إذا استقصيت عليه حقَّك لم تسئ! أرأيتك ما حكىٰ الله عن قوم يخافون سوء الحساب، أخافوا أن يجور الله عليهم؟! لا، ولكنْ خافوا الاستقصاء، فسمّاه الله سوء الحساب، فمن استقصىٰ فقد أساء»(1).

خامساً: نتيجة الحساب
القسم الأول: أصحاب الجنة:
النقطة الأولى: شروط دخول الجنة.
الأول: قوله(عزّ و جلّ): ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَی * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾

سينقسم الناس نتيجة الحساب الذي سيُحاسب الله(عزّ و جلّ) به جميع البشر إلى قسمين، وهما أصحاب الجنة وأصحاب النار.

القسم الأول: أصحاب الجنة:

ونذكر هنا عدة نقاط:

النقطة الأولى: شروط دخول الجنة.

إنّ دخول الجنة ليس بالأمر المجاني، وإنّما له شروط وواجبات لا بُدّ من التزامها، ذكرتها الآيات والروايات المُفسرة تفصيلًا، سنذكر منها اثنين ترغيبًا للالتزام بها:

الأول: قوله(عزّ و جلّ): ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾(2).

الآيةُ واضحةٌ في أنّ الجنة تكون مأوىً لمن حققّ في نفسه شرطين:

1/الخوف من الله(عزّ و جلّ).

2/السيطرة على النفس وكبح جماحها، وهو نتيجةٌ حتمية للالتزام بالشرط الأول.

إنّ أبغض إلهٍ عُبِد على وجه الأرض هو ﴿الْهَوَىٰ﴾ وقد نهى الله تعالى عن اتباعه،

ص: 276


1- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 372).
2- سورة النازعات: آية [40،41]

وحيث إنَّ من يخاف الله(عزّ و جلّ) فإنه ينتهي عن مناهيه، فهو يعمل على اجتنابه، والهوى –إنْ صحَّ التعبير- مصدر المعاصي والدافع الأساسي إليها، وباجتنابه يكون الإنسان قد سيطر على نفسه وكبح جماحها مبتعدًا عن جميع المعاصي.

بيان: معنى ﴿مَقَامَ رَبِّهِ﴾.

ذكرت الآية المباركة: ﴿مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾، ولم تقل: (خاف ربه)، وفيها دلالة عميقة ولطيفة في آنٍ واحد، وهي: أنَّ الإنسان لا يخاف من الله(عزّ و جلّ)؛ لأنه (سبحانه و تعالی)خيرٌ محض، وكله رحمة ورأفة، فذات الله(عزّ و جلّ) لا يُخاف منها، وإنّما الخوف هو من مقامه(سبحانه و تعالی).

ما المقصود من هذا المقام؟

ذُكِرت عدة آراء، ومنها:

1/مواقف القيامة

يقف الإنسان يوم القيامة مواقفَ ومقاماتٍ بين يدي ربه تعالى للحساب، يتعرضُ فيها للضغط النفسي والخوف أيضًا، وعلى هذا يكون معنى﴿خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ أنَّ المؤمن يخاف مواقف يوم القيامة التي تُنسي الوالد ولده، وتبعث على الفرار من الأقربين، كما تقدّم ذكره في المباحث السابقة، حيثُ الكلُّ ينادي نفسي نفسي إلا رسول الله الأعظم (صلّی الله علیه و آله) فإنه يقول: «ربي أمتي أمتي».

وقد روي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنه قال لأبي ذر: ولو كان لرجل عمل سبعين نبياً لاستقلّ عمله من شدة ما يرى يومئذ، ولو أن دلواً صُبّ من غسلين في مطلع الشمس لغلت منه جماجم من في مغربها، ولو أن زفرات جهنم زفرت لم يبق ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خرّ جاثياً على ركبتيه، يقول: رب نفسي نفسي حتى ينسى إبراهيم

ص: 277

إسحاق3 يقول: يا رب أنا خليلك إبراهيم، لا تنسني.(1)

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السّلام) قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ (صلّی الله علیه و آله): أَخْبَرَنِي الرُّوحُ الأَمِينُ أَنَّ الله لَا إِلَه غَيْرُه إِذَا وَقَفَ الْخَلَائِقَ وجَمَعَ الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ، أُتِيَ بِجَهَنَّمَ تُقَادُ بِأَلْفِ زِمَامٍ، أَخَذَ بِكُلِّ زِمَامٍ مِائَةُ أَلْفِ مَلَكٍ مِنَ الْغِلَاظِ الشِّدَادِ، ولَهَا هَدَّةٌ وتَحَطُّمٌ(2) وزَفِيرٌ وشَهِيقٌ، وإِنَّهَا لَتَزْفِرُ الزَّفْرَةَ، فَلَوْ لَا أَنَّ الله(عزّ و جلّ) أَخَّرَهَا إِلَى الْحِسَابِ لأَهْلَكَتِ الْجَمِيعَ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا عُنُقٌ يُحِيطُ بِالْخَلَائِقِ الْبَرِّ مِنْهُمْ والْفَاجِرِ، فَمَا خَلَقَ الله عَبْداً مِنْ عِبَادِه مَلَكٍ ولَا نَبِيٍّ إِلَّا ويُنَادِي: يَا رَبِّ، نَفْسِي نَفْسِي. وأَنْتَ تَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي.

ثُمَّ يُوضَعُ عَلَيْهَا صِرَاطٌ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ وأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ، عَلَيْه ثَلَاثُ قَنَاطِرَ: الأُولَى عَلَيْهَا الأَمَانَةُ والرَّحْمَةُ، والثَّانِيَةُ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ، والثَّالِثَةُ عَلَيْهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا إِلَه غَيْرُه، فَيُكَلَّفُونَ الْمَمَرَّ عَلَيْهَا، فَتَحْبِسُهُمُ الرَّحْمَةُ والأَمَانَةُ، فَإِنْ نَجَوْا مِنْهَا حَبَسَتْهُمُ الصَّلَاةُ، فَإِنْ نَجَوْا مِنْهَا كَانَ الْمُنْتَهَى إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ جَلَّ ذِكْرُه، وهُوَ قَوْلُ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ﴾(3) والنَّاسُ عَلَى الصِّرَاطِ، فَمُتَعَلِّقٌ تَزِلُّ قَدَمُه وتَثْبُتُ قَدَمُه، والْمَلَائِكَةُ حَوْلَهَا يُنَادُونَ: يَا كَرِيمُ يَا حَلِيمُ، اعْفُ واصْفَحْ وعُدْ بِفَضْلِكَ وسَلِّمْ. والنَّاسُ يَتَهَافَتُونَ(4) فِيهَا كَالْفَرَاشِ، فَإِذَا نَجَا نَاجٍ بِرَحْمَةِ الله (تَبَارَكَ وتَعَالَى) نَظَرَ إِلَيْهَا فَقَالَ: الْحَمْدُ لله الَّذِي نَجَّانِي مِنْكِ بَعْدَ يَأْسٍ بِفَضْلِه ومَنِّه، إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ».(5)

2/علم الله(عزّ و جلّ)

ص: 278


1- الأمالي للشيخ الطوسي ص 533 من حديث رقم (1162 / 1)
2- الهدة: صوت وقع الحائط ونحوه والتحطم: التلظي، ويقال: تحطم الرجل غيظا أي تلظى. [هامش المصدر]
3- الفجر: 14. والمرصاد: الطريق والمكان يرصد فيه العدو. [هامش المصدر]
4- التهافت: التساقط قطعة قطعة. [هامش المصدر]
5- الكافي للكليني ج8 ص 312 و 313 ح 468.

لله (سبحانه و تعالی)مقام مراقبة الإنسان، قال(عزّ و جلّ): ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾.(1)

فاللهُ(عزّ و جلّ) يراقب كلَّ نفسٍ ويُحصي عليها ما كسبت، فإذا عاش الإنسان الإحساس بأنّ الله(عزّ و جلّ) مطلعٌ عليه ويُحصي عليه أنفاسه، عندئذٍ سيؤدي به هذا العلم والشعور بالمراقبة الإلهية إلى أنْ ينهى النفس عن الهوى.

عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) فِي قَوْلِ الله(عزّ و جلّ): ﴿ولِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّه جَنَّتانِ﴾ قَالَ: مَنْ عَلِمَ أَنَّ الله(عزّ و جلّ) يَرَاه ويَسْمَعُ مَا يَقُولُه ويَفْعَلُه مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، فَيَحْجُزُه ذَلِكَ عَنِ الْقَبِيحِ مِنَ الأَعْمَالِ، فَذَلِكَ الَّذِي ﴿خافَ مَقامَ رَبِّه ونَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى﴾.(2)

3/ مقام العدالة الإلهية.

أي إنَّ المؤمن يخاف مقام العدالة الإلهية، لا من الذات المقدسة؛ لأنّها كُلُّها رحمة، وإنّما الخوف من عدل الله(عزّ و جلّ)؛ لأنَّ الإنسان إذا نظر إلى أعماله وقاسها بعدله(عزّ و جلّ)، فسيرى نفسه خاسرًا لا محالة، فإنه(عزّ و جلّ) إذا أراد أن يحاسب الإنسان بعدله فإنَّ نعمة واحدة -نعمة البصر مثلًا- تذهب بكلِّ أعماله الصالحة، إذ لا يبلغ الإنسان شكر الله(عزّ و جلّ) على هذه النعمة مهما أتى من عبادات ومهما قام به من طاعات وقربات، فكيف ونعمه فوق حدِّ الإحصاء، قال(عزّ و جلّ): ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها﴾.(3)

فلو كان كل الناس عمياناً لما تطوّرت الحياة، ولما كانت كلّ هذه الحضارة والتقدم والتكنولوجيا، فإنّ هذه النعمة الواحدة (نعمة العين) تكفي أنْ تذهب جميع أعمال

ص: 279


1- سورة الرعد: آية [33]
2- الكافي للكليني ج2 ص 80 بَابُ اجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ ح1.
3- إبراهيم 34.

الإنسان الصالحة أمامها؛ لذلك نحن دائمًا ندعو الله(عزّ و جلّ) أنْ يعاملنا بعطفه ورحمته وجوده ومنّه؛ لأنّه إذا عاملنا بعدله فنحن مقصرون لا محالة، وعاجزون عن شكر أصغر نعمه (تبارك وتعالى) علينا.

الثاني: ولاية أهل البيت (علیهم السّلام) حسب حديث السلسلة الذهبية.

يبين هذا الحديث الشريف أن شرط دخول الجنة هي ولاية أهل البيت (علیهم السّلام)، ونصه واضح جداً في هذا المعنى، إذ روي عن إسحاق بن راهويه قال: لما وافى أبو الحسن الرضا (علیه السّلام) نيسابور، فأراد أن يرحل منها إلى المأمون، اجتمع إليه أصحاب الحديث فقالوا له: يا بن رسول الله، ترحل عنا ولا تحدثنا بحديث نستفيده منك؟ وكان قد قعد في العمارية فاطلع رأسه وقال: «سمعت أبي موسى بن جعفر يقول: سمعت أبي جعفر بن محمد يقول: سمعت أبي محمد بن علي يقول: سمعت أبي علي بن الحسين يقول: سمعت أبي الحسين بن علي يقول: سمعت أبي علي بن أبي طالب يقول: سمعت رسول الله (صلّی الله علیه و آله) يقول: سمعت جبرئيل يقول: سمعت الله(عزّ و جلّ) يقول: (لا إله إلا الله) حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي»، فلما مرت الراحلة نادى: «بشروطها وأنا من شروطها».(1)

هذه الرواية تنقل حديثًا قدسيًا عن الله(عزّ و جلّ) أنَّ كلمة (لا إله إلا الله) هو حصن الله(عزّ و جلّ) ومن يدخل هذا الحصن يأمن من العذاب، ولكن نبّه الإمام (علیه السّلام) أنَّ لهذا الحصن شرطًا وهو: أنْ يتمَّ التوحيد الذي هو حصنُ الله(عزّ و جلّ) من العذاب بالولاية لأهل البيت (علیهم السّلام).

وفي حديثٍ أصرح من هذا أيضًا، وهو حديثٌ قدسيٌ، عن علي بن موسى الرضا (علیه السّلام) عن أبيه عن آبائه عن علي بن أبي طالب (علیهم السّلام) عن النبي (صلّی الله علیه و آله) عن جبرئيل عن ميكائيل عن إسرافيل عن اللوح عن القلم قال: «يقول الله(عزّ و جلّ): ولاية علي بن أبي طالب حصني، فمن

ص: 280


1- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق ص7.

دخل حصني أمن من عذابي».(1)

وببيانٍ آخر:

إن ولاية أهل البيت (علیهم السّلام) هي المنجية يوم القيامة، وهي شرط دخول الجنة، ونبين ذلك عبر عدة خطوات:

الخطوة الأولى: إنّ التوحيد يقود إلى الجنة.

لما روي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: والذي بعثني بالحق بشيراً، لا يعذّب الله بالنار موحداً أبداً، وإن أهل التوحيد ليشفعون فيشفعون.(2)

الخطوة الثانية: لهذا التوحيد شرط قبول، وهو الإخلاص.

أي إنّ هذا التوحيد الذي يُثمر دخول الجنة هو التوحيد المقترن بالإخلاص، وإلا، فمن دونه [الإخلاص] فالمؤمن توحيده ناقصٌ وربما يقوده إلى النار؛ فعنه (صلّی الله علیه و آله): «إن (لا إله إلا الله) كلمة عظيمة كريمة على الله(عزّ و جلّ)، من قالها مخلصًا استوجب الجنة، ومن قالها كاذبًا عصمت ماله ودمه، وكان مصيره إلى النار».(3)

الخطوة الثالثة: كيف يتحقق الإخلاص بالتوحيد؟

بعد أنْ بيّنتِ الروايات أنّ شرط التوحيد بالإخلاص، صرّحت أنّ ذلك الإخلاص هو ولايةُ أهل البيت (علیهم السّلام)، فمعنى الإخلاص هو ولاية أهل البيت (علیهم السّلام).

فعن أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي، قال: كنت مع الرضا (علیه السّلام) لما دخل نيسابور وهو راكب بغلة شهباء، وقد خرج علماء نيسابور في استقباله، فلما سار إلى المرتعة

ص: 281


1- عيون أخبار الرضا (علیه السّلام) للشيخ الصدوق ج2 ص 146 باب (38) باب خبر نادر عن الرضا (علیه السّلام).
2- الأمالي للشيخ الصدوق ص 372 ح 469 / 10.
3- التوحيد للشيخ الصدوق ص23 ح18.

تعلقوا بلجام بغلته، وقالوا: يا بن رسول الله، حدثنا بحق آبائك الطاهرين، حدثنا عن آبائك (علیهم السّلام)، فأخرج رأسه من الهودج وعليه مطرف خز، فقال: «حدثني أبي موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين سيد شباب أهل الجنة، عن أبيه أمير المؤمنين عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله)، قال: أخبرني

جبرئيل الروح الأمين، عن الله (تقدست أسماؤه وجل وجهه) قال: إني أنا الله، لا إله إلا أنا وحدي عبادي فاعبدوني، وليعلم من لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا الله مخلصا بها، أنه قد دخل حصني، ومن دخل حصني أمن عذابي».

قالوا: يا بن رسول الله، وما إخلاص الشهادة لله؟ قال. «طاعة الله ورسوله، وولاية أهل بيته (علیهم السّلام)».(1)

وعن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: «جاء أعرابي إلى النبي (صلّی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله، هل للجنة من ثمن؟ قال: نعم. قال: ما ثمنها؟ قال: (لا إله إلا الله) يقولها العبد الصالح مخلصا بها. قال: وما إخلاصها؟ قال: العمل بما بعثت به في حقه، وحب أهل بيتي. قال: وحب أهل بيتك لمن حقها؟ قال: أجل، إن حبهم لأعظم حقها».(2)

وفي صحيحة أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من شهد أن لا إله إلا الله فليدخل الجنة. قال: قلت: فعلى مَ تخاصم الناس إذا كان من شهد أنْ لا إله إلا الله دخل الجنة؟! فقال: إنه إذا كان يوم القيامة نسوها».(3)

وفي صحيحته الثانية عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: «يَا أَبَانُ، إِذَا قَدِمْتَ الْكُوفَةَ فَارْوِ هَذَا الْحَدِيثَ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله مُخْلِصاً وَجَبَتْ لَه الْجَنَّةُ. قَالَ: قُلْتُ لَه: إِنَّه يَأْتِينِي مِنْ

ص: 282


1- أمالي الشيخ الطوسي ص589 ح1220/ 9.
2- أمالي الشيخ الطوسي ص583/ ح 1207/ 12.
3- المحاسن للبرقي ج1 ص 181 باب 42 ح 173.

كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الأَصْنَافِ، أفَأَرْوِي لَهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ؟! قَالَ: نَعَمْ يَا أَبَانُ، إِنَّه إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وجَمَعَ الله الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ فَتُسْلَبُ (لَا إِلَه إِلَّا الله) مِنْهُمْ، إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى هَذَا الأَمْرِ».(1)

النقطة الثانية: موانع دخول الجنة.

كما أنَّ لدخول الجنة شروطًا ومقتضياتٍ، كذلك هناك موانعُ تمنع من دخولها، وهي عبارةٌ عن أعمالٍ وأقوالٍ من شأنها أنْ تكون مانعًا من دخول الجنة، مما يعني أنّها من مقتضيات دخول جهنم نستجير بالله تعالى، والروايات كثيرةٌ في هذا المجال، نذكرُ منها:

1/الكِبْر.

روي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «لا يدخل الجنَّة عبد في قلبه مثقال ذرَّة من خردل من كبر، ولا يدخل النار عبد في قلبه مثقال حبَّة من خردل من إيمان»، قلت: جُعلت فداك، إنَّ الرجل ليلبس الثوب ويركب الدابَّة، فيكاد يعرف من نفسه الكبر؟ قال: «ليس ذلك بكبر، إنَّما الكبر إنكار الحقِّ، والإيمان إقرار بالحقِّ»(2).

ولقد كان من أهم صفات رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنه كان متواضعًا مع نفسه وأصحابه وحتى مع الأطفال، فقد كان يبدأهم بالسلام لتكون سنةً من بعده (صلّی الله علیه و آله).

فقد روي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «خمس لا أدعهنَّ حتَّىٰ الممات: الأكل علىٰ الحضيض مع العبيد، وركوبي الحمار مؤكفاً، وحلب العنز بيدي، ولبس الصوف، والتسليم علىٰ الصبيان، لتكون سُنَّة من بعدي».(3)

ص: 283


1- الكافي للكليني ج2 ص521 بَابُ مَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مُخْلِصاً ح1.
2- ثواب الأعمال: 221 و222.
3- الخصال للشيخ الصدوق: ص 271.

2/القول الفاحش وقلة الحياء.

قَالَ رَسُولُ الله (صلّی الله علیه و آله): «إِنَّ الله حَرَّمَ الْجَنَّةَ عَلَى كُلِّ فَحَّاشٍ بَذِيءٍ قَلِيلِ الْحَيَاءِ، لَا يُبَالِي مَا قَالَ ولَا مَا قِيلَ لَه، فَإِنَّكَ إِنْ فَتَّشْتَه لَمْ تَجِدْه إِلَّا لِغَيَّةٍ أَوْ شِرْكِ شَيْطَانٍ. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ الله، وفِي النَّاسِ شِرْكُ شَيْطَانٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله (صلّی الله علیه و آله): أمَا تَقْرَأُ قَوْلَ الله(عزّ و جلّ): ﴿وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ﴾(1)..».(2)

3/الدياثة.

روي عن الإمام الصادق (علیه السّلام): «حُرِّمَتِ الْجَنَّةُ عَلَى الدَّيُّوثِ».(3)

4/عقوق الوالدين.

روي عن الرسول (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «الجنةُ حرامٌ على عاقِّ والديه».(4)

ولنضع في الحسبان أنه ورد أنَّ من لم يبر والديه في حياتهما فليبرهما بعد مماتهما، فيدعو لهم ويعمل أعمال الخير لهم ويتصدق عنهم فيستدرك ما بدر منه عن عقوق والديه.

فعن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (علیه السّلام)، قال: «إنَّ العبد ليكون بارّاً بوالديه في حياتهما، ثمّ يموتان فلا يقضي عنهما ديونهما، ولا يستغفر لهما، فيكتبه الله(عزّ و جلّ) عاقّاً. وإنَّه ليكون عاقّاً لهما في حياتهما غير بارٍّ بهما، فإذا ماتا قضىٰ دينهما واستغفر لهما، فيكتبه الله(عزّ و جلّ) بارّاً»(5).

وقد روي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنَّه قال: «مرَّ عيسىٰ بن مريم (علیه السّلام) بقبر يُعذَّب صاحبه،

ص: 284


1- الإسراء: 64.
2- الكافي للكليني ج2 ص 323 و 324 بَابُ الْبَذَاءِ ح3.
3- الكافي للكليني ج5 ص 537 بَابُ الْغَيْرَةِ ح8.
4- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورام) ص 437.
5- الكافي للكليني 2: 163/ باب البرِّ بالوالدين/ ح 21.

ثمّ مرَّ به من قابل فإذا هو لا يُعذَّب، فقال: يا ربِّ، مررت بهذا القبر عام أوَّل فكان يُعذَّب، ومررت به العام فإذا هو ليس يُعذَّب؟ فأوحىٰ الله إليه أنَّه أُدرك له ولد صالح فأصلح طريقاً وآوىٰ يتيماً، فلهذا غفرت له بما فعل ابنه...»(1).

5/النميمة.

روي عنه (صلّی الله علیه و آله): «لا يدخل الجنة قتات».(2)

والقتات هو النمام أو الذي يستمع للناس من دون أن يعلموا فينمَّ عليهم.

6/الجور.

روي عنه (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «إيّاك والجور؛ فإنّ الجائر لا يريح رائحة الجنة».(3)

7/الجحود بولاية أهل البيت (علیهم السّلام).

عنه (صلّی الله علیه و آله): «لما أسري بي إلى السماء أوحى إلي ربي جل جلاله فقال: يا محمد، إني أطلعت على الأرض إطلاعة فاخترتك منها فجعلتك نبيا وشققت لك من اسمي اسماً، فأنا المحمود وأنت محمد، ثم أطلعت الثانية فاخترت منها علياً، وجعلته وصيك وخليفتك وزوج ابنتك وأبا ذريتك، وشققت له اسماً من أسمائي، فأنا العلي الأعلى وهو علي، وخلقت فاطمة والحسن والحسين من نوركما، ثم عرضت ولايتهم على الملائكة، فمن قبلها كان عندي من المقربين، يا محمد لو أن عبداً عبدني حتى ينقطع ويصير كالشن

ص: 285


1- الكافي للكليني 6: 3 و4/ باب فضل الولد/ ح 12.
2- الأمالي للشيخ الصدوق ص 511 مناهي النبي (صلّی الله علیه و آله).
3- موسوعة أحاديث أهل البيت (علیهم السّلام) للشيخ هادي النجفي ج2 ص 437 ح [2350] 10 نقلاً عن الآمدي في غرره (ح 2670).

البالي(1)، ثم أتاني جاحدا لولايتهم فما أسكنته جنتي ولا أظللته تحت عرشي..».(2)

8/الصلاة البتراء.

عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «من صلى عليّ ولم يصلِّ على آلي، لم يجد ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام».(3)

9/الشرك وإدمان الخمر.

روي عنه (صلّی الله علیه و آله): «إن الله تبارك وتعالى بنى الفردوس بيده، وحظره على كل مشرك وكل مدمن الخمر سكير».(4)

10/الرد على الله(عزّ و جلّ) أو الإمام وحبس حق المؤمن.

روي عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنّه قال: إنّ الله (تبارك وتعالى) آلى على نفسه أنْ لا يسكن جنته أصنافًا ثلاثة: رادٌّ على الله(عزّ و جلّ) أو رادٌّ على إمام هدى أو من حبس حق امرئٍ مؤمن».(5)

النقطة الثالثة: الجنةُ درجاتٌ.

مُخطئٌ من يظن أنّ الجنة درجةٌ واحدة أو أنّ كلَّ الذين يدخلون الجنة سيكونون بمكانٍ واحد، فالجنةُ درجاتٌ ومراتبُ، ولا بُد للإنسان أنْ يسعى لأن يكون في المراتب العليا من الجنة وإلا ستصيبه الحسرة حينئذ.

ص: 286


1- الشن البالي: الأسقية الخلقة التعبانة القديمة
2- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 252 ب 23 ح2.
3- الأمالي للشيخ الصدوق ص 267 ح291 / 12.
4- شعب الإيمان للبيهقي ج5 ص 11 ح 5590.
5- الخصال للشيخ الصدوق ص 151 ح 185.

قال عز من قائل: (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾(1)

وعن النبي الأكرم (صلّی الله علیه و آله) أنه كان يقول: «ذر الناس يعملون، فإن الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة وأوسطها، وفوقها عرش الرحمن، ومنها تفجر أنهار الجنة، فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس».(2)

وفي رواية أخرى: «الجنة مائة درجة، لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم».(3)

بل ورد في بعض الروايات الشريفة أن الفردوس نفسها فيها درجات مختلفة، فقد ورد عن النبي الأكرم (صلّی الله علیه و آله):... «من صلى صلاة الفجر في جماعة ثم جلس يذكر الله(عزّ و جلّ) حتى تطلع الشمس، كان له في الفردوس سبعون درجة، بعد ما بين كل درجتين كحضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة(4)، ومن صلى الظهر في جماعة كان له في جنات عدن خمسون درجة بعد ما بين كل درجتين كحضر الفرس الجواد خمسين سنة، ومن صلى العصر في جماعة كان له كأجر ثمانية من ولد إسماعيل كل منهم رب بيت يعتقهم، ومن صلى المغرب في جماعة كان له كحجة مبرورة وعمرة مقبولة، ومن صلى العشاء في جماعة كان له كقيام ليلة القدر..».(5)

وقد يسأل سائل: ما الذي يؤدي إلى تفاضل الناس بين هذه الدرجات؟

ص: 287


1- الإسراء 21.
2- كنز العمال للمتقي الهندي ج14 ص 455 ح 39238.
3- كنز العمال للمتقي الهندي ج14 ص 451 ح 39222.
4- الحضر: ارتفاع الفرس في عدوه، وضمْر الفرس للسباق: ربطه وعلفه وسقاه كثيرا مدة، ثم يركضه في الميدان حتى يخف ويدق ويقل لحمه. [هامش المصدر]
5- الأمالي الشيخ الصدوق ص 123 – 124 ح 113 / 1.

يمكن الجواب بالاستفادة من الروايات الشريفة إذ إنّها تشير إلى أسبابٍ ومنها:

1/المعرفة.

فكلما ازدادت معرفة الإنسان، كلما ارتفعت درجته في الجنة؛ فطريقُ طلب العلم هو في الحقيقة ليس طريقًا لحصول الطالب على الدرجات العليا في الدنيا فحسب، بل غاية طالب العلم هو أنْ يرتفع قدره عند الله(عزّ و جلّ)، ومن ثم سيرتقي بدرجاتٍ عليا في الجنة.

روي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: إنما يرتفع العباد غداً في الدرجات وينالون الزلفى من ربهم على قدر عقولهم.(1)

2/العمل.

فكلما زاد عمل الإنسان كلما زادت درجته في الجنة، فقد ورد عن الرسول (صلّی الله علیه و آله): «أنّ رجلًا أدخل الجنة فرأى عبده فوق درجته فقال يا رب هذا عبدي فوق درجتي بالجنة؟ فيُجيبه الله(عزّ و جلّ): نعم، جزيته بعمله وجزيتك بعملك».

3/الدعاء والطلب من الله(عزّ و جلّ)

ورد في رواياتٍ أخرى بما مضمونها أنّ الدعاء والطلب من الله(عزّ و جلّ) يزيد من فرصة الحصول على الدرجات العليا في الجنة، فقد ورد أنَّ اثنين يدخلان الجنة فيجد أحدهما صاحبه في درجةٍ أعلى منه وهما لهما نفس العمل، فيسال الله(عزّ و جلّ) عن السبب فيقول الله(عزّ و جلّ): هو دعاني وطلب مني وأنت لم تطلب، فيلزم أن ندعو الله(عزّ و جلّ) أنْ يرزقنا الدرجات العليا من فضله.

فقد روي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «يدخل الجنة رجلان، كانا يعملان عملاً واحداً،

ص: 288


1- تحف العقول للحراني ص 54.

فيرى أحدهما صاحبه فوقه فيقول: يا رب بما أعطيته وكان عملنا واحداً؟ فيقول الله تبارك وتعالى: سألني ولم تسألني. ثم قال (صلّی الله علیه و آله): اسألوا الله واجزلوا فإنه لا يتعاظمه شيء».(1)

سؤال:

لا شك أنّ أعظم الدرجات في الجنة يكون فيها النبي الأعظم (صلّی الله علیه و آله) وأنّ الروايات الشريفة أشارت إلى ذلك، فما هي الأعمال التي يمكن أن تجعل المؤمن أقرب من منزلة رسول الله (صلّی الله علیه و آله) في الجنة؟

ذكرت الروايات الشريفة بعض الأعمال التي تجعل المؤمن أقرب من منزلة رسول الله (صلّی الله علیه و آله) في الجنة، نذكر منها:

1/أنْ يكون المرء من شيعة أهل البيت (علیهم السّلام)، فقد ورد أنه أخذ رسول الله (صلّی الله علیه و آله) بيد الحسن والحسين فقال: «من أحب هذين الغلامين وأباهما وأمهما، فهو معي في درجتي يوم القيامة».(2)

2/أنْ يكفل يتيما، ففي بعض الروايات عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) قال: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا: وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما».(3)

3/بعض الأمور، فقد ورد عنه (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «من قلَّ ماله، وكثر عياله، وحسنت صلاته،ولم يغتبِ المسلمين، جاء يوم القيامة وهو معي كهاتين».(4)

4/ذكر مصاب أهل البيت (علیهم السّلام)، روي عن الإمام الرضا (علیه السّلام) أنّه قال: من تذكر

ص: 289


1- عدة الداعي ونجاح الساعي لابن فهد الحلي ص 36.
2- كامل الزيارات لجعفر بن محمد بن قولويه ص 117 باب 15 ح [128] 13.
3- الترغيب والترهيب من الحديث الشريف لعبد العظيم المنذري ج3 ص 346 ح 3831.
4- مجمع الزوائد للهيثمي ج10 ص 256.

مصابنا وبكى لما ارتكب منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب».(1)

القسم الثاني: أصحاب النار.
النقطة الأولى: الأسباب التي تؤدي إلى دخول جهنم.

بادئ ذي بدءٍ لا بُدّ أنْ نعلم أنَّ الله(عزّ و جلّ) لم يكن ليخلق النار لو أنَّ البشر جميعًا التزموا بأداء الواجبات واجتناب المحرمات، ولكن لأنهم ليسوا كذلك، كان من الضروري وضع حوافز لهم لدفعهم إلى ذلك، وهي الجنة، ولأنَّهم ليسوا جميعًا ممن يُجدي معه الترغيب بدخول الجنة نفعًا، اقتضت حكمة الله(عزّ و جلّ) خلق النار، وبذا كان هناك حافزان لالتزام عموم شرائع الله تعالى، وهما: الجنة والنار، وإلا فهناك صنفٌ من البشر -وهم الصفوة -لم تحملهم على التقوى جنةٌ ولا نار، وإنما حملهم عليها إحساسهم العالي بجليل نعم الله(عزّ و جلّ) عليهم، ثم إحساسهم الكبير بوجوب شكره (سبحانه و تعالی)، فيعبدونه لأجل ذلك حق عبادته. روي عن أمير المؤمنين (علیه السّلام): «إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ، وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ، وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ شُكْراً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْأَحْرَارِ».(2)

إذن، مما خلق الله(عزّ و جلّ) النار لأجله هو لتحفيز البشر على العبادة والالتزام، من خلال إخبارهم بأليم عذابها وعظيم عقابها لمن يعصي الله (سبحانه و تعالی)ويخالف أوامره ونواهيه، وإلا لو علموا أنّهم سيدخلون الجنة على أيةِ حال، فمن البعيد –ربما- أنْ يلتزم عوام الناس بأوامر الله تعالى ونواهيه، ولكان ارتكاب المعاصي واقتراف الذنوب أمرًا واردًا جدًا، بل نحن نرى أن بعضاً ممن يؤمن بوجود الجنة ونعيمها، والنار وعذابها، ويعرف الأوامر

ص: 290


1- الأمالي للشيخ الصدوق ص 131 ح 119 / 4.
2- نهج البلاغة حكمة رقم 234

والنواهي، يرتكب المعاصي، فكيف لو لم تكن هناك جهنمٌ ووعيدٌ بالعقاب؟!

بل ربما يكون الاختبار حينئذٍ عبثًا؛ لانعدام الثمرة المترتبة عليه، خصوصاً وأنّ الإنسان يميل عادةً إلى الانفلات وعدم الانضباط وينزع إلى التحرر من القواعد والقوانين، «بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ».(1)

ومن هنا نفهم بعض الحكمة من خلق الجنة والنار.

وهنا نذكر عدة نقاط:

النقطة الأولى: الأسباب التي تؤدي إلى دخول جهنم.(2)

يمكن أن نستفيد من الروايات الشريفة أنَّ هناك العديد من الأسباب أو المقتضيات التي يسبب ارتكابها من قبل الإنسان دخوله النار، نذكر منها:

1/الغفلة: فقد روي عن أمير المؤمنين (علیه السّلام): «لا تكن غافلًا عن دينك، حريصًا على دنياك، مستكثرًا مما لا يبقى عليك، مستقلًا مما يبقى لديك، فيوردُك ذلك العذاب الشديد».(3)

2/الاستكبار: ورد عن النبي (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «لا يدخل الجنة أحد فيه مثقال حبة من خردل من كبر..».(4)

3/الكفر: وقد روي عن النبي (صلّی الله علیه و آله): «إن الكافر ليلجمه العرق يوم القيامة، فيقول:

ص: 291


1- القيامة 5.
2- ذكر الشيخ محمد الريشهري (حفظه الله) في كتابه (الجنة والنار في الكتاب والسنة) أربعةً وسبعين عنوانًا من أسباب دخول النار والعياذ بالله.
3- عيون الحكم والمواعظ لليثي ص 527 و 528.
4- الأصول الستة عشر لعدة من المحدثين ص 75.

أرحني ولو إلى النار».(1)

4/الشرك: وقد ورد عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «إن الله(عزّ و جلّ) يحاسب كل خلق إلا من أشرك بالله، فإنه لا يُحاسَب يوم القيامة، ويؤمر به إلى النار».(2)

5/الارتداد: نذكّر هنا بما حدث بعد رسول الله الأعظم (صلّی الله علیه و آله) من ارتداد هذه الأمة على أدبارها وانقلابها على أعقابها، وبالرغم من ذلك لا زال البعض يؤمن بأنَّ جميع الصحابة عدول!

فقد ورد في بعض الروايات، ومنها مرويٌ في كتب العامة، أنَّ رسول الله (صلّی الله علیه و آله) يرى يوم القيامة من يحرم من أن يشرب من الحوض من الصحابة، عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: قال النبي (صلّی الله علیه و آله): «إنّي فرطكم على الحوض من مرّ علي شرب ومن شرب لم يظمأ أبدًا.

ثم يكمل (صلّی الله علیه و آله): ليردن عليّ أقوامٌ أعرفهم ويعرفونني ثم يُحال بيني وبينهم».

فقال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش فقال: هكذا سمعت من سهل؟ فقلت: نعم. فقال: أشهد على أبي سعيد الخدري لقد سمعته وهو يزيد فيها فيقول الرسول (صلّی الله علیه و آله): «فأقول إنّهم مني، فيُقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك؟ فأقول: سحقًا سحقًا لمن غيّر بعدي»(3).

6/الظلم: وقد ورد عن النبي (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «الحمد لله الذي... جعل الجنة ثواب المتقين، والنار عقاب الظالمين».(4)

ص: 292


1- مسند أبي يعلى لأبي يعلى الموصلي ج8 ص 398.
2- عيون أخبار الرضا (علیه السّلام) للشيخ الصدوق ج2 ص 37.
3- صحيح البخاري، ج2، ص 834، ح2238، وفي صحيح مسلم، ج4، ص1800، ح38.
4- دلائل الإمامة للطبري الشيعي ص 89 ح 24 / 24.

7/الركون إلى الظالم: بأن يكون الإنسان من أتباعه، كأن يتولاه أو يساعده أو يمدحه وما شابه، والأحاديث في هذا كثيرةٌ جدًا، نذكرُ ما روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) فِي قَوْلِ الله(عزّ و جلّ): «﴿ولا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾(1) قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَأْتِي السُّلْطَانَ فَيُحِبُّ بَقَاءَه إِلَى أَنْ يُدْخِلَ يَدَه إِلَى كِيسِه فَيُعْطِيَه».(2)

فحتى هذه الفترة اليسيرة التي يحب فيها الإنسان بقاء الظالم، ينطبق عليه تفسير الآية الشريفة!

وقد ورد عن الإمام الكاظم (علیه السّلام) رواية عن صفوان الجمال الكوفي وهو من أصحاب الإمام الصادق (علیه السّلام) والإمام الكاظم (علیه السّلام)، وهو رجلٌ صاحبُ تقوى، وكانت معيشتُه تعتمد على إجارةِ إبله. يقول: دخلت علىٰ أبي الحسن الأوَّل (علیه السّلام)، فقال لي: «يا صفوان، كلُّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً»، قلت: جُعلت فداك، أيُّ شيء؟ قال: «اكراؤك جمالك من هذا الرجل - يعني هارون -»، قلت: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا لصيد ولا للهو، ولكنّي أُكريه لهذا الطريق - يعني طريق مكَّة -، ولا أتولّاه بنفسي ولكن أنصب غلماني. فقال لي: «يا صفوان، أيقع كراؤك عليهم؟»، قلت: نعم جُعلت فداك، قال: فقال لي: «أتُحِبُّ بقاءهم حتَّىٰ يخرج كراؤك؟»، قلت: نعم، قال: «فمن أحبَّ بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان ورد النار».

قال صفوان: فذهبت وبعت جمالي عن آخرها، فبلغ ذلك إلىٰ هارون، فدعاني فقال لي: يا صفوان، بلغني أنَّك بعت جمالك؟ قلت: نعم، فقال: لِمَ؟ قلت: أنا شيخ كبير وإنَّ الغلمان لا يفون بالأعمال. فقال: هيهاتَ هيهاتَ أنّي لأعلم من أشار عليك بهذا موسىٰ بن جعفر، قلت: ما لي ولموسىٰ بن جعفر؟ فقال: دع هذا عنك، فوَالله لولا حسن

ص: 293


1- هود: 113. والركون الميل والاعتماد.
2- الكافي للكليني ج5 ص 108 و 109 بَابُ عَمَلِ السُّلْطَانِ وجَوَائِزِهِمْ / ح12.

صحبتك لقتلتك(1).

8/البدعة في الدين: والبدعةُ هي إدخال شيءٍ في الدين ليس من الدين، قال الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله): «أصحابُ البدع كلابُ النار».(2)

9/مخالفة أهل البيت (علیهم السّلام): ورد عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السّلام) قَالَ: «إِنَّ الله(عزّ و جلّ) نَصَبَ عَلِيّاً (علیه السّلام) عَلَماً بَيْنَه وبَيْنَ خَلْقِه، فَمَنْ عَرَفَه كَانَ مُؤْمِناً، ومَنْ أَنْكَرَه كَانَ كَافِراً، ومَنْ جَهِلَه كَانَ ضَالاًّ، ومَنْ نَصَبَ مَعَه شَيْئاً كَانَ مُشْرِكاً، ومَنْ جَاءَ بِوَلَايَتِه دَخَلَ الْجَنَّةَ».(3)

10/بغض أهل البيت (علیهم السّلام): ورد عن ابن عباس: أنه مر بمجلس من مجالس قريش وهم يسبون علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، فقال لقائده: ما يقول هؤلاء؟ قال: يسبون علياً. قال: قرّبني إليهم، فلما أن أوقف عليهم، قال: أيكم السابّ الله؟ قالوا: سبحان الله! من يسبّ الله فقد أشرك بالله. قال: فأيكم السابّ رسول الله (صلّی الله علیه و آله)؟ قالوا: من يسبّ رسول الله فقد كفر. قال: فأيكم السابّ علي بن أبي طالب؟ قالوا: قد كان ذلك. قال: فأشهد بالله وأشهد لله، لقد سمعت رسول الله (صلّی الله علیه و آله) يقول: «من سبّ علياً فقد سبّني، ومن سبّني فقد سبّ الله(عزّ و جلّ)»، ثم مضى.

فقال لقائده: فهل قالوا شيئاً حين قلت لهم ما قلت؟ قال: ما قالوا شيئاً. قال: كيف رأيت وجوههم؟ قال:

نظروا إليك بأعين محمرة *** نظر التيوس إلى شفار الجازر

قال: زدني فداك أبوك. قال:

خزر الحواجب، ناكسو أذقانهم *** نظر الذليل إلى العزيز القاهر

ص: 294


1- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي (ج 2/ ص 740/ ترجمة رقم 828).
2- كنز العمال للمتقي الهندي ج1 ص 218 ح 1094.
3- الكافي للكليني ج1 ص 437 بَابٌ فِيه نُتَفٌ وجَوَامِعُ مِنَ الرِّوَايَةِ فِي الْوَلَايَةِ/ ح7.

قال: زدني فداك أبوك. قال: ما عندي غير هذا. قال: لكن عندي.

أحياؤهم خزي على أمواتهم *** والميتون فضيحة للغابر.(1)

النقطة الثانية: موانع دخول جهنم.

وهي -من وجهٍ ثانٍ- مقتضياتُ دخول الجنة، وقد ذكرت الروايات والآيات الشريفة العديد منها(2)، نذكر منها:

1/الإيمان بالحدِّ الذي تقدّم بيانه، بأنّ الإيمان هو ليس مجرد كلام وإنّما هو: قولٌ باللسان، وعملٌ بالأركان، واعتقادٌ بالقلب والجنان.

في روايةٍ عَنْ زُرَارَةَ قَال:َ «قُلْتُ لأَبِي جَعْفَرٍ (علیه السّلام): يَدْخُلُ النَّارَ مُؤْمِنٌ؟ قَالَ (علیه السّلام): لَا والله..».(3)

وفي روايةٍ أخرى عن الإمام الصادق (علیه السّلام): «بِتَمَامِ الإِيمَانِ دَخَلَ الْمُؤْمِنُونَ الْجَنَّةَ، وبِالزِّيَادَةِ فِي الإِيمَانِ تَفَاضَلَ الْمُؤْمِنُونَ بِالدَّرَجَاتِ عِنْدَ الله، وبِالنُّقْصَانِ دَخَلَ الْمُفَرِّطُونَ النَّارَ».(4)

ص: 295


1- الأمالي للشيخ الصدوق ص 157 و 158 ح 151 / 2.
2- وهناك عناوين أخرى بلغت أربعين عنوانًا من موانع دخول نار جهنم حسب الروايات الشريفة، ذكرها الشيخ محمد الريشهري (حفظه الله) في كتابه (الجنة والنار في الكتاب والسنة)
3- الكافي للكليني ج2 ص 385 باب الكفر ح7، وتمام الرواية: عَنْ زُرَارَةَ قَال:َ قُلْتُ لأَبِي جَعْفَرٍ (علیه السّلام): «يَدْخُلُ النَّارَ مُؤْمِنٌ؟ قَالَ (علیه السّلام): لَا والله.. فَمَا يَدْخُلُهَا إِلَّا كَافِرٌ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا مَنْ شَاءَ الله. فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْه مِرَاراً قَالَ لِي: أَيْ زُرَارَةُ، إِنِّي أَقُولُ لَا، وأَقُولُ إِلَّا مَنْ شَاءَ الله، وأَنْتَ تَقُولُ: لَ،ا ولَا تَقُولُ إِلَّا مَنْ شَاءَ الله! قَالَ: فَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ وحَمَّادٌ عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: قُلْتُ فِي نَفْسِي: شَيْخٌ لَا عِلْمَ لَه بِالْخُصُومَةِ! قَالَ: فَقَالَ لِي: يَا زُرَارَةُ، مَا تَقُولُ فِيمَنْ أَقَرَّ لَكَ بِالْحُكْمِ، أتَقْتُلُه؟ مَا تَقُولُ فِي خَدَمِكُمْ وأَهْلِيكُمْ أتَقْتُلُهُمْ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: أَنَا والله الَّذِي لَا عِلْمَ لِي بِالْخُصُومَةِ».
4- الكافي للكليني ج2 ص 37 بَابٌ فِي أَنَّ الإِيمَانَ مَبْثُوثٌ لِجَوَارِحِ الْبَدَنِ كُلِّهَا/ ح1، والرواية طويلة.

2/ولاية أهل البيت (علیهم السّلام): وقد ثبت هذا في أكثر من مرةٍ، ففي الرواية عن النبي (صلّی الله علیه و آله)، قال: إذا كان يوم القيامة ونُصب الصراط على جهنم، لم يجز عليه إلا من معه جواز فيه ولاية علي بن أبي طالب، وذلك قوله(عزّ و جلّ): ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ﴾(1) يعني عن ولاية علي بن أبي طالب (علیه السّلام).(2)

3/التقوى: قال(عزّ و جلّ): ﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّىٰ. لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَىٰ. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ. وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَىٰ. الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّىٰ. وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزىٰ. إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلىٰ. وَلَسَوْفَ يَرْضىٰ﴾(3)

والتقوى هي العمل بالواجبات وترك المحرمات، وفي هذا المجال رواياتٌ كثيرةٌ جدًا، ورد عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) أنّه قال: «التقوى أوكد سببٍ بينك وبين الله إنْ أخذت به، وجُنةٌ من عذابٍ أليم».(4)

4/التوبة والاستغفار: وهو علاجٌ لمن خالف التقوى ووقع في الذنب، وقد ورد عن الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «فروا من فضول الدنيا كما تفرون من الحرام، وهونوا على أنفسكم الدنيا كما تهونون الجيفة، وتوبوا إلى الله من فضول الدنيا وسيئات أعمالكم، تنجوا من شدة العذاب».(5)

وفي حديثٍ آخر عنه (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «لا يزال العبد آمنًا من عذاب الله ما استغفر

ص: 296


1- الصافات 24.
2- الأمالي للشيخ الطوسي ص 290 /ح564 / 11.
3- الليل 14 – 21.
4- عيون الحكم والمواعظ لليثي ص 63.
5- مستدرك الوسائل للميرزا حسين النوري الطبرسي ج12 ص 54 /ح [13496] 8 نقلاً عن القطب الراوندي في لب اللباب.

الله».(1)

كما ورد في حديثٍ عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) قال: «لو أن الناس حين عصوا تابوا واستغفروا، لم يعذبوا ولم يهلكوا».(2)

فنحن لسنا معصومين، ومن المحتمل أنْ نواقع المعصية، ولكن هذا لا يعني أنْ نيأس من روح الله (سبحانه و تعالی)وإنّما علينا أنْ نتدارك فإن «كل بني آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون».(3)

5/حسن الخلق: فقد روي أنه سألت أُمُّ المؤمنين أُمُّ سَلَمة رسولَ الله (صلّی الله علیه و آله)، فقالت: بأبي أنت وأُمّي، المرأة يكون لها زوجان فيموتان فيدخلان الجنَّة لأيِّهما تكون؟ فقال: «يا أُمَّ سَلَمة، تَخيَّر أحسنهما خُلُقاً وخيرهما لأهله. يا أُمَّ سَلَمة، إنَّ حَسَنَ الخُلُق ذهب بخير الدنيا والآخرة»(4).

وفي الحديث عنه (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار غدًا؟ قيل: بلى يا رسول الله. قال: الهيّن الليّن القريب السهل».(5)

ومن الواضح أنّ هذه الصفات تكشف عن حسن الخلق.

كما تؤكد الروايات كثيرًا على أنّ من سمات شيعة أهل البيت (علیهم السّلام) حسن أخلاقهم، فالمؤمنُ هشٌ بش، وفي وصية الإمام الصادق (علیه السّلام) لابن جندب: «يا ابن جندب، إنَّما شيعتنا يُعرَفون بخصال شتّىٰ: بالسخاء والبذل للإخوان، وبأنْ يُصلُّوا الخمسين ليلاً

ص: 297


1- كنز العمال للمتقي الهندي ج1 ص 479 ح 2094.
2- عيون الحكم والمواعظ لليثي ص 417.
3- كنز العمال للمتقي الهندي ج4 ص 215 ح10220.
4- الخصال للصدوق: 42/ ح 34.
5- الخصال للشيخ الصدوق ص 238 ح83.

ونهاراً، شيعتنا لا يهرون هرير الكلب، ولا يطمعون طمع الغراب، ولا يجاورون لنا عدوًّا، ولا يسألون لنا مبغضاً ولو ماتوا جوعاً، شيعتنا لا يأكلون الجرّي، ولا يمسحون علىٰ الخفَّين، ويحافظون علىٰ الزوال، ولا يشربون مسكراً.

ولا تكن فظًّا غليظاً يكره الناس قربك، ولا تكن واهناً يُحقِّرك من عرفك..».(1)

6/الدفاع عن عرض المؤمن: فإذا اغتاب شخصٌ مؤمنًا أمامك أو انتقص منه أو نمَّ عليه أو بهته أو تجاوز على حرمته فدافعت عنه ولم تقبل، فهنيئًا لك العتق من النار إن شاء الله تعالى، فقد ورد عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «من رد عن عرض أخيه المسلم، وجبت له الجنة البتة».(2)

وفي حديثٍ آخر عنه (صلّی الله علیه و آله): «من رد عن عرض أخيه، كان له حجاباً من النار».(3)

7/تحصيل العلم: فإنّ العلم ليس غايةً في حدّ نفسه، وإنّما هو وسيلةٌ كما يقال في الفلسفة هو (وسيلةٌ لكشفِ الواقع) سواء كان علمًا بديهيًا أو نظرياً، وهو الأصل في غائية العلم، وبالتالي لا بد من إلحاقه بالعمل، فليس الهدف من العلم بعد كشف الواقع تكديسه في الذهن، وإنّما فضيلته في العمل به.

لو كان للعلمِ من غيرِ التُقى شرفٌ *** لكان أشرفَ كلِّ الناسِ إبليسُ

إنّ إبليس لم ينقصه علمٌ، لكنّ ما أهلكه هو عدم العمل به، فإنْ علمت أنَّ هذا الكلام محرمٌ وغيبةٌ، ورغم ذلك تكلمت به، حينئذٍ لم تستفد من هذا العلم ولم تنتفع به، وهكذا.

ومن هنا فقد أشارت الروايات الشريفة إلى أنّ أحد أهم ثمار العلم هو أنْ يكون

ص: 298


1- الوصية طويلة، تجدها في تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 302 وما بعدها).
2- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق ص 145.
3- الامالي للشيخ المفيد ص 338.

مانعًا من دخول جهنم، ولا شك أنه العلم الذي يعمل به صاحبه، فقد ورد في بعض الروايات: «يدخل جهنم عالمٌ لا يعمل بعلمه فأهل النار تتأذى من ناره».(1).

فالمقصود من تحصيل العلم هو التحصيل الذي يترتب عليه العمل فيكون مانعًا من دخول جهنم.

وقد ورد عن الرسول (صلّی الله علیه و آله): «مَن أحَبَّ أن يَنظُرَ إلى عُتَقاءِ اللهِ مِنَ النّارِ فَليَنظُر إلَى المُتَعَلِّمينَ، فَوَالَّذي نَفسي بِيَدِهِ، ما مِن مُتَعَلِّم يَختَلِفُ إلى بابِ العالِمِ المُعَلِّمِ إلاّ كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ قَدَم عِبادَةَ سَنَة، وبَنَى اللهُ لَهُ بِكُلِّ قَدَم مَدينَةً فِي الجَنَّةِ، ويَمشي عَلَى الأَرضِ وهِيَ تَستَغفِرُ لَهُ، ويُمسي ويُصبِحُ مَغفورًا لَهُ، وشَهِدَتِ المَلائِكَةُ أنَّهُم عُتَقاءُ اللهِ مِنَ النّارِ».(2)

8/تأليف كتابٍ -أو ولو ورقةٍ واحدة- في علم نافع: فقد روي عن النبي (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: المؤمن إذا مات وترك ورقة واحدة عليها علم، تكون تلك الورقة يوم القيامة سترا فيما بينه وبين النار، وأعطاه الله تبارك وتعالى بكل حرف مكتوب عليها مدينة أوسع من الدنيا سبع مرات، وما من مؤمن يقعد ساعة عند العالم، إلا ناداه ربه(عزّ و جلّ): جلست إلى حبيبي، وعزتي وجلالي لأسكننك الجنة معه ولا أبالي».(3)

ولعله لا يُشترط في ما يُكتب أن يكون منمقًا أو مبوبًا وما شابه ذلك، بل ولو كان

ص: 299


1- عن سُليم بن قيس الهلالي، قال: سمعت أمير المؤمنين (علیه السّلام) يُحدِّث عن النبيِّ (صلّی الله علیه و آله) أنَّه قال في كلام له: «العلماء رجلان: رجل عالم آخذ بعلمه فهذا ناجٍ، وعالم تارك لعلمه فهذا هالك، وإنَّ أهل النار ليتأذّون من ريح العالم التارك لعلمه، وإنَّ أشدَّ أهل النار ندامةً وحسرةً رجل دعا عبداً إلىٰ الله، فاستجاب له وقبل منه، فأطاع الله فأدخله الله الجنَّة، وأدخل الداعي النار بتركه علمه واتِّباعه الهوىٰ وطول الأمل. أمَّا اتِّباع الهوىٰ فيصدُّ عن الحقِّ، وطول الأمل يُنسي الآخرة». (الكافي للكليني 1: 44/ باب استعمال العلم/ ح 1).
2- منية المريد للشهيد الثاني ص100.
3- الأمالي للشيخ الصدوق ص 91 ح 64 / 4.

كتابةَ معلومةٍ، أو تأملاتٍ بسيطة استثمر وسائل التواصل الاجتماعي في نشرها، إذ إنّ مفردة (ورقة) مأخوذةٌ على نحو الطريقية، لا الموضوعية، وعليه، فتركك معلومةً على صفحةٍ في النت قد يصدقُ عليها هذه الورقة.

9/زيارةُ قبور أهل البيت (علیهم السّلام): والروايات في هذا عديدة، نقتصر على رواية واحدة وردت في بيان فضل زيارة الإمام الضامن ثمن الحجج (علیهم السّلام)، فقد روي رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «ستدفن بضعة مني بأرض خراسان، لا يزورها مؤمن إلا أوجب الله(عزّ و جلّ) له الجنة، وحرم جسده على النار».(1)

10/خدمة الزوج: فصحيحٌ أنه من الناحية الفقهية ليس على الزوجة خدمة الزوج، من غسل ملابسٍ، وطهي طعامٍ وما شابه ذلك وهذا هو الحكم الشرعي، بيدَ أنَّ الروايات الشريفة تذكر من الفضل العظيم لخدمة الزوج ورعايته، فعن أمير المؤمنين (علیه السّلام): «الامرأة الصالحة خير من ألف رجل غير صالح، وأيّما امرأة خدمت زوجها سبعة أيّام أغلق الله عنها سبعة أبواب النار، وفتح لها ثمانية أبواب الجنَّة، تدخل من أيّها شاءت»(2).

وعن أبي عبد الله (علیه السّلام) أنَّ رسول الله (صلّی الله علیه و آله) قال: «أيُّما امرأة رفعت من بيت زوجها شيئاً من موضع إلىٰ موضع تريد به صلاحاً نظر الله(عزّ و جلّ) إليها، ومن نظر الله إليه لم يُعذِّبْه».

فقالت أُمُّ سَلَمة1: ذهب الرجال بكلِّ خير، فأيُّ شيء للنساء المساكين؟ فقال (صلّی الله علیه و آله): «بلىٰ، إذا حملت المرأة كانت بمنزلة الصائم القائم المجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، فإذا وضعت كان لها من الأجر ما لا تدري ما هو لعظمه، فإذا أرضعت كان لها بكلِّ مصَّة كعِدْلِ عتق محرَّر من ولد إسماعيل، فإذا فرغت من رضاعه ضرب مَلَك علىٰ جنبها

ص: 300


1- الأمالي للشيخ الصدوق ص 119 ح107 / 6.
2- وسائل الشيعة للحرِّ العاملي (آل البيت) 20: 172/ ح (25342/2).

وقال: استأنفي العمل فقد غُفِرَ لكِ»(1).

النقطة الثالثة: صفات ودرجات جهنم.

إنَّ جهنم،حسب ما يُستفاد من الآيات والروايات الشريفة، وادٍ في النار عمقه سبعون سنة، أي إذا رميت شيئًا من أعلى شفيرها، فإنه يصل إلى قعرها بعد سبعين سنة!

وهذا الوادي يُحيط بالكافرين، وكأنها تكون بين ساحة المحشر وبين الجنة، ومن أراد أنْ يصل إلى الجنة فعليه أنْ يعبر الصراط ليصل إليها.

والصراط ليس مجرد جسر، وإنّما عبارة عن محطاتٍ وعقباتٍ عديدة، على الإنسان أنْ يعبرها واحدةً تلو الأخرى حتى يصل إلى الجنة. وإنّ أول ما يُسأل عنه المرء باتجاه الجنة هو ولاية أهل البيت (علیهم السّلام) فمن لديه جوازٌ من الإمام علي (علیه السّلام) يعبر ليُسأل عن الصلاة والصوم والحج والعدل ومظالم العباد وغيرها من الواجبات والمحرمات، فمن جازها فإلى الجنة وإلا فإلى النار والعياذ بالله.

وكما أنّ الجنة ليست درجةً واحدة بل لها درجات، فإنَّ النار لها دركات عديدة وليست مستوى واحد، دلت على ذلك روايات عديدة منها:

روي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «ويل، واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا، قبل أن يبلغ قعره».(2)

وفي قوله تعالى ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً﴾(3)

عنه (صلّی الله علیه و آله): الصعود جبل من نار، يتصعد فيه الكافر سبعين خريفاً، ثم يهوى فيه كذلك أبداً.(4)

ص: 301


1- أمالي الشيخ الصدوق (ص 496 و497/ ح 687/7).
2- كنز العمال للمتقي الهندي ج2 ص12 ح 2937.
3- المدثر 17.
4- كنز العمال للمتقي الهندي ج2 ص12 ح 2935.

وفي روايةٍ عنه (صلّی الله علیه و آله) قال: «استعيذوا بالله من جب الخزي». قيل: وما هو يا رسول الله؟ قال: «وادٍ في جهنم أُعِدَّ للمرائين».(1)

والمرائي هو من يحاول أنْ يُثبت كلامه وإنْ كان باطلًا، وقد يكون بمعنى من يعمل رياءً وبدون إخلاص لله تعالى.

وفي رواية عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «جاءني جبرائيل متغير اللون، فقلت: يا جبرائيل مالي أراك متغير اللون؟ فقال: اطلعت في النار فرأيت واديًا في جهنم يغلي، فقلت يا مالك لمن هذا؟ فقال مالك: لثلاث نفر للمحتكرين وللمدمنين على الخمر والقوادين».(2)

وعن أمير المؤمنين (علیه السّلام): «إن في جهنم طواحن يطحن بها، أفلا تسألوني ما طحنها؟ فقيل له: وما طحنها يا أمير المؤمنين؟ قال: العلماء الفجرة والقراء الفسقة والجبابرة الظلمة والوزراء الخونة والعرفاء الكذبة، وإن في النار لمدينة يقال لها: الحصينة، أفلا تسألوني ما فيها؟ فقيل له: وما فيها يا أمير المؤمنين؟ قال فيها أيدي الناكثين».(3)

وفي حديثٍ عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنّه قال: إنّ في النار لنارًا يتعوذ منها أهل النار، ما خُلِقت إلا لكلِّ متكبرٍ جبار عنيد ولكلِّ شيطانٍ مريد، ولكلِّ مُتكبرٍ لا يؤمن بيوم الحساب، ولكلِّ ناصبٍ العداوة لآل محمد (علیهم السّلام).(4)

بحث: أبواب الجنة والنار.
الاحتمال الأول: الباب الحقيقي.

تشير بعض الآيات إلى أنّ للجنة والنار أبوابًا متعددة، قال(عزّ و جلّ): ﴿فَادْخُلُوا أَبْوَابَ

ص: 302


1- منية المريد للشهيد الثاني ص 318.
2- إرشاد القلوب للديلمي ج1 ص 174.
3- روضة الواعظين للفتال النيسابوري ص 507.
4- تفسير القمي ج2 ص 257.

جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾(1)،

وقال(عزّ و جلّ): ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ. لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ﴾(2).

وقال(عزّ و جلّ): ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ﴾(3)،

أي إنّ هناك أبوابًا للجنة، وفي آية أخرى قال(عزّ و جلّ): ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّىٰ إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلىٰ وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَىٰ الْكافِرِينَ* قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَىٰ الْمُتَكَبِّرِينَ* وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَىٰ الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّىٰ إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ﴾(4).

وعن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «للجنة ثمانية أبواب، وللنار سبعة أبواب».(5)

فما هو معنى هذه الأبواب وما الحكمة منها؟ ولماذا عدد أبواب الجنة أكثر من عدد أبواب جهنم؟

بداية، فإن المعنى الحقيقي ربما لا يكون معلومًا عندنا، ولكن عبر استقراء الآيات والروايات وتفسير العلماء لها تُطرح أربعة احتمالات، وهي:

الاحتمال الأول: الباب الحقيقي.

أنْ يكون المقصود هو الباب الحقيقي فلها قفلٌ ومفتاحٌ، ولها مصراعٌ وعليها بوّاب، وهي تكون معبرًا ومدخلًا للجنة. أما تقسيمها إلى ثمانية؛ فلأن لكلِّ بابٍ مجموعةٌ من

ص: 303


1- النحل: 29.
2- الحجر: 43 و44.
3- ص: 50.
4- الزمر: 71 73.
5- الأمالي للشيخ الصدوق ص 123 ح 113 / 1.

الناس يدخلون عبرها.

وقد يظهر من بعض الروايات هذا المعنى، فقد ورد عن الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «إن للنار لسبعة أبواب، ما منهن بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاماً وان للجنة لثمانية أبواب، ما منهما بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاماً».(1)

وفي حديثٍ آخر عنه (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «باب أمتي الذي يدخلون منه الجنة عرضه مسيرة الراكب المجود(2) ثلاثاً.(3)

وقد ورد عن أمير المؤمنين (علیه السّلام): «أبواب النار بعضها فوق بعض، يبدأ بالأسفل فيملأ فهو أسفل سافلين، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، حتى يملأ النار».(4)

فأبواب جهنم تختلف عن أبواب الجنة، إذ هي عبارة عن طبقاتٍ ودركاتٍ، وهو صريح ما روي عن أمير المؤمنين (علیه السّلام): «إن جهنم لها سبعة أبواب أطباق، بعضها فوق بعض، ووضع إحدى يديه على الأخرى، فقال: هكذا، وإن الله وضع الجنان على العرض، ووضع النيران بعضها فوق بعض، فأسفلها جهنم، وفوقها لظى، وفوقها

ص: 304


1- مسند أحمد ج4 ص 14.
2- اسم فاعل من التجويد وهو التحسين قيل أي الراكب الذي يجود ركض الفرس من جودته أي جعلته جيدا وفي أساس البلاغة يجوز في صنعته يفوق فيها وأجاد الشئ وجوده أحسن فيما فعل وجود في عدوه عدا عدوا وجوادا والمعنى الراكب الذي يجود ركض الفرس وأن يكون مستافا إليه والإضافة لفظية أي الفرس الذي يجود في عدوه (ثلاثا) ظرف مسيره والمعنى ثلاث ليال أو سنين وهو الأظهر لأنه يفيد المبالغة أكثر ثم المراد به الكثرة لئلا يخالف ما ورد من أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة على أنه يمكن أنه أوحى إليه بالقليل ثم أعلم بالكثير أو يحمل على اختلاف الأبواب باختلاف أصحابها [تحفة الأحوذي للمباركفوري ج7 ص 218].
3- كنز العمال للمتقي الهندي ج14 ص472 ح 39311.
4- المصنف لابن أبي شيبة ج8 ص92.

الحطمة، وفوقها سقر، وفوقها الجحيم، وفوقها السعير، وفوقها الهاوية».(1)

الاحتمال الثاني: أن الباب بمعنى المرتبة والدرجة.

إنَّ المقصود من الأبواب مراتب وأنواع الجنة والنار، فكما تقدّم أنّ لكلٍ منهما أنواعاً وطبقات ومراتب عديدة، فليس المقصود هو الباب الحقيقي، وإنّما المراد منه أنواع الجنة وطبقاتها، وأنواع النار وطبقاتها. وقد ورد عن النبي (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «لكلِّ أهلِ عملٍ بابٌ من أبواب الجنة يُدعون بذلك العمل، ولأهل الصيام بابٌ يُدعون منه يُقال له الريان».(2)

فلكلِّ عملٍ مرتبة، والآيات أو الروايات تُطلق عليها باب.

الاحتمال الثالث: أن الباب بمعنى السبب.

ببيان: من المعلوم أنه لا يصدر أي فعلٍ من الإنسان سواء أكان خيرًا أم شرًا- إلا عبر إحدى منافذه وهي: (حاسة النظر والسمع والشم والذوق واللمس) وهي الحواس الخمسة، يُضاف إليها (البطن والفرج) فتكون القوى سبعة، يُطلق عليها بعض علماء الأخلاق ب-(الأقاليم السبعة)، وأما بعض الفلاسفة فيقولون: منافذ الإنسان هي الحواس الخمسة مع قوتين باطنيتين موجودتين عند الإنسان هما (قوة الوهم وقوة الخيال).

وبغض النظر عن ذلك، فبالنتيجة هناك سبعةُ قوى يمكن أن تعمل الحسنات وتعمل السيئات، وهذا يعني: أن هذه القوى أو الأقاليم السبعة لها بوصلةٍ توجهها نحو فعل الخير، وهذه البوصلة هي العقل، فإذا انظم العقل إلى هذه السبعة تصير ثمانية فتسير في الطريق الصحيح فيقودها إلى الجنة ولها ثمانية أبواب، فلكلِّ قوةٍ بابٌ وثامنها

ص: 305


1- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي ج6 ص 118.
2- مسند أحمد ج2 ص 449.

هو باب العقل.

وأما إذا أُقصي العقل عن مهمته، فتعمل الحواس والقوى حينها من دون عقل (عينٌ من دون عقل، وسمعٌ من دون عقل وهكذا) فربما تقود الإنسان إلى جهنم والعياذ بالله، فلها سبعة أبواب؛ لانعدام العقل فيها، وينقل هذا الرأي الفلاسفة وابن سينا وصدر المتألهين وبعض المعاصرين.

وهذا المعنى يدعونا إلى أن نقيّد حواسنا دائمًا بالعقل حتى نصل إلى الجنة إنْ شاء الله(عزّ و جلّ).

وربما يُستفاد من السيد العلامة الطباطبائي هذا المعنى في تفسيره، حيث قال: لم يبين سبحانه في شيء من صريح كلامه ما هو المراد بهذه الأبواب أهي كأبواب الحيطان مداخل تهدى الجميع إلى عرصة واحدة أم هي طبقات ودركات تختلف في نوع العذاب وشدته؟

وكثيراً ما يسمى في الأمور المختلفة الأنواع كل نوع باباً، كما يقال أبواب الخير وأبواب الشر وأبواب الرحمة قال تعالى: ﴿فَتَحْنَا عَلَيهِم أَبْوَابَ كُلِّ شَيء﴾(1).

وربما سُمي أسباب الشيء وطرق الوصول إليه أبواباً كأبواب الرزق لأنواع المكاسب والمعاملات.

وليس من البعيد أن يستفاد المعنى الثاني من متفرقات آيات النار كقوله تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّىٰ إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلىٰ وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَىٰ الْكافِرِينَ. قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَىٰ

ص: 306


1- الانعام: 44.

الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ (1)وقوله: ﴿إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾(2) إلى غير ذلك من الآيات.

ويؤيده: قوله: ﴿لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ﴾ فإن ظاهره أن نفس الجزء مقسوم موزع على الباب، وهذا إنما يلائم الباب بمعنى الطبقة دون الباب بمعنى المدخل.

وأما تفسير بعضهم الجزء المقسوم بالفريق المعين المفروز من غيره فوهنه ظاهر.

وعلى هذا، فكون جهنم لها سبعة أبواب هو كون العذاب المُعدّ فيها متنوعاً إلى سبعة أنواع، ثم انقسام كل نوع اقساماً حسب انقسام الجزء الداخل الماكث فيه، وذلك يستدعي انقسام المعاصي الموجبة للدخول فيها سبعة أقسام وكذا انقسام الطرق المؤدية والأسباب الداعية إلى تلك المعاصي ذاك الانقسام.(3)

وقال الشيخ الشيرازي: هي أبواب للذنوب التي يدخلون جهنم بسببها، وكل يحاسب بذنبه.. كما هو الحال في أبواب الجنة التي هي عبارة عن طاعات وأعمال صالحة ومجاهدة للنفس يدخل بها المؤمنون الجنة.(4)

الاحتمال الرابع: الأبواب كناية عن الطرق الموصلة.

أنّ التعبير ب-(الباب) تعبيرٌ كنائي لا حقيقي، أي لا يراد منه المعنى الظاهري للباب، وهذا يعني أنْ ليس هناك سبعة أبواب أو ثمانية، وإنّما المقصود المبالغة، أي إنَّ هناك عدة طرق توصلك إلى الجنة وكذا إلى النار، وإنّ طرق الجنة أكثر من طرق النار، وعلى الإنسان أنْ يحكّم عقله ويسلك طرق الجنة.

ص: 307


1- الزمر 71 و 72.
2- النساء 145.
3- تفسير الميزان للسيد محمد حسين الطباطبائي ج12 ص 170.
4- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي ج8 ص 65.

قال الشيخ الشيرازي: وثمة تفسير آخر نستطيع أن نقف على خلاصته بالشكل الآتي: إن أبواب جهنم - كأبواب الجنة - إشارة إلى العوامل المختلفة التي تؤدي بالإنسان إلى دخولها، فكل نوع من الذنوب أو نوع من أعمال الخير يعتبر باباً، وثمة ما يشير إلى ذلك في الروايات الإسلامية، ووفق هذا المعنى فإن العدد (7) هو كناية عن الكثرة، وما ورد في القرآن الكريم من أن للجنة ثمانية أبواب هو إشارة إلى ازدياد عوامل الرحمة على عوامل العذاب... (1)

إشارات:

الإشارة الأولى: يكفي الإيمان الإجمالي بالجنة والنار وبالبعث وما جاء به الرسول (صلّی الله علیه و آله)، وليس من الضروري أنْ يكون للفرد اعتقاد تفصيلي بتفصيلات يوم القيامة، وهذا ما أشار له الشيخ(قدّس سرّه) في عبارة الكتاب بقوله «فإن من يعتقد بالله اعتقادًا قاطعًا، ويعتقد كذلك بمحمد رسولًا منه أرسله بالهدى ودين الحق، لا بد أنْ يؤمن بما أخبر به القرآن الكريم من البعث والثواب والعقاب والجنة والنعيم والنار والجحيم..»..

الإشارة الثانية: إنّه(رحمه الله)قال: إن القرآن الكريم قد صرّح بذلك الأمر لأهميته في آيات كثيرة بقوله: «وقد صرّح القرآن الكريم بذلك ولمح إليه بما يقرب من ألف آية كريمة»، بل بعض الباحثين قال: إنّ ثلث القرآن يحكي عن المعاد، وهذا يعني ما يقارب ألفي آية.

الإشارة الثالثة: قوله(قدّس سرّه): «وإذا تطرق الشك في ذلك إلى شخص..». أي إذا اختلج صدر شخصٍ ما الشك في أمر المعاد، فإنّ هذا الشك لابُد أنْ يكون له سبب، ومن أسباب الشك:

1- الشك في نبوة النبي الأعظم (صلّی الله علیه و آله).

ص: 308


1- الأمثل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي ج15 ص 325.

2- الشك في عدم وجود الخالق.

3- الشك في قدرة الخالق.

4- الشك في أصل وجود الأديان.

وإلا فإنْ لم يكن له شكٌ فيما تقدّم فلا بُدّ أنْ يعتقد جزمًا في يوم القيامة.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين، محمد آل الطيبين الطاهرين.

ص: 309

ص: 310

ص: 311

ص: 312

المصادر

بعد كتاب الله تعالى المجيد:

1. الاحتجاج: الطبرسي/ ت محمّد باقر الخرسان/ دار النعمان/ 1386ه-.

2. أحداث التأريخ الإسلامي: الترمانيني/ ط. دمشق.

3. اختيار معرفة الرجال: الشيخ الطوسي/ مط بعثت/ قم/ مؤسسة آل البيت/ 1404ه- .

4. ادّعياء المهدوية: أحمد الفرج الله- مركز الدراسات الاستراتيجية/ الطبعة الأولى.

5. إرشاد القلوب: الحسن بن محمّد الديلمي/ ط 2/ 1415ه-/ مط أمير/ انتشارات الشريف الرضي/ قم.

6. الإرشاد: الشيخ المفيد/ ت مؤسسة آل البيت/ ط 2/ 1414ه-/ دار المفيد/ بيروت.

7. الإشاعة لأشراط الساعة: الشريف محمد بن رسول الحسيني البرزنجي

8. أصل الشيعة وأصولها: الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء.

9. الأصول الستّة عشر: لعدة محدثين/ت ضياء الدين المحمودي/ ط 1/ 1423ه-/ دار الحديث.

10. الاعتقادات: الشيخ الصدوق/ ت عصام عبد السيّد/ ط2/ 1414ه-/ دار المفيد/ بيروت.

11. أعلام الدين في صفات المؤمنين: الحسن بن محمد الديلمي/ تحقيق: مؤسسة آل

ص: 313

البيت (علیهم السّلام) لإحياء التراث – قم/الناشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السّلام) لإحياء التراث . قم.

12. إلزام الناصب: الشيخ علي اليزدي الحائري/ تحقيق: السيّد علي عاشور.

13. الإلهيات: محاضرات الأستاذ الشيخ جعفر السبحاني/ الطبعة الرابعة/ مطبعة اعتماد قم/ سنة 1417ه-.

14. الأمالي: السيّد المرتضىٰ/ ت النعساني الحلبي/ ط1/ 1325ه-/ مكتبة المرعشي/ قم.

15. الأمالي: الشيخ الصدوق/ ت قسم الدراسات/ ط1/ 1417ه-/ مؤسسة البعثة.

16. الأمالي: الشيخ الطوسي/ ت مؤسسة البعثة/ ط 1/ 1414ه-/ دار الثقافة/ قم.

17. الأمالي: الشيخ المفيد/ ت الأستادولي، علي أكبر الغفّاري/ ط2/ 1414ه-/ دار المفيد/ بيروت.

18. الإمام المهدي عند أهل السنة: مهدي الفقيه الإيماني/المجمع العالمي لأهل البيت (علیهم السّلام)/مطبعة التعارف/ الطبعة الثالثة/ 1431ه-/2010م.

19. الإمامة والتبصرة: ابن بابويه/ ط1/ 1404ه-/ مدرسة الإمام الهادي/ قم.

20. الإمامة والسياسة: ابن قتيبة الدينوري/ ت الزيني/ مؤسسة الحلبي.

21. الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.

22. الانتصار: العاملي/ ط 1/ 1422ه-/ دار السيرة/ بيروت.

23. أنساب الأشراف: البلاذري/ ت محمّد باقر المحمودي/ ط1/ 1394ه-/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

24. بحار الأنوار: العلاَّمة المجلسي/ ط 2 المصحَّحة/ 1403ه-/ مؤسسة الوفاء/ بيروت.

ص: 314

25. البداية والنهاية: ابن كثير/ ت علي شيري/ ط 1/ 1408ه-/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

26. بصائر الدرجات: محمّد بن الحسن الصفّار/ ت كوجه باغي/ 1404ه-/ مط الأحمدي/ منشورات الأعلمي/ طهران.

27. البيان في تفسير القرآن: السيد لخوئي(قدّس سرّه)/ الطبعة: الرابعة/ سنة الطبع: 1395 - 1975 م/ الناشر: دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت – لبنان.

28. تاج العروس: الزبيدي/ 1414ه-/ دار الفكر/ بيروت.

29. تاريخ الإسلام: الذهبي/ ت تدمري/ ط1/ 1407ه-/ دار الكتاب العربي/ بيروت.

30. تاريخ الشعوب الإسلامية: بروكلمان ص128/ط. بيروت.

31. التاريخ الصغير: البخاري/ ت محمود إبراهيم زيد/ ط1/ 1406ه-/ دار المعرفة بيروت.

32. تاريخ الطبري: الطبري/ ط 4/ 1403ه-/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

33. تاريخ المدينة: ابن شبة النميري/ ت فهيم محمّد شلتوت/ 1410ه-/ مط القدس/ دار الفكر/ قم.

34. تاريخ اليعقوبي: اليعقوبي/ دار صادر/ بيروت.

35. تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي/ ت مصطفىٰ عبد القادر عطا/ ط1/ 1417ه-/ دار الكتب العلمية/ بيروت.

36. تاريخ مدينة دمشق: ابن عساكر/ ت علي شيري/ 1415ه-/ دار الفكر/ بيروت.

37. تأويل الآيات الظاهرة: شرف الدين الحسيني/ ط 1/ 1407ه-/ مط أمير/ مدرسة الإمام المهدي/ قم.

ص: 315

38. تحف العقول: ابن شعبة الحرّاني/ ت علي أكبر الغفاري/ ط 2/ 1404ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

39. تحفة الأحوذي: المباركفوري/ ط 1/ 1410ه-/ دار الكتب العلمية/ بيروت.

40. الترغيب والترهيب من الحديث الشريف: عبد العظيم المنذري/ تحقيق: ضبط أحاديثه وعلق عليه: مصطفى محمد عماره/ سنة الطبع: 1408 - 1988 م/ الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان

41. التشيع نشوؤه، مراحله، مقوماته: آية الله العلامة السيد عبد الله الغريفي/ ط التاسعة 1429ه-/2008م/ دار الإسلام.

42. تفسير الإمام العسكري: المنسوب إلىٰ الإمام العسكري/ ط1 محقَّقة/ 1409ه-/ مدرسة الإمام المهدي/ قم.

43. تفسير البرهان: السيِّد هاشم البحراني/ مؤسَّسة البعثة/ قم.

44. تفسير الرازي: فخر الدين الرازي/ الطبعة الثالثة.

45. تفسير العياشي: العياشي/ ت هاشم الرسولي المحلاتي/ المكتبة العلمية الإسلاميّة/ طهران.

46. تفسير القرطبي: القرطبي/ ت البردوني/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

47. تفسير القمي: علي بن إبراهيم القمي/ ت طيب الجزائري/ ط 3/ 1404ه-/ مؤسسة دار الكتاب/ قم.

48. تفسير الميزان: السيّد الطباطبائي/ منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية/ قم.

49. تفسير غريب: القرآن للشيخ فخر الدين الطريحي/تحقيق: تحقيق وتعليق: محمد كاظم الطريحي/ انتشارات زاهدي - قم.

ص: 316

50. تفسير فرات الكوفي: فرات بن إبراهيم الكوفي/ ت محمّد الكاظم/ ط 1/ 1410ه-/ ت محمّد الكاظم/ مؤسسة طبع ونشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي/ طهران.

51. تفسير مجمع البيان: الطبرسي/ ت لجنة من العلماء/ ط 1/ 1415ه-/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

52. التمهيد: ابن عبد البر/تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي ،محمد عبد الكبير البكري/ سنة الطبع: 1387/ المطبعة: المغرب - وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية/ الناشر: وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية.

53. تنبيه الخواطر (مجموعة ورّام): ورّام بن أبي فراس المالكي الأشتري/ ط 2/ 1368ش/ مط حيدري/ دار الكتب الإسلاميَّة/ طهران.

54. تهذيب الأحكام: الشيخ الطوسي/ ت حسن الخرسان/ ط 3/ 1364ش/ مط خورشيد/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.

55. التوحيد: الشيخ الصدوق/ ت هاشم الحسيني الطهراني/ جماعة المدرسين/ قم.

56. التوحيد: المفضَّل بن عمر/ ت كاظم المظفَّر/ ط 2/ 1404ه-/ مؤسّسة الوفاء/ بيروت.

57. الثاقب في المناقب: ابن حمزة الطوسي/ ت نبيل رضا علوان/ ط 2/ 1412ه-/ مؤسسة أنصاريان/ قم.

58. ثواب الأعمال: الشيخ الصدوق/ ت محمّد مهدي الخرسان/ ط2/ 1368ش/ مط أمير/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

59. الجرح والتعديل: سليمان بن خلف بن سعد ابن أيوب الباجي المالكي.

60. الجنة والنار في الكتاب والسنة: محمد الريشهري/دار الحديث للطباعة والنشر/

ص: 317

الطبعة الأولى 1432ق/1390 ش.

61. الجواهر السنية: الحرّ العاملي/ 1384ه-/ مط النعمان/ النجف الأشرف.

62. حلية الأبرار: هاشم البحراني/ ت غلام رضا البروجردي/ ط1/ 1411ه-/ مؤسسة المعارف الإسلاميّة/ قم.

63. حياة الحيوان الكبرى: كمال الدين دميري/الطبعة: الثانية 1424 ه-/ الناشر: دار الكتب العلمية/ بيروت.

64. الخرائج والجرائح: قطب الدين الراوندي/ ط1 كاملة محقّقة/ 1409ه-/ مؤسسة الإمام المهدي/ قم.

65. الخصال: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفاري/ 1403ه-/ جماعة المدرسين/ قم.

66. الخطر اليهودي: (بروتوكولات حكماء صهيون) لمحمّد خليفة التونسي.

67. دعائم الإسلام: القاضي النعمان المغربي/ ت آصف فيضي/ 1383ه-/ دار المعارف/ القاهرة.

68. الدعوات: قطب الدين الراوندي/ ط1/ 1407ه-/ مط أمير/ مؤسسة الإمام المهدي/ قم.

69. دلائل الإمامة: الطبري (الشيعي)/ ط1/ 1413ه-/ مؤسسة البعثة/ قم.

70. رسائل الشريف المرتضى: الشريف المرتضى/ تحقيق: تقديم: السيد أحمد الحسيني/ إعداد: السيد مهدي الرجائي/ سنة الطبع: 1405/ المطبعة: مطبعة سيد الشهداء – قم/ الناشر: دار القرآن الكريم.

71. روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه: محمد تقي المجلسي الأول/ تحقيق: نمقه وعلّق عليه وأشرف على طبعه « السيد حسين الموسوي الكرماني والشيخ علي

ص: 318

پناه الإشتهاردي »/ الناشر: بنياد فرهنك اسلامي حاج محمد حسين كوشانپور.

72. روضة الواعظين: الفتال النيسابوري/ ت محمّد مهدي الخرسان/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

73. سعد السعود: ابن طاووس/ 1363ه-/ مط أمير/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

74. سنن ابن ماجة: ابن ماجة القزويني/ ت محمّد فؤاد عبد الباقي/ دار الفكر/ بيروت.

75. سنن أبي داود: ابن الأشعث السجستاني/ ت محمّد اللحّام/ ط1/ 1410ه-/ دار الفكر/ بيروت.

76. سنن الترمذي: الترمذي/ ت عبد الوهّاب عبد اللطيف/ ط2/ 1403ه-/ دار الفكر/ بيروت.

77. سنن الدارمي: عبد الله بن بهرام الدارمي/ 1349ه-/ مط الاعتدال/ دمشق.

78. سير أعلام النبلاء: الذهبي/ ت حسين الأسد/ ط9/ 1413ه-/ مؤسسة الرسالة/ بيروت.

79. شذرات مهدوية: الشيخ حسين الأسدي/ تقديم وتحقيق: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (علیه السّلام): الطبعة الأولى.

80. شرح إحقاق الحقّ: السيّد المرعشي/ ت شهاب الدين المرعشي/ مكتبة المرعشي/ قم.

81. شرح الأخبار: القاضي النعمان المغربي/ ت محمّد الجلالي/ ط2/ 1414ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

82. شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد/ ت محمّد أبو الفضل إبراهيم/ ط1/ 1378ه-/

ص: 319

دار إحياء الكتب العربية/ بيروت.

83. شعب الإيمان: أبو بكر البيهقي/ ط1/ 1423ه-/ مكتبة الرشد.

84. صحيح البخاري: البخاري/ 1401ه-/ دار الفكر/ بيروت.

85. صحيح مسلم: مسلم النيسابوري/ دار الفكر/ بيروت.

86. الصحيفة السجّادية: أبطحي/ ت محمّد باقر الأبطحي/ ط1/ 1411ه-/ مط نمونة/ مؤسسة الإمام المهدي، مؤسسة الأنصاريان/ قم.

87. الصراط المستقيم: علي بن يونس العاملي/ ت محمّد باقر البهبودي/ ط1/ 1384ه-/ مط الحيدري/ المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية.

88. صراط النجاة: تعليق الميرزا التبريزي علىٰ منهاج الصالحين للسيّد الخوئي/ ط 1/ 1416ه-/ دفتر نشر برگزيده.

89. الصلة بين التصوف والتشيع: الشيبي. ط. بيروت.

90. الصواعق المحرقة: ابن حجر الهيتمي/ ط1/ 1997م/ مؤسسة الرسالة/ بيروت.

91. الطبقات الكبرىٰ: محمّد بن سعد/ دار صادر/ بيروت.

92. الطرائف: ابن طاووس/ ط1/ 1399ه-/ مط الخيام/ قم.

93. عدّة الداعي: ابن فهد الحلّي/ ت أحمد الموحّدي القمي/ مكتبة وجداني/ قم.

94. عدّة الداعي: ابن فهد الحلّي/ ت أحمد الموحّدي القمي/ مكتبة وجداني/ قم.

95. عقائد الإسلام: السيِّد مرتضىٰ العسكري/الناشر: التوحيد للنشر/ الطبعة الرابعة 1420ه-/1999م.

96. عقد الدرر: يوسف بن يحيىٰ المقدسي/ انتشارات نصائح.

97. علل الشرائع: الشيخ الصدوق/ ت محمّد صادق بحر العلوم/ 1385ه-/ منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها/ النجف الأشرف.

ص: 320

98. علم النفس الفلسفي: الشيخ غلام رضا الفياضي: تقرير: السيد جعفر الحكيم/ الطبعة الأولى سنة 2013 م.

99. على ضفاف الانتظار: الشيخ حسين الأسدي/ تقديم: مركز القمر للإعلام الرقمي/الطبعة الأولى/1438ه-.

100. عمدة القاري: العيني/المطبعة: بيروت - دار إحياء التراث العربي/ الناشر: دار إحياء التراث العربي.

101. عوالي اللئالي: ابن أبي جمهور الأحسائي/ ت مجتبىٰ العراقي/ ط1/ 1403ه-/ مط سيّد الشهداء/ قم.

102. عيون أخبار الرضا (علیه السّلام): الشيخ الصدوق/ ت حسين الأعلمي/ 1404ه-/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

103. عيون الحكم والمواعظ: علي الليثي الواسطي/ ت حسين البيرجندي/ ط1/ دار الحديث.

104. الغارات: إبراهيم بن محمّد الثقفي/ ت جلال الدين الحسيني الأرموي المحدّث.

105. الغدير: الشيخ الأميني/ ط4/ 1397ه-/ دار الكتاب العربي/ بيروت.

106. الغيبة: الشيخ الطوسي/ ت عبد الله الطهراني، علي أحمد ناصح/ ط1/ 1411ه-/ مط بهمن/ مؤسسة المعارف الإسلاميّة/ قم.

107. الغيبة: النعماني/ ت فارس حسّون كريم/ ط1/ 1422ه-/ مط مهر/ أنوار الهدىٰ.

108. الفصول المختارة: الشيخ المفيد/ تحقيق: السيد نور الدين جعفريان الاصبهاني، الشيخ يعقوب الجعفري، الشيخ محسن الأحمدي/ الطبعة: الثانية/ سنة الطبع: 1414 - 1993 م/ الناشر: دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان

ص: 321

109. نهج البلاغة: الشريف الرضي/ شرح محمّد عبده/ ط1/ 1412ه-/ مط النهضة/ دار الذخائر/ قم.

110. الفصول المختارة: الشيخ المفيد/ ط2/ 1414ه-/ دار المفيد/ بيروت.

111. الفصول المهمّة: ابن الصبّاغ/ ت سامي الغريري/ ط1/ 1422ه-/ مط سرور/ دار الحديث.

112. فضائل سنن الترمذي: الإسعردي/ تحقيق: صبحي السامرائي/ الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: 1409/الناشر: عالم الكتب، مكتبة النهضة العربية - بيروت

113. بشرى البشر في حقيقة المهدي المنتظر- الشيخ محمود الغرباوي- دار الكتاب العربي – الطبعة الأولى 2004.

114. فقه الحضارة: للسيِّد السيستاني

115. الفقه على المذاهب الأربعة ومذهب أهل البيت (علیهم السّلام): الجزيري/ الغروي/ (كتاب الفقه على المذاهب الأربعة لعبد الرحمن الجزيري وعلى مذهب أهل البيت (علیهم السّلام) للسيد محمد الغروي والشيخ ياسر مازح/دار الثقلين للطباعة والنشر والتوزيع/بيروت – لبنان/ الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: 1419 - 1998 .

116. فهرست ابن النديم: ابن النديم البغدادي/ تحقيق: رضا – تجدد.

117. في رحاب حكومة الإمام المهدي (علیه السّلام): الشيخ نجم الدين الطبسي- ترجمة الشيخ أحمد وهبي- مطبعة نكارش- الطبعة الأولى سنة النشر 1425 ه-.ق

118. القرآن في الإسلام: السيد الطباطبائي/ تحقيق: تعريب السيد أحمد الحسيني.

119. قصص الأنبياء: قطب الدين الراوندي/ ت غلام رضا عرفانيان/ ط1/ 1418ه-/ الهادي.

120. قطاف شهر رمضان: الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي/ تقديم: معهد تراث

ص: 322

الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية/ الطبعة الأولى: 1438ه-.

121. كامل الزيارات: ابن قولويه/ ت جواد القيّومي/ ط1/ 1417ه-/ مط مؤسسة النشر الإسلامي/ مؤسسة نشر الثقافة.

122. الكامل في التاريخ: ابن الأثير/ 1386ه-/ دار الصادر/ بيروت.

123. كتاب المؤمن: الحسين بن سعيد .

124. كشف الغمّة: ابن أبي الفتح الأربلي/ ط2/ 1405ه-/ دار الأضواء/ بيروت.

125. الكلام الإسلامي المعاصر: د: الشيخ عبد الحسين خسروبناه/ ترجمة: محمد حسين الواسطي/المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية/ قسم الكلام والعقيدة/دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع/ الطبعة الأولى 1438ه-/2016م.

126. كليات في علم الرجال: الشيخ السبحاني/ الطبعة: الثالثة/سنة الطبع: ذي القعدة الحرام 1414/ المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي/ الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

127. كمال الدين وتمام النعمة: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفّاري/ 1405ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

128. كنز العمّال: المتّقي الهندي/ ت بكري حياني/ 1409ه-/ مؤسسة الرسالة/ بيروت.

129. مائة منقبة: ابن شاذان/ ت الأبطحي/ ط1/ 1407ه-/ مط أمير/ قم.

130. مثير الأحزان: ابن نما الحلّي/ 1369ه-/ المطبعة الحيدرية/ النجف الأشرف.

131. مجلة الإصلاح الحسيني: مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في الإمام الحسين (علیه السّلام).

132. مجلَّة الانتظار: الصادرة عن مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (علیه السّلام).

ص: 323

133. مجمع الزوائد: الهيثمي/ 1408ه-/ دار الكتب العلمية/ بيروت.

134. المحاسن: البرقي/ ت جلال الدين الحسيني المحدّث/ 1370ه-/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.

135. مختصر بصائر الدرجات: الحسن بن سليمان الحلّي/ ط1/ 1370ه-/ منشورات المطبعة الحيدرية/ النجف الأشرف.

136. مدينة المعاجز: السيد هاشم البحراني/ تحقيق: الشيخ عزة الله المولائي الهمداني/ الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: 1413/ المطبعة: بهمن/ الناشر: مؤسسة المعارف الإسلامية - قم – ايران.

137. الصحيفة السجّادية: أبطحي/ ت محمّد باقر الأبطحي/ ط1/ 1411ه-/ مط نمونة/ مؤسسة الإمام المهدي، مؤسسة الأنصاريان/ قم.

138. مرآة العقول: العلاَّمة المجلسي/ ط2/ 1404ه-/ دار الكتب الإسلاميّة.

139. المراجعات: السيّد شرف الدين/ ت حسين الراضي/ ط2/ 1402ه- .

140. مروج الذهب: المسعودي/ ط2/ 1404ه-/ منشورات دار الهجرة/ قم.

141. المزار: ابن المشهدي/ ت جواد القيّومي/ ط1/ 1419ه-/ مط مؤسسة النشر الإسلامي/ نشر القيّوم/ قم.

142. مستدرك الوسائل: الميرزا النوري/ ط1 المحقَّقة/ 1408ه-/ مؤسسة آل البيت/بيروت.

143. مستدرك سفينة البحار: علي النمازي/ ت حسن بن علي النمازي/ 1418ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

144. المستدرك: الحاكم النيسابوري/ إشراف يوسف عبد الرحمن المرعشلي.

145. مستدركات علم رجال الحديث: علي النمازي/ ط1/ 1412ه-/ مط شفق/

ص: 324

طهران.

146. مستطرفات السرائر: ابن إدريس الحلّي/ ط 2/ 1411ه-/ مؤسَّسة النش-ر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين/ قم.

147. مسند أبي يعلىٰ: أبو يعلىٰ الموصلي/ ت حسين سليم أسد/ دار المأمون للتراث.

148. مسند أحمد: أحمد بن حنبل/ دار الصادر/ بيروت.

149. مشارق أنوار اليقين: الحافظ رجب البرسي/ ت علي عاشور/ ط1/ 1419ه-/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

150. مشكاة الأنوار: علي الطبرسي/ ت مهدي هوشمند/ ط1/ 1418ه-/ دار الحديث.

151. مصباح المتهجّد: الشيخ الطوسي/ ط1/ 1411ه-/ مؤسسة فقه الشيعة/ بيروت.

152. المصنّف: ابن أبي شيبة/ ت سعيد اللحّام/ ط1/ 1409ه-/ دار الفكر/ بيروت.

153. معاني الأخبار: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفاري/ 1379ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

154. معاني الأخبار: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفاري/ 1379ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

155. المعجم الأوسط: الطبراني/ 1415ه-/ دار الحرمين.

156. معجم رجال الحديث: السيّد الخوئي/ ط5/ 1413ه- .

157. المغازي: الواقدي/ ت الدكتور مارسدن جونس/ 1405ه-/ نشر دانش إسلامي.

158. مفاهيم القرآن: الشيخ جعفر السبحاني: مؤسسة الإمام الصادق (علیه السّلام)/ إيران/

ص: 325

قم.

159. مقدمة فتح الباري: ابن حجر/الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: 1408 - 1988 م/ الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت – لبنان/ الطبعة الأولى بالمطبعة الكبرى الميرية ببولاق مصر المحمية سنة 1301 هجرية

160. صحيح ابن حبان: ابن حبان/ ت الأرنؤوط/ ط 2/ 1414ه-/ مؤسسة الرسالة.

161. المقنع في الغيبة: الشريف المرتضىٰ/ ت محمّد علي الحكيم/ ط1/ 1416ه-/ مط ستارة/ مؤسسة آل البيت/ قم.

162. صراط الحق في المعارف الإسلامية والأصول الاعتقادية: الشيخ محمد آصف المحسني(رحمه الله)/الناشر: ذوي القربى/ الطلعة الأولى/1428ه-/مطبعة: ستاره.

163. مكارم الأخلاق: الشيخ الطبرسي/ ط6/ 1392ه-/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

164. الملاحم والفتن: ابن طاووس/ ط1/ 1416/ مؤسسة صاحب الأمر/ أصفهان.

165. من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفاري/ ط2/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

166. منازل الآخرة: الشيخ عبّاس القمي/ ت ياسين الموسوي/ ط1/ 1419ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

167. مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب/ ت لجنة من أساتذة النجف/ 1376ه-/ المكتبة الحيدرية/ النجف.

168. مناقب الإمام أمير المؤمنين: محمّد بن سليمان الكوفي/ ت المحمودي/ ط1/

ص: 326

1412ه-/ مط النهضة/ مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة/ قم.

169. مناقب علي بن أبي طالب: ابن المغازلي/ ط 1/ 1426ه-/ مط سبحان/ انشارات سبط النبيّ.

170. منهاج الصالحين: للسيد السيستاني.

171. منية المريد: الشهيد الثاني/ ت رضا المختاري/ ط1/ 1409ه-/ مكتب الإعلام الإسلامي.

172. موسوعة أحاديث أهل البيت: الشيخ هادي النجفي/ ط 1/ 1423ه-/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

173. موسوعة الإمام المهدي (علیه السّلام): السيد محمد الصدر.

174. موسوعة كلمات الإمام الحسين (علیه السّلام): لجنة الحديث في معهد باقر العلوم/ ط3/ 1416ه-/ دار المعروف.

175. نفحات القرآن: سماحة آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي/الطبعة الأولى 1384ش/1426ه-/المطلعة: سليمانزاده/ الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب (علیه السّلام)/إيران/قم/ شهدا/فرع 22.

176. نفحات الولاية: آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي/الطبعة الثانية 1426ه-.ق/المطلبعة: سليمانزاده/ الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب (علیه السّلام)/إيران/قم/ شهدا/فرع 22.

177. نهج البلاغة: الشريف الرضي/ ضبط نصّه الدكتور صبحي صالح/ ط 1/ 1387ه-/ بيروت.

178. الهداية الكبرىٰ: الخصيبي/ ط4/ 1411ه-/ مؤسسة البلاغ/ بيروت.

179. الهدى والضلال في القرآن الكريم: الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي/ تقديم:

ص: 327

معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية/ الطبعة الأولى: 1438ه-.

180. وفيات الأعيان: ابن خلكان/ ت إحسان عبّاس/ دار الثقافة/ بيروت.

181. ينابيع المودَّة: القندوزي/ ت علي جمال أشرف الحسيني/ ط1/ 1416ه-/ دار الأسوة.

ص: 328

المحتویات

المحتویات

عقيدتنا في التقية: ... 5

النقطة الأولى: معنى التقية. ... 7

النقطة الثانية: التقية الاصطلاحية: ... 8

الخطوة الأولى: أدلة التقية. ... 8

الدليل الأول: الكتاب . ... 8

الدليل الثاني: الروايات الشريفة : ... 10

الدليل الثالث: الإجماع ... 11

الدليل الرابع: العقل . ... 11

الخطوة الثانية: نماذج للتقية من التاريخ: ... 11

النقطة الثالثة: هل التقية نفاق ودجل؟ ... 12

الفرق بين التقية والنفاق:... 13

النقطة الرابعة: مستثنيات التقية: .... 13

المورد الأول: لا تقية في الدم . ... 13

المورد الثاني: لا تقية فيما يوجب فساد الدين.... 14

النقطة الخامسة: التقوى. ... 14

الأولى: فعل الواجبات وترك المحرمات. ... 14

الثانية: فعل المستحبات وترك المكروهات ... 15

الثالثة: تقوى الفكر.... 15

إشارتان:... 16

الإشارة الأولى: آثار الذنوب... 16

ص: 329

1/فساد القلب ... 16

2/زوال النعمة ... 17

3/حلول النقمة.... 18

4/آثار تكوينية. ... 19

آثار خاصة لبعض الذنوب: ...20

الإشارة الثانية: طرقٌ مختصرةٌ إلى التقوى... 21

أ/أهرب من الفتوی: ... 22

ب/ ابتعد عن الشبهات: ... 22

ج/لا تُثر في نفسك الشهوات المحرمة، ويدخل ضمن هذا المعنى: ... 23

-لا تمش خلف امرأة وتنظر لمحاسنها: ... 23

-لا تنفرد بامرأة: ... 23

-لا تنظر إلى امرأة نظرة محرَّمة: ... 23

4/لا تهتك ستر مؤمن: ... 24

5/ لا تتعرب بعد الهجرة.... 24

6/ لا تَعِد بما لا تستطيع فعله. ...25

7/ لا تطمع بما عند الناس....25

8/ لا تكذب. ...25

9/لا تغضب. ...25

10/تواضع....26

11/أخلِص العمل. ...27

12/احبس جوارحك. ...27

ص: 330

13/لا تستمع الغناء. ... 27

14/ اصبر. ...28

15/اقرأ عن المتقين. ...28

النقطة السادسة: كيف حمى أهل البيت (علیهم السّلام) شيعتهم وأتباعهم؟ ...28

1/التقية. ...28

2/العمل داخل البلاط الحاكم....29

3/ذمُّ بعض شيعتهم....31

4/عدم إدخال الشيعة في حربٍ خاسرة....33

5/أمرهم (علیهم السّلام) شيعتهم بالعمل المخفي....34

التقية المداراتية: ...35

الفصل الرابع: ما أدّب به أهل البيت عليهم السلام شيعتهم ...37

النقطة الأولى: ما هو ربط هذه الآداب بأصول الدين؟...38

الوجه الأول:...38

الوجه الثاني:...39

النقطة الثانية: لماذا فتح أهل البيت (علیهم السّلام) باب هذه الآداب لشيعتهم؟ ...39

عقيدتنا في الدعاء ...43

الخطوة الأولى: الدعاء سبب معنوي ...48

الخطوة الثانية: الدعاء مفتاح الإجابة....19

الخطوة الثالثة: آداب الدعاء....51

هل الدعاء الجماعي بدعة؟ ...57

الرد الأول: مناقشة استنادهم إلى عدم فعل النبي (صلّی الله علیه و آله) ...57

ص: 331

الرد الثاني: مناقشة استنادهم إلى حجية عدم فعل الصحابة. ...57

الرد الثالث: الأصل في الأعمال الإباحة....58

الرد الرابع: أعمال جماعية مشروعة. ...58

الرد الخامس: الدعاء الجماعي ثابتٌ بالسنة المطهرة....58

أدعية الصحيفة السجادية ...61

النقطة الأولى: الدعاء في منظومة وعقيدة أهل البيت (علیهم السّلام)...64

1/الجبر: ...65

2/التفويض: ... 65

3/ الأمر بين أمرين: ...66

النقطة الثانية: الأدوار البارزة في حياة الإمام . ...67

الأولى: ظاهرة البكاء ...68

الثانية: الإعتاق....68

الثالثة: الإنفاق... 70

الرابعة: الدعاء....71

أولًا: فلسفة الإعتاق: ...71

ثانيًا: فلسفة الإنفاق:...74

ثالثًا: فلسفة البكاء:...74

رابعًا: فلسفة الدعاء:...74

إشارة: تراث الإمام السجاد (علیه السّلام)....79

عقيدتنا في زيارة القبور ...81

النقطة الأولى: الآراء في زيارة القبور...85

ص: 332

النقطة الثانية: مشروعية زيارة القبور. ...86

شواهد على مشروعية زيارة القبور:...88

النقطة الثالثة: الأهداف من زيارة القبور، وما يترتب على زيارة قبور ... 91

عقيدتنا في معنى التشيع عند آل البيت عليهم السلام ...95

النقطة الأولى: معنى التشيع لغةً واصطلاحًا. ...98

النقطة الثانية: الآراء في نشأة الشيعة:...98

الاول: آیة التبلیغ: ... 101

الثاني: الاحادیث الکثیرة :..102

النقطة الثالثة: المراحل التي مر بها التشيع، أو السير التاريخي للتشيع...103

المرحلة الأولى: في زمن النبي الأكرم (صلّی الله علیه و آله)....103

المرحلة الثانية: في زمن الخلفاء....104

المرحلة الثالثة: زمن الخلافة الظاهرية لأمير المؤمنين (علیه السّلام) .... 104

المرحلة الرابعة: في زمن الإمام الحسن (علیه السّلام)...105

المرحلة الخامسة: في زمن الإمام الحسين (علیه السّلام) ....105

المرحلة السادسة: في إمامة الإمام السجاد (علیه السّلام). ...106

المرحلة السابعة: في إمامة الإمامين الباقرين(علیهما السّلام)...107

المرحلة الثامنة: في حياة الإمام الكاظم (علیه السّلام). ... 109

النقطة الرابعة: منزلة ولاية أهل البيت (علیهم السّلام) في الإسلام.... 112

النقطة الخامسة: مقتضيات الولاية ...116

الأول: حبهم (علیهم السّلام)....117

الثاني: الورع....117

ص: 333

الثالث:لدعوة إلى الحق....119

الرابع: التزام مكارم الأخلاق....119

الخامس: التكافل الاجتماعي....119

الأولى: التكافل الاجتماعي على نحو الوجوب...119

الثانية: التكافل الاجتماعي المستحب....120

عقيدتنا في الجور والظلم ...123

التوجيه الأول: ... 129

التوجيه الثاني: ...129

التوجيه الثالث: ...130

التوجيه الرابع:...130

التوجيه الخامس:...130

التوجيه السادس:...131

التوجيه السابع:...131

عقيدتنا في التعاون مع الظالمين ...133

النقطة الأولى: ضرورة الحاكم...136

النقطة الثانية: حدود التعامل مع الحاكم الظالم....136

1. لا يجوز الركون إلى الظالم والرضا بأفعاله...136

2.عدم التحاكم إليه مع وجود الحاكم العادل. ...137

3. عدم محبة دوام الظالم ولو على حساب المصلحة الشخصية....138

4. عدم تشويه صورة المذهب أو التنازل عن الثوابت من قبل... ...139

5. القيام بوجه الظالم متى ما سنحت الفرصة. ...140

ص: 334

6. عدم إعانته في ظلمه ولو ببيع إبرةٍ له! ..142

عقيدتنا في الوظيفة في الدولة الظالمة.... 143

6. عدم أعانته في ظلمة ولو ببيع إبرة....144

عقيدتنا في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية ... 147

النقطة الأولى: تأكيد القرآن الكريم على الوحدة بين الديانات. ..150

النقطة الثانية: الاشتراك بين الأديان لا يعني عدم التمايز بينها...151

النقطة الثالثة: التمايز والاختلاف هو ما يحفظ كيان المذهب....151

النقطة الرابعة: ضرورة عدم التنازل عن الثوابت ...152

النقطة الخامسة: رعاية الأولويات....152

عقيدتنا في حقِّ المسلمِ على المسلم...157

الفصل الخامس عقيدتنا في البعث والمعاد ...165

المطلب الأول:إثبات الوجود المجرد (إثبات وجود الروح). ...167

المدرسة الأولى: المدرسة المادية: ...167

المدرسة الثانية: المدرسة الواقعية:...168

الأول: الموجود المادي.... 168

الثاني: الموجود المثالي....168

الثالث: الموجود المجرد: ...169

1/ واجب الوجود: ..169

2/ ممکن الوجود: ... 169

الدليل الأول: الأنا...169

الدليل الثاني: التقاط الصور....170

ص: 335

الدليل الثالث: تذكّر وتخيّل الصور:...172

المطلب الثاني: إمكان المعاد في حد نفسه. ...173

المطلب الثالث: هل إنَّ المعاد ضروريٌ؟ ...176

النقطة الأولى: ضرورة بلوغ الهدف من ... 177

الثانية: ضرورة إثابة المطيعين وتعذيب العاصين...178

الثالثة: ضرورة إنصاف المظلومين من الظالمين....179

مطلب الرابع: هل المعاد جسماني أو روحاني فقط؟ ...180

1/تبدل الجلود:...183

2/شهادة الجوارح:...183

3/اللذائذ المادية:..184

إشكالان حول المعاد جسماني. ...184

الإشكال الأول: إعادة المعدوم....184

الإشكال الثاني: شبهة الآكل والمأكول:...185

الجواب الأول:...186

الجواب الثاني:...186

الجواب الثالث:...188

المطلب الخامس: المعاد وتربية الإنسان...189

المطلب السادس: ما هو المقدار الواجب من الإيمان بالمعاد؟ ...191

مُلحق: عوالم الإنسان. ..195

العالم الأول: عالم الذر..195

النقطة الأولى: المعنى العام للآية:..196

ص: 336

النقطة الثانية: المعاني التربوية للآية...196

النقطة الثالثة: معنى عالم الذر: ..197

الرأي الأول:...197

الرأي الثاني: ... 202

الرأي الثالث:... 204

والخلاصة:... 206

العالم الثاني: عالم الأصلاب ... 209

فائدة تربوية:... 209

الصفات الوراثية في النطفة:... 211

العالم الثالث: عالم الأرحام ... 215

المرحلة الأولى: مرحلة العلقة:... 216

مرحلة الثانية: المضغة: ... 216

المرحلة الثالثة: مرحلة العظام: ... 216

المرحلة الرابعة: مرحلة تغطية العظام باللحم:... 216

المرحلة الخامسة: مرحلة بث الروح: ... 217

العالم الرابع: عالمُ الدنيا ... 219

الجواب:... 223

الأول: آلات العلوم الظاهرية والتجريبية:... 224

الثاني: آلة العلم الباطني:... 224

العالم الخامس: عالم البرزخ ... 227

المحور الأول: الاحتضار. ... 227

ص: 337

النقطة الأولى: سبب التسمية. ... 227

السبب الأول:... 227

السبب الثاني: .... 230

السبب الثالث:... 232

السبب الرابع:...233

النقطة الثانية: الأمور التي يفعلها المحتضر؟ ...234

اولاً: التوبة. ...234

ثانياً: أداء حقوق الناس الواجبة. ...234

ثالثاً: الوصية بالأمور العبادية. ...234

الرابع: يُستحب للمريض أنْ يحمد الله(عزّ و جلّ) ويشكره ......234

الخامس: يستحب له كتمان المرض وترك الشكاية. ...234

النقطة الثالثة: الأمور التي يفعلها من يحضر عند المحتضر....235

المحور الثاني: الموت ...237

السؤال الأول: ما حقيقة الموت؟ ...238

السؤال الثاني: لماذا نكره الموت؟...239

الأول: الجهل بحقيقة الموت....239

الثاني: الخوف من الموت....240

السؤال الثالث: ما أنواع التوفي؟...242

الأول: توفي النفوس حال النوم....244

الثاني: توفي النفوس في الموت....244

السؤال الرابع: ما هي أنواع الموت؟...245

ص: 338

النوع الأول: موت البدن وموت القلب....245

من أسباب موت القلب: ...248

النوع الثاني: موتُ الفرد وموتُ المجتمع....250

المحور الثالث: البرزخ ...251

الأولى: البرزخ في اللغة:...251

الثانية: البرزخ غير معلوم الفترة الزمنية:...251

الثالثة: من عالم البرزخ تحصل الرجعة: ...252

الرابعة: لماذا يطلب بعض الناس أنْ يرجعوا إلى الدنيا؟...252

الخامسة: البرزخ عالم تكامل....254

استطراد: منافذ تكامل الإنسان. ...255

السادسة: هل بإمكان الميت أنْ يزور أهله ويطّلع عليهم؟..256

السابعة: معنى سؤال منكر ونكير....259

العالم السادس: عالم القيامة (المعاد أو اليوم الآخر) ...263

النقطة الأولى: أسماء يوم القيامة. ...263

الاسم الأول: يوم القيامة....263

الاسم الثاني: يوم الصاخة....264

االاسم الثالث: يوم الفصل... 267

ملاحظة:...269

النقطة الثانية: الحساب. ...269

أولاً: مسائل حسابها دقيق....269

ثانياً: ما لا يُحاسب عليه الإنسان: ...271

ص: 339

ثالثاً: مما يُهوّن الحساب...273

1/صلة الرحم:...273

2/القناعة: ...274

3/ التخفيف من التعلق بالدنيا: ...274

4/ حسن الخلق:...274

رابعاً: معنى: سوء الحساب....275

خامساً: نتيجة الحساب ...276

القسم الأول: أصحاب الجنة: ...276

النقطة الأولى: شروط دخول الجنة. ...276

الأول: قوله(عزّ و جلّ): ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ ... ...276

الثاني: ولاية أهل البيت (علیهم السّلام) حسب حديث السلسلة الذهبية....280

الخطوة الأولى: إنّ التوحيد يقود إلى الجنة. ...281

الخطوة الثانية: لهذا التوحيد شرط قبول، وهو الإخلاص. ...281

الخطوة الثالثة: كيف يتحقق الإخلاص بالتوحيد؟ ...281

النقطة الثانية: موانع دخول الجنة....283

1/الكِبْر. ...283

2/القول الفاحش وقلة الحياء....284

3/الدياثة....284

4/عقوق الوالدين. ...284

5/النميمة....285

6/الجور. ...285

ص: 340

7/الجحود بولاية أهل البيت (علیهم السّلام)....285

8/الصلاة البتراء. ...286

9/الشرك وإدمان الخمر. ...286

10/الرد على الله(عزّ و جلّ) أو الإمام وحبس حق المؤمن....286

النقطة الثالثة: الجنةُ درجاتٌ....286

1/المعرفة. ...288

2/العمل....288

3/الدعاء والطلب من الله(عزّ و جلّ) ....288

القسم الثاني: أصحاب النار. ...290

النقطة الأولى: الأسباب التي تؤدي إلى دخول جهنم....291

النقطة الثانية: موانع دخول جهنم. ...295

النقطة الثالثة: صفات ودرجات جهنم...301

بحث: أبواب الجنة والنار. ...302

الاحتمال الأول: الباب الحقيقي. ...303

الاحتمال الثاني: أن الباب بمعنى المرتبة والدرجة. ...305

الاحتمال الثالث: أن الباب بمعنى السبب. ...305

الاحتمال الرابع: الأبواب كناية عن الطرق الموصلة... 307

إشارات:...308

المصادر...313

ص: 341

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.