المرأة في سيرة الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام

هوية الکتاب

(14)

المرأة في سيرة الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام

( قراءة أدبية )

تأليف

الدكتورة بيان العريض

إشراف و مراجعة و تخريج

مرکز الإمام أميرالمومنين علیه السلام للدراسات و البحوث التخصیصة

ص: 1

اشارة

د / 218

ع 496 العريض، بيان

المرأة في سيرة الإمام أميرالمؤمنين (علیه السلام)/ بيان العريض- ط1- النجف الاشرف، مركز الامام اميرالمؤمنين (علیه السلام)، 2023.

250 ص؛24سم

ردمك: 8-29-700-9922-978 :ISBN

1. البلاغة العربية. 2.المعاني، علم. 3.علي بن أبي طالب(علیه السلام)

إمام

أ- الباججي، هاشم محمد (مقدم). ب- العنوان

م.و.

795 / 2023

رقم الإيداع في دارالكتب و الوثائق ببغداد (795) لسنة 2023م

ص: 2

بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ

ص: 3

هوية الكتاب

اسم الكتاب: المرأة في سيرة الإمام علي (علیه السلام)- قراءة أدبية

* تأليف: الدكتورة بيان العريض

إشراف و مراجعة و تنقيح: مركز الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام للدراسات و البحوث التخصصية

*التدقيق اللغوي: أ.م.د. خالد حميدي

*الإخراج الفني: نذير هندي الكوفي

* المطبعة: مطبعة الضياء – النجف الأشرف

* الناشر: مركز الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام للدراسات و البحوث التخصصية – النجف الأشرف 1444 ه_ - 2023م.

ص: 4

الآیة الکریمة

بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ

«وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لايُظْلَمُونَ نَقِيراً»

صَدَقَ اَللَّهُ اَلْعُلَى اَلْعَظِيمُ

(سورة النساء: 124)

ص: 5

ص: 6

الأهداء

الي...

سيد الأكوان و نفسه... علي

إلى...

سيدة النساء و بعلها... علي

إلى...

سيدي شباب أهل الجنة و أبيهما... علي

إلى...

والدي و والدتي و حبهما... علي

سيدي و مولاي لاتحرمني من النطق حتى الممات و بعد الممات: «إمامي علي بن أبي طالب علیه السلام»

الباحثة

ابنتكم الفقيرة للَّه

ص: 7

ص: 8

مُقدمة مركز الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام للدراسات و البحوث التخصصیة

بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ

الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام للدراسات و البحوث التخصصية

الحمد للَّه رب العالمين حمدا دائما سرمداً أبداً ، و صلَى اللَّه على المبعوث رحمة للعالمين أبي القاسم محمد لَى اللَّه عَلیه و آلِهِ وَ سَلَم و على أهل بيته الطيبين الطاهرین علیهم السلام.

لقد أبرز الاسلام دور المرأة الفاعل في المجتمع و لاسيما أنها اللبنة الأساسية في المجتمع و الشريك الأساسي في تكوين الأسرة و تربية الأطفال و صيانة حقوقهم، فالمرأة في الحقيقة هي نصف الإنسانية اللطيف و الضعيف، و كما يقال انها نصف المجتمع باعتبار المجتمع مؤلفاً من الرجال و النساء.

و المرأة في التاريخ ما قبل الإسلام سيما في العصر الجاهلي عند العرب كانت مضطهدة بشكل عجيب بحيث أنهم كانوا يدفنونها حيَّة عند

ص: 9

ولادتها، أو بعد أن تكبر و هي العادة الإجتماعیة التي استنکرها اللَّه سبحانه - و أنزل فيها آيات بينات كقوله سبحانه: «وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ» (التكوير: 8) ، و قوله تعالى: «وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًا وَ هُوَ کَظِيمٌ» (النحل: 58)، و قوله تعالى: «وَ إِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًا وَ هُوَ كَظِيمٌ» (الزخرف: 17).

لكن الإسلام كرّم المرأة بأعلى مراتب التكريم فأنصفها، و أعطاها حقوقها و بوّأها مكانتها في البيت كأميرة و في المجتمع كإنسان له كل الصلاحية و الشخصية الاعتبارية، و لايوجد دستور و لاقانون من قوانين الأرض الوضعية أنصف المرأة بحق كما فعل الدّين الإسلامي الحنيف، و هذه حقيقة عاشها فكراً و ممارسة الامام أميرالمؤمنين الإمام علي بن أبي طالب سلام الله عليه فتى الإسلام و نفس النبي الأعظم صَّلي اللَّه عَلَیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم و البحث عن المرأة كإنسانة ،و كزوجة، و كبنت و أخت، و حفيدة و غيرها من المراتب له جماليته و واقعيته في سيرة و حياة و منهج الإمام علي علیه السلام، و هو سياحة و سباحة في بحر عميق من الرُّؤى و الكلمات التي يمكن أن نستفيدها من أمير البلاغة و البيان و نهجه الخالد...

فالمرأة ريحانة و زهرة و وردة هذه الدنيا و ليست بقَهرَمانة، كما و صفها الامام أميرالمؤمنين علیه السلام، فهي منبع الحب و العطف و الحنان،

ص: 10

لزوجها و أبنائها وعائلتها، و الامام منذ ولادته و الى شهادته كان للمرأة دور كبير في سيرته وحياته... فهي الام و الراعية و المربية و الاخت و الزوجة و البنت... ، و كل واحدة من هذه الصفات كان لها دور في حياة الامام و سيرته، و هذا البحث للدكتورة ايمان العريض هو محاولة لاستعراض دور المرأة في حياة الامام سلام اللَّه عليها، و قد كتبته بصورة أدبية علمية جميلة، فهي امرأة باحثة لها شعور و عواطف كباقي النساء فتمثلت هذه العواطف و المشاعر في هذا البحث من خلال قلمها المعطاء.

و بعد مراجعة المجلس العلمي الاستشاري في المركز لهذا البحث، و تقييمه من خلال بعض الملاحظات الفنية و العلمية التي أبداها، و تغيير اسم البحث، عمل المركز على مراجعة الكتاب و تنقيحه و تدقيقه لغويا و ضبط المصادر، و من ثم إخراجه و طبعه، ليكون في متناول القارئ الكريم ، لنشر فكر و تراث الامام أميرالمؤمنين (علیه السلام) و نهجه الخالد، واللَّه من وراء القصد.

النجف الاشرف* مركز الامام أميرالمؤمنين علیه السلام

جمادى الاخرة 1444 ه_ - 2023م* للدراسات و البحوث التخصصية

ص: 11

و لو قيض لك أنك ولدتَ مثلي في مدينة علي علیه السلام، فستجد نفسك بين أمرين لاثالث لهما - و هذا ما كنت عليه أنا – تعدو بك الأيام و حب أميرالمؤمنين علیه السلام يتغلغل فيك و يهيمن على روحك، فلامفرّ من حكومة عشقه و تبتله، و إن كنت ستبتلي بحالين، في أحدهما: يقترب منك الإمام علي علیه السلام حتى يصير واحداً من أهلك أو صحبك أو نفسك؟! ثم في ذات اللحظة، و في حال مغايرة يرتحل عنك الإمام علیه السلام إلى الآفاق البعيدة و يسمو بظله،كالنجم الثاقب، فإذا هو بعيد كبعد الإله و السماء السابعة عن الأرض و أهلها، و ما حوته من مزايا دنيوية.

و ما بين القرب و البعد ينغرس حبّ علي علیه السلام في الذات المؤمنة... من دون وعي أو إشعار، كالغرس الطيب في الطين اللازب، فتحسبه هينا هو حبّ أبي الحسن علیه السلام لمن كتب له الباري التبعة و الانتهاج لسيد هذا الغرس، و هو أصعب من الأمر المستصعب لمن عاند و كابر و أبى الاقتداء.

فمنذ خمسين عاماً و أنا استكشف عوالم حبّ الإمام الرحيبة، و شغفي اللامتناهي به، ارتحلت مع الكتب لتتبع السيرة من المهد إلى اللحد، مع سبق حب و ولاء و انتماء، فقد كان علي ملجئي في اشتداد الخطب، و الانزواء عن الخلق في لحظات الكد و النصب.

ص: 12

أمَّا نهج بلاغة الإمام علیه السلام، فكان مرجعي و مسكني المستوحد، الذي أدلف إليه في كلّ رمضان بعد أن أزيح عن دربي عن دربي كل القراءات و الانشغالات، عاماً من بعد عام.

في البدء، سوف يتراءى علي بن أبي طالب علیه السلام لك من بين السطور، و فيض الكلمات، عصياً على الفهم، عصياً على الاستيعاب...، كأنه فكرة مطلقة مجردة لاتمت لعو المنا بصلة، و ما أن تعاود الكرّة تلو الكرّة، حتى تعثر على مخلوق إلهي السمات، ناصع الخلق و الخُلق، كأنه قد من ضياء و سمو، يُنير لك بنهجه آفاق يومك و معادك، فتنتبه مستغرباً أنك لم تعثر عليه فحسب، بل عثرت على ذاتك أو بعض ذاتك التي فطرك الخالق عليها !!

و كم راودتني نفسي مراراً أن اغترف من هذا اليم، فأحجم خشية الغرق، فأخذت اقترب من ساحل أبي تراب رويداً رويداً، فأكتب شذرات عن صنو الإمام، زوجه و بضعة النبي صَّلي اللَّه عَلَیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم و أثيرته مولاتي فاطمة الزهراء علیها السلام في سلسلة مقالات (قبس من نور الزهراء علیها السلام)، أو أدوّن بعض صفحات لكتاب عن وليدة الإمامة (سيدة الأحزان) مولاتي زينب الكبرى عليها و على آبائها الكرام السلام... و كم عاودني الحنين لطرق باب داحي الباب، لجملة أسباب و أسباب.

ص: 13

أولها: إنَّ العمر قد انتصف و اقترب من الرحيل، و لاأملك ما اتقرّب به إلى اللَّه و رسوله صَّلي اللَّه عَلَیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم إلا بضاعة مزجاة قد عزمت على تهيئتها منذ سنين، و آن للعد التنازلي أن يبدأ ليعد ما تبقى من السنين.

و ثانيها: لطالما سعيت في قراءاتي عن الإمام علي علیه السلام أن أقترب من جانب إنساني لم يتطرق إليه الدارسون كثيراً، و هو أنسنة الإمام، و استكشاف علاقته مع أقرب النساء إليه، كإنسان يتعامل مع مخلوقين من أشباهه، و على وجه التحديد علاقة الإمام بأهله: أسرته الأولى (والدته و والده و إخوانه و أخواته...)، و كذلك مع أهل بيته (زوجاته و أبنائه و بناته...)؛ لأنَّ إظهار هذه المنطقة من دائرة حركة الإمام ستكون خارطة طريق حياتية لكل من يجاهد للاقتداء به و بالأئمة علیه السلام.

و ثالثها: رفع الضرر و الإبهام عن نفسي و الآخرين في أمر لطالما و اجهتني به الألسن، و هو قول الإمام عن النساء بأنهن ناقصات عقل و مال و دين، و ما إلى ذلك من أقوال للإمام بحق المرأة أو بما ينسب إليه مما يشينها و ينعتها بأسوأ الصفات، فكان لابد لي من سبر غور هذه الأقوال، و التحقق منها، و تقصي مسبباتها، عن طريق تتبع نهج الإمام الإنساني، و تعامله الرباني مع الأرامل و اليتامى، و صاحبات الحاجة في مواقف حفلت بها الكتب و المصادر.

ص: 14

رابعها: لقد اتخذت لنفسي الآثمة سبيلاً – أحسبه خيراً– في تقصي أمر المرأة المسلمة قديماً و حديثاً، فكان لزاماً عليّ أن أكتب عن (الإمام و النساء) كباكورة عمل أو كوة أفتحها على عوالم أميرالمؤمنين علیه السلام، و هي العوالم الكثر، و الثرة في عطائها.

و كادت هذه الفرصة و اختمارها في ذهني تذهب أدراج الرياح لولا مركز الامام أميرالمؤمنين علیه السلام للدراسات و البحوث التخصصية، فما أن أعتقت نفسي من ربقة الكتابة لعشر سنوات خلت ( لنيل شهادتي الماجستير و الدكتوراه)، حتى ألزمت نفسي بالكتابة عن بطل الاسلام الخالد، و إن عز الوقت و ضاق... و هكذا كان.

لقد بي هاتف التعجيل: الآن... يا بيان!؟ عليك أن تتقربي إلى بحر الإمامة -و لو بأسطر معدودات- تكشف الغطاء عن فيض حنان ورقة نفس ( علي بن أبي طالب علیه السلام) مع النساء المؤمنات اللواتي ما فتئن يلهجن بذكره الحسن، حتى بعد مماته، و في مجلس قاتله و غريمه و حاسده (معاوية)، و من ينسى للإمام علي علیه السلام مواقفه الرسالية المشهودة في رعاية الأرامل و الأيتام، و في تجهيز الطعام و إطعامهم و ملاطفتهم.

و لو سهوت فلن أسهو عن موقف الإمام علیه السلام من ابنته زينب الكبرى علیها السلام، عند دفن والدتها الزهراء علیها السلام في الليل الحالك، ملتفتاً إلى ولده الحسن أن يعود

ص: 15

بأخته إلى الدار ليجنبها تلك اللحظات الأليمة، حنو و أي حنو؟!، قد لايلتفت إليه أبرّ الآباء في ظرف مماثل... ولكنه أبوالحسن علیه السلام و ليس كأي أب.

و أخيراً واجب الشكر و الامتنان أمانة تؤدّى لكل من شجع و أعان، و أرفد و أنصح و سطر و دوّن، فالمصادر جمّة، و الكل يستبق الكل في طلب الحظوة و التبرك و نيل درجة التقرب من سنى و هج الإمام علي علیه السلام...، وإن كانت كثرة المصادر قد أعيتني، و شتت بعض جهدي في ابتغاء المطلوب.

ففي بعض المصادر يتجلى الإمام أسطورة إنسانية خالدة، ترتقي إلى مصاف الإعجاز و الفرادة حد تغريبها عن طابعها البشري، و في بعضها الآخر ينزوي هذا العملاق ليبدو شخصية تاريخية لها ما للآخرين في سرد المؤلف لخصالها، هذا إن لم يشرك البعض في بعضها، أو يجرد الإمام علياً علیه السلام منها، ليسبغها على من يفضله بحسب هواه الشخصي !! لايعبأ بالروح العظيمة، و لابالمثل والقيم الثوابت، و لابغرر المواقف و الأفعال و الأقوال لأميرالمؤمنين علیه السلام، فيصبح مروره التوثيقي للسيرة، مروراً جامداً سطحياً، لايأخذ من بطل العقيدة و الفداء (الإمام - المثال) إلاّ قشوراً لاتصل إلى أطراف عباءة ورداءِ ارتداه علي، بل إن بعض الكتابات تسقم روحك و تغلي طبعك السموح، و لاترتقي في سردها إلى بعض خصف نعل قنبر.

ص: 16

و للختام أضيف: حرَّرتُ هذا البحث المتواضع بيراعي العاجز رغبةً في نيل حسن المعاد لاالمعاش، وادَّخرته في كل حرف من حروفه للدين لاللدنيا، فأسأل اللَّه تعالى جل في علاه، أن يجعله سبب نجاتي، و حط سيئاتي، و رفع درجاتي، و نيلي شفاعة محمد وآل محمد صَّلي اللَّه عَلَیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم، إنه سميع مجیب.

و عذراً لكل تقصير، فهو المستعان و منه التوفيق.

المؤلف

بغداد 15/ شعبان/ 1433 ه_

5/ تموز/ 2012م

ص: 17

ص: 18

الفصل الأول علي علیه السلام و الفواطم

أشارة

ص: 19

ص: 20

أنا ابن الفواطم

منذ بدء الخليقة أعلن اللَّه سبحانه و تعالى أمام ملائكته: «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»(1)، و كان ذلك الخليفة هو الإنسان الذي تحمّل أعباء تلك الأمانة التي عرضت على السموات و الأرض و الجبال «فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَ أَشْفَقْنَ مِنْهَا وَ حَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا»(2). و كلمة إنسان تعني المرأة و الرجل، من دون التفريق بينهما، فهي كما الرجل غاية المشروع الإلهي على الأرض(3).

و ظلت المرأة تواكب حركة الرسالات الإلهية، كما تواكب حركة التاريخ البشري، فيعرض علينا القرآن الكريم قصص أم موسى و أخته، و مريم بنت عمران، و ابنتي شعيب، و زوجتي إبراهيم، و بنات لوط و امرأته، و زوجة فرعون، و غيرهن من النساء. فكان من هذه القصص، سرد و استذكار و أمثلة لنساء كافرات و مؤمنات لأنبياء و رسل و أولياء صالحین.

ص: 21


1- البقرة: 30.
2- الأحزاب: 72.
3- حسن السعيد، المرأة المسلمة هموم و تحديات، دار الهادي للطباعة و النشر و التوزيع، ط1، بيروت - لبنان ، 1428ه- 2007م، ص81.

و هذا ما كان من أمر ذكر نبينا الكريم و أهل بيته في آيات القرآن الكريم، فقد جسدت هذه الآية الكريمة (وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) أعمق الدلالات على نقاوة و طهارة الوعاء الذي احتوى النسل الواحد لكلِّ من نبينا محمد صَّلَي اللَّهِ عَلَیهِ وَ آلِهِ و سَلَم و أخيه الإمام علي علیه السلام.

فقد جاء في الحديث الشريف: (أنا سيد ولد آدم)(1) و (إن اللَّه اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل و اصطفى من ولد إسماعيل بني کنانة و اصطفى من بني كنانة قريشاً و اصطفى من قريش بني هاشم و اصطفاني من بني هاشم).

و عن الإمام جعفر بن محمد بن علي علیه السلام عن أبيه محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب علیه السلام أن النبي صَّلَي اللَّهِ عَلَیهِ وَ آلِهِ و سَلَم، قال: ((قسم اللَّه الأرض نصفين فجعلني في خيرهما، ثم قسم النصف على ثلاثة فكنت في ثلث منها، ثم اختار العرب من الناس. ثم اختار قريشاً من العرب، ثم اختار بني هاشم من قريش، ثم اختار بني عبدالمطلب من بني هاشم، ثم اختارني من بني عبد المطلب))(2).

ص: 22


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى - المجلد الأول، ج1، (السيرة النبوية الشريفة)، تقديم إحسان عباس، دار صادر، بیروت، ص20.
2- المصدر لنفسه.

و الأحاديث متواترة عن افتخار النبي الأكرم صَّلَي اللَّهِ عَلَیهِ وَ آلِهِ و سَلَم بانتسابه إلى عبدالمطلب، إذ سُمع النبي صَّلَي اللَّهِ عَلَیهِ وَ آلِهِ و سَلَم يوم حنين يقول:

أنا النبيّ لاكَذِب *** أنا بنُ عبد المطّلب

و جاء عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: و تقلبك في الساجدين. قال: من نبي إلى نبي، و من نبي إلى نبي حتى أخرجك نبياً. و هذا ما يؤكد قول رسول اللَّه صَّلَي اللَّهِ عَلَیهِ وَ آلِهِ و سَلَم: ((بُعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً حتى بُعثت من القرن الذي كنت فيه ))(1).

و مع شدّة افتخار النبي صَّلَي اللَّهِ عَلَیهِ وَ آلِهِ و سَلَم بآبائه و أجداده و نسبه إلا أنه لم يغفل الإشارة إلى أمهاته، حتى أننا نجد إشارات ساطعة الوضوح، و إن كانت عابرة على طهارة الأمهات المشتركات لكلِّ من النبي الكريم صَّلَي اللَّهِ عَلَیهِ وَ آلِهِ و سَلَم و أميرالمؤمنين علیه السلام، في أكثر من قول و في أكثر من خطبة، بل نُقل عن النبي صَّلَي اللَّهِ عَلَیهِ وَ آلِهِ و سَلَم قوله أنا ابن الفواطم، أنا ابن العواتك، و كذلك الإمام علي علیه السلام و حفيده السجاد في إحدى خطبه الشهيرة في الكوفة بعد واقعة الطف.

و لايتبادر إلى الذهن هنا، أن هذا الانتساب و الافتخار هو انتساب عنصري أو تعصبي جاهلي و يكفي للدلالة على إنسانية النبي و تواضعه

ص: 23


1- ابن سعد، مصدر سبق ذكره، ص25.

قوله للرجل الذي أخذته الرعدة بين يديه: (هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد)(1).

إن حفظ الباري عز وجل لطهارة نسب النبي صَّلَي اللَّهِ عَلَیهِ وَ آلِهِ و سَلَم و وصيه في تقلبه في الساجدين، نسل من بعد نسل، يعني بالضرورة العناية به و حفظه الجهتين، الأب و الأم، فمن غير المنطقي أن تتولاه العناية من جهة الآباء و الأجداد، و تهمله من جهة الأمهات و الجدات... و ها هي كتب السير تزخر بالشواهد على نقاء سريرة الأمهات و طهارة نبعهن، و حفظ الخالق لهن من كل عيب أو شائنة و العياذ باللَّه.

أسهبت المصادر و المراجع و كتب السير في ذكر الفواطم و العواتك اللاتي و لدن رسول اللَّه صَّلَي اللَّهِ عَلَیهِ وَ آلِهِ و سَلَم مع التأكيد على أنَّ العاتكة في كلام العرب تعني المرأة الطاهرة، أما الفواطم اللائي ولدن رسول اللَّه صَّلَي اللَّهِ عَلَیهِ وَ آلِهِ و سَلَم فخمس: قرشية و قيسيتان و يمانيتان(2).

فالقرشية هي أم أبيه عبدالله بن عبدالمطلب (فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم المخزومية).

ص: 24


1- ابن سعد، مصدر سبق ذكره، ص23.
2- ابن الأثير، الكامل في التاريخ - ج1، تاريخ ما قبل الهجرة النبوية الشريفة، دار التوفيقية للطباعة، القاهرة - مصر، ص529؛ ابن سعد، م. س، ص61.

و أمَّا القيسيتان فأمّ عمر بن عائد (فاطمة بنت عبداللَّه بن رزاح بن ربيعة بن حجوش بن معاوية بن بكر بن هوازن ) و أمها (فاطمة بنت الحارث بن بهثة بن سليم بن منصور)(1).

و أمَّا الأمهات الفواطم من اليمانيتين فأم قصي بن كلاب (فاطمة بنت سعد بن سيل بن أزد شنواة )، و أم حيي بنت حليل بن حبثية بن كعب بن سلول، و هي أم ولد قصي (فاطمة بنت نصر بن عوف بن عمرو بن ربيعة بن حارثة الخزاعية ).

و كذلك ولدت الفواطم الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام، فأمه (فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن هاشم بن عبد مناف) وجدته لأمه ( فاطمة بنت هرم بن رواحة بن حجر بن عبد معيص بن عامر بن لوي)(2).

ص: 25


1- ابن الأثير، مصدر سبق ذكره، ج1، ص529.
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة - ج1، تحقيق: محمد أبوالفضل إبراهيم، مكتبة طريق المعرفة - دارالكتاب العربي، النجف-بغداد، ط1، 1426 ه_- 2005م ، ص40؛ علي محمد علي دخيل، فاطمة بنت أسد رضي اللَّه عنها، مؤسسة أهل البيت علیهم السلام، سلسلة أعلام النساء – 2؛ بيروت - لبنان، 1399ه_ – 1979م، ص9؛ محمد علي الأنصاري، أهل البيت علیهم السلام، إمامتهم، حياتهم، قم: مجمع الفكر الإسلامي ، ط1، ذي الحجة الحرام 1424ه_. ق، المطبعة: شریعت – قم، ص207.

وكذلك جدته لأبيه و هي (فاطمة بنت عمر بن عائد بن عمران بن مخزوم) و هي أم عبداللَّه والد سيدنا رسول اللَّه صَّلَي اللَّهِ عَلَیهِ وَ آلِهِ و سَلَم و أم الزبير بن عبدالمطلب، و سائر ولد عبدالمطلب بعد لأمهات شتى(1).

إنَّ افتخار النبي صَّلَي اللَّهِ عَلَیهِ وَ آلِهِ و سَلَم و الوصي بأمهاتهم كان في عالم و مجتمع يعيش أحلك أشكال التردّي في معاملته للمرأة، و قد أنبأنا القرآن الكريم عن هذه الحال، و كيف كانت وجوه الآباء تسود حينما يبشرونه بولادة الأنثى، و قد أشار الباري سبحانه و تعالى بقوله إلى هذا ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًا وَ هُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)(2). و ذهب بعضهم بعيداً بغيظه و جلافته و قسوة القلب حدّ دسها في التراب.

هذه العادة الجاهلية التي حاربها الإسلام و ذكرها كذلك القرآن الكريم، ألا و هي و أد البنات، و لنتمعن قليلاً في هذا الحديث الذي أسر به قيس بن عاصم النبي المختار واصفاً حاله بالقول(3): «يا رسول اللَّه صَّلَي اللَّهِ عَلَیهِ وَ آلِهِ و سَلَم أنا أمير تميم و في عاداتنا دفن البنات من المكرمات، و لقد دفنت عدة بنات.

ص: 26


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ص40.
2- سورة النمل، آية 58 «و عن جمع البيان للطبرسي «ظل وجهه مسوداً» أي صار لون وجهه متغيراً إلى السواد لما يظهر فيه من أثر الحزن و الكراهية).
3- غادة الخرسا، المرأة عبر التاريخ، بيروت-لبنان، ص33.

و في سنة كنت على سفر و كانت امرأتي حاملاً فوضعت أنثى، و خشيت عليها مني، فأهدتها إلى أخوالها فلما عدت من السفر سألتها عن الجنين قالت ولد ميتا... قبلت هذا الكلام و الشك ملء نفسي... و بعد سنين عدة كبرت البنت و جاءت ذات يوم لزيارة أمها فرأيتها رائعة الجمال و تمنيت أن تكون لي ابنه مثلها فقالت أمها: إنها ابنتك يا قيس.

فغضبت غضبا شديداً، و قمت إلى البنت فحفرت لها حفرة كانت تساعدني فيها، و لما كنت أهيل عليها التراب و هي حية كانت البنت تبكي و تسألني: ماذا تفعل يا أبي بفلذة كبدك... و ظلت تبكي و أنا أسمع أنينها تحت التراب و لم أدعها حتى صمتت إلى الأبد. فبكى النبي صَّلَي اللَّهِ عَلَیهِ وَ آلِهِ و سَلَم بكاء شديداً و معه صحابته ثم تلا رسول اللَّه صَّلَي اللَّهِ عَلَیهِ وَ آلِهِ و سَلَم قول اللَّه الرؤوف الرحيم: «وَ إِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ»(1).

إنَّ رقة قلب النبي الكريم صَّلَي اللَّهِ عَلَیهِ وَ آلِهِ و سَلَم و بكاءه الشديد لم يكن تعاطفاً آنياً منه مع الحكاية، بل قناعة فطرية بضرورة حفظ النساء و إكرامهن و هو القائل: «الجنة تحت أقدام الأمهات» و «النساء شقائق الرجال» و «خيركم خيركم لأهله و أنا خيركم لأهلي، ما أكرم النساء إلا كريم و ما أهانهن إلا لئيم». و هو الذي قال فيه عمه أبي طالب:

ص: 27


1- سورة التكوير: آية 8.

و أبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ثمال اليتامى، عصمة للأرامل(1)

بهذه النفس الرحومة المشفقة على كل ما هو إنساني و طاهر و شفيف، أطل وليد الكعبة في بطن الكعبة من رحم إحدى الفواطم الجواهر- الطواهر الموحدات باللَّه و المؤمنات برسله و أنبيائه، إنها إحدى الفواطم المباركات اللواتي افتخر بهن النبي صَّلَي اللَّهِ عَلَیهِ وَ آلِهِ و الوصي معاً. إنها أم علي فاطمة بنت أسد.

ص: 28


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة/3، م. س، ص316.

حدقات النسوة تبارك الميلاد

کلُّ مخلوق يفخر بآبائه و أجداده ، إلا علي بن أبي طالب علیه السلام يفخر بذاته، كيف لا؟ و هو الحائز على عطية السماء المفردة، الحاجزة له من دون غيره من المخلوقين، إنه وليد بيت اللَّه، وليد كعبته المُشرّفة.

و لو لم يكن لمولود آدمي من المكارم و الفضائل التي صبّها الخالق عزّوجل على أبي الحسن علیه السلام صباً، إلا معجزة الميلاد، لكفته فخراً و عزاً في الأولين و الآخرين... فالعقل منه في حَيْرة، لمَ هذا الموضع؟

و لمَ هذا الاختيار؟

و لمَ هذا الوليد بالذات؟

أي هبة جلية البرهان على السبق في كل النعم السابغات أن يكون مسقط رأس علي هو الكعبة لاغيرها من بقاع أرض اللَّه الواسعة.

و هنا، لانمحق ما للمكان من شرف و علو، و ما للوليد من رفعة و سمو، إلا أن القول لايكتمل من دون الالتفات إلى طهارة الرحم الذي حمل الجنين المتفرّد، و وضع الوليد معجزة... إنَّه رحم أول هاشمية تلد هاشميا لهاشمي(1)، فكانت الولادة البشرية الوحيدة و المتفرّدة تحتضنها أركان الكعبة المشرفة، تحقيقاً لإرادة إلهية محققة.

ص: 29


1- الأنصاري، أهل البيت علیهم السلام، م. س، ص208؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة؛ ج1، م. س، ص39.

لقد جاء أمر السماء جازماً، أن تنطلق فاطمة بنت أسد علیها السلام بحملها المكتمل إلى الكعبة لا إلى غرفتها في دار أبي طالب، لتضع وليدها الرابع و الأخير من الذكور في بيت اللَّه(1).

نعم إنه أمرالله المحكم، وإن لم يكن كذلك ، فما الذي يدفع امرأة مثقلة بحملها لتسعة أشهر ، و في وضع الطلق، أن تترك بيتها و القابلات و الجارات من معاونات على هكذا حال، لتلتجئ إلى ركن ومقام كريم، لايمكن الاقتراب منه إلا تطهراً، و فاطمة بنت أسد علیها السلام(2) عالمة بقدسية و طهارة المكان الذي ركنت إليه بحملها الثمين.

و ما يجذب الذهن للتفكر في هذا الموقف الفريد، أن أم الإمام علي علیه السلام سبق لها أن وضعت ثلاثة من أخوته في ثلاثين عاماً خلت(3)، ولدتهم كلهم في دار

ص: 30


1- في المستدرك على الصحيحين3: 483 جاء فيه: «تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد علیها السلام ولدت أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام كرم اللَّه وجهه في جوف الكعبة» و ينظر مروج الذهب2: 349 و غيرها من المصادر التي أسهبت في وصف الولادة قولاً و شعراً.
2- فاطمة بنت أسد علیها السلام، من سابقات المؤمنات إلى الإيمان و الموحدة بالله والمتبعة لديانة أبيها إبراهيم الخليل (علیه السلام) قبل بزوغ نور الرسالة المحمدية على الوجود. (أمهات المعصومين، السيد محمد الشيرازي).
3- 3 تذكر المصادر أن الإمام علي علیه السلام هو أصغر بني فاطمة بنت أسد علیها السلام من الذكور و جعفر أسن منه بعشر سنين، و عقيل أسن منه بعشر سنين، و طالب أسن من عقيل بعشر سنين. و فاطمة علیها السلام أمهم جميعاً، للمزيد ينظر: بن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، م. س، ص40.

أبيهم أبي طالب، و لم تذكر المصادر و السير أنها زحفت إلى الكعبة بحملها إبان الطلق، إلا عند وضعها لصغيرها المقدّس علي لخصوصية شاءها الخالق العظيم، و شهادة ربانية بعلو شأن الوليد القادم للوجود.

فها هو القمر قد اكتمل أو كاد، ففي يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رجب المبارك بعد عام الفيل بثلاثين سنة، أي قبل البعثة النبوية بعشر سنين(1)، و لما مضى من الليل ثلثه، أتى أمر اللَّه ، فسمعت فاطمة بنت أسد قائلاً يقول: (يا فاطمة علیها السلام عليك بالبيت الحرام)، فاستجابت وانطلقت إلى الكعبة بروايات عديدة، منها أنها كانت لوحدها، و أخرى أنَّ أبا طالب رافقها، و هي الرواية المرجّحة هنا، فما كان له أن يترك زوجه في حال المخاض وحدها في الليل البهيم!

و كأنها قصدت بيته للزيارة والتبرك بالفرج مما ألم بها، لا للولادة و الوضع، وقفت بإزاء جدار الكعبة تستفتح أبواب الرب المغلقة من دون الخلق أجمعين. أي أيتها الأبواب انفتحي فأنا العبدة اللَّه، الموحدة بك، إليك التجأت يا اللَّه... فكان الذي انفتح الجدار الصلد لا الباب المغلق، إمعاناً في تنبيه العقول الحاضرة و اللاحقة، إن الحدث جلل و ليس بالهين،

ص: 31


1- تذكر بعض المصادر أن الولادة كانت قبل البعثة النبوية باثنتي عشرة سنة للمزيد ينظر: موجز سيرة الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم و أهل البيت علیه السلام، تأليف و نشر: لجنة التأليف -مؤسسة البلاغ، ط ا، 1414ه_ - 1993م، المطبعة: صدر قم، طهران، الجمهورية الإسلامية في إيران، ص59.

و إلا كان بمقدور العزيز الجليل أن يفتح لفاطمة علیها السلام باب الكعبة ثم يغلقه دونها، ولكنه أراد في شق الجدار وغلقه ثانية دونها، وضع الشوكة في أحداق المكابرين و المغالطين والناكرين.

و هنا يدلو بشهادته شاهد حضر الموقف فنقله للأجيال، قال يزيد بن قعنب(1): كنت جالساً و العباس بن عبدالمطلب رضي اللَّه عنه، و فريق من بني عبد العزى، بإزاء بيت اللَّه الحرام، إذ اقبلت فاطمة بنت أسد علیها السلام، أم أمير المؤمنين علیه السلام، و كانت حاملاً به لتسعة أشهر، و قد أخذها الطلق، فقالت: "يا رب إني مؤمنة بك، و بما جاء من عندك من رسل و كتب، و إني مصدقة بكلام جدي إبراهيم الخليل علیه السلام، إنه بنى البيت العتيق، فبحق الذي هذا البيت، و (الجنين) الذي في بطني إلا ما يسرت عليّ ولادتي".

قال يزيد بن قعنب: فرأيت البيت قد انشق عن ظهره و دخلت فاطمة علیها السلام فيه، و غابت عن أبصارنا، و عاد إلى حاله، فرُمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أن ذلك من أمر اللَّه تعالی(2).

ص: 32


1- علي محمد علي دخيل، فاطمة بنت أسد رضي اللَّه عنها، ص17.
2- أجمعت المصادر من الطرفين على صدق الرواية، و حديث فاطمة بنت أسد علیها السلام أمام جدار الكعبة و ولادتها للإمام علي علیه السلام في الكعبة أمر مستفيض، صرح به المئات من المؤرخين و أهل السير و قد جمع العلامة المحقق الشيخ محمد علي الأوردبادي طاب ثراه في كتابه (علي وليد الكعبة) أكثر من مائة مصدر مصرحة بذلك.

و في استذكار آخر، قال أبو طالب علیه السلام: أشفقت عليها في ذلك و أردنا أن نفتح الباب لنصل إليها بعض نساءنا فلم نستطع أن نفتح الباب فعلمنا أن هذا الأمر من اللَّه سبحانه و تعالى(1).

إن ما وقع من الحدث خارج جدران الكعبة رأته الأعين، و أما ما جرى داخل جدران الكعبة، فأمر لم يشهده إلا اللَّه جل في علاه و فاطمة بنت أسد علیها السلام و وليدها علي علیه السلام و الملائكة و النسوة المبعوثات من عوالم الأولين لشهود ولادة سيد الوصيين.

لقد فتح علي بن أبي طالب علیه السلام عينيه على الوجوه، فرأى وجوه نسوة مباركات تحدّق فيه بحنو و تتلقف بلهفة هذا المولود المتفرد الولادة، في أشرف بقعة أرض بسطها الباري لخلقه.

أما النسوة فكنَّ خمسة برواية الأم(2): «... وإذا خمسة نساء(نسوة) كأنهن الأقمار قد دخلن عليَّ علیه السلام، و عليهنَّ ثياب من الحرير و الاستبرق، و يفوح طيبهن كالمسك فقلن لي: السلام عليكِ يا بنت أسد ثم جلسن بين يدي و مع إحداهن جونة في فضة... و هنَّ حواء، و مريم، و هي صاحبة الجونة

ص: 33


1- موجز سيرة الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم و أهل البيت علیهم السلام، م. س، ص59.
2- رجب البرسي الحلي، مشارق أنوار اليقين في حقائق و أسرار أميرالمؤمنين علیه السلام، تحقيق: جمال المازندراني، دار القارئ للطباعة و النشر و التوزيع، ط1، 1427 ه_ - 2006م.

فطيبته بها من طيب الجنة و آسيا بنت مزاحم و سارة زوجة إبراهيم علیها السلام الملا، و الخامسة أم موسى علیه السلام، و كشفن عن سرته فإذا هي مقطوعة. قالت فاطمة علیها السلام: «ثم خرجت النسوة عني».

و ما كانت فاطمة بنت أسد علیها السلام لتعجب مما رأت من عجائب المشاهد و الوقائع، فلقد سبق لها و أن شهدت ما يماثل هذه المناظر، فقد روي في روضة الواعظين عن النيسابوري: أن فاطمة بنت أسد علیها السلام حضرت ولادة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلم، فلما كان وقت الصبح قالت لأبي طالب: رأيت الليلة عجباً، يعني حضور الملائكة و غيرها فقال: انتظري سبتاً تأتين بمثله فولدت أميرالمؤمنين علیه السلام بعد ثلاثين سنة.

في واقعة الولادة المباركة هذه تفاخرت الأم و ابنها، أما الأم، فقد خرجت بعد ثلاثة أيام في الكعبة، خرجت في اليوم الرابع، و على يدها وليدها قائلة لمن يستفهمها: أني فُضّلتُ على من تقدمني من النساء، لأن آسية بنت مزاحم قد عبدت اللَّه سراً في موضع لايحب اللَّه أن يعبد فيه إلا اضطراراً ، و أن مريم بنت عمران علیها السلام هزت النخلة اليابسة حتى أكلت منها

رطباً جنياً، و إني دخلت بيت اللَّه الحرام فأكلت من ثمار الجنة و أرزاقها، فلما أردت أن أخرج هتف بي هاتف و قال: يا فاطمة علیها السلام سميه علياً علیه السلام، فهو علي علیه السلام، و اللَّه العلي الأعلى يقول: شققت اسمه من اسمي، و أدبته بأدبي،

ص: 34

و أوقفته على غامض علمي و هو الذي يكسر الأصنام و يمجدني، فطوبى لمن أحبه و أطاعه، و ويل لمن أبغضه و عصاه(1).

إنَّ انفطار جدار الكعبة لفاطمة بنت أسد علیها السلام هو دليل قاطع على طهر الوالدة و الوالد و الوليد معاً، و على أن فاطمة بنت أسد علیها السلام و بعلها أباطالب كانا على ملة إبراهيم الموحدة فولد الإمام علي علیه السلام هاشمياً من أبوين هاشميين موحدين اللَّه تعالى قبل ظهور الإسلام و بزوغ نوره، و لولا توحيدهما لما انشق جدار الكعبة، لتضع زوجة أبي طالب وليدها المبارك داخل كعبة محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم.

قال سيد الشعراء في القرن الثاني الهجري إسماعيل الحميري:

وَلَدَتْهُ في حَرم الإله و أمنه *** و البيتِ حيثُ فِناؤه و المسجد

بيضاءُ طاهرةُ الثيابِ كريمةٌ *** طابتُ و طابَ وليدُها و المولِدُ(2)

إنَّ من حق الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام أن يفتخر فخراً إضافياً بواقعة الولادة هذه، فلم تقع الأعين على الوليد عارياً من القوابل أو المقربات من نسوة القوم ... إنها فقط أمه من شهدت ولادته و بضعة نسوة صديقات من سالف الزمان و غابره، لم يعاصرنه و لم يعاصرهن.

ص: 35


1- علي محمد علي دخيل، فاطمة بنت أسد علیها السلام، م. س، ص19.
2- أبوحيدر عبد الزهرة الخزاعي، الإمامة عقيدة قرآنية، العارف للمطبوعات، ط1، 1431ه_ -2010 م، ص152.

إنّ ولادة النور يوم مولد النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم كانت سبقاً و إيذاناً بولادة شطره النور الآخر يوم مولد الوصي علیه السلام، فعن أبي عبداللَّه علیه السلام قال: إن اللَّه كان إذ لا كان فخلق الكان و المكان، و خلق نور الأنوار الذي نورت منه الأنوار، و أجرى فيه من نوره الذي نوّرت منه الأنوار، و هو النور الذي خلق منه محمداً صلي اللَّه علیه و آله و سلم و علياً علیه السلام، فلم يزالا نورين أولين إذ لا شيء كوّن قبلهما، فلم يزالا يجريان طاهرين مطهرين في الأصلاب الطاهرة حتى افترقا في أطهر طاهرين في عبداللَّه و أبي طالب علیه السلام(1).

وكما كان طهر الأب و الأجداد، مثله كان طهر الأم و الأمهات ففي قول للإمام علي علیه السلام أنَّ النبي محمداً صلي اللَّه علیه و آله و سلم قال: إنا (أول) أهل بيت علیهم السلام قد أذهب اللَّه عنا الفواحش ما ظهر منها و ما بطن.

و قال النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم: إِنَّ في قوله «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ»(2) فانتهت الدعوة إلي وإلى علي علیه السلام.

و في خبر (أنا دعوة إبراهيم)، و إنَّما عنى بذلك الطاهرين لقوله: نقلت من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات لم يمسني سفاح الجاهلية.

ص: 36


1- رجب البرسي، مشارق أنوار اليقين...، م. س، ص60 ، نقلاً عن الكافي 1/ 441 باب مولد النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم، حدیث9.
2- سورة إبراهيم: 35.

وقد شارك الوصي علي علیه السلام أخاه النبي محمداً صلي اللَّه علیه و آله و سلم هذا الأمر فلم تحمله سوى الأرحام المطهرات، لينتقل من صلب و رحم مطهر إلى آخر، حتى استودعته العناية الإلهية رحم فاطمة بنت أسد علیها السلام التي كانت أماً للنبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم قبل الو صي، و ما فتئ يناديها محمد رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم ب_ (يا أماه) حتى الوفاة فمن هي أول الفواطم في حياة علي علیه السلام؟

ص: 37

أول الفواطم... أم محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم و علي علیه السلام

كانت أحضان أول الفواطم هي مهد علي بن أبي طالب علیه السلام و مأمنه، ففي حضن فاطمة بنت أسد علیها السلام الطاهر الحنون تفتحت وردة حياة الإمام، و ترعرعت في ظل أسرة مؤمنة موحدة مستقرة تظللها المحبَّة و التفاهم و الانسجام.

ففاطمة بنت أسد علیها السلام زوج أبي طالب، و أبوطالب زوج فاطمة بنت أسد علیها السلام، و لا إلى غيرها ركن، فجاءته بالبنين في كل عقد من الزمان بصبي، كالدرر الكريمة يعز أن يستكثرها الزمان أو يجود بمثلها.

و قبل ميلاد علي، أصغر الأبناء و أشد الجواهر ندرة و لمعاناً، كانت أول الفواطم قد مارست دور الأم لأكثر من ثلاثين عاماً، فكانت أماً لصبيانها و بناتها و كذلك أتحفت الوجود بتربيتها و عنايتها لخير الخلق و سيد البشر (محمد بن عبداللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم) عليه صلوات اللَّه و على آله.

إنَّ وقفة متأنية عند هذه العلاقة الحميمية ما بين النبي محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم و زوجة عمه هي جديرة بالبحث و التفكير و التقصي. فمن الطبيعي أن يولي أبوطالب، رعايته و اهتمامه لابن أخيه الصغير يتيم الأبوين، و بعد وصية لازمة من الجد عبدالمطلب(1)، أمَّا النادر فهو رعاية فاطمة بنت أسد علیها السلام

ص: 38


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج1، ص118.

لابن (حماها) و حبها له و تفانيها في خدمته سنين قاربت العقدين من الزمان، و مبادلة الصبي اليتيم لها هذا الود في مواقف و أحاديث توثق عمق العلاقة العائلية الكريمة التي و فرتها هذه المرأة -النموذج، لصبيانها الخمسة من دون تفريق بينهم أو حسد أو ضغينة، بل أنها أعجزت المتعارف عليه من العادات و القيم بتفضيلها ابنها (محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم) على بقية أخوته بنص تصريح النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم بذلك.

لقد كان النبي محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم يعامل فاطمة بنت أسد علیها السلام كما يعامل ابن بر أماً، و ظل يبرها حتى بعد زواجه.(1)

إنَّ أول أحاديث الفخر بهذه الأم الرؤوم من قبل ولدها النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم قوله لولدها الوصي: «يا علي علیه السلام لك أشياء ليست لي، منها أن لك زوجة مثل فاطمة علیها السلام و ليست لي مثلها علیها السلام، و لك ولدان من صلبك و ليس لي مثلهما من صلبي، و لك مثل خديجة أم أهلك و ليس لي مثلها حماة ، و لك صهر مثلي و ليس لي

صهر مثلي، و لك أخ في النسب مثل جعفر و ليس لي مثله في النسب، و لك أم مثل فاطمة بنت أسد علیها السلام الهاشمية المهاجرة و ليس لي مثلها.(2)

ص: 39


1- عبدالرحمن الشرقاوي، علي علیه السلام إمام المتقين، مؤسسة مدين للطباعة و النشر، مطبعة برستش، ط1، 1423ه_ / 2002م، ص16.
2- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، 2، انتشارات ذوي القربى، تحقيق: يوسف البقاعي، ط3، 1429 ه_ ق، 1387 ه_ ش ، المطبعة سليمان نزادة، قم – طهران. ص194.

و من الطبيعي أن يذكر النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم الإمام علي علیه السلام بالفخر بكل هذه الشمائل، ولكن لا أحد يفضل أماً على علیه السلام أمه الطبيعية، إلا إذا كانت له نعم الأم من بعد يتم، و هذا ما كانت عليه فاطمة بنت أسد علیها السلام. فقال فيها محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم هذا القول الفصل بأنها أما فاقت بالمثال جميع الأمهات حتى أم خير الرسل صلي اللَّه علیه و آله و سلم و خاتم الأنبياء و هو يسميها بالاسم و ينعتها (بالهاشمية المهاجرة) تأكيداً منه على إعزازها و توقيرها.

قد فصَّلتْ كتب السير الحديث في فضل هذه المرأة المؤمنة و أسهبت إلى حد التواتر، و منها قوله صلي اللَّه علیه و آله و سلم: «لم نلق بعد أبي طالب أبر بي منها»(1) و قوله فيها «رحمك اللَّه يا أمي! كنت أمي بعد أمي تجوعين و تشبعيني و تعرين و تكسيني، و تمنعين نفسك طيب الطعام و تطعميني تريدين بذلك وجه اللَّه عزّوجل و الدار الآخرة»(2) ففاطمة علیها السلام هنا لاتتصنع الإحسان مرضاة لزوج أو عشير أو جار يرقب فعلها، بل إنها تريد مرضاة الخالق في كلّ ما أغدقته على ولدها (محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم) من إيثار و محبَّة فائقة.

ولكننا لن نعجب من حسن صنيعها لو تتبعنا سيرة حياة أول الفواطم، و وجدناها تنبع من أصول الأنبياء، التي أشار إليها أبوطالب في

ص: 40


1- علي محمد علي دخيل ، فاطمة بنت أسد علیها السلام ، م. سر، ص42.
2- الموفق بن أحمد الخوارزمي (568 ه_)، المناقب،1، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، ص33.

41

خطبته عند نكاح فاطمة بنت أسد علیها السلام: «الحمد للَّه رب العالمين، رب العرش العظيم، و المقام الكريم، و المشعر و الحطيم، الذي اصطفانا أعلاماً و سدنة، و عرفاء و خلصاء، و حجة بهاليل أطهار من الخنا و الريب، و الأذى و العيب، و أقام لنا المشاعر، و فضلنا على العشائر نخب آل إبراهيم و صفوته، و زرع إسماعيل، في كلام له ثم قال: و قد أسد و سقت المهر و نفذت الأمر فاسألوه و اشهدوا فقال تزوجت بنت أسد: زوجناك و رضيناك، ثم أطعم الناس فقال أمية بن الصلت:

أغمرنا عرس أبي طالب *** و كان عرساً لبن الحالب

أقرؤه البدو بأقطاره *** من راجل خف و من راكب

فنازلوه سبعة أحصيت *** أيامه-ا للرجل الحاسب(1)

إن تلكم الكلمات التي قالها أبوطالب هي عين اليقين في توحيده اللَّه و تعبده لرب الأرباب و افتخاره بالانتساب لخير أنساب الأنبياء و هذا ما أشار إليه النبي محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم مراراً، فعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: سألت رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم عن ميلاد علي بن أبي طالب علیه السلام، فقال: سألتني عن خير مولود ولد في شبه المسيح، إن الله تبارك و تعالى خلق علياً من نوري و خلقني من نوره و كلانا من نور واحد ، ثم أن اللَّه عزّوجل نقلنا من

ص: 41


1- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب –2، م. س، ص197.

صلب آدم في أصلاب طاهرة إلى أرحام زكية فما نقلت من صلب إلا و نقل علي معي فلم نزل كذلك حتى استودعني خير رحم و هي و استودع علي خير رحم و هي فاطمة بنت أسد علیها السلام».(1)

لقد تربى النبي محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم و الإمام علي علیه السلام في كنف ذات الأسرة و ذات المربية، العالية الشأن، و لم يكن حب فاطمة بنت أسد علیها السلام و أبوطالب لمحمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم من ترف و فضلة غنى، فقد كان أبوطالب لامال له،(2) و مع ذاک کان حبه للرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم حباً شديداً لايحبه ولده، و كان لاينام إلا إلى جنبه، و يخرج فيخرج معه، و صب به أبوطالب صبابة لم يصب مثلها بشيء قط.(3)

تمر الأيام ببيت فاطمة بنت أسد علیها السلام، و الزاد فيه قليل فلايأذنوا لأولادهم بالأكل من دون حضور الحبيب محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم، فيأتي القول: «كما أنتم حتى يحضر ابني». و كان صبية أبي طالب يصبحون رمضاً شعثاً،

و يصبح رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم دهينا كحيلاً،(4) في صورة رائعة من عناية الأم بصبيها الأثير.

ص: 42


1- جواد جعفر الخليلي ، أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام القسم الأول، الإرشاد للطباعة و النشر و دار الهدى، ط2، بيروت -لبنان ، 1452 ه_ - 2001 م، ص20.
2- ابن سعد، الطبقات الكبرى -ج1، ص119.
3- المصدر نفسه، ص120.
4- " قل أن يسود فقير وساد أبوطالب " للمزيد ينظر: شرح ابن ابي الحديد، 1 / 29.

لقد كانت فاطمة بنت أسد علیها السلام شريكة أبي طالب في هذه الرعاية للرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم، فقد كانت تقدمه على أولادها براً به، و عطفاً عليه، حتى يسميها (أماه). و إذا ما استذكرها في أحاديثه قال عنها: «إنها كانت من أحسن خلق اللَّه صنيعاً بي، بعد أبي طالب. و كانت أمي بعد أمي التي ولدتني. إن أباطالب كان يصنع الصنع، و تكون له المأدبة، و كان يجمعنا على طعامه، فكانت هذه المرأة تفضل منه كله نصيباً فأعود فيه».(1)

لقد شبَّ «محمد بن عبد اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم» في ظل رعاية فاطمة علیها السلام و زوجها، فكانا أفضل أبوين غذيا ابنهما بكل مكرمة حميدة، فمع فاطمة علیها السلام و أبي طالب شب النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم يكلؤه اللَّه و يحفظه و يحوطه من أمور الجاهلية و معايبها...

حتى إذا بلغ مبلغ الرجال كان أفضل قومه مروءة و أحسنهم خلقا، و أكرمهم مخالطة، و أحسنهم جواراً. و أعظمهم حلماً و أمانة، و أصدقهم حديثاً و أبعدهم من الفحش و الأذى. و ما رُئي مُلاحياً و لاممارياً أحداً حتى سماه قومه الأمين.(2)

وإذا ما صرفنا النظر عن الآيات و الأحاديث و رجعنا إلى السيرة التاريخية للنبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم و الوصي لوجدنا اقتران تاريخ محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم بتاريخ علي لايكاد

ص: 43


1- موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) في الكتاب و السنة و التاريخ، محمد الريشهري، ج1، ص70.
2- ابن سعد، الطبقات الكبرى -ج1، ص121.

يفترقان حتى يلتقيا مجدداً، فإذا ذكرت نشأة محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم ذكرت بيت أبي طالب و فاطمة بنت أسد علیها السلام، و إذا ذكرت بعثة محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم و دعوته إلى الإسلام ذكرت عليا علیه السلام و أباه و دفاعهما عنه(1) و سابقة فاطمة بنت أسد علیها السلام في الإيمان و التصديق و الهجرة و المبايعة.

لقد بادلت فاطمة بنت أسد علیها السلام النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم حباً بحب و إيثاراً بإيثار و فضلاً بفضل، فها هي تضع وليدها علي بعد ثلاثين عاماً من ولادة أخيه محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم، فتلقفه منها شوقاً لضمه تحت جناحه فيغدو لصيقاً به، لايفارقه. فهما قد خلقا من نور واحد.(2)

تذكر السير

في خبر طويل أن فاطمة بنت أسد علیها السلام رأت النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم يأكل تمراً له رائحة تزداد على كل الأطايب من المسك و العنبر من نخلة لاشماريخ لها، فقالت: ناولني أنل منها، فقال لها: «لاتصلح إلا أن تشهدي معي: أن لا إله إلا اللَّه و أني محمد رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم، فشهدت الشهادتين، فناولها فأكلت فازدادت رغبتها و طلبت أخرى لأبي طالب فعاهدها أن لاتعطيه إلا بعد الشهادتين فلما جن عليها الليل اشتم أبوطالب نسماً ما اشتم مثلها قط،

ص: 44


1- محمدجواد مغنية، فضائل الإمام على علیه السلام منشورات دار الهلال و دار الجواد للطباعة و النشر، ط2، 198، بیروت ، ص31.
2- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب2، ص196.

فأظهرت ما معها فالتمس منها فأبت عليه إلا أن يشهد الشهادتين فلم يملك نفسه أن شهد الشهادتين غير أنه سألها أن تكتم عليه لئلا تعيره قريش فعاهدته على ذلك، فأعطت ما معها و أدى إلى زوجته، فعلقت بعلي في تلك الليلة].(1)

لقد أطعم اللَّه عزّوجل سيدالأوصياء علي علیه السلام و أمه فاطمة بنت أسد من ثمار الجنة قبل الولادة و بعد الولادة، ففي رواية شعبة بن قتادة عن أنس عن العباس بن عبدالمطلب، و في رواية عن الحسن بن محبوب عن الإمام الصادق علیه السلام، إن جدار البيت العتيق عندما انفتح من ظهره و دخلت فاطمة علیها السلام، فيه ثم عادت الفتحة و التصقت و بقيت فيه ثلاثة أيام، فأكلت من ثمار الجنة فلما خرجت قال علي علیه السلام: «السلام عليك يا أبه

ص: 45


1- محسن باقر القزويني، علي بن أبي طالب علیه السلام رجل المعارضة و الدولة، دارالعلوم للتحقيق و الطباعة و النشر و التوزيع ط1، لبنان، 1425ه_ - 2004 م، ص17، نقلاً عن: [ قال سلمان المحمدي: سمعت حبيبي رسول اللّه صلى اللَّه عليه و آله و سلم يقول: كنت أنا و علي علیه السلام نوراً بين يدي اللَّه و طيفا اللَّه ذلك النور و يقدسه قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق اللَّه آدم ركز ذلك النور في صلبه، فلم نزل في شيء واحد حتى افترقنا في صلب عبدالمطلب فجزء أنا و جزء علي... أورده ابن عساكر في تاريخ دمشق ترجمة الإمام علي ابن أبي طالب علیه السلام، ج1، ص137، عن سند صحيح و وثقه لسان الميزان ج3، ص229 و ميزان الاعتدال ج8، ص23 و رواه الإمام أحمد بن حنبل في الحديث 252 من كتاب الفضائل و رواه الخوارزمي في الفصل 14 في المناقب ص88 ].

و رحمة اللَّه و بركاته» ثم تنحنح و قال: بسم اللَّه الرحمن الرحيم ««قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ»،(1) فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلم:«قد أفلحوا بك أنت و اللَّه أميرهم، تميرهم من علمك فيمتارون، و أنت واللَّه دليلهم و بك واللَّه يهتدون»، و وضع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلم لسانه في فيه فانفجرت اثنتا عشرة عيناً، قال فسمي ذلك اليوم يوم التروية، فلما كان من غده و بصر علي برسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلم سلم و عليه و ضحك في وجهه و جعل يشير عليه فأخذه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلم فقالت فاطمة علیها السلام: عرفه فسما ذلك اليوم عرفة».(2)

و ما ان مرّت على ولادة الطفل أيام حتى قال النبي صلى اللَّه عليه و آله و سلم لفاطمة بنت أسد علیها السلام: اجعلي مهده بقرب فراشي. فلبت السيدة فاطمة علیها السلام طلب العزيز محمد صلى اللَّه عليه و آله و سلم، و وضعت مهد وليدها جنب فراشه.(3) و قد ورد عن فاطمة بنت أسد علیها السلام قولها أنها لما وضعت علياً علیه السلام، و جاءت به إلى الدار امتنع عن ثديها ثلاثة أيام فكان النبي صلى اللَّه عليه و آله و سلم يأخذه و يغذيه من ريقه.

يقول الحسين بن زيد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب علیه السلام «سمعت زيداً أبي لايقول: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلم يمضغ اللحمة

ص: 46


1- سورة المؤمنون: 1.
2- بن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب/2، ص198.
3- محمد رضا عباس محمد الدباغ، سيرة المرتضى بأسلوب قصصي ميسر، شكوري مطبعة قلم، ط1، 2005 م، إيران، ص58.

و الثمرة حتى تلين و يجعلها في فم علي علیه السلام و هو صغير في حجره».(1)

و قد أشار الإمام علي علیه السلام لتلك العناية و الرعاية الأثيرتين اللتين خص بها الرسول صلى اللَّه عليه و آله و سلم الأكرم الإمام علي علیه السلام فيصفها بالقول:«و قد علمتم موضعي من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلم بالقرابة القريبة، و المنزلة الخصيصة، و ضعني في حجره و أنا ولد، يضمني إلى صدره و يكتنفني في فراشه، و يمسني جسده، و يشمني عرفه، و كان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، و ما وجد لي كذبة في قول، و لاخطلة في فعل، و لقد قرن اللَّه به صلى اللَّه عليه و آله و سلم من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم و محاسن أخلاق العالم، ليله و نهاره، و لقد كنت أتبعه إتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً، و يأمرني بالاقتداء به، و لقد كان يجاور في كل سنة بحراء ، فأراه و لايراه غيري، و لم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلم و خديجة و أنا ثالثهما، أرى نور الوحي و الرسالة، و أشم ريح النبوة صلى اللَّه عليه و آله و سلم...».(2)

لم يكن الإمام علي علیه السلام طفلاً عادياً، فلقد حباه الإله بكل الشمائل و الصفات الحميدة، بل لقد قلده منتهاها حتى انحسرت عن غيره محاسنها و أردفت به دون غيره على و فرتها، ففي الشجاعة، و هو طفل

ص: 47


1- شرح ابن أبي الحديد، م3، ص251.
2- الأنصاري، أهل البيت علیهم السلام... إمامتهم... حياتهم/ ص 225.

كانت أمه فاطمة بنت أسد علیها السلام أول من تحرى فيه بواكير بزوغها، كانت تشده بالقماط فتجعله قماطين فشقهما، فإذا جعلته ثلاثة و زادت في سماكته من جلد و حرير فلم يجديها نفعاً، فاضطرت إلى تركه بدون قماط، وكان أبوه أبوطالب يجمع له أولاده و أولاد أخوته و يأمرهم بمصارعته، فكان علي يحسر عن ذراعيه، و يصارع الكبير منهم و الصغير فيصرعه، و في ذات يوم كان يسير مع طفل أكبر يسير مع طفل أكبر منه سنة، فما شعر إلا و الطفل يهوي في البئر على رأسه، فأسرع علي وأخذ برجله وأنقذه».(1)

و لاعجب، فلقد كان علي علیه السلام على هيئة الأسد قلبا و قالباً غليظاً منه ما استغلظ، دقيقاً منه ما استدق.(2) و كانت والدته و والده يدركان ما يمتلكه علي من شجاعة و صلابة، و يذكر أن أباطالب كان شديد الحفاظ على محمد صلى اللَّه عليه و آله و سلم فكان يبادل مكان نومه فيأخذه ويضعه في فراش علي علیه السلام و يضع علياً علیه السلام مكانه، مع العلم كان لأبي طالب أربعة من الأولاد أصغرهم علي علیه السلام، و لما سئل عن سبب إيثار علي علیه السلام بهذا الفداء و هذه التضحية. أجاب: إن لعلي علیه السلام من الشجاعة ما ليس لسواه.(3)

ص: 48


1- محمد جواد مغنية، فضائل الإمام علي علیه السلام، م. س، ص29.
2- بن شهر آشوب، مناقب أبوطالب - 3، ص353.
3- مهدي محبوبة، ملامح من عبقرية الإمام، تقديم و تمهيد: هاشم محمد الباججي، إصدارات العتبة العلوية المقدسة قسم الشؤون الفكرية و الثقافية، المعارف للمطبوعات، بيروت -لبنان، العراق -النجف الأشرف، 2011 م، ص135.

و قد تميز الإمام علي علیه السلام حتى في أسرته الصغيرة، و كان الأبرز ما بين أخوته.

فعن أسماء بنت عميس قالت: حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب قالت:«کان علي من أجود الناس، لقد كان أبوه يوجه معه باللطف إلى بعض أهله، فيقول: يا أبه، هذا قليل زده، ثم يأتي أمه فاطمة بنت أسد علیها السلام، فيقول: يا أمه زيدي عليه من نصيبي: فتفعل، و لقد كان يدفع إليه وإلى عقيل الشيء يسوي بينهما، فيميل عقيل عليه، ويقول له: أعطيت أنت أكثر مما أعطيت أنا ! فيضعه على نصيبه بين يديه، و يقول له: «خذ منه ما تريد».(1)

لقد بقي علي في أسرته حجر الأساس و قطب الرحى، حتى عندما شاءت إرادة السماء أن تضمه إلى جنب أخيه و ابن عمه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلم و هو في السادسة من عمره عندما تعرضت قريش لأزمة اقتصادية خانقة، و كانت و طأتها شديدة على أبي طالب علیه السلام إذ كان رجلاً ذا عيال كثير، و كهفا يلوذ به المحتاج و الفقير، بحكم مركزه الاجتماعي في مكة، فأقبل الرسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلم مع أعمامه للتخفيف عن أبي طالب و أخذ أحد أبنائه كل واحد منهم.

ص: 49


1- علي الأحمدي الميانجي، عقيل بن أبي طالب ، تحقيق و مراجعة مجتبى فرحي، دارالحديث للطباعة و النشر، ط1، إيران -لبنان، ص75.

فكانت قسمة رب الأرباب أجلى برهاناً و أوفى اقتساماً، فعلي لمحمد صلى اللَّه عليه و آله و سلم، و محمد صلى اللَّه عليه و آله و سلم لعلي علیه السلام، ما كان لهما أن يفترقا أكثر من بضع سنين، و إن كانا لم يفترقا قط. كان الإمام علي علیه السلام بهذه الانتقالة الربانية من كنف فاطمة بنت أسد علیها السلام إلى كنف ابن عمه قد أصبح حلقة و صل بين بيت النبوة صلى اللَّه عليه و آله و سلم و أسرته و شاء المهيمن العزيز أن يكون بيت أبي طالب أول بيت يدخله الإسلام، يبدأ بعلي علیه السلام، ثم يتلاحق أفراد العائلة واحداً بعد واحد.(1)

فقد ذكر ابن الجوزي أن فاطمة بنت أسد علیها السلام كانت أول امرأة بايعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلم بمكة بعد خديجة علیها السلام، و يذكر ابن أبي الحديد أنها أسلمت بعد عشر من المسلمين، و كانت الحادية عشرة، و أن فاطمة علیها السلام أول امرأة بايعت الرسول صلى اللَّه عليه و آله و سلم من النساء(2) أما هجرتها فحکایة تروي أنها هجرة الفواطم مع علي علیه السلام أسد الإسلام و فارسه.

خرج علي علیه السلام بالفواطم يريد المدينة حسبما أمره الرسول صلى اللَّه عليه و آله و سلم فأدركه ثمانية فرسان ملثمون معهم (جناح) مولى لحرب بن أمية.(3)

و ما كانت مسيرته بالفواطم هذه مهمة سهلة، فقد قضى الليالي الثلاث التي سبقتها في مكة يؤدي أدوار البطولة التي أناطها به النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم، أعظمها

ص: 50


1- علي محمد علي دخيل، فاطمة بنت أسد000، ص28.
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة /ج1، ص40.
3- مهدي محبوبة، ملامح من عبقرية الإمام، ص204.

فداؤه بنفسه في المبيت في فراشه، ثم رده للودائع إلى أربابها ثم جمعه لبنات و نساء أهله و الهجرة بهن إليه.(1)

قال المفيد: فقام علي علیه السلام به أحسن القيام ورد كل وديعة إلى أهلها، و أعطى كل ذي حق حقه و حفظ بنات نبيه صلى اللَّه عليه و آله و سلم و حرمه و هاجر بهن ماشياً على قدميه يحوطهن من الأعداء، و يكلاهن من الخصماء و يرفق بهن في المسير، حتى أوردهن عليه المدينة على أتم صيانة و حراسة و رفق و رأفة و حسن تدبير...».(2)

و لقد ظل في رحلته تلك ليالي أربع عشرة وحيداً يسبح في بحر لجي من الرمال تحته و من الأنجم و الكواكب فوقه(3) و همه حفظ الفواطم و إيصالهن مبتغاهن، و هن فاطمة بنت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلم و أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، و فاطمة بنت الزبير بن عبدالمطلب و فاطمة بنت الحمزة تنفيذاً لأوامر سيده و حبيبه و أخيه التي بعثها إليه بكتاب جاء فيه: «بسم اللَّه الرَّحمن الرِّحيم من عبداللَّه و ابن عبديه محمد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلم إلى علي بن أبي طالب علیه السلام، أما بعد يا علي علیه السلام أن كنت تسأل عن الانصار فجزاهم اللَّه عني

ص: 51


1- محمد الدباغ ، سيرة المرتضى، ص72.
2- الشيخ المفيد، الإرشاد، منشورات المطبعة الحيدرية و مكتبتها في النجف الأشرف، 1962م -1381ه_، ص23.
3- عزيز السيد جاسم، على سلطة الحق، تحقيق و تعليق: صادق جعفر الروازق، منشورات الاجتهاد و العزيز للطباعة و النشر و التوزيع، ط1، 2000م، قم، ص71.

خيراً، فلقد أتوني بمفاتيح دورهم و بذلوا أنفسهم دوني، فإذا وصلك كتابي فاحمل إلي الفواطم و هلم أنت معهن و السلام».(1)

رافقت فاطمة بنت أسد علیها السلام ابنها الشجاع مهاجرة من مكة في وضح النهار، فكان هو فتاها الذي ما فارقته علامات البأس و القوة و الشجاعة طفلاً رضيعاً و صبيا يافعاً، لقد خرج علي بالفواطم في وضح النهار و هو الأمر الذي استصعبه المحيطون به فنصحوه بالتخفي، جادله عمه العباس بن عبدالمطلب فقال له: إنَّ محمداً صلى اللَّه عليه و آله و سلم ما خرج إلا خفية، و قد طلبته قريش أشد الطلب، و أنت تخرج جهاراً، في أثاث و هوادج و مال و رجال و نساء، تقطع بهم السباسب و الشعاب بين القبائل، ما أرى لك ذلك، و أرى أن تمضي في خفارة من خزاعة، فقال له علي علیه السلام:

إن المنية شربة مورودة *** لاتجزعن و شد الترحيل

إن ابن آمنة النبي محمد *** رجل صدوق قال من جبريل

أرخ الزمام و لاتخف *** فاللَّه يرديهم عن التنكيل

إني بربي موقن و بأحمد *** و سبيله متلاحق بسبيلي(2)

ص: 52


1- محمد جواد الطبسي، حياة الصديقة فاطمة -دراسة و تحليل، مؤسسة بوستان کتاب قم، مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي، ط1، 1423ه_، 1381 ش، قم، ص72.
2- المجلسي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، دارالكتب الإسلامية، ج6، ص542.

ثم إن أميرالمؤمنين علیه السلام إلا أقبل حتى صعد على الصفا و نادى: يا معاشر قريش إني خارج غدا بالفواطم فمن أراد منكم أن يتبعني فليفعل، ثم نزل و صعد على المروة و فعل مثل ذلك، فلما أصبح الصباح حمل الفواطم و سار قاصداً إلى المدينة.(1)

ما الذي أراده علي بن أبي طالب علیه السلام بفعل هذا؟

هل هي فورة الشباب و حماسته دفعت به إلى هذا الموقف؟

أم أن تحديه لقريش و شراسة معركتها ضد الإسلام و رسوله و المؤمنين كان فيه استهانة بكل المخاطر و ما سيلاقيه من المتربصين؟

ألم تكن خطوته الجريئة هذه مخاطرة بسلامته و سلامة الفواطم ممن برفقته؟

لا هذا... و لاذاك.

إنَّ عليّاً علیه السلام لما أرادها مأثرة تضاف إلى بقية مآثره في الملأ، و ليعلم القاصي و الداني، و القريب و البعيد برحلته الإيمانية هذه، و ليقلدها عاراً لقريش المعتدية مدى الدهور و الأيام.

فها هي قريش اجتمعت و تحاورت بالقول:(2) هذا ابن أبي طالب قد خرج من بين من بين أظهرنا و قد أورثنا الذل و العار، ثم دخلوا الكعبة، و خروا سجداً للأصنام و سألوها النصر على علي علیه السلام.

ص: 53


1- محمد جواد الطبسي، حياة الصديقة فاطمة علیها السلام، ص73.
2- المصدر نفسه.

أمَّا عليٌ علیه السلام فقد خرج بالفواطم، و تبعه أيمن بن أم أيمن مولى رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم، و أبو واقد، يسوق الرواحل و يعنف بها، فقال له الإمام علي علیه السلام: ارفق بالنسوة أبا واقد، فإنهن ضعائف.

فقال أبو واقد: إني أخاف أن يدركنا الطلب، فقال أمير المؤمنين علیه السلام:

ليس إلا اللَّه فارفع ضنكا *** يكفيك رب الناس ما أهمكا(1)

و قال له: أربع عليك، فإن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم قال لي: يا علي علیه السلام إنهم لن يصلوا من الآن إليك بما تكرهه.

إنَّ علياً علیه السلام و هو في خضم أداء هذه المَهمَّة الجسيمة، لايفكر بطول الرحلة و مشقة الطريق، و لايعبأ بمن سيدركه من فرسان قريش، إنَّ أكبر همه ينصبُّ في تلك اللحظات أن يخفف وطئ الغربة و الهجرة عن ديار مكة الحبيبة و أن لا تتجشم النسوة معه متاعب مضاعفة من سرعة المسير، بل إن الإمام لم يقتصر على الطلب من الحادي الرفق و الترفق في الخطو، فها هو قد مر علیه السلام براعي إبل فقال له: «إذا سألك عني أحد فقل ها هو قريباً متوانياً في مشيه»، فأقبلت قريش حتى مروا بذلك الراعي فقالوا له: هل رأيت رجلاً من صفته كذا و كذا و معه خمسة هوادج ؟ قال: لعلكم تعنون علي بن أبي طالب علیه السلام قالوا: بلى، قال: ها هو قريب منكم.(2)

ص: 54


1- المجلسي، بحار الأنوار، 6، ص542.
2- محمد جواد الطبسي، حياة الصديقة فاطمة علیها السلام، ص73.

و قبل وصول قريش بفوارسها السبعة و ثامنهم مولى الحارث بن أمية و كان يُدعى جناحاً، إلى ركب الفواطم أمر علي علیه السلام كل من أيمن و أبي واقد بأن ينيخا الإبل و يعقلاها فتقدم و أنزل النسوة، ثم أقبل ناحية الفوارس قائلين له: ظننت أنك خارج بالنسوة؟ أرجع لاأبا لك: قال علي علیه السلام: فإن لم أفعل ؟ قالوا: لترجعن بأكثرك شعراً، و أهونه بك من هالك. ودنا الفوارس من المطايا ليثيروها فحال علي بينهم و بين النساء لكي لايسيء أحد لأي منهن.(1)

و نازلهم فارس الإسلام و أسده فكان علیه السلام يشدّ على قدميه شد الفرس أو الفارس على فرسه، فغار على أصحابه فشد عليهم بسيفه شدة ضيغم و هو يرتجز و يقول:

خلوا سبيل الجاهد المجاهد *** آليت لاأعبد غير واحد

فتفرَّق عنه القوم و هو يجول وحيداً بينهم و أعين الفواطم ترقب المنازلة بقلوب و اجفة إلى ربها سائلة النجاة و النصرة، و هكذا عاد إليها منصوراً ليواصل الرحلة بعد أن نزل في ضجنان يوم و ليلة و لحق به عليّ نفر من المستضعفين من المؤمنين، فصلى ليلته تلك هو و الفواطم، طوراً يصلون و طوراً يذكرون اللَّه قياماً و قعوداً و على جنوبهم، فلم يزالوا كذلك حتى طلع الفجر، فصلى علیه السلام بهم صلاة الفجر ثم سار مواصلاً الرحلة لايفتر من ذكر اللَّه، و الفواطم كذلك فنزل الوحي بقوله تعالى: (الَّذِينَ

ص: 55


1- محمد رضا الدباغ، سيرة المرتضى، ص86.

يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاواتِ وَ الأَرْضِ» إِلى قوله: «فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاأُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثى»(1) و الذكر هنا علي والأنثى من الفواطم.(2)

و لم تكن هذه الآية الوحيدة التي نزلت بشأن فاطمة بنت أسد علیها السلام أول الفواطم في حياة علي علیه السلام، فعن جعفر بن محمد علیه السلام: أن فاطمة بنت أسد علیها السلام أول امرأة هاجرت إلى رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم من مكة إلى المدينة على قدميها، و عن مقاتل الطالبيين عن جعفر بن محمد: إن فاطمة بنت أسد علیها السلام أم علي كانت حادية عشرة في السابقة إلى الإسلام و كانت بدوية، و لما نزلت هذه الآية «أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبايِعْنَكَ»(3) كانت فاطمة علیها السلام أول امرأة بايعت رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم.(4)

و كذلك قال ابن عباس، فهي أول امرأة هاجرت من مكة إلى المدينة ماشية حافية، و هي أول امرأة بايعت الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم أول امرأة بايعت الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم بمكة بعد خديجة علیها السلام.(5)

وإذا كان المسلمون يتفاضلون بالهجرة، و المهاجرون أفضل من الذين لم يهاجروا، و كلا وعد اللَّه الحسنى، و المهاجرون الأولون هم

ص: 56


1- سورة آل عمران، آیة191 – 195.
2- علي محمد علي دخيل، فاطمة بنت أسد علیها السلام، ص34.
3- سورة الممتحنة، اية 12.
4- البرهان في تفسير القرآن: 4 / 327.
5- علي محمد علي دخيل، فاطمة بنت أسد، ص36.

أفضل من اللاحقين، فهم نواة هذا الدين و أسسه الذي قام عليه، ففاطمة علیها السلام هي أولى بالفخر فهي أول مهاجرة إلى اللَّه و رسوله صلي اللَّه علیه و آله و سلم... «الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ».(1)

لقد أولى النبي محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم و الإمام علي علیه السلام أمهما فاطمة بنت أسد المهاجرة المبايعة كل رعاية و عناية في المدينة المنورة، و كانوا يخصونها بالتعظيم، فقد كان النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم دائم الوصل لها و كان يزورها و يقيل في بیتها، و يحترمها احتراماً عظيماً، و قد وافتها المنية في حياة النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم و شهدها رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم، إذ أوصت إليه حين حضرتها الوفاة، فقبل وصيتها و صلي علیها.(2)

و من شدّة تقوى هذه الفاطمية الصالحة أنَّها سمعت رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم يقول: يُحشر الناسُ يوم القيامة عراة.

فقالت: واسوأتاه.

فقال رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم: فإني أسأل اللَّه أن يبعثك كاسية.

و سمعته يقول: أو يذكر عذاب القبر.

فقالت: واضعفاه.

ص: 57


1- سورة البقرة: 20.
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج1، ص40.

فقال لها: إني أسأل اللَّه أن يكفيك ذلك.(1)

و قد استجاب الباري لسؤال حبيبه، فأوفى بوعده لها الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم، و فعل في دفنها ما لم يفعله مع أحد قط... فعندما حضرتها الوفاة جاء علي علیها السلام باكياً منتحباً إلى الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم ينعي إليه أمهما الرؤوم العطوف.

قال أميرالمؤمنين علیه السلام: لما ماتت فاطمة بنت أسد علیها السلام بن هاشم كفنها رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم في قميصه، و صلى عليها، و كبر عليها سبعين تكبيرة، و نزل في قبرها، فجعل يومي في نواحي القبر كأنه يوسعه، ويسوي عليها و خرج من قبرها و عيناه تذرفان، و حثا في قبرها، فلما ذهب قال له عمر بن الخطاب يا رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم رأيتك فعلت على هذه المرأة شيئاً لم تفعله على أحد.

فقال: يا عمر إن هذه المرأة كانت أمي بعد أمي التي ولدتني إن أبا طالب كان يصنع الصنع، و تكون له المأدبة ، وكان يجمعنا على طعامه ، فكانت هذه المرأة تفضل منه كله نصيباً فأعود فيه، وإن جبريل السلام أخبرني عن ربي عزّوجل أنها من أهل الجنة، و أخبرني جبريل الا أن اللَّه تعالى أمر سبعين ألفاً من الملائكة ليصلون عليها.(2)

ص: 58


1- سبط ابن الجوزي، يوسف بن قزغلي البغدادي (581 - 654 ه_)، تذكرة الخواص من الأمة بذكر خصائص الأئمة، تحقيق: حسين تقي زادة، مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت السلام، ط1، 1426 ه_، مطبعة: ليلى، ص120.
2- المستدرك على الصحيحين، 3 / 108.

و إن حسن صنيع الرسول الأكرم صلي اللَّه علیه و آله و سلم مع أمه فاطمة بنت أسد علیها السلام عند وفاتها حديث متواتر تذكره مصادر الفريقين، و يعطي صورة صادقة لما كانت عليه هذه المؤمنة الجليلة، بل إن أول الفواطم قد تميزت في حياتها برعايتها لخير خلق اللَّه ابن آدم محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم و أخيه علي علیه السلام، وكذا تميزت في وفاتها وبما قام به النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم من ممارسات إيمانية قل أن أتى بها مع غيرها . فها هو الصحابي عمار بن ياسر يستفهم النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم قائلاً: فداك أبي و أمي يا رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم لقد صليت عليها صلاة لم تصل على أحد قبلها مثل تلك الصلاة.

فيجيبه الابن البار بأمه: يا أبا اليقظان، و أهل ذلك هي مني، لقد كان لها من أبي طالب ولد كثير، و لقد كان خيرهم كثيراً، و كان خيرنا قليلاً، فكانت تشبعني و تجيعهم و تكسوني و تعريهم، و تدهنني و تشعثهم.(1)

و قد روى ابن الأثير: أن رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم كفن فاطمة بنت أسد علیها السلام في قميصه، واضطجع في قبرها، و جزاها خيراً.

وكذا سأله ابن عباس: ما رأيناك صنعت بأحد ما صنعت بهذه، فقال: إنه لم يكن بعد أبي طالب أبر بي منها، إنما ألبستها قميصي لتكتسي من حلل الجنة و اضطجعت في قبرها ليهون عليها عذاب القبر.(2)

ص: 59


1- البحار، المجلسي، ج9، ص17.
2- ابن أبي الحديد، شرح نعج البلاغة، ص4.

بل أن بعض الروايات تزيد في تفصيل الحادثة و تداعياتها على من حضرها. قال ابن دأب: فاطمة بنت أسد علیها السلام بن هاشم التي خاطبها رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم في لحدها، و كفنها في قميصه، ولفها في ردائه، و ضمن لها على

اللَّه أن لاتبلى أكفانها، و أن لاتبدي لها عورة، فلايسلط عليها ملكي القبر، و أثنى عليها عند موتها، و ذكر حسن صنيعها به.(1)

و قد ذكر علي بن محمد بن أحمد المالكي المكي (ابن الصباغ) كيفية مخاطبة الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم لها في لحدها، فقال: فاطمة بنت أسد علیها السلام بن هاشم بن عبدمناف، تجتمع هي و أبوطالب في هاشم و أبوطالب في هاشم، أسلمت و هاجرت مع النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم، و كانت من السابقات إلى الإيمان، و بمنزلة الأم من النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم، فلما كفنها النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم بقميصه، و أمر أسامة بن زيد، و أبا أيوب الأنصاري، و عمر بن الخطاب، و غلاماً أسود، فحفر قبرها، فلما بلغوا لحدها حفره رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم بيده، و أخرج ترابه، فلما فرغ اضطجع فيه و قال: اللَّه الذي يحيي و يميت و هو حي لايموت، اللَّهم اغفر لأمي فاطمة بنت أسد علیها السلام، و لقنها حجتها، و وسع عليها مدخلها، بحق نبيك محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم، و الأنبياء الذين من قبلي، فإنك أرحم الراحمين.(2)

ص: 60


1- علي محمد علي دخيل، فاطمة بنت أسد علیها السلام، ص52.
2- علي بن محمد بن أحمد المالكي المكي المشهور بابن الصباغ ( ت 855 ه_)، الفصول المهمة في معرفة الأئمة، مطبعة العدل، النجف الأشرف، بدون تاریخ، ص14.

و هكذا انتهى دور أول الفواطم في حياة الإمام علي علیه السلام، بعد أن قلدته شرف الولادة و النسب الطاهر، و سبق الإسلام و الهجرة والمبايعة للرسول الأعظم صلي اللَّه علیه و آله و سلم، و أدت مهمة الأمومة العظيمة لمحمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم و علي علیه السلام معاً وحدَّثت عن النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم أكثر من (46) حديثاً وصحبت آمنة بنت وهب في ولادتها و خديجة علیها السلام في زواجها و الزهراء علیها السلام في هجرتها ، فحظيت بالحسنة في الدنيا و الآخرة وحباها الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم بأفضل بره لها في حياتها و بعد مماتها.

سلام على فاطمة بنت أسد علیها السلام يوم ولدت و يوم توفاها اللَّه إلى جواره الكريم، و يوم تبعث حية في عليين مع أولادها الأبرار محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم و علي علیه السلام و جعفر الطيار.

ص: 61

أم فاطمة علیها السلام... أم ثانية

من بيت أبي طالب إلى بيت محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم...

و من حضانة فاطمة بنت أسد علیها السلام إلى احتضان و رعاية أم فاطمة علیها السلام خديجة علیها السلام بنت خویلد.(1)

فبعد وجه أمه الرؤوم أول الفواطم اللواتي مهرن حياة الإمام علي علیه السلام بختمهن المؤثر... ها هو علي ينضوي تحت ظل ربة الأسرة المحمدية خديجة الكبرى علیها السلام.

ففي سن السادسة من عمره فارق علي عائلته الأولى لينتقل للعيش و النضج في عائلته الثانية ليقضي تحت ظلالها الوارفة أهم سني عمره، كانت فيها زوج النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم و أم المؤمنين السيدة خديجة الكبرى علیها السلام، هي

ص: 62


1- هي خديجة علیها السلام بنت خويلد بن أسد، عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي إلى أن ينتهي نسبها إلى عدنان، و أمها فاطمة بنت زائدة الأصم من ولد فهر بن مالك، و أم فاطمة هالة بنت عبد مناف. للمزيد ينظر: يوسف بن قز علي البغدادي سبط بن الجوزي ( 581 - 654 ه_)، تذكرة الخواص من الأمة بذكر خصائص الأئمة، تحقيق: حسين تقي زادة / ج2، مركز الطباعة و النشر للمجمع العالمي لأهل البيت علیه السلام، ط1، 1426 ه_ ق، مطبعة: ليلى، ص303؛ ابن سعد، الطبقات الكبرى 14/8 - 15) في ترجمة أم المؤمنين خديجة علیها السلام)، محمد جواد مغنية، فضائل الإمام علي علیها السلام، ص21.

والدته و مربيته و مرشدته و رفيقته في السبق للإسلام و الإيمان و الصلاة.(1)

ففي ما يقارب الخمسة عشر عاماً(2) عاشها الوصي علي علیه السلام في بيت النبي محمد صلى اللَّه عليه وآله و سلم كانت أم فاطمة الزهراءعلیها السلام فيها خير زوجة للرسول الأكرم صلى اللَّه عليه وآله و سلم و خير رعاية لشؤون بيته، و خير مربية و أم ثانية لعلي علیه السلام، و كأنها تردّ جميل صنع أبي طالب و زوجه فاطمة سلام اللَّه علیها بنت أسد یوم حصّنا الحبيب محمد صلى اللَّه عليه وآله و سلم من عوادي الزمان و اليتم فكانا أباً و أماً و عائلة كريمة ليتيم عبدالمطلب.

و هنا لابد من وقفة متأنية في فهم عملية تبادل الأدوار هذه ما بين عائلة النبي محمد صلى اللَّه عليه وآله و سلم و عائلة الإمام علي علیه السلام، فلا شيء يمكن تركه للصدفة، دور من الأدوار التي مرت بها كلا الشخصيتين كانت بتدبير رباني

ص: 63


1- وفيت خديجة أم المؤمنين علیها السلام بعد وفاة أبوطالب بشهر و خمسة أيام و كانت وفاته للنصف من شوال في السنة العاشرة من حين نبئ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله و سلم و هي يومئذ بنت خمس وستین سنة، فاجتمعت على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله و سلم مصيبتان موت خديجة بنت خويلد، و موت أبي طالب عمه للمزید ینظر: ابن سعد، الطبقات الكبرى، ص125، ابن الأثير. الكامل في التاريخ، ج2، ص291.
2- جاء في كتاب الرياض النضرة للمحب الطبري/ ج2 / ص30 عن عمر بن الخطاب إنه قال: أشهد على رسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله و سلم لسمعته يقول: لو أن السموات السبع و الأرضين السبع وضعت في كفة، و وضع إيمان علي في كفة لرجح إيمان علي علیه السلام.

على وفق حساب دقيق لكي تبقى الشخصيتان لصيقتين أحدهما بالأخرى.(1)

فمحمد صلى اللَّه عليه وآله و سلم اليتيم ذو الست سنوات ينتقل إلى بيت أبي طالب ليكون له أباً و فاطمة بنت أسد سلام اللَّه علیه أماً و علي علیه السلام أخاً حتى انتقاله إلى بيت الزوجية شاباً في العشرين.

و في موقف مطابق ينتقل الصبي علي علیه السلام ذو الست سنوات إلى بيت النبي محمد صلى اللَّه عليه وآله و سلم، لضائقة مالية أو معاشية،(2) ويبقى في ظل أسرته البديلة حتى

ص: 64


1- أما أنه لم يفارق في مشاهده إلا بتبوك، فهو من المسلّمات، و أما تقاربهم في الأوجه الأخرى فقد أشار إليها الإمام علي علیه السلام محدثا عن نفسه: «... و قد علمتم موضعي من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله و سلم بالقرابة القريبة أو المنزلة الخصيصة، وضعني في حجرة وأنا ولد، يضمن إلى صدره، و يكنفني في فراشه، و يمسني جسده، و يشمني عرقه، و كان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، ما وجد لي كذبة في قول، و لاخطلة في فعل، و لقد قرن اللَّه به صلى اللَّه عليه وآله و سلم من لدن أن كان فطيمًا أعظم ملك من ملائكة يسلك به طريق المكارم و محاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره ، و لقد كنت أتبعه إتباع الفيصل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور في كل سنة بحِراء، فأراه و لايراه غيري، و لم يجمع بيت واحد في الإسلام غير رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله و سلم و خديجة علیها السلام و أنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة، و أشم ريح النبوة صلى اللَّه عليه وآله و سلم...» ينظر: الأنصاري، أهل البيت علیهم السلام...، ص225، ابن أبي الحديد / م3، ص250.
2- جاء في تاريخ الطبري و البلاذري و تفسير الثعلبي و الواحدي و شرف النبي صلى اللَّه عليه وآله و سلم و أربعين الخوارزمي و درجات محفوظ السبتي و مغازي محمد بن إسحاق و معرفة أبي يوسف القسوي أنه قال مجاهد: كان من نعمة اللَّه على علي بن أبي طالب علیه السلام أن قريشاً أصابتهم أزمة شديدة (ضيق و قحط)، و كان أبوطالب ذاعيال كثيرة، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله و سلم لحمزة و العباس: «إن أباطالب كثير العيال، و قد أصاب الناس ما ترون من هذه الأزمة فانطلقا بنا نخفف من عياله»، فدخلوا عليه و طلبوه بذلك فقال: إذا تركتم لي عقيلاً فافعلوا ما شئتم... فأخذ حمزة جعفراً... و أخذ العباس طالباً... و أخذ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله و سلم علياً علیه السلام و هو ابن ست سنين كسنه يوم أخذه أبوطالب فربته خديجة علیها السلام و المصطفى صلى اللَّه عليه وآله و سلم، إلى أن جاء الإسلام و تربيتهما أحسن من تربية أبي طالب و فاطمة بنت أسد علیها السلام، فكان مع النبي صلى اللَّه عليه وآله و سلم إلى أن مضى و بقي علي علیه السلام بعده، و في رواية أن النبي صلى اللَّه عليه وآله و سلم قال: «اخترت من اختار اللَّه لي عليكم علياً علیه السلام». و هناك رواية مغايرة بذكرها أبوالقاسم في أخبار أبي رافع من ثلاثة طرق: أن النبي اللَّه صلى اللَّه عليه وآله و سلم حين تزوج خديجة علیها السلام قال لعمه أبي طالب: «إني أحب أن تدفع إلي بعض ولدك، يعينني على أمري، و يكفيني و أشكر لك بلاءك عندي». فقال أبوطالب: خذ أيهم شئت فأخذ علياً علیه السلام. للمزيد ينظر: بن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب/ 22، ص205.

البلوغ، و حتى بعد انتهاء ظروف الضائقة التي كانت سبباً في اصطفاء محمد صلى اللَّه عليه وآله و سلم العلي علیه السلام ربيباً له.

و ما قلناه في حق فاطمة بنت أسد علیها السلام و تميز رعايتها و إيثارها لمحمد صلى اللَّه عليه وآله و سلم من دون أبنائها و بناتها في الصفحات السابقة، نعاود قوله في حق خديجة الكبرى علیها السلام ذات الزوج و الأبناء، و التي لم تذكر لنا المصادر موقفاً سلبياً واحداً لها بإزاء علي الصبي و الفتى البالغ المرافق لزوجها في ليله و نهاره و حله و ترحاله،(1) فلم تأخذها الغيرة النسائية لحظة إلى

ص: 65


1- من خطبة الإمام علي علیه السلام المسماة الناصعة « ولم يجمع بيت في الإسلام غير رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله و سلم و خديجة علیها السلام و أنا ثالثهما، أرى نور الوحي و الرسالة، و أشم روح النبوة صلى اللَّه عليه وآله و سلم و لقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه»، فمن استقى عروقه من منبع النبوة صلى اللَّه عليه وآله و سلم و رضعت شجرته ثدي الرسالة و تهدلت أغصانه من نبعة الإمامة، و نشأ في دار الوحي و ربّي في بيت التنزيل و لم يفارق النبي صلى اللَّه عليه وآله و سلم له في حال حياته إلى حال وفاته لايقاس بسائر الناس. للمزيد ينظر: ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب/ 2، ص206.

استكثار هذا الحب و المشاركة الحميمية التي خص بها النبي محمد صلى اللَّه عليه وآله و سلم ابن عمه علياً علیه السلام.

لقد نكح رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله و سلم خديجة بنت خويلد علیها السلام و هو ابن خمس و عشرين سنة و خديجة علیها السلام يومئذ ابنة خمس و عشرين أو ثمان و عشرين،(1) و في بعض الروايات أربعين سنة،(2) و كانت خديجة علیها السلام المسماة بالطاهرة) في الجاهلية، الجاهليّة، امرأة حازمة عاقلة شريفة مع ما أراده اللَّه من كرامتها باقترانها بالنبي محمد صلى اللَّه عليه وآله و سلم، ففي أحد بيوتات مكة ولدت خديجة الكبرى لأسرة ذات مكانة و شرف، و هي يومئذ أوسط قريش نسباً، و أعظمهم شرفاً و أكثرهم مالاً و كل قومها كان حريصاً نكاحها لو قدر على ذلك.(3) فلما أرسلت

ص: 66


1- دلائل النبوة صلى اللَّه عليه وآله و سلم و معرفة أحوال صاحب الشريعة، أبوبكر البيهقي، تحقيق: (عبدالمعطي قلعجي)، منشورات دارالكتب العلمية -دار الريان للتراث، 1988، اج 2 ، ص70. الطبقات الكبرى، محمد بن سعد ، تحقيق: علي محمد عمر منشورات مكتبة الخانجي، 1421 - 2001. أنساب الأشراف، البلاذري، تحقيق: سهيل زكار، ج1، ص 108.
2- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج1، ص532.
3- ابن سعد، الطبقات الكبرى، ص131.

إلى النبي صلى اللَّه عليه وآله و سلم خاطبة إليه نفسها قال لأعمامه و خرج معه حمزة بن عبدالمطلب و أبوطالب الذي ألقى خطبة النكاح،(1) فتزوجها محمد صلى اللَّه عليه وآله و سلم فولدت له أولاده كلهم، إلا إبراهيم، و هم: زينب، و رقية، و أم كلثوم، و فاطمة و القاسم و به كان يكنى و عبد اللَّه و الطاهر و الطيب وقيل: إن عبداللَّه ولد في الإسلام هو و الطاهر و الطيب، أما القاسم و الطاهر و الطيب فهلكوا في الجاهلية.(2)

لقد شاءت العناية الإلهية أن يفقد النبي محمد صلى اللَّه عليه وآله و سلم أولاده الذكور الواحد تلو الآخر و لم يبق في أحضانه من الولد إلا علي علیه السلام، فكان خير عوض لخديجة علیها السلام أم المؤمنين و زوجها، و أبر ولد لوالديه، فلم يفارقهما في ليلهما و نهارهما حتى وفاتهما.(3)

إنَّ السرد التاريخي للوقائع لم يسعفنا كثيراً في هذه الناحية، فلم يتعرض للجزئيات المتعلقة بحياة أم المؤمنين خديجة الكبرى علیها السلام إلا أن

ص: 67


1- قال أبوطالب: الحمدللَّه الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، و زرع إسماعيل، و ضئضئ معد و عنصر مضر، و جعلنا حضنة بيت المتكلفين بشأنه، وسواس حرمه، القائمين بخدمته... ثم ابن أخي هذا محمد بن عبداللّه صلى اللَّه عليه وآله و سلم لايوزن به رجل إلا رجح به شرفاً و نبى صلى اللَّه عليه وآله و سلم و فضلاً و عقلاً... و هو و اللَّه بعد هذا، له نبأ عظيم، و خطر جليل، و قد خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة علیها السلام. للمزيد ينظر: مريم فضل اللَّه، المرأة في ظل الإسلام، ص 125.
2- ابن الأثير، الكامل في التاريخ/ ج1، ص532.
3- محمد جواد مغنية، فضائل الإمام علي علیه السلام، ص32.

هناك إشارات يمكن أن ترسم بعض معالم شخصيتها المتميزة ، ففي تاريخ دمشق ورد أنها ولدت قبل عام الفيل بخمس عشرة سنة ، و يحدد بعض المؤرخين ولادتها بأنها سنة 68 قبل الهجرة، و قد فتحت فتحت أم فاطمة الزهراء علیها السلام بصرها في بيت مجد و سؤدد، و رياسة، و نشأت على الأخلاق الحميدة واتصفت بالحزم و العقل و العفّة.

لقد كان بيت النبي محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم و خديجة الكبرى علیها السلام واحة من الدعة و الاستقرار و الطمأنينة، و كانت حياتهما أنموذجاً رائعاً للحياة الزوجية التي يريدها اللَّه عز وجل لخير خلقه و لمن اقتدى به. من هنا بدأ رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم من عائلته الصغيرة ثورة التغيير، بإنشاء نواة الأسرة المؤمنة المتكوّنة من علي علیه السلام و خديجة علیها السلام و زيد، من ابن عمه و ساعده الأيمن، و خديجة علیها السلام زوجته الوفية الصابرة، بهذه الأسرة شاءت القدرة الإلهية أن يشق النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم العظيم مجرى التاريخ، و أن يفتح طريقاً وسط التيار. وأن يقاوم بتلك الأسرة الانحراف، و أن يحدث منها موجاً هادراً يتحول شيئاً فشيئاً إلى تيار جارف للوثنية و الجاهلية.(1)

ذكر المؤرخون أنَّ رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم و منذ السابعة و الثلاثين من عمره الشريف أخذ يتهيأ لتلقي مسؤولية الرسالة، فكان يتحنّث شهراً من كل

ص: 68


1- محسن باقر القزويني، علي بن أبي طالب علیه السلام رجل المعارضة و الدولة، ص27.

سنة يأخذ معه أهله و لاسيّما في السنة التي تلقى فيها الوحي، فالنبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم كان يعمل على نقل أسرته الكريمة من أجواء ذلك المجتمع الجاهلي إلى رحاب اللَّه تعالى.

و قد تشربت نفس علي النامية كل العوامل الإيجابية من تعامل الزوجة المثالية (أم فاطمة علیها السلام) مع عائلتها، و هو يشاهد بأم عينيه صور الحب و الإخلاص تتجسد يومياً في تعامل أفراد أسرته مع بعضهم بعضاً أحبَّ الرسول الأكرم صلي اللَّه علیه و آله و سلم زوجه خديجة علیها السلام و أحبته، و أخلص لها و أخلصت له، فلم يكن يرى في الدنيا من النساء من تعادل خديجة علیها السلام منزلة و حظوة فهي أول من آمن برسالته، و صدق دعوته، و بذلت ثروتها الطائلة في سبيل اللَّه تعالى، و من أجل نشر الدعوة الإسلاميَّة، فتحملت مع رسول اللَّه عذاب قريش و مقاطعتها و حصارها.(1)

و في بيت رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم بدا علي الا مرحلة جديدة من حياته بانفصاله عن الأب و الأم و عن الأخوة و انضوائه في كنف ابن عمه وهو في السادسة، مهد السبيل إلى اتصاله المباشر بالنبع الأصيل الذي تولى تعليمه وتهذيبه.(2)

ص: 69


1- حسن السعيد، المرأة المسلمة هموم و تحديات، ص249.
2- محسن باقر القزويني، علي بن أبي طالب علیه السلام رجل المعارضة و الدولة، ص21.

و هكذا توجهت مشاعر الأبوة لدى محمد نحو علي ابن عمه و أخيه و ولده، و كذا الأمر مع مشاعر الأمومة لدى خديجة نحو علي فكان ابنها البار المتنسم خطاهما في السراء والضراء، لم يفارقها حتى مماتها.

وإن صحت رواية أبي رافع،(1) في التحاق علي ببيت خديجة الكبرى علیها السلام منذ تأسيس بيت الزوجيَّة، فإنَّ تربية فاطمة بنت أسد علیها السلام و أبي طالب ليست بأقل أثراً من تربية النبي محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم و خديجة بنت خويلد ، ولكن ما يميزها أن النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم و زوجه قد حُرما الصبي تلو الآخر فعوضا بالصبي علي فتركّزت نحوه جل رعايتهما وحبهما إياه، و كانت تربيتهما له تربية و تهيئة للإسلام و دوره المستقبلي فيه و لدينا أن هذه الرواية أقرب إلى حقيقة الأمور و مساراتها اللاحقة، في اصطفاء محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم لعلي علیه السلام لأوجه منها : إنَّ الإمام عليّاً علیه السلام أكد في خطبه المشهورة مراراً ملازمته للنبي اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم منذ الولادة حتى الوفاة من دون مفارقة، و لو كانت هناك حقائق أخرى لهذا الاصطفاء لأشار إليها الإمام في كلامه و خطبه.

ص: 70


1- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب/ 2، ص205.

فضلا عن ذلك فإنَّ النبي محمداً صلي اللَّه علیه و آله و سلم كان بحاجة فعلية بعد زواجه بخديجة علیها السلام إلى من يكون معه من بيت أبي طالب عائلته الأصل التي ربَّته و أغدقت عليه حنانها و رعايتها الكبيرة، فكان أخذه لعلي علیه السلام عن سبق تدبير عاش النبي محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم و علي مع خديجة الكبرى علیها السلام أربعاً و عشرين عاماً و بضعة شهور، هي مدة زواجهما المبارك،(1) وكانت هذه الأسرة المثالية واحة الفضيلة في صحراء الجاهلية وبحبوحة السعادة في دنيا الشقاء آنذاك يعمرها الحب ويشد أواصرها الإخلاص.(2)

و قد استمرَّ هذا الحب و الوفاء والإخلاص حتى بعد موتها، و لم تستطع أي من زوجاته أن تحتل مكانها في نفسه وهو القائل فيها: (ما أبدلني اللَّه خيراً منها، كانت أم العيال، و ربة البيت، آمنت بي حين كذبني الناس، و واستني بمالها حين حرمني الناس، و رزقت منها الولد وحرمت من غيرها).(3)

و هكذا تشارك هؤلاء الثلاثة السكن و اللقمة الهنية و نور الإيمان، فبزغ نور الإسلام في قلوب الثلاثة (محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم، و خديجة علیها السلام، و علي علیه السلام ) في آن

ص: 71


1- محمد جواد مغنية، فضائل الإمام علي، ص17.
2- موجز، ص12.
3- موجز، ص104.

فقد بعث النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم يوم الاثنين وصلى علي يوم الثلاثاء فكانت خديجة علیها السلام و علي علیه السلام أول من أسلما، و صلى مع النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم.(1)

و عن أنس بن مالك قال: بعث النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم يوم الاثنين و أسلمت خدیجه علیها السلام في آخر ذلك اليوم وأسلم علي علیه السلام يوم الثلاثاء.(2)

و كانت الحياة الزوجية تسير موفقة هادئة، و كان رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم قبل البعثة يقسم وقته بين بيته و تجارته و عبادة ربه، و كان يذهب إلى غار حراء للتعبد و التأمل و التفكير و لايعلم بهذا الحال إلا رفيقه الإمام علي علیه السلام و زوجه ورفيقة الدرب خديجة الكبرى علیها السلام.(3)

و حتى هنا، فإنَّ الأم وربة البيت خديجة علیها السلام تضرب مثالاً في التضحية فما كانت لتضيق بهذه الخلوات التي تبعد عنها زوجها محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم و ولدها علي عنها أوقاتاً طويلة ، و لاكانت تتدخل في شؤونه أو تقطع عليه صفو تأملاته بل هيأت له كل أسباب الراحة ووسائل الاستقرار النفسي و الهدوء

ص: 72


1- في قول للإمام علي علیه السلام: لقد عبدتُ الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة سبع سنين، و قوله: كنت أسمع الصوت و أبصر الضوء سنين سبعاً و رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم حينئذ صامت ما أذن له في الإنذار و التبليغ. للمزيد ينظر: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة/ ج1، ص41 ؛ ابن الأثير، الكامل في التاريخ / ج1، ص546.
2- سعيد أبومعاش / ج1، فضائل أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام في القرآن الكريم، دارالمودة، مطبعة اعتماد، ط1، ص32.
3- حسن السعيد، المرأة المسلمة، ص250.

و الطمأنينة و الاطمئنان.(1) بل أنَّ علياً علیه السلام كان يحمل لرسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم أيام التحنّث الزاد و الماء من بيت خديجة الكبرى علیها السلام إن لم تحمله الخادم، فكانت خديجة علیها السلام و كان عليّ عوناً للنبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم على تعبده إلى اللَّه عز وجل.(2)

إن تشابك هذا الثلاثي الإيماني و تماسكه كان على أشده قبل علانية الدعوة و بعدها، فها هم يعلنون ارتباطهم الروحي و القلبي و الوجداني أمام بيت اللَّه الحرام في صلاة جامعة ما كانت تعرفها العرب وقريش من قبل ففي موقف متواتر يذكر لنا عفيف الكندي ما حضره وشهده بالقول: -

كنت امرءاً تاجراً فقدمت مكة أيام الحج، فأتيتُ العباس فبينما نحن عنده إذ خرج رجلٌ فقام تجاه الكعبة يُصلي ثم خرجت امرأة تُصلي معه ثم خرج غلام فقام يصلي معه، فقلت يا عباس ما هذا الدين. فقال: هذا محمد بن عبداللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم ابن أخي ، زعم أن اللَّه أرسله و أن كنوز كسرى و قيصر ستفتح عليه و هذه امرأته خديجة علیها السلام آمنت به و هذا الغلام علي ابن أبي طالب علیه السلام آمن به، و أيم الله ما أعلم على ظهر الأرض أحداً على هذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة، قال عفيف: ليتني كنتُ رابعاً.(3)

ص: 73


1- غادة الخرسا، ص118.
2- جاء في أعيان الشيعة ج1، ص373 نقلاً عن: محسن باقر القزويني، علي بن أبي طالب علیه السلام رجل المعارضة والدولة ، ص28.
3- ابن الأثير، الكامل في التاريخ / ج2، ص57.

إِنَّ سبق الوالدة و الولد هنا في إجابة دعوة الأب للدين الجديد أمر مسلم به ، فلقد سبقت خديجة بنت خويلد علیها السلام جميع الخلق في إجابتها و تصديقها و مؤازرتها للزوج الحبيب،(1) و كذا كان سبق علي للإيمان بدعوة البشير النذير، قال أبونعيم في حلية الأولياء: «إن قوله تعالى: و اركعوا مع الراكعين، نزلت في رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم و علي خاصة، و هما أول من صلى و ركع» و في سنن ابن ماجه و تفسير الثعلبي أن علياً علیه السلام صلى مع النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم مستخفياً سبع سنين و أشهراً. و في تاريخ الطبري أن علياً علیه السلام قال: أنا عبداللَّه و أخو رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم، و أنا الصدّيق الأكبر لايقولها بعدي إلا كاذب مفتر، صليت مع رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم سبع سنين.(2)

و قال ابن عباس: لعلي أربع خصال ليست لأحد غيره، و ذكر منها أنه أول عربي و عجمي صلى مع رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم.(3)

وكان رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم إذا حضرت الصلاة – و هي تعبد قبل أن تفرض الصلاة ليلة الإسراء خرج إلى شعاب مكة ، و خرج معه علي بن أبي طالب علیه السلام فيصليان ، فإذا أمسيا، رجعا... فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا.(4)

ص: 74


1- محمد جواد مغنية ، فضائل الإمام علي علیه السلام، ص47.
2- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ص247.
3- المحب الطبري، الرياض النضرة / ج2، 1953، ص208.
4- عبدالرحمن الشرقاوي، علي إمام المتقين علیه السلام/ ج1، ص17.

ثم إن أباطالب سأل علياً علیه السلام و قد و جده يصلي: "ما هذا الدين الذي أنت عليه؟!" فقال: "يا أبت آمنت باللَّه و رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم و صدقته بما جاء به و صليت معه اللَّه و اتبعته" فقال له: "أما إنه لم يدعك إلا إلى خير، فالزمه". و هكذا كان حال فاطمة بنت أسد علیها السلام التي كانت أول امرأة تسلم بعد أم المؤمنين خديه، و تبعهما ابنهما جعفر عندما أمره والده بالصلاة على يسار النبي و قد و جده يصلي و علي على علیه السلام يمينه بالقول: «صل جناح ابن عمك».(1)

إنَّ القارئ لمواقف النجوم المحمدية و العلوية في بيت النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم و الوصي، يصل إلى نتيجة خلاصتها، إن كلا البيتين بيت واحد و الأسرتين أسرة واحدة، تشابهت و تناظرت في كل الأمثال و الأقوال و المواقف المبدئية و وقوعها تحت ذات الشدائد و المحن، لقد أعانت أم الإمام علي علیه السلام فاطمة بنت أسد علیها السلام ولدها على طاعة ربه، لأنها قد أسلمت بعد خديجة علیها السلام، بل أن أباه قد أعانه على اتباع ابن أخيه محمد صلى اللَّه عليه وآله و سلم . و كذلك أخوه جعفر الطيار ذوالجناحين السابق إلى الإسلام و الهجرة و المبايعة، فإذا أضيف إلى ذلك أن علياً علیه السلام قد عاش في بيت النبوة صلي اللَّه علیه و آله و سلم مع خير البرية و مع خير النساء خديجة بنت خويلد علیها السلام، و رأى ما لم يره غيره، و سمع

ص: 75


1- عبدالرحمن الشرقاوي، علي إمام المتقين علیه السلام، ج1، ص8.

ما لم يسمعه سواه و هو في سنوات التكوين و الحداثة، فوعى ما رأى و سمع، و أشرب حب اللَّه و رسوله صلي اللَّه علیه و آله و سلم منذ نعومة أظفاره و عليها درج(1) فأضحى كما قال فيه رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم: «أشبهت خُلقي و خَلقي».(2)

و سنرى الأسرتين تعود لتصبح أسرة واحدة و العائلتين يلتئم شملهما ثانية على سفوح شعب أبي طالب في حصار دام ثلاث سنوات قاست فيه عائلة علي ابن أبي طالب علیه السلام الأصلية و البديلة معاً أقسى أنواع المحاصرة و التضييق الاجتماعي و الاقتصادي و النفسي في معركة خاضتها هذه العائلة المندمجة و المنصهرة في حب اللَّه و رسوله و دعوته من دون غيرها من أسر مكة.

تجمع مسلمو بني هاشم في شعب أبي طالب ليوفروا الحماية للرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم و دعوته، و مع استمرار الحصار لثلاث سنوات، حتى اضطر المحاصرون في بعض الأيام أن يقتاتوا على حشائش الأرض فهزلت أجسامهم و هدت قواهم، وزادت قريش من حلقة الحصار فضاعفت المحنة على بني هاشم، فكانت هذه السنوات هي آخر أيام قضاها الإمام علي علیه السلام مع والده أبي طالب و والدته الثانية أم فاطمة الزهراء علیها السلام خديجة علیها السلام، و قد كانت أيام الحصار لعلي بوصفها معسكراً للفتوة وإثبات الجدارة في تحمل

ص: 76


1- محمد بكر إسماعيل، فقيه الأمة و مرجع الأئمة علي من أبي طالب علیه السلام، الناشر شهاب الدين، المطبعة كلها، قم -ايران ، ط1، 1427 ه_ -2006م. ص34.
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة/ ج1، ص53.

المسؤولية، إذ قضى في الشعب أفضل مدد الشباب، إذ دخلها و عمره سبع عشرة عاماً، و خرج منها و عمره عشرون عاماً،(1) فكانت تجربة جديدة في حياته عودته على الفداء بامتثال أوامر والده أبي طالب في أن يبيت في مكان رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم و إيهاماً لقريش وإحباطاً لخططها في القضاء على النبي المصطفى صلي اللَّه علیه و آله و سلم. أو في خروجه من الشعب ليلاً إلى مكة سراً ليأتي بالطعام.(2)

إلا أن أيام الحصار كانت أشد وطأة على أم المؤمنين خديجة الكبرى علیها السلام، لقد خرجت من بيتها لتنضم إلى بني هاشم، و قد جاوزت الستين من عمرها و عادت إلى بيتها بعد ثلاث سنوات عجاف نالت منها كثيرا من المتاعب و المصاعب، فلزمت فراشها حتى حم القضاء فأسلمت روحها الطاهرة إلى خالقها في العام الذي خرجت فيه من حصار شعب أبي طالب، و قيل إنها ماتت بعد ثلاثة أيام من موت أبي طالب فكان ذاك العام عام الأحزان للنبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم و آل بيته و المؤمنين.(3)

وبوفاة خديجة علیها السلام لها فقد النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم الحبيب و العون و المواسي، وفقد علياً علیه السلام الأم الرؤوم التي رعته سنوات ترعرعه و نماه ورفيقة درب إيمانه و سبقه و صلاته، حقاً إنه عام الأحزان فقد الإمام علي علیه السلام فيه أحب الناس

ص: 77


1- محسن باقر القزويني، علي بن أبي طالب علیه السلام رجل المعارضة والدولة، ص41.
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة/ ج13، ص256.
3- حسن السعيد، المرأة المسلمة هموم و تحديات، ص251.

إلى قلبه و أكثرهم عطفا عليه والده أبي طالب و والدته -أمه الثانية خديجة بنت خويلد علیها السلام.

لقد كانت خديجة علیها السلام لها تنثر العطاء، في كل الاتجاهات، و تبذر القيم أنى حلّت، و تواصل الدرب الصعب على الرغم من فداحة الخطب و وعورة المسلك، بنكران مميز للذات حتى أتتها بشارة السماء على لسان جبريل علیه السلام ببيت في الجنة من قصب لانصب فيه و لاصخب.

إن وفاة سيدة المؤمنات و سابقتهن إلى الإسلام خديجة علیها السلام التي شهد لها الرسول الأعظم صلي اللَّه علیه و آله و سلم بالكمال بين النساء،(1) كانت خسارة فادحة لعلي بن ابي طالب علیه السلام، فقد تركت فراغاً في حياته ما كان لأحد أن يسده إلا امرأة من جنس خديجة علیها السلام بل ثمرة فؤادها، و ابنتها الحميمة و الأثيرة، فاطمة الزهراء علیها السلام التي رافقت الإمام في سني شبابه، وغدت خديجة علیها السلام في البال أماً و أم زوجة، حري أن يفاخر بها الإمام على العالمين، مصداقاً لقول الرسول الكريم له مراراً : «يا علي لك أشياء ليست لي، ... و لك مثل خديجة علیها السلام أم أهلك و ليس لي مثلها حماة ...».(2)

ص: 78


1- بن شهر آشوب، مناقب يل أبي طالب/2، ص194.
2- مريم فضل اللَّه، المرأة في ظل الإسلام، ص143.

فاطمة الزهراء علیها السلام... أغلى الفواطم

في الخلق ذرى ، و في الروح سنى...

هي بضعة النبي المصطفى صلي اللَّه علیه و آله و سلم و زوج الوصي المرتضى...

البتول فاطمة الزهراء علیها السلام، أغلى الفواطم التي خطت بأثرها في صفحة حياة الإمام علي علیه السلام، و بآصرة القرب منها كان يفتخر بالقول: «ألا أخبرك عني و عن فاطمة علیها السلام؟ كانت ابنة رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم و أكرم أهله عليه، و كانت زوجتي، فجرّت بالرحى حتى أثرت في يدها، و استقت بالقربة حتى أثرت في نحرها، و قمّت البيت حتى أغبرت ثيابها، و أوقدت تحت القدر حتى (دنست ثيابها) و أصابها من ذلك ضرّ».(1)

و فاطمة علیها السلام بنت محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم هي المرأة العظيمة التي لولاها لما خلق اللَّه السموات و الأرض و لولاها لما خلق اللَّه الأنبياء و الأوصياء، إذ قال عز من قائل كما في الحديث القدسي الشريف مخاطباً نبيه الكريم: «يا أحمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم لولاك لما خلقت الأفلاك، و لولا علي علیه السلام لما خلقتك، و لولا فاطمة علیها السلام لما خلقتكما».(2)

ص: 79


1- سبط ابن الجوزي، تذكرة الخواص/ ج2، ص338. رواه الشيخ الصدوق في الباب 88 من علل الشرائع ص366 ؛ و رواه أبو نعيم في ترجمة فاطمة الزهراء علیها السلام العالم من حلية الأولياء2/ 41 رقم 133، و رواه الطبراني في الحديث 235 من كتاب الدعاء ص95.
2- محمد جواد مغنية، حياة الصديقة فاطمة علیها السلام، ص9.

و هذه العلاقة السببية التي أوجدها الخالق عز وجل في حتمية الوجود، و في الخلق يظهر الضرورة الإلهية في خلق فاطمة الزهراء علیها السلام و جعلها حلقة الوصل ما بين النبوة صلي اللَّه علیه و آله و سلم و الإمامة ، فكانت الزهراء علیها السلام ليكونا.

و مولاتنا سيدة النساء هي قرّة عين أبيها المصطفى صلي اللَّه علیه و آله و سلم، و هي من بعد ذلك قرّة عين بعلها علي علیه السلام المرتضى، و مثلما كان علي بن أبي طالب علیه السلام في عين النبي محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم منذ أبصر النور، هكذا كانت فاطمة علیها السلام بنت محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم في عين علي علیه السلام منذ أبصرت النور.

ففي بيت النبوة ترعرعا معاً تحت وارف ظل النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم و رعاية زوجه خديجة الكبرى علیها السلام، و لما كانت فاطمة علیها السلام هي أصغر أبناء الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم و أحبهم إليه، و لم يكن يرى غيرها منزلة عنده، كذلك كانت فاطمة علیها السلام في عين علي و وجدانه أحب الخلق إليه بعد والدها، و لم ير من النساء ما تعادلها محبة و منزلة في قلبه.

و لسوف نكتشف عوالم علي علیه السلام و الزهراء علیها السلام مفصلة في فصل لاحق، ولكن هنا لابد من ذكر إضاءات تشرق على أذهاننا و نحن نتصفح زوايا آصرة الود و التكامل ما بين هذين المخلوقين المنزهين المطهرين من الرجس، ما بطن منه و ما ظهر.

الإضاءة الأولى: تذكر لنا أنَّ أباطالب اللا لم يقترن بغير فاطمة بنت أسد علیها السلام أم الإمام علي علیه السلام، و لم يقترن محمد الرسول صلى اللَّه عليه و آله و سلم بغير خديجة علیها السلام

ص: 80

بنت خويلد أم المؤمنين لها، و لم يشرك امرأة أخرى في حياته طوال سني عمرها المبارك، و هكذا كان الحال لدى الإمام علي علیه السلام الذي لم يتزوج بغير فاطمة الزهراء علیه السلام الا حتى فارقت الحياة بظلامتها الشهيرة.

إنَّ هذا التكامل و الاندماج الكلي مع النصف الآخر أمر محمود و نادر، يكاد يفتقد في العديد من العلائق الزوجيَّة و يبعد العلائق الأسرية -إن افتقدته- عن الاستقرار و الطمأنينة. لذا غدا شخص علي علیه السلام و فاطمة علیها السلام بعد اقترانهما السماوي -الأرضي، يمثل الامتداد الطبيعي للنبوة صلي اللَّه علیه و آله و سلم، وبيتهما بيت الرسالة و هما مع والدهما النبي المصطفى صلي اللَّه علیه و آله و سلم، و ولديهما الحسن و الحسين علیهما السلام (آل البيت علیهم السلام) الذي أذهب الله عنه الرجس وطهرهم تطهيرا.

فأظهر بيت الإمامة (بيت علي و فاطمة علیهما السلام) أفضل و أبهى مزايا و ظروف الأسرتين، أسرة النبي محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم و علاقته مع زوجته أم فاطمة علیها السلام، و أسرة أبي طالب و علاقته مع زوجته فاطمة بنت أسد علیها السلام، أم علي علیه السلام.

الإضاءة الأخرى : إنَّ الإمام عليّا علیه السلام عندما أطل على الدنيا، باركت السماء إطلالته و هيئت لها كل المسببات الإعجازية ، و هكذا كان الأمر مع إطلالة الزهراء علیها السلام على دنيا الوجود متناظرة مع مسببات ميلاد الوصي اللا إعجاز في التكوين و التشكيل و الظهور، و ما قبل الظهور.

ص: 81

فقد أجمعت المصادر التاريخيَّة على أن فاطمة الزهراء علیها السلام كانت تحدث أمها خديجة الكبرى علیها السلام و هي في بطنها مواساة و تأسياً لها عن مفارقة المجتمع المكي لها.

و يظهر الإعجاز الآخر جلي الوضوح و البرهان، في منع اقتران علي و الزهراء علیهما السلام من أحد آخر، فكان زواجهما أمراً رتبته العناية الإلهية بحذافيره، كما جاء على لسان الرسول صلى اللَّه عليه و آله و سلم، إن فاطمة علیها السلام زوجت من علي علیه السلام في السماء قبل الأرض.

و سنذكر بالتفاصيل، جزءاً يسيراً مما حفلت به كتب السير عن ذكر تفاصيل هذا الزواج و دقائق حياة الإمام علي علیه السلام مع أغلى الفواطم وعناية والدها بتجهيزها وإيثاره إياها من دون الآخرين، في متابعة تأثيث بيت الزوجية و نوع المقتنيات و ملازمته إياهما لإرشادهما مبادئ المعاملة الأسرية و الزوجية منذ ليلتهم الأولى و رعايته لهذه الأسرة المحمدية حديثة التكوين و رعايته لها حتى آخر يوم من عمره الشريف.

فأضحى هذا البيت و أهل هذا البيت، هم أهل بيت النبي صلى اللَّه عليه و آله و سلم أعلام الهدى و الرشاد، و أئمة المتقين جميعاً ، و الرسول الأكرم صلى اللَّه عليه و آله و سلم فَرَطهم على الحوض يوم القيامة ، ليسقي المؤمنين و المؤمنات من جرعة لكل واحد منهم لا يظمأ بعدها أبداً .

ص: 82

لقد تمازجت روح الإمام علي مع روح الزهراء عليهما السلام في الدنيا والآخرة، فحبهما وحب والدهما وولديهما علامة الإيمان والنجاة من النار، وإذا كان علي بن أبي طالب علیه السلام قسيم الجنة و النار، فإنَّ فاطمة الزهراء علیها السلام تشفع يوم القيامة مدّ بصرها فيمن شاء اللَّه عز وجل أن تشفع له، وإنها لخير نساء أهل الجنة في أعلى عليين مع أمها خديجة الكبرى علیها السلام أكمل النساء إيماناً و أصدقهن يقيناً، و هي بضعة خير خلق اللَّه و خاتم رسله صلى اللَّه عليه و آله و سلم. و هذا ما سنتناوله باستفاضة في الفصل اللاحق. بعد أن نعرج على فاطمة أخرى علیها السلام في حياة الإمام علي علیه السلام، فمن دون كل الزوجات اللواتي اقترن بهن الإمام بعد وفاة مولاتنا سيدة نساء العالمين، تظهر لنا السيرة العطرة لسيدة جليلة مميزة هي أم البنين (فاطمة بنت حزام) أم بطل الشريعة أبي الفضل العباس عليهما السلام. فلماذا هذه الزوجة بالذات التي حظيت بكل هذه المكانة الرفيعة بين أزواج علي علیه السلام؟

هذا ما سنتحدث عنه في الصفحات اللاحقة.

ص: 83

علي و أم البنين علیهما السلام... فاطمة أخرى

يحق لي أن أطلق على مولاتنا أم البنين علیها السلام لقب (المظلومة) سرداً و تاريخاً، فهذه السيدة الجليلة ذات المأثرة العظيمة لا تذكرها المصادر إلا بالنزر اليسير أو أقل من ذلك!! و لايعرف سبب هذا التغافل أو التجاهل حقاً إلا أن تاريخنا الإسلامي كان ملكاً للحكومات الظالمة الجائرة.(1)

و الحق أنَّ هذه السيدة الجليلة لو لم يكن لها من المآثر إلا تضحيتها بأولادها الأربعة لكفاها فخراً و عزاً و ذكراً مدى الدهر، فكيف و هي زوج الوصي علي المرتضى علیه السلام و والدة بطل الشريعة أبي الفضل العباس علیه السلام؟

ص: 84


1- محمد اليعقوبي، انتصاراً لأم البنين علیها السلام -هل كان للخنساء أربع أولاد استشهدوا في معركة القادسية؟ مركز الإمام المهدي عج الله فرجه الشریف للدراسات الإسلامية، النجف الأشرف، 1424ه_ - 2003م، ص46. يتناول المؤلف في كتابه هذا بالبحث والتقصي والتفسير لماذا تجاهل التاريخ مأثرة أبناء أم البنين علیها السلام لها الشهداء الأربعة في معركة الطف الخالدة الذين ضحت بهم دون أخيهم الإمام الحسين علیه السلام. و سلطت الأقلام الضوء مركزاً على تضحية الخنساء بأولادها الأربعة في معركة القادسية و يخلص إلى نتيجة مفادها أن هذه الرواية موضوعة وأنها لا أساس لها من الصحة من خلال مناقشة السند ورجاله والمتن ورواته.

أما اقترانها بالإمام علي علیه السلام فحدث تذكره الكتب ولكن باقتضاب. فعلي علیه السلام لم يتزوج في حياة فاطمة الزهراء علیها السلام كما ذكرنا من قبل حتى توفيت عنده.(1) ثم تزوج بعدها أم البنين علیها السلام و هي (فاطمة بنت حزام الكلابية) مع زوجات أُخريات تتفاوت الروايات في عددهن.

و قد اختلف المؤرّخون في عدد النساء اللاتي تزوجهن الإمام علي علیه السلام اختلافاً كثيراً، فابن أبي الحديد يذكر في كتابه (نهج البلاغة) إنه تزوج بعد فاطمة رضي اللَّه عنها ست نسوة، و يذكر الشبلنجي في كتاب (نور الأبصار) أنهن سبعة، أما المقريزي في كتابه (اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا) أنهن ثمانية و هو ما قاله الطبري في (تاريخ الأمم والملوك).(2) و يزيد ابن شهر آشوب في عددهن إلى تسعة مع ذكر أسمائهن وأولادهن وأنسابهن.(3)

و يذكر المؤرخون أنَّ الإمام علي علیه السلام عندما أراد الزواج بعد وفاة الزهراء علیها السلام الاسأل أخاه عقيل بن أبي طالب أن يختار له امرأة بعينها و صفاتها، و كان عقيل يعد واحداً من أربعة من قريش عالماً بالأنساب

ص: 85


1- ابن الأثير، الكامل في التاريخ -ج3، ص245.
2- محمدبكر إسماعيل، فقيه الأمة و مرجع الأئمة علي بن أبي طالب علیه السلام، ص81.
3- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب – 3، ص349.

و الأخبار، و هو من الثقات في معرفة الأنساب لذلك استشاره في الأمر.(1)

فقد روي أنَّ أميرالمؤمنين علیه السلام قال لأخيه عقيل: «...انظر إلى امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب...».

فقال له: تزوج أم البنين الكلابية علیها السلام، و اسمها فاطمة بنت حزام علیها السلام، و كانت عالمة...(2)

و في رواية أخرى مماثلة، روي أن أميرالمؤمنين علیها السلام لاقال لأخيه عقيل... «انظر إلى امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها فتلد لي غلاماً فارسا». فقال له: تزوج أم البنين الكلابية علیها السلام، و اسمها فاطمة بنت حزام ، و كانت عالمة... فتزوجها أميرالمؤمنين علیه السلام، فولدت له العباس و جعفر و عبداللَّه و عثمان... فكلهم قتلوا في نصرة الحسين علیه السلام.(3)

وبعض المصادر تذكر اسم ابنها الأخير عثمان باسم آخر (عبدالرحمن ).(4) و لابقية لهم غير العباس.

ص: 86


1- أبوعثمان عمر بن بحر الجاحظ (255 ه_ )، البيان و التبيين، تحقیق و شرح عبدالسلام محمد هارون، مكتبة المثنى ببغداد و مكتبة الخانجي بمصر ط2، 1960، ص323.
2- علي الأحمدي الميانجي، عقيل ابن أبي طالب، تحقيق و مراجعة مجتبى فرجي، دارالحديث للطباعة و النشر، ط1، إيران - قم/ بيروت -لبنان، 1420ه_، ص33.
3- أبوالفرج علي بن الحسين بن محمد الأصفهاني(356ه_)، مقاتل الطالبيين، تحقيق: أحمد صفر، قم، انتشارات الشريف الرضي، ط1، 1405 ه_، ص90.
4- محمدبكر إسماعيل، فقيه الأمة...، ص83.

وإذا كان اسمها (فاطمة بنت حزام علیها السلام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد)(1) من بني كلاب، فإنّ لقبها أم البنين (الأربعة) قد غلب على اسمها فاطمة، و أصحاب السير يرون موقفاً مبكراً لإيثار هذه المرأة المسلمة العظيمة الشأن، إذ يذكر أنها طلبت من الإمام علي علیه السلام بعد زواجه منها أن لايناديها باسمها (فاطمة) مجرداً في البيت!؟ و عندما سألها أميرالمؤمنين علیه السلام عن السبب وراء طلبها هذا، قالت له صادقة: أنها ترى الأسى والتوجع في عيون أولاد الزهراء علیها السلام؛ لأنَّ اسم والدتهم يطرق سمعهم فيجدد أحزان فراقها لهم.

إيثار وأي إيثار من زوجة جديدة، و محبّة ورعاية تغدقها على أولاد (ضرتها)، و لقد بقيت خصلة الإيثار هذه ملازمة لفاطمة علیها السلام أم البنين طوال عمرها وحتى بعد استشهاد الإمام على علیه السلام، و من لايستذكر بفخر و تأثر موقفها الجميل – الجليل يوم رجوع ركب الحسين الا إلى المدينة المنورة بعد واقعة الطف الأليمة.

إنَّ النظرية الإسلامية ترى أن الأسرة تمثل وحدة رئيسة ومركزية في بناء المجتمع، و لايمكن أن يبنى المجتمع الصالح و يتكامل من دون بناء الأسرة الصالحة.(2)

ص: 87


1- يذكر المفيد في الإرشاد، ص186: (إن أم البنين بنت حزام بن خالد بن دارم).
2- محمدباقر الحكيم، الزهراء علیها السلام -أهداف. مواقف. نتائج، مؤسسة تراث الشهيد الحكيم، مطبعة العترة الطاهرة/ ط1، النجف الأشرف، 2006، ص36.

و بعض النسوة قد يوفقن لأن ينهضن بدور مهم في الجانب الأسري و الجانب الجهادي و العقائدي، و لقد وفقت (أم البنين فاطمة علیها السلام) زوجة الإمام في الرعاية المنزلية و في ترتيب وضع الأسرة و جعلها أسرة قوية صالحة متماسكة، فكانت أماً لبنيها الأربعة و من قبلها أماً لأولاد فاطمة الزهراء علیها السلام، كيف لاتكون هكذا و قد اختارها الإمام علي علیه السلام الا بعد تفحص و تدبر و استشارة لتلد له فوارس و أبطال هيئوا جميعاً لموقف عظيم في كربلاء.

لقد زرعت (أم البنين) في نفوس أولادها حب آل الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم و طاعة أولي الأمر منهم، أبيهم و من بعده أخوتهم الحسن والحسين علیهما السلام الا فكانوا أطوع إليه من بنانه في الجود بالنفس يوم عاشوراء و هو أقصى غاية الجود. و لقد تلقت نبأ استشهاد بنيها الأربعة، العباس و عبداللَّه و عثمان و جعفر في معركة كربلاء سنة 61 ه_ بقولها: (الحمد للَّه الذي جعل أولادي فداء لأبي عبد الله الحسين علیه السلام)، و الحسين علیه السلام يعني رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم والإسلام فهم فداء عبدالله للإسلام.(1)

و لانغفل عن واقع حال الظرف المعاشي الذي عاشته هذه المرأة المؤمنة تحت كنف أميرالمؤمنين علیه السلام و قد لازمته طوال حياته في أقسى الظروف الاجتماعية و السياسية التي حفلت بها أيام الإمام يوماً بيوم، قال

ص: 88


1- محمد اليعقوبي، انتصاراً لأم البنين علیها السلام، ص44.

العقاد في كتابه عبقرية الإمام: «أما معيشة علي علیه السلام في بيته بين زوجاته و أبنائه فمعيشة الزهد و الكفاف، و أوجز ما يقال فيها أنه كان يتفق له أن يطحن لنفسه، و أن يأكل الخبز اليابس الذي يكسره على ركبته، و أن يلبس الرداء الذي يرعد فيه، و أن واحداً من رعاياه لم يمت عن نصيب أقل من النصيب الذي مات عنه، و هو خليفة المسلمين».(1)

لقد سكنت زوج الإمام في بيته في المدينة مع زوجاته و أولاده و أحفاده، و لما بويع الإمام بالخلافة، و انتقل إلى الكوفة أبى أن ينزل القصر الأبيض المعروف بقصر الإمارة إيثاراً للخصاصة التي يسكنها الفقراء، و لم يبن آجرة على آجرة، و لالبنة على لبنة، و لا قصبة على قصبة.(2) و كان أهل بيته علیهم السلام معه تحكمهم فضائله و خصاله الإسلامية الرفيعة، فهم أولى الناس باتباعها وانتهاجها.

كان الإمام علي علیه السلام يصوم و يطوي و يُوثر بزاده، و فيه أنزل الباري عز وجل: «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا».(3) و روى المفسرون أنه لم

ص: 89


1- محمد جواد مغنية، فضائل الإمام علي علیه السلام، ص41. (نقلاً عن عبقرية الإمام للعقاد و أسد الغابة إبن الأثير).
2- المصدر السابق.
3- سورة الإنسان: 9، 10.

يكن يملك إلا أربعة دراهم، فتصدق بدرهم، فتصدق بدرهم ليلاً و بدرهم نهاراً و بدرهم سراً و بدرهم علانية،(1) فأنزل فيه: «الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْل وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةٌ».(2) و هو الذي كان يكنس بيوت الأموال و يصلي فيها، و هو الذي قال: يا صفراء، ويا بيضاء غري غيري، و هو الذي لم يخلف میراثاً، و كانت الدنيا كلها بيده إلا ما كان من الشام.(3)

فعلي بن أبي طالب علیه السلام سيد الزهاد في الدنيا، و أهل بيته علیهم السلام أولى باتِّباعه في طبعه و طباعه، و هو الذي ما شبع من طعام قط، و كان أخشن الناس مأكلاً و ملبساً، قال عبداللَّه بن أبي رافع: دخلت إليه يوم عيد، فقدم جراباً مختوماً، فوجدنا فيه خبز شعير يابساً مرضوضاً، فقدم فأكل، فقلت: يا أميرالمؤمنين علیه السلام، فكيف تختمه ؟ قال: خفت هذين الولدين أن يُلتاه بسمن أو زيت.(4)

إن عدالة الإمام علي علیه السلام في سيرته الدنيوية بين العباد، كانت امتداداً لتطبيقه عدالته في محيط أسرته وعائلته ما بين زوجاته و أولاده، لذا يذكر لنا التاريخ أي واقعة أو حادثة تذكر لإحدى زوجات الإمام علي علیه السلام في

ص: 90


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ص47.
2- سورة البقرة: 274.
3- ابن أبي الحديد، في شرحه، ص47.
4- المصدر نفسه، ص50؛ محمد جواد مغنية، فضائل الإمام علي علیه السلام، ص42 و ما بعدها.

حياته أو بعد مقتله و استشهاده، تشير إلى اختلافهن أو تنافسهن أو عدم رضاهن تحت أي ظرف حياتي يومي، ما يظهر بشكل جلي أن تعامل أميرالمؤمنين علیه السلام مع نساء بيته قد جسدت خلاصة معالم الأسرة المسلمة في تماسكها و صونها لخصوصيات و دقائق أمورها العائلية.

إنَّ شدة محاسبة الإمام علي علیه السلام لنفسه و خشيته من اللَّه تعالى، لاتعني قسوته و جفاف نبعه الإنساني في تعامله مع أهل بيته علیهم السلام، كما قد يتوهم بعضهم من المطلعين على سيرته، فإن كان أبوتراب هو سيدالمتقين و العابدين، فلقد ضرب المثل في حسن خلقه، فكان بشر الوجه، مع طلاقة المحيا و التبسّم.(1)

ولكنَّ أعداءه عابوا عليه ذلك، و أرادوا الانتقاص من هيبته في ذكر هذه الخصلة منه، قال عمر بن العاص لأهل الشام: «إنه ذو دعابة شديدة»،(2) فقال علي علیه السلام: «عَجَبًا لَابْنِ النَّابِغَةِ يَزْعُمُ لَأَهْلِ الشَّامِ أَنَّ فِيَّ دُعَابَةٌ وأَنِّي امْرُؤٌ تِلْعَابَةٌ،(3) أُعَافِسُ(4) و أُمَارِسُ(5)».

ص: 91


1- الأنصاري، حياة أهل البيت علیهم السلام/ الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام، ص232.
2- الدعابة: المزاح. لسان العرب: "دعب".
3- تلعابة: كثرة المزاح و المبالغة في اللعب.
4- المعافسة: المداعبة.
5- الممارسة: أريد بها هنا ملاعبة النساء.

و قد أخذها عمرو بن العاص عن عمر بن الخطاب؛ لقوله له لمّا عزم على الاستخلاف: «اللَّه أبوك لولا دعابة فيك !».

و قال معاوية لقيس بن سعد: «رحم اللَّه أباالحسن علیه السلام: «رحم الله أباالحسن علیه السلام، فلقد كان هشّاً بشّاً ذا فكاهة».(1) فقال قيس: «نعم، كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلم یمزح و يبتسم إلى أصحابه، و أراك تسرُّ حسواً في ارتغاء(2) و تعيبه بذلك؟ أما واللَّه لقد كان تلك الفكاهة و الطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسّه الطوى ، تلك هيبة التقوى ، وليس كما يهابك طعام أهل الشام».

و علق ابن أبي الحديد بعد نقل الكلام السابق بقوله: «و قد بقي هذا الخُلق متوارثاً متناقلاً في محبيه و أوليائه إلى الآن، كما بقي الجفاء و الخشونة و الوعورة في الجانب الآخر، و من له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك».(3)

لقد ترك علي علیه السلام الا بعده زوجات عدّة، فبعضهن توفاهن اللَّه عزّوجل إبّان حياته و كانت أم البنين فاطمة الكلابية علیها السلام ممن تركهن الإمام بعده،(4) فلم يتزوجن بعده، فكن بهذا الحال كحال زوجات النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم

ص: 92


1- الأنصاري، حياة أهل البيت السلام، ص233.
2- مثل يضرب لمن يُظهر أمراً و هو يريد غيره.
3- ابن أبي الحديد، شرج النهج...، ص25.
4- بن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب -3، ص351.

محمد صلى اللَّه عليه و آله و سلم من أمهات المؤمنين، كما أن أم البنين علیها السلام كانت إحدى زوجات علي بن أبي طالب علیه السلام الحافظات لنسله الكريم بحفظ الباري لذرية العباس الا ابن الكلابية.(1)

وتبقى السيدة الجليلة مولاتنا أم البنين علیها السلام حافظة كذلك لكل ما يمت بصلة لزوجها وإمامها المرتضى علیه السلام، فلم تذكر المصادر أنها قد حدثت بحديث واحد نقلاً عن النبي صلى اللَّه عليه و آله و سلم و آل بيت النبي صلى اللَّه عليه و آله و سلم والإمام علي علیه السلام ، وأغلب الظن أنها كانت من النساء المؤمنات المخدرات النادرات الوجود في امتثالهن لتعاليم السماء، في حفظ أسرار بيوتهن، و أدائهن لدورهن المرسوم في حفظ العيال و تنشئتهم على أسس إسلامية إيمانية حقيقية، لذا لم نجدها قد أخذت تحدث وتحدث عن أدق تفاصيل حياتها مع الإمام على علیه السلام سبيل المثال!! بل أنها حفظت ذكرى أميرالمؤمنين علیه السلام حتى بعد استشهاده فكانت خير أم و معين و مناصرة لأسرته الشريفة المطهرة، فدفعت بأولادها الفوارس الأربعة تحت لواء أخيهم الحسين علیه السلام، و كانوا طوع يمينه، كما كانوا كذلك لأخيهم الأكبر الإمام الحسن علیه السلام الا بعد فقدانهم الأبيهم بمقتله، حتى أن السيدة زينب الكبرى علیها السلام رأتها شريكة لهم في المصاب بعد واقعة الطف وعودة السبايا إلى المدينة و قد منعت

ص: 93


1- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ص246.

الدخول عليها لغيرها من النساء، بحسب ما تذكر الروايات الموثوقة.

إنَّ كرامة هذه المرأة العظيمة من كرامة اقترانها بسيد الأوصياء و حسن تبعلها له، يضاف إليها موقفها المشهود الذي لايغفل و لايندثر، و سيبقى ماثلاً أمد الدهر في أذهان المؤمنين، إن أم البنين فاطمة علیها السلام بنت حزام الكلابية(1) بإيثارها و تفانيها في سبيل المبدأ، حين جعلت من أولادها، فلذات كبدها أضاحي تقدم واحداً تلو الآخر فداء لابن زوجها الإمام الحسين علیه السلام، تضرب المثل الأعلى لكل امرأة مسلمة مؤمنة.

فأم البنين علیها السلام في موقفها المشرف هذا تمنحنا الدليل القاطع على أنها مؤمنة عالمة، و أن أبا عبداللَّه علیه السلام هو ليس أخاً أكبر لأولادها واجب الطاعة والامتثال فحسب، بل هو إمام يطاع، و التزامه واجب شرعي و هذا ما دأبت عليه و ما غذته لأبنائها في الحياة حتى الممات.

لقد أصاب أبوالحسن علیه السلام يوم تخير بين النساء فاختار أم البنين فاطمة علیها السلام، لتنتمي إلى حلقة النور من الفواطم اللائي عايشن أيام الإمام من المهد إلى اللحد.

ص: 94


1- عبدالحسين الأميني، الغدير -5، دارالكتاب العربي، بيروت، ط عام 1379 ه_، ص209.

الفَصْلُ الثاني علي و الزهراء علیهما السلام

إشارة

- قبل الزواج... بعد الزواج

- قبل وفاة النبي صلى اللَّه عليه و آله و سلم... بعد الوفاة

ص: 95

ص: 96

قبل الزواج... بعد الزواج

قبل اقتران الإمام علي بالزهراء عليهما السلام كان سقف البيت الذي أظلهما سقفاً واحداً، هو سقف بيت الرسول الأكرم صلي اللَّه علیه و آله و سلم.(1) فقد ربَّى الإمام علي علیه السلام الا في حجر النبي الأكرم صلي اللَّه علیه و آله و سلم و شهد مشاهده كلَّها إلّا غزوة تبوك،(2) إذ أقام مع رسول الله صلي اللَّه علیه و آله و سلم ثلاثا و ثلاثين سنة، عشر منها قبل البعثة، و ثلاث عشرة سنة بعدها، و عشر سنين في المدينة بعد الهجرة، و عاش بعد ما قبض النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم ثلاثين سنة إلا خمسة أشهر و أيام.(3)

و أمَّا الصديقة فاطمة الزهراء علیها السلام، فأجمعت أحاديث أئمتنا المعصومين علیهم السلام و كذلك علماء السِّير في أن ولادتها المباركة كانت بعد النبوة المحمدية صلي اللَّه علیه و آله و سلم لاقبلها، و هي أصغر بنات رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم.

قال أبوسعد الواعظ في كتاب شرف النبي بباب العشرين: إنَّ جميع أولاد رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم ولدوا قبل الإسلام، إلّا فاطمة علیها السلام و إبراهيم علیه السلام فإنَّهما ولدا

ص: 97


1- عبدالفتاح عبدالمقصود، في نور محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم... فاطمة الزهراء علیه السلام، تحقيق: شوقي محمد، المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية - المعاونية الثقافية، مركز التحقيقات والدراسات العلمية، ط1، 1326 ه_ ق، 2005 م، المطبعة خاتم، إيران – طهران. ص326.
2- محمد علي الأنصاري، أهل البيت علیهم السلام، ص225.
3- المصدر نفسه، ص211.

في الإسلام.(1) و هكذا اتفق الرواة على أنَّ فاطمة الزهراء علیها السلام كانت الصغرى في ذرية الرسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم وإن اختلفوا في تحديد السنة التي ولدت فيها، إلا أنه روي عن الإمام محمد الباقر علیه السلام أنها ولدت بعد النبوة صلي اللَّه علیه و آله و سلم بخمس سنين، أما الإمام علي علیه السلام فقد ولد قبلها بخمس عشرة سنة.(2)

و قد أقامت مع أبيها بمكة ثماني سنين، و بالمدينة عشر سنين، و أقامت مع الإمام علي علیه السلام الا بعد وفاة رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم خمسة و سبعين

ص: 98


1- سبط ابن الجوزي، تذكرة الخواص -الجزء الثاني، ص317 و ما بعدها، إذ يذكر أنَّ ولادتها كانت قبل النبوة صلي اللَّه علیه و آله و سلم بخمس سنين و يستشهد بعدة مصادر منها: كما في ترجمتها من الطبقات الكبرى لابن سعد 19/8، و من الاستيعاب لابن عبد البر4 /1899 و سيد أعلام النبلاء للذهبي2/ 119 و في الإصابة لابن حجر 54/8. هذا وإن المشهور عند الإمامية أنها ولدت سنة خمس من المبعث بمكة في العشرين من جمادي الآخرة باب مولد الزهراء علیها السلام من كتاب الحجة من أصول الكافي للكيليني 1/ 458، وتاج المواليد للطبرسي ص21، و مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب3/ 405. و قيل: كان مولدها في سنة اثنتين من المبعث، فللمزيد ينظر: مسار الشيعة للشيخ المفيد ص31، و مصباح المتهجد للشيخ الطوسي ص 793 وغيرها من المصادر. وإن كان المشهور من السيرة للزهراء علیها السلام أنها كانت تحدث أمها خديجة علیها السلام الا من بطنها وتصبرها عند حملها بها وبعد هجران نساء مكة لها كما في: شجرة الطوبى، لمحمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم مهدي الحائري / ج2، ص247 و ما بعدها، و حياة الصديقة فاطمة علیها السلام، لمحمد جواد الطبسي، ص13.
2- محمد جواد مغنية، فضائل الإمام علي علیه السلام، ص21.

يوماً، و في رواية أربعين يوماً، و توفيت و هي بنت ثمان عشرة سنة و خمسة و سبعين يوماً.(1)

ويذكر بن شهر آشوب في مناقبه(2): ولدت فاطمة علیها السلام بمكة بعد النبوة صلي اللَّه علیه و آله و سلم بخمس سنين، و بعد الإسراء بثلاث سنين، في العشرين من جمادي الآخرة، و أقامت مع أبيها بمكة ثماني سنين، ثم هاجرت معه إلى المدينة فزوجها من علي بعد مقدمها المدينة بسنتين، أول يوم من ذي الحجة، و روي أنه کان يوم السادس، و دخل بها يوم الثلاثاء لست خلون من ذي الحجة بعد بدر. و قبض النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم و لها يومئذ ثماني عشرة سنة و أشهر و عاشت بعده اثنين وسبعين يوماً، ويقال: خمس و سبعون يوماً، و قيل: أربعة أشهر، و قال القرباني: قد قيل: أربعون يوماً؛ و هو أصح.

و ولدت الحسن علیه السلام و لها اثنتا عشرة سنة. و توفيت ليلة الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة من الهجرة ومشهدها بالبقيع، و قالوا أنها دفنت في بيتها. وقالوا قبرها بين قبر رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم و بين منبره.(3)

ص: 99


1- سبط ابن الجوزي، تذكرة الخواص، الباب الحادي عشر: ترجمة خديجة الكبرى و فاطمة الزهراء علیها السلام، ص369.
2- بن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب -3، فصل الزهراء علیها السلام في حليتها و تواريخها علیها السلام، ص405.
3- المصدر نفسه، ص406.

إنَّ المهم في كلّ ما أوردناه ليس ذكر التواريخ و التثبت منها على الرغم من أهمية هذه المسألة -، ولكن المهم هو الاستدلال على حقيقة هي وحدة المناخ و البيئة التي تربّى فيها كلّ من علي و فاطمة عليهما السلام، ففي ذات المناخ الإيماني و العقدي سمت روحهما و تجرّدت ذواتهما من أدران الجاهلية وشوائبها، فتطهرا و اندمجا ليشكلا أهل البيت علیهم السلام الذي أذهب اللَّه عزوجل عنهم الرجس و الفواحش.(1)

في مناخ الإيمان و العقيدة نشأت فاطمة الزهراء علیهما السلام و ترعرعت في كنف أبيها الرسول الأعظم صلي اللَّه علیه و آله و سلم، و رعاية أمها خديجة أم المؤمنين علیها السلام

ص: 100


1- قوله تعالى: «إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» سورة الأحزاب آية 33، و قد أجمع المفسرون أنها نزلت في الرسول الأعظم و علي و فاطمة و الحسن و الحسين علیهم السلام. رواه أحمد و الطبراني عن أبي سعيد الخدري والترمذي و الحاكم عن أنس في ذخائر العقبى 24 و المستدرك على الصحيحين3 / 158 و الصواعق المحرقة لابن حجر 85 قال: أكثر المفسرين على أنها نزلت في علي و فاطمة و الحسن و الحسين علیهم السلام. و سئلت عائشة رضي الله عنها عن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام، فقالت: و ما عسيت أن أقول فيه وهو أحب الناس إلى رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم، لقد رأيت رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم وقد جمع شملته على علي و فاطمة والحسن والحسين علیهم السلام و قال: هؤلاء أهل بيتي اللَّهم أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا. و قالت أم سلمة: في بيتي نزلت «إنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ» الآية ، فأرسل رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم إلى علي و فاطمة و الحسن و الحسين علیهم السلام فقال هؤلاء أهل بيتي علیهم السلام. و عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم: أنزلت هذه الآية في خمسة ، في و في علي و حسن و حسين و فاطمة علیهم السلام.

و قد أغدقا عليها العطف والحنان مما يفوق الوصف.(1) رضعت علیها السلام من ثدي الإيمان، و تربَّت في حجر الإسلام ونهلت من معينه الصافي فكان الرسول الأعظم صلي اللَّه علیه و آله و سلم الوالد العطوف، والمربي الشفوق، و المعلم،

الكريم، و المؤدب الحليم.

لم تكن الزهراء علیها السلام وحيدة أبويها، فقد رزقا أيضاً بالقاسم و عبداللَّه و قد توفاهما الله و كذلك زينب و رقية و أم كلثوم، ولكن فاطمة الزهراء علیها السلام كانت الوحيدة الأثيرة لدى العائلة، و كان لها دور تاريخي في حياة أبيها النبي الكريم صلي اللَّه علیه و آله و سلم و بعد وفاته... و حتى يومنا هذا، فقد نشأت الزهراء علیها السلام في بيت كلّه أمجاد و شرف و أخلاق ربانية و واكبت أحداث بدء الدعوة الإسلاميَّة لحظة بلحظة.(2)

لقد اكتنفت رعاية الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم و زوجه كلا من علي و فاطمة علیهما السلام معاً، و لقد ذكرنا مشاهد من هذه الرعاية في المباحث السابقة، أما الإمام علي علیه السلام فقد كان شاباً عندما ولدت الزهراء علیها السلام، فكانت له أختاً صغرى -وربيبة أثيرة، و وديعة كبرى أوصاه بها أبوها في حياته و بعد وفاته.

فهو ينظر إليها بعين الإكبار و الإجلال طفلة تدرج أمام عينيه في الدار، لها سمات أبيها وصفاته، تكاد تكون صورة مصغرة من الحبيب

ص: 101


1- مريم نورالدين فضل اللَّه، المرأة في ظل الإسلام، ص175.
2- غادة الخرسا، المرأة في الإسلام، ص 145.

محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم، أو هي كذلك بالفعل. كانت فاطمة علیها السلام كالشمس تخرج من تحت السحاب، و كانت أشبه الناس خَلقاً و خُلقاً و منطقاً برسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم.(1)

رافق الإمام علي فاطمة علیهما السلام في كل مراحل حياتها المليئة بالأحداث، الحافلة بالمصاعب والمتاعب، المشحونة بالمحن و الآلام. كان معها منذ طفولتها عندما ذهبا مع أبويهما العظيمين إلى شعب أبي طالب، و شاهدها هناك تتجلّد على الرغم من طفولتها وسنيها القليلة على ما لاقوا من شظف العيش و شدّة الحصار وأذية قريش. ما لايتحمله جسدها الصغير، و تظهر من القوة والجلد ما يعجز عن مثله الكبار، كيف لا؟ و هي غرس محمد الهاشمي.

إن سنوات الحصار الثلاث لم تأكل من أجسادهم وقواهم ، وأيام وليال من أعمارهم فحسب، بل إنها كلفتهم غالياً لقد فقدوا بسبب تلك السنين وذلك الظرف العصيب أعزة وأحبّة واحداً تلو الآخر ، فكان فقدهما الأم العظيمة خديجة الكبرى علیها السلام الاعلام و الأب المحامي و المدافع أبا

ص: 102


1- محمد جواد مغنية، فضائل الإمام علي علیه السلام، ص21. عن أنس بن مالك قال: سألت أمي عن صفة فاطمة علیها السلام فقالت: كانت كأنها القمر ليلة البدر أو الشمس كفرت (ستره وغطاه) غماما، أو خرجت من السحاب، و كانت بيضاء بضة (البيضاء الممتلئة). و عن عطاء عن ابي رباح قال: ...روي أنها كانت مشرقة الرباعية. و عن جابر بن عبداللَّه: ما رأيت فاطمة علیها السلام تمشي إلا ذكرت رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم، تميل على جانبها الأيمن مرة، و على جانبها الأيسر مرة. للمزيد ينظر: بن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب - 3 ، ص 405 .

طالب) في محنة واحدة وسنة واحدة خطبا فادحاً ألم بهما و برسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم الذي عبّر عن أحزانهم الجامعة هذه خير تعبير بوصفه ب_ (عام الأحزان).(1)

فقدت الزهراء علیها السلام أمها خديجة علیها السلام و هي في حدود الخامسة من عمرها، أو أكثر بقليل -بناءً على ولادتها بعد البعثة بخمس سنين، و كانت الزهراء علیها السلام الصغيرة بعمرها، الكبيرة بمكانتها من رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم تحاول أن و هي تملأ الفراغ الحاصل من فقد أمها خديجة علیها السلام، فكانت تحن على أبيها، ذلك الحنان الذي جعله يكنيها ب_" أم أبيها".(2)

في هذه السنوات المبكرة و من خلال هذه المحنة العصيبة، أخذ الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم علية يهيئ من حوله لفكرة ربانية أخذت تتجلى و تترسخ، مفادها أن فاطمة علیها السلام ليست ابنة الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم و أحب الخلق إلى قلبه و أقربهم إلى نفسه فحسب، بل يؤكد على مقامها و مرتبتها و منزلتها و المهمة العظيمة المناطة

ص: 103


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج1، ص208 و ما بعدها. يذكر ابن سعد في طبقاته لما توفي أبوطالب و خديجة بنت خويلد و كان بينهما شهر و خمسة أيام اجتمعت على رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم مصيبتان فلزم بييته و أقل الخروج و نالت منه قريس ما لم تنال و لاتطمع به؛ للمزيد ينظر: ابن الأثير، الكامل في التاريخ2 : 90.
2- هذا من کناها المشهورة، ينظر : مناقب آل أبي طالب 30، ص 357؛ محمد علي الأنصاري، أهل البيت/ فاطمة الزهراء السلام ، ص169.

بها: «فاطمة علیها السلام بضعة مني من أغضبها أغضبني».(1) و «إنما فاطمة علیها السلام بضعة مني يؤذيني ما آذاها».(2)

فكان النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم يؤكد علاقته بفاطمة علیها السلام، و يوضح مقامها و مكانتها في أمته، و هو يمهد لأمر عظيم و قدر خطير يرتبط بفاطمة وعلي و ذريتهما علیهم السلام الطاهرة، و بالأمة الإسلامية كلّها، كان صلي اللَّه علیه و آله و سلم يؤكد ذلك ليعرف المسلمين مقام فاطمة علیها السلام و مكانة الأئمة من ذريتها، ليعترفوا بحقها و يحفظوا لها مكانتها و منزلتها، فيقول: «فاطمة علیها السلام بضعة مني يغضبني ما يغضبها... و إن الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي و سببي و صهري».(3)

أخذ النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم يولي فاطمة علیها السلام بضعته الطاهرة جلّ رعايته، في وقت تمر به الدعوة الإسلامية بأصعب إرهاصات وجودها و انتشارها، فقد انتقل الرسول الأعظم صلي اللَّه علیه و آله و سلم من مرحلة سابقة إلى مرحلة لاحقة، ففي المرحلة

ص: 104


1- موجز سيرة الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم، ص107. نقلاً عن: البخاري / ج2 / ص185، مسند أحمد/ ج4 / ص 332، مستدرك الحاكم/ ج3 / ص154.
2- المصدر نفسه، نقلاً عن: مسند أحمد/ ج4 / ص5، خصائص النسائي/ ص25، و فيه: (من أذى رسول اللَّه خصائص النسائي/ ص25، و فيه: فقد حبط عمله).
3- مريم فضل اللَّه، المرأة في الإسلام، دارالزهراء للطباعة و النشر والتوزيع، بيروت – لبنان ، ط1 ، 1979 م - 1399ه_. ص176 ، نقلاً عن: ينابيع المودة، للقندوزي الحنفي، ص219.

الأولى كان يجد خديجة الكبرى علیها السلام في البيت خير مؤمنة و ناصرة لقضيته و في الخارج يأزره عمه أبوطالب ظهيراً و سانداً و مدافعاً.

أمّا في هذه المرحلة فقد أدت الزهراء علیها السلام دور أمها، و نهضت بتلك المهمة الكبيرة و تمثلت الدور المناط بها فأجادت فيه، و كذلك غدا ابن عمّه علي بن أبي طالب علیه السلام بديلاً عن أبيه فكان ناصراً و أخاً و وزيراً و وصياً.

وإنْ كانتِ المصادر التاريخيَّة لاتسعفنا بذكر كثير عن دقائق الحياة العائلية في بيت النبوة صلي اللَّه علیه و آله و سلم حينذاك، إلا أنَّ الأدلة تشير إلى أن فاطمة علیها السلام لم يعد يراها من الرجال في بيت أبيها إلا النبي محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم علة و الوصي فها هو النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم يسأل ابنته يوماً(1): أي شيء خير للمرأة؟ قالت: ألا ترى رجلاً و لايراها رجل. فضمها إلى صدره و قال: ذرية بعضها من بعض و نحن لانفهم من جواب سيدة النساء إلّا الدلالة على حصانتها وعفتها، و إلا فأي شيء أعظم شرفاً للمرأة و أكثر خيراً لها من أن ترى رجلاً كعلي علیه السلام و تلد للإنسانية الحسن والحسين علیهما السلام؟!

ملأت سيدة النساء حياة علي منذ إطلالتها على الوجود، فكانت خير نساء الأرض، و خير كفء له، حتى أنَّ الإمام علي علیه السلام المكتمل شباباً و عنفواناً و خصالاً لم يقدم على الاقتران بأي امرأة أخرى قبلها ، و كانت

ص: 105


1- محمد جواد مغنية، فضائل الإمام علي علیه السلام، ص22.

قرة عين النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم، وإحدى الودائع التي ألزمه بها ابن عمه قبل هجرته إلى المدينة، فسار برفقتها وسائر الفواطم(1) في وضح النهار قاهراً صلف قريش و كبريائها، و قد مضى الركب عبر الصحراء يغذ السير مستظلاً بسيف علي بن أبي طالب علیه السلام الذي شهره بوجه فرسان قريش المطاردة له. مانعاً لها من أن تلحق أي أذًى برواحل الفواطم.

و ما كان دفاع علي علیه السلام و شجاعته بالمنظر الجديد على فاطمة علیها السلام، فلطالما شهدت له مواقفه العديدة في الدفاع عن الإسلام ونبيه وأتباعه، فكيف كان موقفه و هو يرى الحويرث ينخس بعير فاطمة علیها السلام محاولاً رميها إلى الأرض؟ و كانت فاطمة علیها السلام يومئذ خفيفة نحيلة الجسم، قد أنهكتها الأحداث الجسام التي لقيتها، و لم ينسَ النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم فعلة الحويرث النكراء هذه و قد سماه مع النفر الذين عهد النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم إلى أمرائه بقتلهم يوم الفتح الأكبر في العام الثامن للهجرة وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، وكان علي بن أبي طالب علیه السلام أحق هؤلاء الأمراء بقتل الحويرث و قد فعل.(2)

إن هجرة علي علیه السلام بمعية الفواطم كانت حدثاً مشهوداً و محموداً عند النبي محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم و المسلمين، حتى أنَّ الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم كان في أشدّ الشوق للقاء

ص: 106


1- و هن فاطمة الزهراء علیها السلام، و والدته فاطمة بنت أسد و فاطمة بنت الزبير بن عبدالمطلب و فاطمة بت حمزة بن عبدالمطلب، و قد فصلنا الحديث عن ذلك في مبحث سابق.
2- مريم فضل اللَّه، المرأة في الإسلام، ص179.

أحبته، علي و فاطمة علیهما السلام، و ما كان النبي الأكرم صلي اللَّه علیه و آله و سلم ليدخل يثرب من دونهم مع أنَّ أصحابه كانوا دائمي الحث بذلك، فكان يمتنع بالقول: (ما أنا بداخلها حتى يقدم ابن عمي وابنتي).(1)

و عند وصول الركب سالماً إلى قبا سرّ الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم بسلامة الوصول و لقاء الأحبة و قال: (أدع لي عليا علیه السلام) قيل: لايقدر أن يمشي، فأتاه النبي اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم و اعتنقه وبكى، رحمة به، لما بقدميه من ورم، وتفل في يديه و أمرهما على قدميه، فلم يشتكهما بعد حتى استشهد.(2)

إنَّ بعض المصادر تنكر هذا القول(3)، و تذكر أنَّ السيدة فاطمة الزهراء علیها السلام لقد سارت على قدميها حتى المدينة هي و أختها أم كلثوم و لم يكن برفقتهما الإمام علي علیه السلام، كما في تراجم سيدات بيت النبوة صلي اللَّه علیه و آله و سلم.

للدكتورة بنت الشاطئ، و القول المشهور و القاطع إنّ الإمام علياً علیه السلام هو الذي سار بالفواطم حتى المدينة امتثالاً لرغبة النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم و تنفيذاً للمهمات التي أوصاه بها.

ص: 107


1- موجز سيرة الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم و أهل البيت، تأليف و نشر: لجنة التأليف -مؤسسة البلاغ، ص111.
2- موسوعة الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام في الكتاب و السنة و التاريخ، محمد الريشهري، ج1، ص171.
3- ابن سعد، الطبقات الكبرى -ج1 ، ص237.

و من المجافي للعقل أن يترك الإمام علي علیه السلام فاطمة الزهراء علیها السلام تسير على قدميها و معه الرواحل، و لقد أسهبنا في شرح ظروف هذه الواقعة المشهورة في السير في مبحث سابق.

و في المدينة المنورة، و في بيت الرسول العظيم صلي اللَّه علیه و آله و سلم أقامت فاطمة علیها السلام تملأ بيت أبيها بعد الوحشة، و تسهر على راحة ذلك الوالد العظيم، ولكن فاطمة علیها السلام الشابة النضرة، ذات الشرف و الجمال و المجد الرفيع، أخذت تتجه إليها الأنظار، و يحدّث بعض الصحابة نفسه بأن يحظى بشرف الاقتران بها.(1)

كل واحد منهم يمني نفسه في أن يدنو من هذا الفضل العظيم، في أنْ يُصبح صهراً للنبي المصطفى صلي اللَّه علیه و آله و سلم، جاء في كتاب ذخائر العقبى(2): إنَّ أبابكر خطب إلى النبي فاطمة علیها السلام، فقال له: لم ينزل القضاء بعد، فخطبها عمر، فأجابه بما أجاب، صاحبه، ثم خطبها عديد من كبار قريش، و كان الجواب واحداً.(3) و خطبها عبدالرحمن بن عوف و بذل لها مهراً غالياً فتأذى النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم منه و تناول كفاً من الحصى، و قال له: إنك لتهول علي بمالك فتحول الحصى درّاً، و خطبها عثمان بن عفان فردّه النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم كذلك...

ص: 108


1- ذخائر العقبي، احمد بن عبد الله الطبري، ص39.
2- نفس المصدر، ص30.
3- ابن سعد، الطبقات الكبری، ج8 ، ص20.

و يتبين من خلال إجابة الرسول الاكرم صلي اللَّه علیه و آله و سلم لأميرالمؤمنين سلام اللَّه عليهما في الزواج من الزهراء علیها السلام وردّ سواه كانا بأمر اللَّه سبحانه، و في ذلك دليل على فضل أميرالمؤمنين علیه السلام و كرامته و منزلته عنداللَّه تعالى و الزهراء علیه السلام سيدة نساء العالمين لابد أن يكون كفؤها سيد رجال الأمة بعد رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم، و من هنا جاءت مقاييس الاختيار و الترجيح على لسان الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم و هو يبين لابنته البتول علیها السلام الا فضل أميرالمؤمنين علیه السلام، قال صلي اللَّه علیه و آله و سلم:

«زوجتك سيداً في الدنيا و الآخرة، و إنه لأول أصحابي إسلاماً، و أكثرهم علماً و أعظمهم حلماً» و اليوم الآخر.(1)

لذا روي عن النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم أنه قال: «لو لم يخلق الله علياً علیه السلام ما كان لفاطمة علیها السلام كفء». و قال ابن عباس: «كانت فاطمة علیها السلام بنت رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم تذكر فلايذكرها أحد لرسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم إلا أعرض عنه فقال سعد بن معاذ الأنصاري لعلي علیه السلام: إني واللَّه ما أرى رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم يريد بها غيرك، دخل علي علیه السلام على النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم و جلس بين يديه و لم يتكلم فابتدره النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم لأنه عرف أنه جاء خاطباً و قد منعه الحياء عن الكلام فقال له: ما حاجتك؟ فقال: يا رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم ذكرت فاطمة علیها السلام بنت رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم فقال: "مرحبا و أهلاً"

ص: 109


1- الاستيعاب، ابن عبد البر، ج3، ص36.

أو قال: «مرحباً إِنَّ الله أمرني أن أزوجك ابنتي».(1) فخرج علي علیه السلام يزهو فرحاً و مسروراً فقالوا له: ما وراءك ؟ فأخبرهم ، فقالوا: لقد زوجك ابنته فلما علموا ذلك عتبوا على النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم فقال: «ما أنا زوجته ولكن اللَّه زوجه».(2)

إن اقتران علي و الزهراء علیهما السلام لم يكن زواجاً اعتيادياً أو أمراً عائلياً تمَّت في إتمامه عائلة الزوجين، و لمَّا كان الأمر على هذه الأهمية، فإنّ الإمام عليّا علیه السلام لم يكن ليتقدم في طلب خطبة الزهراء علیها السلام الا من أبيها قبل أن يأتي الأمر الإلهي، ثم يلتمس الموافقة النبوية صلي اللَّه علیه و آله و سلم، ثم من بعد يقدم هو بنفسه، مع ما له من القرابة و السبق في الإسلام و الأفضلية في الصحبة و المواساة و الكفاءة و المؤاخاة.

وهناك رواية أخرى(3) لهذه الخطبة الميمونة، تذكر أنَّ النبي المصطفى صلي اللَّه علیه و آله و سلم حين اعتذر من تزويج فاطمة علیها السلام لعمر و أبي بكر اتجه إلى الإمام علي علیه السلام و هو يسقي في بستان نخل، فقالا: قد عرفنا قرابتك من

ص: 110


1- كاظم النقيب، أئمتنا قادة وهداة، مؤسسة الفكر الإسلامي للطباعة و النشر و التوزيع ، ط2، لبنان -بيروت، 1433 ه_ 2012 م، مكتبة العلامة ابن فهد الحلي، كربلاء المقدسة - العراق، ص101. نقلاً عن: نور الأبصار ص42، كنز العمال ج6، ص: 218.
2- كاظم النقيب، أئمتنا قادة وهداة، ص102.
3- موجز سيرة الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم و أهل البيت علیهم السلام، تأليف ونشر: لجنة التأليف - مؤسسة البلاغ، ص112.

رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم و قدمك في الإسلام، فلو أتيت إلى رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم فخطبت إليه فاطمة علیها السلام لزادك اللَّه فضلاً إلى فضلك، و شرفاً إلى شرفك، فإنا نرجو أن يكون اللَّه و رسوله صلي اللَّه علیه و آله و سلم إنما يحبسانها عليك.

فانطلق علیه السلام فتوضأ ثم اغتسل و لبس كساءه، و صلَّى ركعتين و لبس نعليه، وأقبل إلى النبي اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم و كان في منزل أم سلمة، فسلّم عليه، فردّ علیه السلام و جلس بين يديه، ينظر إلى الأرض، فقال له النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم: أتيت لحاجة؟ قال: نعم، أتيتك خاطباً ابنتك فاطمة علیها السلام، فهل أنت مزوجي يا رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم؟

قالت أم سلمة : فرأيت وجه رسول الله يتهلل فرحاً وسروراً ، ثم يبتسم في وجه علي علیه السلام. و دخل على فاطمة علیها السلام فقال لها: (إن علي بن أبي طالب علیه السلام من قد عرفت قرابته وفضله في الإسلام، و إني سألت ربي أن يزوجك خير خلقه، و أحبهم إليه، و قد ذكر من أمرك شيئاً فما ترين؟). فسكتت فخرج رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم و هو يقول: (اللَّه أكبر سكوتها إقرارها).

فأتاه جبرئيل علیه السلام فقال: يا محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم، زوّجها علي بن أبي طالب علیه السلام، فإنَّ اللَّه قد رضيها له، ورضيه لها.(1) و قال ابن عبدالبر في الاستيعاب، و هو يترجم لعلي اللَّه: إن رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم قال لفاطمة علیها السلام: إنّ زوجك سيدٌ في الدنيا

ص: 111


1- محمد علي الأنصاري، أهل البيت...، ص171. نقلاً عن البحار 93: 93، تاريخ سيدة النساء علیها السلام، باب تزويجها، الحديث4.

والآخرة، و إنه لأول أصحابي إسلاماً، و أكثرهم علماً، و أعظمهم حلماً.

وعن النبي اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم إنه قال لعلي علیه السلام: عاتبني رجال من قريش في أمر فاطمة علیها السلام، و قالوا: خطبناها إليك فمنعتنا، و زوجت عليا علیه السلام، فقلت: ما أنا منعتكم، و زوجته، بل اللَّه منعكم و زوّجه. فكفاءة علي لفاطمة علیها السلام ليست كفاءة نَسَبيَّة فقط، و لاخلقية فقط، بل هي كفاءة سماوية إلهية في تعادلهما بالقرآن و تساويهما في ميراث النبوة صلي اللَّه علیه و آله و سلم، و في الحكمة و الهدى و الرحمة، و في افتراض الولاء والطاعة على الناس أجمعين.(1)

أسهبت كتب السير و المراجع التاريخيَّة في وصف وشرح تفاصيل هذا الزواج، و خطواته و مقتنياته، حد التواتر و من مختلف المذاهب و الملل و الرواة، و هذا شيء ملفت للنظر، إذا ما أخذنا بالحسبان شدة التحفظ و التستر على ما يجري في البيوتات الكريمة، فكيف الحال والبيت بيت النبوة والولاية ؟!

إنَّ التفكّر -هنا- يوصلنا إلى حقيقة مفادها: أنَّ النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم أراد تعريف المجتمع الإسلامي من حوله، و الأجيال المتوالية من بعده، أهمية و قدسية هذا الاقتران و عظمة هذه الأسرة الوليدة و امتداداتها

ص: 112


1- محمود جواد مغنية، فضائل الإمام علي علیه السلام، ص24.

المستقبلية في جسد الإسلام و روحه، و يذكّر أمته وأتباعه في كلّ قول و فعل قام به لاتمام هذا الارتباط الإلهي و متابعته لحيثياته المختلفة.

إنَّ النبي المصطفى اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم، بامتناعه عن إجابة كل خاطب للزهراء علیها السلام وردّه، و من ثمَّ تهلله و فرحه بطلب علي علیه السلام فيه رسالة بليغة لمن حوله أنَّ اللَّه سبحانه و تعالى هو من زوّج النور من النور(1)؛ ليرسَّخ موعظة خلاصتها أنَّ عليّاً و فاطمة علیهما السلام ليسا كأي عروسين في هذه الأمة، و أنه يوليهما ما يستحقان من محبَّة و مكانة، و على الأتباع من هذه الأمة المرحومة، إطاعة و اتباع نبيها المختار في سلوكه المتفرّد هذا.

فضلاً عن ذلك فإنّ الإشارة إلى تلك العناية الكبيرة من النبي محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم و نسائه و أصحابه و مجتمع المدينة المنوّرة، بظروف اقتران الوصي علي علیه السلام ببضعة المختار فاطمة علیها السلام، لايعني أن زواجهما كان زواجاً أسطورياً أو فائق البذخ و الترف، نظراً لمكانة الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم بوصفه زعيماً وقائداً لأمة أخذت تنهض وتتسع في انتشارها.

ص: 113


1- جاء في ذخائر العقبى ص32، أن جبرئيل علیه السلام أتى إلى النبي محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم فقال: " يا محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم أتاني ملك فقال لي: يا نبي اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم إن اللَّه يقرؤك السلام و يقول لك: إني زوجت فاطمة علیها السلام من علي علیه السلام في الملأ الأعلى فزوجها منه في الأرض"؛ وروى ابن شهر آشوب في مناقبه/ 3 ص398 عن کتاب ابن مردویه، قال ابن سيرين: قال عبيدة: إن عمر بن الخطاب ذكر علياً علیه السلام، فقال: ذاك صهر رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم، نزل جبرئيل على رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم فقال: (إن اللَّه يأمرك أن تزوج فاطمة علیها السلام من علي علیه السلام).

و لو كانتِ الزهراء علیها السلام ابنةً لأحد ملوك الطوائف أو رؤساء عشائر ذلك الزمان، لكان عرسها أكثر فخامة وبذخاً مما حظيت به الزهراء علیها السلام كعروس، و هي سيدة نساء العالمين و زوجها سيد الوصيين و أبوها نبي الأمة صلي اللَّه علیه و آله و سلم و خاتم المرسلين. و مع كلّ ذلك فإنَّ زواج الزهراء بعلي ملأ الكتب و المراجع التاريخيَّة بتفاصيله ، وعدد مقتنياته ، وما حوته دار العروسين الشابين، و كيف تم زفافهما، و ما قيل فيه من الأهازيج وكلمات الفرح والتبريك، و مَن شارك في الوليمة، و كل قول وفعل قام به الرسول الأعظم صلي اللَّه علیه و آله و سلم علية حتى لحظة افتراقه عنهما، ليكون زواجهما أنموذجا يحتذى به من الشباب المسلم في كل زمان ومكان.

فعليُّ الشاب الممتلئ حيوية و فروسية وبطولة ، و إباء و عزة و شرف و قرابة و إخاء من الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم لم يكن يمتلك ما يتزوج به غير (درع حطمية) أهداها له الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم و هو الذي أشار عليه ببيعها ليتزوج بثمنها.(1)

قال أحمد في الفضائل: حدثنا إبراهيم عبداللَّه البصري، حدثنا إبراهيم بن بشار، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه، قال: أخبرني من سمع علي بن أبي طالب علیه السلام يقول على علیه السلام منبر الكوفة: "لما أردت أن أخطب فاطمة علیها السلام إلى رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم ذكرت أنه لا شيء لي، ثم ذكرت عادته وصلته فخطبتها، فقال: و هل عندك شيء، قلت: لا، قال: فأين

ص: 114


1- المروي في السير أن مهر الزهراء علیها السلام كان ثمن درع حطمية كانت لعلي علیه السلام. للمزيد ينظر: سبط ابن الجوزي، تذكرة الخواص، الباب الحادي عشر، ص319.

درعك الخطمية؟ فقلت: عندي -وكان رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم قد وهبها لي فأتيته بها، فانكحني إياها على علیه السلام الدرع.(1)

باع علي علیه السلام درعه إلى عثمان بن عفان بأربعمائة وثمانين درهماً، فصبها بين يدي النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم،(2) فقبض منها قبضة و قال لبلال: ابتع لنا بها طيباً وأمرهم أن يجهزوها فجعل لها سريراً مشروطاً و وسادة من أديم حشوها ليف و قربة و كساء خيبري و مخضب، وقد أولم علي علیه السلام وليمة دعا إليها المسلمين، فما كانت وليمة في ذلك الزمان أفضل من وليمته، و قد أقبل الناس إليها أرسالاً بعد أن دعاهم إلى ذلك، و قد استحيا من كثرة الناس و قلة الطعام فعلم رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم ذلك، فقال: يا علي علیه السلام إني سأدعو اللَّه بالبركة، قال علي علیه السلام: فأكل القوم عن آخرهم طعامي و شربوا شرابي و دعوا لي بالبركة، و صدروا وهم أكثر من أربعة آلاف رجل و لم ينقص من الطعام شيء،(3) ثم دعا رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم بالصحاف فملئت و وجه بها إلى منازل أزواجه ثم أخذ صفيحة وجعل فيها طعاماً وقال: هذا لفاطمة علیها السلام و بعلها، حتى إذا انصرفت الشمس للغروب قال رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم: يا أم

ص: 115


1- المصدر نفسه؛ رواه أيضاً ابن سعد في ترجمتها من الطبقات الكبرى -8، ص24.
2- موجز سيرة الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم و أهل البيت علیهم السلام)، تأليف و نشر: لجنة التأليف -مؤسسة البلاغ، ص113، نقلاً عن السيد محسن الأمين، المجالس السنية، ج3 / ص73 - 74.
3- كاظم النقيب، أئمتنا قادة وهداة، ص103، نقلاً عن: البحار للمجلسي ج43، ص96.

سلمة هلمي فاطمة علیها السلام، فانطلقت فأتت بها و هي تسحب أذيالها، و قد تصببت عرقاً حياء من رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم، فعثرت فقال رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم: أقالك الله العثرة في الدنيا والآخرة.(1)

إِنَّ الصورة البهيَّة التي رسمت لنا آنفاً، تأخذنا إلى عوالم من المحبَّة الأبويَّة الخالصة، و المودة و الرحمة في أبهى صورها و أحلى تجلياتها، بين أب و ابنته، فعثرت؟! كلمة تأخذ بتلابيب الفكر، فاطمة علیها السلام بنت محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم.

سيدة نساء العالمين علیها السلام. ابنة الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم، فتاة عروس مثل كل الفتيات في عمرها الغض، أصابها ما يصيب كل فتاة في خطوها هذا نحو البيت الجديد، و العالم الجديد، و الأسرة الجديدة، إلّا أنَّ الزهراء علیها السلام، أصابت بعثرتها تلك - فقد جنت دعوة نبوية أبوية خالصة، فها هو الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم أب شفوق يبادر إليها بلسانه، لسان الوحى و النبوة صلي اللَّه علیه و آله و سلم يسبقه قلبه المحبّ بالدعاء لها: (أقالك الله العثرة في الدنيا والآخرة).

فما أروعها من دعوة أب، و ما أجزلها من دعوة نبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم، هنيئاً للزهراء علیها السلام الدعوتين و المحبة من قلب واحد توله بمحبتها حدّ الإلحاح في ذكر أثر هذه المحبة في قلوب الآخرين، إن اتبعوا أثرها.

أمَّا الزهراء علیها السلام فقد أقال اللَّه عثرتها فوقفت بين يدي النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم فكشف الرداء عن وجهها حتى رآها اللَّه ثم أخذ بيدها فوضعها في يد علي علیه السلام

ص: 116


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى/ 8، ص21.

و قال: بارك اللَّه لك في ابنة رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم، يا علي علیه السلام نعم الزوجة فاطمة علیها السلام، و يا فاطمة علیها السلام نعم البعل علي علیه السلام، انطلقا إلى منزلكما و لاتحدثن حدثاً حتى آتيكما.(1)

قال علي علیه السلام فأخذت بيد فاطمة علیها السلام و انطلقت بها حتى جلست في جانب الصفة، و جلست في جانبها و هي مطرقة إلى الأرض حياءً مني مطرق إلى الأرض حياءً منها. ثم جاء رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم فقال: من ههنا؟ فقلنا: ادخل يا رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم مرحبا بك زائراً و داخلاً فدخل.(2)

و في رواية أخرى عن الإمام علي علیه السلام: (...فاستأذن رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم علينا، و علينا كساء أو قطيفة، قال: فتحشحشنا، فقال: مكانكما على حالكما، فدخل علينا فجلس عند رؤوسنا ودعا بماء، فدعا فيه بالبركة، ورشه علينا).(3)

و في الصباح كان النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم أول زائر لهما، فسأل عليا علیه السلام: كيف وجدت أهلك، فقال: نعم العون عل طاعة اللَّه، و سأل فاطمة علیها السلام فقالت: خير بعل يا أبتاه صلي اللَّه علیه و آله و سلم. فرفع النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم كفّيه و قال: اللهم اجمع شملهما، و ألف بين قلبيهما، و اجعلهما و ذريتهما من ورثة الجنة،

ص: 117


1- سبط ابن الجوزي، تذكرة الخواص، ص319.
2- كاظم النقيب، أئمتنا...، ص104، نقلاً عن: كفاية الطالب، ص164.
3- ابن الجوزي، تذكرة الخواص -ج2، ص320.

و ارزقهما ذرية طيبة مباركة واجعل في ذريتهما البركة، و اجعلهم أئمة يهدون بأمرك إلى طاعتك و يأمرون بما يرضيك.(1)

و أراد الإمام علي علیه السلام أن يلاطف رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم و يكشف للناس أنَّ هذه العناية النبوية صلي اللَّه علیه و آله و سلم الفريدة بهذا الزواج، لم يكن لولا عظمتها و أهميتها عند النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم فقال: يا رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم، أهي أحب إليك أم أنا؟ فقال: (هي أحب إلي منك، و أنت أعز علي منها).(2)

إنهما عروسان فتيان يبتغيان سبر غور محبّة الوالد و الأخ الرؤوم، فيسألان في أول صباحاتهما المشتركة... من أحب إليك؟! إنهما معاً كلاهما واحد عند النبي المصطفى صلي اللَّه علیه و آله و سلم و هما أحب إليه من كل الخلق على هذه الأرض.

فكيف كانت هي حياة الزوجين الشابين؟ وكيف كان علي الرجل والزوج يعامل فاطمة علیها السلام المرأة والزوجة؟ و كيف تم تقاسم الأدوار بينهما؟ ليجعلا من بيتهما المتواضع جنة على أرضه تهفو إليها قلوب المؤمنين، و تغدو واحة يركن إليها النبي محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم في كل حين.

و في البدء ما الذي كان يحويه هذا البيت المبارك الجديد؟ و ما الجهاز الذي جهز به علي فاطمة علیها السلام الغالية؟

ص: 118


1- كاظم النقيب، أئمتنا قادة وهداة، ص111. نقلاً عن: البحار للمجلسي ج43، ص117.
2- كاظم النقيب، أئمتنا قادة وهداة، ص111.

قال هشام: و أهديت إليه في بردين، و في يديها دملوجان من فضة، و معها خميلة، و مرفقة من أدم حشوها ليف، و قربة، و مُنخُل، و جراب.(1)

و عن محمد بن علي علیه السلام قال: (تزوج علي فاطمة علیهما السلام على إهاب شاة (و سحق حبرة) و ذلك في رجب بعد الهجرة بخمسة أشهر و بنى بها بعد مرجعه من بدر.

و في قول للإمام علي علیه السلام: ( لقد تزوجت فاطمة علیها السلام، و ما لي و لها فراش غیر جلد کبش ننام عليه بالليل، و نعلق عليه الناضح بالنهار، و ما لي و لها خادم غيرها).(2)

أمَّا أسماء بنت عميس فقالت: لما أهديت فاطمة علیها السلام إلى علي علیه السلام، لم تجد عنده إلا رملاً مبسوطاً، و وسادة، و كوزاً، و جرَّة.(3)

و في رواية: إنَّ الرسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم جهزها بخميلة (وهي القطيفة) و معها قربة من أدم، و وسادة من أدم حشوها ليف، و جلد كبش، ينامان عليه بالليل، و يعلقان عليه في النهار، و رحى، و جرة.(4)

و لو جُمعت كلّ الروايات فإنَّ جهاز فاطمة علیها هو: قميص و خمار لغطاء الرأس، و ثوب له زغب، وعباءة قصيرة بيضاء، و منشفة،

ص: 119


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى -8، ص24.
2- ابن سعد، الطبقات الكبرى -8، ص22.
3- سبط ابن الجوزي، تذكرة الخواص/ ج2، ص324.
4- ما رواه ابن سعد في ترجمتها من الطبقات الكبرى -8 ص23 عن أبي جعفر الباقر علیه السلام.

و فرشان: أحدهما ليف و الآخر صوف، و مخدة ليف، و أربعة متكآت حشوها من نبات الأرض، و سرير من جريد النخل، و جلد كبش، و حصير، و ستار من صوف، و قدح من خشب، و رحى للطحن، و إناء من نحاس للعجن والغسيل، و قربتان: كبيرة و صغيرة، و وعاء من ورق النخل مزفت، و جرَّة خضراء و كوزان من خزف، و منخل، و خشبة نصبها الإمام علي علیه السلام من الحائط إلى الحائط داخل البيت لتعليق الثياب، إذ لاخزانة و لاصندوق الثياب العرس.(1)

انتقلت فاطمة علیها السلام إلى بيت زوجها المتواضع، علي بن أبي طالب علیه السلام سعيدة راضية، في كنف زوجها قريرة العين سعيدة النفس، لاتفارقها البساطة، و لاتبرح بيتها خشونة الحياة، فهي زوجة الوصي علي بطل الإسلام، فكانت له كما كانت أمها لرسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم، تشاركه في جهاده و تصبر على قساوة الحياة.(2)

تقول بنت الشاطئ: لاأصف هنا مدى ما بعث في حياتها الزوجية التي عرفا خشونتها و قسوتها مادياً، من بهجة و أنس و إشراق.(3)

ص: 120


1- محمد جواد مغنية، فضائل الإمام علي علیه السلام، ص24.
2- موجز سيرة الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم و أهل البيت علیهم السلام، تأليف و نشر: لجنة التأليف -مؤسسة البلاغ، ص117.
3- مريم فضل اللَّه، ص183. نقلاً عن تراجم سيدات بيت النبوة لبنت الشاطئ.

تمثلت في شخصية الزهراء علیها السلام الملا بوصفها زوجة ما لم يتوافر في غيرها من النساء الصالحات اللاتي تحدّث عنهن القرآن الكريم، و تحدّث عنهن الرسول الأكرم صلي اللَّه علیه و آله و سلم و منهن: آسية بنت مزاحم، أو مريم ابنة عمران التي لم تتوافر لها ظروف أسرة كاملة لتضطلع بها، و كذلك لم تتوافر لآسية زوجة فرعون ظروف أسرة كاملة و صالحة في حركتها، فهي و إنْ كانت زوجة، لكن لم يكن لها أولاد، و كانت زوجة طاغية مستبد، و لم تكن قادرة على أن تعبّر عن تلك العلاقة القوية في أحكام الأسرة و علاقاتها و بنائها. أما خديجة علیها السلام فقد كان لها الأثر الكبير في الجانب الأسري، فهي زوجة رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم علل و أم ذريته؛ لأنَّها أم الزهراء علیها السلام فهي تشبهها من هذه الناحية، ولكنَّ الزهراء علیها السلام امتازت عن أمها في الأدوار الأخرى التي مارستها في حياتها، التي استطاعت أن تحفظ في شخصيتها قضية الموازنة بين هذه الأدوار.(1)

أمَّا الإمام علي علیه السلام فقد كشف عن سمة العلاقة بينه و بين الزهراء علیها السلام، التي ظهرت واضحة بالتزامه وصية الرسول الكريم صلي اللَّه علیه و آله و سلم، فقد روي عنه في حديث تزويجه بفاطمة علیها السلام، قال: ثم صاح بي رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم: يا علي علیه السلام، فقلت: لبيك يا رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم، فقال: أدخل بيتك و ألطف بزوجتك

ص: 121


1- محمد باقر الحكيم، الزهراء علیها السلام، ص36.

و أرفق بها، فإنَّ فاطمة علیها السلام بضعة مني يؤلمني ما يؤلمها و يسرني ما يسرّها، قال علي علیه السلام: فواللَّه ما أغضبتها و لاأكرهتها على أمر حتى قبضها اللَّه عزّوجل، و لاأغضبتني و لاعصيت لي أمراً، و لقد كنت أنظر إليها فتنكشف عني الهموم والأحزان.(1)

و عن الإمام الصادق علیه السلام: أوحى اللَّه تعالى إلى رسوله صلي اللَّه علیه و آله و سلم: قل لفاطمة علیها السلام لاتعصي علياً علیه السلام فإنَّه لو غضب غضبت لغضبه. إنَّ هذه الأقوال المتقابلة في فضل فاطمة و علي علیهما السلام تظهر كفاءة أحدهما للآخر من دون مواربة، فلقد عوتب النبي اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم في أمر فاطمة علیها السلام مراراً، فقال: (لو لم يخلق اللَّه علي بن أبي طالب علیه السلام لما كان لفاطمة علیها السلام كفو) و في خبر (لولاك لما كان لها كفو على علیه السلام وجه الأرض).

و عن المفضل عن أبي عبداللَّه علیه السلام قال: لولا أنَّ اللَّه تعالى خلق أميرالمؤمنين علیه السلام لم يكن لفاطمة علیها السلام كفوء على وجه الأرض آدم فمن دونه.(2)

و في شعر لابن حماد:

لو لم يكن خير الرجال لم تكن *** زوجته فاطمة خير النسا

و انتظمت حياة الزوجين في هذا البيت المبارك على نمط من الزهد و خشونة العيش في رضا و هدوء بال، فالدنيا حقاً لم تكن محبوبة

ص: 122


1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج43، ص134.
2- بن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب علیه السلام، ج2، ص207.

لديهما، فعن ابن عباس: أنَّ فاطمة علیها السلام بكت للجوع و العري، فقال النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم: (اقنعي يا فاطمة علیها السلام بزوجك، فواللَّه إنه سيد في الدنيا سيد في الآخرة).(1)

كان علي علیه السلام يعمل أجيراً في بعض الأوقات، ليكسب قوته بيده، و كان يأتيه رزق و عطاء وافر من وظيفته بوصفه مجاهداً في سبيل اللَّه، و من الغنائم التي يغنمها المسلمون من العدو في ميادين الجهاد، ولكنه كان ينفق ذلك كله في سبيل اللَّه، و لايحتفظ لأهل بيته إلّا الكفاف، ثقةً باللَّه و توكلاً عليه، و تفانياً في طلب مرضاته.(2)

و منذ بدء حياتهما الزوجية قسمت الأدوار و المهمات ما بين علي و فاطمة علیهما السلام و كان حد الشروع في مهماتهما يبدأ من باب الدار إلى داخله من مسؤولية ربة البيت، و من باب الدار إلى خارجه من مسؤولية رب البيت، ولكن هذا لايعني عدم اتكال أحدهما على الآخر في بعض المهمات المزدوجة، فالإمام علي علیه السلام لم يكن دائم الاستقرار في داره، ففي كلّ المعارك التي خاضها المسلمون، كان سيفه البتار أول سيف يرفع من أجل إعلاء كلمة الحق، كلمة لا إله إلا اللَّه محمد رسول الله صلي اللَّه علیه و آله و سلم؛ ذلك أنَّ فاطمة علیها السلام هي من تأخذ على علیه السلام عاتقها مسؤولية البيت كاملة فكانت خير مرب

ص: 123


1- ابن شهر آشوب، المناقب، ج3، ص365.
2- محمد بكر إسماعيل، فقيه الأمة و مرجع الأمة، ص60.

للعيال و مدرسة أنجبت للأمة الإسلامية خيرة الأبناء و البنات، سيدي شباب أهل الجنة الحسن و الحسين و زينب و أم كلثوم علیهم السلام.

فالزهراء علیها السلام كانت ربة بيت تطحن الحنطة في بيتها، و تنظفه و هي في عين الوقت المرأة العالمة الفاضلة، و في الوقت نفسه المرأة المجاهدة المدافعة عن مبادئها، هي التي منحت جميل رعايتها و وافر حنانها لأبنائها، و أعطت لزوجها كامل حقوقه، و وهبت لأبيها خالص عنايتها حتى كناها له ب_ (أم أبيها)، إذ كانت علیه السلام في رعايتها للأسرة و البيت و ما يرتبط به في أعلى درجات الرعاية، و بذلك ضربت الزهراء علیها السلام المثل الأعلى(1) بوصفها زوجةً و أمَّا مسلمة.

و كذلك كان علي علیه السلام عوناً لها وسنداً حتى إذا اقتضت الحاجة أن يساعدها في أعمال المنزل، فعل، تأسياً بفعل الرسول الأعظم صلي اللَّه علیه و آله و سلم اللَّه في بيته، بل إنَّ النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم لطالما أعان فاطمة و علي علیهما السلام في تدبير بعض شؤونهما المنزلية.

عاشت فاطمة علیها السلام في بيتها ربةً للبيت، تعنى بشؤون منزلها فلم يكن لديها خدم و لاعبيد و لاأجراء فكل حياتها كدح وجهاد كانت فاطمة علیها السلام تطحن الشعير و تدير الرحى بيدها، و تصنع أقراص الخبز بنفسها، و تكنس البيت، وقد كان رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم و علي علیه السلام يريان

ص: 124


1- محمد باقر الحكيم، الزهراء علیها السلام، ص37.

ذلك من فاطمة علیها السلام فيشاركانها العناء و يهونان عليها متاعب الحياة، بل و كان علي علیه السلام و معه الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم يساعدانها في أعمال المنزل و تدبير شؤون البيت.(1)

فقد روي أن رسول الله صلي اللَّه علیه و آله و سلم دخل على فاطمة علیها السلام و هي تبكي، وتطحن بالرحى، و عليها كساء من أجلة الإبل، فلما رآها بكى و قال: يا فاطمة علیها السلام تجرعي مرارة الدنيا اليوم لنعيم الآخرة غداً، فقالت فاطمة علیها السلام: يا رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم، الحمد للَّه على نعمائه والشكر اللّه على آلائه. و في ذات يوم دخل النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم على فاطمة علیها السلام و هي تطحن مع علي بالجاروش فقال: لأيكما أعقب، فقال علي علیه السلام: لفاطمة علیها السلام فإنَّها قد أعيت، فقامت فاطمة علیها السلام، فطحن النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم مع علي لفاطمة علیها السلام.(2)

عاشت فاطمة علیها السلام عند علي بضع سنين كزوجة، فكانت له كل الدنيا وبهجتها، فقد تغني امرأة عن كل نساء الأرض، بل قد تكون هذه الامرأة هي كل النساء، و هكذا كانت فاطمة الزهراء علیها السلام عند علي علیه السلام، و هو لايملك إلا قلبه وسيفه، و إلا علمه وإيمانه، و كانا يسكنا في بيت متواضع شمخ بهما و بذريتهما نحو الذرى فأصبح قبلة المحبة والمودة للنبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم وآل النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم.

ومن هنا قال الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم: (ليست الدنيا من محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم و لا آل محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم) و ماذا يصنع محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم وآل محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم بالدنيا، وقد خلقوا للخير و الرحمة

ص: 125


1- موجز سيرة الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم وأهل البيت علیهم السلام، تأليف ونشر: لجنة التأليف –مؤسسة البلاغ، ص118.
2- المصدر نفسه.

والكرامة الدائمة، خلقوا للهدى إلى اللَّه و دين الحق، و للوجاهة و الشفاعة غداً لمن أحبهم و أحبوه.(1)

و من هنا يتضح علاقة الإمام علي علیه السلام بالمرأة التي كانت صنواً له، و توأماً لروحه، علاقة رسخت للمفاهيم القرآنية في الرحمة و المودة و السكن، فكانت فاطمة علیها السلام لعلي علیه السلام جنته على الأرض، و رفيقة عمره الأثيرة، لم يفارقها منذ أبصرت عيناها النور و حتى أغمضتها واجدة على من حولها ممن ظلمها.

كانت فاطمة علیها السلام لعلي علیه السلام أغلى الفواطم منحته آصرة مصاهرة خير البشر و أورثته ابني رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم، نسباً وسبباً لاينقطع إلى يوم القيامة، و كانت له زوجةً و وليفة و أماً و بضعة أسعدت أيامه و أسعدها، و ما كان لغيرها طيف في خياله، كما تحاول أن تدّعي بعض الروايات الموضوعة، فتلصق بالإمام علي علیه السلام فرية طلبه الاقتران بزوجة أخرى لغضبه من الزهراء علیها السلام، أو شكوى فاطمة علیها السلام حاشاها اللَّه من علي لفقره.(2)

ص: 126


1- محمد جواد مغنية، فضائل الإمام علي علیه السلام...، ص27.
2- سبط ابن الجوزي، ج2 - ص328 و ما بعدها. يذكر فيها: لما زوّج رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم فاطمة علیها السلام من علي علیه السلام قالت: يا رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم زوجتني من رجل فقير ليس له مال؟!) فقال لها رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم: (أما ترضين أن اللّه تعالى اختار من أهل الأرض رجلين، أحدهما أبوك و الآخر زوجك؟). و في رواية: (زوجتني من عائل لاشيء له)، فقال لها رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم: (أما ترضين أن يكون اللّه أطلع على أهل الأرض فاختار منهم رجلين، فجعل أحدهما أباك و الآخر بعلك).

إنَّ أسرة علي و فاطمة و أولادهما علیهم السلام كانت أنموذجاً إسلامياً متفرداً في خصائصه و مميزاته، أغاض ديمومة دعته و استقراره حفيظة أعداء الإسلام و المنافقين، فأخذوا يبحثون عن الثغرات في جدار هذه اللوحة الإيمانية السامية، و عندما لم يجدوها افتعلوها افتعالاً علهم يحدثون ثلمة في الصورة النقية البديعة لشخوص بيت آل النبوة الأطهار صلي اللَّه علیه و آله و سلم.

فلطالما افتخر الإمام علي علیه السلام باقترانه بالزهراء علیها السلام، ففي خطبته بالكوفة بعد منصرفة من النهروان، و بلوغه أنَّ معاوية يسبّه و يلعنه ويقتل أصحابه، فقام خطيباً فحمد اللّه و أثنى عليه و صلى على رسوله صلي اللَّه علیه و آله و سلم قال: ( يا أيها الناس لعلكم لاتسمعون قائلاً يقول مثل قولي بعدي إلا مفتر، أنا أخو رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم و ابن عمه و سيف نقمته... و أنا زوج البتول سيدة نساء العالمين فاطمة علیها السلام التقية النقية الزكية المبرة المهدية، حبيبة حبیب اللَّه و خير بناته و سلالته و ريحانة رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم...).(1)

أنظر أيها المتفكر في عمق هذه الصفات الجزيلة الواصفة لصفات الزهراء علیها السلام، علي هنا زوج قد فارقته زوجته هذه مع أبيها من سنوات و سنوات وأضحى له من الزوجات بعدها تسعاً كما تذكر الروايات، و ها هو يذكرها فيتبتل بذكر محمود صفاتها، صفة صفة، أكاد أجد بين

ص: 127


1- محمد جواد مغنية، حياة الصديقة فاطمة علیها السلام...، ص41. نقلاً من معاني الأخبار، ص58؛ بشارة المصطفى، ص12.

الكلمات و السطور، نَطَقَ أبوالحسن... أنها حبيبة حبيب اللّه و ريحانته... و هي حبيبتي و ريحانتي... لولا الحياء و العفة و دلالة الموقف و المكان!!

لقد زاد أعداء أهل البيت علیهم السلام في الأساطير و الافتراءات و الأكاذيب، فكانوا يتهمون علياً علیه السلام ويفترون عليه بأقوال و أفعال، و يشكونه النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم و افتروا على الزهراء علیها السلام فاطمة بأنها كانت تشتكي من علي عند أبيها رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم.(1) فمن افتراءاتهم أنها شكت علياً علیه السلام ًمن إهداء جعفر جارية له، و إنها شكت علياً علیه السلام في خطبته أسماء بنت عميس، و كذلك اشتد غمها من خطبة علي ابنة أبي جهل.(2)

إنَّ كلَّ هذه الأخبار باطلة ومن المجعولات، و إنَّما وضعها الوضاعون للحط من كرامة الإمام علي أميرالمؤمنين علیه السلام الا حقداً و حسداً لاقترانه بالزهراء علیها السلام و إيثار النبي اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم لهما. و قد أسهبت كتب الفريقين في دفع هذه الأخبار و إيراد الحجج على بطلانها.(3)

يقول المجلسي اللّه في دفعه لهذه التهم و الافتراءات: (... إنَّه لم یکن الإمام محتاجاً إلى غيرها، إذ كانت دائماً طاهرة مطهرة تقية نقية

ص: 128


1- ينظر: كتاب فاطمة الزهراء علیها السلام و الفاطميون للعقاد، ص30؛ يراجع: ابن سعد، الطبقات الكبرى/ ج8 ، ص26 ترجمة فاطمة علیها السلام.
2- محمد جواد الطبسي، حياة الصديقة فاطمة علیها السلام، ص157 و ما بعدها.
3- للمزيد ينظر: الإرشاد للمفيد، ص74 و 75؛ ذخائر العقبی، ص38، أمالي الطوسي، ص43؛ بحارالأنوار/ ج43، ص153... و غيرها الكثير.

و حوراء إنسية، و قد اللّه فيها صفات لم يجمعها لأحد من النساء من جمع الأولين و الآخرين، فأي امرأة كانت تشبه فاطمة علیها السلام بهذه الصفات و الملكات حتى يرغب الإمام علي علیه السلام إليها، نعم، لم يتزوج الإمام علیه السلام ما دامت فاطمة علیها السلام حية إكراماً و احتراماً و تعظيما لها صلوات اللّه عليها، كما لم يتزوج رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم على خديجة علیها السلام ما دامت حية).(1)

و من المسائل التي أثارها الحاسدون، هو وجود التنازع و التخاصم و التشاح بين علي و فاطمة علیهما السلام، فإنَّه لايمكن -في الأعم الأغلب– أن يعيش الإنسان مدة تسع سنين مع زوجته و لايكون بينهما تنازع و تشاح في المسائل الجزئية؟

و هذا الكلام يصح لو كان علي و فاطمة عليهما السلام غير معصومين، و لأصبح التشاح ممكناً بينهما كما قد يتفق لكثير من الأزواج، و هكذا لو كان أحدهما غير معصوم لأمكن أيضاً أن يكون الاختلاف و التنازع من قبل غير المعصوم، أما علي و الزهراء عليهما السلام بوصفهما معصومين، فلايتصور حتى الشكل الضعيف من التخاصم بينهما، فكيف بالشكل الحادّ الذي يحتاج أن يتدخل النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم في الصلح بينهما.(2)

ص: 129


1- محمد جواد الطبسي، حياة الصديقة فاطمة علیها السلام، ص165.
2- محمدبكر إسماعيل، فقيه الأمة، ص62 و ما بعدها.

ومما يكذب هذه الروايات، أنَّ أغلبية الناس قد يتفق فيهم التشاح ولكن لايخرج ذلك من إطار البيت، بل ينتهي بعفو الرجل عن زوجته، أو أن تعفو المرأة عن زوجها، و تنتهي بلاتدخل الآخرين وإن كان المصلح من ينتسب إليهما، فكيف بعلي بن أبي طالب علیه السلام الذي نشأ في حجر رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم، و تربّى تربيته، و أخذ من أخلاقه و علومه، و هكذا ابنة رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم، فكيف يتصوّر هذا التخاصم إلى الحد الذي يتدخل فيه الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم بينهما.(1)

إنَّ فاطمة علیها السلام كانت حجة اللّه، و هكذا علي كان حجة اللّه على الخلق، فلاشكٍّ أنَّ كلَّ أفعالهما و أقوالهما و حركاتهما و سكناتهما حجّة على الآخرين، بحيث كانا أسوة للمسلمين، فكيف يتصوّر أن يحصل التنازع بينهما في بعض الأمور؟ و هما أحبُّ إلى رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم و إلى أهل السماء، أو أحب من على وجه الأرض، أو أكرم الخلق على اللّه كما يصرّح به النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم.

إنَّ نظرةً واحدةً متجردةً إلى قول فاطمة علیها السلام لعلي علیه السلام حين الاحتضار تدحض كل الافتراءات، فضلا عن ذلك فإنَّ حديث الإمام علي علیه السلام و خطبه عن فاطمة علیها السلام و حُسن معاشرتها يعد دليلا قويّاً على كذب هذه الروايات التي نقلت

ص: 130


1- محمد جواد الطبسي، حياة الصديقة فاطمة علیها السلام، ص166.

عنهما، و من ذلك شكواها في أمر الزواج، أو أن علياً علیه السلام رماها ببصره رمياً شحيحاً، أو أن رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم غضب من فعلها... و ما إلى ذلك من أكاذيب و هما أجل و أكرم من أن يتخاصما في أمور الدنيا كما قيل.(1)

قال ابن فتال النيسابوري: (فلما نُعيت إليها نفسها و دعت أم أيمن و أسماء بنت عميس، و وجهت خلف علي و أحضرته فقال : يا بن عم إنَّه قد نعيت إلي نفسي، وإنني لأرى ما بي لاأشك إلا أنني لاحقة بأبي ساعة بعد ساعة، و أنا أوصيك بأشياء في قلبي قال لها علي علیه السلام: أوصيني بما أحببت یا بنت رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم، فجلس عند رأسها وأخرج من كان في البيت ثم قالت: يا بن عم ما عهدتني كاذبة و لاخائنة و لاخالفتك منذ عاشرتني، فقال: معاذ اللّه أنت أعلم باللّه و أبر و أتقى و أكرم وأشد خوفاً اللّه أن أوبّخك غداً بمخالفتي: فقد عزّ عليّ علیه السلام بمفارقتك و بفقدك...). ألم تقل لعلي حينما استأذنها الإمام علیه السلام للدخول الشيخين لعيادتها: يا بن عمي المنزل منزلک و لاإذن فیه... و أعوذ باللَّه أن أعصیک طرفة عین.(2)

و يتجلى القول الفصل في هذا الأمر، قول الإمام علي علیه السلام بعد فقدها: فواللّه ما أغضبتها و لاأكرهتها على أمر حتى قبضها اللّه عزوجل،

ص: 131


1- محمد جواد الطبسي، حياة الصديقة فاطمة علیها السلام، ص169.
2- محمد جواد الطبسي، حياة الصديقة فاطمة علیها السلام، ص169... نقلاً عن: روضة الواعظين ص151؛ كشف العمة/ ج1، ص373.

و لاأغضبتني و لاعصيت لي أمراً، و لقد كنت أنظر إليها فتنكشف عني الهموم و الأحزان).

ويقيناً أنَّ الارتباط السماوي ما بين علي و الزهراء علیهما السلام قد منح الإسلام و الإنسانية مثالاً حياً و نابضاً بالعنفوان مدى الدهر لكل نواة أسرية تتشكل من الأوجه كافة، إيمانياً و اجتماعياً و اقتصادياً و روحياً.

ص: 132

قبل وفاة النبى صلي اللَّه علیه و آله و سلم... بعد الوفاة

ما أن غادرت فاطمة الزهراء علیها السلام بيت أبيها محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم لتستقر في بيت علي علیه السلام، حتى غدا بيتها المتواضع ذاك، واحة يركن إليها النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم في كل حين.

فما كان الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم ليقوى على فراق الحبيبين، أخيه و ربيبه و بضعته الطاهرة، فكان دائم الزيارة لهما في غدوه و رواحه للصلاة، بل إنَّ المصادر تذكر بتواتر لدى الفريقين، أنَّ بيت الزهراء علیها السلام هو أول مكان كان يقصده النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم عند أوبته من غزواته.

روى الحاكم بإسناده إلى ثعلبة الخشني، أنه قال: (كان رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم إذا رجع من غزاة أو سفر استقبل المسجد فصلى فيه ركعتين، ثم ثنى بفاطمة رضي اللّه عنها، ثم يأتي أزواجه، فلما رجع، خرج من المسجد، تلقته فاطمة علیها السلام عند باب البيت تلثم فاه و عينها تبكي، فقال لها، فقال لها: يا بنية، ما يبكيك؟! قالت: يا رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم، ألا أراك شعثاً نَصِباً قد أخلو لقت ثيابك !! قال : فإن الله عز وجل بعث أباك لأمر لايبقى على ظهر الأرض بيت مدر و لاشعر إلا أدخل اللّه به عزاً أو ذلاً حتى يبلغ حيث بلغ الليل).(1)

ص: 133


1- محمد علي الأنصاري، حياة أهل البيت علیهم السلام، ص177 - 178. نقلاً عن المستدرك على الصحيحين3: 155، باب فضائل فاطمة علیها السلام.

و هنا نتوقف للتفكّر برهة في مغزى هذه الرواية، لنتصور بأذهاننا الموقف المتفرد لنبي الأمة ، زوج لديه عدد من الزوجات، یعود من سفر طويل و قتال و حرب، فلايكون هدفه و مستقره إلا بيت ابنته فاطمة علیها السلام لتكون أول من تكتحل عيناه برؤيتها من أهله!! أي محبة و أي شغف هذا سنجد في روايات على لسان النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم ما يسوغه.

و كم كان يبعد بيت النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم عن بيت فاطمة و علي علیهما السلام؟! ...بضعة خطوات لاغير، و مع ذلك نجده شغوفاً بمشاركتهم كل لحظات حياتهم، و متابعة دقائق أمورهم لحظة بلحظة، بمتابعة أبوية خالصة، و إسداء النصح إليهما و استنزال البركة بدعائه المستديم لهما.

ومن شدّة تعلقه بهما، جاء في الخبر، أنَّ النبي محمداً صلي اللَّه علیه و آله و سلم لم يطق فراقهما و لم تمض أيام على تحوّل فاطمة علیها السلام من داره إلى دار زوجها حتى صرّح لها برغبته في تحويلها إلى دار قريبة منه، ليأنس بهما، فحققت هذه الرغبة هوًى في نفسيهما، فعلم بذلك حارثة بن النعمان، و كان له دار ملاصقة لدار النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم، فتحوّل عنها من أجل أن تسكن فيها فاطمة علیها السلام و زوجها علیها السلام و جاء رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم إلى الدار ليمهد لهما سبل الراحة فيها، فقال له حارثة بن النعمان، و هو من بني النجار: (إنَّما أنا و مالي اللّه و رسوله صلي اللَّه علیه و آله و سلم، واللّه يا رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم للمال الذي تأخذ مني أحب إلي من الذي تدع !).(1)

ص: 134


1- محمد بكر إسماعيل، فقيه الأمة...، ص58 - 59.

فقال رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم: (صدقت، بارك اللّه عليك) و حولهما إلى هذا البيت الجديد، و أمر أن يُفتح باب من المسجد عليه، ليدخل عليها منه متى شاء و كيف شاء، فكان يغدو و يروح في سرور و حبور.

و سد الأبواب إلا باب علي و فاطمة علیهما السلام(1) هو إحدى الكرامات و الفضائل التي تفرد بها هذا البيت، إذ كانت تفتح على مسجد الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم أبواب عدّة من المهاجرين، و منهم الهاشميون و من ضمنهم الحمزة و العباس أعمام رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم و بينهم أقرب الصحابة من المهاجرين حتى آباء أزواج رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم(أبوبكر و عمر)، فأمرَ رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم بسد جميع هذه الأبواب و منع الجميع من الدخول و الجلوس و المرور في المسجد، إذا كانوا جنباً و استثني علي و فاطمة و الحسن و الحسين علیهما السلام، فكانت لهذه الحادثة اعتراضات صريحة و غير صريحة من الصحابة و أعمامه فاضطر له أن يصعد المنبر و يبلغ الناس أنَّ ما قام به من أوامر اللّه و نواهيه، و قد أخرج ذلك صفوة المحدثين و الرواة من أعلم علماء أهل السنة و الجماعة وعن أقرب الصحابة.(2)

ص: 135


1- جواد جعفر الخليلي، أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام -القسم الأول، ص50.
2- الإمام أحمد في مسنده، ج4 ص399؛ النسائي في السنن الكبرى و الخصائص ص13 و 14 و ج1 ص1785 ، و ج2 ص26: ابن حجر في القول المسدد ص67؛ صحيح الترمذي و الهيثمي في مجمع الزوائد ج9 ص114؛ سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص24؛ ابن أبي الحديد في شرح النهج ج2 ص451؛ ابن كثير في تاريخ 79 ص342 و رواه في فتح الباري 7 ص12، و غيرهم.

و قد أجمعوا على صحة إسناد هذه الرواية و كلهم ثقات... فقالوا: رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم دعا الصلاة جامعة حتى إذا اجتمعوا صعد المنبر و لم نسمع الرسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم تحميداً و تعظيماً في خطبه مثل يومئذ، فقال: يا أيها الناس ما أنا سددتها و لاأنا فتحتها بل اللّه فتحها و سدها ثم قرأ: «وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى»(1) فقال رجل: دع لي كوة في المسجد فأبى و ترك باب علي مفتوحاً، فكان يدخل و يخرج منه و هو جنب.

فقد ورد عن بريرة الأسلمي عن أبي سعيد الخدري قوله صلي اللَّه علیه و آله و سلم: لايحلُّ لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري و غيرك (يقصد علياً علیه السلام)(2) و غيرها من الاحاديث.(3)

ص: 136


1- سورة النجم، آية 1 - 4.
2- المصدر نفسه، ص53 . نقلاً عن: الترمذي في جامعه 2 ص214 و البيهقي في سننه 7 ص66 و البزار وابن مردويه و بن منيع في مسنده و البغوي في المصابيح 2 ص267 و ابن عساكر في تاریخه و محب الدين الطبري في الرياض 2 ص193 و ابن كثير في تاريخه 7 ص343 و السبط بن الجوزي في تذكرته ص25 و ابن حجر في الصواعق و في فتح الباري 7 ص12 و السيوطي في تاريخ الخلفاء ص115 و الحلبي في السيرة ص375.
3- جاء في سنن البيهقي/ 7، ص65؛ و السيرة الحلبية – 3، ص375.

إنَّ البيتَ الذي ضمَّ عليّاً و الزهراء و أولادهما علیهما السلام كان له المكانة الرفيعة لدى الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم لتأكيد القرآن على هذه المكانة، فقد نزل قوله سبحانه: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ».(1) على قلب سيد المرسلين صلي اللَّه علیه و آله و سلم هو في المسجد الشريف، فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم؟ قال: بيوت الأنبياء، فقام إليه أبوبكر، فقال: يا رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم: أهذا البيت منها؟ مشيراً إلى بيت علي و فاطمة علیهما السلام، قال: نعم، من أفاضلها)(2) و إذا كان قرب النبي اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم من علي و فاطمة علیهما السلام و شدة إيثاره إياهما قد أثارت حفيظة المقربين منه من الأصحاب و الأقارب و الأعمام، فإنَّ شدة حبّ النبي اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم لفاطمة و بعلها علیهما السلام قد أثارت حفيظة حتى زوجاته، فعن الإمام الصادق علیه السلام قال: كان رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم يُكثر تقبيل فاطمة علیها السلام، فأنكرت عليه بعض نسائه، فقال له: (إنَّه لما عرج بي إلى السماء، فأخذ بيدي جبرئيل، فأدخلني الجنة فناولني من رطبها فأكلتها؛ و في رواية: (فناولني منها تفاحة فأكلتها، فتحوّل ذلك نطفة في صلبي، فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة علیها السلام فحملت بفاطمة علیها السلام، ففاطمة علیها السلام حوراء إنسية، فكلما اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رائحة ابنتي). و دخل النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم على فاطمة علیها السلام فرآها منزعجة فقال لها: (ما لك) قالت: الحميراء افتخرت على أمي أنها لم

ص: 137


1- سورة النور، آية 36.
2- جعفر السبحاني، الحجة الغراء على شهادة الزهراء علیها السلام، مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام، مطبعة اعتماد، ط 2، قم -إيران، 1423 ه_ ق، ص18.

تعرف رجلاً قبلك و أن أمي عرفتها مسنة، فقال: (إن بطن أمك كان للإمامة و عاء).(1)

قد أثمرت شجرة النبوة صلي اللَّه علیه و آله و سلم و وعاء الإمامة فأنجبت فاطمة الحسن الحسين علیهم السلام، فيستقبلهما رسول الله صلي اللَّه علیه و آله و سلم كاستقباله لميلاد فاطمة و علي علیهما السلام و يسميهما حسناً و حسيناً علیهما السلام فلم يمض أكثر من عشرة أشهر إلا وجاءت الثمرة اليانعة الأولى لهذا الزواج المبارك، فقد وضعت الزهراء علیها السلام في النصف من رمضان سنة ثلاث من الهجرة غلاماً زكياً كان أشبه الناس بجده خاتم الأنبياء و المرسلين صلي اللَّه علیه و آله و سلم.

و جاء اليوم الخامس من شهر شعبان من العام الرابع للهجرة فأنعم اللّه على أهل البيت علیهم السلام، إذ أنجبت فاطمة الزهراء علیها السلام مولوداً ذكراً جاء بعد مولد الحسن علیه السلام بحوالي أحد عشر شهراً. فكانوا أول أولاد رزق بهما الإمام علي علیه السلام أعقبهم زينب الكبرى و زينب الصغرى المكناة بأم كلثوم.(2) و قد أسقطت فاطمة الزهراء علیها السلام بعد وفاة النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم ذكراً كان سماه رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم و هو حمل محسناً.(3)

ص: 138


1- بن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب – 3 ، ص383.
2- محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي الملقب بالشيخ (المفيد) (المتوفى 413ه_)، ص186.
3- المصدر نفسه، ص187؛ بن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب - 3، ص394.

لقد شغل أولاد فاطمة و علي علیهما السلام موقعاً من نفس النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم هو موقع الولد الحبيب من قلب أبيه الحنون، و تبدأ هذه العلاقة الأبوية والروحية بين الرسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم، و الحسن و الحسين عليهما السلام من يوم الميلاد، فهي علاقة النبوة صلي اللَّه علیه و آله و سلم بالإمامة، و علاقة حفظ الشريعة و قيادة الأمة بعد الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم بالتبليغ و الرسالة، لذا كان رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم لايحتضن الحسن و الحسين علیهما السلام و يقول: (كل ولد أب فإن عصبتهم لأبيهم، ما خلا فاطمة علیها السلام فإني أنا أبوهم و عصبتهم) و (هذان ابناي من أحبهما فقد أحبني).(1)

و ما كان الإمام علي علیه السلام ليضيق بهذا القول أو يتبرم منه، بل على العكس من ذلك لطالما أكد هذا القول في خطبه وأقواله، بأنَّ الحسن و الحسين علیهما السلام وَلدا رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم الا اللّه من دون أولاده الذكور الآخرين. وما كان ليخالف قول النبي محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم فيهما: (إن اللّه عز وجل جعل ذرية كل نبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم من صلبه وجعل ذريتي من صلب علي بن أبي طالب علیه السلام).(2)

إِنَّ سعادةَ الرسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم كانت تكتمل كلّما حلّ ضيف جديد، و مولود جديد على بيت فاطمة و علي علیهما السلام، ولكن بقي للإمامين الزكيين الحسن

ص: 139


1- موجز سيرة الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم و أهل البيت علیهم السلام، تأليف ونشر: لجنة التأليف -مؤسسة البلاغ، ص119. نقلاً عن ذخائر العقبى للطبري ص121 و 124.
2- جواد جعفر الخليلي، أميرالمؤمنين...، ص239 و ما بعدها. و قد أورد المؤلف عشرات المصادر التاريخية التي روت هذه الأقوال المتواترة.

و الحسين علیهما السلام أفضلية نقل الإمامة، كونهما ابني رسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم الأمة، بنص قول النبي محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم عنهما: (ابناي هذان ريحانتاي في الدنيا ، ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا).(1)

و كان النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم يبيت عند فاطمة و علي علیهما السلام حينا بعد حين، و يتولى خدمة الحسن و الحسين علیهما السلام، ففي إحدى هذه الليالي سمع الحسن علیه السلام يستسقي، فقام صلوات اللّه عليه وآله إلى قربة يعصرها في القدح، ثم جعل يعبه، فتناول الحسين علیه السلام فمنعه و بدأ بالحسن علیه السلام قالت فاطمة علیها السلام: (كأنه أحب إليك؟!)، قال: (إنما استقى أولاً).(2)

و على مرَّ السنين يمتلئ البيت بالأولاد من بنين وبنات و يحوط الجميع رعاية الرسول الأعظم صلي اللَّه علیه و آله و سلم وحبّه. تقول الدكتورة بنت الشاطئ: (لاأصف هنا ما كان لهذا الحبّ الأبوي من أثر عميق في إسعاد فاطمة علیها السلام التي أرهقها الحزن وأنهكها العبء شابة).(3)

عاشت فاطمة علیها السلام في بيت علي عليه السلام سنين و ما كان فراشهما إلا جلد كبش، و ما كانت عليها إلا عباءة إذا سترت ساقها انكشف رأسها و إذا سترت رأسها انكشف ساقها، و مع ذلك تحملت مشاق العيش. عن

ص: 140


1- جواد جعفر الخليلي، أميرالمؤمنين علیه السلام...، ص239 و ما بعدها.
2- محمدبكر إسماعيل، فقيه الأمة، ص72.
3- مريم نور الدين فضل اللَّه، المرأة في ظل الإسلام، ص183.

أنس قال: جاءت فاطمة علیها السلام إلى النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم فقالت: يا رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم إني و ابن عمي ما لنا فراش إلا جلد كبش ننام عليه و نعلق عليه ناضحنا بالنهار، فقال: (يا بني اصبري، فإن موسى بن عمران أقام مع امراته عشر سنين لهما فراش إلا عباء قطوانية).

و روى الطبراني ابن حبان في صحيحه أن النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم خرج و أبوبكر و عمر إلى دار أبي أيوب الأنصاري -فذكر الحديث بطوله إلى أن قال: فأخذ رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم شيئاً من لحم الجدي فوضعه في رغيف و قال: (يا أبا أيوب أبلغ هذا فاطمة علیها السلام فإنها لم تصب مثل هذا منذ أيام).

و لم تستنكف فاطمة صلوات اللّه عليها و هي ابنة خاتم المرسلين صلي اللَّه علیه و آله و سلم من العمل و خدمة البيت طوال حياتها، على الرغم من عدم وجوب ذلک عليها، و لقد مرَّسلمان المحمدي صلي اللَّه علیه و آله و سلم يوماً ورآها جالسة و قدامها رحى تطحن بها الشعير، و على عمود الرحى دم سائل و الحسين علیه السلام في ناحية الدار يتضوّر من الجوع...(1)

و قد شغل الإمام علي علیه السلام حال زوجته الحبيبة، فهي صغيرة السن في عقدها الثاني و أضحت أماً لعدة أولاد في ولادات متوالية مع واجبات عائلية في بيت متواضع مادياً يعاني شظف العيش، و كانت تعيش معهما في

ص: 141


1- محمد جواد الطيب، حياة الصديقة فاطمة علیها السلام...، ص140 و ما بعدها.

هذا البيت المتواضع فاطمة بنت أسد علیها السلام زوج أبي طالب علیه السلام عم النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم و أم زوجها الإمام علي علیه السلام، التي تذكر بعض المصادر أنّ ابنها طلب إليها أنْ تعاون زوجته في أعمال البيت، فقبلت ذلك عن طيب نفس حباً في إسعاد الزهراء علیها السلام.(1)

ولكنَّ السيدة فاطمة علیها السلام أم الإمام علي علیه السلام كانت في عقدها السابع من عمرها المبارك آنذاك و هي بحاجة إلى عون و رعاية بذاتها، من لدن زوجة ابنها. مع أخذنا بالحسبان أنَّ الزهراء علیها السلام لم تكن امرأة و زوجة اعتيادية، فقد واكبت مدة زمنية صعبة كان النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم فيها دائبا على هدم أركان الجاهلية و استئصال جذورها، فجَرَتْ معظم حروب المسلمين و مواقعهم الأولى لترسيخ الدين الجديد.

و قد مرَّت هذه المدة الجهادية الصعبة، بكل ظروفها و أبعادها بفاطمة علیها السلام و هي تعيش بكنف زوجها و أبيها، تعيش بروحها و مشاعرها و بجهادها في بيتها، و في مواساتها و مشاركتها لأبيها في شدته ومحنته.(2)

فقد شهدت جهاد أبيها و صبره و احتماله، شاهدته و هو يُجرح في معركة أحد و تكسر رباعيته و يخذله المنافقون، ويستشهد عم أبيها حمزة

ص: 142


1- محمد بكر إسماعيل، ص60-61.
2- موجز سيرة الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم و أهل البيت علیهم السلام، تأليف ونشر: لجنة التأليف -مؤسسة البلاغ، ص121.

أسد اللّه، و نخبة من المؤمنين معه، فتأتي أباها و هي تبكي، و تحاول تضميد جرحه و قطع الدم الذي كان ينزف من جسده الشريف الطاهر، فكان زوجها علي علیه السلام يصب الماء على جرح الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم و هي تغسله، و لما يئست من انقطاع الدم أخذت قطعة حصيرة فأحرقتها، حتى صارت رماداً فذرّته على الجرح حتى انقطع دمه.

أما في حرب الخندق، فجاءت تحمل كسرة خبز فرفعتها إليه، فقال: ما هذه يا فاطمة علیها السلام؟ قالت علیها السلام: من قرص اختبرته لابني جئتك منه بهذه الكسرة، فقال: (يا بنية أما إنها لأول طعام دخل في فم أبيك منذ ثلاث).(1)

و فاطمة علیها السلام و أهل بيتها علیها السلام قد عانوا أياماً من الجوع... ففي رواية أن فاطمة علیها السلام أقبلت فوقفت بين يدي أبيها عليه الصلاة و على آله و سلم فنظر إليها و قد ذهب الدم من وجهها، و عليها صفرة من شدة التعب و الجوع فقال الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم: أدن مني يا فاطمة علیها السلام، فدنت يا فاطمة علیها السلام، فدنت حتى قامت بين يديه، و رفع يده الشريفة حتى وضعها موضع القلادة، و فرج بين أصابعه ثم قال: (اللهم مشبع الجماعة، رافع الضيق، ارفع فاطمة علیها السلام بنت محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم).(2)

ص: 143


1- موجز سيرة الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم و أهل البيت علیهم السلام، تأليف و نشر: لجنة التأليف -مؤسسة البلاغ، ص122. نقلاً عن ذخائر العقبى للطبري، ص47.
2- مريم فضل اللَّه، المرأة في ظل الإسلام، ص181. نقلاً عن طبقات ابن سعد الكبرى.

و في رواية الحافظ الأصفهاني عن علي علیه السلام قال: (كانت فاطمة علیها السلام ابنة رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم أكرم أهله عليه، و كانت زوجتي، فجرت بالرحاء حتى أثرت الرحاء بيدها و استقت بالقربة حتى أثرت القربة بنحرها، وقمت البيت حتى أغبرت ثيابها، و أوقدت تحت القدر حتى رثت ثيابها، و أصابها من ذلك ضر).

فأتت النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم تسأله خادماً، فقال: لاأعطيك و أدع أهل الصفة(1) تطوي بطونهم من الجوع. أولاً أدلك على خير من ذلك؟! إذا آويت إلى فراشك، تسبحين اللَّه تعالى ثلاثاً و ثلاثين و تحمدينه ثلاثا و ثلاثين و تكبرينه أربعا و ثلاثين.(2)

و في كتاب الشيرازي: أنها لما ذكرت حالها وسألت جارية بكي رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم فقال: يا فاطمة علیها السلام والذي بعثني بالحق، إن في المسجد أربعمائة رجل ما لهم طعام و لاثياب و لولا خشيتي خصلة لأعطيتك ما سألت، يا فاطمة علیها السلام إني لاأريد أن ينفك عنك أجرك إلى الجارية، و إني أخاف أن يخصمك علي بن أبي طالب علیه السلام يوم القيامة بين يدي اللَّه عزّوجل إذا طلب حقه منك) ثم علمها صلاة التسبيح، فقال أميرالمؤمنين علیه السلام:

ص: 144


1- أهل الصفة -هم فقراء المسلمين المعدمين، كانوا يجلسون في المسجد النبوي صلي اللَّه علیه و آله و سلم الشريف ینتظرون معونة الموسرين إليهم من طعام و غيره.
2- هذا تسبيح الزهراء علیها السلام اقترن باسمها.

(مضيت تريدين من رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم الدنيا، فأعطانا اللَّه ثواب الآخرة). قال أبوهريرة، فلمَّا خرج رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم من عند فاطمة علیها السلام أنزل اللَّه على رسوله صلي اللَّه علیه و آله و سلم: «وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا»، يعني عن قرابتك وابنتك فاطمة علیها السلام ابتغاء يعني طلب رحمة من ربك يعني رزقاً من ربك ترجوها «فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً»(1) يعني قولاً حسناً، فلما نزلت هذه الآية أنفذ رسول اللَّه الا اللَّه جارية إليها للخدمة و سماها فضة.(2) و هي و هي من أسرى ساحل البحر و أوصاها بالرفق معها فقالت يا رسول اللّه علي يوم و عليها يوم.(3)

إنَّ المشاق التي لاقت الزهراء علیها السلام اللا و حياة الكفاح المريرة التي مرَّت بها زادتها إيماناً، و شظف العيش أثر في صحتها و هي تكدح في الليل و النهار جاهدة في توفير أسباب الراحة لزوجها وبيتها و قبلهما توأم روحها و حبيبها النبي المصطفى صلي اللَّه علیه و آله و سلم.

إذا ما أضفنا إلى كل هذا، اتباعها منهج أهل البيت علیهم السلام في الزهد و العبادة، و هي من العابدات المعدودات في تاريخ الإسلام، إذ العبادة ليست انقطاعاً عن الحياة، أو فراراً من مسؤوليات الإنسان الاجتماعية، بل العبادة عند آل البيت علیهم السلام تسام على متع الحياة، و تسام على

ص: 145


1- سورة الإسراء، آية 28.
2- ابن شهر آشوب، المناقب – 3 ، ص390.
3- محمد جواد الطيب، حياة الصديقة فاطمة علیها السلام... ، ص139.

مظاهرها الفانية. فنجد الزهراء علیها السلام، العابدة، والزاهدة، والمتبتلة، التي سميت البتول لكثرة عبادتها و تبتلها، نشاهد حياتها جهاداً، و عملاً، و كفاحاً وزهداً، و عبادة و تبتلا.(1)

يقول عنها ولدها السبط الإمام الحسن علیه السلام: (رأيت أمي فاطمة علیها السلام قامت في محرابها ليلة جمعتها، فلم تزل راكعة و ساجدة، حتى اتضح عمود الصبح و سمعتها تدعو للمؤمنين و المؤمنات و تسميهم بأسمائهم، و تكثر الدعاء لهم، و لاتدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أماه لِمَ لاتدعين لنفسك، كما تدعين لغيرك، فقالت: يا بني الجار ثم الدار).(2)

و عن الحسن البصري: ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة علیها السلام، كانت تقوم حتى تورم قدماها،(3) و قال النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم لها: (أي شيء خير للمرأة؟). قالت: أن لاترى رجلاً و لايراها رجل، فضمها إليه و قال: «ذُرِّيَّة بَعْضُهَا مِنْ بَعْض».(4)

ص: 146


1- موجز سيرة الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم و أهل البيت علیهم السلام، تأليف و نشر: لجنة التأليف –مؤسسة البلاغ، ص123.
2- المصدر نفسه، نقلاً عن عبد الرزاق كمونة الحسيني، النفحات القدسية في الأنوار الفاطمية، الفصل13، ص45.
3- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب - 3، 389.
4- سورة آل عمران، آیة31.

قلنا إنَّ الإمام علياً علیه السلام قد شغله حال زوجته فاطمة علیها السلام، و مما زاد في همومه، أنَّ رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم مرض و اشتد عليه مرضه، و فاطمة علیها السلام تنظر إليه فتشعر أنها هي حاملة الألم و المرض و ينظر الإمام علي علیه السلام إليهما بترقب و حذر من زمان خؤون طالما أصابه بمصائب مزدوجة، ففي عام واحد (عام الحزن)، فقد أمَّه الرؤوم خديجة الكبرى علیها السلام، و أباه أباطالب علیه السلام و لم يفصل بين وفاتهما أكثر من ثلاثة أيام أو أربعين يوماً على أشهر الروايات.

ينظر بوجل إلى وجه الحبيبين فاطمة علیها السلام و أبيها صلي اللَّه علیه و آله و سلم، فهل ستحل به مصيبة مزدوجة أخرى؟ هو يعلم بيقين المؤمن أنَّ النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم لايطيق لفاطمة علیها السلام فراقاً في الدنيا، منذ ولادتها حتى بعد زواجها منه. فكيف ستطيق فاطمة علیها السلام فراق أبيها برحيله عنها؟

قال أبوثعلبة الخشني: كان رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم إذا قدم من سفره يدخل على فاطمة علیها السلام، فدخل عليها فقامت إليه و اعتنقته و قبلت بين عينيه. و عن عائشة بنت طلحة عن عائشة بنت أبي بكر في فضائل السمعاني بإسناده عن عكرمة قالا: كان النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم إذا قدم من مغازيه قبل فاطمة علیها السلام.(1)

و عن ابن عباس، عن نافع عن ابن عمر قالوا: كان النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم إذا أراد سفراً

ص: 147


1- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب –3، ص380 – 381.

كان آخر الناس عهداً بفاطمة علیها السلام، و إذا قدم كان أول الناس عهداً بفاطمة علیها السلام. و عن أبي سعيد الخدري قال: كانت فاطمة علیها السلام من أعزّ الناس على رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم، فدخل عليها يوماً و هي تصلّي فسمعت كلام رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم في رحلها فقطعت صلاتها و خرجت من المصلى فسلمت عليه فمسح يده على رأسها و قال: (يا بنية كيف أمسيت رحمك اللّه، عشينا غفر اللَّه لك و قد فعل).(1)

و هناك شواهد كثيرة يمكن أن تعبر عن جانب التكامل في العلاقة العاطفية بين الزهراء علیها السلام و أبيها رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم، إذ كانت هذه العاطفة بدرجة عالية جداً.(2)

و ها هو المرض يشتد على النبي صلوات اللّه عليه وآله، فيوصي علياً علیه السلام بالصبر على الدنيا، و حفظ فاطمة علیها السلام و جمع القرآن، و قضاء دينه، و غسله، و أن يعمل حول قبره حائطاً، و يحفظ الحسن والحسين علیهما السلام.(3)

إنَّ حفظ فاطمة علیها السلام كانت من أول الوصايا التي أوصى الرسول الكريم صلي اللَّه علیه و آله و سلم علياً علیه السلام بها، و هو يعلم بقرب لحاقها به، فقد أخبرها بذلك النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم ليخفف عنها أحزان فراقه، فتضاعفت أحزان علي و تأكد من أنَّ المصيبة ستحل به هذه المرّة أيضاً، و هي مصيبة مزدوجة!!

ص: 148


1- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب -3، ص380 - 381.
2- محمد باقر الحكيم، الزهراء عليها السلام...، ص 158.
3- المصدر نفسه، ص358.

قال أحمد في مسنده: ....عن عائشة قالت: أقبلت فاطمة علیها السلام كأنَّ مشيتها مشية رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم، فقال: (مرحباً بابنتي)، ثم أجلسها عن يمينه ثم أسرّ إليها حديثاً فبكت! فقلت لها: استخصك رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم (حديثه) و أنت تبكين؟ ثم إنه أسرّ إليها (بحديث) فضحكت!

قالت: فقلتُ لها: ما رأيت كاليوم أقرب فرحاً من حزن! ما أسرّ إليك؟ فقالت: (ما كنت لأفشي سرّ رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم)، حتى إذا قبض النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم سألتها، فقالت: (إنَّه أسرَّ إليّ و قال: كان جبرئيل علیه السلام يعارضني بالقرآن في كلّ عام مرَّة، و إنه عارضني به العام مرتين، و لاأراه إلا قد حضر أجلي، و إنك أول أهلي لحوقاً بي، و لنعم السلف أنا لك، فبكيت لذلك، فقال: ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة؟ - (أو نساء المؤمنين؟) -فذلك الذي أضحكني علیه السلام).(1)

و في روايات أخرى معتبرة... ثم أسر إلي أني أول أهل بيته لحوقاً به فضحکت.(2)

و قد أخذ الرسول الكريم صلي اللَّه علیه و آله و سلم يكثر من التذكير بمنزلة فاطمة وعلي علیهما السلام و بيتهما قبل وفاته، فأخذ يقرأ آية التطهير في كلّ فجر عند مروره بهما، عن أنس: أنَّ رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم كان يمر بباب فاطمة علیها السلام إذا خرج إلى صلاة

ص: 149


1- سبط ابن الجوزي، تذكرة الخواص -ج2، ص330.
2- غادة الخرسا، ص147.

الفجر، و يقول: (الصلاة يا أهل البيت علیهم السلام الصلاة «إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا».(1)

و ها هو الإمام علي علیه يتلقى نبوءة الرحيل من فم الحبيب محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم، قائلا له: (سلام عليك يا أباالريحانتين، عن قليل يذهب ركناك). فلما توفي رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم، قال علي علیه السلام: (هذا أحد الركنين...). فلما توفيت فاطمة علیها السلام، قال: (و هذا الركن الآخر)(2) صلي اللَّه علیه و آله و سلم.

فما الذي كان يخشاه أبوالحسن علیه السلام، أهو فراقهما، حبيب بعد حبيب، أم ما سيجري عليه من بعدهما من مصائب و محن؟!

أما المصائب فلقد صُبّت على النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم و أهل بيته علیهم السلام صبا، و لايمكن للظروف الصعبة أو الأحداث الجسام أن تنال من علي سيد المتقين أو تثلم رسوخ عقيدته أو عين يقينه، ولكنَّ فراق الأحبة هو الذي يُبكي أشدّ الرجال قوة و شكيمة مسلمين و مؤمنين و أئمة وأولياء.(3)

ص: 150


1- جعفر السبحاني، الحجة الغراء...، ص19. أخرجه أحمد و الترمذي و الطبراني و الحاكم و ابن مردويه. نقلاً عن: الدرالمنثور/ 6، ص604 – 605، ط دارالفكر، بيروت.
2- سبط ابن الجوزي، تذكرة الخواص/ ج2، ص262.
3- محمد جواد الطبسي، حياة الصديقة فاطمة علیها السلام، ص189 و ما بعدها؛ علي الأحمدي الميانجي، ظلامة الزهراء علیها السلام، ص169 و ما بعدها؛ جعفر السبحاني، الحجة الغراء على شهادة الزهراء علیها السلام، بحث موجز سلط الضوء على الأخبار المتضافرة التي تتحدث عما لحق بها بعد رحيل الرسول الأكرم صلي اللَّه علیه و آله و سلم، نشر مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام، ط2، المطبعة اعتماد، قم –إيران، ص51 و ما بعدها؛ و غيرها الكثير من المصادر.

(عندما حضرت فاطمة علیها السلام الوفاة دعت علياً علیه السلام لتوصي إليه، فقال لها:

( أوصني بما أحببت يا بنت رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم! فجلس عند رأسها و أخرج من كان في البيت. ثم قالت: يا بن عم، ما عهدتني كاذبة و لاخائنة، و لاخالفتك منذ عاشرتني، فقال علیه السلام: معاذ اللَّه أنت أعلم و أبر و أتقى و أكرم و أشد خوفاً من اللَّه (من) أن أوبخك بمخالفتي، قد عز علي مفارقتك، و تفقدك، إلّا أنَّه أمر لابد منه، واللّه جددت عليّ مصيبة رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم و قد عظمت وفاتك وفقدك فإنّا للّه و إنا إليه راجعون من مصيبة ما أفجعها و آلمها و أمضها و أحزنها، هذه -واللَّه- مصيبة لاعزاء لها، ورزيّة لاخلفَ لها. ثم بكيا جميعاً ساعة، و أخذ علي رأسها و ضمها إلى صدره)؛ لذلك كان فراق النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم الاول ليلة زلزالاً هدَّ ركناً من أركان الوصي الرواسخ، و أعقبه فراق بضعته فهد الركن الآخر منه، لقد أحاط حبه و رعايته لأغلى الفواطم في حياته كالسوار للمعصم، قبل وفاة أبيها و من بعده، و هو العالم بقرب ارتحالها إلى جوار ربها و جواره.

و بالمقابل أغدقت الزهراء علیها السلام ذبالة ما في نفسها قصيرة البقاء، حزناً على أبيها و حفظاً و رعاية لزوجها و بنيها.

ص: 151

فقد جرت أحداثُ رهيبة بعد ارتحال النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم امتد أثرها بشكل أساس على أهل البيت علیهم السلام و خاصةً على ابنته الصديقة فاطمة علیها السلام.(1)

فقد استهانتِ الأمة بوديعة الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم علية بعد فقد النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم، يشهد على ذلك مؤرخو الشيعة و السنة على. سواء، إلّا أنَّ الإمام علياً علیه السلام، حاول التخفيف عنها ما استطاع في مواساتها و بناء بيت الأحزان لها لتصبّ دموعها و أساها على فراق النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم.

فلم تعش الزهراء علیها السلام طويلاً بعد أبيها، و كما أخبرها صلي اللَّه علیه و آله و سلم أنها أول أهل بيته علیهم السلام لحاقاً به، فقد اختلف المؤرخون في المدة التي عاشتها بعد أبيها، فذهب بعضهم إلى أنّها عاشت خمسة و سبعين يوماً، و ذهب

آخرون إلى أنها عاشت ثلاثة أشهر، و قال غيرهم ستة أشهر.(2)

عاشت فاطمة الزهراء علیها السلام هذه المدة الوجيزة من آخر أيام عمرها الشريف صابرةً محتسبةً قضتها بالعبادة و الانقطاع إلى اللّه سبحانه، فضلاً عن ذلك فقد كان لها سلام اللّه عليها موقفٌ كبيرٌ في قضية الخلافة و البيعة، و هي تظهر على الملأ كاشفةً أحقية زوجها و ابن عمها الوصي علي بالخلافة، هي ترى الأيام تكرّ سريعة الوقع تمطرها بالمصائب الواحدة تلو الأخرى مصداقاً لإخبار أبيها النبي محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم لها.

ص: 152


1- محمد علي الأنصاري، أهل البيت علیهم السلام...، ص200.
2- موجز سيرة الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم و أهل البيت علیهم السلام، تأليف و نشر: لجنة التأليف مؤسسة البلاغ، ص126.

روى الصدوق رحمه اللَّه في أماليه(1) عن ابن موسى عن الأسدي عن النخعي عن النوفلي عن الحسن بن أبي حمزة عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (كان رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم جالساً ذات یوم فأقبل الحسن علیه السلام فلما رآه بكى ثم قال: إلي يا بني... و أمَّا ابنتي فاطمة علیها السلام فإنَّها سيدة نساء العالمين من الأولين و الآخرين و هي بضعة مني... و إني لما رأيتها ذكرت ما يصنع بها بعدي، كأنّي بها و قد دخل الذلّ بيتها و انتهكت حرمتها و غصبت حقها و منعت إرثها و كسر جنبها و أسقطت جنينها و هي تنادي: يا محمداه صلي اللَّه علیه و آله و سلم فلاتجاب و تستغيث فلاتغاث فلاتزال بعدي محزونة مكروبة باكية... اللهم العن من ظلمها و عاقب من عصيها و ذلل من أذلها و خلّد في نارك من ضرب جنبها حتى ألقت ولدها).(2)

و لايُمكننا سرد كل ما جرى عليها بعد وفاة أبيها، حتى اختارت لقاءَ ربِّها ولكنها شملها الحزن الشديد للمصاب الجلل بفقدها سيد الرسل، فكانت تكثر البكاء عليه حتى قيل: (البكاؤون خمسة: آدم، و يعقوب، و يوسف و فاطمة علیها السلام بنت محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم و علي بن الحسين علیه السلام).(3)

ص: 153


1- للمزيد يراجع: البحار/ ج28 الطبعة الإسلامية ص37 - 38. و ج43 ص172 و بيت الأحزان ص47 و في المأساة ج2 ص326.
2- علي الأحمدي الميانجي، ظلامة الزهراء علیها السلام، ص169.
3- محمد علي الأنصاري، أهل البيت علیهم السلام...، ص182.

و مما زاد في حزنها انحراف الخلافة عن مسيرها الصحيح الذي رسمه رسول اللّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم الذي وصّى به مراراً، صراحةً و كنايةً، فرأت كيف تمالاً القوم على بعلها فتركوه مشغولا بتجهيز النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم و اغتنموا الفرصة لعقد الخلافة لأبي بكر في سقيفة بني ساعدة.(1) ثم بانتهاكهم حرمة دارها و الهجوم عليه وغصبها فدك.(2)

و بعد فدك وما جرى عليها من مصائب، اعتزلت فاطمة الزهراء علیها السلام القومَ حتى وفاتها و ما كانت تدخل عليها إحدى نساء القوم حتى تجدها باكية شاكية، فقد دخلت عليها عائشة بنت طلحة يوماً فرأتها باكية، فقالت لها: بأبي أنت و أمي، ما الذي يبكيك؟ فقالت لها صلوات اللَّه عليها: (أسائلتي عن هنّة حلّق بها الطائر، و حفي بها السائر، و رفع إلى السماء أثراً، و رزئت في الأرض خبراً، أن قحيف يتم، و أحيوك عدي جاريا أبا الحسن في السباق، حتى إذا تقرّبا بالخناق، أسرا له السنان

ص: 154


1- ذكرت الوقائع في خطب الإمام علي علیه السلام و أقوال على لسان عدد من الصحابة و منهم البراء بن عازب و ملئت الكتب و المراجع بتفاصيل هذا الحدث التاريخي المفصلي في تاريخ الأمة الإسلامية.
2- فدك: قرية زراعية من قرى الحجاز تقع بالقرب من خيبر و قد صالح أهلها النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم نصف حاصلها، و هي ملك رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم فقد أفاء اللّه عليه بلاحرب و لاقتال و قد أعطاها رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم فاطمة علیها السلام في حياته.

و طوياه الإعلان، فلما خبأ نور الدين، و قبض النبي الأمين صلي اللَّه علیه و آله و سلم، نطقا بفورهما، و نفثا بسورهما و أدالا بفدك، فيا لها لمن ملك، تلك إنها عطية الرب الأعلی للنجي الأوفى، و لقد نحلنيها للصبية السواغب من نجله و نسلي، و إنها ليعلم اللّه و شهادة أمينة، فإن انتزعا مني البلغة و منعاني اللمظة، و احتسبتها يوم الحشر زلعة، و ليجدنها أكلوها ساعرة حميم، في لظى جحيم).(1)

إنَّ فاطمة علیها السلام في امتشاقها سيف بلاغتها و حججها في وجه من غصبها حقها لم يكن طمعاً بحطام الدنيا و هي سيدة نساء العالمين، عاشت عمرها المبارك القصير تعمر آخرتها بتعبد و جهاد و تبتل، و هي العالمة بقرب خروجها عنها هضيمة مظلومة. ولكنَّها أرادت (روحي لها فداء) أنْ تُعطي مثالاً حيّاً مدى الدهر لكل النساء، في أنَّ وقفة الحق ليست حكراً على الرجال، و أنَّ كلمة الصدق تقال حتى و لو قبل أيام من الارتحال، و أن خطب الزهراء علیها السلام و مناصرتها لقضية بعلها الإمام علي علیه السلام و خروجها معه تطرق أبواب المهاجرين و الأنصار و تلزمهم الحجة في التبليغ، هو موقف إسلامي ناصع الوضوح و الدلالة، أخذ

ص: 155


1- عبدالكريم العقيلي، ظلامات فاطمة الزهراء علیها السلام في السنة و الآراء، ص101. نقلا عن: الأمالي للطوسي، 1 / 204م 350.

يتكرر في حوادث جاد بها الزمان علينا بعدها، فكانت وقفة نصرة ابنتها الحوراء زينب علیها السلام لأخيها الحسين علیه السلام في كربلاء، و حتى يومنا هذا، و عصرنا الحديث نجد صرخة العلوية المدوية (الشهيدة بنت الهدى) هي تنصر أخاها الشهيد محمدباقر الصدر و لاتتنازل عن مشاركتها قضيته حتى الشهادة.

و الزهراء علیها السلام في وقفتها الشرسة و العنيدة هذه قد شكلت غطاءً و وقاية و حماية للإمام علي علیه السلام من قوم تجاوزوا كلَّ الخطوط المحرَّمة دينيا و اجتماعياً، و ما كانوا ليتوانوا عن الإقدام على إيذائه و هو الموصى من الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم بالمنع من القتال بعد موته.(1)

ص: 156


1- فقد أبلغه الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم أن الأمة ستغدر به من بعده (جاء في مستدرك الحاكم3: 140 - 142 و صححه هو و الذهبي في تلخيصه و في تاريخ الخطيب11 : ص219 و تاريخ ابن الأثير6 : 219 و كنز العمال 6 : 157 حيث قال له: أما إنك ستلقى بعدي جهداً فقال علي في سلامة من ديني فأجابه في سلامة من دينك)، كما قال لعلي علیه السلام ضغنا في صدور قوم لا يبدونها إلا بعدي (ابن عساكر و المحب الطبري في الرياض2 :210) عن مناقب أحمد و الحافظ الكنجي في الكفاية ص142 و الخوارزمي في المقتل1 :36 و قد قال له صلي اللَّه علیه و آله و سلم: -يا علي علیه السلام إنك ستبتلى بعدي فلاتقاتلن (جاء في كنوز الدقائق للحناوي ص188)، ويظهر من هذه الوصية الأخيرة أن القوم قد علموا بها فجاروا عليه عندما سمعوا علياً علیه السلام يقول: (لولا وصية سبقت) فقال بعضهم لبعض إن الرجل الموصى، أي لنفعل ما نشاء. للمزيد ينظر: جواد جعفر الخليلي، أميرالمؤمنين علیه السلام/ ج1، ص80 و ما بعدها.

حافظتِ الزهراء علیها السلام -بوصفها زوجة مؤمنة- على شخص الإمام علي علیه السلام، فلولاها علیها السلام لكان من الممكن أن يُقتل أميرالمؤمنين علیه السلام تحت شعار الانشقاق عن الحكم و رفض البيعة، فقد رووا عن النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم أنه قال: (فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان).(1) و ما زال هذا النص موجوداً في بعض الروايات، ينقله بعضهم في صحاحهم، و كان من الممكن أن يُطبق هذا الحكم على الإمام علي علیه السلام، و يُقتل تحت هذا الشعار، و تطوى القضية.(2)

ولكن الزهراء علیها السلام دافعت عن قضية الخلافة، و قضية الإمامة، فهي قضية السماء المتعلقة بزوجها وبنيها ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، و تكاد تكون خطبتها علیها السلام(3) البلاغيَّة أمام أبي بكر أن تكون حرباً إعلامية أشعلت أوارها فاطمة علیها السلام يومذاك ولم تنطفئ حتى يومنا، بل ستبقى حتى يوم الدين حجّة على المطالبة بالحق، و غرساً لروح المقاومة و المجالدة في

نفوس المسلمين.

ص: 157


1- محمد باقر الحكيم، الزهراء علیها السلام، ص96 . نقلاً عن صحيح مسلم/6 :22.
2- المصدر نفسه.
3- سنتناول أثر هذه الخطبة بالتفصيل في الفصل الرابع من هذا البحث، و هي خطبة طويلة رواها أبوالفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور في بلاغات النساء ص23 عن أبي الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب علیه السلام. و روتها مصادر أخرى.

انتقلت الزهراء علیها السلام إلى بارئها مقهورةً مظلومةً ، مغصوبة الحق، و ماكان هذا بالأمر الهين على أبي الحسن علیه السلام، ولكنه كان موصى بالصبر و التحمّل من الرسول الأكرم صلي اللَّه علیه و آله و سلم، وإلا فإنَّ علي بن أبي طالب علیه السلام هو

أولى الناس بنصرة المظلوم و هو ملجأ كل المظلومين بعد الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم، فكيف لاينصر الزهراء علیها السلام و هي زوجته في الدنيا والآخرة،(1) و وديعة الحبيب الحبيب المصطفى صلي اللَّه علیه و آله و سلم و بها كانت أول وصاياه إليه.

إنَّ البلاء و المصائب التي نزلت على بيت علي و الزهراء علیهما السلام وعدَّ سماويٌّ و عدوا به، و ما كان لهم سوى الامتثال لهذا الوعد و التصبّر و إن عزّ، دخلت أم سلمة على فاطمة علیها السلام فقالت لها: كيف أصبحت عن ليلتك يا بنت رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم؟ قالت أصبحت بين كمد و كرب فقد النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم و ظلم الوصي... ).(2) ثم إنَّها اعتزلتِ القومَ باكيةٌ تندب رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم حتى لحقت به.(3)

قال ابن شهر آشوب في مناقبه: إنَّ الزهراء علیها السلام ما زالت بعد أبيها معصبة الرأس، ناحلة الجسم، منهدة الركن، باكية العين، محترقة القلب

ص: 158


1- سبط ابن الجوزي، تذكرة الخواص -الباب الحادي عشر: ترجمة خديجة الكبرى و فاطمة الزهراء علیهما السلام، ص359. قال علياً علیه السلام في محاججته لابن مسعود: (أما سمعت رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم يقول: هي زوجتك في الدنيا و الآخرة).
2- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب/ 2، ص234.
3- سبط ابن الجوزي، تذكرة الخواص، ص353.

يغشى عليها ساعة بعد ساعة، تقول لولديها: أين أبوكما،(1) الذي كان يكرمكما و يحملكما؟ أين الذي كان من أشد الناس حبّا لكما و شفقة عليكما؟(2)

و كانت علیه السلام لاتتمثل دائماً بأبيات من الشعر تتذكر بها أيام أبيها فتقول:

صبت عليّ مَصائبٌ لو أنَّها *** صُبّت عَلى الأيَّام عدنَ لياليا

قد كنتُ أرتع تحت ظلَّ محمّدٍ *** لاأخشَى ضيماً و كان جماليا

فَاليومَ أخضع للِذليل وأَتقي *** ضيمي وَ أدفع ظالِمي بِردائيا

و عندما وقعَ الخطبُ و توفيتِ الزهراء علیها السلام، أوصت الإمام عليَّاً علیه السلام أن تدفن ليلاً و لايحضر أحد ممن ظلمها دفنها).(3)

ص: 159


1- أبوكما: تعني جدهما رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم و كان لهما بمنزلة الأب، و كان يقول: ولداي هذان سيدا شباب أهل الجنة.
2- مريم فضل اللَّه، المرأة في ظل الإسلام، ص207.
3- صلى عليها علي علیه السلام و قيل: العباس و دفنها ليلاً بالبقيع. و أما دفنها سلام اللَّه عليها ليلاً فقد روي أنه كان بطلب منها ينظر للمزيد: ابن سعد، الطبقات الكبرى/ 8 ، في ترجمتها، ص29 - 30؛ أما ابن شهر آشوب في مناقبه/ 3، ص412 - 413، فيذكر أنَّ الأصبغ بن نباتة سأل أميرالمؤمنين علیه السلام عن دفنها ليلاً، فقال: (إنَّها كانت ساخطة على قوم كرهت حضورهم جنازتها و حرام على من يتولاهم أن يصلي على أحد من ولدها) و روي أنه سوی قبرها مع الأرض مستويا و قالوا: سوى حواليها قبوراً مزورة مقدار سبعة حتى لايعرف قبرها. و روي أنه رش أربعين قبراً حتى لايبين قبرها من غيره فيصلوا عليها، أمَّا غسلها فسئل أبوعبداللَّه عن فاطمة علیها السلام من غسلها؟ فقال: غسلها أميرالمؤمنين علیه السلام لأنها كانت صديقة لم يكن ليغسلها إلّا صديق.

و كانت الزهراء علیها السلام في طلبها أن تدفن ليلاً هو آخر احتجاجاتها على القوم و الأمة فقد أظهرت بذلك مدى غضبها و ألمها مما جرى و سيجري من بعدها.

و رحم اللَّه القائل:

ولأيّ الأمورِ تُدفنُ ليلاً *** بضعة المصطفى و يعفى ثراها

كان وقع يوم الزهراء على علي عليهما السلام، كوقع يوم الرزية يوم فَقْدِ النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم، بل أشد وقعاً، فقد هدَّ منه ركناً بوفاة الحبيب المصطفى صلي اللَّه علیه و آله و سلم، و بقيت له الزهراء علیها السلام بضعةً و أثراً منه، يهوّن عليه فقد الأحبة و فراقهم الأليم، و الآن بفقده للزهراء علیها السلام قد هدَّ منه الركنان، فضاقت الدنيا على علي بن أبي طالب علیه السلام، و اشتدّ به الحزن على أم الحسنين علیها السلام، و بعد دفنها هاج به الألم، فوقف على القبر يتحسّر، و قلبه يعتصر أسى ولوعة ثم قال: (السلام عليك يا رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم عني و عن ابنتك النازلة في جوارك، و السريعة اللحاق بك! قل يا رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم عن صفيتك صبري، ورق عنها تجلّدي، إلّا أنَّ في التأسي لي بعظيم فرقتك و فادح مصيبتك موضع تعز، فلقد و سدتك في

ص: 160

ملحودة قبرك، و فاضت بين نحري و صدري نفسك. فإنَّا للَّه و إنا إليه راجعون، فلقد استرجعت الوديعة، و أُخذت الرهينة!

أمَّا حزني فسرمد، و أما ليلي فمسهد، إلى أن يختار اللَّه لي دارك التي أنت بها مقيم، [و ينقلني من الأكدار و التأثيم]،(1) و ستنبئك ابنتك بتضافر أمتك على هضمها، فأحفها السؤال و استخبرها الحال، هذا و لم يطل العهد، و لم يخل منك الذكر.

و السلام عليكما سلام مودع لاقال و لاسئم، فإن أنصرف فلا عن ملالة و إن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد اللَّه الصابرين).(2)

إنّ كلمات الإمام علي علیه السلام عند قبر الزهراء علیها السلام هي رمز للوفاء و رمز للمصاب الجلل، و رمز للتشكي عند رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم من أمته فيما كان يعتقده حقا له من الخلافة و نحلة فدك لفاطمة علیها السلام فزحزحها عنهما مع نوع من الاهتضام له، و الغلظة عليه في القول على قرب عهدهم بالرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم و طراوة الذكر الذي هو القرآن الآمر بمودة القربى،(3)

ص: 161


1- أورد هذه الجملة بن شهر آشوب في مناقبه/3، ص413.
2- صبحي الصالح، نهج البلاغة، أنوار الهدى، ط4، مطبعة وفا، 1431ه_، ص403؛ كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة/ ج4، من منشورات مؤسسة النصر، 1384 ه_، ص2.
3- البحراني، شرح نهج البلاغة/ ج4، ص4.

فكيف ببضعته الطاهرة التي طالما أوصى علانية و على رؤوس الأشهاد بحرمة إغضابها؟

و خشع الإمام علیه السلام، و لم يتمالك نفسه من البكاء و هو يسوي التراب، ففاضت عبراته، و أخذ ينفض يديه بحركة يائسة، و كأنه فرغ من الدنيا، بعد ما وارى تحت الثرى.(1) سيدة دنياه، زوجته الحبيبة، فاطمة الزهراء علیها السلام.

فمن النساء من تكون امرأة بحد ذاتها، و من النساء من تكون عالم من النساء... أمّا فاطمة الزهراء علیها السلام فكانت لعلي كل النساء، بل سيدة نساء العالمين في الدارين.

ص: 162


1- مريم فضل اللَّه، المرأة في ظل لإسلام، ص227.

الفصل الثالث علي علیه السلام و عائشة

إشارة

- علي و عائشة... و الإفك

- علي وعائشة... و الخلافة

- علي وعائشة... و الجمل

ص: 163

ص: 164

علي علیه السلام و عائشة... و الإفك

بعد أن تأملنا صفحات من حياة الإمام علي علیه السلام مع الزهراء علیها السلام، تلك الصفحات التي طواها علي بألم ولوعة، و هي أنصع الصفحات في حياته الجليلة، إذ تظهر و بشكل جلي الموقف المتزن و الحكيم لإمام علي علیه السلام من المرأة ، و طبيعة العلاقة التي تحكم تصرفات الرجل معها، عن طريق تعامله مع زوجته بضعة النبي صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم. فكان عليّ علیه السلام أعظم زوج، و أحب رفيق، و أرقى أب، أظهر لفاطمة علیها السلام محبته ووده، و رعايته و مساندته لها، شد أزرها و أعانها على ما امتحنت به من محن و آلام، و كان شريكها الحقيقي لكل قضية تبنتها، أحب ما أحبت، و أبغض ما أبغضت من شخوص و أشياء، و مواقف و أحداث، جمعهما حب اللَّه سبحانه و تقديس ملكوته، و مؤازرة نبيه صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم، و إخلاصهما للمبادئ الإسلامية السمحاء و دفاعهما عنها.

أمَّا في هذا الفصل فسنتصفح صفحة أخرى مغايرة و مختلفة من علاقة الإمام علي علیه السلام بالنساء، إنَّها صفحة عائشة زوج النبي صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم، فقد كانت هذه الصفحة على الضد من سابقتها، فصفحة عائشة في حياة الإمام علي علیه السلام كانت صعبة و مضطربة و أليمة تحمَّلَ تبعاتها كل من علي علیه السلام و عائشة معاً، كل بحسب نيته و عزمه، بل إنَّ عائشة بإشعالها نار حرب الجمل ضد الإمام قد كلفت الإسلام و الأمة الإسلامية و المسلمين كثيراً من الدماء،

ص: 165

و فتحت الباب لفتنة ما تكاد تخمد حتى يعود أوارها كلما أدلى أحدهم بدلوه في هذه المحنة العصيبة و تداعياتها اللامنتهية.

و يبقى السؤال البدهي مطروحاً على العقول دائماً، إن كانت زوجة النبي صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم قد بنت موقفها من الإمام تبعاً لموقفه أو قوله في قضية الإفك، فهل بنى الإمام علي علیه السلام موقفه من المرأة عموماً مفصلاً على مقياس عائشة و فعلها معه؟

إن الإجابة عن هذا السؤال هو ما تذهب إليه بعض الآراء وكثير من الكتاب الذين تناولوا هذه السيرة المشتركة، و حاولوا لي عنق الحقيقة، بالادعاء أن أحاديث الإمام و خطبه التي تُظهر عيوب المرأة لامحاسنها ينبع من موقفه من عائشة !؟ و هذا خلط للأوراق وإساءة لمبدئية شخص الإمام قبل عصمته و تقواه.

لأنَّ الإمامَ شخصية متفرّدة غير اعتيادية و هو معصوم في الوقت نفسه، لاتحركه الانفعالات وردود الأفعال، بل هو إنسان (مسلم –مؤمن ) يعلم و يعمل بقاعدة السماء، ألا تزر وازرة وزر أخرى، و هو أيضاً سيد الأوصياء و أبوالمعصومين علیه السلام، فهل يعقل أن يحكم على الجنس البشري الأنثوي برمته، بسبب موقف وقفته إزاءه امرأة واحدة؟!؟

ولكي نفهم حيثيات العلاقة بين علي علیه السلام و عائشة علينا أن نطرح السؤال بشكل آخر: لماذا أخذت عائشة موقف الرفض من الإمام علي علیه السلام؟ و هل

ص: 166

هناك مسببات و مسوغات لهذا الموقف؟ و لنعد إلى بدايات العلاقة الإنسانية و العائلية بين الاثنين لنحكم على نهاياتها. فقد أشعلتِ الغَيْرةُ قلبَ عائشة من الكثيرين،(1) و ليس من أبي الحسن فحسب، منذ دخولها بيت النبي المصطفى صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم زوجة مع زوجات أخريات.

فقد بقي النبي صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم من دون زواج ثلاث سنوات، بعد فقده خديجة بنت خويلد علیها السلام أم العيال و ربَّة البيت و وزير الصدق في الإسلام و الشريكة في الجهاد، و لم يجرأ الصحابة على الرغم من ذلك على مفاتحته بأمر الزواج.(2) و كان صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم يخلو إلى نفسه ليستعيد ذكرى الراحلة التي ملأت عليه دنياه، و قد تراكمت عليه الهموم و الأحزان.

دخلت عليه خولة بنت حكيم السلمية، و قالت له: يا رسول اللَّه صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم كأني أراك قد دخلتك خلة لفقد خديجة علیها السلام؟! فأجاب عليه الصلاة و السلام: (أجل كانت أم العيال و ربَّة البيت). فاقترحت عليه خولة بعد حديث طويل أن يتزوج، فأجابها بنبرة عتاب..." من بعد خديجة علیها السلام؟ " فقالت: هون عليك، إن أردت ثيباً فهذه سودة بنت زمعة... أو أردت بكراً... فعليك بعائشة بنت أبي بكر، فقال لها: لكنها لاتزال صغيرة يا خولة،

ص: 167


1- للمزيد ينظر: مريم فضل اللَّه، ص159 -160 و حكاية كيدها لزوجة النبي صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم أسماء بنت النعمان.
2- غادة الخرسا، ص123.

و كان رد خولة حاضراً: تخطبها اليوم إلى أبيها، ثم تنتظر حتى تنضج.(1)

فكان دخول عائشة بيت الرسول صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم بعد دخول سودة بنت زمعة بن ياس بن عبد شمس بن عبد ود العامرية و أمها الشموس بنت قباس من بني عدي النجار، و كانت من النساء المؤمنات التي أفسحت لعائشة كل المجال كزوجة شابة بل إنها و هبت ليلتها لعائشة، فاهتز الرسول الكريم صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم بهذه العاطفة الفياضة و ذلك الإيثار و السمح.(2)

دخلت عائشة بيت النبي صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم وهي بنت تسع، بعد أن عقد الرسول الکریم صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم علیها بمکة و هي لاتزال يومئذ بنت ست سنوات على ما يروى -ومنهم من قال سبع سنوات- و كانت عائشة على صغر سنها،

نامية ذلك النمو السريع التي تنموه بنات العرب، و قد اكتسبت العلم في حیاتها مع الرسول صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم و قد عرف عنها أنها كانت تسأل عن أشياء تدل على فطنتها و ذكائها. و على الرغم من سعة العلم هذه فإن عائشة كانت مشغولة بقضايا دنيوية لاتبعد عن طبيعتها كامرأة، فقد كانت أكثر نساء النبي صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم غيرة عليه و اهتماماً زائداً بالاستئثار بحبه، فهي لذلك كانت تعمل دائبة على المباعدة بين النبي و زوجاته.(3)

ص: 168


1- مريم فضل اللَّه، المرأة في ظل الإسلام، ص151 - 152.
2- غادة الخرسا، ص123.
3- المصدر نفسه، ص126.

و قد جاء في (مجلة الأزهر) هذا القول:(1) «و كانت عائشة رضوان اللَّه عليها -إلى ما خصها اللَّه به، بعيدة الهمّة، طماحة(2) إلی ذروة المجد. لم يكفها أن حظيت بأسمى مكانة من صواحبها لدى النبي صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم، حتی رغبت أن تحتل من قلبه المكان الأول، مكان الصديقة الأولى -أي خديجة علیها السلام- و الحبيبة الفضلى، التي لايفتأ يذكرها و يبشرها، و يكرم من أجلها خلائلها، و يثني عليها ثناءً كريماً يسابع الدهر. و عبثاً حاولت الصديقة بحسن الدل، و لطف الحيل، و فنون الذكاء و النبل، أن تُقنع سيد الأوفياء، و أكرم النبلاء، بأن اللَّه أبدله خيراً من خديجة... فلتلق السلم إذاً، و لاتجادل في الحق بعدما تبين، و لتعلم أن المجادلة و المنافسة والغيرة من أعقل العقائل و فضلى الفواضل، و مَن لها قدمُ الصدق و فضل السبق لاتزيد صاحبتها التي لم ترها إلا صدقاً من عاطر الثناء و خالد الذكر).(3)

ص: 169


1- جورج جرداق، الإمام علي علیه السلام صوت العدالة الإنسانية، اختصره و حققه حسن حميد السنيد، مركز الطباعة و النشر للمجمع العالمي لأهل البيت علیهم السلام، ط1، 1424 ه_ ق، ط 2 1426ه_ ق مطبعة ليلى، ص573.
2- طماحة: شرهة، الصحاح1/ 388، مادة (طمح).
3- مجلة الأزهر: الجزء العاشر -المجلد السابع والعشرون- 11 مايو 1956 ص1063 - 1064.

دخلت عائشة بيت النبي صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم، لتثير غيرتها زوجة راحلة لازوجة حية، و لم تكتم عائشة غيرتها هذه تقول: (ما غرتُ على أحد من نساء النبي صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم ما غرتُ على خديجة علیها السلام، و ما رأيتها ، ولكن كان النبي صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم يكثر ذكرها، و ربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعث بها في صدائق خديجة علیها السلام؟ فربما قُلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة علیها السلام! فيقول: إنها كانت، وكانت، و كان لي منها ولد).(1)

فإنَّ عائشة تعترف بأنَّ النبي صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم كان يؤثر خديجة علیها السلام على زوجاته جميعاً. و من الطبيعي أن يؤثر ذلك في نظرتها إلى فاطمة بنت خديجة علیها السلام، ثم في موقفها من علي علیه السلام زوج فاطمة علیها السلام و والد سبطي الرسول صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم حفيدي خديجة علیها السلام.(2)

و لطالما أوجعت عائشة سيدتنا فاطمة علیها السلام بذكر والدتها و محاولة التقليل من قدرها لدى النبي صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم فتشكوها إلى والدها فيطيب خاطرها بكلام فصل في منزلة والدتها عنده.(3)

بقيت خديجة الكبرى علیها السلام تشارك عائشة عواطف الزوج و حنانه، بل تستأثر بمحبته الخالصة لها، و هي بين الأموات، و تحت الثرى، ولكن طيفها ما زال ماثلاً أمام عيني الرسول صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم و لسانه يلهج بذكرها يردد

ص: 170


1- جورج جرداق، ص574 . نقلاً عن البداية و النهاية: 3/ 158.
2- المصدر نفسه.
3- ينظر الفصل السابق.

اسمها في كل حين ، و لم يسأم من الثناء عليها حتى تأججت نار الغيرة في قلب عائشة فلم تتمالك أن قالت للرسول صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم: (ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين، قد أبدلك اللَّه خيراً منها)، فآلم النبي صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم هذا القول، وردَّ عليها قائلاً: (ما أبدلني اللَّه خيراً منها، كانت أم العيال و ربة البيت، آمنت بي حين كذبني الناس، و واستني بمالها حين حرمني الناس، و رزقت منها الولد و حرمت من غيرها).(1)

فلاغرابة أن تزداد نار الغَيْرة في قلب عائشة و هي تسمع النبي صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم يردّد في كل حين (كان لي منها ولد) و عائشة تلك الشابة الجميلة -ذات الذكاء و الفطنة لم تنجب لزوجها ولداً، في حين أن خديجة علیها السلام و هي العجوز -بحسب قولها- قد أنجبت له البنين و البنات.(2)

إنّ مرارة العقم و مرارة عواطف الأمومة المحرومة منها، سبَّبت لها هذه المشاعر الفطرية الطبيعية، إذ كانت تثير في نفس السيدة عائشة دائماً شعوراً بالخسران، و هي تنظر إلى بنات ضرتها (خديجة علیها السلام) متحسّرة تشعر کأَنَّ حواجز منيعة تقوم بينها و بينهن، بل ترى أن كل واحدة منهن هي صورة عن ضرتها التي استأثرت بقلب الزوج الرسول صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم و ما بلغته من إيثار لم يبلغه أحد من قبل، و لا من بعد.(3)

ص: 171


1- موجز سيرة الرسول صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم و أهل البيت علیهم السلام، تأليف و نشر: لجنة التأليف -مؤسسة البلاغ، ص104.
2- مريم فضل اللَّه، ص158.
3- المصدر نفسه، ص159.

و قد حظيت الزهراء علیها السلام بالنصيب الأوفر من هذه المشاعر، هي و زوجها و أولادها، و هي ترى بأم عينها لهفة النبي صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم عليهم و محبته و رعايته الدائمة لحركاتهم و سكناتهم. إذا ما أخذنا بالحسبان أنَّ عائشة لحظة وفاة الرسول صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم لم تبلغ العشرين، و قد عاشت بعده خمس و أربعين سنة،(1) أي أنّها كانت مقاربة لعمر الزهراء علیها السلام!

إنَّ كره عائشة لعلي قديم يعود تاريخه إلى اليوم الذي دخلت فيه بيت الرسول صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم على ما يذكر أكثر المؤرخين، و من أسباب كرهها لعلي علیه السلام منذ تلك الساعة: أنه زوج فاطمة علیها السلام، و فاطمة بنت خديجة علیها السلام التي شغلت وجدان النبي صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم بنبلها و سمو أخلاقها، شغلت وجدانه في حياتها و تركت فيه بعد موتها مكانا لم تستطع عائشة بكل ما فيها من مزايا أن تزاحمها فيه.(2)

إن كتب السير تجمع على أن عائشة هي من بدأت النفور من علی عليه السلام، بل إن الأحاديث المتواترة تؤكد حقيقة رفضها ذكر علي بخير و هي تستطيع، روى عكرمة عن عائشة في حديثها له بمرض رسول اللَّه صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم

ص: 172


1- غادة الخرسا، ص125.
2- جورج جرداق، ص573. لقد كادت عائشة بالتعاون مع حفصة بنت عمر لزوجات أخريات. للمزيد ينظر: تراجم سيدات بيت النبوة صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم للدكتورة بنت الشاطئ.

و وفاته، فقالت في جملة ذلك: فخرج رسول اللَّه صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم متوكياً على رجلين من أهل بيته علیهم السلام أحدهما الفضل بن العباس، فلما حكى عنها ذلك لعبداللَّه بن العباس، قال له: أتعرف الرجل الآخر، قال: لا لم تسمه لي،

قال: ذاك علي بن أبي طالب علیه السلام و ما كانت أمنا تذكره بخير و هي تستطيع.(1)

و بعضهم الآخر يُرجع سبب كرهها للإمام علي علیه السلام و خروجها عليه بحرب الجمل رداً منها على موقفه في قضية الإفك، بل يجعله السبب الرئيس وراء كرهها الشديد لعلي يوم أشار على الرسول بطلاقها.(2)

ذكر طه حسين في الخلفاء الراشدون: (وكان معروفاً أن عائشة لم تكن تحب عليا و لاتهواه، بل كان معروفاً أنها كانت تجد عليه موجدة شديدة منذ حديث الإفك، حين أراد علي أن يواسي النبي صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم فأشار عليه بأن يطلقها و قال له: (إن النساء غيرها كثير).(3) و كان ذلك قبل أن يُنزل اللَّه براءتها في القرآن. فلم تنس لعلي علیه السلام قوله ذلك. و كانت

ص: 173


1- المفيد، الإرشاد، فصل في ذكر بعض خصائصه و مناقبه، ص164.
2- جورج جرداق، علي صوت العدالة...، ص574.
3- طه حسين، المجموعة الكاملة لمؤلفاته -المجلد الرابع/ الخلفاء الراشدون، دارالكتاب اللبناني، الطبعة الأولى، بيروت –لبنان ، 1973، ص453-454.

عائشة من أقوى الشخصيات التي عرفها تاريخ المسلمين في ذلك العهد، لم تكن رقيقة كأبيها، بل كانت شديدة كعمر، على احتفاظ منها بكثير مما ورثت العرب عن جاهليتها. فكانت تحفظ الشعر و تكثر من حفظه و إنشاده و التمثل به.(1)

و لعلّ قضية الإفك كانت أكبر و أخطر حادثة تعرضت لها السيدة عائشة في حياتها، و جعلت مسألة اقترانها أو افتراقها عن النبي صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم على المحكّ، فقد أقدم أعداء الإسلام و الرسول صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم على بث إشاعة خبيثة في أثناء رجوع المسلمين من غزوة بني المصطلق، و قد ورد ذكرها في القرآن الكريم: «إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاتَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَ قَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ».(2) و نفيد من هذه الآيات أن بعضهم رمى بعض

ص: 174


1- تمثلت عند احتضار أبيها قول الشاعر: العمرك ما يغني الثراء عن الفتى *** إذا حشرجت يوما و ضاق به ا الصدر فنهرها أبوها منكراً قولها: بخ بخ يا أم المؤمنين! هلاتلوت قول اللَّه عز وجل «وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ» ق: 19، للمزيد ينظر: المصدر نفسه.
2- النور: 11 - 12، هذه الآيات تشير إلى حديث الإفك، و قد قيل إنها نزلت في عائشة، و قيل في مارية القبطية أم إبراهيم. للمزيد يراجع الميزان في تفسير القرآن/ 15 للعلامة محمد حسين الطباطبائي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1394ه_- 1974م، ص89 - 107.

أهل النبي صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم بالفحشاء، و كان الرامون عصبة من القوم، فشاع الحديث بين الناس يتلقاه هذا من ذاك، و كان بعض المنافقين أو الذين في قلوبهم مرض یساعدون علی إذاعة الحدیث، حباً منهم أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، فأنزل اللَّه الآيات مدافعاً عن لنبيه صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم(1) و بعد أن امتحن اللَّه به أسرة، هي في قمة أسر الدنيا نقاء، تلك أسرة الرسول الكريم صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم.

والذي حدث أنّ السيدة عائشة رافقت النبي صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم في غزوة بني المصطلق، و تخلفت عن الركب قليلاً في العودة فأثارت قلق الناس، و بعد ساعة شوهدت تركب بعيراً يقوده صفوان بن المعطل السلمي، و كان الأمر اعتيادياً، لولا ألسنة بعض اليهود الذين بثوا شائعات مغرضة وصلت إلى سمع النبي صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم فاذته، فقام في الناس يخطبهم فحمد اللَّه و أثنى عليه ثم قال: "يا أيها الناس، ما بال رجال يؤذونني في أهلي و يقولون عليهم غير الحق؟ واللَّه ما علمت منهم إلا خيراً، و ما يدخل بيتاً من بيوتي إلا و هو معي."(2)

ص: 175


1- حسن السعيد، سيكولوجية الإشاعة/ رؤية قرآنية، دار دجلة، ط1، 2011، عمان –المملكة الأردنية الهاشمية، ص78 و ما بعدها.
2- غادة الخرسا، ص126.

وقاد حملة النفاق والدس عبداللَّه ابن أبي سلول الذي استمر ينفث حقده الدنيء على الرسول صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم منذ جاء إلى دار الهجرة. قال ابن عباس:(1) منهم عبداللَّه بن أبي سلول و هو (الذي تولى كبره ) و هو من رؤساء المنافقين و مسطح بن أثاثة و حسان بن ثابت وحمنة بن جحش و هو قول عائشة، و بحسب الرواية التي تقول: إنَّ المقذوفة هي عائشة، و إنَّ سبب الإفك أن عائشة ضاع عقدها في غزوة بني المصطلق، و كانت تباعدت لقضاء حاجة فرجعت تطلبه، وحمل هودجها على ظنَّا منهم أنها فيه، فلمَّا صارت إلى الموضع وجدتهم قد رحلوا عنه، و كان صفوان بن معطل السلمي الذكواني من وراء الجيش فمرَّ بها، فلمَّا عرفها أناخ بعيره حتى ركبته، و هو يسوقه حتى أتى الجيش بعدما نزلوا في قائم الظهيرة. هكذا رواه الزهري عن عائشة.(2) فقال أهل الإفك ما قالوا و اخترعوه من الأكاذيب.

و كان الذي تولى كبره، وقاد حملته واضطلع منه بالنصيب الأو فى هو عبداللَّه بن أبي بن سلول رأس النفاق، و حامل لواء الكيد، و لقد عرف كيف يختار مقتلاً، لولا أنَّ اللَّه كان من ورائه محيطاً، و كان لدينه حافظاً، و لرسوله صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم عاصماً، و للجماعة المسلمة راعياً.

ص: 176


1- حسن السعيد، سيكولوجية الإشاعة، ص80.
2- المصدر نفسه، نقلاً عن: التبيان/ 7، ص415.

انتقلت عائشة إلى بيت أبيها، و دامت هذه المحنة شهراً كاملاً، كانت أزمة حادة عنيفة زلزلت أخلاق الناس، و شاع بهم همَّ عظيم.

و قد استشار النبيُّ صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم علي بن أبي طالب علیه السلام و أسامة بن زيد، فأما أسامة فقد أثنى على عائشة خيراً، و قال: يا رسول اللَّه صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم أهلك و لانعلم منها إلا خيراً، هذا الكذب و الباطل.(1)

و أما علي علیه السلام فإنه قال: يا رسول اللَّه صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم، إنَّ النساء لكثير، و إنك لقادر على أن تستخلف رسل الجارية فإنها ستصدقك. فدعا الرسول صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم الجارية بريرة و سألها فقالت: واللَّه ما أعلم إلا خيراً و ما كنت أعيب على عائشة شيئاً إلا أني كنت أعجن عجيني فأمرها أن تحفظه فتنام عليه، و تأتي الشاة فتأكله!

واستمرت الحَيْرة، و بقي حديث الإفك من دون حلَّ حاسم له إلا قول السماء فيه، بنزول وحي اللَّه: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَ لاتَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ»(2)... و «إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ...».(3)

ص: 177


1- غادة الخرسا، ص127.
2- سورة النور، الآية 4.
3- سورة النور، الآيات من11 إلى19.

و خرج رسول اللَّه صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم من هذه المعركة و المحنة العظيمة منتصراً كاظماً لآلامه الكبار، محتفظاً بوقار نفسه و عظمة قلبه و جميل صبره.(1)

و أمَّا عائشة فعادت إلى مكانها في بيت الرسول صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم، لتستأنف حياتها الزوجيَّة معه من دون أن تنسى قول الإمام علي علیه السلام للنبي صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم في إمكانية استبدالها فالنساء كثير، و لو تمعنا بهذا الموقف قليلاً لوجدنا أن النبي صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم قد طلب المشورة من اثنين هم الأقرب إلى أهل بيته علیهم السلام، و هذا تصرف

طبيعي و حكيم ، فأما أسامة فلم يقل إلا كلمة طيبة من دون محاججة أو دلیل الامام علی علیه السلام فکان رأیه أکثر دلالة و معنی، ويتوافق مع ما عرف من أبي الحسن علیه السلام. فهو في جانب قد واسى أخاه وحبيبه المصطفى صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم، و هو يراه يمتحن هذه المحنة العظيمة في أهل بيته علیهم السلام، بالتهوين من الخطب و التخفيف عنه، ثم عمد إلى أسلوب الاستنطاق، فطلب جارية عائشة لمعرفة أحوالها و ما يكون منها و هذا الأسلوب لطالما اتبعه الإمام علي علیه السلام في قضايا أخرى قد قضى فيها فأصاب.

و هنا كان على علیه السلام عائشة أن تفرح بهذه الشهادة و الاستنطاق؛ لأنَّها أظهرت براءتها و طفولية تصرفاتها و عدم عنايتها ببعض الجزئيات؛ و يعود ذلك ربَّما لصغر سنها.

ص: 178


1- حسن السعيد، سيكولوجية الإشاعة، ص81.

و لو لم يعمد الإمام علي علیه السلام إلى هذه الطريقة لكان قوله مشابه لقول أسامة و غيره، كلمة طيبة تقال لاغير، من دون أثر أو حجّة أو شهادة شاهد.

أمَّا فهم عائشة المغاير لقول الإمام علیه السلام، و كذلك فهم و آراء الكتاب ممن تناولوا هذه القضية، فيجافي الحق و الحقيقة لسبب جوهري لايُمكن إغفاله، أنَّ الإمام عليّاً علیه السلام بإيمانه بالرسول صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم و حبّه الجمّ له لايمكن أن يوجعه بقول أو رأي يخالف ما تريده نفسه، و هو الأحرص و الأكثر غَيْرة على بيت النبي صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم و عروس النبي صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم و الواثق من طهارة و نقاء رداء يتسربل به رسول اللَّه صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم.

ولكنَّ زوج النبي صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم عائشة أخذت من القول ظاهره و اعتمدته منهاجا في تعاملها مع الإمام علي علیه السلام، فما كانت تطيق له حضوراً أو انصرافاً عن النبي صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم، بل كانت تظهر رفضها و استنكارها لاستفراد النبي صَّلي اللَّه علیهِ و آله و سلم بعلي علیه السلام و مناجاته له في كل خلوة.

و أظهرت موقفها صريحاً واضحاً فيما بعد، عندما جاءها خب-استخلاف الإمام علي علیه السلام خليفة للمسلمين فأعلنت رفضها الثابت لكلَّ خير يصل إليه.

ص: 179

علي علیه السلام و عائشة... و الخلافة

لاتذكر لنا كتب السير و التاريخ أنَّ عائشة زوج النبي صلى اللَّه عليه و آله و سلم كان لها قول أو موقفٌ معارض للخلافة الإسلاميَّة بعد وفاة الرسول الكريم صلی اللَّه علیه و آله و سلم ، إلا موقفها في الأيام الأخيرة من عهد الخليفة عثمان بن عفان، فعائشة راضية عن الحال ما دامت الخلافة بعيدة عن علي بن أبي طالب علیه السلام حتى إذا ما صارت إليه، نراها زعقت بالقوم تؤججهم ضده، و ترفع أول راية للحرب و المعارضة.

إنَّ حقد قريش لعلي أمر يعرفه أبوالحسن علیه السلام و هو القائل فيها: كل حقد حقدته قريش على رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله و سلم أظهرته فيّ و ستظهره في ولدي من بعدي ما لي ولقريش إنما وترتهم بأمر اللَّه و أمر رسوله صلی اللَّه علیه و آله و سلم أفهذا جزاء من أطاع اللَّه و رسوله صلی اللَّه علیه و آله و سلم إنْ كانوا مسلمين.(1)

و في خطبة أخرى له علیه السلام يستعين باللَّه على ظلم قريش له بقوله: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ ومَنْ أَعَانَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِي وصَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِيَ وأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي أَمْراً هُوَ لِي ثُمَّ قَالُوا أَلَا إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وفِي الْحَقِّ أَنْ تَتْرُكَهُ».(2)

ص: 180


1- كاظم النقيب، أئمتنا قادة و هداة، ص477. نقلاً عن ينابيع المودة، ص111.
2- محمدجواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة -محاولة لفهم جديد- الجزء الثاني، دارالعلم للملايين، ط3، بيروت -لبنان، 1979، ص504.

وما الذي أنكرته عائشة من علي علیه السلام، و هي التي طالما سمعت نهي النبي صلی اللَّه علیه و آله و سلم و أوامره صلوات اللَّه و سلامه عليه بحفظ حق علي و عواقب بغضه و معاداته. و هي التي حدثت بهذا الحديث النبوي الشريف صلی اللَّه علیه و آله و سلم (علي خير البشر). فعن ابن مجاهد في التاريخ، و الطبري في الولاية، و الديلمي في الفردوس، و أحمد في الفضائل، و الأعمش عن أبي وائل، و عن عطية عن عائشة....، قالوا: قال رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله و سلم: (علي خير البشر، فمن أبى فقد كفر و من رضي فقد شكر).(1)

و قال لها أخوها محمدبن أبي بكر: أما سمعتِ رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله و سلم يقول: علي علیه السلام مع الحق و الحق مع علي علیه السلام، ثم خرجت تقاتلينه بدم عثمان!(2) فعلي علیه السلام هو إمام المتقين(3) بصريح الروايات المتواترة عن النبي صلی اللَّه علیه و آله و سلم، و ما هذه الحقيقة البينة ببعيدة عن ذهن عائشة أو غيرها من أمهات المؤمنين من زوجات النبي المصطفى صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم.

و عن الفقيه الهمداني الشافعي في المودة الثالثة من مودة القربى عن عائشة عن رسول اللَّه صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم قال: (إن اللَّه قد عهد إلي من خرج على علیه السلام علي فهو كافر في النار).(4)

ص: 181


1- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب/3، ص82.
2- كاظم النقيب، أئمتنا...، ص475.
3- ابن شهرآشوب، المناقب/3، ص79.
4- جواد جعفر الخليلي، أميرالمؤمنين علیه السلام ص98.

ولو أن عائشة تعلقت باعتذارها ببعد الزمان ونسيانها هذه الأحاديث، فما اعتذارها بعد التذكير والتحذير.

فها هي أم المؤمنين أم سلمة تعيد عليها الذكريات و أقوال رسول اللَّه صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم في علي وإنه وصيه و حبيبه و وزيره و خليفته، و تأكيده في أن إحدى نسائه ستخرج على علي و تنبحها الكلاب عند ماء حوأب مع تأكيده بالخشية من أن تكون هي المعنية بذلك !؟

و لسنا هنا في باب المفاضلة بين زوجات رسول اللَّه صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم، ولكن يحق لنا بوصفنا باحثين عن الحقيقة أن نكثر الحديث عن هذه المرأة المؤمنة أم المؤمنين أم سلمة رضي اللَّه عنها، و هي الحافظة لقول الرسول صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم و أمره و نهيه، و كل تعليماته وذكرياته بوصفه نبيّاً و رسولاً صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم و زوجاً و وليّ أمر، فكم حدثت، وكم حذرت ، ولننظر إلى صدق أحاديثها التي تظهر عمق إيمانها وعنفوانه ، وهي توالي من والاه محمد ، ففي حديث العيبة .. ، يحمّل رسولُ اللَّه صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم أمَّ سلمة مسؤولية إسلاميَّة مضاعفة فهو يريدها سامعة، و شاهدة على قوله في ابن أبي طالب علیه السلام و كذلك شاهدة حيَّة على محبته لابن عمه وتفضيله على سائر الخلق، فيقول لها: (يا أم سلمة اشهدي واسمعي هذا علي أميرالمؤمنين علیه السلام...)، و لو لم تكن أم سلمة صادقة الإيمان و مرضيّاً عنها من اللَّه عزوجل و نبيه، أما كان لها أن

ص: 182

تخفي كل هذه الكنوز المحمديَّة و الدرر الإيمانيَّة التي أتحفها بها الرسول صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم بحق علي علیه السلام!! ، و لاعتبَ عليها إن ادعت كما قالت صاحبتها... لقد نسيت!؟!

أم سلمة زوج الرسول الأكرم صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم كانت تعلم بغضَ عائشة لعلي علیه السلام، فلم يكن كرهها له بالأمر الخفي، وها هي أم سلمة تذكّرها بمواقف كرهها لعلي أيام الرسول صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم.

روى ابن أبي الحديد في تاريخ أبي مخنف لوط بن يحيى الأزدي أنَّ أم سلمة حينما كانت حاجّة في مكة سمعت أنَّ عائشة تطالب بدم عثمان و تقصد البصرة فتأثرت كثيراً و لما علمت عائشة بوجودها في مكة قصدتها كي تحاول استصحابها معها للبصرة. فقالت لها أم سلمة: لقد كنتِ يا عائشة بالأمس القريب تحرّضين على قتل عثمان و تنسبين له ما يستوجب قتله، و اليوم -كرهًا لعليّ علیه السلام- تطالبين بدمه، فهلا أذكرك بأني و رسول اللَّه صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم جئناك إلى حجرتك و خلالها جاء علي علیه السلام و ذهب إليه رسول اللَّه و طالت بينهما النجوى فأردتِ الهجوم فمنعتك فلم تكترثي و هجمت و قلت كل تسعة أيام يوم لي من رسول اللَّه صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم و هذا اليوم جئت و ألهيت النبي صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم عني فغضب رسول اللَّه صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم و احمَّر وجهه، و قال لك: (ارجعي وراءك واللَّه لا

ص: 183

يبغضه أحد من أهل بيتي علیهم السلام و لامن غيرهم من الناس إلا و هو خارج من الإيمان) فرجعت نادمة؟ فأجابت: نعم.(1)

إنَّ موقف رسول اللَّه صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم الواضح و القاطع من بغض علي علیه السلام، كان يبيّنة مراراً أمام عائشة علَّها ترتدع عن مواجهة ابن عمه الأثير لديه، لكن هيهات لقد سبق السيف العذل، و ها هو يلقيها صريحة، إنَّ من تحارب علي تزل قدمها عن الصراط بقوله: (من منكن صاحبة الجمل...)، إذ عادت أم سلمة و سألت عائشة في ذات الموقف السابق: أتذكرين يوماً كنت تغسلين رأس رسول اللَّه صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم و أنا كنت أهيئ غذاء ، فرفع رسول اللَّه صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم رأسه و قال: من منكن صاحبة الجمل التي تنبحها كلاب الحوأب و يزل قدمها عن الصراط و تقع. فرفعت يدي عن الغذاء و قلت أعوذ برسول اللَّه صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم من هذا الأمر، و عندها طبطب على ظهرك و قال: اتقي أن تكوني أنت صاحبة ذلك العمل؟ فأجابت عائشة: أذكر.(2)

استنكرت أم سلمة الموقف المستقبلي و نبوءة زوجها النبي صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم، فاستعاذت برسول اللَّه صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم من هذا الأمر من دون عائشة التي كانت إحدى اثنتين ستتقلد وزر هذا الأمر الجلل، و ها هو تصرف النبي صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم اللاحق

ص: 184


1- جواد جعفر الخليلي، أمير المؤمنين علیه السلام/ القسم الثاني، ص99.
2- المصدر نفسه.

يؤكّده و يلبسها ثوب تهمته بل إنها تتقمصه بجدارة عندما طبطب الرسول صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم على ظهرها قائلاً لها: (اتقي أن تكوني أنت صاحبة ذلك العمل؟!).

و لو لم يكن إلا هذه الاستذكارات من أم سلمة لكانت رادعة لأيِّ امرأة أخرى غير عائشة في أن تمضي فيما عزمت عليه.

إن موقف أم المؤمنين أم سلمة لم يكن بالقول فحسب، بل و الفعل أيضاً، فبعد حديث استذكار طويل مع عائشة لتردّها عما نوت و تردعها بقولها: (يا عائشة إنك تعرفين منزلة علي عند رسول اللَّه صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم فأي خروج تخرجين بعد هذا؟) فقالت عائشة: (إنَّما أخرج للإصلاح بين الناس و أرجو فيه الأجر إن شاء اللَّه. قالت أم سلمة: ( أي أجر يا عائشة ؟! قال تعالى : «وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ»(1) عودي فقرّي في بيتك).(2)

و في قول آخر لها: (أقسم باللَّه لو سرت مسيرك هذا، ثم قيل لي ادخلي الفردوس لاستحييت أن ألقى محمداً صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم هاتكة حجاباً قد ضربه عليّ،علیه السلام اجعلي حصنك بيتك، و الستر قبرك حتى تلقيه، و أنت على ذلك أطوع ما تكونين للَّه ما لزمته، و أنصر ما تكونين للدين ما جلست عنه).(3)

ص: 185


1- سورة الاحزاب آية 33.
2- عبد الرحمن الشرقاوي، ص 258.
3- محمد جواد مغنية، فضائل الإمام علي علیه السلام، ص129. نقلاً عن ابن الأثير/ ج3، ص109.

ثم إن أم سلمة أرسلت إلى علي علیه السلام: (يا أميرالمؤمنين علیه السلام لولا أن أعصي اللَّه تعالى عزوجل -و أنت لاتقبل مني هذا- لخرجت معك. و هذا ابني عمر يشهد معك مشاهدك) و أرسلت ابنها عمر بن سلمة بهذا الكتاب. و جهزته للحرب مع الإمام علي علیه السلام.(1)

کان من الممکن أن یوظّف أیّ طرف حرب غیر علی بن أبي طالب علیه السلام -بورقة أم سلمة أم المؤمنین عاملً ضغط علی موازین الحرب، و كان يمكن له استغلال تأييدها له أقصى استغلال، فإن كان الطرف الآخر تتقدمه زوج نبي وإحدى أمهات المؤمنين، فالجانب الآخر يمثل عليّاً علیه السلام و من معه أيضاً إحدى زوجات النبي صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم و أم المؤمنين!.

ولكن أم سلمة تعلم علم اليقين أنَّ عليّاً علیه السلام لايرضى لها هذا الموقف و هي قد صرحت له بذلك (و أنت لاتقبل مني هذا)، بل إنَّ علياً علیه السلام لم يرض هذا الموقف حتى لعائشة، و أرسل لها كتاباً و كلاماً يوضّح لومه لمن أخرجوها و حصنوا نساءهم.

جاء في إحدى خطبه علیه السلام:«فَخَرَجُوا يَجُرُّونَ حُرْمَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم كَمَا تُجَرُّ الأمَةُ عِنْدَ شِرَائِهَا مُتَوَجِّهِينَ بِهَا إِلَى الْبَصْرَةِ ، فَحَبَسَا نِسَاءَهُمَا فِي بُيُوتِهِمَا وَ أَبْرَزَا حَبِيسَ رَسُولِ اللَّهِ صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم لَهُمَا وَ لِغَيْرِهِمَا فِي جَيْشِ مَا

ص: 186


1- محمدجواد مغنية، فضائل الإمام علي علیه السلام، ص129. نقلاً عن ابن الأثير/ ج3، ص109.

مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلا وَ قَدْ أَعْطَانِي الطَّاعَةَ و سَمَحَ لِي بِالْبَيْعَةِ طَائِعاً غَيْرَ مُكْرَه...).(1)

أظهر الإمام علي علیه السلام عتبه و ألمه بسبب إخراج طلحة و الزبير أم المؤمنين عائشة من خدرها، و إركابها الجمل ليؤديا مهمة قميص عثمان الذي نشره معاوية في بلاد الشام لكسب الأصوات، فعلي علیه السلام يلقي باللوم هنا و التبعة على الزبير و طلحة اللذين تجرءا على إخراج عائشة من خدرها، و أظهراها للملأ، و أبقى كل منهما زوجته في الخدر!.

و وصف الإمام عائشة بالحبيس لقوله تعالى: «وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهليَّة الأُولَى»؛(2) أو لأنها محبوسة عن الرجال بعد رسول اللَّه صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم.(3)

فكلُّ ما يعني الإمام علي علیه السلام ويهمه في هذا الموقف هو حفظ كرامة حرم رسول اللَّه صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم و ستره من بعده، فلاتُصبح عرضة لأنظار طلحة و الزبير أو غيرهما. فكانت هذه أول بدعة في الإسلام و تليها شهادة الزور بأنَّ الكلاب النابحة على الجمل ليست كلاب حوأب.

ص: 187


1- محمدجواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة/ محاولة لفهم حديد -الجزء الثاني، ص506.
2- سورة الأحزاب، آية 33.
3- محمدجواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة، ص507.

و موقف الإمام علي علیه السلام يمثل المبدأ الإسلامي في ضرورة حفظ المرأة و عدم امتهان كرامتها، و استغلالها وسيلةً لتحقيق رغبات الطامحين إلى السلطة أو غيرها من المكاسب الدنيوية، و كان هذا الفعل ليسعد أم المؤمنين عائشة لو حكمت العقل وأصغت للنصح، فقد كتب لها علي علیه السلام ليدين خروجها و من تبعها، و ليسلّط الضوء الكاشف على الدوافع و المزاعم(1): (أما بعد: فإنك قد خرجت من بيتك عاصية اللَّه و لرسول اللَّه محمد صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم، أتطلبين أمراً كان عنك موضوعاً، و تزعمين أنك تريدين الإصلاح بين المسلمين، فخبرينا ما للنساء وقود العساكر و الإصلاح بين الناس، و طلبت كما زعمت بدم عثمان، و عثمان رجل من بني أمية و أنت امرأة من بني تيم بن مرة، و لقد كنت تقولين بالأمس اقتلوا نعثلاً فقد كفر، و لعمري أن الذي عرضك للبلاء و حملك على المعصية لأعظم إليك ذنباً من قتلة عثمان، و ما غضبت حتى أغضبت. و لاهجت حتى تهيجت، فاتقي اللَّه يا عائشة و ارجعي إلى منزلك و أسبلي عليك سترك، والسلام ).(2)

ص: 188


1- مهدي محبوبة، ملامح من عبقرية أمام علي علیه السلام، تقديم و تمهيد هاشم محمد الباججي، إصدارات العتبة العلوية المقدسة/ قسم الشؤون الفكرية و الثقافية (49)، دارالمعارف للمطبوعات، ط1 ، بيروت -لبنان، 2012، ص221.
2- ابن شهر آشوب، المناقب/ 3، ص179.

وفي قول آخر له: (واللَّه إن راكبة الجمل الأحمر ما تقطع عقبة، و لاتحل عقدة إلا في معصية اللَّه و سخطه، حتى تورد نفسها و من معها موارد الهلكة).(1)

و الإمام علي علیه السلام بنصحه هذا لعائشة يؤدي دوره بوصفه خليفةً للمسلمين و وصيّاً لرسول صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم رب العالمين و أداء حق الأمانة لودائع النبي صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم، و لو لم تكن في الأذهان إلّا هذه الآية لكفى عائشة أن تستذكر أسباب نزولها لتتبصر في موقفها من علي علیه السلام، فعن ابن عباس لما علم اللَّه ستجري حرب الجمل قال لأزواج النبي صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم «وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى»،(2) و قال تعالى: «يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ»(3) في حربها مع علی علیه السلام.

و عن شعبة و الشعبي و الأعثم و ابن مردويه و خطيب خوارزم في كتبهم بالأسانيد عن ابن عباس و مسعود و حذيفة و قتادة و قيس بن أبي حازم و أم سلمة و ميمونة و سالم بن أبي الجعد و اللفظ له: إنه ذكر النبي صَّلی اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم خروج

ص: 189


1- محمدجواد مغنية، فضائل الإمام علي علیه السلام، ص129. نقلاً عن: ابن الأثير/ ج3، ص109. حوادث سنة 26 و أعيان الشيعة نقلاً عن الطبري.
2- سورة الأحزاب آية 33.
3- سورة الأحزاب، آية 30.

بعض نسائه فضحكت عائشة، فقال: (انظري يا حميراء لاتكونين هي) ثم التفت إلى علي علیه السلام فقال: (يا أبا الحسن علیه السلام إن وليت من أمرها شيئا فارفق بها).(1)

و لم يقتصر النصح لعائشة من الإمام علي علیه السلام و أم المؤمنين أم سلمة فحسب، بل كان هناك كثير من الإجابات على رسائلها التي أرسلتها إلى كبار المسلمين تطالبهم مشاركتها المعركة و تحمل العبارة الآتية: من عائشة بنت أبي بكر (أما بعد فإن أتاك كتابي هذا فأقدم فانصرنا، فإن لم تفعل فخذل الناس عن علي علیه السلام... أم المؤمنين، حبيبة رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم إلى ابنها الخالص فلان... وليَّاها من لبّى، وردَّ عليها من يقول: (أمَّا بعد فإنَّ ابنك الخالص إن اعتزلت و رجعت إلى بيتك، وإلا فأنا أول من يباذلك) و يقول آخر: رحم اللَّه أم المؤمنين: أمرت أن تلزم بيتها -و أمرنا أن نقاتل فتركت ما أمرت به و أمرتنا به، وصنعت ما أمرنا به ونهتنا عنه.

بل إنَّ عائشة لقيت معارضة مباشرة وصلت إلى حدّ الجرأة، فهذا جارية بن قدامة السعدي يردُّ عليها قائلاً: (يا أم المؤمنين، واللَّه لقتل عثمان بن عفان أهون من خروجك من بيتك على ظهر هذا الجمل

ص: 190


1- ابن شهر آشوب، المناقب، ج3، ص174.

الملعون عرضة للسلاح، إنه قد كان لك من اللَّه ستر وحرمة، فهتكت سترك و أبحت حرمتك، إنه من رأى قتالك يرى قتلك).(1)

إنَّ عائشة كان لها ما لأمهات المؤمنين و عليها ما عليهن، و لو أنها سلكت نهجهن لنجت، حتى إن أقرب أمهات المؤمنين إليها و هي حفصة بنت عمر التي لطالما توحَّدت معها في المواقف واتخذتا موضعاً واحداً في جبهة ضد باقي زوجات النبي صلی اللَّه علیه و آله و سلم، رفضت الانصياع لرغبتها تلك بعد أن كادت تطاوعها.(2)

كادت حفصة أن تتبع عائشة و تشترك معها في موقعة الجمل، إذ: قالت رأيي لرأي عائشة تبع، و أرادت أن تخرج مع عائشة إلى البصرة، فحال أخوها عبداللَّه دون ذاك، و لم تجد حفصة بداً من القعود، وبعثت إلى عائشة تقول معتذرةً: إن عبداللَّه حال بيني و بين الخروج.(3) و الحق أنَّ موقف عبداللَّه بن عمر هذا قد أنقذ أخته، و كان قوله حكيماً: (إن بيت عائشة خير لها من هودجها).(4)

ص: 191


1- غادة الخرسا، ص132؛ محمدجواد مغنية، فضائل الإمام علي علیه السلام، ص129.
2- مريم فضل اللَّه، ص159.
3- غادة الخرسا، ص134.
4- عبدالرحمن الشرقاوي، ص258، طه حسين، الخلفاء الراشدون، ص457.

ونعود للسؤال: ما الذي أنكرته عائشة على علي علیه السلام لترفض خلافته؟

نستعين بقول طه حسين لنعرف الإجابة عن هذا السؤال، قال: (... و كانت تنكر على علي علیه السلام فيما أعتقد أمرين...: أحدهما لم يكن لعلي فيه خيرة، فقد تزوج فاطمة بنت رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله و سلم و رزق منها الحسن و الحسين علیهما السلام، فكان أبا الذرية الباقية للنبي صلی اللَّه علیه و آله و سلم، و لم يتح لها هي الولد من رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله و سلم، مع أنه قد أتيح لمارية القبطية أم إبراهيم في أواخر أيام النبي صلی اللَّه علیه و آله و سلم. فكان هذا العقم يؤذيها في نفسها بعض الشيء، و لاسيَّما و هي كانت أحب نساء النبي صلی اللَّه علیه و آله و سلم إلى النبي صلی اللَّه علیه و آله و سلم.

أمَّا الأمر الآخر فهو أن علياً علیه السلام قد تزوج أسماء الخثعمية بعد وفاة أبي بكر، و أسماء هي أم محمد بن أبي بكر الذي نشأ في حجر علي علیه السلام، فكانت عائشة تجد على علي علیه السلام لهذا كله).(1)

للحقيقة نقول: ما وجدنا في هذا الرأي تسويغاً مقنعاً لموقف عائشة من الإمام، فطه حسين هو المعترف أنه لم يكن لعلي علیه السلام خيرة في أن يضعه اللَّه و رسوله صلی اللَّه علیه و آله و سلم هذا الموضع الشريف فتصب عليه وافر عقمها النفسي، فكل فضيلة من فضائل علي علیه السلام كانت تجدها عائشة مؤذية لذاتها النافرة من

ص: 192


1- طه حسين، المجموعة الكاملة... الخلفاء الراشدون/ المجلد الرابع، ص454.

الإمام، فماذا نقمت من أبي الحسن علیه السلام غير اكتمال صفاته و خصاله، وللَّه الكمال وحده؟!

أمَّا عدم إنجابها من النبي صلی اللَّه علیه و آله و سلم فأمر تشترك فيه مع بقية زوجاته، ما خلاخديجة الكبرى علیها السلام و مارية القبطية، فلِمَ لم يذهبن إلى ما ذهبت إليه عائشة؟ !

أمَّا زواجه من أسماء زوجة أبيها، فأمر محمود لعلي بن أبي طالب علیه السلام، و هذا ما كان المسلمون يفعلونه للحفاظ على كرامة نساء رجالهم بعد فقدهن، و لهم في رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله و سلم أسوة حسنة في هذا الجانب، و ما كانت عائشة لتحرّم ما حلّل اللَّه، و أن اتخاذه لمحمدبن أبي بكر ربيباً و ابناً، كان فيه علي علیه السلام خير أب لمحمد صلی اللَّه علیه و آله و سلم.

و كان محمد أطيب ثمرة لتربية الإمام ورعايته، حتى رثاه في موته بكلِّ الألم والتوجع. إذ يقول فيه الإمام في بعض خطبه: «... فَلَقَدْ كَانَ إِلَيَّ حَبِيبًا وكَانَ لِي رَبِيباً»، و كان الإمام يقول: «محمدٌ ابني من صُلْبِ أبي بكره».(1)

نجد أنَّ طه حسين غير مقتنع فيما أورده، فيعود في صفحات لاحقة ليورد قائلاً: (وأمَّا عائشة فقد أمرها اللَّه فيمن أمر من نساء النبي صلی اللَّه علیه و آله و سلم أن تقرّ في

ص: 193


1- محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة/ ج1، ص340 - 341.

بيتها. و كان عليها أن تفعل أيام علي كما كانت تفعل أيام الخلفاء من قبله، تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر دون أن تخالف عما أمرت به من القرار في بيتها لتذكر ما كان يُتلى عليها من آيات اللَّه و الحكمة و لتقيم الصلاة و تؤتي الزكاة كما فعل غيرها من أمهات المؤمنين، و لو قد أبت أن تبايع علياً أو تؤمن له بالخلافة لما وجدت منه شيئاً تكرهه، فهي أم المؤمنين و حبيبة رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله و سلم و بنت أبي بكر. و كان من الطبيعي أن تلقى من علي مثال ما لقي المعتزلون على أقل تقدير. و آية ذلك أنها لم تلق منه بعد يوم الجمل إلا الكرامة والإكبار).(1)

إذن لم يكن عليٌ علیه السلام غير مؤهل للخلافة، حتى تعترض السيدة عائشة على توليه هذا الاعتراض الدموي، و لم يكن علىٌ طامعاً أو طامحاً لنيلها و هي حقّه المسلوب، بل إنه رفضها و بقي المسلمون من دون خليفة أربعة أيام (أو خمسة) بعد مقتل عثمان بن عفان.(2)

ص: 194


1- طه حسين، الخلفاء الراشدون، 459.
2- بعد قتل عثمان، حكم الثائرون المدينة و أرهبوا أهلها، و ظل المسلمون خمسة أيام بلا إمام، فلا علي بن أبي طالب علیه السلام يقبل البيعة و لاالناس يعدلون عنه إلى غيره! للمزيد ينظر: عبدالرحمن الشرقاوي، ص227؛ كاظم النقيب، ص444. نقلاً عن مروج الذهب ج2 ، ص359 (ذكر أنه بويع البيعة العامة بعد مقتل عثمان بأربعة أيام).

قال الإمام علي علیه السلام :«فَمَا رَاعَنِي إلا والنَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ وشُقَّ عِطْفَايَ مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ».(1)

ولكنَّ السيدة عائشة عندما علمت بخلافة علي علیه السلام، أظهرت حقيقة ما كانت تخفيه في نفسها، و لم تخاتل أو تناور أو تخادع كما فعل طلحة و الزبير، اللذان بايعا ثم نكثا، فلقد كان طلحة بن عبيد الله أول من بايعه و كانت أصابعه شلاّء فقال علیه السلام : ما أخلفها أن تنكث.(2)

تخبرنا المصادر التاريخيَّة كيف تلقت عائشة خبر استخلاف علي علیه السلام، فقد لقيها رجل من أخوالها من بني ليث يقال له (عبيد بين أبي سلمة)، في طريق عودتها من مكة بعد أدائها مناسك العمرة، فسألته: لهيم! فأصم ودمدم فقالت: ويحك علينا أو لنا، قال: ألا تدري قتل عثمان، و سكت.(3)

ص: 195


1- محمدجواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة / ج2 ، ص48 - 49. قال البلاذري في أنساب الأشراف ج5 ص18 " جاء الناس كلهم يهرعون إلى علي علیه السلام، أصحاب النبي صلی اللَّه علیه و آله و سلم و غيرهم، و هم يقولون: إن أمير المؤمنين علي علیه السلام... و قال الطبري في ج5 ص152: أتاه أصحاب رسول الله صلی اللَّه علیه و آله و سلم و قالوا لهم: قد قُتل هذا الرجل، و لابد للناس من إمام، و لانجد اليوم أحق بهذا الأمر منك، و لاأقدم سابقة، و لاأقرب من رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله و سلم، فقال لهم: لاتفعلوا، فإني أكون و زيراً خير من أن أكون أميراً.
2- كاظم النقيب، أئمتنا...، ص441.
3- غادة الخرسا، ص130.

فقالت حين علمت بمقتل عثمان: إيه صاحب الإصبع -تعني طلحة-! للَّه أبوك. أما أنهم وجدوا طلحة كفؤاً لها. إيه أبا شبل! إيه يا بن عم!).(1)

إن السيدة عائشة تجد طلحة كفؤا و أهلا للخلافة من دون علي علیه السلام فأظهرت سرورها بما تمني به نفسها، ولكنها ما إن علمت أن المسلمين بايعوا علياً علیه السلام، حتى أمرت برد ركائبها إلى مكة، و قالت: (ليت هذه انطبقت على هذه -تريد الأرض والسماء- إن تم الأمر لعلي علیه السلام!).(2)

و في رواية أخرى أن من جاءها بهذه الأنباء ابن أختها عبداللَّه بن الزبير فأمرت الركب أن يعود إلى مكة(3) و أخذت تردد: ردوني، ردوني!(4)

و راحت تقول بصوت مرتفع: (قتلوا عثمان بن عفان! رحمه اللَّه)، فقال لها بعض من سمعوها: (بالأمس كنت تحرضين عليه و اليوم تبكينه! ألم نسمعك تقولين أبعده اللَّه ؟! لقد رأيناك من أشد الناس عليه حتى قتل، فلما لم يبايع الناس ابن عمك طلحة و لازوج أختك الزبير، بكيت عثمان يا أم المؤمنين؟!.(5)

ص: 196


1- عبدالرحمن الشرقاوي، ص234.
2- جورج جرداق، ص572.
3- عبدالرحمن الشرقاوي، ص253.
4- غادة الخرسا، ص131.
5- عبد الرحمن الشرقاوي، ص234.

و الواقع أن عائشة لم تندب عثمان حباً به، بل كرهاً لعلي علیه السلام فهي التي كانت تحرض على قتل عثمان في عدة مناسبات، كما كانت تتهمه بالكفر.(1)

ولكن موقف عائشة هذا كان واضح الدلالة لكل ذي عينين، فما أن أخذت تقول كلمتها: قتل واللَّه عثمان مظلوماً. واللَّه لأطلبن بدمه! حتى سألها عبيد: و لم؟ فواللَّه، إن أول من أمال حرفه لأنت! كنت تقولين: اقتلوا نعثلاً،(2) فقد كفر! فأجابت: إنهم استتابوه ثم قتلوه. و قد قلت و قالوا: (و قولي الأخير خير من قولي الأول).(3)

و هنا يروي الطبري أبياتاً قالها عبيد لعائشة، و فيها يُلقي التبعة عليها في مقتل عثمان:

فمنكِ البداءُ، و منكِ الغَيرْ *** منكِ الرياحُ... و منكِ المطرْ

و أنت أمرتِ بقتل الإمام *** و قلت لنا إنه قد كفرْ

فهبنا أطعناكِ في قتله *** و قاتلُهُ عندنا مَن أمَرْ

و لم يسقط السقف من فوقنا *** و لم تنكسف شمسُنا و القمرْ(4)

ص: 197


1- غادة الخرسا، ص130.
2- نعثلاً: النعثل، الذكر من الضباع، و الشيخ الأحمق. و النعثلة: الحمقى، لسان العرب111/ 669 ، مادة (نعثل).
3- جورج جرداق، ص572 . نقلاً عن تاريخ الطبري31، ص477.
4- المصدر نفسه.

إنَّ المتتبع لخط العلاقة بين الإمام علي علیه السلام و السيدة عائشة يجد أنَّ موقفها من علي علیه السلام يتوافق تماماً مع مواقفها السابقة، فهي لم تحيد عن كرهه وعداوته لا في حياة الرسول صلی اللَّه علیه و آله و سلم و لابعد وفاته... إنها هي هي، عائشة التي تغضب زوجها و ولي أمرها و نبيها لوجود علي سويعات نجوى مع النبي، ما كان لها أن ترى به خليفة عليها، و ها هي تقول لطلحة بعد أن لقيها في مكة: (و ما لعلي يستولي على رقابنا؟ لاأدخل المدينة ولعلي فيها سلطان!)، إنها تجد عليّاً يستولي على الرقاب، فهي لم تدخله قلبها يوماً، و لم تجد فيه ولياً للمتقين كما أخبرها بذلك النبي صلی اللَّه علیه و آله و سلم مراراً، بل سلطاناً و لن تخضع له!!

لبست عائشة درعها، و ركبت جملها عسكراً.(1) و تهيأت لحرب الرجل الذي ناصبته العداء منذ أن دخلت بيت زوجها، و الذي يتابع سيرة عائشة في هذه المرحلة يُدرك أي كره هو ذاك الذي كانت تضمره لعلي علیه السلام.(2)

أمَّا رأي الإمام علي علیه السلام في عائشة، فيوجزه بقوله و هو يستعد

ص: 198


1- ابن شهر آشوب، المناقب، ج3، ص181.
2- جورج جرداق، ص573.

لحرب الجمل و صاحبة الجمل و صاحبيها: (بليت في حرب الجمل بأشد الخلق شجاعة، و أكثر الخلق ثروة و بذلاً، و أعظم الخلق في الخلق طاعة، و أوفى الخلق كيداً و تكبراً، بليت بالزبير لم يرد وجهه قط، و يعلي بني أمية يحمل المال على الإبل الكثيرة، و يعطي كل رجل ثلاثين ديناراً و فرساً على يقاتلني، و بعائشة ما قالت قط بيدها هكذا إلا واتبعها الناس، و بطلحة لايدرك غوره و لايطال مكره).(1)

ص: 199


1- مهدي محبوبة، ملامح من عبقرية الإمام، ص221.

علي علیه السلام و عائشة... و الجمل

رَمَتِ السيدة عائشة بسهم آخر من سهام معاداتها للإمام علي علیه السلام، و كشفت عن كل كراهيتها له، فما عادت المواجهة بينها و بينه بالكلام بل بالنبال و طعن السيوف. فكانت موقعة الجمل (عسكر) الذي ركبته عائشة لتقود أول حرب من الحروب التي واجهها علي بن أبي طالب علیه السلام في مدة خلافته، مصداقاً لعهد رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله و سلم إليه قبل وفاته، قائلاً: (يا علي علیه السلام لتقاتلن الفئة الناكثة، والفئة الباغية، والفرقة المارقة، إنهم لاإيمان لهم لعلهم ينتهون).(1)

و قد أسهبت الكتب و المراجع التاريخيَّة في تناول أحداث حرب الجمل و سرد وقائعها و تفاصيلها، و لانأتي بجديد في السرد، و إنما نذكر بأنها كانت الصفحة الأكثر دموية و إيلاماً وإثارة للفتنة، ربطت بين قطبي الصراع، علي علیه السلام و عائشة، و أنضحت بكامل ما في إناء كل منهما.

فمن القائل إنَّ السيدة عائشة لم تكن تريد القتال وإراقة الدماء بخروجها على خليفة المسلمين، بل أرادت إصلاحاً.

ص: 200


1- ابن شهر آشوب، المناقب، ج3، ص174.

و إنَّ هؤلاء الثلاثة ما خرجوا أبداً لقتال علي علیه السلام، و لاللتشهير به، و لا لإعانة خصومه عليه، كما يقول بعض المؤرخين.(1)

و رأي يرفع عنها تبعات الخروج والحرب برمّتها، بالذهاب إلى أنَّ طلحة و الزبير هما من أخرجاها و أدارا رحى الحرب الطاحنة.

و رأي يذهب إلى أنَّ ما جرى كان فتنة شيطان رجيم بين أخوة أحباء ، قاتلوا بعضهم بعضاً، و قلوبهم تملأها محبة أحدهم للآخر و انتهت بالرضى و التقبيل و البكاء على ما جرى ولكل نصيب من رحمته الواسعة و في الجنة ملتقاهم إذ هم مبشرون!؟!(2)

و رأي ينظر إلى النتائج لاالمسببات و الدوافع في معركة الجمل و يخلص إلى أن عائشة سامحت عليّاً علیه السلام، و علي سامح عائشة، و كلاهما تاب إلى اللَّه و قالا قولاً مشتركاً في تمني عدم وقوع هذه الحرب!؟

و هناك مؤلفات تهوّن من الخطب كثيراً، و ترى أنَّ المبالغة قد شابت الوقائع التي سردت و الأشعار التي ألقيت، و الأرقام التي عددت ما حصدت هذه الفتنة من ضحايا و أرواح من الجانبين.

ص: 201


1- محمدبكر إسماعيل، ص368.
2- المصدر نفسه ص407. (فاقتتلوا و الحب ملء قلوبهم، و هو أمر عجاب، ولكنها الحقيقة التي لاتخفي نفسها)!!

و من البدء نقول: إنَّ هذه الحرب ما كانت لتكون لولا ركوب السيدة عائشة جملها و قيادتها جبهة الرفض لخلافة الإمام علي علیه السلام، و عزمها على مقاتلته، فقد بلغ عائشة قتل عثمان وبيعة علي بسرف،(1) فانصرفت إلى مكة منتظرة الأمر، فتوجه طلحة و الزبير و عبداللَّه بن عامر بن كريز فعزموا على قتال علي علیه السلام، و اختارا عبداللَّه بن عمر للإمام فقال: أتلقونني بين مخالب علي علیه السلام و أنيابه؟(2)

و قيل إنَّ عائشة عندما كانت تروي حديث النبي صلی اللَّه علیه و آله و سلم (علي خير البشر) قيل لها: فلم حاربته؟ قالت ما حاربته من ذات نفسي إلا حملني طلحة و الزبير، و في رواية أمر قدر و قضاء غلب.(3)

و قد حاججها أهل البصرة عندما خطبت بهم قبل بدء المعركة تحرضهم على القتال في صفّها، فقال لها رجل من البصرة: (يا أم المؤمنين إن كنت خرجت مكرهة فاستعيني بنا نعيدك إلى منزلك، و إن كنت خرجت طائعة فعودي).(4)

ص: 202


1- سرف: موضع على ستة أميال من مكة.
2- ابن شهر آشوب، المناقب، ج3، ص175.
3- المصدر نفسه، ص82.
4- عبدالرحمن الشرقاوي، ص267.

إن معظم المصادر التاريخيَّة تجمع على أن السيدة عائشة خرجت غير مكرهة لتقود هذه الحرب التي سميت بحرب الجمل، لأن قائدة الجيش، و هي السيدة عائشة فضلت ركوب الجمل، على البغال و الحمير، قال المستشرق الألماني (كارل بروكلمن) في الجزء الأول من (تاريخ الشعوب الإسلامية) ص139: (توقفت المعركة أمام الجمل الذي كانت تمتطيه عائشة، و تستفز من على ظهره المقاتلين بحسب العادة العربية العريقة -إي عادة الجاهليَّة الجهلاء- و لم تتم الغلبة لعلي إلا بعد أن عقر الجمل الذي خلع اسمه على هذه المعركة في 4 كانون الأول سنة 646م، و عرضت عائشة على المنتصر تأييدها ولكنه رفض). و عن الواقدي و المسعودي إن الواقعة كانت يوم الخميس لعشر خلون من جمادي الآخرة سنة 36ه_.(1)

و يذكر ابن شهر آشوب أن وقعة الجمل كانت بالخريبة، و وقع القتال بعد الظهر، و انقضى عند المساء. فكان مع أميرالمؤمنين علیه السلام عشرون

ص: 203


1- محمدجواد مغنية، فضائل الإمام علي علیه السلام، ص128. نقلاً عن: الطبري/ ج5، ص183-184.

ألف رجل، و منهم البدريون ثمانون رجلاً، و ممن بايع تحت الشجرة مائتان و خمسون، و من الصحابة ألف و خمسمائة رجل. و كانت عائشة في ثلاثين ألفاً أو يزيدون منهم المكيون ستمائة رجل، قال قتادة: قتل يوم الجمل عشرون ألفاً. و قال الكلبي: قتل من أصحاب علي ألف راجل و سبعون فارساً، منهم زيد بن صوحان، و هند الجملي، و أبوعبداللَّه العبدي، و عبداللَّه بن رقية.(1)

و نقل المسعودي في الجزء الثاني وصفاً رائعاً عن المنذر بن الجارود لعسكر الإمام،(2) وعدته وعديده، و قال المسعودي: قُتل من أصحاب الجمل ثلاثة عشر ألفاً، و من أصحاب علي خمسة ألاف، و كانت وقعة واحدة في يوم واحد.(3)

و قال أبومخنف و الكلبي: قُتل من أصحاب الحمل من الأزد خاصة أربعة آلاف رجل، و من بني عدي و مواليهم تسعون رجلاً، و من بني بكر بن وائل ثمانمائة رجل، و من بني حنظلة تسعمائة رجل، و القرشيون منهم : طلحة و الزبير و عبداللَّه بن عتاب بن أسيد و عبداللَّه بن حكيم بن

ص: 204


1- ابن شهر آشوب، المناقب، ج3، ص190.
2- للمزيد ينظر: محمدجواد مغنية، فضائل الإمام علي علیه السلام، ص133 – 134.
3- المصدر نفسه، نقلاً عن: المسعودي، ج2، ص360.

حزام و عبداللَّه بن شافع بن طلحة و محمد بن طلحة و عبداللَّه بن أبي خلف الجمحي و عبدالرحمن بن معد و عبداللَّه بن معد.(1)

و مع كلِّ هذا التفصيل لدى المؤرخين، هناك من يقلل من هذه الأرقام، و يرى أن العدد لايكاد يصدق و قد بولغ فيه، و أنَّ عدد القتلى الذي رجحوه لايتجاوز المائتين!! و ذلك لقصر مدة القتال، إذ إنَّ القتال نشب بعد الظهر، فما غربت الشمس و حول الجمل أحد ممن كان يذب عنه.(2) بل إنه يقلل إلى أقصى من ذلك فيجعله قريباً من المائة، و يعقد مقارنة بين قتلى المعارك الإسلاميَّة قائلاً: و بالقياس بعدد شهداء المسلمين في معركة اليرموك ثلاثة آلاف شهيد، و معركة القادسية ثمانية آلاف و خمسمائة شهيد، و هي التي استمرت عدة أيام - فإن العدد الحقيقي لقتلى معركة الجمل يعد ضئيلاً جداً، هذا مع الأخذ في الاعتبار شراسة تلك المعارك وحدتها لكونها من المعارك الفاصلة في تاريخ الأمم).(3)

ولكن المؤلف للأسف ينسى أو يتناسى أن هذه المعارك التي ذكرها خاضها المسلمون ضد أعداء الإسلام لتوحيد كلمة الإسلام، في حين أن

ص: 205


1- ابن شهر آشوب، المناقب، 3 - فضل في حرب الجمل، ص190.
2- محمد بكر إسماعيل، ص296.
3- المصدر نفسه.

معركة الجمل كانت أول معركة خاضها المسلمون في مواجهة بعضهم بعضاً، و شقت وحدة الصف الإسلامي و أثارت النعرات الجاهليَّة، إن المؤلف -هنا- يسوق كل هذا الدفاع الساذج المستميت من أجل التهوين من خروج السيدة عائشة على الإمام.

و يهمل المؤلف طول رحلة السفر و التحشيد و الكتب التي وجهت إلى رؤساء القبائل في الطريق ما بين مكة والبصرة، و كيف لم تأل السيدة عائشة جهدها في التنفير بصوت جهوري تخطب في الجموع قبل المعركة و في أثنائها، لقد ركبت عائشة الجمل، تسير عليه من بلد إلى بلد، تخطب بالجموع وتكتب إلى الآفاق بتوقيع أم المؤمنين تشعل نار الحرب، و تفرق كلمة المسلمين إلى شيع و أحزاب يقتل بعضهم بعضاً.(1)

و قد تسربلت برداء الحرب، إذ لبست عائشة درعاً،(2) و ضربت على هودجها صفائح الحديد و ألبس الهودج درعاً. و كان أبو يعلى هو من اشترى الجمل الضخم و جعل لها هودج من حديد و دروع، و جعل فيه موضع لعينيها.(3)

ص: 206


1- محمدجواد مغنية، فضائل الإمام علي علیه السلام، ص129.
2- ابن شهر آشوب، المناقب، ج3، ص181.
3- عبدالرحمن الشرقاوي، ص257.

كان خروج السيدة عائشة أمراً مستغرباً، فما اعتاد العرب على خروج النساء مقاتلات في الحرب، ربما محرضات بالشعر والخطابة، لكن بوقوفها وسط ساحة المعركة كقطب الرحى من طعن و ضرب...، و هي زوجة نبي الأمة، فإنَّ هذا ما أثار استهجان كثيرين ممن انحازوا لصفها ثم عدلوا بعد أن رأوا عائشة تتقدم الصفوف داخل هودجها المدرع على جمل ضخم ، وقد ألبسوه جلود النمور، وفوقها الزرّد!...، و جعلت تصدر الأوامر، و إذ برجل من أصحابها يخرج من الصفوف وينحاز إلى عسكر الإمام قائلاً: (تقلدت سيفي أريد نصر الزبير و طلحة، فإذا عائشة هي التي تأمر وتنهي و إذا الأمر أمرها، فأيقنت أن هؤلاء قوم لعنهم الرسول صلی اللَّه علیه و آله و سلم حين قال: (لعن الله قوماً ولوا أمرهم امرأة).(1)

كانت عائشة هي القائد الأعلى للجيش الذي تقدمته و هي راكبة جملاً أعطي اسمه للموقعة، و كانت هي التي تصدر الأوامر، و تعين القادة الثانويين، و توجّه الرسل بكتبها إلى هذا و ذاك، ممن تبغي عندهم أن يناصروها على علي علیه السلام، و كانت كتبها إلى هؤلاء مصدرة بالعبارة الآتية: (من عائشة ابنة أبي بكر، أم المؤمنين، حبيبة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله و سلم، إلى ابنها

ص: 207


1- عبدالرحمن الشرقاوي، ص276.

الخالص فلان: أمَّا بعد، فإن أتاك كتابي هذا فأقدم فانصرنا، فإن لم تفعل فخذّل الناس عن علي علیه السلام!).(1)

حتى أن السيدة عائشة لم تهمل جانباً من معركتها ضد الإمام إلّا و أخذت جزءاً من عنايتها، فهي تراسل صديقتها التي تأخّرت عنها على مضض، لتطلعها على أخبار سيرها خطوة بخطوة، فكتبت عائشة إلى حفصة بنت عمر بن الخطاب، و كانت حفصة بالمدينة، تبشرها باستيلائها على البصرة و تحدثها بنشوة الغالب، عما تراه من أمر علي علیه السلام و عما هو صائر إليه: (أما بعد ، فأخبرك أن علياً علیه السلام نزل ذا قار، و أقام بها مرعوباً خائفاً لما بلغه من عدتنا و جماعتنا. فهو بمنزلة الأشقر، إن تقدم عقر، وإن تأخر نُحِر!).(2) لقد قتل في هذه الحرب طلحة و الزبير. ولكن السيدة عائشة استمرت في موقفها المحرض على القتال حتى النهاية، ففي الهودج أم المؤمنين بقيت تحرض الناس فتردهم إلى الحماسة و الجرأة بعد الخوف و الفرق، و هم يثبتون حول الجمل لايريدون انتصاراً و لايريدون فوزاً بل يريدون أن يحموا أمهم، و راجزهم

ص: 208


1- جورج جرداق، الإمام علي علیه السلام صوت العدالة الإنسانيَّة، ص587 . نقلاً عن: تاريخ الطبري -3، ص492.
2- جورج جرداق، الإمام علي علیه السلام صوت العدالة الإنسانيَّة، ص591.

يرتجز:

يا أمنا عائش لاتُراعي *** كل بنيك بطل المِصاعِ

و هي تتحدث إلى من عن يمينها محرضة، وإلى من عن شمالها محمسة، و إلى من أمامها مذكرة، و أصحاب علي علیه السلام يلحون على هؤلاء المستقتلين و راجزهم يرتجز:

يا أُمنا أعق أُم نعلم *** و الأم تغذو ولدها و ترحمُ

أما ترين كم شجاع يُكْلَمُ *** و تُختلى منه يد و معصمُ

و يشتد و طيس الحرب... و قد رأى علي هذا القتل الذريع فراعه نكرُ ما رأى و صاح بأصحابه: أعقروا الجمل فإن في بقائه فناء العرب.(1)

فما كان موقف الإمام علي علیه السلام منها؟

لم تصدر عن الإمام علي علیه السلام كلمة شائنة بحق عائشة أو تنكيراً لفعلها، بل صب جام غضبه و توبيخه على طلحة و الزبير و كل من أخرجها من مهجعها من الرجال الطامعين بالسلطة. كان علي يعلم أنهم اتخذوا من عروس النبي صلى اللَّه عليه وآله و سلم مركباً لطموحاتهم الدنيويَّة بالخلافة، و وافق هواهم هواها الغالب في معاداة ابن أبي طالب، غريمها و زوج ابنة غريمتها التي طالما حسدتها لحظوتها عند النبي صلى اللَّه عليه وآله و سلم حتى بعد مماتها.

ص: 209


1- طه حسين، الخلفاء الراشدون، ص476 - 477.

فقد بعث إليها قولاً يلتمس فيه لها العذر قائلاً: (... و ما غضبت حتى أغضبت، و ما هجت حتى هُيجت...). أراد علي أن يعذر عائشة لخروجها عليه و قودها العساكر فأشار إلى أنها (أُغضبت و هُيجت) و في ذلك ما فيه من مراعاة شعور المرأة و احترام جانبها، ثم وجد لها مخرجاً مما حملت عليه من المعصية –على حد تعبيره- فخطَّأ الذي عرَّضها للبلاء و حملها على الخروج من بيتها، و جعله أعظم ذنباً من قتلة عثمان. ثم نصح لها بأن تتقي الله وترجع إلى منزلها ففي ذلك أمن للبلاد و رضا الناس.(1)

و كان يمكن للإمام علي علیه السلام أن يتخذ منها موقف المنتقم، و ينفّذ فيها أمر رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله و سلم الذي جعل طلاق نسائه إليه.(2) و هذا الحديث ينقل عن عائشة ذاته من أن النبي صلی اللَّه علیه و آله و سلم جعل طلاق نسائه إلى علي علیه السلام.

و قد ذكّرها أبو الحسن علیه السلام بهذا الأمر يوم الجمل، فعن الأصبغ بن نباتة قال: بعث علي علیه السلام يوم الجمل إلى عائشة: (ارجعي وإلا تكلمت بكلام تبرين من اللَّه و رسوله صلی اللَّه علیه و آله و سلم). و قال أميرالمؤمنين علیه السلام للحسن علیه السلام: (اذهب إلى فلانة فقل لها قال لك أميرالمؤمنين علیه السلام والذي خلق الحبة النوى و برأ النسمة، لئن لم ترحلي الساعة أبعثن بما تعلمين)، فلما أخبرها الحسن علیه السلام

ص: 210


1- جورج جرداق، ص579.
2- ابن شهر آشوب، المناقب، ج3، ص153.

بما قال أميرالمؤمنين علیه السلام قامت ثم قالت: رحولني، فقالت لها امرأة من المهالبة: أتاك ابن عباس شيخ بني هاشم حاورتيه و خرج من عندك مغضباً. و أتاك غلام فأقلعت! قالت: إنَّ هذا الغلام ابن رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله و سلم، فمن أراد أن ينظر إلى مقلتي رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله و سلم فلينظر إلى هذا الغلام، و قد بعث إلي بما علمت، قالت: فأسألك بحق رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله و سلم عليك إلا أخبرتنا بالذي بعث إليك، قالت: إن رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله و سلم جعل طلاق نسائه بيد علي فمن طلقها في الدنيا بانت منه في الآخرة.

و في رواية:كان النبي يقسم نفلاً في أصحابه فسألناه أن يعطينا منه شيئاً و ألححنا عليه في ذلك، فلامنا علي علیه السلام فقال: (حسبكن ما أضجرتن رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله و سلم فتجهمناه)، فغضب النبي مما استقبلنا به علياً ثم قال : ( يا علي إني قد جعلت طلاقهن إليك فمن طلقتها منهن فهي بائنة ) ، ولم يوقت النبي في ذلك وقتاً في حياة ولا موت، فهي تلك الكلمة فأخاف أن أبين من رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم.(1)

هذه كانت لحظات من وخز الضمير مرت بها السيدة عائشة في أثناء سيرها لحربها، و هناك لحظة أخرى مرت بها، لو أنها صغت إليها لجنبت الأمة هذه الفتنة و هذه الدماء، إنها صرختها يوم قالت: (ردوني...

ص: 211


1- ابن شهر آشوب، المناقب، ج3، ص153.

ردوني)!!، ولكن هذه المرة كانت صرختها للرجوع عما نوت و دبرت، عندما سمعت نباح كلاب (ماء الحوأب)، وليتها فعلت!.

ففي طريق سيرها إلى البصرة، وصلت إلى ماء يسمى حوأب نبحت عليها كلابها، فسألت عائشة متوجسة: (أي ماء هذا؟) قالوا: (ماء الحوأب)، فصرخت بأعلى صوتها ثم ضربت بعيرها فأناخته، ثم قالت: (أنا والله صاحبة كلاب الحوأب طروقاً ردوني)، تقول ذلك ثلاثاً،(1) و بهت الجميع! ثم سألوها، فقالت: (سمعت رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله و سلم يقول لنسائه كأني بأحدكن تنبحها كلاب الحوأب. ثم اتجه إلي و قال: إياك أن تكوني أنت يا حُميراء).(2)

و في رواية أخرى ذكرناها سابقاً، إن أم المؤمنين أم سلمة في حديث طويل مع عائشة أخذت تذكرها بأحاديث رسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله وسلم التحذيرية لنسائه عامة و لعائشة خاصة من الخروج لحرب علي علیه السلام، ضارباً على ظهرها قائلاً: (إياك أن تكونيها، يا بنت أبي أمية إياك أن تكونيها يا حميراء أما أنا فقد أنذرتك).(3)

ص: 212


1- الأنصاري، ص217.
2- عبد الرحمن الشرقاوي، ص261.
3- الأنصاري، ص218.

عجباً للسيدة عائشة، فهي كما تذكر المصادر ذكيَّة لمَّاحة حافظة لكتاب اللَّه و رسوله، تحدث بأحاديث كثيرة عن النبي صلی اللَّه علیه وآله وسلم لتكون دستوراً للمسلمين في حياتهم، و تهمل هي كل هذه التحذيرات و الإشارات الواضحة من زوجها النبي الكريم صلی اللَّه علیه و آله و سلم، بحجج شتى، مرة بالنسيان و مرة بالتغافل(1)... جاءها ابن أختها عبداللَّه بن الزبير و حلف لها: (باللَّه لقد خلفت ماء الحوأب أول الليل)... و جاء لها بشهود زور خمسين من الأعراب فحلفوا على ذلك ! ورضخت لحلف الزور، فأين حكمة السيدة عائشة ورجاحة عقلها هنا ، لقد مرت إذن كما أخبرها رسول الله صلی اللَّه علیه وآله وسلم على ماء الحوأب، إن كان أول الليل أو آخره، كما زعموا لها!؟!

ثم ما بال السيدة عائشة تنعت نفسها في مكاتباتها، حبيبة رسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله وسلم، و لاتنفذ وصايا حبيب اللَّه! لو أن امرأة تزوجت لابرسول و نبي، بل برجل شهم و كريم أكرم وفادتها في الحياة الدنيا وكان لها شرفٌ و عزة بين أهلها و قومها لكانت أدنى من زوج النبي صلی اللَّه علیه وآله وسلم و أم المؤمنين في صون و حفظ كل ما كان من زوجها بعد وفاته!.

إنَّ السيدة عائشة نست أو تناست، وهي حافظة الأحاديث، أخوة النبي صلی اللَّه علیه وآله وسلم لعلي علیه السلام، و قوله: سلمك سلمي، و حربك حربي، و قوله: علي مع

ص: 213


1- جواد جعفر الخليلي، أميرالمؤمنين علیه السلام، ج2 ، ص98.

الحق، و قوله: علي علیه السلام مني و أنا من علي علیه السلام، وقوله: لايبغض علياً علیه السلام إلا من خرج من الإيمان(1)... و لاندري كيف خفيت هذه الحقائق و الحجج على على أم المؤمنين و هي الذكية الفطنة؟!(2)

و كيف فات أم المؤمنين، و هي الذكية الفطنة أن فتنة الجمل لم تكن بنتائجها الوخيمة حرباً ضد علي بالذات، بل ضد الإسلام و نبي الإسلام؟!

جمعت حرب الجمل الرذائل والنقائص؛ لأنَّها كانت السبب الأساس لضعف المسلمين وإذلالهم، فلقد كانت أول فتنة ألقت ببأس المسلمين فيما بينهم، يقتل بعضهم بعضاً، بعد أن كانوا قوة على أعدائهم،(3) كما فتحت الباب على مصراعيه لكل الفتن والحروب الداخلية التي تلتها.

ص: 214


1- محمدجواد مغنية، فضائل الإمام علي علیه السلام، ص130.
2- محمدبكر إسماعيل، ص404. { قال عروة بن الزبير: لقد صحبت عائشة فما رأيت أحداً قط كان أعلم بآية نزلت و لابفريضة و لابسنة و لابشعر و لابيوم من أيام العرب و لانسب و لابكذا و لابكذا... و لابقضاء و لابطب منها] !! و كان الشعبي يذكرها فيتعجب من فقهها و علمها. و كان عطاء يقول: كانت عائشة أفقه الناس، و أحسنهم رأياَّ عند المنصفين من أهل العلم و الرأي.
3- محمد جواد مغنية، فضائل الإمام علي علیه السلام، ص139.

جاءت نهاية الحرب بالظفر لأبي الحسن علیه السلام، و لم يبق من الجبهة المقابلة إلا عائشة على قيد الحياة، فما كان موقف الإمام من امرأة شهرت اللسان و السنان ضده؟

حتى قبل أن تنتهي الحرب يفكر علي في وضع عائشة و لايريد لها إلا الكرامة و الحفظ و السلامة، ها هو علي يرى الهودج و قد شكت به السهام حتى كأنه جناح نسر أو شوك قنفذ، فيوجه خطابه لربيبه محمد بن أبي بكر أمراً: (أنظر إذا عرقب الجمل، فأدرك أختك فدارها).(1)

إنه هنا ينفذ وصية أخيه و ابن عمه رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله و سلم إن ظفرت بها فأرفق، فتراه يتقدم نحو الهودج قائلاً: (يا عائشة أهكذا أمرك رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله و سلم أن تفعلي؟) فقالت: يا أبا الحسن علیه السلام ظفرت فأحسن، و ملكت فاسجح(2) فيقول علي علیه السلام: غفر اللَّه لك، و تجيب عائشة: و غفر لک.(3)

إن جميع المصادر و المراجع التاريخيَّة تذكر حسن صنيع الإمام بعائشة فلم تر منه إلا التقدير و الاحترام و الحفاظ عليها حتى أرجعها إلى

ص: 215


1- ابن شهر آشوب، المناقب، ج3 ص189.
2- ملكت فأسجح: أي ظفرت فأحسن و قدرت فسهل و أحسن العفو (لسان العرب، مادة سجح).
3- طه حسين، الخلفاء الراشدون، ص477.

المدينة مراعياً لها حرمة الزوجيَّة لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلم.(1) فهذا علي رجل السلام حتى في الحرب رجل الرحمة حتى في لحظة تشابك السيوف و الرماح. ففي ساحة الحرب يتدبر أمر المرأة الوحيدة في ساعة الوغى، و يطلب من محمد بن أبي بكر، ألاّ تصل إليها يد غريبة عنها: (شأنك وأختك فلا يدنُ منها أحد سواك).(2)

و إذا كان الإمام علي علیه السلام لم يذكر عائشة بفداحة فعلها و صعوبة موقفها هذا، فإنَّ أخاها محمد لم يستطع السكوت، فأخذ يبكتها بوجع. عصيت ربك و هتكت سترك، ثم أبحت حرمتك، و تعرضت للقتل)، و يقبل محمد بن أبي بكر و عمار بن ياسر فيحتملان الهودج و ينحيانه ناحية، و يضرب محمد على هودج أخته فسطاطاً، ستراً لها.

و حتى هنا لايتوقف علي من الاطمئنان على حالها خوف أن يكون قد أصابها سهم من السهام التي شكت الهودج فيأمر علي علیه السلام أخاها محمد صلی اللَّه علیه و آله و سلم أن ينظر أأصابها مكروه. فيدخل رأسه في الهودج فتسأله: من أنت؟ فيقول: أبغض أهلك إليك، فتقول: ابن الخثعمية، فيقول: نعم أخوك محمد صلی اللَّه علیه و آله و سلم، ويسألها أأصابها مكروه؟ فتقول: مشقص في عضدي فينتزعه.(3) و يرسل

ص: 216


1- الأنصاري، ص219.
2- ابن شهر آشوب، المناقب/ 3 ، ص189.
3- طه حسين، الخلفاء... ، ص477.

علي عائشة أسيرته إلى أعظم بيت في البصرة تقيم فيه هو دار عبداللَّه بن خلف الخزاعي، و هو زوج صفية بنت الحارث، و كان عبدالله مع عائشة فقتل في المعركة، و كان أخوه عثمان مع علي و تسلل إلى عائشة في دارها حيث أقامت عدد من الجرحى فأقاموا في الدار، و طلبت لهم عائشة الأمان، فأمر علي بألايتعرض أحدلهم.(1)

وهمَّ بعض أصحاب علي أن يتعرّضوا لعائشة، فزجرهم علي زجراً عنيفاً و قال لهم موبخاً على فعلهم: لقد كنا نؤمر بالكف عن النساء و هن مشركات، و لقد كان الرجل ينال المرأة بالضربة فيعير بذلك عقبه. فلايبلغني أن أحداً منكم قد عرض لامرأة بسوء إن آذنكم و شتمت أمراءكم فأنزل به أشد العقوبة.

و قال لبعض أصحابه: (لاتؤذوا النساء وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم و صلحاءكم، فالنساء ضعيفات).

و بالفعل لقد عاقب رجلين وقفا على باب دار عائشة يغلظان لها القول، فأمر الإمام علي علیه السلام بهما فجلد كل منهما ثمانين جلدة!! وطابت نفس عائشة.(2)

أعطى الإمام علي علیه السلام في هذه الحرب أروع الأمثلة الإنسانيَّة، بل

ص: 217


1- عبدالرحمن الشرقاوي، ص291.
2- المصدر نفسه، ص293.

إنه أظهر و أنضح خالص ما في أنائه المحمدي الهاشمي، فأعلن العفو العام(1) و أصدر أول بيانات المنتصر فكان رحمة وعطفاً... إذ بعث منادياً ينادي بأعلى صوته: (لاتجهزوا على جريح، و لاتتبعوا مدبراً، و لاتدخلوا داراً، و من ألقى السلاح فهو آمن، و من أغلق بابه فهو آمن، و ليس للجيش إلا ما حُمل إلى ميدان المعركة من سلاح و كراع -أي خيل- و ليس لكم ما وراء ذلك من شيء).(2)

و قد أظهر علي سموَّ نفسه العظيمة، و حكمته البالغة عندما بين قدر السيدة عائشة و منزلتها كونها أم المؤمنين و زوجة نبيهم، و كانوا يريدون اقتسام الغنائم قائلين: يا أميرالمؤمنين علیه السلام، تحل لنا دماؤهم، و لاتحل لنا نساؤهم؟ فقال علي علیه السلام : (كذلك السيرة في أهل القبلة)، فلما جادلوه في ذلك قال لهم: (إذن هاتوا سهامكم لنقترع على أمكم عائشة، فقالوا جميعاً: نعوذ باللَّه و نستغفر اللَّه، ثم فاءوا إلى أمره و عادوا إليه مذعنين).(3)

للَّه درك يا أبا الحسن علیه السلام، أنظر كيف ينعتها بأجمل النعوت و الصفات (أمكم) و لم يقل (أسيرتكم) أو (مغنمكم) أو أي كلمة أخرى مرادفة

ص: 218


1- محمدبكر إسماعيل، ص397.
2- محمد جواد مغنية، فضائل الإمام...، ص139.
3- المصدر نفسه...، ص398.

لواقع الحال، إنه علي الذي أدبه فأحسن تأديبه محمد صلی اللَّه علیه و آله و سلم الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه. فلم يركن الإمام إلى الانتقام بعد نصره المبين في المعركة و على الرغم من الخسائر الفادحة في أرواح المسلمين لدى كلا الطرفين، إلّا أن عائشة حظيت بأرقى معاملة إنسانية كأسيرة حرب خاسرة!

عادت عائشة معززة مكرمة إلى المدينة و معها أخوها وبضعة نساء و رجال لحمايتها، لقد جهزها الإمام بخير جهاز من مركب وزاد و متاع و أمرلها باثني عشر ألف درهم.(1) فلما رأت ما أعده لها الإمام قالت: (جزى اللَّه علياً علیه السلام كل خير، جزاه اللَّه الجنة ) و خرجت فودَّعت الناس وقالت: (يا بني لايعتب بعضنا على بعض، إنه واللَّه ما كان بيني و بين علي في القديم إلا ما يكون بين المرأة و بين أحمائها، و إن علياً علیه السلام لمن المصطفين الأخيار).(2)

لقد صان الإمام علي علیه السلام حرمة أم المؤمنين عائشة و هي الباغية عليه، و على الرغم من كلِّ ما صدر منها فأخرج معها أخاها عبدالرحمن بن أبي بكر في ثلاثين رجلاً وعشرين امرأة (و أربعين على رواية أخرى) من ذوات الدين من عبد القيس و همدان و غيرهما، ألبسهن العمائم،

ص: 219


1- عبدالرحمن الشرقاوي، ص294.
2- محمدجواد مغنية، فضائل الإمام علي علیه السلام...، ص138.

و قلدهن السيوف و قال لهن لاتعلمن عائشة أنكن نسوة وتلثمن كأنكن رجال و كن اللاتي تلين خدمتها و حملها فلما أتت المدينة قيل لها: كيف رأيت مسيرك؟ قالت: كنت بخير واللَّه لقد أعطى علي بن أبي طالب علیه السلام فأكثر ولكنه بعث معي رجالاً - فعرفها النسوة أمرهن، فسجدت و قالت: ما ازددت واللَّه يا بن أبي طالب إلا كرماً ووددت أني لم أخرج و أن أصابتني كيت و كيت هذا ما ذكره المسعودي في مروجه و ذكر المالكي في فصوله، و اختار لها أربعين امرأة من نساء البصرة المخبورات المعروفات سيرهن معها.(1)

و قال اليعقوبي: وجَّه معها سبعين امرأة من عبد القيس في ثياب الرجال حتى و افوا بها المدينة.(2)

قد أعلن علي انتصاره على عائشة حتى آخر اللحظات، و كأنه يعلم سريرتها فبعث معها النساء مرافقات مترفقات بها، لتكن هذه آخر حججه عليها.

و فعلُ ابن أبي طالب هذا كان سيكون ذاته مع أي امرأة أخرى غير عائشة، فما كانت المرأة عند علي علیه السلام ممتهنة أو ذليلة في يوم.

ص: 220


1- كاظم النقيب، ص475.
2- محمد جواد مغنية، فضائل الإمام علي علیه السلام...، ص138 - نقلاً عن اليعقوبي ج2، ص173.

بقي أمران: الأول أن السيدة عائشة قد أعلنت ندمها مما أحدثته في الإسلام من شرخ، إذ يروي المؤرخون والمحدثون، أنها كانت أشد المغلوبين حسرة وأعظمهم ندماً وكانت تتلو: (و قرن في بيوتكن) إلى آخر الآية، ثم تبكي حتى يبتل خمارها، وكانت تقول: (لو أني مت قبل هذا اليوم بعشرين عاماً. و كانت تقول بعد رجوعها إلى الحجاز: واللَّه إن قعودي عن يوم الجمل لأحب إلي لو أتيح لي من أن يكون لي عشرة بنين من رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله و سلم.(1) فهل جاء ندمها متأخراً، و لات حين مناص!؟

و قيل أنها جزعت لما احتضرت فقيل لها أتجزعين يا أم المؤمنين و أنت زوجة رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله و سلم و أم المؤمنين و ابنة أبي بكر الصديق؟ فقالت: إنَّ يوم الجمل معترض في حلقي ليتني مت قبله أو كنت نسياً منسيا.(2)

و هل بقي في نفس عائشة تجاه علي ما بين المرأة و أحمائها حتى آخر يوم في عمرها و لم تفرغ كل ما عندها من معاداة لعلي في موقعة الجمل؟

ص: 221


1- طه حسين، الخلفاء...، ص482.
2- أبي الفضل أحمد بن أبي طاهر طيغور، بلاغات النساء، انتشارات الشريف الرضي، قم المقدسة، د. ت، ص17.

حتى أن بعض المصادر تذكر أنها بقيت على عدائها لعلي حتى سمعت قتله فسجدت شكراً اللَّه.(1)

الأمر الثاني، قول بعضهم في أن قول الإمام علیه السلام لهذا الكم من الخطب التي تهجو المرأة و أتباع المرأة التي ألقيت في البصرة و خلال المعركة، هي دليل على نظرة الإمام علي للمرأة و التي اتخذها ضد كل النساء لتأثره من موقف السيدة عائشة منه يوم الجمل.

و هذا ما سنستوضحه في الفصل اللاحق.

ص: 222


1- جواد جعفر الخليلي، أميرالمؤمنين علیه السلام/ ج2، ص98. نقلاً عن أبوالفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين و ذكر البيت الذي قالته: و ألقت عصاها واستقر بها النوى *** كما قرعيناً بالإياب المسافر و قالت: فإن يك نائبا فلقد لفا *** غلام ليس في فمه تراب

الفصَلُ الرَّابِع علي علیه السلام و النساء

إشارة

- علي و النساء في نهج البلاغة

- علي و بلاغات النساء

ص: 223

ص: 224

علي علیه السلام و النساء في نهج البلاغة

ما أن يُذكر نهج البلاغة أمام جمع من النساء والرجال، حتى تقفز أقوالُ الإمام علي علیه السلام في المرأة إلى الأذهان، و تشغل اللسان و الفكر.

و يكون الجمع قد اتخذ حكماً قطعياً مفاده: إنَّ علياً علیه السلام أبغض المرأة !، و موقفه هذا جاء منبثقاً من موقف عائشة منه في حرب الجمل.

و هل نفهم من قوله: «المرأةُ شرٌّ كلّها ، وشرّ ما فيها أنه لابد منها». فيه تحامل من الإمام علي علیه السلام على المرأة، و أنَّه علیه السلام لم يمدحها بكلمة. و هل أسبغ رأيه بعائشة على بقية النساء، فلا توجد في الدنيا امرأة صالحة تستحق المدح؟!.

أمَّا النصوص الواردة في نهج البلاغة فهي مجموعة من الخطب و الرسائل و المواقف و الحِكم قالها الإمام تبعاً للظروف و المناسبات،(1) فمنها ما كان أجوبة عن أسئلة، و منها خطاب لأهل العراق الذين قاتلوا معه الناكثين و القاسطين و المارقين، و منها في وصف عظمة الخالق، و عظمة الإسلام و نبيه، و منها وصايا لأرحامه و أصحابه، و منها في وصف الجنة و النار و الحياة و الموت، و أحوال الإنسان في هذه الدنيا و شأنه،

ص: 225


1- محمدجواد مغنية، فضائل الإمام علي علیه السلام...، ص71.

و منها نفثة روحية إلى غير ذلك.(1) فهناك عشرات الخطب الطويلة والقصيرة الموجزة، يهملها غير المنصف ليتم التركيز على خطب معينة لايتجاوز عددها أصابع اليدين لتكون أسفيناً يدق بين الإمام علي علیه السلام و النساء.

ابتداء نؤسس لفكرة مهمة إنَّ الإمام عليّاً علیه السلام ليس عدواً لأحد، بل هو الحق كله، والحق معه، و هو عدو للباطل و المبطلين. و قد تصفّحنا علاقة الإمام علیه السلام مع نساء في حياته في الفصول السابقة، من أم وزوجة، فكان خير إنسان ينظر إليهن بالنظرة الربانية و الإنسانيَّة معاً.

و المعروف أنَّ كلّ رجل يعطي رأيه عن طريق تجربته في حياته مع المرأة، و عن طريق علاقته بزوجته، فإذا كانت زوجته صالحة اعتقد أنَّ كلّ نساء العالم صالحات، و الإمام علي علیه السلام كانت زوجته (فاطمة الزهراء علیها السلام) سيدة نساء العالمين، و كذلك كانت زوجته المؤمنة أم البنين.(2)

فضلاً عن ذلك فإنَّ الإمام عليّاً علیه السلام، على بيّنة من أمره بأنَّ النساء لسن على درجة واحدة، ففيهن المؤمنة و الكافرة، و التقية و الفاسدة،

ص: 226


1- محمد عبده، نهج البلاغة، منشورات مكتبة النهضة، بغداد، 1986، ص3.
2- مجموعة مؤلفين، نهج البلاغة -نبراس السياسة و منهل التربية، مؤسسة نهج البلاغة، مطبعة سلمان الفارسي، قم -إيران، 1404ه_، ص193.

شأنهن في ذلك شأن الرجال. و قد أوضح ذلك القرآن الكريم بشكل مفصَّل، فضرب مثلاً للذين آمنوا زوجة فرعون التي كان زوجها في مقدمة الكافرين و أشد المعاندين، في حين كانت هي من أعظم المؤمنين، قال تعالى:

«ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ».(1)

فإذا كان الإمام علي علیه السلام يعلم هذا كلّه، ثم بعد ذلك يقول في نهجه:«الْمَرْأَةُ شَرٌّ كُلُّهَا وشَرُّ مَا فِيهَا أَنَّهُ لا بُدَّ مِنْهَا»،(2) أو يقول: (النساء حبائل إبليس)، فهو لايقصد بالمرأة زوجته فاطمة و مثيلاتها ممن سرن على نهجها من المؤمنات، بل يقصد بها أي امرأة قد استحوذ عليها الشيطان فرضخت له.(3)

ص: 227


1- سورة التحريم: آية 10 – 11.
2- نهج البلاغة، باب المختار من حكم أمير المؤمنين علیه السلام، حكمة 229.
3- نهج البلاغة نبراس السياسة، ص194.

أَمَّا من قال إنَّ الإمامَ علیه السلام قد ألقى بثقل ما عنده من خطب في المرأة بعد موقف عائشة منه، عندما عارضت حكمه و خلافته، و ألّبت عليه الجموع و جيشت الجيوش، و لولا موقفها هذا لم ينظر علي إلى المرأة هذه النظرة التي تحطّ من شأنها و قدرها. نقول: إنَّ الإمام ما كان يخشى أحداً في أن يقول رأيه في المرأة قبل عائشة أو بعدها، فأقوال علي تنبع من منبع واحد هو نبع النبوة و الجلالة، فلا يُخالف ما جاء به اللَّه عزّوجل و نبيه المختار صلی اللَّه علیه و آله وسلم قبل حرب الجمل و بعدها. و مبدئية الإمام ليست بحاجة إلى برهان أو دليل.

فعليٌّ علیه السلام الذي يدور مع الحق و الحق يدور معه كيفما دار، لايركن إلى الشهوات أو الميول الذاتية ليستمد منها آراءه لتظهر مواقفه الشخصية بهذه الصورة، وقد تناولنا بتفصيل كيف عامل عائشة قبل الجمل و في أثنائها و بعدها، و كيف أكرمها و هي أسيرة حرب. و المعروف أنَّ الإنسان يكره من يخاصمه و يحقد عليه و لاسيّما إذا كان ضعيفاً، و عائشة كانت في موقف ضعف و هزيمة و مغلوب على أمرها، أسيرة بين يدي الإمام حتى قالت نادمة آسفة: (ليتني لم أكن و أخلق).(1)

ص: 228


1- محمدجواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة، ج1، ص374.

و إنْ كان الإمام قد فضح دواخل المرأة ومن تبعها في بعض الخطب، فإنَّه قد فعل مثل هذا وأكثر في خطب حلَّل فيها شخصية طلحة و الزبير ومروان و أهل البصرة الذين وصفهم الإمام بأسوأ النعوت: «جُنْدَ الْمَرْأَةِ وأَتْبَاعَ الْبَهِيمَةِ...»، فهل أصبح علي بعد هذه الخطب عدواً للرجال أو مبغضاً لأهل مدينة البصرة!؟.

ما كان علي علیه السلام و هو باب العلم، أن يحكم على النساء، كلّ النساء، بسبب امرأة واحدة تلقب بصاحبة الجمل، و يقيس النوع بالفرد؟ إنَّ هذا منطق الجهلاء لاالمعصومين و العلماء.(1)

و قد ذكر الإمام علي علیه السلام في بعض خطبه تخصيصاً فقال: «وأَمَّا فُلانَةٌ فَأَدْرَكَهَا رَأْيُّ النِّسَاءِ وضِغْنٌ غَلا فِي صَدْرِهَا كَمِرْجَلِ الْقَيْنِ وَلَوْ دُعِيَتْ لِتَنَالَ مِنْ غَيْرِي مَا أَتَتْ إِلَيَّ لَمْ تَفْعَلْ وَلَهَا بَعْدُ حُرْمَتُهَا الأُولَى والْحِسَابُ عَلَى اللهِ تَعَالَى».(2)

فعليٌّ علیه السلام خير من أعلن أنَّ للإنسان أحوالاً و أحوالاً، تتباين بحسب المواقف و الظروف و الأشخاص، فهو لايختصر أحوال النساء و مقامهن في حال واحدة، بل حتى عائشة قيّمها بحسب الحالات المتباينة، فهي

ص: 229


1- محمدجواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة، ج1، ص374.
2- محمد عبده، نهج البلاغة/ ج2 ، ص 48.

معه في حال، لن تكونه مع غيره بالحال نفسه لأسباب واضحة عنده و مفهومة، فقال: «... و لَوْ دُعِيَتْ لِتَنَالَ مِنْ غَيْرِي مَا أَنَتْ إِلَيَّ لَمْ تَفْعَلْ».

و من الواضح أنَّ الإمامَ عليّاً علیه السلام كان يرتجل الكلام في خطبه و مواعظه، بل أنَّ بعض خطبه وليدة اللحظة و الموقف، و ربَّما بسب حركة من أحد الحاضرين، أو تعليق أو استفهام؛ لذا ليس بغريب أن يأتي من أبي الحسن بضع خطب تفسر ظاهرة اجتماعيَّة و سياسيَّة و عسكريَّة ولكنها مرتبطة بذلك الموقف، كالتي كانت في حرب الجمل مثلاً، فالمرأة هي القائد، و ليست أي امرأة، إنِّها زوج النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم و أم المؤمنين، فمن المؤكّد أن يكشف الإمام عن حكمته البالغة في قضية خلقت بلبلة في عقول الرجال، فتركتهم في أوضاع متباينة ما بين مناصر ومعادٍ، و مسالم و مقاتل، و مشارك و منزو.

و لنأتي إلى ما قاله الإمام علي علیه السلام في المرأة(1):

1- «وإِنَّ النِّسَاءَ هَمُّهُنَّ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْفَسَادُ فِيهَا».

2- «الْمَرْأَةُ شَرٌّ كُلٌّها وشَرُّ مَا فِيهَا أَنَّهُ لا بُدَّ مِنْهَا».

3- «غَيْرَةُ الْمَرْأَةِ كُفْرٌ وغَيْرَةُ الرَّجُلِ إِيمَانٌ».

4- «الْمَرْأَةُ عَقْرَبٌ حُلْوَةُ اللَّسْبَةِ ».

ص: 230


1- صبحي الصالح، نهج البلاغة، أنوار الهدى، ط 4، مطبعة وفا، 1431ه_.

5- «خِيَارُ خِصَالِ النِّسَاءِ شِرَارُ خِصَالِ الرِّجَالِ: الزَّهْوُ والْجُبْنُ والْبُخْلُ. فَإِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مَزْهُوَّةً لَمْ تُمَكِّنْ مِنْ نَفْسِهَا، وَإِذَا كَانَتْ بَخِيلَةً حَفِظَتْ مَالَهَا وَمَالَ بَعْلِهَا، و إِذَا كَانَتْ جَبَانَةً فَرِقَتْ "فزعت" مِنْ كُلِّ شيء يَعْرِضُ لَهَا».

6- «جِهَادُ الْمَرْأَةِ حُسْنُ التَّبَقُّلِ».

7- من خطبة له علیه السلام بعد فراغه من حرب الجمل، في ذم النساء و بيان نقصهن: «مَعَاشِرَ النَّاسِ إِنَّ النِّسَاءَ نَوَاقِصُ الإِيمَانِ نَوَاقِصُ الْحُظُوظِ نَوَاقِصُ الْعُقُولِ فَأَمَّا نُقْصَانُ إِيمَانِهِنَّ فَقُعُودُهُنَّ عَنِ الصَّلاةِ والصِّيَامِ فِي أَيَّامٍ حَيْضِهِنَّ وأَمَّا نُقْصَانُ عُقُولِهِنَّ فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ كَشَهَادَةِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ وأَمَّا نُقْصَانُ حُظُوظِهِنَّ فَمَوَارِيثُهُنَّ عَلَى الأَنْصَافِ مِنْ مَوَارِيثِ الرِّجَالِ فَاتَّقُوا شِرَارَ النِّسَاءِ وَكُونُوا مِنْ خِيَارِهِنَّ عَلَى حَذَرٍ ولا تُطِيعُوهُنَّ فِي الْمَعْرُوفِ حَتَّى لايَطْمَعْنَ فِي الْمُنْكَرِ».(1)

8 - و قال علیه السلام في وصيته لابنه الحسن علیه السلام بعد انصرافه من صفين: «وَإِيَّاكَ وَمُشَاوَرَةَ النِّسَاءِ فَإِنَّ رَأْيَهُنَّ إِلَى أَفْنٍ وَعَزْمَهُنَّ إِلَى وَهْنٍ وَاكْفُفْ عَلَيْهِنَّ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ بِحِجَابِكَ إِيَّاهُنَّ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحِجَابِ أَبْقَى عَلَيْهِنَّ ولَيْسَ خُرُوجُهُنَّ بِأَشَدَّ مِنْ إِدْخَالِكَ مَنْ لا يُوثَقُ بِهِ عَلَيْهِنَّ وَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَا

ص: 231


1- صبحي الصالح، نهج البلاغة، أنوار الهدى، ص118.

يَعْرِفْنَ غَيْرَكَ فَافْعَلْ ولا تُمَلِّكِ الْمَرْأَةَ مِنْ أَمْرِهَا مَا جَاوَزَ نَفْسَهَا فَإِنَّ الْمَرْأَةَ رَيْحَانَةٌ ولَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَةٍ و لاتَعْدُ بِكَرَامَتِهَا نَفْسَهَا وَلا تُطْمِعْهَا فِي أَنْ تَشْفَعَ لِغَيْرِهَا وإِيَّاكَ والتَّغَائِرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ غَيْرَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْعُو الصَّحِيحَةَ إِلَى السَّقَمِ وَالْبَرِيئَةَ إِلَى الرِّيَبِ».

9- و من وصية للإمام علي علیه السلام لعسكره قبل لقاء العدو بصفين: «و لاتَهِيجُوا النِّسَاءَ بِأَذًى وَ إِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ وَ سَبَبْنَ أُمَرَاءَكُمْ فَإِنَّهُنَّ ضَعِيفَاتُ الْقُوَى و الأنْفُسِ وَ الْعُقُولِ إِنْ كُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالْكَفِّ عَنْهُنَّ وَإِنَّهُنَّ لَمُشْرِكَاتٌ وإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَنَاوَلُ الْمَرْأَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالْفَهْرِ (حجر يدق به الجوز) أَوِ الْهِرَاوَةِ (العصا) فَيُعَيَّرُ بِهَا وعَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ».(1)

10- و هناك كلام له علیه السلام: «إذا بَلَغَ النِّسَاءُ نَصَّ الحِقَاقِ فَالعَصَبَةُ أوْلى».(2)

11- و من كلام له علیه السلام في ذمِّ أهل البصرة بعد حرب الجمل، أشار إليهم بالقول: «كُنتُمْ جُنْدَ الْمَرْأَةِ وأَتْبَاعَ الْبَهِيمَةِ ، رَغَا فَأَجَبْتُمْ ، وعُقِرَ فَهَرَبْتُمْ ، أَخْلاقُكُمْ دِفَاقٌ ، وعَهْدُكُمْ شِفَاقٌ ، ودِينُكُمْ نِفَاقٌ ، وَمَاؤُكُمْ زُعَاقٌ...».(3)

ص: 232


1- نهج البلاغة نبراس السياسة، ص216.
2- صبحي الصالح، ص651.
3- صبحي الصالح، ص41.

من الأقوال السابقة، نجد أنَّ الإمامَ عليّاً علیه السلام يتحدث عن نوع من النساء يجب الحذر منه، فهو يُحذِّر من المرأة المنحرفة التي تعمل بهواها من دون التقيّد بمبدأ، فإذا تركت هذه المرأة عقلها جانباً، و ألقت أوامر الشرع وراء ظهرها لم يعد لها من همٍّ في الحياة غير زينتها و زخارفها، و الانسياق وراء شهواتها فتصبح جديرة بوصف الإمام لها، و عندها تُصبح المرأة شراً كلّها، على الرغم من حاجة الرجل إليها.(1)

و في حكمة أخرى يبيّن الإمام علیه السلام جانباً من نفسيّة المرأة الشريرة، التي دأبها أن تغدر بزوجها، في حين تظهر له حسن معاشرتها، فهي -هنا- كالعقرب التي تلدغ الإنسان بعد أن تعطيه الثقة و الأمانة، فقال علیه السلام: «الْمَرْأَةُ عَقْرَبٌ حُلْوَةُ اللَّسْبَةِ».

إنَّ عناية المرأة بنفسها و زينتها لايخرجها من دائرة الإيمان إنْ اتَّقت اللَّه عز وجل و صغت إلى نواهيه و زجره، فلاتصبح عامل فساد في المجتمع، كما أشار إليها الإمام علیه السلام. و أرى أنَّ هذه الكلمات هي من الغيبيات من أخبار الإمام بحق النساء في زماننا، إذ أصبحت الرقم الأول في الإفساد، في ظهورها وابتذالها في الصور و المجلات و الإعلانات و الأفلام و الأغاني، حتى أنك لو أخفيت وجود المرأة من هذه الأعمال لخفَّ كثيراً عنصر الفساد.

ص: 233


1- نهج البلاغة -نبراس السياسة...، ص217.

و قد أشار المفكر الإسلامي المرحوم محمد جواد مغنية إلى هذا المعنى في تفسيره لهذه الحكمة بالقول: «كان المجتمع القديم يحرّم على المرأة أنْ تسهم مع الرجل في كثير من شؤون الحياة، و يفرض عليها ألواناً من التحريمات، و يسمح لها بما يتلاءم مع طبعها كالزينة وجر الذيول، ولكن في بيتها وساحة منزلها... و مضت الأيام، و تغيّر الزمان، و قنصت المرأة (حقوقها) من الرجل... و تطورت الزينة مع الزمن حتى صارت علماً، فخبراء لأزياء الملابس وكعوب الأحذية، و آخرون لصف الشعور، و رجال للتدليك و المكياج، و تمرينات من أجل الرشاقة و نحافة الخصور!... و هكذا ظهرت المرأة -في عصر الثورة والحرية- على طبيعتها من الاهتمام بزينة الحياة الدنيا، و تجاوزت من أجلها كل حد، و إلى هذا التجاوز أشار الإمام بكلمة الفساد...».(1)

ص: 234


1- محمدجواد مغنية، في ظلال نهد البلاغة/ ج2، ص384. مع الأخذ بنظر الاعتبار أن هذا الكلام ساقه المؤلف عن حال النساء في بدايات السبعينات من القرن المنصرم، و لم تنظر عينيه ما وصل إليه حال المرأة والنساء في زماننا هذا، حيث العري هو التقدم ، والانفلات هو الحرية، و التعفف والحجاب يوصم بالتخلف و مانعاً للتفكير!؟! و قد قال الإمام علي علیه السلام في مستدرك نهج البلاغة ص176: "يظهر في آخر الزمان و اقتراب الساعة -و هو شر الأزمنة- نسوة كاشفات عاريات، متبرجات خارجات من الدين، داخلات في الفتن، مائلات إلى الشهوات، مشرعات إلى اللذات، مستحلات للمحرمات، في جهنم خالدات".

و قد توسَّع علماء الدين والفكر في تناول وشرح ما جاء في كلام الإمام علي علیه السلام في المرأة و أحوالها وكيفيَّة التعامل معها، و مع ذلك تبقى قضية (نقص النساء ) مثيرة للجدل، فبعض النساء يتهمن الإمام بالتحامل على المرأة؛ لأنَّه وسمها بالنقص. ولكنَّ كلام أبي الحسن واضح لالبسَ فيه لمن أراد الفهم و التعلم، فكلامه في المرأة مرتبط بمواقف معينة وظروف خاصة، و ليس صحيحا إعمامه على المرأة في جميع أحوالها، و إذا كانت كلمة النقص قد أثارت الحفيظة فعلينا أن نضع في الحسبان أنَّ كل شيء لايملكه الإنسان هو نقص فيه.(1)

و قد حدَّد الإمام علي علیه السلام نقص المرأة في ثلاثة مجالات هي:

(نقص العقول، و نقص الحظوظ، نقص الطهارة)، و أمَّا نقص الطهارة فقد عبَّر عنه الإمام بنقص الإيمان في قوله:«إِنَّ النِّسَاءَ نَوَاقِصُ الإيمَانِ»؛ ذلك أنَّ العبادة التي هي لُبّ الإيمان لا تستقيم من دون طهارة، فإذا كان الرجل يستطيع ممارسة العبادات في كلِّ وقت فإنَّ المرأة تقعد عن الصلاة و الصيام في أيام الحيض، و أيام القعود تشغل ربع حياتها.(2)

ص: 235


1- نهج البلاغة -نبراس السياسة، ص223.
2- المصدر نفسه، ص224.

و هذا نقص تكويني من الخالق المبدع و ليس نقصاً في الأهلية، لأداء مهمة أخرى، فإنَّ حال الحيض لما تفرضه وظيفة المرأة المقدسة في الحمل والإنجاب والإرضاع، فهو ليس منقصة للمرأة بل كرامة تعتز بها، و مكانة لايزاحمها فيها الرجل، و بهذا تكون المرأة منجبة للأجيال و صانعة للأبطال و حاضنة للرسل و الأنبياء و الأتقياء.

لكنَّ العقولَ القاصرة و النفوس المريضة تترك اللب و تأخذ بالقشور، فلاتوضح المقاصد العميقة لقول الإمام، و تثير زوبعة قصور المرأة إيمانيًا للطعن في دورها الرسالي و واجباتها الدينية.

إن رأي الإمام علیه السلام و قوله هنا لايخالف ما جاءت به السماء، و لايخالف رأي النبي صلی اللَّه علیه و آله وسلم، فرسول اللَّه وصفها بالوصف الذي نعتها به الإمام، بل إن الإمام نقله بالحرف الواحد عن النبي صلی اللَّه علیه و آله وسلم، فقد جاء في الجزء الأول من صحيح البخاري، كتاب (الحيض)، باب: ترك الحائض الصوم، ما نصه بالحرف الواحد(1): (خرج رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى، فمر على النساء، فقال يا معشر النساء تصدّقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقلن بمَ يا رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله وسلم؟

ص: 236


1- محمدجواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة، ج1، ص374.

فقال: تكثرن اللعن، و تكفرن العشيرة، ما رأيت ناقصات عقل و دين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن. قلن له: و ما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله وسلم؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى. قال فذاك نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل و لم تصم؟ قلن: بلى. قال ذاك من نقصان دينها)... فإذا كان قول النبي صلی اللَّه علیه و آله وسلم في المرأة بوحي من اللَّه فيجب أن يكون قول الإمام كذلك و هو ربيبه و تلميذه.(1)

و قال الشيخ محمد عبده رأيه في هذه الحكمة: (خلق اللَّه النساء، و حملهن على ثقل الولادة و تربية الأطفال إلى سن معين لايكاد ينتهي حتى تستعد لحمل و ولادة، و هكذا فلايكدن يفرغن من الولادة و التربية فكأنهن قد خصصن لتدبير أمر المنزل و ملازمته و هو دائرة محدودة يقوم عليهن فيها أزواجهن، فخلق لهن من العقول بقدر ما يحتجن إليه في هذا، و جاء الشرع مطابقاً للفطرة فكن في أحكامه غير لاحقات للرجال لا في العبادة و لاالشهادة و لا الميراث).(2)

لقد وصم الإمام علي علیه السلام العديد من الرجال بضعف الإيمان والعقل، و أسماهم بأشباه الرجال، و كان من تقريعه لأهل البصرة أن

ص: 237


1- محمدجواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة، ج1، ص375.
2- محمد عبده، ج1، ص129.

وصفهم بالقول: «كُنْتُمْ جُنْدَ الْمَرْأَةِ و أَتْبَاعَ الْبَهِيمَةِ...» و بأنهم ضعاف العقول و الدين و الأخلاق، فهم بلاعقل لأنهم أتباع البهيمة، و هم بلادين لأنهم منافقون، و هم بلاأخلاق لأنهم نكثوا العهد.(1)

و لم يخالف الإمام علي علیه السلام قوله تعالى:«لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ»،(2) عندما ذكر نقص حظوظهن، و يقصد به حظ المرأة في الإرث، فنصيب النساء على الأنصاف من نصيب الرجال، و هذا فيه تكريم كبير للمرأة. فعندما لم يطالب الإسلام المرأة بأية نفقة، نراه يعطيها نصف ما يعطي الرجل، في حين يطالب الرجل بالإنفاق على أسرته و والديه و على إخوته أيضاً إن كانوا محتاجين، فالتفريق في سهم الإرث إنما هو من مستلزمات التباين في الوظيفة و التكليف بين الرجل و المرأة.

و لو أعطى اللَّه المرأة كالرجل لكان ذاك ظلما و جوراً. و هكذا نرى أن هذا النقص أيضاً ليس مدعاة للحط من قيمة المرأة، بل هو لتحقيق العدل و الإنصاف و التعادل بين الحق و الواجب.(3)

و أمَّا قضية نقص العقول فقد ورد الحديث عنها في موضع آخر من، و ذلك في وصيته لعسكره قبل لقاء العدو في صفين، بعدم التعرض

ص: 238


1- محمدجواد مغنية، في ظلال شرح نهج البلاغة، ج1 ، ص125.
2- سورة النساء، آية 11.
3- نهج البلاغة -نبراس السياسة، ص225.

للنساء بأذى و إن تفوهن بألفاظ السب و الشتم يقول علیه السلام: «و لا تَهِيجُوا النِّسَاءَ بأذًى و إِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ و سَبَيْنَ أُمَرَاءَكُمْ فَإِنَّهُنَّ ضَعِيفَاتُ الْقُوَى و الأنفُسِ و الْعُقُولِ).

و هذا قول حق، فالمرأة تحكمها عاطفتها، و من صفة المرأة إذا أثيرت حفيظتها، أنها تسترسل في التفوه بأنواع الكلام، من دون أن تستطيع كبح جماح نفسها و عاطفتها؛ و لهذا السبب عدَّ الشارع المقدّس شهادة المرأتين كشهادة الرجل الواحد؛ لأنَّ المرأة بدافع عاطفتها الغالبة عليها يمكن أن تحور مضمون الشهادة فتخرجها عن حقيقتها فضلاً عن أنَّها كثيرة النسيان، و لاينفي ذلك تمتع العديد من النساء بعقول ناضجة قد تفوق عقول الرجال.

و الأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ الإنساني و الإسلامي، فها هي المرأة المخزومية التي ناقشت عمر بن الخطاب في مهر النساء فأفحمته حتى قال: ألا تعجبون من إمام أخطأ وامرأة أصابت، فاضلت إمامكم ففضلته؟!، و هناك العديد من الأمثلة ذكرها ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة تعالج هذا الأمر.

و غلبة العاطفة على المرأة وأحكامها أمر لا يبتعد عن الحقيقة، و لايوجب النفور أو العتب، و من هذا المنطلق نهى النبي صلی اللَّه علیه و آله وسلم عن إمارة النساء، لأنها إذا حكمت تحكم لهواها، فتشيع في الأرض الفساد، و هذا

ص: 239

من علامات آخر الزمان و قيام الساعة. قال النبي صلی اللَّه علیه وآله وسلم: (إذا كان أمراؤكم أخياركم، و أغنياؤكم سمحاكم، و أمركم شوى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها. و إذا كان أمراؤكم أشراركم، وغنياؤكم بخلاؤكم و أمركم إلى النساء، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها).(1)

فللمرأة وظيفتها الربانية التي خلقت لها و أبدعت فيها، إذ يؤكد الإمام علیه السلام في قول آخر له أن وظيفة المرأة هي في ممارسة الأعمال المناسبة لها، فهي لم تخلق لتحمل المسؤوليات الشائكة و الأعمال التي تضر بأنوثتها بل خلقت لتظل وردة جميلة و ريحانة عطرة لأهلها و أسرتها، فقال علیه السلام: «و لاتُمَلِّكِ الْمَرْأَةَ مِنْ أَمْرِهَا مَا جَاوَزَ نَفْسَهَا فَإِنَّ الْمَرْأَةَ رَيْحَانَةٌ و لَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَةٍ»، و في هذا رفق كبير بالمرأة يتناسب مع رقتها و أنوثتها و لايزيدها أعباء فوق أعبائها.

عبَّر الإمام علیه السلام خير تعبير عن حالات المرأة وأوضاعها وأصنافها، و لم يبخل عن إسداء بعض الإرشادات الضروريَّة للرجال، في كيفية معاملة نسائهم و الحفاظ عليهن، فالمرأة التي تنساق عادة وراء عاطفتها يجب أن تكون في ظل رجل يصونها، و يمحضها النصيحة و الرأي الصائب، الذي يجعلها تفوز بسعادة الدنيا و الآخرة.

ص: 240


1- نهج البلاغة -نبراس السياسة، ص221.

ومن هنا يأتي قول الإمام علي علیه السلام في آخر وصيته التي كتبها لابنه الحسن علیه السلام عند انصرافه من صفين: «إِيَّاكَ ومُشَاوَرَةَ النِّسَاءِ»، ولكن هذا لا يعني انتفاء وجود نساء أرجح عقلاً وأقوى عزيمة من الرجال، فإذا كانت المرأة ذات رأي قويم و عزم قوي فلماذا لا يشاورها الرجل، و لايمكنها بجسيم المهمات و الأعمال؟ و ها هي مولاتنا سيدة الأحزان العقيلة زينب بنت علي علیها السلام قد كلفها أخوها الإمام الحسين علیه السلام بجسيم المهمة من بعده في كربلاء، بأن تتابع نهضته الرسالية، و أن تبين للملأ أهدافها و مراميها، فقامت بذلك بكل ثبات ورباطة جأش ، وحمت ابن أخيها الإمام زين العابدين علیه السلام و جميع السبايا، فكانت بذلك (بطلة كربلاء)،(1) و أمثولة الإباء.

و التباين في الأحوال ما بين امرأة و أخرى، و ظرف و آخر، ينعكس كذلك على مسألة الحجاب و التستر، فإن كان الإمام علیه السلام قد قال:«واكْفُفْ عَلَيْهِنَّ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ بِحِجَابِكَ إِيَّاهُنَّ» فهو يتبع خطى الرسول الأعظم صلی اللَّه علیه و آله وسلم و تعاليم القرآن الحكيم الذي جاء فيه: «وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ»، و قال سبحانه في حجاب الرأس: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ

ص: 241


1- نهج البلاغة -نبراس السياسة، ص219.

وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ».(1) و جاء هذا النص موظَّفاً في كلام الإمام علي علیه السلام: «وإنِ اسْتَطَعْتَ أَلا يَعْرِفْنَ غَيْرَكَ فَافْعَلْ».

و على الرغم من أنَّ الخطاب في هذه الوصية موجّه إلى الإمام الحسن علیه السلام ولكنه كلام خاصّ يُراد به عموم المسلمين؛ لأنَّ عقيلات و نساء أهل البيت علیهم السلام كن أشد الناس تمسكاً وتطبيقاً لتعاليم الشريعة. و قد ذكرنا رواية ابن شهر آشوب في المناقب أنَّ النبي صلى اللَّه عليه و آله و سلم قال لفاطمة علیها السلام: «أي شيء خير للمرأة؟ قالت: أن لاترى رجلاً و لايراها رجل. فضمَّها إليه و قال: ذرية بعضها من بعض».

و قد أثر عن العقيلة زينب علیه السلام أنها كانت لاتعرف من باب دارها غير وجهه الداخلي، و كانت عندما تضطر إلى مغادرة بيتها، تخرج ليلاً محجبة و معها الحسن علیه السلام عن يمينها، و الحسين علیه السلام عن شمالها، و أبوها أمير المؤمنين علیه السلام أمامها. و هكذا كانت مولاتنا سكينة بنت الحسين عليها السلام شبيهة بجدتها فاطمة الزهراء علیها السلام، فكانت منقطعة إلى العبادة و دائمة الاتصال مع اللَّه عزّوجل، لاتغادر بيتها، و لاتلتفت عن مسجدها، حتى أنه لما خطبها ابن عمها الحسن المثنى بن الإمام الحسن علیه السلام،

ص: 242


1- سورة الأحزاب: 59.

قال له أبوها الحسين علیه السلام: «أعطيك فاطمة علیها السلام ابنتي فهي كأمي الزهراء علیها السلام في العبادة، أمَّا سكينة فلا تصلح لرجل، لأنها غالب عليها الاستغراق مع اللَّه».(1)

و على الرغم من كلِّ هذا التبتل في حب اللَّه و طاعته، إلّا أن المقامات والأحوال تختلف، فيفرض الواقع الموضوعي على المرأة أن تقف مع الرجل جنباً إلى جنب لتسجل موقفاً بطولياً و رسالياً يدفع إليه التكليف الشرعي و ضرورة الحفاظ على حياة الإسلام و على حيويته، وع لى حدوده و ثغوره، و هذا ما كان من مولاتنا فاطمة الزهراء علیها السلام و من بعدها ابنتها العقيلة زينب علیها السلام و سواهن من عقائل الرسالة يشاركن في تسجيل مواقف رسالية و سياسية علنية و في ملأ من الناس مع عدم التخلي عن الالتزام بالحجاب و عدم الإخلال به.

و هنا أذكر قولاً لمعاوية أشار فيه إلى خروج الزهراء علیها السلام و كأنَّه يُعيب على الإمام علي علیه السلام هذا الموقف.

ففي كتابه إلى الإمام نقله اليعقوبي أشار إلى: ( و أعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلاً على حمار و يداك في يدي ابنيك الحسن والحسين علیهما السلام يوم

ص: 243


1- نهج البلاغة -نبراس السياسة، ص230.

بويع أبي بكر الصديق فلم ترع أحداً من أهل بدر و السوابق إلا دعوتهم إلى نفسك و ميت إليهم بامرأتك و أدللت إليهم بابنيك...).(1)

و ما معاوية بأعرف من أميرالمؤمنين علیه السلام بواجبات السماء. و ما هو بأحرص منه بحفظ العقائل، و ما كان خروج الزهراء علیها السلام مع علي مناصرة له إلا لإلزام المسلمين الحجة في تركهم وصية النبي المصطفى صلي اللَّه علیه و آله و سلم في خلافة ابن عمه المرتضى علیه السلام.

إنَّ نظرة الإمام علي علیه السلام هي عين نظرة الإسلام، و ذات نظرة النبي صلی اللَّه علیه و آله وسلم، فهو الذي تربى في أحضان النبي صلی اللَّه علیه وآله و سلم و زقه العلم زقاً، حتى أصبح باب مدينة العلم، و هو إمام الإنسانيَّة و الرحمة، فمما يجافي العقل أن نتصور تحامل له على المرأة أو غيرها يميل لهوى شخصي، أو تقبيح لموقف شرس آذاه.

لقد كان سيد الأوصياء علي علیه السلام دقيقاً في وصفه دقيقاً في كلمه، مراعياً لربه في أقواله و أفعاله، فها هو لايترك صغيرة و لاکبيرة إلا أوصى بها، و من هنا كانت وصيته في نسائه اللاتي تركهن بعده، فيذكرهن بالقول: (و من كان من إمائي، اللاتي أطوف عليهن، لها ولد، أو هي حامل،

ص: 244


1- علي الأحمدي الميانجي، ص194 . نقلاً عن تيسير الوصول، ج2، ص46.

فتمسك على ولدها، و هي من حظه، فإن مات ولدها، و هي حية فهي عتيقة، قد أخرج عنها الرق، و حررها العتق ).(1)

رعى الإمام علي علیه السلام المرأةَ و حافظ على حقوقها، و حفظ لها مكانتها و لننظر بتمعن في أقواله للزهراء علیها السلام في حياتها و مرضها و عند دفنها و بعد رحيلها...، كيف احتلت المكانة الكبيرة في نفسه و حياته؛ لذا كان علي حاضراً في أقوال النسوة و بلاغاتهن حتى بعد رحيله، فماذا قلن النساء في علي.

ص: 245


1- صبحي الصالح، ص481.

علي علیه السلام في بلاغات النساء

كما كانت المرأة حاضرة في أقوال و خطب الإمام علي علیه السلام، كذلك كان علي علیه السلام حاضراً في خطب النساء و بلاغتهن التي نقلتها لنا المراجع التاريخيَّة.

إنَّ التأكيد على علیه السلام خطب النساء أو بلاغاتهن هنا لتوضيح ما لهذه الوسيلة التوثيقية من أهمية في حفظ وقائع تاريخيَّة حدثت في زمن غير زماننا، فضلاً عن ذلك فإنَّ الخطبة كانت تعدّ الوسيلة الإعلاميَّة الأكثر تأثيراً في نفوس المتلقين آنذاك، فالعرب بوصفهم كياناً مجتمعيّاً، و حضارة حية، اعتزوا بالكلمة و إلقائها، و كانت مشاهدهم و وقفاتهم الحاسمة تؤطرها خطب و أشعار تلقى فتبين الهدف من الجمع أو المشهد، ثم تثير المشاعر و تخطف العقول بأفكار تصوغها كلمات تتناقلها فيما بعد الأفواه إلى أبعد مدياتها، فتصبح و ثيقة حية لا تموت، تؤطر حياتهم و ما مر بهم من وقائع.

و حيثما كانت الكلمة لها هذا الوقع المبين في أنفسهم فإن الله عز وجل قد أنزل عليهم معجزة نبيهم من لدنها، فكانت كلمات معجزات في كتاب معجز منزل من السماء اسمه القرآن.

ص: 246

و سوف نتناول في بحثنا هذا بلاغات النساء من خطب ذكرت الإمام علي علیه السلام و ما له من فضل و أسبقية في الإسلام، و سنسلط الضوء على علیه السلام خطب سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء علیها السلام التي بيّنت فيها خصال أبي الحسن و انتصارها له، مع بعض خطب للوافدات على معاوية ممن اشتملت كلماتهنّ على شهادات لفظية راقية حفظت للإمام علي علیه السلام إمامته و وصايته بعد النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم، و أبانت مدى الاعتزاز و التقدير الذي أكنته قلوب هذه النسوة إزاء علي في حياته و بعد استشهاده.

كان علي علیه السلام حاضراً في خطب و أقوال الزهراء علیها السلام تصريحاً و تلميحاً، في دفاعها عنه و عن حقه في الخلافة بعد النبي المصطفى صلى الله عليه وآله و سلم، و كذلك كان حاضراً في خطب من صاحبه و من أحبه، لاأحد يستطيع نكران فضله و سمو خصاله و تعدد فضائله.

و لو تفحصنا خطب الوافدات على معاوية لوجدنا كماً من الأقوال البلاغيَّة، جاءت على ألسن أنطقها الحق و لم تأخذهن فيه لومة لائم، فلم يمنعهن الخوف من جور سلطان معاوية غريم علي و قاتله، أن يذكرن لأبي الحسن بعض من فيض محاسنه. فقد لاحق معاوية كل أصحاب علي علیه السلام و مريديه و قتلهم شر قتلة، و هم المتبتلين في حب علي علیه السلام، ذاك النور المحمدي الحاضر بينهم و إن غاب عنهم، و ما خطبة ضرار فيه ببعيدة عن الأذهان.

ص: 247

و يبقى للنساء شرف الوقوف هذا الموقف المبدئي من الإمام علي علیه السلام، و القائلات فيه مقالة أرَّختها صفحات التاريخ، و وثقتها الكتب و المراجع، فأصبحت من درر الكلم و مأثور القول.

إنَّ هذه الخطب هي وسيلة إعلاميَّة، و رسائل إعلاميَّة فائقة الأهمية نشرها معاوية رغماً عنه، و من دون أن يدري إن استنطاقه لهؤلاء النسوة إنما كان يسجل شهادات تقدير (رسمية) تاريخية بحق علي علیه السلام.

أمَّا الزهراء علیها السلام فقد قدمت دوراً إعلامياً متميزاً بإلقاء خطبتها المسجد النبوي الشريف، و من ثم أقوالها لمن زارها من النساء في بيتها بعد احتجابها عن المجتمع الظالم لها، و هي دائمة التذكير بحق زوجها قائلة: (ما صنع أبوالحسن علیه السلام إلا ما كان ينبغي له أن له أن يصنع... و لقد صنعوا ما اللَّه حسيبهم و طالبهم).(1)

إن موقف الزهراء علیها السلام، السياسي - الإعلامي في توضيح (ما هي الإمامة) في ذاك اليوم و في تلك الخطبة العصماء هو موقف عظيم، فهي علیها السلام لم تكن معزولة عن حركة المجتمع، و لاعن تداعيات الموقف، و قضايا العدل و الظلم، بل كانت تشارك مشاركة حقيقية، بحسب ما قدر لها، فهي على الرغم من أنها علیها السلام ابنة رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله و سلم، و زوجة علي علیه السلام

ص: 248


1- مريم فضل اللَّه، ص210.

و سيدة نساء العالمين و أطهر النساء، و أبعدهن عن الدنس، و تتمثل فيها كل صفات الكمال، لكنها لم تتخل عن مسؤولياتها عندما واجهت الانحراف و الظلم، فقد كانت علیها السلام على استعداد لتحمل كل المحن و الأذى.(1)

فالزهراء علیها السلام في وقفتها تلك لم تكن راغبة في الظهور إلى العلن لمجرد الظهور، بل إنها كانت عازفة عن كل الخلق لجثوم حزنها على أبيها المصطفى صلي اللَّه علیه و آله و سلم على قلبها، و انذهالها عن الحياة و مباهجها، و ركونها إلى سكب الدمعة في بيت الأحزان.

و أمسكت الزهراء علیها السلام صامتة لاتعقب، و مضت أيام بعد وفاة النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم و هي في عزلة عن الناس، لاتنشط للنضال عن ميراثها الذي أباه عليها أبوبكر، و هل أبقى لها الحزن من قوة تسعفها على نضال..؟ تظل منطوية على جراحها و حزنها، لو لم يدعها الواجب، أن تؤدي حق زوجها و ولديها عليها، فتسعى في رد الأمر إلى أهل بيت الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم.(2)

عرفنا ما كانت عليه الزهراء علیها السلام من خشونة الحياة و شظف العيش،

ص: 249


1- محمد باقر الحكيم، الزهراء عليها السلام..، ص42.
2- ذكر تفاصيل هذه الأحداث، ابن سعد في طبقاته / ج2، ص60 و ما بعدها؛ و كذلك البخاري و مسلم و الترمذي و ابن ماجة و ابن حنبل.

وكانت الدنيا في عينيها أحقر من ذبابة طفيلية تنظر إليها باشمئزاز، و لهذا كانت أكبر من أن تنازع، أو تخاصم أحداً لأجل الإرث المادي و غيره من متاع الدنيا، فهي تعلم علم اليقين بأن حياتها قصيرة لاتبقى بعد أبيها إلا أياماً معدودات كما أخبرها النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم بذلك.(1)

و لكن الزهراء علیها السلام كان لابد لها من هذه الوقفة، و لولا موقفها في ذلك اليوم المشهود، إلى جانب أميرالمؤمنين علیه السلام لكان من الممكن أن تخفى الإمامة على الأجيال التي جاءت بعد علي علیه السلام. و تتشوه الحقائق و تتغير، و لولا إكمالها دور علي علیه السلام في ذلك اليوم، لكان من الممكن اختفاء حقيقة وصاية علي علیه السلام و ولايته على کل المسلمين في الأجيال اللاحقة للرعيل الأول. لقد كان للزهراء علیها السلام في خطبتها و أقوالها تلك دور عظيم في حفظ الإسلام، و الحقائق الإسلاميَّة، و المنهج و المذهب الصحيح الذي توارثته الأجيال عن أهل البيت علیهم السلام.(2) و هذا الدور شبيه إلى حد كبير، بتكاملية الدور الرسالي الذي وقفه أبناؤها من بعدها (الحسين و زينب علیهما السلام) في كربلاء، و لولا هذا التكامل في الأدوار لم يحفظ الدين، و لم يبق.

ص: 250


1- مريم فضل اللَّه، ص213.
2- محمد باقر الحكيم، ص42.

ها هي فاطمة الزهراء علیها السلام تخاطب أبابكر موضحة منزلتها و منزلة زوجها علي من الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم إن أنكروا أو تجاهلوا بالقول: (لقد جاءكم رسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحیم فإن تعرفوه تجدوه أبي دون آبائكم و أخا بن عمي دون رجالكم).(1)

ثم تأخذ في تبيان حسن بلاء أبي الحسن علیه السلام في الحروب التي خاضها النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم و المسلمون قائلة: (كلما حشوا ناراً للحرب أطفأها و نجم قرن الضلال و فغرت فاغرة من المشركين قذف بأخيه في لهواتها، فلاينكفئ حتى يطأ حماقها بأقمصه و يخمد لهبها بحده مكدوداً في ذات الله قريباً من رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم سيداً في أولياء الله و أنتم في بلهنية و ادعون آمنون).(2)

و من بعد إظهار الزهراء علیها السلام لموقف علي في الحرب و موقفهم، تعرج على انكفائهم و انقلابهم عن الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم بعد موته بلحظات، قائلة: (هذا و العهد قريب و الكلم رحيب و الجرح لما يندمل) مشيرة بذلك إلى ما كان منهم عند وفاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فإنهم انصرفوا عن غسله إلى تنصيب خليفة عليهم يلي أمورهم بعد النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم و لم يشتغل بغسله و تكفينه إلا علي و آل البيت علیهم السلام.

ص: 251


1- أحمد بن أبي طاهر طيفور، بلاغات النساء، ص24.
2- المصدر نفسه.

و يذكر زيد بن علي عن عمته زينب بنت الحسين علیه السلام رواية مشابهة لهذه الخطبة و ظروفها بالقول: (لما بلغ فاطمة علیها السلام إجماع أبي بكر على منعها فدك لاثت خمارها و خرجت في حشدة نسائها ولمة من قومها تجر أذراعها ما تخرم من مشية رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله و سلم شيئاً حتى وقفت على أبي بكر و هو في حشد من المهاجرين و الأنصار، فأنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء.(1)

إنَّ الزهراء علیها السلام ما أرادت إلا أن تلقي برسالتها الإعلامية المتكاملة الأركان، البينة في حججها على ملأ من الناس، و أكبر وأكبر جمع من المستمعين لها، لتكون حجة على من أصغى إليها و تلقى الرسالة، و أن تضمن وصولها إلى أكبر عدد ممن حضرها و لم يحضرها. فقد كان لها أن ترسل الإمام علي علیه السلام في طلب أبي بكر و من التف حوله في إمضاء أمره، و تسلمه رسالتها إليه، و لكنها أعطت درساً تاريخياً في ضرورة إظهار الحق و الصدع به إينما كان، بأسلوب الإعلان و الإعلام لأكبر عدد من المتلقين، حتى إنها علیها السلام كانت غالباً ما تلتفت إلى أهل المجلس(2) مخاطبة لهم و مذكرة بواجباتهم و مواقفهم من الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم و الرسالة المحمدية.

ص: 252


1- ابن طيفور، ص26.
2- المصدر نفسه، ص28.

فهي القائلة لهم: (ثم انتم عباد اللَّه نصب أمر اللَّه و نهيه و حملة دينه و وحيه و أمناء اللَّه على أنفسكم و بلغاؤه إلى الأمم زعمتم حقاً لكم الله فيكم عهد قدمه إليكم و نحن بقية استخلفنا عليكم و معنا كتاب اللَّه بينة بصائره..)،(1) أي زعمتم أن لكم حقاً في الخلافة أو في منعنا الإرث فأين عهد الله لكم بذلك؟!

أو تقول لهم (معاشر المسلمة المسرعة إلى قبل الباطل المغضية عن الفعل الخاسر...) أو قولها للأنصار: (معاشر النقباء و أعضاء البقية و أنصار الدين و الملة و حضنة الإسلام، ما هذه الغميزة في حقي و الإعراض عن ظلامتي؟ أما كان رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله و سلم أبي يقول: المرء يحفظ في ولده؟... إيها بني قيلة(2) أهظم تراث أبي و أنتم بمرأى مني و مسمع...).(3)

إن الزهراء علیها السلام و هي الشمس المشرقة في المجتمع و غير المخفية شخصها الكريم عن الحضور، ما كنت تبدأ خطبتها -رسالتها الإعلامية إلا بالتعريف هكذا:(أيها الناس أنا فاطمة علیها السلام و أبي محمد صلی اللَّه علیه و آله وسلم...).(4)

و (.. بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية أني ابنته).(5)

ص: 253


1- ابن طیفور، ص28.
2- و هما قبيلتا الأنصار: الأوس و الخزرج.
3- ابن شهر آشوب، المناقب/ 2، ص235.
4- المصدر نفسه، ص29.
5- محمد جواد الطبسي، ص246.

و ها هو أبوبكر يرد عليها مؤكداً صدق كلامها و حججها التي أوردتها قائلاً لها: (...كان أباك دون النساء و أخا ابن عمك دون الرجال آثره على كل حميم و ساعده على الأمر العظيم، لايحبكم إلا العظيم السعادة و لايبغضكم إلا الرديء الولادة و أنتم عترة اللَّه الطيبون و خيرة الله المنتخبون على الآخرة أدلتنا و باب الجنة لسالكنا و أما منعك ما سألت فلا ذلك لي...).(1)

هذه الخطبة العصماء و إن كنا اعتمدنا على ما رواه ابن طیفور و ابن شهر آشوب إلا أنَّ الخطبة رواها آخرين منهم: الجوهري،(2) و المسعودي في مروج الذهب، و ابن أبي الحديد،(3) و الأربلي،(4) و السيد المرتضى في الشافي، و العلامة المجلسي،(5) و الطبرسي،(6) و الطوسي،(7) و الطبري.(8)

ص: 254


1- ابن طيفور، ص31.
2- السقيفة: ص98.
3- شرح نهج البلاغة/ ج16، ص211.
4- كشف الغمة/ ج2، ص105.
5- بحار الأنوار/ ج8 ، ص105.
6- الاحتجاج/ ج1، ص131.
7- أمالي الطوسي، ص680.
8- دلائل الإمامة، ص30. نقلاً عن: محمد جواد الطبسي، حياة الصديقة، ص242 و ما بعدها.

إن فاطمة الزهراء علیها السلام عندما تضع صنائع الإمام علي علیه السلام أمام أعينهم في خطبتها تلك تنير في عقولهم دلالات المقارنة بينه والآخرين أينما كانوا، و هي القائلة لهم:(قذف أخاه في لهواتها فلا ينكفئ حتى يطأ جماحها بأخمصه و يخمد لهبها بسيفه، مكدوداً في ذات اللَّه، مجتهداً في أمر اللَّه، قريباً من رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم، سيداً في أولياء اللَّه، مسمراً ناصحاً، مجداً كادحاً، لاتأخذه في اللَّه لومة لائم).(1)

و لم تتوقفِ الزهراء علیها السلام عن الصدح بقول الحق في الوصي علي بن أبي طالب علیه السلام حتى بعد اعتزالها الناس، فها هي أم سلمة دخلت عليها فقالت لها: كيف أصبحت عن ليلتك يا بنت رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم؟ قالت: أصبحت بين كمد و كرب فقد النبي صلی اللَّه علیه و آله و سلم و ظلم الوصي، واللَّه حجبه أصبحت إمامته مقتصة على غير ما شرع اللَّه في التنزيل، و سنها النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم في التأويل، و لكنها أحقاد بدرية و ترات أحدية كانت عليها قلوب النفاق مكتمنة لإمكان الوشاة فلما استهدف الأمر أرسلت علينا شآبيب الأثار من مخيلة الشقاق، فيقطع وتر الإيمان من قسي صدورها، و ليس علي ما وعد اللَّه من حفظ الرسالة و كفالة المؤمنين أحرزوا عائدتهم غرور الدنيا بعد انتصار ممن فتك بآبائهم في مواطن الكروب و منازل الشهادات).(2)

ص: 255


1- دلائل الإمامة، ص245.
2- ابن شهر آشوب، المناقب، ج2، ص234.

إنَّ ابنة النبي صلی اللَّه علیه و آله و سلم تعلم علم اليقين إلى أين هي الأمور سائرة، و لكنها في خطبها العصماء هذه، و كلماتها الغراء ترسل لمن حولها و لمن جاء بعدها رسائلها الإعلامية، التي تهدف إلى شرح الأسباب و الدوافع و هي العارفة أنها لن تتلقى من الجموع التي استهدفتها رسالتها أي نصرة و هي القائلة لهم: (ألا و قد قلت الذي قلته على معرفة مني بالخذلان الذي خامر صدوركم و استشعرته قلوبكم، و لكن قلته فيضة النفس و نفثة الغيظ و بثة الصدر و معذرة الحجة...).(1)

و هناك خطبة -رسالة إعلامية- أخرى للزهراء علیها السلام في ظلامة فدك و أهل البيت علیهم السلام أوردها الطوسي في أماليه قال: هذا حديث و جدته بخط بعض المشايخ رحمهما اللَّه ذكر أنه وجده في كتاب لأبي غانم المعلم الأعرج، و كان مسكنه بباب الشعير، و جد بخطه على ظهر كتاب له حين مات، وهوأن عائشة بنت طلحة دخلت على فاطمة علیها السلام فراتها باكية، فقالت لها: بأبي أنت و أمي، ما الذي يبكيك؟ فقالت لها صلوات اللَّه عليها: (أسائلتي عن هنة حلّق بها الطائر و حفي بها السائر، و رفع إلى السماء أثراً، و رزئت في الأرض خبراً، إن قحيف تيم، و أحيدك عديّ جاريا أبا الحسن في السباق، حتى إذا تقربا بالخناق، أسرّا له الشنآن و طوياه الإعلان).(2)

ص: 256


1- ابن طيفور، ص21.
2- عبد الكريم العقيلي، ظلامات فاطمة الزهراء علیها السلام، ص101. نقلاً عن: الأمالي للطوسي:1 / 204 ح350.

و بقيت أم الحسن علیها السلام تؤدي ما عليها من حق إزاء الإسلام و نبيه صلي اللَّه علیه و آله و سلم و وصيه علیه السلام حتى الرمق الأخير، فلما مرضت علیها السلام المرضة التي توفيت بها دخل النساء عليها فقلت كيف أصبحت من علتك يا بنت رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم، قالت: أصبحت واللَّه عائفة لدنياكم قالية لرجالكم...، و يحهم أنى زحزحزها عن رواسي الرسالة و قواعد النبوة و مهبط الروح الأمين الطبن،(1) بأمور الدنيا و الدين ألا ذلك هو الخسران المبين و ما الذي نقموا من أبي الحسن علیه السلام نقموا و اللَّه منه نكير سيفه و شدة و طأته و نكال وقعته و تنمره في ذات اللَّه، و ياللَّه لو تكافئوا على زمام نبذه رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله و سلم لسار بهم سيراً سجحاً لايكلم خشاشة و لايتعتع راكبه و لاوردهم منهاً روياً فضفاضاً تطفح ضفتاه و لاصدرهم بطانا قد تحرى بهم الري غير متجل منهم بطائل بعمله الباهر وردعه سورة الساغب و لفتحت عليهم بركات من السماء).(2)

فالزهراء علیها السلام إذن لم تكن تطالب ببقعة من أرض اسمها فدك... أو بإرث مادي، و هي الزاهدة العابدة، المنصرفة عن ملذات الدنيا، بل كانت تطالب(بالحق) و إرجاعه إلى أهله الشرعيين، فقد جعل رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله و سلم الخلافة في علي بن أبي طالب علیه السلام زوجها.(3)

ص: 257


1- الطبن: لغة الفطين و الطبنة: الفطنة جمع طِين.
2- ابن طيفور: ص32 - 33.
3- مريم فضل الله، ص213.

فقد أثبت جميع المؤرخين، و أهل السير، أن الزهراء سلام اللَّه عليها لم تكن تهمها فدك أو غيرها مما تركه والدها الرسول الكريم صلی اللَّه علیه و آله و سلم، بل كانت وقفتها تلك رسالة و جهتها إلى الأمة الإسلاميَّة و ناقوس خطر دقته، لضياع حق الإسلام و المسلمين في الحفظ قبل أن يكون حقها وحق زوجها علي علیه السلام.

أزالت الزهراء علیها السلام الغشاوة عن أعين من انقلب على عقبيه، و هي عندما تلقي على مسامع النسوة هذه الموعظة الباهرة في توضيح سبب الانقلاب(و ما نقموا من أبي الحسن علیه السلام)؟! تساؤل استنكاري، يستفز النفوس المؤمنة ليعيدها إلى الصواب، فالإمام كما و صفته زوجته متنمراً في ذات اللَّه، لاعلى عيال اللَّه و خلقه، لقد زحزحوا الحق إذن عن آل بيت النبي صلی اللَّه علیه و آله و سلم أو بالأحرى عن علي الطبن بأمور الدنيا والدين و الخبير بحال المسلمين و سبل إصلاحهم...

قد قدمت الزهراء علیها السلام في خطبتها هذه صوراً رمزية و تصويرية واضحة الدلالة على الجانبين؛ لو كان الوصي علي علیه السلامهو الخليفة المختار بعد النبي صلی اللَّه علیه و آله و سلم، أو لم يكن، كيف سيمسي حال الأمة الإسلاميَّة، بأي بلاء سيبتلون إن نكصوا. في عبارات قل نظيرها في الخطب و الأقوال كيف لا؟ و هي سيدة النساء العاقلة الحكيمة ذات الفصاحة و البلاغة، لم يجود مثلها في النساء.

ص: 258

قالت السيدة عائشة: (ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً و حديثاً برسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله و سلم من فاطمة علیها السلام).(1)

رأت فاطمة الزهراء علیها السلام قومها يستبدلون الذنابى بالقوادم(2) و العجز بالكاهل، فهل تتركهم يركنون إلى الذي هو أدنى دون الذي هو خير دون أن ترشدهم و تجزيهم النصح في بضع كلمات غرر أضحت خير مثال على رسالة متكاملة الخصائص أدتها بنت سيد البشر على أكمل وجه، فلم تدع لهم من منقذ للاعتذار.

و يمكننا الإشارة هنا إلى جملة نقاط امتازت بها هذه الوسيلة الإعلامية المتقدمة، منها:

1- كانت خطب الزهراء علیها السلام خير وسيلة للاعتراض و المعارضة، فكانت راية رفعتها خفاقة في وجه المغتصبين حقها و حق زوجها علي و هي الحريصة على تضامن المسلمين، و إعلاء كلمة الدين، و لكن موقفها المتصلب هذا، كان لابد منه لتبين للناس حق علي بالخلافة، و تزيل الغشاوة عن أعين بعض المسلمين السابحين في لجج الضوضاء.

2- مثلت خطبة الزهراء علیها السلام في المسجد النبوي الشريف صلی اللَّه علیه و آله و سلم نقطة

ص: 259


1- مريم فضل اللَّه، ص215.
2- ابن طيفور، ص33.

التقاء و إصغاء لأكبر عدد ممكن من جمهور المسلمين، جاؤوا لسماعها و الإصغاء إلى ما ستقوله في مكان يعتبر مركز القيادة السياسية و أمام من وضع قائداً للدولة يحوطه جمع من أمراء القوم و أكابرهم.

3 - أذهلت خطبة الزهراء علیها السلام القوم بسعة أفقها و جزيل قولها و بلاغتها اللامتناهية، والمستمدة عنفوانها و ألقها و قوة حججها من آيات القرآن الكريم و أحاديث سيد الخلق و نبي الرحمة صلی اللَّه علیه و آله و سلم.

4 - كانت خطب الزهراء علیها السلام بحججها أمضى من حد السيف، حيث كان الحق ينبلج من بين ثنايا الحروف و الكلمات، و كانت تركز في استشهاداتها إلى قول الله تعالى.

5 - بدت الزهراء علیها السلام كصاحبة قضية رأي عام، كاملة السيطرة على الموقف الشعبي، و قد أخذت بمجامع القلوب و الأعين التي بكت لمقالتها و لتجسيدها كامل الحضور النبوي صلی اللَّه علیه و آله و سلم المفقود بينهم.

6 - كانت خطب الزهراء علیها السلام أداة إعلامية متكاملة الأداء و التأثير بمن حولها و سردت بوصف بلاغي معجز أحقية و مكانة و مزايا أبي الحسن زوجها و أخ الرسول صلی اللَّه علیه و آله و سلم و ابن عمه وسانده و عضيد أمره في حياته و بعد وفاته.

7- بلغت الزهراء علیها السلام في خطبتها الثانية للنساء أقصى درجة التحذير و التذكير و استشراف الآتي عندما أخذت بوصف الصفات القيادية

ص: 260

الربانية التي يمتلكها علي و كيف ستؤول الأمور بهم في الحالين...، لو كان علي علیه السلام خليفة لهم أو لايكون، فأعطت الدوافع و الأسباب و خلصت إلى النتائج.

أضحى لموقف الزهراء علیها السلام ذاك، امتداداته في التاريخ، فتذكر لنا السير و المراجع التاريخيَّة، وقفات مشرفة لنسوة حفظن للإمام علي علیه السلام ولائهن المطلق و ألقين بشهاداتهن في مجلس معاوية غير آبهات بالعواقب!، وإذا كانت خطب الزهراء علیها السلام قد جاءت في حياة أبي الحسن علیه السلام فإن كلام و بلاغات تلك النسوة قد جاءت بعد وفاته.

قد جد معاوية في طلب محبي الإمام علي علیه السلام و تعقبهم و قتلهم شر قتلة، انتقاماً منهم، و لم تسلم من شره النساء، عن العباس بن بكار(1) قال : حدثنا أبوبكر الهذلي عن الزهري و سهل بن أبي سهل التميمي عن أبيه قالا: لما قتل علي بن أبي طالب علیه السلام بعث معاوية في طلب شيعته فكان في طلب عمر بن الحمق الخزاعي فراغ منه فأرسل إلى امرأته آمنة بنت الشريد فحبسها في سجن دمشق سنتين، ثم إن عبدالرحمن بن الحكم ظفر بعمر بن الحمق في بعض الجزيرة فقتله و بعث رأسه إلى معاوية و هو أول رأس حمل في الإسلام.

ص: 261


1- ابن طيفور، ص87.

فلما أتى معاوية الرسول صلی اللَّه علیه و آله و سلم بالرأس بعث به إلى آمنة في السجن و قال للحرسي إحفظ ما تكلم به حتى تؤديه إلي و أطرح الرأس في حجرها ففعل هذا فارتاعت له ساعة ثم وضعت يدها على رأسها و قالت و احزناً لصغره في دار هوان و ضيق من ضيمه سلطان نفيتموه عني طويلاً و أهديتموه إلى قتيلاً فأهلاً و سهلاً بمن كنت له غير قالية و أنا له اليوم غير ناسية).

لقد لاحق معاوية أولئك النسوة ممن وقفن في صف الإمام في حياته و في حروبه، و أخذ يستجلبهن و يستنطقهن في مجلسه علهن يرجعن عن حبهن لعلي خوفاً من سلطانه و حكمه تارة أو بالبذل لهن و البذخ عليهن تارة أخرى، و لكن هيهات لقد استنطق معاوية النسوة فنطقن بما لا يرضيه و لا يسره و ليسجل لهن التاريخ رسائلهن هذه التي بثت على الملأ ذاك الزمان و طبائع رجالاته، و حيثيات وقائعه، فكانت تلك الخطب و البلاغات من النسوة رسائل إعلامية أدت أفضل دور إعلامي لذاك العهد.

و قد ذكر ابن طيفور كلام لعدد منهن، و هن؛ أروى بنت الحارث بن عبد المطلب رحمها الله، و سودة بنت عمارة، و الورقاء بنت عدي، و بكارة الهلالية، و أم الخير بنت الحريش البارقية، و آمنة بنت الشريد،

ص: 262

و أم سنان بنت خيثمة بن خرشة، و عكرشة بنت الأطش، و الدارمية الحجونية، و جروة بنت مرة بن غالب، و أم البراء بنت صفوان، و يزيد عليهن في العقد الفريد بن عبد ربه الأندلسي، الذكوانية ".

إن أبرز ما يميز هذا الكلام الذي أدلت به النسوة في مجلس معاوية هو:

1 - إنَّ معاوية هو من سعى لرؤيتهن، فمنهن من جيء بهن إلى مجلسه في الشام، و بعضهن الآخر سأل عنهن و أمر باستقدامهن إليه في موسم الحج، و لو قيض الأمر إليهن لما أحببن لقاءه. أنظر قول الزرقاء لموفد معاوية ( إن كان أميرالمؤمنين جعل الخيار إلي فإني لا آتيه، و إن کان حتم فالطاعة أولى).

2- أفصحت النسوة-من الوافدات على معاوية- عما في نفوسهن من حب ثابت لعلي علیه السلام و آل البيت و إيمان حقيقي باللَّه و رسوله صلی اللَّه علیه و آله و سلم و وصاياه للمؤمنين.

1 – أبي عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي، العقد الفريد، حققه و شرحه و عرف أعلامه/ محمد التونجي، المجلد الثاني، دار صادر، بيروت - لبنان، ص90. {يذكر أن الاسم الأطرش و ليس الأطش كما جاء في بلاغات ابن طيفور}، ص103.

2 - أبي عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي، العقد الفريد، ص100.

3 - هكذا أوردها الأندلسي ص87 . أما ابن طيفور فأوردها هكذا ( إن كان أميرالمؤمنين جعل المشيئة إلى لم أرم من بلدي هذا و إن كان حتم الأمر فالطاعة له أولى بي) ص51 .

ص: 263

3 - أظهرت النساء في كلامهن بقاءهن على العهد و مبدئية موقفهن على الرغم من تغير السلطة و السلطان و تعاقب الولاة، فلم يبدلن أبا الحسن بمعاوية رغم كرمه معهن و حسن وفادته لهن.

4 - أولئك النسوة كن طلائع لجموع من النساء المؤمنات اللواتي غمر ولائهن لولاية علي بن أبي طالب علیه السلام المجالس التي ضمت كل مبغض و مقاتل و معادي لعلي علیه السلام من عمر بن العاص و مروان ابن الحكم و أمثالهم.

5 - ما يؤكد فاعلية هذه الرسائل الإعلامية و بعد أثرها في النفوس و التاريخ، أن كل من كان في المجلس عند معاوية كان يحفظ كلام النساء في حب علي علیه السلام حتى معاوية نفسه رغم مرور السنين.

6- كشفت خطب و بلاغات النساء خصال الجانبين، و من كان على الحق و من اتبع الباطل منهم، فأجزلن القول بحق علي علیه السلام و آل بيته علیهم السلام، و ألبن الجموع على من عاداه حياً و ميتاً. و ما خطبهن تلك إلا شهادات صدق تؤطر بالذهب المصفى و تعلق في ضمائر المؤمنين بأن علي كان دولة الحق التي أعقبتها دول الجور و الظلم.

7 - التفاوت في ذكر هذه الشهادات بين مصدر و آخر يدلل على وجود الكثير منها ولكنها طمست ربما بقصد أو بغير قصد.

ص: 264

إنَّ أبرز ما اتسمت به أولئك النسوة هي الشجاعة و الإقدام في حالتي السلم و الحرب، فلم ينكرن مواقفهن المشرفة في ساحات المعارك التي خاضها الإمام علي علیه السلام، و لربما حاول معاوية أن يؤلب عليهن، فيسأل أصحابه:(من منكم يحفظ كلام الزرقاء، فقال القوم كلنا نحفظه)،(1) أو يقول معاوية: (و لكني و الله أحفظه لله أبوك لقد سمعتك تقولين أيها الناس إنكم في فتنة غشتكم جلابيب الظلم و جارت بكم عن قصد المحجة، فيا لها من فتنة عمياء صماء يسمع لقائلها و لاينظار لسائقها...)(2) مما يؤكد عمق الأثر الذي تركته رسائل النسوة في تلك الجموع.

و لقد تكرر هذا القول من معاوية لكل واحدة من النساء المتكلمات عنده، ها هي أم الخير بنت الحريش بن سراقة البارقية تقدم عليه(فأنزلها معاوية مع الحرم ثلاثاً ثم أذن لها في اليوم الرابع و جمع لها الناس فدخلت عليه فقالت: السلام عليك يا أميرالمؤمنين علیه السلام فقال و عليك السلام و بالرغم و الله منك دعوتني بهذا الاسم...)ثم سألها عن کلامها يوم قتل عمار بن ياسر... ثم التفت إلى اصحابه فقال: ( أيكم حفظ كلام أم الخير

ص: 265


1- ابن طيفور، ص50.
2- المصدر نفسه، ص51.

قال رجل أنا أحفظه يا أميرالمؤمنين علیه السلام كحفظي سورة الحمد، قال هاته...) فأخذت تؤلب الجموع بين الصفين في المعركة و تعدد صفات الإمام علي علیه السلام: (هلموا رحمكم اللَّه إلى الإمام العادل و الوصي الوفي و الصديق الأكبر إنها إحن بدرية و أحقاد جاهلية و ضغائن أحدية و ثب بها معاوية حين الغفلة ليدرك بها ثارات بني عبد شمس(1) ثم قالت: قاتلوا أئمة الكفر إنهم لاإيمان لهم لعلهم ينتهون... فإلى أين تريدون يرحمكم اللَّه عن ابن عم رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله وسلم و صهره و أبي سبطيه؟(2) خلق من طينته و تفرع من نبعته، و خصه رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله وسلم بسره و جعله باب مدينته و أبان ببغضه المنافقين، و ها هو ذا مفلق الهام و مكسر الأصنام صلى و الناس مشركون و أطاع و الناس كارهون، فلم يزل في ذلك حتى قتل مبارزي بدر و أفنى أهل أحد، و هزم الأحزاب، و قتل اللَّه به أهل خیبر، و مزق به جمع هوازن، فيا لها من وقائع زرعت في قلوب نفاقاً وردة و شقاقاً و زادت المؤمنين إيماناً. و قد اجتهدت في القول و بالغت في النصيحة و باللَّه التوفيق، و السلام عليكم و رحمة اللَّه).(3)

ص: 266


1- ابن عبد ربه الأندلسي، ص94.
2- و زوج ابنته و أبي ابنيه... هكذا وردت في ابن طيفور، ص57.
3- ابن عبد ربه الأندلسي، ص95.

فلا يتمالك معاوية نفسه أن يقول لها: يا أم الخير، ما أردت بهذا الكلام إلا قتلي، و لو قتلتك ما حرجت في ذلك... فما كان جواب أم الخير على تهديد معاوية لها بالقتل... قالت له: و اللَّه ما يسوءني أن يجري قتلي على يدي من يسعدني الله بشقائه.(1)

إن هذا التفاني في حب علي هو قاسم مشترك لكل الوافدات على معاوية، فها هو معاوية يقول للزرقاء بت عدي بعد تذكيره بخطبتها الشهيرة يوم صفين...: و اللَّه يا زرقاء لقد شركت علياً علیه السلام في كل دم سفكه فقالت: أحسن اللَّه بشارتك يا أميرالمؤمنين و أدام سلامتك مثلك من بشر بخير و سر جليسه قال لها و قد سرك ذلك قالت نعم و اللَّه لقد سرني قولك فأنى بتصديق الفعلّ فضحك معاوية و قال و اللَّه لوفاؤكم له بعد موته أعجب من حبكم له في حياته).(2)

إن كل امرأة حضرت عند معاوية و سمع مقالتها ألقمته حجراً و هي تعدد صفات علي علیه السلام و جور معاوية و أن أحسن الوفادة و المقال... أنظر لقول أروى بنت الحارث(3) و هي عجوز كبيرة كيف لم تأخذها في الحق

ص: 267


1- ابن طيفور، 58.
2- ابن عبد ربه الأندلسي، ص87 . و جاءت هكذا في ابن طيفور( أحب إلي من حبكم له في حياته).
3- أروى بنت الحارث بن عبدالمطلب بن هاشم عمة رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله و سلم و إحدى فضليات النساء في الجاهليَّة و الإسلام لها رأي راجح و شعر جيد توفيت حوالي سنة 51 ه_.

لومة لائم حين تقول لمعاوية: (لقد كفرت يد النعمة، و أسأت لابن عمك الصحبة و تسميت بغير اسمك و أخذت غير حقك من غير دين كان منك، و لامن آبائك، و لاسابقة في الإسلام، بعد ان كفرتم برسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله و سلم فأتعس اللَّه منكم الجدود و أضرع منكم الخدود ورد الحق إلى أهله، و لو كره المشركون، و كانت كلمتنا هي العليا و نبيناً صلی اللَّه علیه و آله وسلم هو المنصور، فوليتم علينا من بعده، تحتجون بقرابتكم من رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله وسلم و نحن أقرب إليه منكم و أولى بهذا الأمر فكنا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون، و كان علي بن أبي طالب علیه السلام رحمة اللَّه بعد نبينا صلی اللَّه علیه و آله و سلم بمنزلة هارون من موسى، فغايتنا الجنة و غايتكم النار)(1)... و بعد قول طويل فضخت فيه معاوية و صحبه و أمهاتهم، أجزل لها معاوية العطاء قال لها معرضاً بالإمام علي علیه السلام، قال: لو كان علياً علیه السلام ما أمر لك بها. قالت: أنت تذكر علياً علیه السلام؟ فض اللَّه فاك) صدقت إن علياً علیه السلام أدى الأمانة و عمل بأمر اللَّه و أخذ به و أنت ضيعت أمانتك و خنت اللَّه في ماله فأعطيت مال اللَّه من لا يستحقه و قد فرض اللَّه في كتابه الحقوق لأهلها و بينها فلم تأخذ بها و دعانا (أي على علیه السلام) إلى أخذ حقنا الذي فرض اللَّه لنا فشغل بحربك عن وضع الأمور مواضعها و ما سألتك مالك شيئاً فتمنّ به إنما سألتك من حقنا و لا

ص: 268


1- ابن عبد ربه الأندلسي، ص96.

نرى أخذ شيء غير حقنا أتذكر علياً علیه السلام فض اللَّه فاك و أجهد بلاءك ثم علا بكاؤها(1) و قالت:

ألا يا عين و يحك أسعدينا *** ألا و ابكي أميرالمؤمنينا(2)

علي خير من ركب المطايا *** و فارسها و من ركب السفينا

و من لبس النعال أو احتذاها *** و من قرأ المثاني و المئينا

إذا استقبلت وجه أبي حسين *** رأيتُ البدر راق الناظرينا

و لا و الله لا أنسى علياً *** و حسن صلاته في الراكعينا(3)

الا أبلغ معاوية بن حرب *** فلاقرت عيون الشامتينا

أفي شهر الصيام فجعتمونا *** بخير الناس طراً أجمعينا؟

لقد علمت قريش حيثُ كانت *** بأنك خَيرها حسباً و دينا

و ما كان معاوية ليجهل موقعه عند المؤمنين، و إن الإمام علي علیه السلام قد ملك قلوبهم، لذا سأل عكرشة بنت الأطرش عندما سلمت عليه بالخلافة، فقال لها: الآن يا عكرشة صرت عندك أميرالمؤمنين علیه السلام، قالت: نعم إذ إن لا عليّ علیه السلام حي.

ص: 269


1- ابن طيفور، ص46.
2- ابن عبد ربه الأندلسي، ص98.
3- هذا البيت ذكره ابن طيفور دون عبد ربه الأندلسي.

و لم يترك معاوية الفرصة حتى يذكر النسوة بمواقفهن في المعارك التي خاضها الإمام علي علیه السلام فيقول لها: ألست المتقلدة حمائل السيف بصفين، و أنت واقفة بين الصفين تقولين: أيها الناس عليكم أنفسكم لايضركم من ضل إذا اهتديتم... إن معاوية دلف عليكم بعجم العرب غلف القلوب، لايفقهون الإيمان و لايدرون ما الحكمة دعاهم بالدنيا فأجابوه و استدعاهم إلى الباطل فلبوه. هذه بدر الصغرى و العقبة الأخرى...

فكأني أراك على عصاك هذه و قد انكفأ عليك العسكران، يقولون: هذه عكرشة بنت الأطرش بن رواحة، فإن كدت لتقتلين أهل الشام لولا قدر اللَّه).(1)

إن معاوية كان يبحث عن الجواب لسؤاله الأبدي: لم أحب الناس علياً علیه السلام و أبغضوه، لذا أخذ يسأل النسوة هذا السؤال واحدة تلو الأخرى، فسودة بنت عمارة تقول له: أي واللَّه ما مثلي من رغب عن الحق أو اعتذر بالكذب... و تذكر كيف أن حب علي علیه السلام أتباع الحق هو ما حملها على قول الحق فيه شعراً و كلاماً في صفين فيجيبها: فواللَّه ما أرى عليك من أثر على شيئاً، فبكت و أنشدت:

ص: 270


1- ابن عبدربة الأندلسي، ص90.

صلى الإله على جسم تضمنه *** قبر فأصبح فيه العدل مدفونا

قد حالف الحق لا يبغي به بدلاً *** فصار بالحق و الإيمان مقرونا(1)

قال لها: و من ذاك! قالت: علي بن أبي طالب علیه السلام. قال: و ما صنع بك حتى صار عندك كذلك. فذكرت موقفه من والي جائر اقتص منه أبا الحسن علیه السلام عند التجائها إليه... أما الدارمية الحجونية، فقد واجهها معاوية بالسؤال: بعثت إليك لأسألك علام أحببت علياً علیه السلام و أبغضتني و واليته و عاديتني؟ قالت: أو تعفيني يا أميرالمؤمنين علیه السلام؟ قال: لاأعفيك. قالت: أما إذ أبيت، فإني أحببت علياً علیه السلام على عدله في الرعية، و قسمه بالسوية، و أبغضتك على قتالك من هو أولى منك بالأمر و طلبك ما ليس لك بحق، و واليت علياً علیه السلام على ما عقد له رسول اللَّه صلي اللَّه علیه و آله و سلم من الولاية وحبه المساكين و إعظامه لأهل الدين. و عاديتك على سفكك الدماء، و جورك و شقك العصا...).(2)

و هكذا تذهب في تعداد مناقب خليفة حق سابق واراه الثرى و مثالب سلطان جور ما خشيت في قول الصدق أمامه و لم تأخذها في قول الحق لومة لائم... حتى ضج معاوية من صدق النساء و تمسكهن بولائهن و جرأتهن عليه فقال لعكرشة: (هيهات يا أهل العراق نبهكم علي بن أبي

ص: 271


1- ابن طيفور، ص47 - 48.
2- ابن عبد ربه الأندلسي، ص91.

طالب علیه السلام فلن تُطاقوا).(1) أو قوله لسودة بنت عمارة: (هيهات، لمظكم(2) ابن أبي طالب علیه السلام الجرأة على السلطان، فبطيئاً ما تفطمون...).(3)

لقد كان علي علیه السلام في بلاغات النساء كما وصفته جروة بنت مرة بن غالب: (جاز واللَّه في الشرف حداً لايوصف وغاية لاتعرف...).(4) أو كقول أم البراء بنت صفوان حين قتل السلام: فقالت:

يا خير من ركب المطى و من مشى *** فوق التراب لمحتف أو ناعل

حاشا النبي قد هددت قواءنا *** فالحق أصبح خاضعا للباطل

فقال معاوية: قاتلك اللَّه يا بنت صفوان ما تركت القائل.(5)

و هوعند المؤمنات كما قالت أم سنان بنت خيثمة بن خرشة:

هذا علي كالهلال يحفه *** وسط السماء من الكواكب أسعد

خير الخلائق وابن عم محمد *** إن يهدكم بالنور منه تهتدوا(6)

ص: 272


1- ابن عبد ربه الأندلسي، ص91.
2- لمظكم: ذوقكم وعلمكم.
3- ابن عبد ربه الأندلسي، ص85.
4- ابن طيفور، ص109.
5- المصدر نفسه، ص101.
6- ابن عبدربه الأندلسي، ص88 . و جاء العجز عند ابن طيفور، ص92 هكذا ( وكفى بذاك لمن شناه تهدد).

إن خطب النساء و بلاغاتهن لعبت دوراً إعلامياً متميزاً في عهد الإمام علي علیه السلام و ما بعده من عهود، و أدت رسالتها في ترسيخ المفاهيم الإسلامية التي أقامتها دولة أبي الحسن علیه السلام، و بينت مزايا ولاية الإمام و نقائص ولاية معاوية، كما وثقت لأحداث و وقائع ذاك العهد و ما ألقي فيها من شعر وأقوال، وأرخت لها، و حفظتها من الاندثار و جعلت الألسن تتناقلها شفاهاً لصدقها و حرارة إيمانها و مبدئيتها.

ص: 273

ص: 274

الخاتمة

كان الإمام علي علیه السلام أبا رحوماً للأمة و للمسلمين، متبعاً لنهج السماء و نبيه الكريم صلي اللَّه علیه و آله و سلم، و حاشى اللَّه أن يظلم الأب عياله المساكين، و هن القوارير اللواتي أوصى بالرفق بهن سيد الأنام، و كن عنده أحد الأضعفين.

فعلي بن أبي طالب علیه السلام ابن الفواطم الطواهر أرسى أمثولة حية لإعزاز النساء و حفظ كرامتهن وإن جرن عليه أو تعدين، و كان سيداً للأوصياء، و سيداً للأتقياء، و سيداً على قلوب كل النساء...

فزوج الزهراء البتول علیها السلام، كان كفوءاً لها، يوم اقترن بها زوجاً عظيماً أظهر لها كامل محبته و تفانيه حية كانت أم ميتة، فأم الحسن علیها السلام عنده هي خلاصة نساء العالمين، بل هي سيدة النساء أجمعين رافقها في المسيرمن المهد إلى اللحد، بعلو الاعتزاز و التقدير، بضعة النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم، و ابنة العم، و أم الحسن والحسين علیهما السلام.

ملأ قلب الوصي العذر للمرأة إن أخطأت و إن أصابت و عامل المخطئة بالحسنى حتى الرمق الأخير، كان فوزه مبين بذكر النساء له حيناً بعد حين، في بلاغات جاوزت جدران مجلس عدوه العتيد، و أشرقت بنور الولاية و الولاء للولي، فما كان غيره في الضمير... أميرالمؤمنين علیه السلام.

ص: 275

ص: 276

المراجع

1- القرآن الكريم.

2- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبوالفضل إبراهيم، مكتبة طريق المعرفة، دارالكتاب العربي، النجف -بغداد، ط1، 1426 ه_ - 2005 م.

3- ابن الأثير، الكامل في التاريخ دارالتوفيقية للطباعة، القاهرة -مصر.

4- ابن سعد، الطبقات الكبرى، تقديم إحسان عباس، دارصادر، بيروت.

5- أبوحيدر عبدالزهرة الخزاعي، الإمامة عقيدة قرآنية، العارف للمطبوعات، ط1، 1431 ه_ -2010م.

6- أبوفرج علي بن الحسين بن محمد الأصفهاني (356ه_)، مقاتل الطالبيين، تحقيق: أحمد صفر، قم -انتشارات الشريف الرضي، ط1، 1405ه_.

7 - أبوالفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور، (المولود ببغداد سنة 204 و المتوفى سنة 280 هجرية)، كتاب بلاغات النساء، طبعة مصر 1326 ه_/ 1908م.

ص: 277

8- أبوعثمان عمرو بن بحر الجاحظ (255ه_)، البيان و التبيين تحقیق و شرح عبدالسلام محمد هارون، مكتبة المثنى ببغداد و مكتبة الخانجي بمصر، ط2 /1960.

9- أبي عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي، حققه و شرحه و عرف أعلامه/ محمد التونجي، دار صادر، بيروت - لبنان.

10- الشيخ المفيد، الإرشاد، منشورات المطبعة الحيدرية و مكتبتها في النجف الأشرف، 1962م - 1381ه_.

11- المجلسي/ محمدباقر بن محمد تقي-1110 ه_ )، بحارالأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار السلام، دارالكتب الإسلامية.

12- الموفق بن أحمد اخوارزمي (568ه_)، المناقب -1، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين.

13- جعفر السبحاني، الحجة الغراء على شهادة الزهراء علیها السلام، بحث موجز سلط الضوء على الأخبار المتضافرة التي تتحدث عما لحق بها بعد رحيل الرسول الأكرم صلي اللَّه علیه و آله و سلم، نشر مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام، ط2، المطبعة اعتماد، قم -إيران.

14- جواد جعفر الخليلي، أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام، الإرشاد للطباعة و النشر، دارالهدی، ط2، بیروت -لبنان، 1452 ه_ - 2001 م.

ص: 278

15- جورج جرداق، الإمام علي علیه السلام صوت العدالة الإنسانيَّة، اختصره و حققه حسن حميد السنيد، مركز الطباعة و النشر للمجمع العالمي لأهل البيت علیهم السلام، ط1، 1424ه_، ط2 1462 ه_ ق. مطبعة ليلى.

16- حسن السعيد، المرأة المسلمة -هموم و تحديات، دار الهادي للطباعة و النشر و التوزيع، ط1، بيروت -لبنان، 1428 ه_- 2007 م.

17- حسن السعيد، سيكولوجية الإشاعة/ رؤية قرآنية، دار دجلة، ط1، 2011، عمان -المملكة الأردنية الهاشمية.

18- رجب البرسي الحلي، مشارق أنوار اليقين في حقائق وأسرار أميرالمؤمنين علیه السلام، تحقيق: جمال المازندراني، دارالقارئ للطباعة و النشر و التوزيع، ط1، 1427 ه_ - 2006م.

19- زین الدین محمد علي بن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، انتشارات ذوي القربى، تحقيق: يوسف البقاعي، ط3، 1429ه_ ق، 1387 ه_ ش، المطبعة سليمان نزادة، قم -طهران.

20- سبط ابن الجوزي، يوسف بن قزغلي البغدادي (581 - 654ه_)، تذكرة الخواص من الأمة بذكر خصائص الأئمة، تحقيق:

حسين تقي زادة، مركز الطباعة و النشر للمجمع العالمي لأهل البيت علیهم السلام، ط 1، 1426ه_، مطبعة: ليلى.

ص: 279

21- سعيد أبومعاش فضائل أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام في القرآن الكريم، دار المودة، مطبعة اعتماد، ط1.

22- صبحي الصالح، نهج البلاغة، أنوارالهدى، ط4، مطبعة وفا، 1431ه_.

23- طه حسين، المجموعة الكاملة لمؤلفاته، الخلفاء الراشدون، دارالكتاب اللبناني، ط1، بيروت -لبنان، 1973.

24- عبد الحسين الأميني، الغدير، دارالكتاب العربي، بيروت، ط عام 1379ه_.

25- عبدالرحمن الشرقاوي، علي إمام المتقين، مؤسسة مدين للطباعة و النشر مطبعة برستش، ط1، 1423 ه_ - 2002م.

26- عبدالفتاح عبدالمقصود، في نور محمد صلي اللَّه علیه و آله و سلم– فاطمة الزهراء علیها السلام -تحقيق: شوقي محمد، المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية -المعاونية الثقافية، مركز التحقيقات و الدراسات العلمية، 1326 ه_ ق، 2005م، المطبعة خاتم، إيران -طهران.

27- عبدالكريم العقيلي، ظلامات فاطمة الزهراء علیها السلام في السنة و الآراء، ط1، 1996م - 1417ه_، بيروت -لبنان.

ص: 280

28- عزيز السيد جاسم، علي سلطة الحق، تحقيق و تعليق صادق جعفر الروازق، منشورات الاجتهاد و العزيز للطباعة و النشر و التوزيع، ط 1، 2000 م، قم.

29- علي الأحمدي الميانجي، عقيل بن أبي طالب، تحقيق و مراجعة: مجتبى فرحي، دارالحديث للطباعة و النشر، ط1، إيران - لبنان.

30- علي بن محمد ابن الصباغ (ت 855ه_)، الفصول المهمة في معرفة الأئمة، مطبعة العدل، النجف الأشرف، بدون تاريخ.

31- علي محمد دخيل، فاطمة بنت أسد رضي اللَّه عنها، مؤسسة أهل البيت علیهم السلام، سلسلة أعلام النساء -2، بيروت -لبنان، 1399ه_، 1979م.

32- علي محمد دخيل، فاطمة الزهراء علیها السلام، مؤسسة أهل البيت علیهم السلام، سلسلة أعلام النساء -3، بيروت -لبنان، 1400 ه_، 1980م.

33- غادة الخرسا، المراة عبر التاريخ، بيروت، لبنان.

34- كاظم النقيب، أئمتنا قادة و هداة، مؤسسة الفكر الإسلامي، للطباعة و النشر و التوزيع، ط2، لبنان -بيروت، 1433 ه_- 2012م، مكتبة العلامة ابن فهد الحلي، كربلاء المقدسة -العراق.

ص: 281

35- كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة من منشورات مؤسسة النصر، 1384ه_.

36- محمد اليعقوبي، انتصاراً لأم البنين -هل كان للخنساء أربع أولاد استشهدوا في معركة القادسية؟ مركز الإمام المهدي عج اللَّه فرجه الشریف للدراسات الإسلامية، النجف الأشرف، 1424 ه_ - 2003 م.

37- محمد باقر الحكيم، الزهراء علیها السلام- أهداف -مواقف- نتائج، مؤسسة تراث الشهيد الحكيم، مطبعة العترة الطاهرة، ط1، النجف الأشرف، 2006م.

38 - محمدبكر إسماعيل، فقيه الأمة و مرجع الأئمة علي بن أبي طالب علیه السلام، الناشر شهاب الدين، المطبعة كلها، قم -إيران، ط1، 1427ه_، 2006م.

39- محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1394ه_ - 1974م.

40- محمد جواد الطبسي، حياة الصديقة فاطمة علیها السلام- دراسة و تحليل، مؤسسة بوستان کتاب قم، مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي، ط1، 1423ه_، 1381 ش، قم.

ص: 282

41- محمد جواد مغنية، فضائل الإمام علي علیه السلام، منشورات دارالهلال و دارالجواد للطباعة والنشر، ط2، 1981، بیروت.

42 - الشيخ محمدجواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة -محاولة لفهم جديد، دارالعلم للملايين، ط3، بيروت -لبنان، 1979.

43- مجموعة مؤلفين، نبراس السياسة و منهل التربية، مؤسسة نهج البلاغة، مطبعة سلمان الفارسي، قم -إيران، 1404ه_.

44- محمدرضا عباس محمد الدباغ، سيرة المرتضى بأسلوب قصصي، ميسر، شكوري، مطبعة قلم، ط1، 2005م، إيران.

45- محمد عبده، نهج البلاغة، منشورات مكتبة النهضة، بغداد -العراق، 1986.

46 - محمدعلي الأنصاري، أهل البيت علیهم السلام، إمامتهم، حياتهم، قم: مجمع الفكر الإسلامي، ط1، ذي الحجة الحرام 1424ه_ ق، المطبعة شريعت -قم.

47- محسن باقر القزويني، علي بن أبي طالب علیه السلام رجل المعارضة والدولة، دارالعلوم للتحقيق و الطباعة و النشر و التوزيع، ط1، لنان، 1425ه_ - 2004م.

ص: 283

48- مريم نور الدين فضل اللَّه، المرأة في الإسلام، دار الزهراء علیها السلام للطباعة و النشر و التوزيع، بيروت -لبنان، ط1، 1979م -1399ه_.

49- مهدي محبوبة، ملامح من عبقرية الإمام، تقديم و تمهيد: هاشم محمد الباججي، إصدارات العتبة العلوية المقدسة قسم الشؤون الفكرية والثقافية، المعارف للمطبوعات، بيروت -لبنان، العراق - النجف الأشرف، 2011م.

50- موجز سيرة الرسول صلي اللَّه علیه و آله و سلم و أهل البيت علیهم السلام، تأليف و نشر: لجنة التأليف -مؤسسة البلاغ مؤسسة البلاغ، ط1، 1414ه_ - 1993م، المطبعة: صدر قم، طهران، الجمهورية الإسلامية في إيران.

ص: 284

المحتويات

الموضوع *** صفحه

الآية الكريمة *** 5

الإهداء *** 7

مقدمة المركز *** 9

مدخل/ الآن... يا بيان؟ *** 11

الفصل الأول علي و الفواطم *** 19

أنا ابن الفواطم *** 21

حدقات النسوة تبارك الميلاد *** 29

أول الفواطم علیها السلام... أم محمدعلي *** 38

تذكر السير*** 44

أم فاطمة علیها السلام... أم ثانية *** 62

فاطمة الزهراء علیها السلام.. أغلى الفواطم *** 79

الإضاءة الأولى: أن أباطالب لم يقترن بغير فاطمة بنت اسد *** 80

الإضاءة الأوخرى: ان الإمام علياً علیه السلام عندما اطل على الدنيا *** 81

على علیه السلام و أم البنين علیها السلام... فاطمة أخرى *** 84

الفصل الثاني على و الزهراء علیهما السلام *** 95

قبل الزواج... بعد الزواج *** 97

قبل وفاة النبي صلي اللَّه علیه و آله و سلم بعد الوفاة *** 133

ص: 285

الفصل الثالث علي علیه السلام و عائشة *** 163

علي علیه السلام و عائشة... والإفك *** 165

علي علیه السلام و عائشة... و الخلافة *** 180

علي علیه السلام و عائشة... و الجمل *** 200

الفصل الرابع علي علیه السلام و النساء *** 223

علي علیه السلام و النساء في نهج البلاغة *** 225

ما قاله الإمام علي علیه السلام في المرأة *** 230

حدد الإمام علي علیه السلام نقص المرأة في ثلاث مجالات *** 235

علي علیه السلام في بلاغات النساء *** 246

الخاتمة *** 275

المراجع *** 277

المحتويات *** 285

تم بحمداللَّه تعالى

ص: 286

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.