مَقَدَّمة شَرحِ نهج البلاغة
للإمام العَلامَةِ كَمَالِ الدِّينِ مَيْثَم البَحراني
المتوفى سَنَة 679 ه-
فَنّ البَلاغَةِ والخَطابَةِ وفَضائِل الأمام علىّ
تقديم وتحقيق
د. عبدالقادر حُسَين
استاذ البلاغة بِجَامِعَة الأزهر
دار الشروق
محرر رقمی: روح الله قاسمي
ص: 1
مَقَدمَه شَرح
نهج البلاغة
ص: 2
الطبعة الأولى 1987 م - 1407ه
جميع حقوق الطبع محفوظة
دار الشروق
ص: 3
ص: 4
منزلة علي بن أبي طالب:
كان الرسول صلی الله علیه و آله و سلم يحب علياً حباً جماً، ويقربه منه؛ فهو ابن عمه، وهو الذي افتداه بنفسه يوم تآمر المشركون على قتله فبات في فراشه، وهو أول من أسلم من الصبيان، فكان الرسول يعظمه ويكنيه بأبي التراب، وما كان لعلي كرم الله وجهه اسم أحب إليه من أبي التراب، وكان يفرح إذا دعى بهذه الكنية؛ لأن الرسول هو الذي أطلق عليه هذه الكنية؛ فقد جاءه الرسول وهو مضطجع بالمسجد قد سقط رداؤه عن شقّه فأصابه تراب فجعل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يمسحه عنه ويقول: قم أبا التراب، قم أبا التراب وعلي بن أبي طالب من أهل البيت الذين حرمت عليهم الصدقة؛ لأن من أوساخ الناس، فهي تطهرهم من الرجس والأدران التي علقت بهم، والله يريد أن يذهب عن أهل بيت الرسول الرجس ويطهرهم من أوضارها: ﴿إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً﴾ فقد قام رسول الله يوماً خطيباً بماء يدعى خمّاً بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكّر، ثم قال: ... وأهل بيتي، أذكركم الله من أهل بيتي، فقال حصين بن سبْره ليزيد بن حيان - ، وكانا يستمعان إلى خطبة رسول الله - ، ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرُم الصدقة بعده، قال: و من هم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس. قال: كل هؤلاء حُرِم الصدقة؟ قال: نعم.
ومن شدة تقدير الرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لعلي بن أبي طالب أنه أسند إليه راية الجهاد في غزوة خيبر؛ لما يعرفه عنه من قوة الشكيمة، وشدة البأس،
ص: 5
وصلابة القتال، في الوقت الذي يطمح فيه جمع من الصحابة رضوان الله عليهم إلى هذا الشرف العظيم، وباتوا وكلهم يرجو أن ينال الراية ويحظى بهذه المنزلة.
قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يوم خيبر: لأعطينّ هذه الراية رجلاً يفتح الله على يديه، يحب اللهَ ورسوله، ويحبه اللهُ ورسوله، قال: فبات الناس ليلتهم يتحدثون في ذلك: أيهم يُعطاها؟ فقال: أين علي بن أبي طالب؟ ... فأرسلوا إليه، فأتى به، فأعطاه الراية ... وقال: فوالله لأن يهديَ الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمْر النَّعَم، وحمر النعم هي الإبل الحمر؛ وهي أنفس أموال العرب يضربون بها المثل في نفاسة الشيء، وأنه ليس هناك أعظم منه.
وكان الرسول صلی الله علیه و آله و سلم ينزّل علياً منه منزلة هارون من موسى، وأن يخلفه في قومه وأهله ليعنى بشئون أسرته، ويقوم على أمورهم، ويحمل همومهم.
فعن سعد بن أبي وقاص قال: خلّف رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عليّ بن أبي طالب في غزوة تبوك، فقال: يا رسول الله، تخلّفني في النساء والصبيان، فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى.
كل ذلك يدل على منزلة عليّ من الرسول، والتصاقه به، وحبه له، فهو يسند إليه راية القتال في غزوة خيبر، ويخلفه في أهله في غزوة تبوك فيفتح الله خيبر على يديه، ويحسن الخلافة في بيت رسول الله. فينال رضا الله وينال رضا رسول الله.
أدب علي بن أبي طالب:
وقد كان الإمام علي بن أبي طالب إماماً في الخطابة وإماماً في تناول الأسلوب العربي والبيان العربي، وأعظم دليل على ذلك، «نهج البلاغة» الذي يعد أساساً من أسس البلاغة العربية بعد القرآن الكريم والبلاغة
ص: 6
النبوية الشريفة، فنلحظ فيها أن علياً جمع بين روائع البيان الجاهلي المبني على الفطرة السليمة وبين البيان الإسلامي المبني على المنطق القوي، فكان له بهذا الجمع بين بلاغة الجاهليين وبين بلاغة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم ما حدا ببعض القائلين أن يقول: كلام عليّ دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين.
فقد تهيأ لعلي كرم الله وجهه ما لم يتهيأ لأحد من الناس: فقد نشأ في ربوع البلاغة، في المحيط الذي تسمو فيه الملكات، وتنمو على الفطرة القويمة، وقد تربى في حجر رسول الله الذي دانت له أساليب البيان، وتلقى عنه رسالته بكل ما فيها من إيمان وصدق وحرارة، بالاضافة إلى هذا الاستعداد الهائل والموهبة الفذة التي حباه الله بها. فكان يستخدم من الألفاظ ما يدعوك إلى التأمل فيها، فإذا تأملتها وجدتها تفتح أمامك الأبواب المغلقة كما تفتح أمامك آفاقاً من النظر دونها كل كلام آخر. فنراه يرتجل خطبة ويلقيها بداهة دون تحضير سابق، ومع ذلك فهي تخاطب العقل والوجدان، فهو يتناول شئون الناس وأحوال الدنيا ووصف الطبيعة بمنطق الحكيم الخبير الذي لا يخلو من العاطفة الجياشة التي تمد هذه الخبرة وهذه الحكمة بوهج المشاعر الفياضة فتسري فيها الحياة قوية متجددة. هذا الامتزاج بين العقل والعاطفة يسري في نهج البلاغة حيثما توجهت في عنفه وغضبه، أو في رقته وعطفه. فحظه من الذوق الادبي الخالص حظ وفير، واحساسه بالجمال إحساس باهر قلّ أن تجد له نظيراً بين قرنائه، فقد كان مطبوعاً على البيان الساحر يرى الشيء ويعيه ثم ينطلق معبراً عنه في بساطة وتلقائية وصدق، والصدق هو الأساس الأول في أي تعبير فني، فإذا اعتراه التكلف أو وسم بالتمحل فقدْ فقدَ صفة الفن القويم؛ لأنه فقد صفة الصدق والطبع السليم.
وإذا كانت البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته. فبهذا المقياس الذي لا يخطيء نجد علياً قد البلاغة من أطرافها
ص: 7
كافة، فقد بلغ من البلاغة مبلغاً لا يصل إلى أطرافه أحد من الناس - إذا استثنينا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم - فإنشاؤه بليغ يجمع بين الألفاظ الحلوة التي لا تشرد ولا تغترب، وبين المعاني العميقة التي لا تبتذل ولا تغمض، فهو رقيق الحاشية في المواضع التي تحتاج إلى الرقة، عنيف أشد العنف في المواقف التي تحتاج الى الشدة، فيعطي لكل حال لبوسها ويوفق في حالة الرضا كما يوفق في حالة السخط. فأسلوبه رصين، ومعانيه متدفقة، وذوقه سليم، لا يتكلف ولا يتمحّل، وطبعه صاف نقي لا يغالي ولا فهو السجع الحلو الذي لا صنعة فيه ولا مراء يكذب، حتى إذا سجع وإنما يتطلبه المعنى، بحيث إنك لا تستطيع أن تستبدل به لفظاً عن لفظ، ولو فعلت لخبا ضوء الكلمات، وتبدد إشراقها، كما يفقد المعنى جلاله، ويضيع عمقه، فالسجع عنده ضرورة فنية يقتضيها المقام ويتطلبها المعنى وليس أقل من ذلك.
ونستطيع أن نقول إن عليّ بن أبي طالب قد بلغ من قوة بيانه - في العصر الجاهلي أو عصر الخلفاء الراشدين - مبلغاً لم يصل إليه واحد من أعلام الخطابة في هذين العصرين أو في العصور اللاحقة لهما؛ لما فطره الله عليه من سحر البيان وما أفاض به عليه من ذوق رفيع، وما منحه الله من علم انفرد به عن أقرانه، فكان قوي الحجة، ساطع البرهان صادقاً في أقواله وخطبه التي يرتجلها ارتَجالاً دون تحضير سابق، فكان يكشف معادن الناس، ويصف أخلاقهم وطباعهم في تلقائية قل أن تجد لها نظيراً عند الخطباء الماهرين في أي عصر من العصور. لذلك تجد كثيراً من أقواله تجري مجرى الأمثال السائرة والحكم البليغة من حيث صدقها و عموميتها التي تجعلها صالحة لكل زمان ومكان.
فعليّ بن أبي طالب بهذا المقياس أديب من أمهر الأدباء، خطيب عظیم الشأن بين الخطباء، تمرّس بأساليب البلاغة وملك ناصيتها، فكان له هذا النتاج العظيم الذي يتمثل في نهج البلاغة خطباً وحكماً ووصايا
ص: 8
وكتباً. وصدق قول القائل: إن كلامه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق.
وقد نسب جمع كتاب نهج البلاغة بجميع أغراضه من خطب وكتب ومواعظ وحكم إلى الشريف الرضي والمتوفي 406 ه﴾ عند معظم المحققين من العلماء، إلا أن القليل منهم قد شكك في نسبة جمع هذا الكتاب إلى الشريف الرضي فعزا جمعه إلى أخيه الشريف المرتضى ﴿المتوفي 436 ه﴾ ومن هؤلاء العلماء ابن خلكان ﴿المتوفي 681 ه - ﴾ قال: «وقد اختلف الناس؛ هل هو جمعه، أي: «الشريف المرتضي» أم جمع أخيه الرضي (1).
وقد سار على هذا الرأي الذهبي ﴿المتوفي 748 ه﴾ فجزم بأن واضع الكتاب هو الشريف المرتضي (2).
ومهما يكن من شيء فإننا نجد نصّاً صريحاً يشير بل يجزم إلى أن الذي جمع خطب الإمام علي وكتبه ومواعظه وحكمه هو الشريف الرضي، وليس أخاه الشريف المرتضى؛ ففي كتاب حقائق التأويل في متشابه التنزيل لمؤلفه الشريف الرضي؛ نراه بعد ان يصف الإمام علياً بأنه انفرد بطريق الفصاحة التي لا تزاحمه عليها المناكب، ولا يلحق به الكادح الجاهد، يقول: «ومن أراد أن يعلم برهان ما أشرنا إليه من ذلك، فلينعم النظر في كتابنا الذي ألفناه ووسمناه بنهج البلاغة، وجعلناه يشتمل على مختار جميع الواقع إلينا، من كلام أمير المؤمنين في جميع الانحاء والأغراض، والأجناس والأنواع: من خطب وكتب ومواعظ وحكم، وبوّبناه أبواباً ثلاثة، ... وقد عظم الانتفاع به، وكثر الطالبون له، لعظيم قدر ما ضمنه: من عجائب الفصاحة وبدائعها، وشرائف الكلم ونفائسها، وجواهر الفِقر - الجمل المختارة - وفرائدها (3) ت.
ص: 9
ففي هذا النص ما يؤكد لنا أن الذي جمع هذا الكتاب ووسمه بنهج البلاغة هو الشريف الرضي دون شك أو لبس.
وقد أثار محققا نهج البلاغة بشرح الامام محمد عبده في الدراسة التي قاما بها عن هذا الكتاب ان «شروح نهج البلاغة بالعربية والفارسية قد نيف على أربعين شرحاً، وأهم هذه الشروح واوفاها شرح ابن أبي الحديد، وقد سبقه من أصحاب الشروح إلى ذلك ابو الحسن البيهقي ﴿ت 588 ه - ﴾ وأبو الحسين الراوندي ﴿ت 573 ه - ﴾ وجاء من بعدهم ميثم البحراني ﴿ت 679 ه - ﴾ وكمال الدين العتائقي الذي ألف شرحه سنة 770 ه.
أما كتاب شرح نهج البلاغة لمؤلفه كمال الدين ميثم البحراني، فهو كتاب من عدة كتب تركها لنا هذا المصنف الجليل، وعددها ستة عشر كتاباً أحصيتها في الدراسة التي كتبتها عنه عند تحقيق كتابه أصول البلاغة التي تفضلت بنشره دار الشروق. إلا أن كتاب شرح نهج البلاغة قد حظي باهتمام بالغ من المؤلف فقد شرحه ثلاثة شروح مختلفة:
1 - شرح كبير في عدة مجلدات، وهو حقيق بأن يكتب بالنور على الأحداق، لا بالحبر على الأوراق.
2 - وشرح صغير على نهج البلاغة، وهو كتاب جيد مفيد جداً، ويذكر الزركلي (1) في الاعلام أن البحراني قد فرغ من تأليف شرحه الصغير لنهج البلاغة سنة احدى وثمانين وستمائة، وهو كتاب مطبوع.
3 - وشرح متوسط على نهج البلاغة، قال عنه صاحب لؤلؤة البحرين (2): إن للشيخ ميثم البحراني شرحاً ثالثاً على كتاب نهج البلاغة متوسطاً..
ص: 10
فكتاب نهج البلاغة - إذن - قد شرحه ميثم البحراني ثلاثة شروح: كبير ومتوسط وصغير. أي أن هذا الشرح قد راعى فيه المؤلف طبقات الناس الفكرية والعلمية، فوضع الشرح الكبير لخاصة الناس، والمتوسط لأوساط الناس، والصغير لعامتهم، فأرضى بذلك كل الأذواق والميول والرغبات، ولذلك يقول صاحب كتاب مجمع البحرين عن الشيخ ميثم وكتابه: إن ميثم البحراني شيخ صدق ثقة، له تصانيف منها: شرح نهج البلاغة لم يعمل مثله.
وميثم البحراني أديب متكلم من فقهاء الامامية من أهل البحرين، زار العراق، وتوفي في سنة 679 ه على أرجح الأقوال، وقبره في بلاد البحرين.
وقد رأى المؤلف أن يضع مقدمة ضافية عن كتابه شرح نهج البلاغة، ورتب هذه المقدمة على ثلاث قواعد:
القاعدة الأولى: في مباحث الألفاظ وهي مرتبة على قسمين:
القسم الأول: في دلالة الألفاظ، وأقسامها، وأحكامها.
والقسم الثاني: في الكيفيات التي تلحق الألفاظ بالنسبة إلى معانيها فتوجب لها الحسن والمزية، وتعدّها أتم الاعداد لأداء المعاني، وتهييء الذهن للقبول.
والقاعدة الثانية: في الخطابة؛ في حقيقتها وفائدتها، وموضوعاتها ومبادئها والأمور المحسّنة لها.
أما القاعدة الثالثة: فقد بيّن فيها أن عليّاً كرم الله وجهه كان مستجمعاً للفضائل الانسانية، والنفسية، والعملية، وفي صدور الكرامات عنه، والأفعال الخارقة للعادة.
وكتابة هذه المقدمة بقواعدها الثلاث رآها المؤلف ضرورية قبل أن
ص: 11
يطلع القاريء على شرحه، فهي بمثابة المنار الذي يهديه ليفهم الأصول البلاغية التي امتلأ بها شرحه لنهج البلاغة؛ لأن قراءة هذا الشرح دون أن تكون للقاريء خلفية بلاغية تجعله يتيه في خضم من قواعد البلاغة وشروحها، فرأى المؤلف أن يفرد القاعدة الأولى من هذه المقدمة في أصول البلاغة ونظم الأساليب، حتى يدرك القارىء ما كان عليه عليّ رضي الله عنه من بلاغة رفيعة وأسلوب فذ.
وكما كان علي كرم الله وجهه متصفاً بالبلاغة، فقد كان خطيباً من الطراز الأول؛ لذلك وضع المؤلف القاعدة الثانية في الخطابة ومبادئها وفائدتها والأمور المحسنة لها، حتى يتبين القاريء هذا المستوى الرفيع الذي بلغ شاوه علي كرم الله وجهه في خطابته.
أما القاعدة الثالثة: فقد وضعها المؤلف لنطلع على الفضائل الانسانية والنفسية التي يحملها الإمام علي، فكانت هذه الفضائل سمة من السمات التي تجعله يتصف بكثير من الصفات الحسنة التي عرى منها كثير من الخلق.
وقد اعتمدت في تحقيق هذه المقدمة على ثلاث نسخ: منها اثنتان مخطوطتان:
الاولى: مصورة عن نسخة مخطوطة محفوظة بدار الكتب تحت رقم 6380 أدب وقد كتبت هذه النسخة بخط نسخ جميل، وعدد لوحاتها 68 لوحة في كل لوحة صفحتان ورمزت إليها بالحرف ﴿أ﴾.
والثانية: مصورة عن نسخة مخطوطة محفوظة بدار الكتب تحت رقم 5218 أدب، وقد كتبت بخط دقيق جداً، وعدد لوحاتها احدى وثلاثون لوحة، وكل لوحة تشتمل على صفحتين، ورمزت إليها بالحرف ﴿ب﴾.
أما الثالثة: فهي المقدمة المطبوعة لشرح نهج البلاغة وتقع في تسعين صفحة صفحة وهي نسخة غير محققة، وقد رمزت اليها بالحرف ﴿م﴾.
ص: 12
وقد وضعت فهارس مفصلة تعين القاريء وتهديه للرجوع إلى الصفحات والنقاط التي يريدها في سهولة ويسر.
والله أسأل أن ينفع بنشر هذه المقدمة طلاب العلم ومحبّي البلاغة. مدينة نصر - أول فبراير 1984.
د. عبد القادر حسين
ص: 13
الصورة
ص: 14
الصورة
ص: 15
الصورة
ص: 16
الصورة
ص: 17
ص: 18
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿6 أ﴾ سبحانَك اللهم وبحمْدك توحّدْتَ في ذاتك، فحَسَر (1) عن إدراكك إنسانُ كلِّ عارف، وتفرّدْت في صفاتك، فقصّر عن مدحتك لسانُ كلِّ واصف، ظهرْتَ في بدائع جُودك، فشهدَتْ بوجوبِ وجودِك حاجةُ كل قائل، وبُهرتُ بعزّ جلالك فالكلّ في نور جمالك مضمحلٌّ باطل، أحاط علمُك فلم يعزُبْ (2) عنه مثقالُ ذرّةٍ من الأرض ولا في السماء، وتعدّدتْ آلاؤك (3). فتعدّت أنواعها حدّ التحديد والإحصاء خَلَقْتَ الدنيا مِضْمَاراً (4) يستعدّ فيه خلقُك للسباق إلى حضرة قدْسك، وأيّدتهم بالرسل ليسلكوا بهم أفضلَ السُبُل إلى بِساط أنْسك، ويسّرْت كُلًّا لما خُلق له، فبعضُ لنعمائك منكرون، وعن عبادتك مستكبرون، وبعضٌ بضروب إحسانك معترفون، وعلى باب كعبة جُودك معتكفون (5)، سبحانك أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، سبحانك عما يقول الظالمون، ﴿6 ب﴾ وتعاليْت عما يصفون، سبحانك بلسان الحال والمقال بالعشيّ والإبكار، وأحمدك على كل حال، آناء الليل وأطراف النهار، وأشهد أن لا إله إلا أنت حاذفاً كل ما سواك عن درجة الاعتبار (6)، مخلصاً لجلال وجهك في طوري الإعلان
ص: 19
والإسرار (1)، وأشهد أنّ محمداً عبدك المختار، وصفْوة أنبيائك الأطهار، الذي بعثَته بالأنوار الساطعة، وأيّدتَه بالبراهين والحجج القاطعة، وجعلتَه للعالمين بشيراً ونذيراً، وداعياً إليك بإذنك وسراجاً منيراً، اللهم ﴿صلّ﴾ عليه صلاةً دائمة نامية وافية كافية ما تعاقبت الأوقات، ودامت الأرضُ والسموات، وعلى آله الطاهرين المنْتَجِبين (2) ينابيعَ الحكمة، وأساطينَ الدين، وعلى أصحابه الأكرمين، والسلام عليهم أجمعين.
أما بعد، فلما كان المقصود الأول من بعثة الأنبياء والرسل بالكتب الإلهية، والنواميس الشرعية إنما هو جذبُ الخلْق إلى الواحد الحق، ومعالجةُ نفوسِهم من داء الجهْل، وعشقِ (3) هذه الدار، وإلفاتُها إلى حظائر القدس، ومنازلِ الأبرار، وحمايتُها أن ترِد مواردَ الهلاك؛ إذ من كانت ذلك على خطر، وتشويقُها إلى ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلْب بشر، وتنبيها من مراقد الطبيعة ونوم الغافلين بتذكر (4) ما أخذ عليها من العهد الكريم: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ (5) .
ص: 20
﴿7 أ﴾ ثم ما يلزم ذلك المقصود من تدبير أحوال المعاسِ البدنيّ وسائرِ أسباب البقاء للنوّع الإنسانيّ، وكان إمامنا سيدُ الوصيّين وأميرُ المؤمنين، ذو الآيات الباهرة، والأنوار [ الظاهرة [ (1): عليُّ بن أبي طالب عليه السلام في جميع ما ورد عنه من الكلام، وصدر عنه من الأفعال والأحكام قاصداً بجميع ما تضمّنه الشرع الكريم من [الأغراض [(2) والمقاصد، باسطاً لما اشتمل عليه القرآن الحكيم من القوانين و القواعد، حتى لن تُوجَدَ له كلمةٌ في غير هذا السبيل، كما سنبيّن ذلك عن ﴿قريب﴾ (3) ونوضحه بالتفصيل، فلا جَرَمَ (4) كان كلامه الكلامَ الذي عليه مَسْحَةٌ (5) من الكلام الإلهي، وفيه عَبَقةٌ (6) من الكلام النبوي، ولم يزل كلامه عليه السلام مَبَدَّداً (7) في صدور الرُّواة، منتشراً في أيدي المهتدين والغواة، تحاول أعداؤه أن يَخفى مشهورُه، ويأبى اللهُ إلّا أن يتمَّ نُورَه، إلى أن عزّ اللهُ الإسلامَ بوجود السيد الإمام الشريف الرضيّ (8) محمدٍ بن ع.
ص: 21
عليّ بن الحُسين الموسَوِيٌ قدّس الله روحه، ونوّر ضريحه، فأحيى من كلام جدّه (1) الرّفات، منه ما كان في حيّز الشّتات، وبالغ في تدوین محاسنه بقدر الاستطاعة، وسمّى مجموعَه «بنهج البلاغة» (2) فجاء الاسم وَفْق المسمى، واللفظُ طِبق المعنى، فجزاه اللهُ عن العلماء خيرَ الجزاء، وحَبَاه من وظائف الفضل أجزل الحباء (3).
ثم أني لما كنت عبداً من عباد الله أتاني رحمة من عنده، وملَّكني قوّةً أسلُك بها سبيلَ قصْدِه، وكنتُ قد جَعلتُ هذا الكتابَ بعد كتابِ الله وكلامِ رسوله مصباحاً استضيء به في الظُّلُمات، وسُلُّماً أعرُجُ به (4) إلى أطباق السموات ﴿7 ب﴾، كنتُ في أثناء وقوفي على شيء من أسراره، واكتحالي (5) بسواطع أنواره، أتأسّف علَى مَن يعرضُ عنه جهْلاً، وأتلهّف لو أجدُ له أهْلاً، إلى أن قضتْ صروفُ الزمن (6)بمفارقة الأهل والوطن، وأوجبت تقلّباتُ الأيام دخولَ دار السلام، فوجدتها نزهة للناظر، وآية للحكيم القادر بانتهاء [أحوال [(7) تدبيرها، وإلقاء] (8) .
ص: 22
مقاليد أمورها إلى من خصّه الله تعالى بأشرف الكمالات الإنسانية، وملّكه ملكات الفضائل النفسانية، فهو امرؤ (1) مَثُلتْ طبيعته من طينة الفضل حين ينتسب؛ فالعلم، والجود، والشجاعة، والعفة، والعدل، منه يُكتَسب، نعم هو من رشّحه الله لاستكفاء أمور عباده وبلاده، وجعلها مطاوعة لأزمّة قياده (2)، فأوامره العالية تسري فيها مسرى الأرواح في الأجسام، وآراؤه الصائبة تجري فيها مَجرى الصحة بعد السقام، الذي حاز على المناقب ففاز بأسنى المطالب، وسما بهممه الثواقب (3)، فأمن من غوائل (4) العواقب، الذي بدرت (5) أقمار العلوم بدولته السعيدة بعد الأفول في غيابة الجهالة، وسطع صبح الحق بطلعته الحميدة من أفق الضلالة، ورفع ذيولَ ظلام الظلم (6) فجرُ عدله، وأزهرت روضُ الرغائب (7) بفيض سحاب فضله المشيِّدُ لأركان الإسلام بعد التداعي للانهدام، المجدّد من آثارِ الإيمان ما محاه طوفانُ الطغيان. صاحب ديوان الممالك، السالك إلى الله أفضل (8) المسالك، علاء الحق والدين، عطاء المُلْكُ (9) بن الصاحِب المعظّم والمولى المكرَّم الفائز بلقاء رب .
ص: 23
﴿8 أ﴾ العالمين، ومجاورة ملائكته (1) المقرّبين، بهاء الدنيا والدين: محمد الجوينيّ، ضاعف اللهُ جلاله، وخلّد إقباله، وحرس عِزَّهُ وكمالَه، وأيّد فضلَه وإفضالَه، وفسحَ في مدّ عُمْرِه، وأمدّه بتوفيقه، وشدَّ أزرَه بدوام عِزّ صِنْوه (2)، وشقيقه الذي فاق ملوك الآفاق بعلوّ القدر، وكمال العزّ والفخر، ورصانة العلم والأدب، ورزانة العقل والحبّ الذي ملأ الأسماع بجميل أوصافه، وأفاض أوعية الأطماع بجزيل ألطافه، وأنس بها طَلّ وابل (3) بذله ما قيل من قبله في الكرم وأهله:
هُوَ البَحْرُ مِنْ أيِّ النَّواحِي أتيته *** فَلُجِّته المعروفُ والجودُ ساحلُه
تعوّد بذلَ الكفٌ حتى لو أنّه *** ثناها لقبْضٍ لمْ تُطِعْهُ أنامِلُه
ولوْ لمْ يكن في كفِّهِ غيرُ نفسه *** لجادَ بها فليتق اللهَ سائلُه (4)
نعمْ هو من جمعَ اللهُ له بيْن الحكمةِ والسلطان، وزاده بسْطةً في المرتَبةِ وعُلُوِّ الشأن، ذو النفسِ القُدْسِيّة، والخلافةِ الإنْسِيّة، والأعراقّ الزكيّة، والأخلاق الرضيّة، والهمم الأبيّة، والمقاصد السّنية، مولى ملوك العرب والعجم، صاحبُ ديوان ممالك العالم، شمسُ الحق والدين، غياثُ الإسلام والمسلمين، محمد بلّغه الله أقصى مراتب الكمال، ورزقه بلوغ الآمال في الحال والمآل، فإنهما لهذه الأمة بدران مشرقان، يُستضاءُ ف.
ص: 24
بأنوارهما، وبحران زاخران يُغترف من تيارهما، وطَوْدان (1) شامخان يُستعاذ بأقطارهما، وعمادان يقوم بهما في الوجود أركان الإيمان، و صارمان (2) يصول بهما الدين القيّم على سائر الأديان، فجزاهما اللهُ عن الإسلام وأهله أفضلَ جزاءِ المحسنين، وخصّهما من وظائف فضله بأكمل ما أعدّه لعباده الصالحين، وقرن سعادتَهما بالدوام والاستمرار، وعضّد [آراء هما] (3) بمطاوعة الأقضية والأقدار (4)، وصان دولتهما عن ﴿8 ب﴾ حوادث الأيام وآفاتها، وجعل نتائجَ أفعالِ أعدائهما تابعةً لأخسّ مقدماتها.
هذا، ولمّا اتفق اتصالي بخدْمته، وانتهيتُ إلى شريف حضْرته، أحلّني من أُنْسِه محلاًّ ألْهَى النفسَ عن أشهى مآربها (5)، وأمطرني من سحائب جوده نِعَماً تشبه الصورَ الفائضة من واهبها، فأجرى في بعض محاوراته الكريمة من مدح هذا الكتاب (6) وتعظيمه وتفضيله وتفخيمه ما علمتُ معه معه أنّه أهله الذي كنت أطلب، والعالِم بقدْره ومحلّه من بين الكتب، وتوسّمت في تضاعيف (7) ذلك تشوّق خاطرِه المحروس إلى كشف حقائقه، والوقوف على أسراره ودقائقه، فأحببْتُ أن أجعل شكري لبعض نعمه السابقة، ومِنَنِه المتوالية المتلاحقة، أن أخْدُِمَ سامي مجلسه بتهذيب شرح مرتب على القواعد الحقيقية، مشحونٍ بالمباحث اليقينية، أنبّه فيه على ما لاح لي من رموزه، وأكشف ما ظهر لي من دفائنه وكنوزه، .
ص: 25
وقد سبق إلى شرح هذا الكتاب جماعةٌ من أولى الألباب (1)، والناقدُ المسدّد للصواب يميّز القشر من اللباب، والسّراب من الشّراب، وشرعت في ذلك بعد أن عاهدتُ الله سبحانه أني لا أنصر فيه مذهباً غير الحق، ولا أرتكب هوى المراعاة أحد من الخلْق، فإن وافق الرأي الأعلى، فذلك هو المقصد (2) الأقصى، وإلا فالعذرُ ملتَمس مسئول، والعفوُ مَرْجُوٌّ مأمول، والرغبة إلى أهلِ الفضل في سدّ ما يجدونه من خَلَل (3)، وسترِ ما يقفون عليه من زلَلَ، فاني - مع ضعف جناحي عن (4) سلوك هذا المطار الذي هو مسْرحُ نفوس الأولياء الأبرار ﴿9 أ﴾ ومحلُّ أنظار الحكماء الكبار (5)، مقسَّمُ الأفكار، راكبٌ لمطايا (6) الأسفار، وعلى الله قصْد السبيل، وهو حسْبي ونِعْمَ الوكيل.
وقبل الخوْض في المطلوب لا بد من تقديم مقدمة يُستعان بها على ما عسى أن أذكره من المباحث في هذا الشرح إن شاء الله تعالى.
أما المقدمة: فاعلم أن كلامه عليه السلام يشتمل على مباحثَ عظيمة تتشعّب عن علوم جليلة، يحتاج المتصدّي للخوْض فيه، وفهْمِ ما يُشْرَح منه بعد جَودة ذهنه، وصفاء قريحته إلى تقديم أبحاث تُعينه على الوصول إلى تلك المقاصد .
ص: 26
ولمّا أبرز عليه السلام مقاصده في ألفاظ خطابيّة؛ إما منطوق بها، أو مكتوبة، تعيّن أن أذكرَ من مباحث الألفاظ قدْراً تمسُّ الحاجة إليه.
ثم أشير إلى بيان معنى الخطابة وما يتعلق بها؛ ليكون ذلك مُعيناً للناظر في كلامه على ملاحظة دقائقه، ومطالعة أسراره وحقائقه.
ثم أُلحق ذلك بالإشارة إلى ما يتعلق به عليه السلام من الفضائل.
فلا جرم (1) رتّبتُ هذه المقدمة على ثلاث قواعد..
ص: 27
ص: 28
في مباحث الألفاظ، وهي مرتّبةٌ على قسمين:
القسم الأول: في دلالة الألفاظ، وأقسامها، وأحكامها.
وفيه فصول:
الفصل الأول:
في دلالة اللفظ على المعنى.
وفيه أبحاث:
البحث الأول: دلالة اللفظ الموضوع (1) إمّا على تمام مسمّاه. أو على جزء مسمّاه من حيث هو جزؤه. أو على الأمر الخارج عن مسمّاه اللازم له في الذهن من حيث هو لازم له.
والدلالة الأولى: هي دلالة المطابقة؛ كدلالة لفظ الانسان على الحيوان الناطق.
والثانية: دلالة التضمّن (2)؛ كدلالته على الحيوان وحده، أو على الناطق وحده. ﴿9 ب﴾.
والثالثة: دلالة الالتزام (3)؛ كدلالته على الضاحك.
واحترزنا في الدلالتين الأخيرتين بقولنا: من حيث هو جزؤه؛ ﴿2﴾ ومن حيث هو لازمه، ﴿3﴾ عن دلالة اللفظ بالمطابقة على جزء المسمى، أو
ص: 29
على لازمه بحسب الاشتراك اللفظي.
بيانه: إنه إذا جاز أن يوضع اللفظ الواحد للمعنى ولجزئه، كلفظ الممكن مثلاً للمكن الخاص والعام.
وللمعنى ولازمه كلفظ الشمس على جِرْم الشمس، والنور اللازم عنه.
فلو اقتصرنا في تعريف دلالتي التضمّن والالتزام على التعريفين المذكورين دون هذين القيدين، لشمل ذلك دلالة المطابقة على تقدير وضع اللفظ لجزء المعنى أو لازمه، كما هو موضوع له؛ إذ كانت أيضاً دلالة اللفظ على جزء مسمّاه وعلى لازم مسمّاه.
البحث الثاني: الدلالة الأولى هي التي بحسب الوضع الصِّرف وأما الباقيتان (1)، فزعم الإمام فخر الدين (2) وجماعة من الفضلاء أنهما عقليّتان.
وفيه نظر (3)؛ لأنهم إن أرادوا أنهما حاصلتان عن صَرْف العقل من .
ص: 30
دون مشاركة الوضع فهو باطل؛ لأنه لولا ارتسام المعنى في الذهن عن اللفظ لما حصلت هاتان الدلالتان. وأيضاً فإنهم صرّحوا بأنهما من دلالات الألفاظ، فلا يمكن مع ذلك دعوى حصولهما عن مجرد العقل.
وإن أرادوا بذلك أن الذهن عند تصوّر المعنى من لفظه ينتقل منه إلى جزئه أو إلى لازمه فهو حق، وحينئذٍ تكون هاتان الدلالتان بشَرِكة من الوضع والعقل، ثم أنهما مستلزمتان للدلالة الوضعيّة من غير عكس؛ لجواز خلوّ الماهيّة (1) عن / ﴿10 أ﴾ التركيب، وعن اللازم البيّن، ولا يجب أيضاً أن تَلْزَم إحداهما الأخرى، وهو ظاهر مما مرّ.
البحث الثالث: ظهر مما ذكرنا أنه يُعتبر في الدلالة التضمّنيّة كون المعنى المدلول عليه بالمطابقة مركّباً.
وأما في الالتزامية، فالمعتبر فيه كونه ملزوماً في الذهن لأمر بيّن الثبوت له؛ إذ لولا اللزوم الذهني لم يُفِد إطلاقَ اللفظ في المعنى الخارج عن الماهية؛ لعدم الوضع بإزائه، وعدم انتقال الذهن عن موضوعه إليه فلم يكن دالًّا عليه؛ إذ المراد بدلالة اللفظ على المعنى، فَهْمه عند إطلاقه بالنسبة إلى من يعْلم الوضع، ولا يعتبر اللزوم الخارجي؛ لجواز دلالة اللفظ على ما يلزم مسمّاه في الخارج إذا لزم من تصوّره تصوّرَ مسمّاه كدلالة لفظ عدم الملكة عليها؛ كلفظ العمى على البصر، ثم اللزوم الذهْنيّ ليس مُوجِباً لانتقال الذهن من الملزوم إلى لازمه؛ إذ ليس هو تمام ما يتوقف عليه الدلالة الالتزامية (2)؛ بل لا بد من تصور الملزوم أولاً، وذلك متوقف .
ص: 31
على ما وضع اللفظ بإزائه (1)، والعلم بالوضع، وسماع اللفظ، أو حضوره بالبال، فهو إذن أحد الشروط المعدّة لتصوّر اللازم.
البحث الرابع: الدلالة الحقيقيّة (2) هي الدلالة الوضْعيّة الصّرفيّة، وأما الباقيتان فليستا بحقيقيّتيْن وهو ظاهر.
ولا مجازيّتين أيضاً؛ لأن من شرط المجاز استعمال اللفظ في في غير ما وضع له استعمالاً مقصوداً بالذات.
وهاتان الدلالتان قد يحصلان من استعمال اللفظ في مسمّاه حصولاً عرضيّاً؛ لأن الذهن قد ينتقل عند إطلاق اللفظ لإرادة مسمّاه إلى جزئه، أو إلى لازمه انتقالا / ﴿10 ب﴾ عرَضيّا، وكذلك إلى جزء جزئه، وإلى لازم لازمه في مراتب كثيرة، ومعلوم أن اللفظ أَطلق لإرادة مسمّاه واستعمل فيه بالذات لا فيما انتقل الذهن إليه من الأجزاء، واللوازم وإن كانت ﴿لها﴾ (3) سببيّة في ذلك الانتقال، فلم تكن الدلالة بواسطة اللفظ محصورةً في الحقيقيّة والمجازيّة. نعم استعمال اللفظ الموضوع، وإطلاقه بالذات لإرادة المعنى، لا يخلو من أن يكون حقيقيّاً أو مجازيّاً. .
ص: 32
في تقسيم الألفاظ
وفيه أبحاث:
البحث الأول: اللفظ إما أن لا يراد بالجزء منه دلالة أصلاً على شيء، وهو المفرد.
أو يراد بالجزء منه دلالة على شيء، وهو المركب.
لا يقال هذا منقوص بعبد الله، وما يجري مجراه فإنه مفرد مع أن كل واحد من أجزائه دالٌّ؛ لأنّا نقول: قد يُراد بالجزء من عبد الله وأمثاله دلالةٌ، ولا نسلّم أنه بذلك الاعتبار قد يكون مفرداً بل مركّب. وقد لا يراد به الدلالة فيكون مفرداً، فإذا قلنا في رسْمه (1): إنه الذي لا يُراد بالجزء منه دلالةٌ أصلاً، كان ذلك معياراً لكل لفظ بالنسبة إلى مراد اللافظ به فكل لفظ لا يُقصد بجزئه دلالةً كان مفرداً، وهذا هو الرسم القديم للمفرد والمركّب، وقد تبيّن أنه لا حاجة فيه إلى القيد الذي زاده المتأخرون، وهو قولهم من حيث هو جزؤه، فإن الرسمين متساويان.
البحث الثاني: اللفظ المفرد، إما أن يكونَ نفسُ تصوّر معناه مانعاً من وقوع الشركة فيه، وهو الجزئي، أو غير مانع،، / ﴿11 أ﴾ وهو الكلّي.
ص: 33
أما الجزئي، فيقال بمعنييْن:
أحدهما: ما ذكرناه ويُخص باسم الجزئي الحقيقي.
والثاني: أنه كلّ أخص تحت أعم.
والفرق بينهما أن الأول غيرُ مضاف ولا كلّي، والثاني مضاف إلى ما فوقه، وقد يكون كلّيّاً.
فأما الكلي، فإما أن يعنى به نفس الحقيقة التي لا يمنع تصورها وقوع الشركة فيها، ويسمى كلياً طبيعياً.
أو النسبة التي تعقل لها بالقياس إلى جزئياتها المعقولة وتسمى تلك النسبة كلياً منطقياً.
أو المجموع المعقول من الحقيقة والنسبة العارضة لها، ويسمى كلياً عقلياً.
ثم للكلي اعتبارات ستة، وذلك لأنه إما أن يكون ممتنع الوجود، أو مُمْكِنَه.
والأول، كشريك الإله والثاني: إما أن لا يُعرف وجوده أو يُعرف.
فالأول: كجبل من ياقوت، وبحر من زئبق.
والثاني: إما أن يمتنع أن يكون في الوجود منه أكثر من واحد أو يمكن.
والأول: كالإله تعالى.
والثاني: إما أن يكون في الوجود واحد منه فقط، وإن جاز وجود مثله أو أكثر من واحد.
والأول كالشمس عند من يجوّز وجود مثلها.
ص: 34
والثاني: إما أن يكون الموجود منه أشخاصاً كثيرة متناهية أو غير متناهية.
والأول كالكواكب والثاني، كأشخاص الإنسان.
البحث الثالث: إما أن يدل على ماهيّة شيء.
أو على ما يكون داخلاً فيها.
أو على ما يكون خارجاً عنها.
أما الدال على الماهية فإما على ماهية شيء واحد، أو على ماهية أشياء كثيرة.
والأول: إما أن يكون كليّاً أو جزئياً.
والثاني: إما أن تكون تلك الأشياء مختلفة الحقائق، أو متفقة الحقائق.
فهذه أقسام أربعة (1):
الأول / [11 ب]: هو المقول في جواب ما هو بحسب الخصوصية المطلقة كالجواب بالحدّ (2).
والثالث: هو المقول في جواب ما هو بحسب الشركة المطلقة.
والثاني والرابع: هو المقول في جواب ما هو بحسب الشركة والخصوصية معاً.
مثال الأول: قولنا في جواب من يسأل فيقول: 2
ص: 35
ما الإنسان؟ إنه حيوان ناطق، فخصوصية هذا الجواب ليست لغير الإنسان؛ إذ لا يشاركه في حدّه غيره.
والثالث: كقولنا في جواب من يسأل عن جماعة هم إنسان وفرس وثور. ما هم؟ إنها حيوانات؛ إذ كان هذا الجواب كمال الجزء المشترك بينها. فهو إذن مقول بالشركة المطلقة.
والثاني والرابع: كقولنا في جواب من يسأل عن زيد وحده، ما هو؟ إنه إنسان أو عن جماعة هم زيد وعمرو وخالد، ما هم؟ إنهم أناس، فيكون الجواب في الموضعين واحد.
أو هو بحسب الخصوصية والشركة معاً؛ إذ كل ما لكلّ واحد منها من الأجزاء حاصل الآخر، ولأن خصوصية هذا الجواب ليست لغير المسئول عنه.
وأما الدالّ على جزء الماهية، فإما أن يدل على كمال الجزء المشترك بينها وبين غيرها وهو الجنس القريب (1).
أو على كمال الجزء المميّز لها، وهو الفصل القريب (2).
أو على ما يتركب منهما (3)، وهو النوع (4)، أوْ لا، على واحد من هذه فيكون ذلك جزءاً للجزء، وهو إمّا جنس الجنس (5)، أو جنس الفصل، أو فصل الجنس، أو فصل الفصل، كما هو مذكور في مظانّه. .
ص: 36
وأما الدالّ على الخارج عن الماهيّة، فيختص باسم العَرَضِي.
واعتباره من وجهين:
أحدهما: أنه إما أن يكون لازماً، أو لا يكون.
والثاني: هو العارض.
والأول: إما أن يكون لازماً للماهيّة أو للوجود.
[والأول] (1): إما أن يكون [12 أ] بيّناً للماهية كالفردية للثلاثة، أو غير بيّن كالتناهي للجسم.
والثاني: كالسواد للغراب.
وأما العارض، فإما سريعُ الزوال، كالقيام والقعود، أو بطيئُه كالشباب.
الوجه الثاني: العَرضيّ (2):
إما أن يختص بنوع واحد لا يوجد لغيره سواء عمّ أفراده أو لم يعُمّ، ويسمى خاصة، كالضاحك للإنسان بالقوة والفعل.
أو لا يختص به بل يعمّه وغيره ويسمى عرَضاً عاماً، كالماشي للإنسان.
البحث الرابع: اللفظ والمعنى، إما أن يتّحدا، أو يتكثّرا، أو يتكثّر اللفظ ويتّحد المعنى، أو بالعكس.
أما الأول (3): فمعناه إما أن يكون كلّيّاً أو جزئيّاً.
فإن كان الأول، فإما أن يكون نسبته إلى أفراده المعقولة بالسّويّة وهو .
ص: 37
المتواطیء، (1)، كالإنسان بالنسبة إلى أشخاصه.
أوْ لا بالسّوية؛ بل في بعضها أوّل وأوْلى، وأشدّ وأضعف وهو المشكِّك (2)، كلفظ الوجود.
والثاني (3): هو العلم، كزيد.
والثاني (4): الأسماء المتباينة (5) سواء تفاصلت مفهوماتُها، كالإنسان والفرس، أو تواصلت على أن بعضها اسم للذات، والآخر اسم للصفة؛ كالسيف والصارم، أو على أن بعضها اسم للصفة، والآخر لصفة الصفة؛ كالناطق والفصيح.
والثالث (6): الأسماء المترادفة (7)، سواء كانت من لغة واحدة كالليث والأسد، أو من لغتين كالماء وآب (8).
وأما الرابع (9): فإما أن يكون قد وُضع اللفظ أوّلاً لأحد المعنيين، ثم نقل منه إلى الآخر، أو وضع لهما معاً.
أما الأول، فذلك النقل، إن كان لا لمناسبة بين المعنيين فهو ظ
ص: 38
مرتجل، وإن كان،لمناسبة فإما أن يكون دلالة [12 ب] اللفظ على المنقول إليه بعد النقل أقوى من دلالتها على المنقول عنه، أوْ لا يكون.
فإن كان الأول، سمى اللفظ بالنسبة إلى المنقول إليه منقولاً،
فإن كان الناقل هو الشارع، سمى لفظاً شرعيّاً، كالصلاة والزكاة.
وأهل العرف يسمى عرفيّاً، سواء كان العرف العام؛ كالدابة للفرس بعد وضعها لكلّ ما يدبّ، وكالغائط للفضلة الخارجة من الإنسان بعد وضعها للمكان المطمئن.
والخاص كالاصطلاحات الخاصة بطائفة ﴿طائفة﴾ (1) من أهل العلم، مثلاً كالرفع والنصب والجر عند النّحاة، والجمع والقلب والفرق عند الفقهاء، وكالموضوع والمحول والجنس والفصل عند المنطقيّين وأمثاله.
وأما إن لم يكن دلالته على الثاني أقوى:
فإمّا أن يتساوى بالنسبة إليهما عند الفهْم أو يكون في الأول أقوى.
فإن كان الأول كان ذلك لفظاً مشتركاً.
وإن كان الثاني، كان اللفظ بالنسبة إلى الأول حقيقة، وإلى الثاني مجازاً.
أما إذا كان اللفظ موضوعاً لهما معاً، فإما أن تتساوى دلالته عليهما عند الفهم، أو ترجّح في أحدهما.
فإن كان الأول، سمى اللفظ بالنسبة إليهما مشتركاً، وبالنسبة إلى كل واحد منهما مجملاً؛ لأن كون اللفظ موضوعاً لكل واحد منهما هو الاشتراك، وكونهما بحيث لا يُدرى عين المراد منهما، هو الإجمال. .
ص: 39
تذنيب: ظهر من هذا التقسيم (1)، أن الأقسام الثلاثة الأولى (2) مشتركة في أنها ليست بمشتركة، فكانت نصوصاً.
وأما الرابع، فله اعتبارات ثلاثة:
أحدها: اعتبار كوْن إفادته أرجح في بعض مفهوماته / [13 أ]، وبذلك يسمى ظاهرا.
والثاني: اعتبار كونها مرجوحة في المفهوم المقابل للراجح، وبذلك يسمى مؤوّلاً.
والثالث: كونها متساوية بالنسبة إلى المفهومين بحيث لا يُدرى المراد منهما، وبذلك يسمى مجملاً.
فالرجحان إذن قدْر مشترك بين الظاهر (3) والنص (4).
وعدم الرجحان قدر مشترك بين المجمل (5) والمؤوّل (6).
فيسمى المشترك الأول مُحْكماً (7)، والثاني متشابهاً (8). .
ص: 40
البحث الخامس: اللفظ المفرد؛ إما أن لا يستقلّ معناه بالمفهوميّة أو يستقلّ.
والأول: هو الحرف.
والثاني: فإما أن يستلزم معناه الوقوع في أحد الأزمنة الثلاثة المعيّنة
وهو الفعل، أو لا يستلزم وهو الاسم. وهو إما أن يدل على معنى هو نفس الزمان كالزمان. أو على جزء الزمان كاليوم والغد أو على معنى جزء الزمان، كالصبوح والغبوق (1) أوْ لا على واحد منهما.
وهو إما أن يكون اسماً لجزئي شخصي، فإن كان مضمراً فهو المضمرات، أو مظهراً فهو العلم كما مرّ.
وإن كان اسماً لكلّي، فإما أن يكون لنفس الماهيّة، كلفظ السواد، والمسمى باسم الجنس في اصطلاح النحاة.
أو لأمر ماله صفة كذا وهو الاسم المشتق، كلفظ الضارب، فإن مفهومه أنه أمر ماله صفة الضرب.
البحث السادس: اللفظ المركّب؛ إما أن يكون قابلاً للتصديق والتكذيب لذاته، وهو الخبر.
أو لا لذاته، وهو إما أن يكون مفيداً لطلب شيء إفادةً أوليّةً أو ليس كذلك.
والأول: إن كان على طريقة الاستعلاء، فهو الأمر.
وإن كان على طريق التساوي، فهو الالتماس.
ص: 41
وإن كان على طريق الخشوع والتضرع، فهو السؤال.
والثاني: هو التنبيه، ويدخل فيه التمني والترجي والقَسَم والنداء.
البحث السابع: اللفظ قد يكون/ [13 ب] مدلوله لفظاً مفرداً أوْ مركّباً، وعلى التقديرين فإما أن يدل على معنى، أو لا يدل، فهذه أقسام أربعة:
الأول: لفظ مفرد دالّ على معنى مفرد كلفظ الكلمة، والاسم والفعل والحرف.
والثاني: لفظ مفرد دال على لفظ مركب دال على معنى مركب كلفظ الخبر، والكلام، والقول الدالّ على قولنا: زيد كاتب، الدال على معانيه.
الثالث: لفظ مفرد دالّ على لفظ مفرد غير دالّ على معنى كقولنا: أ - ب، وسائر حروف المعجم.
الرابع: لفظ مفرد دالّ على لفظ مركب غير دالّ؛ كلفظ الهذَيان والهَذَر (1).
البحث الثامن: اللفظ المفرد إذا دلّ بالالتزام على معنًى، فذلك المعنى؛ إما أن يكون شرطاً للمدلول عليه بالمطابقة، أو تابعاً له، والأول تسمى دلالة الاقتضاء، وتلك الشرطية؛ إما عقلية كشَرْطيّة نصب السلّم لصعود السطح عند الأمر به أو شرعية كشرطية الوضوء للصلاة عند الأمر بها.
وأما التابع، فكنفْي الحكم المذكور لشيء حال تخصيصه بذكره .
ص: 42
عن (1) غيره عند من يقول به فإن معنى التخصيص مستلزم للنفي المذكور. وكذلك اللفظ المركب إذا استلزم تركيبه معنى.
فإما أن يكون من متمّمات المعاني المذكورة بالمطابقة أو من توابعها.
والأول: كدلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب.
وأما الثاني: فكاستلزام قوله تعالى: ﴿فالآنَ بَاشِرُوهُنَّ ... إلى قوله تعالى: حتّى يتبيّن لكُم الخَيْطُ الأبيضُ﴾ (2) لعدم فساد صوم من أصبح جنباً، وإلا لحرم الوطء في آخر جزء من الليل يتسع للغسل، وبالله التوفيق. .
ص: 43
في الاشتقاق (1)
وفيه أبحاث:
البحث الأوّل: في حقيقة الاشتقاق (2):
والاشتقاق: أخذ أحد اللفظين من الآخر لمشاركة بينهما في / [14 أ] الاشتمال على المعنى والحروف الأصليّة.
وأركان الاشتقاق أربعة:
الأول: اسم موضوع لمعنى.
الثاني: مسمّىً آخر له نسبة إلى ذلك المعنى.
الثالث: مشاركة بين الاسمين في الحروف الأصلية.
الرابع: تغيير يَلْحَق الاسم الثاني؛ إما في حروف فقط، أو في حركة فقط، أو فيهما معاً.
وكل واحد من هذه الأقسام؛ فإما بالزيادة وحدها، أو بالنقصان وحده، أو بهما.
ص: 44
وظن الإمام (1) أن الحاصل من هذه القسمة تسعة أقسام فقط، وهو نتحقّقه عند الاعتبار بأن الحاصل منها خمسة عشر قسماً (2):
أ - زيادة الحرف (3).
ب - زيادة الحركة (4).
ج - - زيادتهما معاً (5).
د - نقصان الحرف (6).
ه - - نقصان الحركة (7).
و - نقصانهما معاً (8).
ز - زيادة الحرف مع نقصانه (9).
ح - زيادة الحرف مع نقصان الحركة (10).
ط - زيادة الحرف مع نقصانهما (11).
ي - زيادة الحركة مع نقصانها (12)
ك - زيادة الحركة مع نقصان الحرف (13). .
ص: 45
ل - زيادة الحركة مع نقصانهما (1).
م - زيادتهما معاً مع نقصان الحرف (2).
ن - زيادتهما معاً مع نقصان الحركة (3).
س - زيادتهما معاً مع نقصانهما معاً (4)
فهذه هي الأقسام الممكنة وعلى اللغوي طلب الأمثلة.
البحث الثاني: اختلف الناس في أنه هل يجوز صِدْق المشتقّ منفكّاً عن صدق المشتق منه، أم لا؟
والحق أنه يجوز. لنا أن الاشتقاق يكفي فيه أدنى ملابسة بين المشتقّ والمشتقّ منه فلا يشترط صدقه على ما يصْدق عليه المشتقّ، فإن المهْلك، والمميت والضارٌ والمُذِلّ، مما يصْدُق على ذات الله تعالى مع أن الأمور المشتقّ منها وهي: الهلاك، والموت / [14 ب]، والضرر، والذلّ غير صادقة ولا جائزة عليه، ومتى صَدُق المركّب صدُق كلُّ واحدٍ من أجزائه.
لأنّا نقول: لا نسلّم أن المشتق منه من حيث هو مشتقٌ منه جزء من المشتق، وحاصلٌ فيه بل الحاصل فيه شيء من أجزائه، وهي الحروف الأصلية، وبعض الحركات، فإنّا بيّنا أن المشتقّ لا بد (5) أن يلحقه تغيير بأحد الوجوه المذكورة، والقدْر المتغيِّر منه لا شك أنه كان معتبراً في حقيقة (6) المشتق منه، فبعد التغيير لم تبق تلك الحقيقة، فلمْ يلزم صدقها حال صدق المشتق. .
ص: 46
البحث الثالث: اختلفوا أيضاً في أنه هل يشترط في صدق المشتق بقاء صدق المعنى المشتق منه من لفظه أم لا؟
والحق أنه لا يشترط لوجوه:
أحدها: أنا نعلم بالضرورة وإطلاق أهل اللغة لفظَ المشتقِّ على الشيء حال مالا يكون وجه الاشتقاق باقياً، كإطلاقهم لفظ القاتل في الحال على من فعَل القتل فيما قبل.
الثاني: أن الضارب مثلاً هو من حصل منه الضرب ولابسَه ملابسة فعلية، وهو أعم من حصوله له في الحال أو في الماضي؛ لإمكان تقسيمه إليهما، ولا يلزم من نفي الخاص نفي العام فلا يلزم من نفي الضرب في الحال نفي مطلق الضرب فلا يلزم من صدق المشتق بقاء وجه الاشتقاق.
الثالث: المشتقات من المصادر السّيالة كالمتكلم والمخبر لا يمكن بقاء وجه الاشتقاق فيها، فإن الإنسان حال ما يتكلّم بالحرف الثاني فات الحرف الأول، فلا يمكن تحقّق ماهية الكلمة في الخارج، فضلاً أن يقال إنها تبقى، مع أنها صادقة بالاتفاق.
لا يقال: الضارب مثلاً بعد انقضاء الضرب يصدق عليه أنه ليس بضارب في الحال وقولنا: ليس/ [15 أ] بضارب جزء من قولنا ليس بضارب في الحال، ومتى صَدُق المركّب، صدق كلّ واحد من أجزائه، فإذن صدق عليه أنه ليس بضارب، فوجب أن لا يصدق عليه أنه ضارب؛ لتناقضهما في العرف.
لأنّا نقول: إن كانت القضيتان مؤقتتين (1)، منعنا التناقض في العرف والحقيقة؛ لأن المكذِّب لقولنا: إنه ليس بضارب في الحال، قولنا: إنه ضارب في الحال، ونحن ما ادّعينا صدق قولنا: إنه ضارب في الحال؛ بل .
ص: 47
إنه في الحال يصدق عليه أنه ضارب ولا تناقض لعدم اتحاد الوقت.
وإن كانتا مطلقتين (1)، فدعوى التناقض إما حقيقة وهو ظاهر الفساد؛ لأن المطلقتين لا تتناقضان.
أو عرفاً، وهو أيضاً ممنوع، وبتقدير تسليمه نمنع صدق قولنا بعد
انقضاء الضرب إنه ليس بضارب؛ لصدق قولنا في تلك الحال إنه ضارب وتناقضهما عرفاً وبالله التوفيق.
البحث الرابع: اختلفوا أيضاً في أن المعنى القائم بالمحلّ، هل يجب أن يشتق منه اسم أوْ (2) لا؟
والحق أن يقال: المعاني إن لم يكن لها أسماء كأنواع الروائح، لم يجب ذلك فيها.
وإن كان لها أسماء، لم يجب أيضاً أن يشتق لمحالّها منها أسماء.
وهل يجوز أن يشتق لغير محالّها منها أسماء أوْ لا؟
والحق جوازه في الموضعين خلافاً لقوم من الأشعرية (3)، فإنهم قالوا: يجب الاشتقاق منها لمحالّها، ولا يجوز لغيرها.
لنا أن الجواز متفق عليه، وأما الجواب وتخصيصه بالمحلّ، فلم يذكر الخصم فيه دليلاً.
وأما جواز الثاني، فلأن الاشتقاق يكفي فيه أدنى ملابسة، فإن 6.
ص: 48
المشتق هو شيء (1) ذو المشتق منه. ولفظة ذو لا يقتضي الحلول. ومن الأمثلة المشهورة: اللّابِن والتّامِر (2)، فإنهما مشتقان من اللبن والتمر، وهما غیر قائمين بذات المشتق له.
البحث الخامس: مفهوم المشتق، كالماشي مثلاً، إنه شيء ذو مشي، فأما ذلك الشيء فغير داخل في مفهومه، وإن عُلِم فإنما يُعلم بطريق الالتزام.
برهانه أنك / [15 ب] تقول: الماشي حيوان، فلو كان مفهوم الماشي أنه حيوان ذو مشي، لكان ذلك بمنزلة قولك: الحيوان ذو المشي حيوان، وهو هذر (3)؛ بل إنما يعلم كونه حيواناً بدليل من خارج، وبالله التوفيق. .
ص: 49
في الترادف والتوكيد (1)
وفيه أبحاث:
البحث الأول: في ماهيّتهما:
أما الترادف: فهو كون لفظين مفردين، أو ما زاد عليهما (2) دالّين بالوضع على معنى واحد باعتبار واحد.
و «بالأفراد» احترزنا عن الاسم والحدّ (3).
وباعتبار واحد، عن اللفظين إذا دلّا على شيء واحد باعتبارين (4)، كالصارم والسيف، وباعتبار الصفة وصفة الصفة كالناطق والفصيح، فإن تلك متباينة.
وأما التوكيد فهو تقوية ما يفهم من اللفظ بلفظ آخر (5).
ص: 50
وللإمام فخر الدين (1) - رحمه الله - تساهل في هذا المقام؛ إذ يحدّ التأكيد بأنه اللفظ الموضوع لتقوية ما يفهم من لفظ آخر، ولم يفرّق بين التوكيد وبين نفس المؤكد وهو ظاهر.
البحث الثاني: في أسباب الترادف:
إنه يجوز وقوع الألفاظ المترادفة من واضع واحد، ويجوز وقوعها من واضعين، ويشبه أن يكون الأول أقل وجوداً، وله سببان:
الأول: التسهيل والإقدار على الفصاحة؛ لأنه ربما يمتنع وزن البيت وقافيته مع بعض أسماء الشيء دون اسمه الآخر، وربما حصلت رعاية السجع والمقلوب والجنس، وسائر أصناف البديع مع بعض أسماء للشيء ولا يحصل مع الآخر (2).
الثاني: التمكن من تأدية المقصود بإحدى العبارتين عند الغفلة عن الأخرى.
وأما الثاني: وهو السبب الأكثريّ، فيجوز أن تصطلح أحدى القبيلتين على اسم للشيء غير الاسم الذي اصطلحت عليه / [16 أ] القبيلة الأخرى، ثم يشتهر الوضعان بعد ذلك معاً.
البحث الثالث: إنه هل يصح إقامة كل واحد من المترادفين مقام الآخر دائماً أو لا؟
الظاهر في بادىء الرأي ذلك؛ لأن المترادفين هما اللذان يفيد كل واحد منهما عين فائدة الآخر، فلما صحّ أن [يُضمّ] (3) المعنى المدلول عليه بأحد اللفظين إلى معنى آخر، فلا بد (4) أن تبقى الصحة حال ما يدل عليه .
ص: 51
باللفظ الثاني؛ لأن صحة الاقتران من عوارض المعاني.
وفيه نظر؛ لأن صحة الاقتران كما يكون من عوارض المعاني، كذلك يكون من عوارض الألفاظ؛ فإنك لو أبدلت لفظ «من» بمرادفه من الفارسية لم يصح، فكان هذا الامتناع من قِبل الألفاظ أيضاً.
قال الإمام فخر الدين: وإذا عقل ذلك في لغتين، فلم لا يجوز مثله في لغة واحدة؟.
والحق أنه يصح إقامة أحد المترادفين مقام الآخر بشرطين:
أحدهما أن يكونا من لغة واحدة.
والثاني: أن يتساويا في فهم المعنى منهما حال التخاطب بهما، أو يَقْرُبا من التساوي.
[تذنيب] (1): إذا كان أحد المترادفين أظهر في الاستعمال عند قوم كان الجليّ بالنسبة إلى الخفيّ شرحاً له، وربما انعكس الأمر بالنسبة إلى قوم آخرين.
البحث الرابع: في أقسام التوكيد:
المؤكّدِ إما أن يكون متقدماً على المؤكَّد، أو مؤخّراً عنه.
والأول؛ كصيغة إنّ وما في حكمها مما يدخل على الجمل.
وأما الثاني؛ فإما أن يؤكَّد الشيء بنفسه أو بغيره.
والأول، كقوله عليه السلام: «والله لأغزونً قريشاً ثلاثاً (2). .
ص: 52
والثاني؛ إما أن يختص بالمفرد كلفظ النفس والعين أو المثنى ككلا وكلتا، أو الجمع كأجمعون وأكتعون أبتعون أبصعون (1)، وكلّ هي أمّ الباب.
البحث الخامس: في حسن استعماله والخلاف فيه مع الملحدة الطاعنين في الوحي.
والنزاع إما في الجواز وهو معلوم / [16 ب] بالضرورة؛ لأن شدة اهتمام القائل بالكلام يدعوه إلى التأكيد (2).
وإما في الوقوع، وهو أيضاً معلوم من اللغات بعد تصفّحها، وهو وإن كان حسناً إلا أنه إذا تعارض حمل الكلام على التأكيد، أو على فائدة
زائدة، وجب صرفه إلى الفائدة الزائدة. .
ص: 53
في المشترك
وفيه أبحاث:
البحث الأول: في حقيقته، وإمكانه، ووجوده.
أما حقيقته (1): فهو اللفظ الواحد الموضوع الحقيقتين مختلفتين أو أكثر، وضعاً أوّلاً من حيث هو كذلك.
وقولنا موضوع لحقيقتين مختلفتين، احتراز عن الأسماء المفردة.
وقولنا وضْعاً أوّلاً، احتراز عما يدل على الشيء بالحقيقة، وعلى غيره بالمجاز.
وقولنا (2) من حيث هو كذلك احتراز عن اللفظ المتواطىء، فإنه يتناول الماهيات المختلفة، لكن لا من حيث هي محتلفة؛ بل من حيث إنها مشتركة في معنى واحد وأما إمكانه فمن وجوه:
أحدها: أن الوضع تابع لغرض المتكلم، وقد يكون للإنسان غرض في [ تعريفه] (3) شيئاً على التفصيل، وقد يكون غرضه تعريفه على سبيل الإجمال، بحيث يكون ذكره بالتفصيل سبباً للمفسدة.
ص: 54
والثاني: إنه ربما لا يكون المتكلم واثقاً بصحة الشيء على التعيين، إلا أنه يكون واثقاً بصحة أحد المعنيين لا محالة، فحينئذ يطلق اللفظ المشترك؛ كيلا يُعَدُّ بتصريحه بأحد المعنيين كاذباً، وبسكوته جاهلاً.
الثالث: إنه يجوز أن يضع أحد قبيلتين ذلك اللفظ لمعنى ثم تضعه قبيلة أخرى لمعنى (1) آخر، ثم يُشبّه الوضعان، ويخفى كونه موضوعاً منهما.
وأما وجوده؛ فهو معلوم بالضرورة؛ إذ من خواص اللفظ المشترك أنه إذا أطلق لم يتبادر الذهن إلى أحد مفهوميه دون الآخر؛ بل يبقى الذهن عند سماعه متردداً في تعيين المراد منه إلى ظهور القرينة المعينة له، وذلك ظاهر كلفظ / [17 أ] «القُرْء» للحيض والطهر (2)، وإن كان ذلك أيضاً قد يختلف بحسب كثرة الاستعمال في أحد المعنيين وقلّته، إلا أنه يكفينا في ذلك تردّد بعض الأذهان فيه.
البحث الثاني: في أقسامه:
مفهوما اللفظ المشترك، إما أن يكونا متباينين، أو متواصلين.
والأول، كالطهر والحيض.
والثاني، إما أن يكون أحدهما جزءاً من الآخر، أو لا يكون:
والأول، كالممكن لغير الممتنع ولغير الضروري.
والثاني، إما أن يكون أحدهما علّة للآخر، أو صفة له.
والأول، كلفظ الواجب بالذات، والواجب بالغير. .
ص: 55
والثاني، كلفظ الأسود لذي السواد المسمى أسود.
تنبیهان:
[أحدهما ] (1): إذا نسبتَ ذا السواد المسمى: أسْود إلى ما يشاركه في لونه كالقار، كان إطلاق لفظ الأسْود عليهما من تلك الجهة بالتشكيك. وإن اعتبرته من جهة اسمه كان مقولاً عليهما بالاشتراك.
الثاني: قال فخر الدين (2) - رحمه الله - :
النقيضان لا يجوز أن يوضع لهما لفظ واحد؛ لأن المشترك لا يفيد إلا الترديد؛ وهو بين النفي والإثبات أمر حاصل معلوم لكل أحد،
وفيه نظر؛ لأن الأسباب التي ذكرنا أنه يجوز أن تكون أسباباً لوضع اللفظ المشترك، عامة لا تخصّ بعض (3) المعاني دون البعض، ولأنه إذا جاز وضع اللفظ الواحد للمعنى وضده الذي هو من قوة نقيضه كالقُرء للحيض والطهر إذا كان المحلّ لا يخلو عن أحدهما، والترديد بينهما معلوم لكل أحد فلم لا يجوز مثله في النقيضين؟ والله أعلم.
البحث الثالث: في أسبابه:
أما أسباب وجوده (4)، فيشبه أن يكون السبب الأكثري فيه هو أن .
ص: 56
تضعه كل واحدة من قبيلتين لمعنى، ثم يشبه الوضعان ولا يتميزان.
وأما السبب الأقلّي؛ فإن يضعه واحد لمعنيين لغرض التكلم باللفظ المجمل، وقد مر أن التكلم باللفظ المجمل / [17 ب] من مقاصد العقلاء.
وأما السبب الذي يعرف به وجوده فإما تصريح أهل اللغة بذلك، أو تساوي المفهومين بالنسبة إلى السامع عند إطلاق اللفظ وتردد ذهنه في أيهما المراد بعد العلم بالوضع لهما.
البحث الرابع: في أنه هل يجوز استعمال اللفظ المشترك في معانيه على الجمع أو لا؟
جوز ذلك الشافعي (1)، وأبو بكر الباقلاني (2)، وأبو علي الجبّائي (3)، والقاضي عبد الجبار (4). ومنع منه أبو هاشم (5)، والحسن .
ص: 57
ثم منهم من منع منه لأمر يرجع إلى القصد.
ومنهم من منع منه لأمر يرجع إلى الوضع. وهو اختيار الإمام فخر
الدين - رحمه الله - .
حجة المجّوزين من وجهين:
أحدهما: أن الصلاة من الله رحمة ومن الملائكة استغفار، ثم إن الله تعالى أراد بهذه اللفظة كلا معنيهما في قوله:
﴿إنَّ الله وملائكتَه يُصَلُّونَ على النّبيّ﴾ (3).
الثاني: قوله تعالى: ﴿ألمْ ترَ أنّ اللهَ يَسْجُدُ لهُ مَنْ في السمواتِ ومَنْ في الأرضِ والشمسُ والقمرُ والنجومُ﴾ (4) الآية والسجود هاهنا مشترك بين الخشوع؛ لأنه هو المتصوّر من الملائكة، وبين وضع الجبهة على الأرض في حقّ الناس وبين شهادة الحال بالحاجة إلى الصانع؛ لأنه هو المتصوّر من الجمادات، ثم إن الله تعالى أراد به كل معانيه في هذه الآية.
حجّة المانعين: أن المجموعَ غيرُ كلّ واحد واحد، فالواضع إذا وضع لفظ المعنيين على الانفراد، فإما أن يضعه مع ذلك لمجموعهما، أو لا يضعه، فإن لم يضعه له، كان استعماله فيه استعمالاً للفظ في غير ما وضع له، وإنه غير جائز، وإن وضعه له، فإذا استعمله فيه، فإما أن يستعمله فيه لإفادته بانفراده، فيكون ذلك استعمالاً للفظ في أحد مفهوماته لا في كلها..
ص: 58
وإن استعمله مع إفادة الأفراد، فهو محال؛ لأن استعماله / [18 أ] لإفادة المجموع يستلزم عدم الاكتفاء بكل واحد من الأفراد، واستعماله لإفادة الأفراد يستلزم الاكتفاء بكل واحد من الأفراد والاكتفاء بكل واحد من الأفراد مع عدم الاكتفاء بكل واحد منها مما لا يجتمعان.
وأقول: إن محلّ النزاع في هذا البحث غير ملخّص:
فإنه إن أريد أن يجوز استعماله في مدلولاته على الجميع مطابقة، فليس يحق؛ لما يلزم المستعمل له كذلك من التناقض في القصد إلى المجموع وإلى الأفراد.
وإن أريد أنه يجوز استعماله فيها على الجميع لإفادتها كيف اتفق، فذلك جائز؛ إذ يصح استعماله في المجموع مطابقة مع دلالتها على الأفراد تضمّناً.
وقول المانع: إنه إذا لم يكن الواضع وضع اللفظ للمجموع كما وضعه للأفراد امتنع استعماله فيه.
إن أراد به حقيقة فهو حقّ، وإن أراد أنه يمتنع استعماله فيه مجازاً، فهذا ممّا لا تقتضيه [ حجته] (1).
وأما حجج المجوّزين فضعيفة:
أما الأولى: فلأن ضمير الجمع في قوله تعالى: ﴿يصلّون﴾ (2) بمنزلة الضمائر المتعددة المقتضية للأفعال المتعددة التي يراد بكل واحد منها معنى غير ما يراد بالآخر، والتقدير: إن الله يصلّي وملائكته تصلّي.
وأما الثانية: فلأن المعطوفات المتعددة تستدعي (3) تعدّد الأفعال؛ .
ص: 59
فتقدير قوله ﴿وللهِ يسْجدُ مَن في السموات ومَن في الأرضِ﴾ (1) وكذا الباقي والمراد بكل منها المعنى الذي تقتضيه القرينة.
ثم لو سلمنا أنها استعملت في كل مفهوماتها؛ لكنه يكون مجازاً وإلّا
لزم (2) لتناقض، كما هو مذكور في حجّة المانعين، وبالله التوفيق. البحث الخامس: فيما يتعين به مراد اللّافظ باللفظ المشترك:
اللفظ المشترك إن لم تقترن ﴿33﴾ به قرينة تخصص أحد معنييه بالمراد به بقي مجملاً.
وإن وجدت قرينة كذلك، فإما أن تقتضي الاعتبار أو الإلغاء، وعلى التقديرين؛ فإما لكل المسمّيات أو لبعضها، فهذه أقسام أربعة.
فالأول: أن تفيد اعتبار كلِّ واحد / [18 ]، فتلك المسمّيات؛ إما أن تكون متنافية بحيث لا يمكن الجمع (3) بينها، فيبقى اللفظ مجملاً إلى ظهور المرجّح،
وإن لم تكن متنافية، حُمل اللفظ على مجموعها مجازاً.
الثاني: أن تفيد إلغاءَ كلِّ واحد فحينئذ يجب حمْلَ اللفظ على مجازات تلك الحقائق المُلْغاة، ثم أن تكون بعض تلك الحقائق أرجح من بعض لو لم يقع الدليل على عدم إرادتها، أوْ لا تكون.
فإن كان الأول، فمجازاتها إما أن تتساوى في القرب من الحقائق، فيتعيّن حملُ اللفظ على مجاز الحقيقة الراجحة. (4)
أو تتفاوت المجازات، فإن كان الراجح منها هو مجاز الحقيقة .
ص: 60
الراجحة، تعيّن الحمل عليه، أو مجاز الحقيقة المرجوحة، فيقع التعارض بينه وبين مجاز الحقيقة الراجحة؛ لاختصاص كل منهما بنوع ترجيح إلى أن يظهر مرجّح آخر.
وأما إن تساوت الحقائق؛ فإن اختلفت مجازاتها بالقرب والبعد منها، حُمل اللفظ على المجاز الأقرب.
وإن لم تختلف بقي التعارض بين مجازات تلك الحقائق؛ لتساويها وتساوي حقائقها إلى أن يظهر الترجيح.
الثالث: أن تفيد إلغاء البعض، فإن كانت اللفظة مشتركة بين معنيين فقط تعين الحمل على الثاني.
وإن كانت لأكثر من معنيين، فعند إلغاء بعضها، إن كان الباقي واحداً
تعين الحمل عليه أو أكثر من واحد فيبقى اللفظ مجملاً فيها.
الرابع: أن تفيد اعتبار البعض، فيتعين الحمل عليه سواء كانت اللفظة لمعنيين أو أكثر.
ص: 61
ص: 62
في كيفيات تُلحق الألفاظَ بالنسبة إلى معانيها فتوجب لها الحسْن
والمزيّة (1) وتُعدّها أتمّ الإعداد لأداء المعاني، وتهيّء الذهن للقبول.
وهو مرتب على مقدمة وجملتين:
أما المقدمة ففيها بحثان:
البحث الأول: في حدّ البلاغة والفصاحة.
أما البلاغة [ فهي] (2) مصدر قولك ﴿19 أ﴾. بُلغ الرجل بالضم إذا صار بليغاً؛ وهو أن يبلغ بعبارته أقصى مراده باللفظ من غير إيجاز مخلّ ولا تطويل مملّ.
وأما الفصاحة: فهي (3) خلوص الكلام من التعقيد.
وأصله من الفصيح وهو اللّبن إذا أخذْتَ رَغْوَتَه وذهب لِبَاوُه (4)
وقد فصح وأفصح إذا صار كذلك، وأفصحت الشاة: فصُح لبنها،
ثم قالوا: أفصح العجميّ فصاحة فهو فصيح، إذا خَلُصت لغته اللّكنة واللحن، ثم إن الفصاحة عند أربابها ليست باستعمال الشوارد التي لا تُفهم، وإنما هي باستعمال ما يقرب فهمه، ويَعْذُب استماعه، ويُعْجِب ابتداعه، وتدلّ مطالعه على مقاطعه وتنمّ مباديه على تواليه (5). وأكثر
ص: 63
البلغاء لا يكادون يميّزون بين البلاغة والفصاحة؛ بل يستعملونهما استع اللفظين المترادفين على معنى واحد (1)، ومنهم من يجعل البلاغة المعاني، والفصاحة في الألفاظ (2). والأقرب أن الفصاحة سبب للبلاغ والبلاغة أعمّ منها لغة؛ إذ قد يبلغ غير الفصيح بعبارته أقصى مراده، كانت﴾ (3) مساوية لها في عرف العلماء.
وتلخيص مفهوميهما: أن الفصاحة هي خلوص الكلام في دلا على معناه من التعقيد الموجب لقرب فهمه ولذاذة استماعه.
والبلاغة: هي كَون الكلام الفصيح مُوَصِّلاً للمتكلم إلى أق مُراده. وبالله التوفيق.
لما كان المقصود من الكلام هو إفادة المعنى، وكانت هذه الإ كما علمت قد تكون وضعيّة صِرْفة، وقد تكون بمشاركة من الوضع والع فنقول:
موضوع علم الفصاحة: هو الكلام الدال على معناه بإحدى الدلا
الثلاث من حيثُ هو على حالةٍ موجبةٍ لقرب فَهمه ولذاذة استماعه.
وموضوعُ البلاغة: هو الكلام الفصيح.
وقال الإمام: [ أن الفصاحة والبلاغة إنما يكون موضوعهما الكلام من - دلالته بالالتزام؛ وذلك لأن الافادة الوضعية يستحيل تطرق ﴿19 ب﴾ الز
ص: 64
والنقصان اليها (1)؛ فإن السامع للفظ الموضوع إن كان عالماً بكونه موضوعاً لمعناه، علم مفهومه بتمامه. وإن لم يكن عالماً بالوضع، لم يتصور منه شيئاً]؛ [مثاله (2): أنك إذا أردت تشبيه زيد بالأسد في الشجاعة وقصدت التعبير عن هذا المعنى بالدلالة الوضعية فقلت: زيد يشبه الأسد في شجاعته، فالزيادة والنقصان في هذه الإفادة بما يعود إلى مفردات هذه الألفاظ، غير متصوّرين. ولو أقمت مقام هذه الألفاظ ما يرادفها، فالحال كذلك؛ للدليل المذكور.
وتبين من هذا (3) [أن الإيجاز والاختصار، والحذف والأضمار، يستحيل تطرقها إلى الدلالات الوضعية؛ ولهذا كان أكثر ما يستعمل في العلوم العقلية الدلالات الوضعية؛ لعدم احتمالها الزيادة والنقصان الموجبين للغلط [والشبهة] (4).
وأما الإفادة الأخرى فلأجل أن حاصلها يعود إلى انتقال الذهن من مفهوم اللفظ إلى ما يلازمه، ثم إن اللوازم كثيرة، وهي تارة تكون قريبة، وتارة تكون بعيدة، فلا جرم صح تأدية المعنى الواحد بطرق كثيرة، وصحّ في تلك الطرق أن يكون بعضها أكمل في إفادة المعنى، وبعضها أنقص. فهذا ما يتعلق بالفصاحة من جهة المفردات.
وأقول: إن التحقيق يقتضى أن الزيادة والنقصان مما يتطرقان إلى الإفادة الوضعية أيضاً. فإن الإمام سلّم أن بعض الحروف أفصح جرساً والذّ سماعاً كالعين، وبعضها أسهل على اللسان كحروف أ.
ص: 65
الزلاقة (1)، وبعضها أثقل. ولا شك أن الكلام المركّب من أسهل الحروف والدّها سماعاً، أفصح والذّ سماعاً ﴿20 أ﴾ عند النفس مما لا يكون كذلك، وسلّم أيضاً أن الأفصح أدل على المعنى وأسرع إلى قبول النفس له مما لا يكون كذلك.
وليس سبق العلم بالوضع قادحاً فيما ذكرناه؛ لأن الانسان قد يسبق علمه بوضع اللفظ ثم يذهل عنه، فعند سماعه يجد ﴿في﴾ (2) نفسه مسارَعة إلى قبول المعنى من الأفصح دون غيره، وملتذّة بسماعه بسبب فصاحته، ولا معنى لزيادة الافادة ورجحانها إلا ما يحصل للنفس من اللّذة بالمعنى، والمسارعة إلى قبوله بتمامه من اللفظ الأسهل، والله أعلم.
وأما البلاغة العائدة إلى النظم والتركيب، فتحقيق القول فيها: (3).
أن الكلام المنظوم لا محالة مركب من المفردات، والمفردات يمكن تركيبها على وجه لا يفيد المقصود، وقد يمكن تركيبها على وجه يفيده. ثم للتركيب المفيد مراتب كثيرة، ولها طرفان، ووسط:
فالطرف الأعلى: هو أن يقع ذلك التركيب على وجه يمتنع أن يوجد ما هو أشد تناسباً واعتدالاً منه في افادة ذلك المعنى.
والطرف الأدنى: هو أن يقع على وجه لو صار أقل تناسباً منه لخرج .
ص: 66
عن كونه مفيداً لذلك المعنى.
وبين هذين الطرفين مراتب: واختيار أحسنها يقتضي الفصاحة في النظم، وهذا معنى قول عبد القاهر الجرجاني (1) - رحمه الله - :
[النظم عبارة عن توخي معاني النحو فيما بين الكلم ] (2).
إذا ثبت هذا فنقول:
أما الطرف الأدنى، فليس من البلاغة في شيء، وأما سائر المراتب فإن كل واحد منها إذا اعتبرته بالنسبة إلى ما تحته يكون مستلزماً للبلاغة
والفصاحة.
واما الطرف الأعلى وما يليه، فهو المعجز. فهذا هو التحقيق في البلاغة والفصاحة في المفردات والمركبات. .
ص: 67
وفيها مقدمة وأبواب:
﴿20 ب﴾ أما المقدمة: فاعلم أن للأشياء في الوجود أربعَ مراتب: (1)
الأول: وجودها وتحققها في الأعيان.
الثاني: وجودها في الذهن.
الثالث: وجودها في اللفظ الدال على ما في الذهن.
الرابع: وجودها في الكتابة الدالّة على ما في اللفظة.
ومزية الكلام في الحسن تارة تكون بسبب الكتابة،
وتارة تكون بسبب اللفظ من حيث هو لفظ.
وتارة بحسب اللفظ من حيث له الدلالة الوضعية.
وتارة بحسبه من حيث له الدلالة الالتزامية.
ص: 68
ولما كانت المحاسن العائدة إلى الكتابة لا تخلو عن تكلف ما، (1) وكان الكلام الذي نحن بصدد شرحه بريئاً عن التكلف، خالياً عن جهات التعسف، لا جرم كان ذكرنا لها قليل الجدوى، فلذلك تركناه.
الباب الأول: في المحاسن العائدة إلى اللفظ من حيث هو لفظ.
اعلم (2) ان المحاسن العائدة إلى اللفظ، إما أن تعود إلى آحاد الحروف، أو إلى حال تركيبها، أو إلى الكلمة الواحدة، أو إلى الكلمات الكثيرة، فلا جرم اشتمل هذا الباب على فصلين:
د - اللسان فما فوقه من الحنَك، وهو مخرج القاف.
ه - أسفل من موضع القاف من اللسان قليلا، ومما يليه من الحنَك، وهو مخرجُ الكاف (1)
و - من وسط اللسان بينه وبين وسّط الحنّك، وهو مخرج الجيم والشين والياء (2)
ز - أول حافّة اللسان وما يليها من الأضراس، وهو مخرج الضاد (3) ﴿21 أ﴾.
ح - حافّة اللسان من أدناها (4) إلى مُنتهى طرف اللسان، ما بينها وبين ما يليها من الحنك الأعلى فما فُويقَ الضاحِك والنّاب والرباعية والثنيّة (5)، وهو مخرج اللام (6).
ط - من طرف اللسان بينه وبين ما فويق الثنايا مخرج النُون.
ي - مخرج النون غير أنه أدخلُ من ظهر اللسان قليلاً؛ لانحرافه الى اللام، وهو مخرج الراء.
ك - فيما بين طرْف اللسان وفويق الثنايا: مخرج الطاء، والتاء، والدال (7) ة.
ص: 70
ل - فيما بين طرف اللسان وأطراف الثنايا: مخرج الزاي، والسين، والصاد (1).
م - فيما بين طرْف اللسان والطرف الأدنى من الثنايا: مخرجُ الظاء، والثاء، والذال (2).
ن - من باطن الشفة السفلى واطراف الثنايا العليا: مخرج الفاء.
س - ما بين الشفتين: مخرج الباء، والميم، والواو (3).
ع - من الخياشيم (4): مخرج النون الخفيفة.
قال الخليل (5): [الذلاقَةُ في النطق إنما هي بطرف أسَلة (6) اللسان، وذلَقُ اللسان تحديد طرفه، كذلَقِ السِنان.
قال: ولا ينطق طرف شَباة (7) اللسان إلا بثلاثة أحرف وهي: الراء واللام والنون. فلذلك تسمى هذه حروف الذلاقة (8).ح.
ص: 71
ويلحق بها الحروف الشفهية وهي ثلاثة: الفاء والباء والميم.
قال: ولما ذَلقتْ هذه الحروف وسُهلت على اللسان في المنطق، كثُرتْ في أبنية الكلام، فليس شيءٌ من بناء الخُماسيٌ التام يَعْرَى عنها، فإن وردت عليك كلمةٌ خماسية أو رباعيّة معرَّاة عن حروف الذلّق، أو عن الحروف الشفهية، فاعلم أن تلك الكلمة محدثةٌ مبتدعةٌ ليست من كلام العرب.
وقال أيضاً: العين والقاف لا يدخلان في بناء إلا حسّناه؛ لأنهما أطلق الحروف.
أما العين، فأفصح الحروف جرْساً والذُّها سماعاً.
وأما القاف، فأمتن الحروف وأوضحها جرْساً.
فإذا كانتا أو أحدهما في بناء، حَسُن البناء.
وكذلك السين والدال في البناء إذا كان اسماً؛ لأن الدال لانت عن صلابة (1) الطاء ولَزَازَتِهَا (2)، وارتفعت عن خُفوت التاء، فصارت حال السين بين مخرج الصاد والزاي.
كذلك قال:
والهاء تحتمل في البناء؛ للينها وهشاشتها (3) (4) ب.
ص: 72
ولا بد من رعاية هذه الاعتبارات؛ ليكون الكلام سَلِساً على اللسان (1)، وهي كالشروط للفصاحة والبلاغة.
البحث الثاني: في المحاسن بسبب آحاد الحروف وشروط تركيبها.
أما الأول: فمنها الحذف، وهو: أن يحترز عن حرف أو حرفين في الكلام؛ إظهاراً للمهارة في تلك اللغة.
كان واصل (2) ألثغ، وكان يحترز عن الراء، فجرّب في أنه كيف يعبّر عن معنى قولنا: اركبْ فرسَك، واطرحْ رمحَك، فقال في الحال: التي. قناتَك، واعلُ جوادَك. والحريري (3) بلغ الغاية حيث ذكر أشعاراً حذف عنها الحروف المنقوطة، وأشعاراً حذف عنها غير المنقوطة.
ومنها الإعْنات، وهو: التزامُ حرف قبلَ حرف الرَّويّ أو الردْف، من غير أن يجب ذلك في السجع، كقوله تعالى: ﴿فأمّا اليتيمَ فلا تَقْهَر وأمّا السائلَ فلا تَنْهَر﴾ (4).
وقول عليّ عليه السلام في مدح النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم: «بلّغ عن ربِّهِ مُعْذِراً ونَصَحَ لأمّتِهِ مبذِّراً (5)..
ص: 73
وأما الثاني: فالشرط أن يكون التركيب معتدلاً، فإن من التركيب ما يكون متنافراً، كقوله:
وقبْرُ حرْبٍ بمكانٍ قَفْرِ *** وليس قُرْبَ قبْرِ حرْبٍ قَبْرُ (1)
وأن يكون خفيفاً، فإن منها ما يكون ثقيلاً، وإن كان دون الأول، كقول أبي تمام:
كريمٌ متى أمدحْه أمدحْه والورى *** معي ومتى لمْتُه لمتُه وحدي (2)
ومنه ما يكون فيه بعض الكلَفة إلا أنه لا يبلغ أن يُعاب، والسبب في هذا التنافر إما تقارب مخارج الحروف فيحتاج فيها إلى جنس الصوت في زمانین متلاصقين، فلا يظهر الحرف الأول ﴿22 أ﴾.
وإما وجوب العود إلى ما منه الابتداء، كقولهم: الهُعخُع (3) وهذه الدرجات كما تترتب في جانب الثقل، فهي موجودة في جانب السلاسة، حتى إن الكلمة تكون غاية السلاسة.
البحث الثالث: فيما يتعلق بالكلمة الواحدة، وهو من وجهين:
الأول: أن تكون متوسطة في قلة الحروف وكثرتها 7
ص: 74
فأما الحرف الواحد فلا يفيد.
[وأما المركبة (1)] من الحرفين، فليس في غاية العذوبة؛ بل البالغ في ذلك الثلاثيات؛ لاشتمالها على المبدأ والوسط والنهاية. وعلته: أن الصوت من عوارض الحركة والحركة لا بد لها من هذه الثلاثة، فمتى ظهرت هذه الثلاثة فيها، كان الكلام أسهل جرياناً على اللسان.
وأما الرباعيات والخماسيات، فلا يخفى ثقلها؛ لزيادتها على الدرجات الثلاث التي يتعلق بها كمال الصوت.
الثاني: الاعتدال في حركات الكلمة، فاذا توالتْ خمسُ حركات، كان ذلك في غاية الخروج عن الوزن، ولذلك لا يحتملها الشعر.
وأما أربع حركات، فهي في غاية الثقل أيضاً؛ بل المعتدل توالي حركتين يعقبهما (2) سكون، وإن كان لا بدّ فإلى ثلاثِ حركات (3).4
ص: 75
فيما يتعلق بالكلمات المركبة، وفيه نوعان:
النوع الأول: ما يكفي في تحقّقه اعتبار حال كلمتين، وفيه أربعة أبحاث:
البحث الأول: في التّجنيس (1):
المتجانسان إن كانا مفردين، فإن تساويا في نوع الحروف، والحركات وأعدادها، وهيئاتها، فهو التجنيس التام، كقولهم: حديثٌ حديث (2)، وكقول الحريري (3): ﴿ولا ملأ الراحة مَن استَوْطأ الراحة».
وإن اختلفا، فإما في هيئة الحركة، كقولهم: جُبّة البُرْد جُنَّةُ البَرْدِ (4). أو في الحركة والسكون، كقولهم: البدْعةُ شَرّك الشِرْك، أو في التخفيف، كقولهم: الجاهل إما مُفْرط أو (5) مُفَرِّط، ويسمى ذلك: التجنيس الناقص ﴿22 ب﴾.
أو في أعداد الحروف؛ بأن تتساوى الكلمتان في نفس الحروف وهيئاتها، ثم تزيد في أحديهما ما ليس في الأخرى، ويسمى المذيل، فإما في أول الكلمة كقوله تعالى: ﴿و التفت الساقُ بالسْاق، إلى ربك يَومئٍذ
ص: 76
المسَاق: (1).
أو في وسطها كقولهم: كَبِدٌ كَبَيد (2).
أو في آخرها كقول بعضهم: فلان سَالٍ من أحزانه سالمٌ من زمانه (3)، وقول أبي تمام: (4)
يَمُدّون مِن أيدٍ عواصٍ عواصِم *** تصولُ بأسيافٍ قواصٍ قواضبِ
وإما أن يختلفا في أنواع الحروف؛ وقد يكون بحرف واحد، وقد يكون بحرفين، ويسمى المضارع والمطرّف.
وما به الاختلاف قد يكون في أول الكلمة كقولهم: بيني وبينهم ليل دامس، وطريق طامس (5)
أو في وسطها من حرفين متقاربين، كقولهم: ما خَصَصْتَني ولكن خسستني (6)
أو في آخرها، كقول النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم: «الخيْر معقودٌ بنواصي الخيْل» (7)..
ص: 77
وقد يكون الاختلاف بحرفين غير متقاربين، وهو إما في آخر الكلمة، كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ﴾ (1).
أو في وسطها، كقوله تعالى: ﴿وإنّه على ذلك لشهيد، وإنه لحبِّ الخيْرِ لشَدِيد﴾ (2).
أو في أولها، كقول الحريري: «لا أعطي زِمامي من يَخْفِر ذمامي» (3).
ثم المتجانسات إما أن يكون بعضها في مقابلة البعض حال التسجيع، وهو ظاهر أو بضم بعضها إلى بعض في أواخر الأسجاع، ويسمى مزدوجاً ومكرّراً، كقولهم: النّبيذ بغير نَغَم غَمٌ، وبغير دسَم سَمّ، وكقولهم: من طلب شيئاً وجدَّ وجَدَ، ومن قرع باباً ولجَّ وَلجَ.
ومن التجنيس ما يكون بالإشارة دون التصريح، كقولهم:
حُلقتْ لحيةُ موسى باسمه *** وبهارون إذا ما قُلِبا (4)
وقد يكون التجنيس بحيث يتجاذبه أصلان ويسمى المشوّس (5)، كقولهم: [23 أ] «فلان مليحُ البلاغة كاملُ البراعة».
فلو اتحدت عينا الكلمتين كان مصحّفا (6) .
ص: 78
ولو اتفقت لاماهما كان مضارعاً (1).
وأما إن كان المتجانسان مركّبين:
فإما أن يكونا متشابهين خطّا فقط دون اللفظ ويسمى المصحّف، كقول عليّ عليه السلام (2): قصّر ثيابَك فإنه أبْقى وأتْقى وأنْقى وكقولهم: غَرّك عِزّكَ، فَصار قُصار ذلك ذُلّك، فاحْسن فاحسَن فِعلِك، فَعلَّك تُهَدَا بِهذا.
أو لفظاً فقط، ويُسمى المفروق، كقوله:
كُلّكُمْ قد أخذَ الجامَ ولا جامَ لنا *** ما الذي ضرّ مدير الجام لوْ جاملنا (3)
أو خطّا ولفظاً، ويسمى المقرون، كقولهم:
إذا مَلِكٌ لم يكنْ ذَا هِبَهْ *** فَدعْه فَدَوْلَتُه ذاهِبَهْ
البحث الثاني: في الاشتقاق
وأما الاشتقاق، فهو أن تأتي بألفاظ يجمعها أصل واحد في اللغة، كقوله تعالى: ﴿فاقمْ وجْهَك للدين القَيّم﴾ (4)
وقول النبي صلی الله علیه و آله و سلم: الظُّلْمُ ظُلُماتٌ يوم القيامة» (5)..
ص: 79
وقول علي عليه السلام: «جاهلٌ خبّاط جَهَلات، عَاسٍ رَکِّ
عَشَوات» (1).
وأما ما يشبه المشتق، كقوله تعالى: ﴿وَجَنَى الجنّتيْن دانٍ﴾ (2) وقال: ﴿إِنِّي لعمَلكم مِن القَالِين﴾ (3).
البحث الثالث: في رد العجز على الصدر.
ورسمه: أنه كل كلام وجد في نصفه الأخير لفظ يشبه لفظاً موج في نصفه الأول، وله عدة أقسام:
أ - أن يتفق لفظا الصدر والعجز صورة ومعنى، ويكونان طرفي الأول في أول الكلام والثاني في آخره، كقولهم: «الحِيلَة ترْك الحيلة وقولهم: «القتل أنفى للقتل»، وكقول القائل: (4).
سُكران: سُكرُ هوًى وسكرُ مُدامةٍ *** أنّى يُفیق فتیّ به سُک
ب - أن يتّفقا صورة لا معنى وهما طرفان كقوله: (5)
يَسارٌ من سجيتها المنايا *** ويُمنى من عطيّتها اليس ح
ص: 80
ج - بالعكس ويكونان طرفين أيضاً كقول عمر بن أبي ربيعة: [23 ب]
واستبدّت مرةً واحدة *** إنما العاجزُ مَنْ لا يَسْتبدّ (1)
د - أن يلتقيا في الاشتقاق لا في الصورة، وهما طرفان أيضاً كقول السّري:
ضرائبُ أبدعتَها في السماح *** فلسْنا نرى لك فيها ضَريبا (2)
ه - أن يلتقيا صورة ومعنى، ويكون أحدهما حشواً في صدر البيت والآخر طرفاً في عجزه، كقول أبي تمام: (3)
ولم يَحفظ مُضاع المجد شيءٌ *** من الأشياء كالمال المضاعِ
و - أن يقعا كذلك ويتفقا صورة لا معنى، كقول بعضهم: (4)
لا كان إنسان تيّمّم (5) صائداً *** صيد المَها فاصطادَه إنسانُها
ز - أن يقعا كذلك ويلتقيا معنى لا صورة، كقول امريء القيس: 7.
ص: 81
إذا المرءُ لم يَخزُن عليه لسانَه *** فليس على شيءٍ سواهُ بخزّان (1)
ح - أن يقعا طرفين في آخر الصدر والعجز، ويتفقا صورة ومعنى، كقول أبي تمام:
ومن كان بالبيض الكواكب مُعْزما *** فما زلتَ بالبيض القواضب مغرمَا (2)
ط - أن يقعا كذلك ويتفقا صورة لا معنى، كقول الحريري: (3)
فمشغوفٌ بآيات المثاني *** ومفتونٌ برنّات المثاني
ي - أن يقعا كذلك ويتفقا في الاشتقاق ويختلفا في الصورة، كقول البحتري:
ففعلُك إن سُئلتَ لنا مطيعٌ *** وقولُك إن سَألت لنا مُطاع (4)
ك - أن يتفقا في شبه الاشتقاق ويختلفا صورة ومعنى، كقول الحريري:
ومُضْطَلعٌ بتلْخيصِ المعاني *** ومُطّلعٌ إلى تَخليص عاني (5)
ل - أن يقع أحدهما في أول العجز، والثاني في آخره، كقول الحماسي: (6) .
ص: 82
وان لا يكن إلا مُعَرّجُ ساعةٍ *** قليلاً فانّي نافعٌ لي قَليلُها
م - أن يقعا ﴿كذلك﴾ ويلتقيا في الاشتقاق دون الصورة، كقول أبي تمام: (1)
ثوى بالثرى مَن كان يَحيى به الورى *** ويَغمرُ صَرْف الدهرِ نائلُه الغمْرُ
ووراء هذه الأقسام أقسامٌ أُخَرُ لهذا النوع وفيما ذكرناه كفاية.
البحث الرابع: في القلب (2) / [24 أ].
وهو إما في كلمة أو كلمات:
والأول، فإما أن يتقدم كل واحد من حروفها على ما كان متأخراً عنه، ويسمى مقلوب الكلّ، كالفتح والحتف في قوله:
حسامُك فيه للاحبابِ فتحْ *** ورمْحك فيه للأعداءِ حَتْف (3)
ثم إن وقع مثل هاتين الكلمتين على طرفي البيت سمي مقلوباً مجنّحاً، كقوله:
ساق هذا الشاعر الحين إلى من قلبه قاسي
سأرضى القوم فالهمّ علينا جبل راسي
أو يكون بعض حروفها كذلك، فيسمى مقلوب البعض، كقوله عليه السلام (4): .
ص: 83
«اللهم استرْ عَوْراتِنا، وآمِنْ رَوْعاتِنا.
وإما في الكلمات بحيث تكون قراءتها من أولها كقراءتها من آخرها (1)في النسخة أ س أرملا إذا عرا *** وارع إذا المرء أساء.
أس: أعط، أرملا: من نفذ زاده وافتقر عرى: أتى طالباً للعطاء، وارع: احفظ، أسا: بمعنى أساء. والبيت يقرأ طرداً وعكساً. والبيت في المقامة المغربية، مقامات الحريري 157 ط 3 بيروت. (2) كقول الحريري:
أُسْ أرْملاَ إذا عَرا *** وارْعَ إذا المرءُ أسا ﴿42﴾
* * *
النوع الثاني: ما يحتاج إلى أزيد من كلمتين وفيه أبحاث:
البحث الأول: من السجع (3)، وهو ثلاثة أقسام:
أحدها، يسمى المتوازي: وهو أن تتساوى الكلمتان في عدد الحروف، ونوع الحرف الأخير، كقول عليّ عليه السلام كثرة الوفاق نفاق وكثرة الخلاف شقاق (4) و كقوله عليه السلام في أهل البصرة: «عهدُكُمْ شِقاقٌ، ودينُكُمْ نفاقٌ وماؤكم زُعَاقٌ» (5).
وثانيها المطرّق وهو أن يختلفا في العدد ويتفقا في الحرف ح.
ص: 84
الأخير، كقوله عليه السلام: لاحَمَ صُدوعَ انفِراجها، ولاءَم بينها وبين أزْواجِها (1).
وثالثها المتوازن: وهو أن يتفقا في عدد الحروف ولا يتفقا في الحرف الأخير، كقول علي عليه السلام: «الحمدُ لله غيرَ مفْقودِ الإنْعام، ولا مكافأ الإفْضال» (2) ويعرف المتكلف من السجع بأمرين:
أحدهما: أن يكون الحرف الأخير إنما يحتاج إليه للتقفية لا للمعنى / [24 ب].
الثاني: أن يترك معناه الأول لأجل التقفية.
البحث الثاني: في تضمين المزدوج: وهو أن يجمع المتكلم بعد رعاية السجع في أثناء القرائن بين لفظتين متشابهتي الوزن والروي، كقوله تعالى: ﴿وَ جِئْتُکَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ یَقِینٍ﴾ (3)
وقوله: «المؤمنون هَيِّنون لَيِّنون» (4).
وكقول علي عليه السلام: كثرة الوفاق نفاق.
البحث الثالث: في الترصيع: وهو أن تتساوى أوزان الألفاظ، وتتفق أعجازها، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ (5) .
ص: 85
وقول علي عليه السلام: «عَلَا بَحَوْلِهِ ودَنَا بِطَوْلِهِ، مَانِح كلِّ غنيمةٍ
وفضْلِ، وكاشفِ كلِّ عظيمةٍ وأزْلي» (1).
وقوله في صفة الدنيا: «أوّلُهَا غَنَاءٌ وآخِرُها فَنَاءٌ!، في حَلالِهَا حِسَابٌ،
وفي حَرامِها عِقابٌ» (2).
وقد يجيء مع التجنيس، كقوله عليه السلام في كتاب الله: «بيت لا
تُهدم أركانُه، وعِزُّ لا تُهزم أعوانُه» (3). .
ص: 86
فيما يتعلق بالدلالة الوضعية والمعنوية.
واعلم أن البحث عن حسن الدلالة اللفظية يرجع إلى اشتراط أربعة أمور.
الأول: أن تكون الكلمة عربية غير مولدة، ولا صادرة عن خطأ العامة (1).
الثاني: ﴿أن تكون جارية﴾ (2) على مقاييس العرب وقوانينها (3).
الثالث: المحافظة على قوانين النحو (4).
الرابع: الاحتراز عن الألفاظ الغريبة الوحشية (5)، ولذلك كانت في
ص: 87
الكتاب العزيز نادرة (1).
وأما الكلام في الدلالة المعنوية:
فاعلم أنه لما كانت الألفاظ المفردة لا تستعمل لإفادة مدلولاتها الالتزامية إلا عند التركيب، وكان الأصل في أصناف التراكيب هو الخبر، وهو الذي يتصور بالصور الكثيرة، وتظهر فيه الأسرار العجيبة من علم المعاني والبيان، رأينا أن نشير إلى قدر من مباحثه قبل الخوض في سائر الأقسام. وقد رتبنا هذا الباب على فصول.
في أحكام الخبر وفيه / [25 أ] أبحاث:
البحث الأول: في رسم الخبر.
وقد رسّم بأنه القول الذي يقال لقائله إنه صادق فيما قاله أو كاذب (2).
وأورد الإمام فخر الدين عليه شكّا، فقال:
[الصدق والكذب لا يمكن تعريفهما إلا بالخبر؛ إذ يقال في الصدق: إنه الخبر المطابق، وفي الكذب إنه الخبر غير المطابق، وتعريف الخبر بهما دور ] (3).
ص: 88
وأجاب أفضل المتأخرين نصير الدين الطُّوسي - أبقاه الله - عنه، فقال: الحق أن الصدق والكذب من الأعراض الذاتية للخبر، فتعريفه بهما رسميّ أورد تفسيراً للاسم وتعييناً لمعناه من بين سائر المركبات، ولا يكون ذلك دوراً؛ لأن الشيء الواضح بحسب مهيّته ربما يكون ملتبساً في بعض المواضع بغيره، ويكون ما يشتمل عليه من أعراضه الذاتية الغنية عن التعريف أو غيرها مما يجري مجراها عارياً عن الالتباس فإيراده في الإشارة إلى تعيين ذلك الشيء إنما يلخصه ويجرده عن الالتباس، وإنما يكون دوراً لو كانت تلك الأعراض أيضاً مفتقرة إلى البيان بذلك الشيء، وهاهنا إنما يحتاج إلى تعيين صنف واحد من أصناف المركبات فيه اشتباه؛ لأنه لم يتعين بعد وليس في الصدق والكذب اشتباه، فيمكننا أن نقول: إنا نعني بالخبر التركيب الذي يشتمل حدّ الصدق والكذب عليه كما لو وقع اشتباه في معنى الحيوان فيمكننا أن نقول: إنا نعني به ما يقع في تعريف الإنسان موقع الجنس ولا يكون دوراً.
وقيل في تعريفه أيضاً: إنه القول المقتضي بصريحه إسناد أمر إلى أمر بالنفي أو الإثبات، وأما تسمية النحاة أحد جزء الخبر خبراً فمجاز (1). البحث الثاني: ﴿إنه ليس الغرض الأول من وضع الألفاظ المفردة إفادتها لمسمياتها المفردة /[25 ب].
بيان ذلك: إن إفادتها لها موقوفة على العلم بكونها موضوعة لها، وهو مستلزم للعلم بها قبل الوضع فلو توقفت إفادتها على الوضع لزم الدور وإنه محال؛ بل الغرض الأول منها تمكّن الإنسان من تفهم ما يتركب من .
ص: 89
تلك المسميات بواسطة تركيب تلك الألفاظ المفردة﴾ (1).
لا يقال: ما ذكرتموه قائم بعينه في المركبات؛ لأن اللفظ المركب لا يفيد مدلوله إلا عند العلم بكوْن تلك الألفاظ موضوعة لتلك المعاني من تلك الألفاظ لزم الدور.
لأنا نقول: لا نسلم أن الألفاظ المركبة لا تفيد مدلولها إلا عند العلم بكون الألفاظ المركبة موضوعة له.
بيان ذلك: إنّا متى علمنا وضع كل واحد من تلك الألفاظ المفردة لكل واحد من تلك المعاني المفردة، فإذا توالت الألفاظ المفردة بحركاتها المخصوصة على السمع، ارتسمت المعاني المفردة في الذهن مستلزمة للعلم بنسبة بعضها إلى بعض استلزاماً عقلياً، وذلك هو التركيب، فظهر أن استفادة العلم بالمعاني المركبة لا يتوقف على كون الألفاظ المركبة موضوعة لها وبالله التوفيق.
البحث الثالث: في الفرق بين الإخبار بالاسم والإخبار بالفعل (2).
قد عرفت أن الفعل مشعر بالزمان المعين دون الاسم، فلذلك ظهر الفرق بين الإخبار به والإخبار بالاسم؛ فإنك إذا قصدت بالإخبار الإثبات المطلق غير المشعر بالزمان، وجب أن تخبر بالاسم، كقوله تعالى: ﴿وكلبهمْ باسِطٌ ذراعَيْه﴾ (3). إذ ليس الغرض إلا إثبات البسط لذراعي
الكلب. / 26 أ] فأما تعريف زمان ذلك فغير مقصود.
فأما إن قصدت الإشعار بزمان ذلك الثبوت، فالصالح له هو الفعل، 8.
ص: 90
كقوله تعالى: ﴿هَلْ مِنْ خالقٍ غيرُ الله يرزقكُمْ مِن السماءِ والأرضِ﴾ (1) فإن تمام المقصود إنما يتحصل بكونه معطياً في كل حين وأوان، لا بمجرد كونه معطياً.
البحث الرابع: في حكم المبتدأ والخبر:
متی اجتمعت الذات والصفة، فالذات أولى بالمبتدئية، والصفة أولى بالخبرية.
ثم إما أن يكون الأمر في اللفظ كذلك، أو بالعكس.
والأول: إما أن لا تدخل لام التعريف في الخبر، كقولك: زيد منطلق، وذلك يفيد ثبوت مطلق الانطلاق لزيد من غير أن يفيد دوام ذلك الثبوت أو انقطاعه.
أو يدخله لام التعريف، كقولك: زيد المنطلق، أو زيد هو المنطلق، فاللام في الخبر يفيد انحصار المخبر به في الخبر عنه.
ثم إما أن يكون لام العهد كما إذا اعتقدت وجود انطلاق معين ولكن لا تعلم أن المنطلق زيد أو عمرو، فإذا قلت: زيد المنطلق عنيت أن صاحب ذلك الانطلاق هو زيد، فقد انحصر ذلك الانطلاق في زيد.
وإما لتعريف الطبيعة فيفهم من وصفه الحصر، ثم هو للحصر إن أمكن ترك الكلام على حقيقته كقولك زيد هو الوفيّ، إذا لم تظن بأحد خيراً غيره، وإلا حُمل الكلام على المبالغة كقولك: زيد هو العالم، وهو الشجاع؛ لامتناع حصر الحقيقة فيه.
وأما إذا عكس وأُخّرت الذات عن الصفة، كقولك: المنطلق زيد، فذاك إنما يقال: إذا اعتقد معتقد أن إنساناً انطلق، ولكن لا يعلم شخصه، .
ص: 91
فيقال له: المنطلق زيد، أي الذي تعتقد انطلاقه هو زيد، ثم الضابط: أن الإخبار يجب أن يكون عما يُعرف بما لا يُعرف له (1). ة.
ص: 92
في الحقيقة والمجاز وفيه أبحاث:
البحث الأول: في معنى الحقيقة و المجاز، وحدّهما:
الحقيقة: فَعِيلَة بمعنى مفعولة من الحق، وهو الثّبات، وسمّي ما خالف المجاز: حقيقة؛ لأنه مُثْبتٌ معلومُ الدلالة.
والمجاز: مَفْعَل من جازه يجوزه: إذا تعداه، وإذا عُدل باللفظ عن وضعه اللغوي، وُصف بأنه مجاز؛ بمعنى أن الذهن انتقل من لفظه (1) إلى معنی غیر معناه، فصار موضع الانتقال والمجاوزة.
فأما حدّ الحقيقة فإما في المفردات، فهي كلُّ كلمة أُفيد بها ما وُضِعتْ له في أصل الاصطلاح الذي وقع التخاطب به، ويدخل في ذلك الحقيقة اللغوية والعرفية والشرعية.
وأما في الجمل، فكل جملة وضعتها على أن الحكم المضاد بها على ما هو عليه في العقل وواقع موقعه فهي حقيقة، كقولنا: خلق اللهُ العالم.
وأما حد المجاز، فإما في المفرد أيضاً، وهو ما أفيد به معنىٌ غير ما اصطُلح عليه في أصل المواضعة التي وقع التخاطب بها لعلاقة بينه وبين الأول، ويدخل في ذلك المجاز اللغوي والعرفي والشرعي.
وأما في الجمل، فكل جملة خرج الحكم المفاد بها عن موضوعه في
ص: 93
العقل بضرب من التأويل، فهو مجاز كقوله تعالى: ﴿وأخرجتِ الأرضُ أثْقالَها (1).
البحث الثاني: فيما به يتحقق المجاز.
لا بد فيه من أمرين (2):
أحدهما: أن يكون منقولاً عن معنى وضع اللفظ بإزائه، وإلّا لبقي حقيقة (3).
الثاني: أن يكون ذلك النقل لمناسبة بين المعنيين، وإلا لكان في الثاني مرتجلا (4).
وبهذا يظهر الفرْق (5) بين المجاز، والكذب، والدعْوَى الباطلة/ [27 أ]؛ وذلك لأن المُبْطِلَ إذا أَخْرج الحكم عن موضعه وأعطاه غيرَ المستحقّ، لم يُعرف أنه إنما أعطاه لكونه فرعاً لأصل؛ بل يُجزم بأن ثبوت الحكم في ذلك الموضع ثبوتٌ أصلي، وكذلك الكاذب يدّعي أن الأمر على ما وَضعه وليس هو من التأويل في شيء، والمجاز لم يكن مجازاً؛ لأنه إثبات الحكم لما لا يستحقه للمناسبة بينه وبين المستحق.
البحث الثالث: في أقسام المجاز:
المجاز ﴿إما﴾ (6) أن يقع في اللفظ المفرد فقط، أو في المركب فقط، أو فيهما معاً. .
ص: 94
مثال الأول: إطلاق لفظ الأسد على الرجل الشجاع، والحمار على البليد.
وأما الثاني: وهو أن يُستعمل كل واحد من الألفاظ المفردة في موضعه الأصلي، لكن التركيب لا يكون مطابقاً لما في الوجود، مثاله قوله تعالى: ﴿وأخرجتِ الأرضُ أثقالَها﴾ (1) وقوله الشاعر (2):
أشابَ الصغيرَ وأفْنى الكبير *** كَرُّ الغَداةِ ومَرُّ العَشِيّ
وهذا المجاز عقلي؛ لأن نسبة الإخراج إلى الأرض، والإشابة إلى كرّ الغداة ومرّ العشيّ حكم عقلي عُدل به عن الفاعل الحقيقي، وهو الله سبحانه إلى غير من هو له، وهو الأرض والغداة والعِشيّ.
مثال الثالث: كقولك لمن تحبه: أحياني اكتحالي بطلعتك، فإن لفظي الإحياء والاكتحال مفردان استُعملا في غير [موضعهما] (3) الأصلي، ثم نُسب الإحياء إلى الاكتحال مع عدم المطابقة لما في نفس الأمر أيضاً، وهذا التلخيص لعبد القاهر النّحْوِيّ (4).
البحث الرابع: في أصناف المجاز:
والذي ذكره الإمام فخر الدين منها اثنا عشر صنفاً (5):.
ص: 95
أ - إطلاق اسم السبب على المسبب، والأسباب أربعة:
أحدها: الفاعليّ، كإطلاق اسم النظر الذي هو تقليب الحدقة نحو المرثي على الرؤية، كقولك: نظرته أي رأيته.
الثاني: الغائيٌ، كتسميتهم العنب بالخمر. / [27 ب ] (1).
الثالث: الصوري، كتسميتهم القدرة يدا (2).
الرابع: القابلي، كقولهم: سال الوادي (3).
ب - إطلاق المسبب على السبب، كتسميتهم المرضَ الشديدَ بالموت.
والأول أولى؛ لاستلزام السبب المعيّن للمسبب المعين من غير عكس، وأولى الأسباب بذلك هو السبب الغائي؛ لحصول علاقة العلّيّة والمعلوليّة اللتين كل واحدة منهما علّة لحسن المجاز فيه دون باقي الأسباب.
ج - إطلاق اسم الشيء على ما يشابهه، كإطلاق لفظ الحمار على الرجل البليد وهو الاستعارة كما سيجيء بيانها.
د - تسمية الشيء باسم ضده كتسمية العقاب بسبب الجريمة بالجزاء المختص بمقابلة الإحسان بمثله (4). .
ص: 96
ه - تسمية الجزء باسم الكل، كإطلاق لفظ العام على الخاص (1).
و - الغلس، كإطلاق لفظ الأسود على الزنجيّ لسواد جلده (2)، والأول أولى؛ لاستلزام الكل للجزء من غير عكس.
ز - إطلاق ما بالفعل على ما بالقوة كتسمية الخمر في الدّن مُسْكِراً (3)، وهو قريب من إطلاق السبب الغائي على مسببه.
ح - إطلاق المشتق بعد زوال المشتق منه كإطلاق لفظ ضارب على من فرغ من الضرب، وقد عرفت أن ذلك هل هو مجاز أو حقيقة (4).
ط - إطلاق اسم المجاور على مجاوره، كإطلاق لفظ الراوية وهو الجمل الذي يُحمل عليه الماء على المزادة (5).
ي - إطلاق اسم الحقيقة العرفيّة كالدّابّة للفرس على الحمار وغيره مجازاً (6) عرفيّاً.
ك - المجاز بسبب النقصان والزيادة، قال الإمام: وتحقيقه أن الكلمة كما أنها توصف بالمجاز لنقلها عن معناها فقد توصف بالمجاز لنقلها عن حكم كان لها إلى حكم ليس هي حقيقة فيه، كقوله تعالى: ﴿واسأل .
ص: 97
القرية﴾ (1) واسأل أهل القرية [28 أ] والذي يستحقه في الأصل الجرّ، والنصب فيها مجاز (2).
وفيه نظر؛ لأن الإعراب لا يراعى فيه صدق النسبة وكذبها والمطابقة وعدمها، فإنك لو قلت لمستُ السماء كان السماء مفعولاً به للفعل المتقدم ويستحق النصب حقيقة، وكذلك القرية هاهنا تستحق النصب حقيقة بالمفعولية. أما أن النسبة في نفسها صادقة أم لا، فذاك بحث آخر؛ بل الحق أنه مجاز في التركيب والنسبة فإن نسبة السؤال إلى أهل القرية حقيقة، فيكون إليها مجازاً، وإن قطعنا النظر عن مباحث النحاة أمكن أن يكون الحق ما قاله الإمام.
وأما المجاز بسبب الزيادة فالحق أن الزيادة إن غيرت معنى الكلام الذي يتمّ بدونها ولا يحتاج فيه إليها، كقوله تعالى: ﴿ليس كمثله شيء﴾ (3) فالمجاز حاصل في النسبة؛ إذ كانت نسبة النفي إلى من ليس له وإن لم تغير كما في قوله تعالى: ﴿فبما رحمة من الله﴾ (4) لم يتصور المجاز هاهنا.
ل - إطلاق اسم المتعلَّق على المتعلق، كتسمية المقدور قدرة.
البحث الخامس: المجاز بالذات لا يدخل إلا على أسماء الأجناس. وبيانه أما الحرف؛ فلأن معناه في غيره، فإن ضُمّ على حقيقة، فهو حقيقة، أو إلى مجاز، كان مجازاً في التركيب فلم يدخله بالذات.
وأما الفعل؛ فلأن معناه مركب من المصدر وغيره، فلمّا لم يكن المصدر متجوزاً به، لم يكن الفعل كذلك، فكان داخلاً فيه بالعرَض. .
ص: 98
وأما الاسم؛ فإمّا علَم فلا يدخله المجاز (1)؛ لأنه مشروط بالعلاقة بين الأصل والفرع، وليست موجودة في الأعلام.
أو مشتق، ومعلوم أنه لولا تطرّق المجاز إلى المشتق منه لم يتطرق إلى المشتق، فلم يبق إلا أسماء الأجناس. /[28 ب].
البحث السادس: في الداعي إلى التكلم بالمجاز:
العدول إلى المجاز؛ إما لأجل اللفظ، أو المعنى، أولهما:
أما الأول: فإما لأجل جوهر اللفظ، أو لأحوال عارضة له.
أما الأول: فأن يكون اللفظ الدال بالحقيقة ثقيلاً على اللسان؛ إما لثقل أجزائه، أو لتنافر تركيبه، أو لثقل وزنه، ويكون عذباً (2).
وأما الثاني: فأن يكون المجاز صالحاً للشعر أو للسجع، وأصناف البديع دون الحقيقة.
وأما الذي لأجل المعنى، فقد يقصد المجاز لتعظيم ليس في الحقيقة كما يقال: سلام على المجلس السامي.
أو لتحقير يكون فيها كما يُعبّر بالغائط عن قضاء الحاجة.
أو لزيادة بيان: إما تقوية لحال المذكور كقولك: رأيت أسداً، للإنسان الشجاع، فإنه أتمّ من قولك: رأيت إنساناً يشبه الأسد في الشجاعة.
أو تقوية لحال الذكر، وهو المجاز الذي يذكر للتأكيد.
أو لتلطيف الكلام، قال الإمام: وتقريره أن النفس إذا وقفت على كلام، فلو وقفت على تمام المقصود لم يبق لها إليه شوق أصلاً؛ لأن .
ص: 99
تحصيل الحاصل محال، وإن لم يقف على شيء منه أصلاً لم يحصل لها أيضاً إليه شوق. أما إذا وقفتْ عليه من بعض الوجوه دون البعض، فإن القدْر المعلوم يشوّقها إلى غير المعلوم، فيحصل لها بسبب علمها بالقدر المعلوم لذّة وبسبب حرمانها عن الباقي ألم فيحصل هناك تعاقب آلام ولذّات، واللّذّة إذا حصلت عقيب الألم، كانت أقوى وشعور النفس بها أتم.
إذا عرفت ذلك فتقول: إذا عبر عن الشيء باللفظ الدال عليه على سبيل الحقيقة حصل تمام العلم به فلا تحصل اللذة القوية. أما إذا عبر عنها بلوازمها الخارجية عرّفت لا على سبيل الكمال فتحصل الحالة /[29 أ] المذكورة التي هي كالدغدغة النفسانية، مثال ذلك أنك إذا قلت رأيت إنساناً يشبه الأسد في شجاعته، فقد حصلت المعاني بتمامها من ألفاظها الموضوعة لها فلم يحصل من اللذة ما يحصل من قولك: رأيت أسداً في يده سيف، فإن الذهن هاهنا يتصور من لفظ الأسد معناه ولوازمه البينة كالشجاعة، ثم ينتقل بسبب القرينة إلى ملاحظة وجه الشبه في الإنسان الذي هو الشجاعة، فذلك الانتقال هو محل الدغدغة واللذة النفسانية.
البحث السابع: فيما تنفصل به الحقيقة عن المجاز.
إنه إما أن يقع بالتنصيص، أو الاستدلال.
أما التنصيص فمن وجوه:
أحدها: أن يقول الواضع: هذا حقيقة، وذاك مجاز.
وثانيها: أن يذكر واحداً منهما.
وثالثها: أن يذكر خواصهما.
وأما الاستدلال فالحقيقة تعرف من وجهين:
أحدهما: أن يسبق المعنى من ذلك اللفظ إلى فهم بعض السامعين
ص: 100
من أهل تلك اللغة فيحكم بأنه حقيقة فيه؛ إذ لولا اضطراره إلى فهم ذلك
المعنى من قصد الواضعين لما فهمه دون غيره.
وثانيها: أن أهل اللغة إذا أرادوا إفهام غيرهم معنى اقتصروا على عبارات مخصوصة، وإذا قصدوا بالتعبير الحسن بعد الفهم عبروا بعبارات أخرى وقرّنوا بها قرائن فيعلم أنه حقيقة؛ إذ لولا أنه استقر في قلوبهم استحقاق ذلك اللفظ لذلك المعنى، لما اقتصروا عليه.
وأما المجاز فيعرف
أما - أولاً - فمن عكس ما ذكرناه في تعريف الحقيقة.
وأما ثانياً، فلأن الكلمة إذا علّقت بما يستحيل تعليقها به /[29 ب] علم أنها في أصل اللغة غير موضوعة له، فيعلم أنها مجاز فيه.
كقوله تعالى: ﴿واسأل القرية﴾ (1).
وأما ثالثاً، فان يعلم أن الواضع وَضع لفظاً لمعنىً ثم استعمله في بعض موارده، ثم استعمله بعد ذلك في غير ذلك الشيء، كلفظ الدابة الذي وُضع لكل ما يدبّ، ثم خُصّ بالفرس فصار حقيقة عرفيّة، ثم استعمل بعد ذلك في الحمار، فَيُعلَم أنه مجازٌ فيه إلى أن يَغلب الاستعمال عليه فيصير حقيقةً عرفيةً أيضاً.1
ص: 101
في التشبيه، وفيه أركان اربعة.
الركن الأول: في المتشابهين: أنهما إما محسوسان، أو معقولان، أو المشبه به محسوس والمشبه معقول، أو العكس.
أما الأول، فكقول عليّ عليه السلام لأهل البصرة: «كأني بمسجدكمْ هذا كَجُؤجُؤٍ سفينةٍ» (1). وقوله عليه السلام في وصف الأتراك: كأني أراهم قوماً كأنّ وجوههَم المجانٌ المُطَرِّقة» (2).
وأما الثاني: فكقوله عليه السلام: «أداريكم كما تُدارَى البِكَارُ العَمِدَة، والثيابُ المتداعية﴾ (3)، فإن المتشابهين ها هنا هو مداراته ومداراة اهل البكار لها. والمداراة معنى إضافي معقول، وما به المشابهة هو الصعوبة ها هنا كالصعوبة هناك.
ص: 102
وأما الثالث: فكقوله عليه السلام في حق مرْوان (1): «أما إن له إمْرةً كلَعْقَةِ الكلبِ أنفَه» (2) فان الإمرة حالة معقولة أشبهت لعقة الكلب أنفه في السرعة وهي أمر محسوس.
وقوله عليه السلام: «أمّا بعدُ فإنّ الأمرَ ينزِل من السماءِ إلى الأرضِ كقطر المطر (3)» وكقوله: كأني بك يا كوفةُ تمُدِّينَ مَدَّ الأديمِ العُكَاظِيّ (4) [ 30 أ].
وأما الرابع فكقول الشاعر:
كان بصاصَ البدرِ من تحت غيْمه *** نَجاءٌ من البأساءِ بعد وقوعِ (5)
وكقول الصاحب بن عباد (6) وقد أهدى عطراً إلى القاضي أبي الحسن (7): .
ص: 103
أهديتُ عِطْراً كان مثل سنانه *** فكأنما أهدى له أخلاقَه (1)
وقد منع الامام فخر الدين (2) من جواز هذا القسم من التشبيه؛ اعتماداً على أن العلوم العقلية مستفادة من الحواس، فكأن المحسوس أصلاً للمعقول، فتشبيهه به يقتضى جعل الأصل فرعاً، والفرع أصلاً وهو محال، وهذا سهو، فإن الحواس وإن كانت طرقاً للعلم إلا أنها ليست كل الطرق له.
سلمناه، لكن الممنوع إنما هو جهة ما هو فرع لذلك الأصل لا مطلقاً، وها هنا ليس كذلك، فإن المعقول فرع للمحسوس من جهة ما هو مستفاد عنه، فيمتنع أن يعود أصلاً من تلك الجهة، لكنه لا يمتنع أن يكون فرعاً له من تلك الجهة، ومع ذلك يكون أصلاً له في التشبيه والملاحظات الذهنية.
الركن الثاني: فيما به التشبيه، وفيه أبحاث:
البحث الأول: في أقسامه:
أنه إما أن يكون صفة حقيقية أو إضافية:
والأول: إما كيفية جسمانية أو نفسانية:
والأول: إما كيفية محسوسة إحساساً أوّلاً أو ثانياً:
والأول: إما بحس البصر، كتشبيه الخد بالورد في الحمرة، وتشبيه الوجه بالنهار، والشعر بالليل.
أو بحس السمع، كتشبيه أطيط (3) الرحل بأصوات الفراريج، ج
ص: 104
وكتشبيه الصوت المنكر بصوت الحمار.
أو بحسّ الذوق، كتشبيه بعض الفواكه الحلوة بالعسل والسكر.
أو بحسّ الشم، كتشبيه بعض الرياحين بالمسك والكافور.
أو بحسّ اللمس، كتشبيه الجسم اللّين الناعم بالخزّ، والخشن بالمُسح. [ 30 ب]
وأما المحسوسة ثانياً، فهي الأشكال والمقادير والحركات.
والأشكال: إما مستقيمة أو مستديرة، مثال التشبيه في الاستقامة: تشبيه الرجل المعتدل القامة بالرمح، ومثال التشبيه في الاستدارة بالكرة تارة، وبالحلقة أخرى.
ومثال التشبيه في المقادير، تشبيه عظيم الجثة بالجمل والفيل.
ومثاله في الحركة، تشبيه السريع بالسهم.
وأما الاشتراك في كيفية جسمانيّة غير محسوسة، فكما يقال: فلان كالحمار، أي في بلادته أو شبَقه، وهو كالنمِر، أي في غضبه.
وأما في الكيفيّة النفْسانيّة، فكالاشتراك في الغرائز والأخلاق كالكرم والحلم والشجاعة والذكاء والفتنة والعلم والزهد، كقولك: هو كحاتم (1) أي في جوده، وكعمرو بن معدي كرب (2)، أي في شجاعته .
ص: 105
وأما الاشتراك في الحالة الاضافية، فكقولهم: هذه الحجة كالشمس، فالاشتراك ها هنا في الجلاء بالنسبة إلى البصر والفهم، وهي حالة إضافية.
وقد تكون جليّة كما ذكرنا. وكقولهم: ألفاظ فلان كالماء، أي: في السلاسة، وكالنسيم، أي: في الرّقة؛ وذلك أنه إذا لم يتنافر حروفه؛ بل خفّت على اللسان ولم يكن غريباً وحشياً ارتاح له القلب، فلسرعة وصوله إلى النفس صار كالماء الذي يسرع نفوذه إلى الحلق، والنسيم الذي يسري في البدن.
وقد تكون خفية، كقول من ذكر بني المهلّب: هم كالحلْقة المُفْرَغَة لا يُدرى أين طرفاها (1). ألا ترى أنه لا يفهم المقصود من ذلك إلا من كان له ذهن يرتفع عن درجة العامة.
البحث الثاني: في تقسيمه بوجه آخر:
أنه قد يكون قريباً، وقد يكون بعيداً: / [31 أ].
والأول: كما إذا خطرت ببالك استدارة الشمس واستنارتها، فإنه يخطر بقلبك المرآة المجلوة، وتلاحظ الشبه بينهما.
وكذلك إذا نظرت إلى الوشْي المنشور لاح لك في شبهه الروض الممطور المفترّعن أزهاره (2).
وأما الغريب البعيد، فهو الذي يحتاج في إدراكه إلى دقّة نظر كتشبيه ب.
ص: 106
الشمس بالمرآة فى كفّ الأشلّ (1)، وتشبيه البرق بإصبع السارق، كقول کشاجم: (2):
أرقْتَ أم نمت لضوء بارق *** مؤتلق مثل الفؤاد الخافق
كأنه اُصبُع كفّ السارق
ثم السبب في القرب والبعد أمران:
أحدهما: أن الحس لا يعطى التمييز بين جهة الاشتراك والامتياز وإنما يدرك المركب من حيث هو شيء واحد وأما التفصيل والتمييز فذاك
حظ العقل.
وأيضاً فشعور الحس بالإجمال أقدم من شعوره بالتفصيل؛ فإن المرئي في أول النظر إليه لا يُدرك البصرُ تفاصيلَه حتى يتكرر، وكذلك المسموع فإنك تقف في إعادة الصوت على ما لم تقف عليه بالسماع الأول، وبإدراك التفاصيل يقع التفاضل بين سامع وسامع. وإذن كان إدراك الجملة أسهل وأقرب من إدراك التفصيل.
البحث الثالث: في بيان أن التشبيه بالوجه العقلي أعم من التشبيه بالوجه الحسي.
أما تشبيه المحسوس بالمحسوس فيمكن أن يكون لأجل الاشتراك في وجه محسوس، ويمكن أن يكون لأجل الاشتراك في وجه معقول، ويمكن لأجلهما جميعاً:
مثال الأول: تشبيه الخد بالورد.2.
ص: 107
مثال الثاني: قوله صلی الله علیه و آله و سلم: إياكم وخضراء الدِمَن (1)، فالتشبيه مأخوذ للمرأة النبات، وهما محسوسان، ولكن وجه المشابهة هو مقارنة الحسن الظاهر للقبح الباطن / [31 ب] وهو أمر عقلي.
ومثال الثالث: تشبيه الشخص الرفيع القدر، الحسن الوجه، بالشمس؛ لاشتراكهما في النباهة التي هي أمر عقلي، وفي الضياء الذي هو أمر حسي.
وأما تشبيه المعقول بالمعقول، والمعقول بالمحسوس، والمحسوس بالمعقول، فيمتنع أن يكون وجه الشبه غير عقلي، كأن وجه الشبه مشترك بين الجانبين، فلو كان محسوساً لم يصح وصف المعقول به - وأما العقلي فيصح، لصحة أن يصدر عما لا يكون محسوساً أمر محسوس، فثبت أن التشبيه بالوجه العقلي أعم.
البحث الرابع: التشبيه بالوصف المحسوس أتمّ من التشبيه بالوصف المعقول.
بيانه من وجهين:
أحدهما: أن أكثر الغرض في التشبيه: التخيّل الذي يقوم مقام التصديق في الترغيب والترهيب، والخيال أقوى على ضبط الكيفيّات المحسوسة منه على الأمور الأضافيّة.
الثاني: أن الاشتراك (2) في نفس الصفة أسبق من الاشتراك في 3.
ص: 108
مقتضاها؛ كما أن الصفة في نفسها متقدمة في التصوّر على مقتضاها، فكانت الصفة المحسوسة أتم في التشبيه من الأمر المعقول.
البحث الخامس: في تقسيم ما به المشابهة إلى المفرد والمركب: المشابهة، إما أن تكون في أمر واحد، أو في أمور كثيرة.
والأول، إما أن لا يكون مقيّداً بالنسبة إلى شيء، أو يكون:
فالأول، كتشبيه الكلام بالعسل في أن كل واحد منهما يوجب للنفس لذة وحالة محمودة.
وأما الثاني، فما إليه الانتساب أربعة أمور:
إما المفعول به، فكقولهم أخذ القوسَ باريها (1)؛ لأن المقصود وقوع الأخذ في موقعه ووجوده من أهله، وهذا لا يحصل من الأخذ المطلق، ولكن من حيث الحكم له بوقوعه من باريء القوس عليه [ 32 أ].
وإما إلى ما يجري مجرى المفعول به، وهو الجار والمجرور، كقولهم لمن يفعل ما لا يفيد، هو كالراقم على الماء (2)، فالتشبيه ليس بمنتزع من الرقم المطلق؛ بل منه على الماء.
وإما إلى الحال، كقولهم: كالحادي وليس له بعير (3)، أي الحادي حال ما لا يكون له بعير.
وإما إلى المفعول به والجار والمجرور معاً، كقولهم: «هو كمن .
ص: 109
يجمع السيفين في غِمْد (1)، وهو كمن ينثر الجوزَ على القبّة. فالجمع المعدّى إلى السيفين في غِمْد ﴿25﴾، لا يكفي في التشبيه ما لم يشترط كونه جامعاً لهما في الغمد، ومنه قوله تعالى: ﴿كمثل الحمار يحمل أسفاراً﴾ (2) فإنه تضمن التشبيه من اليهود لا لأمر يرجع إلى حقيقة الحمل المطلق؛ بل لأمرين آخرين:
أحدهما: تعديته إلى الأسفار.
والآخر: اقتران الجهل بما فيها؛ لأن الغرض توجيه الذم إلى من أتعب نفسه بحمل ما يتضمن من المنافع العظيمة، ثم لم ينتفع به بجهله، وهذا المقصود لا يحصل من الحمل المطلق؛ بل منه مشروطاً بالشرطين الآخرين، ثم إذا كان ما به المشابهة وصفاً مقيداً، فقد يمكن إفراد أحد جزئيه بالذِكر، وقد لا يمكن.
أما الأول فكقوله: (3).
فكأنّ اجرامَ النجوم لوامِعاً *** دُرَرٌ نُثِرْنَ على بِساط أَزْرَقِ
فإنك لو قلت: كانَّ النجوم درر، وكأن السماء البساط الأزرق، كان التشبيه معقولاً، وإن تغيّر المعنى المراد للقائل؛ إذ مقصوده من التشبيه ها هنا ذكر الأمور العجيبة من طلوع النجوم مؤتلفة مفترقة في أديم السماء وهي زرقاء زرقتها الصافية، والنجوم تتلألأ في تلك الزرقة، ومعلوم أن هذا المقصود لا يبقى إذا فُرّق التشبيه.7.
ص: 110
وأما الثاني، فكقوله: (1).
كأنما المرِّيخُ والمشتري *** قدّامه في شامخ الرفْعَهْ
منصرفٌ بالليل عن دعْوة *** قد أُسرجتْ قُدّامَه الشمَعة
فلو قلت: كأن المريخ منصرف عن دعوة / [32 ب]، وتركت حديث المشتري والشمعة، كان خلْفا من القول؛ إذ التشبيه للمرّيخ حيث الحالة الحاصلة له من تقدم المشتري له، فإذن لا يمكن إفراده بالذكر.
البحث السادس: في التشبيهات المتعددة المجتمعة:
إنما يكون (2) الأمر كذلك إذا كان التشبيه في أمور كثيرة لا يتقيّد بعضها بالبعض، وحينئذ تكون التشبيهات مضموماً بعضها إلى بعض الأغراض كثيرة، كل واحد منها قائم بنفسه، ولهذا النوع خاصّيتان:
الأولى: أنه لا يجب فيها الترتيب، فإنك لو قلت: زيد كالأسد بأساً، والبحرِ جوداً، والسيفِ مضاءً، والبدرِ بهاءً، لم يجب عليك أن تحفظ في هذه التشبيهات (3) نظاماً مخصوصاً.
الثانية: إذا سقط البعض فإنه لا يتغير حال الباقي، كقولهم: هو يصفو ويكدر، ويحلو ويمُرّ، ولو تركت ذكر الكدورة والمرارة، لكان المعنى في تشبيهه بالماء الصافي والعسل في الحلاوة باقياً.
البحث السابع: يجب مراعاة جهة التشبيه ولا يجوز تعدّيها، وإلا وقع الخطأ، مثاله ما قيل (4): «النحو في الكلام كالملح في الطعام»، .
ص: 111
فإن جهة التشبيه ها هنا هي الاصلاح، والمقصود أن الطعام كما لا يصلح إلا بالمِلح، كذلك الكلام لا يصلح إلا بالنحو، فأما ما ظنه بعضهم أن المقصود هو أن القليل من النحو مغْنٍ والكثير مفسد، كما أن القليل من الملح مغن والكثير مفسد، فهو ظن فاسد؛ لأن النحو علم بمجموع قوانين مضبوطه يمتنع تطرق الزيادة والنقصان إلى جريانها في الكلام، كقولك: كان زيد قائماً، فإنه لا بد فيه من رفع الاسم ونصب الخبر، فإن وُجدا وجد النحو من غير زيادة ولا نقصان، وإن لم يحصلا عدم النحو، فلا زيادة ولا نقصان أيضاً.
البحث الثامن: في اكتساب / [33 أ] وجه المشابهة.
الطريق إليه تميز ما به المشابهة عما به الامتياز، مثلاً من أراد تشبيه شيء بشيء في هيئة الحركة، وجب أن يطلب الوفاق بين الهيئة، والهيئة المجردة عن الجسم وسائر ما فيه من الأعراض، كما فعل ابن المعتز في قوله:
وكأن البرقَ مصحفُ قارٍ *** فانطباقاً مرّةً وانفتاحاً
فلم ينظر في جميع أوصاف البرق ومعانيه إلا إلى الهيئة التي تجدها العين من انبساط يعقبه انقباض (1)، ثم لما بحث عن أوصاف الحركات لينظر أيها أشبه بها أصاب ذلك فيما يفعله القاريء بأوراق المصحف من فتحها مرة وطبقها أخرى، ولم يكن حسن التشبيه لكونه جامعاً بین مختلفين، بل لحصول الاتفاق بينها من ذلك الوجه، ولأجل اجتماع الأمرين: أعني الاتفاق التام والاختلاف التام كان حسناً، ومما يناسب ذلك في كونه جامعاً بين المختلفين محاولة الشاعر جعل الشيء سبباً لضده كقوله: .
ص: 112
اعتَقني سوءُ ما صنعتَ من الرّ *** قّ فيا بردّها على كبدي
فصرتُ عبداً للسوء فيك *** وما أحسن سوءٌ قبلي إلى أحد (1)
الركن الثالث: في غرض التشبيه:
أنه إما أن يكون عائداً الى المشبه، أو المشبه به.
أما الأول، فقد يكون غرضه بيان الحكم المجهول، وقد لا يكون.
أما الأول، فإما أن يقصد بيان إمكانه عند ما لا يكون بيّناً، فيحتاج إلى التشبيه لبيانه، كقوله: (2).
فان تفُق الأنامَ وأنت منهم *** فإنّ المسكَ بَعضُ دمِ الغزالِ
فإن مقصوده أن يقول: إن الممدوح فاق الأنام حتى لم يبق بينهم وبينه مشابهة؛ بل صار أصلاً بنفسه، ولما كان هذا من الظاهر كالممتنع؛ إذ يبعد أن يتناهى إنسان في الفضائل إلى أن يخرج من نوعه، احتج لدعواه بأن المسك وإن كان بعض / [33 ب] دم الغزال في أصله، فقد خرج عن صفة الدم وحقيقته حتى صار لا يعدّ دماً.
وإما أن يقصد بيان مقداره، كقولك للشيء الأسود: إنه كحلك الغراب (3)، فإن المقصود من هذا التشبيه بيان مقدار السواد في الحلوكة، لا إمكان وجوده.
وأما الثاني، وهو أن لا يكون غرضه بيان حكم مجهول، فقد يكون غرضه أحد أمرين: .
ص: 113
أحدهما: نقل النفس من الغريب إلى القريب؛ لأن إلف النفس مع الحسّيات أتم من العقليات؛ لتأخر كثير من العلوم العقلية عن الحسية، فإذا ذكرت المعنى العقلي الجِبِلّي، ثم عقبته (1) بالتمثيل الحسي، فقد نقلت النفس من الغريب إلى القريب (2).
الثاني: أن يقصد المباعدة بين المتشابهين؛ لأن التشابه حينئذ يكون أغرب، فيكون إعجاب النفس بذلك التشبيه اكثر؛ لأن شغف النفس بالغريب الذي لم يعهد اكثر من المألوف المعتاد.
وأما الأغراض العائدة إلى المشبه به، فقد يقصد المادح على طريق التخييل أن يوهم في الشيء القاصر عن نظيره أنه زائد عليه، ويشبه الزائد بذلك الناقص يقصد به إعلاء شأن ذلك الناقص، أي هو بالغ إلى حيث صار أصلاً للشيء الكامل في ذلك الأمر كقوله:
وبدا الصباحُ كأنّ غرّتَهُ *** وجهُ الخليفةِ حينَ يُمتَدحُ (3)
ألا ترى أنه جعل وجه الخليفة أعرف وأتم وأشهر في النور والضياء من الصباح حتى شبه الصباح به، وقد يقصد الذامّ عكس ذلك.
الركن الرابع: في التشبيه نفسه، وفيه أبحاث:
البحث الأول: في التشبيه ليس من المجاز (4)؛ لأنه معنى من المعاني، وله حروف وألفاظ مخصوصة، كالكاف وكأنّ ونحو ومثل تدل عليه وضعاً، فاذا صرح بالألفاظ الدالة عليه كان حقيقة، فإذا قلت: زيد .
ص: 114
كالأسد لم يكن نقلاً للفظ / [34 أ] عن موضوعه الأصلي فلا يكون مجازاً.
البحث الثاني: في التشبيه الذي يصح عكسه، والذي لا يصح:
قد يكون الغرض من التشبيه إلحاق الناقص بالزائد مبالغة في إثبات الحكم للناقص كما إذا شبهت شيئاً [أسود (1)] بخافية الغراب، أو وجهاً حسن البياض والصورة بالبدر والشمس ومثل هذا يمتنع العكس فيه؛ لأن تنزيل الزائد منزلة الناقص يضادّ المبالغة الأولى.
وقد يكون المقصود الجمع بين الشيئين في مطلق الصورة أو الشكل واللون، كتشبيه الصبح بغرّة الفرس، لا لأجل المبالغة في الضياء؛ بل لأجل ظهور بياض في سواد مع كون البياض قليلاً بالاضافة إلى السواد، والعكس حينئذ جائز، كما لو شبهت غرّة الفرس بالصبح.
البحث الثالث: في التشبيه الواقع في الهيئات:
إنه قد يقع في الهيئات التي يقع عليها المحركات.
وقد يقع في الهيئات التي يقع عليها السكنات. أما الأول: فعلى وجهين:
أحدهما: أن يقرن الحركة بغيرها من الأوصاف والشكل واللون، كقول ابن المعتز: والشمس كالمرآة في كفّ الأشل (2).
أراد أن لها من الاستدارة والاشراق الحركة التي تراها إذا أمعنت التأمل، وذلك أن للشمس حركة دائمة متصلة، ولنورها بسبب ذلك تموج، ولا يحصل هذا التشبيه إلا أن تكون المرآة في كف الأشل؛ لدوام حركته فيتموج بسببه نور المرآة، وتلك حال الشمس..
ص: 115
وثانيها: أن يكون التشبيه في هيئة الحركة مجردة من كل وصف يقارنها مثاله قول الأعشى يصف السفينة وتلعّب الأمواج بها:
تَقِصُّ السفين بجانبيْه *** كما يَنْزُو الرُّبَّاح خَلَالَه كَرْعُ (1)
والرباح: القرد في لغة أهل اليمن وأصله بتشديد الباء فخففه وقيل: أراد الربح، وهو الفصيل، فأشبع / [34 ب] فتحة الباء فحدثت الألف، والكرع: ماء السماء يكرع فيه، شبه السفينة في انحدارها وارتفاعها بحركات القرد إذا نزا في الماء، فإنه يكون له حركات مختلفة في جهات مختلفة، ويكون هناك تسفّل وتصعّد على غير ترتيب، وهو أشبه شيء بحركات السفينة حين يتدافعها الموج.
وأما التشبيه الواقع في الهيئات التي يقع عليها السكنات، فكقول الأخيطل (2) في صفة المصلوب:
كأنه عاشقٌ قد مدَّ صفحتَهُ *** يوم الوداعِ إلى توديعِ مُرتَحلِ
أو قائمٌ مِن نُعاسٍ فيه لُوثَتَهُ *** مُواصِلٌ لتمطيّه من الكسلِ (3)
فلُطْفه بسبب ما فيه من التفاصيل، ولو قال: كأنه متمطّ من نعاس واقتصر عليه لكان قريب التناول؛ لأن هذا القدر من التشبيه يحصل في نفس الرائي للمصلوب لكونه من باب الجملة، وأما على التفصيل الذي قید به استدامة تلك الهيئة فلا يحصل إلا مع التأمّل لحاجته إلى أن ينظر إلى أحوال المتمطّي من مد ظهره ويده، ويزيد على النظر إلى استدامته لذلك وإلى علّته؛ وهي قيام اللوثة والكسل في القائم من النعاس، وهذا .
ص: 116
أصل فيما يراد به التفصيل، وهو أن يُثبت في الوصف أمر زائد على المعلوم المتعارف ثم يطلب علّته.
البحث الرابع: في مراتب التشبيه في الخفاء والظهور:
التشبيه قد يكون بالتخيّل الذي لا وجود له في الأعيان، كتشبيه الشقائق بأعلام ياقوت نشرت على رماح من زبرجد (1).
وقد يكون بما له وجود في الأعيان، وحينئذ فالهيئة المعتبرة (2) في
ذلك، إما أن توجد قليلاً أو كثيراً:
بيانه أنك إذا قايست بين قوله:
وكانّ أجرام النجومِ لوامعاً *** دُرَرٌ نُثِرْنَ على بِساطٍ أزرقِ
وبين قول ذي الرمّة:
كأنها فضةٌ قد مَسَّهَا ذَهَب (3)
عرفت أن الأول أغرب من الثاني؛ لأن الهيئة الأولى وهي وجود درر منثور على بساط أزرق أقل وقوعاً من فضة / [35 أ] أجرى عليها الذهب وكلما كان الشيء عن الوقوع أبعد كان أغرب، فكان التشبيه به ألذّ وأعجب.
البحث الخامس: في التمثيل والمثل: ب
ص: 117
قد خص التشبيه المنتزع من اجتماع أمور يتقيد بعضها بالبعض باسم التمثيل. وقد يكون ذلك على وجه الاستعارة، كقولك (1) للمتردد في الأمر: «أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى» (2) تريد أنك في ترددك كمن يقدم رجلاً ويؤخر أخرى.
وقد لا يكون كما إذا أبرزت ألفاظ التشبيه، كقوله تعالى: ﴿ومثل الذين حُمِّلوا التوراة ...﴾ (3) الآية.
وأما المثل؛ فهو تشبيه سائر، أي يكثر استعماله على معنى: أن الثاني بمنزلة الأول. والأمثال كلها حكايات لا تغيّر؛ لأن ذكرها على تقدير أن يقال في الواقعة المعينة: إنها بمنزلة ما يقال فيه هذا القول، كقولك لمن لم يسمع رأيك: «لا يطاع لقصير أمر» (4). ألا ترى أنك تقول ذلك بالألفاظ التي قالها منشيء هذا المثل، ولو غُيّرت هذه الألفاظ لم تُسمّ
مثلاً. 0.
ص: 118
في الاستعارة، وفيه ثلاثة أركان:
الركن الأول: في حقيقتها وأحكامها وفيه أبحاث:
البحث الأول: أجود ما قيل في حد الاستعارة: إنها استعمال اللفظ في غير ما اصطلح عليه في أصل المواضعة التي بها التخاطب لأجل المبالغة في التشبيه.
وبالقيد الأول احترزنا عن الحقائق الثلاث اللغوية والعرفية والشرعية (1).
وبقولنا: لأجل المبالغة في التشبيه عن سائر وجوه المجاز.
واعلم أن المستعار وإن كان صفة للفظ إلا أنه صفة للمعنى أولاً؛ فإن المعنى أوّلاً يُعار ثم بواسطته يعار اللفظ.
بيانه من وجهين:
أحدهما: أنه حيث لا يكون نقل الاسم تابعاً لنقل المعنى تقديراً، لم يكن ذلك استعارة، كالأعلام المنقولة، فإنك إذا سميت إنساناً بيزيد أو يشكر، فإنه لا يقال لهذه الألفاظ مستعارة؛ إذ (2) لم يكن نقلها تبعاً لنقل معانيها تقديراً/ [35 ب].
ص: 119
الثاني: أن العقلاء يجزمون بأن الاستعارة أبلغ من الحقيقة، فإن لم یكن نقل الاسم تبعاً لنقل المعنى، لم يكن فيه مبالغة؛ إذ لا مبالغة في إطلاق الاسم المجرد عارياً عن معناه.
البحث الثاني: الفرق بين الاستعارة والتشبيه:
إن التشبيه حكم إضافي يستدعي مضافين وليس الاستعارة كذلك؛ فإنك إذا قلت: رأيت أسداً لم يذكر شيئاً آخر حتى تشبه بالأسد، فلم يكن ذلك تشبيهاً، بل أعطى المعنى لفظاً ليس له لأجل المشابهة بينه وبين معناه الأصلي، وما هو لأجل شيء آخر لا يكون نفس ذلك الشيء، واعلم أنه متى قويت المشابهة بين الشيئين كان التصريح بالتشبيه قبيحاً، وذلك لقرب الشبه من حقيقة المشبه به، مثاله إطلاق لفظ النور على العلم والايمان والظلم على الكفر والجهل، فلا يحسن ها هنا؟ - لقوة المشابهة - أن يقول العلم كالنور.
وبالجملة: فالاستعارة إنما تحسن حيث يكون التشبيه متقرراً بين الناس ظاهراً، فأما إذا خفي واحتاج إلى كلفة، فلا بد من التصريح، فإنك لو قلت في قوله عليه السلام: مثل المؤمن كمثل النخلة (1)، رأيت نخلة وأردت المؤمن، كنت - كما قال سيبوية (2) - ملغزاً تاركاً لكلام العرب.
البحث الثالث: في ترشيح الاستعارة وتجريدها:
أما ترشيح الاستعارة؛ فأن تراعي جانب المستعار وتوليه ما يستدعيه وتضمّ إليه ما يقتضيه، كقول كثير: (3) 8.
ص: 120
رمتني بسَهمٍ ريشُه الكحل لم يضر
فاستعار الرمي للنظر وراعى ما يستدعيه، فأردفه بلفظ السهم.
وقول امريء القيس (1).
فقلت له لمّا تمطّى بصُلْبِهِ *** وأردفَ أعجازاً وَنَاءَ بكَلْكَلِ / 1 36 أ]
لما جعل للّيل صُلباً قد تمطّى به أردفه بما يقتضيه من الأعجاز والكلكل.
وأما تجريدها؛ فأن يُراعى جانب المستعار له، كقوله تعالى: ﴿فأذاقها الله لباسَ الجُوع والخوْف﴾ (2) وكقول زهير (3):
لدى أسدٍ شاكي السلاحِ مقذّفٍ
لو نظر إلى المستعارها هنا، لقيل: فكساهم لباس الجوع، ولقال زهير لدى أسد في المخالب والبراثن.
البحث الرابع: في الاستعارة بالكناية، وتنزيلها منزلة الحقيقة.
وأما الاستعارة بالكناية؛ فهو أن يذكر بعض لوازم المستعار للتنبيه عليه دون التصريح بذكره، كقول أبي ذؤيب: (4) .
ص: 121
وإذا المنيّة أنشَبتْ أظْفَارها
فكأنه حاول استعارة السبع للمنيّة، لكنه لم يصرحْ بها؛ بل ذكر بعضَ لوازمها؛ تنبيهاً لها على المقصود.
وأما تنزيلها منزلة الحقيقة، فاعلم أنهم قد يستعيرون الوصف للشيء المعقول ويجعلون ذلك كالثابت لذلك الشيء في الحقيقة، وكأن الحقيقة لم توجد، وذلك كاستعارة العلوّ لزيادة الرجل على غيره في الفضل، ثم وضعهم الكلام وضعَ من يَذكرُ عُلُوّاً مكانياً، كقول أبي تمام (1):
ويصْعدُ حتى يظنَّ الجهولُ *** بأنّ له حاجةً في السماء
فقصد ها هنا أن يَنسى التشبيه ويرفعه رأساً، ويجعل الممدوح صاعداً في السماء صعوداً مكانياً، وهكذا إذا استعاروا إسم الشيء لغيره من نحو: بدر، وأسد (2)، فإنهم يبلغون إلى حيث يعتقد أن ليس هناك كاستعارة كقوله: (3)
قامتْ تُظلّلني - ومن عَجَبٍ - *** شمس تظلّلني من الشمسٍ
فلولا أنه أنسى نفسه أن ها هنا استعارة، لما كان لهذا التعجب معنى، ومدار/ [36 ب] أكثر هذا النوع على التعجب.
وقد يجيء على عكس مذهب التعجب، كقوله: (4)
لاتعجبوا من بِلَى غُلالته *** قدْ زَرّ أزرارَهُ على القمَرِ .
ص: 122
فقد ذكر كما ترى شيئاً (1) هو من خاصة القمر، فهو ينهاهم عن التعجب من بلى الكتان بسرعة، ويقول إنه قد زُرّ على القمر، ومن شأن القمر ذلك، وهذا إنما يتم بالجزم بكونه قمراً (2)، إلا أنه لو اعترف بأنه ليس بقمر وإنما يشبه القمر، لبطل كلامه.
البحث الخامس: في شرط حسن الاستعارة
واعلم أن الاستعارة إنما تحسن بالمبالغة في التشبيه مع الإيجاز، كقوله:
أيا مَنْ رَمَى قَلْبِي بسهْمٍ فأَنْفَذا (3).
لا كقول أبي تمام: (4)
لا تسْقني ماءَ المَلامِ فإنّني *** صبُّ قد استعذبْتُ ماءَ بُكَائِي
فإن قوله ماء الملام ليس فيه لذاذة، ولو أتى بالحقيقة فقال: لا تلمني لكان أوجز.
وقد تكون الاستعارة عامية، كقولك: رأيت أسداً، أو وردت بحراً. وقد تكون خاصّية كقوله:
وسالتْ بأعناقِ المَطِيِّ الأباطحُ (5) .
ص: 123
شبه سيرها الحثيث وغاية سرعته في لين وسلاسة بسيل وقع في الأباطح فجرت به.
الركن الثاني: من أقسام الاستعارة، وفيه أبحاث:
البحث الأول: الاستعارة قد تعتمد نفس التشبيه، كما إذا اشترك شيئان في وصف وهو في أحديهما أزيد فتعطى الناقص اسم الزائد، كقولك: رأيت أسداً، وتريد رجلاً شجاعاً، وغنّت لنا ظبية، وتريد امرأة.
وقد تعتمد لوازم التشبيه وهو إذا كانت جهة الاشتراك إنما ثبت كمالها في المستعار منه بواسطة أمر آخر فيثبت ذلك الأمر للمستعار له مبالغة في إثبات المشترك، كقوله (1):
إذ أصبحتْ بيد الشِمّال زمامُها.
فالشمال في [ تصريف] (2) الغداة على حكم طبيعتها كالحيوان المتصرف، إلا أن تصرف / [37 أ] الحيوان لمّا كان في أكثر الأحوال باليد، كانت اليد كالآلة التي يكمل بها التصرف (3). ولما كان الغرض هاهنا إثبات التصرف وهو لا يكمل إلا بثبوت اليد (4)، لا أجرم ثبت للريح يداً تحقيقاً للغرض، وكذلك قوله (5):
إذا هزّه في عظم قرنٍ تهلّلت *** نواجذُ أفواهِ المنايا الضواحك
لمّا شبه المنايا عند هزة السيف بالسرور (6)، وكمال الفرح إنما يظهر .
ص: 124
بالضحك الذي يتهلّل فيه النواجذ، أثبت الضحك مع تهلّل النواجذ؛ تحقيقاً للوصف المقصود.
البحث الثاني: واعلم أن القسم الأول على أربعة أقسام:
أحدها: أن يستعار لفظ المحسوس للمحسوس، وحينئذ فالاشتراك بينهما إما في الذوات دون الصفات أو بالعكس.
فالأول كحقيقة تفاوتت آحادها في الفضيلة والنقص والقوة والضعف، فيستعار لفظ الأكمل في ذلك النوع للأنقص كاستعارة الطيران للعدو بسرعة، فيقال للعدو السريع، طيران؛ إذ الطيران والعدو يشتركان في الحقيقة: وهي الحركة المكانية، ويختلفان في القوة والضعف.
وأما الثاني: فكقولهم: رأيت شمساً وتريد إنساناً يتهلّل وجهه، فها هنا الإنسان مخالف للشمس في الحقيقة، مشارك لها في الوصف، وكقول عليّ عليه السلام في ذكر النبي صلی الله علیه و آله و سلم: «اختاره من شجرة الأنبياء» (1)، فإن الشجرة وأصل النبوّة يختلفان بالحقيقة، ولكنهما يشتركان في أن كلّ واحد منهما أصل يتفرع عليه الفروع.
وثانيها: استعارة لفظ المعقول للمعقول، وهو أيضاً إنما يكون في أمرين يشتركان في وصفٍ أحدهما به أوْلى، وهو فيه أكمل، فينزّل الناقص منزلة الكامل ثم أن المشتركين قد يكونان متعاندين / [37 ب]، أما تعاند النقيضين وهو كاستعارة المعدوم للموجود عند مالا يكون في ذلك الموجود فائدة فيشارك المعدوم في عدم الفائدة، فيستعار لفظه له. أو كاستعارة الموجود للمعدوم عندما يكون للمعدوم آثار باقية يشارك بها الموجود، إلا أن الموجود بمثلها أولى فيستعار لفظه له.
وأما تعاند الضدين حقيقة كان أو ظاهراً، وهو كتشبيه الجاهل .
ص: 125
بالميّت؛ لأن الموت والحياة للجاهل اشتركا في عدم الفائدة المطلوبة منه وهي الإدراك والعقل، إلا أن الموت بها أولى فيستعار لفظه لها، ومنه قول عليّ عليه السلام: «الناس نِيامٌ، فإذا ماتوا انتبهُوا (1).
وقد لا يكونان متعاندين، وهو ﴿أن يكون موجودان يشتركان﴾ (2) في وصف معقول، إلا أن أحدهما أولى به فينزل الناقص منزلة الزائد، كقولهم: فلان لقي الموت، إذا لقي شيئاً من الشدائد؛ لاشتراك الموت والشدائد في المكروهية، لكن الموت أولى بها فينزل الشدائد منزلة الموت فيستعار لفظ الموت لها.
وثالثها: استعارة لفظ المحسوس للمعقول، وهو كاستعارة لفظ النور
المحسوس للحجّة الواضحة، واستعارة لفظ القسطاس المحسوس للعدل، ومنه قوله عليه السلام في مدح القرآن: إنه حبْلُ الله المتين، وفيه ربيعُ القلب، وينابيعُ العِلْم» (3)، فاستعار لفظ الحبل والربيع والينابيع لمعاني القرآن.
ورابعها: استعارة لفظ المعقول للمحسوس؛ وهو أن يجعل المعقول أصلاً في التشبيه ويبالغ في تشبيه المحسوس به، كقوله (4):
فمنظرُها شِفاءٌ من سَقامٍ *** ومَخْبَرُها حياةً مِن حِمَامِ
فإن الموضع المنظور إليه منها لما شارك الشفاء في التذاذ الحاصل عنها، وكان الشفاء أولى بذلك، بالغ في تشبيه المنظر به فأعاره اسمه. وكذلك المخبر وهو محل [الإخبار (5)] [38 أ]، وهو إما أقوالها وأفعالها .
ص: 126
المحسوسة، أو شيء آخر، لما شارك الحياة في الالتذاذ الحاصل عنهما، وكانت الحياة أولى به من المخبر؛ بالغ في تشبيه المخبر بها، فاستعار له لفظها.
ص: 127
في الكناية
وفيه بحثان:
البحث الأول: في حقيقتها:
أما حقيقتها، فاعلم أن اللفظة إذا أطلقت وأُريد بها غيرُ معناها، فإما أن يُراد بها مع ذلك معناها أو لا يُراد.
فالأول هو الكناية، كقولك: فلانٌ طويلُ النِّجادِ، كثيرُ رمادِ القِدْر. فقولنا: طويل النجاد ليس الغرض الأصلي به معناه؛ بل ما يلزمه من طول القامة، وكذلك المثال الآخر، فإن المقصود منه ما يلزمه من إطعام الخلْق والتكرم عليهم، فهذه هي الكناية في المفرد.
وأما في المركّب؛ فهي أن يحاول إثبات معنى من المعاني لشيء، فيترك التصريح بإثباته له ويثبته المتعلقه، كقوله (1):
إن المروءةَ والسماحةَ والنّدَى *** في قُبّةٍ ضُربتْ على بن الحشْرَجِ
لما أراد إثبات هذه المعاني للمدوح لم يصرّح بها؛ بل عدل إلى ما ترى من الكناية فجعلها في قبّة ضُربت عليه. ومنه قولهم: المجْدُ بین ثوْبيه والكرم بين بُرْدَيه. ومثاله في جانب النفي قول من يصف امرأة بالعفّة (2):
يَبيتُ بمَنْجاةٍ من اللَّوْمِ بَيْتُها *** إذا ما بُيوتٌ بالمَلامَةِ جُلَّت
ص: 128
فتوصل إلى نفي اللّوم عنها بأن نفاه عن بيتها.
البحث الثاني: في الفرق بينها وبين المجاز:
الفرق بينهما أن الكناية عبارة عن أن تذكر لفظة وتفيد بمعناها معنى ثانياً هو المقصود، وإذا أفدت المقصود بمعنى اللفظ وجب أن يكون معناه مُعتبراً، فلم تكن قد نقلْت اللفظة عن موضوعها، فليست مجازاً، مثاله: أنك إذا قلت: فلانٌ كثيرُ الرّماد فأنت تريد أن تجعل / [38 ب] كثرة الرماد دليلاً على جُوده، فقد استُعملت هذه الألفاظ في معانيها الأصلية وقصدْت يكونه كثيرَ الرماد معنى ثانياً يلزم الأول، وهو الجواد، بخلاف المجاز، فإنك تنقل اللفظة عن معناها الأصلي. وبالله التوفيق.
ص: 129
ص: 130
الجملة الثانية
في النظم
وفيها فصول:
في حقيقته
إنه وضع الكلام على النهج الذي يقتضيه عمل النّحو، والعمل فيه بقوانينه وأصوله (1).
بيانه: أنك تنظر في وجوه كل باب وفروقه، فتنظر في الخبر مثلاً إلى الفرق بين ما إذا كان المبتدأ اسماً مشتقاً أو صريحاً (2)، أو فعلاً ماضياً أو مستقبلاً (3)، وبين إدخال الألف واللّام عليه أو عدمها، والفصل بالضمير وعدمه (4)، وفي الشرط والجزاء إلى الوجوه التي تختلف بحسب اختلاف كون الجملتين فعليتين أو أحديهما فعلية والأخرى اسميّة، وإن كانتا فعليّتين فتنظر الفرق بين ما إذا كان الفعلان ما ضيين أو مستقبلين(5)، أو أحدهما ماضياً والآخر مستقبلا (6)، وفي الحال إذا كان اسماً أو فعلا (7)،
ص: 131
وفي الحروف المشتركة في معنىِّ، أين يكون وضعها أليق نحو أن تجيء بما في نفي الحال أو الماضي، وبلا في نفي الاستقبال ﴿7﴾، بإن فيما يتردّد بينهما، وبإذا فيما علم أنه كائن (1)، وأن تعرف مواضع الفصل والوصل (2)، ومواضع التعريف والتنكير والتقديم والتأخير، والحذف والتكرار والاضمار والإظهار (3)، فتضع كل شيء مكانه.
واعلم أنه ليس إذا حسُن التنكير مثلاً أو التعريف أو أحد هذه الأمور في موضع حسُن في كل موضع؛ بل إنما يحسُن بحسب الموضع الذي يقصده (4).
وحاصل هذا التقرير: إن النظم إنما يحصل في كلمات تضمّ (5) .
ص: 132
بعضها إلى البعض وذلك / [39 أ] النظم يعتبر فيه أحوال المفردات وأحوال انضمام بعضها إلى بعض.
فأما أحوال المفردات؛ فإما أن يعتبر حال دلالة الألفاظ، أو حال دلالة أحوالها وحركاتها، وسكناتها، فهذه هي أقسام الاعتبار، والنظم الكامل إنما يحصل إذا اختير من هذه الأمور الثلاثة في كل موضع ما هو الأليق به.
ص: 133
في أقسام النظم
إنّ الجمل الكثيرة إذا نُظمتْ نظماً واحداً، فإما أن يتعلق بعضها بالبعض أو ليس.
فإن كان الثاني لم يحتج ذلك النظم إلى فكر في استخراجه، مثاله قول عليّ عليه السلام: لا مالَ أعُودُ من العقل، ولا داء أعيى من الجهل، ولا عقل كالتدبير ولا كرم كالتقوى» (1).
وإن كان ﴿الأول﴾ (2) فكلما كانت أجزاء الكلام أشد ارتباطاً، كان أدخل في الفصاحة، وليس له قانون يحفظ؛ لمجيئه على وجوه شتى، ولنذكر ما يعتبر منها وهو أحد وعشرون (3):
الوجه الأول: المطابقة:
وهي الجمع بين المتضادّين في الكلام مع مراعاة التقابل حتى لا يُضمّ الاسم إلى الفعل، كقوله تعالى: ﴿فليضحكوا قليلاً ولْيبكوا كثيراً﴾ (4).
وقوله: ﴿سواءٌ منكم مَن أسرّ القولَ ومنْ جَهر به ومن هو مسْتَخْفٍ بالليل وساربٌ بالنهار﴾ (5).
ص: 134
وقوله تعالى: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ (1).
الوجه الثاني: المقابلة:
وهي أن تجمع بين شيئين متوافقين وبين ضدّيهما، ثم إذا شرطتهما بشرط وجب أن تشترط ضديهما بضد ذلك الشرط، كقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ﴾ (2). فلما جعل التيسير مشتركاً بين الأعطاء والاتّقاء والتصديق / [39 ب ]، جعل ضده: وهو التعسير مشتركاً بين أضداد تلك الأمور، وهي المنع والاستغناء والتكذيب.
الوجه الثالث: المزاوجة بين معنيين في الشرط والجزاء، كقول البحتري (3):
إذا ما نَهى النَّاهِي فلجّ بي الهَوى *** أصاخَتْ إلى الواشِي فلجَّ بها (4) الهجْرُ
الرابع: الاعتراض.
وهو أن يدرج في الكلام ما يتمّ به الغرض دونه كقوله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ (5) وقول عليّ عليه السلام: «أما بعد فإنّ اللهَ خلق الخلْقَ - حين خلقهم - غنيّاً عن طاعتهم.
الخامس: الالتفات:
وهو العدولُ العدول عن مساقِ الكلام إلى مساقٍ آخر غير مناف للأول في .
ص: 135
المعنى؛ بل متمّم له على جهة الميْل أو غيره.
كالعدول عن الغيبة إلى الخطاب، كقوله تعالى: ﴿مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين﴾ (1).
وبالعكس كقوله تعالى: ﴿حَتَّىٰ إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ (2) وقول علي عليه السلام: «وَبِنَا انْفَجَرْتُمْ عَنِ السِّرار، وُقِرَ سَمْعٌ
لمْ يفْقَهِ الواعِيَة» (3).
السادس: الاقتباس:
وهو أن تُدرج كلمة من القرآن أو آية منه في الكلام تزْييناً لنظامه، كقول ابن شمْعون في وعظه: اصبروا عن المحرّمات، وصابروا على المفْتَرَضات ورابطوا بالمراقَبات، واتقوا الله في الخلَوات تُرفعْ لكم الدرجاتُ» ﴿26﴾.
السابع: التلميح:
وهو أن يشار في فحوى الكلام إلى مثل سائر أو شعر نادر (4)، كقول
علي عليه السلام في خطبته الشِقْشِقيّة (5): .
ص: 136
شتّان ما يَوْمى على كُورِها *** ويومُ شتّان أخِي جابرِ
الثامن: إرسال المَثَلين وهو الجمع بين المثلين، كقوله (1):
ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلٌ *** وكلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ
التاسع: اللف والنشر:
وهو أن تلف / [40 أ] شيئين وتُورد تفسيرَهما جُملة؛ ثقةً بأن السامع يميّز ما لكل منهما كقوله تعالى: ﴿ومِن رحمته جعلَ لكمُ الليلَ والنهارَ لتسْكنوا فيه ولتبتغوا مِنْ فضْله﴾ (2).
ويقرب منه: أن تذكر لفظاً يُتوهّم أنه يحتاج إلى البيان فتقصده مع تفسيره، كقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يأتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بإذْنه فمنهمْ شَقِيٌّ وسَعِيد، فأما الذين شَقُوا فَفِي النارِ﴾ الآية (3) ﴿وأمّا الذين سُعدوا ففِي الجنة﴾ الآية.
العاشر: التّعديد:
وهو إيقاع الأعداد من الأسماء المفردة في النظم والنشر على مساق واحد، فإن روعي فيه ازدواج أو تجنيس أو مطابقة أو مقابلة، حسُن جداً، مثاله من النثر قولهم: فلان إليه الحَلّ والعَقْد (4)، والقبول والرَدّ، والأمر والنهي، والإثبات والنفي.
ومن النظم قول المتنبي (5): 3
ص: 137
الخيلُ واللّيلُ والبَيْداءُ تعُرفُني *** والطعْنُ والضّربُ والقرْطاسُ والقَلَم
الحادي عشر: تنسيق الصفات (1):
كقوله تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ﴾ (2) الآية، وقوله تعالى: ﴿يا أيها النبيُّ إنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً ومبشراً ونذيراً﴾ (3) الآية، وقوله: ﴿ولا تُطِعْ كلَّ حَلافٍ مَهِين﴾ (4) الآية، والتنسيق في أوائل الخطب كثير.
الثاني عشر: الإبهام.
وهو أن يكون للفظ ظاهر وتأويل، فيُسْبِقُ إلى فهم السامع الظاهرُ، مع أن المراد هو التأويل، كقوله تعالى ﴿والأرض جميعاً قبضَتُه يوم القيامةِ والسمواتُ مطوِيّاتٌ بيمينه﴾ (5).
الثالث عشر: مراعاة النظير:
وهو جمع الأمور المناسبة المتوازنة، كقول عليّ عليه السلام: الحمدُ لله غيرَ مقنوطٍ من رحمته، ولا مخلوٍّ من نِعمته، ولا مايوسٍ من مغفرته» (6).
الرابع عشر: المدح الموجّه:
وهو أن يمدح بشيء يقتضي المدح بشيء آخر، كقول المتنبي (7): 1.
ص: 138
نهبتَ من الأعمارِ ما لوْ حويْتَهُ *** لهُنِّئت الدنيا بأنّكَ خالدُ
فأوله مدح بالشجاعة، وآخره مدح بعلو الدرجة.
الخامس عشر: المحتمل للضدين: [40 ب]
وهو أن يكون الكلام محتمِلاً للمدح والذم على السواء، كمن قال لرجل أعور (1):
ليت عينيْه سَواء
السادس عشر: تجاهل العارف:
كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ (2).
وكقول المتنبي:
أريقُكَ أمْ ماءُ الغمامةِ أمْ خمْرُ (3).
السابع عشر: السؤال والجواب:
كقوله تعالى: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ... قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ (4).
الثامن عشر: الحذف 6.
ص: 139
وهو أن يُتكلّف حذفُ حرفٍ من حروف المعْجم، كما حذف عليٌ عليه السلام الألف في خطبته المسماة بالموقوصة (1).
التاسع عشر: التعجب:
كقوله: فيا خجل المقصِّرين من التوبيخ في مَحْفَل القيامة، ويا حسرةَ الظالمين إذا عايَنُوا أهل السلامة!
العشرون: الإغراق في الصفة:
كقول امرىء القيس:
من القاصرات الطرْف لو دبَّ مُحْوِلٌ *** من الذُّرِّ فوقَ الأتْب منها لأثَّرَا (2)
وقول المتنبّي (3):
كفى بجسمي نحُولاً أنّني رجلٌ *** لَوْلا مُخاطبتي إيّاكَ لمْ تَرنِي
الحادي والعشرون: في حسن التعليل.
وهو أن يُذكر وصفان: أحدهما علة للآخر، والغرض منهما ذكرهما جميعاً، كقول علي عليه السلام في ذم الدنيا: «هانت على ربها فخلطَ حلالها بحرامِها، وخيرَها بشرِّها» (4) .
ص: 140
وكقوله:
فإن غادر الغُدران في صَحْن وَجْنَتي *** فلا غَرْو منه لم يزلْ كان غادراً (1)
واعلم أن وجوه النظم كثيرة، ولما كان كثير منها قلّما يوجد في كلام المطبوعين من المتقدمين، وإنما هي صناعات تكلّفها المحدَثون، لاجرَم ذكرنا ما كان غالباً في القرآن الكريم، والكلماتِ النبويّة، وكلامِ عليّ عليه السلام والمطبوعين على الكلام من سائر الفصحاء، وما أحدثه المتأخرون، وإن كان لا ينْخَرط في سِلْك الأوّلين، إلا أنه يدل على ذكاء مبتدعه وفطنة مخترعه وبالله التوفيق. .
ص: 141
في التقديم والتأخير
وفيه أبحاث:
البحث الأول: في فائدتهما:
إذا قُدّم اللفظ على غيره / [41 أ] فإما أن يكون في النّية مؤخراً، كخبر
المبتدأ إذا قدم عليه، والمفعول على الفاعل.
وإما أن لا يكون على نيّة التأخير ولكن على أن يُنقل الشيءُ من حكم إلى حكم آخر، مثاله: أن تَذكر اسمين كل واحد منهما يصلح أن يكون مبتدأ والآخر خبراً، فتقدم هذا تارة وذاك أخرى، كقولك: زيدً المنطلقُ وعكسه.
قال سيبويه (1): عندما يذكر الفاعل والمفعول: كأنهم يُقدّمون الذي بيانه أهم وهم ببيانه أعنى، وإن كانا معاً يهمّانهم، مثاله، إذا أرادوا الإخبار عن قتْل شخص خارجيّ لا من حيث هو شخص معيّن، قالوا: قتل الخارجيِّ زيدٌ، وإذا صدر عن بعض الفضلاء قبيحة وأرادوا الإخبار عن ذلك، قدموا اسمَه على فعلِه؛ لأن ذكره أوّلاً ثم نسبة الفعل إليه أوْقعُ في النفوس من العكس، فكان عند المخبِر أهمّ (2).
ولنذكر ما يهمّ تقديمه ومالا يهمّ في الاستفهام والخبر والنفي.
ص: 142
البحث الثاني: في التقديم والتأخير في الاستفهام:
المذكور عقيب حرف الاستفهام إما الفعل أو الاسم.
فإن كان الأول كان هو المشكوك في وجوده والمسئول عن معرفته، مثاله قولك: أبنَى زيدٌ داره؟ فإن السؤال واقع عن وجود البناء، والشك في وجوده.
وإن كان الثاني، فالسؤال واقع عن تعيين الفاعل، كقولك: أأنت بنيتَ هذه الدار؟
ثم الاستفهام قد يجيء للإنكار تارة وللتقرير أخرى، والحال فيهما ما ذكرناه.
أما الإنكار فكقوله تعالى: ﴿أفأصْفَاكُمْ رَبّكُمْ بالبنين؟﴾ (1) ﴿أصطفى البنات على البنين؟﴾ (2) والإنكار هاهنا للفعل، فإذا قُدّم الاسم، كان الإنكار للفاعل، كقولك لمن انتحل شعراً: أأنت قلْتَ هذا الشعر؟
وأما التقرير، فكقوله تعالى: ﴿أخَرَقْتَها لتُغْرقَ أَهْلَها؟﴾ (3) ﴿أقتلتَ نفْساً زكيَّةً بِغَيْرِ نفْسٍ؟﴾ (4) فإن المقصود تقرير الخرْق والقتل عليه تمهيداً لتوجه اللوم إليه.
/[41 ب] وأما تقديم الاسم، فكقولك: أأنت الذي قتلت زيداً؟ فإنه سؤال على سبيل التقرير لتعيينه للقتل.
واعلم أن حال المفعول فيما ذكرنا كحال الفاعل، فإذا قدمت المفعول توجّه الإنكار إلى كونه بمثابة أن يوقع به مثل هذا الفعل، ولذلك .
ص: 143
قدم في قوله تعالى: ﴿قل أغيْرَ اللهِ اتَّخذُ وَلِيّاً﴾؟ (1) وقوله: ﴿أغیر اللهِ تدعُون﴾؟(2) وقوله: ﴿أبشَراً منّا واحداً نتّبِعُه﴾؟ (3).
البحث الثالث: في التقديم والتأخير في حرف النفي:
إذا أدخلته على الفعل، كقولك: ما ضربتُ زيداً، كنت قد نفيت فعلاً لم يثبت أنه فُعل؛ لأن نفيك لضرب زيد عن نفسك لا يقتضي وقوع الضرب به ولا نفيه عنه؛ لأن نفي الخاص لا يدل على نفي العام ولا على ثبوته.
وإذا أدخلته على الاسم (4) كقولك: ما أنا ضربت زيداً فُهم من ذلك أنه وقع به الضرب، وكان القصد نفي كونك أنت الضارب والشاهد بهذه
الفروق هو الذوق السليم.
البحث الرابع: في التقديم والتأخير في الخبر المثبت والمنفي: هو كالتقديم والتأخير في الاستفهام.
فإنك إذا قدمت الاسم، فقلت: زيد قد فَعل، اقتضى أن يكون القصد إلى الفاعل، إما لتخصيص الفعل به كقولك: أنا كتبتُ في معنى هذا الأمر، تريد أنك اختصصت بذلك دون غيرك.
وإما لأجل أن تقديم ذكر المحدث عنه أكد لإثبات ذلك الفعل له (5)، كقولهم: فلانٌ يُعطي الجزيل، فلا يقصد الحصْر؛ بل أن يتحقق عند السامع أن إعطاء الجزيل دأبُه؛ وبيان ذلك: أنك لما ذكرت الاسم المحدّثَ عنه، والاسم لا يعرى عن العوامل إلا لحديث قد نوى إسناده .
ص: 144
إليه، فإذا قلت: عبد الله، فقد استشعرت بأنك تريد الحديث عنه، فيحصل شوق إلى معرفة ذلك، فإذا أفدته ذلك قبله الذهن / [42 أ] قبول العاشق لمعشوقه، فيكون ذلك أبلغ في التحقيق ونفي الشبهة.
وإنْ قدمت الفعل اقتضى أن يكون القصد إلى ذكر الفعل، كقوله تعالى: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ (1) فإن القصد هاهنا إلى ذكر القضاء ونسبته إلى الله تعالى.
ويقرب من ذلك حكم المنفيّ، كقولك: أنت لا تحسن هذا الفعل أو لا تُحسن أنت هذا الفعل (2).
البحث الخامس: في تقديم حرف السلب على العموم وتأخره عنه:
أما الأول: فإذا قدمت حرف السلب على صيغة العموم، فقلت: ما أفعل كلّ،كذا كان سلباً للعموم، وذلك لا يناقضه الإثبات الخاص، حتى لو قلت وأفعل بعضه، لم يكن تناقضاً.
أما إذا قدمْت صيغة العموم على السلب، فقلت: كلّ كذا ما أفعله، فهم منه عمومُ السلب، وحينئذ يناقضه قولك: وأفعل بعضَه في العرف وعلى هذا يظهر الفرق بين الرفع والنصب في قول أبي النجم (3):
قد أصبحتْ أمُّ الخيارِ تدّعِي *** عليّ ذنْباً كلّه لم أصْنَعِ (4)
فإن نصْب «كلّ» يقتضي سلب العموم، ورفعه يقتضي عموم السلب. .
ص: 145
البحث السادس: استيفاء أقسام التقديم والتأخير:
واعلم أنه قد يختلف حال الكلام في التقديم والتأخير اختلافاً كثيراً، وقد يدق الفرقّ بين تقديم الكلمة وتأخيرها، كقوله تعالى: ﴿وجعلوا لله شركاء الجنّ﴾ (1) فبتقديم شركاء يُفهم أنه ما كان ينبغي أن يكون له شريك لامن الجن ولا من غيرهم والذم إنما يتوجه إليهم؛ لإثباتهم شركاء.
أما لو قُدم الجن لم يُفهم إلّا أنهم عبدوا الجن، وأما إنكار المعبود الثاني فغير مفهوم منه، ويكون الذم إنما توجه عليهم لعبادة الجن دون غيرهم.
فينبغي أن تلمح الفروق في تقديم بعضِ الكلام على بعض وتأخيره. ولنذكر مواضع حسن التقديم والتأخير.
أما التقديم ففي مواضع عشرة (2):
الأول: أن تكون الحاجة إلى ذكره أتمّ والعلم به أهمّ كقوله تعالى: ﴿وجعلوا لله شركاء الجنَّ﴾ فإن تقديم الشركاء أولى؛ لأجل أن المقصود التوبيخ على جعل مطلق الشريك، بخلاف ما لو أخّر.
الثاني: أن يكون التأخير أليق / [42 ب] باتصال الكلام، كقوله تعالى: ﴿وتغشَى وجوهَهُم النَّارُ﴾ (3) فهذا أليق بما قبله وبما بعده من تأخير المفعول.
الثالث: أن يكون الأولُ أعرفَ من الثاني، كتقديم المبتدأ على .
ص: 146
الخبر، والموصوف على الصفة، فينبغي أن تبتدىء في قولك: «زيد قائم» بزيد؛ لتتوصّلَ النفسُ بذكر ما يُعرف إلى الإخبار عنه بما لا يُعرف، فتقع الفائدة حينئذ على حدّها وفي مرتبتها.
قال الإمام: ولا ينتقض هذا بتقديم الفعل؛ لأن الفعل لفظ دال على ثبوت معنى الموضوع معين في زمان معين من الثلاثة والإسناد كالجزء الذاتي لمفهوم الفعل والإسناد أمر إضافي والعقل إذا حصل له الشعور بالإضافة، فلو توقف هناك ولم ينتقل إلى ما إليه الإسناد، كانت الإضافة مستقلة بالمفهومية وهو محال. وإن انتقل إلى ما أسند إليه الفعل، فذلك الشيء هو الفاعل، فإذن من ضرورة الإسناد فهم المسند إليه، وإذا وجب (1) هذا الترتيب في الذهن وجب أيضاً في الألفاظ لمطابقة ما في الذهن لما في الخارج» (2). وأقول: قد سبق أن الفعل إذا قدم في الإخْبار، كان لأجل أنّ ذكره أهم؛ لأن المقصود من ذكر الجملة الفعلية لا ذات الفعل؛ بل ذكر الحدث المخصوص في الزمان المعيّن، ونسبته إلى الفاعل، وإذا كان كذلك، جاز أن يقال: إن تقديم الأعرف يكون واجباً، إذا (3) كانت الكلمتان متساويتين في الاهتمام بذكرهما.
وأما إذا كان ذكر أحدهما أهمّ كان تقديمه أولى.
الرابع: تقديم الحروف التي لها صدر الكلام كحروف الاستفهام والنفي والنهي.
قال الإمام: «تحقيقه أن الاستفهام طلب فهم الشيء، وهو حالة إضافيّة إذا أدركها العقل انتقل منها إلى معروضها، وإذا أوجب أن ينتقل منها إلى معروضها، وجب أن يكون في اللفظ كذلك، فيقدم ما يدلّ على .
ص: 147
الإضافة، فيلحق بما يدل على معروضها (1).
وأقول: يمكن أيضاً أن يكون تقديم [43 أ] هذه الحروف من باب ما كان أهم؛ وذلك أن الاستفهام والنفي والنهي معان معقولة، وهي المطلوبة من الجملة الداخلة عليها بالذات، فكانت أهم فكانت أولى بتقديم الذكر.
وكذلك الأدوات الدالة على أحوال النسب بين أجزاء الكلام، كإنّ وأخواتها وكان وأخواتها وعسى وبابها ونعم وبئس، فإنها تقدّم؛ لأن معانيها هي المقصودة بالقصد الأول من الجمل الداخلة عليها.
الخامس: تقديم الكلّيّ على جزئياته؛ لأن الكلي أعرف عند العقل (2)، وتقديم الأعرف أوْلى.
السادس: تقديم الدليل على المدلول.
السابع: تقديم الناقص على تمامه؛ كتقديم الموصول على الصلة (3)، والمضاف على المضاف إليه؛ لأن تمام الشيء لا يتقدم عليه.
الثامن: تقديم الأسماء المتبوعة على توابعها؛ لأن التابع لا يتقدم متبوعه.
التاسع: تقديم المظهر على ضميره؛ لأن الحاجة إلى الضمير إنما هو لإلحاق أمر من الأمور بذي الضمير، وذلك يتأخر عن تحقّق ذي الضمير في .
ص: 148
العقل، فيجب كذلك في الوضع، كقولك: ضرب زيدٌ غلامَه وقضى زيدٌ حاجته.
العاشر: تقديم الفاعل على المفعولات، وما في حكمها؛ لأنها أمور تلحق الفاعل بالنسبة إلى فعله، فكانت متأخرة عنه.
وإذا علمت من ذلك ما يجب تقديمه، علمت من ذلك ما يجب تأخيره.
ص: 149
في الفصل والوصل
حاصل معرفة الفصْل والوصْل يعود إلى معرفة مواضع العطف والاستئناف والتهدّي إلى كيفيّة إيقاع حروف العطف و مواقعها.
وهو باب عظيم عند البلغاء، ولذلك جعله بعضهم حدّ البلاغة فقال (1): - إذا سئل عن معناها - : إنها معرفة الفصل والوصل، وما ذاك (2) إلا لغموضه وكون معرفته مؤدية للمعاني كما هي، وذلك هو المقصود من علم البلاغة ولنحقّق الكلام فيه في بحثين:
البحث الأول: فائدة العطف التشريك في الحكم بين المعطوف والمعطوف عليه، فمن أدواته ما لا يفيد (3) إلا هذا القدر؛ كالواو. ومنها ما يدل على زيادة عليه؛ [436 ب] كالفاء وثُم، فإنهما يدلّان على التعقيب، وإن كانت ثم تختص بالتراخي، ومثل أوْ فإنها تدل على الترديد. فلنبحث عن مطلق الاشتراك فنقول:
العطف إما أن يكون في المفردات وهو يقتضي التشريك في الإعراب.
وإما في الجمل، وحينئذ فالجملة إن كانت في قوة المفرد، كقولك: مررت برجل خَلْقه حسن وخُلقه قبيح، كانت الشركة في الأعراب أيضاً حاصلة؛ لكون الجملتين وصفين للنكرة.
ص: 150
وإن لم يكن (1) فإما أن يكون إحدى الجملتين متعلقة لذاتها بالأخرى، أو لا يكون. فإن لم يكن، فإما أن يكون بينهما مناسبة، أولا يكون، فهذه أقسام ثلاثة:
أما الأول: فأن يكون إحدى الجملتين تأكيداً للأخرى، كقوله تعالى: ﴿ألم ذلكَ الكتابُ لا ريبَ فيه﴾ (2) فقوله: «لا ريب» تأكيد للأول، ولا يجوز إدخال العاطف عليه؛ لأن التأكيد يتعلق بالمؤكَّد، فيستغني عن لفظ يدل على التعلّق.
الثاني: أن لا يكون بينهما مناسبة أصلاً، وهاهنا أيضاً يجب ترك العاطف؛ لأن العطف يستلزم المناسبة، فيلزم من عدمها عدمه (3).
الثالث: أن تصدق المناسبة بينهما مع عدم التعلق الذاتي، فهاهنا يجب ذكر العاطف.
ثم إما أن يكون المخبر عنه في الجملتين شيئين أو شيئاً واحداً:
أما الأول: فالمناسبة إما بين المخبر بهما فقط (4)، أو بين المخبر عنهما فقط (5)، أو بينهما معاً (6).
والأول والثاني يختلّ معهما النظم؛ لأنك إذا قلت: زيدٌ طويل، والخليفة قصير، مع عدم تعلّق حديث زيد بحديث الخليفة اختلّ، وكذلك .
ص: 151
لو قلت: زيد طويل وعمرو شاعر اختلّ أيضاً؛ لعدم المناسبة بين طول القامة والشعر، فتعيّن أن الواجب حصول المناسبتين.
فأما إن كان المخبَر عنه فيهما شيئاً واحداً، كقولك: فلان يضرّ وينفع، ويأمر ويَنهى، ونحوه، تعيّن دخول العاطف؛ لأنك إذا قلت هو يضرّ وينفع، أفاد العاطف أنه هو / [246 أ] الجامع (1) لهما، بخلاف ما لو حذفته.
البحث الثاني: في عطف الجُمَل على الجمل:
إنه كما يجوز أن يُعطف جملةً على جملة، كذلك يجوز أن يُعطف مجموعُ جمل على مجموع جمل أخر.
وبيان ذلك ظاهر في صورة الشرط والجزاء، فإنّه قد يُجعل مجموع جملتين شرطاً، ومجموعُ أخريين جزاءً، كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِق الرسولَ من بعدِ ما تبيّن له الهُدَى ويتّبع غيرَ سبيلِ المؤمنين نُولِّه ما تولّى ونُصْلِه جهنّم﴾ (2) فإذا ظهر ذلك في الشرط والجزاء، ظهر مثله في العطف، كقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَٰكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ۚ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ﴾ (3) الآية. فقوله: ﴿وما كنت ثاوياً عطف على قوله: «وما كنت من الشاهدين» مع ما يتعلّق بها إذ لو عطفتها على ما يليها لدخلت في حكم لكن، فصار التقدير: لكنك ما كنت ثاوياً، وهو باطل، ولو عطفتها على وما كنت من الشاهدين دون «ولكنا أنشأنا»، لكان في ذلك إزالة لكن عن موضعها وهو غير جائز. .
ص: 152
في الحذف والإضمار
وفيه بحثان:
البحث الأول: في حذف المفعول، والمبتدأ والخبر.
أما الأول: فلأن الفعل المتعدّي قد يكون المقصود من ذكره مجرد نسبته إلى الفاعل، وحينئذ يكون حاله كحال غير المتعدّي في عدم الحاجة إلى المفعول والتعرض له كقولك: فلان يحِلّ ويَعْقد، ويأمر ويَنهي، ويضرّ وينفع وقوله تعالى: ﴿هل يَسْتَوي الذين يعلَمون والذين لا يعلمون﴾ (1) وقد يلاحظ مع ذلك في ذكره النسبة إلى المفعول، إلا أن المفعول يحذف لأحد غرضين:
أحدهما: أن يكون المقصود ذكره لكن يحذف لإيهام التعظيم والتفخيم ونحو ذلك (2) كقول البحتري:
شَجْوُ حسّاده وغيظُ عِداهُ *** أن يَرى مُبْصِرٌ ويَسْمَعَ واعِ (3)
فإن المرئيّ والمسموع لا بدّ أن يكون شيئاً معيّناً فحذفه، وأوهم بذلك أن كلّ ما يُرى منه ويُسمع عظيم، وإنه فضيلة / [44 ب] تشجو حسّاده وتَغيظ عِداه ومن هاهنا تحصل البلاغة، ولو أبرز المفعول المعيّن لما حصل ذلك التعظيم الوهميّ؛ لتخصيص الذهن للتعظيم بالمفعول
ص: 153
المذكور دون ما عداه.
وقد يكون ذكر المفعول أولى وأبلغ؛ وذلك إذا كان أمراً عظيماً بديعاً، كقوله:
ولو شئتُ أنْ أبكي دماً لبكيتُه (1)
لمّا كان بكاء الدم أمر عجيباً، كان ذكره أولى.
الثاني: أن يحذف للعلم به، كقول عليّ عليه السلام: «إنْ أشْنَقَ لها خَرمَ» أي: أنفها، «وإن أسلسَ لها» أي: قيادها «تقحّم» (2)، أي: المهالك.
الثالث: أن يُضمر على شريطة التفسير، كقوله: أكرمني وأكرمتُ عبد الله (3). وأما المبتدأ والخبر، فقد ورد حذف كلّ واحد منهما تارة.
أما المبتدأ، فكقوله تعالى: ﴿سورةٌ أنزلناها﴾ (4).
وأما الخبر، فكقوله تعالى: ﴿طاعةٌ وقولٌ معروف﴾ (5) وأمثاله كثير.
وقد حكم بحسن ذلك البلغاء، قال عبد القاهر (6) - رحمه الله - : [ما .
ص: 154
من اسم حُذف في الحال التي ينبغي أن يحذف فيها إلا وجدتَه أحسنَ مِن ذِكره]، وحسنها في المواضع التي يفهم عنها البلاغة.
البحث الثاني: في الإيجاز:
وحدّه: التعبير عن الغرض بأقلّ ما يمكن من الحروف من غير إخلال، مثاله قوله تعالى: ﴿ولكمْ في القِصاصِ حَياةٌ﴾ (1). وقد كان المثلُ يُضرب بقولهم: «القتْل أنْفَى للقتْل» إلى أن وردت (2) هذه الآية.
والترجيح للآية ظاهر من وجهين: (3):
أحدهما: أنه أوجز، فإن حروفها عشرة، وحروف المثل أربعة عشر.
الثاني: إن القتل قصاصاً لا ينفي القتل ظلماً؛ من حيث إنه قتل؛ بل من حيث إنه قصاص، وهذه الجهة غير معتبرة في كلامهم، ولها ترجيحات
أُخَر لا نطوّل بذكرها ...
ومن ذلك قول علي عليه السلام: قيمة كل امرىء ما يحسنه (4). وقوله: «المرء عدوّ لما جهله» (5)، وقوله: «الجزعُ أتْعب من الصبر» (6)،
وقوله: «تخففوا تلْحقُوا» (7). .
ص: 155
في أحكام إنّ وإنّما وما في حكمهما
وفيه أبحاث:
البحث الأول: في فوائد /[45 أ] إن، وهي أربع:
الأولى: إنها قد تربط إحدى الجملتين بالأخرى، فيحصل النظم كقوله تعالى: ﴿يا أيّها الناسُ إنّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ﴾ (2) وقوله تعالى: ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ (3). وقول علي عليه السلام: «أيها الناس إنه لا يَسْتغني الرجلُ - وإن كان ذا مالٍ - عن عترته (4)، وقوله: «عباد الله إنّ مِن أحب عباد الله إليه عبْداً أعانه اللهُ على نفسِه». فلو أسقطت إن في هذه المواضع لزالت المناسبة التي كانت بين الجملتين معها.
واعلم أنك متی أسقطْت إنّ من الجملة الثانية، فإنْ كانت إنّما ذكرت لتعليل الحكم عن الجملة الأولى، فلا بد أن يُعوّض عنها إلغاء، كقوله:
﴿إنّ زلزلةَ الساعةِ شيءٌ عظيم﴾ (5).
[ الفائدة] (6) الثانية: إنك تجد لدخولها على ضمير الشأن المعقَّب بالجملة الشرطية وغيرها من الحسن والمزية ما لم تجده عند عدمها، كقوله
ص: 156
تعالى: ﴿إنّه مَنْ يَتَّقِ ويَصْبِرْ﴾ (1) وقول علي عليه السلام: «أيّها الناس إنه
لا يستغني الرجل» كما ذكرنا.
[الفائدة ] (2) الثالثة: إنها تهييء النكرة لأنه يحدّث عنها، كقوله عليه السلام: إن من أحب عباد الله إلى الله عبداً كما مر، ولو أسقطتها لسقط الحسن.
وقد يسقط المعنى أصلاً، كما لو أسقطتها من قول الشاعر (3):
إنّ شِواءً ونشْوةً *** وخببَ البازلِ الأمونِ
الفائدة الرابعة: إذا دخلت على الجملة، فقد تُغني عن الخبر، كقولك: إنّ مالاً وإنّ ولداً، على تقدير: إنّ لهم مالاً، وكقول الأعشى (4):
إِنّ محلاًّ وإِنَّ مرتَحَلاً *** وإن في السفر إِذْ مَضَوْا مهلا
والحق أنها لتأكيد النسبة.
وإذا كان الخبر تامّاً ليس للمخاطَب ظنّ أو وهْم في خلافه، فلا حاجة إلى «إنّ» هناك، ولذلك تزداد حسناً إذا كان الخبر أمراً يبعد مثله.
وقد تُجمع مع اللام للتأكيد في خبرها، إذا كانت في جواب المنْكِر؛ لشدة الحاجة هناك إلى التأكيد.
البحث الثاني: في فائدة إنّما:
/[456 ب] اتفق جمهور النحاة على أنها للحصْر، وهو المفهوم منها، مثاله قول علي عليه السلام: وإنما سُمّيت الشبهةُ شُبهةً لأنها تُشْبه 3.
ص: 157
الحقّ» (1)، وكقوله عليه السلام: «إنّا لمْ نُحكّم الرجالَ، وإنّما حكّمْنا القرآنَ، وهذا القرآن إنّما هو خطّهُ مستورٌ بين الدفّتيْن لا ينطق بلسان ... وإنما ينطق عنه الرجال» (2) ومراده بالحصر في هذه الصور ظاهر.
وقال بعضهم: إنها ليست للحصر محتجّاً بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ (3) وبقوله: ﴿إنّما المؤمنون إخوةٌ﴾ (4) مع أن الإجماع على أن مَنْ لم يُوجل من ذكر الله قد يكون مؤمناً، وإن الأخوة غير مُنْحَصرةٍ في المؤمنين.
والجواب: إن منشأ الشك هو الغفلة عن ضابط الحصر:
وضابطه: إن الجزء الأخير من الكلام الوارد عقيب إنما هو المخصوص بحصر الحكم فيه، سواء كان هو الموضوع كقولك: إنما قام زيد، فإن المقصود حصر القيام في زيد، أو كان هو المحمول، كقوله تعالى: ﴿وإنما أنا بَشَر مثْلُكم﴾ (5) فإن المقصود حصر النبي في البشرية ونفي كونه غير بشر، وإذا تبين ذلك، ظهر أنها في الصورتين المذكورتين تفيد الحصر:
أما في الأولى؛ فلأنه يجوز أن يكون المقصود من الإيمان هناك أقوى مراتبه، وهو الإخلاص، وحينئذ يتبيّن أن المؤمنين منحصرون في الوجلين من ذكر الله.
وأما في الثانية؛ فلأن المؤمنين منحصرون في صفة الأخوّة في الدين، كما هو المقصود من الأخوة هاهنا. .
ص: 158
واعلم أنه قد يستعمل في مفهومها عبارتان أخريان:
إحداهما: قولك: جاءني زيدٌ لا عمروٌ وهو أضعف منها؛ لأنه يفيد حصر المجيء في زيد بالنسبة إلى من أخرجه حرف النفي.
الثاني: ما جاءني إلّا زيدٌ، ومفهومها مفهوم إنما في الحصر والتخصيص، كقوله تعالى: ﴿ما قلتُ لهم إلّا ما أمرْتني به ﴾ (1).
وفرّق الإمام (2) بينهما فقال: [ إن دلالة إنما على نفي غير المذكور بالالتزام، ودلالة ما دالاً على نفي / [46 أ] الغير بالمطابقة، فكانت أقوى في ذلك من دلالة إنما، ولذلك يصح أن يقال: إنما زيد قائم لا قاعد، ولا يصبح أن يقال: ما زيد إلا قائم لا قاعد].
وأقول: إن صحّ ما ادّعاه من عدم الصحة في الصورة الثانية، كان للمانع أن يمنع تعليل ذلك المنع بكوْن ما وإلّا دالّة على نفي الغير بالمطابقة، ويصرف ذلك القبح إلى قرب «لا» المقتضية لنفي الغير إلى «إلّا» المقتضية للحصْر، وبُعدها عن «إنما»، فكان التأكيد عقيب إنما حسناً؛ لطول الزمان بينهما، على أنّا لا نسلّم عدم الصحة هاهنا؛ بل قد يورد للتأكيد، وإن كان عقيب «إنما» أحسن.
وقد يقام «غير» مقام إلا فيفيد الحصر، وقد لا يكون كذلك، كقولك: ما جاءني غيرُ زيد تريد نفي مجيء الغير فقط، دون إثبات زيد.
البحث الثالث: إنّ «ما وإلا» إذا دخلت على الجملة، كان المقصود بالحصر فيه هو ما يلي إلا بعدها سواء كان مرفوعاً كقولك: ما ضَرب زيداً .
ص: 159
إلا عمرّو، أو منصوباً كقولك: ما ضرب زيدٌ إلا عمراً، وهكذا إن كان المنصوب حالاً أو ظرفاً.
فإن تأخر مثلاً الفاعل والمفعول معاً عن إلا فالمقصود هو ما يليها أيضاً، كقولك: ما ضرب إلا زيدٌ عمراً.
وكذلك إذا قدمت المفعول على الفاعل فهو المقصود (1).
وهكذا حكم المفعولين، كقولك: لم اكسُ إلّا زيداً جُبةٌ، فالذي يلي إلا هو المقصود بالتخصيص.
وهكذا المبتدأ والخبر أيهما أخرته عن إلا فهو المراد بالتخصيص، كقولك: ما زيدٌ إلّا قائم، فالمراد تخصيص هيئة القيام دون سائر الأحوال، أو ما القائم إلّا زيد، فهو تخصيص لزيد دون غيره.
وأما تحقيق ذلك في إنما:
فأما في الفاعل والمفعول فأيهما أخّرتَه عن صاحبه فهو المقصود أيضاً كقولك: إنما ضرب عمراً زيدٌ / [466 ب]، فالمقصود تخصيص زيد، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (2). ولو قدم العلماء، لكان المقصود تخصيص خشية الله (3).
وكذا الحال في المبتدأ؛ إن تركته على حاله فالاختصاص للخبر (4)، كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ﴾ (5).
وإن أخّرته عن الخبر صار التخصيص له (6)، كقوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا.
ص: 160
عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ (1) فإن التخصيصَ في الأول للخبر، وفي الثاني للمبتدأ هذا بحسب المتبادر إلى المفهوم من ذوق العربية، وبالله التوفيق.
ص: 161
ص: 162
القاعدة الثانية
في الخطابة
وفيه أبحاث وخاتمة:
الخطابة صناعة يتكلّف فيها الإقناع الممكن للجمهور فيما يراد أن يصدّقوا به.
وقولنا يتكلّف فيها الإقناع: أردنا أنه يتعاطى فيها هذا الفعل المخصوص بأبلغ قصد ليتمّ.
والإقناع الممكن: هو الفعل الذي يُتكلّف، وأردنا به ما يمكن من الإقناع والخطابة في الإقناع أنجح من غيرها. وفائدتها في تقرير المصالح الجزئية.
وقد تفيد أيضاً تقرير القوانين الكلّية لتلك المصالح؛ كالعقائد الإلهيّة والقوانين العملية، وهي عظيمة النفع جداً؛ لأن الأحكام الصادقة مما هو عدل وحسن أتم نفعاً، وأعود على الناس فائدة، وأعم جدوى من أضدادها؛ لأن نوع الإنسان إنما هو مستبقًى بالتشارك، والتشارك يُحوج إلى التعامل والتحاور وهما مُحوجان إلى أحكام صادقة في الأمور العملية؛ ليثق كلُّ بصاحبه، وينتظم شمل المصلحة بينهم وبأضداد الأحكام الصادقة يتشتّت فيحتاج أن تكون هذه الأحكام مقرّرةً في النفوس، متمكّنة من العقائد. والخطابة هي [المتكفّلة] (1) بحمل الجمهور على التصديق بها،
ص: 163
فإن البرهان (1) والجدل (2) وإن قُصد بهما التصديق / [47 أ]، إلا أن الجمهور قاصرون عن درجة البرهان والجدل وإن كان صناعة ضعيفة بالقياس إلى البرهان، فهو أيضاً يسير الفائدة للعامة، صعب بالقياس إلى فطنهم وهم عاجزون عن قبوله والمخاطبة التي يجب أن يتلقاها العاميّ بعامّيته ينبغي أن تكون من الجنس الذي لا يرتفع عن مقامه ارتفاعاً بعيداً، بل تكون بألفاظ عذبة غير ركيكة عامّية ولا متينة ينبو فهمه عن [قبولها] (3)، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وقد أشار التنزيل الإلهيّ إلى هذه الصناعة في قوله: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (4) فسبيل ربك: هو الديانة الحقيقيّة والحكمة: هي البرهان، وذلك لمن يحتمله، والموعظة الحسنة: هي الخطابة وهي لمن قصر عن درجة البرهان وجادلهم بالتي هي أحسن أي بالمشورات المحمودة.
وأخّر الجدلُّ عن الصناعتين (5)؛ لأنهما مصروفتان إلى الفائدة، والمجادلة مصروفة إلى المقاومة. والغرض الأول من المخاطبة: إنما هو الإفادة، والغرض الثاني: هو مجاهدة من ينتصب للمعاندة. فإذن الخطابة .
ص: 164
صناعة وافرة النفع في مصالح المدن وبها تُدبّر (1) العامة وتَنْتظم أحوالُهم.
وليس للخطابة نظرٌ في موضوع معيّن؛ وذلك لأن العامّة لا يهتدون إلى تمييز بعض الموضوعات عن بعض؛ إذ كان تخصيص الكلام في موضوع معيّن مبني على مبادىء تليق بذلك الموضوع وحده لا يعرفها العاميّ.
ونظر الخطابة بالذات في الجزئيات من أيّ مقولة اتفقت، ولا يخص جزئياً دون آخر؛ بل يقصد بها الإقناع من أي جزئيّ اتفق، على أن لها أن تنظر بالغرض / [47 ب] في الأمور الكلّية من الإلهيات، والطبيعيات، والخلقيات والسياسات.
والخطابة لها أصل ومتممات تعين عليها:
أمّا الأصل: فهو القول الذي يُظنّ أنه لذاته يفيد إقناعاً.
وأما المتممات: فجملتها ترجع إلى حرف واحد؛ وهو أنه لما كان الغرض من الخطابة ليس إلا الإقناع كان كل مقنع ناسب الغرض منها، فهو من متمماتها والأمور المقنعة إما قولية يراد بها صحة قول آخر؛ كالقول الذي يقصد به الخطيب تقرير فضيلته عند السامعين أو القول الذي يروم به إثبات أن الشهادة مقنعة، أو كون المعجز حجّة.
وإما شهادة وإما حيلة:
أما الشهادة فإما قولية؛ وإما حاليّة.
أما القولية فكالاستشهاد بقول نبيّ أو إمام أو حكيم، أو شاعر، وتسمّى شهادة مأثورة. أو الاستشهاد بأقوال قوم يحضرون فيصدّقون قول
ص: 165
القائل: إن الأمر كان، أو الاستشهاد بشهادة الحاكم، أو السامعين بأن القول مقنع، وتسمى شهادة محصورة.
أما الحاليّة؛ فإما أن تُدرك بالعقل أو بالحسّ.
والأولى فضيلة القائل واشتهاره بالصدق والتمييز.
وأما الحال التي تُدرك بالحسّ؛ فإما بواسطة القول أو بدونه.
أما الأوّل فكالاستشهاد بالمعجزة عقيب التحدّي على صدق قول المدعي، وكشهادة حال الحالف عقيب يمينه على قبول قوله، وكشهادة حال المتعاهدَيْن على قبول أقوالهما بعد وضع العهود التي هي أقوال مدوّنة مكتوبة.
وأما الحال المدركة بالحسّ من غير القول:
فإما أحوال تتبع انفعالاً نفسيّاً كشهادة سَحْنَة (1) وجه المخبَر ببشارة على قبول قوله، أو شهادة سَحْنة المذعور الخائف المخبر عن نزول عذاب، أو حلول آفة على قبول قوله.
أو تكون [طارئة] (2) من خارج كشهادة جراح القائل أو غيره / [48 أ] على قدوم العدوّ للحرب.
وأما الحيلة فتفيد الإعداد:
والإعداد إما للقائل بحيث يكون مقبول القول، أو للقوْل بحيث يصير أنجع وأنفع، أو للسامع بحيث يكون أقبل.
وأما القائل، فإن يتكلّف الاستشهاد على فضيلة نفسه والدلالة عليها، أو يتهيأ بهيئة. ويتربّى بصورة تجعل مثله مقبول القول. .
ص: 166
وأما القول، فأن يحسن فيه تصرّفه، فتارة يرفع به صوته وتارة يخفضه، وتارة يُثقله، وتارة يُليتُه ويَحْزُنُه (1)، ويلاحِظ في ذلك حال من يقصد إسماعهم كما سيأتي في ﴿الجزئيات﴾ (2).
وأما السامعون، فإما مخاطَب بالقصد الأول، وإما حاكم يحكم بين المتخاطبين، وإما نظّارة.
أما المخاطَب فيُحتاج أن يُستعطف ويُستمال؛ ليجْنح إلى تصديق القائل وكذلك الحاكم.
وأما الناظر، فيكفي فيه أن يُهيّىء بالحيلة بهيئة مذعِن مصدِّق، وإن لم يقع له التصديق.
والتأثر الحاصل للمستمع؛ إما انفعال كالرقّة والرحمة في الاستعطاف، والقساوة والغضب في الإغراء.
وإما إيهام خُلق؛ كإيهام الشجاعة أو السخاوة أو غيرهما، فعاد الأمر إلى أن الأقوال الخطابية التي يُقصد بها التصديق ثلاثة أصناف:
أصل: ويسمى عموداً، وهو القول الذي يُراد به التصديقُ نفسه.
والثاني: النُصرة، وهي القول الذي يُنصر به ماله تصديق، كالشهادة.
والثالث: الحيلة، وهي قول يُفاد به انفعال شيء، أو إيهام خلق، وهما متمّمان للأصل، فهذه أجزاؤها.
واعلم أن مبادىء الأقوال الخطابية ثلاثة:
أحدها: المشهورات المحمودة، وهي إما حقيقية اتفق عليها
ص: 167
الجمهور، وتطابقت عليها الشرائع والسنن وهي التي إذا تُعُقّبت بالنظر لم يزل حمدها وإن أطُلع على كذبها كحسن الصدق وقبح الكذب والظلم وغيرهما.
وإما محمودة ظاهرة في بادىء الرأي وهي التي ﴿تباغت﴾ (1) الذهن، فيحكم بصدقها قبل / [48 ب] التفطّن لها، فإذا تُعقّبت زال حمدها؛ لظهور كذبها وشنْعِها، كقوله: «أنصُرْ أخَاكَ ظَالِماً أَوْ مَظْلُوماً (2) وهذه أعم من التي قبلها، وكل محمود حقيقيّ محمود في الظاهر، ولا ينعكس.
واستعمال الخطابيّ للأولى لا من جهة كونها حقيقيّة بل لكونها ظاهرة.
وإما محمودة بحسب قوم أو شخص، ويُنتفع بها في مخاطبتهم، ومثل هذه وإن نفعت في الخطابة، إلا أنها لا تكون عُمْدة في صنعة الخطابة؛ لكونها غير متناهية أو غير مضبوطة؛ فإن كلّ شخص يرى ما يهوى، وتختلف الآراء بحسب الأهواء.
وثانيها: المقبولات، إما عن جماعة أو عن نفَر (3)، أو عن نبيّ، أو عن إمام كالشرائع والسُنن أو عن حكيم كالطبّ المقبول عن جالينوس (4) وبقراط، أو عن شاعر کابیات تورد شواهد وتكون مقبولة فقط .
ص: 168
من غير أن تنسب إلى مقبول منه كالأمثال المضروبة.
وثالثها: المظنونات وهي الأحكام التي يتْبع الإنسان فيها غالب الظن، من دون جزم العقل بها، كقولك: زيد يُسارّ (1) العدوَّ جهاراً، فهو عدوّ، ربما يكون مقابله مظنوناً، كقولك: زيد يسارَ العدوّ جهاراً ليخدعه فهو صديق.
وأما تأليفات هذه فهي ما يظن منتجاً، وهي مقنعة بحسب الموارد والصور معاً، ويشتمل (2) القياس (3) والتمثيل (4) والاستقراء (5) وما يشبه .
ص: 169
الحَلف فيها.
أما القياس فيسمى ضميراً لحذف كبراه، وتفكيراً لاشتماله على أوسط يستخرج بالفكر.
وهو (1) إما على هيئة الشكل الأول (2)، كقول عليّ عليه السلام: مضَوا قُدُماً على الطريقة وأوجفوا على المحَجَّة فظفروا بالعُقْبى الدائمة، والكرامة الباردة فإن تقدير الكبرى. وكل من كان كذلك ظفر بالعقبى الدائمة، ويسم هذا دليلاً.
وإما على هيئة الشكل الثاني (3)، كقولك: فلان له إيمان في يقين فليس من الفسّاق فإن تقدير الكبرى ولا واحد من الفسّاق كذلك.
أو على هيئة الشكل الثالث (4)، كقولك: العارف شجاع / [49 أ] جواد، فالشجاع جواد؛ لأن تقدير الكبرى: العارف جواد، ويسمى ما كان على هيئة هذين الشكلين علامة.
والقياس الظني قد لا يكون منتجاً في نفس الأمر؛ إذ ليس من شرط الخطابة أن تكون على هيئة منتجة؛ كموجبتين في الشكل الثانق.
ص: 170
كقولك: هذه منتفخة البطن، فهي إذن حبلى، وتقدير الصدق، والحبلى منتفخة البطن، وتسمى هذه رواسم؛ لرسمها في الذهن ظناً ما.
واما التمثيل فيسمى اعتباراً؛ لعبور الذهن من المشبه به إلى المشبه، ويسمى المنتج منه بسرعة برهاناً، واستعمال التمثيل والقياس يسمى تثبيتاً.
والتمثيل إما أن يكون بأصول متفق على القياس عليها، سواء كانت أموراً موجودة، أو حوادث ماضية، أو أمثالاً مضروبة سائرة.
وإما أن لا يكون كذلك؛ بل أمور يُخبر عنها الخطيب، كمثل وحكاية إما ممكنة أو غير ممكنة.
والأول كاستشهاد عليّ عليه السلام في تحذير أصحابه من الدنيا بالقرون الماضية وأحوالها.
وأما الثاني فالممكن كما يقول المشير على صديقه: لا تعاشر الجهّال فإني عاشرتهم فندمت، وقد لا يكون عاشرهم.
وأما غير الممكن، فكالاستشهاد بأقوال الحيوانات الموضوعة في كتاب كليلة ودمنة (1) وأمثاله.
وأما الاستقراء: فيقع بجزئيات كثيرة، كقولك لمن تشير عليه: حصل السيادة بتحصيل الفضيلة؛ لأن فلاناً فُضّلوا فسادوا، وستعرفه في كلام علي عليه السلام كثيراً.
وأما ما يشبه الحلف فكتنصّله عليه السلام من دم عثمان بقوله: «لو أمرْتُ به لكنتُ قاتلاً» (2) فإنه أراد تقرير عدم الأمر بإبطال لازم الأمر، وهو 3.
ص: 171
كونه قاتلاً المستلزم لابطال الأمر المستلزم لإثبات المطلوب، وهو عدم الأمر، وكذلك التوبيخ كقوله عليه السلام في توبيخ العلماء في اختلاف الفتيا: «أفأمرهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه» (1) فإنه أراد بيان / [49 ب] عدم صحة اختلافهم بإبطال أمر الله تعالى إياهم المستلزم لإبطال نقيض المطلوب وهو صحة الاختلاف.
والمقدمة التي من شأنها أن تصير جزءَ تثْبِيتٍ تُسمى مَوْضعاً.
وحقّها أن لا تكون دقيقة علمية، ولا واضحة يستغنى عن ذكرها كالضروريات والقوانين التي يستنبط منها المواضع تسمى أنواعاً.
والبحث في الخطابة عن الضّروريّات أقلّ؛ بل إنما يُبحث فيها في الأكثر عن الأكثريّات.
والرأي: قضية كليّة يُنتفع بها في أمور عمليّة، فيختار أو يُجنّب ونتائج الآراء آراء مثلها، إلا أنها غيرُ مقنعةٍ ما لم تُقرن إليها العلّة، كقولك لصديقك مثلاً: لا تحرص ﴿على﴾ (2) جمع المال، فإنه لا يقبل ما لم تقل: ذلك.. لأنك تشقى بجمْعه في الآخرة، خصوصاً إذا كان الرأي شنيعاً، كقولك: لا تحصل الفضائل، فإنه ما لم تقرن به العلّة كقولك: كيْلا تُحسد، لا يقبل ذلك.
والرأي: إما لا يحتاج إلى كلام يقرن به لظهوره في نفسه، أو عند أهل العقل، أو عند المخاطَب، أو يحتاج إلى ما يقرن به ليؤدي إلى المطلوب، وحينئذ فالقرينة إما نتيجة الرأي أو ما ينتجه فان كانت نتيجة الرأي كقولنا: الأصدقاء ناصحون، فصديقك زيد ناصح فالضمير المقنع ها هنا ليس الرأي وحده؛ بل مع نتيجته، وهو جزء من الضمير. .
ص: 172
وإن كان ما ضم إليه هو المنتج له، كقولك: لا تكتسب الفضائل فتحسد، كان الرأي هو الضمير القريب، فإنه المقنع لذاته، وبالله التوفيق.
واعلم أن جميع المغارضات (1) الخطابية ثلاثة:
مشاورة، ومنافرة، ومشاجرة، ولكل واحد من هذه الأقسام غرض خاص.
أما المشورة، فهي مخاطبة يُراد بها الأقناع في أن الأمر الفلانيّ ينبغي أن يُفعل لنفعه، وأن الأمر الفلاني / [50 أ] لا ينبغي أن يفعل لضرره.
وأما المنافرة: فمخاطبة يُراد بها الإقناع في مدح شيء بفضيلته، أو ذمّه بنقيصته.
وأما المشاجرة: فمخاطبة يُراد بها الإقناع في شكاية ظلم، أو اعتذار
بأنه لا ظلم.
وربما لم يقع الاعتذار في وقوع الأمر نفسه، ولكن في كونه نافعاً، أو ضارًّا، أو ظُلماً، أو غير ظلم؛ كاعتذار الظالم، أو من ينصره بأن الذي يعلمه ليس بظلم، أو باعتذار المذموم بأن الذي فعله ليس بنقيصة، أو أنه فضيلة.
أما المشورة إنما هي مشورةٌ بسبب إقناعها في أمر هو نافع بالحقيقة، فإنه قد لا يكون نافعاً بالحقيقة ولا عند المشير؛ لكنه إن تبيّن أنه نافع رام الاقناع به، فتكون المخاطبة مع ذلك مشورة.
وقد لا تكون المشورة بالنافع؛ بل بالجميل الذي ربما كان في
ص: 173
العاجل ضارّاً، أو له نفع من جهة أخرى، وكذلك المدح والذم، ولا يلاحظ فيه دائماً النافع والضارّ حتى يكون المدح بالنافع، والذم بالضار؛ بل ربما كان المدح أيضاً كاقتحام الأذى والضرر، وركوب الأهوال للذكر الجميل، فإنه يشار به ويمدح فاعله ويعظّم، كالذين يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون، وكثيراً ما يُحمد العاقل بإيثار الموت على الحياة.
والأمور المشوريّة عظيمة تُبتنى عليها الشرائع والسنن والسياسات.
وأقسام الأمور المشوريّة العظيمة التامة النفع دون الجزئيات النافعة بحسب أحوال الأشخاص خمسة:
العُدّة، والحرب والسَّلم، وحماية المدنيّة، ومراعاة أمر الدخل والخرج، وتفريع الشرائع ووضع المصالح.
والخطيب المشير في أمر العُدّة ينبغي أن يكون بصيراً بجنس ارتفاع المدنيّة وكميته، وكميّة النفقات إذا جرت على القُسْط ليوازيَ الدخلُ الخرْجَ، ويشير / [50 ب] بنفي البطالة عن حرفةٍ تعود بنفع المدنيّة وبالحجْر على المسْرف وتوقيفه على القدْر العادل، ويتحفّظ بجزئيات الأخبار وبالعوائد التجريبيّة؛ لأنها تذاكير وأمثال.
وعلى المشير في أمر الحرب بعد ان يكون له بصيرةٌ بأنواع الحروب، وسماع أخبار المتقدمين من المقاتِلة في مدنيّته وما يليها، ورسومهم ومذاهبهم، أن يحيط به علماً خيراً بمدنيّته ومحاربيها وعدّتهم وعددِهم ودرايتهم بالحرب، وعادتهم ونقاء دخيلة قومهم، وصفاء نيّتهم أو ضدّ ذلك، ويوقع نظيره عليهم في كل وقت ويقيسهم إلى مقاتليهم، وأن يعتبر الجزئيّات السالفة، فانّ الأمور في أشباهها، وتحذو حَذْوَ أشكالها، فإنه يستنبط من هذه الأحوال مقدمات ينتفع بها في المشورة.
وأما المشير في حفظ المدينة فينبغي أن يَعلم أنواع الحفظ لأنواع البلاد المختلفة؛ سهليّتها وجبليّتها، وبريّتها وبحريّتها، وما يحيط بها
ص: 174
ومواقع المسالح (1) قرباً وبعداً، والمدارج (2) المخوفة والتي يرتادها المغتالون فيشير فيها بالإرصاد (3)، فإن ذلك قد يقف عليه من لم يشاهد المدينة. وأن يعلم عدد الحفظة والرصَدة (4) ونيّاتهم؛ ليمدّ قلّتهم ويبدّل خائنهم بالناصح، وأن يعرف الحاصلَ من القوت، وما يحتاج إلى جلْبه واعداده من خارج المدينة، فإن القوت وما يجري مجراه إذا انحسمت (5) مادته لم يكن حفظ المدينة وتدبيرها.
فينبغي أن يكون المشير عارفاً بمقدار حاجة كلّ إلى كلّ، وبأحوال أهل الفضائل والثروة منهم، فيشير بما ينبغي أن يستعان به فيه من أهل الفضائل، وما ينبغي أن يستعان به فيه بأهل الثروة فيما ينتظم به أمر المصلحة.
وأما الخامس فهو المشورة في أمر السنن، وهو من أعظم الأبواب خطْباً وأحوجها إلى فضْلِ قوة الخطابة / [51 أ]، وعلى السّانّ (6) أن يتحقّق عدد أنواع الاشتراكات المدنيّة وما يتولّد من تركيبها، وأن يعلم ما يناسب كلّ أمّة من الاشتراك بحسب عادتها والأسباب الحافظة لذلك الاشتراك، والقاسمة له، وفساد المدينة التي لم يحكم تدبيرها يقع من أحد أمرين: .
ص: 175
إما عنْف المدبرين لهم في الحمل على الواجبات، أو من إهمالهم ومسامحتهم، فينبغي أن يكون المشير بصيراً بأصناف السياسات، وما يعرض لكل واحد منها من العوارض، وما يئول إليه كل واحد منها فيوضع كلّ واحد منها في موضعه: فلا يستعمل القهر والغلبة في موضع الرفق، ومراعاة مصلحة المرءوسين لإكرامهم و تعظيمهم، ولا بالعكس فلا يحصل هناك قانون ناظم. فقد عرفت بما ذكرنا المواضع التي منها تنتزع المقدمات المشورية في الأمور العظام.
ومما يعين على وضع السنن وتفريعها تأمّل قصصَ الماضين وأحوالهم.
وأما الأمور المشوريّة النافعة بحسب أحوال شخص [ شخص ] (1). فهي وإن كانت غير مضبوطة، إلا أن جميعها يشترك في أنها يُقصد بها صلاحُ الحال ﴿سواء﴾ (2) كان بالحقيقة أو بالظن، ونعني بصلاح الحال هو الفعل الممكن عن فضيلة النفس، وامتداد العمر، مشفوعاً بمحبّة القلوب وتوافر الكرامة من الناس، وفي رفاهية وطيب عيش، ووقاية وسَعَة ذاتِ اليد فى المال والعقد، وتمكّن في استدامة هذه الأحوال والاستزادة منها.
وأما أجزاؤها (3)؛ فمنها ما ينسب إلى الخير، ومنها ما ينسب إلى الشرّ.
أما الخيريّة، فإمّا بدنيّة كذكاء الأصل وكثرة الإخوان والأولاد وصلاحهم، واليسار والانعام والقوّة والصحة والجمال والفصاحة وجميل الأحدوثة (4) والجاه والبخت..
ص: 176
وإما نفسانيّة كالعلم، والذكاء، والزهد، والشجاعة، والعفّة وحسن السيرة، والأخلاق المَرْضِيَّة، وحصول التجارات والصناعات، فعلى الخطيب [51 ب] أن يشير بإعداد هذه الأنواع، وكذلك ما ينسب إلى النافع وهو كل ما يوصّل إلى شيء من الخيرات كالجدّ والطلب وتحصيل الأسباب والوسائل وانتهاز الفرص (1) ومواتاة الحظ.
وأما الأمور الشريّة؛ فهي ما يقابل هذه، وعلى المشير أن يشير باجتناب عللها وما يَعُوق عن الخيرات كإيثار اللذة والكسل، واللهو، والبطالة، وفوات الأسباب، وضياع الفرص، وسوء التوفيق.
وكذلك قد يحتاج الخطيب إلى إعداد مقدّمات في أن هذا الخير أفضل، وأن هذا النافع أنفع: كالحكم بأن أفضل الخيرات أعمُّها وأدومُها، وأكثرها نفعاً، وأولاها بالقصد لنفسه، وأعزّها، وأعظمها، وأشهرها، وأكثرها استلزاماً للحاجة إليه، وأكثرها استلزاماً لرغبة الجمهور والأكابر فيه.
وكذلك يحتاج إلى مقدمات بعدها في أن هذا الشر أضرّ: كالحكم بأن أشرّ الشرور أعمّها، وأدومها، وأولاها بالهرب منه، وأكثرها استتباعاً للشرور.
ويجب أن يستكثر من ضرب الأمثال وإيراد التذاكير، واقتصاص أحوال الماضين.
وأما المنافرات وهي (2): باب المدح والذم، فعلى الخطيب تحصيل الأنواع النافعة في المدح والذم، المتعلقة بالفضيلة والرذيلة.
وأجزاء الفضيلة هي البرّ، والشجاعة، والعفّة، والمروءة وكبر الهمّة، والسخاوة، والحلم، والثبات، واللّبّ، والحكمة .
ص: 177
وقد يلزم بعض هذه خبرات تتعدى إلى غير الفاضل؛ كالخبر المتعدّي من البَرّ والشجاع والسخيّ إلى غيرهم.
وأجزاء الرذيلة أضداد ما ذكرنا كالجَوْر المقابل للبرّ، والجبن للشجاعة، والفجور للعفة، والدناءة للسخاء، والسفالة لكبر الهمّة، والنذالة للمروءة، والطيش للثبات، والبلاهة للّب.
فهذه هي الفضائل والرذائل، وما عداها فأسباب لها وعلامات / [52 أ] عليها؛ مثلاً: كإيجاب الغنى والخشْية من الله تعالى، والعلم وطلب الذكر الجميل للعدل، وإيجاب الاحتياج، والوثوق بأن لا مقاوم له، وعدم المبالاة بالمعاقبة، وأمثالها للجور، وكذلك في سائر الأسباب.
وكالانفعالات اللازمة للعادل عن لزوم العدل حتى يحتمل شدة العذاب، مثلاً في انتزاع ما في يده من الأمانة ولا يسلّمها إلى غير ربّها.
ومن الممادح أيضاً مقاومة الأعداء، والانتقام منهم، والجزاء على الحسنة والسيئة.
ومن ممادح الشجاع الغلبةُ والكرامة، وأن يفعل أفعالاً تذكر وتنشر (1) ويسهل تخليدها، فيرثها الأعقاب.
ومن الممادح أيضاً علامات تختص الأشراف بها، كإرسال شعر العلويّ (2) وطرحه العالم؛ فإن ذلك من علامات شرفهم.
ومن الممدوحات أيضاً: الاستغناء عن الناس في أيّ باب كان.
وقد يذكر المدح على سبيل الترويح والمغالطة، فيعبر عن الرذيلة بعبارة تنظمها في سلك الفضيلة إذا كانت قريبة من الفضيلة، أو كانا تحت حكم يعمّهما.ه.
ص: 178
وهذا كما (1) يحتاج الخطيب إلى مدح الناقصين فيجعل القدْر المشترك بين الفضيلة والرذيلة مكان الفضيلة، فيمدح المُتَجَرْبز (2) بأنه حسن المشورة والفاسق بأنه لطيف العشرة والغني بأنه حليم، والغضوب بأنه نبيل، والأبله الغافل عن اللذات بأنه عفيف والمتهور بأنه شجاع والماجن بأنه ظريف والمبذر في الشهوات بأنه سخيّ.
وفي عكس ذلك إذا قصد ذمّ الفاضلين: فيذكر الفضيلة في معرض الرذيلة، فيذمّ لطيف العشرة بالفسق، والحليم بالغباوة، والنبيل بالغضوب، والعفيف بالأبله، والشجاع بالمتهوّر، والظريف بالماجن / [52 ب]، وكذلك في سائرها.
وأما الأمور المشاجريّة؛ فعلى الخطيب إعداد أنواع أسباب الجور، والجور هو الإضرار الواقع (3) بالقصد والمشيئة، ولم ترخّص الشريعة فيه بوجه.
وأما الأسباب المحركة إليه، فكالكسل من الكسلان، فإنه عندما يتخيّل الدَّعَةَ (4) التي يهواها يكون سبباً لخذلان صديقه، وكالجبن الذي يكون سبباً لإضاعة الحريم وهلاكهم، وكإيثار الراحة من التعب، التعب، وحبّ البطالة واللهو المؤدي إلى ترك اكتساب الفضائل، وكالغضب المؤدي إلى العَسْف (5) وعدم الظفر بالمطلوب عند الغلَبة والاقتحام، وكاستباحة التصرف في مال الغير وعِرضه ودمه، والاستهزاء بالخلْق والحرص والوقاحة. وأسباب العدل هو ما يقابل هذه الأسباب.ق.
ص: 179
فهذه أمور إذا علمها الخطيب أخذ منها مقدمات في أنه لمّا كان الجائر كذا، أقْدم على الجَور، وللجور أسبابٌ كثيرة مذكورة في الكتب المبسوطة.
ها هنا أنواع مشتركة لأصناف الخطابة يجب على الخطيب إعدادها؛ لينتفع بها.
فمنها ما يُعَدُّ لاستدراجات من مبادي الانفعالات والأخلاق، مثلاً ما يعدّ للغضب كالاستهانة والعنَت والشتيمة وقطع العادة في الإحسان ومقابلة النعمة بالسيئة أو بالكُفْران والقعود عن جزاء الجميل بمثله. أو يعدّ لضدّه؛ وهو فتور الغضب؛ كالاعتذار بعدم معرفة من قصده بالاستهانة، أو بعدم قصد الاستهانة (1)؛ كالاعتراف بالذنب، والاستغفار بالتوبة والتذلّل والتلقيّ بالبشاشة، وكذلك هيْبةُ المَهيب والاستحياء من المستحَق منه، فإن الغضب لا يجامعها، أو يعدّ / [53 أ] للحزن؛ كالأنواع التي توجب تصور فوت المرغوب فيه، أو حصول المحذور منه، أو عدم الانتفاع بالحياة والتدبير، أو لضدّه؛ وهو [ التسلية (2)] كالتي يوجب الاقناع في أن هذا الأمر يمكن أن يُدفع أو يُرجى التلافي في التدارك، أو باعتبار حال الغير، فإن المصيبة أذا عمّت هانت، أو بالإرشاد إلى الحِيَل بتحصيل الأمر الذي لأجله الحزن، أو يُعدّ للخجل والاستحياء، كالفرار من الزحف، وخيانة الأمانة، وارتكاب المظالم، ومعاشرة الفسّاق ومداخلتهم في مواضع الريبة، والحرص على المحقّرات، ومقارفة [الدنايا (3)]، كسلب المسكين (4)، ونبْس الكفن، والتغيير (5) مع
ص: 180
اليسار، ومعارضة اللئام بالاستماحة (1) وكاستشعار الشماتة من الأعداء، أو يُعَدّ لإبطال الخجل وهو أضداد هذه الأسباب، أو للاهتمام بالغير والشفقة عليه، أو الأسباب الباعثة على الاهتمام، كالعذاب المُهلك والأوجاع والجَهد والكِبَر والسَّقَم والخصاصة (2) وسوء البخت وعدم الأنصار، وعلامات الاهتمام، كإيثار المهمّ له على النفس، والإحسان إليه بغير مِنّة (3)، وستر عيوبه ونصرته في مغيبه، والوفاء له. أو لضدّه؛ وهو الحسد، كوصول خير إلى غير ﴿ما﴾ (4) يرى الحاسد أنه أولى به منه، أو إلى من لا يحبه. أو للغيرة؛ كتخيّل مشاركة من لا حقّ له في الحق مِن غير أن يدخله صاحبه فيه. أو لشكر النعمة، وهو أن يقول الخطيب: إنما أعْطَى فلانٌ لنفس النفع، لا لجزاء يتوقَّعه. أو يقول: إنه نفع في وقت الحاجة أو في وقت تعسّر المعونة من الناس، أو أن أنعم بما لم تسمح نفس غيره به، أو أنه أولى من أنعم فيحرك غيره للإنعام، أو أنه لم يرد بالصنيعة ذكراً، أو أنه يستر الصنيعة (5) ستراً، أو للكفران وتحقير النعمة، كقولك: لم تُردْ بعطائك / [53 ب] إلا غرضاً وأنك لم تتمّ النعمة، وأنك قصرْت عن الواجب عليك بمثله، وأنك لم تصطنع بقصد؛ بل لضرورة، أو اتفاق (6)، أو لرغبة في محاذاة، فإن ذلك كلّه مما يبطل المنّة. أو للشجاعة، كأن تقول المكروه عنك بعيد، أو لا وجود له عندك، ولا محل عندك للأقران والمبارزين، وكقوله: أنت كثير الأنصار قويّهم، وأنك بريء عن الظلم قليل الاحتمال له. .
ص: 181
أو لضدها، وهو الجبن كقوله: إن في المقاومات حصول المكاره، وإن خَصمك في غاية القوّة، فلا طاقة لك به لو أن أنصارك قليلون أو ضعفاء، وأمثال ذلك.
وكذلك يجب على الخطيب أن يحصّل أنواعاً تُعين على كلّ خُلقٍ خُلقٍ يختص بصِنفٍ صِنفٍ من الناس.
إما باعتبار الأسنان (1)، كأن يقول للشابّ الذي يَغلب عليه طلب اللذة: إن هذا وقت السرور، والزمان المساعد، والشباب بعد فنائه غيرُ عائد، وهذا الربيع قد أشرف أنواره وتصنّفتْ أزهاره وكمدح المآكل والمشارب والملابس والمراكب.
ويقول للشيخ الذي يَغلب على طباعه طلب النفع والحرص على الدنيا: ينبغي أن تقتصر على تحصيل منافعك واللهوُ غير لائق بك، وينبغي أن تقلّل البذل لئلا يستضرّ عيالُك، وينبغي أن لا تنخدع لفلان، ولا تغلط معه، لأنك جرّبت الخداع.
أو باعتبار أخلاقهم في البلدان، كأن يقول للعربيّ الذي طبعه الفصاحة: إنك لذو فضيلة عظيمة، ولو لم يكن من فضل الفصاحة إلا أنها وجه إعجاز القرآن لكفى، وأمثاله.
وكان يقول للعرب من جهة ما هم غِلاظ الطباع كثير و (2) الأطماع: إن بني فلان أعداؤكم، ولا ناصرَ لهم، أو هم قليلون، أو نعمهم كثيرة، أو أن القُفْلَ (3) الفلانيّ كثيرُ النعمة ولا حارس له فيغريهم بذلك..
ص: 182
وكما تحرك طباع / [54 أ] الفُرْس إلى حسن التدبير الذي هو عادتهم بما يناسبه، أو إلى المَلال الذي هو طباعهم بما يناسبه. أو باعتبار الهمم كما يحرك ما في طباع الملوك من الكبْر وعدم الالتفات إلى الغير بما يناسبه
وما في طباع الساقطين من الدناءة بما يليق به.
ومن جملة الأمور المشتركة ما يتعلق بالممكن من الأمور وغير الممكن، كأن يقول الخطيب إذا أراد أن يُقنع بأن الأمر الفلاني ممكن، فيقول: هذا الأمر مما يُسْتطاع فهو ممكن، أو نقيضه ممكن فهو ممكن، أو شبهه ممكن فهو ممكن، أو الأصعب منه ممكن فهو ممكن.
أو أراد أن يقنع بأنه يتوقّع (1) كونه فيقول:
الأمر الفلانيّ مقدور عليه ومراد، فلا بد أن يكون، والنادر يكون، فالأكثريّ يكون. ويمكنك أن تعلم أنواع ما لا يكون، وأنواع ما لا يمكن من أنواع ما يكون، وأنواع ما يمكن.
فهذه جملة من الأمثلة تَهدي الخطيب إلى أمثالها، وليس عليه أن يضبط ما لا يتناهى من الأمور بحسب شخص شخص في كل واحد من أموره الجزئية، فإن ذلك غير ممكن؛ بل يضبط القوانين الكلّية المتعلقة بالأجناس الثلاثة للخطابة، ويجتهد في أن يخصصها مهما أمكن، فإنه كلما كان الحكم بالجزئيّ المتكلَّم فيه أخصّ، كان أنفع وأقنع. مثاله: إذا أردت أن تمدح زيداً فقلت: هو شجاع؛ لأنه مستكمل الفضائل بأسرها، فهذا وإن كان مقنعاً، إلا أنك لو خصصت فقلت:؛ لأنه هزم جيش العدوّ وقت كذا، أو قتل البطل الفلانيّ يوم كذا، لكان ذلك أقنع وأليق بالممدوح.م.
ص: 183
وقد تقع في الخطابة القضايا المتقابلة والمغالطة بها (1) للإقناع فيستعمل الضدّان في إيجاب كل واحد من النقيض، كقولك: اسكت في المحافل (2)؛ لأنك إن صَدَقْت أبغضك الناس، وإن كذبْت أبغضك الله، ثم تقول: تكلم في المحافل؛ لأنك إن صدقت / [54 ب] أحبّك الله، وإن كذبت أحبك الناس. والمقابلة ها هنا إن أفادت إقناعاً، كانت من صناعة الخطابة، مثالها:
إما من باب اشتراك الاسم كقولك: بالذهب يبصر الإنسان؛ لأنه عيْن.
أو من باب تركيب المفصّل كقولك: فلان شاعر جيّد، فيوهم ذلك التركيب مدح الشعر بالجودة، والتقدير فلان جيّد.
أو من باب وضع ما ليس بعلّة علة، كما يقال: فلان مبارك القدم؛ لأنه مع قدومه تيسّر كذا.
أو من باب المصادرة على المطلوب، كما يقال: زيد يشرب الخمر، فيقال؛ لأن أخاه يشرب الخمر.
وأما إن لم يوقع إقناعاً، كما يقال: فلان لم يُذنب باختياره؛ لأنه زنى وهو سكران، لم يكن من صناعة الخطابة، وبالله التوفيق.
الأمور المحسّنة للخطابة:
إما أن تتعلق بالألفاظ.
وإما أن تتعلق بالترتيب.
ص: 184
وإما أن تتعلّق بهيئة الخطيب.
أما الأول: فاعلم أن تحسين الألفاظ في الخطابة عظيم النفع؛ فإن جزالة الألفاظ تُوهم جزالة المعنى، وركاكة اللفظ تُذهب ذوق المعنى.
ومحسنات اللفظ أمور:
الأوّل: أن يكون اللفظ فصيحاً عذْباً غيرَ ركيك صرف العاميّة (1) ولامتين مرتفع عن أن يصلح لمخاطبة الجمهور؛ لأن الطباع العاميّة تنفر عن العبارة العلمية، ولا ملحون؛ لأن اللحن يهجّن الكلام ويَرْذُلُهُ، وهذه الاعتبارات موجودة في كلام عليّ عليه السلام كثير.
الثاني: أن يراعى [تمام (2)] الرباطات، وهي الحروف التي يقتضي ذكرها أن تُكرّر، كقوله عليه السلام في صفة الملائكة: «منهم سجود لا يركعون (3) ومنهم ركوع لا يسجدون وكذلك باقي الأقسام، فلو لم يحصل / [55 أ] التكرار ها هنا لنقص الكلام، وكذلك قوله عليه السلام: المرء المسلم البريء من الخيانة ينتظر إحدى الحسنين: إما داعي الله فما عند الله خير له، وإما رزق الله، وإذا هو ذو أهل ومال، اللهم إلا أن يكون تكراره معلوماً، كقوله عليه السلام في كثير من خطبه: أمّا بعد. فإن هذا الجزء مسبوق بأما قبل وإن لم يُذكر لوضوحه.
الثالث: أن لا يباعد ما بين الرباطين بحشو دخيل ينسى الوصلة بينهما.
الرابع: أن يراعى حقه من التقديم والتأخير، وإن تأخّر الشرط عن المشروط، وتقديم لان على الدعوى قبيح سمج، وبعض هذه الأحكام قد يختص ببعض اللغات.ن.
ص: 185
الخامس: أن يزيّن بالتشبيه والاستعارة، وتكون تلك الألفاظ المستعارة خاصة غيرَ مشتركة ولا مغلِطة، فقد يورد اللفظ موهماً للشيء وضده، كقول المنجم: إذا دخلتْ سنة كذا تتجدد للإسلام أمر عظيم. فذلك محمَلِ للخير والشر، موهماً لهما.
وفائدة التشبيه والاستعارة ها هنا الاستعانة بالتخييل الحاصل منه على ترويق المعنى، فإنه يحصل له رونقاً لا يحصل بدونه.
والالفاظ المستعارة والمخيّلة وإن كانت أصلاً في الشعر، فقد يستعملها الخطيب بالقرض، فيكون في الخطابة كالأباريز (1).
السادس: أن يراعي لفظ الواحد والتثنية والجمع وما يخصها من التصاريف، وكذلك التذكير والتأنيث ذي العلامة وغيره رفعاً للغلط.
السابع: قد يزين اللفظ بالإيجاز إذا اعتمد على فهم السامع من تعقب الإقناع فردّ الحدود والرسوم هناك إلى اللفظ المفرد، وقد يزين بالبسط فينعكس ذلك. وقد يبدل اللفظ المفرد العلم لشناعته، كما يقال عورة المرأة (2) ووطؤها ودمها عوض اسمائها الصريحة.
وأكثر ما يستعمل أمثال هذه الإفراطات في المدائح فيكره التصريح / [55 ب] بالأسماء الصريحة احتشاماً وتنزيهاً للمجالس عن ذكرها، وكذلك يستعمل في الاعتذار كثيراً، وحيث يراد التهويل للتخويف في المشوريات.
الثامن: أن يزين بالمفاصل، أي يكون ذا مصاريع وتسجيع وزنٍ ما، لا الوزن الحقيقي، وذلك كقول علي عليه السلام: ب.
ص: 186
أما بعد فإن الدنيا قد أدبرت وأذنت بوداع، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع (1) وقد عرفت المتوازن فإن ذلك أقرب إلى ثبات اللفظ في الخيال، ثم تلك المفاصل ينبغي أن لا تطول؛ لئلا ينسى الأوّل، ولا تقصُر جداً، فلا تحفل به النفس، فيجعل انقطاعه عن استثبات النفس له.
ثم المفاصل قد تكون أقساماً، ويسمى المقسّم كما مر في المثال في صفة الملائكة.
وقد تكون تلك الأقسام متقابلة كقوله عليه السلام؛
«أمّا الإمْرَةُ البرَّةُ فيعمل فيها التّقى، وأما الإمْرَةُ الفاجرة فيتمتَّع فيها الشقي» (2).
ولكل واحدة من الخطابة المسموعة والمكتوبة أسلوب خاص، وكذلك أصنافهما.
وأما الثاني وهو الترتيب:
فاعلم أن للأقاويل الخطابيّة صدراً ووسطاً وخاتمة:
فالصدر كالرسم الذي ينقش عليه، ويعرف السامع منه الغرض إجمالاً.
وأما الوسط، فقد يكون ﴿قصصاً﴾ (3) لأمر واقع؛ ليحكم بأنه حسن ص.
ص: 187
أو قبيح؛ كما في المنافرة، وعدل أو جور كما في المشاجرة.
وقد يُقدم على الصدر؛ اقتصاصٌ لأمور تستلزم الشكر والمدح من القائل، وتهيء السامع لذلك، كما جرت العادة بتقديم اقتصاص صفات الله وحمده وصفات رسله عليهم السلام.
وقد يكون الوسط غير اقتصاص؛ بل دالّة على مصلحة وحثّ عليها، كما في المشورة؛ إذ ليس فيها ما يُحكى ويُشتكى، ويُحمد ويُذمّ، وليس فيها منازعة / [56 أ] ومواثبة (1)، والصدر فيها حسن؛ ليكون المشار عليه قد وعى الغرض واستعد للقبول وهو في المشاجرة قبيح.
وأما الخاتمة، فهي حسنة في المشورة أيضاً، والذي يليق بها أن تكون أجزاؤها مفصّلة غير مخلوطة بما قبلها، وخصوصاً في المشوريّات، وهو أن يقول المشير: قد قلت ما عندي من النصيحة، والرأي ما تَرون، وكما يقول الخطيب: أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم ونحو ذلك.
وأما الثالث: وهو الأمور التي تتعلق بهيئة الخطيب، فيخيّل معاني أو يخيّل أخلاقاً واستعداداتٍ لأفعالٍ وانفعالات، ويُسمّى ذلك نفاقاً.
والأخذ بالوجوه، فهي إما يتعلق بصوته كرفعه في موضع الرفع وخفضه في موضع الخفض، وبتزكية نفسه أو بكونه على زيّ وهيئة وسَمْتٍ حسن يصيد به القلوب.
وهذا القسْم إنما يكثر الانتفاع باستعماله مع ضعفاء العقول؛ إذ كانوا للاستدراجات بالأمور المحسوسة أطْوع، ولذلك يكبر في أعينهم من كان .
ص: 188
بِزيّ النسّاك المستكثرين من العبادة (1) والخشوع الظاهر، وإن كان جاهلاً مرائياً.
ولما لم يكن غرضنا من التعرض بذكر الخطابة ها هنا إلا الاشارة إلى أقسامها الكلّية لتبيّن معنى الخطابة، وما عسى أن نذكره من أن الخطابة التي نحن شارعون في بيانها من أي أقسام الخطابة هي، وليتفطّن المّطلع على ما ذكرناه ها هنا لما لم نبيّنه من ذلك، لا جرَم اقتصرنا على هذا القدر من الإيراد.
وأما البسط قضى الكتب المطولة.
واعلم أن الغالب على كلام عليّ عليه السلام هو المشوريات (2)، وأما المنافريّات (3) والمشاجريّات (4)، فهما أقل كما ستعرف ذلك عند تصفح أقواله إن شاء الله تعالى / [56 ب]، وبالله التوفيق.
وأما الخاتمة ففي بيان غايته عليه السلام من الخطابة.
واعلم أنه لمّا كان الغرض من وضع الشرائع والسنن إنما هو نظام الخلْق وجذبهم إلى الجناب المقدس عن دار الغرور، وتذكيرهم المعبودهم الحق، وتعليمهم كيفية السلوك للصراط المستقيم كما أومأنا إليه.
وعُلم من ذلك أن عليّاً عليه السلام كان مقررّاً للشريعة، ومُثْبتاً لها، وموضّحاً لمقاصد سُنَن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، ومفرّعاً لأحكامها؛ إذا كان هو الممنوح بجوامع العلم، والمَطلع على الأسرار الإلهية، لم يكن مقصوده من
ص: 189
جميع الأقوال المنقولة عنه إلا الغرض الأول من وضع الشرائع والسنن:
بيان ذلك أنك قد علمت أن الأقوال الخطابية تنقسم بحسب أغراضها ثلاثة أقسام:
مشاورة، ومنافرة، ومشاجرة
فأمّا المشورة فإنها الجزء الأكبر من كلامه عليه السلام، وأنت تعلم من تصفح كلامه أن كل ما يشير به بالقصد الأول فأنما هو الإقبال على الله تعالى بترك الدنيا والإعراض عنها، والاستكمال في الفضائل، وترك الرذائل، والمنقصات الجاذبة إلى الخيْبة السافلة المانعة عن الوصول إلى الله سبحانه، فإنْ عَرض في كلامه أمرٌ بجزئي، أو نهْيٌ عن أمر جزئي لا يلوح للغافلين منه هذا الشر؛ كمصالح الحرب والعُدّة والمدنيّة وغير ذلك، فإنه عند الاعتبار يُرجع إليه؛ لأن كل ذلك يَرجع إلى نُصْرة الدين وتقويته، ونظامِ أمر العالم، وترتيب مصالحه.
وأما المنافرة فقد عرفت أن جميع ما ورد في كلامه عليه السلام من الذم إنما هو للدنيا، واتباع الهوى، وارتكاب الرذائل الموبقة (1)، ومن ارتكبها، وأشباه ذلك مما يُبعد عن الله تعالى، وما ورد فيه من المدح فإنما هو لله سبحانه وللملائكة ورسله والصالحين من عباده، وما هم عليه من الفضائل، وترك [57 أ] الهوى، والإعراض عن الدنيا، وما ينبغي أن يكون الخلق عليه من ذلك.
ولا شك أن الأول جذب للخلق بتحقير ما تميل طباعهم إليه من الأمور الفانية، وتصغيره وذمّه والتنفير عنه، وذمّهم على ارتكابه؛ ليتقهقروا عنه إلى ما وراءهم من النعيم الأبديّ والخير السّرمديّ (2)، وليتذكروا معبودهم
الحقّ سبحانه، ولا يكونوا من المعرِضين الهالكين.د.
ص: 190
والثاني أيضاً جذْب لهم بتعظيم ما ينبغي أن يلتفتوا إليه وتكبيره ومدحه، والترغيب فيه، وفيما يكون وسيلة من الفضائل، والإعراض عن الدنيا وغير ذلك.
وأما الأمور المشاجرية، فما كان في كلامه عليه السلام منها؛
فإما بيان للظلم والجوْر (1) وأسبابهما وما يئولان إليه من سوء العاقبة. وقبح الخاتمة عند الله تعالى.
أو بيان للعدل وأسبابه وما يئول إليه من حسن العاقبة وحميد المنقلب إلى الله: كما يشتمل عليه كثير من كتبه إلى عمّاله ومحاربيه، ولا شك أن كل ذلك جذْب إلى الله تعالى بالتصريح والإشارة.
وإما تظلم من ظالم خرج عن رَِبْقة (2) الدين، واتبع هواه، وشكاية من (3) أفعاله الخارجة عن نظام الشريعة المؤدّية إلى ضد مقاصد الشارع (4)، ولا يخفى أن مقصوده من ذلك التظلّم والشكاية، إقناعُ الخلْق بأن فلاناً ظالمٌ آخذٌ لما لا يستحقه؛ ليَثبُتوا على الحقّ ويفيئوا إليه وينكسر وهْم من عساه يتوهم أنّ خَصمه على الحقّ، فربما كان بقاء ذلك الوهم سبباً للِّحُوق (5) به، وذلك بالحقيقة تثبيت على الحقّ، وجذب عن الباطل، وهو نفس الأمر مقصود الشارع وغايته.
وإما اعتذارٌ مما يتخيّله الجاهلون فى حقٌه ظلماً وجَوْراً، كاعتذاره ب
ص: 191
[ 57 ب] عليه السلام عما تخيّله جماعة في حقّه ظلماً من ﴿القعود﴾ (1) عن نصرة عثمان حتى نسبوه إلى أنه قاتله (2)، وتنصّله عن ذلك. وكذلك اعتذاره فيما تخيّله الخوارج ذنباً من تحكيم الحكمين (3) وغير ذلك، فإن الاعتذار في هذه المواضع وأمثالها جذب إلى الحق، وصرف عن الباطل، إذ كان الاعتذار منه طلباً لإقناع من تخيّل فيه ظلماً بأنه ليس كما خيّل إليهم، وإن ما صدر ليس بظلم ولا جوْر، ليفيئوا إلى طاعته، والاقتداء به فيما هو عليه من اتّباع الحقِّ والنُصْرة للدين والذّب عنه (4). ومعلوم أن ذلك كله جذب إلى الله سبحانه وإلى أسباب ما يوصل إليه.
فقد علمت من هذا البيان أن غايته عليه السلام من جميع أقواله إنما هو توجيه الخلْق إلى جناب الله، والتفاتهم إلى حضرته القدسيّة، وهذه هي الغاية التي اتفق عليها الأنبياء والرسل، وتطابقتْ عليها الشرائع والسُنن، ومن تأمّل ما قلناه وترك متابعة هواه، وطبّق ما أوردناه من القانون الكليّ على كلامه، علم صحة ما ادّعيناه، وبالله التوفيق..
ص: 192
القاعدة الثالثة
في بيان أن عليّاً عليه السلام كان مستجمعاً للفضائل الانسانية.
وفيها فصول:
في فضائله اللّاحقة له من خارج، ولنذكر منها وجوهاً:
أ - نسبه من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وهو أبو الحسن علي بن أبي طالب ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصَيّ.
وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، وهي أول هاشميّة وَلدت هاشمياً، وكان عليّ عليه السلام أصغرَ أولادها، وعُقَيْلٌ أسنّ منه بعشْر سنين، وطالبٌ أسنّ من عقيل بعشر سنين.
وهي أول امرأة بايعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من النساء، وكان / [58 أ] صلی الله علیه و آله و سلم يكرمها ويدعوها أمه، وأوصت إليه حين حضرتها الوفاة فقبل وصيّتها وصلّى عليها، ويُروى أنه نزل لحْدَها (1) واضطجع معها بعد أن ألبسها قميصه، فقال له أصحابه في تخصيصها بذلك فقال: «إنه لم يكن أحدٌ بعد أبي طالب ابرَّ بي منها، وإنما ألبستُها قميصي لِتُكْسَى من حُلَل الجنّة، وإنما اضطجعتُ معها؛ لتأمنَ ضَغطة القبْر».
ب - سبْقه إلى الإسلام وفضيلته في ذلك ظاهرة.
ج - مجاهدته أعداء الله، ونصرته للدين، وذبّه عنه، ومقاماته في ذلك مشهورة مأثورة تكاد لا تحصى كثرة.
ص: 193
د - تخصيص الرسول صلی الله علیه و آله و سلم تزويجه فاطمة دون من خطبها. من أكابر المهاجرين والأنصار.
ه - كون الحسن والحسين عليهما السلام اللذين هما سيّداً شباب أهل الجنة ولديه، وذلك فضل عظيم.
و - قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ﴾ (1) قيل إنها نزلت (2) في علي عليه السلام، وفي جعل عيسى عليه السلام مثلاً له فضل عظيم، ويؤيد ذلك في قول النبي صلی الله علیه و آله و سلم له: «لولا أن تقول فيك طوائف أمتي ما قالت النصارى في عيسى لقلت اليوم فيك مقالاً لا تمرّ بعده بملأٍ منهم إلّا أخذوا التراب من تحت قدميك»، وهذا الكلام يقتضي أنه، لو وصفه بشيء لما وصفه إلا بأوصاف عيسى عليه السلام التي لأجلها قالت النصارى فيه ما قالوا.
ز - قوله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا.
ص: 194
وأسيراً، إنما نطعمُكُم لوجه الله﴾ (1) الآية. اتفق المفسرون على أنها نزلت في علي عليه السلام وأهل بيته / [58 ب]، وسبب نزولها مشهور في كتب التفسير وغيرها، وكفى بذلك شرفاً.
ح - روى أنه لما نزلت ﴿وَتَعِيها أذُنٌ واعِيَة﴾ (2) قال النبي صلی الله علیه و آله و سلم: اللّهم اجْعَلْها أذَنَ عَلِيّ (3)، ولا شكّ أن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم كان مُجابَ الدعوة، ولذلك قال عليّ عليه السلام: فما شككتُ في شيء سمعتُه بعد ذلك، وذلك من أعظم الفضائل.
ط - من طريق الكلّ قول النبي صلی الله علیه و آله و سلم في حقه: «اللهم أدرْ الحقَّ مع عليِّ حيثُ دار» (4). ولا شك في استجابة دعائه، ومن كان الحقُ وَجْهَ أقواله وأفعاله فلا مزيد على فضْله.
ي - من طريق الكل قوله صلی الله علیه و آله و سلم: «أنت منّي بمنزلة هرون من موسى إلا .
ص: 195
أنّه لا نبيّ بعدي» (1)، والاستثناء هنا يشهد بإثبات جميع المنازل التي كانت لهرون من موسى إلا النبوّة، وما علم نفيه من الأخوة فبقي كونه وزيراً أو ناصراً وقائماً بناموس الشريعة، ومفرّعاً لأحكامها الكلّيّة، وخليفة له؛ كما كان هرون كذلك، ومن هنا تمسّكت الشيعة بهذا الخبر في استحقاقه للخلافة، وكفى بهذه فضيلة.
ك - من طريق الكل قوله صلی الله علیه و آله و سلم: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» (2) وسواء كان المراد هاهنا بالموْلى: الأولى بالتصرف، أو الناصر فإن الفضل حاصل.
ل - قوله صلی الله علیه و آله و سلم في حقه «أقضاكم عليّ» (3) ولا شك أن القضاء محتاج إلى أنواع العلوم، وكفى بشهادة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم بذلك فضلاً.
م - قوله صلی الله علیه و آله و سلم: أُعْطيتُ جوامعَ الكَلِم، وأُعطيَ عليّ جوامع العلم وكفى بهذه الشهادة فضلاً.ي.
ص: 196
ن - من طريق الشيعة أن خوطب بإمرة المؤمنين في حياة [59 أ] الرسول صلی الله علیه و آله و سلم وأنكره المحدّثون من غيرهم.
روى أحمد في مسنده في كتابه في فضائل الصحابة، وكذلك أبو نعيم الحافظ (1) الأصفهاني في كتاب حلية الأولياء: أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم خاطبه بيعْسُوب المؤمنين (2)؛ واليعسُوب أمير النحْل، وكل ذلك إشارةٌ إلى فضله.
س - تربيته رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من أول عمره إلى أن أعده لأعلى مراتب الكمالات النفسانية. (3)
قال عليه السلام في تربية النبي صلی الله علیه و آله و سلم واتّباعه أثره في خطبته المسماة بالقاصعة (4) وقد علمتُمْ مَوْضعي من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالقرابةِ القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حِجْره وأنا وليدٌ يضُمُّني إلى صدره، ويكْنُفُني في فراشه، ويُمسّني جسدَه، ويُشِمُّني عَرْفه (5)، وكان يمْضُغُ ة
ص: 197
الشيءُ ثم يُلْقِمُنِيه، وما وجد لي كَذْبةً في قول ولا خَطْلة (1) في فعل، ولقد قرن الله به صلی الله علیه و آله و سلم مِن لدُنْ أن كان فطيماً أعظمَ ملَك من ملائكته يسلك به من طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم ليلَه ونهاره، ولقد كنت اتّبعه اتباع الفِصِيل (2) أثَر أمّه، يرفع لي في كل يوم عَلَماً (3) من أخلاقه، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يُجاوِرُ في كل سنة بحراء (4) فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمعْ بيت واحد يومئذ في الإسلام غيرَ رسولِ الله صلی الله علیه و آله و سلم وخديجةً وأنا ثالثُهما، أرى نورَ الوحْي والرسالة، وأشمُّ ريح النبوة، ولقد سمعتُ الشيطان حين نزل الوحي عليه صلی الله علیه و آله و سلم، فقلت يا رسول الله: ما هذه الرّنَّة؟ فقال: «هذا الشيطانُ قد أَيِسَ من عبادته إنك تسمعُ ما أسمع، وترى ما أرى، إلا / [59] أنك لست بنبيّ، ولكنك لوزير، وإنك لعلى خير (5)، إلى آخر الكلام، حتى صار بهذه التربية أستاذ العالمين بعده صلی الله علیه و آله و سلم في جميع العلوم.
وبيان ذلك؛ إما جملة، فلقول النبي صلی الله علیه و آله و سلم: «أنا مدينة العلم، وعليّ بابها» (6) ولا شك أن المقصود أنه صلی الله علیه و آله و سلم هو المنبع الذي تفيض عنه العلوم ه
ص: 198
الإسلامية والأسرار الحُكْمية التي اشتمل عليها القرآن الحكيم، والسّنة الكريمة، وهو مصدرها، والمحيط بها؛ لأن شأن المدينة بما تحتوي عليه كذلك. وأن عليّاً عليه السلام هو المفرّع لتلك الأسرار والمهتدي لتفاصيل جملها، وأحكامها الكليّة بحسب ماله كمال الحدْسِ (1)، وقوة الاستعداد، بحيث تصير تلك الأسرار سهلةَ التناول، قريبة المأخذ بسائر الخلق؛ لأنّ الباب هو الجهة التي منها ينتفع الخلق من المدينة، ويمكنهم تناول ما أرادوه منها.
وإما تفصيلاً؛ فإنّا بحثْنا العلوم بأسرها فوجدنا أعظمَها وأهمَّها هو العلْم الإلهي (2)، وقد ورد في خطبه عليه السلام من أسرار التوحيد (3) والنبوات (4) والقضاء والقدر (5)، وأسرار المعاد (6)، كما سنبيّنه، مالم يأت في كلام أحد من أكابر العلماء وأساطين الحكمة، ثم وجدنا جميع فرق الإسلام تنتهي في علومهم إليه.
أما المتكلمون؛ فأما المعتزلة (7) وانتسابهم إليه ظاهر؛ فإن أكثر 6.
ص: 199
أصولهم مأخوذة من ظواهر كلامه في التوحيد والعدل، وأيضاً فإنهم ينتسبون إلى مشايخهم كالحسن البصري (1) وواصل بن عطاء (2)، وكانوا منتسبين إلى علي عليه السلام، ومتلقفين عنه العلوم.
وأما أشعرية، ومعلوم أن استاذهم ابو الحسن الأشعري (3)، وقد كان تلميذاً لأبي عليّ الجبّائي (4)، وهو من / [60 أ] مشايخ المعتزلة، إلا أنه تنبّه لما وراء أذهان المعتزلة فخالف أستاذه في مواضع تعلّمها من مذهبه.
وأما الشيعة (5)، فانتسابهم إليه ظاهر، فإنهم يتلقّفون العلوم عن أئمتهم، وأثمتهم يأخذ بعضهم عن بعض إلى أن ينتهي إليه وهو إمامهم الأول.
وأما الخوارج (6) فهم وإن كانوا في غاية من البعد عنه، إلا أنهم 7.
ص: 200
ينتسبون إلى مشايخهم، وقد كانوا تلامذة علي عليه السلام.
وأما المفسرون فرئيسهم ابن عباس (1) - رضي الله عنه - وقد كان تلميذ عليّ عليه السلام.
وأما الفقهاء فمذاهبهم المشهورة أربعة:
أحدها: مذهب أبي حنيفة ومن المشهور أن أبا حنيفة (2) قرأ على: الصادق (3) عليه السلام، وأخذ عنه الأحكام، وانتهاء الصادق عليه السلام إلى عليّ عليه السلام ظاهر.
الثاني: مذهب مالك (4)، وقد كان مالك تلميذ الربيعة، (5) وربيعة تلميذ عكرمة (6)، وعكرمة تلميذ عبد الله بن عباس، وقد كان تلميذاً لعليّ عليه السلام.
الثالث: مذهب الشافعي (7)، وقد كان الشافعي تلميذاً لمالك.8.
ص: 201
الرابع: مذهب احمد بن حنبل (1)، وكان أحمد تلميذ الشافعي فرجع انتساب فقه الجميع إلى عليّ عليه السلام.
ومما يؤيد كماله في الفقه قول الرسول صلی الله علیه و آله و سلم: «أقضاكم عليّ» (2) والأقضى لا بدّ أن يكون أفقه وأعلم بقواعد الفقه وأصوله.
وأما الفصحاء، فمعلوم أن جميع من ينسب إلى الفصاحة بعده يملأون أوعية أذهانهم من ألفاظه، ويضمّنونها كلامَهم وخطبّهم، فتكون منها بمنزلة ورد العقود، كابن نباته (3) وغيره، والأمر في ذلك ظاهر.
واما النحويّون؛ فأول واضع للنحو هو أبو الأسود الدؤلي (4)، وكان ذلك بإرشاده له إلى ذلك، وبداية / [60 ب] الأمر أن أبا الأسود سمع رجلاً يقرأ: ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ﴾ (5) بالكسر. فأنكر ذلك، وقال: «نعوذ بالله من الحَوْر بعد الكَوْر» (6) أي من نقصان الإيمان .
ص: 202
بعد زيادته، وراجع علياً عليه السلام في ذلك، فقال له: نحوْتُ أن أضع للناس ميزاناً يقوّمون به ألسنتهم، فقال له عليه السلام: أنحُ نحوه وأرشَده إلى كيفيّة ذلك الوضع وعلّمَه إياه.
وأما علماء الصوفية وأرباب العرفان، فنسبتهم اليه في تصفية الباطن، وكيفية السلوك إلى الله تعالى ظاهرة الانتهاء.
وأما علماء الشجاعة والممارسون إياه للأسلحة والحروب، فهم أيضاً ينتسبون إليه في علم ذلك.
فثبت بذلك أنه كان أستاذ الخلْق وهاديهم إلى طريق الحق بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ومناقبه وفضائله أكثر من أن تُحصى، وبالله التوفيق.
ص: 203
في بيان فضائله النفسانيّة:
وهي إما أن يُعتبر بالنسبة إلى قوّته النظرية، وإلى قوته العملية، فإذن هاهنا بحثان:
البحث الأول: في أنه عليه السلام كان مستجمعاً لكمال قوّته النظرّية، وقد علمت أن كمال القوة النظريّة، إنما هو باستكمال الحكمة النظرية؛ وهي استكمال النفس الإنسانية بتصوّر المعارف الحقيقة، والتصديق بالحقائق النظرية بقدر الطاقة البشرية، ولا شك أن هذه الدرجة كانت ثابتة له عليه السلام.
وبيان ذلك ببيان أنه عليه السلام كان سيد العارفين بعد سيدِ المرسلين صلی الله علیه و آله و سلم، وإنه كان متسنّماً لدرجة الوصول.
وتحقيق ذلك أنه قد ثبت في علم كيفيّة السلوك أن وصول العارف إنما يحقّ إذا غاب عن نفسه فلحظ جناب الحق من حيث إنه هو فقط، وإن لحظ نفسه فمن حيث هي لاحظ، لا من حيث هي متزيّنة بزينة الحق، ثم إنه قد وُجد في كلامه وإشاراته ما يستلزم حصول هذه المرتبة له، ولنذكر منها مواضعَ ثلاثة:
الأول: قوله عليه السلام: «لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً».
وقد عرفت أن ذلك إشارة إلى أن الكمالات النفسانية المتعلقة بالقوة النظرية قد حصلت له بالفعل، وذلك يستلزم تحقّق الوصول التام الذي ليس في قوة الأنبياء نيْلُه.
الثاني: قوله عليه السلام حكاية عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في حقه «إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبيّ» ولا إشكال في أن
ص: 204
النبي صلی الله علیه و آله و سلم كان له الاتصال التام بالحق تعالى فكان هذا الاتصال والوصول حاصلاً لعليّ عليه السلام بمقتضى شهادة الرسول، وإن كان التفاوت بين المرتبتين قائماً؛ لأن للاتصال بالجناب الأقدس درجات لا تتناهى، ولذلك قال: «إلا أنك لست بنبيّ». وستعلم من تفاصيل كلامه عند الانتهاء إليه تحقيق هذه المرتبة.
الثالث: قوله عليه السلام: «إلهي ما عبدتُك خوفاً من عقابك، ولا رغبةً في ثوابك، ولكن وجدتُك أهلاً للعبادة فعبدتُك».
وجه الاستدلال أنه حذف كل قيد دنيويّ وأخرويّ عن درجة الاعتبار سوى الحق تعالى، وذلك مما يتحقّق له الوصول، ومما يؤيد ذلك أنا سنبيّن إن شاء الله تعالى تمكّنه عليه السلام من الكرامات وصدورها عنه، وذلك من خواص الواصلين.
البحث الثاني: في بيان كماله في قوته العملية (1).
وكما علمت أن كمال القوة النظرية إنما هو باستكمال الحكمة النظرية، فكذلك كمال القوة العملية إنما هو باستكمال الحكمة العملية، وهي استكمال النفس بكمال الملكة التامة على الأفعال الفاضلة حتى يكون الإنسان ثابتاً على /[61 ب] الصراط المستقيم متجنّباً لطرفي الإفراط والتفريط في جميع أفعاله، ثم قد ثبت في علم الأخلاق أن أصول الفضائل الخلقية ثلاثة:
أحدها: الحكمة الخلقية وهي الملكة التي تصدر عنها الأفعال المتوسطة بين الجَرْبَزة (2) والغباوة اللذين هما طرفا الإفراط والتفريط.
وأنت تعلم من تصفّح أفعاله وأقواله وتدابيره في أمور الحرب ونظام .
ص: 205
أمور العالم ما تضطر معه إلى الحكم بأنه كان مستلزماً لهذه الفضيلة وغير واقف دونها في حدّ الغباوة، ولا متجاوز لها إلى طرف الجريزة؛ لأن خبث المتجربز يمنعه عن الترقي إلى درجة الكمال، ويأبى طبعه إلا الشر.
وثانيها: العفة وهي الملكة الصادرة عن اعتدال حركة القوة الشهوية بحسب تصريف العقل العملي لها على قانون العدل، وبها تصدر الأفعال المتوسطة بين الجمود والفجور اللذين هما طرفا الإفراط والتفريط، ونبيّن أن هذه الملكة كانت ثابتة له عليه السلام من وجهين:
الأول: إنه كان أزهد الخلق في الدنيا بعد الرسول صلی الله علیه و آله و سلم وفيما عدا القبلة الحقيقية، واقدر على حذف الشواغل الملفتة عن لقاء الله، وكل من كان كذلك، كان مالكاً لهواه، مصرّفاً لشهوته بيد عقله.
أما المقدمة الأولى فمعلومة بالتواتر وأما الثانية فضرورية أيضاً.
الثاني: قول النبي صلی الله علیه و آله و سلم: «اللهمّ أَدِر الحقَّ مع عليّ حيثُ دار (1) ولا شك في استجابة دعائه، ومن كان الحق لازماً لحركاته وتصرفاته استحال أن يلزمها باطل؛ لأن الأمر الواحد لا يلزمه لازمان مختلفان، فاستحال أن يكون مطيعاً (2) للهوى البتة، وهو معنى العفة.
ومما يؤكد حصول هذه الملكة ما روي أنه عليه السلام ما شبع من طعام قطّ، وأنه / [62 أ] كان من أخشن الناس ملبساً ومأكلاً، يقنع بقرص الشعير ولا يأكل اللحم إلا نادراً، أو كان يقول: «لا تجعلوا بطونكم مقبرةً للحيوان» ويقصد بذلك التنفير عنه، وكل ذلك زهادة في الدنيا ولذّاتِها.
وثالثها: الشجاعة وهي الملكة الحاصلة للنفس عن اعتدال القوة الغضبية بحسب تصريف العقل فيما يضبطه لها، وبها تصدر الأفعال المتوسطة بین أفعال الجبن والتهور. .
ص: 206
وثبوت هذه الفضيلة له عليه السلام معلوم بالتواتر حتى صارت شجاعته يضرب بها المثل مبالغة في حق الرجل الشجاع.
وإذا عرَفت أن هذه الملكات الثلاث ثابتة له كأتمّ ما يمكن، وثبت أنها مستلزمة لفضيلة العدالة ثبت أن فضيلة العدالة ثابتة له.
وأما باقي أقسام الحكمة العملية كالحكمة السياسية والمنزلية، فقد علمت أن فائدتهما أن يعلم الإنسان وجه المشاركة التي ينبغي أن تكون من أشخاص الناس؛ ليتعاونوا على مصالح الأبدان ونظام مصالح المنزل والمدينة.
وقد كان عليه السلام في ذلك سبّاق غايات وصاحب آيات، ويكفيك في معرفة ذلك منه.
أما على سبيل الجملة؛ فلأن الشريعة المصطفوية سلام الله على شارعها واردةٌ بمقاصدها بين الحكمتين على أتم الوجوه وأكملها بحيث يرجع أكابر الحكماء إليها في تعلمها.
ومعلوم أن عليّاً عليه السلام كان متمسكاً ومقرراً لها، وباسطاً لأحكامها الكلّية ومفصّلاً لإشاراتها الجُمْلية لم يغيّر منها حرفاً، ولم يقف فيها دون غاية، وذلك يستلزم ثبوتها له على أكمل وجه وأتمه.
وأما على سبيل / [62 ب] التفصيل، فعليك في معرفة أنه كان أكمل الخلق بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في هذا العلم بمطالعة كتبه وعهوده إلى عمّاله وولاته وأمرائه وقضاته، خصوصاً العهد الذي كتبه للأشتر (1) النخعي، فإن .
ص: 207
فیه من لطائف تدبير أمر المدينة ونظام أحوال الخلق مالا يهتدي لحسنه، ولا يوجد عليه مزيد من هذا الباب وهذا مع ما توافر من رجوع أكابر الصحابة المعترف بحسن تدبيرهم، وإيالتهم (1) إلى استشارته في أمورهم وتعرّف كيفيّة تدبير العساكر والحروب والمصالح الكلّية والجزئية منه في مواضع كثيرة تعلمها في هذا الكتاب وفي غيره؛ كرجوع عمر إلى رأيه في الخروج مع المسلمين إلى غزو الروم، وغير ذلك مما هو مشهور مأثور، وما أشار عليهم به من الآراء الكافلة بحسن التدبير و الإيالة الوافية بنظام الحركات المدنيّة، كما ستعلم إن شاء الله تعالى، وبالله التوفيق. .
ص: 208
في صدور الكرامات عنه
وفيه بحثان:
الأول: في إخباره عن الأمور الغيبيّة والنظر إما في إمكان ذلك، أو في سببه أو في وقوعه منه، فهاهنا - إذن - ثلاث مقامات:
المقام الأوّل: في إمكانه:
يجب عليك أيّها الأخ المتلّقي لنفحات الله إذا ذُكر أنّ خليفةً من خلفاء الله أو وليّاً من أوليائه أخبر عن أمر سيكون مبشّراً به أو منذراً مما لا يفي بدركه فوتك - وأنت أنت - فأصاب أن لا تبادر إلى التكذيب بأمثال ذلك وتستنكره، فإنك عند مراجعة عقلك وتصفّحك لأحوال نفسك، تجد كلّ ذلك ممكناً، وإليه سبيلاً.
بيان ذلك أن معرفة الأمور الغيبيّة / [63 أ] في النوم ممكنة، فوجب أن يكون في اليقظة كذلك.
أما الأول؛ فلأن الإنسان كثيراً ما يرى في نومه شيئاً ويقع بعده إما صريح تلك الرؤيا، أو تعبيرها (1)، وذلك يوضح ما قلناه:
أما في حق الرائي فظاهر.
وأما من لم يرزق ذلك في حال النوم، فإنه يعلمه بالتواتر من أكثر الخلق.
ص: 209
الثاني: فلأن ذلك لما صح في حال النوم لم يمكن الجزم بامتناعه في حال اليقظة، فإن الناس لو لم يجرّبوا ذلك في حال النوم، لكان استبعادهم له في تلك الحال أشد من استبعادهم لوقوعه في حال اليقظة، فإن عند عدم التجربة لو قيل لإنسان: إن جماعة من الأولياء اجتهدوا في تلويح مفكراتهم الصافية حال ماهم إيقاظ في تحصيل حكم غيبي فعجزوا.
ثم إن واحداً من الكفار لما نام وصار كالميت حصل له ذلك الحكم، فلا بدّ أن تكذب ذلك وتستنكره لعدم حصوله مع كمال الحركة، وسلامة الحواس عن الغلط (1)، وكمال العبادة وحصوله مع أضداد ذلك.
فقد بان بذلك أنه لما كان في حال النوم ممكناً كان في حال اليقظة كذلك.
أما المقام الثاني: وهو بيان السبب في الاطلاع على الأمور الغيبية؛ فأما في حال النوم فهو أنه قد ثبت في العلم الإلهي أن جميع الأمور - التي يَصْدُق عليها أنها كانت أو ستكون - معلومةٌ الله تعالى، وثبت أن النفس الإنسانية من شأنها الاتصال بجناب الله تعالى وإنما يعوقها عن ذلك استغراقها في تدبير البدن، فإذا حصل لها أدنى فراغ من ذلك كما في حال النوم وانغلقت عليها أبواب الحواسّ الظاهرة، رجعت بطباعها إلى الاتصال بالجناب المقدس، فينطبع فيها من الصور / [636 ب] الحاصلة هناك ما هو أليق بها من أحوالها، وأحوال ما يقرب منها من الأهل والولد وما يُهتمّ به.
ثم أن المخيّلة التي من طباعها المحاكاة تحاكي تلك المعاني الكلية الحاصلة للنفس، وتمثلها بصورة جزئية ولحْظها (2) إلى لوح الخيال الحافظ للصور، فتبقى تلك الصورة شاهدة للحس المشترك.
ثم إن كانت تلك الصور شديدة المناسبة لتلك المعاني بحيث لا .
ص: 210
افتراق بينهما إلا في الكلية والجزئية، كانت الرؤيا غنيّة عن التعبير.
وإن كانت المناسبة حاصلةً بوجه كمال إذا تُصُوّر المعنى بصورة ضده أو لازم من لوازمه أصبَح حينئذ إلى التعبير.
وفائدة التعبير: التحليل ورجوع الفكر بالعكس من الصورة الخياليّة إلى المعنى النفساني.
وإن لم يكن هناك مناسبة أصلاً، كانت الرؤيا أضغاث أحلام (1).
وأما في حال اليقظة فالسبب في ذلك هو أن النفس الناطقة متى قويتْ وكانت وافيةً بضبط الجوانب المتجاذبة، ولم يكن اشتغالها بتدبير البدن عائقاً لها عن ملاحظة مباديها والاتصال بالحضرة لإلهية، وكانت متخيلة بحيث تقوى على استخلاص الحس المشترك وضبطه عن الحواس الظاهرة، فإن النفس - والحال هذه - إذا توجّهت إلى الجناب المقدس لاستعلام ما كان أو ما سيكون، أُفيضت عليها الصورُ الكليّة لتلك الأمور.
ثم أن النفس تستعين في ضبط تلك الأمور الكلية بالقوة المتخيّلة فتحاكي تلك المعاني بما يشبهها من الأمور المحسوسة، ثم تحطّه إلى خزانة الخيال فيصير شاهداً للحس، فربما سمع الإنسان كلاماً / [64 أ] منظوماً، وشاهدَ منظراً بهياً، يخاطبه بكلام فيما يحبّه من أحواله، فإن كان لا تفاوت بين تلك المعاني والصور إلا في الكلية والجزئية، كان ذلك وحْياً صريحاً، وإلهاماً، وإلا احتاج إلى التأويل.
وأما المقام الثالث: وهو صدور الإخبار بالأمور الغيبية عنه، فستعلمها في مواضع كثيرة من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. .
ص: 211
لا يقال: لا نسلّم أن ذلك علم ألهمه الله إياه، وأفاضه عليه؛ بل الرسول عليه السلام أخبره بوقائع جزئية من ذلك، وحينئذ لا يبقى بينه وبين غیره فرق في هذا المعنى، فإن الواحد منا لو أخبره الرسول عليه السلام بشيء من ذلك لكان له أن يحكي ما قال الرسول وإن وقع المخبَر به على وَفق قوله، ويدل على ذلك قوله بعد وصف الأتراك (1)، وقد قال له بعض أصحابه في ذلك المقام: «لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب» فضحك وقال للرجل - وكان كلْبيّاً - يا أخا كلب ليس هذا بعلم غيب، وإنما هو تعلُّمٌ من ذي علم، وإنما علم الغيب علم الساعة، وما عدّده الله سبحانه من قوله: ﴿إن الله عنده علمُ الساعة وينزِّل الغيثَ ويعْلَم ما في الأرحام﴾ (2) من ذكر وأنثى، وقبيح وجميل، وشقيّ وسعيد، ومن يكون للنار حطباً، أو في الجنان للنبيين مرافقاً، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلّا الله، وما سوى ذلك فعلْمٌ علّمه الله نبيّه صلى الله عليه وآله فعلّمنيه، ودعا لي بأن يعيَه،صدري، وتَضْطَمٌ عليه جوانحي.
وهذا تصريح بأنه تعلّم من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؛ لأنا نقول: إنّا لم ندّع أنه عليه السلام كان يعلّم الغيب؛ بل المدعى أنه كان لنفسه / [64 ب] القدسية استعدادٌ أن ينتقش بالأمور الغيبية عن إفاضة جود الله تعالى. وفرق بين علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله وبين ما أدّعيناه فإن المراد بعلم الغيب هو .
ص: 212
العلم الذي لا يكون مستفاداً عن سبب يفيده، وذلك إنما يصدُق في حقّ الله تعالى. وكل علم لذي علم عداه فهو مستفاد من جوده، إما بواسطة أو بغير واسطة فلا يكون علم غيب وإن كان اطلاعاً على أمر غيْبيّ لا يتأهّل للاطلاع عليه كلُ الناس؛ بل يختص بنفوس خصّت بعناية إلهية كما قال تعالى: ﴿عالمُ الغَيْبِ فلا يُظهِرُ عَلى غَيْبه أحداً إلّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسولٍ﴾ (1).
وإذا عرفت ذلك ظهر أن كلامه عليه السلام صادقٌ مطابقٌ لما أردناه، فإنه نفى أن يكون ما قاله علم غيب؛ لأنه مستفاد من جود الله تعالى، وقوله: «إنما هو تعلّمٌ من ذي عِلم إشارةٌ إلى وساطة تعليم الرسول له وهو إعداد نفسه على طول الصُحبة بتعليمه وإرشاده له إلى كيفيّة السلوك، وأسباب التطويع والرياضة حتى استعد للانتقاش بالأمور الغيبية والإخبار عنها، وليس التعلم هو إيجاد العلم وإن كان أمراً قد يلزمه إيجاد العلم.
فتبيّن - إذن - أنّ تعليم رسول الله صلى الله عليه وآله له لم يكن مجردَ توقيفه على الصور الجزئية؛ بل إعداد نفسه بالقوانين الكلية، ولو كانت الأمور التي تلقّاها عن الرسول عليه السلام صوراً جزئية لم يحتج إلى مثل دعائه في فهمه لها؛ فإن فهم الصور الجزئية أمر ممكن سهل في حق من له أدنى فَهم وإنما يحتاج /[65 أ] إلى الدعاء وإعداد الأذهان له بأنواع الإعدادات هو الأمور الكلية العامة للجزئيات وكيفيّة انشعابها عنها وتفريعها وتفصيلها، وأسباب تلك الأمور المعدّة لإدراكها.
ومما يؤيد ذلك قوله عليه السلام: «علّمني رسول الله صلى الله عليه وآله ألْفَ باب من العِلْم فانفتح لي من كلّ باب ألْفُ باب» (2). .
ص: 213
وقول الرسول صلی الله علیه و آله و سلم «أُعْطِيتُ جوامعَ الكَلِم، وأُعْطِي عليُّ جوامعَ العلم» والمراد بالانفتاح؛ ليس إلا التفريع وانشعاب القوانين الكلّية عمّا هو أعمّ منها.
وبجوامع العلم ليس إلّا ضوابطه وقوانينه في قوله «وأعطى» بالبناء للمفعول دليل ظاهر على أن المعطى جوامع العلم ليس هو النبي؛ بل الذي أعطاه ذلك هو الذي أعطَى النَّبيَّ جوامعَ الكَلِم، وهو الله سبحانه وتعالى.
أما الأمور التي عدّدها الله سبحانه فهي من الأمور الغيبية، وقوله: لا يعلمها أحدٌ إلّا الله تعالى، كقوله تعالى: ﴿وعنده مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلا هُوَ﴾ (1) وهو محتمل للتخصيص كما في قوله: ﴿عالم الغيب فلا يُظْهِرُ على غيْبه أحداً إلّا مَن ارتضى مِن رسول﴾ (2) وهذا الأمر واضح لا يحتاج العاقل في استكشافه إلى كَلَفه وسيجيء في أثناء الشرح ما يزيد ذلك وضوحاً إن شاء الله تعالى.
البحث الثاني: في بيان صدور الأفعال الخارقة للعادة عنه عليه السلام، والنظر أيضاً إما في إمكان ذلك وفي سببه أو في نفس وقوعه عنه.
المقام الأول: في إمكانه وأسبابه.
واجب على من أيّده الله سبحانه لاستشراق أنواره إذا سمع أن وليّاً من الأولياء أتى بفعل ليس في وسع غيره من أبناء نوعه الإتيان بمثله كالإمساك عن الطعام المدة المديدة التي ليست في وسع أبناء نوعه، وكالتحريك أو الحركة الخارجة عن وسع مثله وكما / [95 ب] نشاهد من .
ص: 214
طُوفانات (1) تقع باستدعائهم، وزلازل (2)، واستنزال عقوبات وخَسْف بقوم (3) حَقّ عليهم القول، واستشفاء المرضى، واستسقاء العطْشى وخضوع عُجْم الحيوانات وغيره.
أن لا يبادر إلى التكذيب، فإنه عند الاعتبار تجد تلك الأمور ممكنةً في الطبيعة.
أمّا الإمساك عن القوت فتأمل إمكانه فينا؛ بل وجوده عند عروض عوارض غريبة لنا:
إما بدنية كالأمراض الحادة.
وإما نفسانية كالخوف والغمّ.
وسبب الإمساك في حال المرض.
أما في الأمراض البدنيّة، فإن القوى الطبيعية تشتغل بهضم المواد الرديئة عن تحريك المواد المحمودة، فتجد المواد المحمودة حينئذ محفوظة قليلة التحلّل، غنيّة عن طلب البدل لما يتحلّل، فربما انقطع الغذاء عن صاحبها مدة لو انقطع مثله عنه في غير حالته تلك عُشر تلك المدّة هَلك، وهو مع ذلك محفوظة الحياة.
[66 أ] وأما النفسانيّة، فإنه قد يعْرض بعروض الخوف للخائف سقوط الشهوة، وفساد الهضم، والغمّ عن الأفعال الطبيعية التي كان متمكّناً .
ص: 215
منها قبل الخوف؛ لوقوف القوى الطبيعية عن أفعالها بسبب اشتغال النفس بما أغمَّها عن الالتفات إلى تدبّر البدن.
وإذا عرفت إمكان ذلك بسبب العَوارض الغريبة، فاعلم أن سبب تحقّقه في حقّ العارف هو توجّه نفسه بالكلّية إلى عالم القدس المستلزم تشبّع القوى البدنيّة لها، وذلك أن النفس المطمئنة إذا راضت القُوى البدنية انجذبتْ القوى خلْفَها في مهمّاتها التي تنزعج إليها، واشتداد ذلك الانجذاب بشدة الجذْب، فإذا اشتد الاشتغال عن الجهة المولَّى عنها، وقفت الأفعال الطبيعيّة المتعلقة بالقوّة النباتية، فلم يكن من التحليل إلا دون ما يكون في حال المرض؛ لاختصاص المرض في بعض بما يقتضي الاحتياج إلى الغذاء؛ كتحلّل رطوبات البدن بسبب عروض الحرارة الغريبة المسماة بسوء المزاج الحار؛ لأن الغذاء إنما يكون لسدِّ بدلِ ما يتحلّل من تلك الرطوبات، وشدة الحاجة إلى الغذاء إنما يكون بحسب كثرة التحليل وكقصور القوى البدنية بسبب المرض المضاد له، وإنما الحاجة إلى حفظ تلك الرطوبات لحفظ تلك القوى؛ إذ كانت مادّة الحرارة الغريزيّة المقتضية لتعادل الأركان الذي لا تقوم تلك القوى إلا معه وشدة الحاجة إلى ما يحفظ تلك القوى إنما هي بحسب شدة فتورها.
وأما العرفان: فإنه مختصّ بأمر يوجب الاستغناء عن الغذاء؛ وهو سكون البدن عند إعراض القوى البدنية عن أفعالها حال متابعتها للنفس، وانجذابها خلفها حال توجّهها إلى الجناب المقدس وتطعّمها بلذة معارفة الحق، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام: لست كأحدكم أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني وإذا عرفت ذلك ظهر أن المرض وإن اقتضى الإمساك الخارق للعادة، إلا أن العرفان بذلك الاقتضاء أولى.
وأما القدرة على الحركة التي تخرج من وسع مثله، فهي أيضاً ممكنة [66 ب]/ وبيانها: أنك علمت أن مبدأ القوى البدنية هو الروح الحيواني، فالعوارض التي تعرض للإنسان: تارة تقتضي انقباض الروح
ص: 216
بحركةٍ إلى داخل؛ كالخوف والحزن، وذلك يقتضي انحطاط القوة وسقوطها.
وتارة تقتضي حركة إلى خارج كالغضب، وانبساطاً معتدلاً؛ كالفرح المطْرِب، والانتشاء المعتدل، وذلك يقتضي ازدياد القوة ونشاطها.
وإذا عرفت ذلك، فاعلم أنه لمّا كان فرح العارف ببهجة الحقِّ أتمّ وأعظم من فرح من (1) عداه بما عداها وكانت الغواشي التي تغشاه وتحركه اعتزازاً بالحق وحميّة ربانيّة أعظم مما يعرض لغيره، لا جَرم كان اقتداره على حركة غير مقدورة لغيره أمكن.
وأما السبب في الأمور الباقية فهو أنه قد ثبت في غير هذا الموضع أن تعلّق النفس بالبدن ليس تعلق انطباع فيه، وإنما هو على وجه أنها مدبّرة له مع تجرده ثم إن الهيئات النفسانية قد تكون مبادىء لحدوث الحوادث.
وبيانه أما أولاً، فلأنك تشاهد إنساناً يمشي على جذع ممدود على الأرض، ويتصرف عليه كيف شاء، ولو عرض ذلك الجذع بعينه على جدار عال لوجدته عند المشي عليه راجفاً (2) متزلزلاً يواعده ويهمّه بالسقوط مرة بعد أخرى؛ لتصوّره وانفعال بدنه عن وجهه حتى ربما سقط.
وأما ثانياً؛ فلأن الأمزجة تتغير عن العوارض النفسانية كثيراً، كالغضب والخوف والحرمان والفرح وغير ذلك، وهو ضروري.
وأما ثالثاً؛ فلأن توهّم المرض والصحة قد يوجب ذلك، هو أيضاً ضروري.
إذا عرفت ذلك فتقول: إنه لما كانت الأمزجة قابلةً لهذه الانفعالات .
ص: 217
عن هذه الأحوال النفسانية، فلا مانع لبعض النفوس خاصّية لأجلها تتمكن من التصرّف في عنصر هذا العالم بحيث يكون لنسبتها إلى كلية العناصر كنسبة أنفسنا إلى أبداننا فيكون لها حينئذ تأثير في إعداد المواد العنصرية لأن يُغَاصَ عليها صورُ الأمور الغريبة التي تخرج عن وسْع مثلها، فإذا انضمّتْ إلى ذلك الرياضات فانكسرت سَوْرة الشهوة (1)/[67 أ] والغضب، وبقيتا أسيرتين في يد القوة العاقلة، فلا شك أنها حينئذ تكون أقوى على تلك الأفعال.
وتلك الخاصّية: إما عيب المزاج الأصلي، أو عيب مزاج طارىء غير مكتسب، أو بحسب الكسب والاجتهاد في الرياضة، وتصفية النفس.
والذي يكون بحسب المزاج الأصلي فذو المعجزات من الأنبياء والكرامات من الأولياء فإن انضم إليها الاجتهاد في الرياضة، بلغت الغاية القصوى في ذلك الكمال.
وقد تغلب على مِزاج من له هذه الخاصّية أن يستعملها في طرف الشر، وفي الأمور الخبيثة، ولا يزكي نفسه كالساحر فيمنعه خبثه عن الترقي إلى درجة الكمال.
واعلم أن الشرط الأول للنبوة أن يكون الشخص مأموراً من السماء بإصلاح النوع، ثم من لواحق مرتبة الأنبياء أمور:
الأول: أن يستغنوا في أكثر علومهم عن معلّم بشري؛ بل تحصل لهم بحسب قواهم الحدْسية القدْسية الشريفة البالغة، وشدة اتصال نفوسهم بالحق سبحانه.
الثاني: أن يكون هيولى (2) العالم طوعاً لما أرادوا من الأمور العجيبة 3
ص: 218
الخارقة للعادة كالخسْف والتحريكات والتسكينات.
الثالث: أن يتمكنوا من الاخبار عن المغيبات والأمور الجزئية الواقعة في الماضي أو في المستقبل.
والشرط الأول هو العمدة في تمييز درجة الأنبياء عن غيرهم، ولا شك أن اختصاصهم به إنما هو لشدة اتصالهم، فإذن هم أشد اتصالاً بالمبدأ الأول، وأكمل قوة من غيرهم، ولكنّ اختلاف مراتبهم عائدٌ أيضاً إلى تفاوت نفوسهم في قربها من المبدأ، أو اتصالها به.
وأما باقي الخصال فقد يشاركهم فيه الأولياء، ويجتمع فيهم، وإلى هذا المعنى أشار النبي صلی الله علیه و آله و سلم بقوله: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل (1)، وكان التفاوت بين المعجزة والكرامة (2) إنما يرجع إلى أن الخصال ة.
ص: 219
المذكورة إن صدرت عمن له الشرط الأول سميناه: معجزاً.
وإن صدرت عن غيرهم كانت في حقه كرامة. وتحقيق هذه المباحث بُني على مقدماتٍ وأصول ليس هذا موضع ذكرها، فليطلب ذلك من مظانّها، وبالله التوفيق.
المقام الثاني: في وقوع الفعل الخارق عند علي عليه السلام.
واعلم أن الطريق إلى ذلك هو النقل، وقد نقل عنه ذلك في صور ثبت بعضها بحسب التواتر (1)، وبعضها بخبر الآحاد (2)/[67 ب].
فمن الأمور الخارقة المنقولة عنه بحسب التواتر: قلعه لبابِ خيْبر لمّا انتهى إليه، وكان من صخرة واحدة يعجز الجماعة عن تحريكه، وروي في كيفية حاله في ذلك أنه لما اقتلعه وجَابَهُ (3) أذرعاً، واجتمع عليه سبعون رجلاً، وكان جهدهم أن أعادوه إلى مكانه، وروي أنه قال: عالجت باب خيبر وجعلته مخبأً لي، وقاتلت القوم، فلما أخزاهم الله، وضعت الباب على خصمهم طريقاً، ثم رميتُ به في خندقهم، فقال له رجل: لقد حملت يا أمير المؤمنين منه ثقلاً فقال: ما كان إلا مثل جُنتّي التي في يدي في غير ذلك المقام.
ومعلوم أن ذلك لم يصدر عن قوة بدنيّة وإلا لقدر على ذلك من هو .
ص: 220
أقوى صورة منه، ولذلك قال عليّ: والله ما قلعتُ باب خيبر بقوة جسدانية؛ ولكن قلعته بقوة ربانية (1)، وللشعراء في هذه الآية أشعار كثيرة، والقصة مشهورة.
فهذا القدر يكفينا في بيان فضائله عليه السلام، وعليك في باقي الأمور المنقولة عنه في ذلك بالكتب المصنّفة في بيان معجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء.
ولقد اجتهد بنو أمية (2) في إخفاء فضائله، وإطفاء نوره بالتحريف، ووضع المعايب والمثالب حتى سبّوه على جميع المنابر، ومنعوا أن يُروى حديث يتضمّن له فضيلة وأن يُسمى باسمه أحد، فلم يزدد بذلك الإخفاء إلا ظهوراً، ولم يُثمر ذلك الإطفاء إلا نوراً، ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (3)
وكان مولده عليه السّلام قبل ظهور دعوة النبي صلی الله علیه و آله و سلم بثلاث عشرة سنة، وقيل: اثنتي عشرة سنة، وقيل عشر سنين.
وقُتل ليلةَ الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقين من شهر رمضان من سنة .
ص: 221
أربعين من هجرة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم بجامع الكوفة، وهو ابن ثلاث وستين سنة. فهذا ما أردنا من هذه المقدمة لنشرَع بعدها في تقرير المطالب وقبله بذكر نسب السيد الرضيّ رضي الله عنه ونبيّن ما عساه يشكل من لفظه في خطبة الكتاب.
أما نسبه فهو سيد الشريف رضيّ الدين ذو الحسبين محمد بن الطاهر ذي المناقب / [68 أ] أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام.
وصف بذي الحسَبيْن؛ لاجتماع أصله الفاخر الذي هو منبع الحسب مع فضيلة نفسه وكمالها بالعلم والأدب.
وكان مولده ببغداد سنة تسع وخمسين وثلاثمائة.
وتوفي في المحرم سنة ست وأربعمائه بالكرخ من بغداد.
ودفن مع أخيه المرتضى في جوار جده الحسين عليه السلام.
ص: 222
1 - فهرس الآيات القرآنية.
2 - فهرس الأحاديث النبوية.
3 - فهرس أقوال الإمام علي.
4 - فهرس الأمثال.
5 - فهرس الأبيات الشعرية.
6 - فهرس أنصاف الأبيات.
7 - فهرس الأعلام.
8 - فهرس اللغة.
9 - فهرس المنطق.
10 - فهرس المراجع.
11 - فهرس الموضوعات.
ص: 223
ص: 224
الفاتحة 4 - 136:5.
البقرة 187: 43.
البقرة 228: 55.
البقرة 49: 132.
البقرة 1 - 2: 151.
البقرة 179: 155.
البقرة 111: 164.
آل عمران 159: 98.
آل عمران 26: 135.
النساء 83: 78.
النساء 115: 152.
المائدة 38: 97.
المائدة:8: 132.
المائدة 117: 109.
الأنعام 40 - 144:14.
الأنعام 10: 187.
الأنعام 59: 214.
الأعراف 31: 132.
الأنفال 12: 97.
الأنفال 2: 158.
التوبة 134:81.
التوبة 93: 160.
التوبة:32: 221.
يونس 22: 136.
هود 105 - 106 - 108: 137.
يوسف 36: 96.
یوسف 82: 98.
یوسف 21: 101.
يوسف 90: 157.
يوسف 43: 209.
يوسف 44: 211.
الرعد 15: 60.
الرعد 10: 134.
الرعد 40: 161.
إبراهيم 6: 132.
إبراهيم 50: 146.
النحل 112: 121.
النحل 125: 164.
ص: 225
الإسراء 105: 132.
الإسراء 40: 143.
الإسراء 23: 145.
الإسراء 16: 215.
الكهف 104: 78.
الكهف 18: 90.
الكهف 71 - 74: 143.
الحج 18: 58.
الحج 1: 156.
النور 1: 154.
الشعراء 168: 80.
الشعراء 22 - 26: 139.
القصص 73: 137.
القصص 45: 152.
القصص 81: 215.
الروم 43: 79.
لقمان 34: 212.
الأحزاب 56: 58 - 59.
الأحزاب 45: 138.
سبأ 24: 139.
فاطر 3: 91.
فاطر 5: 156.
فاطر 28: 160.
سورة يس 2: 153: 143.
الزمر 67: 138.
الزمر 9: 153.
فصلت 6: 158.
الشورى 40: 96.
الشورى 11: 98.
الزخرف 57: 194.
محمد 21: 154.
الفتح 10: 96.
الحجرات 10: 158.
القمر 24: 144.
الرحمن 54: 80.
الواقعة 75 - 76: 135.
الحشر 23: 138.
الجمعة 5: 118.
القلم 10: 138.
الحاقة 12: 195.
الجن 26 - 27 - 117: 213 - 214.
القيامة 29 - 30: 75.
الإنسان 8 - 9: 195.
الانفطار 13 - 14: 50.
الليل 5 - 10: 135.
الضحى 9 - 10: 73.
الزلزلة 2: 94 - 95.
العاديات 7 - 8: 78 - 79.
ص: 226
1 - الظلم ظلمات يوم القيامة ... 79
2 - اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا ... 84
3 - المؤمنون هيِّنون ليِّنون ... 85
4 - إياكم وخضراء الدمن ... 108
5 - مثل المؤمن كمثل النخلة ... 120
6 - أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ... 168
7 - إنه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبرّ لي منها، وإنما البستها قميص لتكسي من حلل الجنة وإنما اضطجعت معها لتأمن من ضغطه القبر ... 193
8 - لولا أن تقول فيك طوائف أمتي ما قالت النصارى في عيسى لقلت
اليوم فيك مقالاً لا تمر بعده بملأ منهم إلا أخذوا التراب من تحت قدميك ... 194
9 - اللهم اجعلها أذن علي ... 195
10 - اللهم أدر الحق مع علي حيث دار ... 195
11 - أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيَّ بعدي ... 195
12 - من كنت مولاه فعلي مولاه ... 196
13 - أقضاكم علي ... 196
14 - أعطيت جوامع الكلم وأعطي علمي جوامع العلم ... 196
ص: 227
15 - أمير النحل علي ... 197
16 - أنا مدينة العلم وعلي بابها ... 198
17 - اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب والحور بعد الكور
وسوء المنظر من الأهل والمال ... 202
18 - إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي ... 204
19 - علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل ... 219
ص: 228
1 - والله لأغزون قريشاً ... 52
2 - بلَّغ عن ربه معذراً، ونصح لأمته مبذراً ... 73
3 - جاهل خبَّاط،جهالات عاس ركّاب عشوات ... 80
4 - كثرة الوفاق نفاق وكثرة الخلاف شقاق ... 84
5 - عهدكم شقاق، ودينكم نفاق، وماؤكم زعاق ... 84
6 - لاحم صدوع انفراجها ولاءم بينها وبين أزواجها ... 85
7 - الحمد لله غير مفقود الإنعام ولا مكافا الإفضال ... 85
8 - علا بجولة ودنا بطوله ... 86
9 - أولها عناء، وآخرها فناء ... 86
10 - بیت لا تهدم أركانه وعز لا تهزم أعوانه ... 86
11 - كأني بمجسدكم هذا كجوجؤ سفينة ... 102
12 - كأني أراهم قوماً كأن وجوههم المجانّ المطرَّقة ... 102
13 - أداريكم كما تدارى البكار العَمِدة والثياب المتداعية ... 102
14 - أما إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه ... 103
15 - أما بعد فإن الأمر ينزل من السماء إلى الأرض كقطر المطر ... 103
16 - كأني بك يا كوفة تمدين مدّ الأديم العكاظي ... 103
17 - اختاره من شجرة الأنبياء ... 125
18 - الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ... 126
19 - إنه حبل الله المتين وفيه ربيع القلب، وينابيع العلم ... 126
ص: 229
20 - وبنا انفجرتم عن السرار وُقِر سمعٌ لا يفقه الواعية ... 136
21 - الحمد لله غير مقنوط من رحمته، ولا مخلوّ من نعمته ولا مأيوس من مغفرته ... 138
22 - هانت على ربها فخلط حلالها بحرامها، وخيرها بشرها ... 140
23 - إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحَّم ... 154
24 - قيمة كل امرىء ما بحسنه المرء عدو لما جهله الجزع أتعب من الصبر، تخففوا تلحقوا ... 155
25 - إنا لم نحكمّ الرجال، وإنما حكَّمنا القرآن ... 158
26 - لو أمرت به لكنت قاتلاً ... 171
27 - أفأمرهم الله بالاختلاف فأطاعوه ... 172
28 - منهم سجود لا يركعون، ومنهم ركوع لا يسجدون ... 185
29 - المرء المسلم البريء من الخيانة ينتظر إحدى الحنسيين ... 185
30 - أما بعد، فإن الدنيا قد أدبرت وأذنت بوداع، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرقت باطلاع ... 187
31 - أما الإمرة البرة فيعمل فيها التقي، وأما الإمرة الفاجرة فيتمتع فيها الشقي ... 187
32 - أنا يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الفجار ... 197
33 - لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً ... 204
34 - الهي ما عبدتك خوفاً من عقابك، ولا رغبة في ثوابك، ولكن وجدتك أهلا
للعبادة فعبدك ... 205
35 - لا تجعلوا بطونكم مقبرة للحيوان ... 206
36 - علمني رسول الله ألف باب. كل باب يفتح ألف باب ... 213
37 - لست كأحدكم أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ... 216
ص: 230
1 أخذ القوس باريها ... 109
2 هو كالرقم على الماء ... 109
3 كالحادي وليس له بعير ... 109
4 كمن يجمع السيفين في غمد ... 110
5 لا يطاع بقصير أمر ... 118
6 القتل أنفى للقتل ... 155
ص: 231
ص: 232
- الهمزة -
صدر البيت ... القافية ... الشاعر ... الصفحة
ويصعد ... السماء ... أبو تمام ... 122
لا تسقني ... بكائي ... أبو تمام ... 123
- ب -
يمدون ... قواضب ... أبو تمام ... 77
ضرائب ... ضريبا ... السري الرفاء ... 81
- ت -
يبيت بمنجاة ... حلّت ... الشنفري ... 128
- ج -
كأن أصوات ... الفراريج ... ... 53
إن المروءة ... الحشرج ... زياد الأعجم ... 128
- ح -
وبدا الصباح ... يمتدح ... محمد بن وهب ... 114
وكأن البرق ... وانفتاحا ... ابن المعتز ... 112
- د -
كريم ... وحدي ... ابو تمام ... 74
اعتقني ... كبدي ... ابن الرومي ... 113
ص: 233
صدر البيت ... القافية ... الشاعر ... الصفحة
واستبدت ... لا يستبد ... عمر بن أبي ربيعة ... 81
نهبت ... خالد ... المتنبي ... 139
وكأن معمر الشقيق ... تصعد ... الصنوبري ... 117
- ر -
وفير حرب ... قبر ... ينسب إلى الجن ... 74
يسار ... اليسار ... السري الرفاء ... 80
نوي ... الغمر ... أبو تمام ... 83
إذا ما نهى ... الهجر ... البحتري ... 135
شتان ... جابر ... الأعشى ... 137
من القاصرات ... لأثر ا ... امرؤ القيس ... 140
فان غادر ... غادر ... - ... 141
لا تعجبوا ... القمر ... ابن طباطبا ... 122
- س -
قامت ... الشمس ... ابن العميد ... 122
- ع -
ولم يحفظ ... المضاع ... أبو تمام ... 81
ففعلك ... مطاع ... البحتري ... 82
كأن بصاص ... وقوع ... - ... 103
كأنما المريخ ... الرفعة ... التنوخي ... 111
تقصي السفين ... کرع ... - ... 116
قد أصبحت ... أصنع ... أبو النجم ... 145
شجو ... واع ... البحتري ... 153
ص: 234
صدر البيت ... القافية ... الشاعر ... الصفحة
- ف -
حسامك ... حتف ... - ... 83
- ق -
أهديت ... أخلاقه ... الصاحب بن عباد ... 104
أرقب ... الخافق ... كشاجم ... 107
فكأن أجرام النجوم ... أزرق ... أبو طالب الراقي ... 110
- ك -
إذا هزه ... الضواحك ... تأبط شراً ... 124
- ل -
هو البحر ... ساحله ... أبو تمام ... 24
وإن لا يكن ... قليلها ... ذو الرمة ... 83
فإن تفق ... الغزال ... المتنبي ... 113
كان عاشق ... مرتجل ... الأخطل ... 116
فقتل ... بكلكل ... امرؤ القيس ... 121
الا كل شيء ... زائل ... لبيد ... 137
إن محلا ... مهلا ... الأعشى ... 157
- م -
ومن كان بالبيض ... مغرما ... أبو تمام ... 82
فمنظرها ... حمام ... - ... 126
الخبل ... والقلم ... المتنبي ... 138
ص: 235
- ن -
كلكم ... جاملنا ... البستي ... 79
سكران ... سكران ... الخليع الدمشقي ... 80
لا كان إنسان ... إنسانها ... - ... 81
إذا المرء ... بخزان ... امرؤ القيس ... 82
ومضطلع ... عاني ... الحريري ... 82
فمشغوف ... المثاني ... الحريري ... 82
كفي بجسمي ... ترني ... المتنبي ... 140
إن شواء ... الأقون ... سلمى بن ربيعة ... 157
- الألف اللينة -
ساق ... قاسی ... - ... 83
أس ... أسا ... الحريري ... 84
- الياء -
أشاب ... العشي ... الصلتان العبدي ... 95
ص: 236
أيا من رمى قلبي بسهم فأنفذا ... 8 ... 123
إذا أصبحت بيد الشمال زمامها ... - ... 124
أريقك أم ماء الغمامة أم حمز ... المیتني ... 139
رمتني بسهم ريشه الكحل لم يضر ... کثیر ... 121
كأنها فضة قد مسها ذهب ... ذو الرمة ... 117
لدي أسد شاكي السلاح مقذف ... زهیر ... 121
ليت عينيه سواء ... بشار ... 139
وإذا المنية انشبت أظفارها ... أبو ذؤيب ... 122
وسالت بأعناق المطي الأباطح ... كثير - أو ابن الطثرية - أو نصيب ... 23
ولو شئت أن أبكي دماً لبكيته ... الخريمي ... 154
ص: 237
ص: 238
آدم: 199.
ابن الأثير: 76.
أحمد بن حنبل: 202.
الأخفش: 44.
أرسطو: 170.
أبو الأسود الدؤلي: 202.
الأشتر النخعي: 207.
الأشعري: 200.
الأصمعي: 44.
بنو أمية: 221.
الباقلاني: 57.
الباهلي: 44.
النجراني: 69 - 66 - 65.
بقراط: 168.
البيهقي: 26.
الجاحظ: 95.
جالينوس: 168.
الجبائي: 57.
جعفر الصادق: 201.
حاتم: 105.
ابن أبي الحديد: 22.
الحريري: 73.
الحسن البصري: 200.
أبو الحسن المدائني: 106.
أبو حنيفة: 201.
ابن خالويه: 44.
الخليل بن أحمد: 71.
ابن دريد: 44.
الراوندي: 57.
الربيعة: 201.
الرفائي: 44.
الزجاج: 44.
ابن السراج: 44.
سقراط: 164.
سيبويه: 142.
السيوطي: 45.
ص: 239
الشافعي: 57 - 201.
الشريف ارضي: 21.
طالب: 193.
السطوحي البغدادي: 103.
ابن عباس: 201.
عبد الجبار القاضي: 57.
عبد القهر الجرجاني: 67 - 103.
عثمان: 171.
عكرمة: 201.
علي بن عيسى: 69 - 146.
أبو علي الفارسي: 67.
عمرو بن معد يكرب: 105.
عمار بن یاسر: 196.
فاطمة بنت أسد: 193.
فاطمة بنت الخرشب: 106.
الفخر الرازي: 40.
قطرب: 44.
الكرخي: 58.
كعب الأشعري: 106.
مالك: 201.
المبرد: 044
محمد الجويني: 24.
المفصل بن سلمة: 44.
ابن نباتة: 202.
النحاس
نصير الدين الطوسي
أبو نعيم الحافظ: 197.
ابو هاشم: 57.
واصل بن عطاء: 73.
240
ص: 240
فهرس اللغة
الاعتبار: 19.
أساطين: 20.
اعرج به: 22.
اكتحل: 22.
الأقضية والأقدار 25.
آب: 38.
الاشتقاق: 44.
الأسلة: 71.
أس: 84.
الأديم العكاظي: 103.
الأطيط: 104.
اشنق: 154.
أسلس: 154.
الأرصاد: 175.
انحسم: 175.
استماح: 181.
الابريز: 186.
أيالة: 208.
استمرار القتل: 212.
بدرت 23.
البكار العمدة: 102.
تضاعيف: 25.
تامر: 49.
تواليه: 63.
تقحم: 154.
تعبير الرؤيا: 209.
تضطم: 212.
الثواقب: 23.
حؤحؤ: 102.
الجزيرة: 205.
جاب الباب: 220.
حسر 19.
الحباء: 22.
صنف: 83.
الحدس: 199.
الحور بعد الكور: 202.
الخلل: 26.
خباط: 80.
ص: 241.
خرم: 154.
الخصاصة: 181.
خطلة: 198.
دامس: 77.
دمنه: 108.
ذيول الظلام: 23.
الذلاقة: 66.
الذمام: 78.
الذب: 192.
الرغائب: 23.
الرصدة: 175.
الرمقة: 191.
راجفاً: 119.
الزمام: 78.
سال: 77.
سارب: 134.
سحنه: 166.
السريرة: 169.
السان: 175.
السرمد: 190.
السرق: 212.
سورة الشهوة: 218.
الشباة: 71.
شجو: 153.
الشارع: 191.
حروف: 22.
صنو: 24.
الصارم: 25.
الصبوح: 41.
الصنيعة: 181.
طل: 24.
الطود: 25.
الظاهر: 40.
عبقة: 21.
عشوات: 80.
عرا: 84.
عداه: 153.
العسف: 179.
عرفه: 197.
غوائل: 23.
الغبوق: 41.
الغواشي: 217.
الفصيل: 198.
القرء: 55.
القدوس: 138.
القاصرات الطرف: 140.
القاصعة: 197.
الكزازه: 72.
کبید: 77.
لا جرم: 27.
لابن: 49.
اللباء: 63.
ص: 241
لوثه: 116.
مضمار: 19.
يعتكف: 19.
منتجب: 20.
مسحة: 21.
مبددا: 21.
مآرب: 25.
المقصد الأقصى: 26.
الماهية: 31.
المجمل والمؤول: 40.
المحكم والمتشابه: 41.
مؤقتة: 48.
مطلقة: 48.
معقود: 77.
المجان المطرقة: 212.
مقنوط: 138.
الموقصة: 140.
محول: 140.
مشاورة: 189.
منامزة: 189.
مشاجرة: 189.
المسالح: 175.
المدارج: 175.
المتجريز: 179.
منة: 181.
المحافل: 184.
مواقبة: 188.
موبقة: 190.
النواويس: 20.
النص: 40.
النفر: 168.
الهذر: 49 - 42.
الهس: 72.
وابل: 24.
يعزب: 19.
يحزنه: 167.
يعسوب: 197.
ص: 242
ص: 243
المتواطىء: 38.
المشكك: 38.
المتباين: 38.
المترادف: 50.
التوكيد: 52.
المشترك: 54 - 55.
الثنية: 70.
المنحرف: 70.
النطعية: 70.
الأسيلية: 71.
اللثوية: 71.
الشفعية: 71.
الخيشوم: 71.
ص: 244
ص: 245
المتلكمون - المفسرون - الفقهاء - الفصهاء.
المتلكلمون: 199.
المفسرون: 201.
الفقهاء: 201.
الفصحاء: 202.
المعتزلة: 1919.
الشيعة: 200.
أهل السنة: 201.
النحويون: 202.
الصوفية: 202.
ص: 246
الدلالة: 29.
دلالة المطابقة: 29.
دلالة التضمن: 29.
دلالة الالتزام: 29.
الماهية: 31.
الدلالة الحقيقية: 32.
الرسم التام: 33.
الرسم الناقص: 33.
الكلي والجزئي: 34.
الحد التام: 35.
الحد الناقص: 35.
الفصل القريب: 36.
النوع: 36.
الجنس القريب: 36.
الجنس البعيد: 36.
جنس الأجناس: 36.
جنس الفصل: 36.
فصل الفصل: 36.
العرض: 37.
القياس: 169 - 170.
البرهان: 164.
الجدل: 164.
الاستقراء: 169.
الهيولي: 218.
ص: 247
1 - أخبار أبي تمام، الصولي، لجنة التأليف.
2 - أسرار البلاغة عبد القاهر الجرجاني، الاستقامة.
3 - الإشارات والتنبيهات في علم البلاغة محمد بن علي الجرجاني، نهضة مصر.
4 - أصول البلاغة، كما الدين ميثم البحراني، دار الشروق.
5 - الأعلام الزركلي، ط 2.
6 - الأغاني، الأصفهاني، دار الكتب.
7 - الإكسير في علم التفسير الطوفي البغدادي، النموذجية.
8 - أنباه الرواة، القفطي، دار الكتب.
9 - الإيضاح الخطيب القزويني، النموذجية.
10 - بصائر ذوي التمييز، الفيروز أبادي، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية.
11 - بغية الوعاة، السيوطي، عيسى الحلبي.
12 - البلاغة المبرد الشعب.
13 - البيان والتبيين، الجاحظ الخانجي.
14 - التبيان في علم البيان ابن الزملكاني، بغداد.
15 - تجديد علم المنطق، عبد المتعال الصعيدي، النموذجية.
16 - تفسير الطبري، الطبري، الأميرية.
17 - تهذيب التهذيب ابن حجر، 1325 ه.
ص: 248
18 - جمهرة الأمثال أبو هلال العسكري، القاهرة.
19 - حسن التوسل التنوخي، العراق.
20 - حقائق التأويل، الشريف الرضي، بيروت.
21 - خلية الأولياء، أبو نعيم الحافظ.
22 - الحماسة، أبو تمام، السعودية.
23 - دقائق السحر في حدائق الشعر، الوطواط لجنة التأليف والترجمة والنشر.
24 - دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، المنار.
25 - ديوان الأعشى الكبير النموذجية.
26 - ديوان امرىء القيس، دار المعارف.
27 - ديوان البحتري دار المعارف.
27 - ديوان بشار لجنة التأليف.
28 - ديوان تأبط شراء النجف.
29 - ديوان أبي تمام دار المعارف.
31 - ديوان الخريمي بغداد.
32 - ديوان ذي الرمة دمشق.
33 - دیوان زهير دار الكتب.
34 - ديوان السري الرفاء، ط - العراق.
35 - ديوان الصاحب بن عباد ط بغداد.
36 - ديوان عمر بن أبي ربيعة مصر.
37 - ديوان كثير عزّة، بيروت.
38 - ديوان لبيد، الكويت.
39 - ديوان المتنبي، لجنة التأليف.
40 - المعاني الكبير ابن قتيبة الدينوري، الهند.
41 - ديوان ابن المعتز العراق.
42 - ديوان الهذليين، دار الكتب.
ص: 249
43 - سر الفصاحة، ابن سنان صبيح.
44 - سنن الترمذي، تحقيق أحمد عزت، مصطفى الحلبي.
45 - سنن ابن ماجه تحقیق محمد فؤاد عبد الباقي، عيسى الحلبي.
46 - شذرات الذهب ابن العمار، ط 1351.
47 - شروح التلخيص، القزويني وآخرين، عيسى الحلبي.
48 - الشعر والشعراء ابن قتيبة دار المعارف.
49 - صحيح البخاري، البخاري، الميمنية.
50 - صحيح الترمذي، المجلس الأعلى.
51 - صحیح مسلم، مسلم، عيسى الحلبي.
52 - الصناعتين أبي هلال العسكري عيسى الحلبي.
53 - ضحى الإسلام أحمد أمين، النهضة المصرية.
54 - طبقات ابن المعتز ابن المعتز دار المعارف.
55 - الطراز العلوي، المقتطف.
56 - فجر الإسلام أحمد أمين، النهضة المصرية.
57 - فوات الوفيات الكتبي، السعادة.
58 - الكتاب سيبويه، الأميرية.
59 - كتاب البديع ابن منقذ مصطفى الحلبي.
60 - الكشاف، الزمخشري، الاستقامة.
61 - كشف الخفاء العجلوني، لبنان.
62 - اللسان ابن منظور بولاق.
64 - لسان الميزان العسقلاني، الهند.
65 - المؤتلف والمختلف، الآمدي، 1354 ه.
66 - المثل السائر ابن الأثير، نهضة مصر.
67 - المجازات النبوية الشريف الرضي، مصطفى الحلبي.
68 - مجمع الأمثال الميداني محيي الدين.
69 - مذكرة في علم الأصول، الطودي، 1933.
ص: 250
70 - المزهر السيوطي، عيسى الحلبي.
71 - معجم الأدباء، ياقوت الحموي، عيسى الحلبي.
72 - معجم الشعراء المرزباني، عيسى الحلبي.
73 - المفضليات الضبي، دار المعارف.
74 - مقامات الحريري، الحريري، بيروت.
75 - الموسوعة العربية الميسرة، إشراف محمد شفيق غربال، 1965.
76 - الموشح، المرزباني، نهضة مصر.
77 - نهاية الإيجاز، الفخر الرازي، 1317 ه.
78 - نهج البلاغة الإمام علي الشعب.
79 - النكت الرماني، دار المعارف.
80 - نهاية الأرب النويري، دار الكتب.
81 - وفيات الأعيان ابن خلکان 1310 ه.
82 - يتيمة الدهر، الثعالبي، السعادة.
ص: 251
- مقدمة المحقق ... 5
- مقدمة المؤلف ... 19
- القاعدة الأولى: في مباحث الألفاظ، وهي مرتبة على قسمين
القسم الأول في دلالة الألفاظ وأقسامها، وأحكامها، وفيه فصول:
- الفصل الأول: في دلالة اللفظ على المعنى ... 29
- الفصل الثاني: في تقسيم الألفاظ ... 33
- الفصل الثالث: في الاشتقاق ... 44
- الفصل الرابع: في الترادف والتوكيد ... 50
- الفصل الخامس: في المشترك ... 54
القسم الثاني: في كيفيات تلحق الألفاظ بالنسبة إلى معانيها.
فتوجب لها الحسن والمزية وتعدها أتم الإعداد لأداء المعاني وتهي
الذهن للقبول وهو مرتب على مقدمة وجملتين:
المقدمة: وفيها بحثان
- البحث الأول: في حد البلاغة والفصاحة ... 63
- البحث الثاني: في موضوع علم الفصاحة والبلاغة ... 64
ص: 252
الجملة الأولى: في المفردات وفيها مقدمة وأبواب:
- المقدمة: ... 68
- الباب الأول: في المحاسن العائدة إلى اللفظ من حيث هو لفظ.
ويشتمل هذا الباب على فصلين:
- الفصل الأول: فيما يتعلق بالكلمات المفردة ... 69
- الفصل الثاني: فيما يتعلق بالكلمات المركبة ... 76
- الباب الثاني: فيما يتعلق بالدلالة الوضعية والمعنوية، ويشتمل
هذا الباب على فصلو: ... 87
- الفصل الأول: في أحكام الخبر ... 88
- الفصل الثاني: في الحقيقة والمجاز ... 93
- الفصل الثالث: في التشبيه ... 102
- الفصل الرابع: في الاستعارة ... 119
- الفصل الخامس: في الكناية ... 128
الجملة الثانية
في النظم
وفيها فصول:
- الفصل الأول: في حقيقته ... 131
- الفصل الثاني: في أقسامه ... 134
- الفصل الثالث: في التقديم والتأخير ... 142
- الفصل الرابع: في الفصل والوصل ... 150
- الفصل الخامس: في الحذف والإضمار ... 153
- الفصل السادس: في أحكام إن وإنما وما في حكمهما ... 156
ص: 253
القاعدة الثانية
في الخطابة
وفيها أبحاث وخاتمة
- البحث الأول: في حقيقة الخطابة وفائدتها ... 163
- البحث الثاني: في موضع الخطابة وأجزائها ... 165
- البحث الثالث: في مبادىء الخطابة ... 167
- البحث الرابع: في أقسام الخطابة بحسب أغراضها ... 173
- البحث الخامس: في أنواع مشتركة للأمور الخطابية الثلاثة ... 180
- البحث السادس في تحسينات الخطابة ... 184
- خاتمة لهذه القاعدة ... 189
القاعدة الثالثة
في بيان أن علياً عليه السلام
كان مستجمعاً ففضائل الإنسانية،
وفيها فصول
- الفصل الأول: في فضائله اللاحقة له من خارج ... 193
- الفصل الثاني: في بيان فضائله النفسانية ... 204
- الفصل الثالث: في صدور الكرامات عنه ... 209
- المراجع ... 223
ص: 254