النبوة في نهج البلاغة قراءة علوية للسيرة المحمدية

هوية الکتاب

النبُوَةُ

في نهج البلاغة

قراءةٌ علويّةٌ للسِّيرة المُحمديّة

تَأليف

دکتور الاحمد راسم النّفيس

دارُ المحجة البيضاء

محرر رقمي : روح الله قاسمي

ص: 1

اشارة

النُّبُوَّة

في نهج البلاغة

قراءةٌ علويّةٌ للسِّيرة المُحمديّة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

جميع الحقوق محفوضة

الطبعة الأولى

1431ه / 2010م

الرويس - مفرق محلات محفوظ ستورز - بناية رمّال

ص.ب: 14/5479 - هاتف: 03/287179 - 01/541211

تلفاكس: 01/552847 - E - mail almahajjaرحمه اللهterra.net.lb

www.daralmahaja.com infoرحمه اللهdaralmahaja.com

ص: 4

مقدمة لازمة

إنه ليس كتاباً تقليدياً يحكي سيرة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بل هو قراءة في الرؤية العلوية للسيرة المحمدية العطرة.

إنها مفاتيح نراها ضرورية وبالغة الأهمية وسط ذلك الجدل القديم الجديد حول النبوة.

نكتب هذه السطور وسط الضجة المثارة حول الإساءات الموجهة لنبينا الأكرم من الصحافة الدانماركية منبهين إلى أن الإساءات الموجهة لرسول الله من قبل بعض المنتمين للإسلام لا تقل سوءاً ولا بشاعة عن الإساءات الموجهة إلى رسولنا الأكرم من أناس ليسوا على ديننا ولا يعرفون عن هذا الدين ولا رسوله الكريم شيئاً ولا حتى أقل القليل.

لم يكن الدافع لكتابة هذا الكتاب هو ﴿الفتنة الدانماركية﴾ الأخيرة وما أحدثته من ردة فعل هزت الشارع المسلم فالقضية مثارة من قبل هذا وقد هالنا حجم الإهانات التي يوجهها البعض من أهل ديننا لمقام النبوة من دون أن ينتبه أحد لجسامة ما يلحقه من أذى بمقام النبوة الذي هو رکن ركين من أركان الإيمان الحقيقي فالرسول من وجهة نظر البعض قد أخطأ في موضع كذا وكذا وهو كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب والهدف من هذه الفرية هو اختلاق طبقة ﴿أمناء الوحي﴾ الذين ائتمنهم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم على ما لا يعرف كما أن عصمة النبي كانت قاصرة بزعمهم على مجال التبليغ أما غير ذلك فكان كغيره من البشر وحسبك

ص: 5

أن ينسب إليه ﴿أنتم أعلم بشؤون دنياكم﴾ كدليل ساطع وبرهان قاطع على أنه لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين!

من ناحية أخرى فنحن نشك أن أغلب المسلمين قد قرؤوا السيرة النبوية كاملة من كتب التراث وهو ما ينطبق أيضاً على التاريخ الإسلامي وكل ما قرؤوه في الغالب الأعم هو مقتطفات من هنا وهناك.

ولا شك أن قراءة التاريخ من المصادر التراثية هو عمل شاق ذو مجهد يحتاج إلى فرز وغربلة لتلك الروايات المتناقضة وهو ما يستلزم من الأساس وجود رؤية مركزية يجري من خلالها التمييز بين والثمين والأموي المدسوس والرسالي الأصيل.

تلك هي القضية!

لقد قامت الرؤية الأموية على بث الشكوك ونثرها حول شخص الرسول الأكرم لأنهم لم يؤمنوا بالرسول طرفة عين.

إنهم يرونه خصماً سياسياً لدوداً نجح في الإمساك بالسلطة وتوحيد العرب تحت رايته حتى لقد قال أبو سفيان للعباس قولته الشهيرة ﴿لقد

أصبح ملك ابن أخيك عظيماً﴾.

ولذا نرى من الضروري أن نقدم تلك الرؤية المركزية المتفقة مع السياق القرآني للنبوات بصورة عامة والتي أغفلها أو تغافل عنها كتاب السيرة المعاصرون فما بالك بخطباء المنابر الندابين الذين استقوا علمهم ومعرفتهم عبر السماع والشياع على طريقة من كل بستان زهرة ومن كل كأس رشفة.

د أحمد راسم النفيس

فبراير 2006

محرم الحرام 1427

ص: 6

النبوة في نهج البلاغة

بسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

نفتتح بكلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب

أحْمدُهُ اسْتِتْماماً لِنِعْمَتِهِ، وَاسْتِسْلَاماً لِعِزَّتِهِ واسْتِعْصَاماً مِنْ مَعْصِيَتِهِ وَأَسْتَعِينُهُ فَاقَةً إِلى كِفَايَتِهِ، إِنَّهُ لَا يَضِلُّ مَنْ هَدَاهُ، وَلا يَئِلُ مَنْ عَادَاهُ، وَلا يَفْتَقِرُ مَنْ كَفَاهُ؛ فَإِنَّهُ أَرْجَحُ ما وُزِنَ، وَأَفْضَلُ مَا خُزِنَ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ، شَهَادَةٌ مُمْتَحَنَا إِخْلَاصُهَا، مُعْتَقَدَاً مُصَاصُهَا نَتَمَسَّكُ بها أَبَداً ما أَبْقانَا، وَنُدَّخِرُهَا لأَهَاوِيلِ مَا يَلْقَانَا، فَإِنَّها عَزيمَةُ الإِيمَانِ، وَفَاتِحَةُ الإِحْسَانِ، وَمَرْضَاةُ الرَّحْمنِ، وَمَذحَرَةُ الشَّيْطَانِ.

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالدِّينِ المُشْهُورِ، وَالعلم المأثُورِ، وَالكِتَابِ المسْطُورِ، وَالنُّورِ السَّاطِعِ، وَالضِّيَاءِ اللَّامِعِ، وَالأمْرِ الصَّادِع، إزَاحَةَ لِلشُّبُهَاتِ وَاحْتِجَاجاً بِالبَيِّنَاتِ وَتَحْذِيراً بِالْآيَاتِ وَتَخْويفاً بِالمَثُلَاتِ (1).

ونقول ثانياً إن من أراد الدين الحق فليأت البيوت من أبوابها فإن

ص: 7


1- نهج البلاغة الخطبة الثانية.

من أتى البيوت من غير أبوابها سمي سارقاً وباب مدينة علم رسول الله والعلم برسول الله هو علي بن أبي طالب وأهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ولا يُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّد مِنْ هذِهِ الأمَّةِ أو من غيرها أَحَدٌ من الناس فهُمْ أَسَاسُ الدِّينِ، وَعِمَادُ اليَقِينِ، إِلَيْهِمْ يَفِيءُ الغالي وَبِهِمْ يَلْحَقُ التَّالي وَلَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الوِلايَةِ، وَفِيهِمُ الوَصِيَّةُ وَالوِراثَةُ (1).

من أراد أن يعرف رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فليسال عليّا علیه السلام

المطلع على السيرة النبوية كما يقدمها القوم في مراحل التعليم المختلفة أو من خلال كتب الإسلاميات يرى بوضوح أن التصور المتعلق بمقام النبوة قد أصبح محملاً بكمِّ هائل من المتناقضات التي لا يقبلها عقل سوي ولا يقرُّها ضمير مستقيم.

الآن تقوم الدنيا ولا تقعد بسبب تهجم فريق من الغربيين على مقام الرسول الأعظم محمد صلی الله علیه و آله و سلم فيجتمع القوم على الأرض أو على الهواء لمناقشة أسباب تلك الهجمة الصليبية على رسول الله فيدلي كل منهم بدلوه ثم ينفض الجمع من دون أن يعطينا أحد جواباً شافياً عمن وفر المادة اللازمة لشن هذه الحملة وعن المسؤولية التي ينبغي أن يتحملها هؤلاء في صناعة تلك الصورة المشوهة لسيد الكونين والثقلين من عرب ومن عجم؟!

هل هو الغرب وحده أم أن على هؤلاء السادة التي غصت كتبهم بكل ما هو سيئ وردي في حق رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أن يتحملوا نصيبهم من المسؤولية عن هذا الهذيان والتخبط؟

ص: 8


1- نهج البلاغة، الخطبة السابقة.

أي عقل أو منطق يدفعنا لمطالبة الصحافة في الدانمارك بتحري الدقة والأمانة فيما يتعلق بمقام النبوة بينما نرفض نحن تحري هذه الدقة والأمانة لئلا نتهم بالتشيع لأهل بيت النبوة ولأننا لا نقدر ولا نجرؤ على نقد ما أورده البخاري ومسلم في كتابيهما ولأننا نصرُّ على اعتبار عروة بن الزبير قديساً ومعصوماً من الخطأ رغم أنه الحق بنا وبرسولنا الأكرم أبلغ أنواع الإساءات و الأضرار؟

لو قارنا بين التصور المسيحي لعيسى ابن مريم علیه السلام الذي يرى فيه ابناً لله وإلهاً متجسداً يمشي على الأرض والتصور الذي يقدمه بعض شيوخنا عن رسول الله والذي يرى فيه شخصاً عادياً ليس له أي قيمة إضافية في غير مجال التبليغ والنقل عن جبريل علیه السلام ولذا فقد ارتكب كمّا لا بأس به من الأخطاء السياسية بل والشرعية وكأنه سلام الله عليه كانت مهمته أن يعلَّم الأمة فن الخطأ لا فن الصواب؟!

فهو صلوات الله وسلامه عليه أخطأ يوم بدر في تحديد الموقع ثم

أخطأ بعد ذلك عندما قبل بأخذ الفداء من الأسرى كما أنه أخطأ يوم أن أشار على أهل المدينة بعدم تأبير النخل فجاءت الثمار شيصاً ﴿فاسدة﴾ وغيرها من الأخطاء التي أثبتها البخاري ومسلم ﴿؟!﴾ نقلاً عن عروة وعكرمة وأبي هريرة وابن شهاب الزهري ﴿الذين لم يخطئ أي منهم خطاً واحداً في نقل السنة النبوية؟!﴾ رغم وجود مرويات أخرى في كتب القوم لا تعتمد نفس النهج بل وتقارب ما روي عن أئمة أهل البيت علیهم السلام لنفس الوقائع والأحداث.

ولا أدري كيف استقام للقوم القول بعصمة رسول الله وأنه سيد الخلق أجمعين وهم يقدمونه في صورة نبي يخطئ فيصحح له الصحابة ويعاتبه ربه ليعلمنا ﴿فن الخطأ﴾ ويربينا على ﴿حق النقد﴾ وهم يرون أن نقد

ص: 9

﴿النبوة﴾ لا يخرج من الملة بل هو الدرس الأول في ﴿الديموقراطية﴾ كما يزعم البعض بينما هم يرفضون استخدام هذا المنطق النقدي مع الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ويرون في ذلك مؤامرة لهدم الإسلام وبث الشكوك حول من قاموا بنقل الكتاب والسنة إلينا؟

القوم قد تربوا على عصمة وتنزيه الصحابة وعدم السماح بالمس بهم وإغلاق بعض المناطق في وجه الدراسة والتمحيص ولو كان الأمر كله لا يزيد عن سرد بعض الوقائع التاريخية الثابتة من مصادرها بينما بقي مجال الجرح والتعديل لمقام النبوة مفتوحاً عندهم وهم يرون أن عصمة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم كانت قاصرة على مجال التبليغ لا أكثر ولا أقل أما الوهابيون فقد جاؤوا بما هو أدهى وأطم عندما اعتبروا أن ﴿الغلو﴾ في النبي صلی الله علیه و آله و سلم حيًّا وميتاً هو أصل البلاء ومكمن العلة والداء وأن هذا الغلو هو سبب الكفر والشرك.

يقول لنا القوم إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عندما جاء إليه جبريل علیه السلام بالوحي وهو في سن الأربعين بقي فترة تائهاً متحيراً لا يدري ماذا يجري له أو من حوله ولولا ﴿القس المسيحي الطيب ورقة بن نوفل﴾ لبقي في تخبطه وحيرته في حين أن عيسى ابن مریم علیه السلام تكلم في المهد صبياً وقال ﴿إنّي عَبْدُ اللَّهِ اتَنيَ الْكِتَب وَجَعَلَنِي نَبِيّا﴾ [سورة مريم: 30]، من دون حاجة لمساعدة من ورقة مكتوبة أو ورقة بن نوفل أو أي ورقة على الإطلاق؟!

كما يقول لنا القوم أيضاً إن الوحي قد انقطع يوم أن مات ورقة ﴿ثم لم يلبث أن مات ورقة وفتر الوحي!﴾ أي أن ورقة على ما يبدو كان عنصراً أساسياً من عناصر نزول الوحي واستمراره وأن الوحي قد انقطع ربما حتى عثر رسول الله على ورقة أخرى؟!

ص: 10

ولا أدري ماذا يقصد القوم وأي دور وضعوه لورقة في نزول وتلقي الوحي؟!

کلام مخجل ومشين!

السبب الأول وراء هذا التخبط هو افتقاد القوم لرؤية مركزية منهجية محددة يمكن للمسلم أن يستلهمها ثم يقيس عليها أشتات الروايات المجتمعات في كتب يرى القوم أن الحكم بصحتها هو من البديهيات والمسلمات ويعدون نقدها من المحرمات.

رؤية مركزية تقدمها قيادة الأمة الشرعية أي الإمامة باعتبارها مسؤولة قبل غيرها عن رسم الخطوط العامة والملامح الرئيسية الهامة للإلهيات والنبوات ناهيك عن قواعد الأخلاق ومعالم الحلال والحرام.

فلماذا تفتقد أمتنا تلك الفلسفة المركزية المحورية وهل قصرت أو أهملت قيادة الأمة الشرعية في تقديم هذه الصورة أم أنها قامت بتقديمها بالفعل ولكن القوم أعرضوا عنها واستغاثوا كدأبهم بعمرو وعروة وعكرمة رغم علمهم أن المستجير بعمرو كالمستجير من الرمضاء بالنار!

أما السبب الثاني فيرجع إلى الخصومة التاريخية القائمة بين هؤلاء القوم وبين العقل والمنطق وعجزهم بالتالي عن اعتماد فلسفة إسلامية عقلانية متماسكة فضلاً عن اتباعهم الأهواء وإخلادهم إلى الأغلال والأصفاد التي ألزمهم بها أهل الأرض والتي قادتهم إلى الإقرار بكل هذه الأشتات المتناقضات إما مع القرآن أو فيما بينها إذعاناً منهم لما يظنه البعض حكماً للشرع وخوفاً من الخروج عن الطريق الأعوج المرسوم لهم من قبل المستولين على السلطة والثروة فخابوا وضلَّ سعیهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

الخبر الإلهي الصحيح لا يمكن له أن يناقض العقل بأي شكل كان

ص: 11

والتناقض العقلي بين هذه الروايات وبينها وبين القرآن الكريم شاهد على وضعها وافتعالها على الله ورسوله.

السبب الثالث: لهذه الحالة هو إصابة البحث العلمي ومن ثم الإنتاج الفكري في أمتنا بسكتة دماغية منذ عديد القرون ومنذ أصبح المصدر الرئيس للثقافة الدينية إما كتاب المدرسة الذي أعدته لجنة من هؤلاء وهؤلاء أو من أفواه شيوخنا المنتشرين في المساجد ووسائل الإعلام يتناقلون المعلومات فيما بينهم شفاهة من دون حاجة إلى رجوع إلى مصدر ﴿ولا حتى ورقة؟!﴾ بنوفل أو من دون نوفل؟!

ومن باب أولى من دون حاجة إلى بحث ولا تمحيص.

ص: 12

رواة نزول الوحي

في كتاب البخاري

إنها أي رواية نزول الوحي واحدة من تلك الروايات التي شكلت وعي المسلمين بالإسلام وبصورة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وهي الرواية التي أكدت على ﴿الدور الهام؟!﴾ لورقة بن نوفل وذكرت أن الرسول الأكرم قد فاجأه الوحي وذكرت تلك الطريقة الفظة التي عامله به جبريل علیه السلام وأثبتت للمسلمين وللبشرية جمعاء أمية الرسول صلی الله علیه و آله و سلم عندما قال ﴿ما أنا بقارئ﴾ إلى آخر هذه التصورات والخزعبلات.

فمن الذي رواها؟!

بالرجوع إلى البخاري سنجد أنه يسند هذه الروايات كالآتي: ﴿حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَمِّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (1) و ﴿حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أَمُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (2).

ص: 13


1- البخاري، كتاب بدء الوحي، باب شدة الوحي على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم القاهرة، الهيئة العامة للكتاب.
2- البخاري، كتاب بدء الوحي، باب الرؤيا الصالحة أول ما بدأ به صلی الله علیه و آله و سلم.

أما رواية نزول الوحي ودور ورقة المزعوم فإسنادها كالاتي:

﴿حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَحَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ وَ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، نَحْوَهُ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ﴾ (1).

ولن نخوض الآن في مسألة صحة الأسانيد أو صدق الرواة من عدم صدقهم، لكننا سنطرح سؤالاً جوهرياً هو:

لماذا بقي الأخذ و الرد حول تلك القضية الخطيرة في إطار تلك الحلقة الضيقة من الرواة بينما جرى تجاهل بقية الروايات وسائر الرواة فضلاً عن شهادة شاهد الوحي الأول علي بن أبي طالب أول من أسلم وربيب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والذي عاش في كنفه في هذا التوقيت بالذات؟!

ولماذا جرى التمسك بروايات القديس عروة بن الزبير بن العوام ابن أسماء بنت أبي بكر الذي روى عن عائشة لأنه كان ابن شقيقتها بينما تم تجاهل روايات سائر الصحابة؟

إن رواية الطريقة التي استقبل بها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الوحي لا يمكن قبولها إلا عن طريقين:

الأول: من خلال من شاهد وعاين تلك المرحلة ممن سبقت علاقته برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم نزول الوحي وهي منزلة لم ينلها إلا علي بن أبي

ص: 14


1- البخاري، كتاب بدء الوحي، باب رسول الله أجود الناس.

طالب علیه السلام ربيب رسول الله أو خديجة بنت خويلد زوجه أم الزهراء التي انتقلت إلى رحاب الله قبل مرحلة التدوين كما هو معلوم للجميع.

والطريق الثاني: هو رواية رسول الله نفسه عن الحدث وهو ما لا ينطبق بحال على مرويات البخاري التي لا تنقل على لسان رسول الله بل عن عروة عن عائشة!

إننا إذاً أمام تصور للنبوة يطرحه نجوم البلاط الأموي فقد كان القديس عروة والقديس ابن شهاب الزهري من العاملين في البلاط الأموي ومن لا يعجبه كلامنا فليرجع إلى كتب التاريخ﴾الطبري والعقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي﴾.

يعلم الجميع أن عائشة أم المؤمنين يوم أن نزل الوحي على رسول الله لم تكن زوجة للرسول ولم تشهد تلك الواقعة في حين كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يومها في بيت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم شاهداً على هذا الحدث الجليل فلماذا تجاهل القوم شهادته وأسقطوا روايته؟

ص: 15

ص: 16

نماذج من التصورات المتداولة

عن النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم

من بين هذه التصورات ما ذكره الدكتور طه حسين في كتابه الفتنة الكبرى ﴿عثمان﴾ عن بشرية الرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وأنه كان في بعض أحكامه يصدر عن تلك البشرية التي تصيب وتخطئ وضرب مثلاً على ذلك بقصة أسرى بدر ونزول القرآن ينحي باللائمة عليه! لقبوله فداء الأسرى في قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ [الأنفال: ﴿67] (1).

كما أن الشيخ محمد أبو زهرة يستدل في كتابه عن الإمام الصادق علیه السلام على نفي عصمة الرسول الأكرم بنفس تلك الواقعة المزعومة عن أسرى بدر (2).

إننا أمام نماذج من العلماء والمفكرين الذين لا يسعنا غض الطرف عن آرائهم فهم كانوا طلائع لمدرسة تجديدية في تناول التراث الإسلامي غير أنهم من الناحية الواقعية ظلوا أسرى للكثير مما هو سائد ومتداول في ساحة هذا التراث ولم يمتد مفعول هذا التحرر العقلي والفكري إلى كل ما ينبغي مراجعته فهم كانوا في النهاية أبناء مدرسة عكرمة وعروة و ابن شهاب الزهري.

ص: 17


1- طه حسين، الفتنة الكبرى ﴿عثمان﴾، ص 23 دار المعارف، القاهرة 1980.
2- محمد أبو زهرة، الإمام الصادق، ص 58 دار الفكر العربي 1993.

عندما اطلعت على ذلك الكتاب القيم الذي ألفه الدكتور ﴿محمد حسين هيكل﴾ ونعني به ﴿حياة محمد﴾ لاحظت أن المراجع التي استند إليها ذلك المفكر المجدد ليس فيها مرجع واحد ينتمي لمدرسة أهل البيت علیه السلام رغم أنه خرج عن المألوف عندما ذكر رواية نزول الوحي فأوردها كالآتي ﴿وفيما هو نائم بالغار يوماً جاءه ملك وفي يده صحيفة فقال اقرأ فأجاب مأخوذاً: ما أقرأ؟﴾ على عكس الشائع وهو ﴿قال اقرأ قال ما أنا بقارئ!﴾ أي أن التساؤل عما هو مطلوب قراءته قد تحول بقدرة عروة وعكرمة إلى نفي مطلق لمعرفة القراءة وإثباتاً لا يقبل التحويل أو التعديل لأمية الرسول إلى يوم الدين!

ويلاحظ أن الدكتور هيكل عليه رحمة الله قد أسند هذه الرواية إلى كتب السيرة الأولى وتحديداً لابن إسحاق بينما اكتفى القوم بما ورد في البخاري نقلاً عن ابن شهاب الزهري عن عروة.

ص: 18

الرؤية والرائي والفخر الرازي

لا شك أن التصورات المطروحة الآن عن النبوة والنبوات بل وعن الدين عامة تعبر عن حالة الفوضى والاضطراب التي تسود الساحة الدينية نظراً لاعتمادها على أسلوب ﴿من كل بستان زهرة﴾ أو أسلوب الاقتطاف وجمع الأشتات التي رواها ﴿الثقات﴾ من دون الاعتماد أو الارتكاز على وجهة نظر مركزية وثابتة لا تتوفر إلا لشيعة أهل البيت علیه السلام الذين يستقون تصوراتهم من أئمة أهل البيت علیهم السلام.

إن هذا الأسلوب في الجمع يعكس مزاج الرائي وحالته النفسية وموقفه من النبوة والعبارة الشائعة ﴿كن جميلاً ترى الوجود جميلاً﴾ لم تخرج عن الصواب وعكسها لا بد أن يكون صحيحاً ﴿كن قبيحاً ترى الوجود قبيحاً﴾ والقبح هنا هو القبح الأخلاقي وظلمة اتباع الهوى والشهوات ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾!

الراوي كالرائي سواء بسواء حتى ولو لم ير أو يسمع بنفسه فهو يعكس في روايته حاله ومزاجه النفسي حتى ولو لم يتعمد الكذب أو تشويه الحقيقة ولذا فإن عجبي لا ينقضي من أمة تستقي تصوراتها عن النبوة ومن ثم عن الدين من عكرمة وعروة وتهمل علي بن أبي طالب وهو القائل ﴿وَ أَنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم كَالضوءِ مِنَ الضوء، وَالذَّرَاعِ مِنَ الْعَضُدِ﴾ ولا شك أن وسيلة إيصال الضوء لا تقل أهمية عن مصدر الضوء ذاته وأن زجاج المصباح الوسخ أو المعتم يمكن له أن يطمس الإضاءة

ص: 19

الصادرة من أقوى المصابيح ولا أدري كيف أعرض القوم عمن كان من رسول الله بمنزلة الضوء من الضوء ﴿نُورٌ عَلَى نُور﴾ ونور من نور واستعانوا بمن لم يزده ماله وولده وعمله في خدمة بني أمية إلا خساراً.

قلنا إننا نكتب عن ﴿النبوة﴾ كما قدمها لنا الإمام علي بن أبي طالب في خطبه المجموعة في نهج البلاغة ولذا فنحن نستعرض نماذج من التصورات التي طرحها القوم عن النبوة قرباً أو بعداً من التصور الأصيل الذي لا يقدر على طرحه وتقديمه إلا المتجردون لله رب العالمين من آل بيت النبوة وفي مقدمتهم علي بن أبي طالب.

وسنرى في كلام الرازي نموذجاً لمن يحوم حول الحقيقة ولكنه لا يقدر على الوصول إليها أو الإمساك بها فالتخيط هو السمة السائدة لمن الزموا أنفسهم بما لا يجوز الالتزام به وجعلوا من لزوم ما لا يلزم قاعدة حاكمة على فهمهم لكتاب الله وسنة رسوله.

ورغم أن الفخر الرازي صاحب ﴿مفاتيح الغيب﴾ يبدو مختلفاً في تفسيره عن المنهج السائد خاصة عندما تعرض لشرح قوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 33 - 34]، حيث قال: اعلم أنه تعالى لما أن بین محبته تعالى لا تتم إلا بمتابعة الرسل بين علو درجات الرسل وشرف مناصبهم فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ﴾ اعلم أن المخلوقات على قسمين المكلف وغير المكلف واتفقوا على أن المكلف أفضل من غير المكلف، واتفقوا على أن أصناف المكلف أربعة: الملائكة والإنس والجن والشياطين أما الشياطين فهم كفرة أما إبليس فكفره ظاهر لقوله تعالى: ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 34]، وأما سائر الشياطين فهم أيضاً كفرة بدليل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ۖ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 121].

ص: 20

والاصطفاء يدل على مزيد الكرامة وعلو الدرجة، فلما بيَّن تعالى أنه اصطفى آدم وأولاده من الأنبياء على كل العالمين وجب أن يكونوا أفضل من الملائكة لكونهم من العالمين.

﴿اصْطَفَى﴾ في اللغة اختار، ومعنى: اصطفاهم، أي جعلهم صفوة

خلقه تمثيلاً بما يشاهد من الشيء الذي يصفى وينقى من الكدر ونظير هذه الآية قوله لموسى: ﴿إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي﴾ ﴿الأعراف: 144﴾ و قال في إبراهیم ﴿وأذكر إسْمَعِيلَ وَاليَسعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ الْأَخْبَارِ ﴾ [ص: 47].

ومعنى أن الله اصطفاهم أي صفاهم من الصفات الذميمة وزينهم بالخصال الحميدة وهو موافق لقوله تعالى: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [الأنعام: 124] وذكر الحليمي في كتاب «المنهاج» أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا بد وأن يكونوا مخالفين لغيرهم في القوى الجسمانية، والقوى الروحانية، أما القوى الجسمانية، فهي إما مُدركة وإما محركة. أما المدركة فهي الحواس الظاهرة والحواس الباطنة أما الحواس الظاهرة فهي خمس أحدها: قوة البصر، ولقد كان الرسول صلی الله علیه و آله و سلم مخصوصاً بكمال هذه الصفة ويدل عليه وجهان الأول: قوله صلی الله علیه و آله و سلم: «زويت لي الأرض فأريت مشارقها مغاربها» والثاني: قوله صلی الله علیه و آله و سلم: أقيموا صفوفكم وتواصوا فإني أراكم من وراء ظهري ونظير هذه القوة ما حصل لإبراهيم علیه السلام وهو قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الأنعام: 75] ذكروا في تفسيره أنه تعالى قوى بصره حتى شاهد جميع الملكوت من الأعلى والأسفل قال الحليمي رحمه الله: وهذا غير جميع مستبعد لأن البصراء يتفاوتون فروي أن زرقاء اليمامة كانت تبصر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام فلا يبعد أن يكون بصر النبي صلی الله علیه و آله و سلم أقوى من بصرها وثانيها: قوة السمع، وكان صلی الله علیه و آله و سلم أقوى الناس في هذه القوة، ويدل عليه

ص: 21

قوله صلی الله علیه و آله و سلم: أطت السماء وحق لها أن تنط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد لله تعالى نسمع أطيط السماء والثاني: أنه سمع دوياً وذكر أنه هوي صخرة قذفت في جهنم فلم تبلغ قعرها إلى الآن، ونظير هذه القوة السليمان علیه السلام في قصة النمل ﴿ ... قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ﴾ [النمل: 18]، فالله تعالى أسمع سليمان كلام النمل وأوقفه على معناه وهذا داخل أيضاً في باب تقوية الفهم، وكان ذلك حاصلاً لمحمد صلی الله علیه و آله و سلم حين تكلم مع الذئب ومع البعير. ثالثها: تقوية قوة الشم كما في حق يعقوب علیه السلام، فإن يوسف علیه السلام لما أمر بحمل قميصه إليه وإلقائه على وجهه فلما فصلت العير قال يعقوب ﴿إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ﴾ [يوسف: 94] فأحس بها من مسيرة أيام. ورابعها: تقوية قوة الذوق كما في حق رسولنا صلی الله علیه و آله و سلم حين قال: إن هذا الذراع يخبرني أنه مسموم وخامسها: تقوية القوة اللامسة كما في حق الخليل حيث جعل الله تعالى النار برداً وسلاماً عليه فكيف يستبعد هذا ويشاهد مثله في السمندل والنعامة وأما الحواس الباطنة فمنها قوة الحفظ، قال تعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى﴾ [الأعلى: 6] ومنها قوة الذكاء: قال علي علیه السلام: علمني رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ألف باب من العلم واستنبطت من كل باب ألف باب فإذا كان حال الولي هكذا فكيف حال النبي صلی الله علیه و آله و سلم؟!

وأما القوى المحركة: فمثل عروج النبي صلی الله علیه و آله و سلم إلى المعراج، وعروج عيسي حيَّا إلى السماء، ورفع إدريس وإلياس على ما وردت به الأخبار و قال الله تعالى: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ [النمل: 40]. وأما القوى الروحانية العقلية: فلا بد وأن تكون في غاية الكمال ونهاية الصفاء.

واعلم أن تمام الكلام في هذا الباب أن النفس القدسية النبوية مخالفة بماهيتها لسائر النفوس، ومن لوازم تلك النفس الكمال في الذكاء

ص: 22

والفطنة والحرية، والاستعلاء، والترفع عن الجسمانيات والشهوات، فإذا كانت الروح في غاية الصفاء والشرف، وكان البدن في غاية النقاء والطهارة كانت هذه القوى المحركة المدركة في غاية الكمال لأنها جارية مجرى أنوار فائضة من جوهر الروح واصلة إلى البدن، ومتى كان الفاعل والقابل في غاية الكمال كانت الآثار في غاية القوة والشرف والصفاء.

إذا عرفت هذا فقوله ﴿إنَّ اللهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا﴾ معناه: إن الله تعالى اصطفى آدم ثم وضع كمال القوة الروحانية في شعبة معينة من أولاد آدم علیه السلام هم شيث وأولاده إلى إدريس، ثم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم، ثم حصل من إبراهيم شعبتان إسماعيل وإسحاق، فجعل إسماعيل مبدأ لظهور الروح القدسية لمحمد صلی الله علیه و آله و سلم، وجعل إسحاق مبدأ لشعبتين: يعقوب وعيصو، فوضع النبوة في نسل يعقوب، ووضع الملك في نسل عيصو واستمر ذلك إلى زمان محمد صلی الله علیه و آله و سلم فلما ظهر محمد صلی الله علیه و آله و سلم نقل نور النبوة ونور الملك إلى محمد صلی الله علیه و آله و سلم وبقيا أعني الدين والملك لأتباعه إلى قيام القيامة ﴿؟!﴾ (1)، والتعجب من عندنا.

ثم رد الرازي على من قال إن المراد بآل إبراهيم هم المؤمنون كافة فقال إن المراد بهم الأولاد وهم المراد بقوله تعالى: ﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124] (2).

تعليق:

والواقع أن لو لم يرد في القرآن والحديث النبوي من حديث عن

ص: 23


1- الفخر الرازي، مفاتيح الغيب ﴿التفسير الكبير﴾، أبو عبد الله محمد بن عمر بن حسین، 123 - 8/125. الطبعة الثالثة بيروت، دار المعرفة.
2- الفخر الرازي السابق 8/126.

اصطفاء الذرية والآل وأن ما كان في الأمم السابقة لا بد أن يكون مثله في أمة محمد صلی الله علیه و آله و سلم وأن الاصطفاء قد امتد في آل محمد ﴿ذُرِّيَّةٌ بَعضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ سوى تلك الآيات البينات لكفى.

المصطفون الأخيار من ذرية الأنبياء من تلك الشجرة المباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية لم يكونوا جميعاً رسلاً ولا أنبياء بل كان منهم الأئمة ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24].

والأغرب من هذا أن الفخر الرازي رد على من قالوا إن المراد بآل إبراهيم هم عموم المؤمنين أو الأتباع قائلاً بأن ﴿المراد بهم الذرية والأولاد﴾ ثم عاد وناقض نفسه عندما قال: ﴿واستمر ذلك إلى زمان محمد صلی الله علیه و آله و سلم فلما ظهر محمد صلی الله علیه و آله و سلم نقل نور النبوة ونور الملك إليه صلی الله علیه و آله و سلم وبقيا أعني الدين والملك لأتباعه إلى قيام القيامة﴾.

ولا أدري كيف ساغ لرجل أن يفتتح بالحقيقة وهي أن النور والنبوة والاصطفاء محصور في الذرية والآل ثم ختم كلامه بزعم لا دليل عليه وهو أن الاصطفاء قد انتقل في أمة محمد إلى الأتباع فكان أن انتهت بذلك مهمة الذرية والآل؟

ألم يلحظ الفخر الرازي أن محمد بن عبد الله وهو من انتقل إليه ﴿نور النبوة ونور الملك﴾ من آبائه الأنبياء باعتباره من ذريتهم وأن الذرية الوحيدة من ذرية الأنبياء التي لم يُعترف بانتقال هذا النور إليها هم آل محمد صلی الله علیه و آله و سلم؟!

الا يعد هذا نقصاً وعيباً ﴿ابتلي﴾ به رسولنا الأكرم محمد صلی الله علیه و آله و سلم؟وبينما يقر هو أن النور جاء إلى هؤلاء الأنبياء وانتشر منهم عبر ذرياتهم فقد حُرم رسول الله من هذا الامتداد حيث ما زال القوم يصرون على

ص: 24

وجوب اتباع سنته وتجاهل عترته أهل بيته بينما يحكي لنا كتاب الله عز و جل عن قاعدة الاصطفاء وانتقال النور من الأنبياء عبر الذرية والآل وليس عبر الأصحاب حيث يقول سبحانه: ﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ ۖ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ۚ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 87 - 90 ].

ثم يعود الرازي ليقع في نفس التناقض في تفسيره لآيات سورة الأنعام آنفة الذكر فيقول: ﴿إنه تعالى خص إبراهيم بالرفعة والاتصال إلى الدرجات العالية الرفيعة. وهو قوله ﴿نرفع درجات من نشاء﴾ وأنه جعله عزيزاً في الدنيا، وذلك لأنه تعالى جعل أشرف الناس وهم الأنبياء

والرسل من نسله ومن ذريته وأبقى هذه الكرامة في نسله إلى يوم القيامة، لأن من أعظم أنواع السرور علم المرء بأنه يكون من عقبه الأنبياء والملوك، والمقصود من هذه الآيات تعديد انواع نعم الله على إبراهيم علیه السلام جزاء على قيامه بالذب عن دين التوحيد ... ومن النعم العظيمة في الدنيا أن آتاه الله أولاداً كانوا أنبياء وملوكاً كما أن هذه الآيات تدل على أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لأن الله تعالى جعل عيسى من ذرية إبراهيم مع أنه لا ينتسب إلى إبراهيم إلا بالأم، فكذلك الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وإن انتسبا إلى رسول الله بالأم وجب كونهما من ذريته ويقال: إن أبا جعفر الباقر استدل بهذه الآية عند الحجاج بن يوسف﴾ (1). 5.

ص: 25


1- الفخر الرازي السابق 13/65.

وإذا كان الأمر كما ذكر الرازي وهو كذلك بالفعل فلماذا قرر القوم حرمان سيد الأنبياء من تلك النعم التي أنعم الله بها على إبراهيم علیه السلام و هي امتداد الملك والدين في ذريته الطاهرة رغم أن الرازي قد استفاد من هذه الآيات شمول الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة بهذه القاعدة الإلهية الحاكمة للنبوات والنبيين عليهم جميعاً وعلى نبينا أفضل الصلوات وأتم التسليم؟!

إنها قاعدة محكمة لا يمكن إلغاؤها بقرار بشري مهما كانت قيمة أو مكانة صاحبه!

والأهم من هذا أن هذا التخبط يكشف لنا حالة التخبط الأعم الذي وقعت فيه هذه الأمة التي تعتقد من الناحية النظرية البحتة أن نبينا محمداً صلی الله علیه و آله و سلم هو سيد الأنبياء وخاتم المرسلين وأنه أفضل من كل من سبقه ممن امتد نور النبوة في عقبهم وعقب عقبهم ثم تفشل في تقديم الدليل على صحة ما تدعيه وتردده بصورة ببغائية من دون فهم ولا علم ولا دراية ثم تعود وتقدم الدليل على عكس ما تدعيه عندما تكرر كما فعل الفخر الرازي أن النور والملك كان ينتقل من نبي إلى نبي عبر ذرية نبي أي أن الأمر يسير في خط تصاعدي متصل وهو استلام يتلوه تسليم إلى جيل آخر من الذرية والآل باستثناء هذا النبي الذي قررت أمته في اجتماع السقيفة الشهير أن تقطع الطريق على أهل بيته وذريته وأن تسلم الأمانة برأيها إلى من رآهم القوم أولى وأحق من تيم وعدي وبني أمية وهيهات هيهات!

ص: 26

كارثة البخاري

إذا كان ما ذكره الفخر الرازي في تفسيره يعد نوعاً ﴿معقولاً﴾ من التخبط! هذا إذا جاز لنا تقسيم التخبط إلى معقول وغير معقول فإن ما رواه البخاري نقلاً عن عروة هو الأغرب من نوعه!

الرواية بنصها:

باب أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَة: 7068 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ الزُّهْرِيُّ فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّهَا قَالَتْ أَوَّلُ مَا بُدِئ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، فَكَانَ يَأْتِي حِرَاءً فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَتُزَوِّدُهُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فِيهِ فَقَالَ اقْرَأْ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلی الله علیه و آله و سلم «فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي. فَقَالَ اقْرَأَ. فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِيٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأَ. فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِيءٍ. فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ». حَتَّى بَلَغَ ما لم يعلم فَرَجَعَ بِهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى

ص: 27

خَدِيجَةَ فَقَالَ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي. فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ فَقَالَ يَا خَدِيجَةُ مَا لِي؟». وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ وَقَالَ «قَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي». فَقَالَتْ لَهُ كَلَّا أَبْشِرُ، فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيّ - وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخُو أَبِيهَا، وَكَانَ امْرَأَ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ فَيَكْتُبُ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنَ الإِنْجِيلِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ - فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ أَي ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ وَرَقَةُ ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صلی الله علیه و آله و سلم مَا رَأَى فَقَالَ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا أَكُونُ حَيَّا، حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم أو مُخْرِجيَّ هُمْ». فَقَالَ وَرَقَهُ نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَهُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الْوَحْي فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ صلی الله علیه و آله و سلم فِيمَا بَلَغَنَا حُزْنًا غَدًا مِنْهُ مِرَارًا كَي يَتَرَدَّى مِنْ رُؤوس شَوَاهِقِ الْجِبَالِ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ لِكَي يُلْقِيَ مِنْهُ نَفْسَهُ، تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ رَسُولُ اللهِ حَقًّا. فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ وَتَقِرُّ نَفْسُهُ فَيَرْجِعُ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحي غَدًا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ (1).

ولك أن تتأمل فيما ادعاه ﴿عروة﴾ من أن الوحي قد فاجأ الرسول وأنه عاد إلى زوجته خديجة علیها السلام متحيراً قائلاً ﴿ما لي؟﴾ وأنها أخذته إلى ﴿الكاهن النصراني ورقة بن نوفل ليهدئ من روعه﴾!خ.

ص: 28


1- البخاري. ج 4 ص: 207 - 208. باب التعبير وأول ما بدئ به رسول الله. ﴿ط عيسى البابي الحلبي﴾. بدون تاريخ.

عليك أيضاً أن تتأمل في هذا الوصف والإسهاب في الدور الثقافي لورقة وكتابته للإنجيل بالعربية ﴿؟!﴾ وحاول أن تفسر أو تفهم سر التزامن بين موت ورقة وتوقف الوحي وحالة اليأس والقنوط التي اعترت رسول الله وكيف أنه همَّ بإلقاء نفسه من رؤوس شواهق الجبال إلى آخر تلك الأساطير والخرافات.

الرواية الأكذوبة نفسها جاء بها ابن جرير الطبري نقلاً عن نفس ﴿الفرقة﴾ هذه المرة مع بعض البهارات التي لم نكن تتمنى حتى أن نوردها في كتابنا ولكن الضرورات تبيح بعض المحظورات واسمع معي وتعجب وتألم واذرف الدمع الثخين على عقول وضمائر بعض المسلمين!

روی ابن جرير الطبري في تاريخه: حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق قال حدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير قال سمعت عبد الله بن الزبير وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي حدثنا عبيد كيف كان بدء ما ابتدا به رسول الله من النبوة حين جاء جبريل علیه السلام فقال عبيد وأنا حاضر يحدث عبد الله بن الزبير ومن عنده من الناس كان رسول الله يجاور في حراء من كل سنة شهراً وكان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية والتحنث التبرر فكان رسول الله يجاور ذلك الشهر من كل سنة يطعم من جاءه من المساكين فإذا قضى رسول الله جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف من جواره الكعبة قبل أن يدخل بيته فيطوف بها سبعاً أو ما شاء الله من ذلك ثم يرجع إلى بيته حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله عز و جل فيه ما أراد من كرامته من السنة التي بعثه فيها وذلك في شهر رمضان خرج رسول الله إلى حراء كما كان يخرج لجواره معه أهله حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها جاءه جبريل بأمر الله فقال رسول الله: فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال اقرأ فقلت ما أقرأ فغتني حتى ظننت أنه

ص: 29

الموت ﴿؟!﴾ ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ماذا أقرأ وما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود إلي بمثل ما صنع بي، قال ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ إلى قوله ﴿عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ قال فقرأته قال ثم انتهى ثم انصرف عني وهببت من نومي وكأنما كتب في قلبي كتاباً قال ولم يكن من خلق الله أحد أبغض إلي من شاعر أو مجنون كنت لا أطيق أن أنظر إليهما قال قلت إن الأبعد يعني نفسه لشاعر أو مجنون لا تحدث بها عني قريش أبداً لأعمدن إلى حالق من الجبل فلا طرحن نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحن قال فخرجت أريد ذلك حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل قال فرفعت رأسي إلى السماء فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل قال فوقفت أنظر إليه وشغلني ذلك عما أردت فما أتقدم وما أتأخر وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك فما زلت واقفاً ما أتقدم أمامي ولا أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي حتى بلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ثم انصرف عني وانصرفت راجعاً إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفاً فقالت: يا أبا القاسم أين كنت فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إلي؟ قال: قلت لها: إن الأبعد لشاعر أو مجنون فقالت: أعيذك بالله من ذلك يا أبا القاسم ما كان الله ليصنع ذلك بك مع ما أعلم منك من صدق حديثك وعظم أمانتك وحسن خلقك وصلة رحمك وما ذاك يا بن عم لعلك رأيت شيئاً؟ قال فقلت لها نعم ثم حدثتها بالذي رأيت فقالت: أبشر يا بن عم واثبت فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة ثم قامت فجمعت عليها ثيابها ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل بن أسد وهو ابن عمها وكان ورقة قد تنصر

ص: 30

وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل فأخبرته بما أخبرها به رسول الله أنه رأى وسمع فقال ورقة قدوس قدوس والذي نفس ورقة بیده لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر يعني بالناموس جبرئيل علیه السلام الذي كان يأتي موسى وإنه لنبي هذه الأمة فقولي له فليثبت فرجعت خديجة إلى رسول الله فأخبرته بقول ورقة فسهل ذلك عليه بعض ما هو فيه من الهمِّ فلما قضى رسول الله جواره وانصرف صنع كما كان يصنع وبدأ بالكعبة فطاف بها فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالبيت فقال يابن أخي أخبرني بما رأيت أو سمعت فأخبره رسول الله فقال له ورقة والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء إلى موسى ولتكذينه ولتؤذينه ولتخرجنه ولتقاتلنه ولئن أنا أدركت ذلك لأنصرن الله نصراً يعلمه ثم أدنى رأسه فقبَّل يافوخه ثم انصرف رسول الله إلى منزله وقد زاده ذلك من قول ورقة ثباتاً وخفف عنه بعض ما كان فيه من الهمِّ (1).

وسنرجئ المناقشة التفصيلية لهذه المسألة إلى فقرة لاحقة. .

ص: 31


1- ابن جرير الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 260 - 262 / 2 دار المعارف، القاهرة، ط2، 1967.

ص: 32

بشرية النبي الأكرم محمد صلی الله علیه و آله و سلم

رغم أن الانقسام المذهبي بين المسلمين يبدو قاصراً على مسألة الإمامة أو ﴿ما بعد النبوة﴾ إلا أن التأمل في الطريقة التي يتناول بها البعض تلك المفاهيم المتعلقة بالنبوة يكشف أن هذا الانقسام والتفاوت قد طال أيضاً هذه المفاهيم وهو ما يبدو أمراً بالغ الأهمية والخطورة!

أسئلة كثيرة تطرحها تلك الأحاديث والروايات التي يلوكها البعض حول مقام النبوة وبشرية النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم وهل كان بشراً عادياً يصيب ويخطئ ومن ثم هل هناك صفات قياسية موحدة وثابتة لكل البشر؟!

أم أن البشرية من حيث هي بشرية درجات وصفات تزيد وتنقص يجمعها جامع مشترك ومع ذلك فليس كل البشر سواء كما أنه من الثابت أن ليس كل الأنبياء سواء!

البشر في الغالب الأعم متشابهون ولكنهم أبداً ليسوا متطابقين فكلهم يولدون من أب وأم وهم بعد قليل أو كثير يموتون وفي التراب يدفنون وكلهم يأكلون ويشربون ويتنفسون كما أنهم يفرحون ويحزنون ويحبون ويكرهون ... وتلك هي بعض الصفات البشرية المشتركة ورغم ذلك التشابه فهم حتى في هذه الصفات لا يتطابقون كما أنهم في بعض هذه الصفات مع غيرهم من المخلوقات يتشابهون!

البشر عندما يموتون، في التراب يدفنون إلا أن الله تبارك وتعالى

ص: 33

اختص الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون فما بالك بخاتم الأنبياء والمرسلين وذريته من الأئمة الطاهرين ﴿إنه يموت من مات منا وليس بميت ويبلى من بلي منا وليس ببال﴾!

لم يُخلق الإنسان من طينة واحدة ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [الإنسان: 2].

كما أن هذه الطينة تبقى حاكمة ومؤثرة في صياغة السلوك الإنساني ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [الإنسان 3].

هذه الطينة يمكن أن تهبط بصاحبها إما إلى أسفل سافلين أو ترفعه إلى أعلى عليين ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ ۖ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا﴾ [الإنسان 5 - 14].

لو كان للبشرية معنى واحداً لما صار بعض ﴿الناس﴾ هم والكلاب ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 175 - 176]

فهناك من تماثل في إنسانيته أو بهيميته الضالة المتخبطة مع الأنعام أو هم أضل ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا

ص: 34

يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: 179].

وهناك من استوت إنسانيته مع القردة والخنازير ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ ۚ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ۚ أُولَٰئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ [المائدة: 60].

أما الأبرار فهم في عليين رغم أنهم بشر يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ولكنهم عليون في الدنيا قبل الآخرة ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ ۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)﴾ [المطففين: 18 - 28].

وفى الكافي: عن أبي جعفر علیه السلام قال: إن الله عز و جل خلقنا من أعلى عليين وخلق قلوب شيعتنا مما خلقنا منه وخلق أبدانهم من دون ذلك وقلوبهم تهوي إلينا لأنها خلقت مما خلقنا منه ثم تلا هذه الآية ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)﴾وخلق عدونا من سجين وخلق قلوب شيعتهم مما خلقهم منه وأبدانهم من دون ذلك فقلوبهم تهوي إليهم لأنها خلقت مما خلقوا منه ثم تلا هذه الآية: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10)﴾ (1)

فهل بقي من يزعم أن للإنسانية معنى واحداً يشترك فيه الأدنى والأعلى ويستوي فيه أبرار عليون مع فجار سجين ممن يعيشون وهم .

ص: 35


1- ثقة الاسلام ابي جعفر محمد بن يعقوب بن اسحاق الكليني الرازي تلك المتوفى سنة 328 / 329 ه، الكافي، ج 2.

يستمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم أي أنهم بشر ولكنهم أسفل سافلين ثم يموتون ليتلقفهم قعر جهنم إلى أن يأتي يومهم الذي كانوا يوعدون؟!

وهل بقي من يدعي أن رسول الله محمداً صلی الله علیه و آله و سلم كان بشراً كأشباه البشر وهل يعرف هؤلاء معنى البشرية الحقيقية وقد ارتكس بعضهم في درجات الحيوانية وظلمات البهيمية رغم أن الصورة صورة إنسان أما الحقيقة فلا تعدو كونها حقيقة من أشرنا إليه من صنوف الحيوان!

أن يكون رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بشراً مثلنا يوحى إليه فهذا ليس موضع خلاف ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110].

إنها مثلية قاصرة على تلك المشتركات التي تجمع بني الإنسان ولكنها وبكل تأكيد ليست مثلية مطلقة بل مثلية الصورة الخارجية وشتان ما بين من اختاره ربه واصطفاه على الأنبياء والمرسلين وجعله حجة على العالمين وهو من باب أولى على رأس عالم الأبرار المقربين بينما يقطن على السفحِ المقابلِ من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت رغم أنهم يشتركون مع الجميع في مثلية الصورة التي لا يمكن لها أن تنفي التناقض المطلق بين العالمين عالم الحقيقة الممتدة من الأرض صعوداً إلى أعلى عليين وعالم الانحطاط الممتد سقوطاً إلى أسفل سافلين!

ألم يصف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام بعض هؤلاء الأشباه بقوله ﴿فالصورة صورة إنسان والقلب قلب حيوان لا يعرف باب الهدى فيتبعه ولا باب العمى فيصد عنه فذلك ميت الأحياء﴾ (1).6

ص: 36


1- نهج البلاغة خطبة 86

أما السبب وراء هذا التفاوت الشاسع ما بين السماء والأرض وبين

عليين وسجين فيشرحه لنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام بقوله:

ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ الْأَرْضِ وَ سَهْلِهَا وَ عَذْبِهَا وَ سَبَخِهَا تُرْبَةً سَنَّهَا بِالْمَاءِ حَتَّى خَلَصَتْ وَ لَاطَهَا بِالْبِلَّةِ حَتَّى لَزَبَتْ، فَجَبَلَ مِنْهَا صُورَةً ذَاتَ أَحْنَاءٍ وَ وُصُولٍ وَ أَعْضَاءٍ وَ فُصُولٍ أَجْمَدَهَا حَتَّى اسْتَمْسَكَتْ وَ أَصْلَدَهَا حَتَّى صَلْصَلَتْ لِوَقْتٍ مَعْدُودٍ وَ أَجَلٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ نَفَخَ فِیهَا مِنْ رُوحِهِ فَمَثُلَتْ إِنْسَاناً ذَا أَذْهَانٍ یجِیلُهَا وَ فِكَرٍ یتَصَرَّفُ بِهَا وَ جَوَارِحَ یخْتَدِمُهَا وَ أَدَوَاتٍ یقَلِّبُهَا وَ مَعْرِفَةٍ یفْرُقُ بِهَا بَینَ الْحَقِّ وَ الْبَاطِلِ وَ الْأَذْوَاقِ وَ الْمَشَامِّ وَ الْأَلْوَانِ وَ الْأَجْنَاسِ مَعْجُوناً بِطِینَةِ الْأَلْوَانِ الْمُخْتَلِفَةِ وَ الْأَشْبَاهِ الْمُؤْتَلِفَةِ وَ الْأَضْدَادِ الْمُتَعَادِیةِ وَ الْأَخْلَاطِ الْمُتَبَاینَةِ مِنَ الْحَرِّ وَ الْبَرْدِ وَ الْبَلَّةِ وَ الْجُمُودِ وَ اسْتَأْدَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمَلَائِكَةَ وَدِيعَتَهُ لَدَيْهِمْ وَ عَهْدَ وَصِيَّتِهِ إِلَيْهِمْ فِي الْإِذْعَانِ بِالسُّجُودِ لَهُ وَ الْخُنُوعِ لِتَكْرِمَتِهِ فَقَالَ مِن قائِل: ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ وَ قَبِيلَهُ اعْتَرَتْهُمُ ُ الْحَمِيَّةُ وَ غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الشِّقْوَةُ وَ تَعَزَّزُوا بِخِلْقَةِ النَّارِ وَ اسْتَوْهَنُوا خَلْقَ الصَّلْصَالِ فَأَعْطَاهُ اللَّهُ النَّظِرَةَ اسْتِحْقَاقاً لِلسُّخْطَةِ وَ اسْتِتْمَاماً لِلْبَلِيَّةِ وَ إِنْجَازاً لِلْعِدَةِ فَقَالَ: قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38).(1).

لقد كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ﴿بشراً مثلنا﴾ في الصورة الخارجية ولكننا أبداً لسنا بشراً مثله في حقيقته العَلية وإلا فما هو معنى طلبه سبحانه وتعالى منا أن نتخذه أسوة ونموذجاً ومثلاً أعلى يحتذى به ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21] .

ص: 37


1- السابق، الخطبة الأولى.

تلك هي القضية التي غفل عنها الغافلون إما سهواً أو عمداً سواء أولئك الذين حرصوا على تقديم رسول الله في صورة ﴿مبلغٍ أمينٍ﴾ أدى ما عليه وأبلغ نصوص الدين وتركها بين يدي صحابته والتابعين وتابعي التابعين ولو أنه صلی الله علیه و آله و سلم لم يكن له عصمة في غير مجال التبليغ حيث كان في بقية حالاته بشراً مثلهم يصيب ويخطئ ويرضى ويغضب ورغم أن البعض الآخر قد أسبغ عليه صفة العصمة في كل حالاته إلا أنه يرى أن مهمته الرئيسية وربما الوحيدة كانت هي التبليغ ولا شيء سوى التبليغ رغم أننا في هذا البحث سنثبت أن رسول الله كان واسطة العقد بين الأرض والسماء في كل المجالات رحمة وعلماً ورفعة ومقاماً وآخر هذه المقامات هو مقام التبليغ!

رسولنا رحمة للعالمين

يقول سبحانه: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ۚ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ۚ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [التوبة: 61]. ويقول جل وعلا: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران 159]. وكذلك قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 57]. ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً ۚ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۚ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ۚ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ ۚ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [هود: 17]

ص: 38

﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ۙ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [النحل: 64].

الشاهد من هذه الآيات أن الله تبارك وتعالى قد أرسل نبينا الأكرم محمداً صلی الله علیه و آله و سلم رحمة للعالمين وأن هذه الرحمة الإلهية ليست قاصرة على

حفظ وتبليغ نصوص الكتاب المنزل من عند الله بلسان عربي مبين.

إنه رحمة للعالمين للإنس والجن والطير والجبال والشجر والدواب، رحمة سمع بها الجن فآمنوا ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ۖ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)﴾ [الجن: 1 - 2].

الرسول الأكرم كان في ذاته وصفاته ووجوده رحمة للناس عامة ولأمة لا إله إلا الله خاصة ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128]

لقد كان وجوده صلی الله علیه و آله و سلم أماناً لهذه الأمة الضلال وأماناً من العذاب وهو المعنى الذي رواه أبو جعفر الباقر عن علي بن أبي طالب علیه السلام: كَانَ فِي الْأَرْضِ أَمَانَانِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَ سُبْحانَهُ وَ قَدْ رُفِعَ أَحَدُهُمَا فَدُونَكُمُ الْآخَرَ فَتَمَسَّكُوا بِهِ أَمَّا الْأَمَانُ الَّذِي رُفِعَ فَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ ﴿صلی الله علیه وآله﴾، وَ أَمَّا الْأَمَانُ الْبَاقِي فَالاسْتِغْفَارُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال: 33].

بين محمد وموسى

الذين ما فتئوا يلتون ويعجنون وينقصون ولا يزيدون من مقام نبيهم سيد الكائنات ويقدمونه للناس بشراً مثلهم من أصحاب البشرية الهابطة لا يقرؤون القرآن ولا يتدبرون معانيه لأن على قلوب أقفالها كما أنه قد ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وفات هؤلاء أن للرسل والأنبياء

ص: 39

مقامات وأن تفاضل الرسل ليس تفاضلاً لفظياً بل هو تفاضل واقعي قائم على أساس الدليل والبرهان.

التفاضل بين الأنبياء والرسل هو تفاضل في المهمات والتكاليف الملقاة على عاتق كل نبي من هؤلاء الأنبياء ولا شك أن خاتم النبيين المبعوث رحمة للعالمين قد حمل على كاهله مجموع ما حمله كل هؤلاء الأنبياء فضلاً عن عبء هداية البشرية بأسرها منذ مبعثه إلى يوم الفصل بين الخلائق أجمعين يقول تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ۚ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۗ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [البقرة: 253]. ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ۚ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا﴾ [النساء 164].

وإذا كان القرآن الكريم قد حكى لنا عن الطريقة التي كلم الله بها موسی تكليماً في أكثر من موضع بالواد المقدس طوى أو عندما ذهب موسى لميقات ربه ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ۚ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ۚ سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)﴾ [الأعراف 142 - 145].

الشيء الثابت من هذه الآيات أن موسى علیه السلام وهو من أولي العزم

ص: 40

من الرسل لم يقدر على احتمال موقف المشافهة الإلهية وليس موقف الرؤية الإلهية المباشرة المحكوم باستحالتها شرعاً وعقلاً.

لم يتمكن موسى علیه السلام من احتمال عظمة الموقف فكان أن خرَّ صعقاً بينما يحكي لنا كتاب الله في سورة النجم ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ (9) فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَىٰ (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ (17) لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ (18)﴾ [النجم: 1 - 18].

يقول القُمي في تفسير هذه الآية: هو قسم برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وهو فضل له على الأنبياء وجواب القسم ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى (3)﴾ أي لا يتكلم بالهوى ﴿إن هُوَ﴾ يعني القرآن ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وحَىٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوى﴾ يعني الله عز و جل ﴿ذُو مِرَّة فَاسْتَوَى (6)﴾ يعني رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم.

قال: وحدثني ياسر عن ابي الحسن الرضاء علیه السلام قال: ما بعث الله نبياً إلا صاحب مِرة سوداء صافية وقوله ﴿وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7)﴾ يعني رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ﴿ثُمَّ دَنَا﴾ يعني رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من ربه عز و جل ﴿فَتَدَلَّی (8)﴾ قال إنما نزلت هذه ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)﴾ قال كان من الله كما بين مقبض القوس إلى رأس السية ﴿أَوْ أَدْنَى (9)﴾ أي من نعمته ورحمته قال بل أدنى من ذلك ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ قال وحي مشافهة (1). .

ص: 41


1- أبو الحسن علي بن ابراهيم القمي، تفسير القمي، 2/345. صححه وعلق عليه حجة الاسلام العلامة السيد طيب الله الموسوي الجزائري. دار احياء التراث العربي. بيروت.

يقول الراغب الأصفهاني في ﴿مفردات القرآن﴾: أصل الوحي الإشارة السريعة ولتضمن السرعة قيل أمرٌ وحيٌ وذلك بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد من التركيب وبإشارة ببعض الجوارح وبالكتابة ويقال للكلمة الإلهية التي تلقى إلى أنبيائه وأوليائه وحيٌ وذلك على أنواع حسبما دل عليه قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الشورى: 51]، وذلك إما برسول مشاهد ترى ذاته ويسمع كلامه كتبليغ جبريل علیه السلام للنبي في صورة معينة وإما بسماع كلام من غير معاينة كسماع موسى علیه السلام كلام الله وإما بإلقاء في الروع كما ذكر صلی الله علیه و آله و سلم ﴿إن روح القدس نفث في روعي﴾ وإما بإلهام نحو ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ وإما بتسخير نحو قوله ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ أو بمنام كما قال صلی الله علیه و آله و سلم ﴿انقطع الوحي وبقيت المبشرات رؤيا المؤمن﴾ فالإلهام والتسخير والمنام دل عليه قوله: ﴿إلَّا وَحْياً﴾ وسماع الكلام معاينة دل عليه قوله: ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحىَ﴾ (1).

كما يقول الشيخ الطوسي في كتاب التبيان: يقول الله تعالى إنه ليس لبشر من الخلق ﴿ ... أن يُكَلِمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاى حِجَابٍ﴾ معناه او بكلام بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب لأنه تعالى لا يجوز عليه ما لا يجوز إلا على الاجسام من ظهور الصورة للابصار ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً﴾ فيكون كلام الله لعباده على ثلاثة أقسام:

أولها: أن يسمع منه كما يسمع من وراء حجاب، كما خاطب الله به موسى علیه السلام.ة.

ص: 42


1- الراغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد المفردات في غريب القرآن، تحقيق محمد سيد كيلاني، بيروت، دار المعرفة.

الثاني: بوحي يأتي به الملك إلى النبي من البشر كسائر الأنبياء.

الثالث: بتأدية الرسول إلى المكلفين من الناس، وقيل في الحجاب ثلاثة أقوال:

أحدها: حجاب عن إدراك الكلام لا المكلم وحده.

الثاني: حجاب لموضع الكلام.

الثالث: إنه بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب ﴿فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ﴾ ومعناه أن ذلك الرسول الذي هو الملك يوحي إلى النبي من البشر بأمر الله ما شاءه الله ﴿إنَّهُ عَلَىٌّ حَكِيمٌ (51)﴾ معناه إن كلامه المسموع منه لا يكون مخاطبة يظهر فيها المتكلم بالرؤية، لأنه العلي عن الادراك بالابصار وهو الحكيم في جميع أفعاله وفي كيفية خطابه لخلقه.

والمعنى أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد تلقى الوحي من رب العزة ليلة عروجه إلى السماوات العلى وكلمه الباري عز و جل من وراء حجاب تعالى سبحانه عن أن يرى كما ترى الأجسام والأشياء وهنا يبدو الفارق جلياً بينه وبين موسى كليم الله الذي خرَّ يومها صعقاً حيث لم يقدر سلام الله عليه على احتمال موقف القرب من الله تبارك وتعالى فلم يستقر قائماً على أقدامه أما الجبل فلم يصمد عندما باغته هذا التجلي الإلهي فكان أن هوى من على دعائمه وأركانه (1)

الجبال في صلابتها وشموخها ورسوخها عابدة لله عبادة تكوينية و ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ .

ص: 43


1- أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن 6/241. تحقيق وتصحيح أحمد حبيب قصير العاملي بيروت دار احياء الثراث العربي.

وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ۗ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ۩﴾ [الحج: 18].

الجبال تسبح وترجع وتسجد وتركع ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾ اسبا: 10]. ﴿إإِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ﴾ [ص: 18]

ولكنها ورغم ذلك لا تقدر على احتمال موقف القرب كما أنها أشفقت من حمل أمانة الله وكلماته ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: 72]. ﴾

فأي قوة وأي رفعة وأي مكانة كانت لرسول الله الذي كان كما وصفه الله تبارك وتعالى ﴿شَدِيدُ القُوَى (5)﴾.

كان رسولنا الأكرم محمداً صلی الله علیه و آله و سلم شديد القوى ذا مِرة صلبة قوية صافية ﴿رجل مرير أي قوي ذو مرة﴾ وهي قوة ضرورية ولازمة للقيام بأمر هذا الدين لا مجرد تبليغ كتاب الله وتلاوته وهو ما يقدر عليه الأطفال من تلاميذ الكتاب الذين يحفظ بعضهم كتاب الله ومع ذلك فلا أحد بزعم أن أحداً منهم قد أصبح شديد القوى أو أنه أصبح ذا مرة فاستوى ولم يتضعضع كما تضعضع الجبل عندما رأى سبحة من سبحات نور رب العلا أو أنه لم يخر صعقاً كما خر موسى عندما أصبح الجبل دكاً!

تلك القوة التي خص بها نبينا الأكرم محمداً صلی الله علیه و آله و سلم ﴿في بشريته﴾ كانت لازمة لتحمل أعباء وأمانة إنقاذ البشرية المتمردة على أمر ربها وخالقها من الهلاك والبوار ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف: 6].

ص: 44

كما أنها كانت لازمة لتحمل ما ألحقه بعض المنتسبين للإسلام من أذى برسولهم الكريم.

لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [التوبة 128 - 129].

﴿ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ(1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيْيِكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)﴾ [القلم 1 - 15].

﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)﴾ [القلم 48 - 52 ]

﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ۛ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا ۛ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ۖ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ۚ وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ۚ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ۖ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ

ص: 45

فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا ۖ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)﴾ [المائدة 41 - 42].

﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ۚ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ۚ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ۚ ذَٰلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ۚ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)﴾ [ التوبة 58 - 65].

لقد كانت النبوة المحمدية إذاً رحمة للعالمين وقد حمل رسولنا في قلبه همّ الأمة حزناً على هؤلاء المعرضين ورحمة لهؤلاء المتفلتين خوفاً عليهم من سيئات أعمالهم وخوفاً على الأمة من فتنهم وأحابيلهم التي أوردت عامة المسلمين دار البوار.

التغني بمدح رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وذكر مقاماته هو في حقيقة الأمر تذكير وتنويه بصفات الكمال التي يتعين على كل مسلم يرغب في الوصول إلى رضوان الله أن يتحلى بها وفي مقابل ذلك فإن طمس هذه الكمالات وكتمانها هو تقزيم لقيم الدين السامية والرفيعة وهذه هي

ص: 46

الحفرة التي يريد البعض لنا أن نبقى فيها ليبقى الدين لعقاً يلوكه الناس بألسنتهم وقميصاً يتقمصه أولئك الذين طلبوا الدنيا كل الدنيا مقابل القليل من عمل الآخرة بعيداً عن النموذج الحقيقي للعمل الطيب الذي لا يقبل غيره ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾.

بين محمد وعيسى

إذا كان المنحرفون بالنصرانية قد اتجهوا نحو الغلو في عيسى علیه السلام واعتباره ابناً الله وثالث ثلاثة ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ [النساء 171]، فإن المنحرفين بالإسلام قد اتجهوا اتجاهاً معاكساً نحو الحط من مكانة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم سواء كان هذا بصورة مباشرة أو من خلال التنكر لمكانة أهل بيته وعترته الطيبين الطاهرين.

لا شك في اختلاف بشرية عيسم علیه السلام المولود من غير أب عن المفهوم العام للبشرية ولكنه في النهاية كان بشراً تحمل الألم والعذاب كي يوصل كلمات الله لبني إسرائيل ومن ثم فهو في النهاية كان بشراً يتألم ويتحمل ويصبر كما أنه كان عبداً لله أنعم الله عليه وجعله مثلاً لبني إسرائيل ويبقى أن هذه طبيعة النبوة والرسالة التي حملها الإنسان الكامل ليكون قدوة للإنسان الناقص في سعيه نحو مرضاة الله عز و جل.

الانحراف برسالة عيسى علیه السلام كان ولا زال انحرافاً تأويلياً عندما توهم هؤلاء معنى تجسيدياً ﴿للكلمة﴾ و﴿الروح﴾ وكان أن نبههم كتاب الله

ص: 47

لخطورة هذا الانحراف ﴿وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ﴾ ولم يقل لهم ﴿ثلاثة آلهة﴾ فهم لا يقولون بتعدد الآلهة بل بتعدد الصفات الإلهية وزيادتها على الذات بل وإمكان انفصالها عن الذات الإلهية وتجسدها في صورة ابن لله ينزل إلى الأرض ويذبح فداء لخطايا البشرية والدافع لهذا الخطأ الفادح كان فرط تقديسهم للمسيح عيسى ابن مريم وأمه الصديقة مريم التي حملت في ذاتها تلك الروح الإلهية!

لم يكن لعيسى علیه السلام وزوجة ولا ولد بل كان له حواريون ينصرونه وينقلون رسالته وكلماته للناس ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ۖ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ۖ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾ [الصف 14] ولذا فقد أكرمهم الله بمخاطبته ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾ [المائدة 111].

لقد أنعم الله على الحواریين بمائدته ولكنه كان إنعاماً مشروطاً بشرط دوام التصديق والإيمان ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ۖ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ ۖ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ۖ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)﴾ [112 - 115].

حدث الانحراف والغلو بعد ذلك وهو انحراف أخرج الكثير من هؤلاء عن حقيقة التوحيد الذي جاء به نبي الله عيسى علیه السلام كبقية أنبياء الله ورسله ومن ثم جاءت خاتمة سورة المائدة لتضع الأمور في نصابها وتعلن براءته علیه السلام من هؤلاء وممن ساروا على نهجهم المنحرف و المعوج.

ص: 48

﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنْتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)﴾ [المائدة 116 - 118 ].

المنحرفون بالإسلام اختاروا السير كما أسلفنا في الطريق المضاد، طريق التعبد بالرأي والأهواء وكانت العقبة الكبرى في طريقهم هو خط الإمامة والاقتداء بالصالحين من ذرية محمد وهم آله وعترته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً وهو الخط الذي اختاره الله لهم وبينه رسول الله في غير موضع لهذه الأمة التي استبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير.

إنه الصراط المستقيم الذي حدده الله تبارك وتعالى ورسمه لهذه الأمة في سورة الأنعام طريق الاقتداء بالمصطفين الأخيار من الذرية والآل ﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ ۖ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ۚ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ (90)﴾ [الأنعام: 87 - 90]. المنحرفون بالإسلام سيراً في الطريق المضاد رغبة منهم في إزاحة تلك العقبة الكبرى التي تحول بينهم وبين صوغ الإسلام وفقاً لآرائهم وأهوائهم لم يعبؤوا بتلك النصائح الإلهية ولم يلتزموا بأمره تعالى ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ واتخذوا من دون أمر الله ﴿آلهة﴾

ص: 49

ووسائط مزعومة للهداية والرشاد ليضلوا عن سبيله فكانت الوقفة المحمدية الحازمة التي سجلتها سورة الأنعام تماماً كتلك الوقفة العيسوية التي سجلتها سورة الأنعام: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ۚ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ۖ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۚ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ۚ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)﴾ [159 - 164].

الخطبة الطالوتية

إنها الصورة التي رسمها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام في خطبته الطالوتية: أيتها الأمة التي خدعت فانخدعت وعرفت خديعة من

خدعها فأصرت على ما عرفت واتبعت أهواءها وضربت في عشواء غوايتها وقد استبان لها الحق فصدت عنه والطريق الواضح فتنكبته أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو اقتبستم العلم من معدنه وشربتم الماء بعذوبته وادخرتم الخير من موضعه وأخذتم الطريق من واضحه وسلكتم من الحق نهجه لنهجت بكم السبل وبدت لكم الأعلام وأضاء لكم الإسلام فأكلتم رغداً وما عال فيكم عائل ولا ظلم منكم مسلم ولا معاهد ولكن سلكتم سبيل الظلام فأظلمت عليكم دنياكم برحبها وسدت عليكم أبواب العلم فقلتم بأهوائكم واختلفتم في دينكم فأفتيتم في دين الله بغير علم واتبعتم الغواة فأغووكم وتركتم الأئمة فتركوكم فأصبحتم تحكمون بأهوائكم إذا ذكر الأمر سألتم أهل الذكر فإذا أفتوكم قلتم هو

ص: 50

العلم بعينه فكيف وقد تركتموه ونبذتموه وخالفتموه؟ رويداً عما قليل تحصدون جميع ما زرعتم وتجدون وخيم ما اجترمتم وما اجتلبتم والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد علمتم أني صاحبكم والذي به أمرتم وأني عالمكم والذي بعلمه نجاتكم ووصي نبيكم وخيرة ربكم ولسان نوركم والعالم بما يصلحكم، فعن قليل رويداً ينزل بكم ما وعدتم وما نزل بالأمم قبلكم وسيسألكم الله عز و جل عن أئمتكم معهم تحشرون وإلى الله لك غداً تصيرون (1).

إنها المقاربة التي تؤكدها الروايات الواردة عن رسول الله فيما يعرف بكتب الصحاح حدثنا سعيد بن أبي مريم: حدثنا محمد بن مطَّرف: حدثني أبو حازم عن سهل بن سعد قال: قال النبي صلی الله علیه و آله و سلم: ﴿إني فرطكم على الحوض من مر علي شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً، ليردنَّ علي أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم﴾ قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش فقال: هكذا سمعت من سهل؟ فقلت: نعم فقال: أشهد على أبي سعيد الخدري، لسمعته وهو يزيد فيها: ﴿فأقول: إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول: سحقاً سحقاً لمن غيَّر بعدي﴾.

وقال أحمد بن شبيب بن سعيد الحبطي: حدثنا أبي، عن يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيَّب عن أبي هريرة: أنه كان يحدث:

إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: ﴿يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض، فأقول: يا رب أصحابي؟ فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى﴾. .

ص: 51


1- الكليني، الكافي، الخطبة الخامسة، ج8.

وحدثنا أحمد بن صالح: حدثنا ابن وهب قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب عن ابن المسيَّب أنه كان يحدث عن أصحاب النبي صلی الله علیه و آله و سلم:

إن النبي صلی الله علیه و آله و سلم قال: ﴿يرد علي الحوض رجال من أصحابي فيحلَّؤون عنه، فأقول: يا رب أصحابي؟ فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى﴾.

وقال شعيب عن الزُّهري: كان أبو هريرة يحدث عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم: ﴿فيجلون﴾. وقال عقيل: ﴿فيحلَّؤون﴾. وقال الزبيدي، عن الزُّهري عن محمد بن علي عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم.

حدثني إبراهيم بن المنذر الحزامي: حدثنا محمد بن فليح: حدثنا أبي قال: حدثني هلال عن عطاء هلال بن يسار عن أبي هريرة

عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم قال: ﴿بينا أنا نائم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم فقلت أين؟ قال: إلى النار والله قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى ثم إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم، قلت أين؟ قال: إلى النار والله قلت ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم﴾. رواه البخاري (1).

كان رسولنا الأكرم محمد صلی الله علیه و آله و سلم شاهداً على البشرية بأسرها محتملاً ما يقتضيه ذلك الموقف من أعباء لا تطيقها نفس بشرية عادية ﴿إِنَّا .

ص: 52


1- البخاري. ج 4 ص 141 - 142 الطبعة السابقة.

أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفتح: 8 - 9] ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)﴾ [الأحزاب: 45 - 48].

بينما كان عيسى علیه السلام شهيداً على قومه وليس في الأمر أي نوع من التهوين أو الغض من شأن من وصفه الله تعالى بأنه ﴿رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ فما أعظم تلك الصفات وما أعظم كلمة الله وروحه التي بعثها إلى الأرض ليطهر بها الدنيا من شياطين الجن والإنس وليفسح المجال لكي تكتمل كلمات الله وينفذ أمره في خلقه.

إنها إذاً بشرية وبشرية!

بشرية أعلى عليين على قمتها محمد الصادق الأمين التي دنت فتدانت وعلت فتعالت فكانت قاب قوسين أو أدنى صعوداً إلى الأفق الأعلى فرأت من آيات ربها الكبرى وبشرية تسافلت فسفلت وهبطت وانحطت فسقطت إلى سجين حيث يرقد الضالون المكذبون في القعر الأسفل من دركات البشرية حيث يلتقون هناك مع نظرائهم ممن غضب الله عليهم وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت.

ولا سواء!

ورغم تشابه الشكل والصورة بين ما هو عذب فرات سائغ شرابه وما هو ملح أجاج لا يروي عطشاً ولا يشفي غليلاً إلا التباعد بينهما لا تجبره الكلمات والادعاءات والطنطنات الفارغة ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ۖ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ۖ وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ

ص: 53

النُّورُ

تَشْكُرُونَ (12)﴾ [فاطر.12]. ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ ۖ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۚ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) [فاطر: 19 - 24]، ولا نعتقد أن ثمة حاجة إلى مزيد من البيان!

ص: 54

النبوة

في نهج البلاغة

النبوة شجرة

النبوة شجرة لها جذور ولها ساق ولها فروع ولها أوراق ولها ثمار.

النبوة عند القوم شجرة لها جذور وساق ولها أوراق وثمار وليس لها فروع!

فالجذع هو رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والجذور هم سلفه من أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

الفروع الرئيسية هم أئمة أهل بيت النبوة علیهم السلام أما الثمار والأوراق فهم آحاد المسلمين الذين حاولوا وما زالوا يحاولون الحصول على الغذاء من جذع شجرة النبوة بوسائل أدنى ما يقال عنها أنها طفيلية كما أنها لا تغني ولا تسمن من جوع!

يقول الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام:

فَتَبَارَكَ اللهُ الَّذِي لَا تَبْلُغُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ، وَلَا يَنَالُهُ حَدْسُ الْفِطَنِ، الأوّلُ الَّذِي لَا غَايَةَ لَهُ فَيَنْتَهِي وَلَا آخِرَ لَهُ فَيَنْقَضِي فَاسْتَوْدَعَهُمْ ﴿أي الأنبياء﴾ في

ص: 55

أَفْضَلِ مُسْتَوْدَع، وَأَقَرَّهُمْ فِي خَيْرِ مُسْتَقَرّ تَنَا سَخَتْهُمْ كَرَائِمُ الْأَصْلَابِ إِلَى مُطَهَّرَاتِ الأَرْحَامِ؛ كُلَّمَا مَضَى سَلَفٌ، قَامَ مِنْهُمْ بِدِينِ اللهِ خَلَفٌ.

حَتَّى أَفْضَتْ كَرَامَةُ اللهِ سُبْحَانَهُ إِلَى مُحَمَّد صلی الله علیه و آله و سلم، فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتاً وَأَعَزِّ الأرُومَاتِ مَغْرِساً مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَهُ، وَانتَجَبَ مِنْهَا أَمَنَاءَهُ.

عِشْرَتُهُ خَيْرُ الْعِتَرِ، وَأُسْرَتُهُ خَيْرُ الأَسَرِ، وَشَجَرَتُهُ خَيْرُ الشَّجَرِ؛ نَبَتَتْ

فِي حَرَم وَبَسَقَتْ فِي كَرَم لَهَا فُرُوعٌ طِوَالٌ، وَثَمَرٌ لَا يُنَالُ.

فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اتَّقَى وَبَصِيرَةُ مَنِ اهْتَدَى، وَسِرَاجٌ لَمَعَ ضَوْؤُهُ وَشِهَابٌ سَطَعَ نُورُهُ وَزَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ؛ سِيرَتُهُ الْقَصْدُ، وَسُنَّتُهُ الرُّشْدُ، وَكَلَامُهُ الْفَصْلُ، وَحُكْمُهُ الْعَدْلُ، أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَة مِنَ الرُّسُلِ، وَهَفْوَة عَنِ الْعَمَلِ، وَغَبَاوَة مِنَ الأمَمِ. (1)

ويقول علیه السلام ُ:

اخْتَارَهُ مِنْ شَجَرَةِ الأنْبِيَاءِ، وَمِشْكَاةِ الضّياءِ، وَذُؤَابَةِ الْعَلْيَاءِ، وَسُرَّة الْبَطْحَاءِ، وَمَصَابِيحِ الظُّلْمَةِ، وَيَنَابِيعِ الْحِكْمَةِ.

ابْتَعَثَهُ بِالنُّورِ الْمُضِيءِ وَ الْبُرْهَانِ الْجَلِيِّ وَ الْمِنْهَاجِ الْبَادِي وَ الْكِتَابِ الْهَادِي. أُسْرَتُهُ خَيْرُ أُسْرَةٍ وَ شَجَرَتُهُ خَيْرُ شَجَرَةٍ، أَغْصَانُهَا مُعْتَدِلَةٌ وَ ثِمَارُهَا مُتَهَدِّلَةٌ، مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ وَ هِجْرَتُهُ بِطَيْبَةَ، عَلَا بِهَا ذِكْرُهُ وَ امْتَدَّ مِنْهَا صَوْتُهُ، أَرْسَلَهُ بِحُجَّةٍ كَافِيَةٍ وَ مَوْعِظَةٍ شَافِيَةٍ وَ دَعْوَةٍ مُتَلَافِيَةٍ، أَظْهَرَ بِهِ الشَّرَائِعَ الْمَجْهُولَةَ وَ قَمَعَ بِهِ الْبِدَعَ الْمَدْخُولَةَ وَ بَيَّنَ بِهِ الْأَحْكَامَ الْمَفْصُولَةَ؛ فَ ﴿مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً﴾ تَتَحَقَّقْ شِقْوَتُهُ وَ تَنْفَصِمْ عُرْوَتُهُ3

ص: 56


1- نهج البلاغة، خطبة 93

وَ تَعْظُمْ كَبْوَتُهُ، وَ يَكُنْ مَآبُهُ إِلَى الْحُزْنِ الطَّوِيلِ وَ الْعَذَابِ الْوَبِيلِ. وَ أَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكُّلَ الْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَ أَسْتَرْشِدُهُ السَّبِيلَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى جَنَّتِهِ الْقَاصِدَةَ إِلَى مَحَلِّ رَغْبَتِهِ. (1).

يقول سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)﴾ [سورة إبراهيم: 24 - 27].

ويقول جل وعلا: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّ-حُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)﴾ [سورة النور: 35 - 38].

ويقول سبحانه: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ [النساء: 171]. .

ص: 57


1- المرجع السابق، خطبة 161.

ويقول عز من قائل: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)﴾ [الزخرف: 26 - 28]

ذكر علي بن أبي إبراهيم في تفسير قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)﴾ [ ابراهيم: 24 - 25].

قال: حدثني أبي عن الحسن بن محبوب عن أبي جعفر الأحول عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر علیه السلام قال سألته عن قول الله ﴿مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً﴾ الآية» قال الشجرة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أصلها: نسبه ثابت في بني هاشم وفرع الشجرة علي بن أبي طالب علیه السلام وغصن الشجرة فاطمة عليها السلام وثمرتها الأئمة من ولد علي وفاطمة علیها السلام وشيعتهم ورقها وإن المؤمن من شيعتنا ليموت فتسقط من الشجرة ورقة وإن المؤمن ليولد فتورق الشجرة ورقة قلت أرأيت قوله ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ قال يعني بذلك ما يفتي به الأئمةُ شيعتهم في كل حج وعمرة من الحلال والحرام ثم ضرب الله لأعداء محمد مثلاً فقال ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾، وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر علیه السلام قال: كذلك الكافرون لا تصعد أعمالهم إلى السماء وبنو أمية لا يذكرون الله في مجلس ولا في مسجد ولا تصعد أعمالهم إلى السماء إلا قليل منهم (1).

يقول الشيخ الطوسي في تفسيره: وقوله ﴿وجعلها كلمة باقية في عقبه﴾ معناه جعل هذه الكلمة التي قالها إبراهيم كلمة باقية في عقبه أي 0.

ص: 58


1- علي بن ابراهيم القمي، تفسير القمي، 369 - 1/370.

في ذريته بما أوصى به مما أظهره الله من قوله إجلالاً له وتنزيهاً له ورفعاً لقدره بما كان منه من جلالة الطاعة والصبر على أمر الله. وقال قتادة و مجاهد والسدي: معنى قوله ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةٌ بَاقِيَةً فِي عَقِبهِ﴾ قوله: لا إله إلا الله لم يزل في ذريته من يقولها وقال ابن زيد: هو الإسلام بدلالة قوله ﴿هُوَ سَمَّنكُمُ الْمُسْلِمِينَ﴾ وقال ابن عباس: في عقبه من خلفه وقال مجاهد: في ولده وذريته وقال السدي: في آل محمد علیهم السلام وقال الحسن: عقبه ولده إلى يوم القيامة وقوله ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (46)﴾ قال الحسن: معناه راجع إلى قوم إبراهيم (1)..

ص: 59


1- الشيخ الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، ج 9 م 25.

ص: 60

النبوة كلمة الله

يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾

فالنبوة هي كلمة الله الجامعة لكل معاني الخير وعندما يصل الإنسان إلى مرحلة الكمال فتتطابق أفعاله مع أقواله يصبح الإنسان هو وما يؤمن به شيئاً واحداً لا اثنين فيصبح الإنسان هو كلمة الحق وتتمثل كلمة الحق في هذا الإنسان فتصبح كلمة الحق الإلهي إنساناً يمشي على الأرض ويصبح هذا الإنسان قائداً لغيره إلى صراط الله المستقيم فَهُوَ مِنْ مَعَادِنِ دِينِهِ، وَأَوْتَادِ أَرْضِهِ مِصْبَاحُ ظُلُمَات كَفَّافُ غَشَوَات مِفْتَاحُ مُبْهَمَات دَفَّاعُ مُعْضِلات دَلِيلُ فَلَوَات وهو فوق كل هذا مِنْ مَفَاتِيحِ أَبْوَابِ الْهُدَى، وَمَغَالِيقِ أَبْوَابِ الرَّدَى.

الكلمة هي العلم الذي منحه الله لأنبيائه و أوليائه ﴿ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾ [القلم 1 - 4].

فهو سبحانه الذي علَّم الإنسان بالقلم ما لم يكن يعلم ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)﴾ [العلق 1 - 5]. }

كلمة الله هي الحكمة التي يهبها الله لمن أحب من عباده المصطفين

ص: 61

الأخيار أولي الألباب ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)﴾ [البقرة: 269]

الحكمة هي الكلمات اللاتي أتمهن الله لأنبيائه المخلصين وبعث بهن سيد الأنبياء والمرسلين ﴿ورَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ عَايَتِكَ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتَب وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: 129]، ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)﴾ [البقرة: 151].﴾ ﴾

الكلمة هي الكتاب وهي القرآن الذي أنزله الله هدى للمتقين المجموع من تلك الأحرف الألف واللام والميم والنون يخطها القلم بما يسطرون ﴿الم(1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)﴾ [البقرة: 1 - 4].﴾

فباي حديث بعده يؤمنون؟!

الكلمة كما يقول الراغب الأصفهاني هي كلمة التوحيد وهي كتاب الله وهي عيسى ابن مريم الذي أوجده الله تبارك وتعالى بقوله: ﴿كُن فَيَكُونُ (117)﴾ ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ لاهتداء الناس به کاهتدائهم بكلام الله تعالى وقد سمي كلمة الله تعالى لأنه صار نبياً کما سمي رسول الله ذكراً رسولاً ﴿قَدْ أَنزَلَ اللهُ إلَيْكُم ذِكْرًا ﴾ [الطلاق: 10] وقوله: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً﴾ فالكلمة تسمى قضية وكل قضية تسمى كلمة سواء كان ذلك مقالاً أو فعالاً والكلمة توصف بالصدق فيقال قولٌ صدقٌ وفعلٌ صدقٌ وقوله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدقاً وَعَدَّلا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَتِهِ﴾ إشارة إلى قوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ

ص: 62

وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينا﴾ فقد تمت الشريعة ولا نسخ لها بعد هذا اليوم وهي إشارة إلى قوله صلی الله علیه و آله و سلم ﴿أول ما خلق الله تعالى القلم فقال له اجرِ بما هو كائن إلى يوم القيامة﴾، والكلمة هي القرآن وقد تكفل الله بحفظه فقال ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ والكلمة هي الثواب والعقاب ﴿بَلَىٰ وَلَٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ وهي أحكام الله التي شرعها وهي وعد الله لعباده الصالحين ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا﴾ ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً﴾ ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ ﴿وَ يُحِقُّ اَللّٰهُ اَلْحَقَّ بِكَلِمٰاتِهِ﴾ أي بحججه وبيناته.

﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: 105] انتهى النقل.

الكلمة إذاً هي الدين كله ولذا فإن عجبي ينقضي من أصحاب التفاسير الذين أسهبوا في وصف الشجرة التي شبه الله سبحانه وتعالى بها الكلمة الطيبة ولم يسهبوا في وصف الكلمة.

الكلمة الإلهية حكم وأمر وكتاب مسطور ﴿وَالطُّورِ(1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) [الطور 1 - 12].

الكلمة هي سجل الكون الذي خطه الأنبياء بجهادهم وصبرهم في تبليغ رسالة ربهم وخطه الشهداء بدمائهم والعلماء بمداد أقلامهم ﴿ييَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ۚ وَعْدًا

ص: 63

عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)﴾ [انبیاء 104 - 105].

الكلمة الطيبة بكل هذه المعاني وغيرها ممن لم نتمكن من إحصائها هي شجرة أصلها ثابت وفرعها يمتد صعوداً إلى عنان السماء تؤتي أكلها في كل وقت وحين مهما حاول المبطلون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

في المقابل فإن الكلمة الخبيثة كلمة الكفر والنفاق لا تعدو كونها صورة شجرة بلا عمق ولا جذور لا بد أن تقتلعها الريح وتزعزعها العواصف ﴿مَا لَهَا مِن قَرَارٍ (26)﴾.. ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)﴾.

الكلمة الطيبة تتلاقح مع الأبدان والأرواح كما تتلاقح البذور في التربة الطيبة أو التربة الخبيثة.

التربة الخبيثة تقتل البذرة الطيبة ولا تسمح إلا بنمو ما كان على شاكلتها من النبات الأكثر خبثاً والأسوأ أثراً ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)﴾ [الأعراف: 58] وهذا هو تاريخ النبوة المحمدية التي ﴿نَبَتَتْ في حَرَم وَبَسَقَتْ فِي كَرَم لَهَا فُرُوعٌ طِوَالٌ وَثَمَرٌ لا يُنَالُ﴾.

ص: 64

مناقب الشجرة المحمدية

لماذا يتعين علينا الاهتمام بإبراز مناقب الشجرة المحمدية؟

الجواب نراه فيما حكاه لنا القرآن الكريم عن أنبياء الله صلى الله عليهم الذين سبقوا نبينا محمداً صلی الله علیه و آله و سلم وكيف بشر بهم من سبقهم وكيف جرى إعداد وتهيئة آبائهم وأمهاتهم ليقدموا للبشرية ذلك النبت والشجر المبارك الذي سيحمل أمانة الله أي النبوة والبلاغ عن رب العالمين.

إنها الأمانة التي عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وتصدى لها من تصدى من بني الإنسان ظلماً وجهلاً ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب 72].

ظلماً لأنفسهم إذ حملوا أنفسهم ما لا قبل لهم بحمله فكانوا كيني إسرائيل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها لأنهم لم يفقهوها ولم يؤدوا أمانتها ولا حقها.

وظلماً لأتباعهم الذين اتبعوهم من دون بينة ولا برهان ولا كتاب منير فأحلوهم دار البوار ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ۖ وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)﴾ [إبراهيم 28 - 29].

وجهلاً بحقيقة الرسالة الأمانة التي لا يقدر على حملها واحتمالها إلا المصطفون الأخيار.

ص: 65

حكى لنا القرآن عن موسى وأم موسى وأخته وأخيه هارون كما حكى لنا رب العزة عن نشأة عيسي علیه السلام بدءًا من قصة زكريا علیه السلام وكيف بشرته الملائكة بابن الخالة يحيى كما حكى لنا عن كفالة زكريا علیه السلام لمريم ابنة عمران وكيف كلمتها الملائكة وبشرتها بكلمة من الله إلى آخر ما هو معروف.

أما نحن فالمهمة كانت بيد السادة المؤرخين الذين شهدوا ودونوا ولم يكن علمهم بالنشأة والاصطفاء الإلهي لنبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم متوقفاً على نزول قرآن يتلى يحكي لهم ما شاهدوه بأم أعينهم ومع ذلك فإنهم خلطوا الحق بالباطل وحرفوا الكلم عن مواضعه إرضاء لأعداء الإسلام الأمويين خصوم الشجرة المحمدية الهاشمية خاصة بعد أن استولوا على السلطة ولم يكن لهم من همِّ إلا تقليص دائرة المفاهيم المرتبطة بالنبوة وحصرها في إطار التبليغ والاستيلاء على حق التفسير والتأويل من أجل تقديم تصور عن الإسلام يخدم أغراضهم ويلبي احتياجاتهم.

النبوة عندهم هي ﴿محمد﴾ ولا شيء قبله ولا شيء بعده.

فأبوه وأمه وأجداده وأعمامه هم من أهل النار وأولاهم بهذه النار هو ناصر الإسلام الأول أبي طالب عم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أما أولى الناس بالجنة فهم أعداء رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الذين حاربوا الإسلام أكثر من عشرين عاماً من آل أبي سفيان!

هكذا قال من قال وروى من روى وصدق أغلب الناس من دون تدقيق ولا تمحيص!

أما عن ذريته وعترته فلا شيء يميزهم عن بقية الناس وهم ملزمون بالدخول فيما دخل فيه الناس وليس العكس بأي حال من الأحوال وهذا

ص: 66

مبرر كاف لقتلهم ومحاربتهم ومحاربة من ينحاز لهم إذا رفضوا الانصياع للفاسدين من بني أمية وبني العباس والهدف من هذا الطرح هو تنحيتهم وإخلاء الساحة منهم والاستعانة بمن جرى تسميتهم بعد ذلك بالفقهاء لملء الفراغ وتقديم ما يلزم من فقه ومفاهيم لتمشية أحوال الناس.

إنها الرؤية السفيانية للنبوة المحمدية والتي سنذكرها بعد قليل والتي تلخص الأمر كله في كلمات أبي سفيان المنحطة ﴿مثل محمد في بني هاشم كمثل الريحانة في وسط النتن﴾.

الأمثال في القرآن

لأن أغلب المفاهيم القرآنية عن النبوة والنور والكلمة والشجرة هي مصطلحات رمزية استخدمها رب العزة سبحانه في إيصال الرسالة لمن يرغب أو يقدر على الفهم دون غيرهم ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)﴾ فالأمر يحتاج إلى شرح وتفصيل لدلالة الأمثال في القرآن ومرة أخرى نرجع إلى الراغب الأصفهاني صاحب معجم المفردات في غريب القرآن.

يقول الأصفهاني:

أصل كلمة مثل هو المثول أي الانتصاب والمُمَثل المصور على مثال غيره، يقال مَثُلَ الشيء أي انتصب وتصور ومنه قوله صلی الله علیه و آله و سلم من أحب أن يتمثل له الناس وقوفاً فليتبوأ مقعده من النار والتمثال الشيء المصور، قال تعالى ﴿فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)﴾

والمثل عبارة عن قول في شيء يشبه قولاً في شيء آخر بينهما مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوره ...

ص: 67

وعلى هذا الوجه ما ضرب الله تعالى من الأمثال فقال: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ وفي أخرى ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾. والمثل يقال على وجهين أحدهما بمعنى المِثل نحو شِبه وشَبه وقد

يعبر به عن وصف الشيء نحو قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾ والثاني عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من المعاني وهو أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة.

فالند يقال فيما يشارك في الجوهر فقط ...

والشَّبه يقال فيما يشارك في الكيفية فقط ...

والمساوي يقال فيما يشارك في الكمية فقط ...

والشكل يقال فيما يشاركه في القدر والمساحة فقط ...

والمثل عام في جميع ذلك ولهذا لما أراد الله تعالى نفي التشبيه من كل وجه خصه بالذكر فقال ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.

وقوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ أي هم في جهلهم بمضمون حقائق التوراة كالحمار في جهله بما على ظهره من الأسفار.

وقوله: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ فإنه سبحانه شبه من آتاه الله تعالى ضرباً من الهداية فأضاعه ولم يتوصل به إلى ما رشح له من نعيم الأبد بمن استوقد ناراً في ظلمة فلما أضاءت له ضيعها ونكس فعاد في الظلمة (1). ا. ه. 2.

ص: 68


1- معجم مفردات ألفاظ القرآن الراغب الأصفهاني ص 481 - 482. دار الكاتب معجم العربي. بيروت 1972.

إذاً فالأمثال التي يضربها سبحانه للناس هي تصوير عام وشامل والاستدلال به على مراد الله يكون من خلال بعض المفاتيح الواردة في

التمثيل القرآني.

والأمثال التي ضربها الله تعالى للناس في القرآن لا يلزم أن تكون مأخوذة من أرض الواقع أو من فعل العقلاء فهل هناك عاقل يفعل ما فعله الذي استوقد ناراً في صحراء مقفرة مظلمة وربما كانت هذه النيران ضرورة من ضروريات بقائه فإذا به يطفئها ويضيعها ليهلك ويهلك من معه ويَضل ويُضل من يمشي خلفه؟!

إنها تجسيد مادي لسلوك معنوي يومي لا ينتبه القوم لضرره ولا لآثاره المدمرة ولكنه سينعكس يوماً ما في أضرار مادية واقعية.

ولأننا نعتقد أن أهل البيت وحدهم بهم يُسْتَعْطَى الْهُدَى، وَبِهم يُسْتَجْلَى الْعَمَى ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)﴾ ولأن أصدق

ما يوصف به حال هذه الأمة قوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)﴾ فإننا نعتقد ونوقن أن معنى كلمة شجرة في المثالين السابقين هي شجرة النبوة والآل ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ ﴿زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ﴾ شاء من شاء وأبى من أبى! أقر المفسرون أم لم يقروا!

ولأن هذه الأمثال لا يفهمها على وجهها إلا أولو الألباب العالمون أصحاب الإدراك المتجرد من الأهواء فنحن لا نرى مبرراً لتفسير آية سورة النور بأنها في ﴿المؤمنين﴾ عامة وحتى لو كان هذا صحيحاً أليس أهل بيت العصمة والنبوة هم أكمل المؤمنين إيماناً؟

أليست بيوتهم بيوتاً ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّ-حُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ

ص: 69

الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)﴾؟!

ألم يلحظ هؤلاء السادة المفسرون أن الله تبارك وتعالى عندما تحدث عن جمهور المؤمنين المتواجدين في المسجد في سورة الجمعة قال وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ۚ قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ۚ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)﴾ ... في حين أنه عندما تحدث عن رجال الله في سورة النور قال ﴿لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ﴾ ولم يأت على ذكر اللهو الجائز في حق غيرهم ممن كانوا في مسجد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم جالسين بين يديه فأهل الله المخلَصين لا يجوز منهم التلهي بالتجارة أو بغير التجارة ولا يجوز عليهم اللهو واللغو وبالتالي فهم موئل النور وهم من بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه وغيرهم هو من يحتاج للاقتباس من هذا النور.

الفرصة الوحيدة لجمهور المؤمنين لاقتباس النور من نبع النور هي في الدنيا، أما في الآخرة وبعد أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً وبعد انتهاء المهلة الممنوحة لهؤلاء يأتي أهل النور بنورهم ويأتي أهل الظلمة بظلماتهم ﴿ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ [النور: 40] ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ مَأْوَاكُمُ النَّارُ ۖ هِيَ مَوْلَاكُمْ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)﴾ [الحديد 12 - 15].

يومها يوم الحسرة والندامة عندما يرى المنافقون ما فيه إخوانهم

ص: 70

المؤمنون من نعيم النور الإلهي وكفى به عزاً وكرامة ونعيماً فيتسولون منهم قبساً من هذا النور لعله ينقذهم من تلك الظلمة القاتلة ظناً منهم أنهم ﴿أي المؤمنين نظراً لتوهجهم وتألقهم﴾ هم مصدر النور فيأتي الجواب ارجعوا وراءكم إلى مصدر النور فالتمسوا النور من أصله ومصدره فيحاولون التراجع أو الرجوع لالتماس النور فيوصد في وجههم باب الرحمة الذي كان مفتوحاً على مصراعيه أمامهم قبل أن تقع الواقعة وترجف الراجفة فينادون من يعرفون من إخوانهم المؤمنين الذين كانوا يعيشون معهم من قبل وهم كانوا من قبل منكرين لإيمانهم ومنهجهم في صرخة يائسة: ألم نكن معكم؟ فيأتي الجواب ﴿بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ فاليوم لا يقبل منكم أيها المنافقون المعرضون عن نور النبوة عذر ولا فدية وحالكم هو كحال الذين كفروا والنار مصير هؤلاء وهؤلاء وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب.

ما أسوأ حال هؤلاء الذين عرفوا الحق فأنكروه وحاربوه ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا﴾، وما أسوأ حالهم يوم الهول يوم تنكشف الحقائق ويتميز الحق من الباطل والنور من الظلمة.

الإمام علي يصف الشجرة المحمدية

﴿فَاسْتَوْدَعَهُمْ فِي أَفْضَلِ مُسْتَوْدَعٍ وَ أَقَرَّهُمْ فِي خَيْرِ مُسْتَقَرٍّ، تَنَاسَخَتْهُمْ كَرَائِمُ الْأَصْلَابِ إِلَى مُطَهَّرَاتِ الْأَرْحَامِ، كُلَّمَا مَضَى مِنْهُمْ سَلَفٌ قَامَ مِنْهُمْ بِدِينِ اللَّهِ خَلَفٌ. حَتَّى أَفْضَتْ كَرَامَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى إِلَى مُحَمَّدٍ ﴿صلی الله علیه وآله﴾ فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتاً وَ أَعَزِّ الْأَرُومَاتِ مَغْرِساً مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَهُ وَ انْتَجَبَ مِنْهَا أُمَنَاءَهُ ... عِتْرَتُهُ خَيْرُ الْعِتَرِ وَ أُسْرَتُهُ خَيْرُ الْأُسَرِ،

ص: 71

وَ شَجَرَتُهُ خَيْرُ الشَّجَرِ، نَبَتَتْ فِي حَرَمٍ وَ بَسَقَتْ فِي كَرَمٍ، لَهَا فُرُوعٌ طِوَالٌ وَ ثَمَرٌ لَا يُنَالُ﴾.

﴿اخْتَارَهُ مِنْ شَجَرَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَ مِشْكَاةِ الضِّيَاءِ وَ ذُؤَابَةِ الْعَلْيَاءِ وَ سُرَّةِ الْبَطْحَاءِ وَ مَصَابِيحِ الظُّلْمَةِ وَ يَنَابِيعِ الْحِكْمَةِ﴾.

﴿أُسْرَتُهُ خَيْرُ أُسْرَةٍ وَ شَجَرَتُهُ خَيْرُ شَجَرَةٍ، أَغْصَانُهَا مُعْتَدِلَةٌ وَ ثِمَارُهَا مُتَهَدِّلَةٌ﴾.

روى مسلم في ﴿صحيحه﴾

* عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر.

* عن أبي عمار شداد أنه سمع واثلة بن الأسقع يقول: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم (1).

ويروي أبو الفداء في تاريخه عن المطلب بن أبي وداعة قال جاء العباس إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فكأنه سمع شيئاً ﴿؟!﴾ فقام النبي صلی الله علیه و آله و سلم على المنبر فقال من أنا؟ فقالوا أنت رسول الله عليك السلام قال أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب إن الله خلق الخلق فجعلني في خيرهم ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة ثم جعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً وخيرهم نفساً.

ص: 72


1- صحیح مسلم، ج 7، ص 1236. كتاب الجمهورية. 1989. مصر.

أما هذا الذي قاله القوم فأغضب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فيرويه أبو الفداء نقلا عن الحافظ البيهقي بإسناد يرفعه إلى العباس عم النبي صلی الله علیه و آله و سلم.

قال: قلت یا رسول الله إن قريشاً إذا التقوا لقي بعضهم بعضاً بالبشاشة وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها فغضب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عند ذلك غضباً شديداً ثم قال: ﴿والذي نفس محمد بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله﴾ وذكر في موضع آخر عن ابن عمر قال: إنا لقعود بفناء رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إِذ مرت به امرأة فقال بعض القوم: هذه بنت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أي فاطمة الزهراء علیه السلام فقال أبو سُفيان: مثل محمد في بني هاشم مثل الريحانة في وسط النتن.

فانطلقت المرأة أي الزهراء فأخبرت النبي صلی الله علیه و آله و سلم فجاء صلی الله علیه و آله و سلم يعرف في وجهه الغضب فقال: ما بال أقوال تبلغني عن أقوام؟؟ إِنَّ الله عز و جل خلق السماوات سبعاً فاختار العُلى منها فأسكنها من شاء من خلقه ثم خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم واختار من بني آدم العرب واختار من العرب مضر واختار من مضر قريشاً واختار من قريش بني هاشم واختارني من بني هاشم.

وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال لي جبرائيل قلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلاً أفضل من مُحمد وقلبت الأرضَ مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم (1). انتهى النقل.

والشاهد أن الأساليب التي اتبعتها حركة النفاق قد تنوعت وكان 8.

ص: 73


1- المختصر في تاريخ البشر لأبي الفداء، ص 142، ج 1 الطبعة الأولى. دار المعارف المصرية. 1998.

من بينها الطعن في نسب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وفضله وشرفه توصلاً إلى تحقيق هدفها النهائي وهو إعادة الاستيلاء على الدنيا هذه المرة باسم الإسلام بعد أن جربوا في السابق إعلان الحرب الصريحة على الدين فلم يفلحوا في كسب معركة المواجهة المباشرة.

ص: 74

الرسول الأكرم سليل المجد والشرف

إنه أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

هكذا تسير سلسلة الاصطفاء فالله سبحانه وتعالى اختار من العرب مضراً واختار من مضر قريشاً واختار من قريش بني هاشم واختار محمداً من بني هاشم.

والرواية لابن الأثير تقول في: هاشم بن عبد مناف جد بني هاشم: كان جد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم هو هاشم بن عبد مناف واسمه عمرو وكنيته أبو نضلة وإنما قيل له هاشم لأنه أول من هشم الثريد لقومه بمكة وأطعمه.

قال ابن الكلبي: كان هاشم أكبر ولد عبد مناف والمطلب أصغرهم أمه عاتكة بنت مرة السلمية ونوفل وأمه واقدة وعبد شمس فسادوا كلهم وكان يقال لهم المجيرون.

وهم أول من أخذ لقريش أخذ لقريش العصم فانتشروا من الحرم فأخذ لهم هاشم خيلاً من الروم وغسان بالشام وأخذ لهم عبد شمس خيلا من النجاشي بالحبشة وأخذ لهم نوفل خيلاً من الأكاسرة بالعراق وأخذ لهم المطلب خيلاً من حمير باليمن فاختلفت قريش بهذا السبب إلى هذه النواحي فجبر الله بهم قريشّا.

ص: 75

وولي هاشم بعد أبيه عبد مناف ما كان إليه من السقاية والرفادة فحسده أمية بن عبد شمس على رياسته وإطعامه فتكلف أن يصنع صنيع هاشم فعجز عنه فشمت به ناس من قريش فغضب ونال من هاشم ودعاه إلى المنافرة فكره هاشم ذلك لسنه وجلال قدره فلم تدعه قريش حتى نافره على خمسين ناقة والجلاء عن مكة عشر سنين فرضي أمية وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي وهو جد عمرو بن الحمق ومنزله بعسفان وكان مع أمية همهمة بن عبد العزى الفهري وكانت ابنته عند أمية فقال الكاهن: والقمر الباهر والكوكب الزاهر والغمام الماطر وما بالجو من طائر وما اهتدى بعلم مسافر من منجد وغائر لقد سبق هاشم أمية إلى المآثر أول منه وآخر وأبو همهمة بذلك خابر.

فقضى لهاشم بالغلبة وأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها وغاب أمية عن مكة بالشام عشر سنين فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية.

وكان يقال لهاشم والمطلب البدران لجمالهما.

ومات هاشم بغزة وله عشرون سنة وقيل: خمس وعشرون سنة وهو أول من مات من بني عبد مناف ثم مات عبد شمس بمكة فقبر بأجياد.

وكانت الرفادة والسقاية بعد هاشم إلى أخيه المطلب لصغر سن ابنه عبد المطلب بن هاشم.

عبد المطلب بن هاشم

إنه جد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وإنما قيل له عبد المطلب لأن أباه هاشمًا شخص في تجارة إلى الشام فلما قدم المدينة نزل على عمرو بن لبيد الخزرجي من بني النجار فرأى ابنته سلمى فأعجبته فتزوجها.

ص: 76

وشرط أبوها أن لا تلد ولدًا إلا في أهلها ثم مضى هاشم لوجهه وعاد من الشام فبنى بها في أهلها ثم حملها إلى مكة فحملت فلما أثقلت ردها إلى أهلها ومضى إلى الشام فمات بغزة فولدت له عبد المطلب فمكث بالمدينة سبع سنين ثم إن رجلًا من بني الحارث بن عبد مناف مر بالمدينة فإذا غلمان ينتضلون فجعل شيبة ﴿عبد المطلب﴾ إذا أصاب قال: أنا ابن هاشم أنا ابن سيد البطحاء.

فلما أتى الحارثي مكة قال للمطلب وهو بالحجر: يا أبا الحارث تعلم أني وجدت علمانًا بيثرب وفيهم ابن أخيك ولا يحسن ترك مثله فقال المطلب لا أرجع إلى أهلي حتى آتي به فقدم المدينة عشاء فأخذه بإذن أمه وسار إلى مكة فقدمها ضحوة والناس في مجالسهم فجعلوا يقولون له: من هذا وراءك؟ فيقول: هذا عبدي. حتى أدخله منزله على امرأته خديجة بنت سعيد بن سهم. فقالت: من هذا الذي معك؟ قال: عبد لي.

واشترى له حلةً فلبسها ثم خرج به العشي فجلس إلى مجلس بني عبد مناف فأعلمهم أنه ابن أخيه فكان بعد ذلك يطوف بمكة فيقال: هذا عبد المطلب لقوله هذا عبدي ثم أوقفه المطلب على ملك أبيه فسلمه إليه.

فعرض له نوفل بن عبد مناف وهو عمه الآخر بعد موت المطلب فأخذ داراً له فمشى عبد المطلب إلى رجالات قريش وسألهم النصرة على عمه فقالوا له: ما ندخل بينك وبين عمك. فكتب إلى أخواله من بني النجار يصف لهم حاله فخرج أبو أسعد بن عدس النجاري في ثمانين راكبًا حتى أتى الأبطح فخرج عبد المطلب يتلقاه فقال له: المنزل یا خال! قال: حتى ألقى نوفلًا وأقبل حتى وقف على رأسه في الحجر مع مشايخ قريش فسل سيفه ثم قال: ورب هذه البنية لتردن على ابن أختنا داره أو لأملأن منك السيف! قال: فإني ورب هذه البنية أرد عليه

ص: 77

داره فأشهد عليه من حضر ثم قال لعبد المطلب: المنزل يا بن أختي.

فأقام عنده ثلاثًا فاعتمروا وانصرفوا.

فدعا ذلك عبد المطلب إلى الحلف فدعا بشر بن عمرو وورقاء بن فلان ورجالًا من رجالات خزاعة فحالفهم في الكعبة وكتبوا كتابًا. وكانت له السقاية والرفادة وشرف في قومه وعظم شأنه ثم إنه حفر زمزم وهي بئر إسماعيل بن إبراهيم علیه السلام التي أسقاه الله وكان سبب حفره إياها أنه قال: بينا أنا نائم بالحجر إذ أتاني آتٍ فقال: احفر طيبة. قال: قلت: وما طيبة؟ قال: ثم ذهب فرجعت الغد إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال: احفر بَرة قلت: وما بَرة؟ قال: ثم ذهب عني فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال: احفر المضنونة قال: قلت: وما المضنونة؟ قال: فذهب عني فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال: احفر زمزم إنك إن حفرتها لا تندم فقلت وما زمزم؟ قال تراث من أبيك الأعظم لا تنزف أبدًا ولا تذم تسقي الحجيج الأعظم مثل نعام جافل لم يقسم ينذر فيها ناذر لمنعم يكون ميرانا وعقدا محكماً، ليس كبعض ما قد تعلم، وهي بين الفرث والدم عند نقرة الغراب الأعصم، عند قرية النمل.

فلما بین له شأنها ودل على موضعها وعرف أنه قد صدق غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث ليس له ولد غيره فحفر بين إساف ونائلة في الموضع الذي تنحر فيه قريش لأصنامها وقد رأى الغراب ينقر هناك.

فلما بدا له الطوي كبر فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته فقاموا إليه فقالوا: إنها بئر أبينا إسماعيل وإن لنا فيها حقّا فأشركنا معك قال: ما أنا بفاعل هذا أمر خصصت به دونكم قالوا: فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم قالوا: كاهنة بني

ص: 78

سعد بن هذيم وكانت بمشارف الشام فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني عبد مناف وركب من كل قبيلة من قريش نفر حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام فني ماء عبد المطلب وأصحابه فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة فطلبوا الماء ممن معهم من قريش فلم يسقوهم فقال لأصحابه: ماذا ترون؟ فقالوا: رأينا تبعٌ لرأيك فمرنا بما شئت قال: فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم لنفسه حفرة فكلما مات واحد واراه أصحابه حتى يكون آخركم موتًا قد وارى الجميع فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب قالوا: نعم ما رأيت ففعلوا ما أمرهم به.

ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض ونبتغي لأنفسنا لعجزٌ فارتحلوا ومن معه من قبائل قريش ينظرون إليهم ثم ركب عبد المطلب فلما انبعثت به راحلته انفجرت من تحت خفها عينٌ عذبة من ماء فكبَّر وكبَّر أصحابه و شربوا وملأوا أسقيتهم ثم دعا القبائل من قريش فقال: هلموا إلى الماء فقد سقانا الله فقال أصحابه: لا نسقيهم لأنهم لم يسقونا فلم يسمع منهم وقال: فنحن إذًا مثلهم! فجاء أولئك القرشيون فشربوا وملأوا أسقيتهم وقالوا: قد والله قضى الله لك علينا يا عبد المطلب والله لا تخاصمك في زمزم أبدًا إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم فارجع إلى سقايتك راشدًا فرجعوا إليه ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلوا بينه وبينها فلما فرغ من حفرها وجد الغزالين اللذين دفنتهما جرهم فيها وهما من ذهب ووجد فيها أسيافًا قلعية وأدراعًا.

فقالت له قريش: يا عبد المطلب لنا معك في هذا شركٌ وحقّ. قال لا ولكن هلم إلى أمر نصفٍ بيني وبينكم نضرب عليها بالقداح. فقالوا: فكيف تصنع؟ قال: أجعل للكعبة قدحين ولكم قدحين وله قدحين فمن

ص: 79

خرج قداحه على شيء أخذه ومن تخلف قداحه فلا شيء له قالوا: أنصفت.

ففعلوا ذلك وضربت القداح عند هبل فخرج قدحا الكعبة على الغزالين وخرج قدحا عبد المطلب على الأسياف والأدراع ولم يخرج لقريش شيء من القداح فضرب عبد المطلب الأسياف بابّا للكعبة وجعل فيه الغزالين صفائح من ذهب فكان أول ذهب حليت به الكعبة وأقبل الناس والحجاج على بئر زمزم تبركّا بها ورغبة فيها وأعرضوا عما سواها من الآبار ولما رأى عبد المطلب تظاهر قريش عليه نذر لله تعالى: إن يرزقه عشرة من الولدان يبلغون أن يمنعوه ويذبوا عنه نحر أحدهم قربانا لله تعالى.

وعبد المطلب أول من خضب بالوسمة وهو السواد لأن الشيب أسرع إليه.

وكان لعبد المطلب جار يهودي يقال له أذينة يتجر وله مال كثير فغاظ ذلك حرب بن أمية وكان نديم عبد المطلب فأغرى به فتيانًا من قريش ليقتلوه ويأخذوا ماله فقتله عامر بن عبد مناف بن عبد الدار وصخر بن عمرو بن كعب التيمي جد أبي بكر فلم يعرف عبد المطلب قاتليه فلم يزل يبحث حتى عرفهما وإذا هما قد استجارا بحرب بن أمية فأتى حربًا ولامه وطلبهما منه. فأخفاهما فتغالظا في القول حتى تنافرا إلى النجاشي ملك الحبشة فلم يدخل بينهما فجعلا بينهما نفیل بن عبد العزى العدوي جد عمر بن الخطاب فقال لحرب: يا أبا عمرو أتنافر رجلاً هو أطول منك قامة وأوسم وسامة وأعظم منك هامة وأقل منك ملامة وأكثر منك ولدًا وأجزل منك صفدًا وأطول منك مددًا وإني لأقول هذا وإنك لبعيد الغضب رفيع الصوت في العرب جلد المريرة لحبل العشيرة ولكنك نافرت منفرًا فغضب حرب وقال: من انتكاس الزمان أن جعلت حكمًا.

ص: 80

فترك عبد المطلب منادمة حرب ونادم عبد الله ونادم عبد الله بن جدعان التيمي وأخذ من حرب مائة ناقة فدفعها إلى ابن عم اليهودي وارتجع ماله إلا شيئًا هلك فغرمه من ماله.

وهو أول من تحنث بحراء فكان إذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين وتوفي وله مائة وعشرون سنة وكان قد عمي (1).

كما يروي ابن الجوزي في ﴿المنتظم﴾

(2):

حدَثنا عبد العزيز بن عمران بن عبد الله عن جعفر عن أبي عون عن المسور بن مخرمة عن ابن عباس عن أبيه العباس بن عبد المطلب قال: قال أبي عبد المطلب: خرجت إلى اليمن في رحلة الشتاء والصيف فنزلتُ على رجل من اليهود يقرأ الزبور فقال: يا عبد المطلب ائذن لي فأنظر في بعض جسدك فقلت:

انظر ما لم يكن عورة فنظر في منخري فقال أجد في أحد منخريك ملكًا وفي الأخرى نبوة فهل لك من شَاعَة قلت: وما الشَّاعَةُ؟ قال: الزوجة قلت: أما اليوم فلا قال: فإذا قدمت مكة فتزوج فقدم فتزوج هالة فولدت له حمزة وصفية وتزوج عبد الله آمنة فولدت له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فكانت قريش تقول فَلَجَ عبد الله على أبيه.

منام رقيقة واستسقاء قريش برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم:

روى ابن الجوزي في كتابه ﴿المنتظم﴾ من أخبار السنة الخامسة لمولده المبارك:

ص: 81


1- ابن الأثير الكامل في التاريخ، ص 544 - 1/568، طبعة دار الكتب العلمية، بیروت، 1987.
2- ابن الجوزي، المنتظم، 2/204، ط دار الكتب العلمية، بيروت 1992.

أخبرنا عبد الله بن علي المقرئ ومحمد بن ناصر الحافظ قالا: أخبرنا طراد بن محمد قال: أخبرنا علي بن محمد بن بشران قال: أخبرنا الحسن بن صفوان قال: حدثنا عبد الله بن محمد القرشي قال: أخبرنا زكريا بن يحيى الطائي قال: حدّثني زحر بن حصين عن جده حميد قال: تحدث خرمة بن نوفل عن أمه رقيقة ابنة صفي بن هاشم قالت: تتابعت على قريش سنون أقحلت الضَّرْع وأدقَّت العظم فبينا أنا نائمة اللهم أو مهمومة إذا هاتف يقول: يا معشر قريش إن هذا النَّبيَّ المبعوث فيكم قد أظلتكم أيامه وهذا إبان نجومه فحي هلا بالحَيَا والخصب ألا فانظروا رجلًا منكم وسيطًا عظامًا جسَامًا أبيض بَضًا أوطفَ الأهداب سهل الخدين أشمَّ العرنين له فخر يكظم عليه وسنة تهدي إليه فليَخْلص هو وولده وليهبط إليه من كل بطن رجل فليسنوا من الماء وليمسوا من الطيب ثم ليستلموا الركن ثم ليرتقوا أبا قُبيس فليستسق الرجل وليؤمّن القوم فغِنّتم ﴿من الغوث﴾ ما شئتم فأصبحتُ مذعورة وقد اقشعر جلدي ووَله عقلي واقتصصت رؤياي فوالحرمة والحَرَم ما بقي أبْطحي إلا قال: هذا شَيْبة الحمد ﴿عبد المطلب﴾.

فتتامَّت إليه رجالات قريش فهبط إليه من كل بطن رجل فسنوا ومسُّوا واستلموا ثم ارتقوا أبا قُبَيس وطبقوا جانبيه فما يبَلْغ سعيهم مُهْلةٌ حتى إذا استووا بذروة الجبل قام عبد المطلب ومعه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم غلام قد أيفع فقال «اللهم ساد الخلة وكاشف الكربة أنت معلم غير مَعلم ومسؤول غير مبخل وهؤلاء عبادك وإماؤك بغدرات حرمك يشكون إليك سنتهم أذهبت الخف والظلف اللهم فأمطرنا غيثاً مغدقا ممرعًا».

فورب الكعبة ما زالوا حتى تفجرت السماء بمائها واكتظ الوادي بتجيجه فلسمعت شِیخان قریش وجلتها: عبد الله بن جُدعان وحرب بن

ص: 82

أمية وهشام بن المغيرة يقولون لعبد المطلب: هنيئًا لك أبا البطحاء أي: عاش بك أهل البطحاء.

وفي ذلك تقول رقيقة:

بشَيبة الحمد أسقى الله بلدتنا *** لما فقدْنا الحيا واجلوَذ المطرُ

فجاد بالماء جَوْني له سَبل سحّا *** فعاشتَ به الأنعام والشجرُ

منّا من الله بالميمون طائره *** وخير مَنْ بشرت يومًا به مُضرُ

مَبَارَكُ الأمر يُسْتسقى الغمام به *** ما في الأنام له عِدْلٌ ولا خطرُ (1).

بين عبد المطلب وأبرهة

يروي ابن الأثير في الكامل: إنّ الحبشة ملكوا اليمن بعد حمیر فلما صار الملك إلى أبرهة بنى كنيسة عظيمة وقصد أن يصرف حج العرب إليها ويبطل الكعبة الحرام فجاء شخص من العرب وأحدث في تلك الكنيسة فغضب أبرهة لذلك وسار بجيشه ومعه الفيل وقيل كان معه ثلاثة عشر فيلاً ليهدم الكعبة فلما وصل إلى الطائف بعث الأسود بن مقصود إلى مكة فساق أموال أهلها وأحضرها إلى أبرهة وأرسل أبرهة إلى قريش وقال لهم: لست أقصد الحرب بل جئت لأهدم الكعبة فقال عبد المطلب: والله ما نريد حربه هذا بيت الله فإن منع عنه فهو بيته وحرمه وإن خلا بينه وبينه فوالله ما عندنا من دفع ثم انطلق عبد المطلب مع رسول أبرهة إليه فلما استؤذن لعبد المطلب قالوا لأبرهة: هذا سيد قريش فأذن له وأكرمه ونزل عن سريره وجلس معه وسأله في حاجته فذكر عبد المطلب أباعره التي أخذت له فقال أبرهة: إني كنت أظن أنك تطلب مني أن لا أخرب الكعبة التي هي دينك، فقال عبد المطلب: أنا

ص: 83


1- ابن الجوزي، المنتظم 275 / 2. السابق.

رب الأباعر فاطلبها وللبيت رب يمنعه فأمر أبرهة برد أباعره عليه فأخذها عبد المطلب وانصرف إلى قريش ولما قارب أبرهة مكة وتهيأ لدخولها بقي كلما أقبل فيله مكة وكان اسم الفيل محموداً ينام ويرمي بنفسه إلى الأرض ولم يسر فإذا وجهوه إلى غير مكة قام يهرول وبينما هم كذلك إذ أرسل الله عليهم طيراً أبابيل أمثال الخطاطيف مع كل طائر ثلاثة أحجار في منقاره ورجليه فقذفتهم بها وهي مثل الحمص والعدس فلم يصب

أحداً منهم إلا هلك (1).

كما روى الكليني في الكافي نفس الرواية بشيء من التفصيل عن أبي عبد الله ﴿الصادق علیه السلام﴾ قال: لما أن وجه صاحب الحبشة بالخيل ومعهم الفيل ليهدم البيت مروا بإبل لعبد المطلب فساقوها فبلغ ذلك عبد المطلب فأتى صاحب الحبشة فدخل الآذن فقال: هذا عبد المطلب بن هاشم قال: وما يشاء؟ قال الترجمان: جاء في إبل له ساقوها يسألك ردها فقال ملك الحبشة لأصحابه: هذا رئيس قوم وزعيمهم جئت إلى بيته الذي يعبده لأهدمه وهو يسألني إطلاق إبله أما لو سألني الإمساك عن هدمه لفعلت ردوا عليه إبله فقال عبد المطلب لترجمانه ما قال لك الملك؟ فأخبره فقال عبد المطلب: أنا رب الإبل ولهذا البيت رب يمنعه فردت إليه إبله وانصرف عبد المطلب نحو منزله فمر بالفيل في منصرفه فقال للفيل: يا محمود فحرك الفيل رأسه فقال له أتدري لم جاؤوا بك؟ فقال الفيل برأسه لا فقال عبد المطلب جاؤوا بك لتهدم بيت ربك أفتراك فاعل ذلك؟ فقال برأسه لا!

فانصرف عبد المطلب إلى منزله فلما أصبحوا غدوا به لدخول الحرم فأبى وامتنع عليهم فقال عبد المطلب لبعض مواليه عند ذلك: اعل .

ص: 84


1- ابن الأثير، مرجع سابق، 342 - 1/345.

الجبل فانظر ترى شيئاً؟ فقال: أرى سواداً من قبل البحر فقال له يصيبه بصرك أجمع؟ فقال له لا ولأوشك أن يصيب فلما أن قرب قال هو طير كثير ولا أعرفه يحمل كل طير في منقاره حصاة مثل حصاة الخذف أو دون حصاة الخذف فقال عبد المطلب ورب عبد المطلب ما تريد إلا القوم حتى لما صاروا فوق رؤوسهم أجمع ألقت الحصاة فوقعت كل حصاة على هامة رجل فخرجت من دبره فقتلته فما انفلت منهم إلا رجل واحد يخبر الناس فلما أن أخبرهم ألقت عليه حصاة فقتلته (1).

عبد الله بن عبد المطلب

وكان عبد الله أصغر ولد أبيه فكان هو عبد الله وأبو طالب واسمه عبد مناف والزبير وعبد الكعبة عاتكة وأميمة وبرة ولد عبد المطلب أمهم

جميعهم فاطمة بنت عمرو بن عايذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة.

وكان عبد المطلب نذر حين لقي من قريش العنت في حفر زمزم لئن ولد له عشرة نفر وبلغوا معه حتى يمنعوه لينحرن أحدهم عند الكعبة لله تعالى فلما بلغوا عشرة وعرف أنهم سيمنعونه أخبرهم بنذره فأطاعوه وقالوا: كيف نصنع؟ قال: يأخذ كل رجل منكم قدحًا ثم يكتب فيه اسمه.

ففعلوا وأتوه بالقداح فدخلوا على هبل في جوف الكعبة وكان أعظم أصنامهم وهو على بئر يجمع فيه ما يهدى إلى الكعبة.

وكان عند هبل سبعة أقداح في كل قدح كتاب فقدح فيه العقل إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة وقدح فيه نعم للأمر إذا أرادوه يضرب به فإن خرج نعم عملوا به وقدح فيه لا فإذا

ص: 85


1- الكليني، الكافي 447، / 1.

أرادوا أمرًا ضربوا به فإذا خرج لا لم يعملوا ذلك الأمر وقدح فيه منكم وقدح فيه ملصق وقدح فيه من غيركم وقدح فيه المياه. إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القدح فحيث ما خرج عملوه به وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلامًا أو ينكحوا جاريةً أو يدفنوا ميتًا أو شكوا في نسب أحد منهم ذهبوا به إلى هبل وبمئة درهم وجزور فأعطوه صاحب القداح الذي يضربها ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون ثم قالوا: يا إلهنا هذا فلان بن فلان قد أردنا به كذا وكذا فأخرج الحق فيه.

ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب فيضرب فإن خرج عليه منكم كان وسيطّا وإن خرج عليه من غيركم كان حليفًا وإن خرج عليه شيء سوى هذا مما يعملون به فإن خرج نعم عملوا به وإن خرج لا أخروه عامهم ذلك حتى يأتوه به مرة أخرى ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح.

وقال عبد المطلب لصاحب القداح اضرب على بني هؤلاء بقداحهم هذه. وأخبره بنذره الذي نذر وكان عبد الله أصغر بني أبيه وأحبهم إليه. فلما أخذ صاحب القداح يضرب قام عبد المطلب يدعو الله تعالى ثم ضرب صاحب القداح فخرج قدح على عبد الله فأخذ عبد المطلب بيده ثم أقبل إلى إساف ونائلة وهما الصنمان اللذان ينحر الناس عندهما فقامت قريش من أنديتها فقالوا: ما تريد؟ قال: أذبحه فقالت قريش وبنوه: والله لا تذبحه أبدًا حتى تعذر فيه لئن فعلت هذا لا يزال الرجل منا يأتي بابنه حتى يذبحه فقال له المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم: والله لا تذبحه حتى تعذر فيه فإن كان فداؤه بأموالنا فديناء وقالت له قريش وبنوه: لا تفعل وانطلق إلى كاهنة بالحجر فسلها فإن أمرتك بذبحه ذبحته فإن أمرتك بما لك وله فيه فرجٌ قبلته فانطلقوا إليها

ص: 86

وهي بخيبر فقص عليها عبد المطلب خبره فقالت لهم: ارجعوا اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله فرجعوا عنها. ثم غدوا عليها فقالت لهم: نعم قد جاءني الخبر فكم الدية فيكم؟ قالوا: عشر من الإبل وكانت كذلك. قالت: ارجعوا إلى بلادكم وقربوا عشرًا من الإبل واضربوا عليها وعليه بالقداح فإن خرج على صاحبكم فزيدوا عشرًا حتى يرضى ربكم وإن خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم.

فخرجوا حتى أتوا مكة فلما أجمعوا لذلك قام عبد المطلب يدعو الله ثم قربوا عبد الله وعشرًا من الإبل فخرجت القداح على عبد الله فزادوا عشرًا فخرجت القداح على عبد الله فما برحوا يزيدون عشرًا وتخرج القداح على عبد الله حتى بلغت الإبل مائة ثم ضربوا فخرجت القداح على الإبل فقال من حضر: قد رضي ربك يا عبد المطلب فقال عبد المطلب: لا والله حتى أضرب ثلاث مرات فضربوا ثلاثًا فخرجت القداح على الإبل فنحرت ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا سبع.

تزويج عبد الله من آمنة بنت وهب

وأما تزويج عبد الله بن عبد المطلب بآمنة ابنة وهب أم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فإنه لما فرغ عبد المطلب من الإبل انصرف بابنه عبد الله فخرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة وهو سيد بني زهرة فزوجه ابنته آمنة بنت وهب.

فدخل عبد الله عليها فحملت بمحمد صلی الله علیه و آله و سلم.

وقيل: إن عبد المطلب خرج بابنه عبد الله ليزوجه فمر به على كاهنة من خثعم يقال لها فاطمة بنت مر متهودة من أهل تبالة فرأت في وجهه نورًا وقالت له: يا فتى هل لك أن تقع علي الآن وأعطيك مائة من الإبل؟ فقال لها: أما الحرام فالممات دونه والحلّ لا حلّ فأستبينه فكيف

ص: 87

بالأمر الذي تبغينه ثم قال لها: أنا مع أبي ولا أقدر أن أفارقه فمضى فزوجه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة.

فأقام عندها ثلاثًا ثم انصرف.

موت والد الرسول عبد الله بن عبد المطلب:

أرسل عبد المطلب ابنه عبد الله إلى المدينة يمتار لهم تمرّا فمات بالمدينة وقيل: بل كان في الشام فأقبل في عير قريش فنزل بالمدينة وهو مريض فتوفي بها ودفن في دار النابغة الجعدي وله خمس وعشرون سنة وقيل: ثمان وعشرون سنة وتوفي قبل أن يولد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم.

تعليق هام:

مما سبق يتبين لنا أن آباء الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم كانوا أهل إيمان بالله سبحانه ولجوء إليه فها هو عبد المطلب يحفر بئر زمزم ليسقي حجاج بيت الله الحرام وها هو يكبر عندما نجح الحفر وخرج الماء وها هي السماء تتدخل لإنقاذه من الموت في الصحراء فتتفجر الينابيع من تحت قدميه عندما خاصمه قومه ومنعوا منه الماء وها هي أخلاق النبوة تتجلى عندما سقى من حرموه الماء قبلها بلحظات.

إنها أخلاقيات هاشمية رفيعة امتدت إلى عقبهم وعقب عقبهم وها هو الإمام علي بن أبي طالب يرد على معاوية بن أبي سفيان قوله إنا جميعاً من بني عبد مناف: وَأَمَّا قَوْلُكَ: إإِنَّا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ، فَكَذَلِكَ نَحْنُ وَ لَكِنْ لَيْسَ أُمَيَّةُ كَهَاشِمٍ وَ لَا حَرْبٌ كَعَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَ لَا أَبُو سُفْيَانَ كَأَبِي طَالِبٍ وَ لَا الْمُهَاجِرُ كَالطَّلِيقِ وَ لَا الصَّرِيحُ كَاللَّصِيقِ وَ لَا الْمُحِقُّ كَالْمُبْطِلِ وَ لَا الْمُؤْمِنُ كَالْمُدْغِلِ، وَ لَبِئْسَ الْخَلْفُ خَلْفٌ يَتْبَعُ سَلَفاً هَوَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ (1).

ص: 88


1- نهج البلاغة رسالة 17.

إنها نفس الأخلاقيات العلوية التي دفعت الإمام علي بن أبي طالب صلی الله علیه و آله و سلم للسماح للجيش الأموي أن يشرب من ماء الفرات بعد أن حاول أن يكرر ما فعله أسلافه من شانئي بني هاشم ومبغضيهم لا بسبب جرم ارتكبوه وإنما بسبب فضلهم وعلو مكانتهم ومسابقتهم إلى فعل الخيرات مثلما ذكرنا في الصفحات السابقة.

لقد شكل المنبت الهاشمي علامة فارقة في نشأة الدوحة المحمدية الباسقة ولذا نسمع الإمام علي بن أبي طالب يفاخر بهذا الأصل فيقول: بِنَا يُسْتَعْطَى الْهُدَى وَ يُسْتَجْلَى الْعَمَى. إِنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ، غُرِسُوا فِي هَذَا الْبَطْنِ مِنْ هَاشِمٍ، لَا تَصْلُحُ عَلَى سِوَاهُمْ وَ لَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ مِنْ غَيْرِهِمْ (1).

أما موقف عبد المطلب جد الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم من غزوة أبرهة فيحتاج إلى وقفة تأمل في موقف صاحب هذا اليقين الراسخ الذي لم يلق الكلام على عواهنه عندما قال لأبرهة ﴿إن للبيت ربا يحميه﴾ فهو رضوان الله عليه كان في موقف العارف الواثق الموقن بنصر الله لدينه وحفظ الله لأول ﴿بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾.

ولذا فنحن لا نرى غرابة ولا عجباً فيما رواه الكليني في الكافي عن أبي عبد الله علیه السلام قال: ﴿يحشر عبد المطلب يوم القيامة أمة وحده عليه سيماء الأنبياء وهيبة الملوك﴾ فمثل هذا الموقف الذي وقفه عبد المطلب من عدو الله أبرهة خليق أن يرفعه إلى هذه المنزلة وما ذلك على الله بعزيز. 4

ص: 89


1- السابق، خطبة 44

ص: 90

النبوة والاصطفاء

يقول الإمام علي بن أبي طالب: وَ اصْطَفَى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدِهِ أَنْبِيَاءَ، أَخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ وَ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ. (1)

ويقول: اخْتَارَهُ مِنْ شَجَرَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَ مِشْكَاةِ الضِّيَاءِ وَ ذُؤَابَةِ الْعَلْيَاءِ وَ سُرَّةِ الْبَطْحَاءِ وَ مَصَابِيحِ الظُّلْمَةِ وَ يَنَابِيعِ الْحِكْمَةِ. (2).

وايضا: نَحْنُ شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ وَ مَحَطُّ الرِّسَالَةِ وَ مُخْتَلَفُ الْمَلَائِكَةِ وَ مَعَادِنُ الْعِلْمِ وَ يَنَابِيعُ الْحُكْمِ، نَاصِرُنَا وَ مُحِبُّنَا يَنْتَظِرُ الرَّحْمَةَ، وَ عَدُوُّنَا وَ مُبْغِضُنَا يَنْتَظِرُ السَّطْوَة. (3)

وقوله حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّداً ﴿صلی الله علیه وآله﴾ شَهِيداً وَ بَشِيراً وَ نَذِيراً، خَيْرَ الْبَرِيَّةِ طِفْلًا، وَ أَنْجَبَهَا كَهْلًا، وَ أَطْهَرَ الْمُطَهَّرِينَ شِيمَةً، وَ أَجْوَدَ الْمُسْتَمْطَرِينَ دِيمَةً. (4)

والديمة هو المطر الذي لا رعد فيه ولا برق

معنى الاصطفاء:

يقول الراغب الأصفهاني في غريب القرآن: أصل الصفاء خلوص

ص: 91


1- نهج البلاغة الخطبة الأولى.
2- السابق، 107
3- السابق، 108.
4- السابق، 107

الشيء من الشوائب من الصفا للحجارة الصافية ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ والاصطفاء تناول صفو الشيء كما أن الاختيار تناولُ خيره والاجتباء تناول جبايته واصطفاء الله بعض عباده قد يكون بإيجاده تعالى إياه صافياً عن الشوب الموجود في غيره وقد يكون باختياره وبحكمه. النبوة كما قدمها لنا الإمام في خطبة شجرة وذرية بعضها من بعض وأن لا شيء في هذا الكون يجري بمحض الصدفة ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)﴾ [ القصص 68].

النبوة شجرة يجري الاصطفاء والانتقاء منها إذ ليس كل من التصق بهذه الشجرة صار مستحقاً لهذا الاصطفاء كما أنه من البديهي أن ليس كل ثمار الشجرة الواحدة سواء وهذا معنى قول الإمام في وصف رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم اخْتَارَهُ مِنْ شَجَرَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَ مِشْكَاةِ الضِّيَاءِ وَ ذُؤَابَةِ الْعَلْيَاءِ وَ سُرَّةِ الْبَطْحَاءِ وَ مَصَابِيحِ الظُّلْمَةِ وَ يَنَابِيعِ الْحِكْمَةِ أي أنه اختبار من اختيار واصطفاء من بين المصطفين الأبرار.

وهذا أيضاً معنى قوله تعالى في سورة فاطر ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)﴾ وقوله تعالى في سورة الصافات ﴿سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)﴾ [109 - 111].

وربما أشكل البعض على قاعدة الاصطفاء بالقول إن أبا لهب كان عماً لرسول الله والبعض الآخر يفتش عن الروايات الموضوعة زاعماً أن أبوي الرسول الأكرم كانا من الكافرين ولا شك أن هذا المنحى يكشف عن خبايا تلك النفوس المريضة حتى لقد حدثني أحدهم عن رسالة

ص: 92

﴿علمية وهابية﴾ سعت لإثبات فرية كفر أبوي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وهو ما لا نستغرب منه حيث حفلت كتب القوم بالكثير من هذه الترهات ولا شك أن ما عرضناه سابقاً عن تاريخ آباء الرسول وأجداده يثبت بما لا بدع مجالاً للشك أنهم كانوا على الحنيفية الإبراهيمية وأنهم كانوا أبعد ما يكونون عن حالة الجاهلية السائدة في تلك الفترة.

يزيدنا الإمام علي بن أبي طالب إيضاحاً لهذا الأمر عندما يقرر أن اختيار رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لم يقتصر على كونه من شجرة الأنبياء فهو صلی الله علیه و آله و سلم أيضاً من ﴿مِشْكَاةِ الضِّيَاءِ وَ ذُؤَابَةِ الْعَلْيَاءِ وَ سُرَّةِ الْبَطْحَاءِ وَ مَصَابِيحِ الظُّلْمَةِ وَ يَنَابِيعِ الْحِكْمَةِ.﴾.

ولا شك أن هذا الاصطفاء الإلهي والترقي الإنساني في سلم المجد الرباني كان ولا زال ناراً تحرق قلوب الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ ۚ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)﴾ [النساء: 54 - 55]، ولا شك أن نار الحقد والحسد تحرق صاحبها في الدنيا إلى أن تلحقه بنار جهنم ليخلد فيها مهاناً.

خطبة الإمام الصادق

يروي الكليني في الكافي: عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام في خطبة له يذكر فيها حال النبي والأئمة علیهم السلام وصفاتهم: قال: فلم يمنع ربنا لحلمه وأناته وعطفه ما كان من عظيم جرمهم وقبيح أفعالهم أن انتجب لهم أحب أنبيائه إليه وأكرمهم عليه محمد بن عبد الله صلی الله علیه و آله و سلم في حومة العز مولده وفي دومة الكرم محتده غير مشوب حسبه ولا ممزوج نسبه ولا

ص: 93

مجهول عند أهل العلم صفته بشرت به الأنبياء في كتبها ونطقت به العلماء بنعتها وتأملته الحكماء بوصفها مهذب لا يداني هاشمي لا يوازى أبطحي لا يسامي شيمته الحياء وطبيعته السخاء، مجبول على أخلاق النبوة إلى أن انتهت به أسباب مقادير الله إلى أوقاتها وجرى بأمر الله القضاء فيه إلى نهايتها، أداه محتوم قضاء الله إلى غايتها، تبشر به كل أمة من بعدها ويدفعه كل أب إلى أب من ظهر إلى ظهر لم يخلطه في عنصره سفاح ولم ينجسه في ولادته نكاح من لدن آدم إلى أبيه عبد الله في خير فرقة وأكرم سبط وأمنع رهط وأكلاً حمل وأودع حجر، اصطفاه الله وارتضاه واجتباه وآتاه من العلم مفاتيحه، ومن الحكم ينابيعه، ابتعثه رحمة للعباد وربيعاً للبلاد، وأنزل الله إليه الكتاب فيه البيان والتبيان قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون، قد بينه للناس ونهجه بعلم قد فصله قد فصله ودين قد أوضحه وفرائض قد أوجبها وحدود حدها للناس وبينها وأمور قد كشفها لخلقه وأعلنها فيها دلالة إلى النجاة ومعالم تدعو إلى هداه فبلغ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ما أرسل به وصدع بما أمر وأدى ما حمل من أثقال النبوة وصبر لربّه وجاهد في سبيله ونصح لأمته ودعاهم إلى النجاة وحثهم على الذكر ودلهم على سبيل الهدى بمناهج ودواع أسس للعباد أساسها ومنار رفع لهم أعلامها كيلا يضلوا من بعده وكان بهم رؤوفاً رحيماً (1).

كما يروي أيضاً: عن أبي عبد الله علیه السلام قال: نزل جبريل علیه السلام على النبي صلی الله علیه و آله و سلم فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول إني قد حرمت النار على صلب أنزلك وبطن حملك و حجر كفلك فالصلب صلب أبيك عبد الله بن عبد المطلب والبطن الذي حملك آمنة بنت وهب وأما حجر كفلك فحجر أبي طالب. وفي رواية ابن فضال وفاطمة بنت أسد. 4

ص: 94


1- الكليني، مرجع سابق، 1/444

وعنه أيضاً قال: يحشر عبد المطلب يوم القيامة أمة واحدة عليه سيماء الأنبياء وهيبة الملوك (1).

الاصطفاء يؤهل ذرية الأنبياء لحمل الرسالة والملك والحكمة وهذا معنى قوله تعالى في سورة النساء: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ ۚ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)﴾ [النساء: 54 - 55]

أما في سورة الأنعام فيقول سبحانه: ﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ ۖ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ۚ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ (90)﴾ [الأنعام 87 - 90 ].

الآية تنبهنا إلى أن الاصطفاء ليس محصوراً فيمن وردت أسماؤهم وحسب بل تقول ﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ﴾ وهي نظير قوله تعالى: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ والمعنى أن حمل الكتاب والحكم والحكمة والنبوة ليست بالمهام التي يمكن لأي عابر سبيل أن يضطلع بها ومن باب أولى ليست من المهام التي يمكن للأمة أن تختار من يصلح للقيام بها فالآيات تسند هذا العمل لله رب العالمين ﴿اجتبيناهم هديناهم، إن الله اصطفى﴾ وهكذا يمكننا أن نلخص قاعدة الاصطفاء فيما يلي:

1 - أن الله تبارك وتعالى هو الذي يصطفي وليس البشر أو الظروف والملابسات.

2 - إن دائرة الاصطفاء معلومة ومقررة ومعلنة للناس أجمعين منذ بدء 7.

ص: 95


1- الكليني، مرجع سابق، 1/447.

إرسال الرسل والأنبياء وليس فيها سرية ولا لبس ولا اشتباه كما أنها ليست على المشاع لعموم الناس إنها محصورة في الذرية والآل ﴿ذرية بعضها من بعض﴾.

3 - أن الواردة أسماؤهم في كتاب الله عز و جل من الأنبياء والمرسلين هم

عناوين رئيسية وليسوا كل من اصطفاهم الله عز و جل.

4 - أن هذا الاصطفاء هو المؤهل الأول الذي يؤهل الذرية و الآل لحمل الكتاب والنبوة والحكمة والإمامة كل حسب الدور الموكل إليه من الله عز و جل.

أن هذا الاصطفاء ليس اختياراً عشوائياً بل هو تدبير إلهي محكم يُصنع فيه النبي أو الرسول أو الإمام على عين الله ويهيأ لأداء مهمته الربانية في الزمان والمكان اللذين تختارهما العناية الإلهية ومن هنا فلا مجال للصدفة في هذا التقدير سواء فيما يتعلق بالأب أو بالأم التي لا بد من مطابقتها للمواصفات الرسالية المقررة والموضوعة بدقة وعناية من لدن حكيم عليم وهنا تبرز الأهمية المطلقة لدور الأم ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ ذلك الرحم أو التربة التي ينمو فيها الجنين تسعة أشهر ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾ [الأعراف: 58].

دوائر الاصطفاء:

يقول تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)﴾ [فاطر 32].

ص: 96

ويقول سبحانه: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ۖ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد 26].

إذاً فهناك دائرة محدودة يجري فيها تداول النبوة والكتاب والمهام الإلهية الجسام أي أن هناك اصطفاء واختيار داخل دائرة الاصطفاء الأصلية وإلا صار أبناء الأنبياء كلهم رسلاً أو أنبياء.

الرسالات السماوية والاصطفاء: تسليم وتسلم

يعرف الجميع أن أي نبي من الأنبياء لا بد أن يضع رسالته في أيد أمينة قبل أن يرحل عن هذه الدنيا وأن هذه المهمة مهمة التسليم والتسلم لا بد أن تتم قبل رحيل هذا النبي وإذا كان البشر العاديون يحسون بدنو الأجل ويوصون إلى أبنائهم بما ينبغي عليهم القيام به في أموالهم فما بالك بأهل الله الذين اصطفاهم واختارهم لهداية العالمين ولم يفارقهم بتسديده وإرشاده لهم طرفة عين حتى وهم في النار كنبي الله إبراهيم علیه السلام وها هو خليل الله إبراهيم بعد أن أتم الله عليه النعمة وبلغ مرحلة الكمال في المعية الإلهية يخاطبه ربه ﴿وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ

ص: 97

عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)﴾ [البقرة: 124 - 130].

إنه الاهتمام بشأن الأمة على يد الأنبياء والأئمة و ﴿ ... بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ كما أنه الاهتمام بتطهير الأرض والمكان لعبادة الرحمن ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)﴾ إلا أن هذا كله يجري بواسطة إبراهيم وابنه إسماعيل الذي بدأ رحلة حمل الأمانة وهو ما زال في كنف أبيه نبي الله إبراهيم وأكرم بهما من والد وولد إلا أن كل هذا يجري في إطار منظومة الاصطفاء الإلهي فقبل أن ينزل الموت بإبراهيم يوصي ابنه إسماعيل بحمل أمانة النبوة والرسالة ومترتباتها من حفظ الأمة وحفظ البلاد ورعاية العباد بتعليمهم مناسكهم وقواعد دينهم وكيفية إقامة شعائرهم وإعداد بيت الله الحرام ليكون ملاذاً للعابدين والعاكفين والركع السجود ﴿وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)﴾ [البقرة 132 - 133]. ﴾

الاصطفاء ليس نوعاً من التدليل

ابتليت البشرية بهذا الصنف الرديء من المجادلين الذين لا يرون في المسؤولية إلا التشريف والاستعلاء على الخلق بينما يقول لنا القرآن الكريم غير هذا تماماً هذا تماماً وهو أن الاصطفاء مكانة يتلوها مكانة وأن هذه

ص: 98

وتلك لا تتحقق إلا باجتياز سلسلة من الاختبارات والابتلاءات التي لا يطيقها ولا يقدر على اجتيازها إلا المصطفون الأخيار.

الاصطفاء في سورة الصافات

خذ عندك ذلك النموذج العجيب من سورة الصافات التي تحكي قصة إبراهيم علیه السلام ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)﴾ [الصافات: 99 - 113].

إنها قمة الامتثال للأمر الإلهي ولو كان أمراً بذبح الولد العزيز الغالي الذي جاء إلى الدنيا بعد طول ترقب وانتظار وتوسل إلى الله ورجاء فكانت عاقبة النجاح في هذا الاختبار مزيداً من المكانة والرفعة بل وامتداد الاصطفاء في العقب والذرية والآل ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ﴾ مكافأة له على اجتيازه اختبار البلاء المبين.

ثم يتكرر نفس السياق مع آل محمد حينما يقول تبارك وتعالى: ﴿سَلَامٌ عَلَىٰ إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131)﴾ [130 - 131].

ثم يتوجه الخطاب القرآني لمعاندي الاختيار والاصطفاء الإلهي العادلين اختيارهم باختيار الله عالم السر وأخفى المعرضين عن طاعة أولياء الله ﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156)

ص: 99

فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) [154 - 157] ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)﴾ [159 - 173 ].

عباد الله المخلصين هم حججه على عباده وأمناؤه في بلاده الذين اصطفاهم الله وهم من جاء على لسانهم ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)﴾ أي أننا نحن الصافون أقدامهم لعبادة الله المصطفون من دون العالمين على علم إلهي سبق خلق الأكوان وجعل لكل منا مقاماً معلوماً.

روى القمي في تفسير سورة الصافات قال: حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا عبد الله بن نحند بن خالد عن العباس بن عامر عن الربيع بن محمد عن يحيى بن مسلم عن أبي عبد الله علیه السلام قال سمعته يقول ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)﴾ قال نزلت في الأئمة والأوصياء من آل محمد علیهم السلام وحدثنا احمد بن محمد الشيباني قال حدثنا محمد بن احمد بن بويه قال حدثنا محمد بن سليمان قال حدثنا احمد بن محمد الشيباني قال حدثنا بن محمد التفليسي عن الحسن بن محبوب عن صالح بن رزين عن شهاب بن عبد ربه قال سمعت الصادق علیه السلام يقول: يا شهاب نحن شجرة النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ونحن عهد الله وذمته ونحن ودائع الله وحجته كنا أنواراً صفوفاً حول العرش نسبح فيسبح أهل السماء بتسبيحنا إلى أن هبطنا إلى الأرض فسبحنا فسبح أهل الأرض بتسبيحنا، وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون فمن وفى بذمتنا فقد وفى بعهد الله وذمته ومن خفر ذمتنا فقد خفر ذمة الله وعهده (1). 7

ص: 100


1- علي بن ابراهيم القمي، مرجع سابق، 02/227

وتعطينا سورة الأنبياء وجهاً آخر من وجوه الاصطفاء الإلهي [الأنبياء 26 - 29] ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ ۚ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)﴾ [الأنبياء 26 - 29] ﴿ققُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ ۗ آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [النمل 59]

وتحكي سورة الأنبياء أيضاً عن الاصطفاء الإبراهيمي ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)﴾ [الأنبياء 72] ولا، شك أن هذه المنزلة التي بلغها إبراهيم وآل إبراهيم جاءت بسبب نجاحهم في اختبار الاصطفاء الإلهي وهو عين ما حدث مع أولياء الله الصالحين من قوم موسى علیه السلام الذين ابتلاهم الله فصبروا وتحملوا وصمدوا ﴿ووَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ ۖ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)﴾ [السجدة 23 - 24].

ص: 101

ص: 102

بنو هاشم الممهدون للنبوة

يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام في وصف النبي: ابْتَعَثَهُ بِالنُّورِ الْمُضِيءِ وَ الْبُرْهَانِ الْجَلِيِّ وَ الْمِنْهَاجِ الْبَادِي وَ الْكِتَابِ الْهَادِي. أُسْرَتُهُ خَيْرُ أُسْرَةٍ وَ شَجَرَتُهُ خَيْرُ شَجَرَةٍ، أَغْصَانُهَا مُعْتَدِلَةٌ وَ ثِمَارُهَا مُتَهَدِّلَةٌ، مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ وَ هِجْرَتُهُ بِطَيْبَةَ، عَلَا بِهَا ذِكْرُهُ وَ امْتَدَّ مِنْهَا صَوْتُهُ، أَرْسَلَهُ بِحُجَّةٍ كَافِيَةٍ وَ مَوْعِظَةٍ شَافِيَةٍ وَ دَعْوَةٍ مُتَلَافِيَةٍ، أَظْهَرَ بِهِ الشَّرَائِعَ الْمَجْهُولَةَ وَ قَمَعَ بِهِ الْبِدَعَ الْمَدْخُولَةَ وَ بَيَّنَ بِهِ الْأَحْكَامَ الْمَفْصُولَةَ؛ فَ "مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً" تَتَحَقَّقْ شِقْوَتُهُ وَ تَنْفَصِمْ عُرْوَتُهُ وَ تَعْظُمْ كَبْوَتُهُ، وَ يَكُنْ مَآبُهُ إِلَى الْحُزْنِ الطَّوِيلِ وَ الْعَذَابِ الْوَبِيلِ. وَ أَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكُّلَ الْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَ أَسْتَرْشِدُهُ السَّبِيلَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى جَنَّتِهِ الْقَاصِدَةَ إِلَى مَحَلِّ رَغْبَتِهِ. (1)

كما يقول علیه السلام في رسالته لمعاوية:

فَأَرَادَ قَوْمُنَا قَتْلَ نَبِيِّنَا وَ اجْتِيَاحَ أَصْلِنَا، وَ هَمُّوا بِنَا الْهُمُومَ وَ فَعَلُوا بِنَا الْأَفَاعِيلَ وَ مَنَعُونَا الْعَذْبَ وَ أَحْلَسُونَا الْخَوْفَ وَ اضْطَرُّونَا إِلَى جَبَلٍ وَعْرٍ وَ أَوْقَدُوا لَنَا نَارَ الْحَرْبِ؛ فَعَزَمَ اللَّهُ لَنَا عَلَى الذَّبِّ عَنْ حَوْزَتِهِ وَ الرَّمْيِ مِنْ وَرَاءِ [حَوْمَتِهِ] حُرْمَتِهِ؛ مُؤْمِنُنَا يَبْغِي بِذَلِكَ الْأَجْرَ، وَ كَافِرُنَا يُحَامِي عَنِ الْأَصْلِ؛ وَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قُرَيْشٍ خِلْوٌ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ بِحِلْفٍ يَمْنَعُهُ أَوْ عَشِيرَةٍ تَقُومُ دُونَهُ، فَهُوَ مِنَ الْقَتْلِ بِمَكَانِ أَمْنٍ.

ص: 103


1- نهج البلاغة خطبة 161.

الْأَصْلِ؛ وَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قُرَيْشٍ خِلْوٌ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ بِحِلْفٍ يَمْنَعُهُ أَوْ عَشِيرَةٍ تَقُومُ دُونَهُ، فَهُوَ مِنَ الْقَتْلِ بِمَكَانِ أَمْنٍ. وَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﴿صلی الله علیه وآله﴾ إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ وَ أَحْجَمَ النَّاسُ قَدَّمَ أَهْلَ بَيْتِهِ، فَوَقَى بِهِمْ أَصْحَابَهُ حَرَّ السُّيُوفِ وَ الْأَسِنَّةِ؛ فَقُتِلَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ يَوْمَ بَدْرٍ وَ قُتِلَ حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُدٍ وَ قُتِلَ جَعْفَرٌ يَوْمَ مُؤْتَةَ، وَ أَرَادَ مَنْ لَوْ شِئْتُ ذَكَرْتُ اسْمَهُ مِثْلَ الَّذِي أَرَادُوا مِنَ الشَّهَادَةِ وَ لَكِنَّ آجَالَهُمْ عُجِّلَتْ وَ مَنِيَّتَهُ [أُخِّرَتْ] أُجِّلَتْ. فَيَا عَجَباً لِلدَّهْرِ إِذْ صِرْتُ يُقْرَنُ بِي مَنْ لَمْ يَسْعَ بِقَدَمِي وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ كَسَابِقَتِي الَّتِي لَا يُدْلِي أَحَدٌ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ مُدَّعٍ مَا لَا أَعْرِفُهُ وَ لَا أَظُنُّ اللَّهَ يَعْرِفُهُ، وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.

وَ أَمَّا مَا سَأَلْتَ مِنْ دَفْعِ قَتَلَةِ عُثْمَانَ إِلَيْكَ، فَإِنِّي نَظَرْتُ فِي هَذَا الْأَمْرِ فَلَمْ أَرَهُ يَسَعُنِي دَفْعُهُمْ إِلَيْكَ وَ لَا إِلَى غَيْرِكَ؛ وَ لَعَمْرِي لَئِنْ لَمْ تَنْزِعْ عَنْ غَيِّكَ وَ شِقَاقِكَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ عَنْ قَلِيلٍ يَطْلُبُونَكَ لَا يُكَلِّفُونَكَ طَلَبَهُمْ فِي بَرٍّ وَ لَا بَحْرٍ وَ لَا جَبَلٍ وَ لَا سَهْلٍ إِلَّا أَنَّهُ طَلَبٌ يَسُوءُكَ وِجْدَانُهُ وَ زَوْرٌ لَا يَسُرُّكَ لُقْيَانُهُ، وَ السَّلَامُ لِأَهْلِه. (1)

كما يقول علیه السلام في رسالة أخرى: وَ أَمَّا طَلَبُكَ إِلَيَّ الشَّامَ، فَإِنِّي لَمْ أَكُنْ لِأُعْطِيَكَ الْيَوْمَ مَا مَنَعْتُكَ أَمْسِ.

وَ أَمَّا قَوْلُكَ إِنَّ الْحَرْبَ قَدْ أَكَلَتِ الْعَرَبَ إِلَّا حُشَاشَاتِ أَنْفُسٍ بَقِيَتْ، أَلَا وَ مَنْ أَكَلَهُ الْحَقُّ فَإِلَى الْجَنَّةِ وَ مَنْ أَكَلَهُ الْبَاطِلُ فَإِلَى النَّارِ.

وَ أَمَّا اسْتِوَاؤُنَا فِي الْحَرْبِ وَ الرِّجَالِ، فَلَسْتَ بِأَمْضَى عَلَى الشَّكِّ مِنِّي عَلَى الْيَقِينِ وَ لَيْسَ أَهْلُ الشَّامِ بِأَحْرَصَ عَلَى الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى الْآخِرَةِ..

ص: 104


1- السابق، رسالة رقم 9.

وَ أَمَّا قَوْلُكَ إِنَّا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ، فَكَذَلِكَ نَحْنُ وَ لَكِنْ لَيْسَ أُمَيَّةُ كَهَاشِمٍ وَ لَا حَرْبٌ كَعَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَ لَا أَبُو سُفْيَانَ كَأَبِي طَالِبٍ وَ لَا الْمُهَاجِرُ كَالطَّلِيقِ وَ لَا الصَّرِيحُ كَاللَّصِيقِ وَ لَا الْمُحِقُّ كَالْمُبْطِلِ وَ لَا الْمُؤْمِنُ كَالْمُدْغِلِ، وَ لَبِئْسَ الْخَلْفُ خَلْفٌ يَتْبَعُ سَلَفاً هَوَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ.

وَ فِي أَيْدِينَا بَعْدُ فَضْلُ النُّبُوَّةِ الَّتِي أَذْلَلْنَا بِهَا الْعَزِيزَ وَ نَعَشْنَا بِهَا الذَّلِيلَ.

وَ لَمَّا أَدْخَلَ اللَّهُ الْعَرَبَ فِي دِينِهِ أَفْوَاجاً وَ أَسْلَمَتْ لَهُ هَذِهِ الْأُمَّةُ طَوْعاً وَ كَرْهاً، كُنْتُمْ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الدِّينِ إِمَّا رَغْبَةً وَ إِمَّا رَهْبَةً، عَلَى حِينَ فَازَ أَهْلُ السَّبْقِ بِسَبْقِهِمْ وَ ذَهَبَ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ بِفَضْلِهِمْ.

فَلَا تَجْعَلَنَّ لِلشَّيْطَانِ فِيكَ نَصِيباً وَ لَا عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلًا، وَ السَّلَامُ (1). 5

ص: 105


1- السابق، رسالة رقم 17. 105

ص: 106

إسلام أبي طالب

تصحيح الموازين أم قلبها؟

خلافاً للحرب الكلامية الدائرة حول مكانة أهل بيت النبوة من ذرية رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وإمامتهم للدين فإن هذه الكلمات العلوية تنبه إلى وجه آخر من وجوه المعركة التي ما تزال دائرة بين فريقين يتواجهان الآن داخل دائرة الانتماء للإسلام في معركة خلط المفاهيم ومزج الحق بالباطل تارة وإعلاء كلمة الباطل ورموزه على كلمة الحق ورموزه.

ورغم أن أمَيَّةُ لم يكن يوماً ﴿كَهَاشِمٍ وَ لَا حَرْبٌ كَعَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَ لَا أَبُو سُفْيَانَ كَأَبِي طَالِبٍ وَ لَا الْمُهَاجِرُ كَالطَّلِيقِ وَ لَا الصَّرِيحُ كَاللَّصِيقِ وَ لَا الْمُحِقُّ كَالْمُبْطِلِ وَ لَا الْمُؤْمِنُ كَالْمُدْغِلِ﴾ إلا أن جمهورنا المنتسب للإسلام ما زال عاجزاً عن التمييز بين هؤلاء بل ويرى أن الكل سواء وأن الأسود كالأبيض بل ويرى الأبيض أسود والأسود أبيض والمجرم المنافق مؤمناً ويرى أبا طالب رأس المدافعين عن عقيدة التوحيد كافراً أبى أن ينطق بكلمة التوحيد خوفاً على نفسه من مسبة قومه كما يزعمون ويرى في نفس الوقت أن أبا سفيان بن حرب عدو الله وعدو رسوله قد أسلم وحسن إسلامه بل وصار سيدنا أبو سفيان!

لماذا يصر القوم على إثبات كفر أبي طالب عم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وكافله والمدافع عنه وعن الإسلام والذي لولا تضحيته وجهاده ما رفعت

ص: 107

للإسلام راية وما قامت له قائمة وتضمينها في المقررات الدراسية وتكريسها في إطار المبادئ الأساسية التي يتعلمها الأبناء وربما يجد فيها أي مفكر لولبي دليلاً على المساواة في الإسلام أو على أي شيء في الإسلام!

المسألة من وجهة نظرنا أبعد بكثير من كونها دفاعاً عن شخصية فذة لعبت الدور الأكبر بعد النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم في إيصال كلمة التوحيد إلى الدنيا بأسرها بل هو موقف يتعين علينا وقوفه في مواجهة اغتيال العقل والضمير الإسلامي الذي نشأ وتربى على تلك الأهازيج والمدائح التي تهدف أول ما تهدف إلى تشكيل عقل وضمير إسلامي هجين أشبه ما يكون بقطعة من العجين التي يمكن تشكيلها وفقاً لرغبة وأهواء الإعلام الأموي المتسلط على عقول المسلمين من يومها إلى يومنا هذا ولكن أبداً ليس إلى يوم الدين.

إنه عقل وضمير لا يميز بين أي ممن ذكرهم الإمام سابقاً ولا بين أي من أطراف تلك المعركة الدائرة إلى يومنا هذا حول حقيقة الإسلام وكيف يمكن تجسيد مفاهيمه الأخلاقية الرسالية تجسيداً صحيحاً.

إنه عقل وضمير لا يختلف كثيراً عن ضمير بني إسرائيل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها فأصبحوا هم وحميرهم سواء بسواء.

تخيل أن رواية واحدة يرويها البخاري عن نزول الوحي أو عن موت أبي طالب رضوان الله عليه تحولت لتصبح مسلمة تاريخية بديهية لا تقل قوة عن مسلمة طلوع الشمس من المشرق وغروبها في المغرب بل وأصبحت عقيدة دينية من ثوابت الأمة الإسلامية ويعد التشكيك فيها جريمة تمس أمن الدولة!

يقول ابن الجوزي في المنتظم: توفي أبو طالب للنصف من شوال

ص: 108

في السنة العاشرة للنبوة وهو ابن بضع وثمانين سنة (1).

رواية الإعلام السفياني

ولما مرض أبو طالب دخل عليه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فعرض عليه الإسلام حيث يروي ابن الجوزي في المنتظم: عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فوجد عنده عبد الله بن أبي أمية وأبا جهل بن هشام فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «يا عم قل: لا إِلَهَ إلا اللهُ كَلِمَة أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ الله» فقال له أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبد المطّلب قال: فلم يزل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يعرضها عليه ويقول: «يَا عَم قُلْ: لا إِلَهَ إلا الله أشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ الله» و يقولان له: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب حتى قال آخر كلمة تكلّم بها: أنا على ملة عبد المطلب ثم مات فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: لاسْتَغْفِرَن لَكَ مَا لَمْ أنْهَ عنك فاستغفر له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بعد موته حتى نزلت هذه الآية ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [التوبة: 113].

قال محمد بن عمر: وحدثني محمد بن عبد الله ابن أخي الزهري عن أبيه عن عبد الله بن ثعلبة بن صُعير العُذريّ قال: قال أبو طالب: يا ابن أخي والله لولا رَهْبَة أن تقول قريش دهرني الجَزَع فتكون سبة عليك وعلى بني أبيك لفعلت الذي تقول وأقررتُ عينك لما أرى من شكرك ووجْدك ونصيحتك لي ثم إن أبا طالب دعا بني عبد المطلب فقال: لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد أو ما اتبعتم أمره فاتبعوه

ص: 109


1- ابن الجوزي مرجع سابق، 8 - 3/10.

وأعينوه تَرْشُدوا فقال أبو طالب: أما إنك لو سألتني الكلمة وأنا صحيح لتابعتُك على الذي تقول ولكني أكره أن أجَزع عند الموت فترى قريش أني أخذتُها جَزَعًا ورددتُها في صحتي قال وجعل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يستغفر

له أياماً ولا يخرج من بيته حتى نزل عليه جبريل علیه السلام بهذه الآية (1)!

الروايات التي تحدثت عن موت أبي طالب عليه رضوان الله فيها الكثير من الخلل والاضطراب ويكفي أن يكون الراوي مجهولاً فهو تارة ﴿سعيد بن المسيب عن أبيه﴾ وتارة أخرى أبي هريرة الذي أسلم يوم فتح خيبر بعد هذه الواقعة بزمان، إلا أن الأخطر من كل هذا أن ﴿المؤلف﴾ الذي التقط الآية وركب عليها حديثاً عن رسول الله وإن شئت أن تكون أكثر دقة قلت ﴿على﴾ رسول الله فاته أن المسلمين وإن اختلفوا حول ﴿كفر أبي طالب﴾ من عدمه لم يختلفوا على أنه كان الناصر الأول الرسول الله ولدين الله فكيف يمكننا أن نصدق أن رسول الله تبين له بعد كل هذا الزمان أنه ﴿عدو الله﴾ فتبرأ منه؟!

ما هو وجه المقارنة بين أبي إبراهيم وأبي طالب عليه رضوان الله ورحمته؟؟.

التاريخ المتواتر والمؤكد الذي رواه الجميع يثبت دور أبي طالب البطولي في الذب عن رسول الله وعن دعوته عكس ما فعله أبو إبراهيم وهو ما ذكره القرآن في سورة مريم: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ۖ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)﴾ [مريم 41 - 48] 0

ص: 110


1- ابن الجوزي نفس المصدر، 8 - 3/10

أي أن أبا إبراهيم قام بطرده ولم يؤازره ولم ينصره بل وهدده بالرجم والقتل ومع ذلك قال له إبراهيم علیه السلام سأستغفر لك ربي فهل كان هذا هو موقف أبي طالب رضوان الله عليه؟

الجواب معلوم ... فقد كان أبو إبراهيم عدواً الله وكان أبو طالب ناصراً لأولياء الله ولرسول الله فما هو وجه المقارنة أو المقاربة بين الحالين؟

ص: 111

ص: 112

بعض المواقف الرسالية الصلبة

لأبي طالب علیه السلام

خطبة أبي طالب في تزويج محمد من خديجة

ألم يكن ابن الجوزي نفسه هو من روى خطبة أبي طالب في تزويج محمد صلی الله علیه و آله و سلم من خديجة بنت خويلد التي قال فيها: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضىء معد وعنصر مُضر وجعلنا حضنة بيته وسوّاس حرمه وجعل لنا بيتًا محجوبًا وحرمًا آمنّا وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا یوزن به رجل إلا رجح به وإن كان في المال قل فإن المال ظل زائل وأمرٌ حائل ومحمد من قد عرفتم قرابته وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها من الصداق ما آجله وعاجله من مالي وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل.

فما هو يا ترى هذا الشأن الخطير الذي كان أبو طالب يعرفه ويتوقعه بل وينتظره؟ أليس هو النبوة؟!

مواقف أبي طالب دفاعاً عن الإسلام

يروي ابن هشام في سيرته نقلاً عن ابن إسحاق:

ص: 113

فلما بادى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه حتى ذكر الهتهم وعابها فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام وهم قليل مستخفون وحدب على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عمُّه أبو طالب ومنعه وقام دونه ومضى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم على أمر الله مظهراً لأمره لا يرده عنه شيء.

فلما رأت قريش أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب فقالوا يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه فإنك على مثل ما تحن عليه من خلافه فنكفيكه فقال لهم أبو طالب قولاً رفيقاً وردهم رداً جميلاً فانصرفوا عنه.

ومضى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم على ما هو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه ثم شرى الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بينها فتذمروا منه وحض بعضهم بعضاً عليه.

ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا له: يا أبا طالب إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين ثم انصرفوا عنه فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ولم يطب نفساً بإسلام رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لهم ولا خذلانه.

وذكر ابن إسحاق أن قريشاً حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة

ص: 114

بعث إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقال له يا بن أخي إن قومك قد جاؤوني فقالوا لي كذا وكذا للذي كانوا قالوا له فابقِ علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق فظن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أنه قد بدا لعمه أن يخذله ويسلمه وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه فقال: فقال يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته ثم قام رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فبكى فلما ولى ناداه أبو طالب فقال: اقبل يا بن أخي فقال: اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبداً.

قال ابن إسحاق: ثم إن قريشاً حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وإسلامه وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم مشوا إليه بعُمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له: يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولداً فهو لك وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك و دین آبائك وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم فنقتله، فإنما هو رجل برجل فقال والله لبئس ما تسومونني! أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه! هذا والله ما لا يكون أبداً.

فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكرهه فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً فقال أبو طالب للمطعم والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك فحميت الحرب وتنابذ القوم وبادى بعضهم بعضاً بالعداء (1) .

ص: 115


1- السيرة لابن هشام، 163 - 1/165، تحقيق الشيخ / محمد بيوم، القاهرة، 1995. بتصرف واختصار.

شعر أبي طالب في التعريض بمن خذله من عبد مناف

فقال أبو طالب عند ذلك يعرض بالمطعم بن عدي ويُعم من خذله من بني عبد مناف ومن عاداه من قبائل قريش:

الا قل لعمرو والوليد ومطعم *** ألا ليت حظي من حياطتكم بكْرُ

من الخور حبحاب كثير رُغاؤه *** يُرش على الساقين من بوله قطر

تخلف خلف الوِرْد ليس بلاحق *** إذا ما علا الفيفاء قيل له وبر

أرى أخوينا من أبينا وأمنا *** إذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمر

بلى لهما أمر ولكن تجرجرتما *** كما جُرجرت من رأس ذي علق الصخر

أخص خصوصاً عبد شمس ونوفلا *** هما نبذانا مثل ما يُنبذ الجمر

هما أغمزا للقوم في أخويهما *** فقد أصبحا منهم أكفهما صِفْرُ

هما أشركا في المجد من لا أبا له *** من الناس إلا أن يُرس له ذكر (1) ونيم ومخزوم وزُهرة منهمُ *** وكانوا لنا مولى إذا بُغي النصر

فوالله لا تنفك منا عداوة *** ولا منهمُ ما كان من نسلنا شفر

فقد سفهت أحلامهم وعقولهم *** وكانوا كجفر بئس ما صنعت جفر

قال ابن إسحاق: ثم إن قريشاً تآمروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الذين أسلموا معه فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم ومنع الله رسوله صلی الله علیه و آله و سلم منهم بعمه أبي طالب وقد قام أبو طالب حين رأى قريشاً يصنعون ما يصنعون في بني هاشم وبني المطلب فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والقيام دونه فاجتمعوا إليه وقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليه إلا ما كان من أبي لهب عدو الله الملعون (2).

ص: 116


1- ابن هشام السابق، 1/166
2- ابن هشام السابق 1/1166. بتصرف واختصار.

شعر أبي طالب في مدح قومه لنصرته

فلما رأى أبو طالب من قومه ما سره في جهدهم معه وحدبهم عليه جعل يمدحهم ويذكر قديمهم ويذكر فضل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فيهم ومكانه منهم ليشد أزرهم وليحدبوا معه على أمره فقال:

إذا اجتمعت يوماً قريش لمفخر *** فعبد مناف سرها و صمیمها

وإن حُصّلت أشراف عبد منافها *** ففي هاشم أشرافها وقديمها

وإن فخرت يوماً فإن محمدا *** هو المصطفى من سرها وكريمها

تداعت قریش غشها وسمينها *** علينا فلم تظفر وطاشت حلومها

وكنا قديماً لا نقر ظُلامة إذا *** ما ثنوا صُغر الخدود نُقيمها

ونحمي حماها كل يوم كريهة *** ونضرب عن أحجارها من يرومها

بنا انتعش العود الذَّواء وإنما *** بأكنافنا تندى وتنمى أرومها (1)

فلما خشي أبو طالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه قال قصيدته التي تعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها وتودد فيها أشراف قومه وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في ذلك من شعره أنه غير مسلم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ولا تاركه لشيء أبداً حتى يهلك دونه فقال:

ولما رأيت القوم لا ودّ فيهمُ *** وقد قطعوا كل العرى والوسائل

وقد صارحونا بالعداوة والأذى *** وقد طاوعوا أمر العدو المزايل

وقد حالفوا قوماً علينا أظنّة *** يعضون غيظاً خلفنا بالأنامل

صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة *** وأبيض عضب من تراث المقاول

وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي *** وأمسكت من أثوابه بالوصائل قياما معا مستقبلين رتاجه *** لدي حيث يقضي حلفه كل نافل

ص: 117


1- ابن هشام، السابق، 1/167

وحيث يُنيخ الأشعرون ركابهم *** بمفضَى السيول من إساف ونائل

موسمَّة الأعضاد أو قصراتها *** مخيَّسة بين السَّديس وبازل

ترى الودع فيها والرخام وزينة *** بأعناقها معقودة كالعثاكل

أعوذ برب الناس من كل طاعن *** علينا بسوء أو مُلحْ بباطل

ومن كاشح يسعى لنا بمعيبة *** ومن ملحق في الدين ما لم نحاول

وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه *** وراق ليرقى في حراء ونازل

وبالبيت حق البيت من بطن مكة *** وبالله إن الله ليس بغافل

وبالحجر المسودّ إذ يمسحونه *** إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل

وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة *** على قدميه حافياً غير ناعل

وأشواط بين المروتين إلى الصفا *** وما فيهما من صورة وتماثل

ومن حج بيت الله من كل راكب *** ومن كل ذي نذر ومن كل راجل

وبالمشعر الأقصى إذا عمدوا له *** إلالٌ إلى مُفضَى الشراج القوابل

وتوقا فهم فوق الجبال عشية *** يقيمون بالأيدي صدور الرواحل

وليلة جمع والمنازل من منى *** وهل فوقها من حرمة ومنازل

وجمع إذا ما المقربات أجزنه *** سراعا كما يخرجن من وقع وابل

وبالجمرة الكبرى إذا صمدوا لها *** يؤمون قذفاً رأسها بالجنادل

وكندة إذ هم بالحصاب عشية *** تجيز بهم حُجّاج بكر بن وائل

حليفان شدا عقد ما احتلفا له *** ورداً عليه عاطفات الوسائل

وحطمهمُ سمُر الصفاح وسرحه *** وشبرقة وَخْدَ النعام الجوافل

فهل بعد هذا من معاذ لعائذ *** وهل من معيذ يتقي الله عاذل

يُطاع بنا أمر العدى وودّوا لو أننا *** تُسدينا أبواب ترك وكابل

كذبتم وبيت الله نترك مكة *** ونظعن إلا أمركم في بلابل

كذبتم وبيت الله نُبزَى محمدا *** ولما نطاعن دونه ونناضل

ونسلمه حتى نصرع حوله *** ونذهل عن أبنائنا والحلائل

ص: 118

وينهض قوم في الحديد إليكمُ *** نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل

وحتى ترى ذا الضغن يركب *** رَدْعه من الطعن فعل الأنكب المتحامل

وإنا لعمر الله إن جدَّ ما أرى *** لتلتبسنْ أسيافنا بالأماثل

بِكفَّي فتى مثل الشهاب سميدع *** أخي ثقة حامي الحقيقة باسل

شهورا وأياما وحولا مجَرَّما *** علينا وتأتي حِجة بعد قابل

وما ترك قوم، لا أبا لك سيدا *** يحوط الذمار غير ذرب مواكل

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهُلّاك من آل هاشم *** فهم عنده في رحمة وفواضل

لعمري لقد أجرى أسيد وبكره *** إلى بغضنا وجزّآنا لأكل

وعثمان لم يربع علينا وقنفذ *** ولكن أطاعا أمر تلك القبائل

أطاعاً أُبيّا وابن عبد يغوثهم *** ولم يرقبا فينا مقالة قائل

كما قد لقينا من سُبيع ونوفل *** وكلّ تولى معرضا لم يجُامل

فإن يُلْقيا أو يمكن الله منهما *** نكلْ لهما صاعا بصاع المُكايل

وذاك أبو عمرو أبي غير بُغضنا *** ليُظعننا في أهل شاء وجامل

يناجي بنا في كل ممسى ومصبح *** فناج أبا عمرو بنا ثم خاتل

ويُؤْلى لنا بالله ما إن يغشُّنا *** بلی قد نراه جهرة غير حائل

أضاق عليه بغضنا كل تلعة *** من الأرض بين أخشب فمجادل

وسائل أبا الوليد ماذا حبوتنا *** بسعيك فينا معرضا كالمخاتل

وكنت امراً ممن يُعاش برأيه *** ورحمته فينا ولست بجاهل

فعتبة لا تسمع بنا قول كاشح *** حسود کذوب مبغض ذي دغاول

ومر أبو سفيان عني معرضا *** كما مر قَيْلْ من عظام المقاول

يفر إلى نجد وبرد مياهه *** ويزعم أني لست عنكم بغافل

ويخبرنا فعل المناصح أنه *** شفيق ويخفي عارمات الدواخل

أمطعمُ لم أخذلك في يوم نجدة *** ولا معظم عند الأمور الجلائل

ص: 119

ولا يوم خصم إذا أتوك الدّة *** أُولي جدل من الخصوم المساجل

أمطعم إن القوم ساموك خطة *** وإني متى أُوكلْ فلست بوائل

جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا *** عقوبة شر عاجلا غير آجل

بميزان قسط لا يخُسّ شعيرة *** له شاهد من نفسه غير عائل

لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا *** بني خلف قيضا بنا والغياطل

ونحن الصميم من ذؤابة هاشم *** وآل قصي في الخطوب الأوائل

وسهم ومخزوم تمالوا وألَّبوا *** علينا العدا من كل طمل وخامل

فعبد مناف أنتم خير قومكم *** فلا تشركوا في أمركم كل واغل

العمري لقد وهنتمُ وعجزتمُ *** وجئتم بأمر مخطىء للمفاصل

وكنتم حديثا حطب قدر وأنتم الآن *** حطاب أَقدُر ومراجل

ليهنىء بني عبد مناف عقوقنا *** وخذلاننا وتركنا في المعاقل

فإن نك قوما نتَّتر ما صنعتمُ *** وتحتلبوها لقحة غير باهل

وسائط كانت في لؤي بن غالب *** تفاهم إلينا كل صقر حُلاحل

ورهط نفیل شر من وطىء الحصى *** وألأم حاف من معد وناعل

فأبلغ قصيا أن سيُنشر أمرنا *** وبشر قصيا بعدنا بالتخاذل

ولو طرقت ليلا قصيا عظيمة *** إذا ما لجأنا دونهم في المداخل

ولو صدقوا ضريا خلال بيوتهم *** لكنا أسى عند النساء المطافل

فكل صديق وابن أخت نعده *** لعمري وجدنا غِبَّه غير طائل

سوى أن رهطاً من كلاب بن مرة *** براء إلينا من معقَّة خاذل

وهنَّا لهم حتى تبدد جمعهم *** ويحسر عنا كل باغ وجاهل

وكان لنا حوض السقاية فيهم *** ونحن الكُدى من غالب والكواهل

شباب من المطيبِّين وهاشم *** كبيض السيوف بين أيدي الصياقل

فما أدركوا ذحلا ولا سفكوا دما *** ولا حالفوا إلا شرار القبائل

بضرب ترى الفتيان فيه كأنهم *** ضواري أسود فوق لحم خرادل

ص: 120

بني أمة محبوبة هندكية *** بني جمع عُبيد قيس بن عاقل

ولكننا نسل كرام لسادة *** بهم نُعي الأقوام عند البواطل

ونعم ابن أخت القوم غير مكذِّب *** زهير حساما مفردا من حمائل

أشمُّ من الشم البهاليل ينتمي *** إلى حسب في حومة المجد فاضل

لعمري لقد كُلَّفت وجدا بأحمد *** وإخوته دأب المحب المواصل

فلا زال في الدنيا جمالا لأهلها *** وزينا لمن والاه رب المشاكل

فمن مثله في الناس أي مُؤمَّل *** إذا قاسه الحكام عند التفاضل

حلیم رشید عادل غير طائش *** يوالي إلهاً ليس عنه بغافل

فوالله لولا أن أجيء بسنة *** تجُر على أشياخنا في المحافل

لكنا اتبعناه على كل حالة *** من الدهر جِدًا غير قول التهازل

لقد علموا أن ابننا لا مكذَّب *** لدينا ولا يُعنى بقول الأباطل

فأصبح فينا أحمد في أرومة *** تُقصِّر عنه سورة المتطاول

حديت بنفسي دونه وحميته *** ودافعت عنه بالذرا والكلاكل

فایده ربُّ العباد بنصره *** وأظهر دينا حقه غير باطل

رجال كرام غیر مِیل نماهم *** إلى الخير آباء كرام المحاصل

فإن تك كعب من لؤي صُقيبة *** فلابد يوماً مرة من تزايل (1)

قال ابن هشام وحدثني من أثق به قال: أقحط أهل المدينة فأتوا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فشكوا ذلك إليه فصعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم المنير فاستسقى فما لبث أن جاء من المطر ما أتاه أهل الضواحي يشكون منه الغرق فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: اللهم حوالينا ولا علينا فانجاب السحاب عن المدينة فصار حواليها كالإكليل فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: لو أدرك أبو طالب هذا اليوم لسرَّه فقال له بعض أصحابه: كأنك يا رسول الله أردت قوله: .

ص: 121


1- این،هشام السابق، 169 - 1/173.

وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه *** ثمال اليتامى عصمة للأرامل

قال: أجل (1).

مبعوثو قريش إلى النجاشي

قال ابن إسحاق: فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد أمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة وأنهم قد أصابوا بها داراً وقراراً التمروا بينهم أن يبعثوا فيهم منهم رجلين من قريش جلدين إلى النجاشي فيردهم عليهم ليفتنوهم في دينهم ويخرجوهم من دارهم التي اطمأنوا بها وأمنوا فيها فبعثوا عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص بن وائل وجمعوا لهما هدايا للنجاشي ولبطارقته ثم بعثوهما إليه فيهم.

فقال أبو طالب حين رأى ذلك من رأيهم وما بعثوهما فيه أبياتاً للنجاشي يحضه على حسن جوارهم والدفع عنهم:

شعره المرسل النجاشي

ألا ليت شعري كيف في النأي جعفر *** وعمرو وأعداء العدو الأقارب

وهل نالت أفعال النجاشي جعفرا *** وأصحابه أو عاق ذلك شاغب

تعلم أبيت اللعن أنك ماجد *** كريم فلا يشقى لديك المجانب

تعلم بأن الله زادك بسطة *** وأسباب خير كلها بك لازب

وأنك فيض ذو سجال *** غزيرة ينال الأعادي نفعها والأقارب (2)

ص: 122


1- ابن هشام السابق 173 - 174 / 1. وقد أخرجه البيهقي في "الدلائل " انظر فتح الباري 495 / 2، المطبعة السلفية.
2- ابن هشام السابق، 208 - 1/209.

موقف أبي طالب من المقاطعة الظالمة:

قال ابن إسحاق: فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد نزلوا بلداً أصابوا به أمناً وقراراً وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم و أن عمر قد أسلم فكان هو وحمزة بن عبد المطلب مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وأصحابه وجعل الإسلام يفشو في القبائل اجتمعوا والتمروا بينهم أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب على أن لا يُنكحوا إليهم ولا يُنكحوهم ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم وكان كاتبَ الصحيفة منصورُ بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي ويقال: النضر بن الحارث فدعا عليه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فشُلّ بعض أصابعه.

فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب بن عبد المطلب فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا إليه وخرج من بني هاشم أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب إلى قريش فظاهرهم (1).

فلما اجتمعت على ذلك قريش قال أبو طالب:

ألا أبلغا عني على ذات بيننا *** لؤيا وخُصَّا من لؤي بني كعبٍ

ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا *** نبيا كموسى خُط في أول الكتب

وأن عليه في العباد محبة *** ولا خير ممن خصه الله بالحب

وأن الذي ألصقتمُ من كتابكم *** لكم كائن نحسا كراغيه السقب

ص: 123


1- ابن هشام، مرجع سابق، 2/3. بتصرف واختصار.

أفيقوا أفيقوا قبل أن يحُفر الثرى *** ويصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب

ولا تتبعوا أمر الوشاة وتقطعوا *** أواصرنا بعد المودة والقرب

وتستجلبوا حربا عوانا وربما *** أمرّ على من ذاقه جلب الحرب

فلسنا ورب البيت تُسلم أحمدا *** العزّاء من عض الزمان ولا كرب

ولما تبنْ منا ومنكم سوالف *** وأيد أترّت بالقُساسية الشهب

بمعترك ضيق ترى كسر القنا *** به والنسور الطُّلخم يعكفن كالشَّرب

كأن مجُال الخيل في حَجَراته *** ومعمعة الأبطال معركة الحرب

أليس أبونا هاشم شد أزره *** وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب

ولسنا نمل الحرب حتى تملنا *** ولا نشتكي ما قد ينوب من النكب

ولكننا أهل الحفائظ والنهى *** إذا طار أرواح الكماة من الرعب

فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثاً حتى جُهدوا لا يصل إليهم شيء إلا سرّا مستخفياً به من أراد صلتهم من قريش (1).

أبو طالب يجير أبا سلمة بن عبد الأسد

قال ابن إسحاق: إن أبا سلمة لما استجار بأبي طالب مشى إليه رجال من بني مخزوم فقالوا له: يا أبا طالب: لقد منعت منا ابن أخيك محمداً فما لك ولصاحبنا تمنعه منا؟ قال إنه استجار بي وهو ابن أختي وإن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي فقام أبو لهب فقال: يا معشر قريش والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ ما تزالون تتوثَّيون عليه في جواره من بين قومه والله لتنتهن عنه أو لنقومن معه في كل ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد، فقالوا بل تنصرف عما تكره يا أبا عتبة وكان لهم ولياً وناصراً على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فأبقوا على ذلك فطمع فيه أبو طالب حين

ص: 124


1- ابن هشام، السابق، 4 - 2/5

سمعه يقول ما يقول ورجا أن يقوم معه في شأن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقال أبو طالب يحرض أبا لهب على نصرته ونصرة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم.

وإن امراً أبو عتيبة عمه *** لفي روضة ما إن يُسام المظالما

أقول له، وأين منه نصيحتي *** أبا معتب ثبتْ سوادك قائما

ولا تقبلنْ الدهر ما عشت خطة *** تُسبّ بها إما هبطت المواسما

وولّ سبيل العجز غيرك منهمُ *** فإنك لم تخُلق على العجز لازما

وحارب فإن الحرب نُصْف ولن ترى *** أخا الحرب يُعطي الخسف حتى يُسالما

وكيف ولم يجنوا عليك عظيمة *** ولم يخذلوك غانما أو مغارما

جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا *** وتيما ومخزوما عقوقا ومأثما

بتفريقهم من بعد ودّ وألفة *** جماعتنا كيما ينالوا المحارما

كذبتم وبيت الله نُبزى محمدا *** ولما تروا يوما لدى الشعب قائما

نبزی: نسلب (1)

إخباره عليه الصلاة والسلام باكل الأرضة الصحيفة

قال ابن هشام ثم إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال لأبي طالب: يا عم إن ربي الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش فلم تدع فيها اسماً لله إلا أثبتته فيها ونفت منه الظلم والقطيعة والبهتان فقال: أربك أخبرك بهذا؟ قال نعم ثم خرج إلى قريش فقال: يا معشر قريش إن ابن أخي أخبرني بكذا وكذا، فهلم صحيفتكم فإن كان كما قال ابن أخي فانتهوا عن قطيعتنا وانزلوا عما فيها وإن يكن كاذباً دفعت إليكم ابن أخي فقال القوم: رضينا، فتعاقدوا على ذلك ثم نظروا فإذا هي كما قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فزادهم ذلك شراً. فعند ذلك صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا.

ص: 125


1- ابن هشام السابق، 15 - 2/16. يتصرف واختصار.

فلما مزقت الصحيفة وبطل ما فيها، قال أبو طالب، فيما كان من أمر أولئك النفر الذين قاموا في نقضها يمدحهم:

الا هل أتى بحريِّنا صنع ربنا *** على نأيهم والله بالناس أرودُ

فيخبرهم أن الصحيفة مزقت *** وأنْ كل ما لم يرضه الله مفسد

تراوحها إفك وسحر مجمع *** ولم يُلف سحر آخر الدهر يصعد

تداعى لها من ليس فيها بقرقر *** فطائرها في رأسها يتردد

وكانت كفاء رقعة بأثيمة *** ليُقطع منها ساعد ومقلِّد

ويظعن أهل المكتين فيهربوا *** فرائصهم من خشية الشر ترعد

ويُترك حرّاث يقلب أمره *** أيُتهم فيهم عند ذاك ويُنجد

وتصعد بين الأخشبين كتيبة *** لها حدج سهم وقوس ومرهد

فمن يَنْشَ من حضّار مكة عزه *** فعزتنا في بطن مكة أتلد

نشأنا بها والناس فيها قلائل *** فلم ننفك نزداد خيرا ونحمد

ونُطعم حتى يترك الناس فضلهم *** إذا جعلت أيدي المفيضين تُرعد

جزى الله رهطاً بالحجون تبايعوا *** على ملأ يهدي لحزم ويرشد

قعودا لدى خطم الحجون كأنهم *** مقاولة بل هم أعز وأمجد

أعان عليها كل صقر كانه *** إذا ما مشى في رفرف الدرع أحرد

جريّ على جُلَّى الخطوب كأنه *** شهاب بكفَّيْ قابس يتوقَّد

من الأكرمين من لؤي بن غالب *** إذا سيم خسفا وجهه يتربد

طويل النجاد خارج نصفُ ساقه *** على وجهه يُسقى الغمام ويسعد

عظيم الرماد سيد وابن سيد *** يحض على مُقْرَى الضيوف ويحشد

ويبني لأبناء العشيرة صالحا *** إذا نحن طفنا في البلاد ويمهد

الظَّ بهذا الصلح كل مبرَّاً *** عظيم اللواء أمره ثم يحُمد

قضوا ما قضوا في ليلهم ثم أصبحوا *** على مهل وسائر الناس رُقَّدُ

همّ رجعوا سهل بن بيضاء راضيا *** وسُرّ أبو بكر بها ومحمد

ص: 126

متى شُرّك الأقوام في جل أمرنا *** وكنا قديماً قبلها نُتودد

وكنا قديماً لا نُقرّ ظُلامة *** وندرك ما شئنا ولا نتشدد

فيا لقصي هل لكم في نفوسكم *** وهل لكم فيما يجيء به غد

فإني وإياكم كما قال قائل *** لديك البيان لو تكلمت أسود (1)

قال ابن إسحاق ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد فتتابعت على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم المصائب بموت خديجة وكانت له وزير صدق على الإسلام يشكو إليها وبموت عمه أبي طالب وكان له عضداً وحرزاً في أمره ومنعة وناصراً على قومه وذلك قبل هجرته إلى المدينة بثلاث سنين.

فلما مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه تراباً فلما نثر ذلك السفيه على رأس رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ذلك التراب دخل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بيته والتراب على رأسه فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي ورسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول لها: لا تبكي يا بُنيّة فإن الله مانع أباك وكان يقول بين ذلك: ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب (2).

متى كان القطع بأمر إيمان أبي طالب من عدمه متوقفاً على رواية البخاري أو غيره؟

تعالوا نقتطف بعضاً من كلماته النورانية التي قالها شعراً في نصر

رسول الإسلام وسنرى بوضوح أن موقفه المناصر لرسولنا الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم قد انطلق من إيمان راسخ بنبوة ابن أخيه وفلذة كبده ومهجة روحه محمد بن

عبد الله: .

ص: 127


1- ابن هشام السابق، 19 - 2/20. يتصرف واختصار.
2- ابن هشام السابق 2/44. بتصرف واختصار.

وإن فخرت يوماً فإن محمدا *** هو المصطفى من سرها وكريمها..

وبالبيت حق البيت من بطن مكة *** وبالله إن الله ليس بغافل..

وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة *** على قدميه حافيا غير ناعل وأشواط

بين المروتين إلى الصفا *** وما فيهما من صورة وتماثل ...

ومن حج بيت الله من كل راكب *** ومن كل ذي نذر ومن كل راجل

كذبتم وبيت الله نترك مكة *** ونظعن ألا أمركم في بلابل..

كذبتم وبيت الله نُبزَى محمدا *** ولما نطاعن دونه ونناضل

ونسلمه حتى نصرع حوله *** ونذهل عن أبنائنا والحلائل

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهُلّاك من آل هاشم *** فهم عنده في رحمة وفواضل

لعمري لقد كُلّفت وجدا بأحمد *** وإخوته دأب المحب المواصل

فلا زال في الدنيا جمالا لأهلها *** وزينا لمن والاه رب المشاكل

فمن مثله في الناس أي مُؤمَّل *** إذا قاسه الحكام عند التفاضل

حلیم رشید عادل غير طائش *** يوالي إلهاً ليس عنه بغافل

فايده ربُّ العباد بنصره *** وأظهر دينا حقه غير باطل

ألا أبلغا عني على ذات بيننا *** لؤيا وخُصَّا من لؤي بني كعبِ

ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا *** نبيًّا كموسى خُط في أول الكتب

وأن عليه في العباد محبة *** ولا خير ممن خصه الله بالحب.

فمتى كان القائل ﴿وأظهر ديناً حقه غير باطل ... ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً نبياً كموسى خط في أول الكتب كافراً؟

هلا أجابنا القوم؟

ومتى كان القائل ﴿لعمري لقد كلفت وجداً بأحمد وإخوته دأب المحب المواصل ... حليم رشيد عادل غير طائش، يوالي إلهاً ليس عنه بغافل، فأيده رب العباد بنصره.. وأظهر ديناً حقه غير باطل﴾ مجرد

ص: 128

شخص قبلي يحامي عن شرف القبيلة ولما حضرته الوفاة رفض أن يتلفظ بالشهادتين وقال أموت على دين عبد المطلب خشية أن تغضب قریش؟!

أي منطق يدفعنا للتصديق بأن أبا طالب رضوان الله عليه كان حريصاً على ألا يغضب قريشاً بإعلان إسلامه في لحظة موته وإلا فليخبرنا هؤلاء الفلاسفة عما كان يعنيه نصرة محمد صلی الله علیه و آله و سلم في مواجهة الطغيان القرشي طيلة هذه السنين؟

هل كان هذا إرضاء لقريش؟ أم أنه رضوان الله عليه كان من الذين لا يخافون في الله لومة لائم ولا عذل عاذل ولا يسعون إلا لنيل رضا خالقهم سبحانه وتعالى عما يشركون!

الا يستحى القوم من تكرار هذا الكلام الذي يقطع بأن حقدهم على ناصر رسول الله مشتق من نفاقهم وحسدهم لشخص رسول الله وهو الحقد الذي امتد في أعقابهم وهو نفسه الذي حفزهم بعد ذلك للتنكيل بآل الرسول الأكرم فكانت هذه من تلك وتلك من هذه!

الكتيبة الهاشمية تفدي الإسلام بأرواحها

إن هذا الموقف الجهادي التحريضي الذي وقفه أبو طالب عندما استنفر قريشاً وبني عبد مناف للذب عن رسول الله لما خذله من خذله قاد الكتيبة الهاشمية الجهادية في معركة الدفاع عن الإسلام وامتد هذا الجهاد وهذه الروح إلى الأبناء.

يروي ابن الأثير في الكامل في أخبار غزوة بدر: إن عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة دعوا إلى المبارزة فخرج إليهم عوف ومعوذ ابنا عفراء وعبد الله بن رواحة كلهم من الأنصار فقالوا من أنتم؟ قالوا من

ص: 129

الأنصار فقالوا: أكفاء كرام وما لنا بكم من حاجة ليخرج إلينا أكفاؤنا من قومنا. فقال النبي صلی الله علیه و آله و سلم: قم يا حمزة قم يا عبيدة بن الحارث قم يا علي فقاموا ودنا بعضهم من بعض فبارز عبيدة بن الحارث بن المطلب وكان أمير القوم عتبة وبارز حمزة شيبة وبارز علي الوليد فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما قد أثبت صاحبه وكر حمزة وعلي على عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة إلى أصحابه وقد قطعت رجله فلما أتوا به النبي صلی الله علیه و آله و سلم قال: ألست شهيدًا يا رسول الله؟ قال بلى. قال: لو رآني أبو طالب لعلم أننا أحق منه بقوله: ونسلمه حتى نصرّع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل ثم مات عليه رضوان الله ورحمته (1).

إنه إذاً أي أبو طالب بن عبد المطلب هو معلم الجهاد ورائد الكتيبة الهاشمية وهو من غرس في نفوس الخلص من بني هاشم روح التضحية والجهاد في سبيل الله نصرة للحق.

فكيف غابت هذه الحقائق عن بعض المؤرخين ودفعتهم لتلقف تلك الروايات المتهافتة التي أوردها البخاري وغيره من الإخباريين الذين امتلأت كتبهم بالغث من القول وحسبنا الله ونعم الوكيل وويل للمطففين. .

ص: 130


1- ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/22.

بنو هاشم طليعة الإيمان

لم يكن بنو هاشم مجرد تاريخ سبق البعثة النبوية المباركة بل كانوا ركائز وأعمدة قام عليها دين الله وليس من العسير على المتأمل في السيرة النبوية من خلال الرؤية العلوية أن يكتشف ذلك الكم الهائل من الحيف والظلم والتحامل على شجرة النبوة الهاشمية طمساً لمعالم جهادهم والصاقاً للتهم والافتراءات الظالمة كتلك الفرية الكبرى التي ألصقت بسيد البطحاء أبي طالب رضوان الله عليه والتهليل لدخول غيرهم في الإسلام واعتبار ذلك علامة فارقة في مسار الدعوة من دون أن يشغل أي من هؤلاء باله بتقديم دليل واحد على أهمية دخول هذا الداخل في الإسلام.

لم يخبرنا أحد عن الدور الذي اضطلع به هو أو غيره قبل الهجرة أو بعدها أو عن بلاء أي منهم دفاعاً عن الدعوة أو عن رسول الله ولكننا نعرف بكل تأكيد أن معسكر الكفر والعناد والإلحاد قد تلقى ضربة قاصمة يوم بدر وفي غيرها من الغزوات على يد فرسان الإسلام المضحين من بني هاشم علي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب وأن دور هذه العصبة البدرية الهاشمية كان امتداداً لجهاد سيد البطحاء أبي طالب رضوان الله عليه وجزاه الله خيراً على ما قدم للإسلام والمسلمين من يومها إلى يوم الدين.

ص: 131

إثبات فضل بني هاشم لا يتوقف على نفي إسلام غيرهم أو إنكار ما قدمه في سبيل الله ﴿ولكل فضل﴾ ولكن الأمانة كانت تقضي أن يضع هؤلاء الأشياء في موضعها ويعرفوا لكل إنسان فضله ومقامه الذي استحقه بجهاده وتضحياته في سبيل الله ولا شك أن لبني هاشم في هذا البناء النوراني موقع لا يبارى ولا يسامى.

وكما قال الإمام في رسالته لمعاوية التي سنوردها بنصها بعد قليل ﴿أَ لَا تَرَى - غَيْرَ مُخْبِرٍ لَكَ وَ لَكِنْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ أُحَدِّثُ - أَنَّ قَوْماً اسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَ لِكُلٍّ فَضْلٌ، حَتَّى إِذَا اسْتُشْهِدَ شَهِيدُنَا قِيلَ: سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ وَ خَصَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﴿صلی الله علیه وآله﴾ بِسَبْعِينَ تَكْبِيرَةً عِنْدَ صَلَاتِهِ عَلَيْهِ! أَوَلَا تَرَى أَنَّ قَوْماً قُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - وَ لِكُلٍّ فَضْلٌ، - حَتَّى إِذَا فُعِلَ بِوَاحِدِنَا کمَا فُعِلَ بِوَاحِدِهِمْ قِيلَ: الطَّيَّارُ فِي الْجَنَّةِ وَ ذُو الْجَنَاحَيْنِ! وَ لَوْ لَا مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ تَزْكِيَةِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ لَذَكَرَ ذَاكِرٌ فَضَائِلَ جَمَّةً تَعْرِفُهَا قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ وَ لَا تَمُجُّهَا آذَانُ السَّامِعِينَ﴾.

أما الكارثة العظمى التي نزلت بالإسلام وأهله ونزلت بالإمام ورهطه الهاشميين المجاهدين أول ما نزلت ثم امتدت بعد ذلك لتصبح انقلاباً تاماً في الموازين فهي مناطحة ابن آكلة الأكباد للإمام في موقعه ومقامه حيث يقول الإمام ﴿ففَيَا عَجَباً لِلدَّهْرِ إِذْ صِرْتُ يُقْرَنُ بِي مَنْ لَمْ يَسْعَ بِقَدَمِي وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ كَسَابِقَتِي اَلَّتِي لاَ يُدْلِي أَحَدٌ بِمِثْلِهَا إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ مُدَّعٍ مَا لاَ أَعْرِفُهُ وَ لاَ أَظُنُّ اَللَّهَ يَعْرِفُهُ وَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ﴾!

لقد شكل فرسان بني هاشم بجهادهم وسبقهم طليعة الأمة المضحية الملتفة حول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والتي استحقت من دون أدنى شك وصف السابقين ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)﴾ [الواقعة 10 - 14] سبقاً زمانياً

ص: 132

وعملياً وليس سبقاً تلفيقياً لم يكن له وجود إلا على ألسنة وضاع الأحاديث ومن ثم في مخيلة جمهورنا الذي تشكل وعيه على يد هؤلاء المؤلفين الكبار.

إنها المسابقة إلى مرضاة الله فى الزمان والمكان الملائمين وليس سبقاً إلى الكراسي والغنائم والتهافت على حطام الدنيا ونعيمها الزائل تسابق الفراش إلى الموت في نيران المطامع ﴿سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الحديد 21].

ألّا تحصل تلك الكوكبة المجاهدة السابقة إلى رضوان الله ورحمته على ما تستحق من التعريف والتكريم فهي كارثة كبرى نزلت بنا وليست بهم فالأمة هي التي خسرت الاقتداء بقيمهم ومبادئهم ومثلهم واستبدلت بها مجموعة من القيم الشمعية المصمغة الملفقة التي لا تصمد لا في وجه اختبار الصلابة ولا في مواجهة نيران المحن التي تحاصرنا من كل حدب وصوب.

الأمة وعبر هؤلاء المزورين أقامت لنفسها نصباً من صنع الوهم والخيال فكانت بهذا كبني إسرائيل الذين استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير فحقت عليهم الشقوة وحق عليهم قول ربهم إنهم لذائقو العذاب الأليم ولن يجزون إلا ما كانوا يفترون ويكذبون.

في إحدى رسائله التي أرسلها إلى رأس الفتنة الأموية معاوية بن أبي سفيان يقول الإمام علي بن أبي طالب:

أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَتَانِي كِتَابُكَ تَذْكُرُ فِيهِ اصْطِفَاءَ اللَّهِ مُحَمَّداً ﴿صلی الله علیه وآله﴾ لِدِينِهِ وَ تَأْيِيدَهُ إِيَّاهُ لِمَنْ أَيَّدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ فَلَقَدْ خَبَّأَ لَنَا الدَّهْرُ مِنْكَ عَجَباً إِذْ طَفِقْتَ تُخْبِرُنَا بِبَلَاءِ اللهِ عِنْدَنَا وَ نِعْمَتِهِ عَلَيْنَا فِي

ص: 133

نَبِيِّنَا، فَكُنْتَ فِي ذَلِكَ كَنَاقِلِ التَّمْرِ إِلَى هَجَرَ أَوْ دَاعِي مُسَدِّدِهِ إِلَى النِّضَالِ؛

وَ زَعَمْتَ أَنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ فُلَانٌ وَ فُلَانٌ، فَذَكَرْتَ أَمْراً إِنْ تَمَّ اعْتَزَلَكَ كُلُّهُ وَ إِنْ نَقَصَ لَمْ يَلْحَقْكَ ثَلْمُهُ؛ وَ مَا أَنْتَ وَ الْفَاضِلَ وَ الْمَفْضُولَ وَ السَّائِسَ وَ الْمَسُوسَ، وَ مَا لِلطُّلَقَاءِ وَ أَبْنَاءِ الطُّلَقَاءِ وَ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَ تَرْتِيبَ دَرَجَاتِهِمْ وَ تَعْرِيفَ طَبَقَاتِهِمْ؟! هَيْهَاتَ، لَقَدْ حَنَّ قِدْحٌ لَيْسَ مِنْهَا وَ طَفِقَ يَحْكُمُ فِيهَا مَنْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ لَهَا.

أَلَا تَرْبَعُ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ عَلَى ظَلْعِكَ وَ تَعْرِفُ قُصُورَ ذَرْعِكَ وَ تَتَأَخَّرُ حَيْثُ أَخَّرَكَ الْقَدَرُ؟ فَمَا عَلَيْكَ غَلَبَةُ الْمَغْلُوبِ وَ لَا ظَفَرُ الظَّافِرِ؟

وَ إِنَّكَ لَذَهَّابٌ فِي التِّيهِ، رَوَّاغٌ عَنِ الْقَصْدِ.

أَ لَا تَرَى - غَيْرَ مُخْبِرٍ لَكَ وَ لَكِنْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ أُحَدِّثُ - أَنَّ قَوْماً اسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَ لِكُلٍّ فَضْلٌ، حَتَّى إِذَا اسْتُشْهِدَ شَهِيدُنَا قِيلَ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ وَ خَصَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﴿صلی الله علیه وآله﴾ بِسَبْعِينَ تَكْبِيرَةً عِنْدَ صَلَاتِهِ عَلَيْهِ!

أَ وَ لَا تَرَى أَنَّ قَوْماً قُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لِكُلٍّ فَضْلٌ، حَتَّى إِذَا فُعِلَ بِوَاحِدِنَا مَا فُعِلَ بِوَاحِدِهِمْ قِيلَ الطَّيَّارُ فِي الْجَنَّةِ وَ ذُو الْجَنَاحَيْنِ.

وَ لَوْ لَا مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ تَزْكِيَةِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ لَذَكَرَ ذَاكِرٌ فَضَائِلَ جَمَّةً تَعْرِفُهَا قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ وَ لَا تَمُجُّهَا آذَانُ السَّامِعِينَ.

فَدَعْ عَنْكَ مَنْ مَالَتْ بِهِ الرَّمِيَّةُ؛ فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا وَ النَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا.

لَمْ يَمْنَعْنَا قَدِيمُ عِزِّنَا وَ لَا عَادِيُّ طَوْلِنَا عَلَى قَوْمِكَ أَنْ خَلَطْنَاكُمْ

ص: 134

بِأَنْفُسِنَا فَنَكَحْنَا وَ أَنْكَحْنَا فِعْلَ الْأَكْفَاءِ وَ لَسْتُمْ هُنَاكَ، وَ أَنَّى يَكُونُ ذَلِكَ [كَذَلِكَ]، وَ مِنَّا النَّبِيُّ وَ مِنْكُمُ الْمُكَذِّبُ وَ مِنَّا أَسَدُ اللَّهِ وَ مِنْكُمْ أَسَدُ الْأَحْلَافِ وَ مِنَّا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَ مِنْكُمْ صِبْيَةُ النَّارِ وَ مِنَّا خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ وَ مِنْكُمْ حَمَّالَةُ الْحَطَبِ فِي كَثِيرٍ مِمَّا لَنَا وَ عَلَيْكُمْ!

فَإِسْلَامُنَا مَا قَدْ سُمِعَ وَ جَاهِلِيَّتُنَا لَا تُدْفَعُ وَ كِتَابُ اللَّهِ يَجْمَعُ لَنَا مَا شَذَّ عَنَّا، وَ هُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى ﴿وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ﴾ وَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ فَنَحْنُ مَرَّةً أَوْلَى بِالْقَرَابَةِ وَ تَارَةً أَوْلَى بِالطَّاعَةِ.

وَ لَمَّا احْتَجَّ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى الْأَنْصَارِ يَوْمَ السَّقِيفَةِ بِرَسُولِ اللَّهِ ﴿صلی الله علیه وآله﴾ فَلَجُوا عَلَيْهِمْ، فَإِنْ يَكُنِ الْفَلَجُ بِهِ فَالْحَقُّ لَنَا دُونَكُمْ، وَ إِنْ يَكُنْ بِغَيْرِهِ فَالْأَنْصَارُ عَلَى دَعْوَاهُمْ.

وَ زَعَمْتَ أَنِّي لِكُلِّ الْخُلَفَاءِ حَسَدْتُ وَ عَلَى كُلِّهِمْ بَغَيْتُ، فَإِنْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَيْسَتِ الْجِنَايَةُ عَلَيْكَ فَيَكُونَ الْعُذْرُ إِلَيْكَ

وَ تِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا".

أما قوله علیه السلام: ﴿أَنَّ قَوْماً اسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ وَ لِكُلٍّ فَضْلٌ، حَتَّى إِذَا اسْتُشْهِدَ شَهِيدُنَا قِيلَ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ وَ خَصَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﴿صلی الله علیه وآله﴾ بِسَبْعِينَ تَكْبِيرَةً عِنْدَ صَلَاتِهِ عَلَيْهِ!﴾ فيشرحه لنا ابن سعد في الطبقات وهو يروي قصة استشهاده رضوان الله عليه.

استشهاد حمزة بن عبد المطلب

قال ابن سعد: حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله وعمه

ص: 135

رضي الله تعالى عنه ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي و أمه هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة وكان يكنى أبا عمارة (1).

أما عن سبب إسلامه فيذكر الرواة أن أبا جهل وعدي بن الحمراء وابن الأصداء نالوا من النبي صلی الله علیه و آله و سلم يوماً وشتموه وآذوه فبلغ ذلك حمزة بن عبد المطلب فدخل المسجد مغضباً فضرب رأس أبي جهل بالقوس ضربة أوضحت في رأسه وأسلم حمزة فعز به رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والمسلمون وذلك في السنة السادسة من النبوة ولما هاجر حمزة بن عبد المطلب إلى المدينة آخى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بينه وزيد بن حارثة وإليه أوصى حمزة بن عبد المطلب يوم أحد حين حضر القتال (2).

وأول لواء عقده رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حين قدم المدينة كان لحمزة بن عبد المطلب بعثه سرية في ثلاثين راكباً حتى بلغوا قريباً من سيف البحر يعترض لعير قريش وهي منحدرة إلى مكة قد جاءت من الشام وفيها أبو جهل بن هشام في ثلاثمائة راكب فانصرف ولم يكن بينهم قتال وكان حمزة معلماً يوم بدر بريشة نعامة وهو الذي حمل لواء رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في غزوة بني قينقاع ولم تكن الرايات يومئذ وقتل رحمه الله أحد على رأس اثنين وثلاثين شهراً من الهجرة وهو يومئذ ابن تسع وخمسين سنة كان أسن من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بأربع سنين قتله وحشي بن حرب وشق بطنه وأخذ كيده فجاء بها إلى هند بنت عتبة بن ربيعة فمضغتها ثم لفظتها ثم جاءت فمثلت بحمزة وجعلت من ذلك مسكتين ومعضدين وخدمتين حتى قدمت بذلك وبكبده مكة وكفن حمزة في بردة فجعلوا إذا غطوا بها رأسه .

ص: 136


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى 7 / 3. مكتبة الاسرة، القاهرة 2002.
2- ابن سعد السابق 3/8 بتصرف واختصار.

بدت قدماه وإذا غطوا بها رجليه تنكشف عن وجهه فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم غطوا وجهه وجعل على رجليه الحرمل وكان حمزة أول من ذلك اليوم من الشهداء وكبر عليه أربعاً ثم جمع إليه الشهداء فكلما أتي بشهيد وضع إلى جنب حمزة فصلى عليه وعلى الشهيد حتى صلى عليه سبعين مرة وسمع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم البكاء في بني عبد الأشهل على قتلاهم فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لكن حمزة لا بواكي له فسمع ذلك سعد بن معاذ فرجع إلى نساء بني عبد الأشهل فساقهن إلى باب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فبكين على حمزة فسمع ذلك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فدعا لهن وردهن فلم تبك امرأة من الأنصار بعد ذلك إلى اليوم على ميت إلا بدأت بالبكاء على حمزة ثم بكت على ميتها (1)

وكان حمزة بن عبد المطلب يقاتل بين يدي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يوم أحد بسيفين ويقول أنا أسد الله وجعل يقبل ويدبر قال فبينما هو كذلك إذ عثر عثرة فوقع على ظهره وبصر به الأسود فزرقه بحربة فقتله فطعنه الحبشي بحربة أو رمح فبقره (2).

وكانت هند بنت عتبة بن ربيعة امرأة أبي سفيان وأم معاوية جاءت مع الأحزاب أحد وقد نذرت لئن قدرت على حمزة بن عبد المطلب يوم لتأكلن من كبده فلما أصيب حمزة ومثلوا بالقتلى جاؤوا بقطعة من كبد حمزة فأخذتها تمضغها لتأكلها فلم تستطع أن تبتلعها فلفظتها فبلغ ذلك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال إن الله قد حرم على النار أن تذوق من لحم حمزة شيئاً أبداً (3)..

ص: 137


1- ابن سعد السابق، 8 - 3/10 بتصرف واختصار.
2- ابن سعد السابق 3/11 بتصرف واختصار.
3- ابن سعد السابق، 3/11. بتصرف.

ولما وقف رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم على حمزة فرآه قد شق بطنه وقد مثل به کره رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أن ينظر إليه ووقف بين ظهراني القتلى فقال أنا شهيد على هؤلاء، لفوهم في دمائهم فإنه ليس من جريح يجرح في الله إلا جاء جرحه يوم القيامة يدمى لونه لون الدم وريحه ریح المسك قدموا أكثرهم قرآناً فاجعلوه في اللحد ثم أقبلت صفية بنت عبد المطلب تطلبه لا تدري ما صنع فلقيت عليّا والزبير فقال علي للزبير اذكر لأمك قال الزبير لا بل اذكر أنت لعمتك قالت ما فعل حمزة؟ قال فأرياها أنهما لا يدريان قال فجاء النبي صلی الله علیه و آله و سلم فقال إني أخاف على عقلها قال فوضع يده على صدرها ودعا لها فاسترجعت وبكت (1).

الرسول يصلي على حمزة سبعين مرة:

قال ثم أمر بالقتلى فجعل يصلي عليهم قال فيضع تسعة وحمزة فيكبر عليهم سبعاً ثم يرفعون ويترك حمزة ثم يجاء بتسعة فيكبر عليهم حتى فرغ منهم وترك حمزة حتى صلى عليه يومئذ سبعين صلاة.

قال ابن سعد أخبرنا سعيد بن مسروق عن أبي الضحى في قول الله جل ثناؤه ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ قال نزلت في قتلى أحد ونزل فيهم ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ وقتل يومئذ سبعون من المسلمين أربعة من المهاجرين حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير أخو بني عبد الدار والشماس بن عثمان المخزومي وعبد الله بن جحش الأسدي والباقي من الأنصار كما نقل عن قيس بن عبادة قال سمعت أبا ذر يقسم أنزلت هذه الآيات ﴿هَٰذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ۖ فَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إلى قوله ﴿إنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ (14)﴾

ص: 138


1- ابن سعد السابق، 12 - 3/13. بتصرف.

في هؤلاء الرهط الستة يوم بدر حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة (1).

ثم مر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم على نساء بني عبد الأشهل لما فرغ من أحد فسمعهن يبكين على من استشهد منهم بأحد فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لكن حمزة لا بواكي له فسمعها سعد بن معاذ فذهب إلى نساء بني عبد الأشهل فأمرهن أن يذهبن إلى باب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فيبكين على حمزة فذهبن فبكين فسمع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بكاء من فقال لهن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: بارك الله عليكن وعلى أولادكن وعلى أولاد أولادكن ورحم أولادكن وأولاد أولادكن (2).

استشهاد جعفر الطيار

روى ابن هشام في سيرته: وكانت غزوة مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمانية للهجرة فمضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب فانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة ثم التقى الناس واقتتلوا فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حتى قتل ثم أخذها جعفر بن أبي طالب فقاتل بها حتى قتل قال الراوي والله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرسه ثم قاتل حتى قتل وهو يقول:

يا حبذا الجنة واقترابها *** طيبة وبارداً شرابها

والروم قد دنا عذابها *** كافرة بعيدة أنسابها

ص: 139


1- ابن سعد، الطبقات، 14 - 3/15. بتصرف واختصار.
2- ابن،سعد السابق، 3/16.

ثم أخذ جعفر اللواء بيمينه فقطعت فأخذه بشماله فقطعت فاحتضنه بعضديه حتى قتله رحمه الله وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة فأثابه الله يذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء. ويقال: إن رجلاً من الروم ضربه يومئذ ضربة فقطعه نصفين فلما قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية ثم تقدم بها فقاتل حتى قتل.

ولما أصيب جعفر وأصحابه دخل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم على أسماء بنت عمیس زوجة جعفر فقال لها ائتني ببني جعفر فأتت بهم فتشممهم وذرفت عيناه فقالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال نعم أصيبوا هذا اليوم فقامت تصيح واجتمعت إليها النساء، وخرج رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلى أهله فقال: لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاماً فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم.

وحدثني عبد الرحمن بن القاسم بن محمد عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلی الله علیه و آله و سلم قالت: لما أتى نعي جعفر عرفنا في وجه رسول الله الحزن (1).

ويروي ابن الأثير في الكامل (2) أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: مر بي جعفر البارحة في نفر من الملائكة له جناحان مختضب القوادم بالدم.

ويروي ابن هشام عمن رثى جعفراً رضوان الله عليه:

حسان بن ثابت:

تأويني ليلٌ بيثرب أعسر *** وهمّ إذا ما نوم الناس مسهر

لذكرى حبيبٍ هيجت لي عبرةٌ *** سفوحا وأسباب البكاء التذكرُ

بلى إن فقدان الحبيب بليةٌ *** وكم من كريم يبتلي ثم يصبر .

ص: 140


1- ابن هشام مرجع سابق 6 - 3/10. بتصرف.
2- ابن الأثير، مرجع سابق، 2/115.

رأيت خيار المؤمنين تواردوا *** شعوب وخلفا بعدهم يتأخر

فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا *** بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفرُ

وزيد وعبد الله حين تتابعوا *** جميعاً وأسباب المنية تخطر

غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم *** إلى الموت ميمون النقيبة أزهر

أغر كضوء البدر من آل هاشم *** أبي إذا سيم الظلامة مجسر

فطاعن حتى مال غیر موسد *** لمعترك فيه قنا متكسر

فصار مع المستشهدين ثوابه *** جنان وملتف الحدائق أخضر

وكنا نرى في جعفر من محمد *** وفاء وأمراً حازماً حين يأمر

فما زال في الإسلام من آل هاشم *** دعائم عز لا يزلن ومفخر

هم جبل الإسلام والناس حولهم *** رضام إلى طود يروق ويقهر

بهاليل منهم جعفر وابن أمه *** علي ومنهم أحمد المتخير

وحمزة والعباس منهم ومنهم *** عقيل وماء العود من حيث يعصر

بهم تفرج اللأواء في كل مأزق *** عماس إذا ما ضاق بالناس مصدر

هم أولياء الله أنزل حكمه عليهم *** وفيهم ذا الكتاب المطهر

وقال كعب بن مالك يرثي جعفراً وأصحابه:

نام العيون ودمع عينك يهمل *** سحاً وكف الطياب المخضل

في ليلة وردت علي همومها *** طورا أحن وتارة أتململ

واعتادني حزن فيت كأنني *** ببنات نعش والسماك موكل

وكأنما بين الجوانح والحشى *** مما تأوبني شهاب مدخل

وجدا على النفر الذين تتابعوا *** يوما بمؤتة أسندوا لم ينقلوا

صلى الإله عليهم من فتية *** وسقى عظامهم الغمام المسبل

صبروا بمؤتة للإله نفوسهم *** حذر الردى ومخافة أن ينكلوا

فمضوا أمام المسلمين كأنهم *** فنق عليهن الحديد المرفل

إذ يهتدون بجعفر ولوائه *** قدام أولهم فنعم الأول

ص: 141

حتى تفرجت الصفوف وجعفر *** حيث التقى وعت الصفوف مجدل

فتغير القمر المنير لفقده *** والشمس قد كسفت وكادت تأفل

قرم علا بنيانه من هاشم فرعا *** أشم وسؤدداً ما ينقل

قوم بهم عصم الإله عباده *** وعليهم نزل الكتاب المنزل

فضلوا المعاشر عزة وتكرما *** وتغمدت أحلامهم من يجهل

لا يطلقون إلى السفاه حباهم *** ویری خطيبهم بحق يفصل

بيض الوجوه ترى بطون أكفهم *** تندى إذا اعتذر الزمان الممحل

يهديهم رضي الإله لخلقه *** وبجدهم نصر النبي المرسل

وقال حسان بن ثابت أيضاً يبكي جعفراً:

ولقد بكيت وعز مهلك جعفر *** حب النبي على البرية كلها

ولقد جزعت وقلت حين نعيت لي *** من للجلاد لدى العقاب وظلها

بالبيض حين تسل من أغمادها *** ضربا وانهال الرماح وعلها

بعد ابن فاطمة المبارك جعفر *** خير البرية كلها وأجلها

رزءاً وأكرمها جميعاً محتداً *** وأعزها متظلما وأذلها

للحق حين ينوب غير تنحل *** كذباً، وأنداها يداً وأقلها

فحشاء وأكثرها إذا ما يجتدى *** فضلاً، وأبذلها ندى وأبلها

بالعرف غير محمد لا مثله *** حي من أحياء البرية كلها

إن هذه الأبيات التي رثي بها جعفر بن أبي طالب رضوان الله عليه تشير إلى ترتيب مغاير للقيادة غير هذا الترتيب الذي يرويه بعض أهل السير ﴿زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة﴾ فها هو شعر كعب بن مالك ﴿إذ يهتدون بجعفر ولوائه قدام أولهم فنعم ﴿الأول﴾ يشير إلى تلك الحقيقة.

ولكننا نقول كما قال الإمام علي بن أبي طالب ﴿ولكل فضل﴾.

ص: 142

أحوال العرب قبل البعثة النبوية

يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب

إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً [صلی الله علیه وآله] لِإِنْجَازِ عِدَتِهِ وَ إِتْمَامِ نُبُوَّتِهِ مَأْخُوذاً عَلَى النَّبِيِّينَ مِيثَاقُهُ، مَشْهُورَةً سِمَاتُهُ كَرِيماً مِيلَادُهُ، وَ أَهْلُ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ وَ أَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ وَ طَرَائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ، بَيْنَ مُشَبِّهٍ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ أَوْ مُلْحِدٍ فِي اسْمِهِ أَوْ مُشِيرٍ إِلَى غَيْرِهِ، فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ وَ أَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِهِ مِنَ الْجَهَالَةِ (1).

وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالدِّينِ الْمَشْهُورِ وَ الْعَلَمِ الْمَأْثُورِ وَ الْكِتَابِ الْمَسْطُورِ وَ النُّورِ السَّاطِعِ وَ الضِّيَاءِ اللَّامِعِ وَ الْأَمْرِ الصَّادِعِ إِزَاحَةً لِلشُّبُهَاتِ وَ احْتِجَاجاً بِالْبَيِّنَاتِ وَ تَحْذِيراً بِالْآيَاتِ وَ تَخْوِيفاً بِالْمَثُلَاتِ وَ النَّاسُ فِي فِتَنٍ انْجَذَمَ فِيهَا حَبْلُ الدِّينِ وَ تَزَعْزَعَتْ سَوَارِي الْيَقِينِ وَ اخْتَلَفَ النَّجْرُ وَ تَشَتَّتَ الْأَمْرُ وَ ضَاقَ الْمَخْرَجُ وَ عَمِيَ الْمَصْدَرُ فَالْهُدَى خَامِلٌ وَ الْعَمَى شَامِلٌ عُصِيَ الرَّحْمَنُ وَ نُصِرَ الشَّيْطَانُ وَ خُذِلَ الْإِيمَانُ فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ وَ تَنَكَّرَتْ مَعَالِمُهُ وَ دَرَسَتْ سُبُلُهُ وَ عَفَتْ شُرُكُهُ أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَهُ وَ وَرَدُوا مَنَاهِلَهُ بِهِمْ سَارَتْ أَعْلَامُهُ وَ قَامَ لِوَاؤُهُ فِي فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِأَخْفَافِهَا وَ وَطِئَتْهُمْ بِأَظْلَافِهَا وَ قَامَتْ عَلَى

ص: 143


1- نهج البلاغة الخطبة الأولى.

سَنَابِكِهَا فَهُمْ فِيهَا تَائِهُونَ حَائِرُونَ جَاهِلُونَ مَفْتُونُونَ فِي خَيْرِ دَارٍ وَ شَرِّ جِيرَانٍ نَوْمُهُمْ سُهُودٌ وَ كُحْلُهُمْ دُمُوعٌ بِأَرْضٍ عَالِمُهَا مُلْجَمٌ وَ جَاهِلُهَا مُكْرَمٌ (1).

إِنَّ اللَّهَ سُبحانَه بَعَثَ مُحَمَّداً نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ وَ أَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ وَ أَنْتُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ عَلَى شَرِّ دِينٍ وَ فِي شَرِّ دَارٍ، مُنِيخُونَ بَيْنَ حِجَارَةٍ خُشْنٍ وَ حَيَّاتٍ صُمٍّ تَشْرَبُونَ الْكَدِرَ وَ تَأْكُلُونَ الْجَشِبَ وَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَ تَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ، الْأَصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ وَ الْآثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ (2).

أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ وَ طُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الْأُمَمِ وَ اعْتِزَامٍ مِنَ الْفِتَنِ وَ انْتِشَارٍ مِنَ الْأُمُورِ وَ تَلَظٍّ مِنَ الْحُرُوبِ، وَ الدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ ظَاهِرَةُ الْغُرُورِ عَلَى حِينِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا وَ إِيَاسٍ مِنْ ثَمَرِهَا وَ اغْوِرَارٍ مِنْ مَائِهَا، قَدْ دَرَسَتْ أغلامُ الْهُدَى وَ ظَهَرَتْ أَعْلَامُ الرَّدَى، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لِأَهْلِهَا عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبِهَا، ثَمَرُهَا الْفِتْنَةُ وَ طَعَامُهَا الْجِيفَةُ وَ شِعَارُهَا الْخَوْفُ وَ دِثَارُهَا السَّيْفُ (3).

يقول ابن أبي الحديد: فأما الأمة التي بعث محمد صلی الله علیه و آله و سلم فيها فهم العرب وكانوا أصنافاً شتى فمنهم معطلة ومنهم غير معطلة فأما المعطلة منهم فبعضهم أنكر الخالق والبعث والإعادة وقالوا ما قال القرآن العزيز عنهم ما هِي إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْبا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ فجعلوا الجامع لهم الطبع والمهلك لهم الدهر وبعضهم اعترف بالخالق سبحانه وأنكر البعث وهم الذين أخبر سبحانه عنهم بقوله ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ ومنهم من أقر بالخالق ونوع من الإعادة وأنكروا الرسل 8

ص: 144


1- السابق، خطبة 2.
2- السابق، خطبة 26
3- السابق، خطبة 88

وعبدوا الأصنام وزعموا أنها شفعاء عند الله في الآخرة وحجوا لها ونحروا لها الهدي وقربوا لها القربان وحللوا وحرموا وهم جمهور العرب وهم الذين قال الله تعالى عنهم ﴿وَقَالُوا مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾.

فممن نطق شعره بإنكار البعث بعضهم يرثي قتلى بدر:

فماذا بالقليب قليب بدر *** من الفتيان والقوم الكرام

وماذا بالقليب قليب بدر *** من الشيزى تكلل بالسنام

ايخبرنا ابن كبشة أن سنحيا *** وكيف حياة أصداء وهام

إذا ما الرأس زال بمنكبيه *** فقد شبع الأنيس من الطعام

أيقتلني إذا ما كنت حيا *** ويحييني إذا رمت عظامي

وكان من العرب من يعتقد التناسخ وتنقل الأرواح في الأجساد ومن هؤلاء أرباب الهامة التي قال علیه السلام عنهم لا عدوى ولا هامة ولا صفر.

وقال ذو الإصبع

يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي *** أضربك حيث تقول الهامة اسقوني

وقالوا إن ليلى الأخيلية لما سلمت على قبر توبة بن الحمير خرج إليها هامة من القبر صائحة أفزعت ناقتها فوقصت بها فماتت وكان ذلك تصديق قوله:

و لو أن ليلى الأخيلية سلمت *** علي ودوني جندل وصفائح

لسلمت تسليم البشاشة أو زقا *** إليها صدى من جانب القبر صائح

وكان توبة وليلى في أيام بني أمية.

وكانوا في عبادة الأصنام مختلفين فمنهم من يجعلها مشاركة

ص: 145

للبارئ تعالى ويطلق عليها لفظة الشريك ومن ذلك قولهم في التلبية لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك ومنهم من لا يطلق عليها لفظ الشريك ويجعلها وسائل وذرائع إلى الخالق سبحانه وهم الذين قالوا ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ﴾.

وكان في العرب مشبهة ومجسمة منهم أمية بن أبي الصلت وهو القائل:

من فوق عرش جالس قد حط *** رجليه إلى كرسيه المنصوب

وكان جمهورهم عبدة الأصنام فكان ود لكلب بدومة الجندل وسواع لهذيل ونسر لحمير ويغوث لهمدان واللات لثقيف بالطائف والعزى لكنانة وقريش وبعض بني سليم ومناة لغسان والأوس والخزرج وكان هبل لقريش خاصة على ظهر الكعبة وإساف ونائلة على الصفا والمروة وكان في العرب من يميل إلى اليهودية منهم جماعة من التبابعة وملوك اليمن ومنهم نصارى كبني تغلب والعباديين رهط عدي بن زيد ونصارى نجران ومنهم من کان يميل إلى الصابئة ويقول بالنجوم والأنواء.

فأما الذين ليسوا بمعطلة من العرب فالقليل منهم وهم المتألهون أصحاب الورع والتحرج عن القبائح كعبد الله وعبد المطلب وابنه أبي طالب وزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة الإيادي وعامر بن الظرب العدواني وجماعة غير هؤلاء.

وغرضنا من هذا الفصل بيان قوله علیه السلام بين مشبه لله بخلقه أو ملحد في اسمه إلى غير ذلك وقد ظهر بما شرحناه (1) انتهى.

وينقل أبو الفداء في تاريخه عن الشهرستاني في الملل والنحل عن .

ص: 146


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. ج 1 ص 39 - 40. ط دار الأندلس 1983: الطبعة الثالثة.

أحوال العرب قبل الإسلام قال: والعرب الجاهلية أصناف فصنف أنكروا الخالق والبعث وقالوا بالطبع المحيي والدهر المفني كما أخبر عنهم التنزيل ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُمْ بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [الجاثية 24] وصنف اعترفوا بالخالق وأنكروا البعث وهم الذين أخبر الله عنهم بقوله تعالى ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ۚ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [ق: 15] وصنف عبدوا الأصنام وكانت أصنامهم مختصة بالقبائل فكان ود لكلب وهو بدومة الجندل وسواع لهذيل ويغوث لمذحج ولقبائل من اليمن ونسر لذي الكلاع بأرض حمیر ويعوق لهمذان واللات لثقيف بالطائف والعزى لقريش وبني کنانة ومناة للأوس والخزرج وهبل أعظم أصنامهم وكان هبل على ظهر الكعبة وكان إساف ونائلة على الصفا والمروة وكان منهم من يميل إلى اليهود ومنهم من يميل إلى النصرانية ومنهم من يميل إلى الصابئة ويعتقد في أنواء المنازل اعتقاد المنجمين في السيارات حتى لا يتحرك إلا بنوء من الأنواء ويقول مطرنا بنوء كذا وكان منهم من يعبد الملائكة ومنهم من يعبد الجن وكانت علومهم علم الأنساب والأنواء والتواريخ وتعبير الرؤيا وكانت الجاهلية تفعل أشياء جاءت شريعة الإسلام بها فكانوا لا ينكحون الأمهات والبنات وكان أقبح شيء عندهم الجمع بين الأختين وكانوا يعيبون المتزوج بامرأة أبيه ويسمونه الضيزن وكانوا يحجون البيت ويعتمرون ويحرمون ويطوفون ويسعون ويقفون المواقف كلها ويرمون الجمار وكانوا يكبسون في كل ثلاثة أعوام شهراً ويغتسلون من الجنابة وكانوا يداومون على المضمضة والاستنشاق وفرق الرأس والسواك والاستنجاء وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة والختان (1). ة.

ص: 147


1- المختصر في تاريخ البشر لأبي الغداء. ص 126، ج1، نفس الطبعة.

يروي ابن الجوزي في المنتظم في أخبار سنة 35 لمولد النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم (1): فيها مات زيد بن عمرو بن نفيل وكان يَطْلُب الدَّين وقدم الشام فسأل اليهود النصارى عن الدين والعلم فلم يُعْجِبْه دينهم فقال له رجل من النصارى أنت تلتمس دين إبراهيم فقال زيد وما دين إبراهيم؟ قال: كان حنيفًا لا يَعْبُدُ إلا الله وحده لا شريك له كان يُعادِي مَنْ عَبَدَ من دون الله شيئًا ولا يأكل ما ذُبح على الأصنام فقال زيد: هذا الذي أعرف وأنا على هذا الدين فأما عبادة حجر أو خشبة أنْحِتُها بيدي فهذا ليس بشيء. فرجع زيد إلى مكة وهو على دين إبراهيم و كان يقول: هذه الشاة خلقها الله وأنزل من السماء ماء فأنبت لها الأرض ثم تذبحونها على غير اسمه؟ ينكر عليهم ذلك. ولقي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فَقدَّم إليه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم سُفرةً فيها لحم فقال إني لا آكل مما تذبحون على أصنامكم ولا أكل مما لم يذكر اسم الله عليه.

وكان زيد بن عمرو بن نفيل يطلب الدين وكره النصرانية واليهودية وعبادة الأوثان والحجارة وأظهر خلاف قومه واعتزل آلهتهم وما كان يعبد آباؤهم ولا يأكل ذبائحهم.

يروي عنه عامر بن ربيعة قال لي: يا عامر إني خالفت قومي واتبعت ملة إبراهيم وما كان يعبد ولده إسماعيل من بعده فقال: وكانوا يصلون إلى هذه القبلة وأنا انتظر نبيًّا من ولد إسماعيل يُبْعَثُ ولا أراني أدْركه فأنا أؤمن به وأصَدقه وأشهد أنه نبي فإن طالت بك مدة فرأيته فأقْرِتُهُ منَي السلام، قال عامر: فلما تنبأ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أسلمت وأخبرته بقول زيد وأقرأته منه السلام فرد عليه رسول الله السلام وترحم عليه وقال قد رأيتُه في الجنة يسْحَبُ ذُيولا. 1

ص: 148


1- ابن الجوزي مرجع سابق، 328 - 2/331

ومات زيد فرثاه ورقة فقال:

دعاؤك ربَّا ليس رب كمثله وتركَك أوثان الطواغي كما هيا (1)

صورة إجمالية

كانت هذه نماذج من أوضاع العرب قبل البعثة النبوية المشرفة ويبدو واضحاً أنه لم يكن هناك اتفاق على شيء باستثناء العمل على إدامة الواقع القائم ورفض أي محاولة للتغيير والتطهير وهو القانون السائد إلى يومنا هذا في دنيا الناس.

إن أصدق ما ينطبق على واقع العرب قبل البعثة المحمدية فضلاً عن كلام الإمام علي بن أبي طالب هو ما جاء في خطبة الزهراء عليها السلام التي قالتها بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ﴿فبلغ الرسالة صادعاً بالنذارة مائلاً عن مدرجة المشركين ضارباً ثبجهم آخذاً بأكظامهم وينكث الهام، يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة حتى تفرى الليل عن صبحه وأسفر الحق عن محضه ونطق زعيم الدين وخرست شقاشق الشياطين وتمت كلمة الإخلاص وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها نهزة الطامع ومذقة الشارب وقبسة العجلان وموطأ الأقدام تشربون الطرق وتقتاتون القد والورق أذلة خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم حتى استنقذكم الله برسوله صلی الله علیه و آله و سلم بعد اللتيا والتي﴾. رواها السيد ابن طاوس في كتابه الطرائف.

فالقوم كانوا فرقاً في أديانهم لا يجمعهم جامع ولا يربطهم رابط قد ﴿بَدَّلَ أَكْثَرُ عَهْدَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ فَجَهِلُوا حَقَّهُ وَ اتَّخَذُوا الْأَنْدَادَ مَعَهُ

ص: 149


1- ابن الجوزي، المنتظم، 328 - 2/331

وَ اجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَ اقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ وهم ﴿يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ وَ أَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ وَ طَرَائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ، بَيْنَ مُشَبِّهٍ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ أَوْ مُلْحِدٍ فِي اسْمِهِ أَوْ مُشِيرٍ إِلَى غَيْرِهِ﴾.

لقد كانوا كما وصفهم أمير المؤمنين: عَلَى شَرِّ دِينٍ وَ فِي شَرِّ دَارٍ، مُنِيخُونَ بَيْنَ حِجَارَةٍ خُشْنٍ وَ حَيَّاتٍ صُمٍّ تَشْرَبُونَ الْكَدِرَ وَ تَأْكُلُونَ الْجَشِبَ وَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَ تَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ، الْأَصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ وَ الْآثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ.

اجتمعت عليهم العلل والأمراض الأخلاقية فلم يكتفوا بعلة واحدة وزاد ذلك كله حالة الكبر والغطرسة التي اعترت أكابر مجرميهم ممن أعماهم الكبر عن رؤية الحق ودفعهم دفعاً لمعاندته ومما زاد طينهم بلة ذلك الحسد الذي اعتراهم وأصابهم وخاصة عندما رأوا بأم أعينهم ما اختص الله به رسوله محمداً صلی الله علیه و آله و سلم من الوحي والكرامة وكان موقفهم منه هو موقف الرفض والاستهجان لنبوة محمد صلی الله علیه و آله و سلم بغياً وحسداً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)﴾ [الزخرف: 31 - 32].

ومن الطبيعي في ظل تلك الظروف أن يتفشى الظلم ويصبح هو القاعدة والقانون وأن يصبح الجور والإرهاب سائداً فتنام الناس وتصحو وشعارهم ﴿أي غطاؤهم الذي يحتمون به﴾ الْخَوْفُ وَدِثَارُهم السَّيْفُ ﴿الوسيلة الوحيدة لتحقيق الأمن!﴾.

الكبر والغطرسة ومنطق القوة العمياء هو الذي دعا قريشاً للقتال في مواجهة الدعوة الإسلامية التي ستعيد رسم الخريطة السياسية والأخلاقية

ص: 150

والاجتماعية لمجتمع أمسى وأضحى يحكمه الجهل والتقليد الأعمى و التخلف فضلاً عن قانون الغاب الذي يأكل فيه القوي الضعيف ويعدو الناس بعضهم على بعض.

مجتمع تعود على البلادة والتقليد الأعمى للموروث الجاهلي فإذا به يواجه بنبي الله الذي يخاطبهم وينادي بالعدل ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وينادي بالعدل ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)﴾ وهذه هي الطبيعة الغالبة على بني الإنسان ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَىٰ (7)﴾ فكيف يقبل مثل هذا المجتمع بدين ينذر الناس بيوم الحساب ويضع قاعدة الثواب والعقاب على الصغير والكبير ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)﴾

أما ما يزعمه الوهابيون من أن ﴿المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد أقروا بتوحيد الربوبية، وإنما قاتلهم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عند توحيد الألوهية وأن الرجل لا يدخل في الإسلام بتوحيد الربوبية إلا إذا انضم إليه توحيد الألوهية وأن الذين أقروا بالربوبية دون الألوهية ما عرفوا التوحيد وإنهم منكرون دين الإسلام﴾ فهو من بنات أفكار ابن عبد الوهاب لا أكثر ولا أقل.

إنها كما وصفها القرآن الكريم ﴿الجاهلية الأولى﴾ التي تكونت من ذلك الخلط الجاهل والمتعسف بين المعتقد الموروث القائم على غير أساس ولا دليل وتحالف القوة والثروة والمصالح التي ترى في إحياء دور العقل إحياء لدور البشرية المهملة والمغيبة بفعل تغييبها العقلي والمعرفي وهو ما ترفضه وتأباه تلك القوى الظالمة والمتسلطة.

الجاهلية الأولى هو تعبير ذو دلالة بالغة الأهمية فالجاهلية الأولى

ص: 151

يمكن اتباعها بجاهلية ثانية وثالثة ورابعة إذا جرى تفعيل ذلك التحالف في دنيا الناس مرة أخرى بعد أن تلقى الضربة الأولى على يد الرسول الأكرم.

يخطئ من يظن أن الجاهلية الأولى كانت قاصرة على جاهلية المعتقد وكأن الأمر كله كان صراعاً بين معتقد ومعتقد في عالم التجريد والمثال لا في عالم الواقع المعاش.

الإقرار بالحق الذي جاء به محمد صلی الله علیه و آله و سلم و لم يكن يعني مجرد الانتقال من تصور ديني يؤمن بتعدد الآلهة إلى عالم التوحيد وحسب بل كان يعني أيضاً الانتقال من عالم يهيمن عليه أبو جهل وأبو سفيان والوليد بن عتبة وغيرهم من أكابر مجرميها وتكون لهم فيه الكلمة العليا في العقيدة والسياسة وتدبير أمور الناس إلى عالم الطهارة الذي يسوده ويقوده محمد بن عبد الله وعلي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وهو أمر دونه الموت وهذا ما حدث بالفعل.

إنها القاعدة التي استنها هؤلاء وأقاموا عليها الجاهلية الثانية والعاشرة حيث يجري صياغة المعتقدات الدينية والتراتبية الاجتماعية خدمة للأمويين الجدد ونظرة واحدة على جاهليتنا المعاصرة تكشف عن تلك الحقيقة حيث يستخدم المال في شراء ﴿رجال الدين﴾ ليقوموا بدورهم في صناعة عقيدة وتصور يخدم سلطة الأمر الواقع قطعاً للطريق على كل من يحاول إعادة النجم إلى مساره المحمدي الأصلي.

إنها بكل تأكيد ليست جاهلية ردة وكفر مطلق عن الإسلام بل جاهلية دينية تؤثر تقليد الآباء والأحبار والرهبان الذين جرى توظيفهم ليقوموا بدور الآلهة الوسيطة لتتفرغ الآلهة الكبرى للقيام بدورها في

ص: 152

السلب والنهب والظلم وليعود الناس مرة أخرى إلى نقطة البده ... شعارهم الخوف ودثارهم السيف.

الدليل الأكبر على انتقال العرب من جاهلية أولى إلى جاهلية ثانية وربما ثالثة هو تسلل تلك التصورات الجاهلية عن الألوهية إلى بعض المنتمين للإسلام ومن أخطرها تلك التصورات التجسيدية للذات الإلهية التي ذكرها أمير المؤمنين علیه السلام من تشبيه اللهِ بِخَلْقِهِ والتي أوردها ابن أبي الحديد في شرحه للنهج بقوله وكان في العرب مشبهة ومجسمة منهم أمية بن أبي الصلت وهو القائل:

من فوق عرش جالس قد حط *** رجليه إلى كرسيه المنصوب

والغريب أن من يدعى بشيخ الإسلام ابن تيمية قد استدل في فتواه الحموية بقول الكافر أمية بن أبي الصلت الذي أنشد للنبي صلی الله علیه و آله و سلم هو وغيره من شعره فاستحسنه وقال ﴿حسب زعم ابن تيمية؟!﴾: آمن شعره وكفر قلبه:

مجدوا الله فهو للمجد أهل *** ربنا في السماء أمسى كبيرا

بالبناء الأعلى الذي سبق النا *** س وسوی فوق السماء سريرا

زاعماً أن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم المبلغ عن الله قد رضي عما زعمه ابن أبي الصلت من أن الله سبحانه على العرش وأنه فوق السماء أو كما قال ابن تيمية وكافره ابن أبي الصلت (1).

لم يجد شيخ الإسلام ابن تيمية من يستدل به على صحة مذهبه التجسيدي المشبه للذات الإلهية بمن خلقه الله تعالى سوى ابن أبي الصلت وهو بالتأكيد بسبب بالتأكيد بسبب مرضه القلبي الذي لا دواء له حيث لا يمكنه .

ص: 153


1- ابن تيمية الحراني، مجموع الرسائل الكبرى، العقيدة الحموية الكبرى، 1/431.

الرجوع إلى أئمة أهل البيت علیه السلام حتى لا يقع في جريمة ﴿التشيع لعلي بن أبي طالب﴾ ولا بأس أن يقع في جريمة التشيع والرجوع إلى كفار قريش.

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ص: 154

وظيفة الأنبياء

إقامة الحجة

يقول الإمام علي:

فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ وَ وَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ وَ يُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ وَ يَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ وَ يُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ وَ يُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ: مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ وَ مِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ وَ مَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ وَ آجَالٍ تُفْنِيهِمْ وَ أَوْصَابٍ تُهْرِمُهُمْ وَ أَحْدَاثٍ تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ وَ لَمْ يُخْلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ أَوْ حُجَّةٍ لَازِمَةٍ أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ رُسُلٌ لَا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ وَ لَا كَثْرَةُ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ: مِنْ سَابِقٍ سُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ عَلَى ذَلِكَ نَسَلَتِ الْقُرُونُ و مَضَتِ الدُّهُورُ وَ سَلَفَتِ الآبَاءُ وَ خَلَفَتِ الْأَبْنَاءُ (1).

بَعَثَ اللَّهُ رُسُلَهُ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ وَحْيِهِ وَ جَعَلَهُمْ حُجَّةً لَهُ عَلَى خَلْقِهِ لِئَلَّا تَجِبَ الْحُجَّةُ لَهُمْ بِتَرْكِ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ، فَدَعَاهُمْ بِلِسَانِ الصِّدْقِ إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ. أَلَا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَشَفَ الْخَلْقَ كَشْفَةً لَا أَنَّهُ جَهِلَ مَا أَخْفَوْهُ مِنْ مَصُونِ أَسْرَارِهِمْ وَ مَكْنُونِ ضَمَائِرِهِمْ، وَ لَكِنْ لِيَبْلُوَهُمْ ﴿أَيُّهُمْ

ص: 155


1- نهج البلاغة الخطبة الأولى.

أَحْسَنُ عَمَلًا﴾، فَيَكُونَ الثَّوَابُ جَزَاءً، وَ الْعِقَابُ بَوَاءً (1).

يقول سبحانه: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)﴾ [النساء 165].

ويقول عز من قائل: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ كُلًّا هَدَيْنَا ۚ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ ۖ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)﴾ [الأنعام 83 - 84].

﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ۖ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَٰذَا ۖ فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ ۚ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)﴾ [الأنعام 149 - 150].

﴿فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ۖ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ ۖ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ۖ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ۖ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)﴾ [الشورى 15]

﴿وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)﴾ [الجاثية 25].

معنى الحجة:

يقول الراغب الأصفهاني: الحجة هي الدلالة المبينة للمحجة أي المقصد المستقيم والذي يقتضي صحة أحد النقيضين.

ص: 156


1- السابق الخطبة 144.

ويقول ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ يَقُول تعالى: أَرْسَلْت رُسُلِي إِلَى عِبَادِي مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَحْتَجٌ مَنْ كَفَرَ بِي وَعَبَدَ الْأَنْدَاء مِنْ دُونِي أَوْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِي بأنْ يَقُول إن أردت عِقابه ﴿لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَىٰ (134)﴾ [طه 134] فَقَطَعَ حُجَّة كُلّ مُبْطِل أَلْحَدَ فِي تَوْحِيده وَخَالَفَ أَمْره بِجَمِيعِ مَعَانِي الْحُجَجَ الْقَاطِعَة عُذْره، إعْذَارًا مِنْهُ بِذَلِكَ إِلَيْهِمْ لِتَكُونَ لِلَّهِ الْحُجَّةِ الْبَالِغَة عَلَيْهِمْ وَعَلَى جَمِيعِ خَلْقه وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأويل. حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن، قَالَ: ثنا أَحْمَد بن الْمُفَضَّل، قَالَ: ثنا أَسْبَاط عَنْ السُّدِّيّ: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ فَيَقُولُوا: مَا أَرْسَلْت إِلَيْنَا رُسُلًا. الطبري.

والمعنى أن الله تبارك وتعالى لا يكلف عباده بما لا يعرفون أو بغير الممكن ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾.

والتكليف صنفان صنف معرفي وصنف آخر يتعلق بإقامة الحجة على العباد والزامهم بالتكاليف من خلال تقديم النموذج التطبيقي العملي الذي يقطع حجة المتنصلين أو المدعين عدم قدرتهم على أداء التكليف الإلهي.

النوع الأول من أنواع التكليف هو النوع المعرفي وهو ما يتعين على

المكلف معرفته من توحيد الله جل و علی والإيمان بالبعث والحساب والثواب والعقاب وهو ما قضت حكمته جل و علی أن يرسل الأنبياء والرسل ليبلغوه للناس ويقطعوا السبيل على المتألهين والمنحرفين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالآخرة هم كافرون وهكذا فإن الصراع الأزلي بين الحق والباطل والإيمان والكفر والتوحيد والشرك لا بد أن ينتهي بتلك النتيجة الطبيعية ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [انفال 42] وهكذا فإن الصراع الأزلي بين الحق والباطل والإيمان والكفر والتوحيد

ص: 157

والشرك لا بد أن ينتهي بتلك النتيجة الطبيعية ﴿فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ﴾ ... ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ ... ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)﴾. وكما يقول أمير المؤمنين فإن إقامة الحجة على الناس بلسان الصدق والإخلاص لرب العالمين - لسان الأنبياء والمرسلين - ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)﴾ ... ﴿أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ﴾ يقطع سبيل الاعتذار للمعتذرين ... فلَّا تَجِبَ الْحُجَّةُ لَهُمْ بِتَرْكِ الإعْذَارِ إِلَيْهِمْ، فَدَعَاهُمْ بِلِسَانِ الصِّدْقِ إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ.

كما أن البلاغ النبوي عن رب العالمين يحدد معالم الصراع بين الحق والباطل ويجعل من الدنيا ساحة اختبار لا ساحة قرار ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم بأعمالهم لا بسابق علم الله فيهم ... وَلكِنْ لِيَبْلُوَهُمْ ﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾، فَيَكُونَ الثَّوَابُ جَزَاءٌ، وَالْعِقَابُ بَوَاءً. أي نتيجة عادلة حيث يبوء الظالم بظلمه والآثم بإثمه بإثمه ... كما قال أمير المؤمنين.

ويبقى أن تقديم الدين للناس بصورة صحيحة لا يمكن أن يكون إلا عبر الأمناء على هذا الدين العالمين به على وجهه الصحيح ممن يؤمن منهم عدم تعمد الخطأ أو التحريف وممن يُطمئن إلى سعة علمهم ومعرفتهم وورعهم وتقواهم فلا يقع منهم السهو أو خطأ النقل أو الجهل.

إنها مهمة ما زالت مستمرة ومتواصلة في دنيا الناس ما اختلف الليل والنهار وهي نقل الدين للناس بصورة صحيحة أمينة وواعية لا تتم ولا تكتمل إلا بالنقل الأمين المعصوم عن خاتم الأنبياء والمرسلين وهي مهمة لا يقدر على حملها والاضطلاع بها من وجهة نظرنا إلا الأئمة من آل محمد صلی الله علیه و آله و سلم.

الوجه الثاني من وجوه إقامة الحجة على المكلفين هو الجانب العملي التطبيقي أو إقامة الواجبات والفرائض التي فرضها الله على خلقه

ص: 158

على الوجه الأكمل لأن الله سبحانه لا يكلف نفساً إلا وسعها ومن ثم فإن ما يقدر الإنسان المكلف بإقامة الحجة الإلهية على الناس على القيام به يصبح داخلاً في الوسع الإنساني ويدخل في إطار التكليف بالممكن لا بالمستحيل ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ﴾.

فالله تبارك وتعالى فرض الحج إلى بيت الله الحرام في مكة وليس إلى القمر ورغم أن بعض البشر قد تمكنوا من الوصول إلى تلك البقعة إلا أنه تكليف بالمستحيل بالنسبة لعامة الناس.

الله تبارك وتعالى قال: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾ ولا شك أن أغلب الناس يصلون ولا يقيمون الصلاة على وجهها الأكمل ولذا تعين أن يوجد دوماً من بين المسلمين من يؤدي تلك العبادة على وجهها الأتم فيتحقق فيه النموذج الإنساني الأكمل لعبادة الله وحسن الخلق وطيب المعاشرة لئلا يقول قائل كان من الممكن أن نفعل كذا وكذا لو كنا في عصر النبوة أما الآن فقد أصبح هذا تكليفاً بغير الممكن ولذا اقتضى اللطف الإلهي بقاء الحجة واستمرارها في أداء مهمتها سواء كان الحجة رسولاً نبياً يوحى إليه أو إماماً لا يوحى إليه ولكنه إنسان من لحم ودم يأكل مما يأكله الناس ويشرب مما يشربون ويفرح ويألم إلا أنه في النهاية عبد من عباد الله ﴿عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)﴾ [الأنبياء 26 - 28].﴾

وسائل إقامة الحجة

يبين لنا أمير المؤمنين في خطبته الطرق والوسائل التي سلكها الأنبياء والمرسلون حجج الله على عباده في إقامة الحجة على الخلائق فهو سبحانه قد أرسلهم:

ص: 159

أولاً: لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ. أي ليذكروا الإنسان بهذا الميثاق المودع في داخله والذي يلبي شوقه المغروس في نفسه للخير إذ إن كل إنسان يولد على الفطرة التي فطر الله الناس عليها ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم 30].

تلك الفطرة التي تذعن لخالقها ولا تتنكر له والتي تتجه دوماً نحو الطيبات وتنفر دوماً من الخبائث وتحب العدل وترفض الظلم وتبغض الظالم وتتعاطف مع المظلوم وبالتالي فالرسالات السماوية جاءت لترد الإنسان إلى فطرته التي خُلق عليها وإلى إنسانيته الكاملة وتمنع ارتكاسه إلى مخلوق لا يختلف كثيراً عن الحيوانات الضارية.

ثانياً: وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ.

يقول تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ ۚ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ ۗ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)﴾ [النحل 14 - 18].

فما أسرع ما ينسى الإنسان ما منحه الله تبارك وتعالى من نعَمٍ وينسى أن من أعطى يمكن أن يأخذ وهكذا فإن البطر والترف كانا من بين أسباب هلاك الأمم وطردها من رحمة الله جل و علی ووقوعها في دائرة العقاب الأليم.

ثالثاً: وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بالتَّبْليغِ عن رب العالمين.

رابعاً: إحياء دور العقل:

وَيُثيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ وَيُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ: مِنْ سَقْف فَوْقَهُمْ

ص: 160

مَرْفُوع، وَمِهَاد تَحْتَهُمْ مَوْضُوع، وَمَعَايِش تُحْيِيهِمْ وَآجَال تُفْتِيهم، وَ أَوْصَاب تُهْرِمُهُمْ، وَ أَحْدَاث تَتابعُ عَلَيْهِمْ.

إنه دور العقل الذي كرم الله به بني آدم وفضلهم به على العالمين ومن ثم جاء الأنبياء يدعون الناس للنظر وإعمال العقل والتفكر في خلق السماوات والأرض.

يقول تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)﴾ [آل عمران 190 - 194].

كما تظاهرت الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت والتي تؤكد على أهمية إعمال العقل الإنساني فلا يكمل إيمان عبد إلا إذا كمل عقله ولا شك أن ما أصاب المسلمين من تخلف وانحطاط جاء بسبب هذا الإيمان المنتزع عن السياق العقلي والذي يجمع الروايات من هنا وهناك فلا يجمعها جامع ولا ينظمها سياق.

إنه العقل الذي يؤمن بالشيء ونقيضه فيؤمن بالظلم والعدل في آن واحد ويصر على اتباع الآباء والأجداد من دون نقد ولا تمحيص ويقول

﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾!

الروايات التي تكرم العقل:

الكافي: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: ما قسم الله للعباد شيئاً أفضل من

ص: 161

العقل فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل ولا بعث الله نبياً ولا رسولاً حتى يستكمل العقل

ويكون عقله أفضل من جميع عقول أمته وما يضمر النبي صلی الله علیه و آله و سلم في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين وما أدى العبد فرائض الله حتى عقل عنه

ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل والعقلاء هم أولو الألباب الذين قال الله تعالى: ﴿ ... وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)﴾ الكافي: عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر علیه السلام: يا هشام إن الله تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في کتابه فقال: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)﴾

یا هشام إن الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول، ونصر النبيين بالبيان ودلهم على ربوبيته بالأدلة فقال: ﴿وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)﴾.

يا هشام قد جعل الله ذلك دليلاً على معرفته بأن لهم مدبراً فقال: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾. وقال ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ۚ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّىٰ مِنْ قَبْلُ ۖ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)﴾ و قال: ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)﴾ وقال ﴿ ... يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(17)﴾ وقال ﴿وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ

ص: 162

صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)﴾ و قال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)﴾ وقال: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)﴾ وقال: ﴿هَل لَكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَتُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا ونَقْتَكُمْ فَأَنتُم فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)﴾.

يا هشام ثم وعظ أهل العقل ورغبهم في الآخرة فقال ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾. يا هشام ثم خوف الذين لا يعقلون عقابه فقال تعالى: ﴿ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)﴾

وقال: ﴿إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَىٰ أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)﴾

يا هشام إن العقل مع العلم فقال: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)﴾.

يا هشام ثم ذم الذين لا يعقلون فقال: ﴿ ... قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)﴾ وقال: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)﴾ وقال: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ۚ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ﴾ وقال: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ

ص: 163

أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)﴾.

وقال: ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ ۚ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾ (14)﴾ وقال: ﴿وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)﴾.

يا هشام ثم ذم الله الكثرة فقال: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾. وقال: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۚ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)﴾

وقال: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۚ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)﴾

يا هشام ثم مدح القلة فقال: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)﴾.

وقال: ﴿وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ﴾ وقال: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ﴾. وقال: ﴿وَمَنْ آمَنَ ۚ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾. وقال: ﴿وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)﴾

وقال: ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)﴾. وقال: ﴿أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ﴾.

يا هشام ثم ذكر أولي الألباب بأحسن الذكر وحلاهم بأحسن الحلية فقال: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)﴾

وقال: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)﴾ وقال: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)﴾

وقال: ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ ۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)﴾

ص: 164

وقال: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)﴾

و قال: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)﴾. وقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَىٰ وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54)﴾ وقال: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)﴾.

یا هشام إن الله تعالى يقول في كتابه: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ يعني: عقل، وقال ﴿وَلَقَدْ انَيْنا َلقَمَنَ الحِكْمَةَ﴾ قال: الفهم والعقل.

يا هشام إن لقمان قال لابنه: تواضع للحق تكن أعقل الناس وإن الكيس لدى الحق يسير.

يا بني إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيها عالم كثير فلتكن سفينتك فيها تقوى الله وحشوها الإيمان وشراعها التوكل وقيمها العقل ودليلها العلم وسكانها الصبر.

يا هشام إن لكل شيء دليلاً ودليل العقل التفكر ودليل التفكر الصمت ولكل شيء مطية ومطية العقل التواضع وكفى بك جهلاً أن تركب ما نهيت عنه.

يا هشام ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلاً وأكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.

یا هشام إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة علیه السلام، وأما الباطنة فالعقول.

ص: 165

يا هشام إن العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره ولا يغلب الحرام صبره.

يا هشام من سلط ثلاثاً على ثلاث فكأنما أعان على هدم عقله: من أظلم نور تفكره بطول أمله ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه فكأنما أعان هواه على هدم عقله ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه.

یا هشام كيف يزكو عند الله عملك وأنت قد شغلت قلبك عن أمر ربك وأطعت هواك على غلبة عقلك.

یا هشام الصبر على الوحدة علامة قوة العقل فمن عقل عن الله اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها ورغب فيما عند الله وكان الله أنسه في الوحشة وصاحبه في الوحدة وغناه في العيلة ومعزه من غير عشيرة.

یا هشام نصب الحق لطاعة الله ولا نجاة إلا بالطاعة والطاعة با بالعلم والعلم بالتعلم والتعلم بالعقل يعتقد ولا علم إلا من عالم رباني، ومعرفة العلم بالعقل.

يا هشام قليل العمل من العالم مقبول مضاعف وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود.

يا هشام إن العاقل رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة ولم يرض بالدون من الحكمة مع الدنيا، فلذلك ربحت تجارتهم.

يا هشام إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب وترك الدنيا من الفضل وترك الذنوب من الفرض.

يا هشام إن العاقل نظر إلى الدنيا وإلى أهلها فعلم أنها لا تنال إلا بالمشقة ونظر إلى الآخرة فعلم أنها لا تنال إلا بالمشقة، فطلب بالمشقة وأبقاهما.

ص: 166

يا هشام إن العقلاء زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة، لأنهم علموا أن الدنيا طالبة مطلوبة والآخرة طالبة ومطلوبة فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته.

يا هشام من أراد الغنى بلا مال وراحة القلب من الحسد والسلامة في الدين فليتضرع إلى الله جل و علی في مسألته بأن يكمل عقله فمن عقل قنع بما يكفيه ومن قنع بما يكفيه استغنى ومن لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغني أبداً.

يا هشام إن الله حكى عن قوم صالحين: أنهم قالوا ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ حين علموا أن القلوب تزيغ وتعود إلى عماها ورداها.

إنه لم يخف الله من لم يعقل عن الله ومن لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يبصرها ويجد حقيقتها في قلبه ولا يكون أحد كذلك إلا من كان قوله لفعله مصدقاً وسره لعلانيته موافقاً لأن الله تبارك اسمه لم يدل على الباطن الخفي من العقل إلا بظاهر منه وناطق عنه.

يا هشام كان أمير المؤمنين علیه السلام يقول ما عبد الله بشيء أفضل من العقل وما تم عقل امرئ حتى يكون فيه خصال شتى: الكفر والشر منه مأمونان والرشد والخير منه مأمولان وفضل ماله مبذول وفضل قوله مکفوف ونصيبه من الدنيا القوت لا يشبع من العلم دهره، الذل أحب الیه مع الله من العز مع غيره، والتواضع أحب إليه من الشرف يستكثر قليل المعروف من غيره ويستقل كثير المعروف من نفسه ويرى الناس كلهم خيراً منه وأنه شرهم في نفسه وهو تمام الأمر.

ص: 167

یا هشام إن العاقل لا يكذب وإن كان فيه هواه.

یا هشام لا دين لمن لا مروءة له ولا مروءة لمن لا عقل له وإن أعظم الناس قدراً الذي لا يرى الدنيا لنفسه خطراً أما إن أبدانكم ليس لها ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها بغيرها.

يا هشام إن أمير المؤمنين علیه السلام كان يقول: إن من علامة العاقل أن يكون فيه ثلاث خصال: يجيب إذا سئل وينطق إذا عجز القوم عن الكلام ويشير بالرأي الذي يكون فيه صلاح أهله فمن لم يكن فيه من هذه الخصال الثلاث شيء فهو أحمق.

إن أمير المؤمنين علیه السلام قال: لا يجلس في صدر المجلس إلا رجل فيه هذه الخصال الثلاث أو واحدة منهن فمن لم يكن فيه شيء منهن فجلس فهو أحمق.

وقال الحسن بن علي علیه السلام: إذا طلبتم الحوائج فاطلبوها من أهلها قيل يا بن رسول الله ومن أهلها؟ قال الذين قص الله في كتابه وذكرهم فقال: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)﴾ قال: هم أولو العقول.

وقال علي بن الحسين علیه السلام: مجالسة الصالحين داعية إلى الصلاح وآداب العلماء زيادة في العقل وطاعة ولاة العدل تمام العز واستثمار المال تمام المروءة وإرشاد المستشير قضاء لحق النعمة وكف الأذى من كمال العقل وفيه راحة البدن عاجلاً وآجلاً.

یا هشام إن العاقل لا يحدث من يخاف تكذيبه ولا يسأل من يخاف منعه ولا يعد ما لا يقدر عليه ولا يرجو ما يعنف برجائه ولا يقدم على ما يخاف فوته بالعجز عنه.

ويبقى أن اقتفاء آثار الحجة والاقتداء بها ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ

ص: 168

فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ هو الضمان الأكيد لتصحيح العمل والسير على بصيرة ﴿قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ﴾ ولا يخفى على أحد أن المرض أحد أخطر الأمراض التي ضربت هذه الأمة هو مرض السير العشوائي واتباع الهوى الذي يعمي ويصم لأن ﴿النَّاظِرُ بِالْقَلْبِ الْعَامِلُ بِالْبَصَرِ يَكُونُ مُبْتَدَأُ عَمَلِهِ أَنْ يَعْلَمَ: أَعَمَلُهُ عَلَيْهِ أَمْ لَهُ؟! فَإِنْ كَانَ لَهُ مَضَى فِيهِ، وَ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ وَقَفَ عَنْهُ. فَإِنَّ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ، فَلَا يَزِيدُهُ بُعْدُهُ عَنِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ إِلَّا بُعْداً مِنْ حَاجَتِهِ، وَ الْعَامِلُ بِالْعِلْمِ كَالسَّائِرِ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ؛ فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ: أَسَائِرٌ هُوَ أَمْ رَاجِعٌ؟! (1). .

ص: 169


1- نهج البلاغة خطبة 160.

ص: 170

أهل البيت علیهم السلام

ودورهم في مواصلة إقامة الحجة

قلنا سابقاً إن رسالة الأنبياء في إقامة الحجة على الخلائق تنقسم إلى قسمين قسم يتعلق بالبلاغ الأتم الأكمل وقسم يتعلق بالتطبيق الأكمل للدين وتقديم الأسوة والنموذج وهو الإنسان الكامل وقلنا أيضاً إن لإقامة الحجة وسائل وأساليب منها إبلاغ الناس بحقائق الدين والواجب المتعين عليهم أداؤه ليتحقق معنى الإيمان بالله وتذكير الناس بفطرتهم الأصلية السليمة التي خلقوا عليها وتذكيرهم بنعم الله عليهم سواء كان هذا في عموم الكون أو في أنفسهم أو في ثمرات الإيمان بالله ﴿ ... فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ... (124)﴾، يضاف إلى هذا تحريك العقول الجامدة وتدريبها على التفكر في خلق الله والسعي في الأرض لنفع الناس وفعل الخير والاعتبار بقدرة الله وقدرته على نصر المظلوم من الظالم وكيف أخذ من الظالمين بالمثلات والعقاب الأليم.

يبقى أن الأنبياء والمرسلين لا يمكن لهم أن يؤدوا كل تلك المهام بمفردهم خاصة إذا علمنا أن محمد بن عبد الله صلی الله علیه و آله و سلم كان خاتم الأنبياء والمرسلين وأن الأمة الإسلامية هي خاتم الأمم وأن مسيرة الإنسانية نحو الرفعة والتكامل وإقامة صرحها الحضاري تحتاج إلى وجود الحجة دوماً

ص: 171

كما أن الحجة أو الإمام قد استلم كل مهام النبوة الأربع التي ذكرناها عدا مهمة تلقي الوحي والتبليغ عن رب العالمين.

إن وظيفة الحجة في مرحلة ما بعد النبوة هيَ نفس وظيفتها في مرحلة النبوة والفارق الوحيد يتلخص أن الوحي قد انقطع برحيل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عن هذه الدنيا:

1 - التبليغ عن رسول الله لا عن رب العالمين.

2 - رد الأمة إلى الفطرة السوية ومواجهة الانحرافات الأخلاقية.

3 - تذكير الناس بنعم الله عليهم.

4 - دفع الأمة لإعمال العقل وتطوير مسيرة العلم و التحضر الاجتماعي والرقي الأخلاقي.

إنها مهمة ووظيفة لا تتوقف حتى تقوم الساعة ويرث الله الأرض ومن عليها.

يقول الإمام علي بن أبي طالب:

ثُمَّ اخْتَارَ سُبْحَانَهُ لِمُحَمَّدٍ صلی الله علیه وآله لِقَاءَهُ وَ رَضِيَ لَهُ مَا عِنْدَهُ وَ أَكْرَمَهُ عَنْ دَارِ الدُّنْيَا وَ رَغِبَ بِهِ عَنْ مَقَامِ الْبَلْوَى فَقَبَضَهُ إِلَيْهِ كَرِيماً، وَ خَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الْأَنْبِيَاءُ فِي أُمَمِهَا إِذْ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ هَمَلًا بِغَيْرِ طَرِيقٍ وَاضِحٍ وَ لَا عَلَمٍ قَائِمٍ.

كِتَابَ رَبِّكُمْ فِيكُمْ مُبَيِّناً حَلَالَهُ وَ حَرَامَهُ وَ فَرَائِضَهُ وَ فَضَائِلَهُ وَ نَاسِخَهُ وَ مَنْسُوخَهُ وَ رُخَصَهُ وَ عَزَائِمَهُ وَ خَاصَّهُ وَ عَامَّهُ وَ عِبَرَهُ وَ أَمْثَالَهُ وَ مُرْسَلَهُ وَ مَحْدُودَهُ وَ مُحْكَمَهُ وَ مُتَشَابِهَهُ مُفَسِّراً جُمَلَهُ وَ مُبَيِّناً غَوَامِضَهُ.

بَيْنَ مَأْخُوذٍ مِيثَاقُ عِلْمِهِ وَ مُوَسَّعٍ عَلَى الْعِبَادِ فِي جَهْلِهِ وَ بَيْنَ مُثْبَتٍ

ص: 172

فِي الْكِتَابِ فَرْضُهُ وَ مَعْلُومٍ فِي السُّنَّةِ نَسْخُهُ وَ وَاجِبٍ فِي السُّنَّةِ أَخْذُهُ وَ مُرَخَّصٍ فِي الْكِتَابِ تَرْكُهُ وَ بَيْنَ وَاجِبٍ بِوَقْتِهِ وَ زَائِلٍ فِي مُسْتَقْبَلِهِ وَ مُبَايَنٌ بَيْنَ مَحَارِمِهِ مِنْ كَبِيرٍ أَوْعَدَ عَلَيْهِ نِيرَانَهُ أَوْ صَغِيرٍ أَرْصَدَ لَهُ غُفْرَانَهُ وَ بَيْنَ مَقْبُولٍ فِي أَدْنَاهُ وَ مُوَسَّعٍ فِي أَقْصَاهُ (1).

ويقول علیه السلام في وصف أهل بيت النبوة والكمال:

هُمْ مَوْضِعُ سِرِّهِ وَ لَجَأُ أَمْرِهِ وَ عَيْبَةُ عِلْمِهِ وَ مَوْئِلُ حُكْمِهِ وَ كُهُوفُ كُتُبِهِ وَ جِبَالُ دِينِهِ، بِهِمْ أَقَامَ انْحِنَاءَ ظَهْرِهِ وَ أَذْهَبَ ارْتِعَادَ فَرَائِصِهِ.

زَرَعُوا الْفُجُورَ وَ سَقَوْهُ الْغُرُورَ وَ حَصَدُوا الثُّبُورَ. لَا يُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّدٍ ﴿صلی الله علیه وآله﴾ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَحَدٌ وَ لَا يُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَيْهِ أَبَداً، هُمْ أَسَاسُ الدِّينِ وَ عِمَادُ الْيَقِينِ، إِلَيْهِمْ يَفِي ءُ الْغَالِي وَ بِهِمْ يُلْحَقُ التَّالِي وَ لَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الْوِلَايَةِ وَ فِيهِمُ الْوَصِيَّةُ وَ الْوِرَاثَةُ. الْآنَ إِذْ رَجَعَ الْحَقُّ إِلَى أَهْلِهِ وَ نُقِلَ إِلَى مُنْتَقَلِهِ. (2)

ويقول أيضاً: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ وَ أَنَّى تُؤْفَكُونَ؟ وَ الْأَعْلَامُ قَائِمَةٌ وَ الْآيَاتُ وَاضِحَةٌ وَ الْمَنَارُ مَنْصُوبَةٌ؛ فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ وَ كَيْفَ تَعْمَهُونَ وَ بَيْنَكُمْ عِتْرَةُ نَبِيِّكُمْ؟ وَ هُمْ أَزِمَّةُ الْحَقِّ وَ أَعْلَامُ الدِّينِ وَ أَلْسِنَةُ الصِّدْقِ. فَأَنْزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ الْقُرْآنِ وَ رِدُوهُمْ وُرُودَ الْهِيمِ الْعِطَاشِ (3).

وكذلك قوله: نَحْنُ شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ وَ مَحَطُّ الرِّسَالَةِ وَ مُخْتَلَفُ الْمَلَائِكَةِ وَ مَعَادِنُ الْعِلْمِ وَ يَنَابِيعُ الْحُكْمِ، نَاصِرُنَا وَ مُحِبُّنَا يَنْتَظِرُ الرَّحْمَةَ، وَ عَدُوُّنَا وَ مُبْغِضُنَا يَنْتَظِرُ السَّطْوَة. (4). 9.

ص: 173


1- نهج البلاغة الخطبة الأولى.
2- السابق، خطبة 2.
3- السابق، خطبة 86.
4- خطبة 109.

ويقول علیه السلام: أَيْنَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ دُونَنَا كَذِباً وَ بَغْياً عَلَيْنَا؟ أَنْ رَفَعَنَا اللَّهُ وَ وَضَعَهُمْ وَ أَعْطَانَا وَ حَرَمَهُمْ وَ أَدْخَلَنَا وَ أَخْرَجَهُمْ.

بِنَا يُسْتَعْطَى الْهُدَى وَ يُسْتَجْلَى الْعَمَى. إِنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ، غُرِسُوا فِي هَذَا الْبَطْنِ مِنْ هَاشِمٍ، لَا تَصْلُحُ عَلَى سِوَاهُمْ وَ لَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ مِنْ غَيْرِهِمْ (1).

فالرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم خَلَّفَ في أمته مَا خَلَّفَتِ الأنبياء في أمَمِها إِذْ لَم يَتْرُكُوهُمْ هَمَلاً بِغَيْر طَريق واضِح ولا عَلَم قَائِم وهذا الطريق له أسس ومعالم تلخصها الوصية النبوية الكريمة إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وأهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض وهو الحديث الشريف الذي رواه أصحاب السنن على اختلاف مذاهبهم والذي يؤكد على أهمية الاقتداء بأئمة أهل البيت علیهم السلام وأخذ علوم القرآن عنهم وهم الراسخون في العلم لا عن غيرهم ولذا فقد بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب شيئاً من علوم القرآن وأقسام الأحكام فالقرآن فيه:

1 - علم الحلال والحرام.

2 - وما افترضه الله على عباده من الواجبات مثل الصلاة والصيام والجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

3 - علم الأخلاق وتزكية النفس.

كما ينبهنا الإمام إلى أن الخطاب القرآني فيه الناسخ والمنسوخ وفيه الرخص التي إن شاء المرء أخذ بها وإن شاء لم يأخذ وفيه عزائم الله التي يحب سبحانه أن تؤتى وفيه الخطاب الخاص الموجه لرسوله أو 4

ص: 174


1- السابق، خطبة 144

لأزواجه دون غيرهن من النساء وفيه الخطاب الموجه للناس كافة وفيه المحدود بزمان ولى وانقضى أو زمان سيأتي به الله وهو وعد الله القادم لا ريب فيه كما أن فيه المحكم والمتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم.

لقد خلف رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كل هذا العلم عن القرآن مفسراً ومشروحاً غوامضه وفيه ما يتعين على كل مسلم أن يعرف ويقر به ويذعن له وفيه ما لا يعلمه ولا يفقهه إلا الراسخون في العلم من خاصة أولياء الله المقربين ﴿بَيْنَ مَأْخُوذٍ مِيثَاقُ عِلْمِهِ وَ مُوَسَّعٍ عَلَى الْعِبَادِ فِي جَهْلِهِ وَ بَيْنَ مُثْبَتٍ فِي الْكِتَابِ فَرْضُهُ وَ مَعْلُومٍ فِي السُّنَّةِ نَسْخُهُ وَ وَاجِبٍ فِي السُّنَّةِ أَخْذُهُ وَ مُرَخَّصٍ فِي الْكِتَابِ تَرْكُهُ وَ بَيْنَ وَاجِبٍ بِوَقْتِهِ وَ زَائِلٍ فِي مُسْتَقْبَلِهِ، وَ مُبَايَنٌ بَيْنَ مَحَارِمِهِ مِنْ كَبِيرٍ أَوْعَدَ عَلَيْهِ نِيرَانَهُ أَوْ صَغِيرٍ أَرْصَدَ لَهُ غُفْرَانَهُ وَ بَيْنَ مَقْبُولٍ فِي أَدْنَاهُ [وَ] مُوَسَّعٍ فِي أَقْصَاهُ.﴾.

فأين ذهب كل هذا العلم بعد موت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وكيف يمكن لكائن من كان أن يقدم لنا الدين في صورته الصحيحة فلا يمزج بين الحق والباطل والخطأ والصواب من دون أن يكون مطلعاً على كل هذه العلوم وفي نفس الوقت فإن أحداً من المسلمين لا من جيل الصحابة أو جيل

التابعين أو ممن جاء بعدهم لم يدعٍ لنفسه هذا العلم أو تلك المعرفة. إنهم إذاً أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً وهم من وصفهم الإمام بأنهم مَوْضِعُ سِرِّهِ ... ومَلجَأُ أَمْرِه.. وَعَيْبَةُ عِلْمِهِ - أي وعاء هذا العلم وحفظته - وَمَوْئِلُ حُكْمِهِ، وَكُهُوفُ كُتُبِهِ، وَجِبَالُ دِينِه ﴿رَوَاسِىَ أَن تَمِيدُ بكُمْ﴾! بِهِمْ أَقَامَ انْحِناءَ ظَهْرِهِ ﴿أي قام عمود الدين شامخاً﴾ وَاذْهَبَ ارْتِعَادَ فَرَائِصِهِ ﴿فسلم من الآفات والانحرافات التي وقعت في الأمم السابقة.﴾

ص: 175

فلا عجب إذاً أن يؤكد الإمام الأوجه للمقارنة بين آلِ مُحَمَّد وأحد من هذِهِ الأمَّة وَلا يُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَيْهِ أَبَداً.

فهُمْ أَسَاسُ الدِّينِ وَعِمَادُ اليَقِينِ، إِلَيْهِمْ يَفِيءُ الغَالي أي المتطرف في تدينه وَبِهِمْ يَلْحَقُ التّالي أي المقصر المهمل في أداء فرائضه وَلَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الوِلايَةِ، وَفِيهِمُ الوَصِيَّةُ وَالوِرَاثَةُ.

إنهم إذا الحجة على الخلائق بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم.

مفهوم الحجة عند أئمة أهل البيت علیهم السلام:

روى الكليني في الكافي باب الحجة:

* علي بن إبراهيم عن أبيه عن محمد بن أبي عمير عن منصور بن يونس وسعدان بن مسلم عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله علیه السلام قال سمعته يقول إن الأرض لا تخلو إلا وفيها إمام كيما إن زاد المؤمنون شيئاً ردهم وإن نقصوا شيئاً أتمه لهم.

* محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن ربيع بن محمد المسلي عن عبد الله بن سليمان العامري عن أبي عبد الله علیه السلام قال: ما زالت الأرض إلا و لله فيها الحجة يعرف الحلال والحرام ويدعو الناس إلى سبيل الله.

* علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى عن محمد بن الفضيل عن أبي حمزة عن أبي جعفر علیه السلام قال: والله ما ترك الله أرضاً منذ قبض آدم علیه السلام إلا وفيها إمام يهتدي به إلى الله وهو حجته على عباده ولا تبقى الأرض

عباده بغير إمام حجة الله على عباده (1).

ص: 176


1- الكليني، الكافي، باب الحجة ج 1.

معجزات الرسول الأكرم

يقول الإمام علي بن أبي طالب: وَ لَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ ﴿صلی الله علیه وآله﴾ لَمَّا أَتَاهُ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا لَهُ يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيماً لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ وَ لَا أَحَدٌ مِنْ بَيْتِكَ، وَ نَحْنُ نَسْأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وَ أَرَيْتَنَاهُ، عَلِمْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَ رَسُولٌ، وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ.

فَقَالَ لهم صلی الله علیه و آله و سلم: «وَمَا تَسْأَلُونَ؟».

قَالُوا: تَدْعُو لَنا هذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا وَتَقِف بَيْنَ يَدَيْكَ.

فَقَالَ صلی الله علیه و آله و سلم: «إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فإِنْ فَعَلَ اللهُ ذلِكَ لَكُمْ، أَتُؤْمِنُونَ وَتَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ؟».

قَالُوا: نَعَمْ.

قَالَ: «فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ، وَ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تَفِيئُونَ إِلَى خَيْرٍ وَ إِنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي الْقَلِيبِ وَ مَنْ يُحَزِّبُ الْأَحْزَابَ».

ثُمَّ قَالَ: ﴿یَا أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ إِنْ كُنْتِ تُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ تَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَانْقَلِعِي بِعُرُوقِكِ حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ».

فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَانْقَلَعَتْ بِعُرُوقِهَا وَ جَاءَتْ، وَ لَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ وَ قَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﴿صلی الله علیه وآله﴾ مُرَفْرِفَةً وَ أَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الْأَعْلَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﴿صلی الله علیه وآله﴾ وَ بِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْكِبِي وَ كُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ ﴿صلی الله علیه وآله﴾.

ص: 177

فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى ذَلِكَ قَالُوا - عُلُوّاً وَ اسْتِكْبَاراً - فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا وَ يَبْقَى نِصْفُهَا.

فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا كَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ وَ أَشَدِّهِ دَوِيّاً فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللَّهِ ﴿صلی الله علیه وآله﴾.

فَقَالُوا - كُفْراً وَ عُتُوّاً - : فَمُرْ هَذَا النِّصْفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ.

فَأَمَرَهُ فَرَجَعَ.

فَقُلْتُ أَنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَ أَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى تَصْدِيقاً بِنُبُوَّتِكَ وَ إِجْلَالًا لِكَلِمَتِكَ.

فَقَالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ: بَلْ ساحِرٌ كَذَّابٌ، عَجِيبُ السِّحْرِ، خَفِيفٌ فِيهِ، وَ هَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلَّا مِثْلُ هَذَا؟ يَعْنُونَنِي.

وَ إِنِّي لَمِنْ قَوْمٍ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، سِيمَاهُمْ سِيمَا الصِّدِّيقِينَ وَ كَلَامُهُمْ كَلَامُ الْأَبْرَارِ، عُمَّارُ اللَّيْلِ وَ مَنَارُ النَّهَارِ، مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ، يُحْيُونَ سُنَنَ اللَّهِ وَ سُنَنَ رَسُولِهِ ﴿صلی الله علیه وآله﴾، لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَ لَا يَعْلُونَ وَ لَا يَغُلُّونَ وَ لَا يُفْسِدُونَ، قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ وَ أَجْسَادُهُمْ فِي الْعَمَل! (1).

إنها نفس الرواية التي ذكرها ابن هشام في سيرة النبي عندما حكى عن المستهزئين ومن بينهم: ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب وكان شديد العداوة لرسول الله فلقي النبي صلی الله علیه و آله و سلم فقال: يا بن أخي بلغني عنك أمر ولست بكذاب فإن صرعتني علمت أنك صادق ولم يكن يصرعه أحد فصرعه النبي صلی الله علیه و آله و سلم ثلاث مرات ودعاه رسول الله إلى الإسلام فقال: 2.

ص: 178


1- نهج البلاغة خطبة 192.

لا أسلم حتى تدعو هذه الشجرة فقال لها رسول الله: اقبلي فأقبلت تخد الأرض فقال ركانة ما رأيت سحرًا أعظم من هذا مرها فلترجع فأمرها فعادت فقال: هذا سحر عظيم (1).

معجزة انشقاق القمر

قال تعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ(1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)﴾ [سورة القمر].

ذكر ابن كثير في تفسيره (2):

وَقَوْله تَعَالَى: ﴿وَانشَقَّ الْقَمَرُ﴾ قَدْ كَانَ هَذَا فِي زَمَان رَسُول الله صلی الله علیه و آله و سلم كَمَا وَرَدَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَة بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَة.

وَهَذَا أَمْر مُتَّفَق عَلَيْهِ بَيْن الْعُلَمَاء أَي انْشِفَاق الْقَمَر قَدْ وَقَعَ فِي زَمَان النَّبِي صلی الله علیه و آله و سلم وَأَنَّهُ كَانَ إِحْدَى الْمُعْجِزَات الْبَاهِرَات.

ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَة فِي ذَلِكَ: «رِوَايَة أَنَس بْن مَالِك» قَالَ الْإِمَام أَحْمَد حَدَّثَنَا عَبْد الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَر عَنْ قَتَادَة عَنْ أَنَسِ بْن مَالِك قَالَ سَأَلَ أَهْل مَكَّة النَّبِي صلی الله علیه و آله و سلم آيَة فَانْشَقَّ الْقَمَرِ بِمَكَّة مَرَّتَيْنِ فَقَالَ ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ وَرَوَاهُ مُسْلِم عَنْ مُحَمَّد بْن رَافِعٍ عَنْ عَبْد الرَّزَّاقِ، وَقَالَ الْبُخَارِيّ حَدَّثَنِي عَبْد الله بن عَبْد الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا بِشْر بْن الْمُفَضَّل حَدَّثَنَا سَعِيد بْن أَبي عَرُوبَة عَنْ قَتَادَة عَنْ أَنَس بْن مَالِك أَنَّ أَهْل مَكَّة سألُوا رَسُول الله صلی الله علیه و آله و سلم أَنْ يُرِيَهُمْ آيَة فَأَرَاهُمُ الْقَمَرِ شِقَّيْنِ حَتَّى رَأَوْا

ص: 179


1- سيرة النبي لابن هشام ج 1، ص 262 طبعة دار الطلائع. 2005.
2- تفسير ابن كثير ج 4 ص 261 - 262 طبعة عيسى البابي الحلبي بدون تاريخ.

حِرَاء بَيْنهما. وَأَخْرَجَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيث يُونُس بن مُحَمَّد الْمُؤَدِّب عَنْ شَيْبَان عَنْ قَتَادَة وَرَوَاهُ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ حَدِيث أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِي وَيَحْيَى الْقَطَّان وَغَيْرهمَا عَنْ شُعْبَة عَنْ قَتَادَة بِهِ «رِوَايَة جُبَيْر بن مُطْعِم رَضِيَ الله عَنْهُ» قَالَ الْإِمَام أَحْمَد حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن كَثِير ثَنَا سُلَيْمَانَ بْن كَثِيرٍ عَنْ حُصَيْن بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ مُحَمَّد بْن جُبَيْرِ بْن مُطْعِم عَنْ أَبِيهِ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَر عَلَى عَهْد رَسُول الله صلی الله علیه و آله و سلم فَصَارَ فِرْقَتَيْنِ فِرْقَة عَلَى هَذَا الْجَبَلِ وَفِرْقَة عَلَى هَذَا الْجَبَل فَقَالُوا سَحَرَنَا مُحَمَّد فَقَالُوا إِنْ كَانَ سَحَرَنَا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيع أنْ يَسْحَر النَّاسِ كُلِّهِمْ تَفَرَّدَ بِهِ الْإِمَام أَحْمَد مِنْ هَذَا الْوَجْه وَأَسْنَدَهُ الْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِل مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْن كَثِير عَنْ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْن كَثِيرٍ عَنْ حُصَيْن بْن عَبْد الرَّحْمَن وَهَكَذَا رَوَاهُ اِبْن جَرِيرٍ مِنْ حَدِيث مُحَمَّد بْن فُضَيْل وَغَيْره عَنْ حُصَيْن بِهِ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضًا مِنْ طَرِيق إِبْرَاهِيم بْن طَهْمَان وَهُشَيْم كِلَاهُمَا عَنْ حُصَيْنِ عَنْ جُبَيْرِ بْن مُحَمَّد بن جُبير بن مُطْعِم عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه فَذَكَرَهُ.

رِوَايَة عَبْد الله بن عَبَّاس رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ الْبُخَارِي حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن كَثِيرٍ حَدَّثَنَا بَكْر عَنْ جَعْفَر عَنْ عِرَاك بْن مَالِك عَنْ عُبَيْد الله بْن عَبْد الله بْن عُتْبَة عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَر في زَمَان النَّبِيِّ صلی الله علیه و آله و سلم.

وَرَوَاهُ الْبُخَارِيّ أَيْضًا وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيث بَكْر بْن مُضَر عَنْ جَعْفَرَ بْن رَبِيعَة عَنْ عِرَاكَ بِهِ مِثْله. وَقَالَ ابْن جَرِير: حَدَّثَنَا إِبْن مُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْد الْأَعْلَى حَدَّثَنَا دَاوُد بن أَبِي هِنْد عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس. فِي قَوْله ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ(1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)﴾، قَالَ قَدْ مَضَى ذَلِكَ كَانَ قَبْلِ الْهِجْرَة انْشَقَّ الْقَمَر حَتَّى رَأَوْا شِقَّيْهِ. وَرَوَى الْعَوْفِي

ص: 180

عَنْ اِبْن عَبَّاس نَحْو هَذَا وَقَالَ الطَّبَرَانِي حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عَمْرُو الْبَزَّار حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن يَحْيَى الْقُطَعِي حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن شُكْر حَدَّثَنَا إِبْن جُرَيْج عَنْ عَمْرُو بْن دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ كُسِفَ الْقَمَر عَلَى عَهْد رَسُول الله صلی الله علیه و آله و سلم فَقَالُوا سَحَرَ الْقَمَر فَنَزَلَتْ ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَأَنشَقَّ الْقَمَرُ (1)﴾ - إلَى قَوْله - ﴿مُّسْتَمِرٌّ (2)﴾ رِوَايَة عَبْد الله بن عُمَر «قَالَ الْحَافِظ أَبُو بَكْر البَيْهَقِي أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد اللَّه الْحَافِظ وَأَبُو بَكْر أَحْمَد بْن الْحَسَنِ الْقَاضِي قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمّ حَدَّثَنَا الْعَبَّاسِ بْن مُحَمَّد الدَّوْرِي حَدَّثَنَا وَهْب بْن جَرِيرٍ عَنْ شُعْبَة عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِد عَنْ عَبْد الله بن عُمر فِي قَوْله تَعَالَى ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَأَنشَقَّ الْقَمَرُ (1)﴾ قَالَ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْد رَسُول الله صلی الله علیه و آله و سلم اِنْشَقَّ فِلْقَتَيْنِ فِلْقَة مِنْ دُونِ الْجَبَل وَفِلْقَة مِنْ خَلْفَ الْجَبَل فَقَالَ النَّبِي صلی الله علیه و آله و سلم «اللَّهُمَّ إِشْهَدْ» وَ هَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِم وَالتِّرْمِذِي مِنْ طُرُق عَنْ شُعْبَة عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِد بِهِ قَالَ مُسْلِم كَرِوَايَةِ مُجَاهِد عَنْ أَبِي مَعْمَر عَنْ اِبْن مَسْعُود وَقَالَ التَّرْمِذِيّ حَسَن صَحِيح «رِوَايَة عَبْد الله بن مَسْعُود» قَالَ الْإِمَام أَحْمَد حَدَّثَنَا سُفْيَانَ عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد عَنْ أَبِي مَعْمَر عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ اِنْشَقَّ الْقَمَرِ عَلَى عَهْد رَسُول الله صلی الله علیه و آله و سلم شِقَتَيْنِ حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهِ فَقَالَ رَسُول الله صلی الله علیه و آله و سلم «اِشْهَدُوا»، وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْن عُيَيْنَةَ بِهِ وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَش عَنْ إِبْرَاهِيم عَنْ أَبِي مَعْمَر عَبْد الله بن سَخْبَرَة عَنْ اِبْن مَسْعُود بِهِ وَقَالَ اِبْن جَرِيرٍ حَدَّثَنِي عِيسَى بْن عُثْمَان بْن عِيسَى الرَّمْلِي حَدَّثَنَا عَمِّي يَحْيَى بْن عِيسَى عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ رَجُل عَنْ عَبْد الله قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلی الله علیه و آله و سلم بِمِنّى فَانْشَقَّ الْقَمَر فَأَخَذَتْ فِرْقَة خَلْفَ الْجَبَل فَقَالَ رَسُول الله صلی الله علیه و آله و سلم «اِشْهَدُوا، اِشْهَدُوا» قَالَ الْبُخَارِيّ: وَقَالَ أَبُو الضُّحَى عَنْ مَسْرُوق عَنْ عَبْد الله بِمَكَّة وَقَالَ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِي حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَة عَنْ الْمُغِيرَة عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوق

ص: 181

عَنْ عَبْد الله بن مَسْعُود قَالَ اِنْشَقَّ الْقَمَر عَلَى عَهْد رَسُول الله صلی الله علیه و آله و سلم فَقَالَتْ قُرَيْش هَذَا سِحْر اِبْن أَبِي كَبْشَة قَالَ فَقَالُوا أَنْظُرُوا مَا يَأْتِيكُمْ بِهِ السِّفَار فَإِنَّ مُحَمَّدًا لَا يَسْتَطِيع أنْ يَسْحَر النَّاسِ كُلّهمْ قَالَ فَجَاءَ السِّفَارِ فَقَالُوا ذَلِكَ وَقَالَ الْبَيْهَقِي أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد الله الْحَافِظ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّد بْن يَعْقُوب حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بن مُحَمَّد الدَّوْرِي حَدَّثَنَا سَعِيد بْن سُلَيْمَان حَدَّثَنَا هِشَامٍ حَدَّثَنَا مُغِيرَة عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوق عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ اِنْشَقَّ الْقَمَرِ بِمَكَّة حَتَّى صَارَ فِرْقَتَيْنِ فَقَالَ كُفَّار قُرَيْش أَهْل مَكَّة هَذَا سِحْرٌ سَحَركُمْ بِهِ اِبْن أَبِي كَبْشَة أُنْظُرُوا السِّفَار فَإِنْ كَانُوا رَأَوْا مَا رَأَيْتُمْ فَقَدْ صَدَقَ وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَرَوْا مِثْلِ مَا رَأَيْتُمْ فَهُوَ سِحْر سَحَرَكُمْ بِهِ قَالَ فَسُئِلَ السِّفَار قَالَ وَقَدِمُوا مِنْ كُلّ وَجِهَة فَقَالُوا: رَأَيْنَا. وَرَوَاهُ اِبْن جَرِيرٍ مِنْ حَدِيث الْمُغِيرَة بِهِ وَزَادَ فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انشَقَ الْقَمَرُ (1)﴾. ثُمَّ قَالَ اِبْن جَرِيرٍ حَدَّثَنِي يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم حَدَّثَنَا إِبْن عُلَيَّة أَخْبَرَنَا أَيُّوب عَنْ مُحَمَّد هُوَ ابْن سِيرِينَ قَالَ نُبِّئْت أَنَّ اِبْن مَسْعُود رَضِيَ الله عَنْهُ كَانَ يَقُول لَقَدْ اِنْشَقَّ الْقَمَرِ. وَقَالَ ابْن جَرِيرٍ أَيْضًا حَدَّثَنِي مُحَمَّد ابْن عُمَارَة حَدَّثَنَا عَمْرو بن حَمَّادٍ حَدَّثَنَا أَسْبَاط عَنْ سِمَاك عَنْ إِبْرَاهِيم عَنْ الْأَسْوَد عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ لَقَدْ رَأَيْت الْجَبَل مِنْ فَرْج الْقَمَرِ حِين اِنْشَقَّ. وَرَوَاهُ الْإِمَام أَحْمَد عَنْ مُؤَمِّل عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ سِمَاكَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَد عَنْ عَبْد الله قَالَ اِنْشَقَّ الْقَمَر عَلَى عَهْدِ رَسُول الله صلی الله علیه و آله و سلم حَتَّى رَأَيْت الْجَبَل مِنْ بَيْن فُرْجَتَيْ الْقَمَر وَقَالَ لَيْث عَنْ مُجَاهِد اِنْشَقَّ الْقَمَرِ عَلَى عَهْدِ رَسُول الله صلی الله علیه و آله و سلم فَصَارَ فِرْقَتَيْنِ فَقَالَ النَّبِيِّ صلی الله علیه و آله و سلم لِأَبِي بَكْر «اشْهَدْ يَا أَبَا بَكْر» فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ سَحَرَ الْقَمَر حَتَّى انْشَقَّ.

ص: 182

دلالة المعجزات النبوية:

لا شك أن واقعة انشقاق القمر وغيرها من الوقائع هي من معجزات النبوة وهي بعبارة أخرى تشكل جزءًا من الولاية التكوينية التي قد يهبها الله لرسله وأنبيائه وخاصة أوليائه.

إنها ليست حدثاً منفصلاً عن سياق النبوة وإقامة الحجة على الخلائق أجمعين.

فسجود الملائكة لآدم علیه السلام داخل في هذه الولاية التكوينية وهو سجود الخضوع والطاعة لنبي الله ولسر الله المودع في أرواح الأنبياء فضلاً عن أنه خضوع لمن حمله الله أمانة الدين ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)﴾ فما بالك بسيد الأنبياء والمرسلين.

وإذا كانت الملائكة قد سجدت لآدم أي خضعت وأذعنت وانتمرت بأمر الله فالملائكة ليست سوى جند من أجناد الله تنفذ ما يأمر به الله عز و جل من أمر ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)﴾

من هنا فحدوث المعجزات على يد النبي الأكرم محمد صلی الله علیه و آله و سلم سید الخلق والحجة على العالمين فضلاً عن ثبوته بالنص القرآني والروايات المتواترة لم يكن يوماً إلغاء للعقل كما تصور البعض ممن ذهبوا في رفضهم لمعجزات النبوة حدًّا جاوز المعقول ويكفي أن نقرأ الآية الثانية سورة القمر ﴿وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)﴾ وقوله تعالى ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)﴾ [الحجر 14 - 15] ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)﴾ [يونس 96 - 97] لتعرف أن الهدف من هذه المعجزات

ص: 183

لم يكن دفع هؤلاء للإيمان بل الوصول معهم إلى آخر الطريق في إقامة الحجة عليهم لئلا يقولوا لو جاءنا الرسول بمعجزة لآمنا!

وها قد جاءهم الرسول بما طلبوا فما آمنوا ولا أسلموا ولا طابت قلوبهم بالإيمان بنبوة محمد صلی الله علیه و آله و سلم وظلوا على عنادهم وقتالهم لرسول الله حتى عضهم السيف فأعلنوا استسلامهم بعد أن جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون.

وإذا أكملنا قراءة رواية الإمام علي بن أبي طالب عن معجزة الشجرة نرى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وهو يخبرهم بخبيئة نفسهم وأن طلبهم للمعجزة لا يعدو كونها عناداً ومكابرة ﴿فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ، وإِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تَفِيئُونَ إِلَى خَيْرٍ، وإِنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي الْقَلِيبِ، ومَنْ يُحَزِّبُ الأَحْزَابَ﴾ وكانت المعجزة الكبرى والآية العظمى عندما انتهى الأمر بهؤلاء القوم تلك النهاية السوداء التي اختاروها لأنفسهم فمنهم من كان مثواه الأخير تلك البئر الهاوية الذي ألقوا فيه بعد هزيمتهم يوم بدر ومنهم من امتد به العمر وغلبت عليه شقوته فمضى يحزب الأحزاب ويجمع قوى الكفر والضلال الحرب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ﴿قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَٰنُ مَدًّا ۚ حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ۗ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)﴾ [مريم 75 - 76].

الدكتور هيكل ينفي وقوع المعجزات النبوية!

أحد الذين سعوا لنفي معجزات النبي الأكرم محمد صلی الله علیه و آله و سلم انتصاراً للعقل جاوز به حد المعقول هو الدكتور محمد حسين هيكل في كتابه حياة محمد.

الدكتور هيكل هو أحد أهم من تصدوا لكتابة السيرة النبوية في

ص: 184

عصرنا الحديث وكتابه ﴿حياة محمد﴾ الذي صدر في ثلاثينات القرن الماضي به الكثير من النقاط الإيجابية التي ينبغي أن تذكر لصالحه إلا أن أبرز نقاط الضعف في هذا الكتاب هو إسقاطه شبه المطلق لمعجزات وكرامات الرسول الأكرم محمد صلی الله علیه و آله و سلم.

استشهد الدكتور هيكل على صحة منهجه في إسقاط معجزات النبوة بمحمد رشيد رضا ﴿أحد أبرز مؤسسي التيار السلفي في مصر﴾، وصاحب مجلة المنار رداً على من اعترض على كتابه ﴿حياة محمد﴾ حيث ذكر رشيد رضا ما نصه أهم ما ينكره الأزهريون والطرقيون على هيكل أو أكثره مسألة المعجزات أو خوارق العادات وقد حررتها في كتاب الوحي المحمدي من جميع مناحيها ومطاوبها في الفصل الثاني وفي المقصد الثاني من الفصل الخامس بما أثبت به أن القرآن وحده هو حجة الله القطعية على ثبوت نبوة محمد صلی الله علیه و آله و سلم بالذات ولا يمكن في عصرنا إثبات آية إلا بها وأن الخوارق الكونية شبهة عند علمائه لا حجة لأنها موجودة في زماننا ككل زمان مضى وأن المفتونين بها هم الخرافيون من جميع الملل وبينت سبب الافتتان والفروق بين ما يدخل منها في عموم السنن الكونية والروحية وغيره (1).

وينقل هيكل أيضاً عن الشيخ محمد عبده في كتابه ﴿الإسلام والنصرانية﴾ فالإسلام في هذه الدعوة والمطالبة بالإيمان بالله ووحدانيته لا يعتمد على شيء سوى الدليل العقلي والفكر الإنساني الذي يجري على نظامه الفطري فلا يدهشك بخارق العادة ولا يغش بصرك بأطوار غير معتادة ولا يخرس لسانك بقارعة سماوية ولا يقطع حركة فكرك بصيحة إلهية وقد اتفق المسلمون إلا قليلاً ممن لا يعتد برأيه على أن .

ص: 185


1- محمد رشيد رضا، المنار 3، مايو / أيار 1953.

الاعتقاد بالله مقدم على الاعتقاد بالنبوات وأنه لا يمكن الإيمان بالرسل إلا بعد الإيمان بالله فلا یصح أن يؤخذ الإيمان بالله من كلام الرسل ولا من الكتب المنزلة فإنه لا يعقل أن تؤمن بكتاب أنزله الله إلا إذا صدقت قبل ذلك بوجود الله وبأنه يجوز أن ينزل كتاباً أو يرسل رسولاً (1)﴾.

ويمضي الدكتور هيكل قائلاً: ﴿أما ومضرة الروايات التي لا يقرها العقل والعلم قد أصبحت واضحة ملموسة فمن الحق على كل من يعرض لهذه الأمور أن يراعي جانب الدقة العلمية في تمحيصها خدمة للحق وخدمة للإسلام ولتاريخ النبي العربي وتمهيداً لما يجلو، البحث في هذا التاريخ العظيم من حقائق تنير أمام الإنسانية سبيلها إلى الحضارة الصحيحة﴾.

ولو أننا عرضنا كثيراً من الأمور التي ترويها كتب السيرة وكتب الحديث على ما في القرآن لما وسعنا إلا أن نأخذ برأي الأئمة المدققين فقد كان أهل مكة يطلبون إلى النبي أن يجري على يديه المعجزات إذا أرادهم أن يصدقوه فنزل القرآن يذكر ما طلبوا ويدفعه بحجج مختلفة قال تعالى:

وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)﴾ [الإسراء: 10 - 93]

وقوله تعالى ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا ۚ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ ۖ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ ف

ص: 186


1- د/ محمد حسين هيكل حياة محمد ص 69 - 70 القاهرة، دار المعارف

أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) [الأنعام: 109 - 111]

ثم يقول الدكتور هيكل ﴿ولم يرد في كتاب الله ذكر لمعجزة أراد الله بها أن يؤمن الناس كافة على اختلاف عصورهم برسالة محمد إلا القرآن الكريم هذا مع أنه ذكر المعجزات التي جرت بإذن الله على أيدي من سبق محمداً من الرسل كما أنه جرى بالكثير مما أفاء الله على محمد وما وجه إليه الخطاب فيه وما ورد في الكتاب عن النبي العربي لا يخالف سنة الكون في شيء﴾.

ثم يتساءل: أي داع دعا طائفة من المسلمين فيما مضى ويدعو طائفة منهم اليوم إلى إثبات خوارق مادية للنبي العربي؟

إنما دعاهم لذلك أنهم تلوا ما جاء في القرآن من معجزات من سبق محمداً من الرسل فاعتقدوا أن هذا النوع من الخوارق المادية لازم لكمال الرسالة فصدقوا ما روي منها وإن لم يرد في القرآن وظنوا أنها كلما ازداد عددها كانت أدل على الكمال وأدعى إلى أن يزداد الناس إيماناً بالرسالة﴾ (1).

والواقع أننا لا نذهب إلى ما ذهب إليه الدكتور هيكل في نفيه للمعجزات والخوارق التي أجراها رب الكون على يدي رسوله محمداً صلی الله علیه و آله و سلم ونرى أن ما استدل به لا يعدو كونه خلطاً بین مسألتين لا يجوز الخلط بينهما بحال من الأحوال.

المسألة الأولى أن العقل هو الحجة البالغة والدلالة الباهرة على صدق الرسالة الإسلامية وهو ما لا نراه موضعاً للخلاف بين أحد من المسلمين سواء من أثبت الخوارق أو من لم يثبتها. .

ص: 187


1- د/ محمد حسين هيكل / السابق، ص 71 - 72.

والمسألة الثانية هي وقوع هذه الخوارق على يدي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالفعل وأنها كانت أداة لإقامة الحجة على صنف من البشر لا ينفع معهم أي خطاب عقلي وهم أنفسهم الذين ذهبوا ضحايا كفرهم وعنادهم في تلك المواجهات التي دارت بين الإسلام والشرك.

العقل هو الأداة الرئيسة لمعرفة الخالق جل و علی وهو الحجة الباطنة التي توزن بها الأدلة الفرعية على الأدلة الكلية المحكمة فيسقط بموجبها الفرعي إذا تناقض مع الكلي.

ولذا فإن الخالق جل و علی خاطب الناس بآياته الكلية العقلية وذهب معهم إلى نهاية الشوط عندما طالب البعض بالمعجزات والخوارق فأظهرها لهم إقامة لحجته البالغة عليهم وإثباتاً لأن علة كفرهم هو تلك النفس المريضة التي لا ينفع معها خطاب عقلي ولا خارق غير عادي لا يمكن أن يأتي به غير نبي الله محمد صلی الله علیه و آله و سلم ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس 101].﴾

العقل وحده وكفى لم يكن هو المخاطب من الله جل و علی ولو تأمل الدكتور هيكل في آيات القرآن التي استدل بها قبل أن يخرج بهذا الاستنتاج القاطع لانتبه إلى أن آيات سورة الأنعام تتحدث عن القلب والأبصار أي العقل وهذا معنى قوله تعالى في سورة الأنعام آية 110 ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)﴾ وهذا أيضاً معنى قوله تعالى في سورة المطففين ﴿كَلَّا ۖ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)﴾ ومن البديهي أن العقل أو الضمير يختلف عن العقل.

ولو كانت إقامة الحجة العقلية كافية وحدها لإدامة الإيمان لما ارتد من ارتد بعد ذلك قوم ممن أسلموا ولما نافق من نافق منهم مع بقائهم

ص: 188

على ظاهر الإسلام والسبب أيضاً هو مرض القلوب ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾.

الآيات التي استدل بها الدكتور هيكل لا تنفي وقوع المعجزات ولكنها تنفي إمكانية إيمان هؤلاء المعاندين أيّا كان الخطاب الموجه إليهم سواء كان عقلياً أو قلبياً أو إعجازياً.

إنها طبيعة معاكسة ومعوجة لا يجدي معها عقل ولا منطق وهو المعنى الذي نستفيده من تلك الآيات التي استدل بها على نفي المعجزات واستفدنا نحن منها نفي أي إمكانية لإيمان هؤلاء ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)﴾

إنها نفس الشخوص التي حكى عنها ربنا في سورة الأنعام أيضاً ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ۖ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)﴾ [27 - 28].

المعنى إذاً أن هؤلاء القوم لو خاطبتهم بالعقل فلن يؤمنوا ولو أظهرت لهم المعجزات لتقطع عليهم طريق المجادلة فلن يؤمنوا ولو انكشف لهم الغطاء عن غيب الله المكنون وشاهدوا الجنة والنار رأي العين وبدا لهم عين اليقين لطلبوا مهلة للعودة والإيمان مرة أخرى ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون مجادلون مكابرون!

هل حقاً أن القرآن لم يات على ذكر معجزات النبوة؟

وفي محاولة منه لإقرار منهجه ﴿العقلي﴾ في قراءة أحداث السيرة نراء يتخلى حتى عن الدليل الذي استدل به لإبطال المعجزات الإلهية وهو عدم ورود ذكر لأي من تلك المعجزات في القرآن الكريم في حين أثبت القرآن

ص: 189

الكريم واحدة من تلك المعجزات الهاشمية وهي معجزة إهلاك جيش أبرهة عندما أرسل الله عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل.

إنها المعجزة التي أفرد لها الله تبارك وتعالى لها سورة كاملة سميت باسمها هي سورة الفيل: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)﴾

مع ذلك لم يجد الدكتور هيكل حرجاً في سبيل نفيه للمعجزات أن يحور الواقعة خلافاً لما هو مشهور فيزعم أن عبد المطلب حاول أن يقنع أبرهة بالرحيل وعدم هدم الكعبة و ﴿لكنه أبى إباء تاماً كل حديث في أمر الكعبة ورجوعه عن هدمها ورفض ما عرض عليه من النزول عن ثلث ثروة تهامة وعاد عبد المطلب وقومه إلى مكة فنصح الناس بالخروج منها إلى شعاب الجبل خوفاً من أبرهة وجيشه﴾ وأن عبد المطلب وقومه ﴿أخذ حلقة باب الكعبة وجعلوا يدعون ويستنصرون بآلهتهم على هذا المعتدي على بيت الله﴾ وأن هذه الطير الأبابيل التي حكى عنها رب العزة في سورة الفيل هي ﴿وباء الجدري الذي تفشى بالجيش وبدأ يفتك به وكان فتكاً ذريعاً لم يعهد من قبل ولعل جراثيم الوباء جاءت مع الريح من ناحية البحر وأصابت العدوى أبرهة نفسه ففتكت به﴾ (1).

ورغم أن الدكتور هيكل حاول واجتهد أن يلتزم بالمنهج العقلي إلا أنه لم يستنكف عن نقل أسطورة البخاري المزعومة عن محاولة الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم إلقاء نفسه من أعلى حراء أو أبي قبيس ولا أدري أي عقل سوي يقبل أن يروي مثل هذه الرواية حتى وإن أوردها تحت لائحة ﴿قيل﴾ كما وضعها هو. .

ص: 190


1- د/ محمد حسین هیکل / السابق، ص 119.

بنو أمية: أعلم بشؤون دنياكم!

قلنا إن التهجم على مقام النبي الأكرم محمداً صلی الله علیه و آله و سلم ومحاولة الحط من شأنه هو بلاء ابتليت به أمتنا الإسلامية التي كانت ولا زالت تتخبط في دينها ودنياها.

فالأمر لم يقف عند نفي البعض لمعجزات رسول الله وكراماته بل تخطاه لإمكانية ارتكابه لأخطاء دنيوية والتفريق بين ما يأمر به على سبيل التشريع وما يأمر به على سبيل الوصايا الدنيوية وهو في مثل هذه الحالة بشر يصيب ويخطئ والباقي معلوم فبنو أمية أعلم بشؤون دنياكم!

فقد روی مسلم بن الحجاج قال:

قال قدم نبي الله صلی الله علیه و آله و سلم المدينة وهم يؤبرون النخل يقولون يلقحون النخل فقال ما تصنعون؟ قالوا كنا نصنعه قال لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً فتركوه فنفضت أو فنقصت قال فذكروا ذلك له فقال إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر.

كما روي أيضاً: أن النبي صلی الله علیه و آله و سلم مر بقوم يلقحون فقال: لو لم تفعلوا الصلح قال فخرج شيصاً فمر بهم فقال ما لتخلكم؟ قالوا قلت كذا وكذا قال أنتم أعلم بأمر دنياكم.

* موسی بن طلحة عن أبيه قال مررت مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بقوم على رؤوس النخل فقال ما يصنع هؤلاء؟ فقالوا يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ما أظن يغني ذلك شيئاً قال فأخبروا بذلك فتركوه فأخبر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بذلك فقال إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإني إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن

ص: 191

ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به فإني لن أكذب على الله جل و علی.

ولك أن تتخيل أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم هو الذي نزل عليه كلام الله ﴿ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً﴾ قد أفتى بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير مما أدى إلى وقوع خسارة جسيمة لمحصول التمر الذي يشكل الثروة الرئيسة الزراعية لأهل المدينة!

لماذا كل هذا؟

لكي يعلم الناس أنهم أعلم بشؤون دنياهم!

بينما يروي ابن هشام في السيرة النبوية قصة عتق سلمان الفارسي قال سلمان: قال لي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: کاتب یا سلمان؛ فكاتبت صاحبي على ثلثمائة نخلة أحييها له بالفقير وأربعين أوقية. فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لأصحابه: أعينوا أخاكم، فأعانوني بالنخل الرجل بثلاثين وَدِيَّة والرجل بعشرين ودية والرجل بخمس عشرة،ودية والرجل بعشر يعين الرجل بقدر ما عنده حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية؛ فقال لي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: اذهب يا سلمان ففقِّر لها، فإذا فرغت فأتني أكنْ أنا أضعها بيدي.

قال: ففقَّرت وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت جئته فأخبرته، فخرج رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم معي إليها، فجعلنا نقرب إليه الودي، ويضعه رسول الله بيده، حتى فرغنا. فوالذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة.

قال: فأديت النخل وبقي عليّ المال. فأتي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن فقال: ما فعل الفارس

ص: 192

المكاتب؟ قال: فدعيت له فقال: ﴿خذ هذه، فأدها مما عليك يا سلمان﴾ قال: قلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي؟ فقال: خذها فإن الله سيؤدي بها عنك.

قال: فأخذتها فوزنت لهم منها، والذي نفس سلمان بيده أربعين

أوقية، فأوفيتهم حقهم منها وعتق سلمان. فشهدت مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الخندق حراً، ثم لم يفتني معه مشهد.

قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن أبي حبيب عن رجل من عبد القيس عن سلمان: أنه قال: لما قلت: وأين تقع هذه من الذي علي يا رسول الله؟ أخذها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقلبها على لسانه، ثم قال: خذها فأوفهم منها، فأخذتها، فأوفيتهم منها حقهم كله أربعين أوقية (1).

كما يروي ابن سعد في الطبقات نقلاً عن سلمان الفارسي قال: ثم أسلمت وشغلني الرق وما كنت فيه حتى فاتني بدر وأحد ثم قال لي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كاتب فسألت صاحبي ذلك فلم أزل حتى كاتبني على أن أحيي له ثلاثمائة نخلة وأربعين أوقية من ورق ثم قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أعينوا أخاكم بالنخل فأعانني كل رجل بقدره بالثلاثين والعشرين والخمس عشرة والعشر ثم قال: يا سلمان اذهب ففقر لها فإذا أنت أردت أن تضعها فلا تضعها حتى تأتيني فتؤذنني فأكون أنا الذي أضعها بيدي فقمت في تفقيري فأعانني أصحابي حتى فقرنا شرباً ثلاثمائة شربة جاء كل رجل بما أعانني به من النخل ثم جاء رسول الله فجعل يضعها بیده يسوي عليها شربها ويبرك حتى فرغ منها رسول الله جميعاً فلا والذي نفس سليمان بيده ما ماتت منه ودية وبقيت الدراهم فبينا رسول د.

ص: 193


1- السيرة النبوية لابن هشام، ص 163 - 164. دار الطلائع. القاهرة 2005 تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.

من

الله صلی الله علیه و آله و سلم ذات يوم في أصحابه إذ أتاه رجل من أصحابه بمثل البيضة ذهب أصابها من بعض المعادن فتصدق بها إليه فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ما فعل الفارسي المسكين المكاتب ادعوه لي فدعيت له فجئت فقال اذهب بهذا فأدها عنك مما عليك من المال قال وقلت وأين يقع هذا مما علي يا رسول الله؟ قال إنه سيؤدي عنك قال ابن إسحاق فأخبرني يزيد بن أبي حبيب أنه كان في هذا الحديث أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وضعها يومئذ على لسانه ثم قلبها ثم قال لي اذهب فأدها عنك ثم عاد حديث ابن عباس ويزيد أيضاً قال سلمان فوالذي نفسي بيده لوزنت له منها أربعين أوقية حتى وفيته الذي له وعتق سلمان وشهد الخندق وبقية مشاهد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حراً مسلماً حتى قبضه الله (1).

ولا أدري أيها نصدق نخل سلمان الذي جيء به إلى رسول الله مجرد فسائل صغيرة تحتاج إلى سنوات وسنوات حتى تنبت فغرسها رسول الله وباركها بيده الشريفة فأنبتت في أسابيع وهو النخل الذي بقي بعد ذلك عديد القرون حتى جاءت يد الحقد الوهابي فاقتلعته أم نخل عكرمة بن عمار الذي لم ينبت وخرج شيصاً ليعلم الناس أن بني أمية أعلم من رسول الله وأهل بيته بأمور دنيانا وأن رسولنا الأكرم لا يعدو کونه مجرد مبلغ عن ربه وليس أبداً تلك الرحمة المهداة ولا النعمة المسداة..

ص: 194


1- ابن سعد، مرجع سابق، 69 - 4/70.

نزول الوحي

يقول الإمام علي بن أبي طالب: وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ صلی الله علیه و آله و سلم بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، وَالْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ: وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وليدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ، وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ، وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ، وَمَا وَجَدَ لِي كَذَّبَةً فِي قَوْل، وَلَا خَطْلَةً في فِعْل.

وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ تَعَالَى بِهِ صلی الله علیه و آله و سلم مِنْ لَدُن كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكَ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِم، وَمَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ، لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتَّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْم عَلَماً مِنْ أخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالاقْتِدَاءِ بِهِ.

وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَة بِحِرَاءَ، فَأَرَاهُ وَلَا يَرَاهُ غَيْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلَام غَيْرَ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ.

وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ صلی الله علیه و آله و سلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: «هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِي، وَلكِنَّكَ وَزِيرٌ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْر» (1).

ص: 195


1- نهج البلاغة خطبة 192.

روى الكليني في الكافي عن الأحول قال سألت أبا جعفر ﴿الإمام الباقر﴾ علیه السلام عن الرسول والنبي والمحدث فقال: الرسول الذي يأتيه جبريل قبلاً فيراه ويكلمه فهذا الرسول وأما النبي فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم ونحو ما كان رأى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من أسباب النبوة قبل الوحي حتى أتاه جبريل علیه السلام من عند الله بالرسالة وكان محمد صلی الله علیه و آله و سلم حين له النبوة وجاءته الرسالة من عند الله يجيئه بها جبريل ويكلمه بها قبلاً ومن الأنبياء من جمع له النبوة ويرى في منامه ويأتيه الروح ويكلمه ويحدثه من غير أن يكون يرى في اليقظة وأما المحدث فهو الذي يحدث فيسمع ولا يعاين ولا يرى في منامه.

المُحَدّث هو من تحدثه الملائكة كأم موسى ومريم ابنة عمران ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)﴾ [آل عمران: 42] ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ ومن المعلوم أن أيّا من أم موسى أو مريم ابنة عمران لم تكونا من الأنبياء ولا من المرسلين.

والمعنى أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كان نبيًّا قبل أن يبعث بالرسالة وينزل عليه القرآن وأنه صلوات الله وسلامه عليه كما يذكر الرواة أول ما بدأه الوحي كان الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح (1).

كما روى مسلم في ﴿صحيحه﴾ عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: ﴿إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن﴾.

يروي أبو الفداء في تاريخه نقلاً عن دلائل النبوة للبيهقي ما يلي:

ولما بلغ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أربعين سنة بعثه الله تعالى إلى الأسود .

ص: 196


1- الكليني، الكافي، باب الحجة ج 1.

والأحمر رسولاً ناسخاً بشريعته الشرائع الماضية فكان أول ما ابتدأ به من النبوة الرؤيا الصادقة وحبب الله تعالى إليه الخلوة وكان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يجاور في جبل حراء من كل سنة شهراً فلما كانت سنة مبعثه خرج إلى

حراء في رمضان للمجاورة فيه ومعه أهله.

حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله سبحانه وتعالى فيها جاءه جبريل علیه السلام فقال له: اقرأ. قال له فما أقرأ؟ قال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)﴾

ثم إن النبي صلی الله علیه و آله و سلم خرج إلى وسط الجبل فسمع صوتاً من جهة السماء: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبرائيل فبقي واقفاً في موضعه يشاهد جبرائيل حتى انصرف جبرائيل ثم انصرف النبي صلی الله علیه و آله و سلم وأتى خديجة فحكى لها ما رأى فقالت: أبشر فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة ثم انطلقت خديجة إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمها وكان ورقة قد نظر في الكتب وقرأها وسمع من أهل التوراة والإنجيل فأخبرته ما أخبرها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقال ورقة: قدوس والذي نفس ورقة بیده لئن صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى بن عمران وإنه نبي هذه الأمة فرجعت خديجة إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فأخبرته بقول ورقة.

ولما قضى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم جواره وانصرف طاف بالبيت أسبوعاً ثم انصرف إلى منزله ثم تواتر الوحي إليه أولاً فأولاً وكان أول الناس إسلاماً خديجة لم يتقدمها أحد وفي الصحيح أن النبي صلی الله علیه و آله و سلم قال ﴿كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع: آسية زوجة فرعون ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد﴾ (1). ة.

ص: 197


1- المختصر في تاريخ البشر لأبي الفداء، ج 1 ص 146 نفس الطبعة.

هذا عن الطريقة التي نزل بها الوحي على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والحوار الذي جرى بينه وبين جبريل علیه السلام عندما قال له اقرأ فقال ما أقرأ؟ قال ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)﴾ فقرأها الرسول صلی الله علیه و آله و سلم.

ونحن لا نعتقد على الإطلاق بحدوث المفاجأة على الطريقة المذكورة في البخاري أو غيره تلك المفاجأة التي تدفع رسول الله للحيرة والذهول وكأنها كانت المرة الأولى التي يشعر فيها الرسول بالتواصل بينه وبين جبريل علیه السلام ولا يمنع على الإطلاق أن تكون الرهبة التي أحس بها عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم السلام رهبة ناتجة عن إدراكه لعظم المسؤولية والأمانة الملقاة على عاتقه.

إنها رهبة تلقي التكليف الإلهي حتى ولو كان متوقعاً في أي وقت وحتى من فترة طويلة.

ولكنها أبداً ليست تلك الرهبة التي تدفعه لمحاولة استجلاء الموقف ومحاولة التعرف على الهاتف الداعي من ورقة بن نوفل.

إنها الرهبة الناشئة عن عظم الإحساس بمسؤولية تلقي الوحي وتبليغه للناس أجمعين المصدقين والمكذبين ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)﴾ [المزمل: 5 - 11].

إنها نفس الرهبة التي واجهها رسول الله عندما أمر بإنذار عشيرته الأقربين ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)﴾ وعندما أمر بإبلاغ المسلمين بولاية علي ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ۖ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ وعندما أمر بالزواج من زينب بنت جحش ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ

ص: 198

مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ ولكنها أبداً ليست رهبة الخائف الوجل الحائر المضطرب الذي لا يدري من يأتيه ولا ما يخفيه له الزمان من مفاجآت فيجلس بين يدي ورقة ليسأله ﴿أو مخرجي هم؟﴾.

ينبهنا الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام إلى حقيقتين:

الأولى: أن اللهَ تبارك وتعالى وكل برسوله صلی الله علیه و آله و سلم مِنْ لَدُنْ كَانَ فَطِيماً أعْظَمَ مَلَكَ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ، لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ أي أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كان عالماً معلماً منذ اللحظة الأولى لمولده وأن هذا العلم والهداية إلى طريق الكمال الإلهي كانت بواسطة أعظم ملك من ملائكة الله المقربين ومن هنا يصبح التساؤل عن معنى ﴿فاجأه الوحي﴾ أمراً مشروعاً ومبرراً ويصبح نفي حدوث المفاجأة أمراً منطقياً ومحسوماً.

لا وجه للعجب في هذه الرواية فهو صلی الله علیه و آله و سلم كما وصف نفسه ﴿إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق﴾ وكما قال سبحانه ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾ وتلك هي المرحلة الأولى التي مر بها كل الأنبياء علیهم السلام في سيرهم المتواصل نحو الكمال فلا شيء في هذا الكون يجري مصادفة ﴿وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ وإذا كانت الغاية العظمى للبعثة النبوية تتلخص في أن يعبد الله فلا يشرك به شيئاً فهذا مما لا يمكن إدراكه أو بلوغه إلا على يد ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ﴾.

رجال بلغوا قمة الكمالات الإنسانية ممن صنعهم الله على عينه كما

قال ربنا لموسى علیه السلام ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي (39)﴾

ص: 199

كما أننا ينبغي أن نتنبه إلى التفرقة بين مرحلتين:

مرحلة النبوة الممتدة منذ مولده إلى يوم مبعثه وهي مرحلة من التواصل مع الله تترقى فيها النفس وتعرج فيها إلى آفاق الكمال لترى من آیات ربها الكبرى ...

ومرحلة البعثة بالرسالة الإسلامية التي نزل فيها القرآن على قلب رسول الله ليكون من المنذرين ولينذر قوماً ما أنذر آباؤهم من قبل فهم غافلون.

الحقيقة الثانية: أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كان عالماً معلماً لتلميذه ووصيه وأخيه وزوج ابنته سيدة نساء العالمين علي بن أبي طالب فترة كفالته له في بيته.

وها هو علي يصف فترة الحضانة التربوية التي عاش فيها في كنف رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في منزل الوحي ينهل من العلم الإلهي فيقول:وَ قَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﴿صلی الله علیه وآله﴾ بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ وَ الْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ، وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَ أَنَا وَلِيدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ وَ يَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ وَ يُمِسُّنِي جَسَدَهُ وَ يُشِمُّنِي عَرْفَهُ وَ كَانَ يَمْضَغُ الشَّيْ ءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ، وَ مَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ وَ لَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ. وَ لَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً وَ يَأْمُرُنِي بِالاقْتِدَاءِ بِهِ.

وَ لَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَ لَا يَرَاهُ غَيْرِي، وَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ ﴿صلی الله علیه وآله﴾ وَ خَدِيجَةَ وَ أَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَ الرِّسَالَةِ وَ أَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ، وَ لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ ﴿صلی الله علیه وآله﴾، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وَ تَرَى مَا أَرَى، إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ وَ لَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ، وَ إِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ».

ص: 200

التمهيد والإعداد لمرحلة البعثة النبوية المباركة كان من الضروري أن يصحبه التمهيد والإعداد لمرحلة ما بعد انتهاء هذه البعثة وهذا هو سر التواجد العلوي في البيت المحمدي بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة يضمه إلى صدره ويكنفه في فراشه ويطعمه مما يطعم ... يربيه تربية روحية وعلمية وعملية على مكارم الأخلاق وما بعث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلا ليتمم مكارم الأخلاق عبر التلقين والاقتداء فيرى علي بن أبي طالب بأم عينيه نزول الوحي وحقيقة الإيمان عين اليقين إلا أنه ليس بنبي ولا يوحى إليه بل هو وزير كما كان هارون وزيراً لموسى ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ (36)﴾ [طه 25 - 36].

علي الصديق الأكبر:

أما كونه سلام الله عليه الصديق الأكبر والفاروق الأكبر وأول من أسلم فهذا مما مشت به الركبان حيث يروي ابن الأثير في الكامل (1): أول ذكر آمن علي وروي عن علي علیه السلام أنه قال: أنا عبد الله وأخو رسوله وأنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلا كاذبٌ مفترٍ صليت مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قبل الناس بسبع سنين. وقال ابن عباس: أول من صلى علي وقال جابر بن عبد الله: بعث النبي صلی الله علیه و آله و سلم يوم الاثنين وصلى علي يوم الثلاثاء وقال زيد بن أرقم أول من أسلم مع النبي صلی الله علیه و آله و سلم علي.

قال عفيف الكندي: كنت امراً تاجرًا فقدمت مكة أيام الحج فأتيت

ص: 201


1- ابن الأثير، مرجع سابق، 1/582.

العباس فبينا نحن عنده إذ خرج رجلٌ فقام تجاه الكعبة يصلي ثم خرجت امرأة تصلي معه ثم خرج غلام فقام يصلي معه فقلت: يا عباس ما هذا الدين؟ فقال: هذا محمد بن عبد الله ابن أخي زعم أن الله أرسله وأن کنوز کسری وقيصر ستفتح عليه وهذه امرأته خديجة آمنت به وهذا الغلام علي بن أبي طالب آمن به وايم الله ما أعلم على ظهر الأرض أحدًا على هذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة! قال عفيف: ليتني كنت رابعا وقال محمد بن المنذر وربيعة بن أبي عبد الرحمن وأبو حازم المدي والكلبي: أول من أسلم علي قال الكلبي: كان عمره تسع سنين وقيل إحدى عشرة سنة وقال ابن إسحاق: أول من أسلم علي وعمره إحدى عشرة سنة.

وكان من نعمة الله عليه أن قريشًا أصابتهم أزمةٌ شديدة وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة فقال يوماً رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لعمه العباس: يا عم إن أبا طالب كثير العيال فانطلق بنا نخفف عن عيال أبي طالب فانطلقا إليه وأعلماه ما أرادا فقال أبو طالب: اتركا لي عقيلاً واصنعا ما شئتما فأخذ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عليًّا وأخذ العباس جعفرًا فلم يزل علي عند النبي صلی الله علیه و آله و سلم حتى أرسله الله فاتبعه.

وكان النبي صلی الله علیه و آله و سلم إذا أراد الصلاة انطلق هو وعلي إلى بعض الشعاب بمكة فيصليان ويعودان.

أما كونه وزيراً فيشهد على ذلك حديث يوم الدار وهي الرواية التي يرويها ابن الأثير الجزري في الكامل وأبو الفداء (1) في تاريخه واللفظ لابن الأثير: قال جعفر بن عبد الله بن أبي الحكم: لما أنزل الله على رسوله ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ اشتد ذلك عليه وضاق به ذرعًا فجلس في بيته كالمريض فأتته عماته يعدنه فقال: ما اشتكيت شيئًا ولكن .

ص: 202


1- المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء، ص 147 - 148. نفس الطبعة.

الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فقلن له: فادعهم ولا تدع أبا لهب فيهم فإنه غير مجيبك.

فدعاهم صلی الله علیه و آله و سلم فحضروا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف فكانوا خمسة وأربعين رجلًا فبادره أبو لهب وقال: هؤلاء هم عمومتك وبنو عمك فتكلم ودع الصباة واعلم أنه ليس لقومك في العرب قاطبةً طاقة أحق من أخذك فحبسك بنو أبيك وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش وتمدهم العرب فما رأيت أحدًا جاء على بني أبيه بشرٍّ مما جئتهم به.

فسكت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ولم يتكلم في ذلك المجلس ثم دعاهم ثانيةً وقال: الحمد لله أحمده وأستعينه وأؤمن به وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثم قال: إن الرائد لا يكذب أهله والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون ولتحاسين بما تعملون وإنها الجنة أبدًا والنار أبدًا. فقال أبو طالب: ما أحب إلينا معاونتك وأقبلنا لنصيحتك وأشد تصديقنا لحديثك وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون وإنما أنا أحدهم غير أني أسرعهم إلى ما تحب فامض لما أمرت به فوالله لا أزال فقال أبو لهب: هذه والله السوءة! خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم. فقال أبو طالب: والله لتمنعنه ما بقينا.

وقال علي بن أبي طالب لما نزلت: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [سورة الشعراء 214] دعاني النبي صلی الله علیه و آله و سلم فقال: يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت ذرعًا وعلمت أني متى أبادرهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره فصمت عليه حتى جاءني جبرائيل فقال: يا محمد إلا تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك فاصنع لنا صاعًا من

ص: 203

طعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عسًّا من لبن واجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب فلما اجتمعوا فنتفها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ثم قال: خذوا باسم الله فأكل القوم حتى ما لهم بشيء من حاجة وما أرى إلا مواضع أيديهم وايم الله الذي نفس علي بيده إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم! ثم قال: اسق القوم فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا جميعًا وايم الله إن كان الرجل الواحد ليشرب مثله! فلما أراد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أن يكلمهم صلی الله علیه و آله و سلم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لشد ما سحركم به صاحبكم فتفرق القوم ولم يكلمهم صلی الله علیه و آله و سلم فقال: الغد يا علي إن هذا الرجل سبقني إلى ما سمعت من القول فتفرقوا قبل أن أكلمهم فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثم اجمعهم إلى ففعل مثل ما فعل بالأمس فأكلوا وسقيتهم ذلك العس فشربوا حتى رووا جميعًا وشبعوا ثم تكلم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقال: يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شابًا في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم فأحجم القوم عنها جميعًا وقلت وإني لأحدثهم سنًّا وأرمصهم عينًا وأعظمهم بطنًا وأحمشهم ساقًا: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي ثم قال: إن هذا أخي ووصبي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا قال: فقام القوم يضحكون فيقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لا بنك وتطيع (1)..

ص: 204


1- ابن الأثير، مرجع سابق، 1/585.

الرواية نفسها ذكرها ابن جرير الطبري في تاريخه بزيادة طفيفة: حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثني محمد بن إسحاق عن عبد الغفار بن القاسم عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب عن عبد الله بن عباس عن علي بن طالب قال لما نزلت هذه الآية على رسول الله ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ(214)﴾ دعاني رسول الله فقال لي: يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعاً وعرفت أني متى أباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره فصمت عليه حتى جاءني جبرئيل فقال يا محمد إنك إلا تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عساً من لبن ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به فلما وضعته تناول رسول الله حذية من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ثم قال خذوا الله فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة وما أرى إلا موضع أيديهم وايم الله الذي نفس علي بيده وإن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم ثم قال اسق القوم فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا منه جميعاً وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله فلما أراد رسول الله أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال لشد ما سحر كم صاحبكم فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله فقال الغد يا علي إن هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول فتفرق القوم قبل أن أكلمهم فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثم اجمعهم الي قال ففعلت ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته لهم ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة ثم قال اسقهم فجئتهم

ص: 205

بذلك العس فشربوا حتى رووا منه رووا منه جميعاً ثم تكلم رسول الله فقال: يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله تعالى أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم قال فأحجم القوم عنها جميعاً وقلت وإني لأحدثهم سناً وارمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي ثم قال: إن هذا أخي ووصیي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا قال فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع. حدثني زكريا بن يحيى الضرير قال حدثنا عفان بن مسلم قال حدثنا أبو عوانة عن عثمان بن المغيرة عن أبي صادق عن ربيعة بن ناجد أن رجلاً قال لعلي علیه السلام يا أمير المؤمنين بم ورثت ابن عمك؟ دون عمك فقال علي هاؤم ثلاث مرات حتى اشرأب الناس ونشروا آذانهم ثم قال جمع رسول الله أو دعا رسول الله بني عبد المطلب منهم رهطه كلهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق قال فصنع لهم مدًّا من طعام فأكلوا حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس قال ثم دعا بغمر فشربوا حتى رووا وبقي الشراب كأنه لم يمس ولم يشربوا قال ثم قال يا بني عبد المطلب إني بعثت إليكم بخاصة وإلى الناس بعامة وقد رأيتم من هذا الأمر ما قد رأيتم فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي فلم يقم إليه أحد فقمت إليه وكنت أصغر القوم قال فقال اجلس قال ثم قال ثلاث مرات كل ذلك أقوم إليه فيقول لي اجلس حتى كان في الثالثة فضرب بيده على يدي قال فبذلك ورثت ابن عمي دون عمي.

ومن المؤسف أن يروي الدكتور هيكل في كتابه واقعة الدار بصورة مبتورة وناقصة كما يلي:

ص: 206

لما نزل قول الله تبارك وتعالى ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)﴾ دعا

محمد صلی الله علیه و آله و سلم و عشيرته وقومه إلى طعام في بيته وحاول أن يدعوهم إلى الله فقطع عمه أبو لهب حديثه واستنفر القوم ليقوموا.

ثم دعاهم محمد صلی الله علیه و آله و سلم في الغداة مرة أخرى فلما طعموا قال لهم: ما أعلم إنساناً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئت به جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني ربي أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على هذا الأمر؟ فأعرضوا عنه وهموا بتركه لكن عليًّا نهض وهو ما يزال صبياً دون الحلم وقال أنا يا رسول الله عونك أنا حرب على من حاربت فابتسم بنو هاشم وقهقه بعضهم وجعل نظرهم ينتقل من أبي طالب إلى ابنه ثم انصرفوا مستهزئين (1) .

ص: 207


1- د/ محمد حسین هیکل مرجع سابق، ص 46.

ص: 208

الهجرة

يقول أمير المؤمنين:

فَمِنَ الْإِيمَانِ مَا يَكُونُ ثَابِتاً مُسْتَقِرّاً فِي الْقُلُوبِ وَ مِنْهُ مَا يَكُونُ عَوَارِيَّ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَ الصُّدُورِ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، فَإِذَا كَانَتْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ مِنْ أَحَدٍ فَقِفُوهُ حَتَّى يَحْضُرَهُ الْمَوْتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقَعُ حَدُّ الْبَرَاءَةِ.

وَ الْهِجْرَةُ قَائِمَةٌ عَلَى حَدِّهَا الْأَوَّلِ مَا كَانَ لِلَّهِ تعالی فِي أَهْلِ الْأَرْضِ حَاجَةٌ مِنْ مُسْتَسِرِّ الْإِمَّةِ وَ مُعْلِنِهَا. لَا يَقَعُ اسْمُ الْهِجْرَةِ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ الْحُجَّةِ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ عَرَفَهَا وَ أَقَرَّ بِهَا فَهُوَ مُهَاجِرٌ، وَ لَا يَقَعُ اسْمُ الِاسْتِضْعَافِ عَلَى مَنْ بَلَغَتْهُ الْحُجَّةُ فَسَمِعَتْهَا أُذُنُهُ وَ وَعَاهَا قَلْبُهُ.

إِنَّ أَمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ، لَا يَحْمِلُهُ إِلَّا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ وَ لَا يَعِي حَدِيثَنَا إِلَّا صُدُورٌ أَمِينَةٌ وَ أَحْلَامٌ رَزِينَةٌ.

أَيُّهَا النَّاسُ سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَلَأَنَا بِطُرُقِ السَّمَاءِ أَعْلَمُ مِنِّي بِطُرُقِ الْأَرْضِ، قَبْلَ أَنْ تَشْغَرَ بِرِجْلِهَا فِتْنَةٌ تَطَأُ فِي خِطَامِهَا وَ تَذْهَبُ بِأَحْلَامِ قَوْمِهَا (1).

أَلَا وَ إِنَّكُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ وَ ثَلَمْتُمْ حِصْنَ اللَّهِ الْمَضْرُوبَ عَلَيْكُمْ بِأَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ امْتَنَ عَلَى جَمَاعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِيمَا عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هَذِهِ الْأُلْفَةِ الَّتِي يَنْتَقِلُونَ فِي

ص: 209


1- نهج البلاغة خطبة 189.

ظِلِّهَا وَ يَأْوُونَ إِلَى كَنَفِهَا بِنِعْمَةٍ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لَهَا قِيمَةً لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ وَ أَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ.

وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً وَ بَعْدَ الْمُوَالاةِ أَحْزَاباً، مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِاسْمِهِ وَ لَا تَعْرِفُونَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا رَسْمَهُ؛ تَقُولُونَ النَّارَ وَ لَا الْعَارَ، كَأَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُكْفِئُوا الْإِسْلَامَ عَلَى وَجْهِهِ انْتِهَاكاً لِحَرِيمِهِ وَ نَقْضاً لِمِيثَاقِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ لَكُمْ حَرَماً فِي أَرْضِهِ وَ أَمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ.

وَ إِنَّكُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَى غَيْرِهِ حَارَبَكُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ ثُمَّ لَا جَبْرَائِيلُ وَ لَا مِيكَائِيلُ وَ لَا مُهَاجِرُونَ وَ لَا أَنْصَارٌ يَنْصُرُونَكُمْ إِلَّا الْمُقَارَعَةَ بِالسَّيْفِ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَكُمْ.

وَ إِنَّ عِنْدَكُمُ الْأَمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ قَوَارِعِهِ وَ أَيَّامِهِ وَ وَقَائِعِهِ، فَلَا تَسْتَبْطِئُوا وَعِيدَهُ جَهْلًا بِأَخْذِهِ وَ تَهَاوُناً بِبَطْشِهِ وَ يَأْساً مِنْ بَأْسِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ الْقَرْنَ الْمَاضِيَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ إِلَّا لِتَرْكِهِمُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَلَعَنَ اللَّهُ السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ الْمَعَاصِي وَ الْحُلَمَاءَ لِتَرْكِ التَّنَاهِي! (1).

المفهوم الحقيقي للهجرة

يقدم لنا الإمام علیه السلام في هذه الكلمات المفهوم الحقيقي للهجرة وهو مفهوم يتجاوز الانتقال المكاني من مكة إلى المدينة لتحقيق الأمن الذاتي للفرد المسلم أو للجماعة المسلمة والفرار من اضطهاد القوى الظالمة.

الهجرة الحقيقية إلى الله ورسوله لا تتحقق إلا من خلال معرفة الحجة الإلهية على الخلق أجمعين الذي كان يومها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ومن بعده إمام الأمة من آل محمد صلی الله علیه و آله و سلم.

ص: 210


1- نهج البلاغة خطبة 192.

لقد تحقق مفهوم الهجرة يومها بانتقال جماعة المهاجرين من مكة إلى المدينة المنورة والالتفاف حول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حجة الله على خلقه حيث تكونت اللبنة الأولى للمجتمع المسلم ومن ثم فقد وقع عليهم اسْمُ الْهِجْرَةِ بِمَعْرِفَةِ الْحُجَّةِ في الأَرْضِ والإقرار بها وهو رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والإمام من بعده ومن فعل هذا التزاماً بطاعة رسول الله وحجته على العالمين فَهُوَ مُهَاجِرٌ إلى الله ورسوله وهو وصف يقابل وصف الاستضعاف الذي لَا ينطبق عَلَى مَنْ بَلَغَتْهُ الْحُجَّةُ فَسَمِعَتْهَا أُذُنُهُ وَوَعَاهَا قَلْبُهُ أو بلغته فلم يعِ شيئاً كحال أغلب المسلمين الآن.

الاستضعاف الذي يتحدث عنه الإمام علي هو تلك الحالة التي تعيشها الآن الكثرة الغالبة من أبناء الأمة الإسلامية الذين لا يعرفون من الإسلام سوى تلك الصور والقشور التي يقدمها لهم زبانية الإسلام الأموي من أصحاب الخطب الخشبية الطنانة الرنانة فاقدة الروح والمعنى لفقدانها كل صلة وارتباط بمنهل الإسلام العذب الصافي إسلام أهل بيت العصمة والنبوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً وعلى رأسهم من دون أدنى شك إمام الأمة وحجة الله على خلقه ومعرفة الإمام هنا تمثل ضمانة حقيقية تمنع سقوط المرء المسلم في براثن الدجالين المتاجرين بالدين والمحرفين الكلم عن مواضعه.

وبالتالي فالمستضعف الحقيقي لا يمكن أن يكون ذلك الإنسان المعذب الثابت على دينه الحق بل هو الواقع في براثن هؤلاء الدجالين الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار والذين قادوا المسلمين طيلة هذه القرون من هزيمة إلى هزيمة ومن نكسة إلى مصيبة و هم مصرون على نهجهم في تضليل المسلمين وخلط الحق بالباطل وكتمان الحق وتقديم دائهم العياء في صورة الدواء الشافي من كل داء.

الهجرة ما زالت قائمة على حدها الأول انتقالاً من طاعة

ص: 211

الطواغيت والأصنام البشرية المنصوبة للصد عن سبيل الله إلى طاعة إمام الحق وهي حالة مستمرة ومتواصلة ما كان لله في أهل الأرض من حاجة من مستسر الأمة أو المعلن بإيمانه جاهراً بالحق لا يخاف لومة لائم ولا عذل عاذل ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)﴾ [الرعد: 10 - 11].

والمستسر هنا هو الإمام الغائب المنتظر أي إلى ما قبل قيام الساعة فمن عرف إمام زمانه فهو ليس بمستضعف.

إن هذه الآية من سورة الرعد تنبهنا إلى أن الصراع بين الحق والباطل والإيمان والنفاق هو صراع دائم ومستمر ويمكن أن يأخذ صوراً وأشكالاً متنوعة يضطر خلالها قادة الإيمان إلى إسرار القول أو التخفي بالليل بينما يتبجح المبطلون بأباطيلهم ويروجونها في وضح النهار وعبر وسائل الإعلام والإعلان ولا شك أن الضحية الأولى في هذا الصراع هم أولئك المستضعفون المغلوبون على أمرهم وعقولهم.

﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)﴾ [النساء 97 - 100]

الهجرة فضلاً عن كونها تحركاً وتوجهاً إلى الله ورسوله وارتباطاً ثابتاً بقيادة الأمة الشرعية تنشئ المجتمع المسلم الحقيقي الذي يلتف

ص: 212

حول القيادة الشرعية المسددة من السماء وليس تلك القيادات التي وصفناها سابقاً وهو المجتمع الذي يترابط برباط الألفة والولاية ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ وهي نعمة كما وصفها الإمام لا يمكن تثمينها أو إدراك قيمتها الحقيقية وهي ليست ألفة مصنوعة بل ألفة المؤمنين الملتفين حول إيمانهم وطاعة رسولهم وإمامهم الواثقين من أن خطوهم هو في سبيل الله ومرضاته.

إنها الحالة التي رسمت معالمها آيات آخر سورة الأنفال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۚ وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَٰئِكَ مِنْكُمْ ۚ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)﴾ [72 - 75]

يقول الشيخ الطوسي في تفسيره التبيان:

أخبر الله تعالى في هذه الآية عن أحوال المؤمنين الذين هاجروا من مكة إلى المدينة بقوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وعن أحوال الأنصار بقوله: ﴿وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا﴾ يعني النبي صلی الله علیه و آله و سلم ثم قال ﴿أُولَٰئِكَ﴾ يعني المهاجرين والأنصار ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ والهجرة فراق الوطن إلى غيره من البلاد فراراً من المفتنين في الدين لأنهم هجروا دار الكفار إلى دار الإسلام والجهاد تحمل المشاق في قتال أعداء الدين جاهد جهاداً وجهده الأمر جهداً واجتهد اجتهاداً

ص: 213

وجاهد مجاهدة والإيواء ضم الإنسان صاحبه إليه بإنزاله عنده وتقريبه له تقول آواه يؤويه إيواء وآوى يأوي آوياً وأويت معناه رجعت إلى المأوى والولاية عقد النصرة للموافقة في الديانة.

ثم أخبر الله تعالى عن الذين آمنوا ولم يهاجروا من مكة إلى المدينة فقال: ﴿ ... وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ وقيل في معناه قولان أحدهما ولاية القرابة نفاها عنهم لأنهم كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة دون الرحم في قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وعن أبي جعفر علیه السلام لأنهم كانوا يتوارثون بالمؤاخاة الأولى.

الثاني أنه نفى الولاية التي يكونون بها يداً واحدة في الحل والعقد فنفى عن هؤلاء ما أثبته للأولين حتى يهاجروا ثم قال: ﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ﴾ أي طلبوا نصركم ﴿في الدين﴾ يعني الذين آمنوا ولم يهاجروا ﴿فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾ أي نصرهم بسبب الإيمان الذي يجب عليكم أن تنصروهم على الكفار ﴿إلّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُم﴾ وبينهم ميثاق يعني موادعة ومهادنة تقتضيه من جهة أن عقدهم بخلاف عقدهم (1).

لقد انقضت الهجرة المكانية وبقيت هجرة الموالاة والالتفاف حول إمام الحق والزمان من آل محمد صلی الله علیه و آله و سلم وهو الآن المهدي المنتظر الذي سيملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.

تلك الهجرة والموالاة التي نقضها القوم عندما نقضوا ميثاقهم الذي واثقوا به رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يوم غدير خم فصاروا بعد الهجرة أعراباً وبعد الموالاة أي الاصطفاف خلف راية رسول الله ووصيه ووارثه من بعده علي بن أبي طالب أحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون.

فذرهم في غمرتهم حتى حين. .

ص: 214


1- الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، 3/261.

زهد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في الدنيا

يقول الإمام عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم:

قَدْ حَقَّرَ الدُّنْيَا وَ صَغَّرَهَا وَ أَهْوَنَ بِهَا وَ هَوَّنَهَا وَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تعالی زَوَاهَا عَنْهُ اخْتِيَاراً وَ بَسَطَهَا لِغَيْرِهِ احْتِقَاراً فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ وَ أَمَاتَ ذِكْرَهَا عَنْ نَفْسِهِ وَ أَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ لِكَيْلَا يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً أَوْ يَرْجُوَ فِيهَا مَقَاماً (1).

وَ لَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللَّهِ كَافٍ لَكَ فِي الْأُسْوَةِ، وَ دَلِيلٌ لَكَ عَلَى ذَمِّ الدُّنْيَا وَ عَيْبِهَا وَ كَثْرَةِ مَخَازِيهَا وَ مَسَاوِيهَا، إِذْ قُبِضَتْ عَنْهُ أَطْرَافُهَا وَ وُطِّئَتْ لِغَيْرِهِ أَكْنَافُهَا وَ فُطِمَ عَنْ رَضَاعِهَا وَ زُوِيَ عَنْ زَخَارِفِهَا.

وَ إِنْ شِئْتَ ثَنَّيْتُ بِمُوسَى كَلِيمِ اللَّهِ علیه السلام، حَيْثُ يَقُولُ ﴿رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)﴾، وَ اللَّهِ مَا سَأَلَهُ إِلَّا خُبْزاً يَأْكُلُهُ، لِأَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ بَقْلَةَ الْأَرْضِ وَ لَقَدْ كَانَتْ خُضْرَةُ الْبَقْلِ، تُرَى مِنْ شَفِيفِ صِفَاقِ بَطْنِهِ لِهُزَالِهِ وَ تَشَذُّبِ لَحْمِهِ.

وَ إِنْ شِئْتَ ثَلَّثْتُ بِدَاوُدَ صَاحِبِ الْمَزَامِيرِ وَ قَارِئِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلَقَدْ كَانَ يَعْمَلُ سَفَائِفَ الْخُوصِ بِيَدِهِ وَ يَقُولُ لِجُلَسَائِهِ أَيُّكُمْ يَكْفِينِي بَيْعَهَا! وَ يَأْكُلُ قُرْصَ الشَّعِيرِ مِنْ ثَمَنِهَا.

ص: 215


1- نهج البلاغة، خطبة رقم 109.

وَ إِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ علیه السلام، فَلَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْحَجَرَ وَ يَلْبَسُ الْخَشِنَ وَ يَأْكُلُ الْجَشِبَ، وَ كَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ وَ سِرَاجُهُ بِاللَّيْلِ الْقَمَرَ وَ ظِلَالُهُ فِي الشِّتَاءِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغَارِبَهَا وَ فَاكِهَتُهُ وَ رَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ، وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ وَ لَا وَلَدٌ يَحْزُنُهُ وَ لَا مَالٌ يَلْفِتُهُ وَ لَا طَمَعٌ يُذِلُّهُ، دَابَّتُهُ رِجْلَاهُ وَ خَادِمُهُ يَدَاهُ!

فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الْأَطْيَبِ الْأَطْهَرِ صلی الله علیه و آله و سلم، فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى وَ عَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى، - وَ أَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ وَ الْمُقْتَصُّ لِأَثَرِهِ - قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً وَ لَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً، أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً وَ أَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً. عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا وَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَهُ وَ حَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَهُ وَ صَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَهُ. وَ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِينَا إِلَّا حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ تَعْظِيمُنَا مَا صَغَّرَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ لَكَفَى بِهِ شِقَاقاً لِلَّهِ وَ مُحَادَّةً عَنْ أَمْرِ اللَّهِ.

وَ لَقَدْ كَانَ ﴿صلی الله علیه وآله﴾ يَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ وَ يَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ وَ يَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ وَ يَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ وَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ وَ يُرْدِفُ خَلْفَهُ. وَ يَكُونُ السِّتْرُ عَلَى بَابِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ التَّصَاوِيرُ، فَيَقُولُ يَا فُلَانَةُ - لِإِحْدَى أَزْوَاجِهِ - غَيِّبِيهِ عَنِّي، فَإِنِّي إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا وَ زَخَارِفَهَا.

فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ وَ أَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ وَ أَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ لِكَيْلَا يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً وَ لَا يَعْتَقِدَهَا قَرَاراً وَ لَا يَرْجُوَ فِيهَا مُقَاماً، فَأَخْرَجَهَا مِنَ النَّفْسِ وَ أَشْخَصَهَا عَنِ الْقَلْبِ وَ غَيَّبَهَا عَنِ الْبَصَرِ.

وَ كَذَلِكَ مَنْ أَبْغَضَ شَيْئاً أَبْغَضَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ وَ أَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهُ.

ص: 216

وَ لَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللَّهِ مَا يَدُلُّكَ عَلَى مَسَاوِئِ الدُّنْيَا وَ عُيُوبِهَا إِذْ جَاعَ فِيهَا مَعَ خَاصَّتِهِ وَ زُوِيَتْ عَنْهُ زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِيمِ زُلْفَتِهِ.

فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِهِ أَكْرَمَ اللَّهُ مُحَمَّداً ﴿صلی الله علیه وآله﴾ بِذَلِكَ أَمْ أَهَانَهُ؟ فَإِنْ قَالَ أَهَانَهُ فَقَدْ كَذَبَ وَ اللَّهِ الْعَظِيمِ بِالْإِفْكِ الْعَظِيمِ، وَ إِنْ قَالَ أَكْرَمَهُ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهَانَ غَيْرَهُ حَيْثُ بَسَطَ الدُّنْيَا لَهُ وَ زَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ.

فَتَأَسَّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ وَ اقْتَصَّ أَثَرَهُ وَ وَلَجَ مَوْلِجَهُ وَ إِلَّا فَلَا يَأْمَنِ الْهَلَكَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ مُحَمَّداً ﴿صلی الله علیه وآله﴾ عَلَماً لِلسَّاعَةِ وَ مُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ وَ مُنْذِراً بِالْعُقُوبَةِ

خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا خَمِيصاً وَ وَرَدَ الْآخِرَةَ سَلِيماً، لَمْ يَضَعْ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ وَ أَجَابَ دَاعِيَ رَبِّهِ. فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللَّهِ عِنْدَنَا حِينَ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ سَلَفاً نَتَّبِعُهُ وَ قَائِداً نَطَأُ عَقِبَهُ!

وَ اللَّهِ لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي هَذِهِ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا، وَ لَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ أَلَا تَنْبِذُهَا عَنْكَ؟ فَقُلْتُ اغْرُبْ عَنِّي فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى. (1).

﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا ۚ وَإِنْ كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)﴾ [الزخرف 31 - 35]. .

ص: 217


1- المرجع السابق، خطبة 160.

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَٰلِكُمْ ۚ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)﴾ [آل عمران 14 - 17].

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)﴾ [الحديد 20 - 23].

لا حاجة بنا أن نذكر أن مهمة الأنبياء الأولى هي الدعوة إلى عبادة الله الواحد الأحد وزجر الناس عن المعاصي التي تجر إلى سخط الله وحلول نقمته بالخارجين عن ناموسه وشريعته.

ولأن حب الدنيا هو رأس كل خطيئة ولأن الأنبياء ينبغي عليهم أن يقدموا لأمتهم النموذج الأكمل للزهد في الدنيا والرغبة في نعيم الله المقيم نرى أن رسول الله سار على نفس الدرب الذي سار عليه أنبياء الله أجمعين.

درب الزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله جل و علی حيث جَاعَ فِيهَا مَعَ

ص: 218

خَاصَّتِهِ وَ زُوِيَتْ عَنْهُ زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِيمِ زُلْفَتِهِ ثم خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا خَمِيصاً ﴿لم تمتلي بطنه منها﴾ وَ وَرَدَ الْآخِرَةَ سَلِيماً فلَمْ يَضَعْ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ وَ أَجَابَ دَاعِيَ رَبِّهِ.

لقد أَعْرَضَ عَنها صلی الله علیه و آله و سلم الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ وَ أَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ، وَ أَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ، لِكَيْلَا يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً وَ لَا يَتخذ منها مستقراً وَ لَا مُقَاماً فَأَخْرَجَهَا مِنَ النَّفْسِه وَ أَبعدها عَنِ قَلْبِه وَ غَيَّبَهَا عَنِ الْبَصَرِ.

أما موسى علیه السلام فعندما خاطب ربه بقوله ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَى مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)﴾ وَ اللَّهِ مَا سَأَلَهُ إِلَّا خُبْزاً يَأْكُلُهُ، لِأَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ بَقْلَةَ الْأَرْضِ وَ لَقَدْ كَانَتْ خُضْرَةُ الْبَقْلِ، تُرَى مِنْ شَفِيفِ صِفَاقِ بَطْنِهِ لِهُزَالِهِ وَ تَشَذُّبِ لَحْمِهِ.

وأما داود صَاحِبُ الْمَزَامِيرِ، وفَارِئ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَانَ يَعْمَلُ سَفَائِفَ الْخُوصِ بِيَدِهِ، وَيَقُولُ لِجُلَسَانِهِ: أَيُّكُمْ يَكْفِينِي بَيْعَهَا! وَيَأْكُلُ قُرْصَ الشَّعِيرِ مِنْ ثَمَنِهَا.

وأما عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ علیه السلام، فَلَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْحَجَرَ أي يضعه تحت رأسه وَيَلْبَسُ الْخَشِنَ وَكَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ، وَسِرَاجُهُ باللَّيْلِ الْقَمَرَ، وَظِلَالُهُ في الشَّتَاءِ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا وَفَاكِهَتُهُ وَرَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الأرْضُ لِلْبَهَائِم، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ، وَلَا وَلَدٌ يَحْزُنُهُ، وَلَا مَالٌ يَلْفِتُهُ، وَلَا طَمَع يُذِلُّهُ، دَابَّتُهُ رِجْلَاهُ، وَخَادِمُهُ يَدَاهُ!

فبأي حديث بعده يؤمنون؟!

ص: 219

ص: 220

الذين رووا عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم

قال الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام وقد سأله سائل عن أحاديث البدع وعما في أيدي الناس من اختلاف الخبر، فقال علیه السلام: إنَّ فِي أَيْدِي النَّاسِ حَقّاً وَبَاطِلاً، وَصِدْقاً وَكَذِباً، وَنَاسِخاً وَمَنْسُوخاً، وَعَامّاً وَخَاصَّاً وَمُحْكَماً وَمُتَشَابِها وَحِفْظاً وَوَهْماً وَقَدْ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم عَلَى عَهْدِهِ، حَتَّى قَامَ خَطِيباً، فَقَالَ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».

وَإِنَّمَا أَتَاكَ بِالْحَدِيثِ أَرْبَعَةُ رِجَال لَيْسَ لَهُمْ خَامِسٌ:

رَجُلٌ مُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلْإِيمَانِ، مُتَصَنِّعٌ بِالْإِسْلَامِ، لَا يَتَأَثَّمُ وَ لَا يَتَحَرَّجُ، يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﴿صلی الله علیه وآله﴾ مُتَعَمِّداً؛ فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ كَاذِبٌ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ وَ لَمْ يُصَدِّقُوا قَوْلَهُ، وَ لَكِنَّهُمْ قَالُوا: صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ ﴿صلی الله علیه وآله﴾، رَآهُ وَ سَمِعَ مِنْهُ وَ لَقِفَ عَنْهُ، فَيَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ وَ قَدْ أَخْبَرَكَ اللَّهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَخْبَرَكَ وَ وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ لَكَ؛ ثُمَّ بَقُوا بَعْدَهُ علیه السلام فَتَقَرَّبُوا إِلَى أَئِمَّةِ الضَّلَالَةِ وَ الدُّعَاةِ إِلَى النَّارِ بِالزُّورِ وَ الْبُهْتَانِ، فَوَلَّوْهُمُ الْأَعْمَالَ وَ جَعَلُوهُمْ حُكَّاماً عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، وَأَكَلُوا بِهِمُ الدُّنْيَا، وَ إِنَّمَا النَّاسُ مَعَ الْمُلُوكِ وَ الدُّنْيَا إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ، فَهَذَا أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ.

وَ رَجُلٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﴿صلی الله علیه و آله﴾ شَيْئاً لَمْ يَحْفَظْهُ عَلَى وَجْهِهِ فَوَهِمَ فِيهِ وَ لَمْ يَتَعَمَّدْ كَذِباً، فَهُوَ فِي يَدَيْهِ وَ يَرْوِيهِ وَ يَعْمَلُ بِهِ وَ يَقُولُ أَنَا سَمِعْتُهُ

ص: 221

مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﴿صلی الله علیه و آله﴾، فَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ وَهِمَ فِيهِ لَمْ يَقْبَلُوهُ مِنْهُ وَ لَوْ عَلِمَ هُوَ أَنَّهُ كَذَلِكَ لَرَفَضَهُ!

وَ رَجُلٌ ثَالِثٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﴿صلی الله علیه و آله﴾ شَيْئاً يَأْمُرُ بِهِ ثُمَّ نَهَى عَنْهُ وَ هُوَ لَا يَعْلَمُ، أَوْ سَمِعَهُ يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ وَ هُوَ لَا يَعْلَمُ، فَحَفِظَ الْمَنْسُوخَ وَ لَمْ يَحْفَظِ النَّاسِخَ؛ فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضَهُ وَ لَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ إِذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضُوهُ.

وَآخَرُ رَابِعُ، لَمْ يَكْذِبُ عَلَى اللهِ، وَلَا عَلَى رَسُولِهِ، مُبْغِضٌ لِلْكَذِبِ، خَوْفاً لله، وَتَعْظيماً لِرَسُولِ اللهِ، وَلَمْ يَهِمْ، بَلْ حَفْظَ مَا سَمِعَ عَلَى وَجْهِهِ، فَجَاءَ بِهِ عَلَى مَا سَمِعَهُ لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ، وَحَفِظَ النَّاسِخَ فَعَمِلَ بِهِ وَحَفِظَ الْمَنْسُوخَ فَجَنَّبَ عَنْهُ وَعَرَفَ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ فَوَضَعَ كُلَّ شَيْء مَوْضِعَهُ، وَعَرفَ المُتَشَابِه وَمُحْكَمَهُ.

وَقَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم الكَلَامُ لَهُ وَجْهَانِ: فَكَلامٌ خاصٌّ، وَكَلامٌ عَامٌ، فَيَسْمَعُهُ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَا عَنّى اللهُ بِهِ، وَلَا مَا عَنَى بِهِ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم فَيَحْمِلُهُ السَّامِعُ، وَيُوَجُهُهُ عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَة بِمَعْنَاهُ، وَمَا قُصِدَ بِهِ، وَمَا خَرَجَ مِنْ أَجْلِهِ، وَلَيْسَ كُلُّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم مَنْ كَانَ يَسْأَلُهُ وَيَسْتَفْهِمُهُ، حَتَّى إِنْ كَانُوا لَيُحِبُّونَ أَنْ يَجِيء الأعرابي أو الطارئ، فَيَسأَلَهُ علیه السلام حَتَّى يَسْمَعُوا وَكَانَ لَا يَمُرُّ بِي مِنْ ذلِكَ شَيْءٌ إِلَّا سَأَلْتُ عَنْهُ وَحَفِظْتُه.

فَهَذِهِ وَجُوهُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فِي اخْتِلَافِهِمْ، وَعِلَلِهِمْ فِي رِوَايَاتِهِمْ (1).

الآن يقول الناس قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من دون تأثم ولا تحرج فيروون الشيء ونقيضه ولا يرون بذلك بأساً ويروون ما يناقض كتاب الله 0

ص: 222


1- نهج البلاغة خطبة 210

وشعارهم ﴿ارو ولا حرج ... قل قال رسول الله ولا تلق بالاً لما ترويه ولا عمن تروي﴾ وهم يرون أن البخاري هو أصح الكتب بعد كتاب الله جل و علی ولا أدري من أين جاءتهم كل هذه الثقة المفرطة؟

أكتب هذه السطور والقوم يحتفلون بذكرى عاشوراء ذكرى انتصار الحق على الباطل في عالمهم الوهمي الذي يصرون على العيش فيه ولو تأملوا فيما رواه البخاري ﴿أصح الكتب بعد كتاب الله؟!﴾ لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً بما يقطع أن ليس كل ما في هذا الكتاب هو من عند الله أو من عند رسوله.

يقول البخاري: إن النبي صلی الله علیه و آله و سلم لما قدم المدينة رأى اليهود تصوم يوم عاشوراء ﴿فقال ما هذا؟ قالوا هذا يوم صالح هذا يوم نجی الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى قال فأنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه﴾!

إن هذه الرواية التي تقرر أن بدء صوم يوم عاشوراء كان في

المدينة عندما رأى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم اليهود تصومه فصامه اقتداء بهم تنقضها رواية أخرى رواها البخاري نفسه وهي الأقرب للصواب ﴿كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يصومه فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه.﴾

وعلى القوم أن يختاروا إحدى الروايتين ليتسنى لنا القبول بصحة البخاري من الأصل صل فضلاً عن كونه أصح عن كونه أصح الكتب بعد كتاب الله كما يزعم القوم.

إنها عقلية الرواية وليست عقلية الدراية التي وصفها علیه السلام بقوله:

ص: 223

اعْقِلُوا الْخَبَرَ إِذَا سَمِعْتُمُوهُ عَقْلَ رِعَايَة لَا عَقْلَ رِوَايَة، فَإِنَّ رُوَاةَ الْعِلْمِ كَثِيرٌ، وَرُعَاتَهُ قَلِيلٌ (1).

أما لماذا تغاضى القوم عن الدراية والتأمل وإعمال العقل والنظر في الروايات فالعقل الصحيح لا يستسيغ الجمع بين النقيضين أي بين تلك الروايات المتضاربة مقابل الهوى والرغبة في ملء تلك المساحات الفارغة من أجل إقناع العوام بصحة الطريقة التي يأخذون الدين بها عن تلك الأصناف التي قام الإمام بتعيينها في كلماته النورانية التي كان يفترض أن تشكل الأساس لما عرف بعد هذا بعلم الحديث.

أما وقد أعرض القوم عن خلفاء رسول الله من أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ذلك التطهير الذي يحول دون قيامهم بالَكْذِبْ عَلَى اللهِ، وَرَسُولِهِ خَوْفاً من الله وَتَعظيماً لِرَسُولِ اللهِ، كما أنهم سلام الله عليهم يؤمن وقوع الوَهِمُ منهم فقد حَفَظُوا ما سمعوه من رسول الله عَلَى وَجْهِهِ، ونقلوه عَلَى مَا سَمِعَوهُ من دون زيادة ولا نقصان وَحَفِظَوا النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ فَجَنَّبُوا عَنْهُ وَعَرَفُوا الْخَاصَّ وَالْعَامَّ والمحكم والمتشابه ووضعوا كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعَه.

لقد وجد القوم أنفسهم مضطرين للاستمرار في ممارسة الكذب بهدف إيجاد البديل الذي يسد هذا الفراغ الخطير والكبير الناجم عن تغييب المرجعية الدينية الأصلية للأمة الإسلامية.

أن يؤكد الإمام على وجود هذه الأصناف الثلاثة التي قامت بخلط علوم ومعارف رسول الله ولبست على الأمة أمر دينها وأولها المنافق المكلف بالوضع المتعمد للكذب على رسول الله من أجل إرضاء 2.

ص: 224


1- نهج البلاغة، حكمة 92.

المتسلطين على رقاب المسلمين وثانيها ضعيف الحفظ محدود القدرة والإمكانات الذهنية التي تؤهله للقيام بالنقل الصحيح عن رسول الله وأخيراً محدود العلم وليس محدود الحفظ والذي صُدر فتصدر في صدر المجلس فأخذ يفتي ويجادل من غير علم ولا هدى ولا كتاب منير وكلها كوارث ابتليت بها الأمة وها هي تحصد آثارها الآن كوارث وهزات ارتدادية تضرب الأمة في كيانها الاجتماعي والسياسي والفقهي والأخلاقي.

ورغم أن وجود المنافقين ودورهم القذر في إشعال الفتن والأزمات على عهد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لا يحتاج إلى بينة ولا دليل ورغم أن القرآن حكى عنهم وعن جرائمهم مثلما حكى عن بني إسرائيل إلا أن المدرسة المتغلبة على فضاء الفكر الإسلامي أسقطت ذكرهم بصورة تامة من كتبها وأسبغت على كل من شهد رسول الله أو سمع منه ولو لمرة واحدة صفة الصحابي الجليل ووصفت كل من ذكر التاريخ الإسلامي من دون مدح ولا تبجيل بسوء الأدب واعتبرته ممن يسبون الصحابة من دون حاجة إلى فرز أو تمييز بين المنافق مدعي الإيمان باللسان والمجاهد المضحي في سبيل الله بالنفس والمال ورغم أن سيرة الكثير منهم ممن بَقُوا بعد رسول الله ﴿فَتَقرَّبُوا إِلَى أَئِمَّةِ الضَّلَالَةِ وَالدُّعَاةِ إِلَى النَّارِ بِالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ فَوَلَّوهُمُ الأعمال وَجَعَلُوهُمْ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ وَأَكَلُوا بِهِمُ الدُّنْيَا لأن النَّاسِ مَعَ الْمُلُوكِ وَالدُّنْيَا إِلَّا مَنْ عَصَمَ الله﴾ معروفة ومدونة ويكفي أن نرى اسم أحدهم والياً من قبل بني أمية على مدينة رسول الله أو على ﴿كوفة﴾ علي بن أبي طالب لنعرف أي نوع من الرجال يروي عن رسول الله وإلى أي صنف من هذه الأصناف الثلاثة ينتمي هذا المحدث عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟

ص: 225

أمية الرسول المزعومة

هل كان رسول الله أمياً لا يقرأ ولا يكتب؟

إنها إحدى مفردات الوعي الثقافي الإسلامي القديم والمعاصر التي تتحدى كل محاولات التغيير والتعديل وربما يراها البعض إحدى ثوابت الأمة العقائدية التي يسعى ﴿أعداء الإسلام لزعزعتها في نفوس أهل الإيمان!﴾

وبينما يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في خطبته المشار إليها سابقاً: ﴿وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ تَعَالَى بِهِ صلی الله علیه و آله وسلم مِذْ كَانَ فَظِيماً أَعْظَمَ مَلَك مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ وَمَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ، لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتَّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْم عَلَماً مِنْ أخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالاقْتِدَاءِ بِهِ﴾، وإذا كان الإمام الفخر الرازي يقول ﴿وإذا كان هذا علم الولي فما بالك بعلم النبي؟﴾ أي أن علم علي جاء من علم محمد تعليماً وتربية هذا أي محمد صلی الله علیه و آله وسلم يتلقى العلم و وحياً من عند الله وذاك يتلقاه مباشرة من رسول الله من دون واسطة ولا نقل عن طرف ثالث فكيف يكون محمد صلی الله علیه و آله وسلم جاهلاً بالحروف و الكلمات؟

أما أصل الفرية فهو معاوية بن أبي سفيان رأس الفتنة وأحد أهم أسباب البلاء الذي نزل بهذه الأمة حيث ينقل ابن أبي الحديد عن الواقدي أن معاوية لما عاد من العراق إلى الشام بعد بيعة الحسن واجتماع الناس إليه خطب فقال: أيها الناس إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال لي إنك ستلي الخلافة من بعدي فاختر الأرض المقدسة فإن فيها الأبدال وقد اخترتكم فالعنوا أبا تراب فلعنوه فلما كان من الغد كتب كتاباً ثم جمعهم فقرأه عليهم وفيه هذا كتاب كتبه أمير المؤمنين معاوية صاحب وحي الله الذي بعث محمداً نبياً وكان أمياً لا يقرأ ولا يكتب فاصطفى له

ص: 226

من أهله وزيراً كاتباً أميناً فكان الوحي ينزل على محمد وأنا أكتبه وهو لا يعلم ما أكتب فلم يكن بيني وبين الله أحد من خلقه فقال له الحاضرون كلهم صدقت يا أمير المؤمنين (1) .

والهدف لا يخفى على اللبيب وهو الادعاء بوجود تلك الطبقة المزعومة من ﴿أمناء الوحي﴾ الذين لولاهم ما وصل إلينا كتاب الله جل و علی والفرية لا تكتمل إلا بالادعاء أن ابن آكلة الأكباد كان يكتب القرآن وأن محمداً لم يكن يعلم ما يكتبه ذلك الأموي البغيض!

أما متى كتب ابن آكلة الأكباد الوحي وهو لم يدع الإسلام إلا بعد فتح مكة أي في ختام مرحلة النبوة ولماذا احتاج القوم بعد ذلك إلى جمع القرآن من صدور الرجال بدلاً من اللجوء إلى مدونات ابن أبي سفيان ﴿أمين الوحي﴾ فهذا ما لا يكترث أحد لتحقيقه و التثبت منه.

معنى كلمة أمي:

وردت كلمة النبي الأمي في سورة الأعراف الآية 157 ﴿النَّبِيِّ الأمِّيَّ﴾ حيث يقول القرطبي: ﴿الأمي﴾ أي المنسوب إلى الأمة الأمية، التي هي على أصل ولادتها، لم تتعلم الكتابة ولا القراءة وقيل: نسب النبي صلی الله علیه و آله وسلم إلى مكة أم القرى ذكره النحاس.

ثم انتقل القرطبي إلى تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ﴾ وذكر قصة صلح الحديبية واعتراض كفار قريش على كلمة ﴿محمد رسول الله﴾ وأمره صلی الله علیه و آله وسلم لعلي بمحوها فمحاها وكتب ابن عبد الله ﴿قال علماؤنا رحمهم الله ﴿والكلام للقرطبي﴾: وظاهر هذا

ص: 227


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. ج 1 ص 361 طبعة دار الأندلس 1983.

أنه محا تلك الكلمة التي هي رسول الله بيده وكتب مكانها ابن عبد الله وقد رواه البخاري بأظهر من هذا فقال: فأخذ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم الكتاب فكتب وذكر القاضي عياض عن معاوية أنه كان يكتب بين يدي النبي صلی الله علیه و آله و سلم فقال له: الق الدواة وحرف القلم وأقم الباء وفرق السين ولا تُعور الميم وحسن الله ومد الرحمن وجود الرحيم قال القاضي: وهذا وإن لم تصح الرواية أنه صلی الله علیه و آله وسلم كتب فلا يبعد أن يرزق علم هذا ويمنع القراءة والكتابة﴾ (1).

رواية البخاري التي تؤكد أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم كان يكتب بيديه الكريمتين

(2552) - حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء رضِ الله عنهم قال: اعتمر النبي صلی الله علیه و آله وسلم في ذي القعدة فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فقالوا: لا نقر بها، فلو تعلم أنك رسول الله ما منعناك، لكن أنت محمد بن عبد الله قال: ﴿أنا رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله﴾. ثم قال لعلي ﴿امح: رسول الله﴾ قال: لا والله لا أمحوك أبداً، فأخذ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم الكتاب، فكتب: ﴿هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله لا يدخل مكة سلاح إلا في القراب، وأن لا يخرج من أهلها بأحد إن أراد أن يتبعه وأن لا يمنع أحداً من أصحابه أراد أن يقيم بها﴾. فلما دخلها ومضى الأجل أتوا عليّا فقالوا: قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل، فخرج النبي صلی الله علیه و آله وسلم فتبعتهم ابنة حمزة: يا عم يا عم ، فتناولها

علي، فأخذها بيدها، وقال الفاطمة =، وقال لفاطمة دونك ابنة عمك احمليها فاختصم فيها علي وزيد وجعفر، فقال علي أنا أحق بها وهي ابنة .

ص: 228


1- الطبري، الجامع لأحكام القرآن، 214 - 5/215.

عمي، وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي وقال زيد: ابنة أخي فقضى بها النبي صلی الله علیه و آله وسلم لخالتها وقال ﴿الخالة بمنزلة الأم﴾ وقال لعلي: ﴿أنت مني وأنا منك.﴾ وقال لجعفر: ﴿أشبهت خلقي وخلقي﴾. وقال لزيد: ﴿أنت أخونا ومولانا﴾.

هذا ما ذكره القرطبي حول هذه المسألة الخلافية التي تعددت فيها الآراء والروايات ما بين مثبت لقراءته وكتابته صلوات الله عليه وبين من ينفي هذا تمسكاً بفهم مختلف عليه لنص قرآني يحتمل عدة معان! يقول الراغب الأصفهاني في كتابه ﴿المفردات﴾ (1) في معنى كلمة أمي: يقال لكل ما كان أصلاً لوجود أي شيء أو تربيته أو إصلاحه أو مبدأه أم ثم تحدث عن معنى النبي الأمي قيل منسوب إلى الأمة الذين لم يكتبوا كان على عادتهم كقولك عامي لكونه على عادة العامة وقيل سمي بذلك لأنه لم يكن يكتب ولا يقرأ .

إذاً فالقول بأن كلمة أمي الواردة في كتاب الله لا تعني بالضرورة جهلاً بالقراءة أو الكتابة وأنها إما نسبة إلى ﴿أم القرى﴾ أو نسبة ﴿للأميين أي العرب﴾ ليست بدعاً ولا ابتكاراً من كاتب الكتاب الذي قرر السيد الشاعر مهاجمته والقضاء عليه واستنفار الطاقات والهمم العلمية الأزهرية لإثبات عجز رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عن القراءة والكتابة في حين يتحدث الأستاذ بسبعة ألسن ويذيع من ست قنوات أرضية وفضائية!

من أين جاءت فرية أمية رسول الله؟

نحن ممن يؤمن بأن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مثل قمة الكمال البشري وعلى .

ص: 229


1- معجم مفردات القرآن ص 18. ط دار الكتاب العربي بيروت 1972. تحقیق ندیم مرعشلي.

رأس هذا الكمال العلم ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة 129]

وأن علم النبوة لم يكن علماً اكتسبه من البشر وكذا علم جميع الأنبياء وإلا فكيف خاطب عيسى الناس من مهده قائلاً ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ إلا أن هذا لم يعجب الكفار والمنافقين الذين رد عليهم ربنا بقوله ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل 103] وقوله ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [العنكبوت 48]. والذين حاولوا واخترعوا لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أستاذاً للوحي هو الراهب النصراني ورقة بن نوفل وكنا نتمنى على المدافعين عن فرية أمية النبي دفاعاً عن الإسلام بزعمهم أن يشهروا سيوفهم رداً على افتراءات هؤلاء لا أن يدعمها من حيث لا يدري.

لم يكف هؤلاء قديماً وحديثاً عن تكرار هذا الافتراء والأذى لمقام النبوة الخاتمة ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ (61)﴾ ثم وجدت هذه الافتراءات طريقها إلى ما يسمى بالصحاح ومنها إلى كتابات المستشرقين والمبشرين وأين أنت يا شاعر من الرد عليهم؟!

إنها الرواية التي تقول ﴿ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيْ - وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخُو أَبِيهَا، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ فَيَكْتُبُ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنَ الإِنْجِيلِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ - فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ أَي ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ وَرَقَةُ ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صلی الله علیه و آله وسلم مَا رَأَى فَقَالَ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا أَكُونُ حَيَّا، حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ

ص: 230

اللَّهِ صلی الله علیه و آله وسلم «أَو مُخْرِجِيَّ هُمْ؟». فَقَالَ وَرَقَهُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنشَبْ وَرَقَةُ أنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الْوَحْي فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ صلی الله علیه و آله و سلم فِيمَا بَلَغَنَا حُزْنًا غَدًا مِنْهُ مِرَارًا كَي يَتَرَدَّى مِنْ رُؤُوسِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ مِنْهُ نَفْسَهُ، تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا. فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَاشُهُ وَتَقِرُّ نَفْسُهُ فَيَرْجِعُ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْي غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ﴾. والرواية موجودة بتمامها في البخاري والتي أراد البعض أن يجعل منها أصلاً نصرانياً للرسالة الإسلامية ونحن نعتقد ببطلان هذه الرواية وفسادها من جذورها.

وإذاً فليس في القرآن ولا في السنة الصحيحة ما يؤيد ما ذهب إليه المتشبثون برأيهم عن أمية النبي وكل ما جاء في كتاب الله عن رسول الله من نفي للكتابة أو التعلم من البشر إنما هو نفي لبشرية الرسالة الإسلامية وإثبات لاتصالها المباشر بالوحي الإلهي الصافي الذي ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)﴾

موقف أئمة أهل البيت علیهم السلام

روى صاحب علل الشرائع عن جعفر بن محمد الصوفي قال سألت أبا جعفر محمد بن علي الرضا علیهم السلام فقلت يا بن رسول الله لِمَ سمي النبي الأمي؟ فقال ما يقول الناس؟ قلت يزعمون أنه إنما سمي الأمي لأنه لم يحسن أن يكتب فقال كذبوا أنَّى ذلك والله يقول في محكم كتابه فكيف كان يعلمهم ما لا يحسن والله لقد كان رسول يقرأ ويكتب باثنين وسبعين لساناً وإنما سمي الأمى لأنه كان من أهل مكة ومكة من أمهات القرى وذلك قول الله تبارك وتعالى ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ

ص: 231

رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ فكيف كان يعلمهم ما لا يحسن والله لقد كان رسول يقرأ ويكتب باثنين وسبعين لساناً وإنما سمي الأمي لأنه كان من أهل مكة ومكة من أمهات القرى وذلك قول الله تبارك وتعالى ﴿... لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ (1) .

ويبقى أننا ندعو القوم لمراجعة كتب السيرة النبوية وما جاء فيها من أخبار عن عن رسائل رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم التي أرسلها للملوك يدعوهم فيها للإسلام وكل هذه الأخبار وردت بصيغة ﴿كتب رسول الله وقرأ رسول الله﴾ وليجيبونا عن معنى كتب وقرأ؟!

الخلاصة: إنه ليس هناك ثمة إجماع أو حتى شبهة إجماع على هذا الادعاء بأمية رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قراءة أو كتابة عند مفسري أهل السنة ولا محدثيهم وأولهم البخاري الذي أثبت الرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم الكتابة والقراءة وهم الذين اختلفوا حول هذه المسألة فمنهم من أثبت كتابته بيده ومنهم من نفى هذا، أما في مدرسة أهل البيت فالأمر محسوم تماماً نفياً لهذه الأموية اللغوية وإثباتاً لكمال علمه صلوات الله وسلامه عليه بتعليم إلهي لا دخل فيه لبشر كائناً من كان لا من ﴿ورقة﴾ ولا من كتاب وهذا من تمام كماله وأعلام نبوته صلی الله علیه و آله وسلم..

ص: 232


1- الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ص 124 - 125 طبعة دار إحياء التراث العربي.

وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم

يقول الإمام علي :

وَ لَقَدْ عَلِمَ الْمُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﴿صلی الله علیه وآله﴾ أَنِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى اللَّهِ وَ لَا عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ، وَ لَقَدْ وَاسَيْتُهُ بِنَفْسِي فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي تَنْكُصُ فِيهَا الْأَبْطَالُ وَ تَتَأَخَّرُ فِيهَا الْأَقْدَامُ، نَجْدَةً أَكْرَمَنِي اللَّهُ بِهَا.

وَ لَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله وسلم وَ إِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَى صَدْرِي وَ لَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِي كَفِّي، فَأَمْرَرْتُهَا عَلَى وَجْهِي.

وَ لَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَهُ صلی الله علیه و آله وسلم وَ الْمَلَائِكَةُ أَعْوَانِي، ضَجَّتِ الدَّارُ وَ الْأَفْنِيَةُ، مَلَأٌ يَهْبِطُ وَ مَلَأٌ يَعْرُجُ وَ مَا فَارَقَتْ سَمْعِي هَيْنَمَةٌ، مِنْهُمْ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى وَارَيْنَاهُ فِي ضَرِيحِهِ.

فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنِّي حَيّاً وَ مَيِّتاً؟ فَانْفُذُوا عَلَى بَصَائِرِكُمْ وَ لْتَصْدُقْ نِيَّاتُكُمْ فِي جِهَادِ عَدُوِّكُمْ. فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنِّي لَعَلَى جَادَّةِ الْحَقِّ، وَ إِنَّهُمْ لَعَلَى مَزَلَّةِ الْبَاطِلِ. أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَ لَكُمْ! (1)

أما الذين ردوا على رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قوله فمعروف من هم وهم الذين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها يوم الحديبية قائلين ﴿لم نعط الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين عدونا﴾ وهم الذين رفعوا أصواتهم

ص: 233


1- نهج البلاغة، خطبة 197.

فوق صوت النبي وهم أيضاً الذين طلب منهم رسولنا الأكرم أن يأتوه بكتاب يكتب فيه وصيته فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فكان أن مات رسول الله مغموماً مكروباً بسببهم.

إنه الموقف الذي رواه ابن سعد صاحب الطبقات الكبرى قال: أخبرنا أنس بن عياض أبو ضمرة الليثي قال حدثونا عن جعفر بن محمد عن أبيه قال لما بقي من أجل رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ثلاث نزل عليه جبريل فقال يا أحمد إن الله أرسلني إليك إكراماً لك وتفضيلاً لك وخاصة لك يسألك عما هو أعلم به منك يقول لك كيف تجدك؟ قال: أجدني يا جبريل مغموماً وأجدني يا جبريل مكروباً، فلما كان اليوم الثاني هبط إليه جبريل فقال: يا أحمد إن الله أرسلني إليك إكراماً لك وتفضيلاً لك وخاصة لك يسألك عما هو أعلم به منك يقول لك كيف تجدك؟ فقال: أجدني يا جبريل مغموماً وأجدني يا جبريل مكروباً، فلما كان اليوم الثالث نزل عليه جبريل وهبط معه ملك الموت ونزل معه ملك يقال له إسماعيل يسكن الهواء لم يصعد إلى السماء قط ولم يهبط إلى الأرض منذ يوم كانت الأرض على سبعين ألف ملك ليس منهم ملك إلا على سبعين ألف ملك فسبقهم جبريل فقال: يا أحمد إن الله أرسلني إليك إكراماً لك وتفضيلاً لك وخاصة لك يسألك عما هو أعلم به منك ويقول لك كيف تجدك؟ قال أجدني يا جبريل مغموماً وأجدني يا جبريل مكروباً، ثم استاذن ملك الموت فقال جبريل: يا أحمد هذا ملك الموت يستأذن عليك ولم يستأذن على آدمي كان قبلك ولا يستأذن على آدمي بعدك، قال ائذن له فدخل ملك الموت فوقف بين يدي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقال يا رسول الله يا أحمد إن الله أرسلني إليك وأمرني أن أطيعك في كل ما تأمرني إن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها وإن أمرتني أن أتركها تركتها، قال وتفعل يا ملك الموت؟ قال بذلك أمرت أن أطيعك في كل

ص: 234

ما أمرتني فقال جبريل: يا أحمد إن الله قد اشتاق إليك قال فامض يا ملك الموت لما أمرت به قال جبريل: السلام عليك يا رسول الله هذا آخر مواطني الأرض إنما كنت حاجتي من الدنيا.

فتوفي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وجاءت التعزية يسمعون الصوت والحس ولا يرون الشخص السلام عليكم يا أهل البيت ورحمة الله وبركاته كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة إن في الله عزاء عن كل مصيبة وخلفاً من كل هالك ودركاً من كل ما فات فبالله فثقوا وإياه فارجوا إنما المصاب من حرم الثواب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

لماذا غم رسول الله وكربه؟ (1)

أما سبب غمه وكربه صلی الله علیه و آله وسلم فيرويه ابن سعد أيضاً في طبقاته قال: أخبرنا يحيى بن حماد أخبرنا أبو عوانة عن سليمان يعني الأعمش عن عبد الله بن عبد الله عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال اشتكى النبي صلی الله علیه و آله وسلم يوم الخميس فجعل ابن عباس يبكي و يقول يوم الخميس وما يوم الخميس اشتد بالنبي صلی الله علیه و آله وسلم وجعه فقال ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً قال فقال بعض من كان عنده إن نبي الله ليهجر قال فقيل له ألا نأتيك بما طلبت قال أو بعد ماذا قال فلم يدع به.

وروى أيضاً أخبرنا سفيان بن عيينة عن سليمان بن أبي مسلم خال ابن أبي نجيح سمع سعيد بن جبير قال ابن عباس يوم الخميس وما يوم الخميس؟ قال اشتد برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وجعه في ذلك اليوم فقال ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً فتنازعوا ولا .

ص: 235


1- ابن سعد، مرجع سابق، 145 - 147/ 1.

ينبغي عند نبي تنازع فقالوا ما شأنه أهجر استفهموه فذهبوا يعيدون عليه فقال دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه وأوصى بثلاث قال أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو مما كنت أجيزهم وسكت عن الثالثة فلا أدري قالها فنسيتها أو سكت عنها عمداً .

أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثني قرة بن خالد أخبرنا أبو الزبير أخبرنا جابر بن عبد الله الأنصاري قال لما كان في مرض رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم الذي توفي فيه دعا بصحيفة ليكتب فيها لأمته كتاباً لا يضلون ولا يضلون قال فكان في البيت لغط وكلام وتكلم عمر بن الخطاب قال فرفضه النبي صلی الله علیه و آله و سلم .

أخبرنا حجاج بن نصير أخبرنا مالك بن مغول قال سمعت طلحة بن مصرف يحدث عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كان يقول يوم الخميس وما يوم الخميس؟ قال وكأني أنظر إلى دموع ابن عباس على خده كأنها نظام لؤلؤ قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: ائتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً قال فقالوا إنما يهجر رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم (1) .

أخبرنا محمد بن عمر حدثني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال كنا عند النبي صلی الله علیه و آله وسلم وبيننا وبين النساء حجاب فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم اغسلوني بسبع قرب وأتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً فقال النسوة ائتوا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بحاجته قال عمر فقلت اسكتهن فإنكن صواحبه إذا مرض عصرتن أعينكن وإذا صح أخذتن بعنقه فقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم من خير منكم. 5.

ص: 236


1- این،سعد مرجع سابق، 1/155.

أخبرنا محمد بن عمر حدثني إبراهيم بن يزيد عن أبي الزبير عن جابر قال دعا النبي صلی الله علیه و آله وسلم عند موته بصحيفة ليكتب فيها كتاباً لأمته لا يضلوا ولا يضلوا فلغطوا عنده حتى رفضها النبي صلی الله علیه و آله وسلم.

أخبرنا محمد بن عمر حدثني أسامة بن زيد الليثي ومعمر بن راشد عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال لما حضرت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم الوفاة وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب فقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده فقال عمر إن رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ومنهم من يقول ما قال عمر فلما كثر اللغط والاختلاف وغموا رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فقال قوموا عني فقال عبيد الله فكان ابن عباس يقول الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم أخبرنا محمد بن عمر حدثني إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلی الله علیه و آله و سلم قال في مرضه الذي مات فيه ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً فقال عمر بن الخطاب من لفلانة وفلانة مدائن الروم إن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ليس بميت حتى نفتتحها ولو مات لانتظرناه كما انتظرت بنو إسرائيل موسى فقالت زينب زوج النبي صلی الله علیه و آله وسلم ألا تسمعون النبي صلی الله علیه و آله وسلم يعهد إليكم فلغطوا فقال قوموا فلما قاموا قبض النبي صلی الله علیه و آله وسلم مكانه (1)

السبب الثاني لغمِّ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وكربه هو تقاعس القوم عن إنقاذهم بعث أسامة بن زيد وكما يروي ابن سعد في طبقاته.

فلما كان يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة .

ص: 237


1- ابن سعد، مرجع سابق 3/214.

من مهاجر رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أمر رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم الناس بالتهيؤ لغزو الروم فلما كان من الغد دعا أسامة بن زيد فقال سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد وليتك هذا الجيش فأغر صباحاً على أهل أبني وحرق عليهم وأسرع السير تسبق الأخبار فإن ظفرك الله فأقلل اللبث فيهم وخذ معك الأدلاء وقدم العيون والطلائع أمامك فلما كان يوم الأربعاء بدىء برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فحم وصدع فلما أصبح يوم الخميس عقد لأسامة لواء بيده ثم قال اغز بسم الله في سبيل الله فقاتل من كفر بالله فخرج بلوائه وعقوداً فدفعه إلى بريدة بن الحصيب الأسلمي وعسكر بالجرف فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين الأولين والأنصار إلا انتدب في تلك الغزوة فيهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وقتادة بن النعمان وسلمة بن أسلم بن حريش فتكلم ﴿قوم﴾ وقالوا يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين فغضب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم غضباً شديداً فخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد أيها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة ولئن طعنتم في إمارتي أسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله وايم الله إن كان للإمارة لخليقاً وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إلي وإنهما لمخيلان لكل خير واستوصوا به خيراً فإنه من خياركم ثم نزل فدخل بيته وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعون رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فجعل يقول أنفذوا بعث أسامة فلما كان يوم الأحد اشتد برسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وجعه فدخل أسامة من معسكره والنبي مغمور وهو اليوم الذي لدوه فيه فطأطأ أسامة فقبله ورسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لا يتكلم فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعهما على أسامة قال فعرفت أنه يدعو لي ورجع أسامة إلى معسكره ثم دخل يوم

ص: 238

الاثنين وأصبح رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم مفيقاً صلوات الله عليه وبركاته فقال له اغد على بركة الله فودعه أسامة وخرج إلى معسكره فأمر الناس بالرحيل فبينا هو يريد الركوب إذا رسول أمه أم أيمن قد جاءه يقول إن رسول الله يموت فأقبل وأقبل معه عمر وأبو عبيدة فانتهوا إلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وهو يموت فتوفي صلی الله علیه و آله وسلم يحبها ويرضاها حين زاغت الشمس يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف إلى المدينة ودخل بريدة بن الحصيب بلواء أسامة معقوداً حتى أتى به باب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فغرزه عنده فلما بويع لأبي بكر أمر بريدة بن الحصيب باللواء إلى بيت أسامة ليمضي لوجهه فمضى به بريدة إلى معسكرهم الأول فلما ارتدت العرب كلم أبو بكر في حبس أسامة فأبى وكلم أبو بكر أسامة في عمر أن يأذن له في التخلف ففعل فلما كان هلال شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة خرج أسامة فسار إلى أهل أبنى عشرين ليلة فشن عليهم الغارة وكان شعارهم يا منصور أمت (1).

ولماذا لا يغتم رسول الله وهو يأمر بالأمر فلا يطاع ويُرد أمره ويأمر بإنفاذ بعث أسامة فيتمرد القوم ولا ينفذه من سماه ابن سعد في هذه الروايات تارة بالاسم وتارة ب ﴿قوم﴾ رافضاً إجابة طلبه صلی الله علیه و آله وسلم زاعماً أن في كتاب الله ما يغني ويفيض قائلاً إن رسول الله يهجر أي يهذي ولا یعي ما يقول فأي دين وأي إيمان يزعمون وبأي حديث بعده يؤمنون وأي نبي يقدسون وهم قد اختلفوا وتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع ثم يزعمون أن رسول الله مات وهو راض عن هؤلاء، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

أما المصيبة الكبرى فهي إنكارهم لوصية رسول الله لأهل بيته .

ص: 239


1- ابن سعد، مرجع سابق، 1/214.

ووصيه علي بن أبي طالب وزعمهم أنه مات ولم يوص مع أن كتاب الله حض المؤمنين على الوصية قبل الموت فهل أبلغ رسول الله الناس بما جاء في القرآن ولم يحرص على العمل به؟ ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)﴾ [البقرة 180].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ۚ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۙ وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)﴾ [المائدة 106].

وهل كان رسول الله ممن يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم فيترك هذه الفريضة الإلهية التي كتبها الله على عباده المؤمنين؟ وهل كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كاذباً حين تحدث عن وصية رسول الله له والتي أهلته لأن يكون أحق الناس برسول الله حيًّا وميتاً؟

إثبات الوصية

تلك الوصية التي أجهد القوم أنفسهم في نفيها والادعاء بأنه مات في حجر عائشة متجاهلين تلك الأخبار الصحيحة التي رواها الثقاة وذكرها ابن سعد في الطبقات قال:

* أخبرنا محمد بن عمر قال أخبرنا عبد العزيز بن محمد عن حرام بن عثمان عن أبي حازم عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن كعب الأخبار قام زمن عمر فقال ونحن جلوس عند عمر أمير المؤمنين ما كان آخر ما تكلم به رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقال عمر سل عليًّا قال أين هو؟ قال هو هنا فسأله فقال علي أسندته إلى صدري

ص: 240

فوضع رأسه على منكبي فقال الصلاة الصلاة فقال كعب كذلك آخر عهد الأنبياء وبه أمروا وعليه يبعثون قال فمن غسله يا أمير المؤمنين؟ قال سل عليًّا قال فسأله فقال كنت أغسله وكان العباس جالساً وكان أسامة وشقران يختلفان إلي بالماء.

* أخبرنا محمد بن عمر حدثني عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جدّه قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في مرضه ادعوا لي أخي قال فدعي له علي فقال ادن مني فدنوت منه فاستند إلي فلم يزل مستنداً وإنه ليكلمني حتى إن بعض ريق النبي صلی الله علیه و آله وسلم ليصيبني ثم نزل برسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وثقل في حجري فصحت يا عباس أدركني فإني هالك فجاء العباس فكان جهدهما جميعاً أن أضجعاه (1).

* أخبرنا محمد بن عمر حدثني عبد الله بن محمد بن علي عن أبيه عن علي بن حسين قال قبض رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ورأسه في حجر علي أخبرنا محمد بن عمر حدثني أبو الجويرية عن أبيه عن الشعبي قال توفي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ورأسه في حجر علي وغسله علي والفضل محتضنه وأسامة يناول الفضل الماء (2) .

* أخبرنا محمد بن عمر حدثني سليمان بن داود بن الحصين عن أبيه عن أبي غطفان قال سألت ابن عباس أرأيت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم توفي ورأسه في حجر أحد؟ قال توفي وهو لمستند إلى صدر علي قلت فإن عروة حدثني عن عائشة أنها قالت توفي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بين سحري ونحري فقال ابن عباس أتعقل؟! والله لتوفي 7

ص: 241


1- ابن سعد مرجع سابق، 2/45.
2- ابن سعد، مرجع سابق، 2/47

رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وإنه لمستند إلى صدر علي وهو الذي غسله وأخي الفضل بن عباس وأبى أن يحضر وقال إن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم كان يأمرنا أن نستتر فكان عند الستر (1).

فمن ذا إذاً أحق الناس برسول الله حيًّاً وميتاً من علي بن أبي طالب وأهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً؟

وهل نزلت الملائكة إلا لتعزي أهل البيت علیهم السلام في مصابهم قائلة: السلام عليكم يا أهل البيت ورحمة الله وبركاته كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة إن في الله عزاء عن كل مصيبة وخلفاً من كل هالك ودركاً من كل ما فات فبالله فثقوا وإياه فارجوا إنما المصاب من حرم الثواب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وهل كانت الملائكة لتعزي من أعرضوا عن إنفاذ أمر رسول حيًّا وميتاً وضربوا بوصاياه عرض الحائط؟!

بعض من وصايا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم:

لا شك أن القوم يخبطون خبط عشواء فهم تارة يقولون إن رسول الله لم يوص وتارة أخرى ينقلون عنه جملة من الوصايا بالأنصار وبغيرهم قالها في تلك اللحظات الفارقة في تاريخ الإسلام مما ينقض تماماً كل تلك الادعاءات من أنه مات ولم يوص وترك أمته لشأنها تدبره كيف تشاء ولا شك أن وصاياه صلی الله علیه و آله وسلم كانت من علامات نبوته واضطلاعه على مستقبل هذه الأمة وما ستؤول إليه أمورها من تغلب الخط الانحرافي واستيلائه على مقاليد الأمة ولو إلى حين.

ص: 242


1- ابن سعد مرجع سابق، 2/51.

الوصية بالأنصار كانت داخلة في هذا الإعلام النبوي الغيبي بأحوال الأمة بعد نبيها حيث يروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لمّا انتهت إليه أنباء السقيفة بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فسأل: ما قالت الأنصار؟ قالوا: قالت: منا أمير ومنكم أمير.

قال : فَهَلًا احْتَجَجْتُمْ عَلَيْهِمْ: بِأَنَّ رَسُولَ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم وَصَّى بِأَنْ يُحْسَنَ إِلَى مُحْسِنِهِمْ، وَيُتَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِهِمْ؟

قالوا: وما في هذا من الحجّة عليهم؟

فقال : لَوْ كَانَتِ الإمارة فِيهمْ لَمْ تَكُنِ الْوَصِيَّةُ بِهِمْ.

ثم قال: فَمَاذَا قَالَتْ قُرَيْش؟

قالوا: احتجت بأنها شجرة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم.

فقال صلی الله علیه و آله وسلم: احْتَجُّوا بِالشَّجَرَةِ، وَأَضَاعُوا الثَّمَرَةَ (1).

أما وصية رسول الله بالأنصار فيذكرها ابن سعد في طبقاته فيقول:

أخبرنا محمد بن عمر أخبرنا مسلمة بن عبد الله بن عروة عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة قالت أمرنا رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أن نصب عليه من سبع قرب من سبعة آبار ففعلنا فلما اغتسل وجد الراحة فصلى بالناس ثم خطبهم واستغفر للشهداء من أصحاب أحد ودعا لهم ثم أوصى بالأنصار فقال يا معشر المهاجرين إنكم أصبحتم تزيدون وأصبحت الأنصار لا تزيد على هيئتها التي هي عليها اليوم هم عيبتي التي أويت إليها أكرموا كريمهم وتجاوزوا عن مسيئهم.

• أخبرنا محمد بن عمر حدثني معمر ومحمد بن عبد الله عن .

ص: 243


1- نهج البلاغة، خطبة 66.

الزهري عن عبد الله بن كعب عن بعض أصحاب النبي صلی الله علیه و آله وسلم أن رسول الله خرج عاصباً رأسه فقال يا معشر المهاجرين إنكم أصبحتم تزيدون وأصبحت الأنصار لا تزيد على هيئتها التي هي عليها اليوم وإن الأنصار عيبتي التي أويت إليها فأكرموا كريمهم وأحسنوا إلى محسنهم.

* أخبرنا محمد بن عمر حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز عن عاصم بن عمر بن عمر عن محمد بن لبيد عن أبي سعيد الخدري قال خرج رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم والناس مستكفون يتخبرون عنه فخرج مشتملاً قد طرح طرفي ثوبه على عاتقه عاصباً رأسه بعصابة بيضاء فقام على المنبر وئاب الناس إليه حتى امتلأ المسجد قال فتشهد رسول الله حتى إذا فرغ قال يا أيها الناس إن الأنصار عيبتي ونعلي وكرشي التي آكل فيها فاحفظوني فيهم اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم (1) .

كانت هذه هي وصية رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بالأنصار وهي الوصية التي تدحض حجة من يزعم أن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم مات ولم يوص بشيء ولا شك أن ما يحاول القوم نفيه هو وصيته بولاية علي بن أبي طالب تلك الوصية التي حاول رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أن يثبتها كتابة فأبى القوم إلا تمرداً وإعراضاً عن إنفاذ أمر رسول الله ..

ص: 244


1- ابن سعد، مرجع سابق، 54 - 2/55.

مراثي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم

الإمام يرثي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم

لا شك أن ثقافتنا الدينية هي ثقافة الأفراح والليالي الملاح وهي ثقافة ليس للحزن فيها نصيب.

وباستثناء شيعة محمد وآل محمد فلا أحد هذه الأمة وتحديداً من أولئك الذين يرون أنفسهم شعب الله المختار أو الفئة الوحيدة الناجية من النار يمكن له أن يفتش عن أحزان هذه الأمة أو أن يرد على لسانه ذكر أولئك الذين جعلوا رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم حزيناً مغموماً مكروباً في تلك اللحظات الأخيرة من لحظات حياته في هذه الدنيا!

كيف هذا وهم يرون أن الخطر الأكبر على ﴿إسلامهم﴾ يأتي من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أو ما يسمونه بالغلو في الصالحين وهم يحلمون بيوم يتمكنون فيه من هدم ضريح رسول الله ويحرمون التوسل به ويرون في ذلك شركاً مخرجاً من الملة؟!

ولا أدري عن أي ملة يتحدثون؟

ملة إبراهيم حنيفاً أم ملة بني أمية؟!

وها هو علي بن أبي طالب يرثي رسول الله ويبكيه وهو يلي غسله وتكفينه ويعالج بنفسه مصيبة فراق رسول الله والفتنة التي نزلت بالأمة من بعده فيقول:

ص: 245

بِأَبِی أَنْتَ وَ أُمِّی، لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوتِکَ مَا لَمْ یَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَیْرِکَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَ الاِْنْبَاءِ وَ أَخْبَارِ السَّمَاءِ ... خَصَّصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّیاً عَمَّنْ سِوَاکَ وَ عَمَّمْتَ حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِیکَ سَوَاءً ...

وَ لَوْ لاَ أَنَّکَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ، وَ نَهَیْتَ عَنِ الْجَزَعِ، لاََنْفَدْنَا عَلَیْکَ مَاءَ الشُّؤُونِ ﴿منابع الدمع﴾ وَ لَکَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلاً وَ الْکَمَدُ مُحَالِفاً، وَ قَلاَّ ﴿قلیل﴾ لَکَ! وَ لَکِنَّهُ مَا لاَ یُمْلَکُ رَدُّهُ، وَ لاَ یُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ!

بِأَبِی أَنْتَ وَ أُمِّی! اذْکُرْنَا عِنْدَ رَبِّکَ، وَ اجْعَلْنَا مِنْ بَالِکَ.

وها هو يرثيه مرة ثانية عند دفنه لسيدة نساء العالمين فاطمة بنت محمد عند موتها بعد أبيها سيد الكونين والثقلين من عرب ومن عجم بعد ذلك بأيام قلائل.

السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنِّي وَ عَنِ ابْنَتِكَ النَّازِلَةِ فِي جِوَارِكَ وَ السَّرِيعَةِ اللَّحَاقِ بِكَ.

قَلَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي وَ رَقَ عَنْهَا تَجَلُّدِي، إِلَّا أَنَّ فِي التَّأَسِّي لِي بِعَظِيمِ فُرْقَتِكَ وَ فَادِحِ مُصِيبَتِكَ مَوْضِعَ تَعَزٍّ، فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ وَ فَاضَتْ بَيْنَ نَحْرِي وَ صَدْرِي نَفْسُكَ.

إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، فَلَقَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِيعَةُ وَ أُخِذَتِ الرَّهِينَةُ! أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ وَ أَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ، إِلَى أَنْ يَخْتَارَ اللَّهُ لِي دَارَكَ الَّتِي أَنْتَ بِهَا مُقِيمٌ.

وَ سَتُنَبِّئُكَ ابْنَتُكَ بِتَضَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا، فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ وَ اسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ، هَذَا وَ لَمْ يَطُلِ الْعَهْدُ وَ لَمْ يَخْلُ مِنْكَ الذِّكْرُ.

وَ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا سَلَامَ مُوَدِّعٍ، لَا قَالٍ وَ لَا سَئِمٍ، فَإِنْ أَنْصَرِفْ فَلَا عَنْ مَلَالَةٍ، وَ إِنْ أُقِمْ فَلَا عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ الصَّابِرِينَ.

ص: 246

أروى بنت عبد المطلب

لعمرك ما أبكي النبي لموته *** ولكن لهرج كان بعدك آتيا

كان على قلبي لذكر محمد *** وما خفت من بعد النبي المكاويا

أفاطم صلى الله رب محمد *** على جدث أمسى بيثرب ثاويا

أبا حسن فارقته وتركته *** فيك بحزن آخر الدهر شاجيا

فدا لرسول الله أمي وخالتي *** وعمي ونفسي قصرة ثم خاليا

صبرت وبلغت الرسالة صادقا *** وقمت صليب الدين أبلج صافيا

فلو أن رب الناس أبقاك بيننا *** سعدنا ولكن أمرنا كان ماضيا

عليك من الله السلام تحية *** وأدخلت جنات من العدن راضيا

عاتكة بنت عبد المطلب:

عيني جودا طوال الدهر وانهمرا *** سكبا وسحا بدمع غير تعذير

يا عين فاسخنفري بالدمع واحتفلي *** حتى الممات بسجل غير منزور

يا عين فانهملي بالدمع واجتهدي *** للمصطفى دون خلق الله بالنور

فاذهب حميدا جزاك الله مغفرة *** يوم القيامة عند النفخ في الصور

وقالت أيضاً:

يا عين جودي ما بقيت بعبرة *** سحا على خير البرية أحمد

يا عين فاحتفلي وسحي واسجمي *** وابكي على نور البلاد محمد

أنى لك الويلات مثل محمد *** في كل نائبة تنوب ومشهد

فابكي المبارك والموفق ذا التقى *** حامي الحقيقة ذا الرشاد المرشد

من ذا يفك عن المغلل غله *** بعد المغيب في الضريح الملحد

أم من لكل مدفع ذي حاجة *** ومسلسل يشكو الحديد مقيد

ص: 247

أم من لوحي الله يترك بيننا *** في كل ممسى ليلة أو في غد

فعليك رحمة ربنا وسلامه *** يا ذا الفواضل والندى والسودد

هلا فداك الموت كل ملعن *** شکس خلائقه لتيم المحتد

وقالت:

أعيني جودا بالدموع السواجم على المصطفى بالنور من آل هاشم

على المرتضى للبر والعدل والتقى وللدين والإسلام بعد المظالم

على الطاهر الميمون ذي الحلم والندى وذي الفضل والداعي لخير التراحم أعيني ماذا بعدما قد فجعتما به تبكيان الدهر من ولد آدم

فجودا بسجل واندبا كل شارق ربيع اليتامى في السنين البوازم

صفية بنت عبد المطلب:

لهف نفسي وبت كالمسلوب *** آرق الليل فعلة المحروب

من هموم وحسرة ردفتني *** ليت أني سقيتها بشعوب

حين قالوا إن الرسول قد أمسى *** وافقته منية المكتوب

إذ رأينا أن النبي صريع *** فأشاب القذال أي مشيب

إذ رأينا بيوته موحشات *** ليس فيهن بعد عيش حبيبي

أورث القلب ذاك حزنا طويلا *** خالط القلب فهو كالمرعوب

ليت شعري كيف أمسي صحيحا *** بعد أن بين بالرسول القريب

أفاطم ابکی ولا تسامی *** بصبحك ما طلع الكوكب

هو المرء يبكي وحق *** هو الماجد السيد الطيب

فأوحشت الأرض من فقده *** وأي البرية لا ينكب

ص: 248

فما لي بعدك حتى الممات *** إلا الجوى الداخل المنصب

فبكى الرسول وحقت له *** شهود المدينة والغيب

لتبكيك شمطاء مضرورة *** إذا حجب الناس لا تحجب

لیبکيك شيخ أو ولده *** يطوف بعقوته أشهب

ويبكيك ركب إذا أرملوا *** فلم يلف ما طلب الطلب

وتبكي الأباطح من فقده *** وتبكيه مكة والأخشب

وتبكي وعيرة من فقده *** بحزن ويسعده الميثب

فعيني مالك لا تدمعين *** حق لدمعك يستسكب

وقالت أيضاً:

ارقت فبت ليلي كالسليب *** لوجد في الجوانح ذي دبيب

فشيبني وما شابت لداتي *** فأمسى الرأس مني كالعسيب

لفقد المصطفى بالنور حقا *** رسول الله مالك من ضريب

كريم الخيم أروع مضرحي *** طويل الباع منتجب نجیب

مال المعدمين وكل جار *** ومأوى كل مضطهد غریب

فإن تمس في جدث مقيما *** فقد ماعشت ذا كرم وطيب

وكنت موفقا في كل أمر *** وفيما ناب من حدث الخطوب

هند بنت الحارث بن عبد المطلب:

يا عين جودي بدمع منك وابتدري *** كما تنزل ماء الغيث فانثعبا

أو فيض غرب على عادية طويت *** في جدول خرق بالماء قد سربا

لقد أتتني من الأنباء معضلة *** أن ابن آمنة المأمون قد ذهبا

أن المبارك والميمون في جدث *** قد ألحقوه تراب الأرض والحدبا

أليس أوسطكم بيتا وأكرمكم خالا *** وعما كريما ليس مؤتشبا

ص: 249

ص: 250

الذين ارتدوا على أدبارهم

يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب :

فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا، فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ وَ جَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ، كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا وَ أَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا وَ الْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ بَرَكَتِهَا، فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ وَ فِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِينَ [فَاكِهِينَ]، قَدْ تَرَبَّعَتِ الْأُمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ وَ آوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ، وَ تَعَطَّفَتِ الْأُمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْكٍ ثَابِتٍ، فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى الْعَالَمِينَ وَ مُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الْأَرَضِينَ، يَمْلِكُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ وَ يُمْضُونَ الْأَحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ، لَا تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ وَ لَا تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ!

أَلَا وَ إِنَّكُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ وَ ثَلَمْتُمْ حِصْنَ اللَّهِ الْمَضْرُوبَ عَلَيْكُمْ بِأَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ امْتَنَ عَلَى جَمَاعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِيمَا عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هَذِهِ الْأُلْفَةِ الَّتِي يَنْتَقِلُونَ فِي ظِلِّهَا وَ يَأْوُونَ إِلَى كَنَفِهَا بِنِعْمَةٍ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لَهَا قِيمَةً لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ وَ أَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ.

وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً وَ بَعْدَ الْمُوَالاةِ أَحْزَاباً مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِاسْمِهِ وَ لَا تَعْرِفُونَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا رَسْمَهُ،

ص: 251

تَقُولُونَ: النَّارَ وَ لَا الْعَارَ! كَأَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُكْفِئُوا الْإِسْلَامَ عَلَى وَجْهِهِ انْتِهَاكاً لِحَرِيمِهِ وَ نَقْضاً لِمِيثَاقِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ لَكُمْ حَرَماً فِي أَرْضِهِ وَ أَمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ.

وَ إِنَّكُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَى غَيْرِهِ حَارَبَكُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ ثُمَّ لَا جَبْرَائِيلُ وَ لَا مِيكَائِيلُ وَ لَا مُهَاجِرُونَ وَ لَا أَنْصَارٌ يَنْصُرُونَكُمْ إِلَّا الْمُقَارَعَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَكُمْ.

وَ إِنَّ عِنْدَكُمُ الْأَمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ قَوَارِعِهِ وَ أَيَّامِهِ وَ وَقَائِعِهِ فَلَا تَسْتَبْطِئُوا وَعِيدَهُ جَهْلًا بِأَخْذِهِ وَ تَهَاوُناً بِبَطْشِهِ وَ يَأْساً مِنْ بَأْسِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ الْقَرْنَ الْمَاضِيَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ إِلَّا لِتَرْكِهِمُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَلَعَنَ السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ الْمَعَاصِي وَ الْحُلَمَاءَ لِتَرْكِ التَّنَاهِي.

أَلَا وَ قَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ الْإِسْلَامِ، وَ عَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ وَ أَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ.

أَلَا وَ قَدْ أَمَرَنِيَ اللَّهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَ النَّكْثِ وَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ فَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ وَ أَمَّا الْقَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ وَ أَمَّا الْمَارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ وَ أَمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ فَقَدْ كُفِيتُهُ بِصَعْقَةٍ سُمِعَتْ لَهَا وَجْبَةُ قَلْبِهِ وَ رَجَّةُ صَدْرِهِ وَ بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَ لَئِنْ أَذِنَ اللَّهُ فِي الْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ لَأُدِيلَنَّ مِنْهُمْ إِلَّا مَا يَتَشَذَّرُ فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ تَشَذُّراً!

ولو أننا تأملنا في تاريخ الإسلام الذي ذكرناه آنفاً لأدركنا الدور الرئيسي الذي قام به بنو هاشم رهط النبي بدءًا من الأجداد ثم الآباء ومروراً بالأبناء والأحفاد ووصولاً إلى اللحظات الأخيرة قبل انتقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم إلى الرفيق الأعلى وهو يطلب من القوم قلماً ليكتب لهم وصيته الأخيرة فيرفضون ويتمردون وتعلو أصواتهم فوق صوت النبي

ص: 252

وتلك هي قاصمة الدهر أو الرزية التي وقعت يوم الخميس فصارت كل أيامنا رزايا وبلايا فصار القوم بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً، وَبَعْدَ الْمُوَالَاةِ أَحْزَاباً، مَا يَتَعَلَّقُونَ مِنَ الإِسْلَامِ إِلَّا بِاسْمِهِ، وَلَا يَعْرِفُونَ مِنَ الإِيمَانِ إِلَّا رَسْمَهُ، يقُولُونَ: النَّارَ وَلَا الْعَارَ! فأكفأوا الإِسْلَامَ عَلَى وَجْهِهِ، انْتِهَاكاً لِحَرِيمِهِ، وَنَقْضاً لِمِيثَاقِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللهُ لَكُمْ حَرَماً فِي أَرْضِهِ، وأَمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ.

هذه هي الحقيقة التي يرفض القوم قبولها والاعتراف بها فما بالك

بالإقرار بمسؤوليتهم عن حدوثها؟

الحقيقة التي يعرفها القوم الذين لَجؤوا بالفعل إِلَى غَيْرِ الله وساروا على غير الطريق الذي رسمه لهم رسول الله فَحَارَبَهُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ، والآن لا جَبْرَائِيلُ وَلَا مِيكَائِيلُ وَلَا مُهَاجِرُونَ وَلَا أَنْصَارٌ يَنْصُرُونَهُمْ إِلَّا الْمُقَارَعَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَهم وهو خير الحاكمين.

الحقيقة التي ينكرها القوم أن العرب الذين لم يكونوا يقرؤون كتاباً ولم يكن لهم ثمة وجود ولا كيان سياسي يجمع شتاتهم ولولا النعمة التي أنعم الله بها عليهم بفضل محمد وآل محمد وجهادهم وصبرهم على البلايا والرزايا والمكاره ولكن القوم تنكروا لكل هذا وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر.

إنها الحقيقة التي تحدث عنها كتاب الله جل و علی وهي وقوع حالة من الانحراف عن المسار الصحيح للدين وهو الانقلاب الذي ظهرت معالمه في الكثير من السلوكيات المعوجة التي مارسها القوم أثناء حياة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم والتي بلغت قمتها في رزية يوم الخميس وما أدراك ما رزية يوم الخميس!

يقول سبحانه:

ص: 253

﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ۙ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ (25) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ۖ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَىٰ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)﴾ [محمد 25 - 33].

لقد تفرغت الطبقة المتغلبة على الإسلام والمسلمين من يومها إلى يومنا هذا في صياغة ﴿إسلام بديل﴾ أو ﴿إسلام مواز﴾ لا مكان فيه لأهل البيت علیهم السلام ...

إسلام يقوم على أكتاف الآخرين بعجرهم وبجرهم وعلمهم وجهلهم وكان لهم أغلب ما أرادوا وليس كل ما أرادوا لأن الله تبارك

وتعالى غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

يروي ابن أبي الحديد في شرح النهج عن شيخه أبي جعفر قال: وقد روي أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروى أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب ﴿ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد﴾ وأن الآية الثانية نزلت في ابن ملجم وهي قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ فلم يقبل فبذل له مائتي ألف درهم

ص: 254

فلم يقبل فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل فبذل له أربعمائة ألف فقبل وروى ذلك .

قال وقد صح أن بني أمية منعوا من إظهار فضائل علي وعاقبوا على ذلك الراوي له حتى أن الرجل إذا روى عنه حديثاً لا يتعلق بفضله بل بشرائع الدين لا يتجاسر على ذكر اسمه فيقول عن أبي زينب (1).

هذه هي الحقيقة التي يعرفها كل من له أدنى إلمام أو معرفة بعلوم الدين وتاريخ الإسلام الذي قام على أكتاف هؤلاء العظماء من بني هاشم وانتهى بإقامة نظام سياسي لا يَتَعَلَّقُ مِنَ الإسْلَام إِلَّا بِاسْمِهِ، وَلَا يَعْرِفُ مِنَ الإِيمَانِ إِلَّا رَسْمَهُ ولا همَّ له إلا محاربة شيعة محمد وآل محمد أو تشويه صورتهم إن عجز عن حربهم بصورة مباشرة. .

ص: 255


1- ابن ابي الحديد شرح نهج البلاغة، 3/57. الطبعة السابقة.

ص: 256

واجب المؤمنين نحو نبيهم

الواجب الأول: تجديد العهد مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم

كان أمير المؤمنين يدعو بهذا الدعاء: اللَّهُمَّ دَاحِيَ الْمَدْحُوَّاتِ وَ دَاعِمَ الْمَسْمُوكَاتِ وَ جَابِلَ الْقُلُوبِ عَلَى فِطْرَتِهَا شَقِيِّهَا وَ سَعِيدِهَا.

اجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِكَ وَ نَوَامِيَ بَرَكَاتِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَ رَسُولِكَ، الْخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ وَ الْفَاتِحِ لِمَا انْغَلَقَ وَ الْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ وَ الدَّافِعِ جَيْشَاتِ الْأَبَاطِيلِ وَ الدَّامِغِ صَوْلَاتِ الْأَضَالِيلِ كَمَا حُمِّلَ فَاضْطَلَعَ قَائِماً بِأَمْرِكَ مُسْتَوْفِزاً فِي مَرْضَاتِكَ غَيْرَ نَاكِلٍ عَنْ قُدُمٍ وَ لَا وَاهٍ فِي عَزْمٍ، وَاعِياً لِوَحْيِكَ حَافِظاً لِعَهْدِكَ مَاضِياً عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ حَتَّى أَوْرَى قَبَسَ الْقَابِسِ وَ أَضَاءَ الطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ وَ هُدِيَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ الْفِتَنِ وَ أَقَامَ بِمُوضِحَاتِ الْأَعْلَامِ وَ نَيِّرَاتِ الْأَحْكَامِ، فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ وَ خَازِنُ عِلْمِكَ الْمَخْزُونِ وَ شَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ وَ بَعِيثُكَ بِالْحَقِّ وَ رَسُولُكَ إِلَى الْخَلْقِ.

اللَّهُمَّ افْسَحْ لَهُ مَفْسَحاً فِي ظِلِّكَ وَ اجْزِهِ مُضَاعَفَاتِ الْخَيْرِ مِنْ فَضْلِكَ. اللَّهُمَّ وَ أَعْلِ عَلَى بِنَاءِ الْبَانِينَ بِنَاءَهُ وَ أَكْرِمْ لَدَيْكَ مَنْزِلَتَهُ وَ أَتْمِمْ لَهُ نُورَهُ وَ اجْزِهِ مِنِ ابْتِعَاثِكَ لَهُ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ مَرْضِيَّ الْمَقَالَةِ ذَا مَنْطِقٍ عَدْلٍ وَ خُطْبَةٍ فَصْلٍ.

ص: 257

اللَّهُمَّ اجْمَعْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَهُ فِي بَرْدِ الْعَيْشِ وَ قَرَارِ النِّعْمَةِ وَ مُنَى الشَّهَوَاتِ وَ أَهْوَاءِ اللَّذَّاتِ وَ رَخَاءِ الدَّعَةِ وَ مُنْتَهَى الطُّمَأْنِينَةِ وَ تُحَفِ الْكَرَامَة (1).

الصلاة على النبي وآله الطاهرين:

يقول ابن كثير (2) في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب 56].

الْمَقْصُود مِنْ هَذِهِ الآيَة أَنَّ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَخْبَرَ عِبَاده بِمَنْزِلَةِ عَبْده وَنَبِيّه عِنْده فِي الْمَلَأ الْأَعْلَى بِأَنَّهُ يُثْنِي عَلَيْهِ عِنْد الْمَلَائِكَة الْمُقَرَّبِينَ وَأَنَّ الْمَلَائِكَة تُصَلِّي عَلَيْهِ ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى أَهْل الْعَالَمِ السُّفْلِيّ بِالصَّلَاةِ وَ التَّسْلِيم عَلَيْهِ لِيَجْتَمِع الثَّنَاءِ عَلَيْهِ مِنْ أَهْل الْعَالَمَيْنِ الْعُلْوِيّ والسُّفْلِيّ جَمِيعًا.

وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِأَنَّهُ يُصَلِّي عَلَى عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْله

تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ﴾ الآيَة وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)﴾ الآية.

وَقَدْ جَاءَتْ الْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَة عَنْ رَسُول الله صلی الله علیه و آله و سلم بِالْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَكَيْفِيَّة الصَّلَاة عَلَيْهِ وَنَحْنُ نَذْكُر مِنْهَا إِنْ شَاءَ الله مَا تَيَسَّرَ وَالله الْمُسْتَعَان قَالَ الْبُخَارِيّ عِنْد تَفْسِير هَذِهِ الآيَة حَدَّثَنَا سَعِيد بْن يَحْيَى بن سَعِيد أَخْبَرَنَا أَبِي عَنْ مِسْعَر عَنْ الْحَكَم عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْب بن

ص: 258


1- نهج البلاغة خطبة 71.
2- تفسير ابن كثير ج 3، ص: 507 عيسى البابي الحلبي بدون تاريخ.

عُجْرَة قَالَ: قِيلَ يَا رَسُول الله أَمَّا السَّلَام عَلَيْك فَقَدْ عَرَفْنَاهُ فَكَيْف الصَّلَاة؟ قَالَ قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِ مُحَمَّد كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إِبْرَاهِيم إِنَّكَ حَمِيد مَجِيد اللَّهُمَّ وبَارِكْ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِ مُحَمَّد كَمَا بَارَكْت عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيد.

وَقَالَ الْإِمَام أَحْمَد حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَة عَنْ الْحَكَم قَالَ: سَمِعْت اِبْن أَبي لَيْلَى قَالَ لَقِيَنِي كَعْب بن عُجْرَة فَقَالَ أَلَا أَهْدِي لَك هَدِيَّة؟ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُول الله صلی الله علیه و آله وسلم فَقُلْنَا يَا رَسُول الله قَدْ عَلِمْنَا أَوْ عَرَفْنَا كَيْف السَّلَام عَلَيْك فَكَيْفَ الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِ مُحَمَّد كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيد اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِ مُحَمَّد كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيم إِنَّكَ حَمِيد مَجِيد وَهَذَا الْحَدِيث قَدْ أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَة فِي كُتُبهِمْ مِنْ طُرُق مُتَعَدِّدَة عَنْ الْحَكَم وَهُوَ اِبْن عُنَيْبَة زَادَ الْبُخَارِيّ وَعَبْد الله بْن عِيسَى كِلَاهُمَا عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي لَيْلَى.

ثم ذكر ابن كثير مِن طَرِيق سَعِيد بْن مَنْصُور وَيَزِيد بن هَارُون وَزَيد

ابْن الْحُبَاب ثَلَاثَتهمْ عَنْ نُوحٍ بْن قَيْس حَدَّثَنَا سَلَامَة الْكِنْدِي أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يُعَلِّم النَّاسِ هَذَا الدُّعَاء:

اللَّهُمَّ دَاحِي الْمَدْحُوَّات وَبَارِئ الْمَسْمُوكات وَجَبَّارِ الْقُلُوبِ عَلَى فِطْرَتهَا شَقِيهَا وَسَعِيدهَا اِجْعَلْ شَرَائِف صَلَوَاتك وَنَوَامِي بَرَكَاتك وَرَأْفَة تَحَنُّنِك عَلَى مُحَمَّد عَبْدك وَرَسُولِك الْفَاتِح لِمَا أُغْلِقَ وَالْخَاتَم لِمَا سَبَقَ وَالْمُعْلِنَ الْحَقِّ بِالْحَقِّ وَالدَّامِغ لِجَيْشَاتِ الْأَبَاطِيل كَمَا حَمَلَ فَاضْطَلَعَ بِأَمْرِكَ بِطَاعَتِك مُسْتَوْفِزًا فِي مَرْضَاتك غَيْر نَكِل فِي قَدَم وَلَا وَهَن فِي عَزْم وَاعِيًا لِوَحْيِك حَافِظًا لِعَهْدِكَ مَاضِیًا عَلَى نَفَاذ أمرك حَتَّى أَوْرَى قَبَسًا لِقَابِس، آلاء الله تَصِل بِأَهْلِهِ أَسْبَابه بِهِ هُدِيَتْ الْقُلُوبِ بَعْدِ خَوْضَاتِ الْفِتَنِ

ص: 259

وَالْإِثْم وَأَبْهَج مُوَضِّحَات الْأَعْلَام وَنَائِرَات الْأَحْكَام وَمُنِيرَات الْإِسْلَام فَهُوَ أَمِينك الْمَأْمُون وَخَازِن عِلْمك الْمُخْزُونَ وَشَهِيدك يَوْمِ الدِّين وَبَعِيئُكَ نِعْمَة وَرَسُولُك بِالْحَقِّ رَحْمَة اللَّهُمَّ افْسِحْ لَهُ فِي عَدْنكَ وَاجْزِهِ مُضَاعَفَات الْخَيْر مِنْ فَضْلِك مُهَنَّات غَيْر مُكَدَّرَات مِنْ فَوْز ثَوَابك الْمَحْلُول وَجَزِيل عَطَائِك المَلُول اللَّهُمَّ اعْلِ عَلَى بِنَاء النَّاس بِنَاءَهُ وَأَكْرِمْ مَثْوَاهُ لَدَيْكَ وَنُزُله وَأَتْمِمْ لَهُ نُوره وَاجْزِهِ مِنْ اِبْتِعَائك لَهُ مَقْبُول الشَّهَادَة مَرَضِيّ الْمَقَالَة ذَا مَنْطِق عَدْل وَخُطَّة فَصْل. وَحُجَّةٌ وَبُرْهَان عَظِيم.

قال ابن كثير: هَذَا مَشْهُورٍ مِنْ كَلَام عَلِيّ وَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ ابْن قتَيْبَة فِي مُشكِل الْحَدِيث وَكَذَا أَبُو الْحَسَن أَحْمَد بْن فَارِس اللُّغَوِيّ فِي جُزْء جَمَعَهُ فِي فَضْل الصَّلَاة عَلَى النَّبِي (1).

الواجب الثاني: المودة في القربى

﴿ذَٰلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۗ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ۗ وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [الشورى 23]

تفسير القرطبي:

قال القرطبي في تفسيره: الْقُرْبَى قَرَابَةِ الرَّسُول صلی الله علیه و آله وسلم أَيْ لَا أَسْأَلكُمْ أَجْرًا إِلَّا أَنْ تَوَدُّوا فَرَابَتِي وَأَهْل بَيْتِي كَمَا أَمَرَهُم بِإِعْظَامِ ذَوِي الْقُرْبَى. وَهَذَا قَوْل عَلِيّ بْن حُسَيْن وَعَمْرو بْن شُعَيْب وَالسُّدِّيّ. وَفِي رِوَايَة سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس: لَمَّا أَنْزَلَ الله جل و علی ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ

ص: 260


1- ابن كثير تفسير القرآن العظيم، 524 - 3/528 دار مصر للطباعة القاهرة بدون تاريخ.

فِي الْقُرْبَىٰ﴾ قَالُوا: يَا رَسُول اللَّه مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَوَدّهُمْ؟ قَالَ: ﴿عَلِيّ وَفَاطِمَة وَأَبْنَاؤُهُمَا﴾ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيّ قَالَ: شَكَوْت إِلَى النَّبِي صلی الله علیه و آله وسلم حَسَدَ النَّاسِ لِي فَقَالَ: ﴿أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُون رَابِع أَرْبَعَة أَوَّل مَنْ يَدْخُل الْجَنَّة أَنَا وَأَنْتَ وَالْحَسَن وَالْحُسَيْن وَ أَزْوَاجِنَا عَنْ أَيْمَانَنَا وَشَمَائِلنَا وَذُرِّيَّتِنَا خَلْفَ أَزْوَاجنَا﴾ وَعَنْ النَّبِي صلی الله علیه و آله وسلم: ﴿حُرِّمَتْ الْجَنَّة عَلَى مَنْ ظَلَمَ أَهْل بَيْتِي وَآذَانِي فِي عِتْرَنِي وَمَنْ اِصْطَنَعَ صَنِيعَة إِلَى أَحَد مِنْ وَلَد عَبْد الْمُطَّلِب وَلَمْ يُجَازِهِ عَلَيْهَا فَأَنَا أُجَازِيه عَلَيْهَا غَدًا إِذَا لَقِيَنِي يَوْم الْقِيَامَة﴾.

وَقَالَ الْحَسَن وَقَتَادَة: الْمَعْنَى إِلَّا أَنْ يَتَوَدَّدُوا إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَيَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ ف ﴿الْقُرْبَى﴾ عَلَى هَذَا بِمَعْنَى الْقُرْبَة يُقَال: قُرْبَة وَقُرْبَى

بِمَعْنًى، كَالزُّلْفَةِ وَالزُّلْفَى. وَرَوَى فَزَعَة بْن سُوَيْد عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد عَنْ اِبْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلی الله علیه و آله وسلم: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى مَا آتَيْتُكُمْ بِهِ أَجْرًا إِلَّا أَنْ تَوَادُّوا وَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ﴾. وَرَوَى مَنْصُور وَعَوْفَ عَنْ الْحَسَن ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ﴾ قَالَ: يَتَوَدَّدُونَ إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ وَيَتَقَرَّبُونَ مِنْهُ بِطَاعَتِهِ وَقَالَ قَوْمِ الآيَة مَنْسُوخَة وَإِنَّمَا نَزَلَتْ بِمَكَّة وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُؤْذُونَ رَسُول الله صلی الله علیه و آله و سلم فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة، وَأَمَرَهُمُ الله بِمَوَدَّةِ نَبِيِّهِ صلی الله علیه و آله وسلم وَصِلَة رَحِمه، فَلَمَّا هَاجَرَ آوَتْهُ الْأَنْصَارِ وَنَصَرُوهُ وَأَرَادَ الله أَنْ يُلْحِقهُ بِإِخْوَانِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاء حَيْثُ قَالُوا ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشَّعَرَاء: 109] فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ﴾ [سَبَا: 47] فَنُسِخَتْ بِهَذِهِ الآيَة وَبقَوْلِهِ: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ [ص: 86]، وَقَوْله ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ [الْمُؤْمِنُونَ: 72] وَقَوْله ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ﴾ [الطور: 40﴾ قَالَهُ الضَّحَّاك وَالْحُسَيْن

ص: 261

بن الْفَضْل وَرَوَاهُ جُوَيْبِر عَنْ الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ الثَّعْلَبِيّ: وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَكَفَى قُبْحًا بِقَوْلِ مَنْ يَقُول إِنَّ التَّقَرُّب إِلَى اللَّه بِطَاعَتِهِ وَمَوَدَّة نَبِيّه صلی الله علیه و آله وسلم وأَهْل بَيْته مَنْسُوخ وَقَدْ قَالَ النَّبِي صلی الله علیه و آله وسلم ﴿مَنْ مَاتَ عَلَى حُبّ آل مُحَمَّد مَاتَ شَهِيدًا وَمَنْ مَاتَ عَلَى حُبّ آل مُحَمَّد جَعَلَ الله زُوّار قَبْره الْمَلَائِكَة وَالرَّحْمَة وَمَنْ مَاتَ عَلَى بُغْض آل مُحَمَّد جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة مَكْتُوبًا بَيْن عَيْنَيْهِ أيِس الْيَوْم مِنْ رَحْمَة الله وَمَنْ مَاتَ عَلَى بُغض آل مُحَمَّد لَمْ يَرَحْ رَائِحَة الْجَنَّة. وَمَنْ مَاتَ عَلَى بُغْض آل بَيْتِي فَلَا نَصِيب لَهُ فِي شَفَاعَتِي﴾ قُلْت وَذَكَرَ هَذَا الْخَبَرِ الزَّمَخْشَرِيّ فِي تَفْسِيره بِأَطْوَل مِنْ هَذَا فَقَالَ: وَقَالَ رَسُول الله صلی الله علیه و آله وسلم: ﴿مَنْ مَاتَ عَلَى حُبّ آل مُحَمَّد مَاتَ شَهِيدًا أَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلَى حُبّ آلِ مُحَمَّد مَاتَ مُؤْمِنًا مُسْتَكْمِل الْإِيمَان. أَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلَى حُبّ آل مُحَمَّد بَشَرَهُ مَلَك الْمَوْت بِالْجَنَّةِ ثُمَّ مُنْكَر وَنَكِير أَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلَى حُبّ آل مُحَمَّد يُزَفّ إِلَى الْجَنَّة كَمَا تُزَفّ الْعَرُوس إِلَى بَيْت زَوْجِهَا أَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلَى حُبّ آل مُحَمَّد فُتِحَ لَهُ فِي قَبْره بَابَانِ إِلَى الْجَنَّة أَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلَى حُبّ آل مُحَمَّد جَعَلَ الله قَبْره مَزَار مَلَائِكَة الرَّحْمَة أَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلَى حُبّ آلِ مُحَمَّد مَاتَ عَلَى السُّنَّة وَالْجَمَاعَة أَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلَى بُغض آل مُحَمَّد جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة مَكْتُوبًا بَيْن عَيْنَيْهِ آیِس مِنْ رَحْمَة الله أَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلَى بُغْض آل مُحَمَّد مَاتَ كَافِرًا أَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلَى بُغْض آل مُحَمَّد لَمْ يَشَمٌ رَائِحَةَ الْجَنَّة﴾.

وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةٌ أَي يَكْتَسِب وَأَصْل الْقَرْف الْكَسْبِ، وَقَالَ إِبْن عَبَّاس: ﴿وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً﴾ قَالَ الْمَوَدَّة لآلِ مُحَمَّد صلی الله علیه و آله وسلم.

نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا أَي نُضَاعِفَ لَهُ الْحَسَنَة بِعَشْرِ فَصَاعِدًا (1). 7.

ص: 262


1- القرطبي، مرجع سابق، 25 - 16/27.

ابن كثیر :

وقال ابن كثير في تفسيره عن السُّدِّيّ عَنْ أَبِي الدَّيْلَم قَالَ: لَمَّا جيءَ بِعَلِيّ بْن الْحُسَيْن أَسِيرًا فَأَقِيمَ عَلَى دَرَج دِمَشْقِ قَامَ رَجُل مِنْ أهْل الشَّامِ فَقَالَ الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي قَتَلَكُمْ وَاسْتَأَصَلَكُمْ وَقَطَعَ قَرْن الْفِتْنَة فَقَالَ لَهُ عَلِيّ بْن الْحُسَيْن أَفَرَأت الْقُرْآن؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَقَرَأت آلَ حم؟ قَالَ قَرَأت الْقُرْآن وَلَمْ أَقْرَأ آلَ حم قَالَ مَا قَرَأت ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ﴾؟ قَالَ وَإِنَّكُمْ لَأَنْتُمْ هُمْ؟ قَالَ نَعَمْ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق السَّبِيعِيّ سَألْت عَمْرُو بْن شُعَيْب عَنْ قَوْله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ﴾ فَقَالَ قُرْبَى النَّبِي صلی الله علیه و آله وسلم رَوَاهُمَا ابْن جرير (1) .

ولا شك أن وجوب الصلاة على النبي وآله هو دليل لا يقبل التأويل على استحالة فصل النبوة عن امتدادها في الذرية والآل وهي النبوة التي ابتدأت في حضن الذرية والآل وكان لهم رضوان الله عليهم أكبر الفضل وأبلغ الأثر في رعاية هذه النبتة والمحافظة عليها حتى أثمرت هذا الخير العميم الذي عمَّ المسلمين أولاً وانتقل إلى غيرهم من الأمم.

الآن أصبح لدينا ذلك الإسلام النصوصي الذي يمكن لكل من كان أن يأتي النصوص مباشرة أو يضع هو ما يريد من النصوص التي تخدم قضيته ويتغافل عما نزل من عند الله أو ما قاله رسول الله حقاً وصدقاً ثم يقيم على ذلك الركام ديناً يحمل عليه الناس ويقول هذا حلال وهذا ترام بعد أن جرى إزاحة أهل البيت عن موضعهم المفروض لهم .

ص: 263


1- این،کثیر مرجع سابق 112 - 4/113.

من عند الله جل و علی وهكذا فقد أصبح الدين قراطيس وأوراق يجري إخفاء بعضها عند اللزوم وإظهار ما يحتاجه القوم ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ۗ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ۖ وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)﴾ .

الإسلام الحقيقي هو الإسلام الذي يجمع بين البعد النظري المتمثل في كتاب الله وسنة رسول الله والبعد العملي المتمثل في موالاة النبي وأهل بيته صلاة وسلاماً وثناء عليهم وإقراراً لهم بالفضل ومودة لهم وبغضاً لأعدائهم.

ص: 264

خاتمة

تزامن هذا الكتاب مع الضجة التي أثارتها رسوم الكاريكاتير المسيئة لرسولنا الأكرم محمد صلی الله علیه و آله و سلم.

نحن ممن يؤمنون أن تصحيح صورة الإسلام تبدأ من الداخل من خلال تصحيح فهم المسلمين لدينهم وإصلاح أوضاعهم الفاسدة والمضطربة في كل المجالات لا أستثني مجالاً واحداً لا في الدين ولا في السياسة أو الاقتصاد وصولاً إلى عالم الأخلاق.

نحن من يزرع الشوك الذي يدمي أقدامنا ويعوق مسيرنا ويصیب أعيننا فيعوق إبصارنا.

الصحوة الحقيقية للأمة تبدأ من داخلها بتصحيح قراءتها للدين بدلاً من المكابرة والإصرار على الخطأ.

لا يجوز بحال من الأحوال أن نطالب الغرب أو الشرق بتصحيح صورة الإسلام بينما نصر نحن على الاحتفاظ بما يسيء إلى مقام النبوة وأهل بيت النبوة والدفاع عن قتلة أهل البيت علیهم السلام وظالميهم.

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ۖ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

ص: 265

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) [ البقرة 40 - 44]

صدق الله العلي العظيم.

دكتور أحمد حمد راسم النفيس

ص: 266

المراجع

المؤلفات الفكرية:

1 - الطريق إلى مذهب أهل البيت طبع

2 - رحلتي مع الشيعة و التشيع في مصر. طبع

3 - على خطى الحسين. طبع

4 - المهدي المنتظر ومعركة تحرير القدس. طبع

5 - الشيعة والثورة ﴿ما بعد استشهاد الإمام الحسين﴾. طبع

6 - الجمل وفقه الطابور الخامس. مخطوط

7 - التحكيم - قراءة في الفقه التاريخي للأمة الإسلامية. طبع

8 - الجماعات الإسلامية - محاولة استمساخ الأمة الإسلامية. طبع

9 - من أسس لثقافة العنف. طبع

10 - المصريون والتشيع الممنوع ﴿طبع﴾.

11 - شرح دعاء السَّحَر لأبي حمزة الثمالي مخطوط

12 - علي بن أبي طالب وأخلاقيات السياسة طبع.

13 - المسلمون والآخر مخطوط.

14 - رسالة من أب لابنه ﴿رسالة تربوية﴾ مخطوط.

15 - علي بن أبي طالب والعدالة الاجتماعية ﴿مؤتمر الإمام علي بن أبي طالب طهران مارس 2001﴾.

16 - الزهراء سيدة نساء العالمين.

17 - الشيعة والثورة الجزء الثاني.

ص: 267

18 - الشيعة في العراق. طبع في مصر.

19 - مقالات في الفكر والدين والسياسة.

20 - القرضاوي ﴿وكيل الله أم وكيل بني أمية؟!﴾ رداً على كتابه تاريخنا المفترى عليه. طبع

21 - الشيعة والتشيع. تحت الطبع.

22 - الإرهاب لا يمكن أن يكون شيعياً.

23 - عندما يحكم العبيد. طبع

24 - نقض الوهابية. طبع

25 - النبوة في نهج البلاغة.

26 - مأساة الحج والأماكن المقدسة.

27 - أماكننا المقدسة ... المدنسة.

28 - فقه التغيير - دراسة مقارنة بين السيد محمد باقر الحكيم وسيد قطب. مقال منشور في مجلة المنهاج.

29 - الشهيد الصدر ودينامية الصراع الاجتماعي ﴿مؤتمر الذكرى العشرين لاستشهاد السيد محمد باقر الصدر طهران يناير 2001﴾.

30 - هل حقاً أن ابن خلدون هو أول من أسس علم الاجتماع و العمران؟

بالإضافة إلى عشرات المقالات السياسية والفكرية المنشورة في جريدة القاهرة القاهرية ومجلة البداية وجريدة نهضة مصر وصوت الأمة فضلاً عن المقالات العلمية المنشورة بمجلة العربي الكويتية وآخرها ﴿ساعة الأعمار﴾ نوفمبر 2003 ﴿أبناؤنا قاماتهم وقوامهم﴾ مايو 2003 السكر المر يناير 2004 ﴿مشكلة تأخر البلوغ عند المراهقين﴾.

تليفون منزل و فاكس 0020502244839

محمول 0020123913029

عيادة 0020502222910

ص: 268

الفهرس

مقدمة لازمة ... 5

تلك هي القضية! ... 6

النبوة في نهج البلاغة ... 7

نفتتح بكلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ... 7

من أراد أن يعرف رسول الله فليسأل عليًّا علیه السلام ... 8

رواة نزول الوحي في كتاب البخاري ... 13

فمن الذي رواها؟! ... 13

أما رواية نزول الوحي ودور ورقة المزعوم فإسنادها كالآتي ... 14

نماذج من التصورات المتداولة عن النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم ... 17

الرؤية والرائي والفخر الرازي ... 19

تعليق ... 23

كارثة البخاري ... 27

الرواية بنصها ... 27

بشرية النبي الأكرم محمد صلی الله علیه و آله و سلم ... 33

رسولنا رحمة للعالمين ... 38

بین محمد وموسى ... 39

بین محمد وعیسی ... 47

الخطبة الطالوتية ... 50

النبوة في نهج البلاغة ... 55

النبوة شجرة ... 55

يقول الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام ... 55

النبوة كلمة الله ... 61

فبأي حديث بعده يؤمنون؟! ... 62

مناقب الشجرة المحمدية ... 65

ص: 269

الأمثال فى القرآن ... 67

يقول الأصفهاني ... 67

الإمام علي يصف الشجرة المحمدية ... 71

روى مسلم في ﴿صحيحه﴾ ... 72

الرسول الأكرم سليل المجد والشرف ... 75

عبد المطلب بن هاشم ... 76

كما يروي ابن الجوزي في ﴿المنتظم﴾ ... 81

منام رقيقة واستسقاء قريش برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ... 81

بين عبد المطلب وأبرهة ... 83

عبد الله بن عبد المطلب ... 85

تزويج عبد الله من آمنة بنت وهب ... 87

موت والد الرسول عبد الله بن عبد المطلب ... 88

تعليق هام ... 88

النبوة والاصطفاء ... 91

معنى الاصطفاء ... 91

خطبة الإمام الصادق ... 93

دوائر الاصطفاء ... 96

الرسالات السماوية والاصطفاء: تسليم وتسلم ... 97

الاصطفاء ليس نوعاً من التدليل ... 98

الاصطفاء في سورة الصافات ... 99

بنو هاشم الممهدون للنبوة ... 103

كما يقول في رسالته لمعاوية ... 103

إسلام أبي طالب ... 107

تصحيح الموازين أم قلبها؟ ... 107

رواية الإعلام السفياني ... 109

بعض المواقف الرسالية الصلبة لأبي طالب علیه السلام ... 113

خطبة أبي طالب في تزويج محمد من خديجة ... 113

مواقف أبي طالب دفاعاً عن الإسلام ... 113

شعر أبي طالب في التعريض بمن خذله من عبد مناف ... 116

شعر أبي طالب في مدح قومه لنصرته ... 117

مبعوثو قريش إلى النجاشي ... 122

ص: 270

شعره المرسل للنجاشي ... 122

موقف أبي طالب من المقاطعة الظالمة ... 123

فلما اجتمعت على ذلك قريش قال أبو طالب ... 123

أبو طالب يجير أبا سلمة بن عبد الأسد ... 124

إخباره عليه الصلاة والسلام بأكل الأرضة الصحيفة ... 125

الكتيبة الهاشمية تقدي الإسلام بأرواحها ... 129

بنو هاشم طليعة الإيمان ... 131

استشهاد حمزة بن عبد المطلب ... 135

الرسول يصلي على حمزة سبعين مرة ... 138

استشهاد جعفر الطيار ... 139

أحوال العرب قبل البعثة النبوية ... 143

يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ... 143

وقال ذو الإصبع ... 145

صورة إجمالية ... 149

وظيفة الأنبياء ... 155

إقامة الحجة ... 155

يقول الإمام علي علیه السلام ... 155

معنى الحجة ... 156

وسائل إقامة الحجة ... 159

الروايات التي تكرم العقل ... 161

أهل البيت علیهم السلام ودورهم في مواصلة إقامة الحجة ... 171

يقول الإمام علي بن أبي طالب ... 172

مفهوم الحجة عند أئمة أهل البيت علیهم السلام ... 176

معجزات الرسول الأكرم ... 177

معجزة انشقاق القمر ... 179

دلالة المعجزات النبوية ... 183

الدكتور هيكل ينفي وقوع المعجزات النبوية! ... 184

هل حقاً أن القرآن لم يأت على ذكر معجزات النبوة؟ ... 189

بنو أمية: أعلم بشؤون دنياكم! ... 191

نزول الوحي ... 195

ينبهنا الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام إلى حقيقتين ... 199

ص: 271

كما أننا ينبغي أن نتنبه إلى التفرقة بين مرحلتين ... 200

علي الصديق الأكبر ... 201

الهجرة ... 209

المفهوم الحقيقي للهجرة ... 210

يقول الشيخ الطوسي في تفسيره التبيان ... 213

زهد رسول الله في الدنيا ... 215

الذين رووا عن رسول الله ... 221

أمية الرسول المزعومة ... 226

معنى كلمة أمي ... 227

موقف أئمة أهل البيت ... 231

وفاة رسول الله ... 233

إثبات الوصية ... 240

بعض من وصايا رسول الله ... 242

مراثي رسول الله الإمام يرثي رسول الله ... 245

أروى بنت عبد المطلب ... 247

عاتكة بنت عبد المطلب ... 247

وقالت أيضاً ... 247

وقالت ... 248

صفية بنت عبد المطلب ... 248

هند بنت الحارث بن عبد المطلب ... 249

الذين ارتدوا على أدبارهم ... 251

واجب المؤمنين نحو نبيهم ... 257

الواجب الأول: تجديد العهد مع را رسول الله ... 257

الصلاة على النبي وآله الطاهرين ... 258

الواجب الثاني: المودة في القربى ... 260

خاتمة ... 265

المراجع ... 267

المؤلفات الفكرية ... 267

الفهرس ... 269

ص: 272

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.