الفلسفه و الاعتزال فی نهج البلاغة

هوية الکتاب

الفلسفة والإعتزال في نهج البلاغة

الدكتور قاسم حبیب جابر

1407 ه- - 1987 م

المؤسسة الجامعية الدراسات والنشر و التوزیع

بيروت - الحمراء - شارع اميل لده - سایه سلام

هاتف : 802428 - 802407-802296

بيروت - المحيطية - بناية ظاهر

محرر رقمي : روح الله قاسمي

ص: 1

اشارة

جميع الحقوق محفوظة

الطبعة الأولى

1407 ه- - 1987 م

المؤسسة الجامعية الدراسات والنشر و التوزیع

بيروت - الحمراء - شارع اميل لده - سایه سلام

هاتف : 802428 - 802407-802296

بيروت - المحيطية - بناية ظاهر

هاتف : 301030 - 311310 ص.ب : 13/6311 تلکس : 20665 - 20680 لبنان

ص: 2

الدكتور قاسم حبیب جابر

الفلسفة والإعتزال في نهج البلاغة

المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر و التوزيع

ص: 3

ص: 4

الاهداء

إلى الإنسان الفذ ...

إلى من عاش بين الفقراء وضد الفقر، ومع المحرومين وضد الحرمان ومع الجماهير وضد الطغاة ...

إلى القائد المقاتل الذي جمع بين اللين والقسوة، وبين الرحمة و العنف و دخل ساحة الحرب قبل أن يبلغ الحلم ...

إلى من بنى مجد الاسلام وأنار سبيله ...

إلى العابد، الزاهد، الذي يقوم الليل ويصوم النهار ...

إلى من اغتسل بالألم والعذاب، وتعرض لعواصف التهم والشكوك وبقي مخلصاً في العطاء، صامداً في وجه الباطل ...

إلى من التزم بمبادىء الحق والعدل والخير والحب وحذر من مخالفتها.

إلى من قال في صباح اليوم الذي قتل فيه:

أشدد حيازيمك للموت *** فإن الموت لاقيكا

ولا تجزع من الموت *** إذا حلّ بواديكا

كما أضحكك الدهر *** كذاك الدهر يبكيكا

إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) ... شهيد الحق.

ص: 5

ص: 6

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه الميامين.

أما بعد، فإن نهج البلاغة اسم وضعه الشريف الرضي على كتاب جمع فيه، كما هو مذكور - المختار من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، في جميع فنونه ومتشعبات غصونه. وقد اشتمل على عدد كبير من الخطب والمواعظ والعهود والرسائل والحكم والوصايا والآداب، توزعت على 238 خطبة و79 بين كتاب ووصية وعهد، و 488 من الكلمات القصار، واحتوت على عوالم وآفاق متعددة منها: عالم الزهد والتقوى، عالم العرفان والعبادة، عالم الحكمة والفلسفة، عالم النصح والموعظة، عالم الملاحم والمغيبات عالم السياسة والمسؤوليات الاجتماعية، عالم الشجاعة والحماسة وغير ذلك.

ولقد انفرد هذا المصنف بسمات قلما نجد لها مثيلاً في أي كتاب إسلامي آخر سوى القرآن والسنة النبوية، إذ لا نكاد نرى كتاباً تميز بقطعات مختلفة يجمعها سلك واحد من الشخصية الواحدة والأسلوب الواحد كما نراه في (نهج البلاغة). وهو اليوم وبعد أربعة عشر قرناً من عهده، يحافظ على نفس الحلاوة والطلاوة، ونفس القدرة في تحريك العواطف والأحاسيس، تلك التي كانت له في عهده، رغم كل ما حدث من تحول وتغيير في الأفكار والأذواق والثقافات لأن كلماته لا تُحدّ بزمان أو مكان، بل هي عالمية الوجهة، انسانية الهدف، من حيث أنها تتجه الى كل إنسان في كل زمان ومكان.

ومنذ أن صدر هذا الكتاب عن جامعه، سار في الناس ذكره، وتألق نجمه، وأعجب به كل من وصل إليه، وتدارسوه في كل مكان، لما اشتمل عليه من اللفظ المنتقى والمعنى المشرف، وما احتواه من جوامع الكلم في أسلوب متساوق الأغراض، محكم السبك يجمع بين البلاغة والشمول ويعد في الذروة العليا من النثر العربي الرفيع.

لقد شغل الانسان بكل أبعاده، مختلف خطب الامام علي (علیه السلام) وكلماته بهدف تحريره من ربقة الجهل وإنارة عقله بالعلوم والمعارف، تمهيداً لايقاظه من سباته وبعثه على التأمل في

ص: 7

الكون وما يتخلله من أنظمة ونواميس وما يحكمه من إرادة خفية دقيقة التنظيم، ليخلص من ذلك كله الى الإيمان بالله خالق الكون وواهب الحياة.

وليس بوسع هذا الإنسان المحدود حياة وقدرة، ان يدرك هذه الحقيقة المطلقة، ما لم يرتفع فوق الصغائر و الشهوات، ويتحرر من قيود المادة وأغلالها ويحترز من أغوائها وأهوائها ويفطم طبيعته عن ألبانها، لذلك فقد ركزت خطب الامام علي (علیه السلام) على التقوى تلك التي تهب النفس القوة والنشاط، وتصونها عن الانحراف والشطط، وتدفع بها الى ملكوت الله حيث السعادة الأبدية. ولا يعني ذلك، ترك المجتمع و اعتزاله، إذ لا رهبنة في الاسلام، ولا يبدو من كلماته (علیه السلام) انها تدعو إلى مثل ذلك، بل هي توحي الى الانسان بأن يتقي الله في دنياه، ويعمل لدنياه كما لآخرته، ويعيش حياته بكل بساطة وقناعة، في ظل علاقة اجتماعية ورابطة حيوية تنبع من المسؤولية بالتعهدات الاجتماعية والمطالب الحياتية لكافة الناس، هذه المشاركة في الحياة تفرض على الإنسان أن يعيش لغيره كما يعيش لنفسه في مستوى واحد من الحماسة والاهتمام.

هذه المعاني الانسانية الخالدة التي تضمنها نهج الامام علي (علیه السلام) جعلته موضع اهتمام الباحثين ورجال الفكر في كل عصر وجيل وسوف يبقى كذلك ما دامت العقول تكتشف فيه منطلقات جديدة لبناء هذا الانسان حتى يعود الى الصورة التي أراد لها الله أن تكون.

ومع هذه الأهمية التي حظي بها كتاب «النهج» فقد امتدت إليه سهام الشك منذ أن صدر عن جامعه وحتى يومنا هذا، واختلفت فيه الآراء، وفي كونه للامام علي (علیه السلام) أم للشريف الرضي، وما زالت المواقف على حالها دون البت في ذلك، رغم أن الموضوع قد استنفذ البحث.

ولقد واجهت هذه المشكلة وحاولت بما توفر لي من الأدلّة، والقناعات أن أثبت هوية هذا الكتاب وأتناوله بالبحث والتحليل لأظهر ما فيه من أفكار فلسفية واعتزالية، فاكون بذلك قد تقدمت بمساهمة متواضعة مني، في الكشف عن جزء هام من تراثنا الإسلامي الغني

المعطاء.

من هذا المنطلق، وضعت كتابي هذا وباشرته بلمحة عن حياة جامع النهج (الشريف الرضي) وشارحه (ابن أبي الحديد)، وحاولت وبما توفر لي من أدلة «النهج» ونصوصه وكلمات الامام علي وغيره من أئمة العلم والفلسفة، وبالاستناد إلى الشرح القيم الذي وضعه ابن أبي الحديد، إن أبرز الى السطح، وبصورة جلية وواضحة، ما في هذا السفر من أفكار ومبادىء وخطرات فلسفية وأن أقتصر في ذلك على العموميات دون اللجوء إلى التفاصيل التي لا مجال لذكرها، نظراً لتعدّد مواضيع هذا الكتاب وتشعب مسائله،

ص: 8

وكان سبيلي الى ذلك موضوعات ثلاثة هي نفسها التي اعتمدها الفلاسفة منذ أقدم العصور وحتى يومنا هذا الا وهي: الله والعالم والانسان.

1 - الله وصفاته:

إن «نهج البلاغة» يزخر بالالتفافات الماورائية والخطرات الفلسفية التي تتحدث عن الله وصفاته وتوحيده وتنزيهه ونفي التشبيه عنه. وهي وان جاءت متناثرة في تضاعيف هذا الكتاب، لأنها قيلت على ما يبدو في مناسبات عدة، إلا أن الذي يجمع بينها، هي تلك الحقيقة الالهية المطلقة السارية منها. وقد انطلقت في ذلك من الأصول الخمسة التي وضعتها المعتزلة، وكان هدفي من وراء ذلك أن أكشف عن أوجه المخالفة والمؤالفة بين كلمات الإمام علي (علیه السلام)، وما قالت به المعتزلة في هذا الموضوع. ثم تطرقت الى العالم العلوي وما فيه من كائنات، وانهيت هذا الباب بفصل عن النبوة والامامة.

2 - العالم:

وهو أمر يتناول فكرة الخلق، أو بمعنى آخر هل خلق الله الكون بما فيه على مثال يحتذى كما فعل أفلاطون وغيره أم استنبطه من العدم المطلق كما ترى الرسالات السماوية؟ وهل كان خلقه تعالى للعالم دفعة واحدة أو على دفعات متتالية؟ وهل يدرك الله من خلقه الجزئيات دون الكليات أو العكس، أم أن علمه يشمل الكليات والجزئيات معاً؟

ثم تطرقت بعد ذلك الى مختلف النظريات الوضعية التي فسر بها أصحابها عملية الخلق مبدياً الرأي بها مشيراً إلى رأي الامام (علیه السلام) والمعتزلة في كل هذه الأمور.

3 - التربية:

باعتبارها العملية التي يتم بها إعداد الانسان ليكون جديراً بخلافة الله على أرضه، والتربية وان لم تتخذ عند الامام علي نسقاً فلسفياً متكاملاً، منظماً إلا أنها تتمحور حول فكرة واحدة تنجذب اليها، وهي الانسان.

لذلك فقد تناولت في هذا الباب، مختلف النواحي التربوية من سياسية واجتماعية وأخلاقية ودينية ووطنية وقضائية وغير ذلك، وهي على تنوعها تتميز بعمق العاطفة الدينية وصدق الشعور والاحساس، كما أنها من الأمور التي أقرها الاسلام ودعا اليها لبناء الانسان الفاضل القريب من الكمال. ثم أفردت في فصل خاص، منهج المعتزلة التربوي وحاولت بما توفر لي من النصوص أن أضع فكرة عن كيفية إعدادهم التربوي للانسان الداخل ضمن مذهبهم وأبنت أوجه الشبه والاختلاف بينهم وبين ما قاله الامام (علیه السلام) في هذا الصدد.

وأخيراً تأتي الخاتمة وهي تعريف مختصر بالنتائج التي توصلت اليها.

ص: 9

- الدراسات السابقة:

كان لا بد لي، وأنا أتناول هذا الكتاب، من أن أستعين ببعض الدراسات التي ظهرت عن «نهج البلاغة»، والامام علي (علیه السلام)، وكذلك عن المعتزلة. إلا أنني اعتمدت اعتماداً رئيسياً على الشرح الذي وضعه ابن أبي الحديد المعتزلي باعتبار شرحه للنهج من أفضل الشروح وأكثرها شمولية، وبكونه أكثر إلماماً بأصول أهل الاعتزال. كما أنني استعنت ببعض شروح نهج البلاغة ورمزت اليها بالحروف منعاً للتكرار وطلباً للایجاز فكان (ح) لشرح ابن أبي الحديد. و (ب) لشرح ابن ميثم البحراني. و (ج) لشرح محمد جواد مغنية. و(م) لشرح

محمد عبده.

هذا وبالاضافة الى العديد من المصادر والمراجع التاريخية.

وختاماً، أرجو أن أكون قد وفقت الى ما رميت اليه من وراء هذا العمل والله ولي التوفيق.

ص: 10

الباب الأول

ص: 11

ص: 12

الشريف الرضي

- نسبه:

هو أبو الحسن محمد بن الطاهر ذي المناقب، أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى الكاظم، بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين، بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم المعروف بالموسوي (1).

ولد في بغداد سنة 359 ه - ، الموافق عام 970 م، وكان مولده في بيت ما أنجب إلا العظماء والأشراف. فأبوه النقيب أبو أحمد الحسين بن موسى، كانت له منزلة عظيمة لدى خلفاء بني العباس وبني بويه، ولقب بالطاهر ذي المناقب «كان نقيب النقباء الطالبيين ببغداد

نقل عن أبي الحسن العمري بأنه قال: ولاه بهاء الدولة قضاء القضاة أيضاً وحج بالناس مرات أميراً على الموسم، وأسنّ وأضرّ في آخر عمره، وتوفي سنة 404 ه - ، ببغداد، وقد أناف على التسعين، ودفن في داره ثم نقل إلى مشهد الحسين بكربلاء فدفن هناك، قريباً من الضريح المنور (2).

وأمه (فاطمة بنت الحسين بن أحمد بن الحسن الناصر الأصم صاحب الديلم، وهو أبو محمد الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن عمر بن علي بن أبي طالب عليهم السلام شيخ الطالبيين وعالمهم وزاهدهم، وأديبهم وشاعرهم، ملك بلاد الديلم والجبل ويلقب بالناصر للحق، جرت له حروب عظيمة مع السامانية وتوفي بطبرستان سنة 304 ه - وسنه 79 سنة» (3).

وأخوه هو «الشريف الأجل الطاهر ذو المجدين الملقب بالمرتضى علم الهدى، ويكنى

ص: 13


1- هناك ترجمات كثيرة له مثبتة في هامش «روضات الجنات» للخوانساري، ج 6 ص 200.
2- الخوانساري: روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات، تحقيق أسد الله اسماعيليان، طهران، 1390 ه - ، ج 6، ص 20.
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم، دار الفكر ط 3، سنة 1979 م، ج 1، ص 33 - 32

أبا القاسم تولى نقابة النقباء وإمارة الحج وديوان المظالم على قاعدة أبيه ذي المناقب، وأخيه الرضي، بعد وفاة أخيه(1).

قال عنه ابن خلکان: « ... كان إماماً في علم الكلام والأدب والشعر» (2)، وذكره ابن بسام في أواخر كتاب «الذخيرة»، فقال: «كان هذا الشريف إمام أئمة العراق بين الاختلاف والاتفاق، اليه فزع علماؤها، وعنه أخذ عظماؤها، صاحب مدارسها وجماع شاردها و آنسها، ممن سارت أخباره وعرفت أشعاره وحمدت في ذات الله مآثره وآثاره الى تواليفه في الدين، وتصانيفه في أحكام المسلمين، مما يشهد أنه فرع تلك الأصول ومن أهل ذلك البيت الجليل (3). وقال ابن القفطي «كان الرضي من أهل الفضل والأدب والعلم والذكاء وحدّة الخاطر من صغره» (4). وذكر الخوانساري عن لسان جامع ديوان المرتضى أنه قال: «سمعت بعض مشايخنا يقول: «ليس لشعر المرتضى عيب إلا كون الرضي أخاه، فإنه إذا أفرد بشعره كان أشعر أهل عصره، ناهيك به دلالة على كون الرجل أشعر جميع العرب» (5)

فقد تولى نقابة الطالبيين والحكم فيها، والنظر في المظالم والحج بالناس وذلك في سنة ثمانين وثلاثمائة وأبوه حي، وكان عالي الهمة تجيش نفسه بالأمور العظيمة ويتطلع الى الخلافة مشيراً إلى نفسه بإمارة أمير المؤمنين فيقول:

هذا أمير المؤمنين محمد *** کرمت مغارسه وطاب المولد

وكان ذا ثقافة واسعة محيطاً بالعلوم الاسلامية جميعها، فهو من أقطاب عصره في العلم والأدب، ومن الأئمة المعول عليهم في حل المشكلات الدينية والسياسية. أسس مدرسة سماها «دار العلم»، وأنفق على تلامذتها من ماله الخاص، وأرفق بها مكتبة سماها باسم المدرسة وحشد فيها مؤلفات في مختلف العلوم والفنون احتلت المرتبة الثالثة في الأهمية بعد مكتبة «دار الحكمة» للرشيد، ومكتبة الوزير الديلمي. إضافة الى ذلك كان للشريف الرضي ناد للعلم والأدب يقصده أهل الفضل للتداول في المسائل العلمية المختلفة. قال عنه الثعالبي: «إبتدأ يقول الشعر بعد أن جاوز العشر سنين بقليل، وهو اليوم أبدع أبناء الزمان، وأنجب سادة العراق، يتحلى مع محتده الشريف ومفخره المنيف بأدب ظاهر وفضل باهر، وحظ من جميع المحاسن وافر، ثم هو أشعر الطالبيين، من مضى منهم ومن غبر.

ص: 14


1- روضات الجنات، ج 6، ص 200
2- ابن خلکان: وفيات الأعيان، مكتبة النهضة المصرية سنة 1948، ج 3، ص 3.
3- المرجع نفسه.
4- ابن القفطي: أنباء الرواة على أنباه النحاة، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم، دار الكتب المصرية سنة 1955، ج 3 ص 114.
5- روضات الجنات، ج 6، ص 195.

على كثرة شعرائهم المفلقين ... ولو قلت أنه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق، وسيشهد بما أجريه من شعره العالي القدح الممتنع عن القدح، الذي يجمع الى السلاسة متانة وإلى السهولة رصانة، ويشتمل على معان يقرب جناها ويبعد مداها ... ولست أدري في شعراء العصر أحسن تصرفاً في المراثي منه» (1).

أما في النحو فقد برع فيه وكان يرسله على البديهة وسرعة الخاطر. ذكر الصفدي عن ابن جني قوله: «أحضر الشريف وهو صغير لم يبلغ العشر من السنين الى ابن السيرافي، فلقّنه النحو فلما كان بعد مديدة وهو قاعد في الحلقة ذاكره بشيء من الاعراب على عادة التعليم، فقال له: إذا قلنا رأيت عمر، ما علامة النصب فيه؟ فقال الرضي: بغض علي. فعجب السيرافي والحاضرون من حدة ذهنه (2).

وقال ابن أبي الحديد: «حفظ الرضي رحمه الله، القرآن بعد أن جاوز ثلاثين سنة في مدة يسيرة، وعرف من الفقه والفرائض طرفاً قوياً، وكان رحمه الله، عالماً أديباً وشاعراً مفلقاً، فصيح النظم، ضخم الألفاظ، قادراً على القريض متصرفاً في فنونه، ان قصد الرقة في النسيب أتى بالعجب العجاب، وإن أراد الفخامة وجزالة الألفاظ في المدح وغيره، أتى بما لا يشق فيه غباره وان قصد في المراثي جاء سابقاً والشعراء منقطع أنفاسها على أثره. وكان مع هذا مترسلاً ذا كتابة قوية، وكان عفيفاً شريف النفس، عالي الهمة ملتزماً بالدين وقوانينه. ولم يقبل من أحد صلة، ولا جائزة حتى أنه رد صلات أبيه وناهيك بذلك شرف نفس وشدة ظلف، ... وكان يرضى بالاكرام وصيانة الجانب واعزاز الاتباع والأصحاب (3).

وفي مجال المفاضلة بين الرضي والمرتضى كتب السيد نور الدين شرف الدين في مقالته بالعرفان، هذه العبارة ان الرضي كان أعلم أهل زمانه لولا المرتضى والمرتضى أشعرهم لولا الرضي (4). وهذا دليل على مكانة المرتضى العلمية ومكانة الرضي الشعرية وهذا ما يشير اليه الخوانساري بقوله: « ... وإنما كان أشعر قريش لأن المجيد منهم ليس بمكثر والمكثر غير مجيد، والرضي جمع بين الاكثار والاجادة (5).

وينسب الى الرضي الافراط في عقاب الجاني والشدة على المذنب، وله في ذلك حكايات..

ص: 15


1- الثعالبي: يتيمة الدهر. تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة بمصر، ج 3 ص 136، ط 2، 1956 م.
2- الصفدي، الوافي بالوفيات، مطبعة وزارة المعارف استانبول سنة 1949 ج 2، ص 375.
3- أنظر (ح)، ج 1، ص 33.
4- مجلة العرفان، م 32، ج 6، ص 521، سنة 1946 م.
5- روضات الجنات، ج 6، ص 194.

هذا هو الشريف الرضي حسب ونسب، فضل وشرف، علم وفقه، حكمة وأدب، إباء وشمم، هيام بالمجد وتعشق للعلياء، وتذمر من الدنيا وشكوى من صروف الزمان.

أساتذته:

إذا أخذنا بعين الاعتبار ذكاء الشريف الرضي النافذ واستعداده الحسن ورغبته في التبحر في العلوم، فإن اعتماده على أقطاب عصره في نهل العلم والمعرفة، كان له أكبر الأثر في جعل علمه محيطاً بجم الفنون الاسلامية وسائر العلوم المتداولة في عصره. وليس من

شك في أن للاستاذ شأناً مهماً في توجيه التلميذ وصقل موهبته، فمن الطبيعي أن يكون الرضي التلميذ صورة لمعلمه ولكن بطابع خاص.

لقد تلقى الرضي علومه عن أساتذة مهرة، نقل عن معظمهم كما جاء في كتابة المجازات النبوية، نذكر منهم ما نحن بصدد الحديث عنهم:

- أبو سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان النحوي المعروف بالسيرافي المتوفى سنة 368 ه - ، في النحو ذكره ابن خلكان واليافعي وصاحب «الدرجات الرفيعة».

- أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي النحوي المتوفى سنة 377 ه -

- أبو عبد الله محمد بن عمران المرزباني المتوفى سنة 384 ه - وقيل 378 ه -

- أبو الفتح عثمان بن جنّي الموصلي المتوفى سنة 392 ه - .

- أبو يحيى عبد الرحيم بن محمد المعروف بابن نباتة المتوفى سنة 394 ه - .

- الشيخ المفيد، أبو عبد الله ابن المعلم محمد بن نعمان المتوفى سنة 413 ه - ، أعظم علماء الامامية في عصره، قرأ عليه في الفقه الاسلامي الجعفري.

- أبو الحسن علي بن عيسى الربعي النحوي البغدادي المتوفى سنة 420 ه - ، في الحديث، القاضي عبد الجبار، أبو الحسن بن أحمد الشافعي المعتزلي في الأصول.

- أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي، في الفقه.

- أبو حفص عمر بن ابراهيم بن أحمد الكناني، في القراءة والحديث.

- أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى بن داود الجراح، في الحديث.

- أبو محمد عبد الله بن محمد الأسدي الأكفاني.

- أبو إسحاق ابراهيم بن أحمد بن محمد الطبري الفقيه المالكي، كما في «المنتظم» لابن الجوزي (1)..

ص: 16


1- أورد الاميني أسماء هؤلاء الأساتذة في الغدير، دار الكتاب العربي، بيروت ط 3، سنة 1967 م، ج 4 ص 185 - 183.

تلامذته والرواة عنه:

تخرج من مدرسة الرضي العديد من الشيوخ والأعيان والاعلام نذكر منهم كما جاء في الغدير أيضاً:

- أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي المتوفى سنة 460 ه - .

- الشيخ جعفر بن محمد الدوريستي

الشيخ أبو عبد الله محمد بن علي الحلواني كما في «الاجازات)

- القاضي أبو المعالي أحمد بن علي بن قدامة المتوفى سنة 486 ه - .

- أبو زيد السيد عبد الله بن علي كيابكي ابن عبد الله الحسيني الجرجاني.

- أبو بكر أحمد بن الحسين بن أحمد النيسابوري الخزاعي كما في «المقاييس» للعلامة التستري.

- أبو منصور محمد بن أبي نصر محمد بن أحمد بن الحسين بن عبد العزيز العكبري كما في قصص الأنبياء، للراوندي.

- القاضي السيد أبو الحسن علي بن بندار بن محمد الهاشمي كما في إجازة، الشيخ عبد الله السماهيجي الكبيرة.

- الشيخ المفيد عبد الرحمن بن أحمد بن يحيى النيسابوري، كما في الإجازة المذكورة سابقاً (1)

تأليفه وكتبه:

الشريف الرضي من العلماء الذين جادت عبقرياتهم بمؤلفات عديدة تناولت مختلف فنون عصره، ذكرها الأميني في غدير (ج / 4، ص / 186 - 200) والعلامة الشيخ عبد الحسين الحلي في ترجمته لكتاب الشريف، «حقائق التأويل» وهي:

- نهج البلاغة كما في (المجازات النبوية).

- خصائص الأئمة كما في صدر (نهج البلاغة).

- مجازات الآثار النبوية طبع في بغداد سنة 1328 ه -

- تلخيص البيان عن مجاز القرآن، كما في المجازات ونص عليه ابن خلكان ووصفه بأنه نادر المثال، وذكره الخوانساري أيضاً.

- حقائق التأويل في متشابه التنزيل كما في المجازات، هذا الكتاب له شهرة ذائعة عند العلماء وكلهم مجمعون على تقديره وحسبه تقريظ أستاذه ابن جني بهذه الكلمة الوجيزة: صنف الرضي كتاباً في معاني القرآن الكريم يتعذر وجود مثله، دل على توسعه في علم

النحو واللغة، (وفيات الأعيان ج / 2، ص / 3).

ص: 17


1- أورد «الأميني» أسماء هؤلاء الأساتذة في «غديره»، ج 4، ص 186. 185.

- سيرة والده الطاهر ألَّفه سنة 379 ه - ، قبل وفاة والده بإحدى وعشرين سنة ذكره الخوانساري في (روضات الجنات، ج / 6، ص / 194.

- الحسن من شعر الحسين وهو المختار من شعر الحسين بن الحجاج شاعر الظرف والمجون. قال عنه الدكتور زكي مبارك «ولعله بهذه التسمية كان صاحب الفضل على أبي العلاء الذي سمي كتابه عن المتنبي «معجز أحمد»، وكتابه عن البحتري «عبث الوليد» وكتابه عن أبي تمام ذكر حبيب: ذكره الخوانساري أيضاً.

- تعليق خلاف الفقهاء.

- تعليقة على أيضاح أبي علي الفارسي.

- الزيادات في شعر أبي تمام المترجم له في شعراء القرن الثالث.

- الزيادات في شعر ابن الحجاج المذكور.

- مختار من شعر أبي إسحاق الصابي.

- أخبار قضاة بغداد.

- رسائله إلى ابن إسحاق الصابي في ثلاثة مجلدات وكتاب مراسلات الشريف الرضي كما ذكره ابن النديم في الفهرست.

- معاني القرآن وهو كتابه الثالث في القرآن ذكره ابن شهر اشوب في «المعالم» والصفدي في «الوافي بالوفيات» الذي ذكر معه أيضاً كتاب و المتشابه في القرآن».

- کتاب انشراح الصدر في مختارات من الشعر. وهو لبعض الأدباء كما في «الغدير» عن كشف الظنون.

- طيف الخيال مجموعة تنسب اليه. لكن الأميني في غديره ينسبه الى أخيه المرتضى لا له.

- ديوان شعره وهو ديوان كبير يقع في أربعة مجلدات (وفيات الأعيان) أو ثلاثة مجلدات كما في (الوافي بالوفيات). وقد عني بجمعه جماعة من أهل العلم والأدب، وأجود ما جمع الذي وضعه أبو حكيم الخيري وكان هذا الأخير يكتب الخط الحسن ويضبط الضبط الصحيح. ذكره الخوانساري والأميني وغيرهم.

وفاته:

توفي الرضي في المحرم من سنة أربع وأربعمائة. فمضى أخوه المرتضى من جزعه عليه، الى مشهد مولانا الكاظم (علیه السلام) لأنه لم يستطع أن ينظر الى تابوته ودفنه وحضر الوزير فخر الملك وجميع الأعيان والأشراف والقضاة جنازته والصلاة عليه ودفن في داره بمسجد الأنباريين بالكرخ ورثاه الشعراء. ثم مضى الوزير في آخر النهار إلى أخيه المرتضى في المشهد الشريف الكاظمي فالزمه بالعودة الى داره ثم نقل جسده الشريف الى مشهد جده الحسين (علیه السلام) بكربلاء فدفن عند أبيه في جواره المقدس (1).7.

ص: 18


1- روضات الجنات، ج 6، ص 197.

ابن أبي الحديد

نسبه:

هو عز الدين، أبو حامد عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد المدائني. ولد بالمدائن (1)، في غرة ذي الحجة سنة ست وثمانين وخمسمائة (586 ه - ). ونشأ بها وتلقى عن شيوخها ودرس المذاهب الكلامية فيها. يقول ابن الشعار: تأدب على الشيخ أبي البقاء العكبري، ثم على أبي الخير مصدق بن شبيب الواسطي واشتغل بفقه الامام الشافعي وقرأ الأصول وكان أبوه يتقلد قضاء المدائن (2).

وعندما انقضت أيام صباه، انتقل الى بغداد حاضرة الخلافة آنذاك، وموطن العلم والثقافة، وموثل العلماء والأدباء والفقهاء وأصحاب الكلام والمجالس الفكرية والمكتبات الحافلة بمختلف الكتب الأدبية والعلمية والفلسفية. فاختلط بعلمائها، ثم وازن بين المذاهب الكلامية منها، وفي نهاية المطاف مال الى الاعتزال وعلى أساسه ناظر وجادل وناقش وأصبح معتزلياً جاحظياً في أكثر شرحه للنهج (3).

عاش ابن أبي الحديد في العصر العباسي الثاني (أزهى العصور الاسلامية انتاجاً وتأليفاً وأحفلها بالشعراء والكتاب والأدباء والمؤرخين واللغويين وأصحاب المعاجم والموسوعات (4)

كان من جهابذة العلم والمؤرخين الثقاة. ولم يكن وحيد أهله في العلم والأدب، فهو من بيت مشهور بالفضل. فأخوه «القاضي موفق الدين بن أبي الحديد أبو المعالي القاسم بن

ص: 19


1- وهي كما في تلخيص الآثار، عبارة عن مدن سبع كانت من بناء أكاسرة العجم على طرق دجلة بغداد. سكنها ملوك بني ساسان الى زمن عمر بن الخطّاب، فلما ملك العرب ديار الفرس، واختطت البصرة والكوفة انتقل اليها، فلما اختط المنصور بغداد، انتقل أكثر الناس اليها. وأما الآن فهي شبه قرية في الجانب الغربي من دجلة أهلها فلاحون شيعة امامية من عاداتهم أن نسائهم لا يخرجن نهاراً أصلا (روضات الجنات للخوانساري) ج 6، ص 27.
2- الكنبي ابن أشاكر: فوات الوفيات، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت م 2، ص 259.
3- أنظر (ح): ج 1، ص 15.
4- المرجع نفسه، ص 13.

هبة الله بن محمد بن محمد المدائني، المتكلم الأشعري الكاتب المنشىء البليغ، كان فقيهاً أديباً وشاعراً محسناً، مشاركاً في أكثر العلوم ... توفي في بغداد في رجب سنة 656 ه - (1) وذكر ابن الفوطي أنه توفي في جمادى الآخرة من نفس السنة فرثاه أخوه عز الدين عبد الحميد بقوله:

أأبا المَعالي هَلْ سَمِعْتَ تَأوُّهي *** فَلَقَدْ عهدْتَك في الحياة سميْعا

عيني بَكَتْكَ ولو تَطيقُ جَوَانِحي *** وَجَوارِحي أجرت عليك نجيعا

أَنَفَاً غضبتُ على الزمانِ فلم تُطِعْ *** حبلاً لأسباب الوفاء قطلوعا

ووفيتُ للمولى الوزير فلم تعش *** من بعده شهراً ولا اسبوعا

وبقيتُ بَعْدَكُما فلو كان الرّدَى *** بيدي لفارقْنا الحياة جميعا

فعاش عز الدين بعد أخيه أربعة عشر يوما (2).

وأخوه أبو البركات محمد بن القاضي أبي الحسين هبة الله بن أبي المدائني كاتب أوقاف المدرسة النظامية في بغداد «وكان فاضلاً، أديباً موصوفاً بالذكاء وكان عنده فضل غزير وكتابة ضبط تام، ويقول الشعر، توفي شابا عن أربع وثلاثين سنة في حادي عشرين صفر من سنة

ثمان وتسعين وخمسمائة (3).

واختلف المؤرخون في مذهب ابن أبي الحديد. فقد عدّه البعض من خصوم الشيعة وأشد مناوئيهم، رغم ما يظهر من حبه لعلي (علیه السلام) (4) واعتبره البعض من «الشيعة الغلاة» (5). أما الفئة الثالثة، فقد اعتبرته موالياً لأهل بيت العصمة والطهارة وإن كان في زيّ أهل السنّة والجماعة، منصفاً غاية الانصاف في المحاكمة بين الفريقين، ومعترفاً في ذلك المصاف بأن الحق يدور مع والد الحسنين (6).

لكن ابن أبي الحديد يصرح عن نفسه بأنه على مذهب الاعتزال فيقول:

أحب الاعتزال و ناصريه *** ذوي الألباب والنظر الدقيق -

ص: 20


1- الحنبلي، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، مكتبة القدس 1351 ه - ، ج 5، ص 280 - 281
2- ابن الفوطي: الحوادث الجامعة، المكتبة العربية ببغداد، سنة 1351 ه - ، تصحيح مصطفی جواد، ص 336.
3- ابن الساعي: الجامع المختصر في عنوان التواريخ وعيون السير، المطبعة السريانية الكاثوليكية، بغداد 1353 ه - 1934 م، ج 9 ، ص 88.
4- الخطيب، عبد الزهراء: مصادر نهج البلاغة وأسانيده، مطبعة القضاء، النجف 1386 ه - ، 1966 م ج 1 ص 264.
5- ابن كثير: البداية والنهاية، مطبعة كردستان، ط 1 1348 ه - ، ج 13، ص 199.
6- الخوانساري، روضات الجنات، ج 5، ص 20 - 21، قم 1392 ه -

فأهل العدل والتوحيد أهلي *** ونعم فريقهم أبداً فريقي (1)

و مسع ذلك، فقد توهم البعض تسننه، كما توهم غيرهم تشيّعه «وأنكر الكثير من مؤرخي السنّة تسننه، بعد تشبث الشيعة في اسكاتهم والالزام عليهم بكلماته وانصافاته المجيدة واعترافاته المكررة الحميدة (2)

ونحن نقول أنه لا يمكن أن يكون شيعياً أو سنياً ومعتزلياً في نفس الوقت إذ لا يمكن الجمع، بين المذاهب الثلاثة. فاما أن يكون سنّياً أو شيعياً أو معتزلياً لذلك ومن باب عدم ازدواجية المذهب، فإن ابن أبي الحديد على مذهب الاعتزال وليس شيعياً أو سنّياً كما توهم البعض يقول الحاتمي: «إن ابن أبي الحديد قد يتوهم من شرحه أنه الأمامية، وليس منهم عكس ابن ميثم، لأنه كثيراً ما يسلط يد التأويل حتى فيما لا مجال فيه للتأويل (3).

ولقد فاقت شهرة ابن أبي الحديد شهرة أخويه أبي المعالي وأبي البركات. ففي بغداد نال حظوة الخلفاء العباسيين، فتقلد عدداً من المناصب والأعمال السلطانية في الولايات الديوانية فكان كاتباً في دار التشريفات، ثم في الديوان ثم ناظراً للبيمارستان، وأخيراً فوض اليه أمر خزائن الكتب في بغداد، وفي كل هذا كان مرموق الجانب، عزيز المحل، كريم المنزلة، الى أن مات (4)، ولقد ذكر له ابن الفوطي عن الشيخ تاج الدين العديد من المناصب والأعمال (5).

وفي عهد الوزير ابن العلقمي (6)، وزير المعتصم بالله، عين ابن أبي الحديد كاتب للسلة (7). فلم تطل أيامه، وتوفي فرتب عوضه ابن الجمل النصراني (8) وكان حظياً عند 3

ص: 21


1- المرجع نفسه
2- المرجع نفسه
3- البحراني: مقدمة شرح نهج البلاغة للحاتمي، المطبعة الحيدرية، طهران ط 1، 1387 ه - .، ج 1.
4- أنظر (ع) ج 1، ص 15.
5- قال ابن الفوطي: قال شيخنا تاج الدين: كان كاتباً في دار التشريفات ثم رتب كاتباً في المخزن سنة تسع وعشرين وستمائة ثم رتب كاتباً بالديوان وعزل ورتب مشرف البلاد الحلية في صفر سنة اثنتين وأربعين وستمائة. ثم عزل ورتب خواجة للأمير علاء الدين الطبرسي. ثم رتب ناظراً في البيمارستان العضدي، ولما هرب جعفر بن الطحان الضامن، رتب عوضه بالأمانة من غير ضمان فلم يعمل شيئاً فعزل. (تلخيص مجمع الآداب في معجم الألقاب ج 4، ص 191 - 190. تحقيق مصطفى جواد)
6- هو أبو طالب محمد بن أحمد الأسدي، وقيل لجده العلقمي، لأنه حفر النهر المسمى بالعلقمي، اشتغل أبو طالب في صباه بالأدب، ففاق فيه أقرانه وكتب خطاً مليحاً، وترسّل ترسلاً فصيحاً، وضبط ضبطاً صحيحاً اقتنى كتباً كثيرة نفيسة قدرت بعشرة آلاف مجلد (هامش مصادر نهج البلاغة وأسانيده، ج 1، ص 269). وكان وزيراً للمستعصم ولي الوزارة أربع عشر سنة ... وكان وزيراً كافياً خبيراً بتدبير الملك ناصحاً لأصحابه (قوات الوفيات لابن شاكر الكتبي، ج 2، ص 189.).
7- في دائرة معارف اسلامية - لاهور ص 317، تعني (محافظ دفتر)، وحدد ابن الساعي المراد بكاتب السلة بقوله: «المراد بالسلة هنا، ما تحفظ فيه بعض الكتابات الديوانية، بديوان الزمام، وكاتب السلة هو الذي يرقمها. قال ابن خلكان في ترجمة طاهر بن أحمد بن بايشاد النحوي، وجمع في حال انقطاعيه سلة كبيرة في النحو، قيل أنها لو بيضت قاربت خمس عشرة مجلدة، فكان السلة كانت عندهم مجمعاً للمسودات. وقال ابن الفوطي في حوادث سنة 639 ه - ، وفيها رتب هبة الله بن زطينا كاتب السلة عوضاً عن أبيه الدارج، وإذا رجعنا الى ترجمة أبيه «جبريل بن زطينا» وجدنا قول ابن الفوطي في حوادث سنة 626 ه - ، وفيها توفي أبو الفضل جبريل بن زطينا كاتب الديوان، فكتابة السلّة إحدى كتابات الديوان وهو عند الاطلاق ديوان الزمام (الجامع المختصر لابن الساعي، ج 9، ص 229).
8- الحوادث الجامعة ص 332 - 333

الوزير ابن العلقمي. وقد رد ابن كثير هذه الحظوة «لما بينهما من المناسبة والمقارنة والمشابهة في التشيع، والأدب والفضيلة»، واعتبره أكثر فضيلة وأدباً من أخيه ابي المعالي موفق الدين، وإن كان الأخير فاضلاً بارعاً أيضاً (1) ... إلا أن الخطيب، يرجع هذه الحظوة الى كتاب «شرح نهج البلاغة» الذي كتبه ابن أبي الحديد الخزانة ابن العلقمي، وكان سببا في تخليد اسم هذا الأخير، قال: ولما وقعت حادثة المغول أخذوا ابن أبي الحديد وأخاه موفق الدين وأرادوا قتلهما، فسعى ابن العلقمي في خلاصهما، وتشفع اليهم بنصير الدين الطوسي فخلوا عنهما، فأقبل ابن أبي الحديد يشكر ابن العلقمي على حسن فعله فقال ابن العلقمي: والله لو افتديتكما بنفسي لكان ذلك قليلا، لأنك خلدت اسمي في كتابك (2)، وهذا أقرب الى الحقيقة.

ورغم اشتغاله بالمناصب الديوانية، والأعمال السلطانية فإنه كان غزير الانتاج الفكري، وذا باع طويل في شتى مناحي الفكر. فقد جمع بين الفقه والأدب والشعر والتاريخ والفلسفة وله في كل منها مصنفات معروفة ومشهورة، كما كان كاتباً بارعاً في شتى الميادين.

وتعددت أقوال الأدباء والمفكرين في بيان سماته الفكرية وأجمعوا على أنه كان من أساطين العلم والفكر واثبات المؤرخين، قال الزركلي في الاعلام: «عالم بالأدب، ومن أعيان المعتزلة، له شعر جيد واطلاع واسع على التاريخ ... وبرع في الانشاء (3) وعده ابن شاكر الكتبي في (فوات الوفيات) من أعيان الشعراء (4) ورآه الخوانساري، بين علماء العامة بمنزلة عمر بن عبد العزيز الأموي بين خلفائهم (5)، ثم أضاف نقلا عن الشيخ الرزاق بن عبد أحمد بن محمد بن أبي المعالي الشيباني الفوطي، الأديب المؤرخ، «وكان من أعيان.

ص: 22


1- البداية والنهاية ج 13، ص 200.
2- مصادر نهج البلاغة، وأسانيده، ج 1، ص 259.
3- الزركلي: الاعلام، ط 2، 1954 م، ج 4، ص 60.
4- الكتبي، این شاکر: فوات الوفيات تحقيق احسان عباس، دار الثقافة، بيروت.د. ت. ج 2، ص 259.
5- الخوانساري: روضات الجنات ... تحقيق أسد الله اسماعيليان، 1392 ه - ، ج 5، ص 20 - 21.

العلماء الأفاضل وأكابر الصدور والأماثل حكيماً فاضلاً، وكاتباً كاملاً، عارفاً بأصول الكلام ... واشتغل وحصل وصنف وألف (1).

وقال محمد أبو الفضل ابراهيم في ترجمة حياته. «كان فقيهاً أصولياً ... وكان متكلماً جدليا نظاراً، اصطنع مذهب الاعتزال، وعلى أساسه جادل وناظر وحاج، وناقش وكان أديباً ناقداً، ثاقب النظر، خبيراً بمحاسن الكلام ومساوئه ...

ثم كان أديباً متضلعاً في فنون الأدب متقناً لعلوم اللسان، عارفاً بأخبار العرب، مطلعاً على لغاتها، جامعاً لخطبها ومنافراتها، راوياً لأشعارها وأمثالها حافظاً لمِلَحها وطرفها، قارنئً مستوعباً لكل ما حوته الكتب والأسفار في زمانه. وكان وراء هذا شاعراً عذب المورد، ومشرق المعنى، متصرفاً مجيداً كما كان كاتباً بديع الانشاء، وحسن الترسل، ناصح البيان (2)

ومن نماذج شعره قوله في حديثه عن لذات الدنيا:

لولا ثلاثٌ لمْ أخفْ صرعتي *** ليستْ كما قال فتى العبدِ

إنْ أنْصرَ التَوحيدَ والعدلَ في *** كلِ مكانٍ بَذلاً جُهْدي

وانْ أُنَاجِي الله مُسْتَمْتِعاً *** بِخُلوةٍ أحلى منَ الشَهْدِ

وإنْ أتيهَ الدهرَ کبْراً على *** كلْ لَئيمٍ أَصَعُرُ الخد

کذاكَ لا أهوى فتاة ولا *** خَمْراً ولا ذي مَیْعَةُ نهدِ

وفي ذلك يرد على طرفة بن العبد حيث يقول، وقد سئل عن لذات الدنيا، ومركب وطى وثوب بهي ومطعم شهي (3) كما ذكرها ابن شاكر الكتبي في فوات الوفيات، وليست كذلك عند طرفة الذي يقول:

فَلَوْلا ثَلاثٌ، هُنَّ مِنْ عِيشَةِ الفَتى *** وَجَدَّك، لم احْفَلُ: مَتَى قَامَ عُودِي

فمنْهُنَّ سُبْقِي العَاذِلاتِ، بِشَرْبَةٍ *** كُمَيْتِ، مَتَى مَا تُعْلَ بِالماءِ تُزْبِدِ

وَكَرّي - إذا نادى المُضَافُ، مُحَنّباً *** كَسِيدِ الغَضَا، نَبَّهتهُ، المُتَوَرِّدِ

وتقصيرُ يوم الدّجن، والدجنُ مُعْجِبُ *** بِبَهْكَنَةٍ، تَحت الطراف المعمد (4)

وشتان ما بين هذا وذاك. فاللذة بالنسبة الى ابن أبي الحديد هي نصرة التوحيد.

ص: 23


1- المرجع نفسه.
2- انظر (ح) ج 1، ص 13.
3- ابن شاكر الكتبي: فوات الوفيات، ج 2، ص 261.
4- الخطيب التبريزي: شرح القصائد العشر، تحقيق فخر الدين قبادة، بيروت دار الآفاق الجديدة، ط 4، 1400 ه - 1980 م ص، 133 - 134.

والعدل، ومناجاة الله والتكبر على كل لئيم. أما بالنسبة الى طرفة، فهي الخمرة والنجدة لكل طالب معونة، ثم المرأة الجميلة.

ومن شعره أيضاً:

عَنْ ريقها يَتَحَدَّثُ المسواك *** أرجاً فَهَلْ شجر الاراك أراك

وَلِطَّرْفِهَا جَبنَ الجَبَانُ فَإِنْ رَنَتْ *** باللحظ فهو الصيغمُ الفتّاك

شرَكَ القُلوبَ ولَمْ أَخَلْ مِنْ قَبْلِهَا *** أنَّ القُلُوب تصيدها الأشواك

يَا وَجْهَهَا المَصْقُولُ مَاءَ شَبَابِهِ *** ما الحتف لولا طرفك الفتّاك

أم هل أناكِ حَدِيثُ وَقَفَتِنَا ضُحَى *** وقُلُوبُنَا بِشبَا الفراق تشاك

لا شيء أقْطَعُ مِنْ نَوَى الأَحْبَاب *** أو سيف الوصي كلاهما سفّاك (1)

وقال:

وحَقُكَ لَوْ أَدْخَلْتَنِي النار قُلْتُ *** لِلَّذِينَ بِهَا قَدْ كُنت ممَنْ أحبه

وَافْنَيْتُ عُمْرِي في دقيق عُلُومِهِ *** وما بغيتي إلا رضاه وقربه

هَبُونِي مُسيئاً أوضَعَ الْعِلْمُ جَهْلَهُ *** وَأَوْبَقَهُ دون البرية ذنبة

إمَا يَقْتَضِي شَرْعَ التَكَتُم عَفْوُهُ *** أيحسن أن ينسى هواهُ وحُبه

أما ردّ زَيْعَ ابن الخطيب وشكه *** وتمويهه في الدين إذ عَزّ خطبه

أمَا كَانَ يَنْوِي الحقِّ فِيمَا يَقُولُهُ *** الم تنصُرَ التوحيد والعدل كتبه

وَغَايَةُ صِدْقِ الصبّ أنْ يَعْذُبَ الأسى *** إذا كان مَنْ يهوى عليه يصبه (2)

تصانيفه:

إبن أبي الحديد من العلماء الذين جادت عبقرياتهم بمؤلفات نافعة في فنون مختلفة. وان من يؤلف في موضوع ما لا بد أن يكون فيه طويل الباع واسع الاطلاع وغزير المادة، ومن تصانيفه:

1 - شرح نهج البلاغة «في عشرين مجلداً صنفه لخزانة الوزير ابن الطقمي في مدة أربع سنين وثمانية أشهر. إذ شرع في تأليفه في غرة شهر رجب من سنة أربع وأربعين وستمائة، واتمه في سلخ صفر من سنة تسع وأربعين وستمائة. وكانت كما يقول «مقدار مدة خلافة أمير المؤمنين (علیه السلام)». وكان هذا الكتاب أشبه بدائرة معارف حوت معلومات لغوية وأدبية وتاريخية وفلسفية واعتبر الخوانساري أن علو منزلة ابن أبي الحديد يعود الى «شرحه ه

ص: 24


1- فوات الوفيات، ج 2، ص 260 - 262.
2- المرجع نفسه

الشريف الجامع لكل نفيسة وغريب، والحاوي لكل نافحة ذات طيب من الأحاديث النادرة والأقاصيص الفاخرة والمعارف الحقانية، والعوارف الايمانية (1)، وقد علمنا أيضاً أن هذا الكتاب كان سبباً في شهرة وتخليد الوزير ابن العلقمي، وقد أجمع المؤرخون على

إسناد هذا المصنف اليه.

2 - نظيم فصيح ثعلب، ذكره «ابن شاكر» في «فوات الوفيات» وقال انه صنفه في يوم وليلة.

3 - الفلك الدائر على المثل السائر، ذكره أيضاً ابن شاكر وقال انه صنفه في ثلاثة عشر يوماً وكتب اليه أخوه موفق:

المثل السائر يا سيدي *** صَنَّفْتُ فيه الفَلَكَ الدَائرِ

لكنَّ هذا فَلَك دَائِرٌ *** اصْبَحْتُ فيه المَثَلُ السَّائِرِ

وقد ألفه برسم الخليفة المستنصر وبدأ في تأليفه في أول ذي الحجة سنة 633 ه - . وقد ذكره أيضاً الخوانساري في (روضات الجنات).

4 - القصائد السبع العلويات، ذكره الزركلي في الاعلام، وقال ابن الفوطي أنه نظمه في صباه، وهو بالمدائن سنة 611 ه - .

5 - تعليقات على كتاب «المحصل والمحصول» للامام فخر الدين الرازي ذكره ابن شاكر والخوانساري.

6 - العبقري الحسان في الأدب ذكره الخوانساري.

7 - الاعتبار على كتاب «الذريعة في أصول الشريعة»، للسيد المرتضى، وهو ثلاث مجلدات ذكره الخوانساري.

8 - نقض المحصول في علم الأصول» ذكره الخوانساري أيضاً.

9 - شرح مشكلات الغرر لأبي الحسن البصري في أصول الكلام، ذكره الخوانساري أيضاً

10 - شرح الياقوت لابن نوبخت في الكلام ذكره ابن الفوطي والخوانساري.

11 - الوشاح الذهبي في العلم الأدبي، ذكره ابن الفوطي.

12 - انتقاد المستصفى للغزالي ذكره ابن الفوطي.

13 - الحواشي على كتاب المفصل في النحو ذكره ابن الفوطي.

14 - ديوان شعر ذكره ابن شاکر.

15 - حل سيفيات أبي الطيب المتنبي - دائرة معارف اسلامية لاهور.

16 - مقالات الشيعة المصدر السابق..

ص: 25


1- روضات الجنات، ج 1، ص 200 - تم، 1392.

17 - تعليقه على الأربعين للامام الرازي. المصدر السابق.

18 - زيادات النقضين، ذكره محمد أبو الفضل ابراهيم في ترجمته لحياة ابن أبي الحديد

19 - المستنصريات كتبها برسم الخليفة المستنصر - المصدر السابق.

وفاته:

توفي ابن أبي الحديد في سنة 656 ه - ، بعد وفاة ابن العلقمي بأيام قلائل، وبعد أربعة عشر يوماً من وفاة أخيه موفق الدين (1). وهذا يثبت أن ابن أبي الحديد أدرك سقوط بغداد بيد التتار خلافاً لما ذكره البعض من أنه توفي قبل دخولهم..

ص: 26


1- الحوادث الجامعة، ص 336.

الباب الثاني

الله والعالم العلوي

ص: 27

ص: 28

لمحة تاريخية

أ - عصر ما قبل التوحيد الاسلامي:

كان العرب في جاهليتهم وتوغلهم في البادية على حالة من الشقاء والانحطاط فلا دولة تجمعهم ولا سلطان يعزّهم ولا حكماء ترشدهم وتهذّب سجاياهم إلا ما ندر، يسكنون القفار والفلوات دأبهم شنّ الغارات، منها يستمدّون معاشهم وثرواتهم وأرزاقهم، يعبدون الأشجار والأحجار زاعمين أنها ترزقهم، يئدون بناتهم خشية العار ويقتلون أولادهم خشية الفاقة، قد نشأوا على مباديء وحشية وغرائز سبعية لا يعرفون من الرحمة والرأفة والشفقة والحنان والعدل غير أسمائها. يقول السيد عبد الحسين نور الدين في كتابه (الكلمات) إن ابن عبد البر ذكر في الاستيعاب عن عمران بن سلمان، وهو من كبار التابعين، وقد أدرك الجاهلية، أنه قال: ما رأيت أناساً كانوا أجهل من العرب كانوا يجيئون بالشاة البيضاء فيعبدونها فيجيء الذئب فيذهب بها، فيأخذون أخرى مكانها فيعبدونها وإذا رأوا صخرة حسنة جاؤا بها وذهبوا يصلون اليها فإذا رأوا صخرة أحسن منها رموها وجاؤا بتلك يعبدونها (1).

ولقد كان للعرب في عبادة الأوثان أفانين شتى، ذكرها القرآن ذكرها القرآن، وتناقلتها الروايات وذكرت ما كان لها من جليل المكانة، واختلاف صورها، وتدرّجها في القداسة، وتعدّد أنواعها؛ فكان هبل أكبر آلهة العرب يحج اليه الناس من كل فجّ عميق. هذا بالاضافة الى العديد من الأصنام المنتشرة في مختلف أرجاء الكعبة. ولم يكتف العرب بهذه الأصنام الكبيرة، يقدّمون اليها صلواتهم وقرابينهم، بل كان أكثرهم يتخذ له صنماً أو نُصباً في بيته يطوف به حين خروجه، وساعة أوبته، ويأخذه معه في سفره إذا أذن له هذا الصنم في السفر، بل كان يعتبر عبادتهم زلفى يتقرّب بها الى الله رغم أن عبادة الله قد تلاشت بعبادة هذه الأصنام.

ومهما قيل عن سطحية الإيمان الديني للجاهلي وانغماسه بالمادية وما حصل في معتقده

ص: 29


1- نور الدين، عبد الحسين: الكلمات، مطبعة العرفان، صيدا 1347 ه - ، ج 1، ص 8.

الديني من تشويش فإن فطرته مرتكزة على الاعتقاد بإله مدبّر لهذا الكون مهما تعددت صور هذا الإله وتعددت أسمائه واختلفت صوره. فيكاد أن يكون كل إنسان مفطوراً على الاعتقاد بوجود هذا الإله المدبر، يستوي في ذلك الممعن في البداوة والمغرق في الحضارة. وهذا ما يعجب له الباحث الاجتماعي إذ يرى اجماع القبائل - حتى التي لم تتصل بغيرها والتي لا تعرف من العالم إلا رقعتها من الأرض وغطاءها من السماء - على إله خالق ان اختلفوا فيه فخلاف في الأسماء أو الاختصاص (1).

أما الجزيرة العربية فقد ظلّت آمنة من انتشار الدعوة الدينية، مسيحية كانت أم مجوسية، إلا في القليل من قبائلها، وما ذلك إلا بسبب طبيعتها وترامي أطرافها وجدبها. لذلك فقد بقيت في معظمها على الوثنية، دين آبائها وأجدادها.

ولقد أدرك العرب ما أصاب هاتين الديانتين من بوادر الانحلال وتعدد الفرق وتناحرها وتقاتلها وهبوطها عليا مراتب الايمان الى الجدل في الصور والألفاظ. فلم ينتصروا لفريق دون آخر فظلوا مطمئنين الى وثنيتهم التي ولدوا فيها وتابعوا آباءهم عليها «لذلك ظلت عبادة الأصنام مزدهرة عندهم، حتى امتد شيء من أثرها الى جيرانهم نصاری نجران ويهود يثرب، الذين تسامحوا في أمرها ثم احتملوها ثم اطمأنوا اليها، وان كانت من صلات التجارة الحسنة بينهم وبين هؤلاء العرب الذين يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى (2).

ومما شجعهم على ذلك وجود بعض الوثنيات التي كانت ما تزال لها بقايا في الأمم التي انتشرت المسيحية فيها كالوثنية المصرية والوثنية الاغريقية. لهذه الأسباب جميعها، ظل العرب أسرى وثنيتهم إلى أن جاء الاسلام.

ب - التوحيد في الاسلام: ظروف نشأته والدعوة اليه

كان لمبدأ التوحيد المكان الأكبر في النظر الكلامي عند المسلمين. وقد عد هذا المبدأ من أهم مبادىء المعتزلة لأنهم ذهبوا في تفسيره وبلغوا في تحليله وفلسفته حداً بعيداً. لهذا فقد نسب إليهم خاصة وسموا أصحاب العدل والتوحيد (3). وان كان المسلمون جميعاً يمتازون بالتوحيد وباعتقاد إن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلا أنهم يختلفون في فكرة الألوهية وماهيتها. لهذا فقد اعتبر الخياط أن المعتزلة هم وحدهم المعنيون بالتوحيد والدفاع عنه فيقول متسائلاً: وهل يعرف أحد صحيح التوحيد وثبت القديم جل ذكره واحدا في الحقيقة

ص: 30


1- أمين، أحمد: ضحى الاسلام، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 10، ج 3، ص 11.
2- جسين هيكل، محمد: حياة محمد، مطبعة مصر، القاهرة، 1354 ه - ، ص 42.
3- الشهرستاني: الملل والنحل، تحقيق الوكيل، القاهرة 1968، ص 43.

واحتج لذلك بالحجج الواضحة، وألّف فيه الكتب، ورد فيه على أصناف الملحدين من الدهرية والثنوية وسواهم (1).

لقد نشأ هذا المذهب من كون الذات الإلهية محور الدين الجديد الذي جاء به محمد صلی الله علیه و آله و سلم، بينما الناس في فتن «انجذم فيها حبل الدين وتزعزعت سواري اليقين واختلف النجز وتشتت الأمر وضاق المخرج وعمي المصدر فالهدى خامل، والعمي شامل (2). كما يقول الامام علي (علیه السلام) في نهجه القويم، وانقسموا بين معطلة أنكروا الخالق والبعث والاعادة والرسل، وعبدوا الأصنام وزعموا أنهم يتقربون بها الى الله زلفى، فحجوا اليها وقربوا اليها القرابين، وبين غير معطّلة، وهم قلة من أصحاب الورع والتحرج عن القبائح، وبين مشبّهة ومجسّمة كانت نفوسهم الضعيفة أعجز من أن تسمو للاتصال بالوجود كله، ولادراك وحدته ممثّلة فيما هو أسمى من كل ما في الوجود، ممثلة في الله ذي الجلال وهي لذلك تقف عند مظهر من مظاهر هذا الوجود كالشمس وكالقمر أو كالنار، ثم تضعف عن الارتفاع بنفسها الى تمثّل هذا المظهر فيما يدل عليه من وحدة الوجود (3).

في وسط هذا الاضطراب الاجتماعي و الروحي، بعث الله تعالى رسوله محمد ابن عبد الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، فأقام الحجة وأيقظ العقل، وأذاع في الناس سلطانه الذي حقروه، وحاكمهم اليه، ودعاهم الى نبذ التقليد وان لا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، وسلك في ذلك مسلكاً لا يدق عن أذهان العامة، ولا يرتفع عن مستوى إدراكهم حتى لا يباعد بينهم وبين علم حقيقة ما يدعوهم اليه، ولا يسف حتى يستبذله الخاصة ويستنكروه. وكانت الكلمة الحق التي جاء بها الرسول الكريم (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) الكلمة الفصل التي دكت عروش الوثنية وأقامت على أنقاضها راية التوحيد والعدل من خلال عقيدة عظيمة «وأية عقيدة أعظم من الإيمان بالله وحده لا شريك له. وأية عقيدة أكبر سلطاناً على النفس من أن يحس الانسان نفسه تتصل بالوجود في أسمى مظاهره (4).

ولما كان الانسان بدوياً كان أم حضرياً، مفطوراً على الاعتقاد بوجود إله برأ العالم ودبّره، مهما تعددت أسماء هذا الإله واختلفت معانيه وصفاته، فإن القرآن و اعتمد على هذه الفطرة وخاطب الناس بما يحيي هذه الفطرة وينمّيها ويقوّيها، ويصلح ما اعتورها من فساد الاشراك وما اليه وأدار الدعوة على هذا الأساس (5).

ص: 31


1- الخياط: الانتصار، تحقيق نادر، المطبعة الكاثوليكية 1957، ص 21.
2- أنظر (ح) ج ا، ص 136.
3- حسين، هيكل: حياة محمد، مطبعة مصر، القاهرة، 1354 ه - ، ص 21.
4- المصدر نفسه، ص 445.
5- أمين، أحمد: ضحى الاسلام، ط 10.، دار الكتاب العربي، بيروت، د. ت. ج 3، ص 11.

سئل أبو عبد الله، جعفر بن محمد عن قوله تعالى: (فطرة الله فطر الناس عليها) (الروم - 30) قال: فطرهم جميعاً على التوحيد (1).

فالقرآن، لا يستند في تأليف براهينه على المنطق ومقدماته، ولا على الرموز الفلسفية، ولا يتطرق الى إثارة المشاكل العقلية المنطقية، وإنما يساير الفطرة الانسانية - كما أسلفنا - ويستدل في الدعوة الى التوحيد بوحدة النظام، ووحدة الخلق، وخضوع جميع المخلوقات لإله واحد، (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ۚ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) (الإسراء - 44). فالقرآن ليس «نظرية» تتعامل مع «الفروض»، أنه «منهج» يتعامل مع «الواقع».

ولقد تميز القرآن بأسلوب يملأ القلوب روعة والنفوس حيرة الجمال أسلوبه الساحر وبلاغته المعجزة وما تضمنه من معان جديدة وأفكار في التوحيد لا عهد للناس بها قبل نزول الوحي، ولم يرد عن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم تفسير خاص بها، فقد تركها مورداً يرده كل طالب معرفة وهداية. ثم ان علم الكلام لم يكن بعد قد انتظمت أصوله وحُدّدت مواضيعه ووضعت مناهجه ليرجع المرتاب اليها. فقد كان العرب يومذاك في حيرة من كثير من المسائل لعدم وجود مفكرين أو علماء ثقاة يُعتدُّ بهم سوى بعض الحفظة للحديث أو قراء يحفظون الكتاب الكريم، ولم يكن قد حصل تبلبل في العقيدة ولا تشتّت في الفكر والنظر. لهذا فقد آمن به المسلمون الأوائل، وفهموا آياته فهماً مجملاً، ورفضوا الدخول في متاهات المناقشة والجدل العقيم، لأن ذلك حسب زعمهم ليس في مصلحة المسلمين ولا تستسيغه عقول العامة، وهم السواد الأعظم في كل أمة. جاء في «الخطط المقريزية»: «من أمعن النظر في دواوين الحديث النبوي ووقف على الآثار السلفيّة، علم أنه لم يرد قط من طريق صحيح ولا سقيم عن أحد من الصحابة، رضي الله عنهم، على اختلاف طبقاتهم وكثرة عددهم انه سأل رسول الله عن معنى شيء مما وصف الرب سبحانه به نفسه الكريمة في القرآن الكريم وعلى لسان نبيه محمد صلی الله علیه و آله و سلم بل كلهم فهموا معنى ذلك وسكتوا عن الكلام في الصفات ولا فرّق أحد منهم بين كونها صفة ذات أو صفة فعل وإنما أثبتوا له تعالى ... ما أطلقه الله سبحانه على نفسه الكريمة (2)

ثم إن الأنبياء على رفعة مكانتهم وإشرافهم على الأفق الأعلى، قد تنزّلوا الى مستوى الافهام البشرية، فكلّموا الناس بما يهديهم الى استعمال الفطرة في نفوسهم وقد روى عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال: «إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم (3). وكان لا.

ص: 32


1- الكليني: الأصول من الكافي، تحقيق علي أكبر غفاري، دار الكتب الاسلامية ط 3، طهران 1388 ه - ، ج 2، ص 12.
2- المقريزي: الخطط المقريزية، مطبعة النيل بمصر 1326 ه - ، ج 4، ص 181
3- الحرّاني: تحف العقول عن ال الرسول، دار الأعلمي، بيروت ط 5 1974 م، ص 32. أصول الكافي، ج 1، ص 23.

بد للنبي صلی الله علیه و آله و سلم من أن يقبل قول الجارية التي كانت تعتقد ان الله في السماء، لا لشيء إلا لأن عقلها لا يستطيع الغور الى أبعد من ذلك (1). وروي عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم قوله: «كلموا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتريدون أن يكذّب الله ورسوله (2). ورأى المسلمون رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يصف لهم ربّه بما وصف نفسه في كتابه الكريم، وبما أجراه على لسانه من سنّة، فلم يسأله أحد منهم على اختلاف عقولهم عن شيء من ذلك، ولم يتجرّأ أحد منهم على المجادلة ذات الله وصفاته، ورأوا بأجمعهم إجراء الصفات كما وردت في كتابه الكريم، فكانوا جميعاً، عند وفاة النبي صلی الله علیه و آله و سلم على عقيدة واحدة وطريق واحد، دون أن يختلف أحدهم عن الآخر الا في فهم أوتيه في كتاب الله وسنّة رسوله، ما عدا قوماً كانوا يبطنون النفاق ويظهرّون الوفاق.

وبعد وفاة النبي، لا بل في اللحظة التي كان يجود فيها بنفسه بدأ الخلاف يدب في صفوف المسلمون واتخذوا من هذا الخلاف سبيلا يسلكونه الى تفريق كلمة الأمة. وراح كل منهم يلتمس الأدلّة لتأييد وجهة نظره ويفسر الأمور من منطلقه الخاص.

ومع مرور الزمن واشتداد الوعي الثقافي للمسلمين بتسرّب الأفكار الدخيلة اليهم من جرّاء الفتوحات التي أدت الى دخول عناصر متعددة في الاسلام بما تحمله من ثقافات مختلفة تحمل في ثناياها بذور حركة فكرية عارمة حول قضايا الدين والعقيدة كالتوحيد، وصفات الله والقيامة وأفعال الانسان وما إلى ذلك من أفكار كانت السبب المباشر في القضاء على التقليد والدخول في حلبة الصراع الفكري من أجل صياغة مبادىء وخطوات الفكر التوحيدي في الاسلام. فبرز في خِضمٌ هذا الصراع رجال أفذاذ رفضوا أن يستسلموا لمفاهيم العامة دون نظر أو تمحيص فكر، وفكّروا في القرآن ومفاهيمه، وتفقهوا فيه محاولين تحديد الرسالة وفهم ما تتضمنه من معان. فكان من هؤلاء وفي مقدمتهم علي بن أبي طالب (علیه السلام) الذي قال عنه ابن سینا (كان علي بين أصحاب محمد صلی الله علیه و آله و سلم كالمعقول بين المحسوس، يعني أنه كان بينهم كالكلي العقلي بالنسبة الى سائر الجزئيات المحسوسة، أو كالعقول القاهرة بالنسبة الى الأجسام المادية (3).

لقد حاول أولئك الصفوة، التقرب من الحقيقة التي ضربت دونها الاستار، وألقيت الحجب وأقيمت السدود أمام الانسان المحدود حياة واختباراً وإدراكاً، فكانت للامام (علیه السلام).

ص: 33


1- ضحى الاسلام: ج 3، ص 14. فضائل أمير المؤمنين وأمامته للمظفر ج 1، ص 135.
2- الغزالي: إحياء علوم الدين، دار المعرفة، بيروت د.ت، ج 1، ص 36. تيسير الوصول، ج 3، ص 54.
3- المطهري، مرتضى: في رحاب نهج البلاغة (دار التعارف، بيروت، ط 2، 1978 م ص 45).

البادرة في هذا المجال إذ «لم تعرف لأحد قبله في هذه المواضيع جولة فكر ولا إرسال نظر ولا كتابة قلم (1). ذلك لأن العرب قبل الاسلام، لم يعرفوا في غالبيتهم القراءة ولا الكتابة، وكانت عبقرياتهم تتجلى في أمور لا تتعدى ما هو محسوس وملموس دون أن تتسامى الى ما وراء هذا الكون لتسبر غوره. اما في الاسلام فلم يعرف لأحد من الصحابة حديثاً في التوحيد حتى ان ابن الحديد جعل للامام علي (علیه السلام) الفضل الأول في الدعوة اليه فيقول: واعلم ان التوحيد والعدل والمباحث الالهية، ما عُرفت إلا من كلام هذا الرجل وان كلام غيره من أكابر الصحابة لم يتضمن شيئاً من ذلك أصلاً، ولا كانوا يتصوّرونه ولو تصوّروه لذكروه، وهذه الفضيلة عندي من أعظم فضائله عليه السلام (2).

لقد كانت الغاية نبيلة، أما المهمة فصعبة وشاقة لأنها تمس كيان الأمة وتقلب موازينها وتغيّر أحكامها ومعتقداتها وأخلاقيّاتها. لقد تعجّب الامام من اختلاف الفرق في ضجيجها وتناحرها بسبب الجهل والتقليد والتعصب. فهي لا تتّبع أقوال الأنبياء ولا تسير إلا بوحي من الشهوات والشبهات، مع أن شرائع الدين واحدة وسبله قاصدة، وكان طبيعياً أن يتململ من هذا الوضع وأن يتحرك قلقاً وكما يفعل أسد حبيس قفصه إذ يلمح ما يهيج ثائرته من خلال القضبان (3).

لذلك ومن مشاهداته وخبراته، ومعاشرته لصاحب أنضج تفكير أتيحت له الحياة «انطلق الامام يشبع ميله الى نهل الحكمة من نبعها الأول: كتاب الله فما استظهره كما يفعل الرواة والحفاظ بل استوعبه استيعاب تأمل واستقصاء، وراح يشتف ما وراء ظاهر النصوص، ويعيش الآية فيه بمثيلاتها ليستخلص أتمّ الأحكام، وبلغ في هذا غاية الشاو حتى أصبح عند أهل زمانه، صاحب الرأي الأخير في التفسير، وصاحب الحكم القاطع في الفقه والشريعة، وبقيت من بعده آراؤه ودراساته، أصولاً ثابتة للعلوم الاسلامية في كل الأجيال (4).

وكان لتعدد الدراسات والمصنّفات التي تناولت العقيدة الاسلامية بالبحث والتحليل أكبر الأثر في ترسيخ جذور الاسلام وتوسيع نطاقه ليشمل قطاعات واسعة من الاعراب التي أخذت بالأهواء والشبهات والبدع وابتعدت عن الاله الواحد الأحد. وهذا كتاب نهج البلاغة يفيض بآيات التوحيد والحكمة الالهية «ولعلنا نستطيع أن نعد البحوث التوحيدية في «نهج البلاغة» من أعجب بحوث هذا الكتاب فانها - بدون مبالغة مع الالتفات الى الشرائط الزمانية.

ص: 34


1- السبيتي، موسى: علي فوق الفلاسفة، مطبعة العرفان، صيدا 1953، ص 90.
2- انظر (ح)، ج 6، ص 346.
3- مقصود عبد الفتاح: الامام علي بن أبي طالب، دار مصر للطباعة، د. ت.، ج 2، ص 12
4- مقصود، عبد الفتاح، ج 2، ص 243.

والمكانية للصدور - تقرب من حدود الاعجاز (1). لما امتازت به من البلاغة والشمول جعلت البعض يعدونها في الحد الوسط بين كلام الخالق والمخلوق، فهي «دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق» (2).

لذلك فإن البحوث الماورائية المتعلقة بالخالق وما وراء الطبيعة تعتبر من الاقسام الرئيسية التي اشتمل عليها نهج البلاغة. وهي في أكثرها بحوث عقلية فلسفية مبنية على أساس إطلاق الخالق من جميع القيود والحدود الزمانية والمكانية وإحاطته بجميع الوجود وتفرده بعزته وجلاله وقدسيته على كل ما في الوجود.

ج - نهج البلاغة ... لمن؟

ومع الشهرة الفائقة التي أخذها هذا الكتاب، فإنه تعرض الى حملة من التشكيك حول نسبة ما جاء فيه: أهو للامام علي (علیه السلام) أم لغيره؟ وانقسمت الآراء بين مؤيدة ومعارضة و انبرت الأقلام تسوّد الصفحات بمزاعم كل فريق. وكان في مقدمة هؤلاء ابن خلكان المتوفى عام 681 ه - ، الذي قال: انه ليس من كلام علي، وإنما الذي جمعه ونسبه اليه هو الذي وضعه (3) وتبعه على ذلك عدد من المفكرين القدامى والمحدثين. (4). ولقد أورد هؤلاء بعض الشبهات التي تمسكوا بها ورفضوا على أساسها كون ما جاء في نهج البلاغة هو من كلام الامام علي. هذه الشبهات أوردها ورد عليها بعض المفكرين أمثال محمد حسن آل ياسين في مقال كتبه بعنوان «نهج البلاغة ... لمن؟» ونشرته مجلة «البلاغ العراقية» (5). ثم أضاف اليها الشيخ عبد الله نعمة عدداً آخر من الشبهات نشرها ورد عليها من خلال كتابه «مصادر نهج البلاغة» (6).

ونحن نذكرها عنهما باختصار:

1 - التعرّض بصحابة رسول الله.

2 - تكرار لفظ الوصي والوصاية في نهج البلاغة.

ص: 35


1- في رحاب نهج البلاغة. ص 39.
2- انظر (ح). ج 1. ص 24.
3- وفيات الأعيان، ج 3، ص 3.
4- أمثال ابن تيمية المتوفى (728 ه - ) في «منهاج السنة». والذهبي المتوفي (748 ه - ) في ميزان الاعتدال 2 / 223، والصفدي في الوافي بالوفيات: 2 / 375. وابن حجر المتوفي (852 ه - ) في لسان الميزان (4 / 223 وجرجي زيدان في تاريخ آداب اللغة العربية 2 / 288. وأحمد أمين في «فجر الاسلام، ص 148. ومحمد كرد علي في الاسلام والحضارة العربية: 2 / 60 - 61 وغيرهم. بالاضافة الى العديد من المقالات التي ظهرت في بعض المجلات أمثال الهلال المصرية، عدد 12 1975 ص 94 - 95 في مقال لشفيع السيد و «الكاتب المصرية» عدد 170، عام 1975 ص 31، مقال لمحمود محمد شاكر و العربي: الكويتية عدد 207 عام 1976، ص 148 مقال لمحمد الدسوقي
5- مجلة البلاغ العراقية، عدد 3، 1975 مقال للشيخ محمد حسن آل ياسين.
6- نعمة، عبد الله: مصادر نهج البلاغة، دار الهدى، بیروت 1972، ص 73.

3 - طول بعض الخطب (القاصعة، الشقشقية) والكتب والعهود (عهد الأشتر) مما يخالف أسلوب الصحابة.

4 - السجع والتنميق والصناعة اللفظية والزركشة في التعبير، وهذه أمور لم تعرف - حسب رأيهم - الا بعد عصر الامام (علیه السلام).

5 - دقة الوصف، وهو أسلوب لم يكن معروفاً في عصر الامام (علیه السلام) وهو من آثار تعريب التراث اليوناني والفارسي، كما يزعمون.

6 - استعمال الاحصاءات العددية، وهو من آثار التأثر بالتعريب كما يقولون.

7 - علم الغيب وهو من خصائص النبوة لا الإمامة.

8 - الإكثار من كلمات الزهد وذكر الموت، وهذه من نتائج التأثر بالمذهب المسيحي والحركة الصوفية، وكلّه متأخر عن عصر الإمام (علیه السلام).

9 - هناك أقوال في النهج منسوبة الى أشخاص آخرين قبل الرضي.

10 - خلو كتب اللغة والأدب من الاستشهاد بما ورد في النهج.

11 - ضخامة ما جمعه النهج من الخطب والرسائل والحكم مما يتعذّر حفظه.

12 - خلو عصر الامام من القرطاس وتعذّر كتابة الكتب الطويلة، على الجلود والعظام المستعملة آنذاك.

13 - في النهج خطب كثيرة من شأنها، لو صحّت، تأييد وجهة النظر الشيعية حول حق الامام علي بالخلافة.

14 - في النهج ألفاظ مولّدة لم تعرف إلا في العصر العباسي على ألسنة أهل الكلام كالأزل والأزلية.

15 - يوجد في كثير من خطب النهج روح غريب عن الاسلام وضارّ بالمجتمع الإسلامي ويتناقض مع أحكام الدين وأصوله وترى فيها دعوة الى الرهبنة وترك ما أحلّ الله من الطيبات في الحياة الدنيا.

16 - في النهج خطب طال في صدرها حمد الله وهذا لم يعرف إلّا في العصر العباسي في خطب الجمع والأعياد التي تلقى في المساجد.

تلك هي مختلف الحجج التي احتج بها أصحابها وعلى أساسها شكّكوا بالنهج ونفوا أن يكون من كلام الامام علي (علیه السلام).

ويبدو أن الشك في نهج البلاغة ليس بجديد بدليل أنه كان قبل عصر شارح النهج ابن الحديد، في أوائل القرن السابع الهجري حيث يقول الشارح المذكور إن كثيرا من أرباب الهوى يقولون إن كثيراً من (نهج البلاغة) كلام محدث، صنعه قوم من فصحاء الشيعة، وربما عزوا بعضه الى الرضي أبي الحسن وغيره (1).

ص: 36


1- انظر (ح) ج 10، ص 127.

وسواء كان الشك قديماً أم حديثاً، فإن هذا لا يحط من قدر الامام علي ولا من قيمة هذا الكتاب التي لا تضاهى. وإذا كان بعض الشكاك قد تحامل على الامام علي وضيقوا نطاق نصيبه من «نهج البلاغة» كما يظهر من كلام محمود محمد شاكر في مجلة لمكاتب المصرية حيث يقول: (وانا أستطيع أن أؤكد بأن كثرته الكاثرة لم تجر على لسان علي رضي الله عنه قط - وانه بعد الفحص. الأول المدقق لا يكاد يسلم منه لعلي رضي الله عنه - إلا أقل من العشر. فإذا كانت النسخة التي طبعها الشيخ محمد عبده تقع في نحو 400 صفحة. فلا يكاد يصح منها إلا أقل من أربعين صفحة (1). إن هذا القول لا يستند الى منطق العلم والتاريخ لأنه يفرغ عصر الامام (علیه السلام) من كل شيء ويعتبره استمراراً للجاهلية العمياء. كما أنه يهبط بثقافة الامام الى مستوى اعرابي عركته البادية فجعلته خشن الطباع، ضيق الأفق والتفكير يعيش في دنيا حافلة بالجهل والفوضى والخرافة، مع أن عصر الامام (علیه السلام) هو العصر الذي حلق فيه الفكر العربي في أجواء الفصاحة والبلاغة وان عصر الامام (علیه السلام) هو عصر القرآن الذي كان معجزاً في بلاغته جديداً بكل ما جاء به من حكمة وسياسة وآداب أخلاقية واجتماعية كان لها أثرها العظيم في تثقيف الأذهان وإعدادها لحياة جديدة. ولم يكن الامام (علیه السلام) بعيداً عن القرآن، بل عاش في حياضه، مستلهماً إياه فكراً وعملاً، فكان «يتتلمذ للقرآن الكريم ويستوحيه نصاً في عرفان اسلامه وتقرير إيمانه. فكانت نظرته الى الخلق والخالق نظرة قرآنية يبتكر فيها ما شاء ابتكار التلميذ في الحكاية عن الأستاذ» (2).

هذا المنهج الذي اتبعه الإمام (علیه السلام) كان يفتح له من القرآن آفاقاً من المعرفة لم تكن لتنفتح عليه لو أنه قصد اليه بشعور البحث والدراسة والاطلاع فقط، بل انه كان يخلط القرآن بذاته ويحوله في نفسه وفي حياته الى منهج واقعي والى ثقافة متحركة لا تبقى داخل الأذهان ولا في بطون الصحائف، إنما تتحول آثاراً وأحداثاً تحوّل خط سير الحياة. فالقرآن لا يمنح كنوزه إلا لمن يقبل عليه بهذه الروح: روح المعرفة المنشئة للعمل. إنه لم يجىء ليكون کتاب متاع عقلي ولا كتاب أدب وفن ولا كتاب قصة وتاريخ - وان كان هذا كله من محتوياته إنما جاء ليكون منهاج حياة، وهذا ما تدبّره الامام علي (علیه السلام) من القرآن، فكان معه به فكراً وعملا.

أما علاقته بالنبي فلا تخفى على أحد. ولا ريب أن صحبة النبي صلی الله علیه و آله و سلم تؤدي الى تشابه الحال وتوافق المزاج وانسجام في المواقف، خاصة إذا صادفت استعداداً واعياً، وقلباً حافظاً، ونفساً صافية، وبصيرة نافذة فكان مع شرفه ونبله وقرابته من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يكتب الوحي (3). لذلك فإن علمه إنما هو استمرار لعلم النبي حيث كان يعيشه بدقائقه،.

ص: 37


1- مجلة الكاتب المصرية، عدد 170 سنة 1975، ص 30 - 31
2- العقاد، محمود: عبقرية الامام علي، مطبعة المعارف بمصر سنة 1943، ص 43.
3- ابن عبد ربه: العقد الفريد، تحقيق محمد سعيد العريان. دار الفكر، بيروت د. ت. ج 4، ص. 215.

وهذا ما أكده الحاكم في مستدركه (3 / 226) فقال: «لا خلاف بين أهل العلم، ان ابن العم لا يرث مع العم، فقد ظهر بهذا الاجماع أن علياً ورث العلم من النبي دونهم (1). وقد تواتر عنه العديد من الخطب والرسائل والحكم والمواعظ التي حفظها الناس وتداولوها جيلاً بعد جيل. يقول المسعودي: «والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيف وثمانون خطبة، أوردها على البديهة، وتداول الناس ذلك عنه قولاً وعملا (2) وليس من المستغرب أن يخوض الامام علي غمار هذا النشاط الفكري والفلسفي في وقت كل ما فيه يدعوه الى مثل ذلك، يؤكد ذلك العقاد بقوله: «ونحن لا نستغرب ابتداء هذا النمط من النظر الفلسفي على نحو من الأنحاء في عصر الامام علي رضي الله عنه، لأنه كان عهدا نبتت فيه أصول الفرق الاسلامية جميعاً (3) وهذه كلماته في التوحيد والعدل والصفات والقدر لا تخفى على كل ذي بصر وبصيرة، وقد تكلم فيها «قبل مولد الاعتزال بعشرات السنين» (4)

وقد شجعه على ذلك حاجة العصر الى ضرورة كشف معاني القرآن وأفكاره مقابل مختلف الأفكار السائدة فيه كفلسفة الاغريق ومنطقهم وأساطير الفرس وتصوراتهم. وإسرائيليات اليهود ولاهوت النصارى وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات، واختلط هذا كله بتفسير القرآن الكريم وعلم الكلام. وكان الامام (علیه السلام) «قد سكن العراق وبخاصة الكوفة، وهو يوم ذاك مهبط الأفكار الفارسية والسريانية والكلدانية وبخاصة البصرة التي كانت موئل الديصانية والأفكار الهندية والمذاهب النسطورية، التي عاشت فيها بتأثير مدرسة جند سابور. كان ذلك مما حدا بالامام، تلبية لحاجة العصر ان ينحو هذا النحو في بيان أصول التوحيد وما إليها تقريراً للعقائد الاسلامية، وتركيزاً لدعائمها (5).

إلا أن الفكر الكلامي كان قد بدأ منذ نزول الوحي على النبي صلی الله علیه و آله و سلم دون أن يؤدي ذلك الى الجدل الديني والنزاع العقائدي لأن الهمم كانت متجهة لتنقية النفوس من الضغائن والأحقاد وكان القرآن وأحاديث الرسول المرجع الموثوق لحل المشاكل والخلافات ثم تطورت الأمور بعد وفاة النبي صلی الله علیه و آله و سلم وحدثت الإنقسامات في صفوف المسلمين وبدأت بذور الفكر الكلامي تنبت في التربة التي هيّاها لها نزاع المسلمين حول خلافة الرسول. ولم يبرز 3

ص: 38


1- الأميني: الغدير، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 3، سنة 1967: ج 3، ص 100
2- المسعودي: مروج الذهب، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، ط 4، سنة 1964
3- عبقرية الامام علي، ص 45
4- الحسيني، هاشم معروف: الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة، دار القلم، بيروت، ط 1، سنة 1978، ص. 98.
5- مصادر نهج البلاغة، ص 73

الصراع الفكري بشكل حاد إلا في مطلع القرن الثاني، وبعد انتهاء عصر الصحابة، حيث انتشرت المذاهب الفكرية، وتعددت الفرق الكلامية، وتباينت الآراء في الأصول والفروع، ووصلت الى حد التكفير والتفسيق وحتى القتال؛ وبلغت ذروتها في العصر العباسي، عندما تدخل رجال السياسة وجندوا فريقاً على آخر: ثم ظهرت المعتزلة في مطلع القرن الثاني للهجرة بشكل واضح وعلني، وذلك حينما أسس واصل بن عطاء مدرسة الاعتزال التي أخذت تنشط وتنتشر بمبادئها، وبمساعدة الحكام العباسيين، حتى أوائل القرن الرابع للهجرة سنة 331 أي في السنة التي توفي فيها الجبّائي، آخر زعماء تلك المدرسة.

لذا كان من الممكن أن تمر الحركة الكلامية بمراحل قبل ظهور واصل بن عطاء وأن يكون هذا الأخير قد تلقى العلم ممن سبقه، خلفاً سلف. وقام هو بدور الشارح والمفسر. فكان أقرب شيء الى المعقول «أن يكون امام العصر كله قدوة في الاجتهاد والنظر وعنواناً للنوازع التي تفرقت بين أهل زمانه وتعبيراً صادقاً لتفكيره ووعيه وصاحب أقوال من قبيل هذه الأقوال (1).

وليس هناك من أدلة ثابتة وواضحة تثبت بأن بدء التفكير الكلامي كان في عهد واصل بالذات، بل إن الدلائل تشير إلى ظهوره في عهد علي (علیه السلام). حتى ان ابن المرتضى يحاول أن يرجع بسند الاعتزال الى النبي صلی الله علیه و آله و سلم فيروي عن أبي اسحق بن عياش قوله في سند المعتزلة و سند مذهبهم أصبح أسانيد أهل القبلة، إذ يتصل إلى واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد. وقد أخذ واصل وعمرو المذهب عن أبي هاشم عبد الله، وأخذه هذا وأخذه هذا عن أبيه محمد بن الحنفيّة وهذا عن والده علي بن أبي طالب وأخذه علي عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم (2). وإذا كان محمد بن الحنفية «كثير العلم، غزير المعرفة، وقّاد الفكر، مصيب الخاطر في العواقب، وقد أخبره أمير المؤمنين علي رضي الله عنه عن أحوال الملاحم واطلعه على مدارج المعالم، وقد اختار العزلة، فآثر الخمول على الشهرة وقد قيل أنه كان مستودعاً علم الأمامة حتى سلم الأمانة الى أهلها، وما فارق الدنيا إلا وقد أقرها في مستقرها (3). وإذا كان حكم الخلف هو حكم السلف «لأن علم كل واحد منهم مأخوذ عن أبيه حتى يتصل ذلك بالنبي صلی الله علیه و آله و سلم (4) فقد ثبت مقدار ما ينطوي عليه أبا هاشم من مكنون علم ومدى استفادة واصل عطاءمن هذا العلم الجم. لذلك ليس صحيحاً ما ادّعاه بعض المستشرقين من أن المعتزلة نشات عن النصرانية أمثال «دي بور» الذي جزم بتأثير المسلمين في صدر الاسلام بالعقائد المسيحية لا.

ص: 39


1- عبقرية الامام علي، ص 45.
2- ابن المرتضى: المنية والأمل، حيدر آباد 1316 ه - ، ص 4 - 5.
3- الملل والنحل، ج 1 ص 150.
4- التوحيد، ص 309.

سيما في مسألة القدر (1). ومثله «ماكدونالد» الذي أكد على تأثر القدرية بأساليب الكلام اليونانية كما تطورت عن البيزنطية والسورية (2).

ثم إن تاريخ المعتزلة، يظهر أن جدالهم مع مجوس الفرس كان أكثر من جدالهم مع اليهود والنصارى وأن مذهبهم وضع للرد على الفرس لا على النصارى. دليلنا على ذلك كثرة المسائل التي أثاروها في ردودهم على أصحاب جهم بن صفوان الخراساني الأصل. لذا كانت نشأتهم الأولى إسلامية بحتة استندوا فيها على الاسلام والعقل، وهم وإن تأثروا بغيرهم من أهل الديانات الأخرى، فإن هذا لا يقلل من أهمية القرآن وما أثاره من مشاكل كلامية كانت اللبنة الأولى في تشكيل مسائل علم الكلام في الاسلام.

كذلك فإن فكرة الجبر والاختيار ومسألة الصفات من الأمور التي تحدث عنها القرآن وخاض بها العقل الاسلامي قبل ولادة يحيى الدمشقي - (81 - 137) ه - . وتأثر العرب بالفكر الأجنبي. وليس هناك من الأدلة ما يكفي لإثبات أن المسلمين أخذوا عنهم الجدل والكلام في هذه الأمور. يقول هاشم الحسني (والانصاف ان هذه الدعوة، على إطلاقها، بعيدة كل البعد عن الواقع، وكل ما في الأمر، إن الفكر الاسلامي قد تأثر بتلك الأفكار الأجنبية بسبب اتصال المسلمين العرب بغيرهم من الأمم التي دخلت وحملت معها عقائدها وما كان يثار حولها من الشبه والشكوك، فلا بد وان يؤثر هذا الاحتكاك والاتصال بين الطرفين، وان يساهم في إثارة الشكوك والشبهات، ويبعث على البحث والتفكير والمحاكمة بين تلك العقائد والمذاهب المتباينة». ويضيف قائلاً: (أما أن المسلمين قد أخذوا عنهم الجدل والنزاع في القدر والجبر، والاختيار والصفات، وتبنوا آراءهم في هذه المواضيع، فليس لدينا الأدلة من ما يكفي لاثبات هذا الأمر، لأن فكرة الجبر والاختيار وتغاير الصفات واتحادها مع الذات وبقاء الجنة أو فناء النار هذه المواضيع قد ألمح لها القرآن الذي نزل بلغة العرب قبل نصف قرن تقريباً من اتصال العرب بالعناصر الأجنبية (3).

وإذا كان نشاط المعتزلة قد تركز على الأصول والعقائد، فإن هذا لا يعني أنه كانت لهم السبقة في هذا المجال، وان الآخرين اقتفوا أثرهم وحذوا حذوهم، لأن الفضل في ذلك يعود الى القرآن والنبي والامام، باعتبار أن مذهب الاعتزال ظهر في أواخر العصر الأموي، ولم.

ص: 40


1- De Bor; History of, philosophy, in islam, london 1933. p. 41 - 42 عن كتاب «المعتزلة»، لزهدي جار الله، ص 32.
2- Mac Donatd, Development of, Muslim, Theology jurisprudence constitutional, theory New York 1903. p: 131 عن كتاب و المعتزلة ص 32.
3- الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة، ص 98.

يصبح مذهباً له شأن ووجود إلا في العصر العباسي، في حين أن الامام علي (علیه السلام) كان قد طرق هذا الباب وحدد معنى التوحيد بمثل ما جاءت به المعتزلة، قبل ظهور مذهب الاعتزال بأكثر من خمسين عاماً. وإذا كان التوافق في الرأي والعقيدة يقتضي التبعية، فمن اللازم أن يكون المتأخر تبعاً للمتقدم وعيالاً عليه. يقول السيد المرتضى: (واعلم أن أصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) وخطبه، وانها تتضمن من ذلك ما لا مزيد عليه، ولا غاية وراءه: ومن تأمل المأثور في ذلك من كلامه، علم ما أسهب المتكلمون من بعد في تصنيفه وجمعه، إنما هو تفصيل لتلك الجمل وشرح لتلك الأصول (1).

ويرى المستشرق آدم متز، أن هذا السند هو من وضع الشيعة الزيدية، ورثة المعتزلة حسب زعمه، حملهم على ذلك عدم وجود مذهب كلامي خاص بهم في القرن الرابع الهجري. ولكي يثبت الاتفاق بين الشيعة والمعتزلة، ينقل عن المقريزي قوله: «والزيدية يوافقون المعتزلة في أصولهم كلها إلا في مسألة الامامة (2). وإلى هذا ذهب الشهرستاني أيضاً عندما اعتبر أن الزيدية كلهم معتزلة، لأن زيد بن علي المتوفي عام 121 ه - ، تتلمذ لواصل ابن عطاء وأخذ عنه الأصول (3). وإليه أشار أيضاً أحمد أمين في «فجر الاسلام» (4).

إن اعتبار الشيعة ورثة المعتزلة، إنما هو من جملة الافتراءات والدسائس التي حيكت ضدهم في العصور الاسلامية الأولى وذلك لتجريدهم من ميزاتهم الفكرية، علماً بأن أفواجهم الاولى كانت لهم اليد الطولى في ترسيخ دعائم الاسلام ونشر دعوته، يوم «كانت البذرة الأولى للشيعة، الجماعة الذين رأوا بعد وفاة النبي صلی الله علیه و آله و سلم، ان أهل بيته أولى الناس أن يخلفوه (5). وكان جهادهم في سبيل تركيز العقيدة الاسلامية في نفوس المسلمين وكلامهم في التوحيد والعدل والصفات والقضاء والقدر، قبل أن يولد الاعتزال وقبل أن يتكلم به أحد من المتكلمين. ثم ان جذوة التشيع أخذت تتنامى على مرور الأيام حتى بلغت ذروتها في عهد علي (علیه السلام).

وإذا كان إمام الزيود قد تتلمذ على واصل بن عطاء، فإن هذا لا يعني التوافق بين الزيدية والمعتزلة لأن التلمذة لا توجبه الالتزام بمواقف المعلم. لقد كان واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصري، ومع ذلك اختلف معه وكوّن مذهب الاعتزال..

ص: 41


1- الأمالي، ج 1، ص 103.
2- متز، ادم: الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة أبو ريدة، دار الكتاب العربي، ط 4، 1967، ج 1، ص 124.
3- الملل والنحل: ج 1، ص 29.
4- امین، احمد: فجر الاسلام، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1969، ص 272.
5- فجر الاسلام، ص 267.

أما ما ذكره المقريزي من توافق الزيدية والمعتزلة في جميع الأصول الا في الامامة، فإن أحمد أمين يثبت خلاف ذلك مبيناً أن هناك انسجاماً تاماً بينهما فيما يتعلق بالامامة فيقول: فزيد يرى جواز امامة المفضول مع وجود الفاضل، فليس هناك امامة بالنص، ولم ينزل وحي يعين الأئمة، بل كل فاطمي عالم زاهد شجاع سخي قادر على القتال في سبيل الحق، يخرج للمطالبة، يصح أن يكون إماماً (1)، وهذا ما تراه المعتزلة، كما سنرى فيما بعد.

من هنا فإننا نوافق ابن المرتضى على القول بأن مذهب الاعتزال هو استمرار لفكر الامام علي (علیه السلام). يؤيد ذلك ما قاله ابن المرتضى فيما يتعلق بفصاحة الحسن البصري وبلاغته وكان الحسن بارع الفصاحة، بليغ المواعظ، كثير العلم، وجميع كلامه من الوعظ وذم الدنيا، أو جله، مأخوذاً لفظاً ومعنى، أو معنى دون لفظ، من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام)، فهو في ذلك القدوة والغاية (2).

وعندما اتهمه الناس ببغض علي، بكى الحسن البصري حتى اخضلت لحيته ثم قال: كان علي بن أبي طالب سهماً صائباً من مرامي الله على عدوه، وربّاني هذه الأمة، وذا فضلها وسابقتها، وذا قرابة من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم. لم يكن بالنئومة عن أمر الله، ولا بالملولة في حق الله، ولا بالسّروقة لمال الله أعطى القرآن عزائمه، ففاز منه برياض مونقة، واعلام بينة، ذاك علي بن أبي طالب (3).

وإذا شاء البعض أن يعترض على ما تضمّنه نهج البلاغة من آراء لا تمت بصلة الى الإمام علي، لغلبة الصبغة الفلسفية عليها، وامتزاجها بالآراء والمصطلحات التي اقتبست فيما بعد، من ترجمة الكتب الاغريقية والأعجمية، ولا سيما الكلام عن الأضداد والطبائع والعدم والحدود والصفات والموصوفات، فإن هذا لا يجعلنا ننفي أن يكون النهج من وضع الامام علي ونتاج فكره، لتوزع جميع خطبه على المصادر والمراجع التي صنفت قبل عصر الشريف الرضي وفي خلاله أو بعده وارتباطها بالواقع الاجتماعي والتاريخي والفكري الذي قيلت فيه وعبرت عنه. وإذا جاز لنا أن نشك في بعض ما جاء فيه، فإن الذي نقرأه ولا نشك فيه، هو رأي القائلين بسبق الامام في مضمار علم الكلام، واعتراف المعترفين له بالاستاذية الرشيدة، ذلك أن آراء الامام علي، وان تشابهت في بعض نواحيها مع أفكار الفلاسفة الأوائل أو السابقين عليه، فإن ردنا على ما أثاره النهج من اعتراضات هو أنه قد يقع الحافر على الحافر كما قال الغزالي في رده على من اعترض عليه في إحياء علوم الدين، واتهمه بنقل أفكار السابقين عليه، ثم ان الرأي إذا كان في نفسه معقولاً، ولم يكن مخالفاً للكتاب.

ص: 42


1- نفسه، ص 272
2- الأمالي، ج 1، ص 106 - 107
3- العقد الفريد، ج 2، ص 81.

والسنة، فلا ينبغي أن يهجر وينكر لأنه سبق في خاطر فيلسوف آخر.

وحاول ابن أبي الحديد أن يرد على أقوال المشككين بطريقة منطقية فقال: «لا يخلو اما أن يكون كل نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً أو بعضه، والأول باطل بالضرورة، لأنا نعلم بالتواتر صحة اسناد بعضه إلى أمير المؤمنين (علیه السلام)، وقد نقل المحدثون كلهم أو جلهم والمؤرخون كثيراً منه، وليسوا من الشيعة لينسبوا الى غرض في ذلك. والثاني يدل على ما قلناه، لأن من أنس بالكلام والخطابة، وشدا طرفاً من علم البيان، وصار له ذوق في هذا الباب، لا بد وأن يفرق بين الكلام الركيك والفصيح، وبين الفصيح والأفصح، وبين

الأصيل والمولد.

ويضيف قائلاً: «وأنت إذا تأملت نهج البلاغة، وجدته كله ماء واحداً ونفساً واحداً وأسلوباً واحداً، كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية، وكالقرآن العزيز أوله كأوسطه، وأوسطه كآخره، وكل سورة منه وكل آية ممثلة في المأخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الآيات والسور، ولو كان بعض نهج البلاغة منحولاً، وبعضه صحيحاً، لم يكن ذلك كذلك. فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أن هذا الكتاب أو بعضه منحول الى أمير المؤمنين (علیه السلام)».

ويستطرد قائلاً: «واعلم أن قائل هذا القول يطرق على نفسه ما لا قِبَل له به، لأنا مثى فتحنا هذا الباب، وسلطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو، لم نثق بصحة كلام منقول عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أبداً، وساغ لطاعن أن يقول: هذا الخبر منحول، وهذا الكلام مصنوع. وكذلك ما نقل عن أبي بكر وعمر من الكلام والخطب والمواعظ والأدب وغير ذلك، وكل أمر جعله هذا الطاعن مستنداً له فيما يرويه عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم والأئمة الراشدين والصحابة والتابعين والشعراء والمترسلين والخطباء. فلناصري أمير المؤمنين (علیه السلام) أن يستندوا الى مثله فيها يروونه عنه من نهج البلاغة وغيره، وهذا واضح.

وقد ذكر ابن أبي الحديد هذا البرهان لأن - كما يقول - كثيراً من أرباب الهوى يقولون إن كثيراً من نهج البلاغة كلام محدث، صنعه قوم من فصحاء الشيعة، وربما عزوا بعضه الى الرضي أبي الحسن وغيره. وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم فضلّوا عن النهج الواضح، وركبوا بنيات الطريق ضلالاً وقلة معرفة بأساليب الكلام (1). ويذكر أيضاً دليلاً على ذلك ما قاله الشيخ أبو الخير مصدق بن شبيب الواسطي، عندما سأله الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشّاب، عن إحدى خطب الامام، وهي الخطبة المعروفة «بالشقشقية»، قال: أتقول أنها متحولة؟ فقال: لا الله واني لأعلم إنها كلامه، كما أعلم أنك مصدق، قال: فقلت له: ان كثيراً من الناس.

ص: 43


1- انظر (ح)، ج 10، ص 129 - 127.

يقولون أنها من كلام الرضي رحمه الله تعالى، فقال: أنى للرضي ولغير الرضي هذا النفس وهذا الأسلوب. وقد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور وما يقع هذا الكلام في خلّ ولا خمر. ثم قال: والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي. قلت: وقد وجدت أن كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديين من المعتزلة، وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة، وجدت أيضاً كثيراً منها في كتاب أبي جعفر بن قبة، أحد متكلمي الأمامية وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب «الانصاف»، وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي رحمه الله تعالى، ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي رحمه الله تعالى موجوداً (1).

بهذا الكلام وبغيره مما سبق، نستطيع القول بأن نهج البلاغة في كثرته الكاثرة من وضع الامام علي (علیه السلام). لذلك فهو يعتبر بحق أول من دافع، بعد النبي (ص) عن الإسلام بمنطق العقل، وأول من رد شبهات المضللين وأقوال المشككين، وأول من وفق بين الفلسفة والدين وأوّل الآيات المتشابهة بما يتفق ومنطق العقل ورفع راية التوحيد لذا قال عنه عبد الكريم الخطيب: ... وكان علي فقيه الاسلام وعالم الاسلام، وحكيم الاسلام غير مدفوع عن هذا أو منازع فيه، وهذه المرويات من آثاره تشهد بأنه كان البحر الذي لا غوره، وان مقاطع أحكامه، وفواصل قوله، وجوامع حكمه، قد مسّتها نفحة من نفحات النبوة، فخالطت - النفوس ومازجت القلوب وسكنت الى العقول، حتى علق الناس فيها بهذا القدر الكبير لأول وضعها في الآذان، قبل أن تحويها الأوراق وتضمها الصحف (2).

من هذا المنطلق، فإن ابن أبي الحديد يرجع بسند جميع الفرق الكلامية الى الامام علي (علیه السلام) فيقول: وأما الحكمة والبحث في الأمور الالهية، فلم يكن من فن أحد من العرب، ولا نقل في جهاد أكابرهم وأصاغرهم شيء من ذلك أصلاً. وهذا فن كانت اليونان وأوائل الحكماء وأساطين الحكمة ينفردون به، وأول من خاض فيه من العرب علي عليه السلام. ولهذا تجد المباحث الدقيقة في التوحيد والعدل مبثوثة عنه في فرش كلامه وخطبه، ولا تجد في كلام أحد من الصحابة والتابعين كلمة واحدة من ذلك ولا يتصورونه، ولو فهّموه لم يفهموه، وافى للعرب ذلك.

ولهذا انتسب المتكلمون الذين لججوا في بحار المعقولات، اليه خاصة دون غيره، وسموه استاذهم ورئيسهم، واجتذبته كل فرقة من الفرق الى نفسها. الا ترى أن أصحابنا - المعتزلة - ينتمون الى واصل بن عطاء، وواصل تلميذ أبي هاشم بن محمد بن الحنفية، وأبو.

ص: 44


1- نفسه، ج 1، ص 205 - 206.
2- علي بن أبي طالب: ص 87.

هاشم تلميذ أبيه محمد، و محمد تلميذ أبيه علي عليه السلام. وأما الشيعة من الامامية والزيدية والكيسانية، فانتماؤهم اليه ظاهر. وأما الأشعرية، فإنهم بأخرة ينتمون اليه أيضاً، لأن أبا الحسن الأشعري تلميذ شيخنا أبي علي رحمه الله تعالى، وأبو علي تلميذ أبي يعقوب الشحام، وأبو يعقوب تلميذ أبي الهذيل، وأبو الهذيل تلميذ أبي عثمان الطويل وأبو عثمان الطويل تلميذ واصل بن عطاء، فعاد الأمر الى انتهاء الأشعرية الى علي عليه السلام، وعقيدتهم تنتهي الى علي عليه السلام من طريقين:

أحدهما: بأنهم يسندون اعتقادهم عن شيخ بعد شيخ، الى أن ينتهي الى سفيان الثوري. ثم قال: وسفيان الثوري من الزيدية، ثم سأل نفسه فقال: إذا كان شيخكم الأكبر الذي تنتمون اليه كان زيدياً، فما بالكم لا تكونون زيدية؟ وأجاب بأن سفيان الثوري رحمه الله تعالى، وإن اشتهر عنه الزيدية، إلا أن تزيّده إنما كان عبارة عن موالاة أهل البيت، وإنكار ما كان بنو أمية عليه من الظلم، وإجلال زيد بن علي وتعظيمه وتصويبه في أحكامه وأحواله، ولم ينقل عن سفيان الثوري أنه طعن في أحد من الصحابة.

الطريق الثاني: انه عد مشايخهم واحداً فواحداً، حتى انتهى الى علماء الكوفة من أصحاب علي كسلمة بن كهيل، وحبّة الغرني، وسالم بن الجعد، والفضل بن دكين وشعبة، والأعمش، وعلقمة، وهبيرة بن مريم، وأبي إسحاق الشعبي، وغيرهم، ثم قال: وهؤلاء أخذوا العلم من علي بن أبي طالب عليه السلام، فهو رئيس الجماعة - يعني أصحابه، وأقوالهم منقولة عنه ومأخوذة منه.

وأما الخوارج، فانتماؤهم اليه ظاهر أيضاً، مع طعنهم فيه لأنهم كانوا أصحابه، وعنه مرقوا، بعد أن تعلموا عنه واقتبسوا منه، وهم شيعته وأنصاره بالجمل وصفين، ولكن الشيطان ران على قلوبهم وأعمى بصائرهم (1).

من هذا المنطلق، فإن الامام علي (علیه السلام) يعتبر الباعث الذي يلي النبي، للروح الكلامية في الاسلام، تلك الروح التي استلهمها من أحاديث النبي المبنية على القرآن، محور الفرق الكلامية على اختلافها بحيث لا تجد رأياً لعلماء الفرق الاسلامية، وأصحاب المذاهب الكلامية، كالجبرية والقدرية، والمرجئة، والوعيدية، والصفاتية، والجهمية، والشيعة، والخوارج، إنك لا تجد رأياً لهذه الفرق إلا وله مستند من الكتاب العزيز (2) - وهذه تعاليم أولاده وأهل بيته من بعده، مشحونة بالمبادىء العقلية للدفاع عن العقيدة الاسلامية ورد الشبهات عنها، وقد صيغت في قضايا فلسفية ظهرت في قول علماء الكلام وفلاسفة المسلمين، فرددوها على ألسنتهم ودونوها في أسفارهم واتخذوها أساساً لفلسفتهم من حيث يقصدون أو لا يقصدون.

ص: 45


1- انظر (ح)، ج 6، ص 370 - 372.
2- مصادر نهج البلاغة، ص 84.

الأصول

وهي تتألف من المبادىء الخمسة التي تكونت منها مدرسة الاعتزال أهمها:

أولاً: التوحيد

التوحيد أصل الإيمان وهو كما عرفنا أمر فطرت عليه العقول البشرية قبل إنزال الكتب وبعث الرسل، ذلك أن كل أمة من أمم التاريخ، على اختلاف حضاراتها ومستوياتها الفكرية، لم تنكر خالقها وصانعها، لكنها عبرت عنه بعبارات مختلفة، فضلوا عن طريق الحق، وتاهوا في بيداء الجهل، وحاروا فيما ينبغي وما لا ينبغي وصفه به، ولما عجزوا عن الوصول الى كنه عظمته، شبّهوه بأشيائهم وقدّروه بنفوسهم، ومثّلوه بأشكال مختلفة ظنّوا انها الله، إلى أن قضت العناية الربانية، والحكمة الالهية ببعث الأنبياء وإنزال الكتب لتوجيه الخلق الى سبيل المعرفة الحقّة بالله، خالق السموات والأرض كما قال سبحانه (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (لقمان / 25)

والتوحيد هو المبدأ الأول للمعتزلة والامامية، ويتفرع عنه أربع قضايا رئيسية وهي:

1 - التنزيه:

هذه القضية تدور حول السؤال التالي: هل الله جسم، أم أنه منزّه عن الجسمية؟

لقد اختلفت الآراء في هذه القضية، شأنها في ذلك شأن العديد من المسائل الالهية المتعلقة بذات الله تعالى، وتراوحت بين النفي والاثبات فالنصّيون أو الحرفيون الذين تمسكوا بالنص الحرفي للقرآن وبمعناه الظاهر أثبتوا أن لله جسماً، أي أنهم أقرّوا بالجسمية (المشبهة مثلا). في حين أن المعتزلة ناهضوا هذه المفاهيم البدائية وتغلغلوا الى المعنى الباطني للقران فنفوا أن يكون لله تعالى جسماً، ونزّهوه بذلك عن الجسمية.

والذي أدى الى هذا الانقسام الفكري حول الذات الالهية، هو كون القرآن حافل بكثير من الآيات التي يدل بعضها على التنزيه كقوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى / 11)، وبعضها الآخر يدل على التجسيم كقوله تعالى (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (الفتح / 11) كما أن هناك آيات تدل على أنه تعالى ليس في جهة معينة (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)

ص: 46

(البقرة / 115) وأخرى تدل على كونه تعالى في جهة معينة ﴿ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) (الأعراف / 54) وهناك آيات تنفي الرؤية كقوله تعالى (لا تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار) (الأنعام / 6) وأخرى تثبت الرؤية كقوله عزّ وجل (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَة إلى رَبِّها نَاظِرَةٌ) (القيامة / 22).

هذا التواتر في الآيات، جعل البعض يتشكك بالقرآن كما هو حال ذلك الرجل الذي أتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين اني قد شككت في كتاب الله المنزل؟ قال له: ثكلتك أمك وكيف شككت في كتاب الله المنزل؟ قال: لأني وجدت الكتاب يكذب بعضه بعضاً فكيف لا أشك فيه. فقال له علي بن أبي طالب (علیه السلام): ان كتاب الله ليصدق بعضه بعضاً ولا يكذب بعضه بعضاً ولكنك لم ترزق عقلاً تنتفع به (1)

أما البعض الآخر، ممن آمن بوحدانية الله وانه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى / 11) فقد نفوا عنه جميع صفات المحدثات، وأولوا الآيات الدالة على ذلك (المعتزلة).

هذا الأسلوب الذي اعتمده المعتزلة في إثبات ذات الله واحدة لا إنقسام فيها ولا ترکیب ونفي صفات المحدثات والذي سموا على أساسه بالمعطلة، أنكره أهل السلف من أصحاب الحديث، ودفعهم الى أن يؤمنوا بالتوحيد إيماناً إجمالياً، فيقولون بوجود الله ووحدانيته، كما ورد في كتاب الله وسنة نبيه، ويمسكون عن التأويل. وهذا ما روي عن أحمد بن حنبل وداود بن علي الأصفهاني وغيرهم من أئمة السلف فقالوا: «نؤمن بما ورد به الكتاب والسنة ولا نتعرض للتأويل بعد أن نعلم قطعاً أن الله عز وجل لا يشبه شيئاً من المخلوقات وان كل ما تمثل في الوهم فإنه خالقه ومقدره».

وتوقفوا في تفسير الآيات وتأويلها لامرين:

أحدهما: المنع الوارد في التنزيل في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (آل عمران / 7).

والثاني: إن التأويل أمر مظنون بالاتفاق، والقول في صفات الباري بالظن غير جائز، فربما أوّلنا الآية على غير مراد الباري تعالى فوقعنا في الزيغ، بل نقول كما قال الراسخون في العلم (كل من عند ربنا) آمنا بظاهره وصدقنا بباطنه، ووكلنا علمه الى الله تعالى ولسنا مكلفين بمعرفة ذلك، إذ ليس ذلك من شرائط الإيمان وأركانه (2)..

ص: 47


1- الصدوق: التوحيد، دار المعرفة، بيروت، د. ت. ص 255.
2- الملل والنحل، ج 1، ص 104.

أما الإمام علي (علیه السلام) فقد آمن بإله واحد لا شريك له وعبّر عن ذلك باعتبارات من الصفات الثبوتية والسلبية، فنفى عنه سائر الكيفيات بمعانيها الجسمية وأثبت له كل ما من شأنه أن يؤدي الى التوحيد المطلق. كما نزّهه عن الكيفية كونها تتعارض مع توحيده تعالى ومع كونه واجب الوجود بذاته. فمن نسب له كيفية ما، فقد جعله ذا هيئة وشكل، ومتى كان كذلك كان جسماً والله منزه عن الجسمية. ولقد فسر البحراني الكيفية بقوله: «هيئة قارة في المحل لا يوجب اعتبار وجودها فيه نسبة الى أمر خارجي عنه، ولا قسمة في ذاته ولا نسبة واقعة في أجزائه. وبهذه القيود يفارق سائر الأعراض (1)

كذلك فقد نزّهه عن المثل والشبه، لأن من جعل له مثلاً وشبهاً، لم يصب حقيقته، إذ أن كل ما له مثل وشبه فليس بواحد وليس بواجب الوجود وكل صورة ترسم في الخيال عن الله، إنما هي ظل وشبح للجسم المحدود لا لله تعالى. قال الملاصدرا و إن كان ما تصورته لذات الله مطابقاً للواقع، يلزم أن يكون الله جسماً محدوداً، وهو محال وان لم يطابق فهو كذب و سراب (2)

ونزّهه عن الجهة لأن من أشار اليه إنما أثبت له جهة معينة وحكم عليه بما هو من خواص الأجسام، والضرورة تقضي بأن كل ما هو في جهة فاما أن يكون لابثاً فيها أو متحركاً عنها فهو لا ينفك عن الحوادث وكل ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث فلا يكون واجباً وهذا خلف. كذلك يفعل من توهمه أو تخيله في صورة أو هيئة أو شكل من ذلك قوله (علیه السلام): «ما وحّده من كيّفه ولا حقيقته أصاب من مثّله، ولا إياه عنى من شبّهه، ولا صمده من أشار إليه (3).

وإذا كان الله واحد متفرد بذاته، لا شبه له ولا مثل ولا كيف فهو من هذه الناحية و لا يوصف بشيء من الأجزاء ولا بالجوارح والأعضاء ولا بعرض من الأعراض ولا بالغيريّة والأبعاض ولا يقال له حد ولا نهاية ولا انقطاع ولا غاية، ولا ان الأشياء تحويه فتقله أو تهويه. أو ان شيئاً يحمله فيميله أو يعدله، ليس في الأشياء بوالج ولا عنها بخارج) (4).

وهكذا فقد انتفى كونه تعالى جسماً مركباً، لأنه لو كان مركباً لافتقر الى أجزائه، ومن كان كذلك، فهو ممكن، لكنه سبحانه واجب فاستحال ان يوصف بشيء من الأجزاء..

ص: 48


1- شرح نهج البلاغة للبحراني، ج 4، ص 151.
2- مغنية، محمد جواد: في ظلال نهج البلاغة، دار العلم للملايين، بيروت، ط أ.د، 1970 م، ج 3، ص 67.
3- انظر (ح)، ج 13، ص 69.
4- أنظر (ح)، ج 13، ص 81 - 82.

كما استحال أن يوصف سبحانه بعرض من الأعراض كما تقول الكرامية (1)، «لأنه لو حله العرض لكان ذلك العرض ليس بأن يحل فيه أولى من أن يحل هو في العرض، لأن معنى الحلول، حصول العرض في حيز المحل تبعاً لحصول المحل فيه، فما ليس بمتحيز لا يتحقق فيه معنى الحلول، وليس بأن يجعل محلاً أولى من أن يجعل حالاً (2).

كما استحال كونه ذا مقدار محدود أي أنه تعالى غير متناهي الذات، لأنه جل شأنه ليس بجسم وكانت النهاية من لواحق الأشياء ذوات المقادير. ويفسر ابن أبي الحديد ذلك بقوله: إن ذات البارى تعالى غير متناهية، لا على معنى أن امتداد ذاته غير متناه فإنه سبحانه ليس بذي امتداد، بل بمعنى أن الموضوع الذي يصدق عليه النهاية ليس بمتحقق في حقه سبحانه، فقلنا أن ذاته غير متناهية كما يقول المهندس: ان النقطة غير متناهية، لا على معنى أن لها امتداد غير متناه فإنها ليست بممتدة أصلاً، بل على معنى أن الأمر الذي تصدق عليه النهاية وهو الامتداد لا يصدق عليها فاذن صدق عليها انها غير متناهية (3). ولا يجوز عليه العدم ولو جاز عليه ذلك لكان وجوده الآن متوقفاً على عدم سبب عدمه، وكل متوقف على الغير فهو ممكن، والله سبحانه واجب فاستحال عليه العلم، فالله «موجود لا بعد عدم (4). كما قال الامام. كما لا يجوز كونه عرضاً حالاً في المحل، لأن كل حال في الأجسام ممكناً، أو أن يكون محلاً لشيء، لأن هذه من لوازم الجسمية المنزّه عنها تعالى. فالله سبحانه لا متحيز ولا حال في المتحيز، ومن كان كذلك استحال حصوله في جهة ما، فلو كان تعالى حالاً في غيره لزمه الامكان فلا يكون واجباً، وهذا خلف.

وهكذا، فقد سلب الامام علي (علیه السلام) عن الله تعالى كل معنى دال على التجسيم. إلا أن نفي الصفات السلبية هذه، لا يعني عدم تحققها فيه تعالى والا لزم التعطيل. إن وجودها فيه يكون لا بدلالة المفهوم المتكثر، بل باعتبارها متحققة تحقق الذات الواجبة. فالكبر والعظمة مثلاً، هما بالنسبة إلينا مقداراً وكماً ممتداً في الجهات الثلاث طولاً وعرضاً وعمقاً، فيحصل كبير الجسم وعظيمه. أما الله جلّ شأنه، فهو منزه عن هذه الأبعاد لأنه كبر شأناً وعظم قدراً من هذه الناحية، فإن الامام علي (علیه السلام) ينعي على أولئك الذين تقربوا الى الله بأصنامهم وقدروه بأوهامهم وجزؤ وه بخواطرهم، لأن الله واحد لا شبه له ولا مثل، كذلك نطقت آياته وحججه وبيناته فهو الذي «بان من الخلق فلا شيء كمثله» (5) كما يقول (علیه السلام)

على هذا، فلا ينبغي تصور الله تعالى بوهم، لأن كل موهوم محدود والله لا يحده شيء.

ص: 49


1- أنظر الملل والنحل ج 1، ص 108.
2- أنظر (ح) ج 13، ص 82 - 83.
3- نفسه، ج 3، ص. 235 - 236.
4- توحيد الصدوق، ص 308.
5- توحيد الصندوق، ص 32.

ولا يحيط به شيء، لأنه أزلي أبدي لا أول له ولا آخر، ومتى توهم بغير ذلك فقد خولف التوحيد، لأن كل جسم أو عرض أو حال في محل أو مختص بجهة لا بد أن يكون منقسماً في ذاته، وكل منقسم فليس بواحد، وقد ثبت أنه واحد. وما أبلغ الامام (علیه السلام) في ذكره لمعنى التوحيد بقوله: التوحيد الا تتوهمه (1)

أما المعتزلة، فلم يخرجوا عن هذا الإطار، إذ أن اعتمادهم المطلق على العقل وإيمانهم بحرية الإرادة الانسانية، جعلهم يبحثون في هذه المسألة بجرأة ودون تهيب، معتمدين في ذلك على التأويل، فيقبلون من الآيات ما يؤيد مذهبهم في التوحيد ونفي التشبيه. أما الآية التي يدل ظاهرها على غير ذلك فيأولونها بشكل ينسجم مع حكم العقل. لذلك فقد نفوا التشبيه عن الله تعالى من كل وجه «جهة ومكاناً وصورة وجسماً، وتحيزاً وانتقالاً وزوالاً وتغيراً وتأثراً وأوجبوا تأويل الآيات المتشابهة فيها، وسموا هذا النمط توحيداً (2). وناهضوا المفاهيم البدائية الدالة على التجسيم وتغلغلوا الى المعنى الحقيقي لها، وأولوها تأويلا يتفق مع معطيات الدين الاسلامي، ونزّهوا الباري تعالى عن الجسمية، وقالوا أن الآية (يد الله فوق أيديهم) تعني أن قدرة الله فوق قدرتهم، وان الآية (استوي على العرش) تعني أن الله ملك الدنيا وحاملها. ثم تعمّقوا في تأويلهم تعمّقاً فلسفياً مبنياً على الفكر والمنطق المستوحيين من صميم العقيدة الاسلامية، ونفوا عن الباري معنى الجسمية بالشكل التالي:

إن كل جسم، إنما هو محدث، أي أنه وجد في زمن معين وكل جسم لوجوده يحتاج الى طول وعرض وارتفاع. وبما أن الله أزلي أي قديم فهو غير محدث لأنه إذا كان محدثاً لكان وجد في زمان معين. فلو كان للباري تعالى جسم لأصبح تعالى محدث وبالتالي تكون قد نسفنا المبادىء الأساسية للديانات السماوية.

وبالتالي فإن تنزيه الله عن الجسمية يؤكد مبدأ التوحيد الذي نادى به المعتزلة.

هذا الإله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لا يقاس بالناس ولا يشمل بحد، تعالى عن الشبه والمثل والند الذي «لا تناله الأوهام فتقدّره ولا تتوهمه الفطن فتصوره، ولا تدركه الحواس فتحسّه، ولا تلمسه الأيدي فتمسّه، لا يتغير بحال ولا يتبدّل بالأحوال ولا تبليه الليالي والأيام، ولا يغيّره الضياء والظلام (3).

هذا الإله المتفرد بذاته، المقدس عن روابط الجسمية ومستلزماتها الذي لا يمكن رؤيته بأي حال من الأحوال، كيف صوره الامام علي (علیه السلام)، وأجاز رؤيته؟.

ص: 50


1- أنظر (ح)، ج 20، ص 227
2- الملل والنحل، ج 1، ص 45.
3- انظر (ح)، ج 13، ص 80.

رؤية الله:

لقد اختلفت الأمة في جواز رؤية الله سبحانه وتعالى على أقوال فذهبت المشبهة، والكرامية الى جواز رؤيته تعالى في الدارين وفي الجهة والمكان لكونه عزّ وجل عندهم جسماً. وذهب الأشاعرة الى جواز رؤيته في الآخرة، منزهاً عن المقابلة والجهة والمكان، وذهبت المعتزلة والامامية الى امتناعها في الدنيا والآخرة. وقد دلت الآيات الكريمة والبراهين العقلية والأخبار المتواترة عن أهل البيت صلوات الله عليهم، على امتناعها مطلقاً، وهذا ما سنراه واضحاً من كلام الامام علي (علیه السلام).

فمن کلام خاطب به رجلا يقال له ذعلب، وقد سأل الامام: «يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك؟ فقال: ويلك يا ذعلب، ما كنت أعبد رباً لم أره. قال: يا أمير المؤمنين كيف رأيته؟ قال: ويلك يا ذعلب لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان: ويلك يا ذعلب، ان ربي لطيف اللطافة فلا يوصف باللطف، عظيم العظمة فلا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء ... جليل الجلالة ... قبل كل شيء ... وبعد كل شيء شائي الأشياء لا بهمة، دراك لا بخديعة هو في الأشياء كلها غير متمازج بها، ولا بائن عنها، ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجل لا باستهلال رؤية، بائن لا بمسافة، قريب لا بمداناة، لطيف لا بتجسم، موجود لا بعد عدم، فاعل لا باضطرار، مقدر لا بحركة، مريد لا تهامة، سميع لا بآلة، بصير لا بأداة، لا تحويه الأماكن، ولا تصحبه الأوقات، ولا تحده الصفات، ولا تأخذه السنات، سبق الأوقات كونه، والعدم وجوده، والابتداء أزله، وبتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، وبمضادته بين الأشياء، عرف أن لا ضد له وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة والجمود بالبلل والصرد بالحرور، مؤلف بين متعادياتها، مفرق بين متدانياتها، دالة بتفريقها على مفرقها، وبتأليفها على مؤلفها وذلك قوله عز وجل: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الذاريات / 49)، ففرق بها بين قبل وبعد ليعلم أن لا قبل له ولا بعد، شاهده بغرائزها على أن لا غريزة لمغرزها، مخيرة بتوقيتها ان لا وقت لموقتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه وبين خلقه غير خلقه، كان رباً إذ لا مربوب، والها اذ لا مألوه، وعالماً إذ لا معلوم، وسميعاً إذ لا مسموع (1).

في هذه الخطبة التي تتوزعها صفحات النهج، أيضاً تتجلى روعة الامام (علیه السلام) في بيان معنى التشبيه والتنزيه في صفاته تعالى، وفي معنى تعلق الرؤية به سبحانه. فالله لطيف، عظيم، كبير، جليل، قدیم، فاعل، مرید، سميع، بصير، دراك، ظاهر، متجل.

ص: 51


1- توحيد الصدوق، ص 308 - 309. - الاحتجاج للطبرسي، دار النعمان، النجف سنة 1966 م ج 1، ص 312.

موجود، وغير ذلك من الصفات التي تطلق عليه لا على سبيل التجسيم والتشبيه بخلقه لأنه ليس كمثله شيء. كما أنه سبحانه لا مشعَرَ له ولا جوهر، ولا غريزة، لأنها من مستلزمات الجسمية تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

أما رؤية هذا الإله فلا تناط بالحواس، إنها رؤية بصيرة لا رؤية بصر، فهي ليست بمباشرة الحواس، ولا بوصف من الخيال ولا باستقصاء الأخبار عنه ولكن رؤية تتم بحقيقة الايمان. ويتضح ذلك من القول الذي لم يسبقه اليه أحد «حجب بعضها عن بعضها ليعلم أن لا حجاب بينه وبين خلقه غير خلقه». فهو يشير إلى أن ما يحجب المرء عن خالقه، إنما هي نفسه التي أقبلت على الدنيا وملذاتها فشغلتها عن الآخرة. أما إذا خلص المؤمن إيمانه لربه وتخلص من أدران المادة، لم يعد قلبه متعلق بشيء سوى ربه، عندها لا يبقي ما يحجب ربه عنه، فيراه بحقيقة الايمان.

وهكذا فالله منزه عن الرؤية بحاسة البصر لتنزهه عن الجسمية ولواحقها من الجهة وتوجيه البصر والإدراك به والضرورة تقضي بأن ما ليس بجسم ولا حال في جسم ولا في جهة ولا مكان ولا حيز ولا يكون مقابلاً ولا في حكم المقابل فإنه لا يمكن رؤيته، ومن كابر في ذلك فقد أنكر الحكم الضروري وكان في ارتكاب هذه المقالة سوفسطائياً (1)

أما الرؤية الممكنة له، فهي رؤية القلوب له بحقائق الإيمان وهي العمل الصالح والتصديق بوجوده تعالى ووحدانيته وسائر صفاته واعتبارات أسمائه الحسنى.

وإنطلاقاً من منطقهم القويم وفكرهم الخلاق قالت المعتزلة بنكران رؤية الله بالأبصار وناهضوا الأحاديث التي تخالف ذلك كما أجمعت على أن الله سبحانه لا يُرى بالأبصار واختلفت: هل يُرى بالقلوب؟ فقال أبو الهذيل وأكثر المعتزلة: نرى الله بقلوبنا: بمعنى انا نعلمه بقلوبنا (2)

2 - الصفات:

لقد شغلت الصفات سلباً وايجاباً، المفكرين منذ أقدم العصور وحتى يومنا هذا، ولم يخل منها دين من الأديان أو تجاوزتها ملة من الملل السابقة على الاسلام. ولم يكن المسلمين على خلاف فيما يتعلق بكون الله سبحانه وتعالى يوصف بكل ما وصف به نفسه في كتابه العزيز، وان عظمته في الكمال والجلال لا يحدها وصف ولا يدركها عقل ولا يحيط بها وهم، وإنها أحدية فردية أزلية أبدية تماماً كذاته القدسية. ولكن الخلاف وقع على الصفات بأي

ص: 52


1- المظفر، الشيخ محمد حسن: فضائل أمير المؤمنين وأمامته، دار إحياء التراث العربي، بيروت سنة 1389 ه - ج 1، ص 107.
2- الأشعري: مقالات الاسلاميين، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، ط 1، سنة 1950، ج 1، ص 265,218.

معنى تنسب إليه تعالى وكيف تطلق عليه؟ وهل تنسب إليه جل شأنه على أنها شيء غير الذات زائدة عليها كما يوصف الانسان بالعلم مثلاً. أم أن الله يوصف بما تقتضيه ذاته القدسية من كونها والصفات شيء واحد غير زائدة عليها؟

لقد نفى المعتزلة، الذين قالوا بالتنزيه، الصفات الأزلية عن الله تعالى، وقالوا بأن الصفات ليست زائدة على الذات، بل انها والذات تؤلفان حقيقة واحدة أزلية، واتفقوا «جميعاً على أن الله عالم بذاته، قادر بذاته، حي بذاته، لا بعلم وقدرة وحياة، هي صفات قديمة ومعان قائمة به، لأنه لو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخص الوصف لشاركته في الالهية (1). لذلك فهم لا يثبتون القدم الزماني لصفاته تعالى.

أما الأشاعرة فقد خالفوا المعتزلة وقرروا أن صفات الله زائدة على ذاته فالله سبحانه موصوف وله صفات، وهذه الصفات أزلية قديمة. يقول الأشعري: «وهذه الصفات أزلية قائمة بذاته تعالى، لا يقال: هي هو، ولا هي غيره ولا لا هو، ولا لا غيره (2). بمعنى أنها ليست عين الذات، وليست غير الذات، وهذا غير معقول، لأن الشيء إذا نسب إلى آخر فاما أن يكون هو هو أو غيره، ولا يعقل سلبهما معاً. قال فخر الدين الرازي: النصارى كفروا بأنهم أثبتوا ثلاثة قدماء وأصحابنا قد أثبتوا تسعة (3). لقد أثبت الأشاعرة مع الله معاني قديمة فلزمهم من ذلك إثبات قديم غير الله (ولو كان تعالى موصوفاً بهذه الصفات وكانت قائمة بذاته تعالى كانت حقيقة الالهية مركبة وكل مركب محتاج الى جزئه وجزؤه غيره فيكون الله تعالى محتاجاً إلى غيره فيكون ممكناً (4).

فالمسألة إذن تدور حول السؤال التالي: هل ان صفات الله هي عين ذاته أم مغايرة لها زائدة عليها؟

لقد تحدث الامام (علیه السلام) عن إله واحد ليس فيه كثرة ولا تتعدد. ولما كانت حقيقته تعالى، برية عن التركيب واختلاف الجهات، وكانت الأجسام، إنما تعرف بهذه الأمور والله ليس بجسم، فقد ثبت أن كنهه سبحانه من الأمور التي لا يمكن الإحاطة به، فلا تدركه

همة، وان بعدت ولا تناله فطنة وان قويت: «الذي لا يدركه بعد الهمم ولا يناله غرض الفطن (5). ومن شأنه إضافة أية صفة زائدة على ذاته ان تتنافى مع وحدانيته ووجوب ذاته،.

ص: 53


1- الملل والنحل، ج 1، ص 41 - 45.
2- المرجع نفسه ص 95.
3- فضائل أمير المؤمنين وأمامته، ج 1، ص 162.
4- المرجع نفسه.
5- انظر (ح)، ج 1، ص 57.

لما يعنيه ذلك من تعدد القدماء، ونسف مبدأ التوحيد الذي آمن به عن الحسين بن الخالد قال: «سمعت الرضا علي بن موسى يقول: لم يزل الله تبارك وتعالى علياً قادراً حياً قديماً سميعاً بصيرا. فقلت له: يا ابن رسول الله، ان قوماً يقولون: انه عزّ وجل لم يزل عالماً بعلم وقادراً بقدرة، وحياً بحياة، وقديماً بقدم، وسميعاً بسمع، وبصيراً ببصر، فقال عليه السلام: من قال ذلك ودان به فقد اتخذ مع الله آلهة أخرى وليس من ولايتنا على شيء. ثم قال (علیه السلام): لم يزل الله عز وجل عليهماً قادراً حياً قديما سميعاً بصيراً لذاته، تعالى عما يقول المشركون والمشبهون علواً كبيرا (1).

وهكذا فلا صفة لله تزيد على ذاته، إذ أن علمه وقدرته ... هي عين ذاته الواحدة وإنما هي تختلف لا لاختلاف ذاته، بل بحسب اعتبارات تحدثها عقولنا الضعيفة بالقياس الى مخلوقاته. لذلك فإن الاخلاص لله عز وجل يقضي بنفي المعاني القديمة عنه، تلك التي تثبتها الأشعرية وهي المسماة بالصفات في الاصطلاح القديم، ولهذا يسمى أصحاب المعاني بالصفاتية. ولقد أحال الحلي وصف الله بصفة زائدة على ذاته: فقال: «بأن الله يستحيل أن يتصف بصفة زائدة على ذاته بأي نحو كانت لأن وجوب الوجود يقتضي الاستغناء عن كل شيء فلا يفتقر في كونه قادراً الى صفة القدرة، ولا في كونه عالماً الى صفة العلم ولا الى غير ذلك من المعاني والأحوال (2).

فالصفة من المعاني المضافة الى الموصيف والتابعة له وجوداً وعدما، ومن البداهة أن التابع غير المتبوع، والمضاف غير المضاف اليه والموصوف في غنى عن الصفة، وهي في حاجة اليه، ويستحيل نسبة الصفة اليه تعالى بهذا المعنى، والا لزم تعدد القدماء وتركيب الذات الالهية القدسية الواجبة الوجود، وهذا من شأن الموجودات الممكنة تعالى الله عما يصفه الواصفون، وإلى هذا أشار الامام (علیه السلام) بقوله: أول الدين معرفته وكمال معرفته التصديق به، وكما التصديق به توحيده، وكمال توحيده الاخلاص له، وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة (3). فمن وصفه تعالى بصفة قديمة زائدة على ذاته، فقد قرنه بصفته وقرن الصفة به، ومن فعل ذلك فقد ثناه لأنه أثبت قديمين والتثنية تؤدي الى التجزئة والتركيب، وهذا هو الجهل بحقيقته تعالى. ومن شأن الجاهل أن يشخص الله في ذهنه كما يتصور ويتوهم، فيوجب الله حدوداً وقيودا ينتهي عندها، ولا يتجاوزها والله لا يشخصه عقل، «ولم يطلع العقول على تحديد صفته». (4). ولا يدركه وهم ولا يحيط به حد أو يحصيه عد، ولا يخلو منه مكان ولا زمان:.

ص: 54


1- توحيد الصدوق، ص 140.
2- الحلي: شرح التجريد، مطبعة الحكمة بقم، د.ت.، ص 173 - 172
3- أنظر (ح)، ج 1، ص 72.
4- نفسه، ج 3، ص 216.

فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّاه، ومن جزّاه فقد جهله ومن جهله فقد أشار اليه، ومن أشار اليه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن قال: فيم فقد ضمنه ومن قال علام فقد أخلى منه (1).

وهكذا يصعب على الانسان المحدود عقلاً أن يدرك الذات الالهية بعظمتها وجلالها وكيف يتسنى له ذلك وهو قاصر عن رؤية مخلوقات الله، كملك الموت مثلاً هل تحس به إذا دخل منزلاً؟ أم تراه إذا توفي أحداً؟ بل كيف يتوفى الجنين في بطن أمه؟ ايلج عليه من بعض جوارحها؟ أم الروح أجابته باذن ربها؟ أم هو ساكن هو ساكن معه في أحشائها؟ كيف يصف الله من يعجز عن صفة مخلوق مثله! (2). ثم قال لمن يتكلف وصف ربه و بل ان كنت صادقاً أيها المتكلف لوصف ربك فصف جبريل وميكائيل وجنود الملائكة المقربين في حجرات القدس مرجحنّين متولهة عقولهم أن يحدّوا أحسن الخالقين (3).

فإذا كان الانسان عاجزاً عن أن يحيط علماً بالسر الذي يكتنف ولادته ووفاته ومعرفة الملائكة المقربين في حجرات القدس، وهي مخلوقات الله سبحانه فكيف يدرك صفة الذات لإلهية، وكل من كان عاجزاً عن إدراك صفة مخلوق مثله، فهو من صفة خالق ذلك المخلوق ومبدعه أشد عجزاً. فصفات الله إذاً ليست معلومة، وهي ليست خارجة عن نطاق ذاته تعالى ولا زائدة عليها أو قائمة بها، بل هي عين الذات وذاته تقتضيها بحقيقتها الكاملة، وبموجب هذا الكمال المطلق، فهو غني عن كل شيء يزيد على ذاته ولا حاجة اليها ما دامت هذه الذات كاملة بنفسها من كل الجهات. فالله لا يعرف بصفاته لتنزهه عن خلقه المعروفين بصفاتهم، «وإنما يدرك بالصفات ذوو الهيئات والأدوات، ومن ينقضي إذا بلغ أمد حده بالفناء، فلا إله إلا هو أضاء بنوره كل ظلام وأظلم بظلمته كل نور (4).

فالمعروف منا ما كان ذا هيئة وأداة وجارحة وما ينقضي ويفنى ويتطرق اليه العدم لذلك فلا مجال لادراك كنه واجب الوجود بصفات وأعراض المخلوقين إذ أن كنهه تعالى لا يعرف بحد ولا يدرك بصفة وليس هناك على الاطلاق وقتاً يعرف به لا في الدنيا ولا في الآخرة. ومهما يكن فصفات الواجب الوجود ليست من المحسوسات كما ذهبت اليه المجسّمة والمشبّهة، ولا هي زائدة على ذاته تعالى كما قالت الأشعرية، وليست مفارقة كما ادعت الكرامية (أنظر الملل والنحل، ج 1. ص 108) لأن الواجب كله وجود لا يعتريه العلم، وكمال لا يناله النقصان، ووجوب لا يضاف اليه الامكان، وفعل لا يتصف.

ص: 55


1- نفسه، ج 1، ص 72 - 73
2- نفسه: ج 7، ص 237.
3- نفسه، ج 10، ص 88 - 89.
4- انظر (ح)، ج 1، ص 88 - 89.

بالقوة. وهو فوق هذا وذاك خير محض لأنه غير متناه في وجوديته، فصفاته الجمالية هي عين ذاته «الذي ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود ولا وقت محدود، ولا أجل ممدود (1).

وخلاصة القول أن صفات الله تعالى ليست معاني قديمة زائدة على الذات لأنها تنسف فكرة التوحيد من الأساس ولكنها ذاتية تقتضيها الذات الالهية الواجبة الكاملة من جميع الوجوه. كما أنه لا يمكن رؤية الله في الدارين أو إدراكه بصفاته لأن هذا من شأن المخلوقين. ولقد سلك المعتزلة هذا المسلك فكان واصل بن عطاء ينفيها أصلاً لأنها تؤدي الى الشرك فقال «ومن أثبت معنى صفة قديمة فقد أثبت الهين (2). وسبق قولهم باستحالة رؤية الله في دار القرار لأنها تؤدي الى التشبيه، لذلك فقد قاوموا بشدة العقيدة المؤدية الى تحديد الله وتشبيهه بخلقه وأنكروا رؤية الله بصفاته قياساً على المخلوقين وأحالوا اختلاف الذات الالهية لاختلاف صفاتها وقالوا «إنما اختلفت الأسماء والصفات لاختلاف المعلوم والمقدور، لا لاختلاف فيه (3). لقد قادهم رأيهم في التوحيد الى القول أن ذات الله وصفاته شيء واحد فالله عالم قادر بذاته وان حياته ذاته وعلمه ذاته وقدرته ذاته.. فإذا كان الله عالاً بعلم زائد أي أن صفة العلم زائدة على الذات الالهية لوجب أن يكون هناك صفة وموصوف ولكانت كل صفة قديمة كذات الله القديمة ولتعددت القدماء وتعددت الالهة. وبمعنى آخر فالموصوف هو الله، وهو وحده الأزلي، فإذا كانت الصفة زائدة على الله أصبحت الصفة أزلية، وأصبح يشترك مع الله في الأزل شيء آخر هو صفته ومعاذ الله الشرك بالله وإن التعدد في ذات الله هو مناف المبدأ وحدانية الله.

وهكذا، فإن المعتزلة قصدت من وراء مناقشتها لقضيتي التنزيه والصفات تنقية فكرة التوحيد من كل التصورات والمعتقدات الشعبية التي امتلأت بالأساطير عن الله وصفاته المجسمة كما حاولوا تأويل جميع آيات القرآن التي تحمل في ظاهرها معنى التجسيم بحيث أعطوها معان روحية لا مادية واعتبروا ان معاني الجسمية والصفات قد وردت في القرآن الكريم من باب المجاز.

فإذا عجزنا عن إدراك صفات الله، فكيف نصفه؟

أ - معرفة صفات الله:

من العسير على الانسان المحدود عقلاً وقدرة أن يحيط علماً بصفات الخالق. وقد حفل نهج البلاغة بالعديد من الكلمات البليغة التي تعرّف كنه وماهية ذات الله، وهي في.

ص: 56


1- نفسه، ج 1، ص 57.
2- الملل والنحل، ج 1، ص 46.
3- مقالات الاسلاميين، ج 1، ص 227.

مجملها تدور حول نقطة واحدة هي: ان ذات الله وجود غير محدود وغير قابلة للحدود، وليس لها ماهية تخصصه بنوع خاص من الوجود المحدود. فلا فرق بين أسمائه وصفاته لأنها عين ذاته، خاصة أن الاسم مأخوذ من السمة، وهي تدل عليه لذلك فإن المصدر الوحيد الذي يمكن الركون إليه في معرفة أسماء الله وصفاته هو القرآن وسنة نبيه، ومن اشتبه عليه شيء من أمر الصفات القدسية فعليه أن يسكت عما سكت عنه الله ورسوله. يقول الامام (علیه السلام): ... فانظر أيها السائل فما دلّك القرآن عليه من صفته فائتم به واستضيء بنور هدايته، وما كلفك الشيطان علمه، مما ليس في الكتاب عليك فرضه ولا في سنة نبيه صلی الله علیه و آله و سلم وأئمة الهدى أثره فكل علمه الى الله سبحانه فإن ذلك منتهى حق الله عليك ...» (1).

هذه الخطبة إنما هي تعليم للخلق في كيفية وصف الله سبحانه والسلوك في مدحه والثناء عليه بما هو أهله وان كان الخطاب موجهاً الى السائل الذي هو سبب الخطبة، فأرشده (علیه السلام) الى كتاب الله وأمره بأن يجعله قدوة له يستضيء بأنواره في سلوك سبيل الله ووصفه، فإن أولى ما وصف به تعالى هو ما وصف به نفسه. فإن لم يجد غايته في الكتاب، عليه أن يطلبه من السنّة ومن مذاهب أئمة الهدى. وأما ما لم تأت به هذه الأدلة الثلاثة، كإثبات الضرارية مثلا، «لله سبحانه ماهية لا يعلمها الا هو» (2) وكإثبات الماتريدية صفة سموها «التكوين» وهي قديمة قائمة بذات الله زائدة على ذاته (3) وكإثبات الصفاتية لله صفات غير معقولة سمّوها «صفات خبرية مثل اليدين والوجه والاستواء» (4). فقد حظّره الامام على المكلفين واعتبره تكليفاً من الشيطان ووسوسة منه، وضرب وضرب لهم مثلاً بالراسخين في العلم الذين اعترفوا بعجزهم عن اقتحام الغيوب ولم يخبطوا في تفسير ما لم يحيطوا به علماً فمدحهم الله وسمى عجزهم هذا رسوخاً، وفي رأينا أن كل كلمة تليق بجلاله تعالى وعظمته يصح إطلاقها عليه وان لم يرد النص عليها.

ولقد كثر الكلام حول المراد من الراسخين في العلم فقال قوم: هم الأئمة المعصومون، وقال الصوفية: هم الذين أحاطوا علماً بتفسير الرموز والاشارات وكلام الامام علي (علیه السلام) يدل صراحة على أن الراسخين في العلم هم الذين يستطيعون التمييز بين ما يمكن معرفته وفهمه وما لا يمكن الاحاطة به فهماً ومعرفة مع الاعتراف بعجزهم عن فهم ذلك.

وقد يستفاد من كلام الامام علي (علیه السلام) وجوب عدم مناقشة آيات القرآن وتأويلها بما يتناسب وذات الله القدسية، فيتشبث به المانعون للتأويل أو القائلون بالجمود على الظواهر أو 2.

ص: 57


1- انظر (ح) ج 6، ص 403.
2- الملل والنحل، ج ا، ص 90 - 91
3- النسفي، عمر: العقائد الفلسفية، القاهرة، سنة 1367 ه - ، 82 - 80.
4- الملل والنحل، ج 1، ص 92.

الذين ينفون النظر والفقه في القرآن أصلاً، ليضعوا كتاب «النهج» في عداد الكتب التي تأخذ بالنص الحرفي دون الاجتهاد في الدين.

وليس هذا ما عبر عنه الامام (علیه السلام) ذلك لأن القرآن قد حفل بآيات كثيرة يدل ظاهرها على التجسيم وقبولها كما وردت يتنافى مع ذات الله المنزهة عن الجسمية ولا بد من تحكيم العقل فيها لتأويلها بما يتناسب وهذه الذات، ولا يستطيع ذلك إلا الذين أوتوا الحكمة والبصيرة النافذة، أما الذين نالوا من العلم قدراً ضئيلاً، فقد حذّرهم (علیه السلام) من الخوض في هذه الآيات حتى لا يقدرون عظمة الله على قدر عقولهم، ولقد أثبت الامام علي ذلك من خلال حديثه الى الرجل الذي شك بالقرآن لزعمه بأن آياته تكذب بعضها بعضا، وما ذلك إلا لأنه لم يرزق عقلاً ينتفع به. لذلك فإنه (علیه السلام) يدعو إلى الإمساك عن أمور لا يستطيع العقل الخوض فيها فيقول: «دع القول فيما لا تعرف، والخطاب فيما لم تكلف، وامسك عن طريق إذا خفت ضلالته، فإن الكف عن حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال (1).

وهكذا فالامام علي (علیه السلام) يدعو الى الأخذ بظاهر النص إذا توافق مع العقل والى التأويل إذا حصل تصادم النص بالعقل، وكثيراً ما كان يشجع على التفقه في القرآن وتدبر آياته فيقول: «وتعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور وأحسنوا تلاوته فإنه أحسن القصص (2). ويوصي (علیه السلام) باتباع كلمة الله والأخذ بما قاله النبي صلی الله علیه و آله و سلم وأئمة الهدى والصالحون من أهل البيت وما يتوصل اليه العقل الواعي المتفّتح.

وإذا كان المعتزلة قد سلكوا هذا الطريق و اعتمدوا على العقل في تأويلهم للنصوص الشرعية والتوفيق بينها وبين العقل، فإن هذا لا يعني أنه كانت لهم السبقة في هذا المجال حتى يحلوا للبعض أن يقلدهم زعامة الفكر الحرفي الاسلام، في حين أن الامام علي (علیه السلام) سبق الجميع الى تمجيد العقل وتأويل الآيات القرآنية بما يتناسب ومنطق العقل. يقول محمد جواد مغنية: «فقول القائل أن المعتزلة سبقوا الجميع الى تأويل النصوص الشرعية تبعاً لما يقتضيه منطق العقل، لا يرتكز على أساس من التحقيق والبحث المجرد» (3) إلى أن يقول: «إن الامام كان القدوة والمثل الأعلى للمعتزلة وغيرهم في تقديس العقل ومنحه الحرية التامة في أن يقبل من ظاهر الوحي ما يبدو له ممكناً، ويرفض ما يبدو مستحيلاً (4).

هذا الإله الواحد الأحد، الذي لا يمكن وصفه أو الإحاطة به، كيف نعلم بوجوده؟ 37

ص: 58


1- أنظر (ح)، ج 10 ص 163.
2- المرجع نفسه ج 7، ص 221.
3- مغنية، محمد جواد: علي و الفلسفة، دار الكاتب العربي، بيروت: د.ت.، ص 136.
4- المرجع نفسه، ص 137

ب - وجود الله:

مسألة وجود الله شغلت أذهان المفكرين وحارت بها عقولهم فانقسمت بين من ينكر وجود الله ولا يعترف به، ليس ذلك وحسب، بل وتستبعده من الفلسفة والحياة العملية، وبين فئة ضلت طريق الحق، تقف حائرة بين الشك واليقين تطلب سواء السبيل، وبين هؤلاء وأولئك، فئة ثالثة آمنت بربها واعتقدته اعتقاداً راسخاً لا تزعزعه عواصف المشككين والضالين، فأنكرت عليهم شبهاتهم وأضاليلهم، وتولت مهمة إرشادهم وتوجيههم.

ولم يكن عصر الامام (علیه السلام) يخلو من هذه الزمر الضالة. لقد أنكرت قريش على النبي صلی الله علیه و آله و سلم باريه وخالقه، فسخرت منه و حاولت الايقاع به متهمة إياه بالسحر والكذب والشعوذة رغم المعجزات الدالة على نبوته. وظلت متمسكة بوثنيتها حتى خذلها الله ونصر دعوته.

أما الذين في قلوبهم مرض، ممن غشيهم الجهل والتعصب، فقد رافقوا الامام علي (علیه السلام) وغالوا في حبه، حتى اعتقدوه إلهاً ثانياً، وفي بغضه حتى اعتبروه عدواً لدوداً، وفي الحالتين نسوا الله فأنساهم الله أنفسهم.

هذه الفئات الضالة والباغية كيف يتسنى لها إدراك حقيقة الوجود بهذه العقلية الساذجة؟ لقد أجهد الامام نفسه في محاولته إخراجها من ضلالها، فكانت خطبه وكتبه ومواعظه، مصباح هداية أنارت نفوسهم وجلت عقولهم وفتحت أمامهم طريق الخلاص الى الوجود الحق. ولقد تكلم (علیه السلام) عن حقيقة هذا الوجود، ولكن دون أن يعبر عنه بنفس اللفظ الذي عبر به الفلاسفة وعلماء الكلام وإنما كان مبدعاً، وإبداعه تجلى في أسلوبه الذي اختلف عن القرآن شكلاً واتفق معه مضموناً.

فالفلسفة مثلاً، قالت بانقسام الوجود الى واجب وممكن، وعرفت واجب الوجود بأنه الذي لا يفتقر وجوده الى موجد، لأن ذاته تقتضي هذا الوجود فهو الوجود بالذات، بل ان الموجودات الممكنة إنما تستمد وجوب وجودها منه لأن ممكن الوجود لا يمكن أن يصبح واجب الوجود إلا بواجب الوجود لأن ذاته لا تقتضي وجوداً ولا عدماً.

وتكلم الشيرازي عن الفرق بين الواجب والممكن، فقال: «الفرق بين الواجب والممكن أن الواجب لا تركب فيه من جهتين متغايرتين تغايراً يوجب تكثراً في الموضوع، إما في الخارج أو في الذهن بخلاف الممكن. وليس معنى قولنا)لا تركب فيه) انه ليس تصدق عليه مفهومات ومعان كثيرة، كيف؟ وهو منبع جميع الصفات الكمالية بنفس ذاته، فقولنا الواجب تعالى غير واجب للتحليل الى أمرين والممكن قابل له (1).

هذا ما عبرت عنه الفلسفة أما الامام علي فقد قال «الحمد لله المتفرد الذي لا من شيء

ص: 59


1- الشيرازي: الاسفار، المطبعة العلمية بقم 1386 ه - ، ط 2، ج 6، ص 84.

كان» (1)، هذا يعني أن وجوده تعالى من ذاته لا من شيء آخر. وقال (علیه السلام): «كل شي خاشع له وكل شيء قائم به» (2) وهذا يعني أن كل موجود يستمد وجوده منه ويخضع له.

ثم إن نظرية كل من الفلسفة والقرآن في الوجود، تعتمد على الانتقال في النظر العقلي من المحسوس الى المعقول وإخضاع الحس لمنطق العقل، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (آل عمران / 190) وقال القديس أوغسطين في «الاعترافات» أنه لم يشك في وجود الله قط لأنه كان يرى وجوده تعالى واضحاً جد الوضوح باستدلال بديهي، اتفق عليه جميع الناس والفلاسفة وذلك لأنك والكلام للقديش، «تنظر الى الأرض وما فيها من قوة وجمال، وكأنك تسائلها، ولما كان من الممتنع أن تكون حاصلة على هذه القوة بذاتها، فإنك تدرك حالاً أنه لم يمكن أن توجد بقوتها الذاتية» (3). لذا فإن «العالم نفسه بتغيره المنظم تنظيماً عجيباً، وبأشكاله البديعة، يعلن في صمت أنه مصنوع»، لهذا فهو يعتبر «الالحاد جنوناً مطبقاً، ويقول ان الملحدين إنما ينكرون وجود الله بسبب شهواتهم، وانهم على كل حال نفر يسير لا يعتد به (4).

ويقول الامام (علیه السلام) في هذا الصدد: «فظهرت في البدائع التي أحدثها آثار صنعته، واعلام حكمته، فصار كل ما خلق حجة له، ودليلاً عليه وان كان خلقاً صامتاً فحجته بالتدبير ناطقة، ودلالته على المبدع قائمة (5). ويقول أيضاً: ودلّت عليه اعلام الظهور (6).

وهكذا يتفق الامام مع الفلاسفة في هذا الصدد معنى لا لفظاً، ولقد استند في ذلك الى أدلة عقلية وحسية ساهمت في إثبات ما هو بديهي وفطري فيما يتعلق بهذا الوجود الذي لا يدرك سواه كما يقول (علیه السلام) «الحمد لله الذي أعجز الأوهام أن تنال إلا وجوده» (7). هذا يعني أن وجوده تعالى بديهي لا يحتاج الى تصور عقل أو إعمال فكر. وهذا ما أكده المكناسي بقوله: «تصور الوجود بديهي في نفسه والحكم ببداهته بديهي (بالضرورة) أيضاً كقوله لكل عاقل وان لم يسلك مسالك النظر، بل زعم الحكماء أنه أعرف المعقولات البديهية وتمسكوا في.

ص: 60


1- توحيد الصدوق، ص 41.
2- انظر (ح) ج 7، ص 194.
3- کرم، يوسف: تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط، دار الكتاب المصري، القاهرة 1946 م ط 1، ص 29.
4- نفسه، ص 29.
5- أنظر (ح)، ج16، ص 410.
6- انظر (ح) ج 3، ص 216.
7- توحيد الصدوق، ص 73.

ذلك بالاستقراء وهو كاف لأن العقل إذا كان حيث أن لاحظ المعقولات وجد الوجود أظهرها وحكم بأنه أعرفها وأوضحها، وعلى هذا فلا يفتقر الوجود الى التعريف الحقيقي وهو الذي يفيد فهم ما جهلت حقيقته (1).

هذه الحقيقة البديهية ليست زائدة على الذات، بل هي عين الذات وهي مخالفة لسائر الحقائق الأخرى ومميزة بذاتها لا بالعرضيات، بحيث لا يتصور مماثل له، ولا يقترن في نفسه بشيء يكون وإياه شيئاً واحداً، فهو مع كل شيء، ولكن لا بنحو التزاوج والاقتران بينه وبين ذلك الشيء، بل هو يغاير كل شيء كما يذكر النهج: «مع كل شيء لا بمقارنة، وغير كل شيء لا بمزايلة» (2).

ج - دليل وجوده:

لقد استدل الامام (علیه السلام) على إثبات هذا الوجود بطريقتين ذكرهما ابن أبي الحديد، وهما:

1 - الاستدلال عليه تعالى بالوجود نفسه، وهذه هي طريقة الفلاسفة يقول ابن أبي الحديد اما الاستدلال عليه بالوجود نفسه، فهى طريقة المدققين من الفلاسفة، فانهم استدلوا على أن مسمى الوجود مشترك، وأنه زائد على ماهيات الممكنات، وان وجود البارىء لا یصح أن يكون زائداً على ماهيته فتكون ماهيته وجوداً، ولا يجوز أن تكون ماهيته عارية عن الوجود. فلم يبق إلا أن تكون ماهيته هي الوجود نفسه، واثبتوا وجوب ذلك الوجود واستحالة تطرق العدم اليه بوجه ما، فلم يفتقروا في إثبات الباري الى تأمل أمر غير نفس الوجود».

2 - الاستدلال عليه بالموجود لا بالوجود نفسه. فهو الاستدلال عليه بأفعاله وهي طريقة المتكلمين. قالوا: «كل ما لم يعلم بالبديهة ولا بالحس فإنما يعلم باثاره الصادرة عنه، والبارى تعالى كذلك. فالطريق اليه ليس إلا أفعاله فاستدلوا عليه بالعالم وقالوا تارة: العالم محدث، وكل مُحدث له مُحدِثه وقالوا تارة أخرى: العالم ممكن فله مؤثر. ثم ذكر قول ابن سينا: «بأن الطريقة الأولى وهي الاستدلال عليه بالوجود نفسه أعلى وأشرف، لأنه لم يحتج فيها الى الاحتجاج بأمر خارج عن ذاته» (3).

ولقد استند ابن أبي الحديد في الاستدلالين السابقين على ما قاله الامام (علیه السلام): «ودلت عليه اعلام الظهور ... فهو الذي تشهد له اعلام الوجود» (4). وما يدل على هذين 8

ص: 61


1- المكناسي: فلسفة التوحيد، المطبعة الخيرية بقم، د.ت. ط 1، ص 97.
2- انظر (ح) ج 1، ص 78.
3- نفسه، ج 1، ص221
4- أنظر (ح)، ج 1، ص 78

الاتجاهين أيضاً قوله (علیه السلام)، في مناجاته «يا من دل على ذاته بذاته» (1). وقوله «اعرفوا الله بالله والرسول بالرسالة» (2).

وهكذا فإن الله سبحانه، ظهر وتجلى لخلقه بذاته وبما أوجده من آثار صنعه. ولم يظهر لعيونهم، لأنه غير مرئي، وإنما ظهر لقلوبهم بما أودعها من الحجج الدالة عليه. لذلك فإن الامام (علیه السلام) يسفه آراء الملحدين الذين جحدوا الصانع المدير العالم القادر وزعموا بأن العالم لم يزل موجوداً بنفسه لا بصانع، إذ لا شيء خارج الطبيعة، فهي مستكفية بنفسها ومستغنية عن خالق يوجدها (الدهرية). فهم لم يعتصموا بحجة، ولم يتحققوا مما وعوه. ثم يحتج عليهم بدعوة الضرورة وهي استحالة أن يكون الفعل من غير فاعل فيقول: «زعموا أنهم كالنبات ما لهم زارع ولا لاختلاف صورهم صانع، ولم يلجأوا الى حجة فيها ادعوا، ولا تحقيق لما وعوا، وهل يكون بناء من غير بان، أو جناية من غير جان» (3).

وكان النظّام يرى أن تصريف الأشياء المتضادة، ونفوذ التدبير فيها وصرفها عما في طبعها يدل على ضعفها، وضعفها دال على حدثها، وحدثها يوجب أن لها محدثاً أحدثها، إذ كان محالاً أن يكون حدث لا يحدث له، فيقول: «وجدت الحر مضاد للبرد، ووجدت الضدين لا يجتمعان في موضع واحد من ذات أنفسهما، فعلمت بوجودي لهما مجتمعين، إن لهما جامعاً،جمعهما، وقاهراً قهرهما على خلاف شأنهما وما جرى عليه القهر والمنع فضعيف وضعفه ونفوذ تدبير قاهرة فيه، دليل على حدثه، وعلى أن محدثاً أحدثه ومخترعاً اخترعه ولا يشبهه، لأن حكم ما أشبهه حكمه في دلالته على الحدث وهو الله رب العالمين، فأما جمع من سوى الله بين النار والماء والتراب والهواء فذلك دليل أيضاً على حدثها، غير أن محدثها ليس هو الانسان الذي جمعها لأن الانسان يجري عليه القهر ما يجري عليها فمخترع هذه الأشياء ومخترع الانسان المشبه لها هو الله الذي لا يشبهه شيء» (4). وهناك براهين أخرى اعتمدها الامام (علیه السلام) في الدلالة على وجود الله تعالى كالحركة والنظام.

برهان الحركة منسوب الى أرسطو، مؤداه أن كل متحرك فهو متحرك بشيء آخر ... وقد تتعدد المحركات المتحركات، ولكنها متناهية العدد بالضرورة والا بقيت الحركة الأخيرة بغير علة فتصل الى محرك أول هو علة حركة العالم في مجموعه (5).

وقد أشار الامام (علیه السلام) الى هذا البرهان ولكن بأسلوب آخر، وذلك عندما نفى عن الله.

ص: 62


1- كاشف الغطاء الهادي، مستدرك نهج البلاغة دار الأندلس، بيروت، د.ت.، ص 35.
2- الأصول من الكافي، ج 1، ص 85.
3- أنظر (ح) ج 13، ص 56
4- الانتصار، ص 40 - 41.
5- مدكور، بيومي وكرم يوسف: دروس في تاريخ الفلسفة، المطبعة الأميرية، بالقاهرة، سنة 1944 م. ص 26.

تعالى الحركة والسكون لأنها معانٍ محدثة فلو حلت فيه لم يخل منها، وما لم يخل من المحدث فهو محدث، ولا يجوز أن يجري عليه ما هو أجراه. يقول ابن أبي الحديد: لو جريا عليه لم يحل اما أن يجريا عليه على التعاقب، وليسا ولا واحد منهما بقديم، أو يجريا عليه على أن أحدهما قديم ثم تلاه الآخر، والأول باطل بما يبطل به حوادث لا أول لها والثاني باطل بكلامه (علیه السلام)، وذلك لأنه لو كان أحدهما قديماً معه سبحانه لما كان أجراه، لكن قد قلنا: انه أجراه أي أحدثه وهذا خلف محال وأيضاً فإذا كان أحدهما قديماً معه لم يجز أن يتلوه الآخر، لأن القديم لا يزول بالمحدث (1)

وينسب ابن أبي الحديد الفضل الى الامام علي (علیه السلام) بالقول بهذا الدليل الذي أخذه المتكلمون عنه فنظموه في كتبهم وقرروه (2) ويعبر الامام عن ذلك بقوله: «ولا تجرى عليه الحركة والسكون، وكيف يجرى عليه ما هو أجراه، ويعود فيه ما هو أبداه، ويحدث فيه ما هو أحدثه (3).

أما برهان النظام فإن مؤداه الفلسفي، كما ذكره أفلاطون في «تيماوس» هو «أن العالم آية فنية غاية في الجمال، ولا يمكن أن يكون النظام البادىء فيما بين الأشياء بالاجمال، وفيما بين أجزاء كل منها بالتفصيل، نتيجة علل اتفاقية، ولكنه صنع عقل كامل توخى الخير ورتب كل شيء عن قصد (4).

ويقول الامام (علیه السلام) أيضاً: بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التدبير المتقن والقضاء المبرم (5).

من الواضح - بعد هذا - أن قضاء العقل وحكم الوجدان بالواقعية والاذعان بالوجود الخارجي، هو من العلوم الأولية والمعارف الاصلية، تتطابق فيه جميع صفات البداهة وشرائطها. ولم يزل الانسان محباً، بل ومغرماً بهذا النوع من البحث. وهو بالذات ما نسميه بحثاً فلسفياً. لقد ملكت عليه الطبيعة كل مشاعره وحواسه فأخضعها لميزان عقله وأشبعها بحثاً وتحليلاً حتى انطلق منها إلى ما هو أسمى وأفضل. هذه الأبحاث والدراسات وإن كانت غير بعيدة عن شعوره، إلا أنها هي التي نبهت ذهنه الى الانتقال في البحث من عالم الطبيعة الى ما ورائها، كما أنها حملته على التوغل في البحث عن أوائل الوجود، عندما وجد أن العالم المادي الذي تتجلى فيه الروعة والاتقان والنظام محتاج ومفتقر الى غيره، أي لا يقوم وجوده.

ص: 63


1- انظر (ح) ج 13، ص 76 - 78.
2- أنظر (ح)، ج 13 ص 78.
3- نفسه، ج 13، ص 76.
4- كرم، يوسف: تاريخ الفلسفة اليونانية، دار القلم، بيروت، ط 1، سنة 1977، ص 81.
5- أنظر (ح)، ج 10، ص 81.

بنفسه من دون شيء آخر يكون علة لوجوده. وهذه هي الفلسفة الباحثة عن الله عز وجل، لأنه هو الذي لا يحتاج في وجوده الى غيره، بينما تحتاج جميع الموجودات اليه.

إن أهمية هذه الدراسات تكمن في تطور عملية البحث بالانتقال من المحسوس الى المعقول، وتعزيز دور العقل في الكشف عن المجهول وتحويل الأبحاث والدراسات الفلسفية من حال التفرق والتشتّت الى حال التوحد والترابط، والتآلف. وذلك عندما تربط جميع الموجودات على كثرتها بموجود واحد، هو باريها ومبديها. وهذه الحقيقة نجدها واضحة جلية فيما ورثناه من الأقوال الفلسفية من «الهند» و «مصر القديمة» و «بابل» و «الروم» و«اليونان»، وفي المأثور من كلمات المحصلين من فلاسفة الاسلام. وهذا ما نجده أيضاً في الكتب السماوية المنسوبة الى «موسی»، و عیسی عليهما السلام، وما حكاه الله في كتابه العزيز (القرآن) عن الأنبياء عليهم السلام، على اختلاف طبقاتهم، ثم ما ختم به عز وجل - لما أوحاه على لسان خاتم الأنبياء ومحمد صلی الله علیه و آله و سلم حيث نجد أن البحث في اللاهوت كان ولا يزال ينمو ويتطور ويتكامل في الصفاء والجلاء ويتدرج في الكمال. وكلما ازداد وضوحاً وصفاء كلما اتسع أفقه وانحلت به مبهمات و اتضحت به مجاهیل.

وإذا كان الامام علي (علیه السلام) قد مدح العقل وحث على النظر العقلي واعتبر أن من يستضيء بنوره فهو في أمن وأمان من لبس الشبهات والأباطيل، إلا أنه أحل العقل محله ولم يرتد به عوالم لا يستطيع البت فيها أو الحكم عليها فكان الاعتماد على القرآن والاستضاءة بنور الوحي أولى وآكد من النظر في أمور لا يستطيع العقل سبر غورها، ومع ذلك فإن الايمان بها ينبغي أن يستند الى اليقين العقلي حتى يكون ثابتاً ومستقراً.

أما المعتزلة، فقد طغت على تفكيرهم النزعة العقلية، حتى أنهم اعتمدوا على العقل وحده في حل جميع المشكلات ... وأقروا له بالسلطة المطلقة واعتبروا الشرع تابعاً له ومخبراً بما أتى به. لذا فقد أقحموه في أمور لا طاقة له عليها. يقول محمد الغزالي: والمعروف عن المعتزلة، أنهم كانوا يكبرون العقل ويغلبون نظراته على مباديء الشريعة. وهذا شيء يجب أن يدرك على حقيقته. فإن الاسلام يقوم على العقل، ولم يؤثر عن دين ما انه أكرم العقل مثل ما كرمه الاسلام، ولكن ليس من العقل اقحام العقل في بحوث لا قبل له بها ولا طاقة له عليها. ان العقل قد يملك البحث في كومة تراب أو قطعة سحاب، ولكن أنى له بحث روحه بين جنبيه؟ فإن كان عند ذلك عاجزاً، فهو عن البحث في الذات العظمى أعجز (1).

فالعقل هو إحدى القوى الرئيسية لادراك وجود الصانع ... ومهما قيل عن اختلاف.

ص: 64


1- الغزالي، محمد: دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين، دار الكتب الحديثة، القاهرة، ط 2، 1963 م، ص 156.

الفكر في إدراك هذا الصانع المدير للعالم، وإثباته لذلك قوى مختلفة كالقول بالطبيعة الخلاقة (الدهرية) أو النور والظلمة (المجوس) أو الاعداد (الفيثاغوريين) أو (الهيولي القديمة (أرسطو) فإنه في النهاية أثبت صانعاً وان اختلف في ماهيته وكيفية فعله.

وخلاصة القول ان الله موجود ودليله ذاته وآياته وآثاره في خلقه، ولا سبيل لادراك هذا الوجود بمنطق الحس فقط، إذ لا تشبهه صورة ولا يحس بالحواس ولا يقاس بالناس (1)، كما ذكر الامام علي (علیه السلام). ولا بمنطق العقل وحده لأنه جل شأنه «لم يطلع العقول على تحديد صفته. ولم يحجبها عن واجب معرفته (2)، والعقل النافذ المتفتح المدعوم بالحس والوحي والايمان هو السبيل الأمثل لبلوغ هذه الغاية، لأن العقول وحدها لا تدرك إلا ما هو من سنخها وما هو قريب منها. وهكذا فالامام علي (علیه السلام) يتدرج في معرفة الخالق من الحس الى العقل فالوحي. وهو بذلك يختلف عن أهل السنّة الذين أوجبوا معرفة الله تعالى بالشرع لقوله تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ) (محمد / 19)، حيث أمر بالمعرفة، ولقوله عز وجل: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا) (الاسراء / 15) فإنه يدل على نفي العقاب قبل بعثة الرسول، ونفي العقاب يستلزم نفي ملزومه وهو التكليف، إذ لا عقاب إلا مع تكليف، ونفي التكليف يستلزم نفي الوجوب، كما يختلف أيضاً عن البراهمة القائلين بأن أصل المعرفة الالهام من الله تعالى، وعن الشيعة الذين يثبتونها بقول الامام المعصوم، وعن الصوفية الذين يدركونها بالمجاهدة وتصفية النفس. أما المعتزلة فهي حاصلة عندهم بالعقل الذي يثبت وجوبها، وإنما قالوا كذلك لكونها تدفع عن صاحبها الضرر الذي هو خوف العقاب الأخروي وهلاك الأنفس والأموال في الدنيا (3).

د - تصور الخالق:

وهنا نتساءل: كيف يمكن تصور الخالق؟ وما هي أبرز صفاته؟

- واجب الوجود: والتعبير للفلاسفة، ومعناه أن الوجود له من ذاته لا من أي وجود آخر كما ذكر ابن سينا في النجاة بل ان الموجودات الممكنة إنما تستمد وجوب وجودها منه.

ولقد عبر الامام علي عن ذلك بأسلوب آخر فقال: (الحمد لله الذي لا من شيء كان ولا من شيء خلق ما كان (4) فهو يقسم الوجود الى واجب وجوده من ذاته وممكن وجوده من غيره حسب منطق الفلاسفة.

هذا الموجود الواجب الوجود، هو مبدأ الجميع الموجودات الممكنة الذي «لم يخلق

ص: 65


1- توحيد الصدوق، ص 285.
2- انظر (ح)، ج 3، ص 216.
3- فلسفة التوحيد، ص 77 - 78.
4- توحيد الصدوق، ص 41.

الأشياء من أصول أزلية ولا من أوائل أبدية (1). كما يقول (علیه السلام) أي ليس لما خلق أصل أزلي أبدي أوجد منه الخلق، وإنما أبدعه بقدرته من لا شيء. وهذا الخالق قديم، لا أول له ولا آخر، ولو كان كذلك لكان مُحدّثاً، ليس الأوليته ابتداء، ولا لأزليته انقضاء، وهو الأول ولم يزل، والباقي بلا أجل (2). ويستدل الشيخ الصدوق على قدم الله تعالى بقوله: والدليل على أن الله تبارك وتعالى قديم، أنه لو كان حادثاً لوجب أن يكون له محدث لأن الفعل لا يكون إلا بفاعل، ولكان القول في محدثه كالقول فيه، وفي هذا وجود حادث قبل حادث لا الى أول. وهذا محال، فصح أنه لا بد من صانع قديم، وإذا كان ذلك كذلك، فالذي يوجب قدم ذلك الصانع، ويدل عليه يوجب قدم صانعنا ويدل عليه (3).

وكونه تعالى غير محدث، فهو إذن قديم، ولا يشاركه في القدمية غيره.

هذا الوجود غير مسبوق بعدم، أي لم يكن ثم كان، فهذا شأن المحدث. والامام (علیه السلام) ينفي الحدوث الزماني والمكاني عن الله عزّ وجل بقوله (كائن لا عن حدث موجود لا عن عدم (4). وهو بذلك مخالف لسائر الموجودات الممكنة، تلك التي يكون عدمها سابق بالذات على وجودها، ووجودها له ابتداء في زمان ما وله غاية ينتهي اليها بخلاف الموجود الأول الذي لا يلحقه العدم باعتباره واجب الوجود لذاته، فكان وجوده سابقاً على العدم: سبق الأوقات كونه والعدم وجوده والابتداء أزله (5).

ولقد اتفقت المعتزلة على كون الله قديماً، وانه خلق كل ما خلقه لا من شيء (6)، وانه «لا يشبه الخلق بوجه من الوجوه ... ولم يزل أولاً سابقاً متقدماً للمحدثات، موجوداً قبل المخلوقات ... وانه القديم وحده، ولا قديم غيره ولا إله سواه (7) كما يقول الأشعري في المقالات:

لا حد له: إن ذات الله، وجود، وهذا الوجود غير محدود بل هو ذات غير قابلة للحدود، في حين أن كل موجود سواه له حدود ونهايات سواء كان ساكناً أم متحركاً. وكما يقول الامام علي (علیه السلام): «فالحد لغيره مضروب والى غيره منسوب (8) والله معقول بذاته. بهذا الاعتبار، فهو أوثق من المحسوسات المعروفة بحدودها، لأن الحس يخطىء دائماً بسبب.

ص: 66


1- انظر (ح) ج 9، ص 252.
2- انظر (ح)، ج 9، ص 252.
3- توحيد الصدوق، ص 81.
4- انظر (ح)، ج 1، ص 78.
5- نفسه، ج 13، ص 69.
6- البغدادي، الفرق بين الفرق، دار المعرفة بيروت، د. ص 145.
7- مقالات الاسلاميین، ج 1، ص 216.
8- أنظر (ح)، ج 9، ص 252.

ما يقع للوهم من اشتباه المحسوسات أو بسبب تقصير الحس في كيفية الأداء لصورة المحسوس، في حين أن العلم بوجود الله، جلّت عظمته لا يستند الى حد، إنما هو فطري للعقول، فكانت المعقولات الصرفة أحقّ لإدراك العقل لها بذاته كما يقول (علیه السلام): «هو الحق المبين، أحقّ وأبين مما ترى العيون، لم تبلغه العقول بتجريد فيكون مشبّهاً، ولم تقع عليه الأوهام بتقدير فيكون مُمَثلاً (1). والله منزه عن التركيب، لأن كل مركب محدود، ومن كان كذلك فهو جسم والله ليس بجسم. ولقد اتفقت المعتزلة على عدم كونه جسماً، لأن كونه جسماً يلزمه أن يكون متحيزاً وأن يكون جوهراً لو كان متحيزاً، وإذا كان جوهراً. فاما أن لا ينقسم أصلاً، أو ينقسم وكلاهما لا يجوز عليه سبحانه.

أما الأول: فلأن الجوهر الذي لا ينقسم هو الجزء الذي لا يتجزأ والجزء الذي لا يتجزأ أصغر الأشياء وتعالى الله عن ذلك.

وأما الثاني: فلو انقسم كان جسماً مركباً، والتركيب الخارجي يتنافى مع الوجوب الذاتي. هذا بالاضافة الى أنه لو كان متحيزاً، لكان مساوياً لسائر المتحيّزات في الماهية واللازم من ذلك إما القدم أو الحدوث لأن المتماثلات لا بد من توافقها في الأحكام (2). ولقد نفى الحلّي التركيب في ذاته تعالى بصورة أخرى فقال: إن كل مركب مفتقر الى أجزائه لتأخره وتعليله بها، وكل جزء من المركب مغاير له، وكل مفتقر الى الغير ممكن، فلو كان الواجب تعالى مركباً كان ممكناً وهذا خلف، ووجوب الوجود يقتضي نفي التركيب (3)، كما أن التركيب يوجب الحاجة، والحاجة بأي معنى كانت تنافي الوجوب.

وإذا كان الله ليس بجسم، فهو لا يوصف بأعراض المادة، فلا يقدر بوهم أو يشار إليه بحد أو ماهية أو جارحة أو أداة أو زمان أو مكان أو غاية، لأنه منزه عنها جميعاً، فهي مضروبة منه لخلقه، ومنسوبة اليهم دونه، ولو كان يشبه شيء منها، لكان مثلها، ولكان محدثاً، لأن حكم الشيء حكم مثله ولكنه تعالى قديم، فليس بمشابه لشيء منها، والدليل على ذلك: «انه لا جهة لشيء من أفعاله الخلق الا محدثه، ولا جهة محدثة الا و هي تدل على حدوث من هي له. فلو كان الله جل ثناؤه يشبه شيئاً منها لدلّت على حدوثه من حيث دلت على حدوث من هي له، إذ المتماثلان في العقول يقتضيان حكماً واحداً من حيث تماثلا منها، وقد قام الدليل على أن الله عز وجل قديم ومحال أن يكون قديماً من جهة وحادثاً من أخرى (4)..

ص: 67


1- نفسه، ج 9، ص 181.
2- الشيعة بين الأشاعرة و المعتزلة، ص.145 عن المواقف للايجي، ج 8، ص 20 - 21.
3- شرح التجريد، ص 179.
4- توحيد الصدوق، ص 80 - 81.

ولقد أجمعت المعتزلة على عدم مشابهة الله لخلقه كما أجمعت على إنكار القول بالماهية، وان الله ماهية لا يعلمها العباد. وقالوا: اعتقاد ذلك في الله سبحانه، خطأ باطل (1) كما يقول الأشعري في مقالاته.

ولن يقدح بقول المعتزلة بعدم مشابهة الله لخلقه ما ذكره أبو هاشم واتباعه «الى أنه تعالى يخالف ما عداه بصفة الالهية، وان ذاته مساوية لغيره من الذوات (2). لأن هذه مكابرة للضرورة الحاكمة بأن الأشياء المتساوية يلزمها لازم واحد لا يجوز اختلافها فيه. فلو كانت ذاته تعالى مساوية لغيره من الذوات لساواها في اللوازم، فيكون القدم والحدوث، أو التجرد أو المقارنة الى غير ذلك من اللوازم، مشتركاً بينها وبين الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً.

لم يلد ولم يولد: والله سبحانه لم يلد ولم يولد. ولو صح أن يكون والداً، أي لو انحدر، من صلبه حي آخر من نوعه، لصح أن يكون مولوداً من والد آخر قبله (3). ولو كان مولوداً لكان محدوداً بالمحل المتولد منه، وكل محدود مركب، والمركب ممكن، والله واجب وليس ممكن، وهو سبحانه ليس بمحدود ولا مولود ولا بذي ولد، جل عن اتخاذ الأبناء، وتنزّه عن ملامسة النساء لطهارته وتقدسه عن المواد، والعلائق المادية من الملامسة والمماسة وغير ذلك. كذلك لا يصح كونه مولوداً، لأن كل مولود متأخر بالزمان عن والده، ومن كان كذلك فهو محدث والباري تعالى قديم والحدوث عليه محال، جاء في «النهج» «لم يلد فيكون مولوداً، ولم يولد فيصير محدوداً جل عن اتخاذ الأبناء، وطهر عن ملامسة النساء (4). وهكذا فقد نفى (علیه السلام) أن يكون الله مولوداً فيكون له شريك في العز والألوهية وهو أبوه الذي ولده. إذ العادة أن يكون والد العزيز عزيزاً. كما نفى أيضاً أن يكون له تعالى ولد فيكون موروثاً هالكاً، إن العادة أن الانسان يهلك فيرثه ولده. فهذا من لواحق الحيوانية المستلزمة للجسمية المنزّه سبحانه عنها. ولقد أجمعت المعتزلة على أن الله ليس بذي «مجسة ... ولا تجوز عليه المماسة ... وليس بمحدود، ولا والد ولا مولود ... تقدس عن ملامسة النساء وعن اتخاذ الصاحبة والأبناء (5).

- الله واحد: إن الله واحد، ووحدته مطلقة غير مقيدة بحد أو بكيفية، وهي ليست.

ص: 68


1- مقالات الاسلاميين، ج 1، ص 256.
2- فضائل أمير المؤمنين وأمامته، ج 1، ص 131.
3- وان لم يجب ذلك بالعقل لأن آدم والد وليس بمولود.
4- انظر (ح)، ج 13، ص 80.
5- مقالات الاسلاميين، ج 1، ص 216 - 217.

وحدة عددية، بمعنى أنها مبدأ لكثرة، بل هي وحدة ذاتية، ولا صفة زائدة على الذات، الأحد لا بتأويل عدد (1) كما يقول الامام (علیه السلام).

فالذات الالهية إذاً، لا تدخل في جملة الأشياء المعدودة، لأن العد من لواحق العدد، وهذا من الأعراض التي تلحق الأجسام والله ليس بجسم فاستحال أن يكون معدوداً لأنه تعالى لا يشمل بحد ولا يحسب بعد (2).

وإذا كان الله واحداً، فهو لا يوصف بالقلة، لأن الواحد أقل العدد، إذ أن كل شيء غير ذات الله إذا كان واحداً كان قليلاً، أي أمكن أن يفرض له فرد آخر، فهو الآن وجود محدود إذا أضيف إليه فرد آخر كثر وخرج عن حده الى حد آخر. أما ذات الله فمع أنه واحد لا يوصف بالقلة، إذ وحدته عظمته وشدة وجوده ولا نهائيته وعدم تصور وجود ثان يكون له مثلا ونداً وضداً) (3).

فالوحدة العددية لا تجوز على ذات الله، لأنها وحدة لا كثرة فيها ولا تعدد ولا حد ولا نهاية، وكل ما فرض أنه مثلها أو ثانيها، فهو اما عينها أو لا يكون ثانياً لها. وهذه الوحدة تصبح على الموجودات المختلفة، ذلك لأن الواحد ليس الاثنين.

ووحدانية الله تقضي بالاضافة الى ذلك كونه تعالى:

- لا يقبل التجزؤ، لا في الخارج كانقسام الانسان الى بدن وروح ولا في عقل، كانقسام الماهية الى أجزائها، ولا في وهم كانقسام قطعة خشب إلى النصفين في التصور.

- لا ثاني له في الربوبية كونه إلهاً واحداً لا شريك له ولا شبه.

عن المقدام بن شريح بن هانيء، عن أبيه قال: إن أعرابياً قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين أتقول: أن الله واحد؟ قال: يا أعرابي أن القول في أن الله واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوزان على الله عزّ وجل، ووجهان يثبتان فيه. فاما اللذان لا يجوزان عليه، فقول القائل: واحد يقصد به باب الإعداد. فهذا ما لا يجوز، لأن ما لا ثاني له لا يدخل في باب الاعداد، أما ترى أنه كفر من قال: ثالث ثلاثة وقول القائل، هو واحد من الناس ويريد به النوع من الجنس. فهذا ما لا يجوز عليه لأنه تشبيه، وجل ربنا عن ذلك وتعالى، واما الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل: أنه عز وجل أحدى المعنى، يعني به أنه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم، كذلك ربنا عز وجل (4)..

ص: 69


1- انظر (ح)، ج 9، ص 147.
2- نفسه، ج 13، ص 73.
3- في رحاب نهج البلاغة، ص 59.
4- توحيد الصدوق، ص 83 - 84 ومعاني الأخبار، ص 5 - 6.

وهكذا فوحدانية الله تعالى تقضي بنفي الوحدة العددية والنوعية عنه وإثبات كونه تعالى متفرد بوحدته ولا يشبهه شيء من مخلوقاته ولا ينقسم أو يتجزأ في الخارج ولا في الذهن ولا في الوهم، قال الحلي: (إن أكثر العقلاء اتفقوا على أنه تعالى واحد والدليل على ذلك العقل والنقل (1).

وقال المعتزلة، مثل كل المسلمين - بإله واحد ولكنهم فلسفوا الوحدانية فقالوا أن معنى وحدانيته أن ليست ذاته تعالى مركبة من اجتماع أمور كثيرة، لأنه لو كان مركباً لافتقر تحققه الى تحقق كل جزء من أجزائه، وكل جزء من أجزائه غيره. فكل مركب فهو مفتقر الى غيره، والله منزه عن الافتقار الى الغير فحقيقته تعالى أحدية فردية لا كثرة فيها بوجه من الوجوه، فليست له كثرة مقدارية كالتي للاجسام، ولا كثرة معنوية كما لأشخاصنا المركبة من ماهية وتشخص، إنما هو واحد تام الأحدية، وليس ذا أجزاء مقدارية ولا أجزاء معنوية (2).

ولما ثبت أن الله واجب الوجود، لا حد له ولا مثل ولا شبه ولا ضد، فإن ذاته واحدة لا تبدل فيها ولا تغيير، وليست محلاً لتعاقب الأحوال التي تلحق الممكنات في الزمان. فالله لا يغيره زمان (3). لأن الزمان مبدأ التغيرات واختلاف الأحوال، وذاته سبحانه مبرأة عن تغير الأحوال الجارية على الزمانيات كما يقول الامام (علیه السلام): «ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال (4). لذلك فلا يجوز القول بكونه عالماً قبل كونه قادراً، أو قادراً قبل أن يكون عالماً، أو أولاً للعالم قبل كونه آخراً له، وإلا أصبحت ذاته قابلة للزيادة والنقصان، والله تعالى «لم يتعاوره زيادة ولا نقصان (5)، لأنه هذا من لواحق الممكنات.

كذلك لا يقال كونه باطناً قبل كونه ظاهراً. فهو جلت عظمته الظاهر والباطن والأول والآخر - يستحقها استحقاقاً ذاتياً ضرورياً، لا على وجه الترتب والتعاقب. ومما ذكره الامام (علیه السلام) في ذلك و الحمد لله الذي لم يسبق له حال فيكون أولاً قبل أن يكون آخراً ويكون ظاهراً قبل أن يكون باطناً (6).

وهكذا فالله عزّ وجلّ حال واحدة، وذاته ليست محلاً لتعاقب الأحوال، ولا لتغير الأعراض، وذاته من هذا المنطلق، جلية واضحة بينه للعقول. فلا تجوز عليه القبليّة.

ص: 70


1- شرح التجريد، ص 178
2- ضحي الاسلام، ج 3، ص 28.
3- أنظر (ح) ج 10، ص 58،
4- نفسه، ج 6 ص 398
5- نفسه، ج 10، ص 81.
6- نفسه، ج 5، ص 153.

والبعديّة الزمانية، لأنها من لواحق الممكنات، تعالى الله عن أن يتصف بها كما لا يجوز عليه الأفول والغيبة بعد الظهور، ولا يتبدّل في الأحوال ولا تبليه الليالي والأيام أو يغيّره الضياء أو الظلام كما يقول (علیه السلام): «الذي لا يتحول ولا يزول ولا يجوز عليه الأفول ... ولا يتغيّر بحال ولا يتبدّل في الأحوال ولا تبليه الليالي والأيام ولا يغيّره الضياء والظلام (1).

وينفي الحلي حلول الحوادث في ذاته تعالى فيقول: (إن حلول الحوادث فيه تعالى يدل على تغيره وانفعاله في ذاته، وذلك ينا في الوجوب (2).

فالوحدة، هي ما يتميز بها واجب الوجود، وهي حقيقته، إذ لا يشاركه فيها شيء من الأشياء لأنه لا مجانس له، إذ لا جنس له، ولا مماثل له، إذ لا نوع له، ولا مشابه

له، إذ لا كيف له، ولا مساو له، إذ لا يوصف بكم ولا مطابق له، إذ لا يوصف بوضع، ولا محاذى له، إذ لا يوصف بأين، ولا مناسب له وان وصف بالصفات الاضافية، وذلك لأن جميع صفاته الاضافية ترجع الى إضافة واحدة وهي القيّومية وإذ لا مؤثر ولا موجد سواه فلا مشارك له في صفة القومية (3).

ولقد أثبت المعتزلة أن ذات الله وصفاته لا يلحقهما تغير لأن التغير صفة المحدثات والله منزه عن ذلك (4).

- هو الأول والآخر: وبما أن الله واجب الوجوب لذاته، فإنه يتفرع من هذا المبدأ الاعتبارات السلبية والثبوتية التالية:

إنه ليس لأوليته ابتداء ولا لأزليته انقضاء. فهو بهذا الاعتبار لا أول له يبدأ منه ولا آخر ينتهي عنده، لأنه تعالى أول لذاته، وباق لذاته فلا يحتاج في بقائه وأوليته الى غيره لأن الاحتياج الى الغير يوجب الامكان، والممكن غير الواجب ليس لأوليته ابتداء ولا لأزليته انقضاء، هو الأول ولم يزل، والباقي بلا أجل (5).

ولما كان وجوده تعالى، وجوداً أزلياً لا زمانياً، فهو من هذه الناحية لا تصدق عليه البعدية والقبلية الزمانية لأنهما اعتباران إضافيان تحدثهما العقول لذاته المقدسة قياساً على الموجودات. فهو الأول المطلق الذي لا شيء قبله والآخر المطلق الذي لا شيء بعده. وهو من هذه الناحية الأول بالعليّة والذات والشرف ومعرفته هي آخر درجة تصل إليها أنظار.

ص: 71


1- نفسه، ج 13 ج 13، ص 80.
2- شرح التجريد، ص 181.
3- الأسفار للشيرازي، ج 6، ص 107.
4- ضحى الاسلام، ج 3، ص 31.
5- انظر (ح) ج 9، ص 252. ج 6، ص 345، ج 7، ص 61.

العارفين. ولما كان سبحانه مبدأ كل شيء وغاية ينتهي اليها كل شيء فصحّ أن لا تنطبق عليه البداية أو النهاية كما يقول (علیه السلام): «الحمد لله الأول قبل كل أول. والآخر بعد كل آخر. بأوليته وجب أن لا أول له، وبآخريته وجب أن لا آخر له (1).

لذلك فمن جعله مبدأ لكثرة معدودة أو كونه ذا أجزاء معدودة وأوجب عليه الحد بمعنى العدم والنهاية، والغاية، فقد أبطل أزله، لأن كل ذات تستوجب هذه الممكنات فهي محدثة والمحدث لا يكون أزلياً.

- الظاهر والباطن: إن مقولة الظاهر والباطن تبدو عند الامام علي (علیه السلام) بمفاهيم متعددة سبق بحثها في هذا الكتاب. وهذا البحث - كسائر البحوث - مقتبس من القرآن الكريم ويدور حول فكرة التوحيد وكونه تعالى ظاهر في ذاته، باطن عن حواس الانسان، وباطنيته عن حواس الانسان من محدودية الحواس لا من ذاته تعالى، لأن حواسنا المحدودة زماناً ومكاناً، إنما تدرك بمقتضى محدوديتها، الموجودات المحدودة والمقيدة والتي لها أمثال وأضداد، أما ذات الله، الذي هو الوجود الصرف ولا يحده زمان ولا مكان فهو باطن للحواسنا وظاهر في ذاته، وكمال ظهوره هو سبب خفائه عنا فسبب ظهوره وخفائه شيء واحد هو وجوده الكامل هذا الوجود الكامل لا حيز له، ولا أول له في الزمان يبدأ منه ولا آخر له ينتهي عنده وانه لا يخلو منه مكان ولا زمان. وهو مع كل شيء وليس معه شيء، وإن قدرته لا تتناهى وكذلك

علمه، ولا يمكن إدراك ذلك برؤية حسية أو مشاهدة عينية أو تصور وهمي، ومع ذلك فلا مانع للعقول من أن تقترب من حقيقته بآثاره الدالة عليه، وان ذاته لا يلحقها تغيير، فلا يكون ظاهراً قبل كونه باطناً، وهو وجود مطلق لا نهاية له ولا يخلو الوجود من وجوده.

تلك هي أبرز المعاني التي تضمنتها مقولة الظاهر والباطن وهي مع تنوعها وتعدد معانيها، لا توجب التكثر والتعدد في الذات الالهية الواحدة التي لا تتغير ولا تتبدل مطلقاً.

ولقد أجمعت المعتزلة على نفي الرؤية الحسية للذات الالهية كما سلبت عنها جميع احوال الممكنات فلا يصدق عليها أي نوع من الحدود والماهيات والكيفيات باعتبارها وحدة حقة مقدسة لا تكثر فيها ولا تبدل. كما كانت تعتقد وتدين بأن الله سبحانه هو «الأول والآخر والظاهر والباطن» (2)

- السكون والحركة: سبق قولنا في نفي الامام (علیه السلام) للحركة والسكون عن ذات الله تعالى واعتبرهما من صفات الأجسام المتحركة أو الساكنة. ويشير إلى بيان امتناعهما عنه من عدة وجوه انطلاقاً من أن الخالق لا يتصف بخلقه بحكم البديهة والضرورة ولو صح عليه ذلك لكانت ذاته:.

ص: 72


1- انظر (ح) ج 7، ص 56.
2- الانتصار، ص 13.

- إما متغيرة، والتغير من لوازم المحدث، ولو صح عليه تعالى الحركة والسكون لكان محلاً للحوادث المتغيرة فكان متغيراً محدثاً والمحدث مصنوع وليس صانعاً والله هو الصانع المطلق.

- أو مركبة، والمركب يفتقر إلى أجزائه والله غني بالذات عن كل شيء وكل شيء مفتقر اليه.

- أو ناقصة ملتمسة للكمال، لأن السكون نقص، إذ هو موت وعدم، أما الحركة فهي التماس للكمال، لكن الله تعالى كمال بالذات ولا يجوز عليه النقص.

- أو متحيّزة وحالّة في المتحيّز، وهذا شأن الأجسام والله ليس بجسم فاستحال أن تؤثر فيه ما أثر في الأجسام، والله أجل وأرفع من أن يؤثر فيه شيء.

وهكذا فقد نفى (علیه السلام) أن تكون الذات الالهية متحركة أو ساكنة كما أن إرادته لا تقتضي ذلك كما زعم كثير من المجسمة بقولهم أن الباري. إذ أراد كون شيء تحرك فكان الشيء لأن معنى أراد تحرك (1) لأن الله مريد بذاته لا بحركة كما يقول (علیه السلام): ... ولا تجرى عليه الحركة والسكون وكيف يجري عليه ما هو أجراه ويعود فيه ما هو أبداه، ويحدث فيه ما هو أحدثه، إذاً لتفاوتت ذاته ولتجزأ كنهه، ولامتنع من الأزل معناه ولكان له وراء إذا وجد له أمام، ولالتمس التمام إذ لزمه النقصان، وإذاً لقامت آية المصنوع فيه ولتحول دليلاً بعد أن كان مدلولاً عليه، وخرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره (2). فالسكون نقص لأنه موت وعدم. أما الحركة فهي التماس للكمال. لكن الله سبحانه كمال بالذات، والنقص الناجم عن السكون والاستكمال بالغير الناجم عن الحركة هي من مستلزمات الممكن لا الواجب.

ونفى المعتزلة الحركة والسكون عن الله تعالى فقالوا «لا يتحرك ولا يسكن» (3) وإن إرادة الله ليست بحركة (4) وتأولوا آيات المجيء فقالوا في الآية (وجاء ربك) و (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظل من الغمام) ان تقديرهما وجاء أمر ربك، لأن الله لو كان يجي حقيقة لكان متحركاً متجسماً (5).

- الزمان والمكان: إن تقدم ذات الله على الزمان وعلى كل موجود وكل عدم وكل أول، من أدق الأفكار في الحكمة الالهية. وليس معنى أزلية الله أنه كان موجوداً دائماً، بل.

ص: 73


1- مقالات الاسلاميين، ج 1، ص 262.
2- أنظر (ح)، ج 13، ص 76.
3- مقالات الاسلاميين، ج 1، ص 216.
4- نفسه، ج 1، ص 111.
5- المعتزلة، ص 85 عن الصواعق المرسلة، ج 2، ص 106.

هي أسمى من ذلك، إذ أن فرض كونه دائماً يستلزم فرض الزمان معه أيضاً، وهو بالاضافة الى وجوده في كل زمان، متقدم حتى على الزمان وهذا هو معنى الأزلية. ومن هنا يتبين أن تقدم ذات الحق ليس تقدماً زمانياً بل هو نوع آخر من التقدم. إذ لا تجوز عليه صحبة الأوقات، ولا كونها معه أو قبله وإلا كان مفتقراً في وجوده إليها، لكونها سابقة له في الوجود فلا يستغني عنها، لكنه سابق عليها، فوجب استغناؤه عنها، يقول الامام علي (علیه السلام): «الذي لم يزل ولا يزال وحدانياً أزلياً قبل بدء الدهور وصرف الأمور (1)

وإذا كان الله قد تنزه عن الزمان، فهو أيضاً منزه عن المكان، فلا تحده العقول في الأمكنة لبراءته عن التحيز. فهو لا يحويه مكان ولا يتصور في شيء معين، أو حالاً في شيء، أو ضمن شيء، أو على شيء، لأنه يصبح إما جسماً مستتراً في مكان، أو محمولاً على شيء، أو عرضاً سارياً في محل، والله ليس بجسم ولا عرض، ولا ضمن شيء. كذلك لا يتصور أنه تعالى على شيء معين كالعرش أو الكرسي مثلاً، لأن ذلك يؤدي إلى خلو بقية الأماكن عنه، ولكنه سبحانه لا يخلو منه مكان، قال الامام (علیه السلام): «إن الله أيّن الأين، فلا أين له، وجلّ عن أن يحويه مكان، وهو في كل مكان بغير مماسة ولا مجاورة، ويحيط علماً بها (2). وبما أن الله لا في مكان، لذلك فلا يجوز عليه الانتقال فهذا شأن الأجسام المتحيزة: «ولا كان في مكان فيجوز عليه الانتقال (3). كما يقول (علیه السلام). لذلك فهو في كل مكان ومع جميع مخلوقاته من الأنس والجان وانه بكل مكان وفي كل حين وأوان، ومع كل إنس وجان (4) كما يقول (علیه السلام) أيضاً ولقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ) (الحديد / (4). «وهكذا فالله تعالى لا يوصف بمكان ولم يكن في مكان، ولا أحاط به مكان بل كان لم يزل بلا حد ولا كيف، وهو ليس في شيء ولا على شيء، ولكنه في كل مكان من غير حماسة ولا تحيز. ويعبّر الامام علي (علیه السلام) عن هذه القضية بكلمات عميقة وواضحة، فيقول: (اللهم اني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال والولد. اللهم انت الصاحب في السفر وأنت الخليفة في الأهل، ولا يجمعهما غيرك لأن المُستَخلَف لا يكون مستصحباً والمستصحب لا يكون مستخلفاً (5).

ومعنى كلامه (علیه السلام) أنه يستحيل على الشيء الواحد أن يكون في مكانين مختلفين في وقت واحد. فهذا من شأن الأجسام، باعتبار أن الجسم الواحد لا يمكن أن يكون في جهتين في وقت واحد. أما ما ليس بجسم، وهذا ينطبق على الله سبحانه المنزّه عن الجسمية فإنه في كل.

ص: 74


1- توحيد الصدوق، ص 43 - 44.
2- الطبرسي: الاحتجاج، دار النعمان، النجف سنة 1386 ه - ، 1966 م، ج 1، ص 312.
3- انظر (ح)، ج 6، ص 398.
4- نفسه، ج 10، ص 170.
5- نفسه، ج 3، ص 165.

مكان، فهو المستَخلَف مع الأهل والمستصحَب في السفر في وقت واحد ولا يجمعهما غيره تقدّس ذكره على أنه ينبغي أن لا يفهم من كونه في كل مكان، إن ذاته مكانية، وإنما المراد أن علمه وعنايته وقضائه وقدره وتدبيره شاملة الجميع مخلوقاته في كل زمان ومكان. وقد أنكر الحلي التحيز عن الله فقال: وهذا حكم متفق عليه بين أكثر العقلاء وخالف فيه المجسمة والدليل على ذلك أنه تعالى لو كان متحيزاً لم ينفك عن الأكوان الحادثة، وما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث (1).

ونفى المعتزلة أن يكون الله في مكان أو على مكان بمعنى التحيز والحماسة وأولوا آيات المعية مثل: «هو معكم أينما كنتم» و «ان الله مع الذين اتقوا» و«إنني معكما أسمع وأرى» و «ما يكون من نجوى ثلاثة، إلا هو رابعهم»، «فقالوا أن المعية مجاز يمتنع حمله على الحقيقة، لأن حقيقة المعية المجاورة والمخالطة وهي منفية قطعاً عن الله تعالى. أما تقديرها فهو العلم والنصر والتأييد (2). ويعلّق زهدي جار الله على ذلك بقوله «ولا ريب أن هذا التأويل معقول ولكنه لا يلزم المعتزلة، لأن هذه الآيات تعني أن الله في كل مكان، وأكثر المعتزلة يرون أنه تعالى في كل مكان (3).

- الحلول: إن الله سبحانه منزه عن أن يحل في شيء. ومعنى الحلول هو وجوب شيء في شيء أو على شيء. والحلول بهذا المعنى محال على واجب الوجود لأنه يستلزم الحدود والتحيز، والله لا حد له ولا حيز. قال نصير الدين الطوسي: (والحق أن حلول الشيء في الشيء لا يتصور إلا إذا كان الحال بحيث لا يتعين إلا بتوسط المحل. وإذ لا يمكن أن يتعين واجب الوجود بغيره، فاذن يستحيل حلوله في غيره (4).

والله لم يحلل في الأشياء، ولم ينأ عنها أيضاً، حلولاً ونأياً مكانياً و لم يحلل في الأشياء فيقال: هو فيها كائن، ولم ينا عنها فيقال: هو منها بائن (5). فلا يجوز إطلاق القول بأنه ليس ببائن عن الأشياء، كيف والمجرد بالضرورة بائن عن ذي الوضع، ولكنها بينونة بالذات الالهية لا بالجهة. يقول ابن أبي الحديد: «والمسلمون كلهم متفقون على أنه تعالى يستحيل أن يحل في شيء إلا من اعتزى الى الاسلام من الحلولية كالذين قالوا بحلوله في علي وأولاده وكالذين قالوا بحلوله في أشخاص يعتقدون فيها إظهاره كالحلاجية وغيرهم. الدليل على استحالة حلوله سبحانه - إنه لو صح أن يحل فيها لم يعقل منفرداً بنفسه أبداً، كما أن السواد.

ص: 75


1- شرح التجريد، ص 180.
2- المعتزلة، ص 85، عن الصواعق المرسلة، ج 2، ص 62.، مقالات الاسلاميين ج 1، ص 217.
3- المعتزلة، ص 85، عن الصواعق المرسلة، ج 2. 262، مقالات الاسلاميين، ج 1، ص 217.
4- أنظر (ب) ج 2، ص 176.
5- أنظر (ح) ج 5، ص 153 - 164، ج 9، ص 252، ج 10، ص 64، ج 13، ص 82.

لا يعقل كونه غير حال في الجسم لأنه لو يعقل غير حال في الجسم لم يكن سواداً، ولا يجوز أن يكون الله تعالى حالاً أبداً، ولا أن يلاقي الجسم. إذ ذاك يستلزم قدم الأجسام وقد ثبت أنها حادثة (1).

ويقول الحلي: (وهذا حكم متفق عليه بين أكثر العقلاء، وخالف فيه بعض النصارى القائلين بأنه تعالى حال في المسيح، وبعض الصوفية القائلين بأنه تعالى حال في بدن العارفين، إن المعقول من الحلول قيام موجود بموجود آخر على سبيل التبعية بشرط امتناع قيامه بذاته، وهذا المعنى منتف في حقه تعالى لاستلزامه الحاجة المستلزمة للامكان (2). كما نفى الاتحاد عنه تعالى بقوله: إن وجوب الوجود ينافي الاتحاد، لأن وجوب الوجود يستلزم الوحدة فلو اتحد بغيره لكان ذلك الغير ممكناً، فيكون الحكم الصادق على الممكن صادق على المتحد به، فيكون الواجب ممكناً، وأيضاً فلو اتحد بغيره لكان بعد الاتحاد إما أن يكونا موجودين كما كانا فلا اتحاد وان عدما أو عدم أحدهما فلا اتحاد أيضاً ويلزم عدم الواجب فيكون ممكناً وهذا خلف (3).

وخلاصة القول: فإن الامام علي (علیه السلام) ينفي الحلول عن الذات الالهية المقدسة كما يحيل عليها معاني الزمان والمكان والجهات، ويعتبر أن ذات الحق وجود مطلق لا أول له ولا غاية ولا يصدق عليه أي نوع من الحدود والماهيات والكيفيات ومع ذلك فهو أقرب الينا من أي قريب وأدنى من كل داني، وهو أدنى الى العبد من نفسه، بل هو أقرب الينا من حبل الوريد (4) كما يقول (علیه السلام) أيضاً. وهذا يدحض جميع الآراء التي قالت بأن ذات الله حالة في الأشياء كما قال غلاة الشيعة (الجناحية) بأن «روح الله جل اسمه، كانت في آدم ثم تناسخت حتى صارت فيه (5).

وقد أجمع المعتزلة على نفي الجهة عن الله سبحانه، لأنهم اعتقدوا أن إثباتها يوجب إثبات المكان والجسمية (6). كما أجمعت على أن الله تعالى ... لا يحيط به مكان، ولا يجرى عليه الزمان، ولا تجوز عليه المماسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن (7) كما يذكر الأشعري و انه أقرب الينا من حبل الوريد، ما يكون من نجوى ثلاثة الا هو رابعهم (8). 4.

ص: 76


1- نفسه، ج 5، ص 153 - 164.
2- شرح التجريد، ص 180. أنظر أيضاً (ب)، ج 2، ص 176.
3- المرجع نفسه.
4- توحيد الصدوق، ص 79.
5- مقالات الاسلاميين، ج 1، ص 67.
6- المعتزلة، ص 83.، عن الصواعق المرسلة، ج 1، ص 77 - 78.
7- مقالات الاسلاميين، ج 1، ص 216.
8- الانتصار، ص 13 - 14.

- تعدد الصفات: قسم المتكلمون صفات الله الى سلبية وثبوتية. فالسلبية منها هي تلك التي لا تليق بذاته تعالى فننفيها عن كونه جسماً أو جوهراً أو عرضاً أو غير ذلك. اما الثبوتية، فهي تلك التي تليق بذاته كالعلم والقدرة والسمع والبصر والارادة والحياة لأنها ثابتة لذاته تعالى.

والصفات على وجهين: منها ما يوصف بها تعالى لذاته، وهي صفات الذات، ومنها ما يوصف بها لفعله، وهي صفات الأفعال، والفرق بينهما هو أن الأولى مستحقة لها استحقاقاً لازماً، وغير مقدورة، إذ لا مقابل وجودي لها ولا ضد، لأن الضد عجز. فلا نرى في الوجود ما لا يعلم لأنه سبحانه «لم يعذب عنه خفيات غيوب الهوى، ولا غوامض مكنون الدجى، ولا ما في السموات العلى والأرضين السفلى (1) كما يقول الامام علي (علیه السلام). ولا نرى ما لا يقدر عليه لأنه تعالى القادر على كل شيء، وكل شيء خاضع له، ولا نستطيع أن نصفه بقدرة وعجز، وعلم وجهل وسفه وحكمة لأن اتصافه سبحانه بصفتين متقابلتين محال، فلا يقال يقدر أن يعلم ولا يقدر أن لا يعلم لأن العلم صفة ذاتية، لا شائبة فيها من الفعل.

أما الثانية فلها مقابل وجودي ويجوز أن يوصف الباري بضدها وبالقدرة على ضدها لأنها مقدورة والقدرة لا تنسب إلا إلى الفعل، نفياً أو إثباتاً، فيقال يقدر أن يفعل أو لا يقدر ان لا يفعل، وهي تجب بوجود الفعل ولا تجب قبل وجوده، إذ قبل صدور الفعل لا يصح وصفه سبحانه بتلك الصفة. فقبل خلق الخلق لا يوصف بأنه خالق وقبل إماتته الخلق لا يقال عنه مميت. إلى غير ذلك من الصفات التي لا يصح حملها على الذات إلا بعد وقوع الفعل منه سبحانه (2). لذلك يجوز القول: يحب من اطاعه ويضر من عصاه يرفع من أطاعه، ويخفض من عصاه ينفع من أطاعه ويضر من عصاه. فالتضاد هنا، لا ينسب إلى الذات، بل الى فعل الطاعة والمعصية. يقول الامام علي (علیه السلام): (الحمد لله الخافض الرافع الضار النافع (3).

وللمعتزلة آراء شبيهة بهذا الصدد حيث يقول الأشعري: «والمعتزلة تفرق بين صفات الذات وصفات الأفعال بأن صفات الذات لا يجوز أن يوصف البارىء بأضدادها ولا بالقدرة على أضدادها ... وصفات الأفعال يجوز أن يوصف البارى سبحانه بأضدادها وبالقدرة على أضدادها ... (4). وهنا نتساءل كيف يمكن م.

ص: 77


1- توحيد الصدوق، ص 42.
2- أنظر الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة ص 153، عن تصحيح اعتقادات الصدوق للشيخ المفيد، ص. 11
3- مستدرك نهج البلاغة ص 82.
4- مقالات الاسلاميين، ج 2، ص 524، عني بتصحيحه ه - . ريتمر، مطبعة الدولة، استانبول، سنة 1930 م.

تصور الذات مع تعدد الصفات؟. إن التعدد الحاصل في الصفات لا يعني كونها وراء الذات زائدة عليها أو منفصلة عنها وإنما يعني تعدد في أنواع الكمال وأقسامه، لا في ذات الكامل المطلق الذي هو المبدأ الأول لكل كمال، وبتعبير ثان، كما أن تعدد المخلوقات لا يتنافى مع وحدة الخالق، كذلك تعدد الكمالات، لا يتنافى مع وحدة مبدئها.

3 - القدرة الإلهية:

الله، قادر على الاطلاق، لا بقدرة زائدة عليه عن محمد بن عرفة قال: قلت للرضا (علیه السلام): خلق الله الأشياء بالقدرة أم بغير القدرة؟ فقال لا يجوز أن يكون خلق الأشياء بالقدرة لأنك إذا قلت: خلق الأشياء بالقدرة فكأنك قد جعلت القدرة شيئاً غيره، وجعلتها آلة له بها خلق الأشياء، وهذا شرك. وإذا قلت: خلق الأشياء بقدرة، فإنما تصفه انه جعلها باقتدار عليها وقدرة ولكن ليس هو بضعيف، ولا عاجز ولا محتاج الى غيره. وعقب الصدوق على ذلك بقوله: (إذا قلنا، ان الله لم يزل قادراً، فإنما نريد بذلك نفي العجز عنه، ولا نريد اثبات شيء معه لأنه عزّ وجل لم يزل واحداً لا شيء معه (1).

فهو القادر بذاته على كل مقدور، وذاته الواحدة لا يلحقها تغيير ولا تتأثر بعوارض الأجسام كالتعب والضعف والملل والمشقة والعجز، لأن الله سبحانه ليس بجسم، ولا محلا لتعاقب الأعراض عليه، فهو يؤثر ولا يتأثر ويفعل ولا ينفعل، ويغير ولا يتغير، و (إذا قضی أمراً فإنما يقول له كن فيكون)، (آل عمران / 47) وقضاؤه متقن وأمره مبرم كما يقول الامام علي (علیه السلام): «لم يؤده خلق ما ابتدأ، ولا تدبير ما ذرا، ولا وقف به عجز عما خلق ولا ولجت عليه شبهة فيما قضى وقدر، بل قضاء متقن، وعلم محكم، وأمر مبرم (2).

فهو القادر المطلق على كل تقدير، وغيره يقدر ويعجز. بهذا الاعتبار كان من الصعب إدراك حقيقة قدرته، لأنها فوق التصورات والأوهام. وما تعلمه منها، هو كونها عظيمة، وهذه العظمة تتجلى في آثاره التي حيّرت العقول وشغلت الأذهان.

والله سبحانه خلق الخلق، بذاته القادرة، من العدم لا بشيء ولا من شيء كان معه في الأزل أو أحدثه فيما بعد، شأن الصانع من الخلق، ولأن كل صانع شيء، فمن شيء صنع، والله لا من شيء صنع ما خلق (3)، كما قال الامام علي، وبذاته القادرة أيضاً يعدم الأشياء بعد كونها كما يقول (علیه السلام): «هو المفني لها بعد وجودها حتى يصير موجودها كمفقودها (4)، ذلك أن الله يجعل الشيء موجوداً بعد أن كان معدوماً ويجعل الشيء

ص: 78


1- توحيد الصدوق، ص 130 , 131.
2- انظر (ح) ج 5، ص 153.
3- توحيد الصدوق، ص 43.
4- انظر (ح)، ج 13، ص 87.

معدوماً بعد أن كان موجوداً، وقدرة الله هي التي تجعل الشيء موجوداً من العدم، ومعدوماً من الوجود. وهذا يعني أن كل ما في الوجود إنما هو خاضع لمشيئته، ولو لم يشأ لم تكن، ولا شيء من الفعل والترك عنده ضروري، إنما هو ان شاء فعل وان شاء لم يفعل كما ذكر الامام (علیه السلام): «ولو أراد الله ان يخلق آدم من نور يخطف الأبصار ضياؤه، ويبهر العقول رواؤه، وطيب يأخذ الأنفاس عرفه لفعل (1).

إلا أن القدرة بهذا المعنى، لم يقل بها الفلاسفة الذين اعتبروا أن القدرة بهذا المعنى نقصان لا يليق بذاته سبحانه، وإيجاده للكون، هو من لوازم ذاته فيمتنع خلوه منه، فالقدرة لازمة له كلزوم العلم وسائر الصفات الكمالية، فكما يستحيل إنفكاكها عنه يستحيل إنفكاك القدرة عنه، وفي جواب ذلك قال المتكلمون: (إنه لو لم تكن القدرة بمعنى ان شاء فعل وان شاء ترك بحيث لم يكن الفعل والترك ضروريان يلزم أحد أمور أربعة: أما نفي الحادث أو عدم باستناده الى المؤثر، أو التسلسل، أو تخلف الأثر عن المؤثر.

بيان الملازمة، إنه لو كان موجباً بذاته، إما ان لا يوجد حادث أو يوجد فإن لم يوجد لزم نفي الحادث، وهو مخالف للضرورة والوجدان، وان وجد حادث، فإما أن لا يستند الحادث الموجود الى مؤثر موجد، أو يستند فإن لم يستند الى مؤثر، لزم عدم استناد الحادث إلى مؤثر، وان استند الحادث الموجود إلى مؤثر، فإما أن يكون المؤثر قديماً أو حادثاً فإن لم يكن قديماً ولا منتهياً الى القديم، لا بد له من مؤثر، وذلك المؤثر إذا لم يكن قديماً أو منتهياً الى القديم، لا بد له من مؤثر آخر فيلزم التسلسل، وان كان المؤثر منتهياً الى القديم لزم تخلف الأثر عن المؤثر، لأنا قد فرضناه حادثاً منتهياً إلى القديم الموجب بذاته، ولازم ذلك كون الأثر مقارناً للموجب، ولو كان مقارناً خرج عن كونه حادثاً ولزم تعدد القديم، وهو. خلاف المفروض (2).

وهنا نتساءل: كيف تتعلق القدرة الالهية بالشيء الحادث؟ وإذا كان علم الله يتغير بتغير الأحداث، فكيف يتغير علمه دون أن تتغير ذاته؟

وجواب الامام على ذلك قوله: (أحاط بالأشياء علماً قبل كونها، فلم يزدد بكونها علماً، علمه بها قبل أن يكونها كعلمه بعد تكوينها (3).

فالاختلاف إذاً في الأشياء ذاتها، لا في علم الله، ثم إن الماضي والحاضر والمستقبل أمور زمنية تحصل في ذهننا لأننا محدودون بالزمان والمكان أما الله فلا يتصف بالزمان والمكان كما مر معنا، وعلمه لا يتغير بتغير حالات المكان والزمان..

ص: 79


1- المرجع نفسه، ج 13، ص سن 131.
2- الشيعة بين الأشاعرة و المعتزلة، ص 154 - 155، عن المواقف للايجي، ج 8، ص 50.
3- توحيد الصدوق، ص 43.

أما المعتزلة، فمنهم من قال: (إن الله تعالى عالم بذاته، بكل ماكان وما سيكون وكل المعلومات عنده بعلم واحد والاختلاف بين ما سيكون وما كان، يرجع الى الاختلاف في الأشياء نفسها لا في علم الله (1) والمبدأ العام عندهم هو ان الله قادر وذاته لا يلحقها تغيير.

4 - كلام الله - القرآن الكريم:

إن مسألة كلام الله من المسائل التي تجاوزت حد الخلاف الفكري بين علماء الدين، وأصبحت قضية كبرى تبلبلت حولها الأفكار وهاج الناس، ودخلت العامة في النزاع فزادته تعقيداً وغموضاً.

وهذه القضية متصلة إتصالاً وثيقاً بصفات الله، لأن الكلام صفة من صفاته تعالى. وقد ورد في القرآن الكريم آيات يسند الله فيها الكلام لنفسه كقوله جل شأنه (وَكَلَّمَ الله مُوسَى تعليماً) (النساء / 164) كما أنه من الثابت من الوجهة الدينية أن القرآن كلام الله.

عن الحسين بن خالد، قال: قلت للرضا علي بن موسى (علیه السلام): يا ابن رسول الله أخبرني عن القرآن أخالق أم مخلوق؟ فقال: ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله عز وجل (2). وهنا نتساءل: ما معنى وصف الله تعالى بالمتكلم؟ وما معنى أن القرآن كلام الله؟

إذا كان الله تعالى قد أسند الكلام الى نفسه، فلا ينبغي القول بأنه كلام على الحقيقة بما يعني ذلك من استعمال الأدوات والآلات شأن كل متكلم من الخلق، بل ان ما ورد في القرآن من أخبار وأوامر ونواهي، إنما صدرت عنه، وهو لا يحتاج في كونه مخبراً الى هذه الأدوات الجسمية المنزه عنها كما في «النهج» «الذي كلم موسى تكليهما، وأراه من آياته عظيما، بلا جوارح ولا أدوات، ولا نطق ولا لهوات» (3). وكونه غير محتاج إلى آلة النطق هذه، لم يصدق في حقه التلفظ بالحروف لدلالتها على استعمال هذه الأدوات، فالله تعالى: «يقول ولا يلفظ» (4). كما يقول الامام (علیه السلام) أيضاً.

وهكذا فقد ثبت أن الله متكلماً، وكلامه منزه عن أحوال مخلوقاته، فلا يكون بلسان ولا أدوات ولا حروف وإنما هو فعل منه مثّله وصوّره للمكلفين بالكتابة فالباري، تعالى مثله لجبرئيل (علیه السلام) بالكتابة في اللوح المحفوظ حتى بلغه محمد صلی الله علیه و آله و سلم بالوحي، فبشر به قومه ودعاهم

ص: 80


1- ضحى الاسلام، ج 3، ص 32.
2- توحيد الصدوق، ص 223.
3- أنظر (ح) ج 10، ص 88.
4- نفسه، ج 13، ص 82.

اليه وجعله حجة الله عليهم، ولم يكن في مقدوره أن يفعل ذلك لو لم ينزل القرآن بلغة القوم الذي أنزل لهم، فكان ذلك لطفاً من الله بعباده، فكلامه سبحانه، فعل منه انشأه، ومثله لم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان كذلك لكان قديماً، وكان إلهاً ثانياً، وقد ثبت أن القدم أخص صفات الله تعالى، ولو كان من يشاركه فيه، لكان مشاركاً للباري في أخص صفاته وكان يجب عليه ما يجب على الله تعالى من الصفات، وكان لله شريكاً في الألوهية وهذا محال، ذلك أن الله وحده لا شريك له. يقول الامام علي (علیه السلام): «إنما كلامه سبحانه فعل منه، أنشأه ومثله، لم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً (1). وإثبات كونه قديماً في غاية السفه والنقص في حقه تعالى لعدم وجود من يكلمهم في الأزل.

وخلاصة القول، إن الله سبحانه وتعالى متكلم، بمعنى أنه أوجد حروفاً وأصواتاً مسموعة قائمة بالأجسام الجمادية كما كلم الله موسى من الشجرة فأوجد فيها الحروف والأصوات. وهذا الكلام هو محدث، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً. وخالف الأشاعرة العقل وأثبتوا كلاماً آخر نفسانياً مغايراً لهذه الحروف والأصوات وقالوا بأنه كلام الله على الحقيقة، وهو قديم قائم بذاته (2).

ولقد أثيرت حول القرآن أيضاً قضية أخرى تتعلق بكونه مخلوق أو غير مخلوق. وما آثر عن الامام علي والأئمة عليهم السلام من كلام في هذا الصدد يثبت بأن القرآن هو كلام الله فقط، دون القول بأنه مخلوق أو غير مخلوق. عن سليمان بن جعفر الجعفري قال: قلت لأبي الحسن موسی بن جعفر (علیه السلام): یا ابن رسول الله ما تقول في القرآن، فقد اختلف فيه من قبلنا؟ فقال قوم: انه مخلوق، وقال قوم: إنه غير مخلوق. فقال (علیه السلام): أما إني لا أقول في ذلك ما يقولون، ولكني أقول: إنه كلام الله (3).

و عن الأصبغ بن نباتة قال: لما وقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب على الخوارج ووعظهم وذكرهم وحذرهم القتال قال لهم: ما تنقمون مني؟ إلا إني أول من آمن بالله ورسوله فقالوا: أنت كذلك، ولكنك حكمت في دين الله أبا موسى الأشعري. فقال (علیه السلام): والله ما حكمت مخلوقاً، وإنما حكمت القرآن (4).

وقد اعتبر أحدهم أن الجدال في القرآن والقول بأنه مخلوق أو غير مخلوق، هو بدعة اشترك فيها السائل والمجيب. فقد كتب علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا الى بعض شيعته ببغداد: ... نحن نرى أن الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب 5.

ص: 81


1- انظر (ح)، ج 13، ص 82.
2- فضائل أمير المؤمنين وإمامته، ج 1، ص 145.
3- توحيد الصدوق، ص 224.
4- توحيد الصدوق، ص 225.

فيتعاطى السائل ما ليس له ويتكلف المجيب ما ليس عليه، وليس الخالق إلا الله عز وجل وما سواه مخلوق والقرآن كلام الله لا تجعل له اسماً من عندك، فتكون من الضالين (1).

وهكذا فالقرآن كلام الله ووحي الله وكتاب الله، ولم يجيء فيه انه مخلوق، لأن المخلوق في اللغة قد يكون مكذوباً، ويقال: كلام مخلوق أي مكذوب ومن زعم بأن القرآن مخلوق بهذا المعنى فقد كفر، ومن زعم بأنه غير مخلوق بمعنى أنه غير محدث وغير منزل، فقد أخطأ وقال بغير الحق والصواب. وقد أجمع أهل الاسلام على أن القرآن كلام الله عزّ وجل على الحقيقة دون المجاز من غير جدل أو نقاش لأن التشدد في هذه المسألة ليس من الدين. لذلك فقد توقفوا عن القول بأن القرآن مخلوق أو غير مخلوق وأثبتوا بأنه كلام الله المحدث.

لقد كانت هذه القضية من أبرز القضايا في تاريخ المعتزلة والفكر الاسلامي، لتعلقها بالمبادىء الدينية والأساسية ولتأثيرها على الأوضاع الاجتماعية والسياسية. ولم تختلف المعتزلة كما اختلفت حول هذه المسألة فقد تباينت وجهات نظرها فيما يتعلق بمسألة كلام الله، هل هو جسم أم عرض؟ وهل يبقى أم لا يبقى؟ وهل هو حروف أم لا؟ وهل هو موجود مع كتابه أم لا؟ وهل القرآن معجز أم لا؟ وهل الله متكلم أم غير متكلم، وغير ذلك من الاختلافات التي وصلت حد السيف والجدل العقيم. ومع اختلافهم هذا فقد أجمعوا على أن كلامه محدث مخلوق في محل، وهو حرف وصوت، كتب أمثاله في المصاحف حكايات عنه (2).

والنتيجة التي توصلوا اليها هي، أن القرآن والكتب المنزلة يستحيل أن تكون قديمة بل انها مخلوقة، خلقها الله في غيره بوسيلة من ثلاث وسائل، إما عن طريق الوحي والقذف في العتب، وأما عن طريق بعض الأجرام السماوية كما جرى لموسى، وأما بواسطة أنبياء يكلمون عن الله. فالقرآن إذن من خلق الله، وقد ظهر في الزمان كسائر المخلوقات، ولم يكن منذ الأزل لأنه مخلوق.

بهذا نكون قد أعطينا فكرة عن مبدأ التوحيد كما هو عند الامام علي (علیه السلام) وعند المعتزلة، وكان الهدف من وراء ذلك هو تنقية هذه الفكرة من كل المعتقدات والتصورات الشعبية الزاخرة بالأساطير والأوهام والانتهاء الى فكرة إله واحد متفرد بذاته، لا شبه له من المخلوقين. ولقد جاءت أفكار المعتزلة منسجمة مع ما تحدث به الامام (علیه السلام) في هذا المجال بدليل الاتفاق شبه التام بينهما على تنزيهه تعالى وتوحيده، ونفي الصفات عنه، كما يظهر بوضوح في مختلف مواضيع هذا الكتاب. وهذا يؤكد بأن الامام علي (علیه السلام) كان من أوائل.

ص: 82


1- نفسه، ص 224.
2- الملل والنحل، ج 1، ص 45.

الذين دافعوا عن مبدأ العدل والتوحيد بعد النبي صلی الله علیه و آله و سلم فكانت نصرته له تارة بيده وسيفه، وتارة بلسانه ونطقه، وتارة بقلبه وفكره فحق له أن يكون سيد أهل العدل والتوحيد وإمامهم كما يقول ابن أبي الحديد: « ... وإن قيل عدل وتوحيد، فهو إمام أهل العدل والموحّدين» (1). وكان في ذلك أفصح من كل ناطق بلغة العرب من الأولين والآخرين إلا من كلام الله سبحانه وكلام رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم

ثانياً: العدل

العدل، هو تنزيه الله تعالى عن فعل القبيح. ويقابله الظلم، وهو أصل الشقاء والبلاء. والعدل صفة كريمة من صفات الباري جلّ اسمه، فهو «العدل الذي لا يجور» (2) كما قال الامام علي (علیه السلام). و قد أمر به سبحانه في كتابه العزيز (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) (ص / 26). وجعله صنو الايمان، فقال جل القائل (إعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة / 8).

وهو فرض فرضه الله على ولاة الأمور الذين استرعاهم أمر عباده وقلدهم أمورهم وتدبيرهم، لما في ذلك من عمران للبلاد وسلامة للنفوس، يقول أرسطو في وصيته الى الاسكندر وبالعدل قامت السموات على الأرض، وبالعدل بعث الأنبياء المطهرون. والعدل صورة العقل الذي وصفه الله - عزّ وجلّ - في أحب خلقه اليه، وبالعدل عمرت الأرض، وقامت الممالك، وانطاع العباد وبه أنس المستوحش، وقرب المتباعد وسلمت النفوس من كل دغل وسلم ملوكها من كل فساد (3).

والعقل يحكم مستقلاً بوجوب العدل وحسنه وكمال منزلته من دون أن يكون هناك ملة أو دين، كما يحكم بقبح الظلم، وهذا أمر مركوز في جبلة البشر العاقل الذين فطروا على التمييز بين الخير والشر، النافع والضار، الحق والباطل، فهل ينكر العقل والعقلاء حسن الصدق وقبح الكذب؟ وهل ينكرون حسن الأمانة وقبح الخيانة؟ وهل هم بحاجة إلى من يرشدهم الى هذا أو ذاك؟

والعدل هو من أميز صفات الله عزّ وجلّ فلا يصدر عنه ما يتنافى وعدله وانصافه، بل ان كل ما في الوجود ينم عن ذلك لمكان اتقانه وكونه على مقتضى العدل ونواميس الصلاح والحكمة والأغراض السامية لقوله تعالى (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ ذَٰلِكَ

ص: 83


1- انظر (ح)، ج 7،، ص 203.
2- مستدرك نهج البلاغة ص 50.
3- الأصول اليونانية للنظريات السياسية في الاسلام. تحقيق عبد الرحمن بدوي، دار الكتب المصرية سنة 1954، ص 125.

ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (ص / 27). لذلك كان من العبث نسبة الظلم والشر الى العادل الحكيم خالق الأكوان ومرسل الرسل ومنزل الكتب، الذي يأمر بالعدل والاحسان ويعاقب على الظلم والعدوان، وينتقم من كل ذي شر وهو الذي ما أمر إلا بخير وما نهى إلا عن شر، ويتفرع من العدل القضايا التالية:

1 - نظرية المصلحة:

إن الله سبحانه، لم يخلق الخلق عبثاً على وجه يخلو من الحكمة، ولم يتركه متخبطاً في معمياته، بل خلق ما خلق على وفق النظام الكلي ومصلحة العباد فضبط أعمالهم وكتب آجالهم في كتابه المبين الى يوم الدين، لا طمعاً بطاعتهم، ولا خوفاً من معصيتهم، لأنه تقدس ذكره، لا تنفعه طاعة ولا تضره معصية، فهو الغني بذاته، فلا تجوز عليه الحاجة لتنزهه عنها، كما أن العبث يقدح في عدل الله تعالى، واللطف بعباده يلزم عليه عقلاً، إذ لا سبيل الى الامتثال بأوامره ونواهيه، ما لم يعمل على إزالة مختلف العوائق والحواجز المانعة من ذلك حتى لا يكون للعبد حجة في ترك الامتثال له علماً بأن وضع القوانين والأنظمة من الله ضروري لمصلحة العباد في الدارين إذ لا يعقل من الله الخبير اللطيف أن يترك عباده بلا دليل یر شدهم الى طريق الحق والصواب. فالتكليف إذن حاصل لقول الامام علي (علیه السلام): «الذي خلق الخلق لعبادته، وأقدرهم على طاعته بما جعل فيهم (1)، إلا أنه لم يتجاوز سبحانه في ذلك قدرة الخلق وطاقته، لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.

وإذا كان تعالى يفعل بما فيه مصلحة عباده، فهل يجوز في حقه أن يظلمهم؟ لقد أنزل الله عز وجل القرآن على عباده، وفيه تبيان لكل شيء فجعله حجة عليهم وأمرهم باجتناب محارمه ونواهيه، والأخذ بما أحب لهم من الأعمال وترك ما كرهه لهم منها. ثم وعدهم بالثواب وأوعدهم بالعقاب. وكان سبحانه صادقاً في معاده المطابقة ما نطقت به كتبه بما وعد به في الدنيا والآخرة، مترفعاً عن ظلم عباده لترفعه عن الأسباب المستوجبة للظلم. وكان تدبيره لهم بالعدل والحكمة كما يقول الامام علي (علیه السلام). «الذي صدق في ميعاده وارتفع عن ظلم عباده وقام بالقسط في خلقه، وعدل عليهم في حكمه (2). لذلك فلا يجوز في حقه الظلم، فيعاقب المحسن أو يثيب المسيء لأن هذا يتنافى مع حكمته وعدله وما نصادفه من أنواع المظالم والشرور، إنما يعود لا إلى الله بل الى النقص الحاصل بالعباد الذين ألقوا الهجينة على ربهم (3)، كما في النهج، وكما في قوله تعالى (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (النساء / 79)، أي أن ما يصيب الانسان من نعمة

ص: 84


1- توحيد الصدوق، ص 32.
2- أنظر (ح) ج 13، ص 44.
3- نفسه، ج 13، ص 146.

فمن الله تفضلاً وإحساناً، وما يصيبه من سيئة فمن نفسه التي اقترفت الذنوب، وإن كان كلاهما من عند الله خلقاً وتقديراً. فالله أجل من أن ينزل الظلم والمعصية بعباده. سئل أبو حنيفة عن مصدر المعصية فقال: ولا تخلو من ثلاث: إما أن تكون من الله عزّ وجل وليست منه، فلا ينبغي للكريم أن يعذب عبده بما لا يكتسبه، وإما أن تكون من الله عزّ وجل ومن العبد، وليس كذلك، فلا ينبغي للشريك القوي أن يظلم الشريك الضعيف، وإما أن تكون من العبد، وهي منه فإن عاقبه فبذنبه، وان عفى عنه فبكرمه وجوده (1).

ويعلل ابن ميثم البحراني وجود هذه الشرور بقوله: «والباري تعالى عادل بالنظر الى علمه وقضائه، أي لا يقضي في ملكه بأمر إلا وهو على وفق النظام الكلي والحكمة البالغة، ويدخل في ذلك جميع أقواله وأفعاله، فإنه لا يصدر منها شيء إلا وهو كذلك. وأما الجزئيات المعدودة شروراً وصورة جور في هذا العالم، فإنها إذا اعتبرت كانت شروراً بالنسبة. ومع ذلك فهي من لوازم الخير والعدل لا بد منها، ولا يمكن أن يكون العدل والخير من دونها، كما لا يمكن أن يكون الانسان إنساناً إلا وهو ذو شهوة وغضب تلزمها الفساد والشر الجزئي ولما كان الخير أكثر، وكان ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شراً كثيراً في الجور والحكمة أوجب وجود تلك الشرور الجزئية لوجود ملزوماتها (2)

ولنا في هذا المجال كلام حول ما اعتبره البحراني من أن الشر ضرورة لازمة للخير والعدل وصفة إيجابية واجبة الصدور عن الله تعالى. لقد كان من الأجدر به أن يتناول هذه المشكلة من زاوية أخرى، فينفي وجوب الشر الجزئي عن الله باعتباره الخير المحض وعلى أساسه يكون الوجود خيراً محضاً أيضاً، والطريق الذي يلجه الانسان الى هذا الخير هو الخير نفسه. أما الشر فهو الخروج عن هذا السبيل بحيث لا يوجد إلا في حال الانحراف. فالشر

إذن هو معنى سلبي لا صفة إيجابية، والله بريء من صدور الشر عنه حتى في الأقل القليل. هذا بالاضافة الى أن الشرور الحاصلة في العالم إنما هي ابتلاء من الله لعباده كي يمتحن إيمانهم ثم يحاسبهم بما يستحقون، فإذا أفسدوا فلا يلجئهم إلى الصلاح، ولكن يتركهم واختيارهم اختباراً هم، فمن أحسن أثيب ومن أساء عوقب. ومعنى اختبار الله تعالى العبد، معاملته إياه معاملة المختبر مجازاً، إذ حقيقة الاختبار محالة عليه تعالى، لعلمه المحيط بالأشياء. وهو يعني أيضاً إظهار ما في المبتلى من جودة ورداءة، وطاعة وعصيان، دون التعرف لحاله والوقوف على حقيقة أمره. وهو تعالى يختبر عباده تارة بالمضار ليصبروا وأخرى بالمسار ليشكروا وفي كلا الحالين تبدو النفس على حقيقتها. يقول الامام علي (علیه السلام): (أيها الناس ان الله قد أعاذكم من أن يجور عليكم، ولم يعذكم من أن يبتليكم، وقد قال جل من قائل «إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ.

ص: 85


1- توحيد الصدوق، ص 96.
2- أنظر (ب) ج 4، ص 32.

وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) (المؤمنون / 30) (1) وان كانت الخيرات أيضاً ابتلاء كما قال تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء / 35) وقوله عزّ وجلّ: ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الاعراف / 168)، وعلى هذا الأساس خلقّ الله الدنيا، ثم أوجب الجزاء في المعاد لنفوس المبتلين والمنعم عليهم بحسب طاعتهم ومعصيتهم في النعمة والابتلاء. «وإن الدنيا لم تكن لتستقر إلا على ما جعلها الله عليه من النعماء والابتلاء والجزاء في المعاد (2)، كما يقول (علیه السلام) أيضا.

أما المعتزلة فقد قالوا بالصلاح والاصلح واتفقوا على أن الله لا يفعل إلا الصلاح والخير ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد (3)، وإذا فالله لا يفعل بعباده إلا ما فيه صلاحهم. وليس ذلك فحسب، وإنما لا يقدر تعالى أن يعطي عباده أصلح مما أعطاهم لأنه لو كان عنده أصلح مما أعطاهم ومنعه منهم لكان بخيلاً ظالماً. فالله يعطي كل عبد أصلح ما يستطيع أن يعطيه ولا يقدر أن يعطيه أصلح مما أعطاه أي شيئاً يفوقه في الصلاح لأنه ما من أصلح، إلا وفوقه ما هو أصلح منه ولكنه يستطيع أن يفعل أمثال ما فعل من الصلاح والبعض يرفض حتى هذا القول الأخير (4). كما اتفقوا على أن الله تعالى «منزّه أن يضاف اليه شر وظلم وفعل هو كفر ومعصية، لأنه لو خلق الظلم كان ظالماً كما لو خلق العدل كان عادلاً (5) وأجمعوا على أن الله عادل (6)، وقالوا: بأن جميع أفعال الله تعالى حكمة وصواب ليس فيها ظلم ولا جور ولا كذب، ولا عبث ولا فاحشة، والفواحش والقبائح والكذب والجهل من أفعال العباد والله تعالى منزه عنها، بريء منها (7).

وخلاصة القول ان الله يسير بالكون لخير الانسان وسعادته وإنه لا يمكن أن يريه الشر أو أن يأمر به.

2 - نظرية الحسن والقبح:

وهي تتفرع من قضية كون الله عادل وتدور حول الأسئلة التالية:

ما هو السبب الذي جعل العدل حسناً والظلم قبيحاً؟

ما هو المرجع الذي نرجع اليه في معرفة ما إذا كان فعل من الأفعال حسناً أو قبيحاً؟

ص: 86


1- أنظر (ح) ج 7، ص 110.
2- نفسه، ج 16، ص 74.
3- الملل والنحل، ج 1، ص 45.
4- المعتزلة، ص 102.
5- الملل والنحل، ص 45.
6- المعتزلة، ص 67.
7- فضائل أمير المؤمنين وإمامته، ج 1، ص 186.

وهل يستطيع العقل الانساني أن يدرك هذه الأمور بنفسه؟

إن الله تعالى عادل، لم يأمر إلا بما حسن من الأفعال ولم ينه إلا بما ساء وقبح منها كما ذكر الامام (علیه السلام) في نهجه: (فإنه لم يأمرك إلا بحسن، ولم ينهك إلا عن قبيح (1) وذاته الكريمة العادلة اقتضت ذلك. لهذا فإن كل أمر فيه خير وصلاح للناس إنما هو أمر من الله بصرف النظر عن قائله، فاقتضى القول بوجوب طاعة الله في كل ما أمر به لكونه حسناً وترك كل ما نهى عنه لكونه قبيحاً فوراء كل أمر ونهي سر وحكمه يوجب حسن المأمور به وقبح المنهي عنه. من هذا المنطلق نستطيع القول أن حسن الفعل سابق على أمر الله وقبحه متقدم على نهيه تعالى، وان الله أمر بهذا الفعل لأنه حسن ونهى عن ذاك الفعل لأنه قبيح، ولا يصح قولنا، بأن هذا حسن لأن الله أمر به، وذا قبح لأن الله نهى عنه. وهذا يعني أن من الأشياء ما هو حسن لذاته وان لم يرد به أمر شرعي، ومنها ما هو قبيح لذاته وان لم يرد به نهي شرعي، مما يدفعنا الى التأكيد بأن الحكم على حسن الأشياء وقبحها ممكن بالعقل وسابق على ورود الشرائع.

أما الأشاعرة، فقد أنكروا حكم العقل بالحسن والقبح، فالقبيح هو المنهي عنه شرعاً، والحسن هو الذي لم يرد فيه نهي من الشارع، يقول الأشعري «الواجبات كلها سمعية، والعقل لا يوجب شيئاً ولا يقتضي تحسيناً ولا تقبيحاً» (2).

فالحسن والقبح تابعان لأمر الشرع، ولا مجال لحكم العقل، فهو تابع للشرع، فلو ان الشرع أمر بالكذب ونهى عن الصدق لاصبح الكذب حسناً والصدق قبيحاً. وهذا خلاف لما عليه جبلة البشر العاقل، فالاشعري ينكر ما هو بديهي وفطري وضروري عند كل ذي عقل سليم، لأن العقل إذا خلص من الموانع لا ريب من أن يختار الصدق لحسنه وينفر من الكذب لقبحه، وهو قادر على ذلك بمعزل عن الشرع، ودليلنا على ذلك أنه قبل ورود الشرائع السماوية كان البدوي أو الجاهلي يحكم على حسن الأشياء وقبحها بالعقل. ولو جاز وقوف الحسن والقبح على أوامر الشارع لما حكم بحسن الأشياء وقبحها من ينكر الشرائع والأديان.

ولقد تحدث الامام (علیه السلام) عن هذه الحقيقة فكثيراً ما كان يمدح العقل ويرفع من شأنه ويخاطب الانسان العاقل بقوله «كفاك من عقلك ما أوضح لك سبل غيك من رشدك» (3) فالعقل قادر على التمييز بين الخير والشر، الحسن و القبح، بحكم الفطرة والبديهة، لذلك.

ص: 87


1- انظر (ح)، ج 16، ص 77.
2- الملل والنحل، ج 1، ص 101.
3- انظر (ح)، ج 20، ص 65.

فقد اعتبره من أبلج المناهج وأقوم المسالك ومن استرشد بغيره فقد ضل سواء السبيل: «من استرشد غير العقل، أخطأ منهاج الرأي» (1).

أما المعتزلة فإنهم لما أقروا بأن الله عادل وأن أعماله لغاية، كان من الطبيعي أن يثيروا مسألة الحسن والقبح في الأعمال، فرأوا أن الحسن والقبح في الأعمال ذاتيان فجميع الأعمال الحسنة، كالصدق والاحسان والشجاعة، فيها صفة ذاتية جعلتنا نحكم عليها بأنها حسنة، وكذلك الحال في جميع الأعمال القبيحة كالكذب والظلم وغير ذلك، والشرع إنما يتبع ما أمر به العقل وما نهى عنه، فالعقل يدرك والشرع يخبر، لهذا قالوا بالتحسين والتقبيح العقليين (2).

إن القول بالحسن والقبح الذاتيين يعطي العقل دور الادراك والاكتشاف أي أن العقل يدرك الحسن الموجود في الأشياء الحسنة فيستحسنها، ويدرك القبح الموجود في الأشياء القبيحة فيستقبحها. ولولا وجود صفتي الحسن والقبح في الأشياء ذاتها لما تمكن العقل من إدراك ذلك. أما الشرع فإنه لم يأمر بالحسن وينهي عن القبح إلا لما فيه من حسن وقبح ذاتيين. واستدلوا على ذلك بأدلة أهمها:

1 - ان الناس قبل ورود الشرائع كانت تتحاكم الى العقل وتتجادل بالعقل.

2 - لولم يكن في الأشياء حسن وقبح ذاتيان، لافحمت الرسل وما استطاعوا الدعوة

3 - لو لم يكن في الأفعال ذاتها حسن وقبح، بل هي من عمل الشرع، لما أمكن الفقهاء أن يعملوا عقولهم في المسائل التي لم يرد فيها نص ولاستحال تعليل الأحكام (3).

ويعتبر هاشم معروف الحسيني، ان هذا هو رأي المتقدمين من المعتزلة، أما المتأخرون منهم، كالجبائي مثلاً، فيقولون بثبوت حسن الأشياء وقبحها لوجود صفة في الأفعال تقتضي. حسنها أو قبحها، ويذكر عن الجبائي أحد أعلامهم المتأخرين إن حسن الأشياء وقبحها بالوجوه والاعتبارات فضرب اليتيم بذاته لا يتصف بأي صفة منهما، ولكنه يكون حسناً إذا وقع بقصد تأديب اليتيم وقبيحاً إذا وقع بقصد الاساءة اليه (4).

وهكذا يظهر لنا، من خلال هذه النظرية، كيف أن المعتزلة تسلم بقدرة العقل الانساني على الادراك والاكتشاف ومعرفة الخير والشر وإدراك الحسن والقبح دون اللجوء إلى الشرع لكي يقرر ما هو الحسن وما هو القبيح. هذا يعني أن الانسان مكلف قبل ورود.

ص: 88


1- المرجع نفسه، ج 20، ص 26.
2- فلسفة التوحيد، ص 67.
3- ضحى الاسلام، ج 3، ص 47 - 48.
4- الشيعة بين الأشاعرة و المعتزلة، ص 187 - 188.

الشرائع بعمل الحسن والامتناع عن القبيح حتى ولو لم تصل إليه الشرائع، وهذا التكليف مرتبط بما يدل عليه العقل. لذلك فقد قرروا المسؤولية الأخلاقية في الدين وجعلوا العقل الهادي والحاكم والمرجع في ذلك. أما خصومهم فكانوا يعتبرون أن الحسن والقبح تابعان لأمر الشرع وحكمه. فالشرع مثبت وليس مخبر، ولا يوجد شيء حسن أو قبيح بذاته.

3 - حرية الارادة الانسانية:

هذه المشكلة من أكثر المشاكل الكلامية تعقيداً وأوفرها بحثاً ودراسة ولقد سميت بالجبر والتفويض، أو بالقضاء والقدر، وحار فيها الفلاسفة قديمهم وحديثهم. ولقد أثارت هذه المسألة حفيظة رجال الفكر في الاسلام، فتفرقوا فيها الى جماعتين بلغت كل منهما حد التطرف، فالجبريون، وعلى رأسهم جهم بن صفوان يقولون إن الانسان لا يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة، وإنما هو مجبور في أفعاله، لا قدرة له، ولا إرادة، ولا اختيار، وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات وتنسب اليه الأفعال مجازاً كما تنسب الى الجمادات. كما يقال: أثمرت الشجرة، وجرى الماء، وتحرك الحجر، وطلعت الشمس وغربت، وتغيمت السماء وأمطرت، واهتزت الأرض، وأنبتت الى غير ذلك، والثواب والعقاب جبر، كما أن الأفعال كلها جبر، قال: وإذا ثبت الجبر فالتكليف أيضاً كان جبراً (1).

أما المعتزلة الذين قرروا مبدأ حرية الارادة الانسانية، فقد اتفقوا على أن العبد قادر خالق لأفعاله، خيرها وشرها، مستحق على ما يفعله ثواباً وعقاباً في الدار الآخرة (2).

وسبب هذا التطرف بين المسلمين هو تباين الأدلة العقلية واختلاف ظواهر النصوص. فمن ناحية نرى أن الله سبحانه خلق الخلق ولم يدعهم في جهالة ولا عمى، بل أرسل لهم الكتب، وبعث فيهم الرسل ليكونوا حجة عليهم يوم القيامة، حيث ينال كل منهم جزاء ما اقترفت يداه. فلا يعقل والحالة كذلك أن ننفي قدرة الانسان في خلق أفعاله، لأنه لو كان مجبراً عليها، لذهب معنى الثواب والعقاب وبطل التكليف، ولما كان هناك مبرر للكتب المنزلة والأنبياء المرسلين، وقد مثل هذا الموقف المعتزلة وقد أثبتوا (الاختيار الكلي للعبد في جمیع أفعال العباد، وأنكروا قضاء الله تعالى وقدره بالكلية في الأفعال الاختيارية (3) والا لم يكن تعذيب العبد عدلاً عند عدم الاختيار لذلك فقد أوجبوا ثواب المحسن وعقاب العاصي (4).

ص: 89


1- الملل والنحل، ج 1، ص 87.
2- المرجع نفسه، ج 1، ص 45.
3- الغزالي: كتاب الأربعين، ط 1، سنة 1978 دار الثقافة، بيروت، ص 11.
4- فضائل أمير المؤمنين وإمامته، ج 1، ص 184.

ومن ناحية أخرى، إذا أطلقنا يد الانسان في الفعل والاختيار، فإن هذا من شأنه أن يجعل إرادة الله محدودة، فلا تشمل كل شيء، ونكون بذلك قد جعلنا شريكاً لله في إيجاد هذا العالم. ولكن النصوص القرآنية تدل على شمول إرادته تعالى وقدرته، وإنه الصانع الواحد الذي لا شريك له، وقد مثل هذا الجانب الجبرية. كذلك فقد حفل القرآن الكريم بكثير من الآيات التي تنسب حرية الاختيار الى الانسان لقوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ (يونس / 108) وقوله جل القائل (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد / 11) وهناك آيات تشير إلى أن الانسان مجبر ومسيّر بالإرادة الإلهية التي تسير الكون كله كقوله عزّ وجل: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) (الأعراف / 188)

وحار قوم بين أدلة هؤلاء وأولئك وحاولوا التوسط بينهما، ومن هؤلاء أبو الحسن الأشعري الذي قال بمقولة «الكسب» وقد فسره بعض أتباعه بأنه «الاقتران العادي بين القدرة المحدثة (أي قدرة الانسان) والفعل فالله تعالى أجرى العادة بخلق الفعل عند قدرة العبد وإرادته لا بقدرة العبد وإرادته فهذا الاقتران هو الكسب (1).

ويعلق أحمد أمين على ذلك بقوله: وهو - كما ترى - لا يقدم في الموضوع ولا يؤخر، فهو شكل جديد في التعبير عن الجبر - فهو يرى أن القدرة الحادثة لا تؤثر في المقدور، ولم ينكر أن هذا الذي سماه كسباً من خلق الله، فَلِمَ هذا الدوران والنتيجة القول بالجبر (2).

وسلك الامام علي (علیه السلام) سبيل الوسط بين الجبر والتفويض، وقال بالمنزلة بين المنزلتين وقبل أن نبين موقفه من هذه القضية نميل الى شرح المعنى المراد بكل من الجبر والتفويض والمنزلة بين المنزلتين.

يقول الشيخ المفيد رحمه الله:

الجبر وهو الحمل والاضطرار اليه بالكسر والغلبة، وحقيقة ذلك إيجاد الفعل في الخلق من غير أن يكون له قدرة على دفعه والامتناع من وجوده فيه ...، وإذا تحقق القول في الجبر على ما وصفناه كان مذهب الجبر هو قول من يزعم أن الله تعالى خلق في العبد الطاعة من غير أن يكون للعبد قدرة على ضدها والامتناع منها وخلق فيهم المعصية كذلك، فهم المجبرة حقاً والجبر مذهبهم على التحقيق.

والتفويض هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال والاباحة لهم ما شاؤ وا من.

ص: 90


1- ضحى الاسلام، ج 3، ص 57.
2- المرجع نفسه، ج 3، ص 57.

الأعمال ... والواسطة بين هذين القولين، ان الله أقدر الخلق على أفعالهم ومكنهم من أعمالهم وحد لهم الحدود في ذلك و رسم لهم الرسوم و نهاهم عن القبايح بالزجر والتخويف والوعد والوعيد، فلم يكن بتمكينهم من الأعمال مجبراً لهم عليها، ولم يفوض اليهم الأعمال لمنعهم من أكثرها ووضع لهم الحدود فيها وأمرهم بحسنها ونهاهم عن قبحها، فهذا هو الفصل، بين الجبر والتفويض (1).

لهذا، فمن دان بالجبر فقد أبطل العقوبة على المذنب، إذ لا يجوز في عدل الله أن يأمر بشيء ثم يعاقب عليه، ومن قال بذلك، فقد كذب الله في وعيده حيث يقول (بَلَىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة / 81) وأما من دان بالتفويض، فقد وهن الله وأضعفه، لأن المفوض اليه غير محظور عليه أن يفعل ما يشاء، فهو يعمل بمشيئته ان شاء فعل وإن شاء لم يفعل، فهو شريك للباري في تدبير عالم الوجود ومن قال بذلك فقد أبطل وعد الله ووعيده وأمره ونهيه وثوابه وعقابه. ولقد أثار الاسلام هذه القضية، ويعتبر الامام علي أول من خاض فيها من المسلمين بعد النبي صلی الله علیه و آله و سلم.

واليه يرجع القول بالمنزلة بين المنزلتين؛ فقال عندما سأله أحدهم عن القدر: بحر عمیق فلا تلجه ... وبیت مظلم فلا تدخله ... وسر الله فلا تبحث عنه» وعندما ألح عليه السائل قال: «لما أبيت فإنه أمر بين أمرين لا جبر ولا تفويض (2).

إن القدر هو سر الله في عباده، وقد نهى (علیه السلام) المستضعفين من الخوض فيه حتى لا يشتبه عليهم الأمر فيفضي بهم الى القول بالجبر أو بالتفويض وللامام (علیه السلام) أحاديث كثيرة ينفي فيها التفويض من ذلك قوله: (أوحى الله عز وجل الى داود (علیه السلام): یا داود تريد وأريد ولا يكون إلا ما أريد، فإن أسلمت لما أريد، أعطيتك ما تريد، وإن لم تسلم لما أريد اتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد (3).

وجاءه رجل آخر وسأله عن القدر قال: أخبرني عن رحمة الله، أكانت رحمة الله للعباد قبل أعمال العباد، أم كانت أعمال العباد قبل رحمة الله؟ قال: فقال له الرجل: بل كانت رحمة الله للعباد قبل أعمال العباد، فقال أمير المؤمنين (علیه السلام): قوموا فسلموا على أخيكم فقد أسلم وقد كان كافراً، قال: وانطلق الرجل غير بعيد، ثم انصرف اليه فقال له: يا أمير المؤمنين أبالمشيّة الأولى نقوم ونقعد ونقبض ونبسط؟ فقال له أمير المؤمنين (علیه السلام): وانك لبعد في المشيّة أما اني سائلك عن ثلاث لا يجعل الله لك في شيء منها مخرجاً: أخبرني أخلق الله العباد كما شاء أو كما شاؤ وا؟! فقال: كما شاء، قال (علیه السلام): فخلق الله العباد لما شاء أو.

ص: 91


1- المجلسي: بحار الأنوار، ج 3، ص 6، مصدر غير محقق.
2- نفسه، ج 3، ص 17.
3- توحيد الصدوق، ص 337.

لما شاؤ وا؟!، فقال لما شاء، قال عليه السلام يأتونه يوم القيامة كما شاء أو كما شاؤ وا؟ قال: يأتونه كما شاء، قال (علیه السلام): قم فليس لك من المشية شيء (1).

لقد توهم السائل، أن أعمال العباد لو كانت واقعة بقدر الله تعالى، للزم الظلم إذا عذبوا عليها، إذ لا محيص لهم عن القدر. كما أن هذا التوهم، الجأ المفوضة الى التفويض ونفي القدر. فأجاب (علیه السلام) بأن أعمال العباد مسبوقة برحمته مرتبطة بها ومقدرة كسائر الأشياء لأن رحمته وسعت كل شيء. فإن كانت مقدرة بها فلا معنى لأن يكون في التقدير ظلم. وحيث انه نفى التفويض وأثبت القدر توهم السائل الجبر وسأله، أليس بالمشيئة الأولى ... إذ ان اثبات القدر في الأعمال يستلزم كونها بمشيئته. وهكذا فإن نفي أحد الطرفين يجر إلى نفي الطرف الآخر، والقرار في الوسط، حيث أثبت (علیه السلام) للعبد مشيئة ولله تعالى مشيئة إلا أنها متقدمة حاكمة عليها ومؤثرة فيها، فليس للعبد من مشيئته شيء مفوض اليه من دون تأثير مشيئته تعالى، وهذا هو الأمر بين أمرين من هنا نستدل على تعلق القدر بأفعال العباد، إلا أن هناك من الأحاديث ما ينفي الجبر ويثبت قدرة الانسان على الفعل. فعندما سئل عما إذا كان مجبراً على ما هو عليه قال (علیه السلام): «لو كنت مجبوراً ما كنت محموداً على إحسان، ولا مذموماً، على إساءة، وكان المحسن أولى باللائمة من المسيء ... ثم قال: أصبحت مخيراً فإن أقلب السيئة بمكان الحسنة فأنا المعاقب عليها (2) ويتحدث النهج، عن هذه القضية، فيذكر عن الامام (علیه السلام) قوله لمن سأله عن القضاء و القدر «لعلك ظننت قضاء حتماً، وقدراً لازماً، ولو كان ذلك كذلك لبطل الثواب و العقاب وسقط الوعد و الوعيد ان الله سبحانه أمر عباده تخييراً ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يكلف عسيرا، و أعطى على القليل كثيراً، ولم يعص مغلوباً، ولم يطع مكرها، ولم يرسل الأنبياء لعباً، ولم ينزل الكتب للعباد عبثاً، ولا خلق السموات و الأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار (3).

وهكذا فالانسان حر في اختيار الفعل الذي يريده، بالاستطاعة التي ملكها الله لعباده والتي تسبق الفعل، فليس في الأمر إكراه العباد على الواجبات والطاعات واجتناب المعاصي، إلا أنه ليس هناك اختيار مطلق ولا جبر مطلق، لأن الانسان مختار من حيث أنه مجبور، ومجبور من الوجه الذي هو مختار وان اختياره بعينه اضطراره، لقد أمر الله الانسان بفعل الواجب، ولم يجبره عليه، بل ترك الأمر لاختياره وإرادته، ثم حذره من المعصية وأوعده بالعقاب والعذاب، يؤيد ذلك ما قال الشيرازي: إن كل مختار غير الواجب مضطراً في.

ص: 92


1- نفسه، ص 365 - 366.
2- بحار الأنوار، ج 3، ص 23.
3- أنظر (ح) ج 18 ص 227.

اختياره مجبوراً في أفعاله (1). والمراد بكونه (مضطراً في اختياره) أي جُعل مختاراً لا باختيار منه، بل خُلِق لذلك، والمراد بكونه (مجبوراً في أفعاله) أي أن لغيره دخلا في تمام فاعليته فلا يختار الفعل عن استقلال من نفسه.

وهكذا فقد أخذ الامام (علیه السلام) موقفاً وسطاً بين الأشاعرة الذين غالوا في الجبر وزعموا أن الله تعالى أجرى الأعمال على أيدي العباد من غير قدرة مؤثرة لهم فيها وعذبهم عليها، لأن تكليف ما لا يطاق جائز في حقه، وبين المعتزلة الذين قالوا بالتفويض، وإن الله أوجد العباد وفوض اليهم الاختيار في الأفعال فهم مستقلون بإيجادها على وفق مشيئتهم وقدرهم وليس لله في أفعالهم صنع (2)، وأجمع المعتزلة، إلا الأصم ومعمر، على أن العباد يفعلون أعمالهم بالقدرة التي خلقها الله سبحانه وتعالى فيهم (3) وأجمعوا أيضاً على أن الاستطاعة قبل الفعل وهي قدرة عليه وعلى ضده، وهي غير موجبة للفعل، وأنكروا بأجمعهم أن يكلف الله عبداً ما لا يقدر عليه (4). وانسجاماً مع نظريتهم بالصلاح والأصلح والتي قالوا فيها بأن الله عادل حكيم يسير بخلقه الى ما فيه صلاحهم وسعادتهم كان لا بد من أن يقرروا مبدأ حرية الإرادة الانسانية، أي أن الانسان يجب أن يكون حراً، حتى يكون مسؤولاً.

وخلاصة القول: إننا لا نستطيع أن نذهب الى أن الامام علي (علیه السلام) كان يقول صراحة بحرية الارادة كما تقول المعتزلة.

ثالثاً ورابعاً: الوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين

هذه القضية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمسألة الإيمان وما يتفرع عنها من ربط الأعمال بالثواب والعقاب. وقد كانت هذه المسألة مثار نزاع واختلاف بين الفرق الكلامية المتعددة. وتناول الامام علي (علیه السلام) هذه القضية من زاوية دينية، فكان تحديده للايمان والمؤمن منسجماً مع المواقف والمبادىء المستقاة من شريعة الاسلام وسنّة نبيّه.

1 - ما هو الإيمان:

الإيمان هو التصديق بوجود الصانع تعالى بما له من صفات الكمال ونعوت الجلال وتوحيده، وتنزيهه عما لا يليق به، ووصفه بما هو أهل له، والاقرار بأن محمداً رسول الله والقرآن كتاب الله وحجته على خلقه، فيه تبيان لكل شيء، والعمل بما أمر به ونهى عنه من أنواع العبادات ومكارم الأخلاق.

ص: 93


1- الاسفار، ج 6، ص 312.
2- بحار الانوار، ج 3، ص 25.
3- الفرق بين الفرق، ص 115.
4- مقالات الاسلاميين، ج 1، ص 275.

ويكون الايمان في أول الأمر حالة في النفس، ثم لا يزال يتأكد بالبراهين والأعمال الصالحة ويزداد شيئاً فشيئاً حتى يصبح ملكة فيشع نوره في النفس كاللمظة في القلب، كما يقول (علیه السلام): إن الايمان يبدو لمظة في القلب، كلما ازداد الإيمان ازدادت اللمسظة (1) وهذا خلاف ما زعمته (الغسانية) من الخوارج، لأن الايمان عندها و لا يزيد ولا ينقص (2). ولا إيمان مع الشرك، لأن الشرك يزعزع النفس وينأى بها عن الحق ويتركها فريسة الضلال، فتعمى عن الحقيقة، لذا كان اليقين فوق الإيمان وكانت التقوى والورع، ضالة المؤمن ودعامة الايمان. أما الشرك، فهو مناقض للايمان والتطهر منه أحد أغراضه تعالى، والغاية التي تنشدها النفس لكمال معرفتها بالله عزّ وجل.

ومهما يكن من أمر الايمان، فقد اختلفت آراء الفرق الاسلامية في حقيقته أشد الاختلاف. فالايمان حسب مذهب الأشعري هو: التصديق بالجنان، وأما القول باللسان والعمل بالأركان ففروعه. فمن صدق بالقلب أي أقرّ بوحدانية الله تعالى، واعترف بالرسل تصديقاً لهم فيما جاؤا به من عند الله تعالى بالقلب صح إيمانه حتى لو مات عليه في الحال كان مؤمناً ناجياً، ولا يخرج من الإيمان إلا بإنكار شيء من ذلك (3).

أما المعتزلة، فقالت بأن الإيمان ليس هو التصديق والاعتقاد القلبي فحسب، بل هو أيضاً العمل بمختلف أنواع العبادات واجبة كانت أم نافلة، فهو معرفة بالقلب، وإقرار باللسان وعمل بالجوارح، وإن كل عمل، فرضاً كان أو نفلاً، إيمان وكلما ازداد الانسان خيراً، ازداد إيماناً وكلما عصى نقص إيمانه (4). فلا يوصف المسلم بالايمان إلا إذا اجتمع فيه التصديق الى جانب الاقرار والعمل. لذا فهم لا يعدون العاصي مؤمناً لأن الإيمان تصديق وعمل والمعصية تتنافى مع الإيمان، كما لا يعدونه كافراً، لاقراره بالشهادتين ولما جاء به الرسول الكريم، وهو من المخلدين في النار، ولكن منزلته منها دون منزلة الكفار، لأن الكافر مشرك بالله. من أجل ذلك فقد أنزلته المعتزلة في منزلة وسطى بين الكفر والإيمان فقالوا بلسان زعيمهم واصل بن عطاء «أنا لا أقول أن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً، ولا كافر مطلقاً بل هو في منزلة بين المنزلتين: لا مؤمن ولا كافر (5).

أما الخوارج فقد زعموا أن لا واسطة بين الكفر والإيمان، فمن أقر ولم يعمل بما جاء به الاسلام كان كافراً (6)..

ص: 94


1- أنظر (ح) ج 19، ص 111.
2- الملل والنحل، ج 1، ص 141.
3- الملل والنحل، ج 1، ص 101.
4- ظهر الاسلام، ج 2. ص 62. عن ابن حزم، ج 3، ص 188.
5- الملل والنحل، ج 1، ص 48.
6- الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة، ص 217.

مقابل هذا التطرّف والغلو، ظهر القول بالأرجاء الذي يرجع في حقيقته الى أن الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان ولا تضر معه المعاصي مهما بلغت (1). فالعمل بهذا الاعتبار، ليس شرطاً ضرورياً في الإيمان ولا جزءاً من حقيقته.

مقابل هذا الاختلاف الحاصل في حقيقة الايمان بين الفرق الكلامية المختلفة السالفة الذكر وبين الامام علي (علیه السلام) الذي يعرف الايمان بكونه معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان (2) نجد أن المعتزلة من أكثر الفرق الكلامية تقرباً منه بهذه المسألة حيث اعتبرت الايمان الكامل الذي يصح وصف الانسان به هو القائم على التصديق بالقلب والاقرار باللسان والعمل بالأركان كما سبق ذكره - وهذا خلاف ما ذكرته المرجئة والأشعرية الذين اعتبروا أن العمل ليس ركناً من أركانه ولا داخلاً في حقيقته.

وكما اتفق المعتزلة مع الامام (علیه السلام) في حقيقة الايمان، كذلك اتفقت معه في كون الاسلام والايمان متحدان حيث يقول (علیه السلام): «لانسبنّ الاسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي. الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، و التصديق هو الإقرار و الاقرار هو الأداء والأداء هو العمل (3).

إذا كان العمل هو أحد أهم أركان الايمان الذي لا يصح بدونه ولا يكون بالاقتصار فقط على التصديق والإقرار لقوله تعالى (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات / 14) وإذا كان الاسلام هو العمل حسب التسلسل الذي أورده الامام (علیه السلام) في قوله السابق الذكر، وإذا كان تشابه طرفين لطرف ثالث يوجب التشابه أيضاً بينهما، فقد تبين أن الاسلام هو الإيمان لقوله تعالى (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران / 85) وقوله عز القائل (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) (آل عمران / 19).

بهذه الآيات استدل المعتزلة على كون الاسلام هو الايمان، كما استدلوا على ذلك ببعض الأحاديث مثل قوله صلی الله علیه و آله و سلم: (لا يزني الزاني وهو مؤمن (وأضافوا الى ذلك قولهم بأن الايمان لو كان هو التصديق وحده، لزم أن لا يصدق على النائم والساهي، لعدم كونه مصدقاً في هذه الحالة (4)..

ص: 95


1- المرجع نفسه، ص 217.
2- أنظر (ح) ج 19، ص 51، وهذا ما أثبته أيضاً الغزالي في رسالة أيها الولد، فقال الايمان قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان، ص 15.
3- أنظر (ح)، ج 18، ص 313.
4- الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة، ص 220، عن المواقف للايجي، ج 4، ص 222.

وهذا ما أثبته ابن أبي الحديد أيضاً في نسبته الى المعتزلة قولهم بأن الاسلام والايمان عبارتان عن معبر واحد، لأن المعتزلة تقول: «الاسلام اسم واقع على العمل وغيره من الاعتقاد والنطق باللسان» (1).

2 - الكبائر والصغائر:

بعد هذا التعريف للايمان والمؤمن يقسم الامام علي (علیه السلام) المعاصي التي يرتكبها الناس الى صغائر وكبائر، ثم يربط الأعمال بالثواب والعقاب. والكبيرة هي التي أوعد عليها سبحانه بالعقاب في النار، أما الصغيرة فهي مغفورة ... من كبير أوعد عليه نيرانه أو صغير أرصد له غفرانه (2).

ولا شك في أن من أطاع الله في أي حكم من أحكامه، فقد فاز بثوابه و رضوانه، ومن عصاه، فقد خاب واستحق عقابه، ولكل عمل حسابه وجزاؤه كما قال تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)، (الزلزلة / 7 و 8). إلا أن هناك من الذنوب ما لا يجدي معها فعل شيء من الأعمال الواجبة أو الحسنة، ومن مات عليها، لا تنفعه عبادة، حتى ولو أجهد فيها نفسه، بل يكون من أهل النار كما يقول (علیه السلام): «إن من عزائم الله في الذكر الحكيم والتي عليها يثيب ويعاقب، ولها يرضى ويسخط انه لا ينفع عبداً - وان أجهد نفسه وأخلص فعله - ان يخرج من الدنيا لاقياً ربه بخصلة من هذه الخصال لم يتب عنها: ان يشرك بالله فيما افترض عليه من عبادته أو يشفي غيظه بهلاك نفسه، أو يقر. بأمر فعله غيره، أو يستنجح حاجة الى الناس بإظهار بدعة في دينه أو يلقي الناس بوجهين أو يمشي فيهم بلسانين (3).

ويقسم الامام (علیه السلام) الظلم الى ثلاثة أنواع: (4)

- ظلم لا يغفر كالشرك بالله لقوله تعالى (إن الله لا يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ بِهِ) (النساء / 48). وفي رأيي، إن الله سبحانه يغفر كل ذنب حتى الشرك لقوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) (الزمر / 53) ولقد استثنى تعالى المشرك من المغفرة بشرط أن يموت دون أن يتوب عن اشراكه لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا ۖ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ) (البقرة / 161 - 162) فإذا تاب، حلت عليه المغفرة من الله عزّ وجل (وإنّي لَغَفَّارٌ لَمنْ تَابَ وَآمَنَ.

ص: 96


1- أنظر (ح)، ج 18، ص 314.
2- أنظر (ح)، ج 1، ص 117.
3- نفسه، ج 9، ص 160.
4- نفسه، ج 10، ص 33.

وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى) (طه / 82). أما إذا لم يتب فهو في النار خالد فيها. عن موسى بن جعفر قال: لا يخلد في النار، إلا أهل الكفر والجحود فيها. عن موسى بن جعفر قال: لا يخلد في النار، إلا أهل الكفر والجحود وأهل الضلال والشرك، ومن اجتنب الكبائر من المؤمنين لم يسأل عن الصغائر قال الله تبارك وتعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تَنْهَوْنَ عَنْهُ، نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيماً) (النساء / 31) وقال علي: «ما في القرآن أحب إليّ من قوله عزّ وجل: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (1) (النساء / 48).

- وظلم يغفر كظلم العبد نفسه، إما بالشح عليها، أو بتمكينها من الشهوات واسترسالها فيها، أو باقترافها الذنوب الصغيرة التي لا محيص للانسان عنها ولا تحتاج الى توبة.

- وظلم لا يترك كظلم العباد بعضهم بعضاً، وهذا من أشنع ألوان الظلم وأفحشها، لأن الظالم كافر بالله وبالناس جميعاً.

وهكذا فالشرك هو من الكبائر غير المغفورة لمن قضى عليها اما دون ذلك فيجوز غفرانه من الله لجوده وكرمه وفضله. «عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من مات لا يشرك بالله شيئاً، أحسن أو أساء، دخل الجنة» (2)، مع العلم بأن الله سبحانه يسأل عن الكبائر والصغائر ويحاسب عليهما معاً. والجزاء منوط بالأعمال كما يقول الامام: «فإن الله تعالى سائلكم، معشر عباده عن الصغيرة من أعمالكم والكبيرة، والظاهرة والمستورة، فإن يعذب فأنتم أظلم، وان يعفو فهو أكرم (3).

والله صادق في وعده ووعيده، فمن وعده على عمل ثواباً فهو منجز لما وعده به، ومن وعده على عمل عقاباً، فهو فيه بالخيار، إن عذبه فبعدله، وان عفا عنه فبفضله وكرمه وما الله بظلام للعبيد لقوله سبحانه (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) (النساء / 40).

والعدل هو الجزاء على العمل بقدر المستحق عليه، أما الظلم فهو منع الحقوق. و الله تعالى كريم جواد متفضل رحيم، قد ضمن الجزاء على الأعمال والعوض على الآلام، ووعد بالتفضل بزيادة من عنده وحسب سيئتك واحدة وحسب حسنتك عشراً، وفتح لك باب المتاب (4) كما يقول الامام (علیه السلام).

نستنتج من ذلك أن الامام علي (علیه السلام) ينفي الاحباط بمعنى أن المعاصي تذهب 7.

ص: 97


1- توحيد الصدوق، ص 407 - 409.
2- المرجع نفسه، ص 30.
3- انظر (ح)، ج 15، ص 163.
4- المرجع نفسه، ج 16، ص 87.

بالحسنات، لأن الاحباط بهذا المعنى يؤدي الى الخلف بوعد الله ووعيده، إذ أنه تعالى وعد المطيعين بالثواب وأوعد العاصين بالعقاب، فإذا كان الاحباط، بطل الثواب على الطاعات، وهذا ظلم، وقد ثبت أن الله لا يظلم مثقال ذرة.

كذلك ينفي الاحباط بمعنى أن الحسنات تذهب بالمعاصي التي لا غفران لها إذا قضى الانسان عليها، وروى عن الامام علي (علیه السلام) قوله: (يوقف العبد بين يدي الله تعالى فيقول: قيسوا بين نعمتي عليه، وبين عمله، فتستغرق النعم العمل فيقولون قد استغرق النعم العمل، فيقول: هبوا له النعم وقيسوا بين الخير والشر منه، فإن استوى العملان، اذهب الله الشر بالخير وأدخله الجنة، وان كان عليه فضل أعطاه الله بفضله، وان كان عليه فضل وهو من أهل التقوى لم يشرك بالله تعالى، واتقى الشرك به فهو من أهل المغفرة، يغفر الله له برحمته إن شاء ويتفضل عليه بعفوه (1).

وهكذا، فالله تعالى يغفر لمن تاب وعمل صالحاً، ويتفضل عليه بكرمه وجوده. فمن أساء وأطاع وكانت معاصيه أكثر من طاعاته، وكان من أهل التوبة غفر له الله وتفضل عليه بعفوه، وإذا تساوى العملان، أخذ الله شره بخيره وأدخله الجنة.

ولقد أبطل نصير الدين الطوسي الاحباط لأنه يستوجب الظلم، والى هذا ذهب العلامة الحلي في شرح التجريد (2).

أما الأشاعرة فقد أبطلوا الاحباط أيضاً و لأنهم يدعون أنه لا يجب على الله ثواب المطيعين ولا عقاب العاصين، وله أن يعذب المطيع ويعاقب العاصي فالطاعات لا تستوجب الثواب، كما لا تستوجب المعاصي العقاب، وبناء على ذلك لا يبقى مجال للبحث في هذه المسألة عندهم (3). فالانسان حسب زعمهم لا يستحق على أعماله شيئاً، وإنما الجزاء منوط بإرادة الله إن شاء عذب وإن شاء عفا.

والمشهور بين متكلمي الأمامية هو بطلان الاحباط والتكفير. بل قالوا باشتراط الثواب والعقاب بالموافاة. يعني أن الثواب على الايمان مشروط بأن يعلم الله منه أنه يموت على الايمان، والعقاب على الكفر والفسوق مشروط بأن يعلم الله أنه لا يسلم ولا يتوب، وبذلك أولوا الآيات الدالة على الإحباط (4).

أما المعتزلة فقد قسموا المعاصي الى كبائر وصغائر، وهم وان اختلفوا في تحديد الكبيرة.

ص: 98


1- بحار الأنوار، ج 3، ص 92.
2- شرح التجريد، ص 260.
3- الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة، ص 215.
4- بحار الأنوار، ج 3، ص 91.

والصغيرة، فإنهم: إتفقوا على أن المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة استحق الثواب و العوض ... وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها، استحق الخلود في النار ولكن يكون عقابه أخف من عقاب الكفار وسموا هذا النمط وعداً ووعيداً (1).

وفيما يتعلق بهذه المسألة، فإنهم اعتبروا أن الله تعالى صادق في وعده ووعيده - وذلك يوم القيامة - لا مبدل لكلماته، فلا يغفر الكبائر إلا بعد التوبة (2).

وذهبت المعتزلة الى ثبوت الاحباط للآيات والأخبار الدالة عليه ومالوا إلى أن السيئات يذهبن بالحسنات، حتى ذهب الجمهور منهم الى القول بأن الكبيرة الواحدة تحبط ثواب جميع العبادات (3). وهذا فساده ظاهر، أما سمعاً فللنصوص الدالة على أن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً وعمل صالحاً، وأما عقلاً فللقطع بأنه لا يحسن من الحليم الكريم ابطال ثواب إيمان العبد ومواظبته على الطاعة طيلة حياته بارتكاب كبيرة ما.

ولقد استندوا في قولهم بالاحباط على قوله تعالى (وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) (الحجرات / 2). (أُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) (التوبة / 69) و(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ) (البقرة / (264). ويفسر المجلسي هذه الآية الأخيرة بقوله الى المعتزلة و لا بالمعنى الذي قصدتم اليه، بل بمعنى أن من عمل عملاً استحق به الذم وكان يمكنه أن يعمله على وجه يستحق بالمدح والثواب، يقال انه أحبط عمله كالصدق مع المن والأذى (4)

وفيما يتعلق بمرتكب الكبيرة، فقد كفره الخوارج، وجعله الحسن البصري من المنافقين لأنه أظهر الايمان وأبطن الكفر. في حين احتدم النزاع بين الحسن البصري وتلميذه واصل ابن عطاء حول هذه المسألة، فاعتزل واصل حلقة استاذه وقال: «ان الايمان عبارة عن خصال اذا اجتمعت في الانسان يكون مؤمناً، وصاحب الكبيرة لم يستكمل تلك الخصال، فلا يسوغ وصفه بالايمان، كما لا يصح وصفه بالكفر لأنه مصدق بالله ورسوله، ويصح نسميه مسلماً يتميز عن الدمّيين الذين لا يقرون بالشهادتين، وأضاف الى ذلك أن مرتكب الكبيرة يخلد في جهنم، ووافقه على ذلك جميع المعتزلة (5).

ويعتقد المعتزلة أن الخلود في النار، لا يكون إلا للمشرك بالله وفي حال موته مشركاً..

ص: 99


1- الملل والنحل، ج 1، ص 45.
2- المعتزلة، ص 51.
3- بحار الأنوار، ج 3، ص 91.
4- المرجع نفسه، ج 3، ص 91.
5- الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة، ص 225.

لأن العدل الإلهي يقضي بأن لا يضيع على الانسان شيئاً من أعماله لقوله تعالى: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (الأعراف / 170) و (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) (الكهف / 30)

ولما كان الامام علي (علیه السلام) قد دعا الى سلوك سبيل الوسط لكونه الصراط المستقيم الذي أمر به عباده بقوله عزّ وجلّ (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (الأنعام / 153) وقوله جل ذكره (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (البقرة / 143) وما أثر عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم قوله: «خير الأمور. أوساطها» (1). وما قاله الامام (علیه السلام) أيضاً: «اليمين و الشمال مضلة والطريق الوسطى هي الجادة، عليها باقي الكتاب وآثار النبوة ومنها منفذ السنة واليها مصير العاقبة (2)، ونظراً لموقفه من الايمان الداعي الى اعتبار العمل ركناً أساسياً فيه بحيث لا يكون العاصي مؤمناً لتوقفه في أمر الله، كما لا يكون كافراً لاقراره بالله ورسوله، لذا فقد جعله في منزلة وسطى بين الكفر والايمان.

3 - الثواب والعقاب:

اختلفت فلسفة الثواب و العقاب من ملة الى أخرى. فكل ما جاء في التوراة من الوعد والوعيد، فهو لمنافع الدنيا ومضارها، ولم يأت في التوراة وعد ووعيد بأمر يتعلق بما بعد الموت. وأما المسيح (علیه السلام)، فإنه صرح بالقيامة وبعث الأبدان، ولكن جعل العقاب روحانياً وكذلك الثواب. ثم جاء خاتم الأنبياء محمد صلی الله علیه و آله و سلم: فأثبت المعاد على وجه محقق وكامل، وقال ببعث الانسان بدناً ونفساً وجعل لكل منهما حظاً من الثواب والعقاب.

والثواب والعقاب يتعلقان بما اقترفته يد الانسان من حسنات أو سيئات لقوله تعالى: (أما مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْراً) و (أَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ ۖ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا) (الكهف / 88).

فإذا كان حكم المؤمن هو الخلود في الجنة، وحكم المشرك هو الخلود في النار فما هو دور الشفاعة في هذا الأمر.

ولقد وردت في القرآن الكريم بعض الآيات الدالة على الشفاعة كقوله تعالى (وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لَمَنْ أَذِنَ لَهُ) (سبا / 22) ومنها ما تنكرها وتنفيها كقوله تعالى (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) (البقرة / 48).

ولقد اتفق المسلمون على ثبوت أصل الشفاعة، ولكنهم اختلفوا في تعيين المشفوع له.

ص: 100


1- المعتزلة، ص 55، عن البيان والتبيين، ج 1، ص 177.
2- انظر (ح)، ج 1، ص 273.

فالمحدّثون والأشاعرة والإمامية ذهبوا الى أنها لأهل الكبائر من المسلمين. أما المعتزلة، فقد ذهبوا الى أنها لزيادة ثواب المؤمنين المستحقين للجنة واستدلوا على أنها ليست ماحية للذنوب عن العصاة بقوله تعالى (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ) (البقرة / 123) ويقوله ﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) (البقرة / 270)، وبقوله (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) (غافر / 18) وبقوله (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (الأنبياء / 28) الى غير ذلك من الآيات الظاهرة في أن الانسان لا ينفعه إلا عمله واطاعته الله سبحانه (1).

وهناك من أوجبها على أهل الكبائر إذا ثابوا وندموا يبدو ذلك من خلال الحوار الذي جرى بين محمد بن أبي عمير الذي «سأل موسى بن جعفر (علیه السلام): یا ابن رسول الله فالشفاعة لمن تجب من المذنبين؟ قال حدثني أبي عن آبائه عن علي قال: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، فأما المحسنون منهم فما عليهم من سبيل قال ابن أبي عمير: فقلت له: يا ابن رسول الله فكيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر والله تعالى ذكره يقول: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (الأنبياء / 28) ومن يرتكب الكبائر لا يكون مرتضى. فقال: يا أبا أحمد ما من مؤمن يرتكب ذنباً إلا ساءه ذلك وندم عليه. وقد قال النبي صلی الله علیه و آله و سلم: كفى بالندم توبة وقال عليه السلام و من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن. فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن ولم تجب له الشفاعة وكان ظالماً. والله تعالى ذكره يقول (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) (غافر / 18) فقلت له: يا ابن رسول الله وكيف لا يكون مؤمن من لم يندم على ذنب يرتكبه؟ فقال: يا أبا أحمد ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي وهو يعلم أنه سيعاقب عليها، إلا ندم على ما ارتكب، ومتى ندم كان تائباً مستحقاً للشفاعة، ومتى لم يندم عليها كان مُصِرّاً والمصرّ لا يغفر له لأنه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب، ولو كان مؤمناً بالعقوبة لندم. وقد قال النبي صلی الله علیه و آله و سلم: لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الاصرار». وأما قول الله عزّ وجل، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى فإنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله دينه، والدين الاقرار بالجزاء على الحسنات والسيئات، فمن ارتضى الله دينه ندم على ما ارتكبه من الذنوب لمعرفته بعاقبته في القيامة (2).

ولقد شجع الامام (علیه السلام) على ترك الذنوب بالاستغفار منها، فأتى على جوامع الاستغفار بقوله: (وإن الاستغفار درجة العليين، وهو اسم واقع على ستة معان: أولها الندم على ما مضى، والثاني العزم على ترك العود اليه أبداً، والثالث أن تؤدي الى المخلوقين حقوقهم حتى 8.

ص: 101


1- الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة، ص 212، عن كتاب و المواقف للايجي
2- توحيد الصدوق، ص 407 - 408.

تلقى الله عزّ وجل أملس ليس عليك تبعة، والرابع أن تعمد الى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها، والخامس ان تعمد الى اللحم الذي نبت على السمت فتذيبه بالأحزان حتى تلصق الجلد بالعظم، وينشأ بينهما لحم جديد، والسادس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: استغفر الله (1). لذلك فقد تعجب على ممن ييأس من رحمة الله وهو قادر على الاستغفار عن الشعبي قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: العجب ممن يقنط ومعه الممحاة. فقيل له، وما الممحاة؟ قال: الاستغفار (2). إذ لا مانع من العقل والشرع أن يغفر الله بعض الذنوب لسبب آخر غير التوبة وطلب المغفرة كالندم على الذنوب وترك العود اليها، وأداء الحقوق والقيام بالفرائض والواجبات وترك الحرام والتكفير عن السيئات بفعل الحسنات وغير ذلك من الأعمال التي يحمد عليها الانسان وتغفر ذنوبه، لأن رحمته تعالى وسعت كل شيء والمعاني الستة التي ذكرها الامام (علیه السلام) هي شروط للمستغفر الذي يطمح الى الدرجة العليا عند الله الذي جعل من النبي صلی الله علیه و آله و سلم ومن الاستغفار، أمانين في الأرض، من العذاب كما يقول (علیه السلام): «كان في الأرض أمانان من عذاب الله، وقد رفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسكوا به. أما الامان الذي رفع فهو رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وأما الأمان الباقي فالاستغفار (3). قال الله تعالى (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ (الأنفال / 33)

خامساً - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

هذا المبدأ يقر به جميع المسلمين، وهو مستمد من القرآن الكريم الذي يقر بوجوبه لقوله تعالى (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران / 104).

هذه القضية، فريضة واجبة تمسك بها الأنبياء لقوام أمور الدين والدنيا لأن تركها يؤدي الى تفسخ الأخلاق وتدهور الامم ونسيان الله.

وكان النهي عن المنكر معروفاً عند العرب في جاهليتهم، ذلك أن قبائل قريش عقدت فيما بينها حلفاً سمته «حلف الفضول» لرد المظالم ونصرة المظلوم واهتم به المسلمون لما لهذه القضية من مساس مباشر بحياة الأمة الاسلامية ومسيرة المجتمع الاسلامي ومنعه من الانحراف.

ولقد اختلف الفقهاء في وجوبه، هل هو عيني أم كفائي؟ فقال الأقدمون ومنهم

ص: 102


1- أنظر (ح) ج 20، ص 56.
2- بحار الأنوارج 3، ص 98.
3- انظر (ح)، ج 8، ص 240.

الطوسي بكونه واجباً عينياً، أما المتقدمون ومنهم السيد المرتضى فقد ذهبوا الى كونه واجباً كفائياً. وفسر الاستاذ محمد تقي الحكيم في كتابه الأصول العامة للفقه المقارن (ص / 59)، الواجب العيني والكفائي بقوله: (الواجب العيني هو الذي يتعلق بجميع المكلفين ولا يسقط عنهم بامتثال البعض بل لا بد لكل منهم من امتثال مستقل، ومثاله في الشريعة الصوم والصلاة. والوجوب الكفائي، ويراد به الوجوب الذي يتعلق بجميع المكلفين، ويسقط عنهم بامتثال البعض وعند ترك الجميع يعاقب الجميع كتغسيل الميت ودفنه والصلاة عليه 0

وسواء كان الوجوب عينياً أم كفائياً، فإن المسلمين مكلفين بتطبيق هذا الواجب، إلا أن الخلاف الذي وقع فيما بينهم هو إلى أي مدى ينبغي أن يسير فيه الانسان؟ وهذا مرتبط بقضية الايمان السالفة الذكر.

فالذين قالوا بأن الايمان هو تصديق بالقلب فقط، فقد اكتفوا في مسألة المعروف والمنكر بقولهم أن القلب واللسان كافيان وحدهما ولا يصح اللجوء إلى القوة، أما الذين اعتبروا الايمان تصديق وعمل، فلم يكتفوا بنصرته باللسان بل أجازوا استعمال السيف إذا كان لا بد منه.

وجاء في «نهج البلاغة» بأن المعروف والمنكر خلقين من خلق الله. وأنبيائه ورسله ووجوبهما جائز على الخلق عقلاً لا على الله، لأنه لو الزم بفعل المعروف ومنع من اتيان المنكر لبطل التكليف. وهما متلازمان، فلا ينفصل أحدهما عن الآخر وقد فرضهما الله مصلحة للعباد لمّا في الأمر بالعدل والصدق والاحسان وغيرها من أعمال المعروف من فائدة عظيمة للبشر، ولما في النهي عن أعمال المنكر من تركيز وتثبيت دعائم الفضيلة وقطع دابر الفساد فتكون النتيجة منفعة للبشر لا لله لأنه سبحانه غني بذاته فلا تنفعه طاعة ولا تضره معصية: والأمر بالمعروف مصلحة للعباد، و النهي عن المنكر ردعاً للسفهاء (1). ولا مجال للنفاق و التلون في هذه القضية لأنها واجبة ووجوبها يستلزم قول الحق ولو كان مراً، وبأية وسيلة تمكن بها المكلف، ومدى استحقاقه للأجر إنما يتوقف على مدى التزامه بها. على أن تكون لوجه الله تعالى، لا لغايات دنيوية، أو مآرب شخصية، والشهادة في سبيل الله حياة ثانية أو حياة برزخية خاصة لا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى، وهي تمتاز عن حياة سائر المؤمنين في البرزخ. قال تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِنْ لَا تَشْعُرُونَ) (البقرة / 154) وقال الآلوسي: «إن الروح تتعلق بعد الموت ببدن برزخي، مغاير لهذا البدن الكثيف وأرواح الشهداء يثبت لها هذا التعلق، على وجه يمتازون فيه عمن عداهم من المؤمنين، أما في نفس الحياة أو في نفس المتعلق به، مع ما.

ص: 103


1- أنظر (ح)، ج 19، ص 86.

ينضم الى ذلك من البهجة والنعيم اللائقين بهم، ولهذه الأبدان البرزخية شبه صوري بالأبدان الدنيوية، والله أعلم (1).

أما الجهاد الذي فرضه الله على المؤمنين، فليس للإكراه على الاسلام والعقيدة وإنما هو من أجل بقاء الكفار على جحود حق الله وعصيانهم أمره ومحادته، بعد وضوح الحجج وظهور الدلائل والأعذار اليهم، ولحملهم على العمل بشريعته والانقياد لأحكامه ولحماية الدعوة والحق الذي جاءت به من عدوانهم وليكون الدين كله لله وحده كما قال تعالى (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (البقرة / 193).

إذ لا إكراه في الدين، لأن الدين - وهو عقد في القلب وإذعان في النفس - يستند على التمكين والاختيار، وهو مناط الثواب والعقاب، ولولا ذلك لما حصل الابتلاء والاختبار ولبطل الامتحان، وهو كقوله تعالى (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف / 29)

وكان الامام علي (علیه السلام) يعطي المثل من نفسه في كل ما كان يدعو إليه، ولم يثنه عن عمل ما يجب عمله شيء. يقول محمد عبدو «وقد كان رضي الله عنه لا يكتم شيئاً يحوك بنفسه، كان أماراً بالمعروف، نهاء عن المنكر، لا يحابي ولا يداري ولا يكذب، ولا يداجي (2).

أما تطبيق هذا المبدأ، فكان كما يذكر الامام (علیه السلام) على التدريج ومن السهل الى الصعب، بالقلب ان كفى، وباللسان إذا لم يكف القلب، وبالسيف إن لم يكف القلب واللسان، وبالاجمال حسب استطاعة الانسان لهذا الأمر بحيث لا يكون له مجالا للتهرب من مواجهة مسؤوليته، أو تجاهل ما يرى. فالسلبية لا معنى لها في عرف الامام (علیه السلام)، ولا بد للانسان من أن يدلي بدلوه في مقاومة الباطل، ولو بأضعف الإيمان، كما يقول (علیه السلام): «أيها المؤمنون انه من رأى عدواناً يعمل به، ومنكراً يدعى اليه فانكره بقلبه، فقد سلم وبرىء، ومن أنكره بلسانه فقد أجر، وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين السفلى، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى، وقام على الطريق ونور في قلبه اليقين (3).

وخلاصة القول ان الامام علي (علیه السلام) قال بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لقبح المنكر وضرورة مقاومته، وحسن المعروف وضرورة الدعوة اليه واستدل على ذلك بالسمع والعقل. وهو فرض على كل مسلم بحسب تمكنه منه - أي هو فرض كفاية وتطبيقه يكون 5.

ص: 104


1- شربتلي، حسن: صفوة البيان لمعاني القرآن، دار الكتاب العربي بمصر، ط 1.1956 م ج 1، ص 52.
2- أنظر (م)، ج 1، ص 48.
3- انظر (ح)، ج 19، ص 305.

تدريجياً من السهل الى الصعب، وأجمعت المعتزلة إلا «الأصم» على «وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الامكان والقدرة، باللسان واليد والسيف، كيف قدروا على ذلك» (1). إلا أنهم لم يتطرفوا في تحقيق هذا المبدأ كالخوارج، فحكموا العقل ولم يوجبوا استعمال السيف إلا في الظروف الملائمة.

أما عن كيفية وجوبه، فقد ذكر ابن أبي الحديد قولهم، بأنه: واجب على الكفاية دون الأعيان (2).

ص: 105


1- مقالات الاسلاميين، ج 1، ص 311.
2- أنظر (ح) ج 19، ص 308.

العالم العلوي

إن كل ما في الوجود هو فعل الله وخلقه، فيه تتجلى حكمته تعالى وقدرته وجلاله وعظمته. والموجودات المخلوقة هذه، منها ما يعرف أصلها وبالتالي يمكن التفكر فيها كمخلوقات العالم السفلي، ومنها ما لا يعرف أصلها فلا يمكننا التفكر فيها كمخلوقات العالم العلوي، من الملائكة والجن والشياطين والبرزخ والصراط والعرش والكرسي وغير ذلك كما قال تعالى (وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (النحل / 8). إن مجال الفكر في هذه الخلائق مما يضيق ويغمض، ولا سبيل اليهم سوى الإيمان بهم كما قال سبحانه (وَلَكِنَّ الْبِرِّ مَنْ آمَنَ بالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالمَلائِكَةِ) (البقرة / 177).

من كلامه (علیه السلام) وقد سئل عن العالم العلوي، قال «صور عارية عن المواد، عالية عن القوة والاستعداد تجلى لها فأشرقت وطالعها فتلألأت، وألقى في هويتها مثاله، فأظهر عنها أفعاله (1).

إن الدراسات والأبحاث العقلية في الفلسفة الالهية، تكاد تجمع على اثبات موجودات متوسطة بين الواجب تعالى، وبين عالم المادة. هذه المتوسطات تتقبل الفيوضات عن الواجب ثم تعكسها الى ما دونها، وتكون نسبتها اليه، نسبة الكامل إلى المستكمل، ونسبتها الى الماديات، نسبة الجسم الصيقلي الى الجسم الخشن.

ونحن نجهل تماماً حقيقة موجودات العالم العلوي سوى كونها أرواحاً مجردة عن المواد. وكل ما نتصوره عنهم، فيما يتعلق بصورهم وأشكالهم وحياتهم وأحاسيسهم، وإنما هو مجرد حدس، وتخمين، لأنه من عالم الغيب الذي لا مكان له في العقل ولا في الحس، وما علينا سوى أن نعتقد بوجودهم دون السؤال عنهم، إذ لا نعرف من أمرهم شيئاً، ولا نعرف أحداً تخصص بهذا الموضوع الغيبي كي نتتبع أقواله ونأخذ منه. ولا سبيل لنا في هذا المجال سوى القرآن والسنّة نتدبرهما لنعلم كلمة الله فيهم.

ص: 106


1- الأمدي: الغرر والدرر، ص 146، مطبعة العرفان، صيدا 1931. قضاء الامام علي، ص 97.

وهناك تشابه كبير بين (نهج البلاغة) والقرآن فيما يتعلق بهذه المخلوقات، حيث اشتمل على العديد من الخطب التي يصح اعتمادها في الحديث عنهم

1 - الملائكة:

الملائكة جند من خلق الله، وقد ركز تعالى فيهم العقل والفهم، وفطرهم على الطاعة، وأقدرهم على التشكل بأشكال مختلفة، وعلى الأعمال العظيمة الشاقة ووصفهم في القرآن بأوصاف كثيرة.

ولقد ذكر القرآن عدداً من الملائكة المختلفة في النوع والرتبة.

ففي المرتبة الأولى جاء الملائكة المقربون كما قال تعالى (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) (النساء / 172)

ثم الملائكة المسبّحون الصافون الذين لا يملون التسبيح لقوله تعالى (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) (الصافات / 165 - 166)

ثم الملائكة الحاملون للعرش كقوله تعالى ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) (الحاقة / 17) وهم الأرواح الموكلة بتدبير العرش.

ثم الملائكة الحافون حول العرش كما قال تعالى ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ (الزمر / 75) وهم الأرواح الحاملة للعرش.

ثم ملائكة السموات وهي الأرواح الموكلة بها والمتصرفة فيها بالتحريك والتسكين بإذن الله عز وجل، يقول سبحانه (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) (النحل / 49).

ثم الملائكة المتصرفة بتدبير العناصر المختلفة، وتلك الموكلة بالمركبات من المعادن والنبات والحيوان.

ئم الملائكة الحفظة الكرام كما قال تعالى ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ) الانفطار / 10 - 11) ويدخل فيهم المعقبات المشار اليهم بقوله تعالى (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) (الرعد / 11).

ثم ملائكة الجنة وخزنتها لقوله تعالى: (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) (الزمر / 73). والجنان المذكورة في القرآن ثمان: جنة النعيم، وجنة الفردوس، وجنة الخلد وجنة المأوى، وجنة عدن، ودار السلام، ودار القرار، وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، ومن وراء الكل عرش الرحمن ذي الجلال والاكرام.

ثم ملائكة النار وخزنتها لقوله سبحانه (عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ) (التحريم / 6) ولو عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) (المدثر / (30) ﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ

ص: 107

النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً) (المدثر / 31) هذه الملائكة قد تنقل الانسان الى الهاوية بسبب ما استكثر من الشهوات واقترف من السيئات وأعرض عن قوله تعالى (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ * وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنْتَهَىٰ) (النجم / 39 - 42) إلا أن ملائكة النار هذه تكون مع إنسان آخر ملائكة جنان، إذا استخدمهم ذلك الانسان في دار الدنيا على وفق أوامر الله ونواهيه.

وما ذكره الامام (علیه السلام) في «النهج» لا يعدو شيئاً مما جاء في كتاب الله وسنّة نبيه فيه يتعلق بهذه المسألة حيث تقسم الملائكة الى أنواع مختلفة: «ثم فتق ما بين السموات العلا، فملأهن أطواراً من ملائكته منهم سجود لا يركعون، وركوع لا ينتصبون، وصافون لا يتزايلون، ومسبّحون لا يسأمون ... ومنهم أمناء على وحيه، والسنة الى رسله، ومختلفون بقضائه وأمره ومنهم الحفظة لعباده و السدنة الأبواب جنانه، ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم والمارقة من السماء العليا أعناقهم، والخارجة من الأقطار أركانهم، والمناسبة لقوائم

العرش أكتافهم ... (1).

ولقد أطنب الإمام (علیه السلام) في ذكر صفات الملائكة باعتبارهم أشرف الموجودات المتسمة بكمال العبودية لله تعالى الذي، خلقهم و أسكنهم أطباق سمواته و يسبحون بحمده في أماكن شريفة طاهرة ومقدسة ما عصي فيها الرحمن قط - حيث لا كفر ولا معصية ولا ظلم ولا هوان، وهو ما أشار اليه «بالصفيح الأعلى».

وهم متفاوتون في الصورة والشكل والحجم والكمال، وإدراك الله والعلم والقرب منه والعمل الموكل الى كل منهم. وقد أكرمهم الله بالتقديس عن النفس الامارة بالسوء فكانوا معصومين عن الزيغ والانحراف عن قصد الله، فهم يفعلون ما يؤمرون ولا ينسبون اليهم ما ظهر في الخلق من صنعه، ولا يدعون بقدرتهم على شيء منها إلا بأقداره لهم، إنهم خلائق مربوبون ولأمر الله ممتثلون ولخشيته يسقطون، دائبون في طاعته مجبولون عليها، فلا مجال للمعصية في حقهم، يسبحون الليل والنهار، ولا يفترون، الراكع منهم راكع أبداً، والساجد منهم ساجد أبداً والقائم منهم قائم أبداً، ولكل منهم مقام معلوم لا يتعداه، فلا شيء يشغلهم إلا المناجاة والصلوات والحمد والتسبيح والذكر، حيث سعادتهم وسرورهم. ولم يتملكهم الاعجاب، ولم يعظموا سوى ربهم الذي خلقهم كما جاء في وصف المتقين

عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم (2).

وهم صافون لا يخالفون بعضهم بعضاً في استقامة طريقهم اليه ولا يخرجون عن نظام.

ص: 108


1- انظر (ح) ج 1، ص 91.
2- نفسه، ج 1، ص 133.

تركيبه لهم في التوجه اليه. ولم يختلفوا في الله سبحانه ووحدانيته وصفاته كما اختلف أهل الأرض وكان همهم الأسمى، طاعة الله ورضوانه وقد بلغوا في ذلك أعلى المراتب (1).

ومن المستحيل إثبات وجود الملائكة بطريق الحس، لأنها خارجة عن نطاق سيطرته،

وباعتبارها من الأرواح التي يصعب تحديدها والاحاطة بها. ودليل كونها أرواحاً، انهم لم يسكنوا الأصلاب، ولم يضمنوا الأرحام، ولم يخلقوا من ماء مهين، ولم يتشعبهم ريب المنون (2) كما يقول الامام (علیه السلام).

إلا أنه من الممكن إثبات وجودهم بطريق النقل و العقل. فالقرآن الكريم يحفل بالآيات الدالة عليهم، والعقل يقر بوجود ملائكة مكرمين منزهين، هم وسطاء بين الله وعباده وسفرائه الى رسله، يعملون بأمره ونهيه، ويهرعون لطاعته. فهم إذن، أرواح مجردة عن المواد، ولو كانوا أجساماً كثيفة كأجسامنا لرأيناهم. لذلك فهم أفضل من الأنبياء باعتبارهم من سكان السموات، وهم أكثر شرفاً من سكان الأرض لتنزههم عن نقائص الخلق فلا تتطرق إليهم الأمراض والموت ولا نسل لهم ولا ذرية لأنهم لم يسكنوا الأرحام، ولم يخلقوا من ماء نص عليه القرآن بأنه مهين حقير.

وهم موكلون بحفظ العباد من المخاطر لحين أجلهم، والحفظة على نوعين: منهم حفظة للعباد لقوله تعالى ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) (الوعد / 11) أي حفظ العباد بأمر الله تعالى من الآفات التي تعرض لهم، ومنهم على العباد لقوله تعالى ﴿وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةٌ) (الأنعام / 61). والمراد من ذلك، ضبط ا أعمالهم وأقوالهم بما يتوافق والطاعات والمعاصي يقول الامام علي (علیه السلام): «ليس أحد من الناس، إلا ومعه ملائكة حفظة يحفظونه من أن يتردى في بئر أو يقع عليه حائط، أو يصيبه سوء فإذا حان أجله خلوا بينه وبين ما يصيبه» (3).

أما المَلَك عند المعتزلة فهو «حيوان نوري، فمنه شفاف عادم اللون كالهواء و منه ملون بلون الشمس، و الملائكة عندهم قادرون عالمون أحياء بعلوم وقدرة وحياة، كالواحد منا، مكلفون كالواحد منا، إلا أنهم معصومون» (4) كما جاء في شرح «النهج» لابن أبي الحديد، وحكي عن أبي اسحق النظام أنه قال: «إن قوماً من المعتزلة قالوا، انهم جبلوا على الطاعة لمخالفة خلقهم خلقة المكلفين وأنهم قالوا: لو كانوا مكلفين، لم يؤمن أن يعصوا فيما أمروا به.

ص: 109


1- أنظر (ح)، ج 6، ص 423 - 425.
2- نفسه، ج 6، ص 434.
3- توحيد الصدوق، ص 368.
4- أنظر (ح)، ج 1، ص 91.

وقد قال تعالى: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم / 6) (1).

إن حديث الامام (علیه السلام) عن الملائكة لا يختلف في شيء عما جاء به القرآن إلا في اللفظ والتسبير، أما المعنى فهو واحد في كلا السفرين، مما يجيز اعتبار هذا الكتاب، أحد المصادر الهامة المعتمدة في دراسة أصول العقائد الاسلامية.

ونظراً لصعوبة المادة التي هي موضوع البحث، فقد اختلفت الآراء بل وتضاربت حول العديد من المسائل المتعلقة بالملائكة كتلك التي تتناول وجودهم وماهيتهم، وبنيتهم وهيئة تركيبهم، وتكليفهم، وما يجوز وما لا يجوز عليهم، وفي أي القبيلين أفضل: الملائكة أو الأنبياء؟ وفي قدمهم وحدوثهم، وفي ماهية إبليس أهو من الملائكة أو ليس منها؟ وغير ذلك من الأبحاث التي ذهب بها الفلاسفة و المتكلمون و مختلف رجال الفكر مذاهب شتي، وتوصلوا الى نتائج تتراوح بين المؤالفة والمخالفة، زادت المشكلة تعقيداً لعدم توصلها الى نهايات حاسمة وقاطعة، وما ذلك إلا لأنها أمور تدق عن إدراك العقل ولا تخضع لمنطق الحس. فمنهم من استدل عليها بالحس والمشاهدة لكونها من الأجسام ذوات اللحم والعظم، ومنهم من أثبتها بالنظر باعتبارها من الجواهر المجردة عن المادة (الفلاسفة). وجعلهم قوم مضطرون في أفعالهم وليسوا مكلفين بينها أناط آخرون التكليف، وقد أجاز البعض بهم عليهم المعصية كما تجوز علينا (عن أصحاب أبي هاشم) في حين أن أبو الحسن الخياط حكى عن قدماء المعتزلة قولهم: أنه لا يجوز أن يعصى أحد من الملائكة (2). وما يتعلق بالأفضلية بينهم وبين الأنبياء، فقد قال أهل الحديث والأشعرية: إن الأنبياء أفضل من الملائكة، وقال الشيعة: الأنبياء أفضل من الملائكة، والأئمة أفضل من الملائكة. وقال قوم منهم ومن الحشوية، إن المؤمنين أفضل من الملائكة (3). واختلفوا في قدمهم وحدوثهم، فذهب الفلاسفة الى قدم الملائكة، قال غيرهم من أهل الملل: انهم محدثون. كذلك اختلفوا في كون ابليس من الملائكة أو ليس منها. فقال أبو عثمان إنه من الملائكة بدليل الآية الكريمة: (فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلَّهُم أَجْمَعُونَ إلّا إبْليس) (ص / 73) واعتبره آخرون من الملائكة بدلالة هذه الآية، لكن الله مسخه حيث خالف الأمر، فهو بعد المسخ خارج عن الملائكة، وكان قبل ذلك ملكاً، بينما اعتبر معظم المعتزلة بأنه ليس من الملائكة، ولا كان منها وإنما، استثناه الله تعالى منهم لأنه كان مأموراً بالسجود معهم، فهو مستثنى من عموم المأمورين بالسجود لا من خصوص الملائكة.

هذا التناقض الحاصل في هذه الأبحاث يثبت مدى عجز العقل من الاتيان بحلول ه

ص: 110


1- نفسه، ج 6، ص 432.
2- أنظر (ح)، ج 6، ص 433 - 434.
3- نفسه

جازمة، ومقنعة ويؤكد على ضرورة الركون الى الله في كتابه العزيز والاستضاءة بنوره لأنه الأعلم بما خلق، ونحن بدورنا لا نستطيع أن نقطع فيها بشيء لأنها تنأى عن أفق تفكيرنا، ومداركنا ونَكِلُ علمنا في ذلك الى الله العليم القدير.

2 - إبليس والشيطان

وهي أمور لا يمكن فهمها أيضاً إلا من خلال القرآن، وأية محاولة لتجاوزه إنما هي ضرب في المجهول إذ لا نعرف كائناً يقال له ابليس أو شيطان، كما أنها استغراق في الوهم والخيال كما توهم المجوس في قولهم إن مصدر الشيطان «فكرة رديئة أو عفونة رديئة لم تزل مع الله (1)، تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا.

لقد ذكر القرآن شياطين الأنس والجن بمعنى الوسوسة والضلال والخلق السيء لقوله تعالى (شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) (الأنعام / 112) و (أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) (يوسف / 100) وما نزع بين يوسف وإخوته الا عداوة الحسد.

وهكذا، فالشيطان كائن معنوي يسري بين الناس من جراء كرههم للحق وعشقهم للباطل، فيفتنهم ويزين لهم الباطل والمعاصي ليخدعهم.

أما إبليس، فهو كائن يدرك ويعقل ويحس ويفعل ويترك بإرادته واختياره لذا خاطبه الله تعالى وقال له (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ (الأعراف / 12) وطرده ولعنه، فاحتج هو بأصله، وهدد وتوعد بكيده وضلاله، (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (الحجر / 39) فأجابه جلت كلمته (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) (ص / 85). والآن نتساءل: هل ابليس من الملائكة؟

لقد اختلف في هذا الأمر، فجعله البعض منهم واحتج بالاستثناء (ففَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ) (ص / 73 - 74) وبعضهم جعله من الجن لقوله تعالى: (كَانَ مِنَ الجِنِّ) (الكهف / 50) وله نسل وذرية (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي) (الكهف / 50) بينما الملائكة لا نسل لها ولا ذرية، وكلام الامام (علیه السلام) يدل على أنه الملائكة «كلا ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشراً بأمر أخرج به منها ملكاً» (2). ولكن كيف اعتبر ابليس من الملائكة أن الآية تصرح بكونه من الجن؟ يقول محمد جواد مغنية: عد ابليس من الملائكة تبعاً لهذه الآية حيث اعتبرت ابليس من الملائكة، ثم أخرجته من بينهم بعد أن فسد وتمرد، وهو من الجن ما في ذلك ريب لنص الآية، ولكن الله سبحانه أجرى عليه حكم الملائكة وأمره بالسجود كما أمرهم لأنه كان يشاركهم في العبادة ويزيد ولما.

ص: 111


1- الملل و النحل، ج 2، ص 40.
2- أنظر (ح)، ج 13، ص 131.

كان منه ما كان، أخرج من بينهم وطرد وعليه فكان من الملائكة حكماً، وهو من الجن موضوعاً (1)

3 - العرش:

للعرش صفات كثيرة ومختلفة، إذ له في كل مورد في القرآن صفة على حدة، والعظمة هي أظهر صفة له لقوله عزّ وجل (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (التوبة / 129).

وللعرش حملة الملائكة الموكلة بتدبيره وقواها تتناسب مع ثقل قوائمه كما يقول الامام علي (علیه السلام): «المناسبة لقوائم العرش أكتافهم ناكسة دونه أبصارهم متلفعون تحته بأجنحتهم (2). وفي العرش تمثال جميع ما خلق الله تعالى في البر والبحر لقوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ) (الحجر / 21).

4 - الكرسي:

قال تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) (البقرة / 255). ان العرش والكرسي موجودان من المجودات الملكوتية غائبان عن إدراكنا، في كل منهما علم الأشياء وتدبيرها إلا أن العرش مقدم في ذلك على الكرسي، لأن العلم والتدبير يجري من العرش الى الكرسي إلى الأشياء كما أن عرش السلطان يجري منه تدبير الأمور الى الأمير صاحب الكرسي ومنه إلى المقامات العاملة المباشرة لأمور المملكة. وروي عن علي (علیه السلام) قوله عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: الكرسي لؤلؤة طولها حيث لا يعلمه العالمون وقد جعل الله آية الكرسي أماناً لأهل الايمان من شر الشيطان (3) وهي من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، فتفوض علم حقيقتها اليه تعالى، مع كمال تنزيهه عن الجسمية.

5 - البيت المعمور:

قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: (إن في سماء الدنيا بيتاً يقال له البيت المعمور بحيال الكعبة، وان في السماء السابعة بحراً من نور يقال له الحيوان، يدخل فيه جبريل (علیه السلام) كل غداة، فينغمس فيه انغماسة ثم يخرج فينتفض انتفاضة فيخرج منه سبعون ألف قطرة من نور، فيخلق الله تعالى من كل قطرة ملكاً، فيؤمرون أن يأتوا البيت المعمور فيصلون فيه فيأتونه فيدخلونه ويصلون فيه، ثم يخرجون فلا يعودون إلى يوم القيامة (4) والله أعلم.

6 - سدرة المنتهى:

قال الله تعالى: (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَىٰ * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ) (النجم / 14 - 15)..

ص: 112


1- أنظر (ح)، ج 3، ص 112.
2- أنظر (ح)، ج 1 ص 191.
3- النيسابوري، أبي اسحاق، قصص الأنبياء، المكتبة الثقافية، بيروت د. ت. ص 13.
4- المرجع نفسه، ص 14.

عن كعب قال: (وهي شجرة في السماء السابعة مما يلي الجنة واصلها ثابت في الجنة، عروقها تحت الكرسي، وأغصانها تحت العرش، اليها ينتهي علم الخلائق كل ورقة منها تظل أمة من الأمم، يغشاها ملائكة كأنهم فراش من ذهب، وعليها ملائكة لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، ومقام جبريل عليه السلام وسطها (1) والله أعلم.

7 - رحلة الموت:

تبدأ رحلة الموت من الدنيا وتنتهي في الآخرة. وبين الدنيا والآخرة، تستوقف الانسان معالم عدة، لتنجز له ما قدم من أعماله وما أخر قبل المثول بين يدي الله لمناقشة الحساب.

فالدنيا دار تكليف، فيها يمتحن ايمان المرء، ومنها يأخذ زاد الآخرة وهي دار متاع وغرور ظاهرها الرحمة، وباطنها العذاب، تأسر ضعاف النفوس وتخدعهم، حتى إذا ركنوا اليها تحولت عنهم وغدرت بهم. لذا فقد حذر منها الامام (علیه السلام) في أكثر خطبه ودعا الى عدم الركون اليها والاقتصار منها على الكفاف.

أما الغاية، فهي الآخرة حيث الجزاء الأوفى كما يقول الامام (علیه السلام): «ولكنه جعل الدنيا دار الأعمال، والآخرة دار الجزاء والقرار» (2).

لذلك كان لا بد من استغلال الدنيا لما فيه خير وسعادة الآخرة، وذلك قبل أن يدهمنا

الموت الذي لا محالة واقع «فما ينجو من الموت من خالفه، ولا يعطى البقاء من أحبه» (3).

والموت هو نهاية الحياة الدنيا وبداية حياة الآخرة، فإذا حل بصاحبه جعله طريح الفراش يكابد سكرات الموت وحده. فلا يزال يبالغ في جسده حتى يخالط سمعه وبصره، ويقبض عليه لسانه، حتى إذا خرجت الروح من جسده، تركه جيفة بين أهله، لا حول له ولا قوة. فإذا مات، ادرج في أكفانه، ثم ألقي على الأعواد، تحمله حفدة الولدان وحشدة الإخوان إلى دار غربته، ومنقطع زورته، ومفرد وحشته، حتى إذا انصرف المشيع، ورجع المتفجع، أقعد في حفرته، نجياً لبهتة السؤال وعثرة الامتحان (4) كما يقول الامام (علیه السلام) فإذا أجاب الصواب فاز بروح وريحان في قبره ويجنة النعيم في الآخرة. وإذا أخطأ فله نزل من حميم في قبره، وتصلية جحيم في الآخرة. والعذاب لا يكون في دار الدنيا ولا في يوم القيامة، فتعين أن يكون في البرزخ أي بعد الموت وقبل البعث لقوله تعالى: (ومن ورائهم برزخ الى يوم يبعثون) (المؤمنون / 100) فإذا نفخ نفخة البعث للحساب تعود الأرواح إلى 0.

ص: 113


1- المرجع نفسه، ص 14
2- مستدرك نهج البلاغة، ص 81.
3- أنظر (ح)، ج 2، ص 298.
4- نفسه، ج 6، ص 270.

أجسادها لمناقشة الحساب كما يقول تعالى: (ففَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ) (المؤمنون / 101).

وبعد حساب البرزخ لا بد من ورود القيامة، إذ لا مفر من الحساب والجزاء فإنه الغاية والمصير، حيث تحشر الخلائق، وتنشر صحف الأعمال على صاحبها، فيجد فيها جميع ما عمله في دار الدنيا، وتنصب فيها موازين القسط لمقابلة الحسنات والسيئات، وتنطق فيها الجوارح عندما يختم الله على الأفواه فتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) (المؤمنون / 102 - 103).

ويذكر (علیه السلام) من أحوال هذا اليوم قوله: (في يوم تشخص فيه الأبصار، وتظلم له الأقطار وتعطل فيه صروم العشار، وينفخ في الصور فتزهق كل مهجة، وتبكم كل لهجة، وتذل الشمم الشوامخ، والصم الرواسخ فيصير صلدها سراباً رقراقاً، ومعهدها قاعاً سملقاً، فلا شفيع يشفع، ولا حميم ينفع ولا معذرة ترفع (1).

في هذا اليوم إذن يعود البشر كما كانوا عليه في دنياهم لمناقشة الحساب ونيل الجزاء. والمعاد جائز عقلاً وشرعاً. فإما شرعاً للآيات الدالة عليه كقوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (العنكبوت / 57). وإما عقلاً، فلأنه لو لم يكن هناك معاد لنيل الجزاء لبطل التكليف، وكان إرسال الرسل وإنزال الكتب والصحف عبثاً وقد ثبت أن الله لم يفعل شيئاً عبثاً بل الحكمة كقوله سبحانه للكافرين (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ (المؤمنون / 115) ثم ان الله الذي خلق الخلق بقدرته من لا شي قادر أيضاً على إعادة الخلائق بعد موتها لقوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (البقرة / 28)

والمعاد منه ما هو جسماني، ومنه ما هو روحاني أو نفساني. فالمعاد الجسماني هو عودة الخلائق بعد موتها الى الحالة التي وجدت عليها في دار الدنيا وقبل الموت. ولقد تطابقت السنة الأنبياء والرسل والأئمة على القول بالمعاد الجسماني، ونطق به الكتاب العزيز لقوله تعالى (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۚ ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) (المعارج / 43 - 44) وهناك من الحكماء من منع المعاد الجسماني وقال بالنفساني، في حين أن بعضهم قلد ظاهر الشريعة في أمر المعاد الجسماني واثبات السعادة والشقاوة البدنية والروحانية. فيقول ابن سينا في الشفا: يجب أن يعلم أن المعاد منه ما هو المقبول من الشرع ولا سبيل إلى إثباته إلا من طريق الشريعة وتصديق خبر 1.

ص: 114


1- أنظر (ح)، ج 10، ص 171.

النبوة، وهو الذي للبدن عند البعث، وخيرات البدن وشروره معلومة لا يحتاج ان تعلم. وقد بسطت الشريعة الحقة التي أتانا بها نبينا المصطفى محمد صلی الله علیه و آله و سلم حال السعادة والشقاوة التي بحسب البدن.

ومنه ما هو مدرك بالعقل والقياس البرهاني. وقد صدقته النبوة وهو السعادة والشقاوة الثابتتان بالمقاييس، اللتان للأنفس، وان كان الأوهام منا تقصر عن تصورها الآن لما نوضح من العلل والحكماء الألهيون رغبتهم في إصابة هذه السعادة أعظم من رغبتهم في إصابة السعادة البدنية بل كأنهم لا يلتفتون الى تلك، وإن أعطوها، ولا يستعظمونها في جنب هذه السعادة التي هي مقاربة الحق الأول (1).

وما يذكره الامام (علیه السلام) في «النهج» يثبت المعاد الجسماني ولواحقه وحتى إذا تصرمت الأمور، وتقضت الدهور، وأزف النشور، أخرجهم من ضرائح القبور وأوكار الطيور، وأوجرة السباع ومطارح المهالك سراعاً الى أمره مهطعين الى معاده، ورعيلاً صموناً، قياماً

صفوفاً (2).

هذا الكلام صريح في إثبات المعاد الجسماني حيث يجمع الله أبدان الناس بعد تشذبها وتفرقها فيخرج من كان في قبره، ومن أكله طير أو سبع أو كان مقتولاً، يخرج من مكانه، ويجمع الله بين أجزائه ويؤلف بينها تمهيداً لمناقشة الحساب. ولا يشق ذلك على الله لأنه القادر على ما يريد، ولا يخفى ان اعادة تكوين الانسان ليست أصعب من إيجاده أول مرة ومن كان قادراً على أصل إيجاده فهو قادر على إعادته بعد فنائه لقوله تعالى ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ۚ بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إإِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس / 81 - 82) و﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (يس / 79).

أما المعاد النفساني، فهو محاسبة النفس على ما اقترفته من الأعمال السيئة فإن كانت من أهل الشقاوة، كان مقرها جهنم وبئس المصير لقوله تعالى (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ...) (الزمر /71). أما إذا كانت من أهل السعادة، كان مقرها الجنة والنعيم لقوله تعالى ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) (الزمر / 73).

ويتحدث الامام (علیه السلام) بما هو صريح الاشارة الى المعاد النفساني (فكل نفس معها سائق.

ص: 115


1- ابن سينا: النفس البشرية، قدم لها وعلق عليها البير نصري نادر، منشورات عويدات، بیروت، ط 1، سنة 1960. ص 100.
2- انظر (ح)، ج 6، ص 249.

وشهيد، سائق يسوقها الى محشرها وشاهد يشهد عليها بعملها (1). والسوقة إما أن تكون متعبة ومضنية أو لطيفة ورؤ وفة، بحسب أعمالها في الحياة الدنيا.

وأكد المعتزلة التكليف في الدنيا والجزاء في الآخرة فقالوا بلسان «العلاف»: «إن الدنيا دار عمل وأمر ونهي ومحنة واختبار والآخرة دار جزاء وليست بدار عمل ولا دار أمر ولا محنة ولا اختبار (2).

أما بالنسبة للمسألة المتعلقة بعذاب القبر، فقد نقل ابن أبي الحديد كلاماً عن قاضي القضاة في كتابه «طبقات المعتزلة» هذا نصه: «إن عذاب القبر إنما أنكره ضرار بن عمرو، ولما كان ضرار من أصحاب واصل بن عطاء ظن كثير من الناس أن ذلك مما أنكرته المعتزلة. وليس الأمر كذلك، بل المعتزلة رجلان أحدهما يجوز عذاب القبر ولا يقطع به وهم الأقلون والآخر يقطع على ذلك، وهم أكثر أصحابنا لظهور الأخبار الواردة فيه. وإنما تنكر المعتزلة قول طائفة من الجهلة، إنهم يعذبون وهم موتى، لأن العقل يمنع من ذلك (3). وقالوا في المعاد، بأن حسن التكليف منوط بالتعريض للثواب (4). لذلك كانت الاعادة واجبة من طريق العقل للتفرقة بين المحسن والمسيء بالثواب والعقاب وهم يرون بأن ترك البعث للخلق والثواب للمطيعين قبيح، وقالوا ان الثناء على الفعل الحسن والثواب عليه، والملام والعقاب على الفعل القبيح واجب (5). وقد أحال الجبائي بحث الاجسام بعد تفرقها بالموت، وتأول الآيتين الكريمتين (يحيي الموتى) وأنّ الله يبعث منه في القبور على معنى أن الله يحيي الموتى ويبعث أرواح من في القبور (6).

8 - الجنة والنار:

إن المعاد جسمانياً كان أو نفسانياً، إنما هو لمناقشة أعمال الانسان ورصد الجزاء عليها بالثواب أو العقاب. فمن ثقلت موازينه فهو في الجنة، ومن خفت موازينه فهو في النار.

والجنة دار بقاء وقرار وسلامة وسعادة وكرامة نعيم أبدي، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وشتى أنواع النعيم التي لا تقاس بنعيم الدنيا أعدها الله للمتقين والصالحين من أوليائه وعباده لقوله تعالى (أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأحقاف / 14) أما العاصين فلا يدخلونها أبداً. 1.

ص: 116


1- انظر (خ)، ج 6، ص 346.
2- الانتصار، ص 56.
3- انظر (ح) ج 6، ص 273.
4- المعتزلة، ص 105، عن أصول الدين للبغدادي، ص 209.
5- نفسه، ص 106، عن نهاية الاقدام في علم الكلام للشهرستاني، ص 371.
6- نفسه، ص 151، عن الصواعق المرسلة، ج 2، ص 101.

ويقول الامام علي (علیه السلام): فلو رميت ببصر قلبك نحو ما يوصف لك منها لعزفت نفسك عن بدائع ما أخرج الى الدنيا من شهواتها ولذاتها وزخارف مناظرها ولذهلت بالفكر في اصطفاف أشجار غيبت عروقها في كثبان المسك على سواحل أنهارها، وفي تعليق كبائس اللؤلؤ الرحب في عساليجها وأفنانها، وطلوع تلك الثمار مختلفة في غلف أكمامها تجني من غير تكلف فتأتي على منية مجتنيها، ويطاف على نزالها في أفنية قصورها بالأعسال المصفقة والخمور المروقة (1).

أما النار فهي دار هوان وانتقام، وآلام تشهد بصنوف ألوان العذاب التي أعدها الله تعالى لأهل الكفر والإلحاد جزاء ما كسبت أيديهم وما الله بظلام للعبيد.

وقد حذّر الامام (علیه السلام) عباد الله من النار: (واتقوا ناراً حرها شديد وقعرها بعيد، وحليتها. حديد وشرابها صديد (2). وأمعن في تحذيرهم بأن ذكر لهم أهوال الصراط: واعلموا ان مجازكم على الصراط ومزالق دحضه، وأهاويل زلله، وتارات أهواله (3).

والصراط هو الطريق الى الجنة والنار، إذ يتوسط المحشر والجنان يقول الشيخ الصدوق رحمه الله «اعتقادنا في الصراط حق وانه جسر جهنم وانه ممر جميع الخلق من الأنس. قال الله عزّ وجل: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا) (مريم / 71) فهو بين المحشر والجنان فمنهم من يجوزه بطاعته، ومنهم من تزل به قدمه فيهوى في الهاوية بمخالفته (4).

وللصراط عقبات تتضمن بعض الفرائض من الواجبات والمحرمات، من اجتازها بنجاح فاز بدخول الجنة ونعيمها فيحيا حياة خالدة سعيدة بجوار الله تعالى ومع أنبيائه وحججه، والصديقين و الشهداء، والصالحين من عباده، ومن قصر فيها زلت قدمه وهوى في نار جهنم.

عن المفضل بن عمر قال: سألت أبا عبد الله عن الصراط فقال: هو الطريق الى معرفة الله عزّ وجل، وهما صراطان: صراط في الدنيا وصراط في الآخرة. فاما الصراط الذي في الدنيا، فهو الامام المفروض الطاعة، من عرفه في الدنيا، واقتدى بهداه مره على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة. ومن لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه عن الصراط في الآخرة فتردى في نار جهنم (5).8.

ص: 117


1- أنظر (ح) ج 9، ص 278، ج 13، ص 110 - 111.
2- المرجع نفسه، ج 7، ص 288.
3- المرجع نفسه، ج 6، ص 263.
4- الحسني، عبد الصاحب: روح الايمان في الدين الاسلامي، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط 1، سنة 1975 م 5 ص 52.
5- بحار الأنوار، ج 4، ص 38.

وعنه أيضاً قال: الناس يمرون على الصراط طبقات، والصراط أدق من الشعر ومن حد السيف، فمنهم من يمر مثل البرق، ومنهم من يمر مثل عدو الفرس ومنهم من يمر حبواً، ومنهم من يمر مشياً، ومنهم من يمر متعلقاً قد تأخذ النار منه شيئاً أو تترك شيئاً (1) والله أعلم.

ومهما قيل عن الصراط وأهواله فإن ثواب الجنة ونعيمها، وعقاب النار وجحيمها يكفيان لردع الكافر عن المعصية وتشجيع المؤمن على الطاعة، كما يقول (علیه السلام): «فكفى بالجنة ثواباً ونوالاً، وكفى بالنار عقاباً ووبالاً وكفى بالله منتقماً ونظيراً، وكفى بالكتاب حجيجاً وخصيماً (2).

ومهما قيل عن نعيم الدنيا و شقاؤها، فهي بالقياس الى ما هي عليه في الجنة والنار لا شيء يذكر، والامام (علیه السلام) يقول: كل نعيم دون الجنة محقور وكل بلاء دون النار عافية (3).

ويقول أيضاً في وصف الجنة: درجات متفاضلات، ومنازل متفاوتات لا ينقطع نعيمها ولا يظعن مقيمها، ولا يهرم خالدها، ولا ييأس ساكنها (4).

وعن نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار يذكر (النهج»: «فأما أهل الطاعة فأثابهم بجواره، وخلدهم في داره، حيث لا يظعن النزال ولا تتغير بهم الحال، ولا تنوبهم الأفزاع ولا تنالهم الاسقام ولا تعرض لهم الأخطار ولا تشخصهم الأسفار.

وأما أهل المعصية، فأنزلهم سر دار، وغل الأيدي الى الأعناق، وقرن النواحي بالاقدام وألبسهم سرابيل القطران ومقطمات النيران، في عذاب قد اشتد چره، وباب قد أطبق على أهله في نار لها كلب ولجب، ولهب ساطع وقصيف هائل لا يظعن مقيمها ولا يفادي أسيرها ولا تفصم كبولها، لا مدة للدار فتفنى، ولا أجل للقوم فيقضى (5).

نستنتج مما سبق أن نعيم أهل الجنة أبدي سرمدي لا انقطاع له وكذلك عذاب أهل النار وان الإمام علي (علیه السلام) يقول بخلقهما كما يظهر من الكلام (بحسن بلائك عند خلقك داراً وجعلت فيها مأدبة، ومشرباً ومطعماً وأزواجاً وخدماً وقصوراً وانهاراً وزروعا، وثمارا (6). ولقد أكد الشرع هذا الأمر بقوله تعالى ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ.

ص: 118


1- المرجع نفسه، ج 4، ص 38.
2- انظر (ح) ج 6، ص 214.
3- المرجع نفسه، ج 19، ص 345.
4- المرجع نفسه، ج 6، ص 348.
5- انظر (ح)، ج 7، ص 201 - 202.
6- المرجع نفسه، ج 7، ص 200.

لِلْمُتَّقِينَ﴾ (آل عمران / 133) و (خَالِدِينَ فِيهَا ۖ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ) (البقرة / 162) و (لَكِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ هُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ الله) (آل عمران / 198): ويقول: العلامة الحلي: «وقد دل السمع على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن وجميع المعارضات متأولة والنصوص التي تصرح بوجودهما تبلغ حد التواتر (1).

وجاء في «أوائل المقالات» ان الاجماع قائم على أنهما مخلوقتان (2). ولقد اختلف المعتزلة في هذا الأمر. يقول ابن أبي الحديد: «قد اختلف شيوخنا رحمهم الله في هذه المسألة. فمن ذهب منهم الى أنهما غير مخلوقتين الآن (أي سيخلقان يوم يحشر الله الناس للجزاء) ... أما غير هؤلاء من شيوخنا، فقالوا: انهما مخلوقتان واعترفوا بأن آدم كان في جنة الجزاء و الثواب، وقالوا: لا يبعد أن يكون في أخبار المكلفين بوجود الجنة والنار، لطف لهم في التكليف ... (3).

ويقول الشيخ المفيد: إن المتأخرين من المعتزلة كأبي هاشم، يدعون أن خلقهما عبث قبل المحشر، والله لا يعبث في فعله (4).

وخلاصة القول، إن الجنة و النار سواء كانتا مخلوقتين أم لا، فإن المعني بهما، هو الانسان بالذات. أما الغاية، فهي حياته الأبدية في دار القرار، حيث يوفى كل امرىء جزاء ما كسبت يداه لقوله تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ) (الانفطار / 13 - 15). 0.

ص: 119


1- شرح التجريد ص 270.
2- الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة، ص 210.
3- أنظر (ح) ج 1، ص 109.
4- الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة، ص 210.

1 - النبوة

لما كان الخلق قد وجدوا في حالة من الجهل لا يستقيم معها مزاولة ما فرضه الله عليهم من الأحكام والعقائد والوظائف، وحيث أن العناية الالهية تقضي بحفظ النوع الانساني في اجتماعه لما يحصل بين أفراده بالطبع والضرورة، من الخصام ومجاذبة كل لصاحبه فيما يحتاج اليه من المأكل والمشرب والملبس وغيرها من المنافع وما ينتج عن ذلك من الطمع والثروة وإرادة المنفعة ليس ذلك فحسب، بل ان اختلاف الناس في مللهم وأهوائهم وطوائفهم، وآرائهم وميولهم ورغباتهم وما يسببه من الجدل والخصام والمنازعة، كل ذلك يؤدي إلى فساد النوع وهلاكه وخراب البلاد ودمارها. من هنا فإن حكمة الخالق سبحانه ولطفه بعباده، قضت في كل عصر وفي كل أمة بوجود الأنبياء واصطفائهم من الخلق وإفاضة الكمال النبوي عليهم بحسب ما وهبت لهم العناية الالهية من القبول والاستعداد، مؤيدون من قِبَلِهِ تعالى بالآيات والكرامات والمعجزات الدالة على صدقهم آخذاً على الوحي ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم لغاية توجيه الخلق وتهذيبهم، والاصلاح بينهم وتنبيههم الى ما يراد منهم في الدار الفانية وما يتطلب منهم في الدار الآخرة، وتنقية أذهانهم من الشوائب العالقة بها، وعقولهم من الشرك والضلال، وتذكيرهم بنعم الله عليهم وترغيبهم بما أعده الله سبحانه للمتقين من عباده، وترهيبهم مما أعده لأعدائه الفاسقين الكافرين. وهذا ما عبّر عنه الامام (علیه السلام) بقوله: «لا تدع الله أن يغنيك عن الناس فإن حاجات الناس بعضهم الى بعض متصلة كإتصال الأعضاء، فمتى يستغني المرء عن يده أو رجله ولكن ادع الله أن يغنيك عن شرارهم (1) ويقول ابن سينا: واعلم أن الناس يحتاجون الى من يضبط أمور متوعهم وأنكحتهم، وجناياتهم، ويذكرهم ربهم، ولا يذعن بعضهم لبعض، فيجب من العناية الالهية وجود شخص في كل عصر، مأمور باصلاح النوع، مؤيد بآيات وتدل على أنها من عند الله، فيفرض عليهم قربات الله حتى لا يكونون كالبهائم يأكلون ويتمتعون فيكونون (كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) (الفرقان / 44) (2).

ص: 120


1- أنظر (ح)، ج 20، ص 322.
2- عاصي، حسن: التفسير القرآني واللغة الصوفية في فلسفة ابن سينا، رسالة اعدت لنيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة، بيروت 1981، ص 229.

وحيث أن كل أمة لا تخلو من نبي مرسل لقوله تعالى ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ) (فاطر / 24) فإن ذلك يؤدي الى تواتر الأنبياء السابق منهم قد أطلعه الله تعالى على العلم بوجود اللاحق له، كبشارة الأنبياء محمد صلی الله علیه و آله و سلم واللاحق بوجود السابق عليه. على هذه الوتيرة والنظام الالهي تم حفظ النوع الانساني واستمرار الحياة.

ويعرّف أخوان الصفاء الأنبياء بقولهم: طائفة من بني آدم، اصطفاهم الله من عباده. وقرّبهم وناجاهم وكشف لهم عن مكنون أسرار غيبه، وجعلهم أمناء وحيه وسفراء بينه وبين خلقه، وأرسلهم من عالم الأرواح الذي في ملكوت السماء، إلى عالم الكون والفساد في الأرض وأنزل معهم الكتاب ليدعوا عباده الى جواره في الجنة التي كان أبوهم آدم فيها تربّی (1).

بذلك نستطيع القول أن تعيين النبي، حق من حقوق الله تعالى ولطف من ألطافه، لا ينازعه فيه منازع من خلقه كما قال تعالى وفي غير آية من آياته (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) (الأحزاب / 45 - 46). وقوله جل القائل: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) (ص / 26) ولله الخيرة في ذلك، يختار من يشاء، ممن يشاء لقوله جل ذكره (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (القصص / 68) فكان ممن اختاره، آدم خليفة في أرضه، وطالوت ملكاً على بني إسرائيل، وخليله ابراهيم إماماً للناس، ومحمد صلی الله علیه و آله و سلم سيداً لرسله وخاتماً لأنبيائه لقوله تعالى ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَٰكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) (الأحزاب / 40) فالنبي هو المعبر عن إرادة الله تعالى، ووجوده ضروري لارشاد الناس إلى ما فيه صلاحهم في الدارين ولتأكيد نبوته وإثباتها في نفوس البشر، أيده الله بالمعجزات وبالعصمة في تلقي الوحي ونشر التبليغ. ولو شاء الله أن يجعل الأمم جميعا تدين بدين واحد، وملة واحدة في جميع العصور لفعل كما قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ...) (المائدة / 48) فالله سبحانه حكيم خبير يعلم ما للأمم والأزمان من خصائص وطبائع، وما يناسب كل أمة من أحكام وشرائع يستقيم بها أمرها وتقتضيه مصلحتها فأنزل شرائع شتى، تتفق جميعها في الأصول، ويختلف بعض أحكامها في الفروع باختلاف الأمم والدهور ومن الطبيعي أن ينسخ بعضها بعضاً في بعض الأحكام. واقتضت حكمته تعالى أن يختم شريعته، بشريعة عامة كاملة كفيلة بمصالح الناس الى يوم الدين، فأنزل بها القرآن وميزه على سائر كتبه السابقة بما يعلمه الراسخون في العلم، وبعث به خاتم رسله وأفضل خلقه، وأمره ببيانه للناس، فمنهم 7.

ص: 121


1- الصفاء، اخوان: الرسائل، تحقيق بطرس البستاني - دار صادر، بيروت ج 4، ص 156 - 157.

من أدرك هذه الحكمة فعرف ربه حق المعرفة وآمن به وبكتبه ورسله وعمل بأحكامه ومنهم من جهلها فجمدت قريحته وفسدت سريرته، وآمن ببعض وكفر ببعض فكان لله عاصياً ولحكمته جاحداً ولرسله مكذباً وعن كتبه معرضاً.

ولقد ثبت بدليل العقل والنقل، ان صاحب الشريعة الاسلامية، والملة الحنيفية هو خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، صاحب الشفاعة الكبرى، رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صلوات الله عليه وعلى آله الأبرار وأصحابه الميامين. ولقد ظهرت دعوته في ظروف كان يغلب عليها دين التشبيه ومذهب التجسيم كما حكى القرآن عنهم)وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) (المائدة / 18) و (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) (التوبة / 30) و (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا) (المائدة / 64)، وأثبت المجوس أصلين أسند إلى أحدهما الخير والى الآخر الشر، وأنكر البعض الخالق والبعثة والإعادة وقالوا بالطبع المحيي والدهر المفني كما قال تعالى: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) (الجاثية / 24) فالجامع هو الطبع والمهلك هو الدهر. وبعضهم عبدوا الأصنام وزعموا أنها شفعاؤهم عند الله لقوله تعالى ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) (يونس / 18) و (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ) (الزمر / 3).

هذه الظروف الصعبة التي كان الخلق يعيشها قبل البعثة اقتضت وجود نبي مرسل ويهدي البشر سبيل الحق حتى (أضاءت به البلاد بعد الضلالة المظلمة والجهالة الغالبة والجفوة الجافية (1) فقام بالدعوة الى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة فجلى بنور الحق قلوب الخلق وأكمل دين الله فقال تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة / 3)

إلا أن وجود هذا الشخص لا يتكرر مثله في كل آن، لأن المادة التي تقبل كمال مثله، إنما تقع في قليل من الأمزجة، لذلك فمن الواجب أن يشرع للناس بعده سنة واضحة تدبر مصالحهم وتنظم أمورهم، كي يستمر الخلق في معرفة الصانع، ودوام ذكره حتى لا يقع النسيان بعد موت النبي. والقرآن هو ما خلفه النبي في قومه ليسيروا بهديه ويعملوا بوحي آياته. وهو يشتمل على أوامر الله ونواهيه، مثيباً على طاعته بجزيل الثواب، ومعاقباً على معصيته ورسوله بعظيم العقاب، مبيّناً ما حلّله للقوم وما حرّمه عليهم، مسنّاً لهم طائفة من الفرائض التي تتجسّد في أفعال وأقوال تتكرر على مدى الأيام والدهور ليحصل بذلك دوام ذكره.7.

ص: 122


1- انظر (ح)، ج 9، ص 137.

أ - طينة النبي:

قلنا أن شخص النبي لا يتكرر وجوده في كل وقت، وهذا يعني أن ما يتحلى به من كمالات يصعب على أي إنسان غيره التمكن منها. والطينة التي تتقبل مثل هذه الكمالات قليلة ونادرة. لذلك فالنبي إنما يعلو بفطرته وعقله وعلمه وخلقه على سائر الخلق، بعيد كل البعد عما يشوه سمعته وسريرته. ولو لم يكن النبي على هذه الحالة من الكمال والطهارة، لقلت ثقة الناس به وسخروا من دعوته. كما أن عبث الأنبياء يقدح في حكمة الباري تعالى الداعية الى الارتفاع عن الشهوات والتنزه عن المعاصي، بشخص رسوله ومبلغ رسالاته فالأنبياء القائمين بدين الله، هم أفضل الخلق معرفة بالله وأوفرهم حظاً لمكارم الأخلاق، وأكثرهم علماً بما يصلح أمر الخلق في معاشهم ومعادهم وأكملهم عقلاً وفطنة وما الاختلاف الحاصل في شرائعهم، إلا أمور جزئية بحسب مصالح جزئية تتعلق بوقت الرسول المعين وحال الخلق المرسل اليهم. وهم خيرة عباد الله سبحانه «استودعهم في أفضل مستودع وأقرهم في خير مستقر، وتناسختهم كرائم الأصلاب الى مطهرات الأرحام (1). كما يقول الأمام علي (علیه السلام)

ب - عصمة النبي:

الخلق

وحيث أن النبي هو واسطة بين الله وخلقه، ينقل اليهم ما يوحى اليه بصدق وأمانة ولما كان النبي هو الدليل والسبيل الى الله تعالى، فإنه من الواجب والضروري أن يتحلى بالعصمة بحيث لا يتطرق السهو والخطأ والنسيان والهوى إلى أقواله وأفعاله وعلاقاته مع الخلق لقوله تعالى ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ) (النجم / 2 - 3 - 4 - 5).

والعصمة هي إحدى الصفات الهامة التي تصون النبي عن الخطأ في تلقي الوحي وفي التبليغ وتطبيق الأحكام، كما تصونه من الوقوع في المعاصي فلا يأتمر إلا بأمر الله ولا ينهي إلا عن نواهيه كما ذكر (علیه السلام) «فصدع بما أمر به، وبلغ رسالات ربه» (2).

والعصمة واجبة على النبي، اقتضتها الحكمة الالهية، إذ لا يجوز في حقه تعالى أن يريسل مبلِّغاً عنه يكذب ويفجر ويرتكب المعاصي والمحرمات، وكيف يبشر ويدعو إلى إله واحد أحد من كانت هذه سمته؟. كما لا تجوز المعاصي على النبي لأن ذلك يؤدي الى عدم الثقة به وترك الانقياد له، ومن ثم ضياع الدعوة ونسيان الحق وعدم ذكره. ثم ان النصوص الدينية صامتة لا حراك فيها ولا نطق، والنبي هو الذي يعبر عنها ويفسرها ويبعث فيها 9.

ص: 123


1- أنظر (ح)، ج 7، ص 62.
2- أنظر (ح)، ج 13، ص 9.

الحياة. ولو لم يكن معصوماً عن الخطأ لتشوهت معالم الدين ودرست أنوار اليقين، ولما قامت للشريعة قائمة، واحتاج الرسول المخطىء الى آخر يصحح خطأه فنقع في التسلسل المحال

ج - معجزة الأنبياء:

ونفوس الأنبياء لها تصرف في هيولي عالم الكون والفساد باذن الله تعالى وإرادته، بحيث تكون مستعدة لقبول الأمور الخارقة للعادة والنواميس الطبيعية والتي تخرج عن وسع غيرهم من أبناء نوعهم.

والمعجزة هي عمدة النبوة، وهي ضرورية لكل نبي للدلالة على نبوته وصدقه فيما يدعو

اليه فلا يخلو منها نبي على الاطلاق كمعجزة ابراهيم الذي لم تحرقه النار، وطوفان نوح. وناقة صالح التي خرجت من الصخرة، وعصى موسى وإحياء الموتى على يد عيسى، والمعجزة الخالدة التي نزلت على محمد صلی الله علیه و آله و سلم، وتمثّلت في القران الكريم وفي غيره من المعجزات، كانشقاق القمر، وانقلاع الشجرة، وكلام الذئب معه، وإطعام الخلق الكثير من الطعام القليل وغير ذلك.

د - زهد النبي:

ومن صفات الأنبياء أيضاً الزهد في الدنيا وتحقيرها وتصغيرها وعدم الانغماس بشهواتها إلا بقدر الحاجة منها. وهذا ما يستوجبه كمال النبوة واستعدادها للقيام بالأعباء الملقاة على عاتقها بصدق وأمانة وإخلاص، وعلى هذا مشت جميع الأنبياء، وحالهم في التقشف وترك الدنيا والاعراض عنها، ظاهر ومعلوم بالتواتر، ولنا في زهد النبي أسوة حسنة كما يذكر الامام علي (علیه السلام) بقوله: «ولقد كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كاف لك في الأسوة، ودليل لك على ذم الدنيا وعيبها وكثرة مخازيها ومساويها، إذ قبضت عنه أطرافها، ووطئت لغيره أكنافها، وفطم عن رضاعها وزوى عن زخارفها (1).

وفي معرض حديثه عن زهد الأنبياء، يذكر (علیه السلام)، وهو الذي نبذ الدنيا وتخلّى عنها وزهد في أشيائها، نتفاً من ذلك فيقول عن موسى (علیه السلام): « ... والله ما سأله إلا خبزاً يأكله لأنه كان يأكل بقلة الأرض، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهذاله وتشذّب لحمه.

وعن داود (علیه السلام): ... فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده، ويقول الجلسائه:

أيكم يكفيني بيعها ويأكل قرص الشعير من ثمنها.

وعن عيسى (علیه السلام): «فلقد كان يتوسّد الحجر ويلبس الخشن ويأكل الجشب، وكان أدامه الجوع، وسراجه بالليل القمر، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها، فاكهته.

ص: 124


1- أنظر (ح)، ج 9، ص 229.

وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم، ولم تكن له زوجة تفتنه، ولا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يذلّه، دابته رجلاه، وخادمه يداه. (1)

أما النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم، فقد أخذ الزهد منه كل مأخذ، ونبذ الدنيا وأمات ذكرها في نفسه، وأعرض عنها بقلبه ومشيئته، لأن الله سبحانه «زواها عنه اختياراً، وبسطها لغيره احتقاراً (2) وذلك حتى لا يكون عبداً لها، لأن من عظمت الدنيا في عينيه وكبر موقعها من قلبه، آثرها على الله فانقطع اليها، وصار عبداً لها (3) كما يذكر الامام.

وفي معرض حديثه عن زهد النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم باعتباره الأسوة الحسنة، وعن طريقة حياته الخاصة يقول (علیه السلام): «قضم الدنيا قضماً، ولم يعرها طرفاً، أهضم أهل الدنيا كشماً، وأخمصهم من الدنيا بطناً، عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، وعلم أن الله تعالى أبغض شيئاً فأبغضه، وحقّر شيئاً فحقّره وصغّر شيئاً فصغّره ... ولقد كان يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويحصف بيده نعله ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري ... فاعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها في نفسه، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتخذ منها رياشاً، ولا يعتقدها قراراً، ولا يرجو فيها مقاماً، فأخرجها من النفس، وأشخصها عن القلب، وغيّبها عن البصر (4).

هذا ما قاله الامام (علیه السلام) عن النبوة، أما المعتزلة، فقد قالت أن بعثة الأنبياء واجبة (5) وأن النبي معصوم عن الخطأ، وذلك باجماعهم على القول انه لا يجوز أن يبعث الله نبيّاً يكفر ويرتكب الكبيرة، ولا يجوز أن يبعث نبياً كان كافراً أو فاسقاً (6)، وأجمعوا على أن القرآن كلام الله، وأنه معجزة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وانه على صدقه، ولا تكون المعجزات الا فعلاً خارقاً للعادة (7).

وقد يبدو أن كلام الامام بوجوب البعثة المحمدية هو خلاف قول المعتزلة، فإذا كانت غاية البعثة المحمدية هي معرفة البارى تعالى، فإن هذه المعرفة يوجبها العقل، حسب زعم، دون حاجة الى بعثة الرسل. لكن المعتزلة في الحقيقة لا يختلفون عن ذلك، وهذا المعتزلة 09

ص: 125


1- نفسه ج 7، ص 217.
2- نفسه، ج 7، ص 21.
3- نفسه ه، ج 9،، ص 226.
4- نفسه، ج 7، ص 217.
5- الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد ص 95، الطبعة الأخيرة.
6- مقالات الاسلاميين، ج 1، ص 272. ولكنهم أجازوا وقوع الصغائر منهم دون أن يتوجب عليهم وعيدا، الانتصار، ص 71.
7- الشهرستاني، عبد الكريم: نهاية الاقدام في علم الكلام، حرره وصححه الفرد جيوم، د.ت. ص 309

ابن أبي الحديد يثبت ذلك بقوله إن كثيراً من شيوخنا أوجبوا بعثة الرسل إذا كان في حنّهم المكلفين على ما في العقول فائدة. وهو مذهب أبي علي رحمه الله، فلا يمتنع أن إرسال محمد صلی الله علیه و آله و سلم الى العرب وغيرهم، لأن الله تعالى علم أنهم مع تنبيهه إيّاهم على ما هو واجب في عقولهم من المعرفة أقرب الى حصول المعرفة، فحينئذ يكون بعثه لطفاً (1).

2 - الإمامة

الرئاسة هي الرياسیة العامة لامور الدين والدنيا لشخص انساني نيابة عن النبي (2) فهي اذن خلافة النبوة، وتقوم مقامها الا في تلقي الوحي، وهذا ما يميز الامام عن النبي وكل ما دل على وجوب النبوة، فهو دال على وجوب الامامة.

والامامة ضرورية لتدبير المجتمعات و استمرارها في الوجود فلا يخلو منها مجتمع لعجز الخلق عن تصريف أمورهم الدينية والدنيوية. كما يقول (علیه السلام): (وإنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع به الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح بر ويستراح من فاجر (3) وهذا نص صريح بوجوب الامامة، إذ لا يمكن أن تستقيم أمور الناس من دون امام يحكم بينهم.

والامامة حجة الله على خلقه، اقتضتها الحكمة واللطف الالهي لحفظ الناموس الالهي عن التحريف والزيغ، وتدبير الخلق ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة. عن أبي عبد الله قال: إن الله أجل وأعظم من أن يترك الأرض بغير امام عادل. وعن أمير

المؤمنين قال: اللهم انك لا تخلي أرضك من حجة لك على خلقك (4).

والامام واحد لكل عصر، بحيث لا تتعدد الأئمة في عصر واحد، ولكل نبي وصي.

عن الحسين بن أبي العلاء قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) تكون الأرض وليس فيها امام قال: لا. قلت: يكون امامان. قال: لا، إلا واحدهما صامت (5).

والأئمة شهداء الله وحججه على عباده، وهم ولاة أمره، وخزنة علمه، وخلفاؤه في أرضه، وأبوابه التي منها يؤتى، ولولاهم ما عرف الله عزّ وجل، ولا تم إيمان امرىء، ولا ثبت اسلامه، وقد انتدبهم الله لعمارة أرضه وحفظ سننه ونشر دعوته وشريعته، فصدعوا بما

ص: 126


1- انظرح، ج 9، ص 104.
2- الحسني عبد الصاحب: روح الايمان في الدين الاسلامي، ص 244.
3- أنظر (ح)، ج 2، ص 307.
4- الأصول من الكافي. ج 1، ص 178.
5- نفسه، ج 1، ص 178.

أمروا به، وحملوا الناس على العمل بالأصول الدينية والخلقية لردعهم عن المفاسد الموجبة لسوء معادهم. والانتفاع بهم يكون كاملاً إذا لم يحل بينهم وبين وظائفهم رادع يحد من طاعة الناس لهم، ذلك أنهم لا ينطقون عن الهوى، ولا يعملون بالقبائح، وقدوّتهم في ذلك كتاب الله وسنة نبيه، ورثوا العلم عنهم فنطقوا بما سمعوا، لم يلههم عن ذلك تجارة ولا مال. يقول الامام علي (علیه السلام): وإنما الأئمة قوام الله على خلقه، وعرفاؤه على عباده، ولا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه (1).

إن العصمة واجبة، ولم يشترطها إلا الشيعة، وهي منصوص عليها من الله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب / 33). وقد أجمع المفسرون ورواة الأخبار، على أنها نزلت في أهل البيت عليهم السلام، وهي صريحة في عصمتهم عن المعاصي كما يثبت من كلمة «إنما»، وهي من أقوى أدوات الحصر والدالة على الاختصاص.

والعصمة تعني عدم الوقوع في الخطأ والزلل والمعصية. ولم يعرف عن الامام علي (علیه السلام) أنه أخطأ في تصوره أو وقع في زلة، أو عصى الله في شيء. وقد تضمن النهج بعضُ الخطب التي قد يستفاد منها عدم العصمة من ذلك قول الامام (علیه السلام) «اللهم اغفر لي ما أنت أعلم به مني، فإن عدت فعد علي بالمغفرة، اللهم اغفر لي ما رأيت من نفسي ولم تجد وفاء عندي، اللهم اغفر لي ما تقربت به اليك بلساني ثم خالفه قلبي، اللهم اغفر لي رمزات الألحاظ وسقطات الألفاظ، وسهوات الجنان، وهفوات اللسان (2).

ومنها أيضاً قوله لأصحابه: (فلا تكفوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق ان أخطىء، ولا آمن من ذلك من فعلي، إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني، فإنما أنا وأنتم عبيد الله مملوكون لرب لا رب غيره، فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى، وأعطانا البصيرة بعد العمى (3).

في كلا الخطبتين، ينزل الامام علي الى مستوى شعبه، فيتساوى معهم في كل شيء

حتى في جواز وقوع الأخطاء منه، أسوة بهم، فيطلب المغفرة من الله عليها أو ينشد المشورة من أصحابه في كل ما يقوم به، بل وحتى في طلب المشورة فيما شرعه الله، حتى لا يبدو في أعينهم حاكماً بأمره، وليس كأحدهم. وهذا شأن كل عظيم، يتهم نفسه حتى ولو كان نبيا. فقد شهد شاهد ببراءة يوسف، ومع هذا قال: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (يوسف / 53)2.

ص: 127


1- أنظر (ح)، ج 9، ص 152.
2- نفسه، ج 6، ص 176
3- نفسه، 11، ص، ج 102.

وقد نفى الشيعة المعاصي عن الامام لأنهم أوجبوا عصمته، وبرروا مغفرته بأمور ذكرها ابن ميثم البحراني بقوله: (واعلم أن الشيعة لما أوجبوا عصمته، (علیه السلام) عن المعاصي حملوا طلبه لمغفرة هذه الأمور على وجهين:

- أحدهما وهو الأدق، ان طلبه لغفرانها، انما هو على تقدير وقوعها منه، فكأنه قال: اللهم ان صدر عني شيء من هذه الأمور فاغفر لي، وقد علمت أنه لا يلزم من صدق الشرطية صدق كل واحد من جزئيها، فلا يلزم من صدق كلامه، صدور شيء منها حتى يحتاج الى مغفرة.

- الثاني: انهم حملوا ذلك على تأديب الناس وتعليمهم كيفية الاستغفار من الذنوب، وعلى التواضع والاعتراف بالعبودية، وان البشر في مظنّة التقصير والاساءة. وأما من لم يوجب عصمته فالأمر معه ظاهر (1).

وأما قوله (علیه السلام) و أخرجنا مما كنا فيه ...، فإن ابن أبي الحديد، يعقب عليه بقوله: وليس هذا إشارة الى خاص نفسه (علیه السلام)، لأنه لم يكن كافراً فأسلم، ولكنه كلام يقوله ويشير به الى القوم الذين يخاطبهم من أفناء الناس، فيأتي بصيغة الجمع الداخلة فيه نفسه توسعاً، ويجوز ان يكون معناه: لولا الطاف الله تعالى ببعثة محمد صلی الله علیه و آله و سلم لكنت أنا وغيري على أصل مذهب الأسلاف من عبادة الأصنام كما قال تعالى (وَوَجَدَكَ ضالا فهدَى) (الضحى / (7)، ليس معناه أنه كان كافراً بل معناه، لولا اصطفاء الله تعالى لك لكنت كواحد من قومك، ومعنى (وجدك ضالاً»، أي وجدك بعرضة للضلال، فكأنه ضال بالقوة لا بالفعل. (2)

وهكذا فالامام علي (علیه السلام)، معصوم عن الخطأ، وسيرته تدل على ذلك، ويجب أن يكون كذلك. وفضله يتجلى في الصفات التي تميز بها. يقول المسعودي «والأشياء التي استحق بها أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الفضل هي: السبق إلى الإيمان والهجرة، والنصرة لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والقربى منه، والقناعة وبذل النفس له، والعلم بالكتاب والتنزيل، والجهاد في سبيل الله، والورع، والزهد، والقضاء، والحكم، والفقه، والعلم، وكل ذلك لعلي (علیه السلام) منه النصيب الأوفر، والحظ الأكبر (3).

وحكمة الباري تقضي بعصمة الامام، إذ ليس من الحكمة في شيء أن يعين على أمور دينه من يعبث به ويشوه معالمه ويجهل شرحه وتفسيره ونقله الى سائليه، والكل يعلم أن الامام علي (علیه السلام) كان المرجع في شتى أمور الفقه والتفسير والعلم والحكمة، لذا قال عنه عبد.

ص: 128


1- أنظر (ب)، ج 2، ص 214.
2- أنظر (ح)، ج 11، ص 108.
3- مروج الذهب، ج 2، ص 437.

الكريم الخطيب: كان علي فقيه الاسلام، وعالم الاسلام، وحكيم الاسلام، غير مدفوع

ولا منازع فيه (1).

ولقد استدل أحدهم على ثبوت العصمة للامام بما يلي:

أولاً: إن الأئمة حفظة الشرع والقوامون به، حالهم في ذلك كحال النبي، ولأن الحاجة إلى الأمام إنما هي للانتصاف للمظلوم من الظالم، ورفع الفساد، وحسم مادة الفتن، وان الامام لطف يمنع القاهر من التعدي، ويحمل الناس على فعل الطاعات واجتناب المحرمات، ويقيم الحدود والفرائض ويؤاخذ الفساق، ويعزز من يستحق التعزيز، فلو جازت عليه المعصية وصدرت عنه، لانتفت هذه الفوائد و افتقر الى امام آخر وتسلسل.

ثانياً: إن الامام لو عصى لوجب الانكار عليه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والانكار عليه يتنافى مع وجوب طاعته التي فرضها الله على العباد بقوله جلّ القائل: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء / 59).

الكبير

ثالثاً: لو صدرت عنه المعصية لسقط محله من القلوب، فلا تنقاد لطاعته.

رابعاً: لو عصى لكان أسوأ من أقل أفراد الرعية، لأن الهفوة الصغيرة من أعظم من أكبر الكبائر من غيره.

خامساً: قوله تعالى لابراهيم: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة / 124)، دلت الآية على أن الامام لا يكون ظالماً، وكل

عاص فهو ظالم (2).

هذا عن عصمة الامام، أما وظيفته، فهي تتحدد بأمور دينية ودنيوية ذكرها الامام علي (علیه السلام) بقوله: «انه ليس على الامام إلا ما حمل من أمر ربه: الابلاغ في الموعظة، والاجتهاد في النصيحة، والاحياء للسنة، وإقامة الحدود على مستحقيها، وإصدار السهمان على أهلها (3).

لهذا فإن أمر الامامة بيد الله تعالى، يختار لها أفضل عباده، على أن يكون أكثر أهل زمانه علماً وأدباً وحكمة وخلقاً وسيرة وقرباً من رسول الله، وان يكون من قريش كما يقول الامام علي (علیه السلام): (إن الأئمة من قريش، غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم (4). في هذه الحالة لا تصلح الامامة بالانتخاب 4.

ص: 129


1- علي بن أبي طالب، ص 87.
2- فلسفات اسلامية، ص 402.
3- انظر (ح)، ج 7، ص 167
4- نفسه، ج 9، ص 84.

و اتفاق الناقصين، لأن هذا شأن من شؤون الدنيا والعمل بالهوى الداعي الى الصراع على المصالح الدنيوية، وهو أمر يفضي الى الفتنة وتعدد الأئمة في عصر واحد.

فالامامة خلافة النبوة، والامام ينوب عن النبي في تدبير شؤون الدين والدنيا فلا تجوز الا بنص صريح منه تعالى. والامام يحفظ قوانين الشريعة الاسلامية من أن يتطرق اليها التحريف، فلا يجوز في حكمة الباري أن يتولى هذا المنصب الا من قبله. وهكذا فالامام يثبت ويتعين بنص من الله تعالى عليه، أو بنص من رسوله أو الامام السابق عليه.

نستنتج مما تقدم أن الامامة واجبة شرعاً لتدبير أمور الدين والدنيا، وان أمرها بيد الله يختار لها من يشاء من عباده لطفا بهم، على أن يكون أفضلهم، وانها لا تجوز الا لامام واحد في كل عصر، وهي كالنبوة مؤيدة بالعصمة والمعجزة، فلا يجوز على الامام الخطأ أو العمل بالهوى.

وإذا كانت الامامة ضرورية لحفظ الدين وأحكامه، وصيانة المجتمعات وتدبيرها، فإن ما يتمتع به الامام من صفات ينبغي أن تكفل له هذا الأمر. إذ لا يعقل ولا يجوز في حكمة الباري تعالى أن يفوض أمر الامامة الى من تتنازعه الأهواء والرذائل، ويكون عاجزاً أو قاصراً عن فرض إرادة الله وكبح جماح نفسه أو نفوس رعيته، لما في ذلك من خطر يهدد أركان الدين والمجتمع. فنصب الامام لطف، وتمكنه من التصرف لطف آخر، لذلك فقد خصّه الله بكرامات لا تظهر إلا على يديه، وهي مما لا يستطيع الخلق فعله أو القيام به، تأكيداً لامامته، لذلك فلا ينبغي أن يكون على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وامامة المسلمين، البخيل فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الخائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنّة فيهلك الامة (1).

لذلك يفرق الامام علي (علیه السلام) بين الامام العادل والامام الجائر فيقول: في كلامه الى عثمان لما اجتمع اليه الناس وشكوا اليه - أي الى الامام علي - ما نقموه من عثمان وولاته فاعلم أن أفضل عباد الله عند الله، امام عادل، هدي وهدى واقام سنّة معلومة، وامات بدعة مجهولة ... وان شر الناس عند الله، أمام جائر ضلّ وضلّ به، فأمات سنة مأخوذة، وأحيى بدعة متروكة (2).

إن أغلب الفرق الاسلامية قالت بضرورة وجود الامام العادل، إلا أنها اختلفت وتساءلت عن كيفية استخلاف الخليفة، أهو باختيار أهل الشورى وأصحاب الحل والعقد؟ 1.

ص: 130


1- انظر (ح)، ج 8، ص 262.
2- نفسه، ج 9، ص 261.

أم هو بالقرب من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟ أم هو بالنص من الرسول ثم من بعده على من يليه؟ ولهم في ذلك مذاهب شتى، وما يهمنا هو قول المعتزلة في ذلك.

إن المعتزلة تنطلق من فكرة مؤداها أن الناس بحاجة الى امام لتدبير مصالحهم الدنيوية، لأن الناس يتظالمون فيما بينهم بالشره والحرص المركب في أخلاقها، فلذلك احتاجوا الى الحكام (1).

وبما أن الامامة من المسائل التي أدت الى اختلاف كلمة المسلمين وتفريق صفوفهم لعدة قرون، لذا فإن تعيين الخليفة بعد الرسول، كان موضع جدل وخلاف بين المعتزلة الذين توزعوا بين من يقول بوجوب نصبه على الأمة بالنص على ذلك من الله، وهم معتزلة البصرة، وبين من يقول بوجوبها على الأمة بحكم العقل وهم البغداديون من المعتزلة (2).

ولأنه لا يمكن أن تعقد الامامة لإمامين في نفس الوقت، لما في ذلك من التشتت والاضطراب في الأمور فإن المعتزلة ترفض بشخص القاضي عبد الجبار «أن يكون للأمة امان في وقت واحد (3).

ونظراً لقول بعضهم بالاختيار في تعيين الأمام، فقد نفوا عنه العصمة وأجازوا عليه الخطأ كما اختلفوا في جواز أن يكون الأئمة في غير قريش على مقالين: فقال قائلون منهم جائز أن يكون الأيمة في غير قريش، وقال قائلون منهم، ولا يجوز أن يكون الأيمة إلا من

قريش (4)، كذلك اختلفوا في أي فرع تكون.

وفيما يتعلق بأفضلية الامام علي بالخلافة، فهم مع اعترافهم، ولا سيما البغداديين منهم، بأن الامام علي (علیه السلام) هو الأفضل والأحق بالامامة، إلا أنه يجوز عندهم تقديم المفضول على الأفضل لمصلحة يقتضيها الدين وأحوال المكلفين، ولا أدري كيف أجاز منطقهم هذا تقديم الأقل علماً على العالم، ربما يجدون في ذلك ما يبررون به ولاية الخلفاء الثلاثة الأول. يقول ابن أبي الحديد: (فأصحابنا رحمهم الله، أحسنوا الظن بالصحابة، وحملوا ما وقع على وجه الصواب، وانهم نظروا الى مصلحة الاسلام وخافوا فتنة لا تقتصر على ذهاب الخلافة فقط، بل وتفضي الى ذهاب النبوة والملة، فعدلوا عن الأفضل الأشرف الأحق، الى فاضل آخر دونه فعقدوا له (5).

إذاً فالمعتزلة تعترف بحق علي في الخلافة، ولكنها عدلت عن هذا الحق لمصلحة.

ص: 131


1- رسائل الجاحظ، تحقيق هارون، مكتبة الخانجي بمصر، سنة 1965، ج 1 ص 161.
2- الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة، ص 195 - 196.
3- مجلة الفكر العربي، عدد 22، ص 353 عن المغني لعبد الجبار، ج 1 ص 254.
4- مقالات الاسلاميين، ج 1، ص 157.
5- انظر (ح)، ج 1، ص 157.

يقتضيها الاسلام وأهله. ولقد اعترف النظام بذلك وأكد على أن الامامة لا تكون إلا بالنص من الله ومن النبي صلی الله علیه و آله و سلم فيقول: (لا امامة إلا بالنص والتعيين ظاهراً مكشوفاً، وقد نص النبي عليه السلام، على علي رضي الله عنه في مواضيع، وأظهره إظهاراً لم يشتبه على الجماعة (1).

وإذا كان البعض قد رفض هذه المقولة وقال بأن الأمر لم يخرج عن مجرد قول غير صريح، وحكم غير قاطع، فإن هذا لا يقدح في كونه (علیه السلام) صاحب الحق الأول في خلافة الأمة لكونه ربيب رسول الله ووارث علمه وأدبه، وحافظ دعوته. وأوافق ابن أبي الحديد على القول بأن الرسول لم يحاول فرضه على المسلمين، خوفاً من الشقاق والفرقة الناجمة عن الحسد وحب السلطة. وسواء صرح النبي أم لم يصرح فإن الأمر يتوقف على مدى طاعة المسلمين للامام، ما داموا غير ملزمين في تنفيذ ما أمروا به. لذا قال ابن أبي الحديد «ولعله صلی الله علیه و آله و سلم كان يصده عن التصريح بذلك أمر يعلمه ومصلحة يراعيها، أو وقوف مع إذن الله تعالى في ذلك (2)..

ص: 132


1- الملل و النحل، ج 1، ص 57.
2- انظر (ح)، ج 2، ص 59.

الباب الثالث

فكرة الخلق

ص: 133

ص: 134

فكرة الخلق

1 - نشأة الكون

فكرة الخلق من الأفكار الهامة التي شغلت بها الفلسفة، فذهبت فيها مذاهب شتى،

وأحاطتها بكثير من التصورات، وعللتها إما بقوى خفية وهمية أو إلهية أو مادية، ومع ذلك فهي لا تخلو من الايمان بشيء من القانون يحكم سير الحوادث ويضبط نظام العالم. يقول «وليم والاس»: ان مهمة الفلسفة الخاصة بها هي فهم العالم دون أن تحاول جعله أفضل مما هو عليه (1).

إن عقلانية الانسان، دفعته وبشيء من الدهشة والتأمل الى محاولة الكشف عن السر الغامض الذي يكمن وراء هذا الكون. وذلك قبل معرفته لنفسه وكشفه عن عالمه الداخلي. يقول «شوبنهاور»: «إنه - بصرف النظر عن الانسان - ليس ثمة موجود يتساءل عن وجوده. وحين يغدو الانسان واعياً لأول مرة، يسلم بوجود ذاته تسليمه بشيء لا يحتاج الى تفسير. ولا يستمر الأمر على ذلك طويلا، ذلك لأنه نشأة التأمل يبدأ التساؤل. والتساؤل أمّ الميتافيزيقا. وهو الذي جعل أرسطو يقول: ان الناس - الآن ودائماً - يسعون الى التفلسف بسبب الدهشة. وكلما كان الانسان أدنى في مرتبة التفكير، كان تساؤله أقل عن لغز الوجود ... ولكن كلما زاد وعي الانسان اتضاحاً بدت له المشكلة أعظم ما تكون (2).

لقد تساءل هذا الانسان عن كيفية وجود هذا الكون؟ وما أصله؟ وما مصيره؟ وما

ص: 135


1- والاس، وليم: مقدمات الى دراسة فلسفة هيجل، ص 29، اكسفورد سنة 1894. William Wallace: Prolegomena to the studey of hegel's, philosophy. عن كتاب و «بعض مشكلات الفلسفة» ل - «وليم جيمس» ترجمة محمد فتحي الشنيطي، ط 2، بيروت، ص 93.
2- Schopenhaver: The World as Will and representation appendix 19. on the Metaphysical (2) need of man «Abridged». عن كتاب (بعض مشكلات الفلسفة»، ص 64.

هي القوى المسيرة له؟ الخ ... وتجشم مؤونة البحث، فملأ بطون المجلدات من أجل الوصول الى معرفة الحقيقة التي يبحث عنها، ورغم أنه توصل الى العديد من القوانين التي تحكم هذا الكون، إلا أن الغموض ما زال يكتنف هذا الكون لكثرة ما يثيره من تساؤلات لا يجد لها جواباً حتى الآن، وهو في طريقه الى الاعتراف بالعجز. يقول اسماعيل مظهر فكلما كشف لنا سر من أسرار هذا الكون الفسيح، ألفاه محوطاً بكثير من الأسرار الأخرى التي يعجز الفكر الانساني أزماناً طوالاً دون معرفة كنهها وستتدرج الانسانية في كشف المغمضات حتى تنتهي الى حد تتكاثف عنده ظلمات تلك الأسرار، وإذ ذاك يقف الفكر معترفاً بالعجز (1). ويغلب الظن في أن الفكر البشري سيقف عند هذا الحد من الآراء والتصورات التي توصل اليها، أجيالاً طوالاً دون أن يصل الى اكتشاف الحقيقة الغامضة التي يبحث عنها.

لقد استهلت الفلسفة اليونانية فجر حياتها، بالبحث في أصل الكون وطبيعته، وكان طاليس الملطي، (624 - 546 ق. م. تقريباً) أول من سار الى هذا الأمر وقال بأن الماء هو أصل كل شيء. وكان هذا القول شائعاً بين الشرقيين في العصر القديم (البابليون والأشوريون ولهم في أصل العالم قصة محصلها أن الماء هو منشأ كل شيء. إلا أن أهمية طاليس تكمن لا في رده الأشياء الى الماء، بل في كونه أول من صاغ أفكاره صياغة منطقية فكانت فلسفته الكونية تستند الى أساس عقلي مجرد ومعلل، وأول من أرجع الكون إلى عنصر واحد، حيث رأي من خلال تعدد الأشياء وتباينها وحدة شاملة تكمن وراءها، إليها ترتد جميع الأشياء.

ثم توالت بعد ذلك المحاولات الفلسفية على غرار ما ذهب اليه طاليس ولكن بأصول

مختلفة عنه، فقال انكسمندریس Anaximandre (المتوفى سنة 547 ق. م.) تلميذ طاليس بأن الأصل هو اللا محدود أو اللامتناهي، وقال انکسیمنس Anaximens (المتوفى حوالي 534 ق. م.) بأنه الهواء وقال اگزینوفان Xenophane (المتوفي حوالي 480 ق. م.) انه التراب، وقال هيراقليطس Heraclite (المتوفى سنة 475 ق. م.) أنه النار، وقال أمبيذوقليس Empedocle (المتوفى حوالي 435 ق. م.) أنه هذه العناصر الأربعة جميعاً، وقال برمنيدس Parmenide (المتوفى سنة 450 ق. م.) أنه الوجود، وقال ديمقريطس Démocrite ولوقيبوس (من رجال القرن الخامس قبل الميلاد) انه الذرات، وقال انكساغوراس (588 - 524 ق. م.) وفيثاغورس (ولد بين 580 - 570 ق. م. بالعدد.

إن أهمية هذه الآراء جميعها، هي في كونها المحاولات الفلسفية الأولى التي ابتعدت في.

ص: 136


1- داروین، تشارلز، أصل الأنواع، مقدمة المترجم، مكتبة النهضة، بيروت، 1973، ترجمة اسماعيل مظهر، ص 27.

تفسیرها لأصل الكون عن التفكير الوهمي والاسطوري، واعتمدت التفكير المجرد في نظرتها الكلية الشاملة الى الكون الذي استوعبته في فكرة واحدة، عنها صدرت جميع الأشياء.

ورغم أن الفلسفة اتجهت بعد ذلك الى دراسة العالم الداخلي للانسان الذي جعلته مقياس الأشياء جميعها كما قال «بروتاغوراس السفسطائي Protagoras (المتوفى سنة 411 ق. م.) إلا أنها استمرت في دراسة الكون، ولكن بأسلوب يختلف عن ذي قبل، فالفلسفة التصورية السقراطية Conceptualisme تهتم بالوصول الى المعاني الكلية أو الماهيات الحقيقية للأشياء. أما أفلاطون (427 - 347 ق. م.) فقد رفع هذه الماهيات الى مرتبة الوجود الحقيقي وسلب كل شيء دونها، الحق في الوجود من خلال نظرية المثل التي قال بها واعتبرها الأسس الأولى للوجود، ولا أساس لها ولا أول، فهي أزلية أبدية لا تكون ولا تفسد، يقول عبد الرحمن مرحبا: «وقد ذكر أفلاطون في محاورة «طيماوس» التي خصصها لتفسير التكوين الطبيعي للعالم، ان الصانع قد أحدث العالم محتذياً المثل، أي أنه ركب الصور المأخوذة عن المثل في المادة الخام (1).

أما أرسطو، فقد وقف على النقيض من أفلاطون، فاعترف بأن الوجود الحقيقي هو الوجود الطبيعي لا عالم المثل، وأهم شرائط هذا الوجود هو الحركة، وهي أزلية أبدية.

هذه الأصول الأولية للكون، رغم أنها تعتمد العقل و المنطق، إلا أنها شاركت الله في الأزل وكانت موجودة معه منذ القدم. وهناك من الآراء ما أثبت أكثر من أصل للعالم فالمجوس والثنوية اثبتوا أصلين قديمين متضادين هما النور والظلمة، نتج عن امتزاجهما وجود العالم. في حين أن الحرنانية من الصائبة قالوا بخمسة قدماء البارىء والنفس والهيولي والدهر والخلاء (2). وقال الرازي بأزلية المبادىء الكونية كالزمان والمكان والنفس والهيولي نافياً بذلك وحدانية الله وهزىء من النبوة والمعجزات واعتبر أن سبيل الصلاح والاصلاح إنما هو العقل والفلسفة لا الأديان التي أخذ عليها اختلافها حتى التناقض.

إن مختلف هذه الآراء تثبت، إما قدماء مع الله أو شركاء له، وهذا ضرب من العبث بوحدانيته تعالى، وتحجيم لقدرته وعظمته وكماله، لأنه ما به يخلق الخلق، فهو تعالى محتاج اليه، وما هو محتاج اليه فهو متقوم به وهذا نقص والله منزه عن كل نقص.

وقد تلافى الامام علي (علیه السلام) في نهجه، هذا النقص الحاصل في هذه النظريات وقال بالخلق المطلق من العدم، من ذلك «لم يخلق الأشياء من أصول أزلية ولا من أوائل أبدية.3.

ص: 137


1- مرحباً، محمد عبد الرحمن: من الفلسفة اليونانية الى الفلسفة الاسلامية، منشورات عويدات، بیروت، ط 1، سنة 1970، ص 132.
2- الرازي، رسائل فلسفية، دار الآفاق، بيروت، ط 3، سنة 1979، ص 203.

بل خلق ما خلق فأقام حده، وصور فأحسن صورته (1). فكان منسجماً مع راية التوحيد التي رفع لواءها الاسلام. ذلك أن وحدانية الله تقضي بعدم وجود شيء معه تعالى وشريك له في الأزل، بل خلق ما خلق من العدم، وصنع ما صنع فاتقن صنعه وتدبيره من غير شريك ساعده في ذلك خلق الخلائق على غير مثال خلا من غيره، ولم يستعن على خلقها بأحد من خلقه (2). وهذا يعني عدم وجود مادة أزلية خلق، منها الأشياء إذ لم يحتذ في خلقه مثال غيره، ولم يعاونه في ذلك أحد من خلقه.

فالله سبحانه أوجد الأشياء على غير مثال سابق ولا من مادة أولى كانت تشاركه في القدم، ولكن ابتدعها ابتداعاً وبكلمة (كن) فقط. ولم يكن عزّ وجلّ مقلداً لأحد فيما خلق. إذ لا خالق غيره جل عن اتخاذه شركاء له في الألوهية كما قال تعالى (ههَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ) (فاطر / 3). حيث كان ولم يكن معه شيء، لأنه غني عن كل شيء، ولا شيء من الأشياء بغنى عنه كما يقول الامام (علیه السلام): (خلق الخلق على غير تمثيل ولا مشورة مشير ولا معونة معين، فتم خلقه بأمره وأذعن لطاعته (3) وبهذا الأمر التكويني، يكون كل شيء من الله، وفقاً لعلمه وإرادته.

هذه الفلسفة التي أقرت بوحدانية الخالق وبحدوث العالم عنه، هي على خلاف قول

المتقدمين، والمتأخرين من فلاسفة اليونان القائلين بقدم الأصل، وبالتالي قدم العالم وأزليته. فنسفوا بذلك مبدأ التوحيد. فلم يكن من الغريب اذن أن يتصدى مفكر اسلامي مثل أبي حامد الغزالي، لمثل هذه الفلسفة المنافية لروح الاسلام، فكان هجومه عليها منبثقاً، لا عن مجرد عاطفة دينية وحسب، بل جاء نتيجة وعي تام بمجافاة هذه الفلسفة لروح الدين دون أن يقصد الى هدمها كمنهج من مناهج العقل وأسلوب من أساليب التفكير. يقول فتح الله خليف: ... فمن التجني أن نقول أنه حارب الفلسفة من حيث هي فلسفة بل حارب التيار الهليني الوثني المجاني لروح الدين في الفلسفة (4).

وهو في محاولته للرد عليهم وتفنيد مزاعمهم، وضع كتابه المشهور: تهافت الفلاسفة وكتب يقول في الغاية من تأليفه: فلما رأيت هذا العرق من الحماقة نابضاً على هؤلاء الأغبياء انتدبت لتحرير هذا الكتاب رداً على الفلاسفة القدماء مبيناً تهافت عقيدتهم وتناقض كلمتهم فيما يتعلق بالالهيات، وكاشفاً عن غوائل مذهبهم وعوراته، التي هي على التحقيق.

ص: 138


1- أنظر (ح)، ج 9، ص 253 - 252.
2- نفسه، ج 13 ص 87.
3- انظر (ح)، ج 9، ص 181.
4- مجلة عالم الفكر الكويتية، م 3، ج 4، ص 69 سنة 1973.

مضاحك العقلاء وعبرة عند الأذكياء، أعني ما اختصوا به عن الجماهير والدهماء من فنون العقائد والآراء (1).

إن مسألة قدم العالم وحدوثه، كانت حداً فاصلاً بين الفلاسفة والمتكلمين وهي المسألة الأولى التي افتتح بها الغزالي كتابه المذكور، حيث يلخص مذهبهم بقوله: «اختلفت الفلاسفة في قدم العالم، فالذي استقر عليه رأى جماهيرهم المتقدمين والمتأخرين، القول بقدمه، وانه لم يزل موجوداً مع الله تعالى، ومعلولاً له، ومساوقاً له غير متأخر عنه بالزمان مساوقة المعلول للعلة، ومساوقة النور للشمس، وان تقدم الباري عليه كتقدم العلة على المعلول وهو تقدم بالذات والرتبة لا بالزمان (2).

ثم ان فكرة حدوث العالم من لا شيء، أمر يتعذر على البشر إدراك حقيقته، لأن ذات الله تعالى ليست معلومة لنا علماً مباشراً، وصفاته لا تقاس بصفاتنا، إذ لا وجه للمماثلة بين القديم والمحدث، الثابت والمتغير، الكامل والناقص، فهو تعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى / 11).

فإذا كانت الذات الالهية مستعصية على الفهم، فلا مجال لادراك كيفية الخلق، لأن العقل لا يدرك حقيقة القدرة الأولى التي أوجدت مخلوقات الدنيا وكل ما توصلنا اليه هو اكتشاف القوانين العامة التي تربط بينهما. ولقد أجهد العلماء أنفسهم في البحث والتعليل وكل ما قالوه بخصوص الخلق والقدرة الالهية كان مجرد حدس وتخمين لا أكثر. وكان (علیه السلام) قد أدرك ذلك فقال «فمن فرغ قلبه وأعمل فكره ليتعلم كيف أقمت عرشك وكيف ذرات خلقك، وكيف علقت في الهواء سمواتك، وكيف مددت على مور الماء أرضك ... رجع طرفه حسيراً، وعقله مبهوراً، وسمعه والهاً، وفكره حائراً (3).

ثم ان اكتشاف هذه القوانين لا يفي بالغرض المطلوب، وبشكل قاطع وجازم. وهذا ما أكده فؤاد صروف عندما قال: «كل ما لدينا من معلومات لا تصحح نظرية واحدة عن الكون (4)، ومع ذلك فإن الأبحاث المتعلقة بطبيعة الكون مستمرة كما قال الدكتور فؤاد صروف «و النقاش العلمي، أي في أصل الكون وعمره - قائم على قدم وساق (5)، من غير ان يتمكن، ولن يتمكن، من الاحاطة به، لأنه لا أحد يحيط بالكون إلا خالقه، أو من ارتضى من عباده، كما قال تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِنْ رَسُولٍ). (الجن / 26 - 27) 1.

ص: 139


1- الغزالي، أبو حامد محمد: تهافت الفلاسفة، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1962.، ص 38 - 39.
2- تهافت الفلاسفة، ص 48.
3- أنظر (ح)، ج 9، ص 222.
4- مجلة عالم الفكر: م 1، ج 3، ص 5، 1970.
5- مجلة عالم الفكر، م 2، ع2، ص 17، سنة 1971.

وإذا كان الفلاسفة القدماء، فد أجمعوا على قدم العالم، فقد اعتبر كثير من العلماء والحكماء انه حادث مسبوق بالعدم. ثم أثبته المتكلمون بالاجماع حيث قالوا: إن العالم مُحدّث ومخلوق، أحدثه الباري تعالى وأبدعه، وكان الله تعالى ولم يكن معه شيء، ثم خلق العالم بعد ان لم يكن (1).

وفكرة الخلق من العدم، أو الخلق المسبوق بالعدم، فكرة دينية، أكدتها الأديان السماوية جميعاً، ووجدت فيها حلا لمشكلة بداية العالم.

2 - اختلاف الأقوال في الغاية من خلق العالم

وكما اختلفت الآراء في أصل الكون، كذلك اختلفت في الغاية التي من أجلها خلق الله العالم ... فزعم المجوس أن الغرض من خلق العالم، هو أن يتحصن الخالق جل اسمه، من العدو، وأن يجعل العالم شبكة له ليوقع العدو فيها، ويجعله في ربط ووثاق، والعدو عندهم هو ابليس. وهذا ما أكده أبو حامد الزورني عندما قال: «إن المجوس زعمت أن إبليس كان لم يزل في الظلمة والجو خلاء بمعزل عن سلطان الله، ثم لم يزل يزحف ويقرب بحيله حتى رأى النور. فوثب وثبة، فصار في سلطان الله، في النور، وأدخل معه هذه الآفات والشرور فخلق الله تعالى هذا العالم شبكة له. فوقع فيها وصار متعلقاً بها، لا يمكنه الرجوع الى سلطانه، فهو محبوس في هذا العالم، مضطرب في الحبس، يرمي بالآفات والمحن والفتن الى خلق الله تعالى (2).

ويعقب الشهرستاني على هذا الرأي فيقول: ولست أظن عاقلاً يعتقد هذا الرأي القائل، ويرى هذا الاعتقاد المضمحل الباطل، ولعله كان رمزاً الى ما يتصور في العقل ومن عرف الله سبحانه وتعالى بجلاله وكبريائه لم يسمح لهذه الترهات عقله، ولم يسمع مثل هذه الترهات سمعه (3).

أما المانوية (من الثنوية) القائلين بأصلين قديمين للعالم (النور والظلمة) فقد زعمت، بما يشبه أباطيل المجوس، أن امتزاج النور بالظلمة أدى الى اختلاط أجزاء الخير (النور) بأجزاء الشر (الظلمة). فلما رأى ملك النور هذا الامتزاج، أمر ملكاً أمر ملكاً من ملائكته، فخلق هذا العالم على هذه الهيئة ليتخلص أجناس النور من أجناس الظلمة (4).

وقالت الحرنانية (من الصائبة) إن علة حدوث العالم كان بسبب التفات النفس الى

ص: 140


1- نهاية الاقدام في علم الكلام، ص 5.
2- الملل والنحل، ج 2، ص 40.
3- نفسه، ج 2، ص 40.
4- المصدر نفسه، ج 2، ص 52.

الهيولي. ذلك أن البارى تعالى كان عالماً بأن النفس تميل الى التعلق بالهيولي وتعشقها وتطلب اللذة الجسمية، وتكره مفارقة الأجسام وتنسى نفسها. ولما كان من شأن الباري تعالى الحكمة التامة، عمد الى الهيولي بعد تعلق النفس بها، فركّبها ضروباً من التراكيب مثل السموات والعناصر وركب أجسام الحيوانات على الوجه الأكمل ... (1)

إن هذه الأساطير التي علل بها أصحابها الغاية من خلق الله للعالم إنما هي أضغاث أحلام وأوهام، لا معنى لها إلا في أذهان أصحابها، وهي من جملة ما يفيض به الخيال الاسطوري الذي تعشقه الناس وتميل اليه. كما أنها لسذاجتها تعبر عن بدائية، ووثنية الفكر الانساني القديم ومسايرته للاساطير والخرافات الشعبية فكيف علل الامام علي (علیه السلام) خلق الله للعالم؟

يذكر (علیه السلام) أن كل ما في الوجود، هو فعل لله وخلقه فهل الله تعالى غرض يرمي اليه من خلال إيجاده للعالم؟

إن الله لا يخلق لا لغرض، لأن ما يفعل لا لغرض عبث، والله تعالى لم يخلق عبثاً ولا یصح أن تكون أفعاله عبثاً لأنه حكيم. وهو اما أن يخلق لمنفعة نفسه أو لمنفعة غيره. الأول باطل، لأن الله سبحانه تقدس عن الانتفاع. فلم يخلق ما خلق ليكون عائداً عليه بنفع أو ضرر، وهو الغني بذاته، لا لسبب خارج عنه يستفيد منه غناه. وبلغ من كمال سلطانه وملكه حداً، لا يؤثر فيه طاعة من اطاعه، ولا معصية من عصاه: «فإن الله سبحانه وتعالى، خلق الخلق، حيث خلقهم، غنياً عن طاعتهم آمناً من معصيتهم، لأنه لا تضره معصية من عصاه، ولا تنفعه طاعة من أطاعه (2). لذلك فإن أمره وقضاءه مبرم، فلا بد من وجود ما اقتضت قدرته وإرادته وجوده سواء كره الخلق أم أحب كما قال تعالى ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة / 32)

فإذا كان الله قد تقدس عن أن يكون له غرض يعود عليه بالنفع والضرر، فقد ثبت أنه خلق ما خلق لينفع غيره لكمال ذاته وغناه المطلق وجوده الذي لا بخل فيه ولا منع، فلا يجوز في حقه الظلم والعبث. هذه الغاية من الخلق أكدته المعتزلة، فقال العلاف: «خلق الله عزّ وجل خلقه لعلة، والعلة هي الخلق، الخلق، والخلق هو الإرادة والقول، وأنه إنما خلق الخلق لمنفعتهم، ولولا ذلك كان لا وجه لخلقهم، لأن من خلق ما لا ينتفع به ولا يزيل بخلقه عنه ضرراً ولا ينتفع به غيره، ولا يضر به غيره، فهو عابث (3).

ص: 141


1- رسائل فلسفية، ص 205 - 206.
2- أنظر (ح) ج 10، ص 132.
3- مقالات الاسلاميين، ج 1، ص 292.

3 - کیف صدرت المخلوقات عن الله؟

إن كلمة «كن» المعبرة عن أمر الله وإرادته بوجود الكون، أثارت أمام المتكلمين المسلمين مشكلتين من أدق المشاكل الميتافيزيقية، وأعني بهما مشكلتي بداية العالم وعلاقة الله به. فالعلاقة بين الله والعالم من أكثر المسائل التي حيرت عقول الفلاسفة قديماً وحديثاً، لأنها تقوم بين طرفين نقيضين: الواحد والكثير الثابت والمتغير، الروحي والمادي، الكامل والناقص ...

ومع أن فكرة الخلق الدينية التي لم تعرفها الفلسفات القديمة، هي الحل الذي تقدمت به الديانات السماوية لمشكلة بداية العالم وعلاقة الخالق به إلا أن هذه الفكرة في نفسها تدق على فهم البشر كما قلنا «لأن وسع الخلق لا يحتمل درك التكوين ... كما لا يبلغه فهم البشر (1).

وما ذلك إلا لأن أحد طرفي العلاقة، وأعني به الله، ليس معلوماً لنا علماً مباشراً، لذلك ستظل هذه العلاقة سؤالاً خالداً على لسان كل إنسان.

أما فلاسفة الاسلام - أمثال الفارابي وابن سينا - المتأثرين بالفكر اليوناني فقد استغنوا عن فكرة الخلق الدينية هذه، واستبدلوها بفكرة الفيض أو الصدور التي استفادوها من الافلاطونية المحدثة أو الجديدة.

وفكرة الفيض هذه أخذتها الافلاطونية المحدثة عن المذاهب الغنوصية. ويعتبر ابن سيناس أكثر فلاسفة الاسلام تمثيلاً لفكرة الفيض وقد لجأ إلى هذه الفكرة ليفسر بها حصول الكثرة عن الواحد، أو العالم عن الله، وفي اعتقاده أنها تحفظ على الله وحدانيته المطلقة، تلك الوحدانية التي كان يحرص عليها الى أقصى حد، فهو يعتبر أن القضية القائلة «بأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد «قضية بديهية ومحال أن يصدر الكثير عن الواحد، لأن هذه تنافي وحدانية الله المطلقة.

وتتلخص نظرية الفيض في أن الواحد أو الأول ليس وجوداً وإنما هو مبدأ للوجود، يفيض عنه الوجود لأنه كامل من جميع جهاته، وهذا الكمال يقتضي الجود بالوجود. ولما كان المبدأ الأول واحداً، كان لا بد أن يكون المعلول الأول له واحداً، لأن الواحد من كل وجه لا يصدر عنه إلا واحد، وهذا المعلول الأول يفيض عن المبدأ الأول أو الواحد بضرب من التأمل والتعقل. ولذلك كان أول ما يفيض عن الأول عقل، وهذا العقل إذ يتأمل المبدأ الأول ويعقله تفيض عنه نفس كلية هي نفس العالم، وعن تلك النفس الكلية تفيض النفوس

ص: 142


1- الماتريدي، أبو منصور محمد بن محمود: كتاب التوحيد، حققه وقدم له فتح الله خليف، دار المشرق، بیروت، مسنة 1970، ص 49.

والحركات الجزئية في العالم، فالعالم لم يفض عن الله مباشرة وإنما فاض عن متوسطات بين الله والعالم كالعقل والنفس الكلية، ومعنى هذا أن فعل الله لا يمتد إلا إلى العقل الأول، أما باقي الموجودات، فليس من فعله، إنما من فعل المتوسطات (1).

هذا التصور السينوي لفكرة خلق العالم، وعلاقة الله به يجافي التصور الديني لها، ويعارض فكرة الخلق من العدم، تلك التي أكدتها الأديان السماوية، والتي تضمر في حد ذاتها تصوراً فلسفياً عميقاً يرتفع بالألوهية وأفعالها الى مرتبتها الحقة، بعيداً عن الرؤية اليونانية الوثنية لها، فخصتها بالقدم، وجعلتها مصدر الخلق المباشر لجميع أجزاء العالم، دون متوسطات تشارك الله في الخلق والابداع، وتحد من قدرته.

وفكرة الخلق هذه، هي التي مثلها الامام علي (علیه السلام) وبنى على أساسها تصوره لبداية الكون، فكان بذلك منسجماً مع جوهر الأديان السماوية جميعها، فكيف تناول هذه الفكرة؟

يقول (علیه السلام): ان العالم مخلوق محدث ابتدعته قوة أزلية أبدية قديمة من العدم، فصار دليلاً عليه: الحمد لله الدال على وجوده بخلقه وبمحدث خلقه على أزليته (2).

فالله سبحانه مبدأ كل كائن، وأصل جميع الموجودات الممكنة السماوية منها والأرضية. وهو الفاعل المطلق بالابداع والاختراع من غير أن يحتاج في ذلك الى روية أو شريك أو حركة أو آلة، أو تجربة: (المنشىء أصناف الأشياء بلا روية فكر آل اليها، ولا قريحة غريزة أضمر عليها، ولا تجربة أفادها من حوادث الدهور ولا شريك أعانه على ابتداع عجائب الأمور (3). فهو القادر لذاته ولم يحتج الى وساطات تتولى الخلق عنه كما جاء في عملية الفيض بل خلق الخلائق بقدرته (4). وأحاطها بعلمه، بقوله: «لمن أراد كونه: كن فيكون (5). ثم أوجدها في أوقاتها المحددة لها، إذ لا مانع في حكم العقل، ان تتعلق الارادة الأزلية بإيجاد الحوادث في أوقاتها الخاصة ما دامت على ما هي عليه قبل الحادث وبعده. وهذا يعني أن العالم لم يخلق دفعة واحدة بل على التدريج والتطور، وان كل شيء فيه يستند في وجوده، استمراره الى إرادته تعالى مباشرة. أما الطبيعة التي أسند اليها الماديون الخلق فهي عامل مساعد على نمو الشيء دون خلقه، لأن الخلق فعل الله وحده يختص به دون سائر خلقه. يقول أحمد أمين العراقي: «ولقد برهن العلم الحديث، على أن البيئة لیست بخلاقة للحياة، وإنما هي عامل مساعد للنمو واستمرار الحياة. فقد أثبت.

ص: 143


1- مجلة عالم الفكر، م 3، ع 4، سنة 1973، ص 61.
2- أنظر (ح) ج 9، ص 147.
3- نفسه، ج 6، ص 416.
4- نفسه، ج 10، ص 113.
5- نفسه، ج 13، ص 82.

ردي Redi سنة 1688م، بعد إجراء تجارب عدة عميقة، أن الديدان التي تتولد في اللحوم العفنة، إنما تتولد من بويضات الذباب الموجودة في اللحوم ولولا هذه البويضات لما وجد كائن حي (1). وبعد أن يذكر ما صرح به علماء الطبيعة في هذا الأمر يقول: «فعلم من كل ذلك، أن ليس للبيئة أن تخلق كائناً حياً. وان الحيوية شيء قد جاء من الخارج، وليس بأمر مادي بحت، وان الله تبارك وتعالى هو الذي خلق الكائنات الحية وأعطاها نفساً وروحاً بقدرته، ولا يمكن إدخال النفس والروح في المعادلات الكيمائية أو التحليلات الرياضية» (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (الاسراء / 85) (2)

ثم جاء(باستير) وبرهن بصورة قطعية، أن لا تولد ولا توالد إلا من كائنات حية، وليس للمادة الجامدة أن تخلق شيئاً حياً، فقضى بذلك على نظرية التولد الذاتي قضاء مبرماً. يقول: ول ديوارنت»: «لقد قلل باستير من أهمية الاعتقاد بتوليد الحياة من المادة غير الحية، وبعد نظرية استمرت مئة سنة ومئات التجارب، فشل الماديون في حل مشكلة أصل الحياة (3).

ولو افترضنا صحة نظريات التطور العضوي للكائنات، كنظرية (الصفات المكتسبة) للعالم الفرنسي(لامارك). ونظرية (الانتخاب الطبيعي) لداروين لاصطدمنا بسؤال يلح علينا بالجواب، وهو ما هي تلك القوة التي تقف وراء كل ذلك وتحركه في دقة مذهلة وقدرة جبارة نحو هدف معين؟

يقول يوسف عز الدين عيسى في مقالة له عن التطور العضوي للكائنات الحية: فالخطأ الرئيسي الذي وقع فيه جميع هؤلاء العلماء في نظري هو أنهم تجاهلوا وجود خالق

مبدع جبار، هو الذي خلق هذا الكون وأبدعه بقدرة الهية مذهلة تعجز عن إدراك كنهها عقولنا البشرية مهما كان مبلغ ذكائنا وقدرتنا على التفكير (4). ثم يقول: «وفي اعتقادي ان العلماء قد اجتازوا عصراً يمكن أن نسميه عصر (الغرور العلمي) وهم سائرون الآن نحو الاعتقاد بوجود خالق هذا الكون ومبدعه (5)

وهكذا، فالقول يلزمنا بأن لهذا الكون اله وكل ما فيه يشهد بوجوده وعظمته. وهو3.

ص: 144


1- أمين أحمد: التكامل في الاسلام، ج 2، دار المعرفة بيروت، د. ت. ص 103 - 106.
2- نفسه، ج 2، ص 103 - 106.
3- ول ديورانت: قصة الفلسفة، ترجمة المشعشع، مؤسسة المعارف، بيروت، ط 1، سنة 1966، ص 556.
4- مجلة عالم الفكر، م 3، ع 4، سنة 1973، ص 101.
5- نفس المرجع، م 3، ع 4، ص 103.

من طبيعة تخالف طبيعة المادة الكثيفة ولا بد من أن يكون لطيفاً متناهياً في اللطف، أزلي ليس له بداية، عالم محيط بكل شيء ليس لقدرته حدود، ولا بد أن يكون هذا الكون من صنع يديه، وسبيلنا اليه ليست حواسنا، وإنما العنصر غير المادي فيها كالعقل والبصيرة والايمان.

وبعد أن أوجد الله سبحانه، هذه المخلوقات المتعددة والمختلفة في جواهرها ووظائفها، لام بين مختلفاتها، كما هو الحال بين النفس الروحانية والجسد المادي ثم أودع فيها طبائعها وألزمها أشخاصها، فكل شيء خاضع لعناية الله وتدبيره ولا مجال للتحدث عن وجوده بالصدفة، إذ لا خالق إلا الله القدير الحكيم الذي: «أحال الأشياء لأوقاتها، ولائَم بين مختلفاتها، وغرز غرائزها، وألزمها أشباحها، عالماً بها قبل ابتدائها، محيطاً بحدودها وانتهائها عارفاً بقرائنها وأحنائها (1). وذكر الامام (علیه السلام) أنه تعالى وجهها الى غاياتها المعينة لها، ولولا عناية الله وتدبيره لاضطربت وتخلخلت «قدر ما خلق فاحكم تقديره، ودبره فالطف تدبيره، ووجهه لوجهته، فلم يتعد حدود منزلته ولم يقصر دون الانتهاء الى غايته، ولم يستصعب إذ أمر بالمضي على إرادته، فكيف وإنما صدرت الأمور عن مشيئته (2). فكل ما في الوجود صادر عن الله تعالى، فهو العلة الأولى والأخيرة لوجودها وزوالها، وقد خلقها الله على أتم وجه وأحسن تكوين بكلمة «كن» فانقادت له وخضعت لمشيئته واستجابت لارادته فتم خلقه بأمره وأذعن لطاعته، فأجاب ولم يدافع وانقاد ولم ينازع (3)

وإذا كان الله عزّ وجل هو مبدع الخلق ومنشئه بقدرته ومشيئته، فكيف أحدث هذا الخلق وكيف دبره؟ هل أحدثه دفعة واحدة، أم على فترات؟ وهل تركه لشأنه أم دبره فأحكم تدبيره؟

لقد ثبت أن وجود العالم جملة إنما ينسب الى الله تعالى، إلا أن هذا الوجود لم يتم دفعة واحدة قياساً على أنفسنا، وإنما أحال الله الأشياء لأوقاتها وأجالها على سبيل التدرج والتطور، مع علمه بوجودها قبل ابتدائها كما ذكر (علیه السلام).

وإذا اقتضت مصلحة العباد وجود شيء في وقت معين أوجده سبحانه فيه لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه، كما قال عزّ وجل (إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)

(يونس / 49). فخلق الموجودات كان دفعة واحدة بالنسبة لله تعالى، فلا يتقدم شيء على شيء آخر في الخلق بل في الوجود و بحسب ما تقتضيه المصلحة. وهذا ما أثبتته المعتزلة التي قالت بلسان الخياط: إن اصلاح الخلق ونفعهم معلق بأوقات تكون فيها، وكما ... (الله) عز وجل فعلم أن إرسال الرسل وإرسال كل نبي في الوقت الذي أرسله فيه صلاح للخلق 1.

ص: 145


1- أنظر (ح)، ج 1، ص 78.
2- نفسه، ج 6، ص 416.
3- نفسه، ج 9، ص 181.

فأرسله في (ذاك) الوقت الذي علمه دون غيره من الأوقات. وكذلك ما أمر به من الشرائع. وإنما علم أن الأمر به صلاح في وقت كذا دون وقت كذا. الا ترى أنه أمر موسى (علیه السلام)، بشرائح ثم نسخها على لسان عيسى وأمر بغيرها، ثم نسخ أيضاً شريعة عيسى (علیه السلام)، على لسان محمد وأمر بغيرها، ففعل من ذلك في كل وقت وزمان ما يعلم أنه صلاح الخلقه ونفع لعباده سبحانه وتعالى) (1).

ولما كانت طبائع الموجودات مختلفة وغير متجانسة ومكونة. من عناصر متضادة الكيفيات فإن قدرة الله وحكمته مزجت بينها، رغم تضادها، ثم أثبت فيها قوى وغرائز لا تفارقها، ولقد أثبت المعتزلة ذلك حيث قال الخياط بلسان النظام: (إن إبراهيم كان يزعم أن الله قهر الأشياء المتضادات على الاجتماع الذي ليس في جوهرها إذا خليت وما هي عليه. فأما إذا منعت مما هي عليه من المنافرة وقهرت على الاجتماع، فإن من جوهرها وشأنها الاجتماع عند القهر لها. وكما أن من جوهرها وشأنها المنافرة عند تخليتها وما هي عليه (2).

هذا يعني أن الله لم يخلق الخلق عبثاً، وإنما حكمته اقتضت تدبيره وتنظيم أموره لغرض وحكمة وفائدة ومصلحة ترجع الى المكلفين ونفع يصل اليهم ثم احكم تدبيره وتنظيمه وفق المشيئة الالهية، بحيث لو زاد على ذلك المقدار أو نقص عنه، لاختلت مصلحته وتغيرت منفعته واضطريت أموره، ثم وجهه الى غايته ويسّره لما خلق له. فلم يتجاوز ما رسم له ولم يستصعب المضي على إرادته تعالى.

وزعمت الفرقة الثانية من المعتزلة: أن معنى القول في الله سبحانه و أنه خالق،. أنه فعل لا بآلة، ولا بقوة مخترعة، فمن فعل لا بآلة ولا بقوة مخترعة فهو خالق لفعله، ومن فعل بقوة مخترعة فليس بخالق لفعله (3). كما يعتقدون بأن الله و لم يخلق الخلق سدى، ولم يتبرك الصور هملاً، ولم يدع شيئاً غفلاً غير مرسوم، ونثراً غير منظوم، وسدى غير محفوظ، وأنه لا يخطئه من عجيب تقديره، ولا يعطله من جل تدبيره، ولا من زينة الحكم وجلال قدرة البرهان (4). أما عن كيفية صدور المخلوقات عن الله، فيقول «النظام»: إن الله تعالى خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن: معادن ونباتاً وحيواناً وإنساناً، ولم يتقدم خلق آدم عليه السلام خلق أولاده، غير أن الله تعالى كمن بعضها في بعض فالتقدم والتأخر إنما يقع في ظهورها من مكامنها دون حدوثها ووجودها (5). هذا.

ص: 146


1- الانتصار، ص 26 - 27.
2- فسه، ص 41.
3- مقالات الاسلاميين، ج 2، ص 248.
4- الحيوان، ج 2، ص 275.
5- الملل والنحيل، ج 1، ص 56، ينكر الخياط في الانتصار هذا الكلام ويقول: هذا كلب على ابراهيم ص 44.

الكلام يتفق مع ما تكلم به الامام (علیه السلام) من حيث أن الخلق تم دفعة واحدة وأن المخلوقات ظهرت الى الوجود بحسب ما تقتضيه مصلحة العباد.

4 - الماء أصل الأشياء

الماء هو الأصل الأول الذي استهلت به الفلسفة اليونانية فجر حياتها، وذلك عندما

أعلن «طاليس» الملطي أن الماء هو الأصل الأول الذي صدر عنه الكون.

إلا أن طاليس وغيره من الفلاسفة الطبيعيين الأولين، يعدلون بالمرة عن تفسير العالم بالرواية عن الالهة وبتأليه القوى الطبيعية، وينظرون الى الموجودات نظرة واقعية، ويحاولون الاستقراء والبرهنة وتفسير الموجودات بفاعلية بعضها من بعض، وهذه خطوة كبرى وضعت أسس العلم بالمعنى الذي نفهمه. كما أنهم يعتقدون بوحدة الوجود، أي بمادة ثابتة غير حادثة ولا مندثرة، ويتصورون هذه المادة حاصلة على قوة حيوية باطنة، وان لم تظهر دائماً تدفعها الى التطور على نحو آلي، أي بمجرد اجتماع أجزائها وافتراقها أو تخلخلها وتكاثفها دون علة فاعلية متمايزة، فدعوا «هيلو زويست» أي أصحاب المادة الحية تتكون منها الموجودات وتنحل اليها، ثم الى غير نهاية (1).

هذا التصور اليوناني لفكرة أصل العالم التي تؤكد على تلقائية الخلق ومن دون قوة خالقة مدبرة، رفضه الاسلام ودعا الى إثبات قوة إلهية خارقة، ابتدعت هذا الأصل من العدم وأوجدت منه هذا الكون، وهذا ما أثبته الامام (علیه السلام) بقوله: «وكان من اقتدار جبروته وبديع لطائف صنعته، أن جعل من ماء البحر الزاخر المتراكم المتقاصف، يبساً جامداً، ثم فطر منه أطباقاً ففتقها سبع سموات بعد ارتتاقها فاستمسكت بأمره، وقامت على حده يحملها الأخضر المتعجر والقمقام المُسَخَّر (2).

وعندما سئل أبو جعفر (علیه السلام) عن أول ما خلق الله عزّ وجل من خلقه: ... أول

شيء خلقه من خلقه الشيء الذي جميع الأشياء منه، وهو الماء فقال السائل: فالشيء أخلقه من شيء أو من لا شيء؟ فقال: خلق الشيء من لا شيء كان قبله ولو خلق الشيء من شيء - إذا لم يكن له انقطاع أبداً، ولم يزل الله إذا ومعه شيء ولكن كان الله ولا شيء معه، خلق الشيء الذي جميع الأشياء منه وهو الماء (3). وقد أثبتت المعتزلة هذا الأصل، فقالت

ص: 147


1- مدركور ابراهيم، وكرم يوسف: دروس في تاريخ الفلسفة، المطبعة الاميركية القاهرة سنة 1944، ص 4.
2- أنظر (ح)، ج 11، ص 51.
3- توحيد الصدوق، ص 66 - 67.

بلسان الجاحظ: (وقال الله عزّ وجل والله خلق كل دابة من ماء. فيقال إنه ليس شيء إلا وفيه ماء، أو قد أصابه ماء - أو خلق من ماء (1).

هذه المادة المحدثة التي أوجدها الله من العدم، كانت الأصل الأول الذي منه خلقت

جميع موجودات الكون بقدرة الله وإرادته.

أ - خلق الأجواء:

إن هذا الماء الذي تكونت منه الموجودات بقدرة الله وإرادته، أوجده الله سبحانه في الجو محمولاً على ربح كثيفة وقوية. ثم أعطى لهذه الأخيرة قوة عظيمة تستطيع معها أن تشد الماء اليها وتمسكه. ثم خلق سبحانه ريحاً ثانية سلطها على الماء فحركته تحريكاً قوياً حتى ارتفع وتراكم بعضه فوق بعض وتحول بخار كثيف، رفعه الله في الفضاء، وخلق منه السموات السبع. يقول مغنية: (إن ذكر السبع لا يفيد الحصر بها، وإنما خصها الوحي بالذكر لأن الذين خوطبوا بالقرآن آنذاك كانوا يسمعون عن الأفلاك السبعة وكواكبها دون غيرها (2).

هذه السموات تزخر بالأجرام، وقد اقتضت حكمة الباري أن تضعها مواضعها من الفضاء، بعضها ثابت وبعضها في حركة دائمة حول نفسها أو حول غيرها من الكواكب من دون أن ترتكز على أي شيء، يشد بعضها بعضاً، نظام ثابت أودعه الله فيها بموجبه تتحرك أو تسكن، وجعلها الله زينة للسموات وبهجة للناظرين وأسباباً للمنافع الكثيرة، وقد تمكن علماء الفلك من اكتشاف الكثير من المجرات الفلكية وما زالت الأبحاث الفضائية مستمرة للكشف عن المزيد منها.

وكانت السموات أول ما خلقت غير منتظمة الأجزاء، فنظمها سبحانه تنظيماً محكماً ووصل بين أجزائها وجعلها جسماً متصلاً وسطحاً أملس لا نتوءات فيه ولا صدوع. ثم جعل بين كواكبها تجاذباً وتماسكاً على ما بينها من البعد، ثم ذللها للهابطين بأمره والصاعدين بأعمال خلقه من الملائكة. يقول محمد عبده كانت السموات هباء مائراً أشبه بالدخان، منظراً وبالبخار مادة، فتجلى من الله فيها سر التكوين فالتحمت عرى أشراجها (3) ثم فتقها الله، بعد أن كانت جسماً واحداً بسيطاً، وفصلها الى أجرام بينها فرج وأبواب وأفرغ ما بينها بعدما كانت صوامت، أي لا فراغ فيها كما قال تعالى (أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا) (الأنبياء / 30)

ولقد أنكر ابن سينا خرق السموات، فقال في الشفاء: «وأما نحن فقد فرغنا من إبانة

ص: 148


1- الجاحظ، الحيوان، تحقيق فوزي عطوي، دار صعب، بیروت، ط 2، 1978 م ج 5، ص 37.
2- أنظر (ح) ج 1، ص 36.
3- أنظر (م) ج 1، ص 166 - 167.

امتناع انخراق الجسم السماوي (1). وهذا نوع من التعنت والمكابرة على القرآن الكريم الذي صرح بذلك. يقول ابن أبي الحديد: (والقرآن العظيم أولى بالاتباع من كلام الفلاسفة الذين أحالوا الخرق على الفلك» (2).

ثم أقام سبحانه رصداً من الشهب على طرقها، والرصد من الشهب في أصل تكوين الخلقة، وهو دليل على ما أثبته العلم الحديث من أن الشهب جعلت لتسد ما يحصل في بعض أجرام الكواكب من خروق. وإقامة الرصد من الشهب الثواقب أكده القرآن الكريم بقوله تعالى (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ۖ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا) (الجن / 8 - 9)، وإذا كان الفلاسفة قد أحالوا ذلك فإن القول باحراق الشهب للشياطين، أتباعاً لنص الكتاب، أولى من قول الفلاسفة الذين أحالوا الانقضاض على الكواكب (3) كما قال ابن أبي الحديد.

وإذا كان هناك من يوجد ليسمع، فهذا يدل على أن الكواكب مسكونة، فقد نقل عن الامام الصادق قوله: (من وراء شمسكم هذه أربعون شمساً، فيها خلق كثير، ومن وراء قمركم هذا أربعون قمراً فيه خلق كثيرون لا يدرون أن الله خلق آدم أم لم يخلقه (4).

وبعد أن خلق الله السموات أمسكها بقدرته من أن تضطرب في الهواء، وأمرها أن تلزم مراكزها ولا تفارق مداراتها، وذلك لتأدية الأغراض المنوطة بها، ولولا ذلك لاضطربت ومادت. ثم رتبها سبحانه في أماكنها وفق الحكمة والهندسة الكونية لتؤدي الغرض الذي أراده الله منها، فكانت وفق ما أراده منها، ولو لم تكن كذلك لما جعلها سبحانه موضعاً لعرشه ومسكناً لملائكته، يصعدون منها بالعمل الصالح وهذا يدل على أن الله خلقاً يسجلون أفعال العباد وأقوالهم ويصعدون بها الى السماء كما قال تعالى: (وَإِنْ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ، يَعْمَلُونَ مَا تَفْعَلُونَ) (الانفطار / 12).

وللكواكب أثرها في عالم الكون والفساد، وهذا الأثر يتوقف على الكليات دون

الجزئيات نحو أن تقضي حراً أو برداً أو تدل على قحط عام، ونحو ذلك من الأمور التي

تخص انساناً بعينه (5).2.

ص: 149


1- ابن سينا: الشفاء (قسم الطبيعيات(تحقيق محمود قاسم، دار الكتاب العربي، بيروت، د. ت. ص 46.
2- انظر (ح) ج 6، ص 421.
3- نفسه، ج 6، ص 421.
4- أنظر (ح) ج 2، ص 20.
5- أخذت هذه المعلومات حول خلق الأجواء مما تضمنه «النهج» في هذا المجال. أنظر (ح). ج 1، ص 83. ج 6، ص 419. ج 10،ص 81 - 82.

ب - خلق الأرض:

تعددت نظريات علماء الطبيعة حول نشأة الأرض وتكونها وعمرها دون أن يتفقوا على نظرية واحدة تميط اللثام عن حقيقتها وأصلها، رغم أنهم قد تمكنوا من اكتشاف الكثير من القوانين المتحكمة بها، مما يدل على أن نتائج البحوث الطبيعية نسبية لأن منهجها يعتمد على مشاهدة الحواس لظواهر الكون. يقول اسماعيل مظهر: (كانت الأرض عند أول انفصالها من سديم الشمس، كتلة من المادة وفيرة الحرارة، مضت تبرد ببطء شديد حتى أخذت قوام الجماد، وقبل ذلك، أي عندما بدأت تأخذ القوام العجيني كانت كتلة من المادة المصهورة شديدة البياض، وبتناقص الحرارة تدرجاً، نزلت الى الحالة النارية أي أصبحت حرارتها حمراء اللون. أما الجزء الأثقل وزناً من هذه الكتلة، فانفصل عن الجزء الأخف، وتألف منه بطن الأرض، كما تألف من الجزء الخفيف قشرتها، ولسنا نعرف شيئا عن مركز كرة الأرض أي بطنها، ولكن الراجح أنه يتألف من معادن تارة ثقيلة، لا تزال في حالة الذوبان، أما القشرة، فتؤلف ذلك الأديم الذي نسميه «التربة» أو «الثرى» فوق الأرض أيضاً، ذلك الماء الذي نسميه البحار والبحيرات والأنهار، وفي الدور الذي كانت فيه الأرض كتلة منصهرة، غشاها غلاف كثيف من الماء بخاري القوام. فلما بردت، برد معها ذلك الغلاف البخاري واستحال ماء، كذلك تقلصت الأرض عندما أخذت تبرد تدرجاً فتجعد سطحها، كجلد تفاحة جفت وانغمرت، وفي الأغوار المنخفضة، تجمع الماء وانتهى الأمر بأن أصبحت الأرض كرة من يابس وماء. ولقد اقتضى التطور، حتى بعد أن بلغت الأرض هذا المبلغ من التنشؤ أزماناً متطاولة، بل موغلة في التطاول، قبل أن يظهر على سطحها شيء من الكائنات الحية، وفي الماء أخذت الحياة تتأصل (1).

هذه الصورة عن نشوء الأرض وتكونها، تثبت بما لا يدع مجالاً للشك، من أن ما تضمنته من أفكار، إنما تستند في أساسها على الظن والتخمين وان كان للعلم دور بارز في صياغتها وتحديدها. وهذا الشيء نفسه نراه فيما يتعلق بعمر الأرض حيث لجأ علماء الطبيعة الى طرق عديدة لتقدير عمر الأرض، وذلك إما بواسطة تقدير عمر الصخور الأولى التي تكونت على سطحها، أو ما ظهر من أنواع الحيوانات العائدة الى المئات من ملايين السنين وكانت النتائج مختلفة باختلاف الادراك العقلي لها. يقول: «دي نوي»: «استناداً الى أحدث المصادر وأوثقها يظهر أن حدوث الأرض معاصر تقريباً لحدوث الشمس وسائر نظامنا الفلكي، فيكون عمر كرتنا نحواً من ألفي مليون سنة، ولا يمكن في حال من الأحوال أن يرقى الى ما قبل ذلك (2). في حين أكد البعض أن عمر الأرض يتجاوز هذا الرقم بكثير

ص: 150


1- داروين، أصل الأنواع، عن مقدمة المترجم، ص 36 - 37.
2- دي نوي، لكونت، مصير الانسان، ترجمة خليل الجر، المطبعة البولسية، جونية 1967، ص 93.

استناداً الى دراسة الصخور المحتوية على مواد ذات اشعاعات ذرية مثل الراديوم واليورانيوم وأمكن بهذه الوسيلة التوصل الى أن عمر الأرض يبلغ حوالي 4600 مليون سنة (1).

وهكذا يظهر بوضوح التناقض والاضطراب في النظريات التي توصل اليها علماء الفلك والطبيعة بشأن الأرض، وما ذلك إلا لأنها تدق عن فهم العقل الانساني لها، إذ لا يعرف حقيقتها إلا الذي خلقها وكونها.

ومهما يكن من أمر - فإن الامام علي (علیه السلام) يؤكد على أن الله سبحانه، هو الذي أنشأ الأرض وكونها، ولم يستعن على خلقها بأحد من خلقه لأنه قادر بذاته فلا يعجزه شيء. ثم أمسكها بقدرته محتفظة بحجمها وبعدها عن سائر الكواكب وجعلها راسية على غير قرار تتمكن عليه، وجعل لها قوانين ثابتة ودائمة تعمل فيها عملها ومنها قانون الجاذبية الذي ثبت الأرض في فلكها، وبه تدور حول الشمس وحول نفسها، بحركات وأبعاد ثابتة لو انحرفت عنها أكثر أو أقل مما ينبغي لهلك الناس وانعدمت الحياة. وعلى ذلك «فإن الأرض بحجمها وبعدها الحاليين عن الشمس وسرعتها في مدارها تهيء للانسان أسباب الحياة والاستمتاع بها في صورها المادية والفكرية والروحية، على النحو الذي نشاهده اليوم في حياتنا (2). هذا النظام الصارم والدقيق الذي يسير بمقتضاه الكون، يثبت بأن الحياة نشأت بحكمة وتصميم سابقين ويدحض جميع النظريات والتفسيرات التي اعتمدها العلماء في تعليل وتفسير نشأة الأرض وتكونها كنظريات المصادفة العشوائية، أو المادة الطبيعية العمياء، أو قوة سرمدية متحدة مع الطبيعة، (وحدة الوجود) ... ويؤكد على أن الكون، هو من فعل مدبر حكيم قادر على كل شيء فلا تتحرك ذرة في السموات والأرض، إلا والله هو محركها، وفي حركتها حكمة ومنفعة للعباد، وهو عالم بظاهرها وباطنها، ومدبر لها من حيث شق الأودية فيها وتفجير الينابيع من بطونها ونشر الجبال عليها حتى لا تميد بأهلها كما قال تعالى (وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) (النحل / (15). وهذا يخالف قول الحكماء والفلاسفة، لأن سكون الأرض عندهم لم يكن كذلك، بل لأنها تطلب المركز وهي حاصلة في حيزها الطبيعي، لكن القرآن أولى وأكد من قولهم ونحن نعتقده ديناً ومذهباً للنظريات التي توصلوا اليها.

وبلغ من لطفه تعالى بعباده أن ملأ الأرض والسماء بالهواء وجعله متنفساً لهم، وأنشأ الطرق والممرات والنجوم والأفلاك لتسهيل معايشهم وصلاح أحوالهم، ورحمة بهم و تفضیل عليهم (3) 8.

ص: 151


1- مجلة عالم الفكر، م 3، ع 4، سنة 1973، ص 78.
2- الله يتجلى في عصر العلم، مجموعة من العلماء الأميركيين، ترجمة الدمرداش عبد المجيد سرحان، مؤسسة الحلبي، القاهرة، ط3، سنة 1968، ص 9.
3- انظر (ح) ج 6، ص 437 - 438.

وقد اعتقدت المعتزلة بخلق الله للأرض وما عليها وثباتها في حركتها وقيامها على غير عمد كما قال «العلاف» «إن الله سبحانه سكنها، وسكن العالم وجعلها واقفة لا على شيء» (1).

ج - خلق الكائنات الحية:

وكما تكلم العلماء عن الكون وحقيقته وأصله واختلفوا في وضع النظريات التي تفسر ذلك، كذلك تكلموا عن الانسان وأصله وكنهه، ووضعوا في سبيل الكشف عن حقيقته الكتب والاسفار، ومع ذلك فإن ما توصلوا اليه من آراء وأفكار ما زال في مرحلة بدائية كما قال «الكسيس كاريل» « ... فمن الواضح أن جميع ما حققه العلماء من تقدم فيما يتعلق بدراسة الانسان ما زال غير كاف. وان معرفتنا بأنفسنا ما زالت بدائية في الغالب (2). ويعلل «كاريل» هذا القصور، بكون العالم الخارجي قد استحوذ على تفكير الكائن البشري واهتماماته لقهره وتأمين حياته. مما أدى الى نسيان العالم العضوي والروحي نسياناً تاماً، هذا بالاضافة إلى أن العقل الانساني، كما يقول برغسون، يتصف بعجز طبيعي عن فهم الحياة. فإذا كان العقل عاجزاً عن فهم طبيعة الكيان البشري، فأولى به أن يكون أكثر عجزاً عن فهم أصله وحقيقته لأنها أمور موغلة في القدم، ولا يمكن التأكد منها بالنقل أو الرواية أو التجربة، أو حتى الحفريات لأنه ليس هناك من يدعي أنه عثر على رفات آدم وحطامه.

إذن لا سبيل على الاطلاق الى معرفة أصل الانسان الأول وخلقه إلا الوحي من الخالق المدبر.

متى؟ وأين؟ وكيف بدأت الحياة؟

ما أصل الحياة؟ ومتى وأين نشأت؟ وكيف بدأت؟ أسئلة وردت على أذهان الباحثين في كل عصر وجيل، فملكت عليهم عقولهم وضعوا فيها المصنفات العديدة.

لقد اتجه العلماء في أبحاثهم وجهة جديدة بعد أن نبذوا الفلسفة القديمة وفلسفة أرسطو بشكل خاص، تلك الفلسفة التي ظلت القرون الطوال صاحبة الحكم المطلق على سلطان العقل - فنتج عن القول بقدم العالم، إنكار العلة الأولى المدبرة للوجود، وما نظرية «التولد الذاتي»، التي ظهرت في أواسط القرن التاسع عشر، بزعامة باستيان، في انكلترا، و هيجل في ألمانيا ليست سوى امتداد للفلسفة الأولى بزعامة أرسطو، ومهما قيل عن مدى

ص: 152


1- مقالات الاسلاميين، ج 2، ص 326.
2- كاريل، الكسيس، الانسان ذلك المجهول، تعريب شفيق أسعد فريد، دار المعارف بيروت د. ت. ص 19.

صحة هذه النظرية، فإنه لا يترتب عليها إنكار العلة الأولى الخالقة للكون. يقول اسماعيل مظهر «ولا نقطع بأن التولد الذاتي، قد يظل طوال الدهور رأياً غير مثبت إذ من الجائز أن يكون رأياً صحيحاً تغيب عنا في الزمان الحاضر مهيئات إثباته، ولكن ما يحق لنا القطع به هو أن اثبات التولد الذاتي أو نفيه، لا يترتب عليه مطلقاً القول بإنكار علة أولى لأننا لو فرضنا أن الحياة قد نشأت من اختلاط بعض العناصر الأولية مقرونة بمهيئات آخر، فذلك لا يستوجب نفي تلك القوة المدبرة التي استطاعت بواسطتها تلك العناصر من الدور في سلسلة من التغيرات والتطورات، حتى بلغت حداً عنده، انبثت فيها الحياة. تلك السلسلة الدورية التي لا يمكن إيضاحها بأية طريقة كيموية أو آلية ... (1).

لقد ظلت هذه الفكرة سائدة حتى جاء وليم طمسن وأعلن بأن الحياة هبطت الى الأرض من السماء، حملتها النيازك والشهب، ومن ثم تكاثرت منها (2). وما أعلنه طمسن لا يقطع بمعرفة الحياة وأصلها ولا يفيدنا سوى الاستمرار في الجهل والغموض.

وينحصر الرأي في أصل الحياة في أيامنا المعاصرة في ثلاثة آراء كبرى:

- التولد الذاتي، وقد مر ذكره.

- ما وضعه أغاسيز في كتابه تصنيف العضويات سنة 1858 إذ قال بأن كل نوع من الأنواع خلق بفعل خاص من أفعال القوة الخالقة، وكان العلامة «باستور» مستكشف جراثيم الأمراض على ذلك الرأي، وقرر رأيهم على أن كل حي لا بد من أن يتولد من حي مثله.

- ما وضعه «هیرمان ابرهارد ریختر»، فقال: بأن الفراغ الذي نراه مملوءاً بجراثيم الصور الحية، كالجواهر الفردة التي تتكون منها المادة الصماء، كلاهما في تجدد مستمر، ولا يتولاهما العدم، وبنى قاعدته في أصل الحياة على أن كل حي أبدي لا يتولد إلا من خلية (3).

ومهما قيل عن مدى صوابية هذه النظريات، فإنها ستبقى ناقصة ومبتورة إذا لم تستند في أبحاثها الى الله عزّ وجل، علة العلل ومنبع الوجود.

أما المستند الذي اعتمد عليه علماء الفلك والجيولوجيا لتحديد عمر الحياة على الأرض فهو دراستهم للكائنات المطبوعة في الصخور، أو الكشف عن صورها في الحفريات. لقد خلفت الأحياء آثاراً في صورة أجزاء من نبات وأصداف وحشرات، وأسماك وعظام وطبعات 1.

ص: 153


1- أصل الأنواع: مقدمة المترجم، ص 28.
2- أصل الأنواع، ص 27.
3- نفسه، ص 31.

"

أقدام، وجدها العلماء مطمورة في الكهوف، ومجاري الأنهار وباطن الأرض وأمكن بالكشف عنها الوصول الى تقدير نشأة الحياة على الأرض بنحو ألف مليون سنة، وأما الانسان فلم يوجد على الأرض إلا منذ نحو مليون سنة (1). وقد قرر بوشر، بدء الخلق وحدوده بسنة 4004 ق. م. وعقب عليه دكتور «لا يتفوت» فحدد يوم الخلق وساعته، فقال بأنه اليوم الثالث عشر من أكتوبر عند الساعة التاسعة من الصباح (2).

وهذا يعني أن الإنسان الأول قد تطور حتى وصل الى ما يشبه الانسان الحالي، ذلك لأن أوالي البشر كانوا أكثر شبهاً للقردة العليا التي منها انحدر الانسان الحديث كما يقول و «داروین».

ولم يطبق الأغارقة مذهب التطور على الأحياء، ولكنهم كانوا أكثر بياناً في تطبيقه على تطور الأشياء المادية. أما العرب فقد خطوا خطوة في هذا الأمر، فقال أخوان الصفاء «إن أول مرتبة النبات متصلة بآخر مرتبة الجواهر المعدنية وأن آخرها متصل بأول مرتبة الحيوان ... وأن آخر مرتبة الحيوان متصل بأول مرتبة الانسان، وآخر مرتبة الانسان متصل بأول مرتبة الملائكة الذين هم سكان الهواء والأفلاك وأطباق السموات (3). وقال بذلك أيضاً ابن حزم وابن مسكويه.

أما المكان الذي نشأ فيه الانسان، فإن تشارلز داروين رجح ومنذ مئة عام تقريباً ان يكون أسلاف البشر الأوائل قد نشأوا في افريقيا لوجود صلة قوية بين هؤلاء الأسلاف والقردة العليا، فيقول: ومن الطبيعي أن يدفعنا ذلك الى التساؤل عن مسقط رأس الانسان ... ففي كل اقليم من الأقاليم الكبرى في هذا العالم، ترتبط الثدييات الموجودة حالياً ارتباطاً وثيقاً بالأنواع المنقرضة في نفس الاقليم. ولذا فمن المحتمل أن افريقيا كانت مأهولة فيما مضى بأنواع من القردة العليا المنقرضة والتي لها صلة وثيقة بالغوريلا والشمبانزي، ولما كان هذان النوعان أشد الأنواع شبهاً بالانسان الآن، فإنه من الأرجح أن يكون أسلافنا الأوائل قد عاشوا على القارة الافريقية وليس في أي مكان آخر (4).

أما كيف بدأت الحياة على الأرض، فقد ذهب العلماء قديماً وحديثاً، في تفسير ذلك مذاهب شتى، ومع ذلك فإن ما وصلت اليه عقولهم لا يروي غلة الظمآن الى الحقيقة الأولى، ولا يكشف الاستار التي ضربت دونها. فذهب أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى الى أن مبدأ البشر هو آدم، الأب الأول عليه السلام. أما الفلاسفة فإنهم زعموا 7.

ص: 154


1- مجلة عالم الفكر، م 3، ع 4، سنة 1973، ص 107.
2- أصل الأنواع، مقدمة المترجم، ص 35.
3- البستاني، بطرس، رسائل أخوان الصفا، دار صادر، بيروت، د. ت. ج 2، ص 178.
4- مجلة عالم الفكر، م 3، ع 4، سنة 1973، ص 107.

أنه لا أول لنوع البشر ولا لغيرهم من الأنواع. أما الهنود فمنهم من كان على رأي الفلاسفة ومنهم من قال بغير ذلك وذهب الى أن الله تعالى خلق الأفلاك وخلق فيها طباعاً محركة لها بذاتها، فلما تحركت، اختلطت طبائع الأجسام الموجودة بداخلها بالحركة الفلكية - وكانت على طبيعة واحدة - واختلطت عناصرها وتكونت منها المركبات ومنها كون نوع البشر كما تتكون الديدان في الفاكهة واللحم والمواضع العفنة ثم تكون بعض البشر من بعض بالتوالد وصار ذلك قانوناً مستمراً. أما المجوس فوضعوا في تفسير ذلك أسطورة زادت المشكلة غموضاً وتعقيداً.

هذا في العصر القديم - أما العصر الحديث فقد زخر أيضاً بالنظريات التي تفسر النشأة الأولى ومنها:

- نظرية النشوء الذاتي أو التلقائي Spontaneous génération

وهي أقدم نظرية تفسر نشأة الحياة حيث تقول بأن الحياة نشأت بصورة تلقائية ومن مواد غير حية الى أن دحضتها الأبحاث التي قام بها كل من الطبيب الايطالي (ردى Redi) في القرن السابع عشر، والقسيس الايطالي (سبا الانزاني Spallanzani) في القرن الثامن عشر، ثم جاء باستير Pasteur) العالم البكتريولوجي الفرنسي الشهير، وأثبت خطأها بالتجربة.

- النظرية الكونية Casmazoic theory

وهي تقول بأن البذور أو الجراثيم Apores الأولى للحياة، وصلت الى كوكبنا بطريقة ما من مكان آخر من الكون. إلا أن هذه النظرية غير مقنعة لسببين:

الأول انها لا تفسر كيفية نشوء الحياة على الاطلاق، وإنما تغير منشأها من الأرض الى مكان بعيد غير محدد من الكون.

والثاني، ان الجفاف الشديد والبرد القارس، والاشعاع القوي الذي يتميز به الفضاء فيما بين الكواكب المختلفة، لا يسمح إطلاقاً لبذور الحياة، حتى الأنواع التي تستطيع مقاومة الظروف غير المناسبة - بأن تمر من كوكب إلى آخر.

- نظرية الخلق الخاص Special Création

وهي تذكر أن كل نوع من أنواع النبات أو الحيوان، خلقه الله تعالى مستقلاً ومحتوياً على نفس التركيبات التي نشاهدها فيه الآن، وهذا نفي لمبدأ التطور. لذا فقد رفضها معظم العلماء والفلاسفة في وقتنا الحاضر.

- نظرية التطور العضوي Organic Evolution

وهي تثبت أن كل نوع في المملكتين الحيوانية والنباتية، أتى إلى هذا الوجود من نوع آخر كان يعيش قبله بواسطة عملية تعرف بالتطور العضوي.

ورغم أن التطور، في وقتنا الحاضر، حقيقة يؤمن بها جميع العلماء والباحثين، إلا أن

ص: 155

أهميتها تكمن في مدى إيماننا بأن جميع العمليات التطورية، لم تحدث تلقائياً، بل بإرادة

الخالق عزّ وجل (1).

- النظرية الطبيعية:

وتقول بأنه منذ أكثر من بليون من السنين - أصبحت درجة الحرارة والرطوبة على سطح الأرض مناسبة للحياة، وبعد أن انطلق الأوكسجين نتيجة لتخمير بعض السكريات تكونت الطحالب وحيدة الخلية باستخدام الطاقة الشمسية، وأصبحت هذه الطحالب غذاء للحيوانات وحيدة الخلية، ثم تجمعت الخلايا في مجموعات ذات خلايا متشابهة، وتحولت بعد ذلك الى أنسجة ذات وظائف متعددة كما هو الحال في الحيوانات الراقية (2).

إن تفسير وتعليل نشأة الحياة على الأرض ما زالت موضع دراسة، وان كانت الأبحاث الحديثة في الكيمياء الحيوية Biochemistry، وعلم الخلية Cytologeg والفيروسات Viruses قد ألقت أضواء كثيرة على هذه المشكلة وفي اعتقادي أن العلماء والفلاسفة سوف لن يصلوا الى حل قاطع لهذه المسألة إذا ما استمروا في إغفال فكرة الخالق الأول مبدع الحياة وخالق الكون، علماً بأن بعض هذه النظريات قد اعترف بوجود قوة فوق القوى الطبيعية نشأت عنها الحياة دفعة واحدة أو على التدريج، إلا أنها متحدة مع الطبيعة. ونحن لو تأملنا مخلوقات الله، من أدناها إلى أرقاها، وتعمقنا في التأمل والنظر في هذا الخلق المتقن لما وسعنا الا الاعتراف بعجزنا وجهلنا، فلا يمكن أن نتصور بأي حال من الأحوال، أن جهازاً دقيقاً معقداً كالمخ، قد تكون من تلقاء نفسه نتيجة للصدفة العمياء، أو لبذور وصلت الى كوكبنا بطريقة ما ومن مكان لا نعرفه، أو بقوة طبيعية قادرة على إحداث التطور أو غير ذلك من النظريات التي شغل بها الفكر والخيال الانساني وما يزال دون أن يتوصل الى حل مقنع لهذه القضية.

لهذا فإن كثيراً من العلماء اضطروا عندما اصطدموا بالتسلسل المحال وتركوا التعنت والمكابرة الى العودة للأصول الأولى التي جاءت بها السماء، معترفين بعجزهم عن إدراك الحقيقة الأولى، رغم أنها بادية في كل أثر من آثار هذا الكون الرحب. فالتوازن الذي خلقه الله تعالى في سائر مظاهر هذا الكون، هو من النوع الدقيق، وأية محاولة لتعديل قوانين ا.

ص: 156


1- مجلة عالم الفكر، م 3، ع 4، 1973، مقال للدكتور علم الدين كمال بعنوان، تطور الكائنات الحية، ص 15 - 17.
2- مجلة عالم الفكر، مقال للدكتور يوسف عز الدين عيسى بعنوان: التطور العضوي للكائنات الحية، م 3، ع 4، 1973، ص 77. ملاحظة: لا يضع الكاتب هوامش تثبت المصادر والمراجع التي استقى منها هذه النظريات المختلفة ولا يذكر في نهاية المقال الا بعض أسماء الكتب والكتاب دون ذكر الطبعة أو الترجمة ... والتي لا تفيد في إسناد هذه النظريات. لذلك فقد نقلتها ملخصة دون الاشارة الى ما يثبتها.

الطبيعة تؤدي الى أضرار بالغة لذلك فلا يمكن لعاقل أو مفكر أن يتصور ويعتقد بأن المادة المجردة من العقل والحكمة، و التي أوجدت نفسها بنفسها بمحض الصدفة، هي التي أوجدت هذا النظام وتلك القوانين ثم فرضتها على نفسها. فالاعتراف بذلك معاندة للعقل ومكابرة على الله سبحانه. فلا بد والحالة كذلك من العودة الى الأصول الدينية الأولى لتفسير نشأ الحياة على الأرض حتى تكون أكثر اطمئناناً، وأقل اضطراباً. وهذا ما دفع أحد العلماء الى البوح به في عصرنا الحاضر بعد أن تجلى الله له في ميدان العلم فقال: «ولقد اقترب العلماء الآن كثيراً من التسليم بوجود خالق للكون سواء شعروا أو لم يشعروا (1). ولقد أدرك الامام علي (علیه السلام) هذا الأمر بفطرته وعقله، وذكر هذه الحقيقة القائلة، بأن الله عزّ وجل هو خالق هذا الكون وبارئ نسمة الحياة على الأرض. ذلك أنه بعد أن مهد أرضه خلق سبحانه وتعالى أدم من جسم وروح على التدريج لا دفعة واحدة. فخلق جسمه أولا من طينة الأرض المتنوعة وكان ذلك سبباً في اختلاف طباعه واحتوائه على المتناقضات كنزوعه الى الخير والشر مثلاً. ثم خلط سبحانه هذه الطينة وعجنها بالماء حتى صلبت، فكون منها صورة ذات أعضاء ومفاصل حتى إذا تماسكت وأصبحت جسماً واحداً، يابساً متيناً، أبقاه الله بلا روح الى أمد معين لأن حكمته تعالى قضت أن يكون لكل أجل كتاب، ثم نفخ فيه من روحه فتمثل إنسانا (2). هذا يعني أن حقيقة الانسان هي الجسم والروح معاً، وان مباديء الوجود ثلاثة: الله والروح والمادة. ومهما قيل عن حقيقة هذه الروح فإنها أمر خفي لا يدرك معناه إلا الله تعالى ﴿ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (الاسراء / 85) وقد يراد بها الحيوية والنشاط التي تبعث الحياة والحركة في الجماد.

وقد يتساءل البعض: لماذا لم يخلق الله آدم بكلمة كن؟ وما هي الحكمة في خلقه

من تراب؟

إن قدرة الله لا يعجزها شيء، وكان في مقدوره عز وجل أن يوجد الانسان بكلمة كن شأن جميع مخلوقاته، ولكن حكمته تعالى قضت ذلك حتى يعتبر الخلق بقدرة الله التي خلقت من المادة الصماء إنساناً عاقلاً يفعل الأعاجيب كما قال تعالى: (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا). (الكهف / 37)، وحتى يستدل على النشأة الثانية بالأولى كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ) (الحج / 5) وكما قال الامام (علیه السلام): (عجبت لمن أنكر النشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى (3). وكان في مقدوره تعالى أن يخلق آدم من نور يخطف الأبصار، 5.

ص: 157


1- مجلة عالم الفكر، م 3، ع 4، 1973، ص 102.
2- أنظر (ح) ج 1، ص 96.
3- أنظر (ح)، ج 18، ص 315.

ولكن حكمة الباري تعالى قضت بأن يكون من تراب الأرض حتى لا يتكبر ويتجبر محتجاً بأصله كما فعل إبليس، «ولكن الله سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون أصله تمييزاً بالاختبار لهم، ونفياً للاستكبار عنهم، وابعاداً للخيلاء منهم (1) كما قال (علیه السلام).

5 - مصير العالم

اختلف القول في عمر الدنيا، وفي تقدير ما ذهب وما بقي منه، فزعم بعضهم بأن عمرها خمسون ألف سنة، ذهب بعضها وبقي بعضها، واحتجوا على ذلك بقوله تعالى (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (المعراج / 4) وقال اليهود والنصارى بأن مدة الدنيا كلها سبعة آلاف سنة، وإلى هذا ذهب الاخباريون من المسلمين وقالوا بأننا في السابع. أما الفرس والمجوس فقد حددوا، عمرها باثني عشر ألف سنة، مضى منها حتى الهجرة النبوية أربعة آلاف وثمانمائة وثماني عشرة سنة، فيكون الباقي على قولهم أكثر من الماضي.

والحق انه لا يعلم أحد هذا الأمر الا الله تعالى وحده، كما قال سبحانه (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَىٰ رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا) (النازعات / 42 - 44) وقوله عزّ وجل: (لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ۚ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ۗ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ) (الأعراف / 187). ومع ذلك نقول كما ورد في الكتاب العزيز (إِقْتَرَبَتِ السَّاعَةِ) (القمر / (1). و (إقْتَرَبَ لِلنَّاسِ وحِسابُهُم) (الأنبياء / 1) و (أتَى أمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) (النحل / (1) دون أن نعلم ما مضى وما بقي. ولكنا نقول كما أمرنا، ونسمع ونطيع كما أدبنا، ومن الممكن أن يكون ما بقي قريباً عند الله وغير قريب عندنا كما قال سبحانه (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً) (المعارج / 6 - 7) والله أعلم (2). كما ذكر ابن أبي الحديد.

أما مصير هذه الدنيا، فهو خاضع لأمر الله تعالى فهو القادر على إفنائها بعد وجودها بحيث لا يبقى إلا وجهه الكريم كما قال سبحانه (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) (الأنبياء / 104). وكما ذكر الامام: هو المفني لها بعد وجودها حتى يصير موجودها كمفقودها (3). وهذا رد على الدهريين والماديين الذين زعموا أن المادة أزلية لا بداية لها ولا نهاية. وكيف ينكر هؤلاء وجود الخالق المميت، وهم يدركون عجزهم عن إيجاد بعوضة تافهة. لقد خلق الله هذه الدنيا 9.

ص: 158


1- نفسه، ج 13، ص 131.
2- انظر (ح)، ج 10، ص 195 - 196.
3- نفسه، ج 13، ص 89.

بقدرته واتقن كل ما فيها بحكمته ودبره بلطفه، ثم هو يفنيها كما بدأها لحكمة اقتضت ذلك ثم هو يعيد الخلق من جديد لكشف الحساب ونيل الجزاء. وبعد فناء الدنيا، يبقى الله وحده بقاءاً أزلياً كما كان قبل وجودها بلا زمان ولا مكان إذ كان ولم يكن معه شيء، ويبقى بعد فناء كل شيء، فلا شيء إلا الواحد القهار الذي اليه مصير جميع الأمور.

وإذا نحن تدبرنا فكرة الخلق عند المعتزلة، وجدنا بأنهم أجمعوا على القول بأن الله سبحانه لا شريك له في ملكه ... ولا معين له على إنشاء ما أنشأ وخلق ما خلق، لم يخلق الخلق على مثال سبق، وليس خلق شيء بأهون عليه من خلق شيء آخر ولا بأصعب عليه منه ... ولا يجوز عليه الفناء ولا يلحقه العجز أو النقص. (1)

ص: 159


1- مقالات الاسلاميين، ج 1، ص 216 - 217.

ص: 160

الباب الرابع

التربية

ص: 161

ص: 162

تمهید

كان الانسان وما يزال محور الدراسات الانسانية منذ أقدم العصور وحتى يومنا هذا، ولقد تواترت هذه الدراسات لتجلو عن هذا الجرم الصغير ما علق به من جهالات وضلالات، وما يكتنفه من غموض بسبب التعقيد الحاصل في مناحيه العقلية والنفسية والجسمية، فبرزت آراء متشابهة حيناً، متناقضة أحياناً وما ذلك إلا لصعوبة المادة التي هي موضوع البحث.

ورغم تقدم العلوم وتطور آلات البحث، ورغم النتائج الباهرة التي توصلت اليها العقول البشرية، فإن دراسة هذا الكائن ما زالت في المرحلة الوصفية يقول «الكسيس كاريل»: «وفي الحق لقد بذل الجنس البشري مجهوداً جباراً لكي يعرف نفسه، ولكن بالرغم من أننا نملك كنزاً من الملاحظات التي كدسها العلماء والفلاسفة والشعراء وكبار العلماء الروحانيين في جميع الأزمان، فإننا استطعنا أن نفهم جوانب معينة فقط أنفسنا ... اننا لا نفهم الانسان ككل ... اننا نعرفه على أنه مكون من أجزاء مختلفة، حتى هذه الأجزاء ابتدعتها وسائلنا. فكل واحد منا مكون من موكب من الأشباح تسير في وسطها حقيقة مجهولة (1).

إن هذا القصور في فهم الكائن البشري، كان سبباً في تضارب الآراء حوله وكانت له آثار سلبية على العقول، حيث اتجهت الى دراسة العالم الخارجي مما أدى الى تقدم علوم الجماد على حساب العلوم الانسانية، وكان الاختلال في التوازن الذي حصل بين المادة والروح الحساب المادة، وأصبح الانسان في خطر من أن يفقد انسانيته ويتحول الى كرة من المطاط تتلقى كل أنواع التأثير دون أن يكون، لها حق الاعتراض أو مجرد التساؤل من هذا المنطلق توصل البعض الى فكرة أن «الحضارة إنما تقوم في جوهرها على الانجازات العلمية والصناعية والفنية وانها تستطيع بلوغ أهدافها دون أخلاق، أو في القليل بأقل درجة منها، ولم يكلف نفسه مؤونة التفكير في صحة هذا الرأي (2).

ص: 163


1- الانسان ذلك المجهول. ص 17.
2- اشفيتسر، البرت: فلسفة الحضارة، ترجمة عبد الرحمن بدوي، مطبعة مصر، 1963، ص 38.

ورغم أن هذه الفكرة، قد مضى عليها حين من الدهر، فإننا ما زلنا نعيشها في يومنا هذا مع اختلاف في الظروف والمناسبات. إذ ما زال الجهل في طبيعتنا هو سيد الموقف، وسيبقى كذلك ما دامت الحضارة تتعامل معنا من زاوية مادية خالصة، وترفض هداية الدين وما يقضي به من عملقة الانسان في الزمان والتاريخ والمواهب والامكانات وعظمة المصير. لقد عطلت الحضارة الحديثة أثر الروح في سلوك البشر ودعت الى فصل الدين عن الدولة عن طريق ما يسمى «بالعلمانية»، هذا الخداع الفكري الذي ضلل وما زال عقول الكثيرين ممن استهوتهم المادة وخدعهم بريقها، دون أن يتبادر إلى أذهانهم بأن الدين والسياسة في صميم الحق تعبيران عن الحكومة العادلة، وأن أية محاولة للفصل بينهما، إنما هي مؤامرة على الدين لتفكيكه ومحو أثره في النفوس وزعزعة الثقة به.

إن هذا الاصطلاح يوحي وللوهلة الأولى، بصواب الدعوة، فالمجنون وحده هو الذي يرفض حياة تقوم على العقل والعلم. لكن هذه البدعة العصرية تحمل في ثناياها بذور فسادها، عندما تعتمد العقل وحده مصدراً للمعرفة وتستبعد سائر المصادر الأخرى، ومنها الوحي، وتستند في الحكم على الخبرة البشرية وحدها وتستبعد الدين، بل وتصوره في الجهة المقابلة لها وكأنه النقيض المباشر لهذه الدعوة العلمية المنطقية!!!

إن الانحرافات التي تمارسها العلمانية باسم العلم، ما هي إلا محاولة للقضاء على أهم وازع خلقي عرفته البشرية ألا وهو الدين. وإن جريمة حصره في الجوامع والكنائس، ومنعه من أن يكون العامل المؤثر في مسالك البشر وتصرفاتهم، إنما هي دعوة الى تحجيم دوره والتقليل من أهميته في وقت أصبح الانسان يخاف ما أوجده ذكاؤه، وأصبح يسأل نفسه عما إذا كان اختار الطريق السوي؟ (1).

وما يثير العجب حقاً، هو حصر العلم بالعلمانية، ونفيه عن الدين دون التمييز بين العلمانية كمصطلح يعني ما ذكرناه، وبين العلم بمفهومه الشامل الذي يعني استغلال طاقات الانسان والكون، خدمة للبشرية جمعاء ولو كانت حجة أصحاب هذا المفهوم منطقية، لادركوا أن العلم أداة مشتركة تستعملها المجتمعات لتطورها سواء اختارت المنهج الديني أو المنهج الوضعي طريقة لها في الحياة.

لقد كانت نظرة الاسلام الى العلم والدين سواء، إذ جمعهما الله في كثير من آياته واعتبرهما القاعدة التي يبنى عليها صرح المدنية والعمران، في وقت طغت فيه الوثنية على كل مرافق الحياة والسلوك والعلاقات. وها هي كلماته سبحانه تنبؤنا بهذه الحقيقة وتبصرنا بمواقع العلم والدين الفسيحة المتداخلة، كما أراد لها الله أن تكون، لا كما ظن واعتقد أصحاب النظريات الوضعية يقول تعالى: (لَٰكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا.

ص: 164


1- مصير الانسان، ص 89.

أُنْزِلَ إِلَيْكَ) (النساء / 162) ويقول عز وجل: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) (آل عمران / 7)، وغيرها كثير.

بهذا المنطق استطاع الاسلام أن يدرك عرش الوثنية ويتمكن من أن يحول أهل الجاهلية الى أمة متحضرة خرجت الى أطراف الأرض تحمل علمها الجديد، وحضارتها المتوحدة، لكي ترسم للعالمين مصيراً جديداً (1). كان ذلك، بفضل العلم والايمان حيث جمعهما معاً لهذه الغاية النبيلة. فالعلمانية، من حيث هي مبدأ يكفل حرية العبادة والمساواة المطلقة بين المواطنين، ليست مرغوبة فحسب، بل ومطلوبة أيضاً، أما إذا تجاهلت الدين وما يمثله من قيم وحضارة وثقافة وتاريخ، فمرفوضة كل الرفض.

لقد كان العلم رائد الاسلام ومنار طريقه، وسبيله الى التقدم والتطور ولم يقف يوماً ما حائلا دون بلوغ أهدافه وغاياته، بل على العكس من ذلك فإنه كان يدعو الى الالمام به وأخذه من أي مصدر كان من أجل القضاء على الجهل الذي هو عدو الانسان والدين معاً. ولقد عرف الاسلام عصراً من أزهى عصوره، يوم انطلق الدين والعلم في دعوة واحدة على لسان باعث الرسالة ومنقذ الأمة، رسول الله محمد صلی الله علیه و آله و سلم، واستمر هذا النهج نسبياً مع الخلفاء الأول والثاني، ثم اختل توازنه مع الخليفة الثالث عندما قل أثر الدين في النفوس، إلى أن قام الامام علي (علیه السلام) فأراد أن يعيد للاسلام عصره الذهبي من جديد، رغم المعارضة القوية التي واجهته من جانب قوى الشر والضلال التي كانت مصلحتها تقضي بترك الأمور على حالها خدمة لأهدافها الرامية الى تحويل الخلافة الى ملك دنيوي تستأثر به فئات أضلها الشيطان وعبث بعقولها وحولها الى أدوات تأتمر بأوامره وتعمل بوصاياه دون وازع ديني أو رادع خلقي لقد جهلوا طبيعة الدور الذي اضطلع به الامام (علیه السلام)، ولم يتمكنوا من النفاذ الى دخيلة نفسه ليقرأوا صفحاتها المشرقة، منعهم من ذلك غشاوة غشيت أعينهم فحجبت عنهم رؤية الحقيقة، وأفقدتهم ملكة التمييز بين الحق والباطل. وليس أمره وأمرهم واحد. لقد كان يريدهم لله وهم يريدونه لأنفسهم وكان يدعوهم الى الهداية وهم يدعونه الى الضلال وجدّوا في إطفاء نور الله والله متمم نوره ولو كره الكافرون.

ولقد حفل و نهج البلاغة بكثير من الخطب والحكم التربوية التي تتناول إعداد الانسان من خلال تربية عمادها العلم والعمل والايمان. وسوف نحاول الكشف عن أمور ثلاثة هي ما نهدف اليه في بحثنا هذا، هذه الأمور هي: مفهوم التربية عند الامام علي (علیه السلام)، وأبرز سمات المنهج التربوي عنده وتصوره للانسان الفاضل. ثلاثة أسئلة نجيب عليها تباعاً من خلال الغوص في فكر الامام علي (علیه السلام) للبحث عن الأصول والقواعد التي يبني عليها فلسفته التربوية.1.

ص: 165


1- خلیل، عماد الدين، تهافت العلمانية. مؤسسة الرسالة 1975، ص 41.

مفهوم التربية عند الامام علي

لعل من المفيد أن نستهل هذا الموضوع بتبيان المدلول اللغوي لمفهوم التربية. فالتربية في اللغة مأخوذة من ربي ولده، والصبي يربه، رباه أي أحسن القيام عليه حتى أدرك (1).

فالتربية بمدلولها اللغوي، تعني تعهد الطفل بالرعاية والتغذية المادية والمعنوية حتى يشب. ولقد اهتم الفلاسفة والعلماء بهذا المفهوم، وجهدوا في الكشف عن مضامينه العلمية وأوجدوا له عدداً من التفسيرات التي ان اختلفت في شكلها، فهي متفقة في جوهرها. وسنعرض فيما يلي أقوال بعض المفكرين القدامى والمحدثين، لنرى موقع «النهج»، منها.

يقول أفلاطون (427 - 347 ق. م.).

التربية هي إعطاء الجسم والروح كل ما يمكن من الجمال، وكل ما يمكن من الكمال (2). وهذا يعتمد على الناحية الكمية من التربية، وذلك بمزاولة جميع الأنشطة العقلية والبدنية المؤدية لكمال الفرد.

ويقول أرسطو (384 - 322 ق. م.).

الغرض من التربية هو أن يستطيع الفرد عمل كل ما هو مفيد وضروري في الحرب والسلم، وأن يقوم بما هو نبيل وخير من الأعمال ليصل الى حالة السعادة (3) وهذا يهتم بالناحية المهنية من التربية لما فيه منفعة الفرد وسعادته في دنياه.

ويقول جولز سيمون، الفيلسوف الفرنسي (1814 - 1896 م).

التربية هي الطريقة التي بها يكون العقل عقلاً حراً، ويكون القلب قلباً حراً (4)

ص: 166


1- شريف القرشي، باقر: النظام التربوي في الاسلام، ص 41، عن تاج العروس، ج 1، ص 261.
2- سلیمان، کامل والعبد الله، علي: التربية، مطبعة صادر بيروت 1965، ص 176 - 177.
3- نفسه، ص 176 - 177.
4- نفسه، ص 176 - 177.

وهذا يهتم بالنواحي الروحية من التربية. ولعل أوثق تعريفين للتربية هما: ما قاله الغزالي: (450 - 505 م).

ومعنى التربية، يشبه فعل الفلاح الذي يقلع الشوك، ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع، ليحسن نباته ويكمل ريعه (1).

وما قاله جون ديوي: «انها عملية صوغ وتكوين لفعالية الأفراد ثم صب لها في قوالب معينة - أي تحويلها الى عمل اجتماعي مقبول لدى الجماعة (2).

وهناك تعريفات كثيرة لا مجال لذكرها لعدم الحاجة اليها - وهي في أكثرها مشابهة لما سبق - وما يهمنا هو استعراض ما مر منها ومقابلتها بما صدر عن الامام (علیه السلام)، من أفكار تربوية تفسر حقيقة مفهوم التربية.

يرى (علیه السلام) ان الانسان هو غاية الوجود، ومن أجله خلق الله ما خلق إذ بعد أن خلق تعالى الكون ورتبه أحسن ترتيب، ونظمه أجمل تنظيم، وأتم مرافقه، على أكمل وجه، وجمع فيه ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين، أخرج اليه الانسان، وأسكنه فيه على أن يكون خليفته في أرضه، يحيا في كنفها ويعيش من خيراتها، ويمضي في أقواله وأفعاله ونواياه، ومقاصده، وفق أحكام الله وإرادته مطيعاً، مذعناً، شاكراً، إلا أنه خالف أمر الله، وسلك بوحي من نفسه الامارة بالسوء، فجذبته الدنيا اليها وحجبت عنه الرؤية السليمة فبات أسير أوهامه وشهواته.

إن ضعف الانسان أمام إغراء المادة والايمان بأن الشيطان الذي أغواه في الجنة لن يتوانى عن إغوائه مرة أخرى وهو على الأرض، وبالتالي سوف لن يتمكن من ممارسة الخلافة كما أوجبها الله ما دام ضعيف الحجة، مسلوب الارادة، قليل الايمان. هذه الأمور أوجبت أخذه بالتربية والتعليم حتى تستقيم نفسه ويقوى على مقاومة الضلال والفساد. إلا أن هذه التربية، لا تستند فقط الى مباديء نظرية لا صلة بها بالواقع، بل تتخذ منها طريقاً ومنهجاً يعضده العلم والعمل والايمان بهدف منفعة العباد وخيرهم.

وكثيرة هي الخطب والكلمات التي تضمنها (النهج) وهي تدعو الى طلب العلم وأخذه من أي مصدر كان، كما وتحث على العمل حتى لا تبقى التربية مجرد نظريات لا فائدة منها في عالم الواقع. لذلك فإن الامام (علیه السلام) يدعم القول بالعمل وهذا هو الحق الذي يشهد به العمران والتقدم والتطور الحاصل في المجتمعات من ذلك: العلم مقرون بالعمل، فمن علم 2.

ص: 167


1- الغزالي: رسالة أيها الولد، ترجمة توفيق الصباغ، المطبعة الكاثوليكية، بيروت سنة 1951، ص 37.
2- ديوي، جون: الديمقراطية والتربية، ترجمة متى عفراوي، وزكريا میخائیل، طبعة محددة لأغراض دراسية، بيروت 1970، ج 1، ص 12.

عمل، ... (1) إذ لا خير في علم بلا عمل. ولا بد للعارف من أن يكون عاملاً حتى لا يكون علمه حجة عليه.

ولقد أدرك الامام علي (علیه السلام) هذا الأمر وطبقه على سائر مجريات حياته، يبدو ذلك في حديثه عن العلماء الذين يتعلمون، برأيه - لغايات ثلاث (2):

- للمراء والجدل.

- للاستطاعة والحيل.

- للفقه والعمل.

أما الأول: فإنك تراه ممارياً للرجال في أندية المقال، قد تسربل بالتخشع وتخلى من الورع. فدق الله من هذا حيزومه وقطع منه خيشومه.

وأما الثاني: فإنه يستطيل على أشباهه من أشكاله، ويتواضع للأغنياء من دونهم، فهو لحلوائهم هاضم، ولدينه حاطم، فأعمى الله من هذا بصره، ومحى من العلماء أثره.

وأما الثالث «فتراه ذا كآبة وحزن، قام الليل في حندسه، وانحنى في برنسه، ويعمل ويخشى، فشد الله من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانه.

فليس المهم بنظر الامام (علیه السلام) كثرة العلوم النظرية، لأنها لا تغني عن السلوك الحسن والسيرة الخيرة، ولا كثرة العلماء، ما دام البعض منهم قد اتخذ العلم وسيلة للهدم، أو أداة للرياء والنفاق، في حين أن البقية الباقية منهم، ممن آمنوا بربهم وخشعوا له، قد اتخذوه للعمل الحر الشريف. فالتربية التي تعتمد الكمية في أساليبها ليست مقبولة ما دامت لا تستند الى الكيفية والنوعية. إلا أن هذه النوعية لا فائدة منها إذا لم تقترن بالفاعلية فالعلم لا يراد لذاته، بل لاجل التغيير والنمو في شخصية الفرد والمجتمع كما يقول (علیه السلام): «لا تجعلوا علمكم جهلاً ويقينكم شكاً، إذا علمتم فاعملوا وإذا تيقنتم فأقدموا (3).

إلا أن العمل قد يجر الويل على المجتمع، إذا لم يستند الى أساس روحي خلقي وما نراه اليوم دليلاً على ذلك، فالذرة قد تستعمل للبناء وقد تستعمل للفناء والدمار والذي ينحى بها هذا المنحى أو ذاك، هو الانسان ذاته الذي اكتشفها، لذلك كانت التربية الروحية الخلقية لا بد منها في صياغة كيان الفرد وتفكيره وخلقه. ولقد جمع الاسلام بين التربية الدينية والدنيوية بقوله تعالى (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)

(القصص / 77). 4.

ص: 168


1- أنظر (ح)، ج 19، ص 284.
2- مستدرك نهج البلاغة، ص 177.
3- انظر (ح) ج 19، ص 164.

هذه النظرية للتربية التي انفرد بها الامام علي (علیه السلام) هي أكثر شمولاً وعمقاً من تلك التي أوحت بها التعريفات السالفة الذكر، فبينما نرى أن فلاسفة التربية قد قصروا نشاطها على جانب معين من حياة الفرد (افلاطون - أرسطو - جولز سيمون) يتوسع الامام (علیه السلام) في هذا النشاط ليشمل جميع نواحيه الفكرية والاجتماعية والأخلاقية والدينية والدنيوية كما سنرى فيما بعد وذلك من أجل ايجاد الانسان الفاضل القريب من الكمال. هذا المضمون نفسه هو الذي أكده كل من «الغزالي» و «جون ديون» مما يثبت بأن هذا الكتاب، كان وما يزال في صمیم المعرفة التي تحدث عنها الفلاسفة والعلماء في كل عصر وجيل.

سمات المنهج التربوي العلوي

ينطلق الامام (علیه السلام) من مسلمات بديهية على أساسها يضع المنهج في تربية الانسان وإعداده منها:

1 - حقيقة الانسان وطبيعته:

سبق في علمنا أن حقيقة الانسان هي الروح والجسد معاً. ولقد اختلف المتكلمون في هذا الأمر، فقال العلاف، إن الانسان هو الشخص الظاهر المرئي الذي له يدان ورجلان (1)، أي هو الجسد فقط دون الروح واحتج على ذلك بقوله تعالى ﴿خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَارِ) (الرحمن / 14). وقال النظام الإنسان هو الروح ولكنها مداخلة للبدن ... وان البدن آفة عليه وحبس وضاغط له (2) أما «بشر بن المعتمر» فقد وافق الامام (علیه السلام) على أن الإنسان جسد وروح وإنهما جميعاً إنسان، وان الفعال هو الانسان الذي هو جسد وروح (3). وقد دمج النظام بين الروح والنفس والجسم فقال الروح هي جسم وهي النفس (4) في حين ميز بينهما «العلاف» وقال، النفس معنى غير الروح (5) أما الأصم فقد اعتبر أن النفس هي هذا البدن بعينه لا غير، وإنما جرى عليها هذا الذكر على جهة البيان والتأكيد الحقيقة الشيء، لا على أنها معنى غير البدن (6).

وحقيقة القول، أن كلا منهما مختلف عن الآخر، فالروح أمر إلهي لا علم لنا به وهو بمثابة القوة التي تبعث الحياة في الجماد. أما النفس، فهي كناية عن طبيعة الانسان المختلفة

ص: 169


1- مقالات الاسلاميين، ج 2، ص 329.
2- نفسه، ص 329.
3- نفسه، ص 331.
4- نفسه، ص 333.
5- نفسه، ص 337.
6- نفسه، ص 336.

باختلاف قواها النفسية. ولقد قسم الامام علي (علیه السلام) هذه الطبائع النفسية الى أربعة، لكل منها خمس قوى وخاصيتان، وما أثر عنه في هذا المجال ما نحن بصدد الحديث عنه و قال کمیل: سألت أمير المؤمنين فقلت له: أريد أن تعرفني نفسي، فقال عليه السلام: يا کميل، وأي الأنفس تريد أن أعرفك قلت: يا مولاي، هل هي إلا نفس واحدة؟ قال عليه السلام: يا كميل إنما هي أربع: النامية النباتية، والحسية الحيوانية، والناطقة القدسية، والكلية الالهية، ولكل واحدة من هذه خمس قوى وخاصيتان: فالنامية النباتية لها خمس قوى، جاذبة وماسكة، وهاضمة، ودافعة ومربية، ولها خاصيتان الزيادة والنقصان وانبعاثهما من الكبد وهي أشبه الأشياء بنفس الحيوان والحسية الحيوانية لها خمس قوى، سمع وبصر وشم وذوق ولمس، ولها خاصيتان الشهوة والغضب، وانبعاثهما من القلب، وهي أشبه الأشياء بنفس السباع، والناطقة القدسية، ولها خمس قوى، فكر وذكر وعلم وحلم ونباهة، وليس لها انبعاث، وهي أشبه الأشياء بالنفوس الملكية، ولها خاصيتان، النزاهة والحكمة والكلية الالهية ولها خمس قوى: بقاء في قناء، ونعيم في شقاء، وعز في ذل وغنى في فقر، وصبر في بلاء ولها خاصيتان: الرضا والتسليم، وهذه هي التي مبدؤها من الله، واليه تعود. قال الله تعالى (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (الحجر / 29) وقال تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) (الفجر / 27 - 28)، والعقل وسط الكل، لكيلا يقول أحدكم شيئاً من الخير والشر الا بقياس معقول (1).

وهكذا يقسم (علیه السلام) النفس الى أربعة أنواع: النباتية، والحيوانية، والناطقة، والالهية ويرى أن هذه الأخيرة مبدؤها من الله واليه تعود، بينما تتمحور جميعها حول العقل الذي يسيطر عليها ويرشدها الى طريق الاعتدال، ولولا ذلك لبلغت حد الافراط والتفريط، وكلاهما رذيلة كما قال الامام علي (علیه السلام): «العقل ملك والخصال رعيته فإذا ضعف عن القيام عليها وصل الخلل: اليها (2) لهذا جاء التأكيد على ضرورة معرفة النفس لأنها تؤدي الى معرفة الله، لأن من عرف نفسه فقد عرف ربه (3). و من عجز عن معرفة نفسه، فهو عن معرفة خالقه أعجز (4)، كما أنه يؤكد على أهمية شأن العقل ويعتبره من المصادر الأساسية للمعرفة، وكل ما يتنافى معه فهو باطل. أما الحواس فهي كاذبة ولا تصلح للرؤية، وإنما الرؤية الحقيقية للعقل: ليست الرؤية مع الابصار، فقد تكذب العيون أهلها ولا يغش العقل من استنصحه (5). ويكفي العقل فضلاً وشرفاً، انه يميز بين الحق 3.

ص: 170


1- مستدرك نهج البلاغة، ص 160.
2- أنظر (ح)، ج 20، ص 194.
3- انظر (ح)، ج 20، ص 292.
4- نفسه، ج 20، ص 292.
5- نفسه، ج 19، ص 173.

والباطل، ويفرق بين الغي والرشاد، لذا كان من أبلج المناهج وأقوم المسالك وأكثر مصادر المعرفة رشداً، وأقلها ضلالاً، ومن استرشد بغيره، فقد أخطأ سواء السبيل يقول (علیه السلام): من استرشد غير العقل أخطأ منهاج الرأي (1). وتنمية القوى العقلية للانسان لا تكون إلا في طلب العلم، لأن العلم غذاء العقل، به ينشط ويقوى على ممارسة الوظائف العقلية لأنه ليس شيء أحسن من عقل زانه علم (2) كما يقول الامام (علیه السلام).

إلا ان الانسان يجمع الى حد القوة حد الضعف، فهو القوي بعقله وفعاليته وهو الضعيف الذي «تؤلمه البقة، وتقتله الشرقة، وتنتنه العرقة (3) والانسان مجمع الأضداد، في داخله تتصارع العواطف والأهواء والغرائز وحياته تعتورها حالات متضادة نتيجة للصراع بين قواه العقلية والعاطفية، فيرتفع الى المستوى اللائق به بعقله، وينحدر الى مستوى البهيمية بغرائزه، والتوازن بينهما هو ما يحفظ كيانه ويصون كرامته وإنسانيته كما عبر الامام (علیه السلام) بقوله: «لقد علق بنياط هذا الانسان بضعة هي أعجب ما فيه، وهو القلب، وذلك ان له مواد من الحكمة وأضداد من خلافها، فإن سنح له الرجاء أذله الطمع، وان هاج به الطمع أهلكه الحرص، وان ملكه اليأس قتله الأسف، وان عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وان أسعده الرضا نسي التحفظ وان غاله الخوف شغله الحذر، وان اتسع له الأمر استلبته الغرّة، وان أصابته مصيبة فضحه الجزع، وإن أفاد مالاً، أطغاه الغنى، وإن عضته الفاقة شغله البلاء، وإن جهده الجوع قعدت به الضعة، وإن أفرط به الشبع كظته البطنة، فكل تقصير به مضر، وكل إفراط له مفسد (4).

أما غرائزه فهي متعددة، ومتلونة تختلف من شخص لآخر بحسب الفطرة التي أرادها الله سبحانه، كما يذكر (علیه السلام) بقوله: فأقام من الأشياء أودها ونهج حدودها، ولاءم بقدرته بين متضادها، ووصل أسباب قرائنها، وفرقها أجناساً مختلفات في الحدود والاقدار والغرائز والهيئات، بدايا خلائق أحكم صنعها، وفطرها على ما أراد وابتدعها (5).

هذه الغرائز تتغير بتغير بيئة الانسان وثقافته، ولا يخفى أثر البيئة القوي في التنشئة والاعداد. فالانسان يتأثر بالأحوال والظروف المحيطة به فهو ابن بيئته وعوائده كما يقول ابن خلدون، فيكون لذلك شأنه في صياغة أفكاره وأخلاقه وعاداته سلباً أو إيجاباً بحسب ما يكتنفه من أمور تؤثر في مجرى حياته، ونظراً لتعدد البيئات واختلاف مقوماتها وعناصرها 6.

ص: 171


1- نفسه، ج 20 ص 260.
2- نفسه، ج 20، ص 267.
3- نفسه، ج 20، ص 260.
4- انظر (ح)، ج 18، ص 271.
5- نفسه، ج 6، ص 416.

الثقافية والاجتماعية والطبيعية فإن لذلك أثره القوي في اختلاف أفراد النوع الانساني وتباين سماتهم العقلية والبدنية. يقول الامام (علیه السلام): «إنما فرق بينهم مبادىء طينهم، وذلك أنهم كانوا فلقة من سبخ الأرض وعذبها وحزن تربتها وسهلها فهم على حسب قرب أرضهم يتقاربون، وعلى قدر اختلافهم يتفاوتون (1).

وليس البشر كلهم سواء، فالتفاوت والتباين باد حتى على الصعيد الفردي كما يقول الامام (علیه السلام): «فتام الرواء ناقص العقل، وماد القامة قصير الهامة، وزاكي العمل قبيح المنظر، وقريب القعر بعيد السبر، ومعروف الضريبة منكر الجليبة، وتائه القلب متفرق اللب، وطليق اللسان حديد الجنان (2).

إن الامام علي (علیه السلام) يقطع من خلال عرضه للمبادىء التي تحكم طبيعة الانسان وتبيانه للميول والأهواء والغرائز المتناقضة والمتصارعة، تلك التي تتحكم في نفسه، وتوجه سلوكه وتحدد سماته الخلقية والفكرية، بضرورة ان نأخذ جميع هذه الأمور بعين الاعتبار ونراعي ما يظهر من الفروق الفردية، فيما لو حاولنا حل مشكلات المتعلم النفسية والاجتماعية والتربوية واعداده للحياة الحرة الفاعلة الفاضلة. ذلك لأن مراعاة هذه الأسباب في العملية التربوية تضفي عليها شيئا من الرغبة، وتساهم في صلاح المتعلم وحل عقده. في حين ان إكراهه على ما يناقض مزاياه الخلقية والنفسية، إنما هو قتل لشخصيته وهدر لطاقاته ودفعه الى المشاغبة والنفور، ذلك ان للقلب شهوة واقبالاً وإدباراً فأتوها من قبل شهوتها وإقبالها، فإن القلب اذا أكره عمي (3) ولا يعني هذا مسايرة رذائل الانسان وشهواته، وإنما مقاومتها بأسلوب يخلو من العنف والقهر والسمو بها الى مصاف الخلق النبيل. وسوف نرى أن الامام علي (علیه السلام) كان يؤكد على التسامي بشهوات الانسان ورغباته الشريرة واستبدالها بما ترضى عنها الذات والمجتمع.

نستنتج مما تقدم، أن هذا الكائن البشري يجمع إلى جانب قوى الخير قوى أخرى تجنح به نحو الشر. وهذا يوصلنا الى فكرة الخطيئة التي شغلت بها أذهان المفكرين عبر العصور. فقد اعتبرت المسيحية ان الانسان مذنب ومخطى بطبعه وان الشر متأصل في فيه وليس في استطاعته الوصول الى النجاة بقوته وجده، وإنما ينال النجاة بالغفران وذلك الغفران تمنحه الكنيسة بطريقة استبدادية محضة (4).

في الجانب المقابل، مال البعض الى القول بخيرية هذا الكائن وميله الأصيل الى 0.

ص: 172


1- نفسه، ج 13، ص 18.
2- نفسه، ج 13، ص 18.
3- انظر (ح)، ج 19، ص 11.
4- أ. س. زابوبرت: مبادىء الفلسفة: ترجمة أحمد أمين ط 7، القاهرة 1964 ص 80.

الفضيلة والخير. أما الشر الصادر عنه فهو من الوسط الذي يعيش فيه. ومن أبرز القائلين بذلك جان جاك روسو الذي اعتبر أن الطفل يولد خيراً بطبعه، ولكن المجتمع هو الذي يفسده.

وما أثر عن الامام علي (علیه السلام) كان موقفاً وسطاً بين هؤلاء وأولئك فالانسان لا يميل بطبعه الى الخير أو الى الشر، لأنه قادر على فعل الخير كقدرته على فعل الشر، ذلك: «ان في أيدي الناس حقاً وباطلاً وكذباً وصدقاً (1). ونوع التربية التي تتعهده بها البيئة التي يعيش فيها، هو الذي يجنح به نحو الخير أو الشر. كذلك فإنه مزود بالغرائز والأعضاء والحواس والجوارح التي تأتمر بأمره وتتأثر بالجو المحيط به، وبقدر تهذيبها وإرشادها يسهل توجيهها الوجهة الصالحة. أما إذا أهملت وتركت وشأنها، فإنها تنحا به نحو الرذيلة والفساد.

ولقد أكد الغزالي قابلية الانسان للخير والشر بقوله: ( ... فإن الصبي بجوهره خلق قابلاً للخير والشر جميعاً، وإنما أبواه یميلان به الى حد الجانبين، واستشهد بقول الرسول

الكريم: كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه (2).

ولن يؤتي الفكر ثماره إلا إذا استند الى الخبرة والعمل. فالخبرة هي التي تصقله وتهذبه

والعمل هو الذي يخرجه الى حيز الواقع. ولقد أقام (علیه السلام) نظامه الفكري على هذا الأساس. فربط بين العلم والعمل ودعا الى استفادة الخبرة من رسالة الاسلام، ومن تدبر أحوال الماضين واتباع آثارهم واختيار الصالح منها وترك ما لا فائدة منه. وهذا ما عبّر عنه الامام علي (علیه السلام) في وصيته لولده الحسين (علیه السلام): أي بني - اني وان لم أكن عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم وفكرت في أخبارهم وسرت في آثارهم، حتى عدت كأحدهم. بل كأني بما انتهى الي من أمورهم، قد عمرت مع أولهم الى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كل أمر نخيله وتوخيت لك جميله وصرفت عنك مجهوله (3).

وهكذا فالتفكير الذي يتحدث عنه الامام (علیه السلام) يرفض التقليد إلا في أضيق نطاق وعن الذين يمكن الوثوق بكلامهم وأفكارهم والركون إلى أخلاقهم وسجاياهم. وحتى هؤلاء لم يخرجهم (علیه السلام) من دائرة الاجتهاد، حتى لا يشكلوا ضغطاً فكرياً على الآخرين فهو يؤثر الاجتهاد في كل شيء حتى في الدين. والغاية من ذلك الاقناع لا الاكراه بهدف إيجاد المفكر الذي يحاول أن يتفهم دينه ودنياه بوحي من بصيرته. لذا فهو يدعو الى أعمال الفكر في كل خطوة نخطوها وفي كل رأي نبديه ونعلنه، بل وفي كل خبر نسمعه حتى نتجنب الخطأ 7.

ص: 173


1- أنظر (ح) ج 11، ص 38.
2- إحياء علوم الدين، ج 3، ص 74.
3- انظر (ح) ج 16، ص 67.

والعذر في كل ما يصدر عنا من آراء فالتفكير المستند إلى التركيز والانتباه هو ما يعبر عنه الامام (علیه السلام) فيقول: (اعقلوا الخبر اذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية، فإن رواة العلم كثير ورعاته قليل (1).

تلك هي أبرز سمات المنهج التربوي في نهج البلاغة فهي تنطلق من مفهوم شامل للتربية تتناول الانسان بمختلف أبعاده وتنظر اليه كوحدة متكاملة تبرز حقيقته وطبيعته التي فطره الله عليها وتظهر ما فيه من غرائز وقوى تتراوح بين القوة والضعف وما للبيئة من أثر في تحديدها وتنوعها.

2 - المعرفة: طبيعتها، مصدرها:

المقصود بالمعرفة هو بعمومها وأنواعها المتعددة، العلمية والبديهية والميتافيزيقية، وهي

تتضمن دائما الاشارة الى عنصرين متكاملين: الذات والموضوع، أي الذات العارفة والشي

المعروف.

لقد اختلفت الآراء حول طبيعة المعرفة وسببها. فقال العقليون الذين يؤمنون بقوة غير حسية، قادرة على إدراك ماهيات الأشياء أو المعقولات وهي العقل «إن تلك الماهيات أو المعقولات التي في أذهاننا، ليست إلا نماذج مماثلة تماماً لما في خارج الذهن من أشياء أو صورة مطابقة لها، وهذا ما يعبر عنه الفلاسفة بقولهم إن الحقيقة هنا هي نسخة لما في خارج الذهن (2) هذا يعني أن المعرفة ليست سوى مجرد تصورات ذهنية مطابقة لما في خارج الذهن ولا علاقة لها بالحياة. لقد ظهر هذا المذهب عند كل السقراطيين واستمر حتى بداية الفلسفة الحديثة وهو متعدد من حيث تفاصيله ولكنه واحد من حيث المبدأ. وقد قام محل الحواس التي اعتبرها أداة وهم تقف في طريق المعرفة الحقيقية. يقول «مالبرانش» ان نماذجكم الحسية ليست الاظلاماً فاذكروا هذا وارقوا الى أعلى حيث العقل وسترون النور. الزموا حواسكم وخيالكم وانفعالاتكم بالصمت، وستسمعون حينئذٍ صوت الحقيقة الباطنية النقي، وإجابات عقلنا المشترك الجلية الواضحة، إياكم أن تخلطوا هذه البينة التي تنجم عن المقارنة بين الأفكار، بحيوية المشاعر التي تتحرك وتمسكم. يجب علينا أن نتبع العقل رغم تلطفات البدن الذي نلتصق به، ورغم تهديداته وإهاناته، ورغم تأثير الموضوعات التي تحيط بنا ... انني لأهيب بكم أن تقروا بأن ثمة فارقاً بين أن نعرف وأن نحس بين أفكارنا الواضحة وإحساساتنا الغامضة المختلطة على الدوام (3)..

ص: 174


1- أنظر (ح)، ج 18. ص 254.
2- الفندي، محمد ثابت: مقدمات في الفلسفة، مكتب كريدية أخوان - بيروت 1971، طبعة محددة لأغراض دراسية، ص 43.
3- مالبرانش: أحاديث في الميتافيزيقا. الحديث الثالث. عن كتاب (بعض مشكلات الفلسفة، ل - «وليم جيمس»، ص 94.

وقال العمليون - المعبر عنهم في العصر الحديث «بالبرجماتيين» Pragmatism في مذهبهم الذي يمزج الفكر بالحياة، إن غاية المعرفة هي الحياة وإن قيمة كل فكرة أو نظرية تقاس بمدى ما تحققه من نفع، حين نطبقها في حل المشكلات التي تواجهنا «ولذلك فلكي نستوثق من قدر نظرية من النظريات نحاول أن نتخيل أنها مطبقة فعلا في العمل حتى يتسنى لنا رؤية ما عسى أن يكون هنالك من نتائج لتطبيقها، ونحتفي بها على قدر ما تأتي من نتائج عملية خالصة (1).

إن معيار حقيقة الفكرة عند العقليين، هو مطابقتها للواقع أي لما هو خارج الفكر. هذه المطابقة تجعل من الحقيقة واضحة وثابتة، أما في المذهب العملي فإن الفكرة لا توصف بالحقيقة لمطابقتها للواقع، بل لكونها تؤدي عملاً نافعاً، أي بالنظر لنتائجها وغاياتها العملية. وباختصار فإن المذهب الأول يقول بأننا نعيش لنفكر أما الآخر فيقول بأننا نفكر لنعيش.

إن ربط الفكر بالعمل يتضمن انقلاباً في نظرية المعرفة، فبدلاً من النظر في الأصول البعيدة للحقيقة، كما كانت تفعل الفلسفات المجردة، فإن الفلسفات العملية حولت النظر الى النتائج والغايات العملية، وجعلت قيمة الحقيقة بما تؤديه من نتائج عملية ونفعية.

هذا الانقلاب الذي أحدثه المذهب العملي كان الامام علي (علیه السلام) قد طرحه كأحد المسلمات التي لا بد منها لحياة أفضل. فالمعرفة القائمة على التصورات فقط لا قيمة لها بل يصنفها في عداد المعارف الوضعية التي لا يترتب عليها أدنى منفعة. في حين أن المعرفة التي تظهر في أعمال تنفع البشر وتؤدي لهم خدمات مفيدة هي التي يقول بها ويضعها في مستوى المعارف الرفيعة فصفة الحقيقة فيه ليست ملازمة للفكرة كفكرة وإنما هي تكتسبها بما تحققه من عمل نافع. والواقع ينطق بذلك، إذ ما قيمة قوانين نيوتن مثلاً لو لم تقدم خدمات عملية على أرض الواقع بتفسيرها حركة الاجسام هذا الربط عبّر عنه الامام (علیه السلام) يقول: فإن خير القول ما نفع، واعلم أنه لا خير في علم لا ينفع (2). و اوضع العلم ما وقف على اللسان، وارفعه ما ظهر في الجوارح والأركان (3).

وهكذا يكون كتاب «النهج» في صميم الفلسفة الحديثة التي قرنت الفكر بالعمل مما أتاح للبشرية فرصة سانحة للسير في طريق التقدم والعمران.

أما عن مصدر المعرفة، فقد وقع فيه اختلاف كالذي حصل في طبيعة المعرفة..

ص: 175


1- جيمس، وليم: بعض مشكلات الفلسفة، ترجمة محمد فتحي الشنيطي، دار الطلبة العرب، بيروت سنة 1669، ط 2، ص 20 - 21.
2- أنظر (ح)، ج 16، ص 64.
3- نفسه، ج 18، ص 245.

إن المشكلة في الفلسفة الحديثة ليست إمكان الوصول الى الحقيقة أو عدم إمكانها وإنما أصبحت تدور في أصل الحقيقة ومنبعها، أهو العقل أم الحس والتجربة، أو هما معاً، أم الحدس أم الوحي؟

لقد تعددت آراء الفلاسفة حول الطريقة التي تحصل بها المعرفة فديكارت (1596 - 1650م) (يعترف بأن لا سبيل الى الوصول الى الحقيقة إلا بممارسة أفعال العقل الطبيعي ... ولتلك الغاية ليس هناك الا فعلان أحدهما الحدس intuition أو النظر المباشر، والآخر

الاستدلال Deduction (1).

أما جون لوك (1632 - 1704 م) «فقد أعلن بهدوء أن جميع أنواع المعرفة تأتينا من التجارب عن طريق حواسنا، وان لا شيء في العقل سوى ما تنقله له الحواس (2) في حين أن «عمانوئيل كانت» جمع بين العقل والتجربة في الحصول على المعرفة وكان يقول: «ان التجربة ليست الميدان الوحيد التي تحدد فهمنا، لذلك فهي لا تقدم لنا اطلاقاً حقائق عامة، وبذلك فهي تثير عقلنا المهتم بهذا النوع من المعرفة بدل أن تقنعه وترضيه (3).

وخرج هنري برجسون (ولد سنة 1859) عما اعتبره كانت مصدراً للمعرفة، وقال بأن «العقل ليس هو الأداة الصالحة لادراك الحياة، لأن هذا مطلب فوق مقدوره ... فالعقل والحواس آلات للتجزئة، والغاية منهما تيسير الحياة لا تصوير الوجود، أي أنها تتناول الوجود في ظاهره، ولكنها لا تنفذ الى باطنه. ولما كانت المعرفة الحقيقية هي التي تتمشى مع الوجود في تحوله، وتتغلغل في بواطن الأشياء وتحسها إحساساً مباشراً كما يحس الحمل الوديع وجوب الفرار من غائلة الذئاب، فالبصيرة وحدها هي الأداة الصالحة لذلك النوع من المعرفة المباشرة لأنها حاسة الحياة التي تنقل إلينا الوحدة الحيوية التي تربط أجزاء الوجود (4).

این كان موقع الامام علي (علیه السلام) من هذه الآراء؟

إن الامام (علیه السلام) يعتبر أن مباديء الوجود ثلاثة: الله والروح والمادة، وعليه فطرق المعرفة تتعدد بتعدد الموجودات الثلاثة. فبالحواس ندرك الظواهر الخارجية والجزئيات، إلا أنها لا تصلح للرؤية الحقيقية لأنها كاذبة كما سبق في علمنا فلا بد من إثباتها بالتجربة لاصلاح ما ينجم عنها من خطأ في الادراك، لأن في التجارب علم مستأنف (5).

أما العقل، فهو لادراك الكليات وما وراء الطبيعة، وقد سبق في علمنا أنه (علیه السلام).

ص: 176


1- بلدي، نجيب ديكارت، دار المعارف بمصر سنة 1968، ص 65.
2- ول ديورانت: قصة الفلسفة، ص 320 - 319.
3- نفسه، ص 335 - 334.
4- نفسه، ص 561.
5- أنظر (ح) ج 20، ص 259.

استدل على وجود الله بالنظر في مخلوقاته وما فيها من نظام تحكم وتدبير متقن، ومعنى هذا انه يؤمن بالعقل الذي يدرك ما وراء الكون بالاستنتاج والانتقال من المعلوم الى المجهول.

أما إذا عجزت الحواس والعقل عن إدراك ما يكمن وراء هذه الظواهر الحسية - فلا سبيل أمامنا سوى القرآن أو الوحي، نستعين به لكشف ما غاب عنا، يقول إخوان الصفاء: ان الوحي هو انباء عن أمور غائبة عن الحواس، يقدح في نفس الانسان من غير قصد منه ولا تكلف (1). إلا أن الوحي الذي يعنيه أخوان الصفاء، ليس كما صرّح به الامام (علیه السلام) انما هو أقرب الى الحدس الصوفي القائم على الكشف والذوق. فهل يعتبر هذا الحدس الصوفي طريقاً آخر للادراك يمكن الركون اليه كما هو الحال عند المتصوفة؟

وقبل الاجابة عن هذا السؤال، نوضح أن هناك فكرتين تتحدثان عن علاقة الله بالعالم. الأولى، و يصح أن نسميها بالاثنينيّة، وهي تعتقد في الله أنه مستقل عن الخلق يشرف عليه من فوق، ويمد كل مخلوق بامداداته، ويدرر نظام الكون من أصغره إلى أكبره، وهو فوق الأرض وفوق السماء، وفوق كل شيء. وإن في الكون موجودين متميزين عن بعضهما كل التمييز، مخلوق وخالق، ومدبّر ومدبّر، ومحكوم وحاكم. ووسيلة الانسان في إدراك الله حسب هذه الفكرة هو العلم وقضايا المنطق.

أما الفكرة الثانية، وهي الواحدية، أو بعبارة أخرى، وحدة الوجود، ترى أن الله والخلق واحد، والحاكم والمحكوم شيء واحد، كما قال الحلاج.

أنا من أهوى ومن أهوى أنا *** نحن روحان حللنا بدنا

فإذا أبصرته أبصرتني *** وإذا أبصرتني أبصرتنا(2)

وإدراك الله هنا، يتم بالتروض والكشف.

وما ذكره الامام (علیه السلام) ينفي عن الله الحلول والاتحاد كما سبق وأشرنا اليه في حينه، ولا يقول بوحدة الوجود، بل يميز بين الخالق والمخلوق، والرب والمربوب، ويؤمن بأن الاسلام يضع الانسان أمام خالقه دون حجاب أو ترجمان أو وساطات تشفع له عند الله كما جاء في القول: «لم يجعل بينه وبينك من يحجبك عنه، ولم يلجئك الى من يشفع لك اليه (3).

ثم إنه يرفع من مكانة العقل ويعتبره المظلة الواقية من الخطأ في الادراك، علماً بأن جميع النفوس قد فطرت على الايمان بوجود الله، إلا تلك التي انحرفت عن فطرتها لسبب من التربية أو البيئة 6.

ص: 177


1- الرسائل، ج 4، ص 84.
2- أمين، أحمد، ظهر الاسلام، مكتبة النهضة المصرية، ط 3، القاهرة، سنة 1962، ج 2، ص 60.
3- انظر (ح)، ج 16، ص 86.

إذا أخذنا جميع هذه الأمور بعين الاعتبار، أمكننا الإجابة على السؤال السابق بأن الامام (علیه السلام) لم يأخذ بالحدس الصوفي كمصدر للمعرفة، ما دام العلم بالله حاصل بالفطرة والنظر العقلي دون الوصول إلى تلك الحالة الخاصة التي يبلغها الانسان بالوجد والكشف حيث يدرك عندها الله إدراكاً مباشراً. وما أشبه هذه التجربة العقلية التي يدعو اليها هذا الكتاب بتجربة (برغسون) التي تتغلغل في صميم الواقع وتغوص في أعماقه وتتصل به اتصالاً مباشراً من غير واسطة تحول بين العارف والمعروف.

3 - التفكير:

التفكير بمعناه الواسع اصطلاح عام يشمل كل أنواع النشاط الرمزي فيشمل الاستدلال و التخيل، وتكوين المعاني الكلية والابتكار، ويستخدم التفكير بديلات للاشياء الحقيقية والمواقف الواقعية، أي أنه يستخدم رموزاً تقوم مقام الأشياء أو الظروف. والرمز هو أي شيء - فكرة، معنى أو صورة يقوم مقام شيء آخر، فنستجيب له بنفس الأسلوب الذي نستجیب به للشيء نفسه (1).

إن عملية التفكير ترجع إلى التفاعل بين العوامل العضوية أو البيولوجية المتمثلة بالجهاز العصبي المعقد، والعوامل الاجتماعية المتمثلة بالمؤثرات الاجتماعية المختلفة. فهو إذن عملية بيولوجية اجتماعية عن طريقه توصل الانسان الى بناء حضارة عظيمة تزخر بالتقدم العلمي والتنظيم الاجتماعي.

والتفكير ضرورة تربوية هامة يعتمد عليه الانسان في تفاعله مع البيئة التي يعيش فيها، فهو في صراع دائم مع الحياة للحفاظ على استمرارية وجوده كما انه محتاج، لكي يدافع عن نفسه ويؤمن حاجياته ويزيل الصعوبات والمشكلات التي تعترض طريقه، الى أن يفكر ويختار أنسب الحلول الملائمة. لذلك يخطىء إذن من يحسب الانسان آلة صماء في يد القوانين المادية. إنما هو كائن مدرك، حر الارادة، قادر على اختيار سلوك معين، والاختيار خلق وإنشاء، فليس الانسان رتيباً في حياته كالحيوان المحدود بغرائزه (2). كما يقول برغسون.

وهو في محاولته حل مشاكله، إنما يستعين على ذلك بالمحاولة والخطأ والتجربة والاختيار والابتكار والابداع، لذلك كان التفكير نشاط ديناميكي هادف. ولا يعني هذا ان العقل لا يفكر إلا إذا اعترضته المشكلات الواقعية. فهو في نشاط مستمر، في حالة اليقظة أو الغفلة وما أحلام اليقظة إلا «إستجابات بديلة للاستجابات الواقعية يتخذها الفرد عندما يفشل في أن يستجيب استجابات واقعية لما يواجهه من مثيرات فيلجأ إلى أوهامه يحقق فيها ما عجز عن.

ص: 178


1- المليجي، حلمي: علم النفس المعاصر، دار النهضة العربية، بيروت، ط 1، 1970، ص 209.
2- قصة الفلسفة، ص 559.

تحقيقه في عالمه الواقعي، وهكذا نستطيع أن نعتبر الأحلام احدى صور التفكير الذاتي (1).

ثم إن ارتباط التفكير بالعمل يساعد الفرد على تحقيق آماله والوصول الى غاياته. وكلما ارتفع مستوى الانسان الفكري، اتجه وبصورة أفضل نحو احلال الأعمال بالأفكار أي يختبر صحة ما يصل إليه بصورة عقلية قبل أن يقوم بعمل معين، ويصبح التفكير بديلاً للعمل، وذلك لفاعليته واقتصاديته. لهذا كانت نتيجة التفكير هي الاقتصاد في الوقت والمجهود، وتوفير فرص أكبر للحياة والبقاء.

أما إذا لم يكن للتفكير أثر في زيادة كفايتنا العملية وتوسيع معرفتنا بأنفسنا وبالعالم الذي نعيشه فيه، وإذا لم يكن مساعداً على توفير الوقت والجهد، كان تفكيراً ناقصاً ومختلاً، لأن الأفكار تبقى ناقصة اذا ما ظلت مجرد أفكار، وان خير ما يقال عنها انها مؤقتة من قبيل الاقتراحات والدلالات. فهي أساليب وجوه لمعالجة أوضاع الخبرة، وإذا لم تطبق في مثل هذه الأوضاع، وبقيت ناقصة في معناها وواقعيتها، فالتطبيق وحده هو الذي يمتحنها، والامتحان وحده هو الذي يكسوها رداء الحقيقة، ويكسبها كمال المعنى. أما إذا بقيت الافكار من غير استعمال فإنها تجنح الى الانعزال وتكوين عالم خاص بها (2). وإذا كانت للخبرة أهميتها في عملية التفكير فإنه لا سبيل الى وجود خبرة ذات معنى، دون أن يكون فيها عنصر من التفكير الذي هو التعبير الصريح عن عنصر الذكاء في خبرتنا (3).

على أن خبرتنا التي نصوغها في قوالب تفكيرنا، لا تعني الاهتمام بكل ما ورد فيها وليس هذا من التفكير في شيء، ما نفكر فيه يجب أن نتدبره تدبيراً سليما، بحيث يكون له أثر في مدى تفاعل الفرد مع بيئته، وفي حل المشكلات التي تعترضه، وهذا ما أكده جون ديوي بقوله: فالتفكير في الأشياء كما ترد الينا هو محاولتنا تعرف ما تدلنا عليه من النتائج المحتملة أو المرجحة. اما أن نملأ رؤوسنا كما نملأ الدفاتر بشتى المعلومات الجزئية باعتبار أنها أشياء كاملة مفروغ منها، فليس ذلك من التفكير في شيء، إن هو الا تحويل انفسنا أجهزة تسجيل. ولكننا إذا تدبرنا تأثير الحوادث فيما قد يقع وان لم يقع بعد، فذلك هو التفكير (4).

وهكذا فالتفكير هو إحدى المكونات الرئيسية للتنظيم المعرفي للفرد وأهميته تكمن في إعطائه القدرة على امتلاك البيئة والتحكم فيها، كما يمكنه من العمل المثمر الخلاق ويفتح.

ص: 179


1- عبد الغفار، عبد السلام: مقدمة في علم النفس العام، دار مكتبة الجامعة العربية، بيروت 1969، ص 268.
2- الديمقراطية والتربية، ج 1، ص 181.
3- نفسه، ج 1، ص 165.
4- الديمقراطية والتربية، ج 1، ص 166.

أمامه فرصاً واسعة للنجاح. لذا كان التفكير عملية لا بد منها في تنمية الفكر الانساني وانطلاقه وتحريره من الجهل والجمود والتقليد.

ويعتبر الامام علي (علیه السلام) من المفكرين الأوائل الذين أدركوا أهمية التفكير عند الانسان فأشاد بالعقل ودعا الى تنميته بالفكر، لأن الفكر جلاء للعقول، كما أنه يفيد الهداية والرشد واليقظة والاستبصار، ويعصم عن الضلال والشك. وكثيرة هي العبارات التي صدرت عنه بخصوص هذا الأمر يقول (علیه السلام): «الفكر يهدي» و «الفكر عبادة»، و«الرأي بالفكر»و «الفكر رشد» و «الفكر ينير القلب» (1).

وهكذا فإن الامام علي (علیه السلام) يجد في التفكير القدرة على كشف الحقائق وتخليص العقل من الأوهام والأساطير، كما وانه يرى فيه الهداية والرشد والرأي السديد ليس ذلك فحسب، بل ان العلم الحاصل عن التفكير هو من أشرف العلوم وأكثرها ثباتاً ودقة، وذلك بالقياس إلى ما ندعي امتلاكه بالحفظ والتلقين بلا وعي ودراية. وما العبرة في علم إذا لم يكن جزءاً من كياننا ومثار سلوكنا ومحقق أهدافنا وغاياتنا في الحياة؟ فالملاحظة السطحية وغير الكاملة تعيق نمو العقل بل وتفسده، وعدم التركيز الفكري يعرقل نضوجه وتطوره. لذلك كان التفكير أحد العوامل الرئيسية في ديناميكية العقل وزيادة انتاجه، فيجب والحالة هذه أن يكون نمو هذه المَلَكة عند الانسان، هو الهدف الأسمى لعملية التربية والتعليم. لقد قرن (علیه السلام) بين الفكر والرشد والهداية - كذلك فقد قرن بين رفيع العلم وما بني منه على أساس متين من التفكير عندما قال: لا علم كالتفكير (2).

إن اهتمام الامام (علیه السلام) بهذا الجوهر الثمين عند الانسان، بالاضافة الى ما تضمنه من نشاطات فكرية تجلت في الحديث عن الله والعالم العلوي، والكون بما فيه من مخلوقات يغلب عليها التعقيد والغموض، إنما يدعو الى ضرورة أن يتمتع الانسان بعمق في التفكير وسعة في الاطلاع حتى تكون النتائج يقينية بحيث لا يتطرق اليها الخطأ أو الزلل.

كما انها تكشف عن طبيعته الفكرية وما للعقل من أهمية كبرى في صياغة تفكيره وإبداء وجهات نظره في الكون والحياة وفي نفسه وكيفية إسعادها من خلال استناد الفكر الى الخبرة الواسعة والربط بينه وبين العمل.

هذه السمات الفكرية التي أبرزها الامام (علیه السلام) إنما ترتكز في أساسها على الاسلام، الأمر الذي يجعل من هذا الكتاب، إحدى الذخائر الاسلامية الهامة التي لا يمكن الاستغناء عنها في البحث عن الوسائل والطرق المؤدية الى حسن إعداد الانسان للحياة.

إن اهتمامه (علیه السلام) بهذا الجوهر الثمين عند الانسان، بالاضافة الى ما أثر عنه من.

ص: 180


1- جميع هذه الأقوال أخذت من كتاب الغرر والدرر، للآمدي، ص 43.
2- أنظر (ح)، ج 18، ص 276.

نشاطات فكرية متعددة، إنما ينم عن عمق في التفكير، وسعة في الاطلاع ودقة في الملاحظة، بها امتاز وتفوّق على سائر معاصريه، ومن أبرز مظاهر تفكيره ذاك التسلسل المنطقي والتماسك الفكري الذي نراه بادياً في النهج، بحيث ان كل فكرة هي نتيجة طبيعية لما قبلها وعلّة لما بعدها. ولقد كانت غايته من وراء ذلك ليس إبراز مقدرته الفكرية واللغوية والعلمية، وإنما تشجيعاً لقومه على التفكير، وتحريرهم من رقدة الجهالة، وتنويرهم بالعبر والأحداث حتى يتوبوا إلى رشدهم ويعيشوا في رحاب العلم والمعرفة وما ذلك إلا لأن الفكرة تورث النور والغفلة تورث الظلام.

ص: 181

التربية والتعليم

تربية الانسان وتعليمه، عملية أساسية اضطلعت بها الأسرة أولاً، وتولت مهمة القيام عليها منذ نعومة أظفار هذا الكائن الحي، ثم توالت على ممارستها مؤسسات مختلفة لهذه الغاية.

ولقد اختلفت الآراء حول مضمون هذه العملية، وذلك لاختلاف الانماط الثقافية والحضارية والتربوية لكل أمة من الأمم، لكنها اتفقت جميعها على كونها طريقة إعداد للحياة، كما اختلفت في معنى كل من التربية والتعليم، فمنهم من استعملها بمعنى واحد، ومنهم من ميز بينهما.

والواقع أن مفهوم التربية يختلف عن مفهوم التعليم. وعدم التمييز بينهما يؤدي الى تفكك الأساليب التربوية وتشويش شخصية الطفل، لأن تزويده بأنواع العلوم والثقافات قبل تهيئة التربة الصالحة لها، إنما معناه البنيان على الرمال.

ولقد ميز دي نوي بين التربية والتعليم فقال: فتربية الولد تقوم على تهذيب سجاياه الخلقية وتعليمه المبادىء الاساسية الثابتة التي يعترف بها الناس في كل البلدان، وإنماء الكرامة الانسانية فيه منذ نعومة أظفاره. أما تعليمه فهو تغذيته بالمدنية التي جمعها الانسان في مختلف الحقول. والتربية تصوب أعماله وتوحي اليه سلوكه في علاقاته مع الناس، وتساعده على تملك زمام نزواته. أما التعليم فيوفر له عناصر نشاطه الفكري ويعرفه بحالة التمدن الحديث. تعطيه التربية أسس الحياة التي لا تتبدل، ويمكنه العلم من التكيف حسب تبدلات محيطه، ومن ربط هذه التبدلات بالحوادث الماضية والمستقبلية (1).

فتربية الطفل إذن تبدأ قبل تعليمه، ولا يخفى أثر هذه التربية الأولى على شخصيته، إذ على مبادئها ومعطياتها يدرج وينمو ويبني كياناً مستقلاً فاعلاً. وهذا ما يفسر ضخامة البناء الفكري الذي يشيده خلال سنيه الأولى، حيث تعمد التربية الى كشف وإبراز ما يتمتع

ص: 182


1- مصير الانسان، ص 301.

به من ميول ومواهب وقدرات وأهداف ليمارسها فيما بعد بالتعلم والتعليم اللذين ليسا هما، كما يقول أخوان الصفاء، «سوى إخراج ما في القوة يعني الامكان، الى الفعل، يعني الوجود» (1).

لهذا وجب على الآباء والمربين أن يعيروا هذا الأمر ما يستحقه من انتباه واهتمام لكونه من الأمور الضرورية الذي لا تسمو الحياة بدونه. ويربط «الابراشي» بين التربية والحياة، مؤكداً على التلازم بينهما فيقول: «تعد التربية اليوم من ضروريات الحياة ولا نبالغ إذا قلنا أن التربية هي الحياة، ولا حياة بغير تربية فيها ترقى الأمم وتحيا، وبها تنهض الشعوب وتسمو ويرتفع مستواها من الحضيض فهي ضرورية للحياة كالماء والغذاء والهواء وهي خير وسيلة لحياة المجتمع، فكل إنسان يولد فجاً عاجزاً عن العمل، لا لغة له، ولا اعتقادات ولا أفكار ولا آراء (2).

أولاً: التربية

إن تربية الطفل إذن، يجب أن تبدأ منذ المهد، وذلك بتنشئته على الأخلاق الفاضلة والعادات الحسنة، قبل أن يبدأ باكتساب العلوم أو يتشوه سلوكه بالعادات السيئة. يقول «دي نوي»: «وعلى التربية الأولى أن تكيف أخلاق الولد ما دام دماغه ليناً خلوأ من كل أثر وينبغي

أن يتم هذا العمل الاعدادي قبل أن يكون احتكاك شخصيته بالعلم قد كوّن عادات يصبح من الضروري محاربتها يوماً ما (3).

ولا شك في أن هذه الفترة، من حياة الطفل إنما هي من أنسب الفترات وأخصبها وأكثرها أثراً على حياته ومستقبله، وذلك انه بقدر ما يكون الولد حديث السن، يسهل الحصول على نتيجة تربيته، فتنطبع القواعد فيه انطباعاً لا يمحى، وتأتي التأثيرات الأخرى الناتجة عن احتكاكه بالمحيط فلا تزيل أثرها. أما إذا جاءت القواعد الخلقية المعقدة وفرضت على الولد، بعد أن يكون سلك سلوكاً شخصياً، فلسنا نتمكن من محو الارتكاسات الذاتية (4).

ولقد تحدث الامام علي (علیه السلام) عن هذا الأمر قبل ذلك بآلاف السنين. إذ يرى وجوب مباشرة الحدث بالتربية وتعهده بها، قبل أن يقسو قلبه أو ينشغل عقله بالعقائد والعادات السيئة التي تهجم عليه وتطبع سلوكه إذا ما وجدت سبيلاً لها الى عقله، الذي يصوره الامام

ص: 183


1- اخوان الصفاء، الرسائل، ج 1، ص 262.
2- الابراشي، محمد عطية: التربية والحياة، ط 1، 1943 م دار الكتب العربية بمصر، ص 14.
3- مصير الانسان، ص 305، 307.
4- نفسه، ص 305 - 307.

(علیه السلام) بقوله: كالصفحة البيضاء أو كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته (1). وهكذا، فقلب الحدث خال من الانتقاش بالعقائد مع استعداده لتقبل ما يلقى اليه من خير أو شر كما يقول الغزالي: وقلب الطفل الطاهر، جوهرة نفيسة ساذجة عن كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به اليه، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة ... وان عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك (2).

نستنتج من ذلك أن المعرفة لا تولد مع الشخص، وإنما يولد معه الاستعداد لتحصيلها، وهذا هو معنى وجود العلم بالقوة في النفس الانسانية. وهو قابل للتعلم منذ صغره، لأن حواسه ومداركه تكون منفتحة ومتيقظة ومستعدة لتقبل ما يلقى اليها، «فإنه في الوقت والساعة تدرك حواسه محسوساتها» (3).

1 - وظائف التربية:

ولا تقتصر وظيفة التربية على إعداد الانسان إعداداً أخلاقياً صالحاً بل هي تمتد لتلعب دورها في تطور البناء الاجتماعي من خلال: نقل التراث الثقافي وتغيير كيان الفرد والمجتمع.

- نقل التراث الثقافي:

إن تحليل معنى التراث الثقافي وعلاقة الانسان به، يوضح مدى أهمية العملية الاجتماعية التي يتم بواسطتها نقل الأنماط الثقافية من جيل إلى آخر يأتي بعده.

فالثقافة تعني مختلف وسائط التعبير وأنماط السلوك التي تبرز خصوصية شعب من الشعوب، لذلك فهي تشمل، استناداً الى رأي الأنثروبولوجيين الاميركيين بشكل خاص على كل أنماط السلوك التي يعبر بها الانسان عن نفسه والتي يشاركه فيها الآخرون، فهي تشمل الأدب والفن والديانات والميثولوجيات والأخلاق أو الآداب القومية والشعبية ومظاهر الحياة الاجتماعية من لباس وتزيين وكيفية طبخ وأكل ... الخ، فهذه كلها تعابير ورموز وآيات يعبر بها الانسان عن نفسه، فهي ثقافته حتى لو كانت تقتصر على بعض المظاهر الفولكلورية (4).

وإذا كان التراث الثقافي مبعث آمال الأمة وملهم مشاعرها وعنوان تقدمها والانقطاع

ص: 184


1- أنظر (ح) ج 16، ص 66.
2- إحياء علوم الدين، ج 3، ص 72.
3- رسائل أخوان الصفاء، ج 3، ص 414.
4- العروي، عبد الله، العرب والفكر التاريخي، دار الحقيقة، بيروت 1973، ص 70.

عنه يؤدي الى هدم الأساس الذي تقوم عليه حضارتها، فإن إعادة نبش هذا التراث من بطون التاريخ، ونفض الغبار عنه وصياغته صياغة جديدة تقتضيها الحال عملية تربوية شاقة يضطلع بها الجيل السابق لتقديمه غذاء سائغاً الى الناشئة من الأجيال اللاحقة. ومن هذا المنطلق، فقد عرفت التربية بحسب دلالتها وعلاقتها بالحياة الاجتماعية. وهذا ما فعله المفكر الاجتماعي المشهور «اميل دوركهايم» في أوائل القرن الحالي، بقوله أنها «التأثير الذي يجريه الجيل الراشد في الجيل الناشيء» (1)، وهذا ما كان قد عبر عنه ابن خلدون في الربع الأخير من القرن الرابع عشر، عندما نظر الى القضية، نظرة المفكر الاجتماعي ولاحظ أن الجيل الناشيء يتشوق الى تلقي العلوم والمعارف من الجيل الذي سبقه فيقول: «وهي مع ذلك صنائع يتلقاها الآخر عن الأول منهم» (2). وقول ابن خلدون هذا لا يختلف معنى ومدلولاً عن قول إميل دوركهايم السالف الذكر.

ولقد تحدث الامام (علیه السلام) عن هذا التفاعل الثقافي والاتصال الفكري بين الماضي والحاضر، انطلاقاً من تراث الاسلام المشرق، الذي صوره أقوالاً وأفعالاً ومبادىء تربوية يمكن الاستفادة منها في بناء الإنسان الفاضل، ومن تأكيده على أهمية هذا التراث وأثره الفعال في شحذ الهمم، نراه يتوجه الى كل إنسان بما يراه صالحاً له في الدنيا والآخرة، فينقل اليه آثار الأولين والآخرين، نقية صافية من الأخطاء والشوائب من خلال السير في ديارهم وتتبع آثارهم وتمييز ما ينفع وما يضر منها. فالاتصال بالجذور لا ينبغي أن يكون عشوائياً بحيث يجذبنا التراث ويأسر أفئدتنا فنأخذ منه الغث والثمين. هذا وحرصاً على صلاحية الهدف الذي نتوخاه من التربية يجب أن لا يكون الاتصال بالماضي ضرباً من التبعية أو العبودية لهذا الماضي إذ لا بد لنا من أن نجتهد على الماضي فنتجنب السلبيات ونؤكد على الإيجابيات (3).

كذلك، فإن محتوى النقل الثقافي يجب أن يكون هادفاً بحيث يتحدد بنوع المواطنة الصالحة التي نريدها ونوع المجتمع الذي ينبغي بنائه وتكوينه بحيث تكون أهداف التربية منسجمة مع أهداف المجتمع حتى لا يحصل التناقض بينهما فتكون النتيجة خلاف ما نتوخاه ونعمل له. وليس أدل على ذلك من الاضطراب والتفكك الذي يظهر في المجتمعات التي تنشد التطور بينما هي ترزخ تحت عبء القيم التربوية البالية والمتأخرة. لهذا ... فالتربية ملزمة بهذه الوظيفة وعلى عاتقها يقع عبء الاختيار من بين الاتجاهات والقيم والعادات 1.

ص: 185


1- الحصري، ساطع: دراسات في مقدمة ابن خلدون، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3 - 1967، ص 444.
2- ابن خلدون: المقدمة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 4، د.ت. ص 433.
3- لبنان الحضارة الواحدة، لمجموعة من الأساتذة، صدر عن النادي الثقافي العربي في بيروت، وهذا النص أخذ من مقال الدكتور معن زيادة في هذا الكتاب، ص 21.

والمعارف والعلوم التي توجد في المجتمع على أساس التمييز بين المرغوب فيها والمرغوب عنها، ذلك أن كل مجتمع يتضمن الكثير من العناصر المختلطة والأفكار المتنوعة، والقيم المتعارضة المتشابكة. فوظيفة التربية في هذا المجال تكمن في تنمية الاتجاهات والقيم المنتقاة على ضوء الأهداف العليا لذلك المجتمع (1).

من أجل ذلك فإن أول ما يجب أن تنقله التربية الى الأجيال الناشئة، هو كتاب الله، تنقله اليهم نقياً صافياً، خالياً من الشوائب باعتباره من أهم الركائز التي يجب أن يستند اليها الانسان طيلة حياته لتقويم اعوجاج سلوكه وتنقية نفسه من الادران التي علقت بها من جراء الابتعاد عن السبيل الصالح الذي رسمه الله في كتابه الكريم. وهذا ما أكده الامام (علیه السلام) حيث اعتبر القرآن الأداة الفعالة في بناء الفرد والجماعة، فقال في وصية الحسن (علیه السلام)، المولود البكر لأمير المؤمنين والامام الثاني من أئمة أهل البيت: «وان ابتدئك بتعليم كتاب الله عزّ وجل، وتأويله وشرائع الاسلام وأحكامه وحلاله وحرامه لا أجاوز ذلك بك الى غيره (2).

لقد كانت الغاية من وراء ذلك، أن يزود الحسن (علیه السلام) ومن خلاله أهل الاسلام جميعهم بمقومات التغيير قبل أن تلتبس عليه أهواء الناس وآرائهم ومعتقداتهم الباطلة فيقول، ثم أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الذي التبس عليهم فكان أحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحب إليّ من إسلامك الى امر لا آمن عليك فيه الهلكة ورجوت أن يوفقك الله لرشدك، وأن يهديك لقصدك فعهدت اليك وصيتي هذه (3).

هذا المبدأ التربوي الهام الذي قرره الامام (علیه السلام) منذ أمد بعيد إنما يقضي باستغلال نقاوة الفكر الانساني لزرعه بالمعلومات الصحيحة، قبل أن تهجم عليه الأخلاق الذميمة والآراء الفاسدة الأمر الذي يجعل من الصعب على التربية أن تعيد تشكيله من جديد، وهذا يتوافق أحدث المناهج التربوية في يومنا هذا.

- التغيير الفردي والاجتماعي:

ويقصد به كل تحول يحدث في كيان الفرد والمجتمع، وهذا التحول ينتج عن الصراع بين القديم والجديد، وعلى أساس هذا الصراع تتحدد وجهة سير هذا التغير وسرعته. ذلك أن كل نمط ثقافي جديد يقابل بموقفين متعارضين أحدهما يدفعه الى الأمام، والآخر يشده إلى 8.

ص: 186


1- الأديب، علي محمد الحسين، منهج التربية على الامام علي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 2، 1979، ص 53.
2- أنظر (ح) ج 16، ص 68.
3- نفسه، ج 16، ص 68.

الوراء. لهذا فالثقافة الاجتماعية، إما أن تكون متطورة (ديناميكية) ترحب بالجديد وتتفاعل معه، وإما أن تكون جامدة (استاتيكية) تحافظ على القديم وتصد رياح التغيير عنه. من هذا المنطلق، فإن موضوع التغيير الذي تحدثه التربية، أصبح من أهم موضوعات علم الاجتماع مما يفرضه على الأفراد والمجتمعات من تحولات متفاوتة بين القوة والضعف، ولها أثرها في إعادة ترتيب الحياة من جديد. إلا أن هذا التغيير لن يؤتي ثماره ما لم تتوفر له القيادة المتميزة بالصلابة والتماسك والتي لا ترضخ لعنف الرفض والمقاومة.

أ - التغير على مستوى الفرد:

إن التغير الذي تحدثه التربية في نفسية الفرد، إنما هو بداية للتحول العظيم الذي سيطال المجتمع ككل. وبما أن للقيادة دورها الهام في إحداث التغيير المطلوب، فإن الاقتداء بها أمر يساهم في سرعة هذا التغيير. ولقد أعطى (علیه السلام) القدوة التي يجب أن تحتذى لحسم صراع النفس مع شهواتها لصالح الانسان الفاضل وكانت وصاياه ومواعظه تصب في هذا الاطار فيقول في وصية الى شريح بن هانىء واعلم أنك ان لم تردع نفسك عن كثير مما تحب مخافة مكروه، سمت بك الأهواء الى كثير من الضرر فكن لنفسك مانعاً رادعاً ولنزواتك عند الحفيظة واقعاً قامعاً (1).

وردع النفس عن شهواتها يستلزم الزهد في الدنيا، وما أكثر الخطب والمواعظ التي أوردها الامام في الزهد تشبهاً بحياة الرسول والاقتداء به حتى قال فيه عمر بن عبد العزيز ما علمنا أن أحداً كان في هذه الأمة بعد النبي أزهد من علي بن أبي طالب (2).

ولا شك أن السيطرة على أهواء النفس والزهد في الدنيا من أكثر الأمور المشجعة على السلوك الفاضل. والتربية التي نعتمدها، إنما تساهم في تنمية الحس الخلقي للفرد وصياغة فكره في قوالب معينة وبفضل التربية ينتقل الانسان من بيداء الجهل إلى ميادين العلم والمعرفة كما في وصية الحسن (علیه السلام): «فإنك أول ما خلقت به جاهلاً ثم علمت، وما أكثر ما تجهل من الأمر ويتحير فيه رأيك، ويضل فيه بصرك، ثم تبصره بعد ذلك (3).

ب - التغير على مستوى المجتمع:

إن التغير على مستوى المجتمع لا يتم بالصورة التي يتمناها رواد التربية فقد يكون سهل المنال وقد يقاوم بمعارضة شديدة، والمقاومة هي الأكثر حصولاً لتشبث القديم بقدمه، ورغبة الجديد في التطور والتقدم. وهذه حال رواد الاصلاح والتغيير في العالم. وقس على ذلك حال الأنبياء والرسل والأئمة، والتاريخ يشهد بذلك. لقد جوبه الامام علي (علیه السلام) بمقاومة عنيفة من 4.

ص: 187


1- أنظر (ح)، ج 17، ص 138.
2- فضائل أمير المؤمنين وأمامته، ج 2، ص 345.
3- أنظر (ح) ج 16، ص 74.

الفئات التي كانت تفضل الركود والجمود حرصاً على مصالحها وامتيازاتها فوقفت سداً منيعاً أمام رياح التغيير وحاولت منعه من تنفيذ برنامجه في الاصلاح، وقبل ذلك وقف النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم ومعه الايمان كله يصد موجات الكفر والضلال التي رفضت دعوته وأبت عليه مهمته في

قهر الشرك ورسم معالم التوحيد.

إن روح الاصلاح والتغيير التي تنبعث من كلمات الامام علي (علیه السلام) وتتأكد في مواقف ومناسبات عديدة، تقابل بالاصرار على العنف والرفض والمعاناة كما يقول (علیه السلام) فأراد قومنا قتل نبينا واجتياح أصلنا، وهموا بنا الهموم وفعلوا بنا الأفاعيل ومنعونا العذب، وأحلسونا الخوف واضطرونا الى جبل وعر، وأوقدوا لنا نار الحرب (1).

إن حسم الصراع لن يتم إلا بالثبات في المواقف والتماسك في النفس حتى في أحلك الظروف، فلا يفت اليأس من عضد القائد أو يتسرب الى قلبه ولا يرهبه عنف الصراع واحتدامه، فالتربية التي يتحدث عنها الامام (علیه السلام) هي تلك التي تبني كياناً للانسان يلزمه باتخاذ المواقف الأكثر صلابة تجاه الحق، فلا تؤثر فيه الاغراءات، ولا تخيفه الأعاصير كما جاء في قوله الى أخيه عقيل: لا تزيدني كثيرة الناس حولي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة، ولا تحسبن ابن أبيك - ولو أسلمه الناس - متضرعاً متخشعاً، ولا مقراً للضيم واهناً، ولا سلسل الزمام للقائد ولا وطىء الظهر للراكب المقتعد (2) ولا شك من أن لهذا الثبات والتصميم في إزالة كل العوائق التي تحول دون بلوغ التغيير الاجتماعي الهادف، دوراً هاماً في تحقيق النصر النهائي بهدم صروح الحضارة البالية وتشييد لبنات حضارة خالدة فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت وأنزل علينا النصر (3).

ثانياً: التعليم

الفكر خاصية الانسان وحده، به تجلى وتميز عن سائر الخلق، فهو في مواجهته للواقع لا يفتر عن الفكر طرفة عين، حيث تنشأ العلوم والصنائع المختلفة. وحاجة الانسان لا تستقر على نوع معين من العلوم، لذلك فهو يرغب في تحصيل ما ليس عنده منها، من أجل إشباع ما تستدعيه طباعه من الحاجات والرغبات. ولن يتم له ذلك إلا بأخذه ممن سبقه أو زاد عليه في العلم والمعرفة. ومن هنا جاء التعليم. فالعلم والتعليم حاجة طبيعية، فرضها العمران البشري، كما يقول ابن خلدون «فقد تبين بذلك أن العلم والتعليم طبيعي في البشر» (4) 3.

ص: 188


1- أنظر (ح)، ج 14، ص 47.
2- نفسه، ج 16، ص 148.
3- نفسه، ج 4، ص 33.
4- المقدمة، ص 403.

وبالرغم من أن للعوامل الوراثية دورها في تحديد مواهب الفرد وميوله واستعداداته فإن مدى تحقيق هذه الامكانيات يتوقف على البيئة، بما تتيحه من وسائل التعلم والتدريب. لذا فقد أعطت الأمم والشعوب للتعليم مكانة بارزة في دساتيرها وأفسحت بالمجال لدور العلم فيها، وشجعت على طلبه بوسائل عدة، لما كانت تأمله فيه من تقدم وازدهار يطال جميع مرافقها ومؤسساتها.

ولقد كان الاسلام في طليعة الأديان الداعية الى تعلم العلم والتشدد في طلبه وأخذه من أي مصدر كان. وكان النبي صلی الله علیه و آله و سلم يشجع التعليم قولاً وعملاً، فيطلق سراح أسرى الحروب إذا علموا المسلمين القراءة والكتابة، مما يدل على الأهمية التي كان يعطيها للعلم والتعليم في بناء الفرد والجماعة. يقول الابراشي: إن التربية أساس النجاح للفرد والمجتمع. لذلك تنفق الحكومات في الأمم المتمدنية بسخاء على التعليم، موقنة أن في التعليم قوة، وقوة كبيرة في ترقية الفرد والنهوض بالمجتمع الى حياة راقية وعيشة راضية، والتاريخ خير دليل على أن بالتربية والتعليم تحيا الشعوب من موتها، وتنتبه من غفلتها، وتقلل سجونها (1).

ولم يتخلف الامام علي (علیه السلام) عن الدعوة التي أطلقها النبي صلی الله علیه و آله و سلم في طلب العلم وممارسته في الحياة، وهو الذي كان يعتبر الجهل الفقر الأكبر الذي يقود الى العمى والضلال في حين أن العلم يحلق بالانسان في رحاب المعرفة والفضيلة ويسمو به عن الصغائر ليعيش في ملكوت الحق، فقال: اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به (2).

1 - طلب العلم:

يورد (علیه السلام) طرقاً مختلفة، على طالب العلم أن يسلكها للحصول عليه منها:

أ - الفقه في القرآن:

الاسلام يؤمن بالعلم وبقدرته الفائقة على الخلق والابداع. ولقد رفع الله في كتابه. العزيز، من شأن الذين آمنوا وعلموا، فقال عزّ القائل (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (المجادلة / 11) وميز بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون فقال سبحانه ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (الزمر / 9).

والقرآن، كلام الله، وموضع علمه ومحط رسالته، فيه علم الأولين والآخرين، فهو الدواء الشافي من الأمراض والعلل، والمرشد الأمين الى الهداية والاستقامة. لذلك فقد دعا الامام علي (علیه السلام) الى تعلمه والتفقه فيه والعمل به فقال: «وتعلموا القرآن فإنه أحسن

ص: 189


1- التربية والحياة، ص 24.
2- تحف العقول، ص 141.

الحديث، وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور وأحسنوا تلاوته

فإنه أنفع القصص (1).

ب - المحاكاة:

وهي تعني التشبه بأقوال وأفعال الصالحين، ممن تتوفر فيهم ملكات العلم والأخلاق وهذا ما تحدث عنه (علیه السلام) حين أمر ب - «الأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك، والصالحون من أهل بيتك» (2).

إلا أن المحاكاة، وإن كانت من طبيعة الفكر الانساني، فهي غير مأمونة من الخطأ كما يقول ابن خلدون «والمحاكاة للانسان طبيعة معروفة، ومن الغلط غير مأمونة وتخرجه مع الذهول والغفلة، عن قصده وتعوج به عن مرامه، فربما يسمع السامع كثيراً من أخبار الماضين ولا يتفطن لما وقع من تغير الأحوال وانقلابها، فيجريها لأول وهلة على ما عرف ويقيسها بما شهد، وقد يكون الفرق بينهما كثيراً، فيقع في مهواة من الغلط (3).

من هذا الباب، فإن الامام علي (علیه السلام) لم يدع الى محاكاة الأولين دون إمعان النظر فيما نأخذه منهم، وما إذا كان يتناسب مع الظروف الحالية أم لا، فالتقليد الأعمى مرفوض وما نأخذه عن الماضين يجب أن يكون مستنداً الى التفهم حتى لا نقع في الشبهات والخصومات كما يقول: (فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلم، لا بتورط الشبهات، وعلق الخصومات (4).

ج - مجالسة العلماء والحكماء وأصحاب التجارب:

والعلم لا يحصل بمجرد قراءته أو حفظه، بل لا بد من المناقشة والمناظرة في مواضعه وذلك بارتياد المجالس العلمية والمحافل الأدبية، وبحضور مشاهير المعلمين من العلماء والحكماء وأصحاب التجارب الحياتية، حتى تحصل الملكة العلمية، ولن تكون إلا بالمحاورة، والمناظرة في المسائل العلمية، فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرامها (5) كما قال ابن خلدون.

وكان الامام (علیه السلام) يوصي بضرورة مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء للاستفادة منهم فيقول: أكثر من مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء (6). كما كان يحث على مجالسة أصحاب.

ص: 190


1- أنظر (ح)، ج 7، ص 221.
2- نفسه، ج 16، ص 70.
3- المقدمة، ص 29.
4- انظر (ح)، ج 16، ص 70.
5- المقدمة، ص 431.
6- انظر (ح) ج 17، ص 47.

التجارب للاعتبار والاتعاظ بهم فيقول: «عليك بمجالسة أصحاب التجارب» (1)، ولم يفرق في هذا الأمر، بين صديق أو عدو، فالعلم لا ينبغي أن يكون حكراً لأحد، بل هو مشاع للجميع، يطلبه أياً كان مصدره، فيقول (جالس العقلاء، أعداء كانوا أم أصدقاء، فإن العقل يقع على العقل (2).

وهكذا فالتعلم بالمناقشة والمناظرة أفضل بكثير من التلقين والحفظ، وهو من المبادىء التربوية الهامة التي أقرت بها التربية الحديثة.

ولقد أعطى (علیه السلام) الأهمية الكبرى للسؤال باعتباره العامل الذي يضفي على المناظرة الحيوية والنشاط، وهذا ما تعتمده التربية الحديثة التي تنظر الى التعليم على أنه عملية ديناميكية تراهن على إيجابية التعلم وفاعليته بعيداً عن التلقين. إلا أن فلسفة طرح السؤال ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار، بحيث يفضي التساؤل الى المعرفة لا الى الجدل والسفسطة الكلامية. فالسؤال هو لإثارة العقل على التفكير والبحث، وبالتالي ليس أداة للهزل وإضاعة الوقت أو للتساؤل عن أشياء لا يبلغها العقل، فهذا من باب التعنت لا التعلم: سل تفقهاً ولا تسأل تعنتاً، فإن الجاهل المتعلم شبيه بالعالم، وإن العالم المتعنت شبيه بالجاهل (3).

والمناظرة تحتاج الى تدوين المعلومات حتى يتسنى للمتعلم مراجعتها عندما تدعو الحاجة اليها، كي يتمكن من حسن الاستفادة منها - فما يجود به العقل، يترجمه القلم، لأن «عقل الكاتب في قلمه (4) فالكتابة حاجة ضرورية للمتعلم، وعدم معرفته بها تحرمه من فرصة النجاح التام في عملية التعلم، وتفقده أهم وسيلة لجمع المعلومات، لذلك فإن: «عدم المعرفة بالكتابة زمانة خفية» (5).

والكتابة تستلزم الخط الجميل، من حيث تحسين شكل الحروف والفصل بين الكلمات والسطور، مما يكون له أثره في سرعة القراءة والفهم. ويصور الامام (علیه السلام) ذلك بقوله: «الق دواتك واطل جلفة قلمك وفرّج بين السطور، وقرمط بين الحروف فإن ذلك أجدر بصباحة الخط (6).

وليس المهم تنميق الكلام وتزويقه وجذالته، فهذه أمور قد تشغل من يعمد اليها عن 3.

ص: 191


1- انظر (ح) ج 20، ص 335.
2- نفسه، ج 20، ص 312.
3- نفسه، ج 19، ص 232.
4- نفسه، ج 20، ص 328.
5- نفسه، ج 20، 297.
6- نفسه، ج 19، ص 223.

فحوى الكلام ومضمونه، فيظهر غنياً بالشكل لا بالمضمون، لذلك: «من اشتغل بتفقد اللفظة وطلب السجعة، نسي الحجة» (1).

2 - أنواع العلوم:

والتربية، كما يتحدث عنها الامام (علیه السلام)، دينية ودنيوية والأولى تمهيد للثانية وغايتهما واحدة، هي صلاح الانسان في الدارين، اما العلوم المؤدية اليهما، فهي: الشرعية والزمنية، وقد جمعهما (علیه السلام) معاً عندما قال: «أيها الناس، سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السماء اعلم مني بطرق الأرض (2). وعندما يتحدث الإمام علي (علیه السلام) عن طرق السماء، فإنما يقصد (العلوم الشرعية)؛ ويعني بطرق الأرض (العلوم الزمنية).

والعلوم الزمنية تنقسم الى قسمين:

أ - بديهية: يوحي بها العقل، ولا تتطلب التعلم والسماع، بل هي مطبوعة في غريزة العقل حيث يولد الانسان مفطوراً عليها كعلمه بأن الكل أكبر من الجزء، أو أن الشيء الواحد لا يكون قديماً وحادثاً معاً. فهذه الأمور تصدر عن الانسان العاقل بالبداهة فلا يحتاج لاكتسابها إلى التعلم.

ب - مكتسبة: وهي العلوم المستفادة بالتعلم والنظر العقلي. إن هذا التقسيم للعلوم الى فطرية ومكتسبة يظهر عند الامام علي (علیه السلام) أيضاً في قوله شعراً:

رَأَيْتُ العَقْلَ عَقْلَينِ *** فَمَطْبوع ومَسْموعٌ

ولا يَنْفَعُ مَسْمُوعُ *** إذا لم يَكُ مَطْبُوعٌ

كمَا لَا تَنْفَعُ الشَّمْسُ *** وَضَوْءُ الْعَيْنِ ممنوعُ (30)

ولا يمكن التقرب من الله بالعلوم الفطرية أو الضرورية، بل بالمكتسبة وليس كل أحد ممن جمع العلوم المكتسبة يستطيع هذا الأمر لصعوبة إدراك القديم بالعلم الحادث «ولكن مثل علي، رضي الله عنه، هو الذي يقدر على التقرب باستعمال العقل في اقتناص العلوم التي بها ينال القرب من العالمين (3) كما قال الغزالي.

أما العلوم الدينية فهي تلك التي تؤخذ من الأنبياء تقليداً عن القرآن الكريم، ومن

ص: 192


1- انظر (ح)، ج 20، ص 317.
2- نفسه، ج 13، ص 101.
3- المرجع نفسه.

الأئمة تقليداً عن الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، فهي إذن تحصل للانسان بالتعلم عن كتاب الله تعالى وسنة نبيه وحكمة أئمته، وبها تكون سلامة القلب من الأدواء والأمراض لأن العلوم العقلية، منها ما يكون محموداً كالطب والحساب والزراعة وغير ذلك، ومنها ما يكون مذموماً كالسحر والطلسمات والنجوم. لذلك فإن مباشرة الانسان بتعلم العلوم الدينية، تفتح بصيرته وتنمي فيه ملكة التمييز بين الصالح والطالح من العلوم فيختار منها ما يفيده في دنياه وآخرته.

3 - فضيلة العلم:

إن تشبع الامام (علیه السلام) بالعلوم الدينية والدنيوية يدل على مدى الاهتمام بالعلم وتفضيله على سائر مغريات الحياة ومنها المال، فالعلم، مقياس تطور الأمم والشعوب ومعيار تفاضل البشر. والقلوب البشرية باعتبارها مستودع العواطف والمشاعر والنزعات، إنما تتفاضل بمدى وعيها وإدراكها لقيم الحق والخير كما جاء في قوله (علیه السلام) إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها (1) لذلك فهو يقسم الناس في العلم الى ثلاثة أقسام:

- عالم رباني

- ومتعلم على سبيل نجاة.

- و همج رعاع اتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا الى

ركن وثيق.

ثم يفاضل بين العلم والمال، مبيناً ميزات كل منهما حتى يخلص الى تقديم الأول على

الآخر، فيقول: «العلم خير من المال» (2).

وما يرثه الانسان من علم هو أفضل مما يرثه من مال لأن العلم وراثة كريمة (3).

وقد تسامى بهذه الوراثة وجعلها من أشرف الأشياء أشرف الأشياء العلم (4)، وقصر السعادة التامة عليها السعادة التامة بالعلم (5) وجعلها الأداة التي يصول بها الانسان ويجول. العلم سلطان من وجده صال به، ومن لم يجده صيل عليه (6) والعلم هو الملكة التي يفتخر بها العالِمُ على أهل الجهل. كما يقول الامام علي شعراً:

مَا الْفَخرُ إلا لأهل العلم إنَّهُمُ *** عَلَى الهُدَى لِمَنْ اسْتَهْدَى أدلاء

ص: 193


1- أنظر (ح)، ج 18، ص 346.
2- نفسه، ص 346.
3- نفسه، ص 93.
4- نفسه، ج 20، ص 488.
5- نفسه، ج 20، ص 307.
6- نفسه، ج 20، ص 319.

وَقَدْرُ كُلِّ امْرِى مَا كَانَ يُحْسِنُهُ *** وَالجَاهِلُونَ لأهل العلم أعْدَاءُ

فَفُزْ بِعِلْمٍ تَعِشْ حَيّاً بِهِ أَبَداً *** النَّاسُ مَوْتَ وَأَهْلُ العِلْم أَحْيَاءُ (1)

من أجل ذلك كانت دعوته الى ضرورة الاهتمام بالعلم، والعمل على أخذه من أي مصدر كان، لأن العلم لا حدود له ولا يعترف بالتعصب والقبلية لذا وجب على الإنسان أن ينشده من الأعداء والأصدقاء على السواء الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق (2).

فالحياة لا تطلب لذاتها، ولكن لاجل أن يثبت الانسان وجوده، ويحقق انسانيته ولن يتسنى له ذلك بممارسة الشهوات والانغماس في الملذات، فهذه أمور الغاية منها تنمية الجسم ومساعدته على مباشرة الحياة السامية، و لا تطلب الحياة لتأكل، بل اطلب الأكل لتحيا (3).

أما من اقتصر في حياته على الشهوات كان أشبه بالبهيمة التي همها علفها، فانحدر مستواه الخلقي الى درجة لا يحمد عقباها، فصار عبداً لها تقوده الى ما فيه هدر كرامته وضياع انسانيته، لهذا فإن من ترك الشهوات كان حراً (4). كما يقول الامام علي (علیه السلام) ولا سبيل له الى التخلص من عبوديته إلا بطلب العلم الذي ينير قلبه، ويفتح بصيرته. لذا كان العلم أشرف مطلوب، والاهتمام به يفوق سائر الاهتمامات ومن زهد به وشغف بالشهوات، إنما يحكم عليه بالبوار والخسران المبين وينعي (علیه السلام) على أولئك الذين بإمكانهم أن يكونوا أناساً شرفاء، مخلدين في الحياة بعلومهم، ولكنهم انحدروا، لسوء ما اختاروه من زخرف الحياة وبهرجتها إلى مستوى البهائم السافلة فيقول: قبيح بذي العقل ان يكون بهيمة وقد أمكنه أن يكون إنساناً، وقد أمكنه أن يكون ملكاً، وأن يرضى لنفسه بقنية معارة وحياة مستردة وله أن يتخذ قنية مخلدة، وحياة مؤبدة (5). والكرامة التي يستمدها الانسان من ماله أو سلطانه، إنما هي مزيفة لأنها متوقفة عليهما فإذا زالا زالت معهما. أما الكرامة الحقيقية، فهي تلك التي يوجبها العلم والأدب سواء كان الانسان غنياً أم فقيراً، قوياً أم ضعيفاً، فهي حق مكتسب ومفروض، لذا كان الاعتبار للعلم وليس للمال فيقول: «إذا أكرمك الناس لمال أو سلطان، فلا يعجبنك ذاك، فإن زوال الكرامة بزوالها، ولكن ليعجبك أن أكرمك الناس لدين أو أدب (6). من هنا: يجب على العاقل أن يكون بما أحيا عقله من الحكمة 3.

ص: 194


1- أحياء علوم الدين، ج 1، ص 7
2- أنظر (ح)، ج 18، ص 229.
3- نفسه، ج 20، ص 333.
4- تحف العقول، ص 65.
5- أنظر (ح) ج 20، ص 306.
6- نفسه، ج 20، ص313.

أكلف منه بما أحيا جسمه من الغذاء (1). لذا فإن قيمة الانسان، هي بما يحسنه من العلوم والآداب التي بها يتفاضل الناس لا بالحسب والنسب والجاه والسلطان وغير ذلك من الاعتبارات التي لا توازي العلم قيمة وشرفاً واعتباراً. قال ابن عبد البر: «إن قول علي بن أبي طالب: قيمة كل امرىء ما يحسنه لم يسبقه اليه أحد. قال: «وقالوا: ليس كلمة أحض على طلب العلم منها، وقالوا: ولا كلمة أضر بالعلم والعلماء والمتعلمين من قول القائل (ما ترك الأول للآخر شيئاً). قال ابن عبد البر: قول علي هذا من الكلام المعجب الخطير، وقد طار له الناس كل مطير ونظمه جماعة من الشعراء إعجاباً به، وكلفاً بحسنه (2).

4 - آفة العلم:

وإذا كان للعلم هذه الفضائل الجمة التي تستوجب طلبه وأخذه من أي مصدر كان، فإنه من ناحية أخرى قد يكون وبالاً على حامله، ومصدر شر له ولا بناء جنسه، فالعلم سلاح ذو حدين، قد يستعمل للخير والصلاح وقد يستعمل للشر والفساد والانسان هو الذي يحدد وجهة سيره. وما يميز الانسان هو وجود القيم الخلقية والفكرية فيه، تلك التي تعطي للحياة معنى وقيمة. وكم نحن بحاجة اليوم الى مثل هذه القيم، وخاصة الخلقية منها، في عصر طغت عليه الفلسفة المادية وفصل الدين عن الحياة. يقول محمد قطب ونشأت على أنقاض الكنيسة والدين فلسفة مادية بحتة، تستمد وحيها من الأرض، من واقع الحواس ولا ترتفع ببصرها لحظة واحدة الى السماء (3).

لقد أخضعت هذه الفلسفة، الكون والانسان لأحكام القياس والتجريب تماماً كما تخضع العلوم الطبيعية والفيزيائية لقوانين عامة وثابتة، دون تمييز بين المادة الجامدة والمادة الحية. يقول طلال عتريسي: (هذه الفلسفة (المادية) لم تكتف بإخضاع الكون وحركته ووجوده لمفاهيم العقل وقدرته، و للحواس وحدودها ولأحكام القياس والتجريب، دون الاعتقاد بأية قوة خارجة عن الإدراك المباشر والمحسوس، بل أخضعت كذلك وجود الانسان بكل أبعاده لأحكام القياس والتجريب نفسها، ونشطت الأبحاث والنظريات التي تفصل مشاعر الانسان وأحاسيسه عن بعضها لدراستها دراسة علمية ومخبرية، هذا، رغم الحركة الدقيقة والمتشابكة لهذه المشاعر والأحاسيس (4)

ص: 195


1- انظر (ح)، ج 20، ص 322.
2- الدمشقي، جمال الدين: تاريخ الجهمية والمعتزلة، مطبعة المنار بمصر 1331 ه، ص 83.
3- قطب، محمد: الإنسان بين المادية والاسلام، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة ط 4 1965، ص 16.
4- مجلة الفكر العربي: ع 21، أيار / حزيران / تموز / 1981، ص 441.

لذلك فإن خلاص البشرية يكمن في تخليص العلم من آفاته وتنمية الحس الخلقي من خلال تعزيز أثر الدين في النفوس.

هذه الحقيقة تبدو في «نهج» الامام علي جلية واضحة. فهو من جهة يدعو الى احترام العلم واجلاله، ويعتبره أفضل الكنوز وأجملها، خفيف المحمل، عظيم الجدوى، في الملأ جمال، وفي الوحدة أنس (1). إلا أنه من جهة ثانية يوصي بحسن الخلق فيقول: «ما من شيء في الميزان أثقل من خلق حسن (2). و عنوان صحيفة المؤمن حسن خلقه (3) وه عليكم بحسن الخلق فإنه في الجنة، وإياكم وسوء الخلق فإنه في النار (4).

إن الربط بين القيم الخلقية والفكرية، كفيل بتقدم البشرية وسيرها في ركب الحضارة، في حين أن الفصل بينهما، آفة تقضي عليها وتهبط بها إلى الحضيض.

ومن آفات العلم، العجب، وهي نقيصة تدعو الى الكبر وتجاهل الاخطاء، والذنوب، والاستبداد بالرأي وترك المشورة، واستجهال الناس واحتقارهم والأنفة عن المساواة بهم ولذلك فقد نهى عنه، وحذر منه بقوله: حصن علمك من العجب (5). في حين أن التواضع زين للعالم وشرف له التواضع إحدى مصايد الشرف (6).

ومن آفات العلم أيضاً الطمع والاسترسال في الشهوات والملذات مما يؤدي الى الاهتمام بأحوال الجسد وعدم الالتفات الى العلم كغذاء للعقل فيذبل ويموت. فيقول «أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع (7) لذلك فقد حذر من الشهوات لأنها تأسر العقل وتلهيه عن الفكر والنظر وحث الانسان على السمو بلذائذه والارتفاع بها عن حضيض المادة: فإن كنت شاغلاً نفسك بلذة، فلتكن لذتك في محادثة العلماء ودرس كتبهم (8) وما ذلك، إلا لأن تقييد العقل حد لطاقته وشل لنشاطه وفاعليته، ودفعه في مهاوى الشر والرذيلة. وبقدر ما يكون حراً، يكون أغزر انتاجاً، وأسلس قيادة وأكثر أماناً من الوقوع في الهلاك، ذلك أنه: إذا خلى عنان العقل، ولم يحبس على هوى نفس، أو عادة دين، أو عصبية لسلف ورد بصاحبه على النجاة (9). 3.

ص: 196


1- أنظر (ح) ج 20، ص 339.
2- نفسه، ج 6، ص 340.
3- نفسه، ج 6، ص 340.
4- نفسه، ج 6، ص 340.
5- نفسه، 20. ص 318.
6- نفسه، ج 20 ص 290.
7- نفسه، ج 19، ص 41.
8- نفسه، ج 20، ص 266.
9- نفسه، ج 20 ص 343.

وهكذا يدعو الامام (علیه السلام) الى تحرير العقل وتخليصه من آفاته لفسح المجال أمامه للعمل الخلاق. ثم يربط بين العلم والأخلاق، ويجد في هذا التحالف بينهما تمام السعادة وحصانة من الشر والفساد. فيقول «ملاك العقل ومكارم الأخلاق، صون للعرض والجزاء بالفرض

والأخذ بالفضل، والوفاء بالعهد والانجاز للوعد (1)

5 - فضل العلماء:

إن فضل العلماء لا يخفى، وهو يظهر في شتى الكتب السماوية وخاصة الاسلام وكذلك على لسان الأنبياء والأئمة والصالحين من بني البشر. نذكر من ذلك قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ) (آل عمران / 18). وقال الرسول الكريم (العلماء ورثة الأنبياء (2).

ويقول الامام علي (علیه السلام): «العالِمُ مصباح الله في الأرض، فمن أراد الله به خيراً اقتبس عنه (3). فالعالم مصباح زمانه، به يستضاء من الظلمات والجهالات، وبه نبلغ منازل الابرار والدرجات العلى، ولقد فضله الامام علي (علیه السلام) على المؤمن العابد المجاهد فقال «العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد، وإذا مات ثلم في الاسلام ثلمة لا يسدها إلا غيره (4).

وللعلماء فضل في تجويد الحياة وجعلها مستساغة من قبل الناس، وهم وحدهم الذين يكتشفون أسرارها، ويبددون المخاوف الناجمة منها، ولن يكون ذلك الا بتخليص الناس من علائق الدنيا الزائفة وترغيبهم بنعيم الآخرة الخالد، عند ذلك تهون عليهم كل لذة دنيوية مقابل ما يرجونه منها في الآخرة، لهذا صار حق العالم يفوق حق الوالدين، فإذا كان هؤلاء هم السبب في وجود الحياة الفانية فإن العالم هو المفيد للحياة الأخروية.

6 - فضيلة التعلم و التعليم:

يقول تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النحل / 43)، وقال الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم لأن تغدو فتتعلم باباً من العلم خير من أن تصلي مائة ركعة، وقال: باب من العلم يتعلمه الرجل خير له من الدنيا وما فيها (5). وسبق قول الامام علي (علیه السلام) في الحث على التعلم.

يتبين من ذلك، أن التعلم فريضة فرضها الله والرسول والأئمة على المسلمين جميعاً

ص: 197


1- انظر (ح)، ج 20، ص 267.
2- إحياء علوم الدين، ج 1، ص 11 أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي في كتاب و تيسير الوصول الى جامع الأصول من حديث الرسول لابن البديع الشيباني المتوفى (944 ه) ج 3، ص 52.
3- انظر (ح) ج 5، ص 326.
4- إحياء علوم الدين، ج 1، ص 7 - 8.
5- نفسه ج 1، ص 7 - 8.

دون استثناء، وهو يبدأ بعد سنوات التربية ويحدده الامام بالسن السابعة فيقول: «اترك ولدك سبعاً، وعلمه سبعاً، وصاحبه سبعاً (1). وهذا هو السن الأنسب الذي ذهب اليه. أهل الاختصاص في عمر التربية. حيث تتوفر للطفل القدرة على الفهم وتركيز الانتباه بسبب نضجه، وزيادة قاموسه اللغوي، ولا تخفى أهمية العلاقة الطردية، بين النضج والتعلم.

وتحديد سن التعلم بالسابعة، لا يعني إغفال سنوات ما قبلها، بل ينبغي أن تستغل لتقويم سلوك الطفل وتزويده بالقيم الخلقية، والروحية حتى يكون مستعداً لمباشرة التعلم بنفس صافية من الأمراض والشوائب الخلقية. ولقد أجمع علماء النفس على أن السنوات الأولى من عمر الطفل، ذات أثر كبير يكاد يكون حاسماً في تعيين شخصيته المستقبلية وتحديد اهتماماته واتجاهاته. ولا شك من أن لهذه السنوات الفضل الأكبر في تمكين الطفل من اكتساب العديد من المعلومات التي سوف يظهر بها، فيما بعد، على غيره «تعلموا العلم صغاراً تسودوا به كباراً (2) كما يقول (علیه السلام).

وما يجب أن يتعلمه الحدث هو ما ينفعه في مستقبل حياته. والعلوم التي تنفعه هي: الدين وشرائعه كي يعمر قلبه بالتقوى والايمان والخشية من الله في كل عمل يقوم به، وحتى يزهد في الدنيا ولا يغتر بمفاتنها فتأخذ عليه نفسه وتسلبه عقله وتنسيه آخرته.

وما ينفعه أيضاً علم الأخلاق حتى يميز بين الخير والشر، والصواب والخطأ، وحتى تتحسن علاقته بالآخرين ويشعر بالمسؤولية على كل عمل يقوم به ومدى ارتباط هذه المسؤولية بالحرية والثواب والعقاب.

وما ينفعه أيضاً تلك العلوم التي لا بد منها لقوام أمور الدنيا. إذ على المعلم أن يبث فيه مبادىء هذه العلوم لأنها ضرورية له كالطب البقاء الأبدان، والحساب لتسهيل المعاملات والمواريث والزراعة والصناعة والتجارة والحياكة والسياسة وغير ذلك من العلوم النافعة له في دنیاه.

مثل هذه العلوم لا بد للولد من أن يقف عليها منذ صغره فترسخ في ذهنه وتنمو بنموه، وتتطور بتطور عقليته. وهكذا يكون الامام علي (علیه السلام) قد زود الطفل بخامة علمية لا بأس بها، فيشب وعقليته متفتحة، ونفسه تتوق الى المزيد منها لمواجهة تيار الحياة المتجدد باستمرار. ولن تحصل له هذه العلوم بدون تعلم، لذا فإن بذل العلم هو فرض على كل عالم، فلا ينبغي له أن يضن به أو يمنعه سائليه، فهو ملك للجميع وليس له فقط، يتصرف به كما يشاء، ومن يفعل ذلك إنما يعارض إرادة الله التي قضت بطلب العلم وبذله لمحو آثار 7.

ص: 198


1- منهج التربية عند الامام علي، ص 160.
2- انظر (ح) ج 20، ص 267.

الجهل والضلال: «ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا (1) كما يقول الامام (علیه السلام).

لذلك فقد ربط (علیه السلام) بين العلم والعمل. هذا الجمع بينهما أدى الى ما وصلت اليه الأم من تقدم وعمران. فالعلم لا يطلب لذاته، بل لأجل الاستفادة منه، ولن يتم ذلك إلا بممارسته وبذله في شتى ميادين الحياة. من هنا يكتسب العلم فضله وشرفه بينما يبقى ناقصاً لو أجرى على اللسان فقط ولم يأخذ مجراه الى الحياة العملية، وكلما أبحر الانسان فيه كلما ازداد عمقاً واتساعاً كما يقول لكميل بن زياد: العلم يزكو على الانفاق (2). فالغرض الأول للعلم هو العمل به، كما أن تبليغ الدعوة، لا ينفصل عن العمل بأحكامها على أن لا يطلب فيصبح وسيلة للإثراء والمتاجرة مما يحط من شرفه ورفعته ولكن بأن يقصد به وجه الله تعالى يقول ابن جماعة: «حسن النية في طلب العلم بأن يقصد به وجه الله تعالى، والعمل به وإحياء الشريعة وتنوير قلبه وتحليّة باطنه (3).

وعلى العالم أن يعمل وفق علمه وحسب ما يمليه عليه عقله، لأن العالم المنافق يستحيل أن يكون قدوة لغيره طالما أنه يغش بعلمه، ويعطي صورة مغايرة لما يدعيه من العلم فيكون الضرر الناجم عنه أبلغ من الفائدة المرجوة منه. فالتناقض بين العلم والعمل مرفوض في عرف الامام (علیه السلام)، لأن ذلك يؤدي الى فساد الزرع ورداءة الانتاج في الحقل التربوي مما يكون له أثره المدمر على عقلية ونفسية المتعلمين، فيقول: «يا حملة العلم، اتحملونه؟ فإنما العلم لمن علم ثم عمل، ووافق عمله وعلمه (4).

وبما أن الوظيفة الأساسية للعالم هي الارشاد والتوجيه، فلا بد أن يكون صادقاً مع نفسه، فلا يخالف قوله عمله. أما إذا حصل العكس، فلا سبيل الى أن يكون قدوة ومرشداً لغيره بسبب فقدان الثقة بينه وبين المتعلم.

ولا يجب على العالم أن يقول كل ما يعلم، لأن هناك من العلوم ما لا تستسيغه عقول العامة، فلا ينبغي عليه أن يفشي كل ما يعلم الى كل أحد، بل عليه أن يحدث به ما هو أهلاً له، لأن الجاهل لا يأبه به ولا يفهمه والسفيه يسخر منه ولا يقدره، وبذل العلم لهما لا طائل منه. 7.

ص: 199


1- أنظر (ح)، ج 20، ص 247.
2- نفسه ج 18، ص 346، كميل هو من أكابر أصحاب علي (علیه السلام) من اليمن؛ شهد صفين معه، وكان شريفاً عابداً، قتله الحجاج الثقفي سنة 83 ه.
3- الكناني، ابن جماعة: تذكرة السامع و المتكلم في أدب العالم و المتعلم، تحقيق محمد هاشم الندوي، دار الكتب العلمية، بيروت سنة 1354 ه، ص 42.
4- أنظر (ح) ج 20، ص 267.

ولن يتمكن العالم من محادثة الناس بعلمه، إذا لم يكن هو نفسه متعلماً لأن فاقد الشيء لا يعطيه، من هنا أكد الامام (علیه السلام) على ضرورة تعليم النفس قبل تعليم الغير فقال: «من نصب نفسه للناس إماماً فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها، أحق بالاجلال، من معلم الناس ومؤدبهم (1). بل أوجب على المعلم أن يكون ملماً بعلمه، حاذقاً فيه خبيراً بأصوله وقواعده وشوارده، فلا يخفى عليه منه شيء ولا يضعف عن تناول مسألة من مسائله فقال: «إذا سمعتم العلم فاكظموا عليه، ولا تخلطوه بهزل فتمجه القلوب (2). لأن خلط العلم بالهزل تزهيداً للناس بطلبه، وانتفاء للفائدة منه، لهذا قال (علیه السلام): «قصم ظهري، رجلان: عالمٌ متهتك، وجاهل متنسك (3)

7 - أسلوب التعليم:

إن التعليم بنظر الامام علي (علیه السلام)، لا يقوم على التلقين، ولا يعتمد على الكمية بقدر اعتماده على الكيفية كما سبق وأوضحنا فهو في جملته يستند الى المناظرة والمناقشة.

لقد أحاط المتعلم بجو تعبق فيه روح الحرية والنشاط، فمكان الدرس (الجامع يومذاك)، ليس سجناً تمارس فيه شتى أنواع الارهاب والتنكيل، بل هو منتزهاً يرتاده المتعلمون بشوق، تحدوهم اليه العلاقة الأخوية الصادقة بين العالم والمتعلم. فالانفعالات الحادة الناجمة عن الجو التعليمي المتسم بالرهبة، تعرقل العملية التربوية وتترك المتعلم عرضة لكثير من الاضطرابات والعقد النفسية لأن الانفعال ضرب من السلوك تعم آثاره الانسان كله نفساً وجسماً، يحدث أثناءه تغيرات في داخل الجسم وخارجه، فتؤدي إلى إعطائه صورة معينة (4). وإذا كانت للانفعالات الحادة هذه التغيرات التي تؤثر سلباً على شخصية المتعلم، فإن الحد منها يكمن في إيجاد جو من التعليم يكفل له قسطاً وافياً من الرغبة والطمأنينة والانفعالات الهادئة التي تساعد على تأدية وظائفه العقلية بنظام وتنسيق، فكأن هناك شبه تناقض بين التعليم والانفعال.

لقد دعا (علیه السلام) الى تربية سمحة تبتعد عن الضغط والاكراه، لأن الطفولة تختلف في مفاهيمها واهتماماتها عن الرجولة، وما ينجم عنها من أخطاء ينبغي أن لا نقيسها بمقياس الرجل البالغ، فهي تتصرف بوحي من ذاتها التي لا تعرف الحدود والموانع، وأي تصد لها بالعنف إنما هو إحراج لها وقمع لرغباتها. يقول «دي نوي»: «فمن المهم حقاً ألا نحكم

ص: 200


1- انظر (ح) ج 18، ص 220.
2- إحياء علوم الدين، ج 1، ص 76.
3- نفسه، ج 1، ص 58.
4- علم النفس المعاصر، ص 157.

على ذنب يقترفه الولد بالنظر الى نتائجه. فالذنب عند الولد خطير لذاته - مطلقاً لا نسبياً - لأن ذلك قد تقرر على هذا الوجه. وخفة الذنب المطلقة وحدها قادرة على تعويد الطفل نظاماً خلقياً لا سبيل الى التقدم بدونه ويختلف هذا المعيار لدى البالغين (1).

إن الشطط في العقاب أمر غير مرغوب فيه في التربية لأنه يورث الكسل ويحمل على الكذب والخبث والتظاهر بغير ما في النفس خوفاً من القهر ومن شأن الاستمرار على ذلك أن يؤدي الى اعتياد المتعلم على ذلك، فتكسل نفسه عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل. لذلك فلا ينبغي للعقاب أن يتبع الذنب مباشرة قبل التعرف على الدوافع الكامنة وراءه حتى لا يكون عن ظلم وذلك بعدم إتاحة الفرصة للولد كي يدافع عن نفسه ويبرر خطأه أو يقدم اعتذاره لهذا: «لا تتبع الذنب العقوب، واجعل بينهما وقتاً للاعتذار (2). كما قال الامام (علیه السلام) فالتربية التي يسودها التوتر والانفعال يستبعدها (علیه السلام). بل ويرى فيها هدراً لكرامة الانسان وإفساداً لمعاني الانسانية لديه وإضعافاً لقواه العقلية والخلقية وإماتة لقيم الإلفة والمحبة والتعاون في نفسه، لذلك فهو يحذر منها ويقول: (إحذروا الكلام في مجالس الخوف، فإن الخوف يذهل العقل الذي منه نستمد، ويشغله بحراسة النفس عن حراسة المذهب الذي نروم نصرته واحذر الغضب ممن يحملك عليه، فإنه مميت للخواطر مانع من التثبت، واحذر من تبغضه فإن بغضك له يدعوك الى الضجر به، وقليل الغضب كثير في أذى النفس والعقل، والضجر مضيق للصدر، مضعف لقوى العقل. واحذر المحافل التي لا إنصاف لاهلها في التسوية بينك وبين خصمك في الاقبال والاستماع ولا أدب لهم يمنعهم من جور الحكم لك وعليك. واحذر حين تظهر العصبية لخصمك بالاعتراض عليك وتشييد قوله وحجته، فإن ذلك يهيج العصبية والاعتراض على هذا الوجه يخلق الكلام ويذهب بهجة المعاني، واحذر كلام من لا يفهم عنك فإنه يضجرك، واحذر استصغار الخصم، فإنه يمنع من التحفظ، ورب صغير غلب كبيرا (3).

8 - حق العالم على المتعلم:

وإذا كان للمتعلم على المعلم حق تربيته، وتأديبه وتزويده بالعلوم والمعارف حتى تستقيم نفسه وتتوق الى ممارسة الفضائل لتصبح ملكة تطبع سلوكه في مجريات حياته فإن للعالم على المتعلم حقوقاً ينبغي احترامها والتقيد بها تقديراً له ولمهنته التي هي من أشرف المهن وأصعبها على الاطلاق. من هذه الحقوق ما رواه الامام (علیه السلام) حيث قال: «من حق العالم على المتعلم ألا يكثر عليه السؤال ولا يعنته في الجواب، ولا يلح عليه إذا كسل، ولا يفشي

ص: 201


1- مصير الانسان، ص 302 - 303.
2- انظر (ح) ج 200، ص 328.
3- نفسه، ج 20، ص 281.

له سراً، ولا يغتاب عنده أحداً، ولا يطلب عثرته، فإذا زل تأنيت أوبته، وقبلت معذرته، وان تعظمه وتوقره ما حفظ أمر الله وعظمه، والا تجلس أمامه وان كانت له حاجة سبقت غيرك الى خدمته فيها. ولا تضجرن من صحبته، فإنما هو بمنزلة النخلة ينتظر متى يسقط عليك منها منفعة وخصه بالتحية واحفظ شاهده وغائبه وليكن ذلك كله لله عزّ وجل (1).

إن التعليم رسالة تشترط طرفين موجودين في إطار تربوي واحد. ولقد حدد الأمام علي (علیه السلام) مبادىء هذه العلاقة من خلال ما يتوجب على كل طرف تجاه الطرف الآخر. فإذا اتسمت تلك العلاقة بهذا الطابع الأخوي، عمت المنفعة وحصل الاصلاح. 9.

ص: 202


1- أنظر (ح) ج 20، ص 269.

أنواع التربية

أولاً: التربية الاجتماعية

1 - الأسرة وأثرها في إعداد الانسان:

الأسرة هي الخلية الاجتماعية الأولى في نسيج المجتمع لذلك كانت محور دراسات الفلاسفة منذ القدم، وموضع اهتمام الديانات السماوية وجميع النظم والدساتير السياسية، وهي تعتبر بحق من أهم عوامل تقدم المجتمعات وتطورها واستقرارها بفعل العناصر الخيرة والفاضلة والمؤثرة التي ترفدها بها.

وهي مجتمع صغير تتكون من زوج وزوجة والأولاد والخدم وربما شملت أيضاً الجدود والأحفاد والأقارب على أن يكونوا مشتركين في معيشة واحدة.

ولقد لعبت الأسرة، وما تزال دوراً مهماً في تنشئة الأجيال وإعدادها. ومهما قيل عن تراجع دورها بفعل المؤسسات المختلفة التي استحدثها المجتمع لتحل محلها، فإنها ما زالت تمارس وظيفتها في التناسل والتنشئة الدينية والخلقية والاجتماعية بشكل يدعو الى صعوبة الاستغناء عنها أو التقليل من أهميتها باعتبارها أكثر التصاقاً ومعرفة بالطفل وأدق تنظيماً وأحكاماً من سائر المؤسسات التربوية التي من المفترض أن تحل محلها.

والأسرة من الفعاليات الاجتماعية الديناميكية التي تنزع الى مسايرة التطور ولا تستنكف التأثر بالنظم والتغيرات الحضارية لتعود وتؤثر في باقي أجزاء البناء الاجتماعي. فالتفاعل بينها وبين سائر أنظمة ومؤسسات المجتمع متبادل وهي لا تفتأ تؤثر التكيف والنمو والتجديد وفي ذلك يكمن سر تقدم المجتمعات وتطورها.

وإذا كان للأسرة دورها في التقدم فإنها من جهة ثانية، يمكن أن تلعب دوراً هداماً تكون نتيجته التفكك والاضطراب. ذلك أن المجتمع يتكون من مجموعة من العادات والتقاليد والأعراف والقيم والنظم والقواعد، ولا بد أن يمثلها أفراده في تصرفاتهم وعلاقاتهم بعضهم مع بعض حفاظاً على السلامة والاستقرار الاجتماعي. وعلى عاتق الأسرة تقع مهمة

ص: 203

تزويد الأطفال بها، وتعويدهم عليها، وإلا فإن الشواذ منهم يكونون عامل هدم وتخريب وعدم استقرار.

كذلك فإن أثرها في احترام قوانين المجتمع ونظمه وأحكامه، لا يقل أثراً عن اهتمامها بتزويده بالعناصر الفاعلة. وهذا الأمر يتوقف على القيم السائدة بين الآباء والأبناء، لذلك يؤكد علماء النفس الاجتماعي على ضرورة أن تتسم العلاقة فيما بينهم بالاتزان والانسجام والتعاون والاحترام المتبادل.

ولا شك في أن الأسرة مسؤولة عن سلامة الأطفال النفسية وانحرافهم وشذوذهم والسبب يكمن في عدم الاستقرار العاطفي بين الآباء من جهة، وبينهم وبين الأبناء من جهة ثانية أو بين الأبناء أنفسهم.

وهي من جهة أخرى، مسؤولة عن تزويدهم بالاتجاهات والنماذج السلوكية المقبولة، إذ في داخلها يتعلم الطفل قيم الأخلاق وقواعد الآداب ونماذج السلوك الحسن وأساليب الثواب والعقاب ومناحي الحق والخير والجمال والتعاون والمحبة والعمل وغير ذلك. لهذا يمكن اعتبارها إحدى العوامل الأساسية في بناء الكيان التربوي وتحقيق عملية التطبيع الاجتماعي. فالعائلة رغم كونها مؤسسة اجتماعية صغيرة، إلا أنها كبيرة الأهمية وعليها تتوقف قوة المجتمع ومنعته.

ويمكن تلخيص أثرها في الطفل بأمور ثلاثة ذكرها «جون ديوي» وهي:

أ - تكوين العادات اللغوية:

إن أساليب الكلام الأساسية والجانب الأكبر من المفردات اللغوية إنما تتكون في سياق الحياة داخل الأسرة. فالطفل يتعلم لغة أمه. يقول «ديوي»: «أجل إن التعليم المقصود في المدارس قد يصلح من هذه العادات اللغوية أو يبدلها، ولكن ما أن يتهيج الأفراد حتى تغيب عنهم في كثير من الأحيان أساليب الحديث التي تعلموها عن عمد، ويرتدون الى لغتهم الأصلية الحقيقية.

ب - الآداب الاجتماعية:

إن القدوة الحسنة أفضل من النصيحة، والعمل الطيب أبلغ أثراً من الكلمة المجردة والتربية الفاضلة إنما تكتسب برياضة النفس على العمل الصالح لا باكتساب المعلومات عنها. يقول «ديوي»: «وعلى الرغم من الجهود المقصودة المستديمة في تعليم الأفراد وتقويم سلوكهم، فإن الجو والروح المحيطين بهم يبقيان أقوى العوامل المؤثرة في تكوين آدابهم.

وما الآداب الاجتماعية سوى الأخلاق مصغرة، أما في السمت الأعلى من الأخلاق

ص: 204

فالتعليم المقصود لا يكاد يكون قوي الأثر إلا على قدر مطابقته لسيرة الأفراد الذين يكونون بيئة الطفل الاجتماعية.

ج - في الذوق السليم وتقدير الجمال:

إن الطفل يأخذ أول فكرة عن الجمال والذوق من الأسرة، من خلال مشاهدته لأثاث البيت وتنسيقه، والترتيب الحاصل في الملابس التي يرتديها، أو التي يرتديها باقي أفراد أهله.

كما أنه يكتسب من الأسرة، أول فكرة عن النظافة والثواب والعقاب، والحكم على الأشياء، واتخاذ القرارات وغيرها من النماذج السلوكية التي تساعده على حسن التكيف و التفاعل مع غيره من أعضاء المجتمع الكبير الذي سينتقل اليه فيما بعد (1).

ونظراً لهذا الدور الهام الذي تلعبه الأسرة في بناء كيان الفرد والجماعة فقد عني الاسلام بدراسة شؤونها وتنظيمها وتشكيلها في صورة فاضلة وراقية، تتفق مع أحدث التشريعات. وكانت عنايته بها حقيقة انفرد بها عن سائر الشرائع السماوية والأرضية. ومن يتدبر القرآن، يجد تركيزه وبجدية على ضرورة الالتزام بشروطها ومتطلباتها، بما يؤدي الى ترابطها وتماسكها لما للطلاق من آثار سيئة عليها وعلى المجتمع - لذلك فقد جعل للزواج أحكاماً، ووضع للطلاق وتعدد الزوجات قيوداً، وقرر للزوجين من الحقوق والواجبات المتبادلة ما به تحسن المعاشرة، وتقوى الرابطة وتطيب الحياة. ولا نكاد نجد في تشريع ما، أرضي أو سماوي مثل هذه القاعدة الجليلة التي جعلها القرآن أساساً للحياة الزوجية ولفت بها الأنظار الى ما بين الزوجين من الحقوق والواجبات، تلك القاعدة التي وردت في قوله تعالى (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة / 228) (2)

2 - موقف الامام (علیه السلام) من الأسرة:

يشير الامام (علیه السلام) الى أهمية هذه المؤسسة وأثرها على الفرد والمجتمع فيقول: «أيها الناس، انه لا يستغني الرجل وان كان ذا مال عن عشيرته ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم، وهم أعظم الناس حيطة من ورائه و ألِّمهِم لشعئه وأعطفهم عليه عند نازلة ان نزلت به ولسان الصدق يجعله الله للمرء في الناس خير له من المال يورثه غيره (3).

الى أن يقول: (الا لا يعد لن أحدكم عن القرابة يرى بها الخصاصة أن يسدها بالذي

ص: 205


1- الديمقراطية والتربية، ج 1، ص 20.
2- مجلة عالم الفكر، م 7، ع 2، ص 40، 1976، مقالة للدكتور عبد الباسط محمد حسن، بعنوان «مكانة المرأة في التشريع الاسلامي».
3- انظر (ح) ج 1، ص 312.

لا يزيده إن امسكه، ولا ينقصه إن أهلكه، ومن يقبض يده عن عشيرته، فإنما تقبض منه عنهم يد واحدة، وتقبض منهم عنه أيد كثيرة، ومن تلن حاشيته يستدم من قومه المودة (1).

إن مفهوم الامام (علیه السلام) للعائلة، لا يقتصر على الآباء والأولاد، بل هو يمتد ليشمل العشيرة بأكملها وما تتضمنه من الأحفاد والأجداد والأقارب. ونظراً للدور الهام الذي تلعبه في بناء كيان الأفراد وحمايتهم من الأخطار التي تحدق بهم، فإنه يحث الأغنياء منهم على مواساة أقاربهم الفقراء وصلتهم بالمال ويرغب اليهم هذا الأمر بالذكر الجميل والاعتضاد بالعشيرة ودوام محبتها لهم.

والواقع أن الانسان لا يستطيع الاستغناء عن عائلته وخاصة في صغره كما أن المال لا يوفر له بدلاً عنها، فهي بالنسبة اليه ضرورة ملحة طيلة حياته ووظيفتها لا تقتصر على حماية أبنائها من خطر الآخرين بل انها تتعدى ذلك الى أخذهم بمختلف أنواع التربية حتى يشبوا صالحين. كما أنها المكان الذي يجد فيه الطفل الرعاية اللازمة لنموه وتطوره. يقول «جون ديوي» إن بني الانسان يولدون قليلي النضج الى درجة أنهم لو خلوا وأنفسهم بدون توجيه الآخرين وعونهم ما تمكنوا من الحصول حتى على أيسر الكفايات اللازمة لحياتهم المادية فصغار البشر يظهرون قليلي الحظ من الكفايات الأصلية إذا ما وزنوا بصغار الحيوانات الدنيا حتى أنهم لا قِبَلَ لهم باكتساب القوى التي تكفل حصولهم على ما يسد رمقهم إلا بحياطة غيرهم فما أشد حاجتهم الى الرعاية إذا، في محيط بلغت فيه الانسانية مبلغها من الصناعة والفن والعلم والخلق (2).

3 - روابط الأسرة:

إن روابط الأسرة كما حددها الامام (علیه السلام) تتسامى عن تلك التي جمعت بين أفراد القبيلة في الجاهلية. فالعصبية القائمة على صلة الرحم، هي من النزعات الطبيعية في البشر فرضتها الحمية على الأهل والأقارب كما يقول ابن خلدون: (وذلك ان صلة الرحم طبيعي في البشر، إلا في الأقل. ومن صلتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة، فإن القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه، ويود لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك، نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا (3).

هذه النزعة الطبيعية في البشر، تؤدي الى «الاتحاد والالتحام» فيما بين أفراد النسب الواحد، لأنها تحملهم على التعاضد والتناصر وتستلزم استماتة كل واحد منهم دون صاحبه (4)

ص: 206


1- أنظر (ح) ج 1، ص 313.
2- الديمقراطية والتربية، ج 1، ص 4. |
3- المقدمة، ص 128.
4- نفسه، ص 154.

إلا أن هذه العصبية لم تستبعد الظلم الناجم عن الغزو، ولم تتخلص من الأحقاد التي زرعت الدماء والتنافر بين القبائل المختلفة بما نجم عنها من حروب اكتوى الناس بنارها.

وإذا كان لصلة الرحم دورها الهام في توثيق عرى الاتصال بين أفراد الأسرة الواحدة. فإن هذا لا يعني التغافل عما يصدر عنهم من مظالم ومساوىء يلحق ضررها بالآخرين. ولقد تدارك (علیه السلام) هذا الظلم الناجم من استغلال البعض لهذه الصلة من أجل تحقيق مآرب شخصية ولم يتسامح في أي عمل يستحق المؤاخذة ومن أي مصدر كان قريباً أم بعيداً، فلا يدعو إلا إلى الحق الذي على أساسه يفاضل بين الأعمال. فعندما تنكر عبد الله بن عباس والي البصرة لابن عمه علي بن أبي طالب (علیه السلام) وقابله بالعداوة بعد الصداقة، وسرق أموال المسلمين مدعياً حقه فيما أخذ، كتب اليه الامام يعنفه ويوبخه ويتوعده بالقتل ان لم يرجع للناس أموالهم التي سرقها، فيقول: فاتق الله واردد الى هؤلاء القوم أموالهم، فإنك ان لم تفعل، ثم أمكنني الله منك، لأعذرن الى الله فيك، ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلا دخل النار (1).

وهكذا فالإمام علي (علیه السلام) لم تمنعه قرابته لابن عباس من أن يدفع الظلم الذي ارتكبه ان هذا التماسك في شخصيته دفعه الى تطبيق ما يؤمن به قولاً وعملاً، وحتى على أقرب الناس اليه. لقد أقسم أن ولديه، على قربهما منه وكرامتهما عليه، لو فعلا ما فعله ابن عباس

من الخيانة، لما كانت لهما عنده هوادة في أخذ الحق منهما، لأنه لا يخشى فيه لومة لائم. فيقول: والله لو أن الحسن والحسين فعلاً مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة، ولا ظفرا مني بإرادة حتى آخذ الحق منهما، وأزيح الباطل عن مظلمتها (2).

لقد أراد الامام (علیه السلام) من الانسان أن يكون نصيراً للحق، ثابتاً عليه، فلا تأخذه فيه شفقة أو رحمة أو عاطفة أو عصبية. ومهما تكن لهذه الروابط من تأثير في النفوس فإنه لا ينبغي أن تحد من رؤية الحق ونصرته، وإذا كان للعصبية شأنها في تقوية الصلة بين أفراد العشيرة فإن الامام (علیه السلام) يسمو بها إلى درجة تحد مما يلحق بها من مظالم وأحقاد ويجعلها سبباً لمكارم الأخلاق.

فهو إذ يوبخ الناس على تعصبهم للباطل الذي تثور به الفتن، وتسفك بسببه الدماء، لسبب واه، كتعصب ابليس على آدم لأصله، ويقول لهم (ولقد نظرت فما وجدت أحداً من العالمين يتعصب لشيء من الأشياء إلا عن علة تحتمل تمويه الجهلاء أو حجة تليط بعقول السفهاء غيركم، فإنكم تتعصبون لأمر ما يعرف له سبب ولا علة (3). فإنه يحذرهم من.

ص: 207


1- أنظر (ح) ج 16، ص 168.
2- نفسه، ج 16، ص 168.
3- نفسه، ج 13، ص 166.

هذا الأمر الذي لا طائل منه وينبههم الى مواقع العصبية وما ينبغي أن تكون له، وهي مکارم الأخلاق ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور، تلك التي تفاضل بها أهل المجد والشرف والنجدة من بيوتات العرب وسادات القبائل فيقول: (فإن كان لا بد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأخلاق، ومحاسن الأمور، فتعصبوا لخلال الحمد، من الحفظ للجوار والوفاء بالدمام والطاعة للبر والمعصية للكبر والأخذ بالفضل، والكف عن البغي والاعظام للقتل والانصاف للخلق والكظم للغيظ واجتناب الفساد في الأرض (1).

فروابط العشيرة إذاً ليست العصبية العمياء، ولكنها روابط الحق والعدل والعمل الصالح ومكارم الأخلاق. وكل ما عدا ذلك فهو باطل، وما قول الامام (علیه السلام): فإن كان لا بد من العصبية ... إلا تأكيد على أصالة قوى الشر والعدوان عند الانسان الى جانب قوى الخير. تلك القوى التي لو تركت دون توجيه وإرشاد لشب عليها الانسان وأصبح من العناصر الشاذة في المجتمع. لذلك فلقد حاول أن يصرفها بطريقة تكفل السلامة النفسية. إذ لا يمكن كبت تلك القوى لأنها سوف ترتد إلى اللاشعور أو الجانب المظلم من النفس وتصبح من الدوافع اللاشعورية والرغبات المكبوتة التي لا تستقر ولا تهدأ بل تحاول جاهدة أن تعبر عن نفسها بشتى الصور وتنجح في ذلك حينما يغفل الرقيب فتظهر في صورة متنكرة كما في أحلام النوم كتعبير رمزي عن محتويات اللاشعور، كما تعبر عن نفسها في صورة أمراض عصابية (2).

وهكذا فالكبت وان كان يحول دون التعبير الطبيعي والمباشر عن الدوافع اللاشعورية إلا أنه لا يمنعها من أن تعبر عن نفسها في صور تنكرية ملتوية.

كما أنه لا يمكن قمعها واستبعادها بالقوة لأنها ستعود من جديد إذا خف عليها الضغط ولم تجد من يردعها. وفي كلتا الحالتين تتحول تلك القوى الى عقد نفسية وأمراض عصابية لها أثرها السيء على الإنسان.

لذلك فقد استبعد الامام (علیه السلام) هذا الاسلوب السلبي، وقال بوجوب الاعلاء والتسامي بها وصرفها في أمور يرضى عنها المجتمع. فبدلاً من أن يتعصب القوم لعشائرهم لأسباب يغلب عليها الجهل والعداوة والأحقاد مع ما ينتج عن ذلك من المآسي والشرور، فليكن التعصب لما فيه خير الفرد والمجتمع معاً.

وللامام (علیه السلام) أسلوب آخر في توجيه دوافع الفرد، تمثل في مبدأ الثواب والعقاب ولقد اعتمده من أجل تشجيع الانسان على فعل الخير ونهيه عن فعل الشر، لما في الثواب أو 5.

ص: 208


1- انظر (ح)، ج 13، ص 166.
2- علم النفس المعاصر، ص 115.

العقاب، المادي أو المعنوي، من أثر في اصلاح رغباته ودوافعه، وسوف نرى ذلك في مکانه.

أ - العواطف:

وهي من أكثر الروابط فعالية بين أفراد الأسرة، فالعاطفة «نظام يتألف من عدة ميول وجدانية مركزة حول شيء ما (شخص أو جماعة أو فكرة مجردة) تكيف الشخص لاتخاذ اتجاه معين في شعوره وتأملاته وسلوكه الخارجي (1).

وهي، من هذا المنطلق، تتميز عن الميول الفطرية، بالرغم من أنها ولدت منها، كذلك فإنها تتأثر بالعوامل الاجتماعية وتنمو وتتهذب بالتفكير والتأمل والتجارب الانفعالية المختلفة، كما أنه لها أثرها في تنظيم الحياة الانفعالية للفرد، وتوجيه السلوك والدوافع الفطرية توجيهاً حسناً بحيث تصبح أكثر ثباتاً واستقراراً مما يساعد على التنبؤ بسلوكه. والعاطفة، وان كانت من الروابط الهامة بين أفراد الأسرة الواحدة إلا انه لا ينبغي أن تصل الى حد الافراط أو التفريط لأن كلاهما مضر ومفسد لنفسية الانسان كما يقول (علیه السلام): «فكل تقصیر به مضر، وكل إفراط له مفسد (2).

إن عدم رعاية الطفل والاهتمام به وحرمانه من المحبة والعاطفة يؤدي الى تبرمه بأسرته وانعزاله عنها وسوء الظن بها، ومن ثم التطرف في أقواله وأفعاله، كما أن إحاطته بجو من العطف المفرط المشوب بالقلق واللهفة يجبره على الارتكاس الى طفولته الأولى حيث كان يجد لذته الطفلية ويجعله اتكالياً في شتى أموره، ويبذر بذور القلق في نفسه. فالعلاقة العاطفية التي تسود جو الأسرة، لها أثرها في سلامة الطفل النفسية وفي تحديد سلوكه الاجتماعي المقبل، ذلك لأن الطفل ان كان غير واثق من عطف والديه وكانت علاقته بهما مشوبة بالقلق والخوف، فلن يبدي استعداداً للتعاون الايجابي مع الآخرين، وإن كانت الرابطة العاطفية التي تربطه بهما هي رابطة العطف المفرط من جانبهما والاعتماد المطلق من جانبه فلن يسعى الى التعلق عاطفياً بافراد من خارج الأسرة. وانما يقنع بالارتباط الطفلي اللذيذ، ويعرض عن كل ما من شأنه أن يفض هذا الارتباط (3).

أما إذا ألف الطفل من والديه قدراً كافياً من الحب المتزن، فإنه لن يتوانى عن المشاركة في شتى أمور الأسرة، ومن ثم يصبح من العناصر المقبولة اجتماعياً بسبب هذه العاطفة المتوازنة التي كفلت الأمن والطمأنينة له، ذلك لأن الحب الوحيد الكفيل بإشاعة الأمن في 4.

ص: 209


1- علم النفس المعاصر، ص 166.
2- انظر (ح) ج 18، ص 271.
3- المليجي، عبد المنعم وحلمي: النمو النفسي، دار النهضة العربية، بيروت، ط 4، ص 224.

نفس الطفل هو الحب الثابت المتزن، وهو وحده الذي يطبع علاقات الطفل الاجتماعية المقبلة بطابع الثقة (1).

هذا الجو المتسم بالمحبة الصادقة والعواطف النبيلة المتزنة، هو ما يدعو اليه الامام (علیه السلام) على أن يكون الطابع الذي يطبع علاقة الآباء بباقي أفراد أسرتهم. لقد كانت الروح الحاكمة في الأسرة التي تكلم عنها، هي روح التواضع والمحبة والصداقة والاحترام المتبادل. فالعاطفة الأبوية التي تربط بين الآباء والأبناء، ينبغي أن تتأكد بتقديم النصائح والتوجهات والمعاملة الحسنة.

لذا كان من الواجب على الأبوين أن يخلقا في البيت جواً عائلياً مشبعاً بروح المودة والحب. فإذا ما درج الأولاد على هذه الروح في حياتهم البيتية، سهل عليهم نقلها الى حياتهم الاجتماعية الواسعة، ولقد عبر (علیه السلام)، عن هذه العاطفة النبيلة بقوله: «ووجدتك بعضي، بل وجدتك كلي، حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني، وكان الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي (2).

كذلك فإن الرباط العاطفي بين الآباء له أثره على الأبناء، لأن السعادة العائلية تبعث الطمأنينة في نفس الطفل، في حين أن عدم الاستقرار العائلي له ضرره في تعقيد نفسيته وهروبه من الواقع المؤلم الذي يعيشه مما يساهم في سوء تكيفه الاجتماعي. فإذا عجز الآباء عن تأمين هذا الجو العاطفي، فلا مجال للتحدث عن أطفال أسوياء. لذا كانت «مودة الآباء قرابة بين الأبناء (3).

لقد دخلت كلمات الامام (علیه السلام) إلى أعماق النفس البشرية وسبرت أغوارها وكشفت عن مكنون أسرارها، ووقفت على ما يلائمها من الفضائل والمعارف والعواطف والانفعالات ودعت الى تنشئتها عليها حتى يستقيم نهجها وتسمو في مدارج العلم والأخلاق.

ب - الحقوق والواجبات:

إن العيش ضمن نطاق الأسرة يفرض جملة من الحقوق والواجبات المتبادلة بين الآباء والأبناء، حيث لا يمكن بدونها حفظ كيان الأسرة وضمان استمرارها. فالآباء الذين لا يكترثون بأبنائهم ولا يعبأون برعايتهم وتربيتهم، وكذلك الأبناء الذين يظلمون آباءهم ولا يحترمونهم ولا يقدمون يد المساعدة لهم، إنما يقترفون خطأ فادحاً في ضمير الانسانية وشرخاً واسعاً في كيان الدين والمجتمع. وكم نحن بحاجة اليوم الى تدعيم الأسرة وتمتين وشائجها في.

ص: 210


1- النمو النفسي ص 220.
2- أنظر (ح)، ج 16، ص 75.
3- نفسه، ج 19، ص 214.

عصر طغت على أبنائه المادية الهدامة وقل أثر الدين في النفوس، فتنكر الابن لأبيه وشغل الأب عن ابنه.

ولقد أدرك الامام (علیه السلام) هذا العصر ومنذ آلاف السنين وكشف عما يعتوره من رذائل ومفاسد فيقول: (يأتي على الناس زمان لا يقرب فيه الا الماحل ولا يظرف فيه الا الفاجر ولا يضعف فيه الا المنصف يعدون الصدقة فيه غرماً، وصلة الرحم منا، والعبادة استطالة على الناس (1).

ونظراً لأهمية الأسرة كإحدى الركائز الثابتة في بناء المجتمعات وتقدمها فإن ما تحدث به الامام (علیه السلام) يدعو الى تدعيمها وتوثيق الصلة بين أفرادها من خلال ربطها بحقوق وواجبات تكفل لها الاستمرار والتقدم فجعل للأبناء حقاً على الآباء، وكذلك للآباء على الأبناء، وألزم كلاً منهما واجبات تجاه الآخر. وإذا تأكد حق القرابة والرحم فأخص الأرحام أفضلهم بذلك.

إن طاعة الوالدين وبرهما من علامات المؤمن لقوله تعالى ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) (النور / 51) ولقد أوصى سبحانه ببر الوالدين وصلتهما في قوله الكريم (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ) (لقمان / 14) ومعاملتهما في الدنيا بالمعروف حتى وان خالفا قول الحق لقوله عزّ وجل: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) (لقمان / 15) وقوله عزّ القائل: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) (الاسراء / 23).

وهكذا فحق الآباء على الأبناء هو البر والطاعة في كل شيء إلا في معصية الله سبحانه، وحتى في هذه الحالة الأخيرة، فإن الله سبحانه يوجب الاحسان الى الوالدين وعدم زجرهما أو التأفف منهما (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء / 24).

أما حق الأبناء على الآباء فيتجلى في أمور ثلاثة:

- في تحسين الاسم: إن للاسم أثراً على نفسية الطفل في مستقبل حياته، فبعض الأطفال يخجلون من ذكر أسمائهم ويرفضون مناداتهم بها وقد يفتعلون المشاكل بسبب ذلك، وربما يحاولون تغييرها بأسماء يرتاحون اليها. في حين أن البعض الآخر يطربون لسماعها وقد يعتزون بها ويشمخون. من هنا وجب الحرص والتمهل والاعتناء في اختيار الاسماء حفظاً على سلامة الطفل النفسية وحسن تكيفه الاجتماعي.

ومن حق الولد على والديه أيضاً حسن اختيار مرضعته. ويرى الامام علي (علیه السلام) أن لبن 0.

ص: 211


1- أنظر (ح) ج 18، ص 260.

الأم هو أكثر فائدة للصبي من لبن أية مرضعة أخرى كما يقول «ما من لبن يرضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أمه» (1) وإذا تعذر ذلك فإنه يوجب النظر في اختيار المرضعة فيقول «انظروا من يرضع أولادكم فإن الولد يشب عليه» (2). ولذا فقد استبعد الحمقاء عن الرضاعة، لأن لبنها يؤثر على طباع الطفل، «ولا تسترضعوا الحمقاء فإن اللبن يغلب الطباع» (2).

وقد عبر عن ذلك ابن سينا في قوله «ان من حق الولد على والديه احسان تسميته ثم اختيار ظئرة كي لا تكون حمقاء ولا ردهاء ولا ذات عاهة فإن اللبن يعدي كما قيل (3).

- في تحسين الأدب: والطفل أمانة والديه، ونفسه جوهرة نقية خالية من كل نقش، لذلك وجب أخذه بالآداب الصالحة والأخلاق النبيلة والعلوم النافعة، لما لها من مردود خير عليه وعلى المجتمع الذي يعيش فيه، وذلك قبل أن تستفحل فيه الأخلاق والآداب الذميمة. وعلى كاهل الأسرة يقع عبء تعهد الطفل بالرعاية والتثقيف والتأديب والتهذيب وتمكينه من ممارسة الفضائل الخلقية والأدبية. وهذا ما أثبته ابن سينا بقوله: «فإذا فطم الصبي عن الرضاع بدىء بتأديبه، ورياضة أخلاقه قبل أن تهجم عليه الأخلاق اللئيمة وتفاجئه الشيم الذميمة، فإن الصبي تتبادر اليه مساوىء الأخلاق وتنثال عليه الضرائب الخبيثة فما تمكن منه من ذلك غلب عليه فلم يستطع له مفارقة ولا عنه نروعا (4).

- في تعليمهم القرآن: وما ذلك إلا لأن القرآن يأمر بالخير، وينهي عن الشر ويجنب قبائح الأخلاق ويدعو الى محاسن الفضائل والآداب وفيه شفاء من النفاق وهداية من الضلال. وقد عبر الامام (علیه السلام) عن فضل القرآن بقوله: «واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدّث الذي لا يكذب وما جالس هذا القرآن أحد الا قام عنه بزيادة أو نقصان، زيادة في هدى، ونقصان من عمى.

واعلموا انه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنى فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به على لأوائكم، فإن فيه شفاء من أكبر الداء. وهو الكفر والنفاق والغي والضلال، فاسألوا الله به، وتوجهوا اليه بحبه ولا تسألوا به خلقه وانه ما توجه العباد الى الله تعالى بمثله.

واعلموا أنه شافع مشفع، وقائل مصدق، وانه من شفع له القرآن يوم القيامة شفع 3.

ص: 212


1- مستدرك نهج البلاغة، ص 171.
2- نفسه، ص 171.
3- نفسه، ص 171.
4- نفسه، ص 1073.

فيه، ومن محل به القرآن يوم القيامة صدق عليه، فإنه ينادي مناد يوم القيامة، ألا أن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبه عمله، غير حرثة القرآن، فكونوا من حرثته واتباعه واستدلوه على ربكم واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آراءكم واستغشوا فيه أهواءكم (1).

وإذا كانت للقرآن هذه المزايا الهامة، كان لا بد من تنشئة الطفل عليه حتى يتمثله قولاً وعملاً. وهذا ما دعا اليه ابن سينا عندما قال: فإذا اشتدت مفاصل الصبي. واستوى لسانه وتهيأ للتلقين ووعى سمعه أخذ في تعلم القرآن وصور له حروف الهجاء ولقن معالم الدين (2)

ولقد ذكر (علیه السلام) هذه الحقوق المتبادلة بين الآباء والأبناء فقال (ان للوالد على الولد حقاً، وإن للولد على الوالد حقاً، فحق الوالد على الولد ان يطيعه في كل شيء إلا في معصية الله سبحانه، وحق الولد على الوالد ان يحسن اسمه ويحسن ادبه ويعلمه القرآن (3).

ولا شك من أن المسؤولية الأولى في تربية الطفل إنما تقع على عاتق الأسرة فإذا كان العقل، كما يقول جون لوك صفحة بيضاء أو لوحة شمع خالية من النقش عند الميلاد (4) مع استعداده لتقبل ما يلقى اليه، استطعنا أن نبلغ به ما نريد بتسليط المؤثرات الملائمة عليه. ولقد أظهرت الأبحاث والدراسات تأثر الطفل بصفات آبائه الخلقية والعقلية، باعتباره مطبوع على الاقتداء والسير على نهجهم. ذلك لأن أكثر أخلاق الطفل وسجاياه يأخذها من الوسط الذي يعيش فيه، فتنمو فيه وتترسخ لكثرة استعمالها والمداومة عليها، فترة طويلة، إلى أن تصبح عادة متأصلة في طبعه (5).

ونظراً لهذه المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتق الأسرة، فلا عجب أن يمتدحها الامام (علیه السلام) ويوصي بها خيراً فيقول: وأكرم عشيرتك فإنهم جناحيك الذي به تطير وأصلك الذي إليه تصير، ويدك التي بها تصول (6). ويدعو الى حسن معاملة كل فرد من أفرادها.

4 - سياسة الأسرة:

وتتضمن أسلوب الرجل في تعامله مع زوجته وولده وخدمه باعتباره سيد الأسرة ومدبرها ومنظم شؤونها.

ص: 213


1- انظر (ح)، ج 10، ص 18 - 19.
2- ابن سينا: السياسة، ص 1074.
3- انظر (ح) ج 19، ص 365.
4- الديمقراطية والتربية، ج 2، ص 298.
5- جابر، قاسم: أخوان الصفاء وآراؤهم السياسية، ص 23، دراسة أعدت لنيل شهادة الماجستير في الفلسفة، 1979.
6- أنظر (ح) ج 16، ص 122.

أ - سياسة المرأة:

وفي ذلك نشير الى موقف الامام علي (علیه السلام) من المرأة وقضاياها وحقوقها وكيفية التعامل معها.

إن موقف الامام (علیه السلام) من المرأة هو موقف الاسلام بالذات. يقول محمد جواد مغنية ان أقوال الامام وآراءه، وواقعه هو واقع الاسلام وأقواله هي أقوال القرآن، لا يفترقان أبدأ، حتى يردا الحوض على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كما جاء في الحديث الشريف. وبالتالي فإن الامام لم يخلق لنفسه، وإنما وجد وخلق ليمثل الاسلام على حقيقته، فإذا فكر، أو قال، أو فعل فلا يخرج في جميع ذلك عن دائرة الاسلام (1).

لقد ساوى الاسلام بين المرأة والرجل رغم اختلافهما بيولوجياً، ولم يفاضل بينهما إلا بالتقوى كما قال سبحانه (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ (الحجرات / 13). وضمن للمرأة حقوقاً ورتب عليها واجبات لقوله عزّ وجل: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (البقرة / 228) فكفل لها حق العمل والكسب والعشرة الحسنة، والملكية وحق اختيار الزوج ... وهاجم الذين يفضلون الرجل على المرأة ويتشاءمون من الأنثى لقوله تعالى (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (النحل/ 59 - 58)

لكن المرأة هي العنصر الأضعف وكونها انساناً لها مثل الذي عليها فإن هذا لا يمنع من أن تكون سائرة في فلك الرجل، ولقد وصفها الاسلام من خلال تصرفاتها التي تصدر عن طبيعتها وفطرتها. قال تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) (النساء / (34). ولا ينقص هذا من شخصية المرأة لأن حق القوامة مستمد من التفوق الطبيعي في استعداد الرجل، ومستمد كذلك من نهوض الرجل بأعباء المجتمع وتكاليف الحياة الأسرية (2).

وقال تعالى: (إِنَّ كَيْدَهُنَّ عَظِيمٌ) (يوسف / 28) وحتى انه تعالى جعل كيد النساء أعظم من كيد الشيطان لقوله سبحانه (فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) (النساء / 76).

تلك هي طبيعة المرأة كما عبر عنها الاسلام في كتابه الكريم، ولم يتخلف الامام علي (علیه السلام) عن هذه الصورة التي وضعها القرآن للمرأة. فقد حصلت على كامل حقوقها التي أقرها 4.

ص: 214


1- علي والفلسفة، ص 121.
2- مجلة عالم الفكر، م 7، ع 1، 1976، ص 54.

لها الاسلام، ولم يذكر التاريخ حادثة واحدة أهان بها الامام المرأة أو غمط بعض حقوقها حتى اللواتي أضمرن له العداوة عملاً بوصية رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فقال موصياً ولده الحسن (علیه السلام): الله الله في النساء وما ملكت ايمانكم، فإن آخر ما تكلم به نبيكم ان قال: (أوصيكم بالضعيفين: النساء وما ملكت ايمانكم) (1).

وليس أدل على ذلك من معاملته لعائشة التي ألبت عليه الرجال وحشدت ضده الجيوش و دخلت معه في حرب ضروس كانت الأشد خطراً على الاسلام والمسلمين، ومع ذلك، لم يتصرف معها بما يشين كرامتها ويعدو شرفها بل أذن لها بالرحيل وجهزها بما تحتاجه من مركب وزاد ومتاع وسار في وداعها عدة أميال، وهو يدعو لها بالمغفرة.

أما كلماته (علیه السلام) في حق المرأة، فهي تتراوح بين الاهتمام بها، وعدم الاساءة اليها أو التعرض لها باذى، والكشف عن طبيعتها فيقول: « ... ولا تهيجوا النساء بأذى، وان شتمن أعراضكم وسبين أمراءكم فإنهن ضعيفات القوى والأنفس والعقول (2) وليس هذا قدحاً في شخصية المرأة بقدر ما هو دليل على طبيعتها. لذلك فهو يحذر منهن بقوله: «فاتقوا شرار النساء وكونوا من خيارهن على حذر ولا تطيعوهن في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر (3).

ومن الغريب حقاً، أن يسند ابن أبي الحديد هذا الكلام بموقف الامام (علیه السلام) من عائشة حيث يقول: «وهذا الفصل كله رمز الى عائشة». وليس هذا من الصواب في شيء لأن المنطق يقضي بعدم الحكم على الكل من خلال الجزء، إضافة الى أن هذا يتنافى ومنطق الاسلام الذي يقول: ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الأنعام / 164). فلا بد والحالة هذه من أن يكون هذا الكلام نابعاً من الخبرة بطبيعة المرأة والمعرفة بدقائق نفسيتها، تلك الخبرة التي استقى أصولها من الاسلام.

وإذا كانت المرأة أداة للشر والفساد فإن المسؤولية في ذلك لا تقع عليها بقدر وقوعها على المجتمع الذي استغل غرائزها وضعفها وجعلها أداة للشر، ولم يهتم بتعديل هذه الغرائز وتوجيهها لما فيه خيرها وسعادتها.

لقد كانت المرأة على قدر كبير من الجهل بحيث تمنعها ضآلة ثقافتها من إبداء الرأي السديد والحكم الصائب. أما اليوم فقد فتحت أمامها أبواب العلوم المختلفة ودخلت في أكثر المجالات التي دخلها الرجل وأصبحت قدرتها على المشاركة الايجابية الفعالة في الحياة لا تقل عن قدرة الرجل، بل أصبحت تلعب دوراً هاماً في صنع الأحداث واتخاذ القرارات. فلا 4.

ص: 215


1- تحف العقول، ص 140.
2- أنظر (ح) ج 15، ص 104.
3- نفسه، ج 15، ص 214.

يمكن بعد ذلك عزلها في البيت وقصر وظيفتها على التربية فقط كما قال محمد عبده(1). كما أن دعوة الامام (علیه السلام) الى عدم مشاورتها بقوله «وإياك ومشاورة النساء ... (2) لا يمكن أن ينسحب إلا على المرأة الجاهلة كما فعل النبي صلی الله علیه و آله و سلم، يقول مغنية: «اما نهي النبي وعلي عن مشورة النساء، فيحمل على مشورة الجاهلة وكان أكثر النساء آنذاك في معزل عن العلم وتجارب الحياة ولا ذنب للمرأة في ذلك إذا قصر الرجل في تربيتها مع العلم بأنها من طينة الرجل، وطبيعتهما واحدة يشتركان في المسؤولية على قدم المساواة (3). فإذا عملنا على تثقيف المرأة وتهذيب غرائزها وتزويدها بالفضائل الخلقية والاجتماعية، لم يعد هناك من مبرر لحصرها في المنزل دون الانتفاع بمواهبها ومؤهلاتها شرط أن لا يتعارض ذلك مع واجبها المنزلي. ففي هذه الحالة يكون ضررها أكثر من الفائدة المرجوة منها، ويكون احتجابها في البيت، وقيامها على راحة زوجها وأولادها أفضل بكثير من اندماجها في المجتمع وهذا هو جهاد المرأة الحقيقي الذي عبر عنه الامام بقوله: «جهاد المرأة حسن التبعل» (4).

ب - سياسة الولد:

أما الولد فهو أمانة والديه، ونفسه الطاهرة خالية من كل نقش وقابلة لكل نقش، فإن عود الخير نشأ عليه وان عود الشر مال اليه. لذلك وجب أخذه بالتربية قبل أن تهجم عليه الأخلاق الذميمة وتستحكم منه. ونظراً لضعف قواه العقلية والجسدية فإن الشفقة واجبة عليه، فلا ينبغي الاسراف في معاقبته: (حصّن عقوبتك من الافراط» (5) كما قال (علیه السلام).

أما في مجال الحياة العامة، فإن الامام (علیه السلام) يوصي بعدم تنشئة الولد على الرفاهية والسخاء لأن من شأن هذه التربية أن تفسده وتسبب له الهلاك لحرصه عليها. فالسخاء صفة جميلة يحمد عليها الانسان، لكنها تصبح عادة مهلكة إذا اعتادها وتجاوزت الحد المعقول فيقول: (لا تحمدن الصبي إذا كان سخيا، فإنه لا يعرف فضيلة السخاء، وإنما يعطي ما في يده ضعفاً (6).

وفيما يتعلق بمهنة الولد، فإنه يؤكد على ضرورة الاهتمام بميوله واهتماماته ورغباته إلا أنه يتعلم مهنة أبيه بسرعة لشغفه في تقليده ومحاكاته في عمله، لذا فإن «من عمل عمل أبيه كفى نصف التعب» (7). 5.

ص: 216


1- انظر (م) ج 1، ص 129.
2- أنظر (ح) ج 16، ص 122.
3- أنظر (ح) ج 3، ص 531.
4- تحف العقول، ص 79.
5- أنظر (ح) ج 20، ص 318.
6- نفسه، ج 20، ص 330.
7- نفسه، ج 20، ص 335.

ج - سياسة العبيد:

الرقيق ظاهرة اجتماعية عرفتها مختلف الأمم والشعوب منذ أقدم العصور فكان اتخاذ الخدم منتشراً عند اليهود والنصارى والمسلمين، ولقد واجه الامام (علیه السلام) سوء معاملة الخدم وأكد على حقهم في الرعاية والرفق والمعاملة الحسنة فإذا كانت ظروف الحياة، وليس الطبع، قد أجبرتهم على العيش معنا، يؤدون لنا من الأعمال والخدمات الكثيرة، فإن هذا لا يعني الحط من أقدارهم وهدر إنسانيتهم.

لقد آمن (علیه السلام) بإنسانية الانسان، وألقى في نفسه ما يوقظه على أصل من أصول وجوده، وهو أن طبيعة الكون جعلته حراً لا يتمرد ولا يطيع ولا يعمل ولا يقول إلا على أساس من هذا الحق الطبيعي. وهو بذلك إنما يلقي في نفسه بذور الثورة على كل ما من شأنه أن يضيق عليه ويسلبه حقه في أن يكون حراً. لذلك فهو يتوجه اليه بقوله: «لا تكن عبد غيرك، وقد جعلك الله حرا» (1).

هذا المفهوم العميق للحرية جعلت رجال الدين والاصلاح يهتمون بعتق العبيد في وقت كان يعتبر فيه الرق نظاماً طبيعياً، ويحد العبد بأنه آلة للحياة ضرورية لضرورة الاعمال الآلية المنافية لكرامة الإنسان الحر. إن عتق العبيد حاجة إنسانية فرضتها كرامة الإنسان وطبيعته الحرة. هذه الحاجة تجسدت في فكر الامام علي (علیه السلام) وعمله ووجدانه وأصالته ووعيه بعدم أحقية الفوارق والامتيازات بين البشر، تلك التي نتجت عن عهود طويلة من الظلم والاقطاع وممارسة أبشع ألوان استغلال الانسان لأخيه الانسان. فليس غريباً إذن أن يعتق الامام (علیه السلام) العديد من هؤلاء بكده وعرق جبينه كي يعيد اليهم حقهم في حياة حرة كريمة. لهذا فقد اعتق ألف عبد من كد يده، كل منهم يعرق فيه جبينه وتحفى فيه كفه (2) كما ذكر جعفر ابن محمد في شرح النهج.

5 - سياسة الأصحاب والأعداء:

حاجة المصاحبة طبيعية بين البشر، بل وحتى في الحيوان ولكنها في البشر أولى لتشعب علاقاتهم وتنوع حاجاتهم - وقد اعتبرها الغزالي ثمرة حسن الخلق فقال: اعلم أن الألفة ثمرة حسن الخلق والتفرق ثمرة سوء الخلق فحسن الخلق يوجب التحاب والتآلف والتوافق، وسوء الخلق يثمر التباغض والتحاسد والتدابر. ومهما كان المثمر محموداً كانت الثمرة محمودة (3).

والمصاحبة أوصت بها الكتب السماوية والسنن النبوية، وكما كانت من وصايا الأولياء

ص: 217


1- انظر (ح) ج 16، ص 93.
2- نفسه، ج 4، ص 110.
3- احياء علوم الدين، ج 2، ص 157.

والحكماء والأدباء ورجال الاصلاح لما فيها من أثر مباشر على تماسك المجتمع وصلاحه. إذ لا حياة لقوم إلا بوحدة أبنائه والفتهم وانه متى تحققت هذه الوحدة والألفة، تضافرت الجهود والعقول الى العمل لحياة أفضل، إذ لا شيء وراء الشتات سوى المذلة والهوان، ولقد حذر الامام (علیه السلام) من الفرقة والاختلاف ودعا الى اجتماع الكلمة ولملمة الصفوف من خلال وحدة وطنية متراصة دون اعتبار لدين أو لون أو أي اعتبار آخر في سبيل تحقيق الهدف المشترك في التقدم والتطور: فإن جماعة فيما تكرهون من الحق خير من فرقة فيما تحبون من الباطل (1).

والمصاحبة تتطلب الانسجام في الخلق والمواقف، وهذا لن يكون إلا بحسن اختيار الأخوان والتأكيد على صلاحيتهم لهذا الأمر. وبقدر ما يكون الاختيار مصيباً بقدر ما تكون المصاحبة أكثر ثباتاً واستقراراً، إذ ليس كل أحد من الناس يصلح لأن يكون صديقاً لذا فإن الامام علي (علیه السلام) يحدد نوع المصاحبة وأثرها فيقول شعراً:

فلا تَصْحَب أَخَا الجهل *** وَإِيَّاكَ وإيَّاهُ

فَكَمْ مِنْ جَاهِلِ ارْدَى *** حَليماً حين أخاه

يُقاسُ المَرْءُ بِالمَرْءِ *** إذا ما المرءُ ما شاه

وَلِلشَّيء مِنَ الشيء *** مقاييس وَأَشْبَاهُ

وَلِلْقَلْبِ عَلَى الْقَلْبِ *** دَلِيلٌ جِين يَلْقَاهُ (2)

ويقول أيضاً:

إِن أَخَاكَ الْحَقُّ مَنْ كَانَ مَعَك *** وَمَنْ يَضُرُّ نَفْسَهُ لِيَنْفعك

وَمَنْ إذَا رَيْبُ زَمَانٍ صَدَعَكْ *** شَتَّتَ فِيهِ شَمْلَهُ لِيَجْمَعَك (3)

إن ندرة الصديق الوفي تقضي بوجوب المحافظة عليه واحترام كافة حقوق الصداقة وذلك من أجل ترسيخ جذورها بحيث لا يؤثر عليها أي طارىء، صغيراً كان أم كبيرا. فالصداقة صنو الوفاء، والوفاء توأم الصدق، والصدق من الايمان، ولن يصلح ايمان المرء ما لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ولقد دعا (علیه السلام) الى نشر هذه القيمة الانسانية السامية بين البشر لأهميتها في رص الصفوف ووحدة الكلمة ووضع الأسس الصالحة لممارستها بما يكفل لها الديمومة والاستمرار، ولن يتم لها ذلك إلا بضمان حقوقها المستندة الى الوفاء والاخلاص والمحبة ونكران الذات كما جاء في وصية الحسن (علیه السلام): ... ومن ظن بك خيراً فصدق 1.

ص: 218


1- أنظر (ح) ج 7، ص 33.
2- احياء علوم الدين، ج 2، ص 171.
3- نفسه، ج 2، ص 171.

ظنه، ولا تضيعن حق أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه، فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه (1).

أما العداوة فلا معنى لها في منطق الامام (علیه السلام)، لأنها من شيم النفوس الخبيثة الداعية إلى الحقد والكراهية. لذلك فهو يرفضها حتى في أضيق حدودها ويدعو الى اعتماد العفو عند المقدرة تيمناً بكتاب الله القائل: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ) (البقرة / 337) فقال: إذا قدرت على عدوك، فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه (2).

6 - سياسة الجار:

في هذا الباب يدعو الامام الى حسن الجوار واحترام حق الجيرة لأن جيران الأسرة من عوامل هناءتها أو شقوتها وعلى قدر ما يكون بينهما من ألف أو خلف، تحلو الحياة أو تسوء، لذا فقد تعوذ الناس بالله من جار السوء، وقال (علیه السلام): سل عن الرفيق قبل الطريق وعن الجار قبل الدار (3).

والوصية بالجار من الأمور التي دعا الى الاسلام ووضع لها الشرائع والسنن. فقد أحل الله الجيران محلهم من ضمن الذين يتوجب الاحسان اليهم، فقال عز وجل (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) (النساء / 36) وقال الرسول الكريم: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه (4). فليس من الاسلام في شيء من يسيء معاملة جاره أو يهضم حقاً من حقوقه أو يطمع في أشيائه أو يشمت وينكل به. لذلك قال الامام علي (علیه السلام) «واحسن مجاورة جارك تكن مسلماً (5).

بهذا يكون الامام علي (علیه السلام) قد صاغ نشاطات الانسان الفكرية والعملية في قوالب اجتماعية سليمة من خلال تربية عمادها القيم والمبادىء السامية. بهدف خلق جيل يؤمن بالحق والخير والتضحية والفضيلة وهل التربية الاجتماعية سوى تعريف الولد بأصول المعاشرة وحسن المعاملة والأمانة والصدق والغيرية ونكران الذات ومحبة الآخرين وحسن السلوك والتعاون والتضحية (6)

ص: 219


1- انظر (ح)، ج 16 ص 105.
2- نفسه، ج 18، ص 109.
3- نفسه،ج 16، ص 163.
4- إحياء علوم الدين، ج 2، ص 212. تحف العقول، ص 140.
5- تحف العقول، ص 138.
6- التربية، ص 189.

ثانياً: التربية الدينية والأخلاقية

الأخلاق، علم يبحث فيما ينبغي أن يكون عليه الانسان وما ينبغي أن يعمل، وبأي شكل يشكل حياته، ولقد مر هذا العلم بفترات طويلة من النمو والتطور قبل أن تحتضنه الفلسفة ويصبح علماً له قواعده وأصوله.

خلق الانسان، وهو مجهز بكثير من القوى والملكات، وبالعديد من الميول والرغبات والحاجات، فهو المخلوق الحر الذي يعمل ما يشاء وكما يشاء، وله السلطان التام على أعماله وأفعاله تجاه نفسه أو غيره من بني نوعه. ولم يكن له من حاكم يحكم به على الأمور سوى ذاته. لذا اختلفت الأحكام وتعددت المقاييس وأصبح العمل الواحد أخلاقياً في مكان أو زمان، ومستهجناً في مكان أو زمان آخرين.

ويظهر أن في الانسان صوتاً باطناً يوحي اليه بما ينبغي أن يفعل، ويساعده على التمييز بين الحسن والسيء، الحق والباطل، الضار والنافع، وهو ما يسمى بالوجدان أو الضمير. هذا الشعور هو الذي كان يحمل الناس على السير في طرق خاصة قبل بحث النظريات الأخلاقية بحثاً فلسفياً بأزمان طويلة. وهو ينشأ إما من غريزة في الانسان وإما من معتقدات دينية وإما من أحكام تواضع الناس عليها وقرروا العمل بها لما وجدوا فيها الخير والمنفعة لهم في حياتهم العملية. وتأكدت هذه الأحكام بالجري عليها، ثم أجبر الناس على العمل بمقتضاها حتى صارت عرفاً وعادات وأصبح العمل بحسبها أخلاقياً وانتهاكها مخالفاً للأخلاق، قال زجلو: العرف مجموعة أعمال محدودة تواضع الناس عليها اعتباطاً، ونمت في أوساط خاصة، سيما في المجتمعات الطبيعية والجنسية كالعشيرة والقبيلة ثم صار بعد انتهاكها تعدياً على الآداب واتباعها فضيلة (1).

وعندما وجه سقراط فكر اليونان الى البحث في الانسان كانت الأحكام الأخلاقية منثورة في أقوال الشعراء على شكل حكم وأمثال، ولم يكن ثم علم خاص بها. لذا قال الفيلسوف الفرنسي بول جبانيه: «إن الشعراء كانوا أول لاهوتي عند اليونان كما كانوا أول واعظ (2).

أما البحث الحقيقي في الحقائق الأخلاقية، فأول من بدأ به عند اليونان، أفلاطون وأرسطو ولا سيما أرسطو.

أما في الشرق، مهبط الأديان السماوية، فقد تولى هذه المهمة الى جانب الفلاسفة رجال الدين والكهان والوعاظ. لذا إصطبغت فلسفتهم الأخلاقية بالدين الذي أصبح معيار

ص: 220


1- مبادىء الفلسفة ص 64 - 65.
2- نفسه، ص 68 - 69.

الحكم الأخلاقي. ولقد كان الاسلام من جملة الأديان التي اهتمت بالأخلاق، فجمع بين

الدين والدنيا.

من خصائص التربية الاسلامية هي كونها دينية وأخلاقية وهي تهدف الى تكوين الانسان الفاضل الذي يكتسب من الفضائل بما يضمن له السعادة في الدارين. وهذا ما نلمسه بوضوح لدى التربويين المسلمين القدماء جميعهم، من خلال عرضهم لأهداف التربية والتعليم. إذ يرى هؤلاء أن الغرض الأسمى للتربية هو إحياء الشريعة وإتمام مكارم الأخلاق. يقول الغزالي في رسالة «أيها الولد»: «أيها الولد كم من ليال أحييتها بتكرار العلم، ومطالعة الكتب وحرمت على نفسك النوم، لا أعلم ما كان الباعث فيه؟ إن كان نیل عرض الدنيا وجذب حطامها وتحصيل مناصبها والمباهات على الاقران والأمثال، فويل لك ثم ويل لك، وان كان قصدك فيه إحياء شريعة النبي، وتهذيب أخلاقك وكسر النفس الأمارة بالسوء، فطوبى لك ثم طوبى لك (1).

إن اهتمام التربية بتكوين الانسان الفاضل، إنما هو تمهيد لخلق المجتمع الفاضل، بقيمه الروحية والخلقية. ولقد عمل الاسلام على تخليص المجتمع مما علق به من أدران الجاهلية. وجاء النبي صلی الله علیه و آله و سلم الذي قال فيه تعالى مثنياً عليه ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم / 4) ليبعث الروح في جسد هذه الأمة، ويتمم مكارم الأخلاق كما قال صلی الله علیه و آله و سلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (2).

ولا شك أن للعبادة وذكر الله أثرها في الوجدان الخلقي للانسان، إذ تكثر فيه الرغبة الى الخيرات والعمل الصالح، وتقل فيه الرغبة الى الشر والفساد والذنوب. هذا يعني أن الدين يزيل النزعات الشريرة من النفوس ويستبدلها بالميل الى الخير والبر والعمل الصالح.

ولقد حفل «نهج البلاغة» بكثير من خطب الامام علي (علیه السلام) الداعية الى الالتزام بحدود الله، لأنها تعصم عن الرذائل. جاء في إحدى هذه الخطب بعد تأكيد شديد على الصلاة وانها لتحت الذنوب حتى الورق، وتطلقها إطلاق الربق (3). وجاء في خطبة أخرى بعد الاشارة الى عدد من رذائل الأخلاق من قبيل: الطغيان والظلم والكبر: «وعن ذلك ما حرس الله عباده المؤمنين بالصلوات والزكوات ومجاهدة الصيام في الأيام المفروضات تسكيناً الأطرافهم وتخشيعاً لأبصارهم وتذليلاً لنفوسهم وتخفيضاً لقلوبهم وإذهاباً للخيلاء عنهم (4). فالصلاة عامود الدين وأساس اليقين تنقي القلوب وتغسل الخطايا وتذهب بالذنوب 3.

ص: 221


1- رسالة «أيها الولد»، للغزالي، ص 17.
2- إحياء علوم الدين: ج 3، ص 49.
3- انظر (ح)، ج 10، ص 202.
4- نفسه، ج 13، ص 163.

وتقرب الى الله تعالى، فيجب تعهدها والقيام بها، فإنها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً، ألا تسمعون الى جواب أهل النار حين سئلوا ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (المدثر / 42 - 43).

وهكذا فالصلاة تحت الذنوب حتى الورق وتطلقها اطلاق الربق. ولقد شبهها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالحمة تكون على باب الرجل، فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مرات، فما عسى أن يبقى عليه من الدرن. وقد عرف حقها رجال من المؤمنين الذين لا تشغلهم عنها زينة متاع ولا قرة عين، من ولد ولا مال كما قال تعالى: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) (النور / 37). وقد أمر تعالى رسوله الكريم بها فقال جل القائل (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) (طه / 132).

وبالاجمال فالصلاة عامود الدين، وقربان كل تقي وعلم الايمان كما قال (علیه السلام): «علم الايمان الصلاة من فرغ لها قلبه، وقام بحدودها فهو المؤمن (1).

أما الزكاة، فهي كالصلاة من القرابين التي يتقرب بها العبد الى الله. وهي فريضة اجتماعية واجبة، فرضها الله تأكيداً لمبدأ التعاون بين الناس من أجل الصالح العام وخاصة الأغلبية الفقيرة منهم، على أن يكون بذلها عن طيب خاطر.

أما الصوم، فهو إحدى العبادات الكبرى التي فرضها الله في جميع رسالاته على البشر وعلى مدى التاريخ، يشهد بذلك قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة / 183). وللصوم كغيره من العبادات، هدف تربوي يتمثل في تنمية الضمير الأخلاقي في داخلهم، والحس الانساني في سلوكهم، من أجل التضامن الاجتماعي في علاقاتهم داخل المجتمع، وإيجاد روح الانضباط والنظام في حياتهم العامة. وقد عبر الله تعالى عن هذا الهدف التربوي بالتقوى فقال (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنْكُمْ) (الحج / 37). والتقوى ذات مضمون اجتماعي و سياسي الى جانب مضمونها الروحي، إذ لا تعبر فقط عن الحالة الروحية وحدها بل هي في الحقيقة نظرة الى ما ينبغي أن تكون عليه حياة الانسان في المجتمع.

فالصوم من هذا المنظور، عمل تجريبي يقوم به الانسان ليتحسس الام الآخرين، ويدرك من خلال التجربة الشخصية حاجتهم، فيكون أكثر استعداداً للعمل بنفسه والتعاون مع الآخرين في المجتمع والدولة لتنمية هذا الاحساس ونشره بين فئات المسلمين. والصوم في الوقت ذاته عمل انضباطي يمارس الصائم ضبط النفس والطاعة الواعية أمام الإغراءات التي تقدمها له الحياة اليومية فتدعوه الى العدل وعدم الظلم. وهذه النقطة عظيمة الأهمية في.

ص: 222


1- انظر (ح)، ج 10، ص 206.

التربية الحضارية، لأن مقياس قدرة أمة من الأمم على صنع حضارة، تتناسب طرداً مع قدرة أفرادها وجماعاتها على الانضباط والتقيد بالنظام. ومن المعلوم أن نمو الروح الفردية يشجع على انطلاق الرغبات الأنانية في المجتمع لدى الأفراد والجماعات، ويؤثر بالتالي على التماسك الاجتماعي، ومن ثم فإنه في المدى البعيد، يؤثر على قدرة الأمة وعلى مدى ثباتها أمام التحديات والنكبات.

من هذا المنطلق، فإن الصوم ضرورة تربوية لمواجهة تيار الترف وما يؤدي اليه انحلال يطبع حياتنا شيئاً فشيئاً، ويطغى عليها بتأثير نمط الحياة الغربي، الذي يجعل المتعة الشخصية والرفاه والراحة غايات مقدسة على حساب الشعور بالمسؤولية الانسانية تجاه الآخرين وتجاه المجتمع الذي نعيش فيه.

من هنا يبدو الارتباط الوثيق بين الدين والأخلاق في التنشئة الخلقية التي تكلم عنها الامام علي. وهذا منطق الصواب، لأن الدين يتضمن الكثير من الأوامر والنواهي التي تأمر الانسان بفعل الخير وتنهى عن فعل الشر.

1 - معنى حسن الخلق:

تكلم كثير من الفلاسفة والحكماء في حقيقة حسن الخلق ولم يتوصلوا الا لبعض نتائجه دون أن يستوعبوا حقيقته بل ذكر منهم ما خطر له منها وما كان حاضراً في ذهنه. ولقد اعتبر الغزالي نفسه ممن توصلوا الى الكشف عن هذه الحقيقة فقال: «فالخلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة الى فكر وروية. فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلاً وشرعاً، سميت تلك الهيئة خلقاً حسناً وان كان الصادر عنها الأفعال القبيحة، سميت الهيئة التي هي المصدر خلقاً سيئاً (1).

هذا المعنى الذي تكلم عنه الغزالي، لا يوضح فيما إذا كان الخلق أمر مركوز ومطبوع في الجبلة منذ الميلاد، أم أنه مكتسب بالمران والعادة طيلة أيام الدنيا ومع ذلك فإن إيجابيته تكمن في جعل الخلق شيء طبيعي يصدر عن النفس تماماً كصدور النور عن الشمس من غير فكر ولا روية لأن التكلف يوحي بالرياء والمراوغة وغير ذلك بالرياء والمراوغة وغير ذلك من الأفعال القبيحة.

ولقد كان الامام علي (علیه السلام) أبدع تصويراً وأشكل إحاطة بحقيقة حسن الخلق من خلال شرحه لحال العارف المطلق الذي خصه الله بالطاف بحيث تصدر عنه الأفعال بالفطرة ومن غير فكر وروية تتأكد بالممارسة العملية الصادقة. من ذلك قوله: عباد الله، إن من أحب عباد الله اليه، عبداً أعانه الله على نفسه فاستشعر الحزن، وتجلبب الخوف فزهّر مصباح الهدى في قلبه وأعد القرى ليومه النازل به فقرب على نفسه البعيد، وهون الشديد نظر

ص: 223


1- احياء علوم الدين، ج 3، ص 53.

فأبصر، وذكر فاستكثر وارتوى من عذب فرات سهلت له موارده، فشرب نهلا، وسلك سبيلاً جدداً، قد خلع سرابيل الشهوات وتخلى عن الهموم الا هماً واحداً انفرد به فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى وصار من مفاتيح أبواب الهدى ومغاليق أبواب الردى، وقد أبصر طريقه وسلك سبيله، وعرف مناره، وقطع غماره واستمسك من العرا بأوثقها، ومن الحبل بأمتنها فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس، قد نصب نفسه لله سبحانه في أرفع الأمور، من إصدار كل وارد عليه، وتصيير كل فرع الى أصله، مصباح ظلمات، کشاف عشوات، مفتاح مبهمات دفاع معضلات، دلیل فلوات، يقول فيفهم، ويسكت فيسلم، قد أخلص لله فاستخلصه، فهو من معادن دينه، وأوتاد أرضه قد ألزم نفسه العدل فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه يصف الحق ويعمل به، لا يدع للخير غاية إلا امها، ولا مضنة إلا قصدها، قد أمكن الكتاب من زمامه، فهو قائده وإمامه، يحل حيث حل ثقله، وينزل حيث كان منزله (1).

هذا النص يفسر حقيقة حسن الخلق بكونه لطفاً الهياً أمد الله به أخلص عباده اليه، يختار عنده الحسن ويتجنب القبيح من غير روية واعمال فكر. ولقد حدد الطرق التي ينبغي أن يسلكها العارف كي يخصه الله بلطفه، وهذه الطرق تتمثل بالعبادة والزهد وطلب العلم وقول الحق.

أما العبادة، فهي في الاخلاص لله والتورع عن محارمه والاستكثار من ذكره والتفرد بمناجاته ومطالعة أنوار عزته حتى تتكيف نفسه بتلك الكيفية العظيمة الاشراق.

ويظهر الزهد في قطع علائقه بالدنيا والتخلي عن همومها الا هما واحداً وهو أن يلقى الله راضياً مرضياً، وان يطلب العلم ويهتدي بنوره لنهج السبيل الحق حتى يصبح قادراً على كشف المبهمات وحل المعضلات. ويتمكن من دينه ويسلك بوحي منه ويجيب بالحق عن كل سؤال وان يحكم بالعدل ويلزم نفسه به ويقول الحق ولو كان عليه.

هذه الطرق إذا سلكها الانسان استخلصه الله وأيده بلطفه فصارت تصدر عنه الأفعال بالطبع لا بالتكلف. وهكذا فإن حسن الخلق يتأكد بالممارسة الدينية والدنيوية السليمة ويصبح من سجايا النفس الطبيعية فيصدر عنها بعون الله من غير فكر أو روية.

تلك هي أبرز معالم التربية الخلقية التي اعتمدها الامام علي (علیه السلام) في سبيل اعداد الانسان العالم المؤمن الذي اهتدى بنور العلم والايمان الى نهج السبيل الحق وتغلب على نفسه الامارة بالسوء وسلك طريق العلم والعمل بوحي من ضميره الخلقي وحق له أن يكون من.

ص: 224


1- انظر (ح) ج 6، ص 363 - 364.

خلفاء الله في أرضه، الذي يخضع فكراً وسلوكاً لأحكامه وتعاليمه الداعية الى عمارة الأرض وصلاحها خير العباد وصلاحهم.

2 - طرق التهذيب المسلكي:

إن طبيعة الانسان قابلة للتغير والتكيف بالتربية والتعليم، وقد زعم البعض بعدم القدرة على تعديل الخلق نظراً لعدم تغير الطباع ولو كان الأمر كذلك لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات ولما قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حسنوا أخلاقكم (1)

ومن الطرق التي اعتمدها (علیه السلام) في التهذيب المسلكي هي:

أ - القدوة الحسنة:

وأعني بها مواجهة الناس بالسلوك الحسن بحيث نكون قدوة لهم في ممارسة الفضائل والمكرمات والطاعات واجتناب الرذائل والمحرمات، لأن من يروم اصلاح غيره وجب أن يبدأ بنفسه أولاً. فإذا كان المرشد مناقضاً لنفسه ودينه، تابعاً لأهوائه وميوله ذهب ارشاده مع الريح وهذا نوع من السفه، بل هو السفه كله. فيقول: «من نصب نفسه للناس إماماً فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره. وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالاجلال من معلم الناس ومؤدبهم (2).

ولقد كان الامام علي (علیه السلام) يعطي المثل من نفسه في كل عمل يدعو اليه أو كلام يأمر به لأنه يكره التلون في الاخلاق والتناقض بين الاعمال والأقوال، وما ظلم من ساوى الناس بنفسه فيقول: «إني لأرفع نفسي عن أن أنهى الناس عما لست أنتهي عنه أو أمرهم بما لا أسبقهم اليه بعملي أو أرضى منهم بما لا يرضي ربي، إني لا أحتكم على طاعة الا وأسبقكم اليها، ولا انهاكم عن معصية إلا وأتناهى قبلكم عنها (3).

ب - المربي الجيد:

لشخصية المربي دورها الهام في تشكيل نفوس المتعلمين، وقد أوصى الحكماء والمربون بضرورة أن يتولى مهمة التربية والتهذيب ممن تتوفر فيهم الصفات الحسنة والخصال الحميدة لأن من لم يصلح خلائقه لم ينفع الناس تأديبه (4) كما قال الامام (علیه السلام). فالمربي الجيد يستطيع أن يسمو بأمته ويضعها في مصاف الأمم المتحضرة والمتقدمة من خلال تزويدها بالطاقات البشرية الصالحة. لذا فإن أهميته تتعدى أهمية المناهج والقوانين والأنظمة المتبعة. يقول الابراشي: ليست المناهج والقوانين المدرسية والأبنية الفخمة والأجهزة العظيمة بأكثر

ص: 225


1- احياء علوم الدين، ج 3، ص 56 - 55.
2- أنظر (ح) ج 18، ص 22.
3- الغرر والدرر، ص 93.
4- أنظر (ح) ج 20، ص 263.

أهمية في التربية والتعليم من المدرّس، فإن له أثراً كبيراً في التلميذ، في عمله وأدبه وفي عمله ومهارته، فمن المحال أن يرتقي مستوى التعليم إلا إذا أوجد له مدرسون قديرون، مخلصون في عملهم، خبيرون بمهنتهم واستفادوا من تجاربهم وارشادات غيرهم (1).

من هذا المنطلق فقد اشترط (علیه السلام) على من يتولى هذه المهمة الصعبة أن يكون له «قوة في دين وحزماً في لين، وايماناً في يقين، وحرصاً في علم، وعلماً في حلم ... الخير منه مأمول، والشر منه مأمون ... يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه ... لا يضار بالجار ولا يشمت بالمصائب ولا يدخل في الباطل ... نفسه منه في عناء، والناس منه في راحة ... (2). الى غير ذلك من القيم الخلقية والأدبية والدينية والاجتماعية.

ج - العشرة:

وللعشرة دورها في تكوين خلق الانسان، لأن الصاحب معتبر بصاحبه، والسجايا والخصال إنما تتأثر وتتكون بجو العشرة وما يكتنفه من قيم ومبادىء، لذلك كان الابرار قرناء الخير والخلق الحسن وكان الاشرار قرناء الشر والخلق السيء، وما ذلك إلا لأن سوء الخلق يعدى، وذاك انه يدعو صاحبك الى أن يقابلك بمثله (3). كما يقول الامام (علیه السلام).

د - الثواب والعقاب:

ونعني به التهذيب بالترغيب والترهيب، وهو من المبادىء التربوية الهامة التي تأخذ بها التربية الحديثة، لأن الثواب يرغب بعمل الخير ويدعو صاحبه الى المثابرة عليه. أما العقاب فإنه ينهي عن الشر ويردع عن فعل السوء.

جاء في عهد الأشقر: (ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء ...، والزم كلا منهم

ما ألزم نفسه (4).

3 - معرفة أخلاق النفس:

لكي يتمكن الانسان من معرفة اخلاق نفسه، لا بد له من سلوك طريقين: معرفة نفسه بنفسه، ومعرفة نفسه بالآخرين.

أ - معرفة نفسه بنفسه:

إن من أبغض خلائق الله رجلاً استسلم الى نفسه فشغل بها ونسي خالقه، فجار عن قصد السبيل وخبط في الباطل، فكان من نفسه في عناء والناس منه في بلاء.

ص: 226


1- التربية والحياة ص 171.
2- أنظر (ح) ج 10، ص 148 - 149.
3- أنظر (ح)، ج 20، 290.
4- نفسه، ج 17، ص 44.

والنفس أمارة بالسوء لما جبلت عليه من حب الشهوات، فلا بد من زجرها بالعقل ومراقبتها باستمرار حتى لا تستحوذ علينا الرغبات والأهواء فتؤدي بنا الى الهلاك. لذا فمن شغل نفسه بغير نفسه، تحير في الظلمات وارتبك في الهلكات، ومدت به شياطينه في طغيانه، وزينت له سيء أعماله (1) كما يقول الامام (علیه السلام).

وكلما أمعن المرء في مراقبتها وحاسبها على أخطائها واستدرك ذلك بالتوبة والمغفرة، وقوم اعوجاجها بالعقل والضمير والوجدان، كلما انقادت اليه بسلاسة وتمكن من السيطرة عليها فلا ترديه في مهاوي البؤس والرذيلة فيكون اتعاظه بنفسه أقوى أثراً وأبلغ حجة من وعظ الناس له لأن، من لم يعن على نفسه حتى يكون له منها واعظ وزاجر، لم يكن له من غيرها لا زاجر ولا واعظ (2) كما يقول الامام (علیه السلام) أيضاً. ومن كانت بصيرته نافذة لم تخف عليه عيوبه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم، ويرى أحدهم القذى في عين أخيه، ويعمى عن رؤية العصي في عين نفسه، وكفى بالمرء جهلا ألا يعرف قدره.

ب - معرفة نفسه بالآخرين:

إن معرفة أخلاق النفس بالغير، أفضل من معرفتها بنفسها لما في طباع الانسان من التغاضي عن عيوبه والتسامح عن كثير من أخطائه. لذا كان لا بد من الاستعانة بمن يصدقونه الحديث عن نفسه ويبصرونه بعيوبها حتى ينظر اليها منعكسة في مرآة نفوسهم. ومن هؤلاء الأصدقاء والاعداء، لأن الأولين يظهرون له بصدق ما يعتمل في نفسه من محاسن ومساوىء والآخرين يطنبون في ذكر معايبها فيتجنبها. ومنهم أيضاً أهل الورع والحكمة وأصحاب العلم والأدب، فيحاكمهم في نفسه حتى يطلع على خفايا الآفات ومطايا الزلل، فيبتعد عنها ويعمل بوحي آرائهم ومشورتهم، قال الامام علي (علیه السلام): «جالس العلماء يكمل عقلك وتشرق نفسك وينتف عنك جهلك (3). وهكذا تظهر نزعة الامام علي (علیه السلام) الاعتزالية في تقديمه للعقل.

4 - علامات حسن الخلق

إن الامام علي (علیه السلام) يمثل الأخلاق الاسلامية بأروع معانيها وبكل ما تنطوي عليه من القيم والمبادىء السامية. ولعل قوله السالف الذكر «قيمة كل امرىء ما يحسنه» هو خير تعبير عن الانسان الفاضل الذي يريده. والناس أبناء ما يحسنون، وما يحسنه الانسان يجب أن

ص: 227


1- انظر (ح)، ج، ص 209.
2- نفسه، ج 6، ص 395.
3- الغرر و الدرر، ص 119.

يكون منطلقه الايمان لأن الدين يقدس الفضائل كلها وحكمه تؤخذ من حكم العقل لذا كان

التقي رئيس الأخلاق (1) كما يقول الامام علي (علیه السلام).

والتقوى تتعارض والنفاق في الأخلاق وتتماشى مع الطبع وكل ما يبدر من الانسان يجب أن يكون انقياداً للطبع والسجية دون تكلف أو رياء. والرجل التقي لا يأخذ الحياة كغاية في حد ذاتها بل وسيلة لغاية أسمى هي إثبات جدارته بخلافة الله في أرضه فيتورع عن البغي ويجهر بالحق ويصبر على الشدائد ويمقت التكلف ولا يتصنع في رأي يراه أو نصيحة يسديها أو رزق يهبه أو مال يمنحه ويتواضع ولا يتكبر وتكون علاقته بغيره مبنية على الصراحة والخلق والصدق وسلامة القلب فلا يحسد ولا يبخل ولا يكره ولا يحقد.

لذلك فإن الامام حدد (علیه السلام) مكارم الأخلاق في عشر خصال هي (2).

أ - السخاء.

ب - الحياء.

ج - الصدق.

د - اداء الأمانة.

ه - - التواضع.

و - الغيرة.

ز - الشجاعة.

ح - الحلم.

ط - الصبر.

ي - الشكر.

أ - السخاء: السخاء خلق من أخلاق الله تعالى ورسوله الكريم والمؤمنين الصالحين. وهو وسط بين طرفين كلاهما رذيلة الاسراف والتقتير لقوله تعالى (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا) (الفرقان / 67) ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) (الاسراء / 29) و قول النبي صلی الله علیه و آله و سلم: السخاء شجرة من شجر الجنة أغصانها متدلية الى الأرض فمن أخذ بغصن منها قادة ذلك الغصن الى الجنة (3).

ولقد عنيت التربية العلوية بغرس هذه الفضيلة وتنميتها في أعماق النفس البشرية لكونها من أعظم النزعات الشريفة التي تؤدي الى تماسك المجتمع وشيوع المحبة والمودة بين.

ص: 228


1- أنظر (ح)، ج 20، ص 47.
2- نفسه ج 20، ص 275.
3- إحياء علوم الدين، ج 3، ص 243.

أفراده كما تقضي على مختلف العادات السيئة من الحرص والطمع واكتساب المال بطرق ملتوية. فالمال وسيلة وليس غاية وهو سلاح ذو حدّين فقد يستعمل للفساد لأن المال مادة الشهوات (1). وقد يستعمل للبناء وقد أوجده الله لحكمة وهي تأمين حاجات الناس والاقتناء بقدر الضرورة منها وبذله وامساكه بقدر الواجب ذلك أن البخل مذموم في عرف الامام (علیه السلام) لأنه من رذائل الصفات ومساوىء الأخلاق وهو من ثمرات حب الدنيا والحرص على حطامها فيقول (علیه السلام): «إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم هو الذي سفك دماء الرجال وهو الذي قطع أرحامها فاجتنبوه (2).

كذلك فهو ينهي عن الاسراف والتبذير في غير محله لأنه من أخلاق الشيطان الذي يزين نعيم الدنيا وينسى نعيم الآخرة. ويدعو الى السخاء والبذل حيث يجب وفي حال الشدة والرخاء فيقول: إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق منها فإنها لا تفنى. وإذا أدبرت عنك فأنفق منها فإنها لا تبقى وأنشد:

لا تَبْخَلَنْ بِدُنْيَا وَهِيَ مُقْبِلَةٌ *** فَلَيْسَ يَنقُصُهَا التَبْذِيرُ وَالسَرَفُ

وَإِنْ تَوَلَّتْ فَأَحْرَى أَنْ تُجود بها *** فَالْحَمْدُ مِنْهَا إِذَا أُدْبَرَتْ خَلَفُ (3)

والعطاء من غير سؤال وعن طيب خاطر كرم وسخاء بالطبع وهو عن مسألة تكلف وتطبع لسبب أو لآخر فيقول: السخاء ما كان ابتداء، فإذا كان عن مسألة فحياء وتذمم (4).

وهناك فرق بين السخاء والتبذير. فالسخي يبذل بقدر وحسب ما يمليه الواجب اما المبذر فهو يعطي بلا روية ومن غير حق.

والايثار هو أعلى درجات السخاء لأنه يقوم على بذل المال مع الحاجة اليه. وهو من الصفات الكريمة التي تؤدي الى سمو الانسان وتكامل شخصيته ونكرانه لذاته وتفانيه في سبيل الحق والخير ومن أروع صوره إيثار الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم حتى قال فيه الله تعالى ﴿إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم / 4) وإيثار أهل البيت عليهم السلام ومنهم الامام علي (علیه السلام) الذي كان يصوم ويطوي ويؤثر بزاده حتى نزلت فيه الآية الكريمة (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) (الإنسان / 7 - 8).

ص: 229


1- انظر (ح)، ج 18، ص 143.
2- نفسه، 20، ص 258.
3- إحياء علوم الدين، ج 3، ص 246.
4- انظر ح، ج 18، ص 184.

ب - الحياء: الحياء من خصائص الانسان المميزة له. وقد جعله الله فيه ليرتدع به عما تنزع اليه نفسه من القبيح فلا يكون كالبهيمة التي همّها علفها تلهث في الحصول عليه دون أي رادع خلقي أو إنساني وهو وسط بين رذيلتين الخجل، وهو محمود في النساء والصبيان ومذموم في الرجال، والوقاحة وحقيقتها عدم التورع في تعاطي القبيح. وفضيلة الوسط تقضي بردع النفس عمّا لا يقره الدين والعقل والعرف من الحرام.

والحياء أول امارات العقل الداعي الى أن يستحي الانسان من فعل ما لا يقرّه العقل ومن لم يفعل ذلك فقد حط من قدره. ومن أخذه الحياء من الناس وعقله، ولم يستح من الله فهو جاهل فلو كان عارفاً بالله لما استحى من المخلوق دون الخالق والله تعالى يقول (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ﴾ (العلق / 14).

وهكذا فالحياء لا ينبغ من كبر السن ولا من الخوف ولكن من فضيلة العقل لقوله (علیه السلام) غاية المروءة أن يستحي الانسان من نفسه وذلك أنه ليس العلة في الحياء من الشيخ كبر سنّه، ولا بياض لحيته وإنما علّة الحياء منه عقله، فينبغي إن كان هذا الجوهر فينا أن نستحي منه ولا نحضره قبيحا (1).

والحياء يقضي بالاخلاص مع النفس وذلك بأن يكون ظاهرها وباطنها واحداً، فلا نظهر الخير ونبطن الشر ولا ننهي عن خلق ثم نأتي بمثله. ومن قل حياؤه فقد كثر خطوه وقلّ ورعه لهذا كان «الحياء شعبة من الايمان» و«من لا حياء له فلا ايمان له» و«الايمان عريان ولباسه التقوى وزينته الحياء» (2)، كما قال الامام علي (علیه السلام).

ج - الصدق: الصدق من المقومات الذاتية للانسان إذ عليه يتوقف توازنه في مختلف شؤون حياته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها كما انه عنصر هام في تطور الأمم وتدرجها في ميادين الرقي والعمران. ولقد كان لسان حال الأنبياء والرسل والأئمة والصالحين من بني البشر وعرض له القرآن في كثير من آياته وأكّد على أهميته وعظيم منزلته ووصف تعالی به نفسه فقال ﴿ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ (الأنعام / 146).

وضدّه الكذب وهو من رذائل الصفات وقبائح الذنوب وفواحش الخلق لذلك فقد نهى عنه الامام علي (علیه السلام) تشريفاً للصدق فقال: دع الكذب تكرّماً ان لم تدعه تأثماً (3)، ولكونه من أعظم الخطايا عند الله.

فالصدق يحفظ كرامة الانسان ويرفع من شأنه بين الناس فيكبر في أعينهم وتعز عندهم 1.

ص: 230


1- أنظر (ح)، ج 20، ص 338 0
2- نفسه، ج 19، ص 264.
3- نفسه،ج 20، ص 271.

منزلته ويصدقونه في أقواله وأفعاله. أما الكذب فإنه يحط من قدره ويخفض من منزلته ولا يجني من فعله إلا الذل والمهانة وعدم تصديقه في جميع الأمور حتى ولو فرض أنه كان صادقاً لهذا قال الامام (علیه السلام): الصدق عزّ والكذب مذلّة. ومن عرف بالصدق جاز كذبه ومن عرف بالكذب لم يجز صدقه (1)

وفضيلة الصدق أولى بالانسان من رذيلة الكذب لأن فيها تدعيماً لايمانه وتحقيقاً لإنسانيته وترسيخاً لعلاقاته وصلاته مع بني جنسه و من عدم فضيلة الصدق في منطقه فقد مجع بأكرم أخلاقه (2).

وقد يضر الصدق في مصلحة الانسان كما أنه قد يكون سبباً لكثير من المشاكل مع قرانه. في هذه الحالة فإن الامام (علیه السلام) يؤكد على ضرورة إيثار الصدق حيث يضر لأنه حق، على الكذب حيث ينفع لأنه باطل يجعل من ذلك علامة الايمان فيقول علامة الايمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك (3).

د - أداء الأمانة: وهي من أقوى الدعائم التي يستند اليها المجتمع السليم كما أنها عنوان لمكارم الأخلاق والفضائل وهي تتضمن رعاية حقوق الله التي أؤتمن عليها الانسان من فرائض الدين وواجباته وترك محرماته. كما تشمل رعاية حقوق الناس فلا يطمع بما أو تمن عليه ولا يستعمل الغش ولا التطفيف في الوزن والكيل ولا يتبع عورات الناس ويقول الحق ولو كان مراً.

ولقد عظّم الامام علي (علیه السلام) شأن هذه المكرمة وشدّد على ضرورة الوفاء بها ويرى أن الانسان أقدر من جميع الكائنات على تحمل عبء الأمانة لأن الله حباه بالقدرة والعقل والارادة وتحمّل المسؤولية في أداء حقوق الله والناس. ومن ضروب الأمانة:

- الاستشارة، لأن المستشير في استشارته قد استأمن المشير في أن ينصحه ولا يغشّه.

- عدم إفشاء السر لأن الناس إذا ما تعاهدوا على الوفاء والأمانة والثقة لا بدّ من احترام هذه القيم في حفظ ما تعاهدوا عليه وإذا كان لا بدّ من هذا الأمر فليكن ذلك بصدق ومن دون تحريف كما يقول الامام (علیه السلام): وان تتقي الله في حديث غيرك (4).

- المكافأة على العمل الصالح لأن الوعد عليه دين على صاحبه وجب عليه أداءه كما يقول (علیه السلام) من أداء الأمانة المكافأة على الصنيعة لأنها الوديعة عندك (5).

ص: 231


1- أنظر (ح) نفسه، ج 20، ص 329.
2- نفسه، ج 20، ص 336.
3- نفسه ج 20، ص 175.
4- نفسه، ج 20، ص 175.
5- نفسه، ج 2، ص 275.

- الوفاء بالعهد وهو من الأمور الضرورية لحسن سير الحياة وانتظامها وبدونه تفقد الثقة ويطبع الحذر صلات الناس وعلاقاتهم فيما بينهم. لذلك فقد أكد عليه الاسلام والزم به المسلمين حتى مع الاعداء كما فعل الامام علي (علیه السلام) في عهده للأشتر «ان عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة، فحط عهدك بالوفاء وارع ذمتك بالأمانة (1).

ه - - التواضع: التواضع من شيم الكرام ومن المزايا الحميدة التي تعنى التربية العلوية بغرسها في نفسية الانسان المسلم لما لها من أثر في تعزيز النفس ورفعة شأنها. والتواضع من غير ذل ومسكنة وتكلف هو خلق أصيل درج عليه الامام (علیه السلام) حتى أصبح منسجماً مع طبعه وسجيته فكان يوصي به أولاده وعمّاله وأعوانه فيقول لعامله مالك الأشتر « ... ففرّغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع ... واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ فيه شخصيتك، وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه الله الذي خلقك.(2)

وكان (علیه السلام) يرى التواضع لله بعدم مساماته بعظمته والتشبه بجبروته وللرعية بعدم ظلمها أو التكبر عليها، لذلك كان التواضع عنده فضيلة لا أشرف ولا أعظم فيقول التواضع إحدى مصايد الشرف (3).

وللمتواضع منزلة رفيعة بين الناس فيكثر محبّوه ويفرض احترامهم له دون تكلّف أو رياء مما يجعلهم يستنفرون لمساعدته ولا يشمتون به إذا ما صدر عنه ما يشينه، لهذا كان التواضع نعمة أنعم بها الله على الصالحين من عباده تشريفاً وتنزيهاً لهم عن المتكبرين والحاسدين الذين لا يعرفون مدى أهمية هذه النعمة ومبلغ أثرها في رفعة الانسان وتقريبه من الله لهذا فإن التواضع نعمة لا يفطن لها الحاسد (4).

و - الغيرة: الغيرة التي يدعو اليها الامام علي هي من المزايا الحسنة التي تدفع بالمرء الى أن يكون غيوراً على دينه وقومه ووطنه ونفسه. فالغيرة على الدين تقضي بممارسة فرائضه واتباع أوامره ونواهيه والالتزام بأحكامه وشرائعه والجهاد في سبيله ضد المشركين والمنافقين ومن تسوّل له نفسه النيل منه أو الانحراف عنه ولا يخشى فيه لومة لائم. والغيرة على القوم تتمثل في حفظ حقوقهم والدفاع عن مصالحهم والوقوف في وجه من يجور عليهم ويحاول قهرهم واستعبادهم وسرقة أموالهم والعمل من أجل رفعة شأنهم وتحسين أوضاعهم في شتى الميادين العلمية والمعيشية والاجتماعية، حتى يتبوّؤا مركزهم في ركب الانسانية الصاعد ويساهموا بدورهم في تقدم المجتمع الانساني.

ص: 232


1- انظر (ح)، ج 17، ص 106.
2- نفسه ج 17، ص 85 - 87.
3- نفسه، ج 20، ص 290.
4- نفسه ج 20، ص 301.

والغيرة على الوطن تظهر في الدفاع عنه ضد الاعداء الذين يتربصون به لاحتلاله وسرقة ثرواته وقهر أبنائه، وكما تقضي بالتمسك بترابه والتضحية بالنفس في سبيله حتى يبقى بلداً حراً مستقلاً، والعمل على تطوره وازدهاره في شتى نواحيه السياسية والاقتصادية والعمرانية والثقافية.

أما الغيرة على النفس فتقضي بتهذيبها وتزكيتها وتنزيهها عما يشينها بترك الرذائل والتمسك بالفضائل والقيم الخلفية السامية والاعتياد عليها حتى تصبح من طباعها وذلك بإخضاعها لسيطرة العقل حتى لا تشدّ بها الشهوات عن سواء السبيل.

ز - الشجاعة: الشجاعة من خلق الامام علي (علیه السلام)، ومقاماته يضرب بها الأمثال وهي من الأمور الداعية الى نبذ الخوف والجبن وقول الحق دون تهيّب والتماسك والتوازن في الشخصية بحيث لا تضعف ولا تتراجع عن المواقف السابقة كما انها عنصر فعّال في إحراز النصر في شتى المواقع بفضل ما ينجم عنها من الثبات والاقدام والاصرار.

وللشجاعة أثرها في إحياء النفس وتفتح مداركها، كما أنها تجعل إرادة الانسان صلبة قوية لا تتصدع أو تتراجع أمام زوابع الفتن والأحداث ولا تضعف في مواجهة المصائب والبلايا.

بهذه الارادة تمكن الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم من دك عروش الوثنية والشرك ورفع كلمة الله عالية في الأرض. وبها أيضاً تمكن الامام علي (علیه السلام) من حصد رؤوس المشركين وأئمة الكفر والضلال وهو الذي لو تضافرت العرب على قتاله لما فرّ منها.

والارادة القوية تأبى الضيم والعبودية والاستسلام، وترحب بالتضحية ونكران الذات في سبيل الأهداف السامية وترفض المستحيل وتهزأ بالمصاعب لذلك فهي معيار قيمة الانسان وسر وجوده. وبما أن الشجاعة هي مصدر هذه المزايا والفضائل جميعها. فإن الجبن يحرمنا منها ويفقدنا حسناتها لذا قال الامام (علیه السلام): الجبن منقصة (1).

ح - الحلم: الحلم اسم من أسماء الله، وصفة من صفاته، ومن تحلى به فقد فاز بسعادة الدنيا والآخرة. وقد خصّ الله به صفوة أوليائه وأكرم أنبيائه فقال في ابراهيم (علیه السلام): (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة / 114). وقال في رسوله محمدصلی الله علیه و آله و سلم: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ). (الأعراف / 199).

والحلم من أبرز الفضائل النفسية وأكثر دلالة على سعة الصدر وعلو الهمّة والخلق النبيل، كما أنه دلالة كمال العقل واستيلائه وانكسار قوة الغضب وخضوعها للعقل. ولكن.

ص: 233


1- أنظر (ح)، ج 18، ص 87.

ابتداءه التحكم وكظم الغيظ تكلفاً. قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم (1).

والحلم يعني العفو عن المذنب والصبر على الأذى والألم وكتم الغضب. وللامام علي (علیه السلام) أقوال كثيرة في مدح هذه الصفة واكبارها فقال: لا عز كالجلم (2). لأن العزة الناجمة عنه لا مثيل لها وقال: «ان أول ما عوض الحليم عن حلمه ان الناس كلهم أعوانه على الجاهل (3). لأن الحلم عن السفيه والجاهل يؤدي الى المؤازرة عليه لردعه.

والحلم وسيلة تستر عيوب الخلق كما أن العقل وسيلة لقمع أهواء النفس لذا كان الحلم غطاء ساتر والعقل حسام قاطع فاستر خلل خلقك بحلمك وقاتل هواك بعقلك (4). وكما أن الأناة حصن السلامة فكذلك الحلم. وكلاهما من علو الهمة. وعلو الهمة حال متوسطة بين طرفين كلاهما رذيلة: التفتح والدناءة «الحلم والأناة توأمان ينتجهما علو الهمة (5).

هذا التعظيم لشأن الحلم وإبراز أهميته على الصعيدين الخلقي والاجتماعي دفع الامام علي (علیه السلام) الى أن يجعله مع العلم أفضل ما يتحلى به الانسان لأن العلم من دون أناة وتبصّر جهل فقال: رب عالم قد قتله جهله وعلمه معبه لا ينفعه (6). كما جعله من أكثر مقتنيات الانسان خيراً إذا قيس بالخير الناجم عن المال والولد «ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك (7).

تلك هي أبرز سمات فضيلة الحلم، إن أخذ بها الانسان وطبقها في مجريات حياته وسائر أموره أدّت الى رفع الشر ونشر المودة بين البشر بانتفاء الحقد والكراهية من نفوسهم ولذا كان الحلم إحدى وصايا الامام علي (علیه السلام) الى أهل بيته وأصحابه وعماله، فقال الى الحارث الهمذاني أحد أصحابه: «واكظم الغيظ واحلم عند الغضب وتجاوز عند المقدرة واصفح مع الدولة تكن لك العاقبة (8). وهذه كانت شيمة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وشيمة علي (علیه السلام) كما قال ابن أبي الحديد. أما شيمة رسول الله فظفر بمشركي مكة وعفا عنهم في عام الفتح. أما علي (علیه السلام) فقد ظفر بأصحاب الجمل وقد شقوا عصا الاسلام عليه وطعنوا فيه وفي خلافته، فعفا عنهم مع علمه بأنهم يفسدون عليه أمره فيما بعد ويصيرون الى معاوية، إما بأنفسهم أو بآرائهم وكتاباتهم وهذا أعظم من الصفح عن أهل مكة. لأن أهل مكة لم يبق لهم، لما فتحت، فئة يتحيّزون اليها ويفسدون الدين عندها..

ص: 234


1- احياء علوم الدين، ج 3، ص 176.
2- انظر (ح)، ج 18، ص 176.
3- احياء علوم الدين، ج 3، ص 178.
4- أنظر (ح)، ج 20، ص 69.
5- نفسه ص 177.
6- نفسه، ج 18، ص 269.
7- احياء علوم الدين، ج 3، ص 178.
8- انظر (ح)، ج 18، ص 41.

ط - الصبر: الصبر مقام من مقامات الدين ومعناه صمود النفس أمام شهوات الطبع ومقتضيات الهوى ونوائب الدهر وهو خاصة الانس لأن الانسان ولد ضعيفاً لا باعث له الا الشهوة ثم أكرمه الله وحباه بعقل میزه به عن غيره ليعرف أصله ويميز بين الخير والشر ويقمع شهوات نفسه الأمارة بالسوء حتى يكون جديراً بما اختص به.

والصبر صفة من صفات الله واسم من أسمائه الحسنى وهو يجمع أكثر أخلاق الايمان كالعفة وضبط النفس والشجاعة والحلم وسعة الصدر والزهو والقناعة وغير ذلك. لذلك لما سئل النبي صلی الله علیه و آله و سلم عن الايمان قال: «هو الصبر» (1).

ولقد حفل القرآن بآيات كثيرة تبرز فضيلة الصبر وتشجع عليه وتضاعف أجره عند الله ومن ذلك على سبيل المثال (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل / 96). ومما أثر عن النبي الكريم صلی الله علیه و آله و سلم أيضاً قوله: و الصبر كنز من كنوز الجنة (2). وقد تواترت عن الامام (علیه السلام) علي أخبار كثيرة تحت عليه وتمدح المتصفين فهو. أن یری الصبر إحدى دعائم الايمان الأربعة بعد اليقين والعدل والجهاد وله أربع علامات: الشوق والشفق والزهو والترقب. فمن اشتاق الى الجنة سلا عن الشهوات ومن أشفق من النار اجتنب المحرمات ومن زهد في الدنيا استهان بالمصيبات ومن ارتقب الموت سارع في الخيرايت (3) وهو علامة الايمان إذ الإيمان بالحياء والصبر (4) وقد أنزله (علیه السلام) منزلة الرأس من الجسد فقال: الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا جسد لمن لا رأس له، ولا ايمان لمن لا صبر له (5).

والصبر على نوعين: صبر على ما نحب كالصحة والسلامة والمال والجاه وملاذ الدنيا، وصبر على ما نكره كالالتزام بالطاعات والعبادات واجتناب المعاصي وبلاء الآخرة وما ينزل بنا من مصائب الدهر ونوائبه وأذى الناس وظلمهم.

والصبر عن المعاصي من أشد أنواع الصبر لأنه يتصل مباشرة بطبيعة النفس الانسانية كالغيبة مثلا. فهي جهد العاجز (6) كما قال الامام علي (علیه السلام) ومعناها أن تذكر الانسان بما يكرهه لأسباب تنم عن سوء الخلق لشفاء الغيظ أو الحسد أو التفكه بذكر عيوب الغير. لذلك فقد نهى عنه الامام (علیه السلام) وقال: (إنما ينبغي لاهل العصمة المصنوع اليهم في السلامة أن يرحموا أهل الذنوب والمعصية (7). ومن لم يقدر على ذلك أوجب عليه الامام العزلة والانفراد للاشتغال بأمور العبادة ومجانبة الناس والاهتمام بعيوب النفس فالعزلة لمثل هؤلاء.

ص: 235


1- إحياء علوم الدين، ج 4، ص 67.
2- نفسه، ج 4، ص 61.
3- أنظر (ح)، ج 18، ص 142.
4- نفسه، ج 18، ص 276.
5- نفسه، ص 232.
6- نفسه ج 9، ص 66.
7- نفسه، ج 9، ص 59.

خير لهم من مخالطة وذكر عيوبهم قال (علیه السلام): أيها الناس طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس. وطوبى لمن لزم بيته وأكل قوته واشتغل بطاعة ربه وبكى على خطيئة فكان من نفسه في شغل والناس منه في راحة (1).

والصبر على بلاء الله دليل الايمان وحسن اليقين وهو من الشدة بحيث لا يقدر عليه إلا الأنبياء والصديقين يقول صلی الله علیه و آله و سلم: اسألك من اليقين ما تهوّن علي من مصائب الدنيا (2).

أما الصبر على أذى الناس وعدم مقابلتهم بالتشفي والانتقام فهو من شيم الابرار والأخيار. فعندما نفي أبو ذر الى الربذة، وقف علي (علیه السلام) وأهل بيته وأصحابه يودعونه ويؤسونه بالصبر فقال عقيل: « ... واصبر فإن الصبر كرم واعلم أن استثقالك الصبر من الجزع، واستبطاءك العافية من اليأس فدع اليأس والجزع وقال الحسن (علیه السلام): «فاسأل الله الصبر والنصر واستعذبه من الجشع والجزع فإن الصبر من الدين والكرم، وان الجشع لا يقدم رزقاً والجزع لا يؤخر أجلها» (3).

وتختلف شدة الصبر باختلاف قوة المصيبة وضعفها ولا يعني ذلك أن الله يعطي الصبر ما يعادل المصيبة شدة وضعفاً لأن مصدر الصبر هو العقل والايمان كما قلنا إنما يعني أن مرارة الصبر تكون على قدر المصيبة أما مجالاته فهو في الأمور التالية:

- الصبر على مشقة العباد وما توجبه من إكراه النفس وقهر شهواتها وفي ذلك الفوز الأكبر لأن الصبر على مشقة العباد ترقى بك الى شرف الفوز الأكبر (4).

- الصبر على الحق. لا خلاف في أن الامام علي (علیه السلام) كان يرى نفسه بأنه أحق بالخلافة من جميع الصحابة وقد احتج على ذلك بالحسنى فقال: «لنا حق فإن أعطيناه وإلا ركبنا اعجاز الابل وان طال السرى (5).

- الصبر على الألم: فهو يدعو الى التجلد وعدم المقاومة، إلا إذا استفحل الأمر واستعصى وأصبح من الضروري مواجهة الداء بالدواء؛ إذ ربما كان الدواء داء والداء دواء، لذلك قال: «امش بدائك ما مشى معك (6).

- الصبر على المكروه: لأن مصائب الحياة كثيرة فلا يجدي معها البكاء الطويل ولبس الحداد حتي لا نعيش حياتنا في حسرة وكآبة فلا بد من الصبر على ما لا بد منه ونرضى بالحياة.

ص: 236


1- أنظر (ح)، ج 10، ص 33.
2- احياء علوم الدين، ج 4، ص 72.
3- أنظر (ح)، ج 8، ص 23 ص 253 - 254.
4- نفسه، ج 20، ص 278.
5- أنظر (ح)، ج 18، ص 132.
6- نفسه ص 138.

وقوانينها ونواميسها ولا نحاول تغيير طبيعتها. لذلك قال الامام (علیه السلام): «اغض عن القذى والألم ترضى أبداً (1).

أما فوائده فهي كثيرة لأن الصبر خشبة الخلاص للانسان فهو من الفضائل التي لا يمكن لمن يتحلى بها أن توقفه فيما يكرهه لأن الصبر مطية لا تكبو (2) - فهو يساعد الانسان على تحمل الأذى والمصيبة وتجرع الغيظ. وهذا ما لا يستطيعه إلا من غلبت على نفسه الشجاعة والثبات لهذا كان الصبر شجاعة (3) ولولا هذا الصبر لما قامت للاسلام قائمة إذ على صخرته تحطم الكفر والشرك.

- والصبر وسيلة للقضاء على أهواء النفس وشهواتها بحيث يردع الانسان عن الانصياع

لنفسه والاستسلام لها لأن عزيمة الصبر تطفىء نار الهوى (4).

- وهو أيضاً وسيلة لتحقيق النصر مهما طال الزمن لأن تحمل الصعاب والثبات في المواقع كفيلان بتحقيق ما يصبو اليه الانسان لذا فقد أوصى به الامام (علیه السلام) فقال: «واستشعروا الصبر فإنه أدعى الى النصر» (5) وقال: لا يعدم الصبور الظفر وان طال به الزمان (6).

- والصبر مر لا شك في ذلك، أما الجزع فهو أكثر مرارة ومن لم يخلصه الصبر من هموم الدنيا كان الجزع أكثر قدرة على زيادة هموم الانسان حتى يهلكه لأن من لا ينفعه الحق يضرّه الباطل ومن لا يستقيم به الهدى يجرّ به الضلال الى الردى (7).

ي - الشكر: الشكر خلق من خلق الربوبية اذ قال تعالى (وَالله شَكُورٌ حَلِيمٌ) (التغابن / 17). ولقد قرن الله الذكر بالشكر عندما قال: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) (البقرة / 152). وقطع تعالى بالمزيد مع الشكر فقال: ﴿ وَلَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) (ابراهيم / 7). وجعله تعالى مفتاح كلام أهل الجنة (وَقَالُوا الْحَمْدُ لله الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ) (الزمر / 74).

والشكر من شيم الأنبياء والمرسلين والأئمة الميامين ومعناه حمد الله على نعمه الكثيرة واستعمال هذه النعم في محابّه من الأعمال. وحمد الله سبحانه من أفضل العبادات ولهذا افتتحت به الصلاة وفاتحة الكتاب والمراسلات وهو يقضي بشكر المنعم وتمجيده وتعظيمه وتوحيده لقول الامام علي (علیه السلام) الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره وسبباً للمزيد من فضله ودليلا على آلائه وعظمته (8)..

ص: 237


1- نفسه، ج 19، ص 34
2- نفسه، ج20، ص 256.
3- نفسه، ج 18، ص 90.
4- نفسه، ج 20، ص 263.
5- نفسه، ج 2، ص 60.
6- نفسه، ج 18، ص 366.
7- نفسه، ج 2، ص 91.
8- نفسه، ج 9، ص 222.

والشكر مقام من مقامات السالكين الى الله تعالى وقد مارسه الامام علي (علیه السلام) قولاً وفعلاً وجعله طالع خطبه ورسائله وأوصى أهله وأصحابه بضرورة التقرب الى الله به استدراراً لنعمه ورحمته ورضوانه لأنه من أشرف العبادات وأشرف الأدعية. والشكر على نعم الله يقضي باستعمالها في أعمال البر والاحسان فيكون ذلك سبباً لزيادتها واستدامها كما قال الامام علي (علیه السلام) و استنزلوا الرزق بالصدقة (1) وقوله: (من أعطي الشكر لم يحرم الزيادة (2) ومن أصناف النعم الغنى. والغنى بغير شكر جحد وكفر وعدم استحقاق. فإذا كان العفاف زينة الفقر فإن الشكر زينة الغنى.

ومنها أيضاً الصحة وهي من أفضل نعم الله إلا أنه ينبغي على الإنسان أن لا يغتر بموفور ماله وصحته لأن «الدهر يومان: يوم لك ويوم عليك فإذا كان لك فلا تبطر وإذا كان عليك فاصبر» (3). والغنى لا يكون بغير عمل لأن المال لا ينزل من السماء ولكن الله يجود به على من جدّ في سبيله شرط أن يطلبه من وجهه الحلال كما في وصية الامام (علیه السلام) لولده الحسن (علیه السلام): «فخفض في الطلب وأجمل في المكتسب (127)، والا يجور به على نفسه وأهله وأخوانه ويشكر الذي أقدره على ذلك.

ومن النعم أيضاً ما يفضل به الانسان على غيره كالعلم والأدب والخلق الجميل وما توجبه من حمده تعالى وشكره على ما حباه به بقوله (علیه السلام): وأكثر أن تنظر الى من فضلت عليه فإن ذلك من أبواب الشكر (4).

ومنها أيضاً ما نعم به تعالى على المتقين من عباده بهدايتهم الى طاعته وإبعادهم عن معصيته فيكون الشكر علامة تميزهم عن الجاحدين فيشكروا الله لهدايته أنفسهم ويحاولوا هداية أهل الذنوب وانقاذهم من التهلكة بالموعظة الحسنة لقول الامام علي (علیه السلام): «إنما ينبغي لأهل العصمة والمصنوع اليهم في السلامة أن يرحموا أهل الذنوب والمعصية ويكون الشكر هو

الغالب عليهم والحاجز لهم ...» (5)

تلك هي أفضل الخصال الخلقية التي دعا اليها الامام علي (علیه السلام) وشجع على ضرورة التحلي بها باعتبارها الأداة الفضلى لتكوين الانسان الفاضل القريب من الكمال.

5 - الخصال المذمومة

أما الخصال المذمومة التي نهى عنها الامام علي (علیه السلام) وحذر منها فهي كما يلي:

أ - الغضب: وهو من الانفعالات الحادة المؤدية الى تعطيل قوى الانسان الادراكية

ص: 238


1- أنظر (ح)، ج 18، ص 335.
2- نفسه ج 18 ص 335.
3- نفسه، ج 16، ص 93.
4- نفسه، ج 18، ص 42.
5- نفسه، ج 9، ص 59.

والسلوكية بحيث يخرج عن حدود النشاط المعتدل المنظم والسوي. كما انه من الأسباب

الداعية الى إثارة الاحقاد والضغائن الكامنة. والحدّة فيه ضرب من الجنون، عاقبته الندم لأن الانسان يسلك بوحي من انفعالاته الحادة التي تخرجه عن التفكير السوي. وقد عبر الامام عن ذلك بقوله: «الحدة ضرب من الجنون لأن صاحبها يندم، فإن لم يندم فجنونه مستحكم (1).

ب - الخوف: وهو من الانفعالات المؤدية الى اضطراب السلوك وفقدان التوازن وسوء استعداد الفرد وتأهبه ولياقته لأداء أي عمل جدي ذو أهمية، مما يؤثر على كفاءته الانتاجية، وزعزعة علاقاته الاجتماعية والانسانية لذلك فإن التربية العلوية تسعى الى تخليصه من شبح الخوف، حتى تطمئن نفسه ويعيش في أمن واستقرار على ألا يكون الخوف الا الله من تعالى، فإذا استقر في أعماق النفس الانسانية، حجبها عن المعاصي والآثام ودفعها الى اعمال البر والخير والفضيلة.

ج - الحسد: وهو من الصفات المذمومة والخبيثة، والأخلاق الدنيئة كما قال الامام علي (علیه السلام): «الحسد خلق دنيء» (2)، وله آثاره السيئة على علاقات الانسان بغيره. كما أن أثره في اعلال الجسم لا يخفى على أحد لأن انشغال الذات والفكر بما لدى الآخرين، يؤدي الى ضعف الجسم ومن ثم مرضه، لذا كانت «صحة الجسد من قلة الحسد» (3) كما قال (علیه السلام) فمزاج البدن تابع لأحوال النفس، فإذا ما درجت على الحسد أودت بالجسم الى التهلكة، ليس ذلك فحسب، بل ان الحسد، وهو الخطيئة الأولى التي أدت بابن آدم الى قتل أخيه حين حسده، ان الحسد هذا، من الأمراض المؤدية الى تفكك المجتمع ونشر العداء والأحقاد بين الناس.

د - الحرص: وهو من العادات السيئة التي تدفع الانسان الى السعي المتواصل لتحصيل المال، والتعلق بالدنيا وإغفال الآخرة. كما أنه يبعده عن محاسن القيم والفضائل كالقناعة والعفة والزهد وغير ذلك، كما ويرميه في المتاعب ويحرمه الراحة والاستقرار النفسي، ويقحمه في الذنوب كما قال (علیه السلام)، «الحرص والكبر والحسد دواع الى التقحم في الذنوب (4)، ويكون أيضاً عرضة لمذمة الناس أما نصيبه منه فيكون أقل بكثير من أثره في هدر كرامته لأن «الحرص ينقص من قدر الانسان ولا يزيد في حظّه (5) كما يقول الامام (علیه السلام).

ه - - البخل: وهو خلق من الأخلاق الرديئة، وعادة من العادات السيئة، وثمرة من.

ص: 239


1- انظر (ح)، ج 19، ص 96.
2- نفسه، ج 20، ص 300.
3- نفسه، ج 19 ص 97.
4- نفسه، ص 301.
5- نفسه. ج 20، ص 328.

ثمرات حب الدنيا. وهو عار على الانسان لأن البخل جامع لمساوىء العيوب (1) كما قال (علیه السلام) كالشح على النفس والعيال، وعدم البذل في اعمال العروف والتعلق بحطام الدنيا، كما انه وسيلة لطرد الايمان من القلب، إذ لا يجتمع شح وايمان في قلب أبداً (2).

و - الجبن: الجبن يميت النفس ويسلب طاقات الانسان ويجعله أسير الهواجس والأوهام، بلا إرادة ولا قدرة، لذا كان الجبن منقصة (3)، كما يقول الامام (علیه السلام).

ز - الطمع: الطمع من العادات السيئة لأنه ضد القناعة، ومن دان به، فقد حقّر نفسه وشغلها بما يفسدها لقوله (علیه السلام) ازرى بنفسه من استشعر الطمع (4). وهو من الرذائل المؤدية الى الفساد والضلال، لأنه يقود الى الذل والهوان والعبودية والكذب والخيانة والظلم والبغي، لذا كان الطمع رقّ مؤبد (5).

والطمع يهلك الانسان وهو يظن فيه النجاة، إذ يزين له اطماعه وشهواته، ويمنّيه بالراحة والسعادة ويعتقد فيه الأمل والرجاء، ولكنه قد يخنق أنفاسه ويودي بحياته قبل بلوغه الهدف، لذا قال الامام (علیه السلام) (ان الطمع مورد غير مصدر، وضامن غير وفي، وربما شرق شارب الماء قبل ريه، وكلما عظم قدر الشيء المتنافس فيه، عظمت الرزية لفقده، والأماني تعمي أعين البصائر، والحظ يأتي من لا يأتيه (6).

ح - الكذب: وهو أساس كل رذيلة، وعلّة كل نقص، ولا يعمل به إلا من فقد شرفه وكرامته، وهانت الانسانية لديه، فرضي لنفسه الذل والهوان، لأن الكذب مذلّة (7) كما يقول الامام علي (علیه السلام). وهو ليس من الايمان في شيء، لأنه ضد الحق والصواب، إذ لا يتذوق العبد طعم الايمان ما لم يترك الكذب هزله وجدّه.

ط - الحقد: وهو من النزعات الخبيثة المدفونة في أعماق النفس، وقد يؤدي عند إثارتها الى الشر والفساد، وله آثاره السيئة على النفس، إذ يتركها في حالة من القلق والاضطراب، فتعمى عن رؤية الحقيقة وتتصرف بوحي من شهواتها، وتصبح رهينة العداوة والبغضاء.

ي - العجب: حقيقة العجب ظنّ الانسان بنفسه استحقاق منزلة هو غير مستحق لها، فيعمى عن عيوب نفسه، ويحاول أن يبديها محاسن وفضائل. والعجب يورث التكبر والغرور والتيه، ويعمي البصر والبصيرة. وهو ينشأ من حب الانسان لنفسه، لذا كان حبك الشيء يعمي ويصم (8) ومن عمي وصم تعذر عليه رؤية عيوبه. 2.

ص: 240


1- نفسه، ج 19، ص 316.
2- نفسه، ج 19، ص 317.
3- نفسه، ج 18، ص 87.
4- نفسه، ج 18، ص 84.
5- انظر (ح)، ج 18، ص 413.
6- نفسه ج 19، ص 165.
7- نفسه، ج 20، ص 329.
8- نفسه، ج 18، ص 392.

والعجب من النزعات الشريرة التي تجعل الانسان يعتقد بأنه وحيد زمانه، وانه قد بلغ الغرض ووصل الى مرتبة الكمال لذا فإن الاعجاب يمنع من الازدياد (1)، كما قال الامام (علیه السلام)، إذ لا يطلب الزيادة إلا من استشعر بالتقصير. وإذا بلغ فيه الانسان الذروة وصل الى مرتبة التيه. والتيه قريب من العجب، ولكن المتعجب يصدق نفسه وهما فيما يظن بها. والتيّاه يصدّقها قطعاً، كانه متحيّر في تيّه. ويمكن أن نفرق بينهما بأمر آخر فنقول: ان المعجب قد يعجب بنفسه ولا يؤذي أحداً بذلك الاعجاب والتيّاه يضمّ الى الاعجاب الغضّ من الناس والترفع عليهم، فيستلزم ذلك الأذى لهم، فكل تائه معجب، وليس كل معجب تائهاً، لذا قال (علیه السلام): «ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، واعجاب المرء بنفسه (2).

ك - الرياء: وهو من الكبائر التي تدفع الانسان الى إظهار التقوى والصلاح، واضمار النفاق، بقصد السمعة والصيت وتحقيق المآرب الشخصية. لذلك فقد نهى الامام علي (علیه السلام) عن التلون في دين الله، كما نهى عن التلون في الأخلاق، لأنها أمور تبطن العبادة وتورث مفاسد الأخلاق كالكذب والنفاق والخبث وغيرها - لهذا فقد سماه الرسول صلی الله علیه و آله و سلم الشرك الأصغر عندما قال لأصحابه: «ان أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟

قال: الرياء (3).

أما الامام علي (علیه السلام)، فقد استبعده عن مجمل تصرفاته، وأمر بتخليص الأنفس من حبائله فقال: «واعملوا من غير رياء وسمعة، فإنه من يعمل لغير الله، يكله الله الى من عمل له (4).

ك - الغيبة: خلق سيء يدعو الى بذر الشقاق ونفث سموم الأحقاد بين الناس، ومعناه ذكر الناس بما يكرهونه. كما قال الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم لأصحابه: هل تدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكرهه (5). وهي عادة سيئة تنم عن الحسد واللؤم والغيرة كما قال الامام علي (علیه السلام): الغيبة لؤم باطن (6)، كما انها تدل على العجز وعدم القدرة على مجاراة الناس بأشيائهم، مما يدفع الى التسلي بعيوبهم ونقائصهم كما يقول الامام (علیه السلام) الغيبة جهد العاجز (7).

م - النميمة: وهي من أقوى النزعات الشريرة التي تساهم مساهمة فعالة في نشر الفتن وزرع بذور الشقاق والأحقاد بين الناس. وحقيقتها نقل الكلام وإفشاء الأسرار الى الغير، 9.

ص: 241


1- أنظر (ح)، ج 18، ص 3.
2- نفسه، ج 18، ص 392.
3- احياء علوم الدين، ج 3، ص 294.
4- انظر (ح)، ج 1، ص 312.
5- نفسه، ج 9، ص 67
6- انظر (ح)، ج 20، ص 303.
7- نفسه، ج 20، ص 179.

سواء كان ذلك مدحاً أم ذمّاً. وقد يكون لذلك أثره في إحداث الخصومة والقطيعة وترك الألفة والمودة، لهذا فإن النمام سهم قاتل (1)، كما قال الامام (علیه السلام).

والنميمة تبطن الرياء والحسد والحقد والكراهية، وقد يتعمدها البعض لاظهار المحبة والتقرب من الآخرين، أو لفصم عرى الاتصال بينهم لسبب كامن في النفس، لذا كان النمام جسر الشر (2) كما قال (علیه السلام).

ن - الفخر: خلق رذيل ينم عن التكبر والسخرية والاستهزاء بالناس، والظهور عليهم بمظهر التفوق والتسامي بالحسب والنسب والجاه والغنى والعلم وغير ذلك من الأشياء التي يتفاضل بها الناس ويتفاخر. والفخر هو الخطيئة الأولى التي ارتكبها ابليس عندما فخر على أدم بخلقه، وتعصب عليه لأصله فكان أن أحبط الله عمله الطويل وجهده الجهيد.

وهو خلق من أخلاق الجاهلية الباعث على التعصب والحقد، والتكبر، كما أنه ينفي فضيلة التواضع التي شرف بها الله تعالى خاصة أنبيائه كما قال الامام (علیه السلام) «ولكن الله سبحانه كرّه اليهم الكبائر، ورضي لهم التواضع (3). ولهذا فقد نبذه الاسلام، وحذّر منه الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، ودعا الى التخلي عنه إمام الهدى (علیه السلام) فقال «ضع فخرك، واحطط كبرك، واذكر

قبرك (4).

ص - كثرة المزاح: كثرة المزاح من الأمور غير المستحبة في الشخصية المتوازنة لأنها تؤدي الى السخرية والاستهزاء والاحتقار وعدم الاحترام والاستهانة والاستخفاف بقدر الانسان وقيمته. وقد تكون سبباً للخصومة والعداوة وقطع روابط الألفة والمودة بين الناس، ومن كثر مزاحه ظلم نفسه وأوجب عليها سخط الناس واشمئزازهم، لأن «من كثر مزاحه لم يسلم من استخفاف به أو حقد عليه (5).

بهذا أكون قد أعطيت صورة عن الفضائل التي أمر بها الامام علي، والرذائل التي نهى عنها. ورغم أنه من الصعب تجزئة القيم الأخلاقية في الكائن الحي، لأن الأخلاق لا تتجزأ، فهي كلّ متكامل متفاعل يكمل بعضه بعضاً، فإن محاولتي التجزيئية هذه ما هي إلا عمل ينقسم في النظرية ويتحد في التطبيق. وهذا ما يسمح لي بأن أفرد على حدة القيم والمبادىء التي أمر بها الامام وتلك التي نهى عنها وحذّر منها، حتى أعطي صورة واضحة ومتكاملة عن الشخصية المهذبة والمطهرة من الجراثيم والأمراض الفكرية والاجتماعية حتى يكون الانسان بمنأى وبمنجى منها، وحتى لا تورده طريق المهالك، وتصدّه عن الطريق القويم.7.

ص: 242


1- نفسه، ج 20، ص 301.
2- نفسه، ج 20، ص 341.
3- نفسه،،ج 20، ص 151.
4- نفسه، ج 19، ص 352.
5- نفسه، ج 20، ص 327.

إن التربية الأخلاقية الدينية التي رسمها الامام، إنما كانت تهدف الى إنقاص الانسان من براثن الرذيلة وتنقية نفسه من المبادىء والقيم المتناقضة، تلك التي تثير فيه أخطر أنواع الصراع النفسي، وتؤثر سلبا على سلوكه العام، مما يجعله عنصراً شاذاً بين أفراد جنسه، كما انها ترمي الى إيقاضه ووعيه وتثقيفه وتهذيبه ليندفع بإيمان ثابت لا يتزعزع الى العمل الجاد والمنتج «وهل تهدف التربية الخلقية إلا إلى تعديل الغرائز والميول المنحرفة في الأفراد والجماعات، لتوجيهها نحو صالح الأفراد والجماعات؟ أم هي غير تعويد الطفل على اكساب الصفات الحسنة، لاعداد جيل مهذب أمين صادق في قوله وفعله (1).

ثالثاً: التربية السياسية

1 - السياسة كما رسمها الامام علي (علیه السلام):

السياسة كما يفهمها الامام (علیه السلام) ليست تراد لنفسها، وإنما تراد للذكر الجميل (2) كما أوصى بذلك أرسطو تلميذه الاسكندر، لذلك فقد تميزت السلطة بالأمور التالية:

لم تعد حقاً إلهياً يتولاه الحاكم نيابة عن الله، وإنما هي منوطة بإرادة الجماهير توليها من تشاء بحسب اعتبارات تتعلق بمصلحة الجماعة: الزموا السواد الأعظم فإن يد الله مع

الجماعة (3).

وهي ليست منعزلة عن الجماهير لتمارس سلطاتها من فوق بالقهر والعسف ولكنها مندمجة معهم، تعاين أمورهم عن كثب وتضع الحلول السريعة لمشاكلهم.

فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور (4) وهذا خلاف ما أوصى به أرسطو تلميذه الاسكندر عندما طلب منه بأن يقلل من مباشرة الناس ويخفف من مجالستهم، لا سيما العامة، لا سيما العامة ... ويجب أن لا يظهر لهم إلا على البعد وفي جلال المواكب وحملة السلاح، وذلك مرة واحدة في العام (5)

وهي ليست وسيلة للاثراء غير المشروع، والتوسعة على الأهل والأقارب بغير حساب، ولكنها انصاف للناس والعدل عليهم والمساواة بينهم فلا يكن حظك في ولأيتك مالاً تستفيده، ولا غيظاً تشفيه، ولكن إماتة باطل وإحياء حق (6).

ص: 243


1- التربية، ص 187.
2- الأصول اليونانية للنظريات السياسية في الاسلام، تحقيق عبد الرحمن بدوي، مطبعة دار الكتب المصرية، 1954، ص 75.
3- انظر (ح) ج 8، ص 112.
4- نفسه، ج 17، ص 90.
5- الأصول اليونانية، ص 78.
6- مستدرك نهج البلاغة، ص 147.

كما انها ليست حسباً تشاد عليه الأمجاد، ولا شرفاً يدفع الى التكبر والتجبر إذ «لا حسب كالتواضع (1) وليست استبداداً في الرأي ولا خداعاً للجماهير لكسب المجد والسلطان، ولكنها صراحة في القول ونزاهة في العمل وصدق في المعاملة.

تلك هي الخلافة كما حددها الامام (علیه السلام) فلا مظاهر كاذبة، ولا ألقاب فارغة ولكنها خدمة للاسلام والمسلمين ومن انضوي تحت لوائهم من أهل المذاهب المختلفة دون تمييز بين قريب أو بعيد، مسلم أو ذمّي كما قال أرسطو: «يا اسكندر أي ملك أخدم ملكه دينه، فهو مستحق الرياسة وأي ملك جعل دينه خادماً لملكه، فهو مستخف بناموسه، ومن استخف بالناموس قتله الناموس (2).

2 - مبادىء الحكم العلوي:

والحكم أمانة في عنق الحاكم وليس أداة للعبث والفساد. ان شمول نظرة الامام (علیه السلام) السياسية جعلت اهتمام الحكم غير مقصور على الإنسان كفرد، ولا على الجماعة دون الفرد. فالإنسان يمارس حقه في حدود المحافظة على حقوق الآخرين. وبهذا يحصل التوازن بين الفرد والمجتمع، ذلك أنهما متفاعلان، ولكن بحدود حسن السيرة وموازين الحق والعدل. من هنا نرى الامام علي (علیه السلام) «ينظر في حرية الفرد، ومصلحة الجماعة، نظرة موحدة شاملة، فلا يغبن هذا ولا يؤذي ذاك بل يقيم بينهما انسجاماً يجعل الفرد جديراً باستخدام حريته، ويجعل الجماعة خليفة بالاستفادة من الاجتماع، بل قل يجعل الفرد للجماعة، والجماعة للفرد في نطاق من الحرية الرحبة السمحة (3). وإذا حدث واختل التوازن بين الفرد والجماعة، وكانت مصلحة أحدهما على حساب مصلحة الآخر فإن ديمقراطية الامام (علیه السلام) تأبى القبول إلا بمصلحة الأكثرية لأن سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وان سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة (4).

وإذا كان «ميكافيللي». قد ربط بين استقرار الحكم ورضا الشعب، فإنه لم يكن أول من صاغ نظام البرلمان أو سيادة الأكثرية، لأن الاسلام كان قد سبقه الى هذا الأمر. ذلك أن نظام البرلمان وسيادة الأمة، قد قرّرها الامام علي (علیه السلام) في العهد المكتوب لمالك الأشتر، بكل صراحة ووضوح وإيجاز ودقة، ويجدر بالمطالع الفاضل أن يسرح نظره من جديد في هذا العهد، ثم يرسل نظرة الى ما قرره (مكيافيللي) ليتحقق أن نظام البرلمانات ومبدأ سيادة الأمة من قواعد الحكم وأصول الاسلام بلا كلام.

ص: 244


1- أنظر (ح) ج 18، ص 276.
2- الأصول اليونانية، ص 77.
3- جرداق، جورج: علي وحقوق الانسان، ص 176 - 177، دار الحياة 1970.
4- أنظر (ح) ج 17، ص 34.

هذه النظرة السياسية، هي تقدمية في مضمونها وخط سيرها. والتقدمية كما يفهمها الامام (علیه السلام) حقائق تطبق على أرض الواقع، وقيم ومبادىء وحقوق ما زالت الانسانية تناضل من أجلها حتى يومنا هذا. من هذه الحقوق:

أ - الحرية:

ظهرت مذاهب كثيرة في الاسلام والمسيحية، عطلت مفهوم الحرية وجعلت الانسان مسيراً بالقدر ولا حول له ولا قوة ولا رأي. وواجه الامام (علیه السلام) هذه القضية وعالجها بأسلوب ينفي فيه أن يكون للقدر سلطة على إرادة الانسان الحرة المختارة.

هذا الفهم العميق للحرية كان الأساس الذي بنيت عليه علاقة الحاكم بالمحكوم فالحاكم يعترف بحق الآخرين في أن يكونوا معه أو عليه، فلا يحاول الضغط والاكراه لأن ذلك يناقض طبيعة الانسان الحرة. هذه الحرية تتجلى عند الامام (علیه السلام) بأبرز مظاهرها كحرية القول وإبداء الرأي واختيار الحاكم الذي تستند علاقته بغيره الى ديمقراطية الحوار والتفاهم لا الى القمع والارهاب، فهو يتوجه الى عقول القوم بمنطق العقل وما لديه من حجة وبرهان ويتوجه الى قلوبهم وضمائرهم، بمنطق القلب والضمير وما لديه من قوة ودليل. أما الحرية بمظهرها الاجتماعي، فهي مكفولة للجميع من خلال:

- حرية العمل: إن ضمان الحرية للناس يقوم في الدرجة الأولى على العمل لأن العمل الذي لا يواكبه الرضا الوجداني العميق، فيه إساءة الى الحرية والى العمل ذاته. لقد كان الامام علي يؤمن بمسؤولية الانسان عن عمله، ولكي يكون مسؤولاً لا بد من أن يكون حراً. لذلك فهو ينهي عن السخرة لأنها تزرى بكرامة الانسان وتفسد عليه عيشه الحر الكريم وتسلبه حقه في أن يكون حراً، وينسب الى معاوية أمر إدخال مؤسسة العبودية في الاسلام مما لم يكن معروفاً من قبل (1). ولم يعرف عن الامام (علیه السلام) أنه أجبر أحداً على عمل يكرهه وكان يقول: «ولست أرى أن أجبر أحداً على عمل يكرهه (2) ويجعل نتيجة العمل من حق العامل وحده. فعندما سمع ان رجلاً أكره بعض العمال على حفر نهر قال: النهر لمن عمل دون ما أكرهه (3).

كذلك، فإنه من جهة يدعو الى بذل العمل ويحث عليه، فالغاية من الحكم لا تنحصر بحفظ الأمن، وإقامة العدل، وفصل الخصومات بالحق وانصاف الظالم من المظلوم بل لا بد مع هذا من العمل لحياة أفضل وأسعد حتى ينطلق بالمجتمع من جديد الى جديد، ومن قوة.

ص: 245


1- روزنتال، فرانز: مفهوم الحرية في الاسلام، ترجمة وتقديم معن زيادة ورضوان السيد، معهد الانماء العربي، ط 1، 1978، ص 72.
2- علي وحقوق الانسان، ص 165.
3- نفسه، ص 165.

الى قوة أعز وأمنع، فالعمل هو لخدمة الحياة ومنفعة الناس، بلا غرور وتبجح، ولا احتكار لأقوات الناس، مع رجاء التمام والكمال فيه، لأن البطالة والاهمال حسرة وندامة، وانحطاط وجهالة. وهل من أحد بلغ درجة في العلى الا بالكفاح والعمل المتواصل. ومما ذكره الامام (علیه السلام) في هذا المجال: «وابتذل نفسك فيما افترض الله عليك راجيا ثوابه ومتخوفاً عقابه، واعلم أن الدنيا دار بلية لم يفرغ صاحبها فيها قط ساعة إلا كانت فرغته عليه حسرة يوم القيامة ... ومن الحق عليك حفظ نفسك والاحتساب على الرعية بجهدك، فإن الذي

يصل اليك من ذلك أفضل من الذي يصل بك (1).

ومن جهة ثانية فإن الامام (علیه السلام) يؤمن بالعمل الحر انطلاقاً من طبيعة الانسان الحرة إلا أنه يربط بين حرية العمل وتقوى الله حتى لا يؤدي ذلك الى الضرر بمصالح الناس فالعمل المسؤول هو وحده الكفيل بإشاعة الطمأنينة والرخاء في المجتمع.

- حرية السكن والعيش في أمان واطمئنان وعدم ترويع الناس في مساكنهم أو إيذائهم: إن الولاء للانسان يثير أعمق الدوافع الانسانية والمشاعر النبيلة التي تجعل منه سيداً حراً كريماً. وهذه وصاياه (علیه السلام) الى العمال على الصدقات تثبت مدى الاهتمام بأمن المواطن وسعادته فيقول «وإذا قدمت الحي، فانزل بمائهم، من غير أن تخالط أبياتهم ثم إمض اليهم بالسكينة والوقار، حتى تقوم بينهم، فتسلم عليهم ولا تخدع بالتحية لهم (2).

- حرية التملك: إن حرية التملك مكفولة في دستور الامام (علیه السلام) ولكنها مشروطة بمنع الاحتكار. والانسان حر في أن يملك، وهذا حق مكفول له، ولكن ليس من الحق في شيء من يتخم نفسه ليجيع الناس ومن يستفيد على حساب غيره فالظلم بأنواعه لعنة على لسان كل إنسان، غير أن أفحشه هو ظلم القوي للضعيف، والمحتكر للعامة والحاكم للمحكوم. ويتابع (علیه السلام) حديثه الى عمال الصدقات فيقول: «فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذنه، فإن أكثرها له، فإذا اتيتها، فلا تدخل عليها دخول متسلط عليه ولا عنيف به (3).

- حرية المعتقد: وهي من الأمور التي تتحدث عنها خطب الامام (علیه السلام) وأقواله. فهي تدعو الى عدم التعصب بأي معنى كان عدا الأخلاق الفاضلة.

هذا المنطلق، فإن التعصب الديني مذموم في منطقه، وجرية المعتقد الديني حق من الحقوق الذي يكفله لجميع الناس، لأن الانسان أخو الانسان أحب أم كره، فيقول الى أحد عماله: «لا تبغ على أهل القبلة ولا تظلم أهل الذمة (4)..

ص: 246


1- انظر (ح) ج 17، ص 145.
2- نفسه، ج 15، ص 151.
3- نفسه.
4- مستدرك نهج البلاغة، ص 115.

ولم يفرق (علیه السلام) بين المسلم وبين غيره من أهل الاديان السماوية الأخرى، ان في العطاء أو القضاء أو المعاملة أو الدين، فالكل سواء لا فرق بينهم الا بالتقوى والعمل الصالح. ولكل أحد حقه في أن يمارس شعائره الدينية بحرية سمحة وفي حدود السلامة المدنية.

أما الحرية بمعناها الخلقي، فهي تعني، كما يقول (علیه السلام) التخلص من العوائق التي تأسر شخصية الانسان والاغلال التي تقيده كالاشادة بالحسب والنسب والطمع في التملك والجاه والسلطان والتعلق بالشهوات، والتمسك بالعصبية والقبلية. فإذا ما استهوته هذه الشهوات ملكت عليه نفسه فجعلته أسيراً لها. لذا فإن من ترك الشهوات كان حراً.

وهكذا فالحرية بمضامينها المختلفة مكفولة في دستور الامام علي (علیه السلام) لأنها لا تقبل التجزء أو المساومة باعتبارها من الحقوق الطبيعية التي فطر عليها الانسان. هذه النظرة للحرية تؤكد أن الحرية عمل وجداني خالص، ملازم للحياة الداخلية التي ترسم بذاتها الخطوط والحدود والمعاني فلا تقسر عليها، لأنها نابعة من الذات. لا تلقائية ولا خارجية وهي إذا كانت كذلك، فليس لأحد أن يكره الآخر أو يجبره في هذا النطاق، لأن عمله هذا يأتي فارغاً من أي معنى، خالصاً من أي أثر (1).

ب - المساواة:

المساواة، كما حددها الامام (علیه السلام) تعني عدم التمييز بين الناس فيما هم فيه أسوة: لقد كان (علیه السلام) يكره أن يتميز أحد على أحد، بل ويحرم أن يعيش أياً كان مركزه مكتفياً وحوله من يجهد نفسه باحثاً عن لقمة العيش يسد بها رمقه. فالكل سواء ليس لأحد نصيب أكثر من سواه، وبجهده وحسب حاجته فهو يحذر من مغبة الاستئثار بشيء يزيد على بعض الناس مما تجب فيه المساواة بينهم كما في عهد الأشتر: وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة (2).

ويؤكد هذه القاعدة أيضاً بقوله أن البشر متساوون في الحقوق العامة، ومساواتهم هذه ان لم تكن نابعة من الدين، فهي في اشتراكهم في المولد وصفة الانسانية فيتابع كلامه للاشتر ويقول: فإنهم (الرعية) صنفان: اما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق (3).

والمساواة لا تتجزأ بل هي تمتد لتشمل كل أنواع التسوية من ذلك:

- التسوية في العطاء: إن حكام الأمة خزان أموالها وأمناء عليه فلا يحق لأي كان كبيراً أم صغيراً أن يتسأثر به أو يستعمله في غير محله، أو يرفد به من يشاء فيكون بذلك خائناً لقومه، وأعظم خيانة هي خيانة الأمة كما يقول الامام (علیه السلام) لذلك فإن خطبه تحذر من مغبة سرقة فيء المسلمين فيقول: «واني أقسم بالله قسماً صادقاً لئن بلغني أنك خنت من فيء 2.

ص: 247


1- علي وحقوق الانسان، ص 196.
2- أنظر (ح) ج 17، ص 113.
3- نفسه، ص 32.

المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً، لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر ضئيل الأمر (1) وما ذلك إلا لأن الأموال أموالهم، ولهم الحق فيها من غير تمييز بينهم في لون أو دين. ولما عوتب الامام علي (علیه السلام) على التسوية بالعطاء، وعدم تفضيل الاشراف من العرب وقريش على الموالي والمعاندين، قال بلهجة الواثق من نفسه و اني نظرت في كتاب الله، فلم أجد فضلاً لولد اسماعيل على ولد اسحق. ثم قال أن آدم لم يلد عبداً ولا أمة - ان الناس كلهم أحرار (2).

المساواة أمام القانون: وهذا حق للجميع إذ ليس هناك ما يدعو الى تعطيل المساواة بينهم لاشتراكهم بصفة الخلق والانسانية دون الأخذ بأي اعتبار آخر كالجاه أو النسب. لذلك فإن الامام (علیه السلام) يؤكد بأن «الناس شرع سواء آدم أبوهم وحواء أمهم (3).

ولقد أدرك الامام علي (علیه السلام) أهمية المساواة أمام القضاء فجعلها قانوناً لا يقبل التأويل أو المناقشة. وبلغت شخصيته من الأصالة والتماسك، حداً جعله يضرب بنفسه أروع الأمثال في المساواة المطلقة بينه وبين الناس (4)، في وقت كان العبد فيه لا يستطيع أن يقاضي الحر ولا الفقير أن يقاضي النبيل، ولا العامة أن تقاضي الخاصة لأن القانون يومذاك، كان خدمة للحكام وقهراً للمحكوم.

ولما كان الناس يختلفون في الحق، تبعاً لأهوائهم، فمنهم المحسن ومنهم المسيء لذلك فلا ينبغي أن يكونوا في العدل سواء، بل يجب أن يكون الحكم بحسب الادانة، فيكافاً المحسن أياً كان بما أحسن، ويعاقب المسيء أياً كان بما أساء. جاء في عهد الأشتر: «ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء ... وألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه (5).

ج - العدالة الاجتماعية:

العدل صفة الله وإرادته، به قامت السموات على الأرض، واليه دعا الأنبياء والحكماء ورجال الاصلاح لما فيه عمارة الأرض، وسلامة النفوس من كل فساد.

وعدالة الامام (علیه السلام) تتلاقى مع عدالة السماء التي لا تبغي ولا تظلم، بل تساوي بين الناس في الحقوق والواجبات وتتعامل مع كل منهم بما أبلى، وترفض أن يكون لأحد أي تمييز على آخر الا بالتقوى والعمل الصالح.

ولما كان العدل أساس الحكم الصالح والمواطنة الصحيحة، فإن و أفضل قرّة عين 4.

ص: 248


1- أنظر (ح)، ج 15، ص 138.
2- الشيخ الكليني، روضة الكافي، المطبعة الاسلامية بطهران 1382 ه، ج 1، ص 124.
3- أنظر (ح)، ج 20، ص 278.
4- أنظر مثلاً على ذلك في شرح النهج، ج 17، ص 65.
5- نفسه ج 17، ص 44.

الولاة استقامة العدل في البلاد وظهور مودة الرعية (1) كما في عهد الأشتر.

3 - مهام السلطة:

السلطة، كما قلنا، وسيلة لا غاية هي وسيلة لتحقيق حكم الله في الأرض ونشر العدالة الاجتماعية. وهي ضرورية لتنفيذ أمر الله في الناس، لأن القوانين والأنظمة بحاجة الى من ينفذها، فكان من الضروري وجود حكومة لها مزايا السلطة المنفذة، حتى لا تتعطل حدود الله، فقد ثبت أن القوانين لا تنفذ إلا خوفاً من العقاب، ولا سبيل الى تنفيذها إلا بقيام سلطة تملك حق الثواب والعقاب.

وحدد الامام (علیه السلام) مهام هذه السلطة بأربعة أمور جباية خراجها، وجهاد عدوها واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها (2) ولا يخفى أثر هذا الترتيب الحاصل في وظائف الدولة. فمتى حصل الوالي على المال اللازم تمكن من جمع الجند وتهيئته لجهاد العدو فإذا أمن البلاد من الأعداء، تطلع الى تهذيب الرعية وتوجيههم لما فيه صلاحهم وبالتالي يتعاون الجميع لعمارة البلاد بثقة متبادلة بين ولاة الأمور وطبقات الشعب لينعم الجميع بتلك السيرة الحسنة والنهج القويم.

أ - جباية الخراج:

كانت الرعية هاجس الامام (علیه السلام) الأول، ورفع الظلم عنها واسعادها من أولى المهمات التي اضطلع بها وأوقف جهده عليها، وخاصة الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين، وأهل البؤس والزمني) (3) لذا فإن حرصه على بيت مال المسلمين، دفعه الى عدم التوسعة على نفسه وعياله وأصحابه وكانت سياسته ما فرضه الله على أئمة الحق ان يقدروا أنفسهم بضعفة الناس (4) فهو يعيش بين الناس كأحدهم، من غير أن يذهب في خلافته مذهب الملوك الذين يصانعون بالأموال ويصرفونها في مصالح ملكهم وملاذ أنفسهم لأنه لم يكن يقيم للسياسة حساباً ولا ينصب لها ميزاناً في حربه وسلمه، وإنما ميزان كل شيء عنده، هو الحق والعدل (5) فليس للوالي أن يتصرف بأكثر من حقه من المال الذي هو للذين جاهدوا في سبيل الله من غير تمييز بين فرد وآخر على أساس الدين أو اللون أو القربي.

هذه الذهنية التي طبقها الامام (علیه السلام) في مال المسلمين كانت تقضي باكتفاء الناس وسد

ص: 249


1- أنظر (ح)، ج 17، ص 51.
2- نفسه، ص 30.
3- انظر (ح)، ص 85.
4- نفسه، ج 11، ص 32.
5- الخطيب عبد الكريم: علي بن أبي طالب، دار الفكر العربي، بيروت، ط 1، 1966، ص 394.

حاجاتهم، ورفع الفاقة عنهم لصون كرامتهم وشحذ هممهم الى ما هو أسمى وأفضل لقد كان دأبه إزاحة كابوس الفقر عن كاهل الرعية وإزالة الفوارق الطبقية بينهم، انطلاقاً من حق الجميع بالثروة القومية، كل حسب جهده وحاجته لأن رضى الشعب عن حالته الاقتصادية هو المقياس الوحيد لصلاح الحكم والحاكم إذ لا قيمة للمال عنده، إلا لتوفير حاجات الرعية لأن الأمة التي يجوع شعبها ويعرى، إنما تحكم على نفسها بفساد سياستها.

إن طريقته في جباية الخراج تقوم على هذا الأساس، إلا أنها كانت تؤلف قضية هامة من قضايا التاريخ التي من أجلها غزت البلاد وارتكبت المظالم وقامت الثورات، لأنها كانت تأخذ شكلاً تعسفياً، وتفرض بالقوة، وتحصل بالقمع والارهاب، دون أي اعتبارات انسانية أو أخلاقية، فشكلت بذلك عبئاً على المواطن ينغص عليه حياته.

أما عند الامام علي (علیه السلام) فقد أخذت بعداً إنسانياً مختلفاً عن ذي قبل. لم تعد غاية في حد ذاتها، بقدر ما هي وسيلة لتوفير حاجات الرعية وعمارة البلاد وليكن نظرك في عمارة الأرض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك الا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد (1) كما في عهد الأشتر.

أما تحصيلها فهو مرهون بيسر الناس لا بتطبيق قانون جامد والناس فيها سواء مما يلزم الحاكم بأن يقيم عماد الحق، ويشرع أمثلة العدل في صغير الأمور وكبيرها ودقيقها وجليلها.

لذلك فهو يحرم أخذ الخراج من الرعية إذا لم تكن ميسورة اقتصادياً، أجل، إن أصول الاجتماع والقواعد الانسانية والمقاييس الخلقية تحتم أن يكون عطاء الشعب للدولة عن يسر وعافية لا عن عسر ومتعبة، حتى تصبح الضرائب فضلاً عن ثروة لا قوتاً ينتزع من أفواه الجياع، لذا فهو يأمر بالتخفيف عنهم إذا شكوا علة من فاقة فيقول: «فإن شكوا ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب، أو بالة أو إحالة أرض اغتمرها غرق، أو أجحف بها عطش خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم (2) وما ذلك إلا لأن ارهاق الناس بالضرائب أمر له خطره في إحداث الثورات واضطراب الأمور كما يقول أرسطو، وإنما يؤتى خراب البلاد من أعواز أهلها، وانما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع (3).

من هذا المنطلق جاء التأكيد على ضرورة أن يتولى جباية الصدقات ممن تتوفر فيه الصفات الحسنة والأخلاق الفاضلة، فلا ينبغي أن يكون على الفروج والدماء والمغانم والاحكام وإمامة المسلمين، البخيل، فتكون في أموالهم نهمته ولا الجاهل، فيضلهم 4.

ص: 250


1- انظر (ح)، ج 17، ص 70.
2- نفسه، ص 71.
3- الأصول اليونانية، ص 74.

يجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع ولا المعطل للسنّة، فيهلك الأمة (1).

ب - جهاد العدو:

الحرب كما يرى ابن خلدون «لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض ويتعصب لكل منها أهل عصبيته، فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطائفتان إحداهما تطلب الانتقام، والأخرى تدافع كانت الحرب، وهو أمر طبيعي في البشر، لا تخلو عنه أمة ولا جيل. وسبب هذا الانتقام في الأكثر إما غيرة ومنافسة وإما عدوان، وإما غضب لله ولدينه وإما غضب للملك وسعي في تمهيده (2).

فهي إذن سنة الكون فرضتها مطامع الشعوب وتنافسها وأهوائها، وهي في الوقت ذاته ضرورة اجتماعية من أجل التفاعل والتوازن بين الشعوب والأمم كما قال تعالى (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة /

251).

ولقد قامت منظمات وهيئات متعددة للحد من الحروب في العالم، ولكنها فشلت إلا في تأخير زمانها والحد من شرورها و وستبقى قواعد الحرب من الأصول الجوهرية في قواعد القانون الدولي، ما دام موجوداً بين الدول من يرى الحرب هي الوسيلة الأخيرة لحل المنازعات (3).

ولم يكن الإمام علي (علیه السلام) من دعاة الحرب، ولم يطلبها لذاتها، أو لأي سبب من الأسباب الداعية اليها سوى الانتقام لدين الله ودفاعاً عن حقوق المسلمين، كما يقول في «النهج»: «اللهم انك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الاصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك (4). وهو لم يدخلها إلا مكرهاً، وبعد أن يستنفذ كافة الحلول السلمية المتوفرة لديه: وسأمسك الأمر ما استمسك، وإذا لم أجد بداً فآخر الدواء الكي (5)، لقد كان يدرأ هذا الشر بكل وسيلة، ويطلب الحق بمنطق العقل حتى إذا أبي أعداؤه إلا قتاله ظلماً، عاد يكرر عليهم نداءه من جديد، فإذا أصروا على

ص: 251


1- انظر (ح)، ج 8، ص 263.
2- المقدمة، ص 270 - 271.
3- الفكيكي، توفيق، الراعي والرعية، مطبعة أسعد، بغداد 1962، ص 119.
4- أنظر (ح)، ج 8، ص 263.
5- نفسه، ج 9، ص 291.

الاثم، وأصبحت الحرب ضرورة اجتماعية وانسانية، ترك لهم أن يبدأوه القتال فإن هم فعلوا حاربهم.

وهو إذ يحاربهم، فإنه يراعي أبسط حقوق الانسان وكل جوانب الحنان من نفسه وقلبه، وروابط الآخاء الانساني في نفوس مقاتليه. ويحذر من سفك الدماء بغير محلها، لأن ذلك من شرائع الجاهلية «إياك والدماء وسفكها في غير محلها (1) وينهى عن التمثيل حتى بالحيوان، إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور (2) ويكره ان تكون الحرب بالدهاء والغدر والسب والشتم لانها تنم عن سوء الخلق، كما يكره أن تكون للتشفي والانتقام وامتهان كرامة الانسان. وفي حال الهزيمة فإنه يأمر بالكف عن كل عمل ينم عن الظلم والهمجية فيقول: فإذا كانت الهزيمة باذن الله فلا تقتلوا مدبراً ولا تصيبوا معوراً، ولا تجهزوا على جريح ولا تهيجوا النساء بأذى وان شتمن اعراضكم وسبين أمراءكم (3).

لقد خاض الامام علي (علیه السلام) نوعين من الحروب: حروب التنزيل وحروب التأويل وبرز في كليهما وكان لا يخشى في الله لومة لائم ولا ينأى به عن دين الله كلل أو ملل أو رهبة ويؤثر الموت قتلاً في ساحات الوغى دفاعاً عن دين الله، من أن يعيش في أرض يعمرها الكفر والفسق والضلال. لذا كان بطل الاسلام دون منازع ولا يعرف المسلمون سيفاً كسيف علي في إطاحته لرؤوس أئمة الكفر وطواغيت الضلال من سادة قريش وقادتها (4).

ويشتمل نهج البلاغة، على تعاليم كثيرة في بناء الجند وقيادتها وتسليحها وأماكن تواجدها وقت الحروب وفنون قتالها، وما يجب أن تتمتع به من مزايا خلقية وانسانية وقتالية، وفي قبول الصلح وشروطه وفائدته، يظهر ذلك في العهد المكتوب الى مالك الاشتر خاصة.

1 - قيادة الجند:

لقد تولى (علیه السلام) زمام الخلافة والقيادة العامة للجند، وهو أمر تأخذ به مختلف الأمم في العصر الحديث. وهو لم يفعل ذلك تدعيماً لسلطانه وخوفاً من انقلاب الجند عليه، ولا تفردا برأيه واعجاباً بقدرته على صنع القرار السليم، ولكن ليكون أكثر التصاقاً بجنده، لتدبر أحوالهم وتفقد أمورهم. لذلك كان لا يتوانى عن طلب المشورة استناداً إلى قوله تعالى (وَشَاوِرَهُمْ فِي الأمْرِ) (آل عمران / 159) فمع عظمته وقدرته على صنع القرار، كان يتواضع لشعبه، ويجعل نفسه وإياهم في مستوى واحد من ضعف الرأي والخطأ في التقدير، تشجيعا لهم على البذل والعطاء.

ومع قيادته للجند، كان لا يحبذ أن يتولى الخليفة قيادة الحروب والنزول الى ساحات 7.

ص: 252


1- أنظر (ح)، ج 17، ص 110.
2- نفسه، ج 17، ص 6.
3- نفسه، ج 15، ص 104.
4- علي بن أبي طالب، ص 87.

الوغى، بل يتولاها الفرسان من ذوي البأس والشجاعة، بينما تنحصر مهمته في التدبير والتوجيه الى الطريق القويم لتحقيق الهدف المنشود، ويبقى هو في مكانه أو قاعدته يشرف على سير المعارك وتدبير الأمور الداخلية حتى لا ينفرط العقد وتعم الفوضى إذا ما غيّب المنون الخليفة في ساحات القتال، لذا قال في جمع من الناس تثاقلوا عن نصرته» (فقال قوم منهم يا أمير المؤمنين ان سرت سرنا معك، فقال عليه السلام ما بالكم ألا سددتم لرشد، ولا هديتم لعقد، أفي مثل هذا ينبغي أن أخرج؟ وإنما يخرج في مثل هذا رجل ممن أرضاه من شجعانكم وذوي بأسكم، ولا ينبغي لي أن أدع الجند والمصر وبيت المال وجباية الأرض والقضاء بين المسلمين والنظر في حقوق المطالبين، ثم أخرج في كتيبة أتبع أخرى، وأتقلقل تقلقل القدح في الجفير الفارغ، وإنما أنا قطب الرحى تدور علي وأنا بمكاني، فإذا فارقته استحار مدارها واضطرب ثفالها (1)

2 - ترتيب العسكر:

يقسم عسكر الامام الى خيالة ورجالة، يتوزع على النواحي التالية: الميمنة والميسرة والقلب وميمنة القلب وميسرته، ولكل منها قائدها وجنودها. أما الوية القبائل، فقد كان يعقدها لرؤسائهم وأمرائهم. أما معسكرات الجيش، فيجب أن تكون في مكان يمكن الدفاع عنه والاحتماء به لصد هجمات الأعداء، وهذا ما يسمى بالمواقع الاستراتيجية في الحرب المحديثة، كسفوح الجبال وأعاليها ومنعطفات الانهار وغير ذلك من المواقع الحصينة. كما أن رصد العدو وتحركاته من الأمور الهامة في الحرب والسلم، وهي ما يعرف بعمليات الاستطلاع في الحرب الحديثة. ولا ينبغي توزيع الجند في أماكن متباعدة لأن توزيع القوة يعرضها للخطر، وتوحيدها أدعى للنصر، على أن يكون الجيش كرجل واحد متماسك الأعضاء، فإن ذلك يبعث الهيبة والرهبة في العدو، فإذا حلّ الليل فلا بد من الحراسة وتهيئة السلاح واعداده لكل مفاجأة أو بغتة من العدو (2).

وإذا وقعت الحرب وجب على كل قائد أن يلتزم بما وكل اليه، لأن من العجز أن يهمل الوالي ما وليه ويتكلف ما ليس من تكليفه، ففي كتاب الى كميل بن زياد عامل الامام علي (علیه السلام) على هيت قال (علیه السلام): (أما بعد فإن تضييع المرء ما ولّي، وتكلّفه ما كفى لعجز حاضر ورأي متبرّ (3)، ومن وصية له وصّى بها معقل بن قيس الرياحي، وكان من شيعة علي (علیه السلام)، حين أنفذه الى الشام في ثلاثة آلاف مقاتل، قال (علیه السلام) مبدياً بعض الخطط والأقوال الحكيمة في الحروب: «اتق الله الذي لا بدّ لك من لقائه ولا منتهى لك دونه ولا تقاتلن الا من قاتلك، وسر البردين، وغوّر بالناس، ورقه في السير، ولا تسر أول الليل فإن الله 9.

ص: 253


1- أنظر (ح)، ج 7، ص 285.
2- نفسه، ج 15، ص 89.
3- نفسه، ج 17، ص 149.

جعله سكنا، وقدّره مقاماً لا ظعنا، فارح فيه بدنك، وروّح ظهرك، فإذا وقفت حين ينبطح، السحر أو حين ينفجر الفجر، فسر على بركة الله، فإذا لقيت العدو، فقف من أصحابك وسطاً، ولا تدن من القوم دنو من يريد أن ينشب الحرب، ولا تباعد عنهم تباعد من يهاب الباس، حتى يأتيك أمري. ولا يحملنكم شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم والأعذار اليهم (1).

إن أوامر الامام بضرورة أن يقف القائد بين أصحابه وسطاً، فيها من الحكمة وحسن التدبير، لأن القائد هو الرئيس، والواجب أن يكون الرئيس في قلب الجيش، لأنه إذا كان وسطاً كانت نسبته الى كل الجوانب واحدة. وإذا كان في أحد الطرفين، بعد من الطرف الآخر، فربما يختل نظام الجيش ويضطرب.

وقبل الدخول في الحرب، لا بدّ من الاستعداد لها بتأمين وسائل النصر فيها، من جند وسلاح فخذوا للحرب أهبتها، واعدّوا لها عدتها (2)، إلا أن كثرة الجند وتوفر السلاح لا تغني عن إرادة القتال وإئتلاف القلوب، إذ «لا غناء في كثرة عددكم مع قلّة اجتماع قلوبکم (3)، فالعبرة ليست في العدد والكمية، ولكن في الفعالية والنوعية وقوّة الارادة والاجماع على ذلك.

والحرب تتطلّب الحذر واليقظة حتى لا يستغلّ العدو الغفلة ويضرب ضربته، لأن من انام لم ينم عنه. ومن مستلزمات اليقظة، عدم ذكر النساء والامتناع عن المقاربة، حتى لا يفت في عضد الحمية ويقدح في معاقد العزيمة. كما لا ينبغي استصغار العدو والتقليل من أهميته اعتماداً على غرور القوة وجبروتها، لأن الضعيف المتيقّظ قد ينتصر على القوي الساهي، والحرب هي لمن سبق، لأن البادىء أظلم وأقرب الى الانتصار. فإذا كان العدو يعتمد على الغدر والمكيدة، ولا سبيل الى الاقلاع عن سياسته العدوانية فإن مباشرته بالحرب والانقضاض عليه أفضل من انتظاره وتلقّي الضربة منه. يقول (علیه السلام) معنّفاً الانبار لتثاقلهم عن النهوض الى مقاومة جيش معاوية: إلا واني قد دعوتكم الى قتال هؤلاء القوم ليلا نهاراً وسراً وإعلاناً، وقلت لكم: إغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم، إلا ذلّوا، فتواكلتم وتخاذلتم حتى شنت عليكم الغارات وامتلك عليكم الأوطان (4).

وخسارة جولة في الحرب لا تعني خسارة الحرب كلها، بل ان المؤمن بقضيته، والصامد في موقعه، قد يتخذ من الهزيمة سبيلا إلى الانتصار، إذا أعاد الكرّة وأحكم العزيمة. وهذا تنبيه على عدم استصعاب الهزيمة واليأس من النصر لأن الحرب كر وفر، يقول 7.

ص: 254


1- أنظر (ح)، ج 15، ص 92.
2- أنظر (ح)، ج 2، ص 60.
3- نفسه، ج 7، ص 285.
4- نفسه، ج 2، ص 7.

(علیه السلام) لأصحابه عند الحرب «لا تشتدّن عليكم فرّة بعدها كرّة، ولا جولة بعدها حملة، واعطوا السيوف حقوقها، ووطّنوا للجنوب مصارعها، واذمروا أنفسكم على الطعن الدعيّ، والضرب الطلحفيّ، واميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل (1).

ولما كانت الحرب تتناول الأول فالأول، فقد أوصى (علیه السلام) بما يشبه خطوط الدفاع اليوم، وذلك بتقديم القوى المحصّنة بالدروع، لأنها أقدر على المقاومة والصمود، وتأخير القوى الحاسرة، فيقول في حثّ أصحابه على القتال: «فقدّموا الدارع، وأخّروا الحاسر، وعضّوا على الأضراس فإنه أنبى للسيوف عن الهام والتووا في أطراف الرماح، فإنه أمور للاسنّة، وغضّوا الأبصار، فإنه أربط للجاش وأسكن للقلوب، واميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل، ورايتكم فلا تميلوها ولا تخلوها ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم والمانعين الذمار عنكم، فإن الصابرين على نزول الحقائق، هم الذين يحفّون براياتهم ويكتنفونها: حفافيها ووراءها وأمامها لا يتأخرون عنها فيسلموها، ولا يتقدمون عليها فينفردوها (2).

تلك هي الحرب كما فهمها الامام علي (علیه السلام)، فهي ليست مجرد سلاح ورجال، ولكنها استعداد وكر وفر، وتحصين وتمويه ومناورات واستنزاف طاقات، وغايات شريفة تهدف الى الهداية والاصلاح واستئصال بؤرة الشر والفساد، وفوق ذلك فهي إنسانية بكل ما في هذه الكلمة من معنى في بعدها عن الظلم والجور0

3 - الاهتمام بالجند:

إن هذه التبعة الشاقة الملقاة على عاتق الجند، تؤهلهم لنيل الاهتمام الزائد من قبل القيادة العلوية. فهم جند الله لأنهم يقاتلون في سبيله ذوداً عن الاسلام والمسلمين، وهم حماة العدالة إذ لا عدالة بلا قوة، والقوة بلا عدالة استبداد، بهم يصان الدين والوطن من الأعداء، وبهم يستتب الأمن والنظام في البلاد، شرط أن يتوفر لديهم الاخلاص والنزاهة والصدق في المعاملة. لذلك فإن الامام (علیه السلام) يحذّر ولاة أموره من استعمال الظلمة في شؤون العباد، يستوي في ذلك الرؤساء والجند، فيقول للأشتر: «فولّ جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولامامك، وأطهرهم جيباً، وأفضلهم حلماً، ممن يبطىء عن الغضب ويستريح الى العذر، ويرأف بالضعفاء وينبو على الأقوياء، وممن لا يثيره العنف، ولا يقعد به الضعف، ثم ألصق بذوي المروءات والاحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة، ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة، فإنهم جماع من الكرم وشعب من العرف»

ويتابع (علیه السلام) أوامره بتفقد أمور الجند والسهر على مصلحتهم والوقوف على ما يعانون من.

ص: 255


1- نفسه، ج 15، ص 114.
2- نفسه، ج 8، ص 3.

الهموم والمشاكل، وتأمين العيش الكريم لهم كفرض واجب على الوالي لما ينتج عن عدم الاهتمام بهم من خطورة تدفعهم الى التمرد والعصيان، والاستهانة بكرامة الناس وممتلكاتهم فيقول: ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما، ولا يتفاقمنّ في نفسك شيء قوّيتهم: به، ولا تحقرنّ لطفاً تعاهدتهم به وإن قلّ، فإنه داعية لهم الى بذل النصيحة لك وحسن الظن بك ... (1).

أما أفضل رؤساء الجند عند الامام (علیه السلام)، فهم الذين يعيشون بين جنودهم ويعاملونهم بالعطف والرأفة، ولا ينشغلون عنهم أو يتجاهلون مشاكلهم واهتماماتهم. ولا بد من معاملة الجند والرؤساء بحسب خدماتهم للبلاد والعباد، وتكريمهم بمقياس العمل الصالح، لا بالاحساب والأنساب، وذكر محاسن أفعالهم وجميل بلائهم وحميد مآثرهم لما في ذلك من تشجيع لهم على مواصلة البذل والعطاء، والاستمرار في طريق الخير والصلاح، دون تفرقة بين شريف أو وضيع، قريب أو بعيد.

وإذا كان الجند سياج الأمة ودرعها الحصين، وبناة مجدها وكيانها، كان على الأمة أن لا تهمل شأن جنودها، وتجحف بحقهم من الخراج الذي به قوامها، إذ «لا قوام للجنود الا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوهم ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكمن من وراء حاجتهم (2). هذا التفاعل بين الجند والشعب يكفل مصلحة كل منهما دون أن يضر أحدهما بالآخر. وإذا حدث ذلك، فإن الامام (علیه السلام) يعمل لاعادة الحق الى نصابه؛ إذ ليس للجنود مضارة الشعب كما ليس للشعب مضارة الجنود، فكلاهما جسم واحد متفقان في الأهداف والغايات. لذلك فإن الامام (علیه السلام) لا يتأخر عن معاقبة أي فريق يضر في مصلحة الفريق الآخر. ففي كتاب له الى العمال الذين يطأ عملهم الجيوش قال: أما بعد، فإني سيّرت جنوداً هي مارّة بكم ان شاء الله، وقد أوصيتهم بما يجب لله عليهم من كفّ الأذى وصرف الشذى، وأنا أبرأ اليكم والى ذمّتكم من معرّة الجيش إلا من جوعة المضطر لا يجد عنها مذهباً الى شبعه، فنكّلوا من تناول منهم ظلماً عن ظلمهم، وكفّوا أيدي سفهائكم عن مضادّتهم، والتعرض لهم فيما استثنيناه منهم، وأنا بين أظهر الجيش، فارفعوا إلىّ مظالمكم وما عراكم مما يغلبكم من أمرهم ولا تطيقون دفعه الا بالله وبي، أغيّره بمعونة الله، إن شاء الله (3).

وهكذا فليس للجيش في الحكومة العلوية شأن إلا خدمة الشعب وعدم الاعتداء عليه، كما وليس على الشعب مقاومة الجند والتعرّض لهم إلا عند تجاوزهم على حقوقه، فله 7.

ص: 256


1- أنظر (ح)، ج 1، ص 51 - 52.
2- نفسه، ج 17، ص 48.
3- نفسه، ج 17، ص 147.

عند ذلك حق التنكيل بهم ورفع مظالمهم الى القائد، أما إذا كان ذلك بسبب جوع أو ما يضطرون اليه، فلا سبيل للشعب عليهم.

4 - الصلح:

قلنا أن الامام علي (علیه السلام) لا يدخل الحرب الا مكرهاً، ولا يخوض غمارها إلا في سبيل الله دفاعاً عن النفس وذودا عن الاسلام والمسلمين. لذلك فهو سرعان ما يميل الى الصلح إذا ما دعي اليه، حقناً للدماء، وصوناً للنفوس من أن تشحن بالضغائن والأحقاد. وهذا هو مبدأ الاسلام الداعي لإشاعة الأمن والسلام على الأرض لقوله تعالى (ييَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة / 208)، وقوله تعالى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (الأنفال / 61)، وهذه هي نفس السياسة التي اتبعها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مع أعدائه، وما صلح الحديبة إلا مثلاً على ذلك. وإذا عقد الصلح، فلا بد من الوفاء بالعهد، فهذا أمر أجمعت عليه كافة الأديان والقوانين، لأن النكث به ذميمة، أمناً للعباد ورحمة بهم وصوناً لعزّهم وكرامتهم. فالصلح كما يفهمه الامام (علیه السلام)، ليس صلح القوي للضعيف، ولا الغالب للمغلوب، بما يمليه من شروط الذل والقهر والسيطرة، كما هو الحال في أيامنا هذه، ولكنه مقيّداً برضا الله الذي هو الشرط الأساسي فيه. ومن البداهة أن الصلح المكفول برضا الله، هو ما يضمن للناس خيرهم وحريتهم وإرادتهم وصيانة حقوقهم، مما يكون له أثره في القضاء على مادة النزاع وبؤرته. وهذا ما عبّر عنه الجاحظ بقوله: ( ... فعلي (علیه السلام) كان ملجماً بالورع عن جميع القول الا ما هو لله عز وجل، وممنوع اليدين من كل بطش الا ما هو رضا، ولا يرى الرضا، إلا فيما يرضاه الله ويحبه ولا يرى الرضا إلا فيما دلّ عليه الكتاب والسنة ... (1).

على أن عقد الصلح وجب أن يكون محكماً بالفاظه، صريحاً في دلالاته، فلا يتحمّل أكثر من معنى واحد، حتى لا تتطرق اليه التأويلات والعلل وطلب المخارج، فإذا وقع العقد، فلا بد من الالتزام به وعدم نقضه، اعتماداً على تأويل خفي، لأن هذا من باب النفاق والرياء، ولأن الصبر على ما فيه من ضيق خير من التبعات الناجمة عن الغدر به، وجاء في كلام الامام (علیه السلام) الى مالك الأشتر: «ولا تعقد عقداً تجوز فيه العلل، ولا تعولن على لحن القول بعد التأكيد والتوثقة، ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله الى طلب انفساخه بغير الحق، فإن صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه، خير من غدر تخاف تبعته (2).

ج - صلاح حال الرعية:

ويكون ذلك من خلال الاهتمام بشؤون الأمن والثقافة والصحة ووظائف الدولة والخدمات وما الى ذلك من الشؤون الاجتماعية. ولا يمكن لهذه الخدمات أن تتم ما لم تقم

ص: 257


1- انظر (ح)، ج 10، ص 229.
2- نفسه، ج 17، ص 107.

العلاقة بين الراعي والرعية على الصدق والاخلاص والتعاون المتبادل، ضمن اطار مصلحة الوطن والمواطن. لذلك فإن الامام علي (علیه السلام) يحدد جملة من الحقوق المتبادلة بين الراعي والرعية تكفل هذا الأمر فيقول: «أيها الناس، إن لي عليكم حقاً ولكم علىّ حق. فاما حقّكم عليّ، فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا. وأما حقّي عليكم، فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب والاجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم (1). أما إذا تجاوز كل منهما ما يتوجب عليه من الحقوق تجاه الآخر ... اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الادغال في الدين، وتركت محاج السنن، فعمل بالهوى، وعطلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حق عطّل، ولا لعظيم باطل فعل، فهنالك تذل الابرار، وتعز الاشرار، وتعظم تبعات الله عند العباد (2). فإذا وصلت الأمور الى هذا المستوى من الجور والضلال، فإن الامام (علیه السلام) يشير الى الطريق السليم لعلاج هذه الأوضاع الفاسدة، وذلك بالتناصح والتعاون بين العقلاء وأولي الشأن، لتحديد الداء والدواء، فإن كان التقصير من الحاكم نصحوه وقوموه، فإن استقام والا عزلوه. وان كان من بعض الرعية، تعاونوا مع الحاكم على إصلاحها، فإن فاءت والا قاتلوها حتى تفيء الى أمر الله. لهذا جاء التأكيد على ضرورة: وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، على أن تكون الكفاءة شرطاً للاختيار والتوظيف لا القرابة أو الصداقة.

ولقطع دابر الفساد من أنفسهم، فإن الامام علي (علیه السلام) يوصي بالتوسعة عليهم، حتى لا يستغلوا وظائفهم لمصالحهم الشخصية، ومراقبتهم بدقة ومجازاتهم بما فعلوا، وما جزاء الاحسان الا الاحسان وما جزاء السيئة الا بمثلها.

بذلك يكون الامام علي (علیه السلام) قد تنبه الى قضايا العمال في وقت كان ينظر فيه اليهم کمخلوقات وجدت للفقر والشقاء من القدر والسماء لا من الأرض، وما زال كفاحهم ضد الظلم والاجحاف مستمرا حتى يومنا هذا.

وللإمام علي (علیه السلام) آراء صائبة في اختيار الموظف واعداده لممارسة المسؤولية المناطة به. وهذه التربية لا تطال فئة معينة بل هي تنسحب على الجميع ابتداء من القمة نزولاً حتى القاعدة.

- شخصية الحاكم: فلا بد والحالة كذلك من أن يختار لادارة شؤون الحكم والرعية ممن هم أكثر كفاءة واستقامة، من أهل الورع والصدق الذين لا تستميلهم الأهواء ولا تأسرهم المطامع والشهوات أو تطربهم المدائح لأنها من الأمور التي تصرفهم عن جادة الحق.

ص: 258


1- نفسه ج 2، ص 189 - 190.
2- نفسه ج 11، ص 92.

وسواء السبيل. لذلك فإن الامام علي (علیه السلام) يؤكد على النوعية الجيدة في كبير الموظفين وصغيرهم حتى يرتفع كلا منهم عن الصغائر ويصبح فاضلاً. إذ يستحيل على من استعبدته الشهوات أن يكون فاضلاً.

والامام (علیه السلام) يقدس الفضيلة ويجعلها شرطاً ضرورياً في تربية الحكام وتهذيبهم لأن الناس على دين ملوكهم كما قيل. فالسلطان الفاضل قدوة على نشر الفضيلة ورعايتها في الخاصة والعامة. لذلك فإنه يحذر من قبول الرياسة على الرعية إذا لم تتوفر شروط الفضيلة لأن عدم وجودها يكون سبباً في نشر الرذيلة وعدم القدرة على ضبط الناس الذين يتابعون سيرة حاكمهم في ممارسة اللهو والعبث والطيش مما يؤثر سلباً على كيان المجتمع ككل.

وهكذا فإن صلاح الرعية من صلاح الحاكم وفسادها من فساده. ومن رام استقامة رعيته كان الأجدر به أن يبدأ بنفسه أولاً فينهما عن غيّها فإذا استقامت كان السيد المطاع والحاكم المبجل، وإلا ذهبت أعماله أدراج الرياح، فكان بناءه هشّاً تذريه الرياح. يقول الامام علي (ينبغي لمن ولي أمر قوم أن يبدأ بنفسه قبل أن يشرع في تقويم رعيته وإلا كان بمنزلة من رام استقامة ظل العود قبل أن يستقيم ذلك العود (1).

من هذا المنطلق فإن كف النفس عن شهواتها وإدراجها على ممارسة الفضائل والأعمال الصالحة هي أمور ينبغي على الحاكم أن يتحلى بها ويسير بهديها ويلزم بها ممن هم دونه حتى يستقيم حال الرعية لأن الناس لا تؤخذ إلا بالعدل لمحبتها له، ولا تنفر إلا من الظلم لكراهيتها له. يقول الامام علي (علیه السلام) في كتابه الى الأشتر (فليكن أحب الذخائر اليك ذخيرة العمل الصالح. فاملك هواك، وشح بنفسك عمّا لا يحلّ لك فإن الشح بالنفس الانصاف منها فيها أحبت أو كرهت (2).

- شخصية الوالي: وباعتبار أن الولاة خزان الرعية ووكلاء الأمة وسفراء الأئمة، فإن عملهم ينعكس سلباً أو إيجاباً على الامام والرعية على حد سواء. فهم شركاء الإمام في الأمانة، فإن خانوا لا بد من أن يتأثر بخيانتهم، وإن حفظوا الأمانة كانوا مدّعاة فخر واعتزاز له. ثم ان أثرهم على الرعيّة هو من الخطورة بمكان. ذلك أنهم يساهمون إما في إذلالهم وافتقارهم أو في اعزازهم وتوسعة الحال عليهم. لهذا أوجب الامام علي (علیه السلام) ضرورة حسن اختيار ومراقبة من يختاره لممارسة الحكم بالنيابة عنه وباستمرار حتى لا تدفعه غفلة الحاكم الى استغلال منصبه لمصالحه الشخصية فيستأثر بأموال الناس وممتلكاتهم ويمنعهم حقوقهم ويقابلهم بالنفور.

- شخصية الوزير: إن الوظيفة في شرع الامام علي أمانة، لا طعمة، وخدمة للناس.

ص: 259


1- انظر (ح) ج 20، ص 269.
2- نفسه، ج 17، ص 31.

لا وسيلة لقهرهم واستعبادهم وسرقة أموالهم وممتلكاتهم كما يقول الى الأشعث عامله على أذربيجان وأن عملك ليس لك بطعمة ولكنه في عنقك أمانة وأنت مسترعى لمن فوقك (1).

فالموظف مسؤول أمام الله وأمام نفسه ومن هم على رأسه. هذا القدر من المسؤولية لا يتوفر كما يرى الامام (علیه السلام) إلا عند من يتوفر فيه الصدق في الأقوال والأفعال والورع في جميع التصرفات وألصق بأهل الورع والصدق (2) كما يقول (علیه السلام)، ومن كان من أهل الكرم والمجد ومكارم الأخلاق وذوي السوابق الحسنة والماضي التليد، ممن نشأوا في بيوت العز ومجالس الفضل والاستفادة من خبراتهم وفضائلهم لأنهم أقدر على بثّ الفضيلة ونشر القيم كما يقول: «ثم ألصق بذوي المروءات والأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ثم أهل النجدة والشجاعة والسخا والسماحة فإنهم جماع من الكرم وشعب من العرف (3). ولا سبيل الى التفرد بالرأي في الحكومة العلوية بل لا بد من التشاور في صغير الأمور وكبيرها حتى يكون القرار صادراً عن الأغلبية. فالامام ينصح الولاة بضرورة التشاور مع وزرائهم على أن لا يستعينوا بأراذل الرجال من ذوي الصفات المذمومة كالبخيل الذي يحبب البخل ويخوف من عاقبة الكرم والاحسان، والجبان الذي يعقد الأمور ويثبط الهمم والعزائم، والحريص على حطام الدنيا الذي يزيّن نهب أموال الناس بالجور عليهم لأن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله. لذلك ينهي الامام (علیه السلام) عن استيزار من شارك في اثم أو عان على ظلم وينصح بعدم اتخاذهم بطانة يعتمد عليها لأنهم أعوان على الظلم والعدوان والتخلي عنهم حتى ولو بلغوا الغاية من الوعي والذكاء.

وتجدر الاشارة الى أن الإمام علي (علیه السلام) لا ينهي عن الاستعانة بالمجرم إذا كان لديه شيء من الخير والاحسان. إنما ينهي عن الوثوق به والاطمئنان اليه لأن الخير والشر من طبعه فلا ينبغي أن يصرفنا شرّه عن الانتفاع بخيره. كما أنه يوصي الوالي بتقريب الوزير اليه حتى يأنس به ويغدق عليه بالمال حتى لا يطمع بأموال الناس ويعاقبه إذا ساء على أن لا يكون المذنب والمسيء عنده بمنزلة سواء وليكن أفضلهم عنده أقولهم بمر الحق وأعونهم على الخير وأصلبهم في المواقف. فالوزير في الدولة العلوية عون للقائد على ترسيخ دعائم الحق ودفع الباطل وإماتته لا على تركيز حكمه وتثبيته مهما بلغت به الأهواء والرذائل.

- شخصية كتاب الولاة: كان لكتاب الولاة أهمية كبرى في الزمان الغابر، إذ لعبوا دوراً هاماً في توجيه سياسة الحكام وما ينتج عن ذلك من أحداث..

ص: 260


1- أنظر (ح)، ج 5، ص 33.
2- نفسه، ج 17، ص 44.
3- نفسه، ج 17، ص 51.

أما مهامهم فكانت متعددة بحيث لا يستطيع القيام بها إلا من تميز بالبراعة والمعرفة والخبرة بأحوال الرجال والإحاطة بكل ما يجري في البلاد. ولقد حدد ابن أبي الحديد شخصية الكاتب ووظيفته من خلال شرحه لحديث الامام علي (علیه السلام) بقوله: واعلم أن الكاتب الذي يشير أمير المؤمنين اليه هو الذي يسمى الآن في الاصطلاح العرفي وزيراً لأنه صاحب تدبير حضرة الأمير والنائب عنه في أموره واليه تصل مكتوبات العمال وعنه تصدر الأجوبة واليه العرض على الأمير. وهو المستدرك على العمال والمهيمن عليهم وهو بالحقيقة كاتب الكتّاب ولهذا يسمّونه الكاتب المطلق (1).

وهذه الوظيفة لضخامتها موزّعة اليوم على عدة اختصاصات منها مكتب رئاسة الوزراء ووزير الدولة وكاتم السر ومدير التحريرات والمستشار الشخصي. لهذا نجد الامام علي (علیه السلام) يؤكد على ضرورة التأنّي باختيار الكتّاب ممن يتحلّون بمكارم الأخلاق ومحامدها لأنهم واجهة الحكم والحاكمين فيذكر لهم صفات ونعوتاً يوجب توفرها فيهم فيقول بعد وصيته بضرورة الاهتمام بهم والنظر في أحوالهم ... ثم لا يكن اختيارك إيّاهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك ... ولكن اختبرهم بما ولّوا للصالحين قبلك فأعمد لأحسنهم كان في العامة أثراً وأعرفهم بالأمانة وجهاً، فإن ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن ولّيت أمره ... (2). فالفراسة ليست طريقاً علمياً لاختيار الكتّاب لأن الأشرار يلقون الحكام بالرياء والنفاق والمصانعة والتدليس فينزلونهم منزلة الأخيار. إلا أن الحاكم الذي هو على قدر من الوعي والدراية يعرف كيف يختارهم بالتجربة لهم وتقدير أعمالهم وما ولّوه من قبل. فإن كانت بما يرضي الناس فإن رضاءهم شهادة صلاحه وإخلاصه لأن من أصلح سريرته أصلح الله علانيته ومن أحسن ما بينه وبين الله أحسن الله ما بينه وبين الناس ومن كان كذلك وجب على الحاكم تقريبه اليه وإيثاره على غيره فيكون بذلك قد ضمن رضى الله والرسول والناس أجمعين.

وحتى تؤتي هذه الوظيفة الغاية المتوخاة منها بصدق وأمانة وإحكام، فإن الامام (علیه السلام) يوصي بتقسيم فنون الكتابة وضروبها بين الكتّاب كأن يكون أحدهم لمراسلة الأطراف والأعداء والآخر لأجوبة العمّال والآخر بحضرة الوالي على أن لا يتغافل الحاكم عنهم أو يتوارى عن عيونهم بل عليه مراقبتهم باستمرار لأنه المسؤول عنهم ومشارك لهم في كل عمل يقومون به. بهذا التوزيع للمهام يمكن ضبط الأعمال واتقانها على الوجه المطلوب.

- شخصية العامل: إن كل مؤسسة بحاجة الى عمال يتولون مهامها تسهيلا للصالح العام. والدولة مؤسسة اجتماعية تمارس سلطتها باسم الشعب ولحسابه ومصلحته وبواسطة.

ص: 261


1- انظر (ح)، ج 17، ص 79.
2- نفسه، ج 17، ص 76.

نفر من أبنائه كما حددهم ابن أبي الحديد: عمال السواد والصدقات والوقوف والمصالح وغيرها (1).

وأكد الامام علي (علیه السلام)، كما هو الحال في شأن جميع موظفي الدولة من الولاة الى الوزراء الى الكتاب الى القضاة، على التحرّي في اختيار العمال فلا يكون استعمالهم على أساس الصداقة والقرابة بل أن مقياس صلاحهم هو الاختبار والكفاءة لا الشفاعة والتزكية، تلك التي تؤدي الى فساد البلاد وهلاك العباد كونها تأخذ المناصب من أهلها وتسندها الى الأذناب والمحاسيب. ويفضّل الامام (علیه السلام) اختيارهم من أهل التجارب والحياء والأمانة ومن انحدر منهم من البيوتات الكريمة الصالحة ومن كان له قدماً راسخة في الاسلام لأن صلاح المجتمعات يكمن في صلاح أسرها، إذ أن للتربية الأسرية أثرها الفعال في أخلاق الرجال وسلوكهم. فهم بحكم تربيتهم ووعيهم وتاريخهم المشرق أكثر حرصاً على مكارم الأخلاق ومحاسن الأمور وأقل طمعاً بأشياء الناس وممتلكاتهم.

مقابل ذلك لا بد من الاهتمام بمطالب العمّال وعدم الاجحاف بحقوقهم وتحسين أوضاعهم والسهر على مصالحهم وتوفير أرزاقهم لأن الجائع لا أمانة له والمظلوم لا حجة عليه. لذلك فإن كفاية الوالي مؤونتهم سبباً لاستصلاحهم وحجة عليهم إذا خانوا الأمانة يقول الامام (علیه السلام) ... ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختياراً ولا تولّهم محاباة واثرة فإنهم جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخّ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الاسلام المتقدمة فإنهم أكرم أخلاقاً وأصبح أعراضاً وأقل في المطامع إشرافاً، وأبلغ في عواقب الأمور نظراً، ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم وغني لهم عن تناول ما تحت أيديهم وحجة عليهم ان خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك ثم تفقد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم فإن تعاهدك بالسر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعيّة (2).

وإذا كان للعمال الحق في تحسين ظروف حياتهم، فإن للحاكم الحق في مراقبتهم باستمرار ورصد تحركاتهم وإذكاء العيون عليهم مشيراً الى مبدأ التفتيش على الموظفين الذي تقرّه الدساتير الحديثة لكونه يضمن الحرص على التزام الحق والعدل والأمانة والرفق بالرعية فإذا ثبت على أحد إساءة بإجماع المراقبين والمفتشين فيها فلا بد من محاسبته والاقتصاص منه بحسب إساءته والتشهير به وبجريمته أمام الناس وعلى الملأ ليكون عبرة لغيره.

وقبل أن نترك هذا الموضوع نشير الى مناقب الامام علي (علیه السلام) وسياسته الحكيمة في تحسين حال الرعية. لم يكن (علیه السلام) من الذين يعبدون المال ويكتنزونه أو يستعملونه في مصالحهم 9.

ص: 262


1- أنظر (ح)، ج 17، ص 69.
2- نفسه ج 17 ص 68 - 69.

وشهواتهم الذاتية، ولا من الذين يستهويهم الجشع والطمع لتخيّر الأطعمة والألبسة على انواعها. فهو الفقير الذي عاش بين الفقراء وقام من أجلهم وهو القائد الذي قاد أمته في طريق الخير والصلاح وانتشلها من مهاوي الفسق والرذيلة وأقام سنتها على العدل والمساواة، لا يثنيه عن ذلك لومة لائم. وكان بإمكانه أن يماشي معاوية في سياسته، فيجمع ما شاء من الأموال، ويستعملها في اجتذاب الأنصار والأعوان، ويبني ما يشاء من الدور والقصور، لتكون مرتعاً ووكراً للرذيلة والفساد، ويجمع حوله من البطانة ما يكفيه مؤونة الالتفات الى الجماهير الشعبية الفقيرة، ولكن أنّى له أن يفعل ذلك، وفي داخله ثورة اسلامية عارمة تدعوه لاقتلاع الشر وإحقاق الحق ... وكيف يستعين على ذلك بالباطل؟ ... لقد آمن بأن الناس إنما خلقوا للآخرة لا للدنيا، لذلك فقد أمرهم بالتخفف من الدنيا والاقتناع بالقليل منها، فأخذ نفسه وولاته بما يخفف عنهم وعنه عباها وشرورها، ولكن ليس بدرجة تدعوه الى لبس العباءة والتخلي عنها كما فعل عاصم بن زياد الذي اشتكاه أخوه الى الامام فكان ردّه (علیه السلام):

يا عدى الله، لقد استهام بك الخبيث. أما رحمت أهلك وولدك؟ أترى الله أحلّ لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها، أنت أهون على الله من ذلك. وعندما حاول عاصم التشبه به قائلاً: «يا أمير المؤمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك.. قال الامام (علیه السلام): ويحك اني لست كانت إن الله تعالى فرض على أئمة الحق أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس، كيلا يتبيّغ بالفقير فقرة (1).

وها هو يحاكم عامله على البصرة عثمان بن حنيف لوليمة دعي اليها ويذكره بأن الولاية ليست في اقتناص اللذائذ وأكل الطيبات ولكنها مشاركة للناس في مكاره الدهر ومساواتهم في جشوبة العيش فيقول وقد آذاه ذلك: «فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همّها علفها أو المرسلة شغلها تقمّمها، تكترش من أعلافها وتلهو عما يراد بها. أو اترك سدى أو اهمل عابثاً، أو أجرّ حبل الضلالة، أو اعتسف طريق المتاهة (2).

لقد كان بإمكانه أن يشبع ويلتذ ويتمتع ولكن كيف يفعل ذلك وفي أرجاء الأمة الاسلامية الواسعة بطوناً لا عهد لها بالشبع ولا طمع لها في القرص وكيف ترضى عاطفته الانسانية أن يبيت مبطاناً وحوله البطون الغرثى والأكباد الحرّى. وهل يقنع بأن يقال له أمير المؤمنين ولا يقوم بتخفيف الأعباء عن كاهل الشعب؟

بالطبع لا. لأن الشعب كان هاجسه الأول، ورفع الظلم عنه واسعاده من أولى المهمات التي اضطلع بها وأوقف جهده عليها وخاصة الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم 7.

ص: 263


1- انظر (ح)، ج 11، ص 32.
2- نفسه، ج 16. ص 287.

كالمساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمنى فكان أن جعل لهم قسماً من بيت مال المسلمين، وقسماً من غلات صوافي الاسلام تكريماً لهم وانقاذهم من ذل المسألة. وقد رويت عنه مآثر كثيرة تثبت مدى حرصه على مال المسلمين ومدى اهتمامه بالرعية وتوفير سبل الحياة الكريمة لهم وإزاحة كابوس الفقر عن كاهلهم من خلال التسوية في العطاء وإزالة الفوارق الطبقية بينهم.

د - عمارة البلاد:

وتكون بانعاش مرافق البلاد الزراعية والصناعية والتجارية باستخدام كافة الطرق والوسائل المؤدية الى ذلك من تحسين الانتاج وتطوير وسائل النقل والمواصلات وتقديم المساعدات وحماية المستهلك من الغش والاحتكار والتلاعب بالأسعار ومراقبة المحتكرين وإنزال العقوبة بهم. لذلك فالإمام (علیه السلام) يوصي بالتجار ويقول الى الأشتر: «ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات، وأوص بهم خيراً ... وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك ... فامنع من الاحتكار ... فمن قارف حكرة بعد نهيك اياه فنكّل به وعاقبه من غير إسراف (1).

رابعاً: في الوطنية

للتربية الوطنية مكانتها الرئيسية في دساتير الأمم والشعوب، ومهمتها تكمن في اعداد النشيء على محبة الوطن وخدمته بصدق ووعي وإيمان والذود عنه والعمل على رفعته وتطوره في سائر المجالات بالتعاون مع سائر أبنائه. والشعوب منذ فجر حياتها، وحتى يومنا الحاضر، ما زالت تعتبرها إحدى الركائز الهامة لبناء مجدها ومستقبلها «فالأقوام البدائية مثلاً كانت وما تزال في بعض البقاع النائية المنعزلة، تعطي أولادها عند البلوغ دروساً نظرية وعملية عن أسرار القبيلة وتقاليدها، وعاداتها قبل إدخالهم في عضويتها، كما أن الرومانيين كانوا يحفظون أبناءهم مجموعة من أهم قوانين البلاد اطلق عليها اسم الألواح الاثني عشر (2).

ولقد كان الخطب الامام (علیه السلام) دورها في تنمية هذا الحس الوطني والشعور القومي بعيداً عن العصبية والقبلية الجاهلية، بل في إطار التعاون بين سائر الشعوب ضمن حدود الحق والعدل والأخوة، فلم يعد الوطن هو المحدد بمساحته وحدوده وشعبه (القطري) ولا المحدد بلغته ودينه وتاريخه (القومي) فهذه الأوطان هي من الضيق بحيث لا تسع أفق الامام

ص: 264


1- انظر (ح)، ج 17، ص 83.
2- شهلا، جورج، وجربلي عبد السميع وحنانيا، الماس شهلا: الوعي التربوي ومستقبل البلاد العربية، دار العلم للملايين بيروت 1978، ط 4، ص 245 - 246.

و مداركه. إن نظرته (علیه السلام) للوطن تلغي الحدود وتتجاوز الحواجز روحية كانت أم مادية، وتمتد لتشمل الوطن الانساني ليس بلد بأحق بك من بلدك، خير البلاد ما حملك (1). فالوطن الذي يقصده هو حيث يطمئن فيه الانسان الى وجوده ومصيره وحقوقه، لأن ووطن الانسان هو راحة الانسان وأمنه وحريته وكرامته وحقوقه ومصيره، فكل بلد يؤمن له ذلك هو وطنه الذي يخلص له، ويستميت في سبيله سواء أكان بلد الآباء والأجداد أو لم يكن، أما الأسماء والألفاظ فوسيلة لا غاية (2).

والوطن هو حيث يكفي حاجة الإنسان ويرفع عنه كابوس الفقر والعوز فيعيش بكرامة وإباء ويتجنب ذل السؤال لأن الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة (3). إن ما نستنتجه من هذه الكلمات هو الإيمان بوحدة الأمة والعمل على تكريس هذه الوحدة من خلال تربية الفرد وإعداده اعداداً وطنياً صالحاً، والمواطنة الصالحة تقضي ببناء كيان الفرد الفكري والعاطفي والخلقي.

أ - البناء الفكري:

وهي تتضمن تنمية ثقافة الفرد بشؤون الحكم ومعناه وسلطاته ووظائفه وعلاقة إحداها بالأخرى، وما له من حقوق وما عليه من واجبات تجاه وطنه وأهله لذلك فهو يوصي بضرورة الاهتمام بالشرائع العادلة، والسنن الفاضلة، والوصايا الخيرة للتزود منها بالخبرات التي تساعد على حسن سير الأمور بحيث تجرى على سنن ثابتة فاضلة بدلاً من الخبط في الجهالات، وهذا من شأنه أن يضفي على علاقة الحاكم بالمحكوم طابع الأخوة والثقة والمحبة والاحترام، فتتأصل الوطنية في النفوس وتتزاحم تلقائياً لخدمة الوطن.

ب - البناء العاطفي:

ويقصد بها تغذية شعور الفرد بكل عاطفة نبيلة نحو وطنه وشعبه. فالمواطنة الصالحة لا تكتفي بالقيم والمبادىء الفكرية المجردة، بل لا بد من ممارستها عملياً على أرض الواقع لذلك كان الوجدان همزة وصل بين الفكر والسلوك. وكان العمل هو الضمانة الوطنية الخالصة. فالوطن لا تحميه الدموع ولا تتعمق جذوره إلا بسواعد أبنائه وأصحاب المصلحة العليا في بقائه حراً عزيزاً. لذلك فإن الامام (علیه السلام) يدعو الى الغيرة على الأوطان وينعي على أولئك الذين يتقاعسون عن نصرة بلادهم فيقول «يغار عليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون (4). فالوطنية إذن ليست نشيداً حماسياً ولا تغنياً بالأمجاد، ولكنها وفاء وتضحية والتزام. 5.

ص: 265


1- أنظر (ح) ج 20، ص 90.
2- علي والفلسفة، ص 179.
3- أنظر (ح) ج 18، ص 190.
4- نفسه، ج 2، ص 75.

ج - البناء الخلقي:

وهي الهدف الاسمى للتربية الوطنية وبدونها تبقى الأفكار والعواطف لا ضابط لها ولا وازع ... لذلك فإن الامام (علیه السلام) يؤكد على الناحية المسلكية من شخصية الانسان فيرى ضرورة قيام العلاقة بين البشر على المحبة والأخوة والاحترام المتبادل يظهر ذلك في القول: «يا بني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك، وبين غيرك فاحبب لغيرك ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تُظلم واحسن كما تحب أن يحسن اليك واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك وارض من الناس بما ترضى لهم من نفسك (1).

هذا التفاعل الوطني الخير الذي بذره (علیه السلام) في نفوس الناس كان وسيلة لغاية أكبر هي وحدة الوطن ورص الصفوف والتعاون من أجل الصالح العام. وكثيراً ما كان يدعم هذه العاطفة النبيلة بحثّ الرعية على التآلف والتآخي فيقول: «ليتأس صغيركم بكبيركم وليرأف كبيركم بصغيركم، ولا تكونوا كجفاة الجاهلية، لا في الدين يتفقهون ولا عن الله يعقلون، كقيض بيض في اداح، يكون كسرها وزراً، ويخرج حضانها شراً (2). كما كان يدعو الى تقوى الله والعمل الصالح والأخذ بالمكارم والفضائل والسعي في حوائج الناس والمصادقة والتعاطف والتزاور وغير ذلك من القيم الاجتماعية التي تنمي روح الأخوة والتعاون بين أبناء الشعب الواحد كما في الحديث الى كميل: «مر اهلك ان يروحوا في كسب المكارم ويدلجوا في حاجة من هو نائم» (3).

تلك هي الروح الوطنية التي بعثها الامام علي (علیه السلام) في نفوس الرعية فإذا ما درجوا عليها كانت لهم عونا على صلاح أنفسهم وجمع شتات كلمتهم لحماية بلادهم من العدو الداخلي المتمثل بالفساد والضلال والعدو الخارجي المتربص بالبلاد، يغتنم فرصة ضعفها وتفككها للانقضاض عليها.

خامساً: في القضاء

القضاء، ويراد به منصب الفصل بين الناس في الخصومات، قديم قدم الانسان، إذ كان بحاجة اليه منذ وجوده على الأرض لحماية حقوقه من تعديات الآخرين، ولقد اهتم الامام علي (علیه السلام) بهذا المنصب وجعله تحت مراقبة شديدة ليكون صورة من عدل السماء على الأرض فلم يصانع أو يداري أو يداهن في الحق، بل كان حرباً شعواء على الظلم والظالمين، فزهت العدالة في عصره، واطمئن الناس الى حقوقهم ووجودهم ومصيرهم، وتغير مفهوم القضاء فلم يعد مؤسسة تضاف الى سائر المؤسسات التي أنشأها الأقوياء لأكل الضعفاء، والظالمون لارهاق المظلومين، وأصحاب السلطان لأخذ السبيل على الناس بالعدوان

ص: 266


1- أنظر (ح)، ج 16، ص 84.
2- نفسه، ج 9، ص 282.
3- نفسه، ج 19، ص 99.

والتنكيل (1)، ولكنه «انصاف لمظلوم، ورحمة بالناس، وحكم بحق (2). فنظم، أصوله ورتب قواعده، وجعله مبادىء وقوانين تأخذ طابعاً إنسانياً بعيداً عن العبارات الجامدة الجافة، فإذا القضاء رحمة بالناس وتصريف عادل لشؤونهم، وإذا القاضي أخ رؤوف رحوم والناس لديه آمنون مطمئون من وصول الحق اليهم.

والمساواة أمام القانون أمر لا بد منه في دستوره (علیه السلام)، لأن الناس سواء لا فرق بينهم أمام الحق. ان الايمان المطلق بهذه القاعدة والشعور العميق بما قد يساور أحد المتقاضيين من المذلة ساعة يحس أن في القضاء أدنى ايثار لانسان على انسان، جعل الامام (علیه السلام) يلتزم الحياد فلا ينحاز الى جانب دون الآخر بل هو يساوي بينهما في المعاملة حتى يصدر الحكم عن نزاهة وصدق فيقول (علیه السلام) للأشتر: فاخفض لهم جناحك، والن لهم جانبك وابسط لهم وجهك، وأس بينهم في اللحظة والنظرة حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضعفاء من عدلك بهم (3).

هذا الاهتمام الذي يوليه (علیه السلام) لهذه القاعدة دفعته الى أن يكون أكثر تشدداً وصرامة في تطبيقها حتى على نفسه في عصر كان القانون بخدمة الحاكم وضد مصالح المحكوم فصار الحاكم ليس بفوق ان يمثل امام القضاء مع أي إنسان آخر، وان يقبل الحكم له كما يقول في نهجه: والزم الحق من لزمه من القريب والبعيد (4).

ومبدأ المساواة أمام القانون يفترض الاعتراف بحرية القاضي المطلقة في أن يحكم بموجب القانون والضمير بعيداً عن الضغط والهوى، كي يكسب القضاة حصانة تمكنهم من الحكم بالعدل، ولتأكيد ذلك، أوجد الامام (علیه السلام)، كما في عهد الأشتر، جهازاً للشرطة كي يكون عوناً للقانون وللقاضي في البحث عن أهل الريبة واعتقالهم ومعاقبتهم ولم يسبقه في ذلك الا نظام «العسس» «الذي أوجده عمر بن الخطاب، وهو الطواف ليلا للبحث عن المنحرفين».

إن الحديث عن طبائع البشر وعن حقيقة التعامل بينهم، بتسخير أنفسهم وضمائرهم ومحاولة سيطرة الأقوياء منهم على الضعفاء، أمور انطلق منها (علیه السلام) للكشف عن حقيقتين تساعدان على انحراف القضاة:

- الأولى ضغط السلطة التنفيذية بحيث يحكم القاضي بما تمليه عليه لا بما يراه.

- الحاجة الى المال التي قد تضطره الى قبول الرشوات واستقلال منصبه بالاستفادة منه.

فقضى على هذين السببين وأوصى بضرورة مراقبة القاضي باستمرار وتقريبه وحمايته ب.

ص: 267


1- جرداق، جورج: بين علي والثورة الفرنسية دار الحياة، بيروت 1970، ص 252 - 254.
2- نفسه، ص 252 - 254.
3- انظر (ح)، ج 15، ص 163.
4- انظر (ح) ج 17، ص 97، أنظر مقاضاة أحدهم لعلي امام الخليفة عمر بن الخطاب.

والبذل له والتوسعة عليه. وهذه خطوة هامة في استقلال القضاء، وفصله عن السلطة التنفيذية بحيث لا تتدخل في شؤونه أو تؤثر عليه. كما أنها محاولة جادة لتحرير القضاة من ضغط الحاجة التي قد تجبرهم على الحكم بغير الحق، جاء في عهد الأشتر: «ثم أكثر من تعاهد قضائه وأفسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته الى الناس، واعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك (1).

ولما كان منصب القضاء من الأهمية بمكان، فإن من يتولى هذا المنصب يجب أن تتوفر فيه بعض الصفات التي تساعد على أن يحكم بوحي من ضميره وخلقه واستقامته فيستبعد كل ما من شأنه ان يؤثر على سلامة الحكم الصادر عنه حتى لا يفسر سلوكه المشين بعدم نزاهة القضاء جاء في عهد الأشتر: ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الأمور ولا تحكه الخصوم ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء الى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرّماً بمراجعة الخصم، واصبرهم على تكشف الأمور، واحرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه اطراء، ولا يستميله إغراء وأولئك قليل (2).

هذه المثالية التي يتحدث عنها الامام (علیه السلام) توضح مدى الاهتمام البالغ بالقضاء في تصريف الأمور وحفظ الحقوق، كما تفسر ما كان يعانيه من أزمة أخلاقية حادة انحرفت به عن جادة الحق. وحتى تأتي هذه السياسة نتائجها المرجوة منها فإنه (علیه السلام) يمنع أن يتولى أمور القضاء، الأقرباء والأصدقاء، لما في ذلك من تشجيع لهم على التساهل باحكامه، واعتماداً على ما بينهم وبين الحكام من صلات.

بهذا يكون الامام علي (علیه السلام) قد سما بالقضاء الى مستوى انساني، هو من الرفعة بحيث لا يستطيع أحد أن يطاله أو ينال منه، أو يفكر بالانحراف عنه، لما له من مكانة سامية في هيئة الحكومة التي تحدث عنها كتاب النهج. ولقد شهد الاسلام نخبة من انزه القضاة وأكثرها صدقاً في جنب الله، فكان لممارساتها العادلة، ولا علميتها الشاملة الدور البارز في وضع أصول التشريع الاسلامي وفي مقدمة هؤلاء علي بن أبي طالب (علیه السلام) الذي كان ميزان القضاء والافتاء ذخيرته حكمة قبسها من نبع النبوة، واتساع أفق وعلم فياض، لا يباريه في میدانه صاحب ولا رفيق، حتى أصبح في المستعصيات ذا الرأي الحاسم الأخير، وكتب بأحكامه الفذة أصول التشريع الاسلامي في كل نواحيه، والقى أضواء لامعة من ذخيرة معرفته على مشكلات الحياة ومسائل القضاء حتى كان ابن الخطاب وهو صاحب القضاء على عهد أبي بكر يقول فيه: و لا بقيت معضلة ليس لها أبو الحسن (3). 1.

ص: 268


1- انظر (ح)، ج 17، ص 59.
2- نفسه، ج 17، ص 58 - 59.
3- الامام علي بن أبي طالب، ص 210 - 211.

التربية عند المعتزلة

لعل من المفيد قبل الخوض في الفكر التربوي عند المعتزلة، أن نتحدث بعض الشيء عن الوسط الذي عاشوا فيه، باعتباره العامل الأهم الذي أثر على صياغة معتقداتهم الفكرية.

لقد ظهرت مدرسة الاعتزال في فترة شهدت نشاطاً سياسياً وفكرياً واسعاً، علنياً وسرياً، ضد الأمويين. فكثرت الاضطرابات وتعددت الانتفاضات يذكي أوارها ذلك الصراع الفكري الحاد الذي جرى بين القدرية القائلين بحرية الانسان وقدرته على خلق الأفعال من غير أن يكون لله فيها صنع ولا تقدير، وبين الجبرية الذين يقولون بأن الأفعال مقدرة سلفاً وفق مشيئة الله.

في خضم هذا الصراع كان لا بد للأمويين، من أن يؤيدوا الفئة التي تخدم مصالحهم، فوجدوا في الجبرية الايديولوجية التي تتماشى وسياستهم القائمة على القهر والظلم، وبالمقابل، فقد صبوا جام غضبهم على زعماء القدرية وأشبعوهم قتلاً وتعذيباً وتنكيلاً واضطهاداً لأنهم كانوا يكرهون القائلين بالقدر، وان ذلك لم يكن منهم عن ضيق بالمناقشات الكلامية بحد ذاتها، بل لأنهم كانوا يرون في زوال عقيدة الجبر خطراً على سلطانهم (1).

في هذه الفترة الزاخرة بالصراعات، كان لا بد من طرح فكر بديل يناهض سياسة الحكم الأموي، فظهرت مدرسة الاعتزال بقيادة واصل بن عطاء (80 - 131 ه - ) كرد فعل على الذين ينسبون الى الله أوزارهم، وواجهت ايديولوجية الأمويين بفكر صاغته تحت «الأصول الخمسة»، وحشدت له من الأنصار كل من فكر على أساسه، فكان معتزلياً من جمع القول بالأصول الخمسة: التوحيد، العدل، الوعد، والوعيد، المنزلة بين المنزلتين

ص: 269


1- غولد تزيهر، العقيدة الاسلامية و الشريعة في الاسلام، ترجمة وتعليق مجموعة من الأساتذة، دار الكتب الحديثة، القاهرة سنة 1959، ص 76 - 77.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا أكملت في الانسان هذه الخصال فهو معتزلي(1).

لقد انطلقت المعتزلة في تربيتها واعدادها للانسان الداخل في جماعتها، من منطلقات أساسية بنت عليها صرحها الفكري، لذلك فإن نظرتها اليه لا تعدو عن كونها شاملة، فلا تغفل منه جانب من جوانب شخصيته. «فهو الكائن الذي خلقه الله من نفس وجسم، تشكلان فعاليته في الوجود كما قال بشر بن المعتمر (2)، وهو الذي يجمع بين جنبيه قوى متقابلة تجنح به نحو الشر والخير، فلا الشر متأصل فيه ولا الخير من طبعه، بل هو يجمع بينهما بفعل الارادة الحرة التي يمتلكها. تقول المعتزلة بلسان الجاحظ: «الا ترى أن فيه طبائع الغضب والرضى، وآلة اليقين والشك، والاعتقاد والتمني وفيه طبائع الفطنة والغباوة، والسلامة والنكر، والنصيحة والغش والوفاء والغدر والرياء والاخلاص، والحب والبغض، والجد والهزل، والبخل والجود، والاقتصاد والسرف والتواضع والكبر ... (3).

وهو المخلوق العاقل، الذي حباه الله بعقل يستطيع به وحده أن يرتاد المجهول، ويقف على الحقائق، ويسبر غور الغوامض، فلا يحتاج في ذلك الى الشرع. لذلك فهم يدرجون أفراد جماعتهم على استعماله، بل هم يحثونهم على التفكير ويرغبونهم في النظر من خلال رياضة عقلية أساسها حرية الفكر والاجتهاد في الرأي. وليست المعرفة الناجمة عن العقل كتلك التي يكشف عنها الحس، لأن الأولى مدعومة باليقين، أما الثانية فهي معرضة للخطأ من أجل ذلك كانت الرؤية بالعقل لا بالحس كما يقول الجاحظ: «فلا تذهب الى ما تريك العين، واذهب الى ما يريك العقل. وللأمور حكمان: حكم ظاهر للحواس، وحكم باطن للعقول والعقل هو الحجة (4).

هذا الفكر الذي جعل من العقل ومن حرية الارادة الانسانية في اختيار ما نريده من الأفعال منطلقات أساسية له، قلب الموقف وغير المعادلة. فبدلاً من أن يكون الانسان خاضع في تفكيره وفعله لإرادة الله ومشيئته، أصبح على ضوء هذا الفكر سيد الموقف، بيده زمام الأمر، فلا شيء خارج عن إرادته واختياره. وهنا تكمن الخطورة بالنسبة للسلطة. الأموية التي ترى في الجبر غطاء فكرياً وسياسياً لممارساتها السلطوية، فلا عجب والحالة كذلك من أن يصنف المعتزلة في عداد أعداء السلطة الأموية وأن يعتمدوا السرية في نشاطهم الفكري، خوفاً من بطش الأمويين واضطهادهم، يقول عبد الجبار: «أصحابنا لبسوا طريقة الاستشار والاتقاء من الخوف ... واستمر على أصحابنا هذا الانقباض ... لأن الخصوم.

ص: 270


1- الانتصار، ص 93.
2- مقالات الاسلاميين، ج 2، ص 331.
3- الحيوان، ج 1، ص 130.
4- نفسه، ج 1، ص 125 - 126.

اختلطوا بالظلمة واستعانوا بهم على أهل العدل والتوحيد ... ولولا ما ذكرنا من الانقباض لظهروا به ولا ظهروه (1).

ومن الطبيعي أن يلجأ المعتزلة الى التعليم كوسيلة لنقل أفكارهم الى اتباعهم، ولكن كيف يتسنى لهم ذلك، والسلطة تلاحقهم وتصادر أفكارهم وتفسد عليهم مشاريعهم. لذا كان التخفي أمر يفرضه الواقع عليهم، مما دفع بعضهم الى (إقامة مدارسهم الفكرية وحلقات دروسهم في مزارع خاصة بهم بعيداً عن المدن وأعين الشرطة (2).

ولم يتردد المعتزلة مطلقاً في استخدام العلم والترجمة والفلسفة، وهي أمور مضافة الى العقل بالتعرف من أجل إسناد وتوضيح ما رموا اليه من أفكار وعقائد. كما أنهم تنكروا للمحافظين والمتشددين الذين ضيقوا سلطان العقل وحرية التفكير. أما المعرفة فقد كانت تحصل لهم بطريقين: الاستدلال العقلي والحس مع تقديمهم الأول على الثاني. يقول الخياط: «ان التعرف سبب للمعرفة موصل اليها، ومن المحال أن يتقدم المسبب سببه وذلك ان الأشياء المعروفات لا تعدو أحد أمرين: اما أن تكون مستدلاً عليها أو محسوسة. فالاستدلال هو تعرف الأشياء المستدل عليها، والحس هو إدراك الحواس حتى يعرف الشيء المحسوس ومن المحال أن تكون المعرفة تتقدم الاستدلال الموصل اليها والحس الذي هو سبب اليها. وهذا بين واضح لا يخفى على ذي عقل)(3)

ومع إيمان المعتزلة المطلق بالعقل وقدرته على ارتياد المجهول، إلا أن هذا لا تستطيعه الا فئة قليلة درجت على استعماله، في حين أن الأغلبية الساحقة من الناس تتعلق بعادات وتقاليد الأباء وتهوى الأخذ بالبديهيات وتستثقل التحصيل والنظر فإذا أكرهت عليه ازدادت جهلاً وخرقاً. يقول الجاحظ: «ولكن للناس تأس وعادات وتقليد للآباء والكبراء، ويعملون على الهوى وعلى ما يسبق الى القلوب، ويستثقلون التحصيل ويهملون النظر حتى يصيروا في حال من عاودوه وأرادوه، ونظروا بأبصار كليلة وأذهان مدخولة مع سوء عادة والنفس لا تجيب وهي مستكرهة، وكان يقال: العقل إذا كره عمى، ومتى عمي العقل جسا وغلظ وأهمل، حتى يألف الجهل ولم يكد يفهم ما عليه وله، فلهذا واشباهه، قاموا على الالف والسابق الى القلب (4).

لذلك فقد عمد المعتزلة الى أسلوب يشجع على النظر والبحث، كما يساهم في تربية اتباعهم وتعويدهم على الأخذ بالعادات الحسنة وترك العادات السيئة، هذا الأسلوب الذي.

ص: 271


1- عبد الجبار: فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة، تحقيق فؤاد سيد، طبعة تونس، 1972 م. ص 301.
2- نفسه، ص 302 - 303.
3- الانتصار، ص 86.
4- الحيوان ج 4، ص 166 - 167.

اعتمدته الأديان السماوية في دعوة البشر اليها، متمشية في ذلك مع الفطرة التي جبلوا عليها، واقصد به التهذيب بالترهيب والترغيب فيرى الجاحظ ان الناس طبعوا على العمل بالرغبة والرهبة فهم لا ينقادون إلا لمنافعهم ولا يخضعون إلا لصاحب القوة. فيقول: «فعلم الله منهم لا يتعاطون ولا يتواصلون ولا ينقادون إلا بالتأديب، وان التأديب ليس إلا بالأمروالنهي، وان الأمر والنهي غير ناجحين فيهم الا بالترغيب والترهيب اللذين في طبائعهم فدعاهم بالترغيب الى جنته، وجعلها مما تركوا في جنب طاعته وزجرهم بالترهيب بالنار من معصيته، وخوفهم بعقابها على ترك أمره، ولو تركهم جل ثناؤه والطباع الأول، جروا على سنن الفطرة وعادة الشيمة (1).

أما في مجال الحياة العامة، فإن المعتزلة تدعو الى التعاون والتواصل وتأكيد ما هو فطري بين البشر من حيث حاجتهم بعضهم الى بعض لتأمين معايشهم والحفاظ على حقوقهم ومصالحهم، فهم مجتمعين متعاونين أقدر على تحقيق ذلك مما لو كانوا متنابذين مشتتي القوى والأنفس، ذلك لأن حاجات كل فرد منهم متعددة، وهو بمفرده لا يستطيع تحقيق ما يحتاج اليه لذا اقتضت الضرورة والطبع أيضاً إلى تعاضدهم فيما بينهم (2).

إلا أن الناس يتظالمون فيما بينهم لما في جبلتهم من الطمع والحسد فاحتاجوا من أجل ذلك الى من يردعهم ويحفظ حقوقهم من التعديات والتجاوزات ولو تركوا وشأنهم لفسدت عليهم حياتهم واستحكمت الرذائل من نفوسهم لأنهم، يتظالمون فيما بينهم بالشره والحرص المركب في أخلاقهم فلذلك احتاجوا الى الحكام (3).

وإذا كانت السلطة واجبة وضرورية لحفظ كيان الأمة وضمان حقوقها ومصالح الناس كافة، فإن زمامها منوط بإرادة الانسان واختياره لا بتقدير فوقي لا طاقة له على دفعه أو معارضته، لأن في ذلك مصادرة لحرية الانسان وسلباً لارادته وضرباً لمبدأ العدالة الذي آمنوا به، فالسلطة اذن، تستمد من مصالح الناس، لا من قوى غيبية تفرض على الناس كل شيء وبالتالي فهي خاضعة لارادة الناس ومصالحهم فإذا ما تناقضت المصالح بينهما، أصبحت الثورة شرعية وجاز مقاومة الحكام الطغاة وعزلهم اذا لم يذعنوا للحق، على أن يكون ذلك بصورة متدرجة من السهل الى الصعب كما سبق علمنا في ذلك.

ولكي تمنع الازدواجية في السلطة، فإن المعتزلة ترفض أن يكون للأمة أمامان في وقت واحد، منعاً للتنافس والصراع المؤديان الى خراب الأمة وتشتت قواها.

هذا النهج الثوري الذي سلكه المعتزلة، ينم عن التعلق بوطن تسوده الحرية والعدالة 1.

ص: 272


1- رسائل الجاحظ: تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، مصر 1965 ج 1، ص 161.
2- أنظر الحيوان، ج 1، ص 36.
3- رسائل الجاحظ، ج 1، ص 161.

والمساواة، وهي أقانيم ثلاثة ما زالت البشرية تناضل من أجلها حتى يومنا هذا. فكانت دعوتهم صريحة الى محبة الوطن، وهم بذلك انما يقررون ما هو طبيعي في جبلة البشر، لأن محبة الوطن شيء شامل لجميع الناس وغالب على جميع الجيرة (1) كما قال الجاحظ. لقد أراد المعتزلة من الانسان أن يكون حراً في فكره وعمله حتى يكون مسؤولاً أمام نفسه وأمام الله تعالى، فجعلوا من الحرية المنطلق الأساسي للتفكير، إذ لا حرية عندما يكون الفكر مقيداً ولا فكر عندما تكون الحرية مقيدة. هذا الايمان المطلق بالعقل والحرية، جعلهم يبحثون في أمور الدين والدنيا بجرأة ودون تهيب، منكرين أن تكون أية مسألة فوق العقل وخارج سلطانه، حتى ولو كانت مرتبطة بالذات الالهية كرأيهم في وجوب العدالة عند الله. لقد خرجوا بالعقل والحرية عن المألوف، وغالوا باستعمالها حتى تجاوزوا الحدود، فحكموا العقل في تفسير القرآن ورفعوه فوق الشريعة وجعلوا سلطانه أقوى من سلطانهم وأوجبوا المعارف به وحده. وإذا كانت حرية الفكر من مستلزمات التقدم والرقي ولكن المعتزلة اتخذوا حريتهم حرية مطلقة دون الشعور بالمسؤولية التي تتطلبها هذه الحرية، ودون أن يضعوا لها حداً تقف عنده (2).

ولم يكن المعتزلة منسجمين في كل ما دعوا اليه. فهم مع ايمانهم بحرية الانسان إلا أنهم خالفوا أنفسهم في كثير من المواقف. فقد حاولوا فرض ما اعتقدوا به على غيرهم، خاصة فيما يتعلق بمسألة خلق القرآن، كما أنهم كانوا يضطهدون ويقسون على من خالفهم في اعتقادهم معتبرين أن ذلك منكراً. فإن واصل بن عطاء حين تبين له الحاد بشار بن برد قال: اما لهذا الملحد الأعمى المشنف المتكنى بأبي معاذ من يقتله ...؟ أما والله لولا أن الغيلة سجية من سجايا الغالبية، لبعثت اليه من يبعج بطنه على مضجعه، ويقتله في جوف منزله، وفي يوم حفله (3) ولم يسكت عنه حتى نفاه الى البصرة.

تلك هي أبرز خطوات المعتزلة في التربية، وهي تتلاقى في معظمها مع ما قرره الامام علي (علیه السلام) واعتقد به، وتختلف في بعضها عنه، وخاصة في مسألة الامامة.

فالامام (علیه السلام) والمعتزلة متفقان حول النظرة الى طبيعة الانسان وحقيقته، من حيث قابليته للشر والخير وتكوّنه من النفس والجسم معاً. كما أنهما يكفلان له تربية سياسية واجتماعية ووطنية هادفة، من أجل اعداده اعداداً فاضلاً، ويضمنان له أيضاً، الحرية قولاً وعملاً، ويوكد كل منهما على اعتبار عقله من المصادر الموثوقة في الحصول على المعارف، وان كان الامام (علیه السلام) أكثر إنسجاماً في هذه الأمور، بوضعه الحدود لكل من العقل والحرية.1

ص: 273


1- رسائل الجاحظ، ج 1، ص 63.
2- المعتزلة، ص 195.
3- الجاحظ / البيان والتبيين، تحقيق فوزي عطوي، بيروت 1968، ج 1، ص 31

أما الخلاف، فهو في الامامة. فبينما أوجبها (علیه السلام) بالشرع والنص، وجعلها شأناً من شؤون السماء، لادارة أعمال البشر، ودعمها بالعصمة، اختلف المعتزلة في هذا الأمر فمنهم من أوجبها بالعقل والاختيار، ومنهم من أوجبها بالشرع، رغم اتفاقهم والامام (علیه السلام)، على ضرورة قيام سلطة في المجتمع تتولى شؤون الناس بشخص امام واحد في كل عصر.

فالامامة من الأمور التي أثارت كثير من الجدل والنقاش. فتفرق فيها الناس، واحتدم الخلاف بينهم. فالذين قالوا بوجوبها دائماً وأبداً وفي كل الأحوال، فهم الشيعة بكل فرقها والمعتزلة عدا الأصم والفوطي، الذين قالوا بعدم وجوبها اذا تناصفت الأمة ولم تتظالم والخوارج عدا النجدات، والمرجئة وأهل السنّة. وهناك من قال أن الخوارج لا يوجبون الامامة، ولكن المعتزلة يصححون ذلك كما يقول ابن أبي الحديد: «إنهم كانوا في بدء أمرهم يقولون ذلك ويذهبون الى أنه لا حاجة الى الامام، ثم رجعوا عن ذلك القول لما أمّروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي (1). كما أن الخوارج ينفون ذلك عن مذهبهم ويقولون: «إنه ليس منا ... من زعم من زعم أن الامامة ليست واجبة، الا أنهم يشترطون لوجوبها على الجماعة أن تكون لها مقومات الجماعة الحقة، عدداً وعدة بل وعلماً فيقولون من رأي المسلمين أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يستقيمان الا بالامامة، وشروط وجوب الامامة على القوم، أن يكونوا كنصف عدوهم في العدد والعدة والسلاح والحمولات والعلوفات وما أشبه ذلك، وعندهم من العلم ما يكفيهم (2).

وهكذا يبدو أن جميع هؤلاء قالوا بوجوب الامامة، ولكنهم اختلفوا: هل طريق وجوبها هو العقل أم السمع؟

إن الشيعة كلهم يقولون بالعقل كطريق لوجوبها (3). أما المعتزلة، ففريق منهم، وهم البغداديون وأبو عثمان الجاحظ، قال ان العقل يدل على وجوب الرئاسة، وهو قول الامامية أيضاً، إلا أن الوجه الذي منه يوجب هذا الفريق من المعتزلة الرئاسة، غير الوجه الذي توجبه الامامية منها. فهؤلاء يوجبونها على الله تعالى من حيث كان في الرئاسة لطف وبعد للمكلفين عن مواقعة القبائح العقلية، وأولئك يوجبونها على المكلفين من حيث كان في الرئاسة مصالح دنيوية، ودفع مضار دنيوية كما يذكر ابن أبي الحديد(4).

أما معتزلة البصرة، وكذلك الجبائيان، أبو علي وأبو هاشم، وجمهور أهل السنّة، فإنهم يرجعون وجوب هذا الأمر الى الشرع أو السمع، وليس في العقل ما يدل على وجوبها. 8.

ص: 274


1- انظر، (ح)، ج 2، ص 308.
2- عمارة، محمد: المعتزلة واصول الحكم، بيروت 1977، ط 1، ص 18.
3- نفسه، ص 17.
4- انظر (ح)، ج 2، ص 308.

والظاهر من كلام الامام علي (علیه السلام) السالف الذكر: لا بد للناس من أمر ...(1)، انه (علیه السلام) يعلل وجوب الرئاسة بمصالح دنيوية يجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتؤمّن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي.

وهكذا يبدو أن كلام الامام علي (علیه السلام) في الرئاسة وطريق وجوبها يتطابق مع ما قالته معتزلة البصرة في هذا المجال، من حيث أن الله أوجبها خدمة لعبيده ومصلحة لهم.

ومرة أخرى يظهر هذا التوافق والانسجام في التفكير بين الامام علي (علیه السلام) والمعتزلة. إن الفكر التربوي الذي صاغه الامام علي (علیه السلام) وحدد بنوده ونظرياته وأهدافه، انطلاقاً من فهمه الرسالة الاسلام الخالدة، ومن أعلميته المبدعة الخلاقة، كان المنطلق الذي انطلقت منه سائر الفرق الكلامية في الاسلام، وخاصة المعتزلة لتبني من خلاله ذلك الصرح الفكري العظيم، الذي أخذ يتعاظم شيئاً فشيئاً، بازدياد الفهم لمبادىء الاسلام وأصوله، وبانتشار الأفكار الأجنبية الدخيلة، التي أثارت العقول وشحذت الهمم لتهذيب هذا الفكر وفلسفته وصياغته في قوالب فلسفية متماسكة:

ولن يضير الامام علي (علیه السلام) في شيء إذا ما ابتعدت عنه بعض الفرق وعارضته أخرى لمصالح دنيوية أو المارب سياسية. إذ يكفيه فخراً أنه كان من أفراد ذلك الرعيل الذي أثار کوامن الفكر وحرره من عقاله لينطلق في ميادين فكرية رحبة كانت السبب في عملقة الانسان وتقدمه في جميع العلوم والفنون. 7.

ص: 275


1- نفسه، ص 307.

ص: 276

الخاتمة

إذا حاولنا استقراء ما قاله الامام علي (علیه السلام) في (نهج البلاغة) من أفكار نجد أن المسائل المتعلقة بالخالق وما وراء الطبيعة من الأقسام الأساسية في هذا السفر القيم. ولقد تنوعت البحوث حول هذا الموضوع، فقسم منها يدعو الى النظر في المخلوقات وآثار الصنع والحكمة الالهية، فيبرز النظام العام في العالم العلوي والعالم السفلي، وقد يشرح مخلوقا عجيباً غريباً كالخفاش أو الطاووس أو النمل أو الجراد، فيرينا منها آثار الصنع والحكمة والتدبير.

وقسم آخر، تغلب عليه البحوث العقلية الفلسفية، كتلك التي تتعلق بذات الله وصفاته وتوحيده، وإطلاقه من جميع القيود والحدود. وقد بلغ في ذلك حداً لا يدركه إلا من اصطفاه الله، ممن زها الايمان في قلبه وأزهر العلم في عقله، ومنها ما يبحث في المخلوقات العلوية كالملائكة والجن والشياطين والصراط وغير ذلك.

أما الكون وما فيه من توازن دقيق في سائر مظاهره، فهو من أكثر الأمور الدالة على وجود الخالق. وقد انطلق (علیه السلام) في ذلك من منطلقات بديهية، وهي أنه ليس هنالك شيء مادي يستطيع أن يخلق نفسه، بل ان لكل مخلوق خالقاً. ولو سلمنا بقدرة الكون على خلق نفسه، فإننا بذلك نصفه بالألوهية، ومعنى ذلك أن نعترف بوجود إله، ولكننا نعتبره إلهاً مادياً وروحياً في نفس الوقت، وهذا محال، فلا بد والحالة كذلك من الايمان بإله غير مادي خالق لهذا الكون، تظهر فيه آياته وتتجلى فيه حكمته، دون أن يكون هذا الكون كفواً له.

أما الإنسان، فهو الغاية، من أجله خلق الكون، ليخلف الله في أرضه. وحتى يكون جديراً بهذه الخلافة، لا بد من أن يسلك بوحي من دينه وضميره الخلقي والانساني، إلا أنه ولد ونفسه خالية من كل نقش ولديه استعداد لتقبل ما يلقى اليه. لهذا كان لا بد من أخذه بالتعلم والتعليم حتى تشرق نفسه بالعلوم والمعارف ويستقيم لبه، فتصدر عنه بالطبع لا بالتكلف، عندها يستحق انسانيته و وجوده.

نستنتج مما تقدم، بأن الطروحات الفلسفية التي اشتمل عليها هذا الكتاب والتي قمنا بتحليلها والكشف عنها من خلال الغوص في خطب وكلمات (نهج البلاغة) للامام علي (علیه السلام)

ص: 277

وما توفر لنا أيضاً من أفكاره وأفكار غيره من أئمة الفكر والفلسفة، إنما تمثل نمطاً من التفكير يغلب عليه طابع الاعتزال، بدليل الاتفاق شبه التام بين تلك المختارات من الأقوال والخطب التي جمعها الرضي ضمن هذا الكتاب، وبين الشروحات التي وضعها ابن أبي الحديد المعتزلي وقارنها بمبادىء أهل الاعتزال من جهة، وبين تلك النصوص الوفيرة التي أمكننا الحصول عليها من مصادر ومراجع المعتزلة، من جهة ثانية.

ومع أن هذا الكتاب قد اشتمل على كنز من المعارف الالهية والانسانية تلك التي تميزت بعمق العاطفة الدينية وصدقها، فإننا لا نصادف فيها تحليلاً فلسفياً منسقاً وشاملاً ومنتظماً في منهج مترابط الأجزاء وكأن هذه الأفكار من الأمور المفروغ منها باعتبارها من الحقائق التي أقرها الاسلام، فأضحت وكأنها بديهية بذاتها، فهي أقرب الى الخطرات الفلسفية منها الى المذهب الفلسفي. والفرق كبير بين مذهب فلسفي وخطرة فلسفية فالمذهب الفلسفي نتيجة البحث المنتظم وهو يتطلب توضيحاً للرأي وبرهنة عليه، ونقضاً للمخالفين ... أما الخطرة الفلسفية، فدون ذلك، لأنها لا تتطلب إلا التفات الذهن الى معنى يتعلق بأصول الكون من غير بحث منظم وتدليل وتنفيذ (1).

وسع ذلك، فإن «نهج البلاغة) غني بالفلسفة والاعتزال الى أقصى حدود الغنى، حافل بالأفكار المتنوعة، فتجد فيه من كل روض زهرة، ومن كل عطر أرجأ وهي مبثوثة من كل فن بلا اشباع ولا كفاية. ذلك أنه ليس كتاباً منسق المواضيع، وإنما هو أفكار مبذورة هنا. وهناك تجمع بينها تلك الروح الفاضلة المشبعة بتقوى الله ومحبته وعبادته والمأخوذة بجذبة الهية أنسنتها غيره سبحانه، وأزالت منها كل المآرب البشرية، وكل الشهوات الغريزية والملذات الآنية التي تشدها اليها، فلا شيء إلا الحق فقط، فهو الغاية واليه سوف تكون النهاية.

ولقد جاءت الأبحاث التوحيدية فيه، أساساً وقاعدة للأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة، وكانت هذه الأخيرة فيه منطلقاً للتشريع. وجميع هذه الأفكار تستند بمضمونها على كتاب الله وسنّة رسوله، وعلى عبقرية الامام (علیه السلام) الفذة التي انتجت هذا الفكر وصاغته في قوالب فلسفية تتناول مختلف جوانب الكون والحياة.

ومن العبث التفريق بين الدين الالهي والفلسفة الالهية. لأن الدين ما هو إلا مجموعة معارف اعتقادية الهية، يعبر عنها بالأصول وأخرى فقهية أخلاقية، يعبر عنها بالفروع. أما الأنبياء فإن الغاية من بعثتهم هداية البشر الى الحياة الفضلى والسعادة الحقيقية. وهل السعادة الحقيقية، إلا أن ينال الانسان بعقله الذي حباه الله به، أصول المعارف وحقائق العلوم بالاستدلال والبرهان حتى يسير بعد ذلك في حياته العملية على طريق العدل والاستقامة؟ 9.

ص: 278


1- فجر الاسلام، ص 49.

وهكذا، فالدين لا يدعو الانسان الى السمع والقبول بلا بينة، وكما قال تعالى: (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (يوسف / 108) بل يؤكد على ضرورة نيل الحقائق الالهية بشعوره الاستدلالي الذي جهز به وهذا هو بالذات ما يعبر عنه بالفلسفة الالهية.

هذه الحقيقة، تدحض مزاعم الباحثين الأوروبيين وبعض المسلمين من أن الدين يقابل الفلسفة، وانهما معاً،، يقابلان العلم الذي يعتمد الحس والتجربة. فهؤلاء قوم استحوذت المادة على عقولهم واستأثرت الطبيعية بكل تفكيرهم، فباتوا أسرى منطقهم التجريبي وحكموا من خلال المادة والطبيعة على ما وراءها، ونفوا كل ما ليس في متناول الحس والتجربة، دون أن يرتفعوا بأنظارهم الى الدين وما فيه من عوالم فلسفية مختلفة تلك التي عبر عنها الامام علي (علیه السلام) بشكل لا يخلو من العمق والوضوح، بحيث يحتاج كل منها الى مزيد من البحث والتحليل.

هذه العوالم المختلفة، ترتبط بالتوحيد الذي هو وحده الأصل الحاكم في جميع شؤون عالم الوجود بحسب تعاليم الاسلام الذي يربط كل شيء باللاهوت وينهي كل شيء اليه في مختلف مجالات الحياة، وجميع أحوالها وشؤونها حيث ان كل قضية علمية أو عملية، إنما هي مبنية على التوحيد، وبهذا يكون الامام (علیه السلام) قد انتهى بالفلسفة الالهية الى أوج كمالها بربطه بين العلم والعمل.

ورغم أن ما تكلم به الامام (علیه السلام)، قد خالف النهج الفلسفي المتعارف عليه، كما خالف الفلاسفة، في أن هؤلاء قد غلب عليهم أن يقيموا لفكرتهم نسقاً يحتويها على صورة مبدأ ونتائجه، في حين أنه: (علیه السلام) نثر القول نثراً وحسب ما تتطلبه الدواعي والظروف، فإن روعة العبارة وعمق المعنى وجذالة اللفظ وغزارة المادة ونوع المواضيع التي تحدث عنها، هي نفسها التي ترتد اليها محاولات الفلاسفة قديمهم وحديثهم على السواء، الا وهي: الله والكون والانسان، هذه الأمور جميعها، تثبت بما لا يدع مجالاً للشك، بأن نهج البلاغة:، هو في صميم الفلسفة ومن المراجع الهامة التي يمكن أن يعتمد عليها في البحث عن مبادىء الاعتزال، وان كاتب هذا الكلام وباعث هذا الفكر، إنما هو فيلسوف بمادته كما يقول زكي نجيب محمود ... واذن فالرجل - وان لم يتعمدها - فيلسوف بمادته (1). ورغم أن الامام علي (علیه السلام) لم يتبع نهجاً منطقياً في أبحاثه إلا أن ما صدر عنه في الأصل من أقوال وخطب، تعبر عن تواصل حقيقي بين انسان وإنسان، أي أنه مقول في إطار اجتماعي وكل ما يعبّر عنه من أفكار هو في خدمة الغاية المتوخاة منها، وخصوصاً اننا نجد مثل هذه الظاهرة عند المفكرين الصادقين في عاطفتهم، والذي يأتي تفكيرهم تعبيراً عن حالاتهم 0.

ص: 279


1- محمود، زكي نجيب: المعقول و اللامعقول في التراث العربي، دار الشروق دار الشروق، بيروت ص 30.

النفسية المختلفة وهم يرسلون كلامهم على سجيتهم، دونما التفات الى ما يعتوره من عدم ترابط في أجزائه بشكل تسلسلي واحد.

ومع ذلك، فإن أسلوب الامام (علیه السلام)، اضافة الى بلاغته وشموليته، يبقى مميزاً في طرحه للفكرة. فالفكرة الجافة تأخذ عنده أبعاداً حيّة تصويرية تثير في القارىء أعظم الأحاسيس وأعمق المشاعر وأبلغ المواعظ. ومن كلماته الدالة على العلاقة الوثيقة بين اللغة والصورة والهدف، ما جاء في حديث القبور ومخاطبتها وحديث الأموات. قال (علیه السلام) وقد رجع من صفين فأشرف على القبور بظاهر الكوفة: «يا أهل الديار الموحشة والمحل المقفرة، والقبور المظلمة، يا أهل التربة، يا أهل الغربة، يا أهل الوحدة، يا أهل الوحشة، أنتم لنا فرط سابق، ونحن لكم تبع لاحق، أما الدور فقد سكنت، واما الأزواج فقد نکحت، وأما الأموال فقد قسّمت، هذا خبر ما عندنا، فما خبر ما عندكم. ثم التفت الى أصحابه فقال: اما والله لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أن خير الزاد التقوى (1).

ولن يضير الامام علي (علیه السلام) في شيء إذا ما غمط حقّه في كون «نهج البلاغة» من نتاج فكره وأثراً من آثاره، ما دام يتمتع، وباعتراف الجميع، بسمات خلفية وفكرية قلّما نجد مثيلا لها عند إنسان، وذلك بحكم الفطرة الطيبة التي نشأ عليها، وبحكم البيئة الصالحة التي ولد وعاش في كنفها، وبحكم اختباراته في الحياة، حتى أضحى خير ممثل لنمط الحياة الفكرية في عهد من أزهى العهود الاسلامية، وأعني به العهد الراشدي. ورغم أن العقيدة الاسلامية قد سيطرت عليه فجعلها محور اهتماماته، فإن أحداً لا يستطيع أن ينكر عليه تفكيره الذاتي، الذي وان غذّته هذه العقيدة النيرة، يبقى مصدره شخصية الامام (علیه السلام) الفذّة وعبقريته الخلاقة.

لقد فاقت شهرة نهج البلاغة كل تصور، وتعرض لكثير من الانتقادات، وتصدّى لشرحه وتفسيره جملة من الباحثين والعلماء، على اختلاف نزعاتهم ومذاهبهم واختصاصاتهم، وبلغت الشروح عليه حدّاً لم يبلغه أي كتاب آخر سوى القرآن الكريم (2)، فكان من شارحه المعتزلي والأشعري والحنفي والشافعي والشيعي والزيدي وغيرهم. وكان من شارحه أيضاً الفيلسوف والمتكلم والمحدث والفقيه والمؤرخ والأديب واللغوي وغير ذلك.

إن اهتمام العلماء والمفكرين بهذا الصرح الفكري الكبير، جاء نتيجة لغناه بالصور والأبحاث المتنوعة، فقد استهوتهم صوره البيانية الرائعة، وقطعه الفنية المثيرة، وثروته الفكرية الغنية وهيمنت على مشاعرهم ظلاله الروحية والدينية، وعاشوا معه في مناخ اسلامي.

ص: 280


1- أنظر (ح)، ج 18، ص 322.
2- ذكر (الأميني) في غديره ج 169:164/4 خمس وسبعون شرحاً. وذكر الخطيب في «مصادر نهج البلاغة» ج 248/1 - 313 مائة وواحد من الشروح.

نقيّ أخّاذ، وملأ أعماقهم بالتقدير والاكبار، ورؤوا فيه كنزا من كنوز الاسلام وتراثه العظيم (1).

لذلك فهو يعتبر من الذخائر الاسلامية النفيسة بعد كتاب الله وسنّة نبيه، ومصدراً هاماً من مصادر المعرفة بحقيقة الله والحياة وما بعدها، والعالم والانسان، وسوف يبقى شمس البيان البشري حتى قيام الساعة. يقول المستشرق الفرنسي هنري كوربان: «وتأتي أهمية هذا الكتاب في الدرجة الأولى بعد القرآن وأحاديث النبي، ليس بالنسبة للحياة الدينية في التشيع عموماً فحسب، بل بالنسبة لما في التشيع من فكر فلسفي، ويمكن اعتبار «نهج البلاغة» منهلاً من أهم المناهل التي استقى منها المفكرون الشيعة ... وإنك لتشعر بتأثير هذا الكتاب بصورة جمّة من الترابط المنطقي في الكلام، ومن استنتاج النتائج السليمة، وخلق بعض المصطلحات التقنية العربية التي أدخلت على اللغة الأدبية والفلسفية، فأضفت عليها غنى وطلاوة، وذلك أنها نشأت مستقلّة عن تعريب النصوص اليونانية (2).

وفي نهاية المطاف، فقد ثبت لنا أن الامام علي (علیه السلام) كان رائد الفكر التوحيدي في الاسلام، والمنطلق الذي انطلقت منه سائر الحركات الفكرية الاسلامية، هذه الحركات التي تشعّبت بعد ذلك في اتجاهات مختلفة لاسباب أملتها الظروف السياسية والصراعات الفكرية التي تأثرت بالأفكار الأجنبية الدخيلة التي رافقت انتشار الاسلام في بقعة واسعة من العالم، فكان سبقه (علیه السلام) في الكلام عن الله والعالم والانسان في زمانه، دليلا على الهام نفسه وذكائه الخارق وأعلميته الواسعة، وهذا ما عبّر عنه ابن أبي الحديد بقوله: وبالجملة فحاله في العلم حال رفيعة، لم يلحقه أحد فيها، ولا قاربه، وحقّ له أن يصف نفسه بأنه معادن العلم، وينابيع الحكم، فلا أحد أحقّ بها منه بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم (3).

وسواء اتفقت معه الفرق الكلامية والمذاهب الفكرية أم اختلفت، فإن لكلماته وآرائه في العدل والتوحيد، وتفكيره في العلم والانسان، الصدى البالغ الذي ردّدته مختلف هذه الفرق، وخاصة المعتزلة، الذين أخذوا عنه واتفقوا معه في أكثر من موقع، مما يثبت بأنه، وليس المعتزلة، رائد الفكر الفكر الحر في الاسلام، وهذا ما يؤكده العقاد بقوله: «كان أشبه الخلفاء بالباحثين والمنقبين أصحاب الحكمة ومذاهب التفكير، وعنه أخذ الحكماء الذين شرعوا علم الكلام قبل أن يتطرّق اليه علم فارس أو علم يونان. (4)، فكان بذلك في 7.

ص: 281


1- مصادر نهج البلاغة، ص 424.
2- كوربان، هنري: تاريخ الفلسفة الاسلامية، ترجمة مروّة وقبيسي، دار عويدات بيروت، ط 1، 1966، ص 80 - 81.
3- انظر (ح)، ج 220.
4- عبقرية الامام، ص 27.

طليعة المفكرين الذين تصدّوا لمهمة فلسفة العقيدة الاسلامية، حتى أضحى من الذين يعتبرون بحق، من الممثلين الحقيقيين لروح الاسلام الصافي، ولقد حظي كتابه «نهج البلاغة»، باهتمام الأدباء والعلماء في كل عصر وجيل، فوجد فيه رجل الدين عقيدة وفضيلة، والفيلسوف حكمة وفلسفة، ورجل الاجتماع دستوراً اجتماعياً منسقاً، والأديب فنوناً أدبية رفيعة، والمؤرخ أحداثاً تاريخية هامة، فلا عجب والحال كذلك أن يبادر كثير من رجال الفكر والأدب الى طبعه وشرحه والتعليق عليه، رغم ما أثير حوله من احتجاجات غير مقنعة.

ورغم كثرة شروح النهج، فإن شرح ابن أبي الحديد يعتبر أفضلها. فقد جعله إطاراً جميلاً بصوره الرائعة التي تزدحم فيها الوقائع التاريخية، والبحوث الأدبية، والمناقشات الفلسفية، فهو بحق منجم لكنوز دفينة لا تقدر بثمن.

ص: 282

فهرس المراجع

1 - الأمدي، عبد الواحد: غرر الحكم و درر الكلم، مطبعة العرفان صيدا، 1931 م.

2 - الأبراشي، محمد عطية: التربية والحياة، دار الكتب العربية بمصر ط 1، 1943 م.

3 - ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم، دار الفكر، بيروت، ط 3، 1979 م.

4 - ابن جماعة: تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتكلم، تحقيق محمد هاشم الندوي - دار الكتب العلمية، بيروت 1354 ه - .

5 - ابن خلدون: المقدمة، دار احياء التراث العربي، بيروت ط ع، د.ت

6 - ابن خلكان: وفيات الأعيان مكتبة النهضة المصرية 1948 م.

7 - ابن الربيع، عبد الرحمن: تيسير الوصول الى جامع الأصول من حديث الرسول، مطبعة الحلبي بمصر د. ت.

8 - ابن الساعي: الجامع المختصر في عنوان التواريخ وعيون السير، تحقيق مصطفى جواد، المطبعة السريانية الكاثوليكية، بغداد 1351 ه - - 1934 م.

9 - ابن سينا، السياسة، نشرة الأب لويس معلوف اليسوعي.

10 - ابن سينا، النفس البشرية، تحقيق البير نصري نادر، منشورات عويدات بيروت، ط 1، 1960 م.

11 - ابن سينا، الشفاء (قسم الطبيعيات) تحقيق محمود قاسم، دار الكتاب العربي، د.ت.

12 - ابن عبد ربه: العقد الفريد. تحقيق محمد سعيد العريان، دار الفكر بيروت، د.ت

13 - ابن الفوطي: تلخيص مجمع الآداب في معجم الألقاب. تحقيق مصطفى جواد، منشورات وزارة الارشاد القومي بدمشق د. ت.

14 - ابن كثير: البداية والنهاية، مطبعة كردستان، ط 1، 1348

15 - ابن المرتضى، المنية والأمل، حیدر آباد 1902 م.

16 - أخوان الصفاء: الرسائل، نشرها بطرس البستاني، دار صادر، بيروت بيروت. د. ت.

ص: 283

17 - الأديب، علي محمد الحسين: منهج التربية عند الامام علي، دار الكتاب العربي. بيروت، ط 2، 1979 م.

18 - الأشعري، أبو الحسن: مقالات الاسلاميين، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، القاهرة، 1950

19 - اشفيتسر، البرت: فلسفة الحضارة، ترجمة عبد الرحمن بدوي، مطبعة مصر، 1963 م.

20 - أمين أحمد: ضحى الاسلام، دار الكتاب العربي: بيروت، ط 10، د. ت.

21 - أمين أحمد: ظهر الاسلام، مكتبة النهضة المصرية، ط 3، 1962.

22 - أمين أحمد: فجر الاسلام، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 10، 1969.

23 - أمين أحمد (العراقي): التكامل في الاسلام، دار المعرفة، بيروت، د. ت.

24 - الأميني، عبد الحسين: الغدير، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 3، 1967 م.

25 - بدوي، عبد الرحمن: الأصول اليونانية للنظريات السياسية في الاسلام. دار الكتب المصرية، 1954.

26 - البحراني، ابن میثم: شرح نهج البلاغة. المطبعة الحيدرية طهران، ط 1، 1387 ه - .

27 - البغدادي، عبد القاهر: الفرق بين الفرق، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، دار المعرفة، بيروت، د. ت

28 - بلدي، نجيب: دیکارت، دار المعارف بمصر 1968م.

29 - التستري، محمد نقي: قضاء الامام علي. مؤسسة الاعلمي، بيروت، ط 1، د. ت.

30 - الخطيب، التبريزي: شرح القصائد العشر، تحقيق فخر الدين قبادة، دار الآفاق الجديدة، بیروت، ط 4 - 1980 م.

31 - الثعالبي: يتيمة الدهر. تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة بمصر، 1956.

32 - جابر، قاسم: أخوان الصفاء، آراؤهم السياسية. رسالة أعدت لنيل شهادة الماجستير في الفلسفة، مكتبة الجامعة اللبنانية بيروت 1979 م.

33 - الجاحظ: البيان والتبيين، تحقيق فوزي عطوي، بيروت، 1968 م.

34 - الجاحظ: الحيوان، تحقيق فوزي عطوي، بيروت، 1978 م.

35 - الجاحظ: رسائل الجاحظ: تحقيق عبد السلام هارون مكتبة الخانجي بمصر 1965 م.

36 - جار الله، زهدي: المعتزلة، دار الأهلية للنشر و التوزيع، بيروت 1974 م.

37 - جرداق، جورج: بين علي والثورة الفرنسية، دار الحياة، بيروت 1970 م.

ص: 284

38 - جرداق، جورج: علي وحقوق الانسان، دار الحياة، بيروت، 1970 م.

39 - جولد تزیهر: اغناتس: العقيدة الاسلامية والشريعة في الاسلام، ترجمة وتعليق مجموعة من الأساتذة. دار الكتب الحديثة، القاهرة 1959م.

40 - جيمس وليم، بعض مشكلات الفلسفة، ترجمة محمد فتحي الشنيطي - دار الطلبة العرب، بيروت، ط 2، 1969 م.

41 - الحرآني، أبو محمد: تحف العقول عن آل الرسول. دار الاعلمي. بيروت ط 5، 1974 م.

42 - الحسني، عبد الصاحب: روح الايمان في الدين الاسلامي، مؤسسة الأعلمي بیروت، ط 1، 1975 م.

43 - الحسيني، هاشم معروف: الشيعة بين المعتزلة والأشاعرة، دار القلم، بيروت، ط 1، 1978 م.

44 - الحصري، ساطع: دراسات في مقدمة ابن خلدون، دار الكتاب العربي، بيروت ط 2، 1967 م.

45 - الحلي، ابن المطهر: كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، مطبعة الحكمة، قم. د. ت.

46 - الحنبلي، ابن العماد، شذرات الذهب في اخبار من ذهب، مكتبة القدس 1351 ه - .

47 - الخطيب، عبد الزهراء: مصادر نهج البلاغة وأسانيده، مطبعة القضاء، النجف 1386 ه - 1966 م.

48 - الخطيب، عبد الكريم: علي بن أبي طالب: دار الفكر العربي، ط 1، 1966 م.

49 - خليل عماد الدين، تهافت العلمانية، مؤسسة الرسالة، بيروت 1975.

50 - الخوانساري، محمد باقر: روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات، تحقيق أسد الله اسماعیلیان، طهران، 1390 ه - .

51 - الخياط أبو الحسن: الانتصار والرد على ابن الرواندي، تحقيق البير نصري، نادر، المطبعة الكاثوليكية 1957 م.

52 - داروین، تشارلز: أصل الأنواع، ترجمة اسماعيل مظهر، مكتبة النهضة بيروت 1973 م.

53 - الدمشقي، جمال الدين: تاريخ الجهمية و المعتزلة، مطبعة المنار بمصر، ط 1، 1331 ه - .

54 - ديورانت، ول: قصة الفلسفة، ترجمة فتح الله محمد المشعشع. مؤسسة المعارف، بیروت، ط 1، 1964.

ص: 285

55 - دي نوي، لكونت: مصير الانسان، ترجمة خليل الجر، المطبعة البوليسية، جونية 1967 م.

56 - ديوي، جون: الديمقراطية والتربية، ترجمة متى عقراوي وزكريا ميخائيل، طبعة محددة الأغراض دراسية. بيروت 1970 م.

57 - الذهبي، شمس الدين: ميزان الاعتدال في نقد الرجال، تحقيق محمد بدر الدين النعساني الحلبي ط1، 1325.

58 - الرازي، أبو بكر: رسائل فلسفية، دار الآفاق، بيروت، ط 3، 1979 م.

59 - زيادة معن، لبنان الحضارة الواحدة، مقال ضمن محاضرات نشرها النادي الثقافي العربي، بيروت. د. ت.

60 - الزركلي، خير الدين: الاعلام، ط 2، 1954 م.

61 - زیدان، جرجي، تاريخ آداب اللغة العربية مطبعة الهلال، ط 3، 1936 م.

62 - سبيتي، موسی: علي فوق الفلاسفة، مطبعة العرفان، صيدا 1953 م.

63 - سرحان، عبد المجيد: الله يتجلى في عصر العلم، محاضرات لمجموعة من العلماء الاميركيين، مؤسسة الحلبي، القاهرة، ط 3 1968 م.

64 - الشهرستاني، عبد الكريم: الملل والنحل، تحقيق عبد العزيز محمد الوكيل القاهرة 1968 م.

65 - الشهرستاني، عبد الكريم: نهاية الاقدام في علم الكلام، حرره وصححه الفرد هيوم، د. ت.

66 - شهلا، جورج وآخرون: الوعي التربوي ومستقبل البلاد العربية. دار العلم للملايين، بيروت، ط 4، 1978 م.

67 - شهلا، جورج وآخرون: الوعي التربوي ومستقبل البلاد العربية. دار العلم للملايين، بیروت، ط 4 1978 م.

68 - الشيرازي، صدر الدين: الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة، المطبعة العلمية قم، ط 2 1386 ه - .

69 - شربتلي، حسن: صفوة البيان لمعاني القرآن، دار الكتاب العربي بمصر، ط 1، 1956 م.

70 - الصدوق، أبو جعفر: التوحيد، دار المعرفة، بيروت د. ت.

71 - الصفدي: الوافي بالوفيات، مطبعة وزارة المعارف، استانبول 1949 م.

72 - الطبرسي: أبو منصور: الاحتجاج، دار النعمان، النجف الأشرف 1386 ه - - 1966 م.

73 - عاصي، حسن: التفسير القرآني واللغة الصوفية في فلسفة ابن سينا، رسالة أعدت

ص: 286

لنيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة، بيروت 1981.

74 - عبد الغفار، عبد السلام: مقدمة في علم النفس العام. دار مكتبة الجامعة العربية. بیروت، 1969 م.

75 - عبد الجبار، والقاضي: فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، تحقيق فؤاد سيد طبعة تونس، 1972 م.

76 - العروي، عبد الله: العرب والفكر التاريخي، دار الحقيقة، بيروت 1973 م.

77 - العسقلاني، ابن حجر: لسان المیزان، حیدر آباد ط 1، 1330 ه - .

78 - العقاد، عباس محمود: عبقرية الامام علي، مطبعة المعارف بمصر 1943 م.

79 - عمارة، محمد: المعتزلة وأصول الحكم، بيروت 1977.

80 - الغزالي، أبو حامد: إحياء علوم الدين، دار المعرفة، بيروت د. ت.

81 - الغزالي، أبو حامد: الاقتصاد في الاعتقاد، الطبعة الأخيرة.

82 - الغزالي، أبو حامد: تهافت الفلاسفة، المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1962 م.

83 - الغزالي، أبو حامد: رسالة أيها الولد، ترجمة توفيق الصباغ، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1951 م.

84 - الغزالي، أبو حامد: كتاب الأربعين في أصول الدين، دار الآفاق، بيروت ط 1، 1978 م.

85 - الغزالي، محمد: دفاع عن العقيدة الاسلامية ضد مطاعن المستشرقين دار الكتب الحديثة. القاهرة، ط 2، 1963 م.

86 - الفكيكي، توفيق: الراعي والرعية، مطبعة أسعد، بغداد 1962 م.

87 - الفندي، محمد ثابت: مقدمات في الفلسفة، طبعة محددة الأغراض دراسية مكتبة كريدية أخوان. بيروت 1971 م.

88 - القرشي، باقر شريف: النظام التربوي في الاسلام. دار التعارف، بيروت، 1979 م.

89 - قطب، محمد: الانسان بين المادية والاسلام، دار احياء الكتب العربية، القاهرة، ط 4، 1965 م.

90 - القفطي، جمال الدين: أنباه الرواة على أنباه النحاة، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم، القاهرة، ط 1، 1374 ه - - 1955 م.

91 - الكليني، أبو جعفر: الأصول من الكافي، تحقيق علي أكبر عفاري، مكتبة الصدوق، طهران، 1381 ه - .

92 - كاشف الغطاء، الهادي: مستدرك نهج البلاغة. دار الأندلس، بیروت. د. ت.

93 - كاريل الكسيس: الانسان ذلك المجهول، ترجمة شفيق أسعد فريد، دار المعارف بيروت، د. ت.

ص: 287

94 - الكتبي، ابن شاكر: فوات الوفيات، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت د. ت.

95 - کرم، يوسف: تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط، دار الكتاب المصري القاهرة، ط 1، 1946 م.

96 - کرم یوسف، تاريخ الفلسفة اليونانية. دار القلم، بيروت، ط 1، 1977 م.

97 - الماتريدي، أبو منصور: كتاب التوحيد، تحقيق فتح الله خليف، دار المشرق، بيروت 1970 م.

98 - المجلسي: بحار الأنوار، طبعة حجرية.

99 - مذکور، ابراهیم، کرم، يوسف: دروس في تاريخ الفلسفة. المطبعة الاميرية، القاهرة 1944 م.

100 - السيد، المرتضى، الأمالي.

101 - مرحبا، عبد الرحمن: من الفلسفة اليونانية الى الفلسفة الاسلامية، منشورات عویدات، بیروت، ط 1، 1970 م.

102 - المسعودي، أبو الحسن: مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة بمصر، ط 4، 1384 ه - - 1964 م.

103 - المطهري، مرتضى: في رحاب نهج البلاغة، ترجمة عبد الهادي اليوسفي دار التعارف، بيروت، ط 2، 1978 م.

104 - المظفر، حسن: فضائل أمير المؤمنين وإمامته. دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1389 ه - .

105 - مغنية، محمد جواد: علي والفلسفة، دار الكتاب العربي، بيروت، د. ت.

106 - مغنية، محمد جواد: في ظلال نهج البلاغة، دار العلم للملايين بيروت، ط 3، 1979 م.

107 - المقريزي، أحمد بن علي: الخطط المقريزية، مطبعة النيل بمصر 1326 ه - .

108 - مقصود، عبد الفتاح: الامام علي بن أبي طالب، دار مصر للطباعة، د. ت.

109 - المكناسي أحمد بن محمد: فلسفة التوحيد، المطبعة الخيرية، ط 1، د. ت.

110 - المليجي، حلمي: علم النفس المعاصر، دار النهضة العربية، بيروت ط 1، 1970 م.

111 - المليجي، عبد المنعم وحلمي: النمو النفسي، دار النهضة العربية. بيروت ط 4، 1971 م.

112 - النسفي، عمر: العقائد النسفية، القاهرة 1367 ه - .

113 - نعمة، عبد الله: مصادر نهج البلاغة. دار الهدى، بيروت 1972 م.

ص: 288

114 - النيسابوري، أبو اسحاق: قصص الأنبياء المسمى عرائس المروج المكتبة الثقافية بیروت د. ت.

115 - نور الدين، عبد الحسين: الكلمات، عبد الحسين: الكلمات، مطبعة العرفان، صيدا 1347 م.

116 - هيكل، محمد حسين: حياة محمد، مطبعة مصر 1354 ه - .

مجلات

117 - مجلة البلاغ العراقية، ع 3، 1975 م.

118 - مجلة عالم الفكر الكويتية: م 1، ع 3، سنة 1970.

م 2، ع 2 سنة 1971 م.

م 3، ع 4، سنة 1973 م.

م 7، ع 1، سنة 1976 م.

119 - مجلة العرفان: 32 سنة 1946 م.

120 - مجلة العربي الكويتية: ع 21 1981 م.

121 - مجلة الفكر العربي: ع 21، 1981 م.

122 - مجلة الكاتب المصرية ع 170، سنة 1975 م.

123 - مجلة الهلال المصرية: ع 12، سنة 1975 م.

المراجع الأجنبية

124 - De Bor: History of, Philosophy in islam london, 1933

Mac Donald: Development, of Muslim theology, Jurisprudence, and constitutional the ory, New York 1903.

William, Wallace: Prolegomena to the studey of, Hegel's, Philosophy, Oxford – 126 1894.

Schopenhaner; The World as will and representation, Appendix 19 «Ont the - 127 Metaphysical need of man» Abrid ged.

ص: 289

ص: 290

فهرس الموضوعات

مقدمة المؤلف ... 7

الباب الأول

الشريف الرضي: نسبه، أساتذته، تلامذته والرواة عنه، تأليفه وكتبه ... 13

ابن أبي الحديد: نسبه، تصانيفه، وفاته ... 19

الباب الثاني - الله والعالم العلوي

لمحة تاريخية ... 29

عصر ما قبل التوحيد الاسلامي ... 29

التوحيد في الاسلام: ظروف نشأته والدعوة اليه ... 30

نهج البلاغة ... لمن؟ ... 35

الأصول: ... 46

أولاً: التوحيد ... 46

1 - التنزيه، رؤية الله ... 46

2 - الصفات، أ - معرفة صفات الله ... 52

ب - وجود الله، ج - دليل وجوده ... 59

د - تصوّر الخالق: واجب الوجود، لا حدّ له، لم يلد ولم يولد، الله واحد، هو الأول وهو الآخر، الظاهر والباطن، السكون والحركة،

الزمان والمكان، الحلول، تعدّد الصفات ... 65

3 - القدرة الالهية ... 78

4 - كلام الله، القرآن الكريم ... 80

ثانياً: العدل ... 83

نظرية المصلحة ... 84

نظرية الحسن والقبح ... 86

حرية الارادة الأنسانية ... 89

ص: 291

ثالثاً ورابعاً: الوعد والوعد، المنزلة بين المنزلتين، ما هو الإيمان؟ الكبائر والصغائر، الثواب والعقاب ... 93

خامساً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... 102

العالم العلوي ... 106

الملائكة - إبليس والشيطان - العرش الكرسي - البيت المعمور - سدرة المنتهى - رحلة الموت - الجنة والنار

النبوة ... 120

طينة النبي - عصمة النبي - معجزة الأنبياء - زهد النبي

الأمامة ... 126

الباب الثالث: فكرة الخلق

نشأة الكون ... 135

اختلاف الأقوال في الغاية من خلق العالم ... 140

كيف صدرت المخلوقات عن الله؟ ... 142

الماء أصل الأشياء: ... 147

خلق الأجواء ... 148

خلق الأرض ... 150

خلق الكائنات الحية متى؟ وأين؟ وكيف بدأت الحياة ... 152

الباب الرابع: التربية العلوية

التربية ... 163

مفهوم التربية عند الامام علي ... 166

سمات المنهج التربوي العلوي ... 169

حقيقة الانسان وطبيعته. المعرفة: طبيعتها مصدرها، التفكير

التربية والتعليم ... 182

أولاً: التربية ... 183

وظائف التربية ... 184

ثانياً: التعليم ... 184

طلب العلم ... 189

الفقه في القرآن - المحاكاة - مجالسة العلماء والحكماء وأصحاب التجارب

ص: 292

أنواع العلوم ... 192

فضيلة العلم ... 193

آفة العلم ... 195

فضل العلماء - فضيلة التعلم والتعليم ... 197

أسلوب التعليم ... 200

حق العالم على المتعلم ... 201

أنواع التربية

أولاً: التربية الاجتماعية ... 203

الأسرة وأثرها في إعداد الانسان ... 203

موقف الامام من الأسرة ... 205

روابط الأسرة ... 206

سياسة الأسرة ... 213

سياسة الأصحاب والأعداء ... 217

سياسة الجار ... 219

ثانياً: التربية الدينية والأخلاقية ... 220

معنى حسن الخلق ... 223

طرق التهذيب المسلكي ... 225

معرفة أخلاق النفس ... 226

علامات حسن الخلق ... 227

الخصال المذمومة ... 238

ثالثاً: التربية السياسية ... 243

السياسة كما رسمها الامام علي ... 243

مبادىء الحكم العلوي - الحرية - المساواة - العدالة الاجتماعية ... 244

مهام السلطة ... 249

جباية الخراج ... 249

جهاد العدو ... 251

صلاح حال الرعية ... 257

عمارة البلاد ... 264

رابعاً: في الوطنية ... 264

ص: 293

خامساً: في القضاء ... 266

التربية عند المعتزلة ... 269

الخاتمة ... 277

فهرس المراجع ... 283

ص: 294

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.