سليمان صالح الخراشي، 1430 ه -
فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر
الملاح، محمود محمد
تشريح شرح نهج البلاغة / محمود محمد الملاح؛ سليمان صالح الخراشي. - الرياض، 1430 ه -
256 ص، 17 * 24 سم
ردمك: 5 - 3070 - 00 - 603 - 978
1 - النثر العربي - عصر صدر الاسلام 2 - الخطابة العربية 3 - البلاغة العربية أ، الخراشي، سليمان صالح (محقق) ب، العنوان
دیوي 2، 819
4918 / 1430
رقم الإيداع: 1430/4918
ردمك: 5 - 3070 - 00 - 603 - 978
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى
1430ه - - 2009م
الاهتمام بتراث أهل البيت
الرياض هاتف 014111222
تلفون: 4111222
E - mail: dar_alaal@hotmail.com
محرر رقمي : سيد محمد علي حسيني
ص: 1
تشريح شرح
نهج البلاغة
لابن أبي الحديد
ص: 2
بسم الله الرحمن الرحیم
ص: 3
محمود الملاح
تشريح شرح
نهج البلاغة
لابن أبي الحديد
ص: 4
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).
أما بعد؛ فإن كتاب نهج البلاغة من الكتب الشهيرة التي حازت المحل الرفيع عند الشيعة؛ لاحتوائه - في زعمهم - على خطب علي علیه السلام، وهو من هو عندهم غلوّا وتقديسًا، ولذا فقد بالغوا في الحفاوة ب - «النهج»، حتى قال قائلهم: إن الشيعة على كثرة فرقهم واختلافها متفقون متسالمون على أن ما في نهج البلاغة هو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام، اعتمادًا على رواية الشريف ودرايته ووثاقته حتى كاد أن يكون إنكار نسبته إليه علیه السلام عندهم من إنكار الضروريات وجحد البديهيات، اللهم إلا شاذا منهم، وأن جميع الخطب والكتب والوصايا والحكم والآداب حاله كحال ما يُروى عن
ص: 5
النبي صلی الله علیه و آله و سلم (1) وقال إمامهم الخميني في وصاياه: «نحن فخورون أن كتاب نهج البلاغة الذي هو أعظم دستور للحياة المادية والمعنوية بعد القرآن، وأسمى كتاب لتحرير البشر وتعاليمه المعنوية والحكومية، وأرقى نهج للنجاة هو من إمامنا المعصوم» (2).
ولهذا؛ فقد توالت على الكتاب شروحات الشيعة كما سيأتي، إلا أن أشهر شرح له كان من نصيب ابن أبي الحديد حيث نفق سوقه عند الطرفين أهل السنة والشيعة؛ لتذبذبه بين المذهبين كما سيأتي، مما جعله يأتي هؤلاء بوجه، وأولئك بوجه فكان كالشاة العائرة بين الفئتين.
ص: 6
وهذا التذبذب منه دعا أحد كتاب السنة إلى تشريح جزء مهم من شرحه، بنقد ما فيه من تجاوزات أو تعرض لثلة من صحابة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وأعني به: الأستاذ محمود الملاح رحمه الله في رسالته تشريح شرح نهج البلاغة التي أقوم بتحقيقها، وبعثها من جديد لعالم المطبوعات؛ لأن طبعتها الأولى (عام 1374ه) قد اندثرت، حتى من المكتبات العامة (1)، ولأنها متعلقة بشرح شهير لا يزال يُعاد طبعه مرارًا (2).
وقد قدمت قبلها ثلاثه مباحث:
1 - التعريف بكتاب «نهج البلاغة»، وتحقيق نسبته لعلي علیه السلام
2 - ترجمة ابن أبي الحديد وأبرز المآخذ على شرحه
3 - ترجمة الأستاذ محمود الملاح، وحديث عن منهجه في التشريح» (3).
منبها إلى أنني أتبع هوامش الأستاذ الملاح الله بقولي (منه).
أسأل الله أن ينفع بهذا الجهد، وأن يوفقنا جميعا لصالح القول والعمل،وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
كتبه سليمان بن صالح الخراشي
Alkarashilرحمه اللهhotmail.com.
ص: 7
كتاب نهج البلاغة عبارة عن مجموعة أقوال وخطب، جمعها الشريف الرضي الشيعي، المتوفى عام 406 للهجرة، ونسبها إلى علي علیه السلام، وقد قسم كلام علي ثلاثة أقسام: الخطب والكتب والحكم، مضيفًا إليه كلما - اقتضى الأمر - توضيحات مختصرة، وقد احتوى على 241 خطبة، و 79 كتابًا، و 480،حكمة، تتابع الشراح لاسيما الشيعة على شرحها، والاحتفاء بها، ومن أهم شروحها وأشهرها: شرح ابن أبي الحديد – كما سبق.
وقد بين العلماء والمحققون كذب نسبة الكتاب لعلي، وأثبتوا بطلانها، وهذه أبرز أقوالهم:
1 - قال ابن خلكان وهو من أوائل من شكك في نسبة الكتاب عند ترجمته للشريف المرتضى: وقد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام، هل هو جمعه، أم أخيه الرضي؟ (1) وقد قيل: إنه ليس من كلام علي، وإنما الذي جمعه جمع ونسبه إليه هو الذي وضعه (2).
ص: 8
2 - وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: « ... وأيضًا؛ فأكثر الخطب التي ينقلها صاحب «نهج البلاغة» كذب علي علي،وعلي علیه السلام له أجل وأعلى قدرًا أن يتكلم بذلك الكلام، ولكن هؤلاء وضعوا أكاذيب وظنوا أنها مدح؛ صدق ولا هي مدح ومن قال: إن كلام عليّ وغيره من البشر فوق كلام المخلوق؛ فقد أخطأ، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم فوق كلامه، وكلاهما مخلوق ...
وأيضًا؛ فالمعاني الصحيحة التي توجد في كلام علي موجودة في كلام غیره، لكن صاحب «نهج البلاغة» وأمثاله أخذوا كثيرًا من كلام الناس فجعلوه من كلام علي، ومنه ما يُحكى عن عليّ أنه تكلّم به، ومنه ما هو كلام حق يليق به أن يتكلم به، ولكن هو في نفس الأمر من كلام غيره.
ولهذا؛ يوجد في كلام البيان والتبيين للجاحظ وغيره من الكتب كلام منقول عن غير عليّ، وصاحب نهج البلاغة يجعله عن علي.
وهذه الخطب المنقولة في كتاب نهج البلاغة لو كانت كلها عن عليّ من کلامه؛ لكانت موجودة قبل هذا المصنّف منقولة عن عليّ بالأسانيد،وغيرها، فإذا عَرَف من له خبرة بالمنقولات أن كثيرًا منها، بل أكثرها، لا يُعرف قبل هذا؛ عُلم أن هذا كذب وإلا؛ فليبين الناقل لها في أي كتاب ذكر ذلك، ومن الذي نقله عن عليّ، وما إسناده؟ وإلا؛ فالدعوى المجردة لا يعجز عنها أحد.
ومن كان له خبرة بمعرفة طريقة أهل الحديث ومعرفة الآثار والمنقول بالأسانيد وتبين صدقها من كذبها؛ عَلِم أن هؤلاء الذين ينقلون مثل هذا عن
ص: 9
عليّ من أبعد الناس عن المنقولات والتمييز بين صدقها وكذبها» (1).
3 - وقال المقبلي: أخرج البخاري عن علي علیه السلام؛ أنه قال: اقضوا كما كنتم تقضون؛ فإني أكره الخلاف، حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي قال: وكان ابن سيرين يرى عامة ما يروون عن علي علیه السلام كذبًا، وصدق ابن سيرين علیه السلام؛ فإن كل قلب سليم، وعقل غير زائغ عن الطريق القويم ولب تدرب في مقاصد سالكي الصراط المستقيم؛ يشهد بكذب كثير مما في «نهج البلاغة»، الذي صار عند الشيعة عديل كتاب الله بمجرد الهوى الذي أصاب كل عرق منهم ومفصل، وليتهم سلكوا مسلك جلاميد الناس وأوصلوا ذلك إلى علي برواية تسوغ عند الناس، وجادلوا عن رواتها، ولكن؛ لم يبلغوا بها،مصنفها، حتى لقد سألت في الزيدية إمامهم الأعظم وغيره؛ فلم يبلغوا بها الرضي الرافضي، ولو بلغوه لم ينفعهم؛ فإن مذهب الإمامية تكفير من لم يكن على مذهبهم كفرًا صريحًا لا تأويلا» (2).
4 - وقال الشيخ محمد العربي التباني تحت عنوان: «نسبة نهج البلاغة» الحيدرة دعوى باطلة بعشرة أوجه ما نصه: فجزمه بأنه ليس من شك عند من أدباء هذا العصر ولا عند أحد ممن تقدمهم في أن أكثر ما تضمنه من كلام أمير المؤمنين علي؛ دعوى طويلة عريضة تحتاج في تدعيمها إلى إثبات ذلك عن كل واحد من أدباء العصر، وعن كل واحد ممن تقدمهم من الأدباء،وقد نقضها باستدراكه،وترجيه وبالصفدي وغيره من كتاب التراجم، على.
ص: 10
أنها لو أثبتها عن جميع الأدباء المتقدمين والمتأخرين باطلة بعشرة أوجه:
الأول: عدم نقد العلماء الذين جاؤوا من بعد الشريف المرتضى إلى عصرنا ل - نهج البلاغة لا يكون حجة على صحة نسبته لحيدرة - رضي الله تعالى عنه عند العقلاء.
الثاني: عدم نقدهم له مفرع عن اطلاعهم كلهم عليه في هذه القرون العديدة، وإقرارهم نسبته لعلي - رضي الله تعالى عنه، واطلاعهم كلهم في هذه القرون العديدة، وإقرارهم له مستحيل عادة، وإن جاز عقلًا.
الثالث: اتفاقهم كلهم على صحة نسبته لحيدرة على فرض اطلاعهم ليس بحجة أيضًا؛ لأنه بلا أسانيد توصل مؤلفه بحيدرة.
الرابع: الخوارج والرافضة والمعتزلة أبعد أهل الإسلام عن الرواية، وأجهلهم بها، وأعداهم لها ولحملتها؛ فالخوارج والرافضة لتضييقهم دين الإسلام وحصره فيهم؛ بتكفير الخوارج لجل الصحابة ماعدا الشيخين وجماعة قليلة والأمة الإسلامية كلها والرافضة للصحابة كلهم ماعدا عليا وأولاده والأمة الإسلامية كلها والمعتزلة لجعلهم العقل أصلا والنقل فرعًا تابعًا مؤكدًا له؛ لذلك يزدرون أهل السنة والجماعة ويلقبونهم بالحشوية.
وعليه؛ فالخامس الشريف المرتضى ليس من أهل الرواية؛ لأنه رافضي إمامي معتزلي بين وفاته ووفاة جده علي بن أبي طالب أربع مئة سنة إلا أربعا.
السادس: على تقدير أنه من أهلها، فبينه وبين حيدرة على أقل تقدير سبع
ص: 11
طبقات من الرواة، وقد حذفهم وقطع كتابه منهم.
وكل ما لم يتصل بحال *** إسناده منقطع الأوصال
فمجرد قوله فيه: من خطبة له علیه السلام، من كلام له علیه السلام؛ لا يدل على مطلق نسبته لحيدرة ولو نسبة ضعيفة عند أهل الرواية، فضلا عن كونها صحيحة.
السابع: لو فرض أن لكل ما يتعلق فيه بسب الصحافة والتعريض بهم سندًا بحيدرة؛ لوجب البحث فيه عن أحوال رجاله واحدًا واحدًا على طريق متصلا فن الرواية.
الثامن: إذا قطع النظر عن هذه الأوجه؛ يكفي في بطلانه أمران ظاهران: النيل من أعراض سادات الصحابة الخلفاء الراشدين تصريحًا وتعريضًا، والسجع المتكلف الظاهر التوليد الذي تنبو عنه فصاحة الصحابة والهاشميين، ولقد كان من واجب إمامه محمد عبده عند المتغالين فيه في كل فن (وخاصة في اللغة) (والكتابة) ألا يخفى عليه هذا السجع المصطنع، الذي يجزم كل من له إلمام باللغة العربية بأنه بعيد من فصاحة الصحابة السليقية، ولأجله؛ جزم الصفدي والأدباء العصريون الذين عبر عنهم الأستاذ الدين بصيغة الإبهام بأنه من وضع الشريف المرتضى في قوله:
«ولكن بعض المعروفين من أدباء عصرنا يميلون إلى أن بعض ما في الكتاب من خطب ورسائل لم يصدر عن غير الشريف الرضي جامع الكتاب»، وجل الكتاب خطب ورسائل؛ فليست بعضًا كما قال!
التاسع: ليس السب تصريحًا وتلويحًا وتعريضًا، والهمز واللمز من أخلاق عامة المؤمنين، فضلا عن ساداتهم الصحابة رضوان الله تعالى عليهم
ص: 12
أجمعين، فضلا عن سادات الصحابة؛ مثل حيدرة - رضي الله تعالى عنه؛ فصدور ما في «نهج البلاغة» من ذلك عنه مستحيل؛ لأنه منابذ لما وصفه الله به مع جميع الصحابة في كتابه العزيز من الأخلاق العالية، وقد ثبت عنه التاريخ القطعي والظني احترامه لجميع الصحابة؛ وخصوصًا الشيخين.
العاشر: «قال الذهبي في ميزان الاعتدال» (1): علي بن الحسين العلوي الحسيني، المتوفى عام 436، الشريف المرتضى المتكلم الرافضي المعتزلي، وهو المتهم بوضع كتاب نهج البلاغة، ومن طالع كتابه «نهج البلاغة» جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي علیه السلام، ففيه السب الصراح والحط على السيدين أبي بكر وعمر علیه السلام، وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة بنَفَس القرشيين الصحابة وبنفس غيرهم ممن بعدهم من المتأخرين جزم بأن الكتاب أكثره باطل وأيده الحافظ ابن «لسانه» (2) (3)
5 - وقال الأستاذ محمود شاكر رحمه الله: «كتاب نهج البلاغة» هو مجموع أقوال وخطب جمعها الشريف الرضي المولود سنة 359 من الهجرة، والمتوفى سنة 406 من الهجرة أو جمعها أخوه الشريف المرتضى المولود سنة 355 من الهجرة والمتوفى سنة 436 من الهجرة، ونسب ما فيه إلى أمير المؤمنين علي علیه السلام الذي توفي سنة 40 من الهجرة. ومعنى ذلك أن بين جمع.
ص: 13
هذه الأقوال وبين وفاة علي علیه السلام نحو أربعة قرون. وهذه الأقوال لم يروها الرضي أو أخوه المرتضى بإسناد متصل ينتهي إلى علي.
فكيف نثق بهذه الرواية المرسلة بلا إسناد صحيح، مع المتطاولة التي تفصل بين علي أمير المؤمنين وبين جامع هذه الأقوال؟.
وأنا أستطيع أن أؤكد لصديقي الكريم (1) أن النظرة الأولى إلى جملة ما في الكتاب من الكلام تقطع بأن كثرته الكاثرة لم تجر على لسان علي علیه السلام إلا أقل من العشر. فإذا كانت النسخة التي طبعها الشيخ محمد عبده، تقع في نحو 400 صفحة، فلا يكاد يصح منها إلا أقل من أربعين صفحة. وهذا القدر المنسوب إلى علي، يكاد يكون كله في السنوات الأخيرة من حياته، منذ بالخلافة لخمس ليال بقين من ذي الحجة سنة 36 من الهجرة، إلى أن قُتِل علیه السلام السبع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة 40 من الهجرة، أي في أقل من أربع سنوات، وهذا أمر لا يكاد يُصدّق أن يكون قيل كله في هذه الفترة القصيرة من الفتنة والاضطراب، وأن يكون الرواة قد استطاعوا أن يجيدوا روايته في هذه الفترة من الفتنة والاضطراب. هذا فضلا عما في أقوال لا يليق صدورها عن رجل مثل عليّ في دينه وعلمه وتقواه.
ودليل آخر، فإن هذا الكتاب نهج البلاغة فيه من غريب ألفاظ اللغة قدر كبير جدًا، وقد أفرد علماء الأمة كتبًا تُسمى كتب الغريب عنيت بتفسير غريب ما في حديث رسول الله رحمه الله، وغريب ما روي عن كبار الصحابة. فمن.
ص: 14
ذلك مثلا كتاب «الغريب» لأبي عبيد القاسم بن سلام (توفي سنة 224 من الهجرة). فإن شرح حديث أمير المؤمنين عمر رضی الله عنهما يقع في نحو مئتي صفحة من المطبوع، ويقع شرح حديث أمير المؤمنين علي علیه السلام في خمسين من المطبوع، أي أن حديث علي فيه ربع حديث عمر. حديث عمر. فإن صحت نسبة ما في نهج البلاغة إلى علي لكان شرح غريبه من اللغة، يقع في أضعاف أضعاف ما روي عن عمر على الأقل. ومعنى ذلك أن علماء الأمة الذين تتبعوا شواهد اللغة قبل مولد الشريف الرضي أو أخيه المرتضى، لم يقفوا على هذا القدر المفرط الموجود في نهج البلاغة، ولو كان تحت أيديهم هذا القدر، لما أغفلوه البتة. وهناك أدلة أخرى على بطلان نسبة ما في مثل هذا الكتاب إلى أمير المؤمنين.
و حسبی هنا أن أختم القول في نهج البلاغة بذكر ما قاله الحافظ الذهبي (673 - 748 ه)، حيث ذكر الشريف المرتضى، فقال: وهو المتهم بوضع كتاب نهج البلاغة وله مشاركة قوية في العلوم ومن طالع كتابه «نهج البلاغة جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين ففيه السب الصراح والحط على أبي بكر وعمر رضی الله عنهما، وفيه من التناقض، ومن الأشياء الركيكة، والعبارات التي من كان له معرفة بنفس القرشيين من الصحابة، وبنفس غيرهم من المتأخرين جزم بأن أكثره باطل. وهذا أهون ما يقال في هذا الكتاب.
6 - ومن أجود الدراسات التي حققت أمر نهج البلاغة: رسالة الدكتور صبري إبراهيم عن الكتاب، حيث أثبت بطلان نسبته لعلي علیه السلام، وكشف عن مصادره بما لا مزيد عليه.
ص: 15
قال الأستاذ عبد السلام هارون رحمه الله في تقديمه لهذه الدراسة المميزة (1): إنها قضية ذات كتاب أو كتاب ذو قضية. فكتابنا هذا نهج البلاغة» يعدّ في طليعة أمهات كتب الأدب العربي، ولا تكاد مكتبة أديب حفي بالتراث العربي تخلو من الظفر به أو اقتنائه.
وكنا إلى الأمس القريب في ريبتين اثنتين منه: أولاهما: من هو صانع هذا الكتاب؟ أهو الشريف الرضي، أم هو أخوه المرتضى؟ والأخرى: مدى صحة هذا الحشد الهائل من الخطب والرسائل والحِكَم، أو بعبارة أدق ما مدى توثيق هذا الكم الضخم ونسبته إلى الإمام علي علیه السلام؟ ومن ذا الذي يقضي في هذه المسائل؟ فإن كثيرين من علماء القرن السادس الهجري يزعمون أن معظم هذه النصوص لا يصح إسناده إلى الخليفة الإمام، وإنما هو صناعة قوم من فصحاء الشيعة صنعوه ليزيدوا الناس يقينًا بما عرفوه من فصاحة الإمام،واقتداره مع أن فصاحة وبلاغة وسمو بيانه لا تحتاج إلى دليل أو تفتقر إلى برهان وزعموا أيضًا أن الشريف الرضي أو غيره من الشيعة نظموا أنفسهم في سلك هؤلاء الأقوام.
وقالوا: إنه مما يحيي هذا الشك ويقويه ما اشتمل عليه هذا الكتاب من تعريض بالصحابة في غير ما موضع وإن السجع والصناعة اللفظية تظهر في كثير من جوانبه على خلاف المعهود في نتاج هذا العصر النبوي.
وقالوا: إن فيه من دقة الوصف وغرابة التصوير ما لم يكن معروفًا في آثار 7)
ص: 16
الصدر الأول الإسلامي، كما أنه يطوي في جنباته كثيرا من المصطلحات التي لم يتداولها الناس إلا بعد أن شاعت علوم الحكمة، كالأين والكيف إلى ما فيه من لغات علم الكلام وأبحاث الرؤية الإلهية، والعدل، وكلام الخالق، وما لم يكن معهودًا كذلك من التقسيمات الرياضية ذات النظام.
وقالوا: إن الكتاب مشتمل على ادعاء المعرفة بالغيبيات، وهو الأمر الذي يجل قدر الإمام علي بن أبي طالب وإيمانه الصريح الخالص عن التلبس به أو اصطناعه.
كما أن في الكتاب تكرارًا للمقاطع بالتطويل تارة وبالإيجاز أخرى، وأن كثيرًا من نصوصه لم يظهر فيما أثر من كتب الأدب والتاريخ التي صنعت قبل الشريف الرضي أو أخيه، وأن به تطويلا يتجاوز حد الغلو في بعض نصوصه، كعهده إلى الأشتر النخعي، دع عنك ما يسري فيه من مظاهر التشيع المذهبي والتعصب الشيعي التي يعلو قدر الإمام عنها.
وأمر آخر يريب: وهو أن جامع هذه النصوص لم يسجل في صدر كتابه أو أثنائه شيئًا من مصادر التوثيق والرواية، كما هو المألوف في أمثال هذه الكتب التي يُنظر إليها بعين خاصة.
هذه كلها شبهات،تعلو ومسائل تطفو، تحمل الباحث على كثير من التأمل، وطويل من الدرس شبهات ومسائل كانت تحيك في صدر كل دارس لهذا الكتاب الخالد ويوّد لو أن قد تفرّغ لدراستها من يزيل عنها تلك الأوضار، ليظهر من بينها يقين التحقيق.
لهذا كلّه كانت غبطتي بهذا البحث الذي تولاه باحث أعرف فيه الدقة
ص: 17
والصبر، وأعرف فيه خلّة التأني جلية واضحة هي الغبطة الصادقة.
فقد استطاع الدكتور صبري يحقق نسبة الكتاب إلى الشريف الرضى بما لا يدع مجالا للشك.
ثم تمكن من تحقيق نسبة النصوص في هذا الكتاب بمختلف ضروبها من خطب ورسائل وحكم إلى أصحابها، ومن بينها ما صحت نسبته إلى الإمام علي في جملتها وتفصيلها، أو في تفصيلها فقط دون جملتها. وهذا أمر يحدث للمرة الأولى بين الباحثين في هذا الكتاب بهذا الأسلوب المنهجي الفريد.
وقد أوضحت نتيجة البحث أن نصوصًا خاصة من أحاديث الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم، أو أقوال المسيح علیه السلام، ولاسيما في مجال الحكم، قد نسبت إلى الإمام، وأن مأثورات من أقوال الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، ومنهم عمر بن الخطاب وعبدالله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان قد عزيت إلى الإمام إلى ما ثبت أنه للإمام الرضا أو الباقر، أو الصادق، أو علي بن الحسين بن علي، أو زين العابدين بن علي بن الحسين، بل تجاوز الأمر هذه العهود إلى عهود متأخرة، كالخليفة المأمون!».
قال الدكتور صبري إبراهيم (1): لقد حظيت مأثورات الإمام علي علیه السلام بالكثير من الجهود؛ سواء من القدماء أو المحدثين، فتوفروا على جمعها وتدوينها، بيد أن جل هذه المحاولات وقفت عند حدود الجمع والشرح، أو بيان معاني بعض المفردات ولم يتعد ما فعلوه ذلك ...
ص: 18
إذا عرفنا أن بعض هذه النصوص قد جُمعت ودونت بعد قرون عدة من وفاة صاحبها وجب علينا أن نقوم بتمحيصها - تحقيقا وتوثيقا - خاصة إذا، تداولتها أيدٍ كثيرة، وشاب أفكارها وأساليبها بعض التحريف أو التزييف.
فها هو الشريف الرضي (ت 406 ه) يجمع كلام جده الإمام في كتاب (يتضمن محاسن ما نُقل عنه من الكلام القصير في المواعظ والحكم والأمثال والآداب دون الخطب الطويلة والكتب المبسوطة)، ويذكر في مقدمته لكتابه نهج البلاغة أنه (ربما جاء في أثناء هذا الاختيار اللفظ المردد والمعنى المكرر)، ويعترف أن روايات كلامه تختلف اختلافًا شديدًا، فربما اتفق الكلام المختار في رواية فنقل على وجهة ثم وجد بعد ذلك في رواية أخرى موضوعًا غير وضعه الأول، إما بزيادة مختارة أو بلفظ أحسن عبارة، فتقتضي الحال أن يعاد استظهارًا للاختيار، وغيرة على عقائل الكلام، وربما بعد العهد أيضًا بما اختير أولا فأُعيد بعضه سهوًا أو نسيانًا، لا قصدًا واعتمادًا).
إضافة إلى ذلك تعرّض الكتاب لكثير من النقد والتجريح، خاصة وأنه قد مرّت أربعة قرون حتى دوّنت النصوص التي يحتويها.
من هنا نشأت ضرورة تحقيق الكتاب وتوثيق نصوصه تحقيقا علميًا دقيقًا، يعوّل على اعتماد الروايات التاريخية الموثوقة، ودراسة الأساليب اللغوية الواردة.
ثم قال: قال: نهج البلاغة هو الكتاب الذي يضم مجموعة ما وصل إلينا من الخطب والمواعظ والوصايا والرسائل والأقوال المأثورة التي تروي للإمام علي علیه السلام
ص: 19
وقد ثار الجدل حول مؤلف هذا الكتاب كما ثار الجدل حول النصوص الواردة فيه ومدى صحة نسبتها إلى الإمام علي:
من مؤلف نهج البلاغة؟
نسبة جمع هذا الكتاب إلى الشريف الرضي هو ما يشيع بين جمهور المتأدبين قديمًا وحديثًا، غير أن هذا الأمر قد دار حوله الجدل، فيرى بعض العلماء أن الذي جمع «نهج البلاغة» ليس أبا الحسن محمد بن الحسين بن موسى الموسوي الشيعي المعروف بالشريف الرضي (ت406ه - )، وإنما هو أخوة أبو القاسم علي بن الحين المعروف بالشرف المرتضى (ت 436 ه) (1). يقول ابن خلكان (ت 681 ه): وقد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع في كلام الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام، هل هو جمعه (يعني الشريف المرتضى) أم جمع أخيه الرضي (2). وجاء الذهبي (ت748 ه) وابن حجر العسقلاني (ت 852 ه) من بعده فجزمًا بأن واضع الكتاب هو الشريف المرتضى، حيث قالا عنه: وهو المتهم بوضع كتاب نهج البلاغة (3). ويكاد لا يختلف عن قول ابن خلكان هذا أقوال ابن الأثير الجزري في مختصر الوفيات (4)، وصلاح الدين الصفدي في الوافي بالوفيات(5)، 1)
ص: 20
والعلامة اليافعي في مرآة الجنان (1)، وابن العماد في شذرات الذهب (2).
ومن المحدثين من تأثر بهذا الرأي، وقال،به مثل جورجي زيدان، حيث قال إن الإمام علي قد جمعت خطبه في كتاب نهج البلاغة، جمعها الشريف المرتضى المتوفى سنة 436 ه) (3).
ومن الدراسات الحديثة التي تناولت هذا الموضوع: بحث قام به الأستاذ «امتياز علي عرشي» جعل عنوانه استناد نهج البلاغة» (4). أثبت فيه أن جامع نهج البلاغة هو الشريف الرضي، لا المرتضى: فقد بدأ الباحث بدراسة كتب التراجم التي عاصر مؤلفوها الأخوين: الشريف الرضي والشريف المرتضى وذكروهما في كتبهم، وهي:
1 - يتيمة الدهر، وتتمة يتيمة الدهر لأبي منصور الثعالبي (ت429 ه).
2 - كتاب الرجال للنجاشي (ت450 ه).
3 - كتاب الفهرست لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي ت (460ه).
4 - تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (ت 463ه).
ويلاحظ الباحث أن الطوسي لم يذكر الشريف الرضي بتاتا، كما لا يذكر.
ص: 21
نهج البلاغة في ترجمة الشريف المرتضى ولا يعده من مؤلفاته، وأن الثعالبي والخطيب البغدادي قد ذكرا الأخوين كليهما، لكنهما لم يذكرا شيئًا عن نهج البلاغة. أما النجاشي فذكرهما ومؤلفاتهما، وذهب إلى أن مؤلف نهج البلاغة هو الشريف الرضي (1). ولا يخفى ما لشهادة النجاشي والطوسي من أهمية حتى نستطيع أن نعتمد عليها، ونجعلها قولا فصلًا. غير أن الباحث يذكر شواهد أخرى داخلية وخارجية - كما يقول هو - إيضاحًا للحقيقة وقضاء على جميع الملتبسات والموهمات وهذه هي الشواهد التي (2)،
أوردها في بحثه الدليل الأول: قال المؤلف في خطبة الكتاب: «فإني كنت في عنفوان السن وغضاضة الغصن ابتدأت بتأليف كتاب في خصائص الأئمة علیها السلام، يشتمل على محاسن أخبارهم وجواهر كلامهم حداني عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب وجعلته إمام الكلام وفرغت من الخصائص التي تخص أمير المؤمنين عليا علیه السلام، وعاقت عن إتمام بقية الكتاب محاجزات الزمان ومماطلات الأيام. وكنت قد بوبت ما خرج من ذلك أبوابا، وفصلته فصولا، فجاء في آخرها فصل يتضمن محاسن ما نُقل عنه علیه السلام من الكلام القصير في الحكم والأمثال والآداب، دون الخطب الطويلة والكتب المبسوطة؛ فاستحسن جماعة من الأصدقاء والإخوان ما اشتمل عليه الفصل المقدَّم ذكره معجبين ببدائعه ومتعجبين من نواصعه وسألوني عند ذلك أن أبدأ)
ص: 22
بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام في جميع فنونه ومتشعبات غصونه، من خطب وكتب ومواعظ وآداب (1).
ويظهر من كلامه هذا أن جامع نهج البلاغة جمعه بعد تأليف كتابه«خصائص الأئمة»، ويؤيده ما قال الجامع في شرحه للخطبة العشرين «قد نبهنا في كتاب الخصائص على عظم قدرها وشرف جوهرها» (2). ويؤيده ما ذهب إليه النجاشي حيث عدّ كتاب الخصائص من مؤلفات الشريف الرضي (3). وأقوى الدلائل على ذلك العبارات الواردة في الكتاب نفسه، ففي شرح قول أمير المؤمنين: «قيمة كل امرئ ما يحسنه»، قال السيد الرضي أبو الحسن علیه السلام: وهذه الحكمة التي لا قيمة لها ولا كلام يوزن بها» (4).
هذا إلى جانب ما ورد في صفحات أخرى حيث يقول: «قال الشريف الرضي علیه السلام مما ينص على أن مؤلف الكتاب هو الشريف الرضي، وفي خاتمة الكتاب أضيفت كلمة «ذو الحسبين» إلى اسم المؤلف ولقبه وكنيته.
فإذا ثبت أن مؤلف الخصائص الشريف الرضي ثبت كذلك أنه مؤلف نهج البلاغة.
الدليل الثاني: ذكر النجاشي وغيره من المؤرخين أن الشريف الرضي له.
ص: 23
مؤلف آخر في تفسير القرآن موسوم به «حقائق التنزيل»، وقد أباده الحدثان إلا مجلدًا خامسًا طبع في النجف سنة 1355 ه - 1927م، فلنلاحظ ما جاء في الصفحة 167 من هذا التفسير: «من أراد أن يعلم برهان ما أشرنا إليه من ذلك، فلينعم النظر في كتابنا الذي ألفناه ووسمنها بنهج البلاغة، وجعلناه يشتمل على مختار جميع الواقع إلينا من كلام أمير المؤمنين علیه السلام، في جمیع الأنحاء والأغراض والأجناس والأنواع، من خطب وكتب ومواعظ وحكم، وبوبناه أبوابًا ثلاثة؛ ليشتمل على هذه الأقسام مميزة مفصلة».
ولا خفاء في أن العبارة المذكورة لا تشير إلا إلى نهج البلاغة الذي نحن بصدده
(الدليل الثالث): يعد النجاشي وغيره كتاب مجازات الآثار النبوية من مؤلفات الشريف الرضي، ونجد في نسخته المطبوعة ما نصه: «يبين ذلك قول أمير المؤمنين علي علیه السلام في كلام له تخففوا تلحقوا»، وقد ذكرنا ذلك في كتابنا الموسوم بنهج البلاغة الذي أوردنا فيه مختار جميع كلامه» (1). وفي صفحة أخرى نجد ما نصه: ومثل ذلك قول أمير المؤمنين علي علیه السلام: «من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة»، وقد ذكرنا ذلك في كتابنا الموسوم بنهج البلاغة» (2).
وربما أنه لا خلاف في أن مؤلف المجازات هو الشريف الرضي.
ص: 24
ويجدر بنا أن نذكر أن المؤلف يشير في نهج البلاغة أيضًا إلى كتابه المجازات حيث يقول: وقد تكلمنا على هذه الاستعارة في كتابنا الموسوم بمجازات الآثار النبوية (1). ويريد المؤلف من الاستعارة المشار إليها: قول أمير المؤمنين: العين وكاء السه الوارد في كتابه مجازات الآثار النبوية ص 187، وفوق ذلك كله ما نجده بين عباراتهما في هذا المحل من تماثل وتقارب، الأمر الذي لا يدعنا نتخيل أن الكتابين لمؤلفين، لا لمؤلف واحد.
(الدليل الرابع) نجد في بعض نسخ نهج البلاغة أن الشرح يبدأ باسم الرضي، ونجد تارة بعد تارة قوله: «قال الرضي، أو قال الرضي أبو الحسن»، وجميع النسخ خالية من ذكر المرتضى، فلو كان هو المؤلف، فما الداعي لذكر الرضي؟.
(الدليل الخامس) يبلغ عدد شروح نهج البلاغة بالعربية والفارسية ما ينيف على أربعين، وأجمع الشراح الذين تلي أسماؤهم على أن الكتاب من تأليف الرضي:
1 - شرح نهج البلاغة للسيد علي بن ناصر العلوي الموسوم بإعلام نهج البلاغة وكما يظهر من مراجعة كشف الحجب كان الشارح من معاصري مؤلف نهج البلاغة، ويقول الشارح في الورقة 19 ب يشرح كلمة (ملطاط): قال السيد الأجل الرضي رضی الله عنهما: يعني بالملطاط السمت الذي أوهم بلزومه». ونجد هذا الشرح نفسه في نهج البلاغة» (2)، الأمر الذي يدل على أن مؤلف الكتاب هو الشريف الرضي لا غير ...
ص: 25
26
2 - شرح قطب الدين أبي الحسين سعيد بن هبة الله بن الحسن الراوندي ت (573 ه) - المعروف بمناهج البراعة. ذكره صاحب روضات الجنات (ص 301) وكشف الحجب (ص 365).
3 - شرح الشيخ أبي الحسن (أو الحسن أبي القاسم زيد بن محمد بن علي البيهقي النيسابوري المعروف بفريد «خراسان». وكان الشارح أفقه عصره وأبدع المتكلمين، وأستاذًا لابن شهراشوب المازندراني مؤلف مناقب آل طالب وقد توفى عام 588 ه، وتوجد للشرح نسخة عند الشيخ محمد صالح بن الشيخ أحمد آل طعان القطيفي البحريني، تدل على أن الشارح قرأ نهج البلاغة سنة 516 ه على حسين بن يعقوب، وقرأ يعقوب على الشيخ جعفر، وقرأ الشيخ جعفر على الشيخ الرضى نفسه واستجازه. فهذا السند الآخر يدل على أن المؤلف هو الشريف الرضى.
4 - شرح ابن أبي الحديد المعتزلي (ت 655 ه) الذي نسب المتن في خطبة الشرح إلى الشريف الرضي، وفصل الكلام على حياته، كما ذكر اسم الرضي غير مرة.
5 - شرح ابن ميثم البحراني (ت (679 ه الذي يرى أن نهج البلاغة تأليف الشريف الرضي.
6 - شرح النفائس المؤلف سنة 759ه - ، ولم يُعرف اسم مؤلفه.
7 - شرح كمال الدين عبدالرحمن بن محمد بن إبراهيم العتائقي الحلي، المؤلف سنة 770 ه.
ص: 26
ويبدو أن نسبة كتاب نهج البلاغة إلى الشريف المرتضى أخي الرضي منشوءة أن الشريف الرضي كان يلقب بالمرتضى أحيانًا، لأن جده إبراهيم المرتضى ابن الإمام موسى بن جعفر، كما أن أخاه المرتضى كان يلقب بذلك، ثم بقي هذا اللقب على هذا، ولقب الأول بالرضى يوم رضوا به نقيبًا على نقباء العلويين؛ ليتميز عن بقية آل المرتضى (1).
وإذا ثبت نسبة نهج البلاغة إلى الشريف الرضى، فما مدى صحة نسبة النصوص الواردة فيه إلى الإمام علي؟
كانت نسبة ما في «نهج البلاغة» إلى الإمام علي مثارًا للشك عند العلماء والباحثين المتقدمين والمتأخرين على مر العصور، كما ثار الجدل حول النصوص ذاتها التي خواها الكتاب. فكثير من علماء القرن السادس الهجري كانوا يزعمون أن معظم ما في نهج البلاغة لا يصح إسناده إلى علي بن أبي،طالب وإنما ألفه قوم من فصحاء الشيعة من بينهم السيد الرضي.
ولعل ابن خلكان أول من أثار الشكوك في قلوب الباحثين بنسبته الكتاب إلى الشريف المرتضى تأليفا (2)، ثم جاء من بعده الصفدي وغيره من كتاب التراجم، فتابعوه على ذلك، وحينئذ قوى الشك وتمكن (3). يقول ابن.
ص: 27
خلكان وقد قيل إنه ليس من كلام علي وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه» (1)، ويقول الذهبي: ومن طالع كتابه (يعني نهج البلاغة) جزم (1)، بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي علیه السلام (2).
وأهم ما نجده من أسباب للشك في نسبة النصوص الواردة في كتاب نهج البلاغة عند القدماء والمحدثين ما يلي:
أولًا: أن في الكتاب من التعريض بصحابة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مالا يصح يُسلم صدوره عن مثل الإمام علي كما نراه في ثنايا الكتاب من سباب،معاوية وطلحة والزبير وعمرو بن العاص. يقول ابن احجر العسقلاني:
ففيه السب الصراح والحط على السيدين أبي بكر وعمر رضی الله عنهما (3). فنجد في نهج البلاغة موقفين مختلفين: موقفًا يتجلى فيه النبل وكرم الخلق، وموقفًا فيه عصبية شديدة، فبينما نرى في نهج البلاغة هذه الخطبة، وقد سمع قوما من أصحابه يسبون أهل الشام: إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتهم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به نرى فيه أمثال هذه الأقوال: ما يدريك ما علي مما لي؟ عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين حائك ابن حائك، منافق ابن كافر، والله.
ص: 28
لقد أسرك الكفر مرة والإسلام أخرى ...»، وذكر الإمام علي يوما عمرو بن العاص، فقال: «عجبًا لابن النابغة يزعم لأهل الشام أن في دعابة ...»، وقال لرجل يومًا: يا ابن اللعين الأبتر، والشجرة التي لا أصل لها، ولا فرع ...». وإذا رجعنا البصر في أمثال هذه الشتائم، وجب أن نرفع عنها قدر». الإمام علي، وأن ننزه لسانه الكريم عن أن ينطق بها (1). وأكثر من ذلك أن بعض الخطب؛ كالخطبة المعروفة بالشقشقية تتناول الخلفاء قبله بما لا يليق به ولا بهم، وتنافي ما عُرف عنه من التوقير لهم، وتنضح بحقد دفين لا يمكن يعشش في صدر شرحه الله للإيمان وملأه بالحكمة والبيان، ويكفي في تفنيد ذلك رثاء علي لأبي بكر وهو باك مسترجع (2).كذلك فإن عليا كان إلى جانب أبي بكر في حروب الردة وكان علي من جنوده المخلصين، حتى لقد وكل إليه قيادة فرقة الأنقاب مع الزبير وابن مسعود وهي الفرقة التي كانت مهمتها حراسة الطرق المفتوحة الموصلة إلى العاصمة ضد غارات المرتدين كذلك فإن عليًا بايع فيما بعد لعمر بن الخطاب ووقف إلى جانب عمر، وصاهره عمر فتزوج أم كلثوم ابنة علي من فاطمة، وعمر هو التالي لأبي بكر، وخليفة المسلمين من بعده، فلا يُعقل أن يمتنع عن بيعة أبي بكر، ويُبايع لعمر الذي هو أدنى منزلة وقدرًا من أبي بكر، كذلك فإن عليا كان ملازمًا للخلفاء الثلاثة السابقين عليه فبايع عثمان كما بايع لصاحبيه من قبل، بل إنه كان أطوع لعثمان من بنائه في الوقت الذي باعده البعيد والقريب، وثارت.
ص: 29
عليه أمصار الدولة ولامته عائشة أم المؤمنين، ولكن عليا لم يخذل عثمان ولم يُعن عليه، بل صدقه إذ كذبه الناس، ودافع عنه إذ تركه معاوية نفسه (1).
ويبدو أن اشتداد التشيّع لعلي أعمى شيعته عن حق السلف الصالح، فقالوا فيهم ما لا يقبله عقل ولا يؤيده،تاريخ وظنوا أن مكانة علي لا ترتفع إلا بالحط من قيم هؤلاء حطا لا يقبله،منصف، ولا يرضى به على نفسه، وأغلب هذا النوع لا يتناول من كلام على الخطبة فالخطبة، وإنما يأتي من هؤلاء دسا في كلام مثبوت الرواية معروف للقدماء؛ حتى يجوز على العقول، ويصعب فيه التمييز، مثل الذي أودع خطبته الشقشقية من تنقيص للخلفاء الثلاثة وتهجي، كأن يقول عن الصديق له الله: «أما والله لقد تقمصها فلان، وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل ولا يرقى إليَّ الطير»، إلى أن يتمثل بقول الأعشى بعد قوله عن أبي بكر أيضًا: «فأدلى بها إلى فلان بعده يقصد عمر رضی الله عنهما.
شتان ما يومي على كورها *** ويوم حيان أخي جاب
ثم يقول - يقصدهما - : «فيا عجبًا، بينا هو يستقبلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشد ما تشطرا،ضرعيها فصيّراها في حوزة خشناء، يغلظ كلامها ويخشن مسها، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة، إن أشنق لها خدم وإن أسلس لها تقحم، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس وتلون واعتراض»، وكان يقول في رجال الشورى الذين عهد).
ص: 30
إليهم عمر باختيار الخليفة بعده: فصغى رجل منهم لضغنه ومال الآخر لصهره مع هن وهن»، يقصد بالأول سعد بن أبي وقاص، وبالثاني عبدالرحمن بن أبي بكر ويقصد بالصهر عثمان الذي يقول فيه: «إلى أن قام ثالث القوم، نافجًا حضنيه بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث عليه قتله، وأجهز عليه عمله، وكتب به بطنته، فمثل هذه المعاني لا تتفق وسيرة علي مع الخلفاء، ولا تتلاءم مع ما أثر عنه فيهم من أقوال (1). ويبدو أن الرضي استهواه أن يجمع آثار جده، فجمع كل ما قاله وما عزاه إليه الرواة، دون أن يعنى بتمييز الصحيح من الزائف، وإن كنا نكبر الرضي أن يقوم على هذا العمل الشنيع فيفتري على جده الأكاذيب ما له في نفسه من المكانة السنية، فيأتي بالعقوق في صورة البر (2).
ثانيًا: أن فيه من السجع والتنميق اللفظي وآثار الصنعة ما لم يعهده عصر علي، ولا عرفه، وإنما ذلك شيء طرأ على العربية بعد العصر الجاهلي وصدر الإسلام وافتتن به أدباء العصر العباسي والشريف الرضي جاء من بعد ذلك على ما ألفوه، فصنف الكتاب على نهجهم وطريقتهم (3)، وكأن الشريف الرضي وجد مادة صاغ منها كتابه وهي مادة بنيت على السجع، ذلك نفسه ما يدل على كذب نسبتها إلى علي إذ ليس من الطبيعي أن.
ص: 31
يسجع علي في خطابته، بينما ينهي الرسول الكريم عن السجع، ويتحاماه أبوبكر وعمر وعثمان في خطابتهم(1) والحق أن الخلفاء لم يسجعوا، ولكنهم اعتمدوا على فنون أخرى من الصقل والتجويد (2).
ثالثًا: أن فيه من دقة الوصف واستفراغ صفات الموصوف، وإحكام الفكرة وبلوغ النهاية في التدقيق؛ كما تراه في الخفاش والطاووس والنملة والجرادة، وكل ذلك لم يتلفت إليه علماء الصدر الأول ولا أدباؤه وشعراؤه، وإنما عرفه العرب بعد تعريب كتب اليونان والفرس الأدبية والحكمية (3).
رابعا: أن فيه بعض الألفاظ الاصطلاحية التي عُرفت في علوم الحكمة من بعد؛ كالأين والكيف ونحوهما، وكذلك استعمال الطريقة العددية في شرح المسائل، وفي تقسيمات الفضائل والرذائل مثل قوله: «الاستغفار على ستة،معانٍ، والإيمان على أربع دعائم ... (4)، والكلام على الأضداد والطبائع.) والعدم والحدود والصفات والموصوفات (5)، وورود بعض الألفاظ التي تدست فيما نقله عن المتكلمين وأصحاب المقولات، من نحو قولهم: المحسوسات) و (الكل والبعض) وقولهم: (الصفات الذاتية والجسمانيات) وقولهم: (أما أولا فالحال كذا، ونحو ذلك مما يأباه الفصيح من الألفاظ،.
ص: 32
والسليم من الأساليب وقد اعتذر عن ذلك ابن أبي الحديد نفسه بقوله: أستهجنا تبديل ألفاظهم وتغيير عباراتهم، فمن كلم قومًا كلمهم باصطلاحهم، ومن دخل ظفار حمّر» (1).
كذلك تميز الروح الصوفي بما كنفه من فلسفة متجليا، وأسلوب علم الكلام بما وضع له من مصطلحات،باديًا مما لم يعرف عنهما إلا في العصر العباسي، حيث تقدمت هذه العلوم فوضعت أصولها، وفرعت فروعها، وهذا يظهر في بعض خطبه ظهورًا بارزا، كما في خطبة بدء الخلق(2). ويتصل بذلك ما فيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة بنفس القرشيين الصحابة، وبنفس غيرهم من بعدهم من المتأخرين، جزم الكتاب أكثره باطل (3)، وما فيه من خطب طوال يظهر عليها الصنع، ويتخللها آراء إسكندرانية لم يكن العرب قد عرفوها بعد في أيام الإمام علي (4).
ويبدو أن من هذا القبيل ما نراه مثبتا في الكتاب من إسناد كل فضل وكل علم إلى علي بن أبي طالب، إما مباشرة وإما بواسطة ذريته، فعلم المعتزلة من أن واصل بن عطاء - رأس المعتزلة - تلقى العلم عن أبي هاشم عبدالله بن محمد الحنفية، وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذ علي، وأبو حنيفة أخذ العلم عن جعفر الصادق، ومالك بن أنس قرأ على ربيعة الرأي،.
ص: 33
وقرأ ربيعة على عكرمة، وعكرمة على عبدالله بن عباس، وعبدالله قرأ على علي، وبهذه الطريقة يُنسب فقه الشافعي إلى الإمام علي، لأنه تلميذ مالك، بل فقه عمر بن الخطاب يرجع إلى علي، لأنه كان يرجع إليه فيما أشكل من المسائل، وكان يقول: لولا علي لهلك عمر وتفسير القرآن أخذ أكثره عن عبدالله بن عباس، وهو أخذه عن علي، فقد قيل لابن عباس: أين علمك من، علم ابن عمك؟ فقال: كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط، والتصوّف منسوب إليه، وقد نسبه إليه الشبلي والجنيد والسري وأبو يزيد البسطامي، وينسبون الخرقة التي هي شعارهم إليه، وأبو الأسود شعارهم إليه، وأبو الأسود الدؤلي واضع علم النحو أخذه عن علي فقد أملى عليه: الكلام كله ثلاثة أشياء، اسم وفعل و حرف»، وعلمه تقسيم الاسم إلى معرفة ونكرة وتقسيم الإعراب إلى الرفع والنصب والجر والجزم وعلى الجملة؛ فليس هناك من علم إلا وأصله علي بن أبي طالب، كأن العقول كلها أجدبت وأصيبت بالعقم، إلا علي بن أبي طالب وذريته وعلي علیه السلام من ذلك براء (1).
خامسًا: أن في عبارات الكتاب ما يشم منه ريح ادعاء صاحبه علم الغيب وهذا أمر يجل عن مثله مقام علي، ومن كان على شاكلة علي ممن حضر عهد الرسالة ورأى نور النبوة (2). كما رووا له من المعجزات والعلم بالمغيبات الشيء الكثير، وقالوا إنه كان يعلم كل شيء سيكون، ووضعوا على لسانه ما جاء في نهج البلاغة: اسألوني قبل أن تفقدوني، فوالذي نفسي.
ص: 34
بيده لا تسألونني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مائة، وتضل مائة إلا أنبئكم بناعقها وقائدها،وسائقها ومناخ ركابها، ومحط رحالها، ومن يُقتل من أهلها قتلا ومن يموت منهم موتا ...»، ورووا له أنه أخبر بقتل الحسين وأخبر بكربلاء، وأخبر بالحجاج، وأخبر بالخوارج ومصيرهم، وبني أمية وملكهم، وأخبر ببني بويه وأيام دولتهم، وأخبر عبدالله بن عباس بانتقال الأمر إلى أولاده فإنه لما ولد لعبدالله بن عباس ابنه علي؛ أخرجه أبوه إلى علي بن أبي طالب فأخذه وتفل في فمه وحنكه بتمرة، قد لاكها، ودفعه إليه، وقال: خذ إليك - أبا الأملاك». هذه الأخبار وأمثالها انتشرت بين الشيعة حتى ليكادون يذكرون أنه أخبر بما كان وما، سيكون إلى يوم الدين كل هذا إذا ضممناه إلى أن أكثر شيعة علي كانوا في العراق، وكانوا من عناصر متنوعة والعراق من قديم منبع الديانات المختلفة والمذاهب الغريبة، وقد سادت فيهم من قبل تعاليم ماني ومزدك وابن ديصان، ومنهم نصارى ويهود سمعوا المذاهب المختلفة في حلول الله بعض الناس، كل هذه الأمور جعلت منهم من يؤله عليا (1).
سادسا: أن في خُطبه مقاطع طويلة وقصيرة تروى على وجهين مختلفين، يتفقان في المعنى، ولكن يختلفان في اللفظ (2).
سابعا: أن الكتب الأدبية والتاريخية التي ظهرت قبل الشريف الرضي
ص: 35
تخلو من كثير مما في نهج البلاغة (1).
ثامنا: أن الكلام في النهج يطول إلى حد لم يُؤلف في هذا الوقت، وذلك (2).كما في عهد الأشتر النخعي. والمعروف عن علي التوسط، إن لم يكن الإيجاز، فقد ذكر صاحب النهج عهده إلى الأشتر في خمس عشر ورقة!! وهذه كمية لم تعرف ولا شيء منها عن علي في عهد من العهود حتى إلى من لم يكونوا كالأشتر محل ثقته منه في معرفتهم للأمور، وخبرتهم بالأيام، واعتقاده ذلك فيهم وهذا محمد بن أبي بكر الذي يقول فيه للأشتر حين استقدمه ليوليه مصر مكانه وكنت وليت محمد بن أبي بكر مصر، فخرجت عليه بها،خوارج، وهو غلام حدث ليس بذي تجربة للحرب ولا بمجرب للأشياء»، لم يزد في عهده إليه حين ولاه مع حاجته إلى المزيد على عشرة سطور، كما رواه الطبري، وعلى ورقة ونصفها كما هو ثابت ببعض زيادات في النهج، فكيف يكون عهده إلى الأشتر الذي يعتقد فيه ما يعتقد، مما ليس معه في حاجة إلى إيصاء، بالغا من الطول المبلغ الذي ذكرنا وما بالنا إذا أضفنا إلى ذلك أن الطبري حين تكلم على تولية الأشتر، لم يذكر من علي له عهدًا، فإن عليا لم يك منه للأشتر سوى قوله: «ليس لها غيرك، اخرج رحمك الله فإني لم أوصك اكتفيت برأيك، واستعذ بالله على ما أهمك الشدة حين يغني عنك إلا فا خلط الشدة باللين وارفق أبلغ واعتزم الشدة الشدة، ثم بعث معه بكتابه إلى أهل مصر وهو كتاب موجز ذكره الطبري)
ص: 36
أيضًا، ولعل قائلًا:يقول: إن الطبري ربما استطال العهد فترك إثباته، ولكن ذلك لا يتفق مع عادته في إثبات الطوال فقد أثبت عهد طاهر بن الحسين لابنه عبدالله حين ولاه المأمون الرقة،ومصر، وهو باسق الطول، ولعلنا لا نخرج إذا قلنا: إن عهد الأشتر صنع على احتذاء هذا العهد، ولكن غير جازمين في ذلك أن الذي صاغه الشريف الرضى، إذ يجوز أن يكون قد صاغه غيره من الشيعة قبل وأثبته هو على أنه لعلي، وإنما قلنا ذلك عن العهدين لأنهما فوق تقارب الأسلوب فيهما، جاءت معانيهما واحدة متسقة، وروح العصر الذي كان فيه المأمون، حيث تنوعت قواعد السياسة العربية، ودخلها ما لم يكن فيها مما كان للأمم المتحضرة القديمة، وبخاصة الفرس (1).
ويدخل في ذلك كثرة الخطب وتعذر الحفظ والضبط في أمثالها (1)، خاصة وأن الشريف الرضى قد فرغ من جمعه بعد مقتل علي بزهاء أربعة قرون (2)،بالإضافة إلى تعذر وجود وسائل الكتابة، وإعواز القرطاس (3).
تاسعًا: أن ما في الكتاب من خطب كثيرة ورسائل متعددة قد اختلقه الشريف الرضي لاغراض مذهبية شيعية (4)، وأن التشيع ربما قد زين له قبول.
ص: 37
هذا النتاج الوفير، وتدوينه دون تمحيص، وقد سره أن يُنسب لجده الإمام هذا الميراث الضخم من عيون الآثار والحكمة مع أنه لو نظر لتردد، ولكشف أن بعضًا مما أُضيف إلى أمير المؤمنين لا يشرفه أن يُنسب إليه، ولا يزيد في قدره أن يكون من قوله (1).
عاشرا: أن الشريف الرضي لم يذكر في صدر كتابه المصادر التي رجع إليها، أو الشيوخ الذين نقل عنهم (2). هذا مجمل ما يحيط بنهج البلاغة من شبهات» (3).
أخيرًا، قال الدكتور صبري إبراهيم (4) وإذا كان بعض هؤلاء ممن.
ص: 38
ينتسبون إلى مذهب الشيعة قد وصل به الأمر إلى الكذب على الله تعالى والخوض في آياته، أفلا نتصور بعد هذا أن يكون البعض قد خاض أيضًا في خطب علي، فضم إليها ما ليس له؟ ولماذا لا نجد مثل هذه الخطب إلا كتب الشيعة والمتأخرين منهم، ولا نجد لها ذكرًا في كتب السنة؟ ولماذا لم نعثر على كثير من هذه الخطب في بطون الكتب الأدبية المعروفة؟ ومن العجب أن نرى كل هذا الكم من خطب علي وأقواله، بينما لا نرى مثل هذا يحدث لأحد من الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان مثلا!).
قلت: ومما يُضاف للدلالة على بطلان نسبة نهج البلاغة لعلي ماورد فيه من عبارات عقدية مُحدَثة لم تُعرف إلا متأخرًا عن أهل الكلام والاعتزال. قال الشيخ صالح الفوزان في رده على أحد الأدباء(1): «ومن المطاعن على كتاب نهج البلاغة مما لم يذكره الدكتور: ما فيه من الاعتزال في الصفات؛ لأن الرافضة اعتمدوا على كتب المعتزلة في العقليات، فوافقوهم في القدر وسلب الصفات، وكان المرتضى واضع كتاب «نهج «البلاغة أو المشارك في وضعه - كما أسلفنا - معتزليا، بل قال عنه ابن حزم: إنه من كبار المعتزلة الدعاة؛ كما نقله عنه الذهبي في الميزان». ومن هذا المشرب الكدِر حُشي نهج البلاغة.
وإليك نماذج من ذلك:
ففي الجزء الأول (ص8) يقول: وكمال الإخلاص له: نفي الصفات.
ص: 39
عنه؛ لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير ومن الصفة، فمن وصف الله سبحانه؛ فقد قرنه، ومن قرنه؛ فقد ثناه، ثناه؛ فقد جزاه، ومن جزأه؛ فقد جهله ومن جهله؛ فقد أشار إليه، ومن أشار إليه؛ فقد حدَّه، ومَن حدّه؛ فقد عده، ومن قال: فيم؟ فقد ضمنه، ومن قال: علام؟ فقد أخلى منه».
وفي الجزء الثاني (ص 145 - 147) - يقول: ولا يوصف بشيء من الأجزاء، ولا بالجوارح والأعضاء» ...
إلى أن قال:
«وليس في الأشياء بوالج، ولا عنها،بخارج، يُخبر لا بلسان ولهوات، ويسمع، لا بخروق وأدوات، يقول ولا يتلفظ، يقول لمن أراد كونه كن فيكون لا بصوت يقرع، ولا بنداء يسمع، وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثَّلَه، ولم يكن من قبل ذلك، ولو كان قديما؛ كان إلها ثانیا».
إلى أن قال:
هو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته، وهو الباطن لها بعلمه ومعرفته، والعالي على كل شيء منها بجلاله وعزته».
انتهى ما أردنا نقله من هذا الهذيان الذي ينزه الله عنه، مما يطابق الله اعتقاد الجهمية والمعتزلة.
فيا عباد الله يا أصحاب العقول يا أهل الإيمان هل ترون - بربكم - أن أمير المؤمنين عليا بن أبي طالب - رضي الله عنه وأرضاه - تكلّم بهذا
ص: 40
الكلام في حق الله؟! اللهم لا وألف لا»
شروح نهج البلاغة وطبعاته (1):
وأما شراح النهج فكثيرون منهم:
1 - أبو الحسن البيهقي (ت 588 ه)، الذي سمي شرحه «معارج نهج البلاغة».
2 - فخرالدين الرازي، إلا أنه لم يتمم،شرحه، كما صرح بذلك جمال الدين القفطي في تاريخ الحكماء.
3 - القطب الراوندي (ت 573 ه)، وسمى شرحه منهاج البراعة».
4 - القاضي عبدالجبار، وهو شرح مردد بين ثلاثة، لا يعلم من أي واحد منهم، إلا أنهم قريبون من عصر الطوسي.
5 - الحسن بن علي بن أحمد الماهاباوي شيخ الشيخ منتجب الدين صاحب الفهرست.
6 - أبو الحسن محمد بن الحسين بن الحسن البيهقي الكيدري، وسمى شرحه الإصباح»، فرغ من تأليفه سنة 576 ه.
7 - ابن أبي الحديد المعتزلي الذي وضع شرحًا للنهج، واختصره الفقيه سلطان محمود بن غلام علي الطبسي.
ص: 41
8 - كمال الدين بن ميثم البحراني (ت (679ه - )، الذي وضع شرحًا كبيرًا وشرحًا متوسطا وشرحًا صغيرًا.
9 - كمال الدين بن عبدالرحمن بن محمد بن إبراهيم العتائقي الحلي (ت 770ه).
10 - جلال الدين الحسين بن الخواجة شرف الدين عبد الحق الأردبيلي.
11 - بن شكر الله الكاشاني وضعه بالفارسية، وسماه «تنبيه الله فتح الغافلين وتذكرة العارفين»
12 - علي بن الحسن الزوارئي أستاذ المولى فتح الله المذكور.
13 - حسين بن شهاب الدين بن الحسين بن محمد بن الحسين بن الجميذر العاملي الكركي (ت 1077 ه).
14 - علي بن الناصر، الذي وضع شرحًا سماه «أعلام نهج البلاغة».
15 - نظام الدين الجيلاني، الذي وضع شرحًا سماه «أنوار الفصاحة».
16 - السيد ماجه البحراني، الذي وضع شرحًا لم يتمه.
17 - رضى الدين علي بن طاووس ره.
18 - جمال السالكين عبد الباقي الخطاط الصوفي التبريزي، المعروف بحسن الخط.
19 - عزالدين الآملي، كما ورد في الرياض
20 - السيد نعمة الله الجزائري.
ص: 42
21 - الأمير زا علاء الدين،كلستانه الذي وضع شرحًا سماه "بهجة الحدائق، وهو مختصر وله شرح آخر كبير يقرب من ثلاثين ألف بيت، إلا أنه ما جاوز من الخطبة الشقشقية إلا النزر اليسير.
22 - عبدالله بن السيد محمد رضا شبر الحسيني، وشرحه يقرب من أربعين ألف بيت.
23 - الأمير زا إبراهيم الخوئي.
24 - الشيخ محمد عبده.
25 - حبيب الله بن محمد بن هاشم الهاشمي العلوي الموسوي ألفه سنة 1303 ه.
26 - میراز محمد باقر النواب اللاهحي.
27 - محمد التقي بن الأمير مؤمن القزويني (ت 1270ه).
28 - جواد بن محرم علي الظارمي (ت 1325ه)
29 - حسن بن المطهر بن محمد بن الحسين الجرموزي اليماني (ت 1110ه) وهو المذكور في كتاب نسمة البحر.
30 - محمد الرفيع بن فرج الجيلاني (ت 1160ه).
31 - ذاكر الحسين اختر الهندي الدهلوي الذي سمّى شرحه نيرنلت فصاحت).
32 - محمد صالح بن محمد باقر الروغني، من أبناء المائة الحادية عشرة.
ص: 43
44
33 - محمد بن حبيب الدين أحمد الحسني الحسيني، الذي فرغ من شرحه عام 881 ه.
34 - يحيى بن حمزة العلوي، إمام الزيدية (ت 749ه - ) الذي وضع شرحًا مقتصرًا على حل الغريب.
35 - جهانكيز خان قشقائي.
36 - التفتازاني المولى سعد الدين.
37 - أحمد بن محمد الوبري من أعلام القرن الخامس.
38 - فخرالدین عبدالله بن المؤيد بالله الذي وضع تلخيصا لشرح ابن أبي الحديد سماه «العقد النضيد المستخرج من شرح ابن أبي الحديد».
39 - وهناك شروح أخرى؛ منها: بلاغ المنهج» - «منهاج الولاية»، (وهو شرح وزع خطب النهج على ثلاثة أقسام: الأول في التوحيد وأصول الدين، والثاني في المواعظ والعبادات والثالث في الأخلاق)، وشرح مختصر جامع للجمل المفيدة من شروح النهج القديمة، موجود في الخزانة الرضوية بمشهد طوس - وشرح مزجي موجود في الخزانة الحسينية بمشهد العزى، النجف (1) ...
ص: 44
أما طبعات كتاب «نهج البلاغة»، فقد طُبع في مصر وغيرها طبعات عدة،من أهمها:
(1) نهج البلاغة: شرح محمد عبده تحقيق محمد محيي الدین عبدالحميد المكتبة التجارية - مصر - بدون تاريخ.
(2) نهج البلاغة: طبعة عبد العزيز سيد الأهل، مكتبة الأندلس - بيروت - 1374ه - / 1954م.
(3) نهج البلاغة: طبعة محي الدين الخياط بيروت - بدون تاريخ.
(4) نهج البلاغة: شرح ابن ميثم البحراني المطبعة الحيدرية - طهران - 1378 ه.
(5) نهج البلاغة: شرح ابن أبي الحديد تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، مكتبة عيسى الحلبي - مصر - 1383 ه - 1963م.
(6) نهج البلاغة طبعة د. صبحي الصالح دار الكتاب اللبناني - بيروت - 1387ه - 1967م.
(7) نهج البلاغة: تحقيق وتعليق محمد أحمد عاشور - محمد إبراهيم.
علمنا - سابقا - مدى اهتمام واحتفاء الشيعة بكتاب: نهج البلاغة»، والسبب كما هو واضح أنهم يرون فيه ما يخدم معتقدهم في قضية أحقية علي علیه السلام الله بالخلافة قبل الخلفاء الراشدين وقضية الطعن بالصحابة علیه السلام، كما في
ص: 45
الخطبة الشقشقية، وسيأتي الحديث عنها - إن شاء الله - ، ولكن يُثار هنا تساؤل؛ وهو عن مدى التزام الشيعة بهذا الكتاب ماداموا قد أثبتوه ووثقوه؟ وهذا مما يلزمهم حتما، أما أخذ ما يخدمهم منه بالتشهي، وترك ما يتعارض مع معتقداتهم؛ فهذا تناقض شابهوا فيه من وبخهم الله بقوله: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)؟
ولهذا؛ فقد قام بعض الباحثين الفضلاء (1) بإلزام الشيعة ببعض ما في نهج البلاغة مما يُخالف معتقداتهم الباطلة سواءً في الإمامة، أو العصمة، أو الصحابة، ومن ذلك:
1 - يعتقد الشيعة أن هناك نصًا إلهيًا على إمامة علي علیه السلام، ومع في نهج البلاغة قوله حينما دعوه إلى البيعة بعد مقتل عثمان رضی الله عنهما: «دعوني والتمسوا غيري فإنا مستقبلون أمرًا له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول ... - إلى أن قال ... إلى أن قال - وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه،أمركم، وأنا لكم وزيرا خير لكم مني أميرا» (2).
وقال - أيضًا - مخاطبًا طلحة والزبير: والله ما كانت لي في: الخلافة.
ص: 46
رغبة، ولا في الولاية،إربة ولكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها (1).
وقال في وصف بيعته بالخلافة وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها، ثم تداككتم علي. الهيم على حياضها يوم وردها» (2). فهذا الوصف منه يدل على أنه كان يتمنعها حتى لم يجد بدا من قبول بيعتهم له، ولو كان هناك نص إلهي هل يفعل هذا؟
2 - كان علي - علیه السلام - كما في «النهج» مطيعا لأبي بكر رضی الله عنهما، ممتثلاً لأوامره؛ فقد حدث أن وفدا من الكفار جاءوا إلى المدينة المنورة، ورأوا بالمسلمين ضعفًا وقلة لذهابهم إلى الجهات المختلفة للجهاد واستئصال شأفة المرتدين والبغاة، فأحس منهم الصديق خطرًا على عاصمة الإسلام والمسلمين: فأمر الصديق بحراسة المدينة، وجعل الحرس على أنقابها يبيتون بالجيوش، وأمر عليا والزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود أن يرأسوا هؤلاء الحرائر، وبقوا كذلك حتى أمنوا منهم (3).
- نجد في «النهج» ثناء علي علیه السلام على أبي بكر وعمر وعثمان رضی الله عنهما و تعبيره عن حبه لهم؛ ففيه أن عمر بن الخطاب رضی الله عنهما لما استشار عليا علیه السلام عند انطلاقه لقتال فارس وقد جمعوا للقتال أجابه: إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة وهو دين الله تعالى الذي أظهره، وجنده.
ص: 47
الذي أعده وأمده حتى بلغ،مابلغ وطلع حيثما طلع، ونحن على موعد من الله تعالى حيث قال عز اسمه (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا) وتلى الآية، والله تعالى منجز وعده وناصر جنده ومكان القيم بالأمر في الإسلام مكان النظام من الخرز، فإن انقطع النظام تفرق الخرز، ورُب متفرق لم يجتمع، والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهم كثيرون،بالإسلام عزيزون بالاجتماع، فكن قطبًا، واستدر الرحى بالعرب وأصلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انقضت عليك من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك، إن الأعاجم إن ينظروا إليك غدًا يقولوا: هذا أصل العرب فإذا قطعتموه،استرحتم، فيكون ذلك أشد لكليهم عليك وطمعهم فيك، فأما ماذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين؛ فإن الله (سبحانه و تعالی) وهو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة» (1). انتهى فتدبر - منصفا. هذا الثناء والحب والخوف على عمر من علي رضی الله عنهما، وأين هذا ممن يكفر عمر رضی الله عنهما ويسبه؟!
وأيضًا؛ ففي النهج لما استشار عمر بن الخطاب عليا - رضي الله عنهما - في الخروج إلى غزوة الروم، قال: وقد توكل الله لهذا الدين بإعزاز الحوزة، وستر العورة والذي نصرهم وهم قليل لا ينتصرون، ومنعهم وهم قليل لا يمتنعون، حي لا يموت، إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك، فتلقهم فتنكب لاتكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم ليس بعدك مرجع.
ص: 48
يرجعون إليه فابعث إليهم رجلًا،مجربًا واحفز معه أهل البلاء والنصيحة فإن أظهر الله؛ فذاك ما تحب وإن كانت الأخرى، كنت ردءًا للناس ومثابة للمسلمين» (1).
وفيه: أن عليا علیه السلام بعث كتابًا إلى معاوية رضی الله عنهما، فيه: إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إمامًا كان ذلك لله،رضى، فإن خرج منهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه؛ فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى» (2).
فهنا يستدل رضی الله عنهما على صحة خلافته وانعقاد بيعته بصحة بيعة من سبقه، وهذا يعني بوضوح أنه كان يعتقد شرعية خلافة أبي بكر وعمر وعثمان.
وفى النهج - أيضًا - قوله: «لله بلاء فلان (3)، لقد قوّم الأود (4)، وداوى.
ص: 49
العمد (1)،وأقام السنة، وخلف البدعة وذهب نقي الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها واتقى شرها أدى لله طاعة واتقاه بحقه، رحل وتركهم في طرق متشعبة لا يهتدي إليها الضال ولا يستيقن المهتدي (2). وقد حذف الرضي صاحب النهج لفظ (أبي بكر أو عمر)! وأثبت بدله (فلان)!!، ولهذا الإبهام المتعمد اختلف الشراح؛ فقال بعضهم: هو أبو بكر، وقال آخرون: هو عمر.
وقد احتار الشيعة في هذا النص، لأنه في نهج البلاغة، وما في النهج عندهم قطعي الثبوت، كما سبق فحملوا هذا الكلام على التقية!! وأنه إنما أراد استصلاح من يعتقد صحة خلافة الشيخين واستجلاب قلوبهم بمثل هذا الكلام» (3)!!
أي أنه رضی الله عنهما - في زعمهم - أظهر خلاف ما يُبطن!
ونحن نقول: حاشاه من هذا النفاق، وهو الذي لا يخاف في الله لومة لائم.
وجاء في النهج: قوله لعثمان رضی الله عنهما له: «والله ما أدري ما أقول لك؟ ما أعرف شيئا،تجهله ولا أدلك على أمر لا تعرفه إنك لتعلم ما نعلم ما سبقناك إلى شيئ فنخبرك عنه ولا خلونا بشيء،فنبلغكه، وقد رأيت كما رأينا، وسمعت كما سمعنا، وصحبت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كما صحبنا، وما ابن قحافة ولا ابن.)
ص: 50
الخطاب بأولى لعمل الحق منك، وأنت أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشيجة رحم منهما، وقد نلت من صهره مالم ينا لا» (1).
فتأمل هذا المدح والثناء على عثمان، وقارنه بصنيع الشيعة. وقوله: وما ابن قحافة ولا ابن الخطاب بأولى لعمل الحق منك؛ شهادة منه بأن أبا بكر وعمر كانا على الحق وعملا به ...
وورد في في النهج خطبة لعلي رضی الله عنهما تدور حول مدح أصحاب النبي، قال فيها: «لقد رأيت أصحاب صلی الله علیه و آله و سلم فما أرى أحدًا يشبههم منكم، لقد كانوا يصبحون شعئًا غبراً، وقد باتوا سُجدًا،وقيامًا، يراوحون بين جباههم ويقبضون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأن بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم، إذا ذكر الله هملت أعينهم؛ حتى ابتلت جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف؛ خوفًا من العقاب ورجاء للثواب (2).
وقال - أيضًا - في مدحهم: أين القوم الذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه وقرأو القرآن،فأحكموه وهيجوا إلى القتال فَوَلِهُوا وَلَهَ اللقاح إلى أولادها، وسلبوا السيوف،أغمادها وأخذوا بأطراف الأرض زحفا زحفًا، وصفا، بعض هلك، وبعضُ نجا لا يبشرون بالأحياء، ولا يعزون بالموتى، مر العيون من البكاء، خُمص البطون من الصيام، دبل الشفاه من الدعاء، صُفر الألوان من السهر على وجوههم غبرة الخاشعين، أولئك إخواني.
ص: 51
الذاهبون فحق لنا أن نظمأ إليهم ونعض الأيدي على فراقهم» (1).
4 - نجد في «نهج البلاغة» منع علي رضی الله عنهما لأصحابه عن السب والشتم والتكفير والتفسيق حتى لمقاتليه في حرب صفين، ففي خطبة بعنوان (ومن علیه السلام و قد سمع قوما من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم في
صفین):«إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم؛ حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به» (2).
وقال: «وكان بدء أمرنا أنا التقينا والقوم من أهل الشام، والظاهر أن ربنا،واحد ودعوتنا في الإسلام،واحدة ولا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله ولا يستزيدوننا والأمر،واحد، إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان، ونحن منه براء» (3).
5 - وردت عنه رضی الله عنهما نصوص يذم فيها الذين ادعوا التشيع له، وخالفوا أوامره منها قوله: «لو ددت أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم؛ فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلا منهم يا أهل الكوفة منيت منكم بثلاث واثنتين، صمٌ ذوو أسماع، وبكم ذوو كلام، وعمي ذوو إبصار» (4) ...
ص: 52
وقوله: «اللهم إني مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئمونى؛ فأبدلني بهم خيرًا منهم، وأبدلهم بي شرًا مني ...» (1).
وقوله يا أشباه الرجال ولا رجال! حلوم الأطفال، وعقول ربات الحجال، لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم معرفة - والله - جرَّت ندما، وأعقبت سقما، قاتلكم الله، لقد ملأتم قلي قيحا، وشحنتم صدري غيظا، وجرعتمونى نغب التّهمَام أنفاسًا، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان» (2).
6 - نجد في «النهج» أن عليا رضی الله عنهما ينهى عن الغلو الذي وقع فيه الشيعة، ولا زالوا ففيه وقال علي رضی الله عنهما بعد وفاة النبي صلی الله علیه و آله و سلم، مخاطبًا إياه: لولا: أنك أمرت بالصبر ونهيت عن الجزع؛ لأنفدنا عليك ماء الشؤون» (3). من الشؤونة؛ وهي منابع الدمع من الرأس.
وفيه أن عليّا الله قال: «من ضرب يده على فخذه عند مصيبته حبط أجره» (4).
وفيه قوله: وسيهلك في صنفان محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق، وخير الناس فيَّ النمط الأوسط، فالزموه، والزموا السواد الأعظم» (5) ...
ص: 53
7 - نجد في نهج البلاغة ما يخالف اعتقاد الشيعة في عصمة الأئمة؛ ذلك: قول علي رضی الله عنهما: «لا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي ولا التماس إعظام النفس بأنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن بحق، أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي»(1).
ونجده يوصي ابنه الحسن علیه السلام بقوله: « ... فإن أشكل عليك من ذلک فاحمله على جهالتك به، فإنك أول ما خلقت جاهلا ثم علمت وما أكثر ما تجهل من الأمر، ويتحير فيه رأيك، ويضل فيه بصرك؛ ثم تبصره بعد ذلك»(2).
فهو علیه السلام لا ينفي عن نفسه الخطأ، فكيف يقال بعصمته؟!
وكان علیه السلام يناجي ربه بهذا الدعاء: اللهم اغفر لي ما أنت أعلم به مني فإن عدت فعد علي بالمغفرة، اللهم اغفر لي ما وأيت – أي: وعدت - من نفسي ولم تجد له وفاء عندي، اللهم اغفر لي ما تقربت به إليك بلساني. خالفه قلبي اللهم اغفر لي رمزات الألحاظ وسقطات الألفاظ، وسهوات الجنان، وهفوات اللسان» (3).
8 - نجد في نهج البلاغة قول علي علیه السلام: «أوصيكم بتقوى الله الذي.
ص: 54
ألبسكم الرياش، وأسبغ عليكم المعاش، فلو أن أحدا يجد إلى البقاء سُلَّمَا أو لدفع الموت سبيلا؛ لكان ذلك سليمان بن داود (1). وفي هذا نقض لقول الشيعة: إن الأئمة يعلمون متى يموتون، وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم!
قلت: فهل سيعتد الشيعة - بعد هذا - بكتاب «نهج البلاغة»؟!(2)!
ص: 55
ترجمته (1):
قال ابن كثير في «البداية والنهاية» (2): «الشاعر العراقي، عبدالحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين أبو حامد بن أبي الحديد عز الدين المدائني، الكاتب الشاعر المطبق الشيعي الغالي له شرح نهج البلاغة في عشرين مجلدا ولد بالمدائن سنة ست وثمانين وخمسمائة، ثم صار إلى بغداد فكان أحد الكتاب والشعراء بالديوان الخليفتي، وكان حظيا عند
الوزير ابن العلقمي؛ لما بينهما من المناسبة والمقاربة والمشابهة التشيع ...». توفي في عام 656 ه).
ص: 56
وقال الخونساري: «هو عز الدين عبد الحميد بن أبي الحسن بن أبي الحديد المدائني» صاحب شرح نهج البلاغة، المشهور ... كان مولده في غرة ذي الحجة 586، من تصانيفه شرح نهج البلاغة عشرين مجلدا، صنفه لخزانة كتب الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي ولما فرغ من تصنيف أنفذه على يد أخيه موفق الدين أبي المعالي، فبعث له مائة ألف دينار، وخلعة سنية، وفرسًا (1).
وقال أبو الثناء الألوسي: وعندنا أن ابن أبي الحديد في بعض تلوناته وكان يتلون تلون الحرباء - كان من هذه الفرقة) (2). - أي الشيعة الغلاة.
مذهبه:
قال ابن كثير عنه كما سبق - : الكاتب الشاعر المطبق الشيعي الغالي و ووصفه الشيخ محمود شكري الألوسي - كما سيأتي - بأنه من غلاة الشيعة، والزركلي بأنه من أعيان المعتزلة، والشيخ صالح الفوزان ب - أنه شيعي(3) وقال صاحب رسالة الصلة بين الاعتزال والتشيع» (4): «معتزلي، ومن الشيعة؛ كما يدل عليه شعره في قصائده السبع العلويات»، وقال صاحب رسالة منهج المعتزلة في كتابة التاريخ ...» (5): من دعاة الاعتزال والرفض ...» ...
ص: 57
وقال الصفدي في ترجمته (1): عز الدين ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد ابن أبي الحديد عز الدين أبو حامد المدائني، المعتزلي»، ونقل من شعره:
وحقك لو أدخلتني النار قلت *** للذين بها قد كنت ممن يحبه
وأفنيت عمري في دقيق علومه *** وما بغيتي إلا رضاه وقربه
هبوني مسيئًا أوتغ الحلم جهله *** وأبقه دون البرية ذنبه
أما يقتضي شرع التكرم عفوه *** أيحسن أن ينسي هواه وحبه
أما رد زيغ ابن الخطيب وشكه *** وتمويهه في الدين إذ جل خطبه
أما كان ينوي الحق فيما يقوله *** ألم تنصر التوحيد والعدل كتبه
قال الصفدي: وقلت أنا ردًا عليه في وزنه ورويه:
علمنا بهذا القول أنك آخذ *** بقول اعتزال جل في الدين خطبه
فتزعم أن الله في الحشر ما يرى *** وذاك اعتقاد سوف يرديك غبه
وتنفي صفات الله وهي قديمة *** وقد أثبتتها عن إلهك كتبه
وتعتقد القرآن خلقًا ومحدنا *** وذلك داء عز في الناس طبه
وتُثبت للعبد الضعيف مشيئة *** يكون بها ما لم يقدره ربه
وأشياء من هذي الفضائح جمة *** فأيكما داعي الضلال وحزبه».
ص: 58
قلتُ: والصحيح - والله أعلم - أنه «معتزلي» المذهب؛ كما يُصرح - و سيأتي إن شاء الله - ، مع الوثة شيعية، ومداهنة لابن العلقمي وأمثاله من الروافض.
قال الأستاذ فهد السحيمي في مقدمة رسالته التي حقق بها كتاب الشيخ محمد أمين السويدي لله: «الصارم الحديد في عنق صاحب سلاسل الحديد الذي رد به على الرافضي يوسف الأوالي، صاحب كتاب:
سلاسل الحديد في تقييد ابن أبي الحديد»:
«إن الشروح لكتاب نهج البلاغة كثيرة جدًا حتى قيل إنها تزيد على الخمسين شرحًا ما بين مبسوط ومختصر، ولكن أطول هذه الشروح هو شرح ابن أبي الحديد لهذا الكتاب (1). وقد شرع في تأليف هذا الشرح سنة (644) وانتهى منه سنة (649)، وكان السبب في تأليفه رغبة الوزير ابن العلقمي في شرح نهج البلاغة شرحا وافيا (3) فشرحه ابن أبي الحديد كما أراد ابن العلقمي شرحا وافيًا، فلما فرغ من تصنيفه أنفذه على يد أخيه أبي المعالي موفق الدين إلى ابن العلقمي؛ فبعث إليه بمائة ألف دينار، وخلعة سنيّة و فرس، فقال ابن أبي الحديد فيه شعرا:
بال العلقمي ورّت زنادي *** فكم ثوب أنيق نلت منهم
أدام الله دولتهم وأنحى *** وقامت بين أهل الفضل سوقي
(1) مقدمة شرح نهج البلاغة لمحمد أبو الفضل إبراهيم.
(2) انظر: مقدمة شرحه (3/1 - 4).
(3) انظر روضات الجنان للخوانساري (20/5 - 21).
ص: 59
ونلتُ فما هي عتيق *** على أعدائهم بالخنفقيق (1) (2)
فما هی العلاقة بين هذين الرجلين ابن أبي الحديد وابن العلقمي؟
أجاب عن هذا التساؤل ابن كثير له عندما ترجم لابن أبي الحديد في كتابه البداية والنهاية إذ قال في ترجمته له:
« ... وكان حظيًا عند الوزير ابن العلقمي؛ لما بينهما من المناسبة والقرابة والمشابهة في التشيع ...»(3).
والذي يهمنا في هذه المناسبة: هو المشابهة في التشيع، فما هو حقيقة هذا الأمر بالنسبة للرجلين، ولماذا رد متأخر و الرافضة الإمامية في كتبهم على ابن أبي الحديد مع وجود هذه المشابهة التي ذكرها ابن كثير آنفًا؟ إن هذا الأمر لا يتجلى إلا بذكر العقيدة التي كان عليها الرجلان، فنبدأ بابن العلقمي أولا فنذكر ما ذكره العالمان الجليلان الذهبي في السير، وابن كثير في البداية والنهاية:
ذكر الذهبي في السير عند ترجمته لابن العلقمي أنه هو:
«الوزير الكبير المدبر المبير، مؤيد الدين محمد بن محمد بن علي بن أبي طالب بن العلقمي البغدادي الرافضي ... وزير المستعصم، وكانت دولته أربع عشرة سنة، فأفشى الرفض، فعارضه،السنة وأكبت فتنمر، ورأى أن.
ص: 60
هولاكو على قصد،العراق، فكاتبه وجسّره وقوى عزمه على قصد العراق ليتخذ عنده يدا، وليتمكن من أغراضه، وحفر للأمة قليبًا، فأُوقع فيه قريبًا وذاق الهوان ... فمات غبنًا، وفي الآخرة أشد خزيًا وأشد تنكيلا.
وبُذل السيف في بغداد (39) نهارًا حتى جرت سيول الدماء، وبقيت البلدة كأمس الذاهب، فإنا لله وإنا إليه راجعون وعاش ابن العلقمي بعد الكائنة ثلاثة أشهر وهلك» (1).
وقال ابن كثير في ترجمته:
«وكان رافضيًا خبيئًا رديء الطوية على الإسلام وأهله ... ثم مالأ على الإسلام وأهله، الكفار هولاكو خان حتى فعل بالإسلام ما فعل، ثم حصل له بعد ذلك من الإهانة والذل على أيدي التتار الذين مالأهم، وزال عنه ستر الله وذاق الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ...، وله من العمر (63) سنة، ودفن في قبور الروافض» (2).
إذًا؛ فهذا معتقد ابن العلقمي، فهو رافضي خبيث مالأ الكفار على المسلمين، وهذا هو منهج الروافض في كل عصر تكون لهم شوكة فيه.
هذا هو ابن العلقمي فما هو الشبه بينه وبين ابن أبي الحديد؟ قال ابن كثير عنه هو: ... الكاتب الشاعر المطبق الشيعي الغالي. (3) ...
ص: 61
وعندما نتأمل في قصائده السبع التي قالها في علي بن أبي طالب نرى أحقية ما قاله ابن كثير فيه، فالقصائد السبع فيها من الغلو ما لا يرضاه الله ولا رسوله فقد غلا فيها غلوّا يصعب وصفه، وسيذكر بعضه السويدي (1).
ولكن هنا سؤال مهم: هل ابن أبي الحديد شيعي رافضي، أم أنه شيعي تفضيلي؟.
يقول الذهبي في السير:
فإن العز معتزلي أجارنا الله»(2).
وفي ذلك يقول ابن أبي الحديد:
أحب الاعتزال وناصريه *** فأهل العدل والتوحيد أهلي
ذوي الألباب والنظر الدقيق *** ونعم فريقهم أبدًا فريقي (3)
فالرجل معتزلي (4)، والمعتزلة ينقسمون في مسألة التفضيل بين الخلفاء الراشدين إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: يجعلون ترتيب الخلفاء الأربعة في الفضل كترتيبهم في الخلافة.
والقسم الثاني: يقولون بأفضلية علي بن أبي طالب له على أبي بكر.)
ص: 62
وعمر وعثمان - رضي الله عن الجميع - وهؤلاء هم البغداديون.
القسم الثالث: التوقف في تفضيله على أبي بكر وعمر، أما في عثمان فلا (1) وابن أبي الحديد من أهل القسم الثاني القائلين بتفضيل علي على الثلاثة من قبله علیه السلام. وفي ذلك يقول:
وأما نحن فنذهب إلى ما يذهب إليه شيوخنا البغداديون من تفضيله علیه السلام» (2).
نستنتج مما تقدم أن الرجل معتزلي تفضيلي وليس برافضي إمامي، ويدل نستنتج على ذلك ما يلي:
1 - قوله في شرح نهج البلاغة:
«اتفق شيوخنا كافة المتقدمون منهم والمتأخرون والبصريون والبغداديون على أن بيعة أبي بكر الصديق بيعة صحيحة وأنها لم تكن عن نص، وإنما كانت بالاختيار الذي ثبت بالإجماع، وبغير الإجماع، كونه طريقا إلى الإمامة، وأن تولية الصديق من العدول عن الأفضل إلى الفاضل» (3).
2 - أورد في شرحه: المطاعن التي ذكرها الرافضة - فيما زعموا على أبي بكر وعمر وعثمان وذكر الردود التي رد بها القاضي عبدالجبار، وهي).
ص: 63
ردود قوية ملزمة للرافضة. وقد شارك هو أيضًا في بعض من هذه الردود(1).
يتبين مما تقدم أن ابن أبي الحديد معتزلي تفضيلي، ولا يُفهم عندما نبرئ)
ص: 64
ساحة ابن أبي الحديد من الرفض الثناء عليه والتبجيل له. فالرجل معتزلي ولنتذكر كلمة الذهبي السابقة عنه عندما قال: «فإن العز معتزلي أجارنا الله»؛ لأن المعتزلة فرقة مبتدعة لها أصولها وقواعدها التي خالفت بها أهل السنة والجماعة، فكما يجب على معاشر أهل السنة والجماعة الحذر من الرافضة يجب عليهم الحذر أيضًا تجاه المعتزلة لأن القوم يشتركون في كثير من الأصول بينهم، فالرافضة جل قواعدهم من تأصيلات المعتزلة والمعتزلة تشترك مع الرافضة في تكفير عدد كبير من الصحابة، يقول ابن أبي الحديد في الشرح:
وأما أصحاب الجمل فهم عند أصحابنا هالكون كلهم إلا عائشة وطلحة الله فإنهم،تابوا ولولا التوبة لحكم لهم بالنار؛ لإصرارهم على البغي وأما عسكر الشام بصفين فإنهم هالكون كلهم عند أصحابنا لا يحكم لأحد منهم والأتباع جميعًا»(1).
وكفى بهذه الزلة قبحًا للمعتزلة!!
ثم نجد أن ابن أبي الحديد قد جره تشيعه هذا إلى الترحم على علماء الرافضة؛ كالمفيد والمرتضي وابن الراوندي وغيرهم(2)، وفي المقابل لا يترحم على الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان مع قوله بصحة خلافتهم!.
ص: 65
بعدما تقدم؛ يتبين لنا معنى كلمة ابن كثير عندما قال في الرجلين: ابن أبي الحديد وابن العلقمي: لما بينهما من المناسبة والمقاربة والمشابهة في التشيع ...».
فالرجلان يتفقان في الغلو في علي علیه السلام، وفي تكفير عدد كبير من الصحابة رضی الله عنهما. انتهى كلام الأستاذ فهد ا السحيمي (1).
قلت: قال السويدي في رده السابق على الأوالي الرافضي عندما استشهد بابن أبي الحديد: «وما نقله عن الشارح؛ أي ابن أبي الحديد، شارح نهج البلاغة، مع كونه لا سند له غير مقبول؛ لأنه ليس من أهل السنة بل هو غير متدین بدین؛ لأنه تارة يكون معتزليًا، وتارة يكون رافضيا، كما لا يخفى على من نظر قصائده المشهورة التي نظمها في مدح علي بن أبي طالب علیه السلام، فإنه بالغ فيها في مدح علي وإزراء الخلفاء المتقدمين، بل فيها أبيات تدل على كفره، وإذا كان كذلك فكيف يُقبل قوله؟ ولنذكر بعض الأبيات من قصائده ونذكر بعض ما فيها من المفاسد فنقول: قال فيها:
حنانيك فاز العرب منك بسؤدد *** فماً ماس موسى في رداء من العلا
تقاصر عنه الفرس والروم والنوب *** ولا آب ذكرًا بعد ذكرك أيوب (2)
فإنه في البيت الأول: فضل عليا على الناس أجمعين.
وفی البيت الثاني: فضله على موسى، وأيوب ومعلوم أنه لا يبلغ درجة.
ص: 66
الأنبياء فضلا عن أن يكون أفضل منهم. ثم إنه لم يكفه ذلك حتى وصفه بأوصاف الربوبية فقال شعرا:
لذاتك تقديس لرمسك طهرة *** تقيلت أفعال الربوبية التي
وقد قيل في عيسى نظيرك مثله *** لوجهك تعظيم لمجدك ترحيب
عذرت بها من شك إنك مربوب *** فخُسر لمن عادى علاك وتتبيب (1)
فقوله في البيت الثاني: (تقيلت)؛ بمعنى أشبهت يقال: تقيل فلان أباه إذا أشبهه (2).
وقوله في البيت الثالث: (نظيرك) بمعنى أنه: نظيره في صفة خاصة، وهي: ادعاء الربوبية فيه وليس المراد أنه نظيره في الفضل؛ لما تقدم في البيتين من تفضيله على الناس أجمعين، وعلى الأنبياء والمرسلين، ولقوله:
عليك سلام الله يا خير من مشى *** ويا خير من يُغشى لدفع ملمة
وباعلة الدنيا ومن بدء خلقها له *** به بازل عبر المهامه خرعوب (3)
فيأمن مرعوب ويتلف قرضوب (4) *** وسيتلو البدو في الحشر تعقيب(5).
ص: 67
فجعله علة لبدوء الدنيا ولعودها يوم القيامة، وهذا لم يثبت له، ثم قال في قصيدة أخرى:
فتى لم يعرق فيه تيم بن مرة *** ولا كان معزولا غداة براءة
ولا كان في بعث ابن زيد مؤمرًا *** ولا كان يوم الغار يهفو جنانه
ولا عبد اللات الخبيثة أعصرًا *** ولا عن صلاة أم فيها مؤخرًا
عليه فأضحى لابن زيد مؤمرًا *** جدارًا ولا يوم العريش تسترا (1)
ففي هذه الأبيات تصريح بمثالب أبي بكر رضی الله عنهما، وهو نص في رفض ابن أبي الحديد.
وقال في قصيدة أخرى:
علام أسرار الغيوب ومن له *** خلق الزمان ودارت الأفلاك (2)
فقد جعله عالمًا للغيب، بل لسره، مع أن ذلك لا يكون إلا لبعض الرسل، كما قال تعالى: ﴿عَلِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُول (3) ثم قال:
ما عذر من دانت لديه ملا *** يتعاظم الأفعال لاهوتيها
ئك ألا تدين لغيره أملاك *** للأمر قبل وقوعه دراك (4).
ص: 68
فقد وصفه بأوصاف الباري سبحانه، ثم قال:
وقد قلت للأعداء إذ جعلوا له *** ضدًا أيجعل كالحضيض سكاك (1)
والسكاك أعلى الهواء (2). وفي هذا تعريض بأهل السنة في تقديمهم أبا بكر عليه، وإثبات لرفضه، ثم قال:(3)
حاشا لنور الحق يعدل فضله *** ظلم الضلال كما يرى الأفاك (3)
ففي هذا أيضًا رد على أهل السنة وحكم بإفكهم وكذبهم. وقال في قصيدة أخرى:
فافزع إلى مدح الوصي *** ففيه تطهير الدنس (4)
ففي قول (الوصي) تصريح برفضه، كما لا يخفى، كما في قوله بعد ذلك:
عفت رسوم العسكر *** الجملي قدما فاندرس
وثنت أعنتها إلى حرب *** ابن حرب(5) فارتکس
رفع المصاحف يستجير *** من الحمام ويبتئس
خاف الحسام العندمي و *** حاذر الرم - الرمح الورس!
ص: 69
فانصاع ذا عين *** مسهدة وقلب مختلس (1)
وقال في قصيدة أخرى:
هو البنا المكنون والجوهر الذي *** وذو المعجزات الواضحات أقلها
ووارث علم المصطفى وشقيقه *** تجسد من نور من القدس زاهر
الظهور على مستودعات السرائر *** أخًا ونظيرًا في العلا والأواصر (2)
فقد جعله في البيت الأول: أنه مخلوق من نور الله.
وفي البيت الثالث: نظير النبي صلی الله علیه و آله و سلم، وكل ذلك يدل على غلوه في رفضه ثم قال:
إلا إنما الإسلام لولا حسامه *** ألا إنما التوحيد لولا علومه
ألا إنما الأقدار طوع يمينه *** لعفطة (3) عنز أو قلامة حافر
كعرضة ضليل ونهبة كافر *** فبورك من وتر مطاع وقادر (4)
فانظر إلى هذا الغلو الذي لا يرضى الله به ولا رسوله، وهو منافٍ لما ذهب إليه الرافضة من إثبات الجبن،له وتغلب أبي بكر وعمر عليه؛ كما لا يخفى. ثم قال:)
ص: 70
صفاتك أسماء وذاتك جوهر *** يجل عن الأعراض والأين والمتى
بريء المعالي من صفات الجواهر *** ويكبر عن تشبيهه بالعناصر (1)
وفي ذلك تشبيه له في الباري، حيث نزهه عن الأعراض وعن المكان والزمان (2)، مع أن الله تعالى: لا يشبهه شيء. قال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (3).
ثم قال:
إذا طاف قوم بالمشاعر والصفا *** وإن ذخر الأقوام نسك عبادة
وإن صام ناس في الهواجر حسبة *** وأعلم أني إن أطعت غوايتي
فقبرك ركني طائفا ومشاعري *** فحبك أوفى عدتي وذخائري
فمدحك أسنى من صيام الهواجر *** فحبك أنسي في بطون الحفاير (4)
فانظر كيف جعل زيارة قبره أعظم من الحج الذي هو أحد أركان الإسلام، مع أن زيارته لو خلت عما يستعمله الرافضة فيها من البدع والإشراك.
ص: 71
مندوبة (1)، فكيف يكون المندوب أعظم من الفرض الذي هو ركن من أركان الدين؟!
وجعل مدحه أسنى من الصوم الذي اختص الله به، وتولى جزاءه بنفسه.
وجعل حبه يؤنسه في قبره، وإن حصلت له الغواية مع أنه إذا غوى لا ينفعه حبه كما هو ظاهر لمن كان له أدنى معرفة في أمور الشرع، وفي جميع ذلك تصريح بغلوه في رفضه.
ثم قال:
إذا كنت للنيران في الحشر قاسمًا *** أطعت الهوى والغي غير محاذري (2)
وفي ذلك من الرفض القبيح الذي تقدم إبطاله.
ثم قال في قصيدة أخرى:
فيك ابن عمران الكليم وبعده *** بل فيك جبريل وميكال وإسرا
بل فيك نور الله جل جلاله *** عيسى يقفيه وأحمد يتبع
فيل والملأ المقدس أجمع *** لذوي البصائر يستشف فيلمع (3)
فانظر إلى هذه المجازفات التي لا يمكن صدورها من مسلم فضلًا أن عن يكون سنيًا ...
ص: 72
وأقبح من ذلك ما قاله بعد ذلك:
هذا ضمير العالم الموجود عن *** هذي الأمانة لا يقوم بحملها
تأبى الجبال الشم عن تقليدها *** هذا هو النور الذي عذباته
وشهاب موسى حيث أظلم ليله *** أأقول فيك سميدع كلا ولا
بل أنت في يوم القيامة حاكم *** عدم وسر وجوده المستودع
خلقاء هابطة وأطلس أرفع *** وتضج تيهاء وتشفق برقع
كانت بغرة آدم تتطلع *** رفعت له لألاؤه تتشعشع (1)
حاشا لمثلك أن يُقال سميدع(2) *** في العالمين وشافع ومُشفّع (3)
فانظر كيف جعله بمنزلة الله في يوم القيامة، فإن الحاكم في العالمين يوم القيامة: هو الله تعالى، وهذا نهاية الغلو.
ومثل ذلك قوله:
وإليه في يوم المعاد حسابنا *** وهو الملاذ لنا غدًا والمفزع (4)
ثم قال:
هذا اعتقادي قد كشفت غطاءه *** سيضر معتقدا له أو ينفع (5).
ص: 73
وإذا تبين أن هذه عقيدته، فكيف يُقبل قوله في حق أهل السنة؟!.
وفي قصائده أبيات كثيرة نحو ذلك، فإنما ذكرنا بعضًا منها؛ ليتبين أن الرجل رافضي كما بين أمره في هذه القصائد وفي شرح نهج البلاغة بين أمره أنه،معتزلي وكلاهما أعداؤنا؛ فتبين أن عد المؤلف له من أهل السنة باطل، فلا ينتهض كلامه حجة علينا. انتهى كلام الشيخ السويدي رحمه الله (1).
قلتُ: وقال الشيخ محمود شكري الألوسي رحمه الله في كتابه «المسك الأذفر (2) - حاكيًا مناظرته مع أحد علماء الشيعة - : «وإنّي كنت أعجب من الشيخ يوسف الأوالي من علماء الإمامية حيث رد على ابن أبي الحديد وجعله من أهل السنة وما كنت أظن أن الشيعة يقولون بمقالته؛ حتى سمعت هذا الكلام في هذا اليوم وهو عندي من الغرابة بمكان.
فقال: إن المعتزلة عندنا من أهل السنة ومرادنا بأهل السنة القائلون بخلافة الخلفاء الثلاثة وعبدالحميد بن أبي الحديد شارح «نهج البلاغة» قائل بذلك، وقد برهن على صحة خلافتهم في شرحه بما لا مزيد عليه، ولذلك رد عليه الأوالي.
فقلت: هذا اصطلاح لكم لا يُعتد به، فإنه خلاف الحقيقة، كما لو الحديد ذهبًا، ومثل ذلك رمز لا اصطلاح؛ كما اصطلح أحد أن يسمي اصطلح علماء الصناعة على أمور لا يعرفها غيرهم، هي في الحقيقة رموز ...
ص: 74
وابن أبي الحديد معتزلي ومن غلاة الشيعة كما يدل عليه شعره في قصائده السبع العلويات - ثم أورد الألوسي النماذج التي ذكرها السويدي من شعر ابن أبي الحديد ثم قال: فكيف يُقال إنه من أهل السنة، أو المعتزلة من أهل السنة ما أظن من يقول بذلك إلا جاهل بمقالات النحل.
فقال: ابن أبي الحديد شاعر والشاعر إذا قال شعرًا لا يُعوّل عليه، ففي التنزيل: ﴿وَالشُّعَرَاهُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُنَ) (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِ وَادٍ يَهِيمُونَ) (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ).
فقلت: ليس شعره فقط ناطقا بذلك، بل إن تصانيفه صرّحت بأعظم مما في شعره هذا شرحه على نهج البلاغة فيه من الغلو بالأمير ما ليس عليه،مزيد وكذلك غيره من مؤلفاته وهو وإن كان يتلوّن تلون الحرباء من غلاة الشيعة كما لا يخفى على من سبر كلامه بمسبار الإنصاف، نعم إنه كان قائلا بخلافة الخلفاء الثلاثة كما يُفهم من كثير من عباراته، وذلك غير كافٍ كونه من أهل السُنَّة، لاسيما وقد طعن في كثير من الصحابة الكرام؛ كمعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، وطلحة والزبير، وعائشة أمّ المؤمنين، وأضرابهم ممن خاض الفتنة، مع أنهم عند أهل السنة كلهم من العدول،الأخيار، والصديقين الأبرار، فكيف يكون مع ذلك من أهل السنة؟».
والحاصل؛ أن ابن أبي الحديد: «معتزلي يقول بتفضيل علي على الثلاثة رضي الله عنهم أجمعين، مع غلو فيه، ومصانعة لرافضة عصره.
ص: 75
مع ظلمًا هذه التنازلات والتسامح في أمر العقيدة من ابن أبي،الحديد فإنه لم ينل وُدّ الرافضة، ولن يرضوا عنه، وإن كفّر كثيرًا من الصحابة، وغلا في حب علي، ما لم يتبرأ تبرؤًا تامًا من الخلفاء الراشدين الثلاثة من قبله؛ لأنه: لا ولاء عندهم لعلي إلا بالبراءة منهم فلهذا عدوه من أهل السنة وزورًا، وانبرى بعض علمائهم بالرد عليه في مؤلفات مستقلة، يدل على شناعة بعضها مضمون عنوانه، إذ ألف الرافضي يوسف الأوالي - كما سبق – كتابًا أسماه «سلاسل الحديد في تقييد ابن أبي الحديد»، ورد عليه أيضًا علي البحراني في كتابه «منار الهدى».
ولذا قال شيخهم عبدالزهراء (!) الحسيني (1): «يعد ابن أبي الحديد، من خصوم الشيعة وأشد مناوئيهم رغم ما يظهر من حبه لعلي علیه السلام، وإظهار تفضيله.
ورأيت بخط كاشف الغطاء على ظهر المجلد الأول من الشرح من الطبعة ذات المجلدين المطبوعة على الحجر في إيران الموجودة في مكتبته العامة الشهيرة في النجف الأشرف ما معناه: نعم المؤلف لولا عناد المؤلف»، فتأمل هذه العبارة من هذا المُطلع المتتبع لتعرف أن هؤلاء الذين نسبوا ابن أبي الحديد إلى التشيع على جانب من الخطأ عظيم.
وسمعت كاظم الحسين الخطيب ينقل عن الشيخ محمد طه نجف قدس
ص: 76
سره أنه قال: «لو أوقف خصوم أمير المؤمنين علیه السلام بين يدي الله ما استطاعوا أن يعتذروا عن أنفسهم كما اعتذر عنهم ابن أبي الحديد»!
لذلك كثر الرد عليه من أعلام الإمامية، وإليك أسماء بعض الكتب المفردة في الرد عليه مضافًا إلى من تعرضوا لرده حسب ما تقتضيه المقامات من أبواب كتبهم:
أ - الروح في نقض ما أبرمه ابن أبي الحديد لجمال الدين أبي الفضائل أحمد بن موسى بن جعفر (شقيق السيد علي بن طاووس) وكان من فقهاء أهل البيت له أكثر من ثمانين مصنفًا منها: (نقض الرسالة العثمانية) و(الملاذ في الفقه) و(العدة في أصول الفقه وشواهد (القرآن) و(عين العب
لهاشم بن سليمان البحراني التوبلي المتوفى (1107) انتخبه من شرح ابن أبي الحديد ورد عليه، ذُكر في (لؤلؤة (البحرين) ص 54، وفي (أنوار البدرين) ص 138، وفي (الذريعة) ج 21 ص 210، وقد سمى هذا الكتاب باسم رسالة للسيد ماجد البحراني المتوفى 21 شهر رمضان (1028) اسمها (سلاسل الحديد في تقييد أهل التقليد)، والظاهر من اسم هذه الأخيرة أن موضوعها في الانتصار للأخباريين.
للشيخ يوسف الكوفي الأوالي ذكره أبو الثناء الآلوسي في الفيض الوارد
ص: 77
في مرثية خالد ص 30، وأظن أنه الآتي، ولكن الشيخ يوسف البحراني لا يُعرف بالكوفي.
للشيخ يوسف البحراني صاحب الحدائق الناضرة المتوفى سنة (1186 ه) وصفه مؤلفه في آخر (لؤلؤة (البحرين) بقوله: (ذكرت في أوله مقدمة شافية في الإمامة تصلح أن تكون كتابًا مستقلا، ثم نقلت من كلامه في الشرح المذكور ما يتعلق بالإمامة وأحوال الخلفاء وما يناسب ذلك ويدخل تحته، وبينت ما فيه من الخلل والمفاسد الظاهرة لكل طالب،وقاصد خرج منه،مجلد ومن المجلد الثاني ما يقرب من الثلث وعاق الاشتغال بكتاب «الحدائق» عن إتمامه). اه
وقال الشيخ آغا بزرك: رأيته في كتب السيد خليفة، واشتراه الميرزا محمد الطهراني لمكتبته (مكتبة الطهراني بسامراء) وقد أوقفت بعد وفاته» (1).
للشيخ علي بن الشيخ حسن البلادي البحراني المتوفى عام (1340 ه) صاحب كتاب أنوار البدرين، (ذكره في (الأنوار) ص 372 قال: لنا حواش كثيرة على شرح ابن أبي الحديد للنهج المرتضوي ورد عليه).
وقد لخص شرح ابن أبي الحديد فخر الدين عبدالله المؤيد بالله، وأسماه «العقد النضيد المستخرج من شرح ابن أبي الحديد»، توجد منه نسخة مؤرخة
ص: 78
بسنة (1080 ه)، كما اختصره السلطان محمود الطبسي، وانتخب منه الشيخ محمد بن قنبر علي الكاظمي كتابًا سماه التقاط الدرر المنتخب فرغ منه سنة. (1283 ه)، قال شيخنا الطهراني: والنسخة بخطه في خزانة كتب سيدنا الحسن صدر الدين الكاظمي اه.
ونقله إلى الفارسية المولى شمس بن محمد بن مراد سنة (1013 ه)،كما ترجمه بالفارسية الحاج نصرالله بن فتح الله الدزفولي، وزاد عليه.
للشيخ محسن كريم نزيل (الخضر) اقتصر فيه على رد بعض أقوال ابن أبي الحديد في شرح الشقشقية، وقد طبع الجزء الأول منه في النجف في سنة (1383 ه) وهو عازم على إخراج الجزء الثاني.
ورأيت عند الشيخ طالب حيدر كراريس قرأ علينا منها فصولا جيدة يرد فيها على ابن أبي الحديد في اعتذاره عن خصوم أمير المؤمنين علیه السلام.
- ثم قال عبد الزهراء (!) مُعرّضًا بكتاب محمود الملاح - : «وقبل أعوام ظهر كتاب (تشریح شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد) لمحمود الملاح، وهو كتاب مليء بالطعن على الإمام علي وشيعته وجحود فضائله ومناقبه، ونكران البديهيات من الأمور، والمسلمات من القضايا ...
وقد رد عليه الأستاذ رياض حمزة شير علي بكراسة أسماها «الملاح التائه» بأسلوب تهكمي مدعوم بالحقائق الناصعة والحجج الرصينة، وقد طبع هذا الرد،مرتين كما ألف الأديب الشاعر عبدالحسين الشيخ موسى السماوي في
ص: 79
رده (مبضع الجراح في تشريح الملاح)، وقد طبع ونشر يومذاك».
نظرًا لاعتزالية ابن أبي الحديد وميله للشيعة؛ فإنه قد تابع الفريقين في انحرافاتهما، مما انطبع على شرحه - خاصة في باب الصحابة رضی الله عنهما (1)، ولو بالإشارة دون التوسع. فمن ذلك - إضافة إلى ماذكر سابقا من نقد له - :
1 - تصريحه بمذهبه البدعي الاعتزالي» في مقدمة شرحه(2)، وفي ثناياه (3). ومعلوم مخالفة أصول هذا المذهب لماكان عليه صحابة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، والسلف الصالح (4)
2 - قوله في شرح «وكمال توحيده الإخلاص له»: «المراد بالإخلاص له هاهنا هو نفي الجسمية والعرَضية ولوازمهما عنه ... إلخ» الكلاميات التي استقاها من شيوخه المعتزلة (5).
ص: 80
3 - قوله: «وأما قوله: وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه. فهو تصريح بالتوحيد الذي تذهب إليه المعتزلة ...» (1).
4 - نفيه لصفة العلو؛ متابعة لمذهبه الاعتزالي (2).
5 - قوله في شرح التوحيد» أن لا تتوهمه والعدل أن لا تتهمه»: «هذان الركنان هما ركنا علم الكلام وهما شعار أصحابنا المعتزلة»، ثم كذبه - تبعًا لكذب صاحب النهج - : وجملة الأمر؛ أن مذهب أصحابنا في العدل والتوحيد مأخوذ عن أمير المؤمنين (3)!
6 - غلوه في علي علیه السلام، بقوله فيه: «_والحاصل؛ أنا لم نجعل بينه وبين النبي صلى الله عليه وآله إلا رتبة النبوة ...» (4)!
7 - قوله القبيح: وأما أصحاب الجمل؛ فهم عند أصحابنا هالكون، ماعدا عائشة وطلحة والزبير؛ فإنهم،تابوا ولولا التوبة لحكم لهم بالنار ...»(5)!
8 - طعنه في الصحابي الجليل: المغيرة بن شعبة رضی الله عنهما، بقوله (6): أصحابنا غير متفقين على السكوت على المغيرة، بل أكثر البغداديين.
ص: 81
يفسقونه، ويقولون فيه ما يقال في الفاسق ... وكان إسلام المغيرة من غير اعتقاد صحیح!
9 - طعنه في من اختلف مع علي من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وكذبه عليه بقوله (1): «فأما براءته علیه السلام من المغيرة وعمرو بن العاص: ومعاوية، فهو عندنا معلوم جارٍ مجرى الأخبار المتواترة، فلذلك لا يتولاهم أصحابنا، ولا يُثنون عليهم، وهم عند المعتزلة في مقام غير محمود».
10 - تماديه في طعن معاوية رضی الله عنهما في مواضع متعددة من شرحه؛ منها: قوله - شارحًا عبارة «نهج البلاغة» - : أما إنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم، مُنْدَحِقُ البطن، يأكل ما يجد، ويطلب ما لا يجد، فاقتلوه، ولن تقتلوه، قال - أخزاه الله وكاذب هذا الخبر (2): وكثير من الناس يذهب إلى أنه علیه السلام عَنَى زيادًا، وكثير منهم يقول: إنه عنى الحجاج، وقال قوم: إنه عَنَى المغيرة بن شعبة والأشبه عندي أنه عَنى معاوية ... إلخ ما قال»! وقوله (3): ومعاوية مطعون في دينه عند شيوخنا، يُرمى بالزندقة، وقوله (4): وقد طعن كثير من أصحابنا في دين معاوية، ولم يقتصروا على تفسيقه، وقالوا عنه: إنه كان مُلحدًا لا يعتقد النبوة»!
11 - افتراؤه على جرير بن عبدالله البجلي و عبدالله بن الزبير - رضی الله عنهما - .
ص: 82
أنهم يبغضون عليا علیه السلام! قال: وكان الأشعث بن قيس الكندي، وجرير بن عبدالله البجلي،يُبغضانه وهدم علي علیه السلام دار جرير (1)!، وقال (2): «وكان!، عبدالله بن الزبير يُبغض عليا علیه السلام، وينتقصه وينال من عرضه».
12 - طعنه في أبي هريرة وغيره رضی الله عنهما، بقوله (3): (وذكر شيخنا أبو جعفر (4) الإسكافي - وكان من المتحققين بموالاة علي علیه السلام، والمبالغين في تفضيله، وإن كان القول بالتفضيل عاما شائعا في البغداديين من أصحابنا كافة، إلا أن أبا جعفر أشدهم في ذلك قولا وأخلصهم فيه اعتقادًا - أن معاوية وضع قوما من الصحابة وقوما من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي علیه السلام، تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جُعلا يُرغبُ في مثله، فاختلقوا ما أرضاه منهم: أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير!! وقال (5): «قال أبو جعفر وأبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضي الرواية.
قلتُ: عجبا لك عندما وافقت شيخك، وصدقت أكاذيبه، وأنت قد تبينت بعضها؟ كما في قولك - نقلا عنه (6): (وأما مروان ابنه فأخبث عقيدة،.
ص: 83
وأعظم إلحادًا وكفرًا، وهو الذي خطب يوم وصل إليه رأس الحين إلى المدينة، وهو يومئذ أميرها وقد حمل الرأس على يديه، فقال:
يا حبذا بردك في اليدين *** وحُمرة تجري على الخدين
كأنما بتْ بمَحْشَدينِ
ثم رمى بالرأس نحو قبر النبي، وقال: يا محمد، يوم بيوم بدر. وهذا القول مشتق من الشعر الذي تمثل به يزيد بن معاوية وهو شعر ابن الزَّبَعْرَى يوم وصل الرأس إليه والخبر مشهور.
قلت: هكذا قال شيخنا أبو جعفر، والصحيح أن مروان لم يكن أمير المدينة يومئذٍ بل كان أميرها عمرو بن سعيد بن العاص، ولم يُحمل إليه الرأس»!
13 - طعنه في عمرو بن العاص رضی الله عنهما، بقوله (1) - نقلا عن شيخه - : ومازال عمرو بن العاص،مُلحدًا، وما تردد قط في الإلحاد والزندقة»! وقوله (2): «فإن قلت: فما الذي يقوله أصحابك المعتزلة في عمرو بن العاص؟ قلت: إنهم يحكمون على كل من شهد صفين، بما يُحكم به على الباغي الخارج على الإمام العادل ومذهبهم في صاحب الكبيرة إذا لم يتب معلوم (3). ثم بين أن توبته رضی الله عنهما لا تنفعه!!
ص: 84
قلتُ: هذه أبرز المؤاخذات على شرح ابن أبي الحديد – باختصار - ، وهي تعود - كما ترى - إلى سوء مذهبه الاعتزالي - الشيعي»، الذي أوقعه وأركسه فيها (1) ...
ص: 85
ترجمة الأستاذ محمود الملاح رحمه الله (1)
هو محمود بن عبدالله بن يونس الملاح، ولد في الموصل سنة 1891م، ونسبته إلى سوق الملاحين في مسقط رأسه، وهو سوق قديم يباع فيه الملح وسائر،الحاجات وقد نشأ في ربوع الموصل، ودرس العلوم الدينية والأدبية على علمائها، وفي مقدمتهم عبدالله النعمة وعثمان الديوه جي الموصل، ونال الإجازة العلمية في سنة 1912م فوظف مداوما في قلم تحرير الولاية، ولم تلبث الحرب العظمى أن اضطرم أوارها فجند، لكنه استمر على مزاولة وظيفته في الولاية إلى عقد الهدنة وانسحاب الأتراك وتسليم المدينة إلى القوات الإنكليزية.
كانت الموصل في ذلك العهد بلدة منعزلة راكدة الثقافة لا تكاد تستشف بصيصًا من أنوار المدينة الحديثة، وكانت الثقافة التركية تعم المحافل الرسمية وتستهوي الطبقة الراقية، أما الثقافة العربية فكانت ضيقة الأفق
ص: 86
محصورة في نطاق المحافل الدينية. وقد استطاع فتانا مع ذلك أن يحصل
على طائفة من الكتب الصادرة في القطرين المصري والسوري، وأن يتتبع سيرة دعاة الإصلاح (1)؛ أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي ومحمد رشيد رضا، ويغذي روحه النهمة بآرائهم وتصانيفهم، وأعلن الدستور في السلطة العثمانية على إثر انقلاب سنة 1908، وانتشرت المبادئ الإصلاحية واللامركزية في ربوع الشام، وانتقلت منها إلى العراق، فكان أديبنا الشاب في طليعة الشباب الموصلي الناهض الذي آمن بهذه المبادئ وأشرب حب الثقافة العربية الجديدة على بعد الشقة وعسر الاتصال. وقد قام بتدريس التاريخ والجغرافية بصورة فخرية في مدرسة محمود رؤوف الغلامي واشترك مع فريق من الشعراء منهم داود سليمان الملاح وفاضل الصيدلي في نظم أناشيد عربية للأطفال، تولى الغلامي طبعها في كتيب ...
ص: 87
وفي سنة 1919م شد الرحال إلى سورية واستقر في حلب أمدًا على عهد حكومتها العربية، ووظف في مجلس إدارة الولاية ومدير التحرير آنذاك إبراهيم هنانو، الذي عُرف بمواقفه الوطنية، ولما شدد الفرنسيون سيطرتهم على البلاد السورية وقضوا على حكومتها العربية ضاق محمود الملاح ذرعًا بوظيفته؛ فعاد إلى الموصل سنة 1922م، ولم يلبث أن قدم بغداد سنة 1924م وألقى بها عصا الترحال، وقام في أول الأمر بإعطاء دروس خاصة اللغة العربية ثم عُين رئيسًا لكتاب مجلس النواب عند إنشائه في سنة 1925م، لكنه قضى في هذه الوظيفة أيامًا معدودة، وعُين بعد ذلك مدرسًا في بعض المدارس الأهلية، فمدرسًا في المدرسة الثانوية الرسمية (1925 - 28). وعُين بعد سنتين معلمًا للغة العربية في المدرسة العسكرية (1931 - (33)، وأصدر جريدة أدبية باسم «التجدد» (24) تموز (1930م) فلم يكتب لها التعمير طويلا، وانتخب نائبا عن الموصل في كانون الأول 1937م، فلم يطل عهد نيابته سوى أمد قصير إلى حل المجلس في شباط 1939م.
لازم محمود الملاح في أثناء إقامته ببغداد أدباءها وفضلاءها وغشي مجالس الزهاوي والرصافي، والكرملي، وعبد العزيز الثعالبي، وفهمي المدرس وطه الراوي وعبداللطيف،ثنيان وياسين الهاشمي، ومولود مخلص، وعباس العزاوي وأضرابهم، وشارك في المناسبات الوطنية والأدبية بشعره ونثره. وله مباحث في اللغة وقواعدها والتاريخ العربي والإسلامي، واجتمع له ديوان ضخم تفرقت قصائده في الصحف والمجلات.
وللملاح مطارحات شعرية ومداعبات إخوانية كثيرة مع أصدقائه، وفي
ص: 88
مقدمتهم عباس العزاوي ومحي الدين أبو الخطاب المحامي، وقد سجل طرفًا منها المرحوم إبراهيم الواعظ في كتابه الجامع الروض الأزهر».
قال الأستاذ مير بصري: حدثني محمود الملاح أنهم كانوا ثلاثة يدرسون على الشيخ عبدالله النعمة هو وضياء يونس وشيت خطاب، وقد اتصلت بينهم المودة فصاروا لا ينقطعون بعضهم عن بعض نهارًا ومساءً. ولم يتزوج الملاح، ولم ينجب ضياء يونس ولدًا، أما شيت خطاب فتزوج وأنجب ولدين سمّى أولهما باسم محمود الملاح، وهو محمود شیت خطاب صاحب المؤلفات العسكرية واللواء في الجيش العراقي، والوزير في العهد الجمهوري. وسمّى ثانيهما باسم ضياء،يونس فكان ضياء شيت خطاب، الذي أصبح رئيسًا لديوان التدوين القانوني ونائب رئيس محكمة التمييز، ورئيسها بعد ذلك.
توفى محمود الملاح في بغداد ليلة الأربعاء: 1389/1/1 ه، الموافق: 19 آذار 1969م، ودفن في الموصل.
مؤلفاته: الوحدة الإسلامية بين الأخذ والرد (1951)، عبدالباقي العمري (1953) تاريخنا القومي بين السلب والإيجاب (1956)، دقائق وحقائق في مقدمة ابن خلدون (1955) نظرة ثانية في مقدمة ابن خلدون (1956)، تحذير المسلمين من المتلاعبين بالدين تعليقات وحواشي على كتاب ابن سينا (1953)، حقيقة إخوان الصفا (1954)، تشريح شرح نهج البلاغة (1954)، النحلة الأحمدية، البابية والبهائية (1955)، المجيز على الوجيز (1956)، الآراء الصريحة لبناء قومية صحيحة (1956) الرزية في القصيدة الأزرية (1952)، حجة الخالصي (1952).
ص: 89
كتب الأستاذ خالد البديوي في رسالته«أعلام التصحيح والاعتدال» (1)
نقدا لمنهج الأستاذ محمود الملاح في كتاباته عن الفرق المنحرفة، أنتقي منه الآتي، ثم أضيف عليه ما ظهر لي من قراءتي لكتبه، قال الأستاذ خالد: عاصر الملاح فترة عصيبة في تاريخ المسلمين، فقد شهدت هذه الفترة خروج حركات هدامة؛ كالقاديانية والبهائية ونحوها، كما غزا العالم كثير من التيارات المنحرفة كالشيوعية واللادينية والعلمانية وغيرها، وأعظم من هذا، فقد تصدر كثير من المفكرين الذين شككوا في صلاحية الإسلام لهذا العصر، فأخذوا يدعون إلى الانسلاخ من الهوية الإسلامية، وقد تألم لهذه الحالة كثير من أبناء الأمة، فأخذ كل واحد يتلمس الخلل ويسعى في توصيف،العلاج، وهو ما يبرر خروج كثير من التيارات المختلفة في نظرتها لماهية الخلل وطريق العلاج.
صرّح الملاح بأن هدفه النضال في عدة جبهات دفاعا عن الإسلام الذي تكالب عليه أعداؤه، يقول: ليس دفاعي محصورًا في بقعة معينة ... بل دفاع عام عن مصلحة الإسلام في أي بقعة (2).
ص: 90
1 - يختار ما يسميه منهج التعبئة والبت والبتر معهم (1) فهو يرى أن الأجدى بأهل السنة أن يسلكوا منهج التعبئة ضد الشيعة وغيرهم من الفرق (2)، بحيث ينتقد الملاح أي لون من ألوان اللين مع الخصم، أو الإقرار بشيء من الأدلة التي عندهم، بل يتبنى إسقاطهم جملةً وتفصيلا. ويذكر أن مثله الأعلى في هذا المقام هو ابن حزم - رحمه الله - تعالى - فهو يصفه بأنه «مجدد بحق وأنه «أول من أخذ بالحزم في الرد على المبطلين» (3).
ويبالغ في منهج التعبئة؛ حتى إنه طعن في عمر بن عبدالعزيز رحمه الله بأنه كان «حجرًا رخوًا في صرح الدولة الأموية» (4)! لأن العدل - في نظره - لا ينفع مع المصرين على عقائدهم!
كما أنه يصف صاحب كتاب التحفة الاثنا عشرية ولي الدين الدهلوي بأنه من «المتميعين» الذين يصفهم بأنهم أصحاب «نزعة عجائزية هرمة»(5)! وينعتهم ب - «ملتمسي البركات» (6)! ويعني بهم الذين يلطفون عباراتهم مع أتباع الفرق الأخرى، ويذكرون أدلتهم ويحاولون إقناعهم باللين وبأسلوب هين.
ص: 91
92
2 - الإكثار من الألفاظ اللاذعة الاستفزازية:
حيث يُكثر الملاح من الألفاظ اللاذعة عندما يخاطب من يخالفه، كما يستعمل الأسلوب الاستفزازي بصورة كبيرة جدًا، ولعل كونه كاتبًا صحفيًا قد أثر عليه كثيرًا».
قلتُ: ويُضاف إلى ماذكره الأستاذ خالد
3 - جرأة الملاح في النقد (1)، واسترساله، واسترساله مع بعض الروايات التاريخية غير الثابتة؛ مما أوقعه في المساس - بعبارة غليظة - ببعض الصحابة، ممن حصل بينهم الخلاف بعد مقتل عثمان رضی الله عنهما، فضلا عن غيرهم ممن هو أدنى منهم منزلة فليته نزه قلمه عن هذا، ولم ينسق مع الأباطيل التي انساق معها خصومه الشيعة والتزم بما نصحهم به في هذه المسألة كما سيأتي في رسالته - (2). وقد أنكر هذا الصنيع من الملاح بعض أهل السنة، ممن رأوه تجاوز الحد، كما سيأتي في مقالي: الشيخ إسماعيل الأنصاري، و كمال الخطيب - رحمهما الله ...
ص: 92
1 - كونه من المثقفين لا العلماء (1)، وهم أكثر جرأة واعتدادًا من غيرهم؛مما يؤدي إلى عدم وقوفهم مع حدود الشرع في المسائل التي يخوضون فيها.
2 - تأثره بمدرسة جمال الدين الأفغاني (2) - كما سبق - ، ومعلوم أن هذه المدرسة وريثة فرقة «المعتزلة البائدة (3)، التي تميز أساطينها بالجرأة على صحابة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و اعتدادًا بعقولهم المتضخمة كما سيأتي إن شاء الله.
ص: 93
تعقيب حول مقال محمود الملاح (1)
«جاء في مقال محمود الملاح عن تاريخ مكة للأزرقي المنشور في عدد مجلة الحج الغراء الصادر في 1386/3/16 ه ما نصه: «وفيه - عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق رحمه الله - نزل قوله تعالى: ﴿وَالَّذِى قَالَ لِوَالِدَيْهِ أَفَ لَكُمَا أَتَعِدَانِى أَنْ أَخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ عَامِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)، هذا نص ما جاء في ذلك المقال، ولكون خطأ نرى من الواجب التنبيه عليه؛ حفاظًا على كتاب الله تعالى وعلى مكانة ذلك الصحابي الجليل عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق رضی الله عنهما فنقول وبالله التوفيق وهو حسبي ونعم الوكيل:
إن القول بنزول قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِى قَالَ لِوَلِدَيْهِ أَنَّ لَكُمَا) الآية: في عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق رضی الله عنهما يبطله ثلاثة أمور:
1 - تكذيب عائشة أم المؤمنين شقيقة عبدالرحمن ذلك. الوارد من رواية يوسف بن ماهك، ومحمد بن زياد وابن ميناء وعبدالله المايني.
أما رواية يوسف بن ماهك فعند البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل
ص: 94
حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز استعمله معاوية فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال له عبدالرحمن بن أبي بكر شيئًا، فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه فقال مروان ك إن هذا الذي أنزل الله فيه والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني، فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئًا من،القرآن إلا أن الله أنزل عذري، وأما رواية محمد بن زياد؛ فعند عبد بن حميد وابن أبي خيثمة والنسائي وابن المنذر والحاكم وصححها وابن،مردويه، أخرجوا كلهم من حديث محمد بن زياد أن عائشة رضی الله عنهما قالت حين بلغها قول مروان: كذب،مروان كذب،مروان والله ما هو به ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته، وأما رواية ابن ميناء؛ فرواها عبدالرزاق وابن مردويه عنه أنه سمع عائشة رضی الله عنهما تُنكر أن تكون الآية – أي والذي قال لوالديه أف لكما - نزلت في عبدالرحمن بن أبي بكر، وقالت: إنما نزلت في فلان بن فلان، سمت رجلا وأما رواية عبدالله فعند ابن أبي حاتم وابن مردويه أخرجاه من حديثه أن عائشة قالت: يا مروان أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا؟ كذبت والله ما فيه،نزلت نزلت في فلان ابن فلان. ففي هذه الروايات عن عائشة رضی الله عنهما تصريح ببطلان نزول هذه الآية في أخيها عبد الرحمن، وقد قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري بصدد كلامه على رواية يوسف بن ماهك المتقدمة: نفي عائشة أن تكون - أي هذه الآية - نزلت في عبدالرحمن وآل بيته أصح إسنادًا وأولى بالقبول ا. ه - ، وعلى ما ذکره اعتمد الحافظ السيوطي في كتابه الباب المنقول في أسباب النزول».
1 - الثاني مما يبطل نزول هذه الآية في عبدالرحمن بن أبي بكر: تأخر
ص: 95
إسلامه عن نزولها؛ كما بينه الحافظ ابن كثير في تفسيره، قال: من زعم أنها نزلت في عبدالرحمن بن أبي بكر رضی الله عنهما فقوله ضعيف؛ لأن عبدالرحمن بن أبي بكر رضی الله عنهما أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، وكان من خيار أهل زمانه، وجزم ابن كثير بأن الآية عامة في كل من قال ما ذُكر فيها، واستدل على ذلك بالإخبار عن «الذي» بقوله تعالى: (أُوْلَيْكَ).
3 - الثالث مما يبطل نزول هذه الآية في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق: سياق الآية نفسها، فإن المراد بالذي في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أَفَ لَكُمَا) الجنس؛ بدليل وقوع الخبر عنه مجموعا كما في كشاف الزمخشري، ناحية، ومن ناحية أخرى فإن قوله تعالى: ﴿أُوْلَيْكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ من الْقَوْلُ فِي أُمَرٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم) يدل على فساد القول بنزول الآية في عبدالرحمن بن أبي بكر؛ لأن عبدالرحمن بن أبي بكر رضی الله عنهما من أفاضل المؤمنين وليس ممن حقت عليه كلمة العذاب وبهذا استدل الزجاج على بطلان القول بنزولها في عبدالرحمن، وتبعه أبو حيان في (البحر المحيط) والشوكاني في (فتح القدير) وغيرهما.
وبهذا كله يتبين بطلان ما ذكره محمود الملاح في مقاله المشار إليه، وبراءة عبدالرحمن بن أبي بكر رضی الله عنهما مما رماه به بدليل الآية نفسها، والروايات الواردة عن أخته أم المؤمنين عائشة رضی الله عنهما، والله ولي التوفيق وهو حسبي ونعم الوكيل».
ص: 96
لبعض ما ورد في؟«تشريح شرح نهج البلاغة»(1)
نهج البلاغة: كتاب جمعه الشريف الرضي على أنه خطب سيدنا علی علیه السلام، ومأثوراته، فهو بهذا الاعتبار تراث أدبي عباسي يمتد بجذوره إلى عهد الإسلام الأول، فله في الأدب منزلة تسمى باسمها، ولننشر بظلها، غير أنه بموضوعاته موصول بتاريخ سيدنا علي علیه السلام ما امتد إليه من نحلة ووجهة سياسية ودعوة طائفية، وبهذا الاعتبار كانت له منزلة دينية وسياسية.
وقد رأى عز الدين بن أبي الحديد أن يشرحه؛ لينشر في تضاعيف الشرح ما ولده الزمن من دين وسياسة؛ ليتمم صنيع الشريف الرضي، وكان شارح النهج مع أخيه القاضي القاسم بن أبي الحديد من رجال الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي الذي خان الخليفة المعتصم وأسلم بغداد إلى «هولاكو»، فكان وزيره أيضًا، وإن شارح النهج كما قاله الأستاذ الملاح ص 85: لعب على ثلاثة حبال: التسنن والتشيع والاعتزال فهو في الأصول معتزلي، وفي البحث شيعي يداهن ابن العلقمي، وما أراه إلا منفورًا عنه من الاثنا عشرية إلا للصيد، والغافل إذا قرأ شرح النهج لابن أبي الحديد يراه شيعيا لطيفا، ولا يدري أن هذا اللطيف هو الذي يجر إلى الكثيف.
ص: 97
98
والغالب أن «المعتزلة» الذين فيهم شائبة تشيع» هم (زيدية) لا إمامية، أي هم معتزلة بحكم تمذهبهم لزيد وقد تتلمذ لواصل بن عطاء إمام المعتزلة، أو أنهم كانوا معتزلة ثم دانوا بالتزيد ... فلا يخدعك لفظ «الاعتزال» إذا رأيت في جنبه تشيعًا، ثم إن المعتزلة لم يشغلوا أنفسهم بتمحيص التاريخ؛ وصاحب الكشاف (الزمخشري) على براعته في الأدب لم يبرأ من أخبار العجائز».
وهذه نقطة مهمة نبه إليها الأستاذ الملاح تنبيه العالم المنصف بصراحته العلمية إذ قال: ص 14: لم تسبق لي مطالعة النهج؛ وكنت مغرورا باسم المعتزلة ككثير غيري من الباحثين، ... فقد اهتديت فيما بدا لي أن المعتزلة المتأخرين لم يثبتوا على منهاج المتقدمين لأنهم بايعوا وشاروا وداهنوا وداروا ...
ومنهم من ابتعد عن أبواب السلاطين، ولكنه لما اشتغل بغير فنه دل على وهنه، كالزمخشري (جار العقل!) فإنه في اللغة والبيان رفيع، ولكنه في نقل الأخبار بغير امتحان واختبار رقيع.
لذلك يجب أن نقرأ كتب أمثال هؤلاء في مثل هذا الموضوع بحذر ...».
يصم
والأستاذ الملاح بحاثة صريح يصف نفسه بمثل ما غيره كما رأيت، وينصف ناقده حيثما وجد لذلك سبيلا، وهو في رسالة التشريح هذه قد قطف من النهج وشرحه فقرات ناقشها مناقشة العقيدة والتاريخ، ولهذا عنون رسالته هذه برقم 1 على أنها: ثورة فكرية تاريخية قومية، وختمها بفصل تحت عنوان الثقافة الإسلامية والقومية، وأخذ على دعاة القومية سلوكهم، مما
ص: 98
تولاه من حصن المفتريات التاريخية باسم العقيدة ومذهب الإمامية، وبين ذلك عنونَ فصلا مسهبًا بعنوان: إرداف التشريح بما يزيد في التوضيح» سار فيه سيرته بقطف فقرات من كتاب أثر التشيع في الأدب العربي - بقلم محمد سید «كيلاني ناقشه الأستاذ الملاح فيها مناقشة العلم والأدب والتجرد والنزاهة، حتى إذا استفاد منه نظرًا صرح بذلك على سجيته بغير تكلف، كما ترى ذلك في قوله ص 88:
«ومما أجاد فيه المؤلف بحث القصيدة الميمية ومطلعها:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته *** والحل يعرفه والبيت والحرم
التي زعموا أن الفرزدق قالها في مدح بعض الأئمة - زين العابدين - ، فقد أعطى البحث حقه وزاد على ما كنت أعرف».
وإن نقدات الأستاذ الملاح أشبه بإشعاعة النجم، فإنها تجمع في نقطة وتتجه إلى جهات بعيدة ترمى إليها الأشعة وربما نشر في أسطر عصارة كتب وخلاصة علم ونظرة تاريخ وهو يأتي من ذلك بما يأتيه به عفو الخاطر مع المناسبة التي يتناولها، كقوله ص 18 في مسند الإمام أحمد بن حنبل رضی الله عنهما: مسند أحمد لم يعده العلماء في الصحاح، وهو يحتاج إلى غربلة واسعة، وربما أراد الله غربلته قبل وفاته فلم يتيسر له وهو مشغول بنكباته؛ وفي مسنده كثير من الروايات المائعة التي صارت فلسفة لبعض المائعين وعلم أنه أضيف إليه ما أضيف» (1) ...
ص: 99
إن الأستاذ الملاح قد رأى في العراق طائفة كشفت قناع التقية»، ولم تقف عند حدود التشيع بنظرة حزبية تاريخية وإنما تريدها خطة ولو امتدت إلى تفويض دعائم التاريخ والإسلام وتاريخه، وأيسر ما في نظرها تتهم أن الصحابة - رضوان الله عليهم - ؛ لتعيش على حدث هذا التاريخ، فتبني بناءها على أنقاضه، ولذلك أصبح أمام مشاكل الطائفية بأوهامها ومطامعها، ومن هنا وقف مواقفها ص 16: إن في تاريخنا عقدتين من أصعب العقد، لا تشبههما عقدة الوصية المزعومة بالنص على إمامة علي، ولا عقدة السقيفة باتهام الشيعة أبا بكر وعمر رضی الله عنهما في حلهما مشكلة اجتماع الأنصار وطلبهم الخلافة؛ لأن هاتين العقدتين حلهما الزمن بانتهاء آجال من خامت حولهم هذه المشاكل، فضلا عن تفصيل القول فيهما على اختلاف وجهات النظرات المذهبية والتاريخية وإنما العقدتان هما:
الأولى:عقدة عثمان رضی الله عنه في الشطر الثاني من خلافته، ومهما قيل في عثمان، فقد نال عقابه على الله عنه. والعقدة الثانية: ما نجم عن العقدة نجم عن الأولى، وهو موقف علي وطلحة والزبير ومن ورائهما قريبتهما أم المؤمنين ذات المقام المكين رضوان الله عليهم - ؛ لأن المؤرخين حاروا في أمرها ناظرين إلى هذا السؤال: كيف اجتمع الرضا (من) الرسول عنهم حتى وفاته صلی الله علیه و آله و سلم، والبشارة (لهم بالجنة مع إخوانهم تتمة العشرة المبشرة) والخوض في دماء المسلمين بما وقع من الأحداث والفتن»
إن وقفة الأستاذ الملاح حيال عرضه هاتين العقدتين لم تكن بالصيغة التي رأيت - (مع ملاحظتك أيها القارئ الكريم أن ما بين القوسين من إضافتي
ص: 100
وشرحي لمجمل)قوله إنها لم تكن وقفة العلم والتجرد والحياد، وإنما هي وقفة من أحاط بركام التاريخ في هذه البحوث التي وقف عليها حياته، فناله منها تصديق وإنكار، ورضا وغم، حتى انتهى من ذلك إلى ظلم عثمان رضی الله عنه،بعقابه واتهمه وهو المظلوم باستشهاده، ولم ير من سنة الأدب مع الصحابة أن يترضى عنه، وعمن ذكر من إخوانه، ومع ذلك لم يلبث الأستاذ الملاح أن أفاء إلى نفسه، فقال ص 12 معتذرا: وكان للعلماء رأي سديد في طي هذه الصحيفة، والمرور بها مرور الكرام؛ لأنها في حكم المتشابهات؟ ولكن ماذا نصنع والنواعب تنعب في كل فرصة مواتية، (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُون مَا تَشَبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ).
إن تاريخ الصحابة ليس دينا (1) وإنما هو تاريخ، والتاريخ موطن العبر، وإنما الذي وصل أحداثهم بالدين أنهم رواته وحماته، وكان الدين من بعدهم عنه،المذاهب وتستظل بظله السياسة، حتى المجرمة والطائفية، وإن للصحابة من الدين منزلة الإمامة، وقد حمى الله بهم دينه، وبلغ في الأرض الرسالة، وإن لهم بالسابقة امتحان الصادقين، غير أنهم بعد ذلك بشر، تجمعهم مبادئ وتفرقهم نظرات واجتهادات ترجع إلى شخصية كل منهم، فهذا علي علیه السلام بنشأته وصلابة خلقه وغزارة علمه يمثل القضاء الذي وسده إليه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ناشنا، حين وجهه إلى اليمن، وهذا معاوية في موطن شرفه وميراثه الأموي الهاشمي القرشي رجل زعامة، وهو يعد.
ص: 101
بمواهبه وأدوار حياته رجل حكومة وسياسة فإذا كنا نعرف في عصرنا للرجال المخلصين حزبًا يضمهم بموقف الحماس والإيمان والتضحية، ولاسيما في عهد زعامة جامعة، فلقد عرفنا لهم لاختلاف الشخصية - ولاسيما بعد وفاة زعيمهم - وجهات نظر مختلفة وكثيرا ما أدت بينهم إلى فرقتهم على رغم اليقين القاطع بإخلاصهم جميعًا، فإذا تفرقوا أو أخطأ أحدهم أو كلهم لم يُحرموا من شرف الإخلاص ومنزلة المخلصين وأهل السابقة وليس في سفك الدماء بعد ذلك غير النتيجة الطبيعية لهذا الاختلاف، وليس الدم الأحمر دائمًا دم جريمة، بل ربما كان دليل فرط الإخلاص والحماس والحمية ومثل هؤلاء في المنزلة السابقة يغفر الناس لهم أخطاءهم هذه، وإنصافا ووفاءً، فكيف بفضله ومنه سبحانه، ونحن نقرأ مما صرح به تعالى في مقام المنة على رسوله قوله: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) (ليغفر لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَرَ)،كما نرى على هذه الشاكلة: فنظر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالمنظار إلهي حين قال في أهل بدر مقالة الرضا عنهم، أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: «اطلع الله على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (1).
إن كلا من علي ومعاوية رضی الله عنهما كان يرى نفسه الأكفأ للقيام بأعباء الخلافة (2)، والأصلح للأمة في قيادتها وحماية رسالتها، ومع ذلك فقد له
ص: 102
وقعت بينهما فتنة طواها التاريخ بقرونه، فإن تكن نظرًا للعبرة، فلها في كل دعوة وحزب أشباه فهي موطن عبر، وإن تكن للتمذهب والعصبية الطائفية، وتفرقة الأمة في حاضرها ومستقبلها بتبشير ودعاية وافتراءات، فهي تجديد للمأساة التاريخية، وإفساد للحاضر والمستقبل، وهنا هنا المشكلة التي نراها حية تشعر ويراها الأستاذ الجليل الملاح فيضرب معها لينقذ الحقيقة المسلمة النيرة، وينصف الصحابة - رضوان الله وسلامه عليهم جميعا ويوقظ أمة، فإذا به يقف عند العقدة ويصيبه من تعقدها شظية ...»!
وكذلك مر الأستاذ الملاح بحديث الخوارج ص 17 فردّ على اتهامهم بالمروق من الدين قائلا لابن أبي الحديد في رده: فما حجتك على هؤلاء المساكين الذين طلبوا الحق فأخطأوه!
إن كلمة الخوارج قد جمعت كل من خرج على الخليفة، وقد تعاقبت الأزمان والخلفاء وتتابع الخوارج وإن تنوعت البواعث، فإن كان فيهم المثالي» الذي ينطبق عليه دفاع الأستاذ الملاح، فإن فيهم المجرم التاريخي، ومنهم من يتعقب آثاره بتحقيقاته ونقداته وبرسائله ومقالاته
وأشد من هذا فی المأخذ أنه يجري في أسلوبه على طريقة من المجاراة والمشاكلة، فإذا باللفظ ينتهي به إلى غير ما يقصد، كما ترى ذلك في في ص 26، حين ردّ من الخطب المعزوة لسيدنا علي علیه السلام ما رد بنقد أدبي صحيح
ص: 103
قوي، کشف عن اللغة والأسلوب وجه التزوير، حتى إذا انتهى إلى المعنى ردّ على جهله منها وهي: كمال الإخلاص نفي الصفات عن الله تعالى فقال: أمن الإخلاص أن تجرد من أخلصت له من ملابسه فتتركه عاريا يضع يديه على سوأتيه»، فهذه الصورة منتزعة من خلق البشر بتجريدهم سوءتهم، وهي بذلك تعتبر الصفات من الذات كالملابس، مع أن البحث بأصله في ذات الله وصفاته، وإن إخلاص التوحيد له سبحانه وبحث القدم هو الذي أثار في العهد العباسي مثل هذه البحوث التي عزي منها إلى سيدنا علي ما عزي، بلغة غير لغته، ونظرة غير نظرته، ونظر زمانه، فوجه نقد الأستاذ الملاح صحيح، وإن سوأة القول هو القبيح، وهو من التفريط في جنب الله، ومثل ذلك ليس ما يقصده الأستاذ الملاح لولا أنه جرى مع اللفظ؛ فامتد به إلى غير ما يقصد من المعنى.
وإن الأستاذ الملاح بتتبعه لما تضرب به موجات الدعاية والطباعة وما يقتضيه النظر المعجل قد يفوته أحيانًا مجال التحقيق، فيكتفي بقدر ما علم كما ترى ذلك ص 35 حين مر بذكر الخطب النبوية فقال: لو كان للنبي صلی الله علیه و آله و سلم خطب،مجموعة وما إخال ذلك»، هذا مع أن خُطبة صلی الله علیه و آله و سلم مروية، وهي من أحاديثه، وفي مطاوي سيرته موفورة وأذكر للأستاذ القاضي الشاعر الشيخ يوسف النبهاني (1) مجموعة تضم جملة من الخطب النبوية، وكذلك أذكر خطبة أوردها فشكك بها بنظر الدراية قائلا: وما إخالها، ومن المعلوم أنه.
ص: 104
لا يكفي ذلك في النقد والسرد للنصوص، ولاسيما من الأحاديث النبوية، ولئن اتهم معنى، فكم دس الوضاعون المتعصبون لمذاهبهم كلمات أو فقرات، أو انتزعوا كلمات وفقرات هي وحدها موطن التزوير» في الخيانة والنقد والرواية ...
هذه ملاحظاتي أنشرها بين يدي القراء الكرام في الرسالة ومواضيعها الجليلة، وبحوثها التي تضم بنقداتها وفقراتها طاقة الزهر بألوانها الجميلة، كما أنشرها بين يدي الأستاذ الجليل الملاح تقديرًا لبحوثه وتتبعا لآثاره فيما ينبغي الاهتمام به وفي ذلك بعض التقدير والوفاء، فجزاه الله أكرم الجزاء في الدنيا والآخرة. المحامي: محمد كمال الخطيب».
ص: 105
محمود الملاح
تشريح شرج نهح البلاغة لابن ابى الحديد
ثورة فكرية تاريخية قومية 1
1374 - 1954
مطبعة أسعد - بغداد
السعر 100 قلم
ص: 106
للأستاذ: محمود الملاح رحمه الله
اعتنى بنشره سليمان بن صالح الخراشي
ص: 107
إنا نشعر أن هناك مؤامرة محشوة بفن الكيد والدس!
من ذلك الفن: تجديد طبع الكتاب المسموم الموسوم بشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد!
لقد تأكد لدينا هذا الخطر منذ جهر القائل بقوله:
عصر التقية قد تقضى وانقضى ...
وما تجرأ القائل على هذا القول الحامي ... إلا بعد وثوقه بالحامي والمحامي ...!
وهذا إنذار بأن الغيب يتأبط شرًا من فن تقليدي مغلف) كنا في غفلة منه أو متفائلين.
ومن شُعب عب ذلك الفن المبطن ... ما تبطنه الكتاب المذكور من فنون وفتون!
نقول بمرارة علقمية: إن خيانة ابن العلقمي تفوح رائحتها ... وقدرها منصوبة على أثافي لها وميض ...!
إن تلك القدر لا تتنفس في وطن ابن العلقمي فقط. فقط ... بل لها منافذ في أوطان أخرى عربية وغير عربية ...
ص: 108
إن تعليقاتي على الجزء الأول ما هي إلا لماظة في جنب مائدة ضخمة مختلفة الألوان ... إلا أني أتوقع أن تعصف هذه اللماظة بتلك المائدة الحافلة بألوان الحرباء ... بل الحية ذات الألوان السبعة!
(من الرقش في أنيابها السم ناقع)!
والله المستعان
بغداد 21 ربیع الأول 1374 ه
20 تشرين الثاني 1954م
محمود الملاح
ص: 109
جاء في كتاب يتضمن (حوادث المائة السابعة) (1) طبعه المرحوم الحاج نعمان الأعظمي الكتبي في بغداد - جوادث سنة 656 ما يلي:
«ورحل السلطان هولاكو من بغداد في جمادي الأولى عائدًا إلى بلاده وفوض أمر بغداد إلى الأمير علي بهادر شحنة بها، وإلى الوزير مؤيد الدين بن العلقمي ...»ص 331 (2)
وفي ص 332 (3) فلما عاد الوزير والجماعة من خدمة السلطان قرروا
ص: 110
حال البلاد ... فعينوا - طبقة من المنتسبين في ألقابهم إلى الدين عز الدين بن أبي الحديد ... منهم:فلم تطل أيامه ...»
وفي ص333 (1) «فتوفي الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي في مستهل جمادى الآخرة ودفن في مشهد موسى بن جعفر ... فأمر السلطان أن يكون ابنه عزالدين أبو الفضل وزيرًا بعده».
وفي ص 334 (2) ولقد قال الشعراء في واقعة بغداد أشعارًا كثيرة، منها ما قاله محمد بن عبيدالله الكوفي:
بانوا ولي أدمع في الخد تشتبك *** ولوعة في مجال الصدر تعترك
يا صاحبي! ما احتيالي بعد بعده: *** أشر علي فإن الرأي مشترك
ولما شاهد تربة الرصافة وقد نبشت قبور الخلفاء وأبرزت العظام والرؤوس، كتب على بعض الحيطان (3):
إن ترد عبرة فتلك بنو *** العباس حلت عليهم الآفات
استبيح الحريم إذ قتل *** الأحياء منهم وأُحرق الأموات
ومما قاله أيضًا (4):
يا عصبة الإسلام نوحو واندبوا *** أسفًا على ما حل بالمستعصم.
ص: 111
دست الوزارة كان قبل زمانه *** لابن الفرات فصار لابن العلقمي إن الشاعر قارن بين ابن العلقمي وابن الفرات لغرض بديعي، وإلا فإن ابن الفرات وبينه وبين ابن العلقمي ثلاثة قرون لم يكن أقل مرارة من العلقم! فقد كان متهمًا بالقرمطة هو وابنه (المحسن)، وبموالاة ابن أبي العزاقر الباطني من فصيلة الحلاج المشهور، واقرأ أخبارهم في الجزء الخامس من كتاب (تجارب الأمم ص 122 (1).
وفي ص 336 (2):
توفي الوزير مؤيدالدين محمد بن العلقمي في جمادى الآخرة ببغداد وعمره ثلاث وستون سنة. كان عالمًا أديبا فاضلا يحب العلماء ويسدي إليهم المعروف إذا كانوا من طبقة ابن أبي الحديد - شارح النهج - طبعا!.
وفي حاشية الكتاب (3) إلا أن خيانته لمخدومه تدل عل سوء أصله» الضمير عائد إلى ابن العلقمي ومخدومه المستعصم آخر خلفاء بني العباس بعده، وتوفي علم الدين أحمد أخوه،بعده والقاضي القاسم بن أبي الحديد).
ص: 112
المدائني في جمادى الآخرة؛ فرثاه أخوه عزالدين عبدالحميد - شارح النهج - بقوله (1):
أأبا المعالي! هل سمعت تأوهي؟ *** فلقد عهدتك في الحياة سميعا!
إلى أن قال:
ووفيت للمولى الوزير فلم تعش *** من بعده شهرًا ولا أسبوعا!
(وبقيتُ بعدكما) فلو كان الردى *** بيدي لفارقنا الحياة جميعا
فعاش عزالدين - صاحبنا! - بعد أخيه أربعة عشر يوما ص 336.
فهل رأيت أعجب من الدنيا وخستها وخسة الخائنين المنهكين فيها؟. وفي ص 340 (2) في ذي الحجة - سنة 657 - توفي عزالدين أبو الفضل بن الوزير العلقمي - وقد مر ذكره ولي الوزارة بعد وفاة أبيه ... دخل الديوان يومًا فقيل لعلي بهادر شحنة بغداد إن فرس الوزير على الباب وعليها كنبوش ابريسم، فقام وشاهدها وعجب ... فقيل له: هذه قاعدة الوزراء في زمن الخليفة!؟ فبال قائمًا عليها وأمر بإخراج الفرس!.
هذا بعد ذلك الامتياز الذي حصل عليه ابن العلقمي بحيث إن داره كانت حرما آمنا للائذين بها أبان الواقعة! فمات هو على الأثر! ومات أخوه على الأثر! ومات ابنه على الأثر! بعد إهانات لا تتحملها العبيد ... فسحقا ثم سحقا! ...
ص: 113
أما نصير الدين الطوسي (1) الذي رافق الحملة من البلاد الإيرانية، فلم يكن شريكا مباشرًا في خيانة الخليفة بل كانت خيانته من طراز آخر! وعُمر بعد الكارثة صارفًا همته إلى بناء الرصد لتوطيد حكم الدولة الغازية! ولما توفي دفن في مشهد موسى بن جعفر أيضًا مجاورا لابن العلقمي! (2).
وكان من لطف الله بالبلاد الإسلامية المنكوبة بخائنَيها أن الحكومة المغولية على عتوها ... فوضت أمر البلاد تفويضًا عامًا إلى سياسي فاضل وأديب كامل، هو الوزير الأعظم (عطا ملك الجويني) (3) الذي لم يسبقه مثيل.
ص: 114
إلا نظام الملك وزير السلاجقة، فقد تدارك هذا الدين بعد أن كان على شفا بالحكم البويهي ... أما عطا ملك فتدارك الدين والدنيا. ويشبهما من المتأخرين داود باشا (1) على ما يلوح لنا ... يليه مدحت باشا الوالي العثماني (2)، سوى أن الزمان ضنين بالنوابغ.!.
ص: 115
إن نسبة نهج البلاغة إلى علي بن أبي طالب هو الله موضوع مفروغ منه عند الباحثين المستبصرين وإن زلة المرحوم الشيخ محمد عبده كانت على قدر صاحبها ... في التنويه به وتيسيره للقراء بتكلف التعليق عليه وطبعه طبعا يوازي طبع المصاحف (1).
وقد أشرت في آخر كتابي (حقيقة إخوان الصفاء) (2) إلى ما بين النهج ونهج هؤلاء من صلة بشهادة صاحب الفردوس الأعلى العلامة كاشف الغطاء الذي كشف لنا الغطاء.
لقد خُدع الأستاذ الإمام بالنهج كما خُدع المرحوم أحمد زكي باشا (شيخ العروبة) برسائل إخوان الصفاء (3) التي هي بمنزلة المسايل لذلك
ص: 116
(الينبوع) المصنوع وكلاهما من معمل العصر البويهي ككثير غيرهما ... (1)
لقد كان الأول بحكم مهنته القلمية يفتش عن القوالب الرصينة (2). وكان الثاني يفتش عن الفلسفة الاجتماعية وكلاهما حديث عهد بالبعث، كالجائع الذي ظفر بشيء من الطعام فأقبل عليه غير سائل عن حقيقة صانعه! ولا عما دس فيه صانعه!.
اضطررت وأنا أكتب إلى مراجعة نهج البلاغة (أثر الشيخ) وأنا بعيد العهد به، فوجدت كاتب مقدمة (3) طبعه يقول:
«هذا كتاب نهج البلاغة وأنا حفي به منذ طراءة السن ... فلقد كنت أجد والدي كثير القراءة فيه، وكنت أجد الأكبر يقضي معه طويل الساعات يردد عباراته ... وكان لهما من عظيم التأثير على نفسي ما جعلني أقفوا أثرهما ...».
فهو يعترف أنه كان شابًا غير مجرب وأنه كان ينطبع في ذهنه ما ينطبع في ذهن مثله! وهذا الوهم الذي مر به كالوهم الذي مر بي في مثل سنه ...
ص: 117
قال في ص: ج:
«فقد سبق إلى التشكك في الكتاب ... قاضي القضاة ... ابن خلكان المولود في مدينة أربل في سنة 608 والمتوفى بمدينة دمشق سنة 681 من الهجرة ...
ثم جاء من بعده الصفدي وغيره من كتاب التراجم (1)، فتابعوه على ذلك، وحينئذ قوي الشك وتمكن»
وإذا شكك المتقدمون كان المحدثون أحق بالشك منهم!.
وبعد أن عرض كاتب المقدمة الوجوه التي قدمها المتعرضون الطاعنون في النسبة شرع في ردها بما لا وزن له في علم الميراث.
وهاك ما قاله في ص: د وأهم ما يجد باحثو الآداب العربية في هذا العصر من أسباب يدعمون بها القول بأن الكتاب من صنع جامعه ... (2) نوجزه لك في الأسباب الأربعة الآتية:
الأول: أن في الكتاب من التعريض بصحابة رسول الله ما لا يصح أن.
ص: 118
يسلم صدوره عن مثل الإمام علي ...
وكان من جوابه عن هذا قوله في ص: ه «والظاهر أن فتنة الخلافة التي ابتلي بها المسلمون والرسول مسجى على سريره كانت تستوجب هذه السرعة التي خاض غمارها رجلا الإسلام وشيخاه أبو بكر الصديق وعمر الفاروق رضی الله عنهما والإمام علي حينذاك مشغول بتعزية زوجه فاطمة عما أصابها، فحدث من سوء التفاهم ما لا بد منه في هذا الموقف وصبر علي علیه السلام حتى دارت الأيام وأفضت الخلافة إليه، وحينئذ لم يجد من يصح أن يؤثره على نفسه، و وقف معاوية رضی الله عنه من الإمام موقفه المشهور، فكانت بينهما مناضلات ...».
وهذا الجواب جزئي بالنسبة إلى الاعتراض الأول، والنزاع ليس في ما تضمنه الجواب بل في ما تضمنه الاعتراض إذ في النهج تحامل على الشيخين وتعريض بعثمان تعريضًا ممجوجا كما سيأتي تفصيله (1)
أما الأجوبة الثلاثة فلم نوردها لظهور،ضعفها، ولذلك طوينا الأسئلة الثلاثة الباعثة لها، وجل غرضنا الاختصار ومن شاء فليراجع الأصل.
ويغلب على الظن أن نهج البلاغة تقبله المتسننون عن طريق الزيدية المحافظة على الحدود في الجملة ... ولو جاءهم من طريق المجاوزين للحدود لم يطمئنوا إليه؛ لتجرئهم على الكذب بلا قيد ولا شرط!
وانظر ما قاله صاحب العلم الشامخ في تفضيل الحق على الآباء؟
ص: 119
والمشايخ) (1) وهو زيدي متحرر فتح باب التحرر لمن جاء بعده؛ كمحمد بن عبدالوهاب والشوكاني والسيد صديق خان والسيد أحمد الباريلي (2) في القارة الهندية، تلاهم الأفغاني والشيخ محمد عبده والكواكبي (3) ... ومن إيران الشهيد السيد أحمد الكسروي (4).
قال رضوان الله عليه في ص 364: وكان ابن سيرين يرى عامة ما يروون عن علي رضی الله عنه،كذبًا، وصدق ابن سيرين (رح) فإن كل قلب سليم وعقل غير.
ص: 120
زائغ عن الطريق المستقيم، ولب تدرب في مقاصد سالكي الطريق القويم، يشهد بكذب كثير مما في نهج البلاغة الذي صار عند الشيعة عديل كتاب الله (1)، بمجرد الهوى ... وليتهم أوصلوا ذلك إلى علي برواية تسوغ عند الناس، ولكن لم يبلغوا بها مصنفها! حتى لقد سألت في الزيدية إمامهم الأعظم وغيره فلم يبلغوا بها الرضي ... ولو بلغوه لم ينفعهم، فإن مذهب الإمامية تكفير من لم يكن على مذهبهم ... وإن كان من أهل البيت كزيد!! انظر كتابنا (الوحدة الإسلامية).
:أقول فحسب النهج ما نقلناه عن الإمام المقبلي! وحسب شارحه ابن: أبي الحديد أنه من زملاء (أبي رغال) الإسلام ...
ص: 121
لاحت طلائع الغزو ... يقودها اثنان من أبناء (الزين) من فصيلة صاحب (مجلة العرفان) (1)! وثالث من أبناء (الشرف) من فصيلة صاحب (جريدة الساعة) (2) المعروف السمت و (السمة) ... (محققان) ضعیفان و (طباع) متاجر ... هو صاحب دار الفكر في بيروت التي أصبحت (بابل) القرن العشرين ومعدن البلاء المبين و حبيب إسرائيل قريب!.
إنّا لا نحرّج واسعًا ... ولكنا لا نستطيع إخفاء تشاؤمنا من كتاب يذكرنا بسقوط عاصمة الرشيد بين أيدي المغول، إثر الفراغ من تأليفه باسم الوزير الخائن ...! فكأنه كان إرهاصًا لذلك السقوط الشنيع!.
ما ثمرة المسلمين؟ أو ما ثمرة العرب من كتاب ألفه (مذبذب) لا يستقر على مذهب!؟ بل يتحول ويتقلب في صفحة واحدة ... هو شافعي! هو معتزلي هو شيعي هو ظاهري هو باطني هو شعوبي! هو محقق! هو متملق! هو متحذلق ... إلخ يجمع هذه النعوت على اختلافها رفض مبرقع)، ربما لا يعتقده لكن يسنده ...! بداعي قول الشاعر:
ص: 122
تعالى الله يا سلم بن عمرو! *** أذلَّ الحرص أعناق الرجال
إذا كان الكتاب يُعرف من عنوانه في جبهته، فشرح النهج يُعرف هو وصاحبه
من ديباجته وبراعة الاستهلال تدلّ على البراعة في ميدان الاستغلال!.
بعد البسملة!! الحمد لله الواحد العدل الحمد لله الذي تفرد بالكمال فكل كامل سواه منقوص!! واستوعب عموم المحامد والممادح فكل ذي عداه مخصوص واقتضت حكمته أن (نافس) الحاذق في حذقه فاحتسب به عليه من رزقه وزوى الدنيا عن الفضلاء فلم يأخذها الشريف بشرفه! ولا السابق بسبقه! و (قدم المفضول على الأفضل لمصلحة اقتضاها التكليف!! واختص الأفضل من جلائل المآثر ... بما يعظم عن التشبيه! ويجل عن التكييف
وصلى الله على رسوله محمد المكني عنه شعاع من شمسه وغصن من غرسه وقوة من قوى نفسه، ومنسوب إليه نسبة الغد إلى يومه واليوم إلى أمسه فماهما إلا سابق ولاحق) و(قائد وسائق) و (ساکت وناطق) (صلى الله عليهما) ...»!
إن هذه الديباجة (الغالية) لو تفرغ لشرحها أو تشريحها (غال) لاستحق أن يسمي شرحه لها شرح الديباجة كما سمي شرح السيد كاظم الرشتي (1).
ص: 123
لقصيدة العمري (شرح القصيدة!!
وإن تعجب فاعجب لهذا الكاتب البليغ إذ أسند (المنافسة) إلى الله!! والتنافس إنما يكون بين الأقران!؟.
وبعد! فإن مراسم المولى الوزير الأعظم صاحب الصدر الكبير المعظم العالم العادل ... (المجاهد المرابط) ... (عضد الإسلام) ... (ابن العلقمي) نصير أمير المؤمنين ...
لما شرفت (عبد دولته) و ربیب) نعمته ... بالاهتمام بشرح نهج البلاغة على صاحبه أفضل الصلوات) ...»!؟.
«وبرهن على أن كثيرًا من فضوله داخل في باب المعجزات المحمدية لاشتمالها على الأخبار الغيبية وخروجها عن وسع الطبيعة البشرية ...»
هكذا كان يعتقد ابن أبي (الح) المعتزلي ... من محكمي العقل السديد!
ولم يمش مع طبيعة النهج بادئًا بشرح ديباجته على النسق المعروف بين الشراح، بل نهج نهجًا آخر بتعجيل بحث الإمامة والتفضيل وغيرهما من فروع (بيت القصيد) الذي هو أهم شيء لدى صاحب الدست المغمور من جهاته الست ... وليكون قريبًا من نظر اطلاعه فيستغنى عن التصفح ...! وبذلك يستحق (المهر) المعجل) ... على طريقة (من أراد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد)!!.
أما المهر المؤجل فسوف يستوفيه في الآخرة عند مالك!.
ولم ينفرد ابن أبي الح بمثل هذا فله إخوان وأعوان منهم سبقوا ومنهم
ص: 124
صاحب كتاب الفنون (1) وهو (حنبلي) ...! ...
ص: 126
وفي عصرنا جمع لا يقل عن هؤلاء، منبثون في الأقطار الإسلامية، متسترين بدعوى (الوحدة الإسلامية) لاغتيال التوحيد من قلوب الموحدين تشجعهم الإمداد الاستعمارية.
لم تسبق لي مطالعة شرح النهج، وكنت مغرورًا باسم المعتزلة ككثير غيري من الباحثين. والمشهور عن المعتزلة أنهم يحكمون العقل، فلا بد أن يكون ابن أبي الح ... أحدهم نظرًا، ولكن الخبر كذب الخبر!.
فقد اهتديت فيما بعد إلى أن المعتزلة المتأخرين لم يثبتوا على منهاج المتقدمين؛ لأنهم بايعوا وشاروا وداهنوا وداروا وركضوا وراء الدنيا ركض الحملان وراء النعقة لا كما وصف المنصور العباسي أحد رؤوسهم السابقين (1) بقوله:.
ص: 127
كلكم يمشي رويد كلكم يطلب صيد! غير عمرو بن عبيد!
ومنهم من ابتعد عن أبواب السلاطين، ولكنه لما اشتغل بغير فنه دلَّ على وهنه؛ كالزمخشري (جار العقل)!! فإنه في اللغة والبيان رفيع، ولكنه في نقل الأخبار بغير امتحان واختبار رقيع!.
لذلك يجب أن تُقرأ كتب أمثال هؤلاء في مثل هذا الموضوع بحذر! ومن حرم ملكة التمييز وجب عليه الابتعاد من آثارهم (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ) وإلا كان ممن (فَهُمْ عَلَى اتَرِهِمْ يهرعون)!! (1).
هذا نموذج من تحكيم العقل عند المعتزلة: إن صح خبر الطائر فعلي أفضل»!.
إن العقل يحكم بتمحيص الخبر أولاً ثم الحكم! لا بالحكم معلقا على الصحة!؟.
إن القناعة بصحة الخبر كافية لوزن العقل واختباره! فإذا ادعى رجل عقلا كان عرض الخبر عليه خير أداة لامتحان عقله!؟ ...
ص: 128
وخلاصة الخبر أنه أهدي إلى النبي علیه السلام طائر مشوي فدعا الله أن يأتيه بأحب خلقه إليه ... فجاء أبو بكر!فرده ثم جاء عمر فرده! ثم جاء علي فأشركه في أكله وعينا راوي الحديث تنظران (1).
إنه لا ينافي الطبيعة أن يُهدى إلى النبي طائر فينتظر من يشاركه فيه ويتفق أن يأتيه قريب أو صاحب ...
ولينظر في الحديث أين وقع مضمونه؟ أفي الدار، وهذا هو الغالب، والدار لا تخلو من أهل يستحقون المشاركة أم في المسجد؟ فالمسجد لا يرد عنه أحد! دع أنه لا يخلو من ناس يحفون بالنبي لشدة حرصهم عليه؛ فتأمل في هذه النواحي قبل أن تفتش عن السند!.
وهنا نكتة لطيفة: وهي أن الطائر برد بهذا الانتظار وذهبت لذته!؟.
بربك! ماذا انتفع المسلمون من قتل أوقاتهم بفاضل ومفضول وأفضل؟ ومتى تعبدنا الله بالتفتيش عن فاضل ومفضول؟ وإلام نخبّ في هذا الفضول؟ (2) ...
ص: 129
ألا يكفينا أن نقول: كل من خدم تاريخ الإسلام فهو فاضل، وكل من خدم خدمة أفضل كان أفضل؟.
وإذا ضلت العقول على عد. م ...!
انظر ماذا يقول ابن أبي الح ...؟ وذهب كثير من الشيوخ إلى التوقف أن مذهب واصل وهو رأس وهو قول أبي حذيفة واصل بن عطاء ...» مع ان مذهب واصل وهو راس المنزلة، في علي معروف عند المؤلفين في تصنيف الفرق؛ كالبغدادي (1).
ولكن ابن أبي الح بعد طي ولي وتموج حلزوني ... يقول «أما نحن فنذهب إلى ما يذهب إليه شيوخنا من تفضيله علیه السلام». الضمير عائد إلى علي لا إلى النبي!.)
ص: 130
ثم يداور ويقول: وقد ذكرنا في كتبنا الكلامية ما معنى الأفضل؟ وهل المراد به الأكثر ثوابًا أم الأجمع لمزايا الفضل ...؟».
وكيف تستطيع أن تهتدي إلى الأكثر ثوباً؟ أم كيف تستطيع أن تهتدي إلى الأجمع من بين التلفيق الذي شحنت به المجلدات؟.
ثم يعوج فيقول: وليس هذا الكتاب موضوعًا لذكر الحجاج ...» كلا! بل أراد الفرار من الزحف!؟
وفي ص فأما القول في البغاة والخوارج ... أما أصحاب الجمل فهم عندنا هالكون ... وكيف ثبت عندك هذا الاختصاص؟
ولكنه يستثني فيقول إلا عائشة وطلحة والزبير فإنهم تابوا.»
ولنا هنا سؤالان: الأول: كيف تستثني الزعماء المتبوعين وتترك التابعين؟.
والثاني: كيف ثبتت عندك توبة الزعماء بعد أن غُلبوا؟ وبعد أن قتل بعضهم في الغمرة؟ أما كان خيرًا لنا أن نقول: الله أعلم بحال الفريقين وليس لنا منفعة في خوض المعمعة؟! (1).
وهناك سؤال ثالث: ماذا تعني بالتوبة؟ أتعني أنها من مجرد الوثوب في سبيل الزعامة؟ أم من معاكسة الإمام؟ لأن بين التفسيرين فرقا، ولكل وجه!.
إن كان يعني الشق الأول، فعلي سبق إخوانه إلى طلب الزعامة!، وإن كان.
ص: 131
يعني الشق الثاني فالثلاثة أنداد،وأقران فلِمَ كان أحدهم حجة على الآخرين؟ دع أن معهما أم المؤمنين.!
ثم يقول وأما الخوارج فإنهم مرقوا عن الدين» ... فما حجتك على هؤلاء المساكين الذين طلبوا الحق فأخطأوه أيصح الاحتجاج بأخبار صنعت بعد وقوع الوقائع وما زالت تُصنع إلى قرون؟ (1).
وما سمعنا عن الخوارج حديثا واحدا في علي مصنوعا أو غير مصنوع ...! ولكنَّا سمعنا الكثير مما صُنع في الخوارج وغيرهم ... للدفاع عن أمير المؤمنين.
ومما قاله «إن أصحابنا يحكمون بالنار لكل فاسق مات على فسقه هذا كلام،موجه ولكنه عام يحتمل ألف كلام!؟.
وأردف هذا الحكم بقوله إن الباغي على الإمام الحق والخارج عليه بشبهة أو بغير شبهة - كذا - فاسق وليس هذا مما يخصون به عليّا، فلو خرج قوم من المسلمين على غيره من أئمة العدل لكان حكمهم حكم من خرج على علي».
فنحن نسأله: ما رأيك في حال من تأخر عن مبايعة أبي بكر، وكاد يُحدث.
ص: 132
وغرضنا من جواب هذا السؤال المقارنة بينه وبين الحكم على مثل المغيرة
ص: 134
بن شعبة بإحباط عمله (ص4)، مع أن المغيرة نصح عليا ثم قعد عن المحاربة ... وكثير من الصحابة المعتد وكثير من الصحابة المعتد بهم لم يبايعوا ولم يحاربوا تحرجًا من سفك دماء المسلمين ... أفلا يكون أمثال هؤلاء قدوة للمغيرة، مع قطع النظر عن أنه من أندادهم!؟.
ولِمَ خصَّ عبدالله بن الزبير بأنه لا خير فيه، وهو لم ينفرد في حب الزعامة دع أن أباه حواري رسول الله كان أمامه!؟.
ومن أين جاء ابن أبي الح ... بمثل لا يُبغضك إلا منافق (1)؟ أبمثل هذا.
ص: 135
تقام الحجج؟ وكراهة المؤمنين على الإطلاق نفاق لا خصوصية هناك! فإن
ص: 136
كان لابد من خصوصية أفما كان من (العدل) الذي افتتح به الديباجة إشراك
ص: 137
أبي بكر وعمر اللذان بفضلهما عرفنا الإسلام ... ليرتدع (المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون).
يقول هذا المذبذب المتموّج المذهب في ص4 وتزعم الشيعة ...! أنه خوطب في حياة النبي بأمير المؤمنين، ولم يثبت ذلك ...»، يشير إلى أنه رجل يتحرى الصدق، بل أنه ليس شيعيا وبذلك أصبح ابن أبي الحديد خبث الحديد بين المتسننين والمتشيعين والمسلمون يتعوذون من الحبث والخبائث)!؟.
ثم يداور ويقول: إلا أنهم قد رووا ما يعطي هذا المعنى، وهو قول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: (أنت يعسوب الدين) أو (يعسوب المؤمنين) (1) وكلا (يعسوب! الخبرين من وزن واحد فما الذي رجح أحدهما على الآخر؟.
والاستناد إلى مسند أحمد لا قيمة له في مواقف الحجاج؛ لأن مسند أحمد لم يعده العلماء في الصحاح، وهو يحتاج إلى غربلة واسعة ... وربما ه)
ص: 138
أراد - رحمه الله - غربلته قبل وفاته فلم يتيسر له وهو مشغول بنكباته ... وفي مسنده كثير من الروايات المائعة التي صارت فتنة لبعض المائعين ...! دع أنه أضيف إليه ما أضيف! (1) ...
ص: 139
وأصل التلقب بأمير المؤمنين أن عمر رضی الله عنه لما تولى الخلافة بعد أبي بكر، وكانوا ينادون أبا بكر بخليفة رسول الله فماذا ينادون عمر؟ أيقولون: خليفة خليفة رسول الله؟ لما استثقلوا هذا اللقب أنطق الله بعضهم بقوله: يا أمير المؤمنين فاستحسن المسلمون هذا التركيب وصار لقبًا لكل من وُليَ خلافة المسلمين.
وغار خصوم الخليفة الثاني فأغاروا على اللقب وخصوه بالخليفة الرابع بعد مضي نحو عشرين خليفة، ولفقوا تحت ظل الدولة البويهية ما لفقوا ... الأمر إلى أن قالوا: إن كل من تلقب بأمير المؤمنين – غير علي - فهو المعني بقوله تعالى: ﴿إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا إِنَتا) أي هو مخنث أو (مأبون)! وممن استحق هذا النبز (المأمون) الذي بايع الرضا وهم لا يشعرون!؟.
إن أمثال هذه التوافه لا تستحق النقد، ولكنا اضطررنا إليه لنفضح المنطق الذي يضرب ابن أبي الحديد على سندانه!.
ومن التوافه ما نلخصه بأن عليا كان يقول: عبدتُ الله قبل الناس بسبع سنين ولم أقف على شرح هذا الخبر المائع حتى وقعت عليه في الشرح ص 5.
خلاصته أن النبي - عليه الصلاة والسلام - أخذ عليا إلى بيت خديجة تخفيفًا عن عمه من جهة المعيشة، وعمره ست سنين، وكان النبي يتعبد قبل البعثة بسبع سنين وكان علي يشاركه في العبادة ...
أبمثل هذا المنطق تثبت الحقائق؟ من يستطيع أن يضبط لنا مدة مقدمات
ص: 140
النبوة؟ بل المعروف أن النبي صلی الله علیه و آله و سلم كان يتعبد في غار حراء، ولم يُذكر أن عليّا كان يصحبه، ولو للحراسة وظاهر الأحوال تدل على أنه كان يفعل ذلك قبل البعثة بقليل، وعلى تقدير صحة التلفيق، فما المنة على المسلمين الذين اعتنقوا الإسلام عن روية؟ وأي علاقة له بموضوع الخلافة؟ التي هي سياسة عامة فيها كل طامة؟!.
وكيف يستطيع الاهتداء إلى بدء طلائع النبوة من عجز عن إثبات الليلة التي قتل فيها علي، حيث قال قُتل علي لثلاث عشرة بقين من شهر رمضان سنة 40 وفي رواية لإحدى عشرة».
والذي قال بالرواية الأولى توخى ليلى بدر والذي قال بالثانية توخى ليلة قدر! وهناك قول ثالث وهو ما جاء في تاريخ الخلفاء للسيوطي (1) من التردد بين الحادية عشرة والسابعة عشرة.
وفي التنبيه والإشراف للمسعودي (2) أن ليلة بدر كانت التاسعة عشرة (ص 204).
والذي ينبغي المصير إليه أن البحث عن تعيين الليلة كان متأخرًا جدًا، أي إلى العصر الذي أنشئت فيه المآتم وهو العصر البويهي.
ومن الغريب أنا لا نجد في قصة المتآمرين الثلاثة تعيين الليلة مع أتعادهم على ليلة واحدة، بل لا نجد فيها ريح رمضان وإنما نجد التعيين عند ذكر.
ص: 141
الوفاة كيف وقعت؟ وفيها التزيد الكثير على العادة!
وكتاب الأخبار الطوال للدينوري (1) صريح في أن التآمر وقع في مكة أيام الموسم، وأنه لمّا افترق المتآمرون توجه اثنان منهم نحو الشام ومصر وتوجه ابن ملجم إلى الكوفة ومثل هذه المؤامرة الخطيرة التي هي بكر في التاريخ لا تحتمل التريث كما لا تحتمل اشتغال ابن ملجم بخطبة قطام أو الرباب، القصاصون الذين يتأثرون ابن الكلبي الشعوبي في طريقته كما يزعم الكلبية (2).
ثم يقول ابن أبي الح: وقد كانت الروايات وردت أنه يُقتل ليلة بدر، فما قيمة العقل عند المعتزلة بعد الوثوق بأمثال هذه الروايات؟
ثم يذكر اختلاف أصحاب الحديث في تعيين موضع الدفن، فقائل أنه حمل إلى المدينة وقائل أنه دفن عند رحبة الجامع، وقائل عند باب قصر الأمارة أو ند البعير الذي حمل عليه.
ثم تكلف سلسلة مائعة إلا أنها كانت على العقل المعتزلي خشنة لم نوردها لطولها ... انتهى بها إلى أن عليا هو أستاذ المعتزلة ومعلمهم، ورد فقه الأئمة الأربعة بالتواء حلزوني إليه ... إلى أن قال: «أما فقه الشيعة فرجوعه إليه ظاهر وليته وقف عند هذا الحد، بل استرسل فزعم أن عمر.
ص: 142
بن الخطاب أخذ الفقه عن علي مستندا إلى حديث مائع كعقل ابن أبي الح المائع ... وهو: لولا) علي لهلك عمر) (1) زاعمًا أن عمر قال هذه الكلمة غير مرة وأبلغها بعض المتحذلقين عدد (70).!
وما زال في هذا (التبلتع) حتى بلغ ص 7 فزعم فيها أن علم الطريقة وعلم الحقيقة وأحوال التصوف ... إن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الإسلام ينتهون إليه وعنده يقفون!! وسرد على ذلك أسماء يشتبه في بعضها ... إلى أن قال ويكفيك دلالة على ذلك، (الخرقة) ...» يعني الخرقة الصوفية.
وهذه أشياء لا يعرفها الصدر الأول ولا يحسنها. وإنما أنماط هي مستعارة من ملل أجنبية لا يعترف بها الإسلام الأول.
وزعم إثر ذلك أن عليّا أملى على أبي الأسود علم النحو جوامعه.
ص: 143
وأصوله كذا!! من جملتها الكلام ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف، ولم يقف عند هذا الحد بل أضاف إليه تقسيم الكلمة إلى معرفة ونكرة وليته وقف عند هذا، بل أضاف إليه تقسيم وجوه الإعراب إلى الرفع والنصب والجر والجزم قائلا: وهذا يكاد يلحق بالمعجزات»!.
وهكذا ينبغي أن تكون (معجزة) العقل المعتزلي! وعقل ابن أبي الحديد الحديدي!.
بل كان الناس محتاجين في عنصر علي إلى الشكل الذي يفرق به بين المفتوح والمكسور، والإعجام الذي يفرق به بين الصاد والضاد مثلا، لا إلى تقسیم الكلمة ...!.
وبعد أن هام في أودية قصص علمية هام في أودية (قصص بطولية) تذكرنا حينًا بقصة داود وجالوت وحينًا بقصة شمشون الجبار) ...!
ومن القصص (الإحسانية) أو (الفتوية) معاملته لأم المؤمنين، قائلًا «فلما ظفر بها أكرمها وبعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبدالقيس عمَّمهن بالعمائم وقلدهن بالسيوف ... فتأففت وقالت هتك ستري ...! ص 8
فكيف يجتمع الإكرام المرضي والإبهام المؤذي؟ ولعل هذه القصة شعبة مما نسبه إلى نفسه أو نسبه إليه جامع نهج البلاغة: «زعم ابن النابغة لأهل الشام أن في دعابة وأني امرؤ تلعابه ...».
أو ما يحكى عن عمر رضی الله عنه لما عُرضت عليه أسماء المرشحين للخلافة،
ص: 144
وهو يقاوم الألم، حيث قال في علي: إنه أهل لها لولا أن فيه دعابة! وقد نجد لهذه الدعابة أصلا تاريخيًا عتيقا ... كما جاء في كتاب إثبات الوصية المنسوب إلى المسعودي حيث قال (1):
ثم خرجت صفورا (امرأة موسى) على (يوشع)!!! وركبت (الزرافة)!.
فلما حاربت (حجة الله وظفر بها وأشار عليه بعض من معها بقتلها ... فقال لهم: قد عرّفني (موسى) أمرها ... وأمرني أن أحفظه فيها، فوكل بها نساء ملثمات ...» الخ!؟؟.
وقد تكلمنا على صفورا (بنت شعيب) التي حاربت (خليفة موسى وشغبت عليه وركبت ما ركبت في كتابنا الرزية في القصيدة الأزرية) (2) في المناسب فمن شاء فليراجعه ليفطن إلى ما ابتلي به المسلمون من الموضع أول تاريخهم.
وهاك نمطا آخر من عقل ابن أبي الحديد الحديد: بدر الكبرى قتل فيها سبعون من المشركين، قتل علي نصفهم، وقتل المسلمون) والملائكة النصف الآخر».
ولو كنت مكانه لحذفت الكلمة المحصورة بين القوسين ليستقيم الوزن!! الحق أن نشر مثل هذا الكتاب في هذا العصر جناية على الثقافة الإسلامية! ولكن أين المسلمون الذين يشعرون أن الثقافة الإسلامية في خطر؟!.
ص: 145
قال: «أما الفصاحة فهو علیه السلام إمام الفصحاء وسيد الخطباء، وعن كلامه قيل: دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين. قال عبدالحميد بن يحيى - كاتب مروان - الأموي حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ... (فغاضت) ثم فاضت. وقال ابن نباتة ... إلخ ص8.
فليتنا علمنا كم خطبة منها حفظ (أبو حيان التوحيدي) الذي ضعضع أركان النهج حتى ضج وعجّ.
وهو بعد كل هذه المزاعم يتنصل من التشيّع قائلا: «فأهل الحديث لا يقولون ما تقوله الشيعة من أن - عليًا عليا - تأخر مخالفة للبيعة، بل يقولون القرآن فهذا يدل على أنه أول من جمع القرآن ص9.
تشاغل بجمع فنحن نسأل أصحاب هذا الخبر المائع (1) ... أين صار ما جمعه علي؟ وكيف يلائم هذا قوله على الإثر: وإذا رجعت إلى كتب القراءات وجدت أئمة القراء كلهم يرجعون إليه - كذا – كأبي كذا – كأبي عمر بن العلاء وعاصم بن أبي النجود، وهو الذي نقرأ بقراءته، وهي حجة على المتصنع الكذاب صاحب (فصل الخطاب).
قال في ص 6 «فأما فضائله ... فقد بلغت من العظم والجلال والانتشار والاشتهار مبلغًا يسمج معه التعرض لذكرها والتصدي لتفصيلها ... وما أقول في رجل أقر له أعداؤه وخصومه بالفضل ...»
.
ص: 146
أقول: ليس في هذا حجة منطقية، فليس بدءًا أن يعترف الخصم لخصمه،وأمثلة ذلك كثيرة في الجاهلية والإسلام.
فمن أمثلته في الجاهلية: اعتراف عنترة لخصمه اللدود حيث قال:
ومدجج كره الكماة نزاله *** لا ممعن هربًا ولا مستسلم
وقال آخر:
ومحش حرب مقدم متعرض *** للموت غير معرد حياد
كالليث لا يثنيه عن إقدامه *** خوف الردى وقماقم الإيعاد
وهذا من أخلاق الأشراف، عكس الأجلاف الذين لا يعترفون لغيرهم بفضيلة بداعي الخصومة!؟.
ولنأت بأمثلة إسلامية: هذا ابن أبي الحديد أعترف أنا بفضله مع خصومتي له!؟
وفي عصرنا كثير ممن أعترف أنا بفضلهم، ولكني أخاصمهم!
فعلى الباحث أن ينظر في سبب الخصومة أولا، ولا يكتفي بالاعتراف للخصم! فقد يعترف الخصم من ناحية ولا يعترف من ناحية أخرى. والفضائل التي سردها لعلي لم ينفرد بها علي فإنّ أبا بكر وعمر بلغا من العظم والجلال والانتشار مبلغًا معه التعرض لذكرها. حسبك أن يسمج التعرض لمزايا هذين الرجلين ينتهي إلى الشك في الإسلام.
على أنه نقض دعواه بقوله إثرها: فقد علمت أنه استولى بنو أمية - شوكة الأعين على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها واجتهدوا بكل حيلة
ص: 147
في إطفاء نوره ووضع المعايب والمثالب عليه وتوعدوا مادحيه وقتلوهم ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة ... إلخ التخليط.
فنقول له: فكيف وصل إليك نهج البلاغة الذي أغمضت عن تحقيق نسبته عينيك؟ ومن أين جاءك هذا الحشو) السخيف الذي حشوت به كتابك؟
إلى أن قال: وقد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الإلهي) ...»
فانتقل معي إلى ص 20 لتشهد معي 20 لتشهد معي أول نموذج من العلم الإلهي: الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ولا يحصي نعماءه،العادون»، وما نظن أحدًا سبق صاحب هذه الخطبة إلى وصف الله بالمدح بتأخير الحاء عن موضعها! إذ الجاري بين الناس وصف المخلوق بالمدح ووصف الخالق بالحمد!.
أما طنطنة: لا يدركه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن الذي ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود ...»؛ فهي بالنسبة إلى عصر الإمام، ليس لها محصول فالرضي رحمه الله لم يحسن التقدير مع أنه في اللغة والأدب والبيان على كل شيء قدير!
ومن هذا: الباب: وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف ...».
فهل كان في عصر الإمام من يدرك كنه هذا الكلام المرصوف الذي ابتدعه المبتدعون، ثم ألصقوه بعلي لترويجه ... وكيف يسوغ الحكيم أن يخطب الناس بما لا يفهمون؟!
بربك! ماذا يقع في روغ السامع الذي لا يزال محتفظًا بفطرته إذا سمع
ص: 148
جملة (كمال الإخلاص نفي الصفات)؟؟ أمِنْ الإخلاص أن تجرد من أخلصت له من ملابسه فتتركه عاريًا يضع يديه على سوأتيه؟! (1)
واقرأ في ص 34 وصف الملائكة (العمالقة) بما يأتي: ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم والمارقة من السماء العليا أعناقهم والخارجة من الأقطار أركانهم والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم ...
إن مخلوقا هذه جسامته يجب أن تكون أقدامه على حسب جسامته، فانظر ما نسبة الأرض إلى تلك الأقدام؟ (2) إن هذا الإيراد يقع على ملك واحد، فكيف إذا تعددت الملائكة وبلغت ملايين الملايين؟.
قد يقال: إن ملك الله أوسع مما تقدر ولكن ألا يجب أن يكون التقدير على قدر؟ والله يقول: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْتَهُ بِقَدَرِ)، فلو أن مصورًا صور عملاقا برجلي صبي أو يديه أو عينيه أو أذنيه لعد هازلا.
وبدأ ص 10 بذكر سياسة علي قائلا: فإنه كان شديد السياسة خشنًا في ذات الله، لم يراقب ابن عمه ولا راقب أخاه عقيلا ... وأحرق قوما بالنار»،
وهم سلف ابن أبي الحديد وأضرابه ... وكان عليه أن يعتبر لا أن يفتخر!
بعده: وما أقول في رجل تحبه أهل الذمة (3)، وتعظمه الفلاسفة، وتصور.
ص: 149
ملوك الروم صوره في بيعها مع الأيقونات). فبخ بخ!
وإنا لنخشى أن يأتي يوم تصور فيه الأيقونات مع صوره.
بعده: وما أقول في رجل أحب كل أحد أن يتكثر به ... حتى (الفتوة) فإن أربابها نسبوا نفسهم إليه ... وعضدوا مذهبهم بالبيت المشهور المروي أنه سمع من
السماء يوم أحد ...».
ولو أنهم نسبوه إلى يوم بدر لكان خيرا لهم، لأن يوم أحد كانت فيه الكسرة على المسلمين ولم ينفعهم البيت المسموع من السماء.
وإذا كانت فتوة علي تستحق أن يتفتى بها الرجال، فإن فتوة أسماء بنت أبي بكر التي كانت تحمل الزاد إلى الغار ظاهرة غير ملتحفة) ... تستحق أن تتفتى
بها النساء.
وبعد تهويش بداعي (مركب النقص) ... يأتي بهذه الفرية؛ وهي أن عليا علیه السلام انه كان يقول عن نفسه: أنا الصديق الأكبر، وأنا الفاروق الأول) وأقل ما تدل عليه هذه الفرية أن أبا الحسن كان يشره إلى ألقاب إخوانه فينتحلها، وليس ذلك مما يستحسنه الذوق، وأحسن الألقاب ما خُلع على الإنسان، لا ما خلعه الإنسان على نفسه، فإن ذلك لا يخلو مما نجل الإمام الرابع عنه.
ومن الغريب أن يمر العقل المعتزلي الحديدي بمثل هذه السفاسف مرور الكرام ولا يقنع إلا بإسنادها إلى (أستاذ المعتزلة بزعمه، وهو علي بن أبي طالب البعيد عن سفاسف الأعاجم، وهو ذلك العربي الصميم.
وفي ص: 11 (القول في نسب الرضي)
ص: 150
مولده سنة 359، وكان أبوه النقيب (أبو أحمد جليل القدر في دولة بني العباس وبني بويه ولقب بالطاهر وولي نقابة الطالبيين وتوفي عن 97سنة، وهو الذي كان السفير بين الخلفاء وبين الملوك ما شرع في إصلاح أمر فاسد إلا وصلح على يديه، ولاستعظام عضد الدولة البويهي - أمره قبض عليه وحمله إلى القلعة بفارس ...» (1).
وفي ص 12: وكان الرضي تنازعه نفسه إلى أمور عظيمة يجيش بها خاطره وينظمها في شعره ولا يجد من الدهر عليها مساعدة، فيذوب كمدًا ...
فمن ذلك قوله:
ما أنا للعلياء إن لم يكن *** من ولدي ما كان من والدي
ولا مشت بي الخيل إن لم أطأ *** سرير هذا الأصيد الماجد
يعني عرش الخليفة العباسي.).
ص: 151
وله قصيدة حائية لم ينقلها ابن أبي الحديد برمتها قائلا: «وفي هذه القصيدة ما هو أخشن مسًا، وأعظم نكاية، ولكنا عدلنا عنه كراهية لذكره»، وليست تحت يدي لأنقل منها المس الخشن ولكن أذكر منها ما لو ساعد الدهر عليه لسبحت بغداد بالدماء!.
وفي 13: (وكان أبو اسحق الصابي - كاتب الدولة - صديقًا له ... فكتب الصابي إليه:
أبا حسن لي في الرجال فراسة *** تعودت منها أن تقول فتصدقا
وقد خبرتني عنك أنك ماجد *** سترقى إلى العلياء أبعد مرتقى
يعده بالخلافة ويجيبه الرضي بقصيدة طويلة
وهذه الأبيات أنكرها الصابي لما شاعت ...».
والذي يظهر لي أن الصابي كان يخادع الرضي وبذلك استطاع أن ينزع من حماسته المتأججة ذلك الرثاء المتأجج لأجنبي عن الملة:
أرأيت من حملوا على الأعواد؟ *** أرأيت كيف خبا ضياء النادي؟
واشتهرت قصة ت قصة مدح الرضي لبعض خلفاء بني عبيد بقصيدة مطلعها:
ما مقامي على الهوان وعند *** مقول صارم وأنف حمي
قال ابن أبي الحديد: إن القادر بالله عقد مجلسًا أحضر فيه أبا أحمد الموسوي وأبرز إليهم أبيات الرضي، وقال الحاجب للنقيب: قل لولدك محمد أي هوان قد أقام عليه عندنا ...؟ فقال النقيب: أما هذا الشعر فمما لم
ص: 152
نسمعه منه ... فقال:القادر: إن كان كذلك فليكتب الآن محضرًا يتضمن القدح في أنساب ولاة،مصر، ويكتب محمد خطه فيه ... فامتنع الرضي وقال: أخاف دعاة صاحب مصر ... وأقسم أنه ليس بشعره ... وحلف أبوه ألا يكلمه، وكذلك أخوه المرتضى، فعلا ذلك تقية ص 14.
على أن الرضي مدح القادر في أول خلافته مهنئًا ومنوها:
شرف الخلافة يا بني العباس *** اليوم جدده أبو العباس
قال ابن مسكويه: ولقد صدق الموسوي في قوله إن القادر جدد معاهد الخلافة ...» ص 207 تج 6
وفي الهامش: كان الرضي يرشح - نفسه - إلى الخلافة وكان الصابي يطمعه فيها ويزعم أن طالعه يدل على ذلك»!!.
وفي ص 15: رؤيا رآها المفيد شيخ الإمامية تتعلق بتعليم الرضي والمرتضى حين كانا صبيين ... والرؤى كانت تكثر في تلك الأيام، وأبطالها من جنس معين.
ولا أتذكر فيما قرأته عن الرضي شيئًا يفيد أنه كان على مذهب المفيد والجزء الخامس من تفسيره حقائق التأويل لا يعدو أسلوب الكشاف، وربما أخذ صاحب الكشاف أسلوبه عنه، وكان ينوه في تفسيره باسم أبي الفتح بن جني: «شيخنا وصديقنا أبوالفتح النحوي ص3.
وراجعت الفهرست التفصيلي من التفسير لعلي أعثر على اسم للمفيد في التفسير أو مقدمته الموسعة، فلم أجد له ذكرًا، وهذا يدل على أن المقدم أغفله.
ص: 153
والذي في وفيات الأعيان (1): وذكر أبو الفتح بن جني أن الشريف الرضي أحضر إلى ابن السيرافي النحوي وهو طفل جدًا لم يبلغ عمره عشر سنين فلقته النحو وقعد معه يومًا، فقال له إذا قلنا: رأيت،عمرو، فما علامة النصب؟ فقال له الرضي: (بغض علي! فعجبوا من حدة خاطره».
وليس في الجواب ما يُعجب؛ لأنه مرادف للسؤال والجواب السديد: (الفتح)، فتأمل، وإنما يكون جوابه معجبًا لو كان السؤال: (فأي حالة من الحالات تجب لعمرو؟ الجواب: بغض على علیها السلام النصب وعلى وعلى كل؛ إن هذا الخبر إن لم يهدم خبر المفيد فهو مضعضع له وابن أبي الحديد نقل الخبر عن ابن معد العلوي، ويلوح لي أن خبر ابن جني أوثق، وإن لم يفطن لما لا ينبغي لمثله أن لا يفطن له.
وفي ص 18: تعجب الرضي وابن أبي الحديد معًا من اجتماع المتناقضات في علي: إفراط في إراقة الدماء وإفراط في الزهد وهذا مما يستحق التساؤل ويحتاج إلى خبراء!؟.
وأحسن حَكم في هذا الباب صاحب الشريعة الذي كان يحرض على الجهاد مع الزهد، فلننظر كم قتيلًا قتل على يد النبي؟ بل كم قتيلًا سقط في حومة الجهاد من كلا الفريقين في مدة عشر سنين؟ المشهور أن سبعين من المشركين قتلوا يوم بدر ومثلهم من المسلمين قتلوا يوم أحد ... وعلى المتتبع أن يحصى القتلى من الطرفين في جميع وقائع النبي، ولينظر الفرق بين النتيجتين.).
ص: 154
وفي ص 19: نقل عن ابن الجوزي في كتابه المنتظم: تذاكروا عند أحمد بن حنبل خلافة أبي بكر وعلي ... فرفع رأسه إليهم وقال قد أكثرتم! إن عليّا لم تزنه الخلافة ولكنه زانها وهذا الكلام دال على أن غيره ازدان بالخلافة.
أقول: إن صح الخبر (1) ولكن من ساق تلك الزينة إلى علي غير أبي بكر الذي استخلصها من أيدي الأنصار؟ وكادوا يستبدون بها (2) لولا أبوبكر ومن ورائه عمر، فلأبي بكر وعمر وأبي عبيدة الفضل على كل من صار خليفة من قريش وبني هاشم.
وفي ص 30: تفسير (همامة نفس الواردة في الخطبة - أسطورة الثنوية «أن النور الأعظم اضطربت عزائمه في غزو الظلمة فخرجت من ذاته قطعة وهي الهمامة، فاقتطعتها الظلمة من النور، وخرجت همامة الظلمة غازية للنور فاقتطعها النور ... ومازالت الهمامتان تتقاربان حتى انبنى منهما هذا العالم.
وقال في أثر هذا ولهم في الهمامة كلام مشهور واللغة العربية ما عرفنا فيها الهمامة، ولكنها لفظة اصطلاحية عند أهلها ...
ص: 155
والذي ينبني على هذا أن يقال: إذا كانت اللفظة غير عربية، وهي من مصطلحات الفلسفة الثنوية، فكيف جرت على لسان صاحب الخطبة، وهو علي بن أبي طالب أليس هذا يدل على أن الخطبة منحولة؟
لكن ابن أبي الحديد قطع الطريق على هذا الاعتراض بحديدة، حيث قال فی أوائل الصفحة في معرض الرد على الثنوية: وهذا دليل على صحة ما يقال من أن أمير المؤمنين كان يعرف آراء المتقدمين والمتأخرين ويعلم العلوم كلها!
فبأي عقل تستطيع أن تناقش العقل الاعتزالي المضروب به المثل (1)؟ وإذا كان صاحب العقل الاعتزالي على يقين من صحة الدعوى فلم أقحم بين ثناياها تعبير ما يقال)؟.
وفي ص 40 فائدة تاريخية:
وكان أبو الفتوح أحمد بن محمد الغزالي الواعظ أخو أبي حامد الغزالي قاصا لطيفا وواعظا مفوهًا وهو من خراسان من مدينة طوس، قدم بغداد ووعظ فيها وسلك في وعظه مسلكًا منكرًا؛ لأنه كان يتعصب لإبليس ويقول: إنه سيد الموحدين وقال يومًا على المنبر: من لم يتعلم التوحيد من إبليس فهو زنديق، أمر أن يسجد لغير سيده فأبى»(2)! ...
ص: 156
إلى أن قال: وكان هذا النمط في كلامه ينفق على أهل بغداد، وصار له بينهم صيت»، إلى آخر ما نقل عنه.
وغرضنا من هذا النقل: الاهتداء إلى حل المعضلة التي عليها اليزيدية من عبادة الشيطان أو تقديمه وإجلاله ... فقد حار المؤرخون فيها، ومن ينظر إلى أن أصل نحلة اليزيدية صوفية غالية، وفي المتصوفة من يقول بقول أبي الفتوح - إذ لا يعقل أنه انفرد به - يهون عليه فهم ما عليه اليزيدية! (1).
وهذا الذي يحملنا على مكافحة الباطنية التي رجعت بالموحدين إلى الوثنية (2) ...
ص: 157
وفي أول ص 41: الكلمة المشهورة أول من قاس إبليس - (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْةٌ) - وأول (عصبية) ظهرت عصبية إبليس.
اقول: ما أفسد حال هذه الأمة إلا قياس إبليس وعصبيته ... إذ عكفت على الاشتغال بفاضل ومفضول وأفضل، وفي ذلك مثار العصبية ... ومما نقله القرآن لنا للعبرة، قول اليهود في طالوت: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ)؟ فهذا نموذج من القياس الإبليسي والعصبية الإبليسية.
وفي ص 43 تعليق على قول الخطبة (المنسوبة): ولم يخل سبحانه خلقه من نبي مرسل أو كتاب منزل أو حجة لازمة ...» إذ عرض الشارح هذا السؤال: «إلى ماذا يشير بقوله (أو حجة لازمة)؟ هل هو إشارة إلى ما يقوله الإمامية من أنه لابد في كل زمان من وجود أمام معصوم؟ الجواب: أنهم يفسرون اللفظة بذلك، وأما القطب الراوندي فقال: وكل واحد من الرسل والأئمة كان يقوم بالأمر ولا يردعه عن ذلك قلة أوليائه ولا كثرة أعدائه، فيقال له: هذا خلاف قولك في الأئمة المعصومين فإنك تجيز عليهم التقية ...».
وما أدري كيف تقوم الحجة مع وجود التقية؟ كما لا أدري كيف يجب نصب الإمام على الله ولا يجب عليه إظهاره!!.
ص: 158
بعده على ذلك نسلت القرون، ومضت الدهور، وسلفت الآباء، وخلفت الأبناء، إلى أن بعث الله محمدًا ...».
وهذا يدل على أن صانع الخطبة كان على مذهب القائلين بقدم الإمامة وتوابعها ... وكنت أظن الرضي من المستقلين في آرائهم ... لاسيما أنه معتزلي في تحكيم العقل؟!.
إلا أن في تتمة الخطبة مواربة ... وخلف فيكم ما خلفت الأنبياء في أممها، إذ لم يتركوهم هملا بغير طريق واضح ولا علم قائم.
فهذا التعبير يصح تأويله بالإمام كما سبق في تأويل حجة لازمة)، لولا أنه أبدل منه كتاب ربكم مبينا حلاله وحرامه، إلا أن يُحمل الكتاب على معنى الإمام، وهو أسهل شيء لديهم ... ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ) مثلًا.
وكان أعجب ما في ص 45 قول الشارح: فأما الذين ليسوا بمعطلة من العرب فالقليل منهم وهم المتألهون أصحاب الورع والتحرج عن القبائح؛ كعبدالله وعبدالمطلب وابنه أبي طالب ... إلخ، وما المنافع من تسميتهم أئمة معصومين؟!
وفي ص 48: إيراد اعتراض لأرباب البيان على نهج البلاغة من جهة السجع، مستشهدين بخطب النبي، والرد عليهم، والاحتجاج بسجع القرآن، إلا أن أثر التكلف في نهج البلاغة محسوس، وقد قرأنا خطبًا لمعاصري علي فلم نجد فيها تكلفا ولا تنطعًا في الألفاظ والمعاني.
وادعى في آخر الصفحة أن أكثر خطب النبي مسجوعة، وإنما تصح هذه
ص: 159
الدعوى لو كان للنبي خطب مجموعة، وما إخال ذلك (1).
واستشهد في هذا المقام بخطبة نسبها إلى النبي صلی الله علیه و آله و سلم وما إخالها! (2) وهي:
«إن مع العز ذلا، وإن مع الحياة،موتا، وإن مع الدنيا آخرة، وإن لكل شيء حسابًا، ولكل حسنة،ثوابًا ولكل سيئة عقابًا، وإنه لابد لك من قرين يُدفن معك هو حي وأنت ميت فإن كان كريمًا أكرمك، وإن كان لئيما أسلمك، ولا يُحشر إلا معك ...». إلى أن قال: وكذلك خطبه الطوال»، وهو مطالب بتصحيح النقل ...
ص: 160
والخلاصة أن الكلام المصنوع يشهد على نفسه بالصناعة عند أهل: الصناعة ولكن ابن أبي الح - الذي هو في نظرنا من فحول الصناعة - تغافل طلبًا للدنيا التي لم يدركها إلا على شفا جرف انهار به وبمخدومه ... إثر دخول هولاكو بغداد.
وأنا آتيك بنموذج من كلام البلغاء العاري من الكلفة، أورده الشارح في ص 47، حيث قال:
عمر بن ذر الهمذاني، لما قضى مناسكه أسند ظهره إلى الكعبة وقال مودعًا للبيت:
ما زلنا نحل إليك عروة ونشد إليك أخرى ونصعد لك أكمة ونهبط أخرى، وتخفضنا أرض وترفعنا أخرى، حتى أتيناك، فليت شعري بم يكون منصرفنا؟ أبذنب مغفور فأعظم بها من نعمة أم بعمل مردود فأعظم بها من مصيبة، فيا من له خرجنا وإليه قصدنا وبحرمه أنخنا، ارحم يا معطي الوفد فقد أتيناك بها معراة جلودها ذابلة أسنمتها، نقبة أخفافها ...».
وانظر إلى نباهة هذا القائل حيث واتته السجعة، وهي كلمة (نقمة) الموازنة لكلمة (نعمة)؛ فأعرض عنها لغرض بياني.
وانظر إلى الاستعطاف الذي تحمله: معراة جلودها، ذابلة أسنمتها ...) أين الكلام الطبيعي في الكلام المصنوع الذي إن صحت عبارته لم تصح إشارته؟.
مثل: هم ... موضع سره وعيبة علمه وموئل حكمه، وكهوف كتبه، وجبال دينه ...».
ص: 161
ومثل: «لا يقاس بآل محمد من هذه الأمة، أحد ولا يسوى بهم من جرت نعمته عليهم أبدًا».
يقال على الشق الأول: إن لفظ الآل يشمل جميع بني هاشم على أقل تحديد ومنهم بنو العباس دع أن الآل الطبيعي يشمل جميع قريش!.
ويقال على الشق الثاني: ما سندك في هذا المقام؟ وتحقيق النعمة كان مشتركا بين آل محمد وغيرهم كما أن مقاومة تلك النعمة كانت مشتركة - ، فلا مجال للاستئثار.
ثم إن آل محمد فيهم الصالح وفيهم الطالح، وفيهم المستقيم وفيهم المعوج كغيرهم، وفي آل محمد من لا يرضى عنه آل محمد! كزيد الذي كفرته الرافضة، وهو أخو الباقر وعم جعفر! وأبناء جعفر تنابذوا وتنابزوا على لفظة الإمامة! فقد شهد بعضهم على بعض، وكفى بالله شهيدًا.
وبعد الغلو في المنة يقول: «إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي» أي أنهم وسط يرجع إليهم السابق ويلحق بهم المتخلف، وهذا يحتاج إلى تحديد والتحديد مستحيل مع العلل السابقة والسبق والتخلف أيضًا لا يمكن تحديدهما؛ لأنهما أمران نسبيان فالسبق تخلف بنسبة، والتخلف سبق بنسبة.
دع أن أصل الدعوى لا يستند إلى برهان أصيل في نظر أهل التحصيل. إلى أن يقول: (ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة ...) إلخ.
ص: 162
فسر الفقرة الأولى بزعمه بأن لهم خصائص حق ولاية الرسول على الخلق، فأين هو من قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) على سبيل العموم (1).
وإن تعجب فاعجب لهذا العالم (المتجاهل) حيث يقول في ص 53 معلقًا: أما الوصية فلا ريب عندنا أن عليا كان وصي رسول الله، وإن خالف في ذلك من هو منسوب عندنا إلى العناد.
ثم وارب فقال: ولسنا نعني بالوصية النص على الخلافة، ولكن أمور أخرى ...».
فقد نسب العناد إلى من وافقهم في دعوى فقدان النص، فمن أين جاءت وصمة العناد إذن؟.
إنه يقول: جاءت من أمور أخرى ... فما الأمور الأخرى؟ والأمور الأخرى على تقدير صحتها ... لا تعدو استحقاق علي الخلافة، وهذا ما لم ينكروه ... إنما أنكروا وجوب السبق، فأي عناد فى هذا، والنص على السبق مفقود.؟.
على أن دعوى وجوب السبق ما تضخمت إلا بعد فشل علي في سیاسته (2) ولو لا فشله في سياسته لما كان للدعوى ذكر! كما أنه لولا فشله.
ص: 163
لم نسمع بنغمة فاضل ولا مفضول ولا أفضل ولا غاصب ولا ناصب ...
وتأخر علي ما كان ضائره لولا أمور أخرى غير الأمور التي زعمها الشارح، إذ لم تأته الخلافة وهو واهن العظم فيقال: (وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل)، بل جاءته وهو أقوى ما يكون وأنضج ما يكون ... ولكن هناك أمورًا أخرى لابد لنا بها ...
وضاعف تجاهله حيث قال: (وأما الوراثة؛ فالإمامية يحملونها على ميراث،المال والخلافة، ونحن نحملها على ميراث العلم.
وليس لهذه الوجوه الثلاثة أساس، أما ميراث المال فلم تجد له وجها في علم المواريث وما ندري كيف قالوه؟ وأما الوجه الثاني، فالأمة شركة فيه كما سبق، وكذلك الوجه الثالث؛ لأن التبليغ كان عاما لا اختصاص فيه.
وعلق على دعوى الخطيب أن الحق رجع إلى أهله بقوله: إنه كان أولى،وأحق لا على وجه النص بل على وجه الأفضلية، فنقول له: من أين جئت بالأفضلية؟ وإنما أصل الفتى ما قد حصل! ثم تعلق بمزعم بارد: لأن العرب،حسدوه فكيف بايعوه فيما بعد؟ (1).
وبلغت القحة بمن صلب خده كحديد أبيه ... أن قال: «فإن قيل: لاريب.
ص: 164
أن كلامه هذا تعريض بمن تقدم عليه، فأي نعمة له عليهم؟».
أجاب بما يلي:
قيل: نعمتان الأولى منهما الجهاد عنهم وهم قاعدون، والثانية:: علومه ...» يعني علومه التي لا تنتهي ... والجواب على مثل هذه الدعوى لا ينتهي فخير لنا أن ننتهي!!.
ثم شحن أكثر من ثلاث صفحات يشعر مضاف أو مضاف إليه ... وكله لا يغني فتيلا، وإن ملأ قبيلا ...!
قال لي بعض أذكياء الشيعة في حديث جرى بيني وبينه، وهو شاب يجمع إلى الأدب والدراسة حسبًا ونسبًا ...: إن هناك ثلاثة أشياء أصبحنا لا نعباً بها قضية أبي بكر وعمر وقضية نهج البلاغة. أما القضية الثالثة فلا أود ذكرها عنه؛ لثقل وزنها عند أربابها، وإن كنت لا أرى لها وزنًا لفراغها ...!
سوى أنه استثنى من نهج البلاغة الخطبة المعروفة بالشقشقية! (1) ولم.
ص: 165
ص: 166
ص: 167
أنازعه في دعواه؛ لأن المجال كان ضيقًا، ولأني لا أحفظ من الشقشقية إلا: شقشقة هدرت ثم قرت)! وإلا: (ينحدر عني السيل ولا يرقى إليّ الطير)!
ذكرني بهذه المحاورة وقوفي على عنوان الخطبة الموسومة بهذه السمة حيث جاءت نوبتها ص 58، ودخلت في ثناياها ومسحت زواياها فوجدتها ترجع في جملتها وتفصيلها إلى دائرة أنا لا غيري ...! وجهدت أن أرجعها إلى دائرة الفقه الإسلامي، أو المنطق اليوناني، فلم أفلح؟.
أما نسبتها؛ فهي أشبه أن تكون مطبوعة بالطابع العلوي، بجامع الفحولة بين: اللفظ واللافظ! إلا أنها لا تخرج عن كونها عاطفة محتدمة غير مرعي فيها مناسبة معقولة، إذ أي مناسبة بين الراهن الذي كان يشكوه الخطيب وبين الرجوع إلى أكثر من ربع قرن ليقول: «أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ...».
ولولا ابن أبي قحافة ما دارت تلك الرحى ولا شم القطب رائحتها.
ص: 168
فلو أصر الأنصار على الإباء ماذا كان يصنع الآباء؟ هل كان هناك غير الانشقاق يقع بين المهاجرين والأنصار؟ هذا على تقدير أن المهاجرين يلتفون،حوله، وهو شيء غير مضمون فماله رفض المضمون، وتعلق بغير المضمون؟ والواقع يدل على أنه لم يكن مضمونًا؟!
ولنفرض أن أبا بكر اعترف للخطيب بالقطبية، أيظن أن سائر الناس يتابعونه على الاعتراف؟ فما هذا الظلم لأبي بكر؟
فسدلت دونها ثوبًا، وطويت عنها كشحًا ...»، فكيف نجمع بين الطمع والتعفف؟ وقد سبقت دعوى الزهد المفرط.
فصبرت وفي العين،قذى وفي الحلق شجا، وأي غبن لحق الخطيب حتى يغمض على قذى وينطوي على شجا؟ وهب غبنا لحقه، فليس من شأن الزاهد متابعة التشكي والتوجع ... لا سيما بعد أن زال الغبن ورجع الحق إلى أهله ...!.
أما قول الخطيب أرى تراثي نهبًا فيدل على أن القائل كان يتوقع ملكًا مخلفًا ...! ولو كان التراث إمامة محضة لم تثر هذه الحماسة!
إن التشكي من مثل طلحة والزبير وعائشة ومعاوية كان له وجه؛المزاحمتهم له على شيء ناله ... ولكن ما وجه التشكي من أبي بكر الذي ضمن الخلافة للمهاجرين إلى يوم الدين، ولولا كياسة أبي بكر ومعاضدة عمر لتولت عنهم إلى غير حين والله يقول: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَ هُم).
ص: 169
إن اللهج بدعوى (أنا لا غيري) أضرت بصاحبها كثيرًا، وأضرت بذريته كثيرًا، وأضرت بشيعته كثيرًا ... هذا على وجه الخصوص، وعلى وجه العموم أضرت بالمسلمين ضررًا غير محدود.
فيا عجبًا! بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته» ص 63.
لو كان هذا لغرض شخصي لقلنا نعم، ولكنه كان لمصلحة عامة، فسرها،برغم أنوف المنكرين الواقع الذي لا يستطيع ذو حس إنكاره! (1).
فأي قيمة لدعوى لشد ما تشطرا ضرعيها؟ وما الذي تشطراه من ضرعيها ليت شعري؟ ليت مفسرًا فسر لنا ما تشطرا بل أدرا الضرع لمن جاء بعدهما ... فمنهم من حلب،وشكر، ومنهم من حلب وأنكر.
فصرت على طول المدة وشدة المحنة، فمن أين جاءت هذه المحنة؟ خارج أم من داخل؟.
حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم (2). فيا لله للشورى ...! حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر ص 71.
لأنه لا يريد أن يكون له نظير ...! وكل هؤلاء يرى أنه كذلك، فما صورة الحل والرّجل في الرِّكاب؟ هل هناك غير طريقة الشورى.
إنه ما كان يرضي عليًا إلا أن يقول له:عمر أنت الخليفة من بعدي.
ص: 170
وأستغفرك) ... إذ غصبتك حقك أنا ومن قبلي؟؟ ثم ما ندري ماذا كانت تكون النتيجة؟؟ فما لنا نتعلق بما لم يقع، ونرفض ما وقع؟.
ولقد كانت أيام عثمان من خير الأيام لولا عثرات وضعها الحسدة في طريقه ... حتى إذا (برك) تراكمت عليه السكاكين ... فكان نحره طعنة في النحور إلى يوم النشور.
ولكن الرابع أبى إلا أن يقول إلى أن قام ثالث القوم نافيًا حضنيه بين نثيله ومعتلفه ...» ص 77.
وما نشأ عثمان رضی الله عنه في جوع، حتى يكون حديث نعمة تبطره وتجعله (نافجًا حضنيه) فيعيّره خلفه بالمعتلف و(النثيل)!!.
هذا ما جرى به القلم على المتن فلنتظر بماذا جرى القلم الشارح القارح؟
من غرائب ابن أبي الح ... هذه الرنة: وقوله علیه السلام - في المتن - متى يلقى ربه بالوقف والإسكان كما جاءت به الرواية في قوله سبحانه: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبِّهِمُ) بالوقف أيضًا ص 60.
فهل مثل هذا التعلل مما تجري به أقلام العلماء؟ وما عسى أن نقول في عالم ينص على إسكان كلمة بعينها وقعت في فاصلة؟ فما حكم بقية الفواصل؟ وما معنى النص على الوقف بعد أن يكون الوقف، قياسًا مطردًا لا يمتاز عن بقية الوقوف؟.
وكأنه أراد أن يقارن بين أسلوب الخطيب وبين أسلوب كتاب الله فأخطأ
ص: 171
المرمى، والله أعلم بما رمى!.
ثم أورد ابن أبي الح ... في هذه الصفحة اعتراضًا للشيعة ظنوه مفحما، وهو بينوا لنا ما عندكم في هذا الكلام أليس صريحه دالا على تظليم القوم ونسبتهم إلى اغتصاب الأمر؟ فما قولكم فى ذلك؟ إن حكمتم عليهم فقد طعنتم فيهم وإن لم تحكموا عليهم فقد طعنتم في المتظلم.
وأنا أجيب عليه قبل إجابة الشارح::أولاً: إن الخبر ككثير من الأخبار التي تتعلقون بها ليس مقطوعا به عندنا (1).
ثانيًا: إنا لا نعد التخطئة لغير النبي طعنًا! أما أنتم فتعدونها طعنًا لقولكم بعصمة غير النبي.
وكان جواب الشارح ما يلي:
أما أصحابنا رحمهم الله - يعني المعتزلة المتأخرة - فلهم أن يقولوا: إنه لما كان أمير المؤمنين هو الأفضل والأحق ... ساغ إطلاق هذه الألفاظ ...».
أما نحن فلا نقول ذلك، بل نقول: إنه لما كان أمير المؤمنين يرى نفسه. إلخ، وإن كان أصحابنا لا يرضون بهذا على إطلاقه ...!.
ثم قال: ألا ترى أن البلد قد يكون فيه فقيهان أحدهما أعلم من الآخر، فيجعل السلطان الأنقص علمًا،قاضيًا، فيتوجد «الأعلم ...
ص: 172
أما نحن فلا نتكلف مثل هذا التقدير لا سيما أن فيه مشا للأعلم بما لا يليق لأن الأعلم يجب أن يكون،أعلم وفي الحديث: «تعلموا العلم وتعلموا له السكينة والحلم (1)، فكلما زاد العلم زاد الحلم.
نعم يجوز أو يجب للأعلم أن ينتقد تقديم غيره عليه في القضاء إذا وجد فيه خللا، ولا تستطيعون ادعاء الخلل في حكم أبي بكر وعمر، وهما اللذان يهمنا أمرهما! أما عثمان ففيه تفصيل، وإن كان عندنا غير مخذول.
ومع تظاهر ابن أبي الحديد بأنه غير شيعي أو غير رافضي ... نجده يتصدى للإمامية بما يقاريهم به؛ كقوله: يعتقدونه في الجلالة والرفعة قريبا من منزلة النبوة»، فأنعم نظرك في أمر هذا المداهن، ولا تغفل عن مكايده.
ثم احتج على الشيعة في زعمهم في زعمهم أن نهي آدم عن الشجرة كان على سبيل الندب والندب لا يكون جزاؤه صارمًا؛ كالتعرية وإظهار السوءة، والطرد من دار الراحة إلى دار الفداحة.
ثم يبدأ ص 61 بقوله: (إن قيل: لا تخلو الصحابة إما أن تكون عدلت عن الأفضل لعلة ...)هكذا كأنه شيء مفروغ منه، وكم قدم زلّت في مثل»! هذا، أما نحن فنقول: إن هذا التقدير في نظرنا باطل وما يبنى على الباطل باطل.
ثم عاج على برهان مائع، وهو: وكون الناس كانوا يبغضون عليا.
ص: 173
ويحسدونه، فقد كان يجب أن يعذرهم أمير المؤمنين.
وهم يزعمون أن أبا سفيان ناصر عليا لما فاتته الخلافة يوم السقيفة، وليس أعدى لعلي من أبي سفيان! انظر ص 83.
ثم نقول: إنه ليس بين علي وبين الأنصار،عداء، فما بالهم لم يذكروه؟
بن
بعده: «لما مرض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مرض الموت دعا - متبناه - أسامة زید فقال: سر إلى مقتل أبيك - من أرض الروم - فقد وليتك على هذا الجيش ... فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين والأنصار إلا كان في ذلك الجيش؛ منهم أبوبكر وعمر».
إن الذين نقلوا هذا الخبر على أنحاء منهم من جعله حجة في جواز تولية الشبان على الشيوخ، أو جواز تولية المفضولين على الفاضلين، ومنهم من استغله واتخذه ذريعة للطعن في منزلة أبي بكر وعمر، لاسيما إذا قُرن بحديث آخر: «لعن الله تخلف عن جيش أسامة» (1)! ...
ص: 174
إن كل خبر يتعلق بالموضوع (الحساس) لا يخلو من ريبة، وإن نقله بعض المائعين من أصحابنا عن سلامة صدر! فإما أن لا يكون له أصل، أو له أصل، ولكن عبث به بالنقص والزيادة على حسب المقاصد!
وكنت تكلمت عن جيش أسامة وكتبت عليه ملاحظاتي من جهة اشتماله على كبار الصحابة وأزيد الآن: إنه ليس من المصلحة إخلاء المدينة من كبار الصحابة في ذلك الموقف الدقيق!.
ثم إن الذين لهم غرض معين ... خصوا بالذكر أسماء معينة؛ كأبي بكر،وعمر، بل هما الغرض الأقصى من الذكر ومثل هذين الرجلين ما كانا يفارقان النبي في حياته، فكيف يفارقانه والنبي يعالج؟.
وهل من المعقول أن يكون النبي في حضن عائشة تمرضه، فيبعد أباها عنها وهو حموه في تلك الساعة الحرجة؟ حتى إذا وقعت الواقعة كانت مصيبتها ضعفين دع أن بعد أبيها أو إبعاده عنها يكدر صفاء ذهنها، وهي أحوج ما تكون إلى الصفاء.
لنسقط كل هذه الاعتبارات ولكن ماذا نصنع بحديث آخر أشهر من أن يُذكر؛ وهو أن النبي صلی الله علیه و آله و سلم قال وهو في مرض موته: مروا أبا بكر فليصل بالناس) (1)، فما رأي بعض المغفلين في هذا؟ ...
ص: 175
إن قضية جيش أسامة قضية مسلمة، إلا إلحاق كبار الصحابة بها على سبيل الإلزام، فإن وراءه ما لا يسلم!.
وفي ص 62: (فقال العباس لعلي وهو في الدار: امدد يدك أبايعك، فيقول الناس عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله) (1).
هيهات! إنه لو وقع شيء من هذا لا تقدت فتنة لا يطفئها عمّ رسول الله باستسقاء السحاب لأن الأنصار يعزّ عليهم أن يُفتات عليهم والمهاجرين غير مضمونين فخليق بهذا الخبر أن يكون مختلفا!.
بعده (وتزعم الشيعة أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم سير أبا بكر وعمر في بعث أسامة ... فيصفوا الأمر لعلي ...)
ومثل هذا التدبير لا يصح إلصاقه بالأنبياء، إنما يفعله الساسة المكيافيليون.
ولو فرضنا أنه ليس هناك نبوة، فإن هذا التدبير ينافي النبل والشرف اللذين كان يزدان بهما،محمد وهو يقدر خدمة أصحابه له يوم كان یقول ناصره، يقول: «اللهم أعز الإسلام بأحد العُمرين (2)، ويوم لم يقع اختياره إلا على.
ص: 176
أبي بكر في هجرته إلى المدينة: أفيؤثر الغدر بعد نضج الأمر؟.
وفي ص 65 تفسير بيت الأعشى الذي استشهد به علي في غضون خطبته:
شتان ما يومي على كورها *** ويوم حيان أخي جابر
يقول أمير المؤمنين: شتان بين يومي في الخلافة، مع ما انتقض عليّ من الأمر ومنيت به من انتشار الحبل، واضطراب أركان الخلافة، وبين يوم عمر.
أما الشق الأول فلا يحتاج إلى تفسير فما معنى الشق الثاني؟ إنه كما يقول ابن أبي الحديد.
حيث وليها - عمر - على قاعدة ممهدة وأركان ثابتة وسكون شامل؛ فانتظم أمره واطرد حاله وسكنت أيامه.
ويحتمل وجهًا،آخر وهو أن عليا صار يتأفف من الخلافة وغوائلها، ويتذكر اطمئنان قلبه وراحة باله في عهد أسلافه ...!.
ثم نقل بيتين أحمقين ربما كانا لشاعر أحمق
حملوها يوم السقيفة أوزا *** رًا تخف الجبال وهي ثقال
ثم جاءوا من بعدها يستقيلو *** ن وهيهات عثرة لا تقال
إن كانت الاستقالة حقيقية فما المانع من قبولها والأفواه مفغورة ...؟! إنما
ص: 177
أراد أبو بكر أن يبرئ ذمته فعرض على الناس الاستقالة، فإذا أبوها تمت أبوبكر الحجة وفاز بالثقة وهذا من مكارم أخلاقه ولكن المكابرين يلتمسون العثرات في الطريق السوي، فكانوا هم الذين يتعثرون ...!.
وهنا ملاحظة لم أجد من تصدى لها وعسى أن تكون وجيهة في نظر الباحثين، وهي:: أن الخلافة في عهد الصديق لم تكن مما تتحلب لها الأفواه؛ لجفافها ... فلما اتسعت الرقعة وغزر المعين في عهد عمر وعثمان صارت الأفواه تتحلب لها وتتربص الدوائر بكل من يقعد مقعد الخلافة(1)
هذا في عهد الخلافة الراشدة، فما عسى أن نقول في الخلافات التي تلتها؟.
ونسب الشارح الزهد في الخلافة إلى علي حيث قال للناس بعد قتل عثمان: دعوني والتمسوا غيري! وهذا خلاف ما تظاهر من حال علي، وإن تظاهر بالتعفف في بعض خطبه.
ولكن صاحب هذا الخبر أراد أن يبني عليه أمرًا يتخذه حجة على قول الخطيب: بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته، زاعمًا أنه بايع لابنه الحسن، وما أظنه يصح في تواريخ أهل السنة (2)؛ لأن أهل السنة يبعدون عليا علیه السلام عن معارضة الاستثثار، وعلى هذا يبنون جلالة قدر علي لديهم! ويؤولون تأخره عن مبايعة أبي بكر بأنه كان مداراة لفاطمة - (رضی الله عنهما) - .
ص: 178
لأنها كانت حديثة عهد بالمصيبة ولا عهد لها بالسياسة (1).
وعند تفسير قول الخطيب: كراكب الصعبة إن اشتق لها،خرم، وأن أسلس لها تقحم، حمل تأويله على عهد عمر مع أنه بعهد علي أولى؛ لمناسبته لشكواه المتمادية.
وكانت طعنته المؤولة هكذا: إن عمر كان كثيرًا ما يحكم بالأمر ثم ينقضه، ويفتي بالفتيا ثم يرجع عنها ...».
فنقول له على تقدير صحة الدعوى: هل كان عمر يريد التلاعب؟ أم كان يتحرى الحق، وهو في بدء التأسيس، وتعرض أمورًا معقدة ليس فيها نصوص أفمثل هذا يسمى طعنًا؟ أو ليس الأمر جرى على استقامة فلا خوارج ولا موارج ...؟ وإنما العبرة بالنتائج.
والظاهر أن ابن أبي ألح ... لم ينتبه للتناقض الذي وقع فيه في تفسيره لهذا المثل وتفسيره للبيت السابق!!.
وفي 67 شطر من بيت منيتُ بزمرذة كالعصا» بإعجام الدال، ولا مقام له هنا ولم يشرح معناه، ورسمه في ديوان الحماسة (بزَنمِرْدةٍ) بالنون وإهمال الدال والظاهر أنها كلمة فارسية مركبة من (زن) و (مرد)، والظاهر أن المشرفين على طبع الكتاب ليسوا من رجال الميدان!.
وعجز البيت ألصَّ) وأخبثَ من كَنْدُش) يليه:
تحب النساء وتأبى الرجال *** وتمشي مع الأخبث الأطيش.
ص: 179
وهذا البيت يفسر معنى (زنمردة)؛ أي فيها خُلق الرجال، كما مشروحة في هامش الديوان بغير تعليل (1).
ومن الغريب أن الفيروزآبادي لم يحم حولها في محيطه، مع عنايته بمثلها، ولم أعثر عليها في معجم فارسي ولكني على يقين من أنها مركبة، وربما كان أصل ((زنمرد) للرجل المخنث، فأنَّثها الشاعر واستعملها للمرأة (المتخنثة)!!.
وفي الصفحة عينها: وكان عمر بن الخطاب صعبًا عظيم الهيبة، لا يحابي أحدًا ... وكان أكابر الصحابة يتحامونه ويتفادون من لقائه.
كان أبو سفيان في مجلس عمر وهناك زياد بن سمية، فتكلم زياد فأحسن وهو يومئذ،غلام فقال علي: لله هذا الغلام لو كان قرشيًا لساق العرب بعصاه! فقال له:أبو سفيان: أما والله لو عرفت أباه لعرفت أنه من خير أهلك!:قال: ومن أبوه؟ ... قال علي: فما يمنعك من استلحاقه؟ قال: أخاف هذا وأشار إلى عمر عمری (2) ...
ص: 180
هذا الخبر في نظري مصنوع والغرض منه تبرير عمل معاوية استلحاقه زيادًا، أما وجه الخوف من عمر؛ فلأن عمر حرَّم المتعة في الإسلام، فلا يريد أن تذكر متعة الجاهلية أمامه.
وعرف علي علیه السلام مقدار زياد، فولاه في عهده وقدمه، حتى كان ما كان ... ولو كان ينظر إليه نظر الناس إلى مثله ما قدَّمه! وهذه تكفي أن تكون حجة لمعاوية على من كان يُشَعب عليه، أليس علي سيد الفقهاء وإمامهم؟.
إلا أن ابن أبي الح حين يصف مواهب عمر (يسر حسوًا في ارتغاء) (1) يردف ذكر الهيبة بهذا الخبر:
استدعى عمر امرأة ليسألها عن أمر، وكانت حاملا، فلشدة هيبته، ألقت ما في بطنها فأجهضت ... (2)، وبنى على ذلك مسألة فقهية! وربما دارت هذه المسألة بین الفقهاء.
وتلفيق هذه القصة يشبه تلفيق قصة (محسن) أو (مشبر) من فروع اجتماع السقيفة ...!
إذ زعموا أن فاطمة كانت حاملا فأجهضت خوفًا من عمر ... وسمي م.
ص: 181
سقطها بمحسّن!، وقابلوه من العبرانية (لغة اليهود بمشبّر، كما قابلوا الحسن والحسين بشبر و شبير وزعموا أنهم أبناء هارون الذي جعلوه قبالة علي! ولا يصح من ذلك شيء (1)، ولتنظر أسماء أبناء هارون في التوراة.
ثم يصف عمر بالشجاعة الخارقة لكن على وجه الجبرية فيقول:
عمر هو الذي شيد بيعة أبي بكر، وأرغم المخالفين فيها، فكسر سيف الزبير لما جرده - انتصارًا لعلي بزعمهم، ودفع في صدر المقداد - كذلك، ووطئ في السقيفة سعد بن عبادة سيد الخزرج، وحطم أنف الحباب بن المنذر الذي قال يوم السقيفة: (أنا جُذيلها المحكك وعُذيقها المرجب)، أي أنا المحنك المجرب المعد للصعاب - وتوعد من لجأ إلى دار فاطمة من الهاشميين ...» ووقع الإجهاض كما سبق!!
أما شجاعة عمر؛ فشيء مفروغ منه، وحسبك أن الزبير من أقران علي ... ولا نازع في هذا الخبر ما دام في مصلحة الإسلام، لا لأغراض شخصية.
إلا أن الذي يرد عليه، هو أن الزبير كان صهر أبي بكر؛ لأن زوجه أسماء بنت أبي بكر، فهل من المعقول أن يأنف الزبير من حميه! والحمو يسمى فی.
ص: 182
عصرنا بالعم وكني عبدالله بن الزبير بأبي بكر تلميحا إلى جده الصديق، ولابد أنكم سمعتم بخبر أسماء أمه لما نازله الحجاج وهو معتصم بالبيت، وكان أول مولود للمهاجرين، وأسماء لقبها النبي علیه السلام بذات النطاقين، وكانت توصل بنفسها الزاد إلى الغار وهي فتاة غير متوارية.
وعمر أول من حاسب العمال وسن قانون (من أين لك هذا) ص 68، وبدأ به عمرو بن العاص عامله على مصر ص 67، فأجابه بجواب لبق؛ كما هو منتظر من مثل عمرو فكتب إليه: لست من تسطيرك الكتاب وتشقيقك الكلام في شيء ... وقد وجهت إليك محمد بن مسلمة، فسلم إليه شطر مالك، لكن في الخبر حشو خبيث يسر به الخبثاء!
وفي ص 69: وكان الناس بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يأتون الشجرة التي كانت بيعة الرضوان تحتها فيصلون عندها فقال عمر: أراكم رجعتم إلى العزى ... ثم أمر بقطعها ...» (1)، قطعا لذرائع الشرك.
ومن هذا الباب تعمد السفر إلى بعض المشاهد لإقامة بعض الطقوس ...!
وقلتُ مرتجلًا:
ليت عين الفاروق تشهد ما قد *** حل بالإسلام الذي كان وَطّدْ
أين مال الإنسان شاهد أندا *** دًا مقامات باسم دين محمد
سيطر الشرك في البلاد على التو *** حيد فاجتاح ما به نتوحد 9)
ص: 183
ودعي يدعو إلى (وحدة *** الإسلام) لكنه بها يتصيد؟!.
يدعي الأخذ بالجديد وما تج *** ديده إلا كل غث مردد
أثقل السحت بطنه فهو إن را *** م انتقالا يكاد يُحسب مقعد
وإلى (تقريب المذاهب) داعٍ *** من قريب تلصصا يتعمد
يُظهر القرب وهو يُضمر بُعْدًا *** هل لنا من يحل هذا المعقد؟
ثم أعاد نغمة أن عمر كان يحكم ثم ينقض – ص 70 - ، وقد أجبنا عن هذا في ما سبق، ومن الغريب أن تتفق عشرات المسائل في عهد عمر يحار فيها ويحلها له علي مع أن أيام علي كانت أعقد من ذنب الضب!!
وأما تحديد عمر المهر فقد كان من حسناته لاسيما أنه حرم المتعة (1)
فجعل إزاءها تخفيف المهر، ولكن امرأة حجته فيما يقال بآية: ﴿وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَتهُنَّ قِنطَارًا) (2) ...
ص: 184
ولو أخذنا بفحوى الآية؛ أي إرادة المبالغة لم تكن الحجة قائمة ما دام الغرض المصلحة العامة والآية لم ترد في سياق تقدير المهر، بل في سياق أدائه، فدلالتها على التحديد إشارية فهي ليست نصًا في الموضوع، غاية ما هناك إفادة الجواز وللإمام التصرف فيه للمصلحة.
ولكن ابن أبي الح في معرض السياسة العمرية الرشيدة يتلوى تلوي الأفعوان؛ ليقف على مثل هذا الطعن وكان في أخلاق عمر وألفاظه جفاء وعنجهية ظاهرة. فمنها الكلمة التي قالها في مرض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم (ومعاذ الله أن يقصد بها ظاهرها) كذا ولكنه أرسلها على مقتضى خشون - غريزته؛ كأعرابي جاف!!.
وشرح ذلك أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال في حال مرضه: ائتوني بكتف ودواة أكتب لكم كتابًا» ... فقال عمر: لعله يهجر أي يخلط (1) ... وهو من صفات.
ص: 185
الحمى إذا اشتدت والنبي توفي بالحمى التي اعتادته بحسب مناخ المدينة.
ص: 186
وهذا التوجيه إنما يُصار إليه على تقدير صحة الحديث، وهو لا شك غير صحيح، إذ هو من أضعف أخبار الآحاد إذ وقع مضمونه المزعوم بين جمع من الرجال ولم يروه إلا غلام.
إلا أن الممارين تعلقوا به زاعمين أنه في مصلحتهم، ولا يريدون أن يعترفوا بأنه ذو حدين!
ثم إن إقرار هذا الحديث ينافي ما زعموه من أحاديث ملفقة تفيد الوصية لفلان ...!
فكان من مصلحتهم ألا يُقروا هذا الحديث بداعي الطعن في عمر، ولكن من لنا بإقناع قوم قاعدتهم أن لا يقنعوا؟.
كان ابن أبي الحديد من حيث مذهب الاعتزال المتأخر يعيش على هامش التشيع، كما أن التشيع يعيش على هامش الاعتزال، بما وقع بين المذهبين من تبادل لذلك نجده إذا التمس المطاعن لعمر لا يجهز عليه إجهاز الرافضة ... بل يدهن مطاعنه بأخبار ملطفة مثل أن أحدهم اقترح على عمر أن يلين مطعمه ومشربه فاحتج عليه عمر بقوله: رأيت الله نعى على قوم شهواتهم فقال: (أَذْهَبْتُمْ طَيْبَتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا ...) ص 68.
ومثل هذا الجواب له دخل كبير في تقدير الزهد مع التمكن الواسع، وهذا الخبر يزيف صيغة: لشد ما تشطرا، رعيها، كما سبق، وعطف على هذا
ص: 187
الخبر خبر إسلام عمر حين قصد مجلس النبي صلی الله علیه و آله و سلم متقلدا بسيفه، فتلقاه النبي وأخذ بحمائل سيفه وهو يقول: اللهم أعز الإسلام بعمر، فقال عمر على الفور: «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، فكبّر المسلمون فرحًا ... ومنذ ذلك اليوم جهر المسلمون بإسلامهم، وخرجوا إلى الطريق يكتنفهم بطلان عمر وحمزة رضی الله عنهما والنبي صلی الله علیه و آله و سلم في وسطهم (1) ...
ص: 188
فكم بين إسلام هذا شأنه وبين إسلام وقع عفوًا ... وتحت ستار التقية؟ ولا عبرة بالمسافة بين إسلام وإسلام ... إذ كان عمر كالجواد الذي نزل إلى الحلبة متأخرًا فسبق الأولين والآخرين برغم أنوف الناصبين العداوة للإسلام من وراء تاريخه؟! ومازالوا يلوثونه بأوضار المجوسية؛ حتى مسخوه وأزالوا رونقه، وهم على ذلك دائبون.
وفي ص 72 قول عمر عند موته: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني أبا بكر - وإن أترك فقد ترك من هو خير مني؛ مني؛ - يعني رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم.
وهذه الكلمة التي أرسلها عمر على سجيتها دليل طبيعي على أنه ليس هناك وصية ولا غدير ولا سدير ...!
ولا يمكن تعقيب كل ما شحن به الشارح كتابه من أخبار القصاص للطعن الناعم، وفي النماذج التي أوردناها كفاية (لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبُ) غير قلب!.
وعلل ذلك بقوله: «وهذا أمر مركوز في طبيعة البشر وخصوصًا طينة (1).
ص: 189
العرب ...» ص 73، فنقول له: أليس الذي التزمته من الطينة نفسها، يا بعيدًا عنها!.
ولما فاز سهم عثمان يوم الشورى قال علي لعبد الرحمن بن عوف: والله ما فعلتها إلا لأنك رجوتَ منه ما رجا صاحبكما من صاحبه؛ - أي عمر من أبي بكر - دق الله بينكما عطر منشم، يعني وقوع خلاف بين عبدالرحمن وبين عثمان فيما بعد! ولكن عطر منشم (1) لم يُدق بين الرجلين كما دق بين علي وابن عمته؟ لأن أم الزبير صفية بنت عبدالمطلب، وشتان ما بين،الدقين وربما كان هذا الخبر من الملفقات!
وفي ص 74: «لما طعن عمر قيل له: لو استخلفت؟ فقال: لو كان أبو عبيدة حيًا لاستخلفته ... ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيًا لاستخلفته».
إن في هذا الخبر مطالب جوهرية؛ منها أن عمر لم يكن واثقًا بالرهط الذين تركهم ووسم كلا بما يستحق! ولإبراء ذمته فرض مجلس الشورى، وربما كان ذلك مفتاحًا لمبدأ الجمهورية الذي ما كان للعرب به إلمام، وقد أيدت الوقائع التالية لأيام عمر قوة فراسة عمر.
ومنها: أنه ذكر مينا كان يثق به ولو كان حيا وعهد إليه لقيل إنما فعل ذلك مكافأة له على موقفه يوم السقيفة، وذكره في معرض الموت دليل على خلوص النية ومحض النصيحة للإسلام، دون التفات إلى اعتبارات عادية.
ص: 190
ابتلي بها ذوو المآرب العادية.
وأما ترشيحه لسالم وهو،مولى لولا أنه ميت فدليل على تغلغل روح الديمقراطية في نفس عمر، مع منافاته إلى حد لقاعدة الخلافة في قريش، ليجدع أنوف الطامعين في منصب الخلافة للأبهة والفخفخة، وفي تولي المولى حسم لتنافس الأقران (1).
هل أدل على سلامة عمر من المقاصد التافهة من أنه لم يرشح ابنه عبدالله قائلا: حسب آل عمر أن يحاسب منهم واحد ما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي ص74
ثم أورد قصصًا تشبه أن تكون لفقت لملء الفراغ، وذلك أن الذين دونوا).
ص: 191
التاريخ بعد قرن أو قرنين وجدوا فراغا كبيرًا ملأوه بالتلفيق ... ولذلك لا أعبأ إلا بأمهات المسائل ولا أبالي بفلان وفلان.
والملفقون منهم المتحيز المتلاعب ... ومنهم الطيب القلب الذي يريد
مداواة الجروح، ومنهم المرتئي رأيًا في توجيه مجرى الحوادث أو حل عقدة
من العقد، فدس رأيه على شكل واقعة ... وكان التناقض لابد من وقوعه
حتى لو سلمت النيات، فكيف والنيات على الإجمال غير سالمة
أو دغل.
،
من دخل
ولكن أعجبني قول أبي طلحة الذي فوض إليه عمر حراسة الشورى: (أنا) كنت لأن تدافعوها أخوف مني عليكم أن تنافسوها)(1)! أي: أنا خفت أن تزهدوا جميعًا في الخلافة، فيبقى المسلمون بغير خليفة، وإذا أنتم تنافسون عليها، وأنذرهم بأنه سيفعل ما أوصاه به عمر.
وبلغت الحال بعلي - والعهدة على الراوي - أنه قال لسعد: «اتقوا الله
الذي تساءلون به والأرحام، أسألك برحم ابني هذا من رسول الله،
عمي
ألا تكون مع عبدالرحمن ظهيرا لعثمان» (2) 75 حمزة ...
، وبر -
وبرحم
ولما قضي الأمر قال علي: ليس هذا بأول يوم تظاهرتم فيه علينا، فقال له عبدالرحمن: لا تجعل على نفسك سبيلا يا علي يشير إلى الصلاحية التي أناطها عمر بأبي طلحة وكان أضاف إليه خمسين رجلا من الأنصار.
(1) تاريخ الطبري (2 / 582)، بسند ضعيف. (2) تاريخ الطبري (2) / (582) بسند ضعيف - كما سبق، ضمن قصة الشورى.،
193
ص: 192
أما،والله إنه لولا تدبير عمر وحزمه ونظره لمصلحة المسلمين من بعده لتمزقت وحدة المسلمين من ذلك اليوم، ولكن تدبير عمر مد في عمرها اثنتي عمر أيضًا عشرة سنة، وكان الإنشقاق متوقعًا من يوم السقيفة، لولا حزم عمر فالإسلام مدين لعمر مادام على وجه الأرض مسلم.
وبعد أن سرد الشارح أمورًا عن عثمان، قال: والذي نقوله نحن إنها وإن كانت أحداثًا ... إلا أنها لم تبلغ المبلغ الذي يستباح به دمه» ص78.
ولعل هذه الكلمة من الكلمات الصائبة التي جرى بها قلم ابن أبي الحديد على قلتها ...
ثم قال: وأمير المؤمنين أبرأ الناس من دمه، وقد صرح بذلك في كثير من کلامه والله ما قتلتُ عثمان ولا مالات على قتله)، ولكن الخصوم قد يتجرأون بغير هذا ... ورسائل إخوان الصفاء صريحة في الموضوع، وإن كانت على سبيل الرمز كما سبق.
وكان في وسع المتألبين، وفيهم محمد بن أبي بكر ربيب علي ... القبض على مروان الذي تركزت عليه التهمة، ولقد أسر في حرب الجمل، وصار في حوزة علي ثم أطلق سراحه.
ولكن عليا علیه السلام يقول: «أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم؛ لألقيت حبلها على غاربها ...
المقارّة بالشد: الإقرار على الشيء، والكظة الشبع الثقيل، والسغب
ص: 193
الجوع ومعنى حضور الحاضر: لولا وجود من ينصرني، لا كما كانت الحال بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ص 80.
ومعنى هذا أنه لم يحظ بمن يؤازره إلا بعد قتل عثمان، ولو وجد قبل ذلك من ينصره لما قصر ...!
وفي ص 81 قول الخطيب: بما اهتديتم في الظلماء، وتسنمتم العلياء»، وبعدها جمل متقطعة لم أكد أفهمها، ولم أراجع الشرح عليها.
وفي ص 83 ما يفيد أن العباس وأبا سفيان راجعا عليًا للمبايعة له، ونقض بيعة السقيفة، فقال:
أيها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة وعرجوا عن طريق المنافرة، وضعوا تيجان المفاخرة ...، وعلائم الصنعة ظاهرة! ومنها تعبير (سفن النجاة) ص 85.
ومما جاء فيها: فإن أقل يقولوا حرص على الملك، وإن أسكت يقولوا جزع من الموت.
وهل هناك شيء لا يقال فيه ما يقال؟ والعبارة مع قطع النظر عن نسبتها، تشرح لنا ما كان يدور في بعض الرؤوس من نزعات، ومنها الاهتمام بما يقال ... والنبي علیه السلام لما قام بالأمر وكان على ثقة من أمره، لم يبال بما يقال!
ومنها: بل اندمجت على مكنون) علم ... لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية.!
الأرشية: جمع رشا هو الحبل، أي اضطرابها في البئر عند الاستقاء.
ص: 194
ومن الأكاذيب الملصقة بالبراء بن عازب: «لم أزل لبني هاشم محبًا، لما قبض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم خفت أن تتمالاً قريش على إخراج هذا الأمر عنهم، فأخذني ما يأخذ الوالهة العجول؟ ... وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة وهم محتجزون بالأزر الصنعانية، لا يمرون بأحد إلا خبطوه، وقدموه، فمدوا يده فمسحوها على يد أبي بكر ... فأنكرت عقلي، وخرجت أشتد حتى انتهيت إلى بني هاشم ...
فضربت عليهم الباب ضربًا عنيفًا».
وظاهر العبارة يدل على أن البراء سلم من الخبط المزعوم، ولكنه لم يسلم من (الخبط) المنسوب إليه!
وفي ص 87: «لما اجتمع المهاجرون على بيعة أبي بكر أقبل أبو سفيان وهو يقول: أما والله أني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم. يا لعبد مناف، فيم أبوبكر من أمركم؟ أين المستضعفان: يعني عليا والعباس؟ ...» إلخ.
وهذا الخبر يشبه سالفه ... لأن المعروف أن بني أمية لا يودون أن تكون الزعامة في بني هاشم (1)، وحاربوا النبي صلی الله علیه و آله و سلم في هذا السبيل هذا السبيل ... ومر في ومر في الخبر.
ص: 195
السالف زعم أن قريشًا تتمالاً على بني هاشم دع أن قريش تكنّ الحقد لعلي؛ لأنه جندل أبطالها فيما زعموا ... فكيف تسمح نفس زعيمها أبي سفيان بأن يلي الخلافة المستضعفان؟.
قلما وجدت خبرًا ثم فقدت ما يقابله ... ولذلك لا ينبغي أن يوثق إلا بأمهات المسائل (ودعني من بنيات الطريق).
ومما اشتمل عليه نهج البلاغة من المتناقضات: أنك تجد معظم خطبه يتجشأ زهدًا وعزوفا عن الدنيا وبين الزهد والعزوف مفاجآت ... فوالله مازلت مدفوعا عن حقي مستأثرًا عليَّ ... منذ أن قبض الله نبيه حتى يومنا هذا ص. 87
وهذا اعتراف من صاحب الخطبة أن عليا كان يطلب حقًا شخصيًا، وينافح دونه، ويصارع عليه، ويدعي أنه مغبون ...
وفي الشرح: «لا أقعد عن الحق والانتصار لنفسي وسلطاني؟! فيكون حالي من القوم حال الضبع حال الضبع مع صائدها ... ولكني أحارب من عصاني بمن أطاعني حتى أموت».
ص: 196
ثم عقب ذلك بقوله: إن الاستئثار عليّ لم يتجدد الآن ولكنه كان منذ قبض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ص 88، فقد سوى بينه وبين خصومه في الطلب ... وإن كان الملحوظ أنه أحق منهم عند النطق بهذا الكلام (1).
وفي ص 89: جاءه الحسن ابنه فبكى بين يديه قال: ما بالك؟ قال: أبكي لقتلك بمضيعة ... أما إني أمرتك - أشرت عليك – فعصيتني! فقال له: لا تزال تحن حنين الأمة! ... قال: أمرتك حين أحاط الناس بعثمان أن تعتزل، فإن الناس إذا قتلوه طلبوك ثم أمرتك لما قتل عثمان أن لا توافقهم على البيعة حتى يجتمع الناس فلم تفعل ...»، أي أنه استعجل في قبول البيعة، فكانت أشبه بالفلتة التي عناها عمر (2) ونصيحة الحسن هذه - إن صحت - فهي أشبه بخلق السيد له، وربما كانت من صناعة صانع أراد توجيه أمر قد فات، وقيل فيه هيهات!.
ص: 197
ومن هذا الباب ما يُنسب إلى المغيرة بن شعبة لما استشاره علي في أمر معاوية، ثم لم يقبل مشورته ... ص 90.
وفي هذه الصفحة «لما خرج الزبير وطلحة من المدينة إلى مكة لم يلقيا أحدًا إلا وقالا له: ليس لعلي في أعناقنا بيعة وإنما بايعناه مكرهين ...».
بعده: «لما سار الزبير وطلحة من مكة ومعهما عائشة يريدون البصرة ... قال علي: أيها الناس إن عائشة سارت إلى البصرة ومعها طلحة والزبير، وكل منهما يرى الأمر له دون صاحبه أما طلحة فابن عمها، وأما الزبير فختنها! والله لو ظفروا بما أرادوا ليضربن أحدهما عنق صاحبه ...» ص91.
هذه النفثات لا تخلو من حقائق (1) ... وإن كانت دعوى الإكراه غامضة!.
ص: 198
وقد سبق للمدعي ادعاء مثلها.
ولكن النفثات تخف قيمتها عند هذه الكهانة: والله ليقتلن ثلثهم وليهر بن ثلثهم وليتوبَنَّ ثلثهم، لاسيما وإنها التي تذبحها كلاب الحوأب» (1)، فإنما هي من صنع الدعاة ... ومن هذا الباب حديث الفئة الباغية» (2) فلا تغفل.
أقول: إن في تاريخنا عقدتين من أصعب العقد لا تشبههما عقدة الوصية.
ص: 199
ولا عقدة السقيفة، لأن هاتين العقدتين حلهما الزمن.
الأولى: عقدة عثمان في الشطر الثاني من خلافته ومهما قبل في عثمان فقد نال عقابه - عفى الله عنه (1).
والعقدة الثانية ما نجم عن العقدة الأولى.
إن النبي علیه السلام توفي وهو يبدي الرضا عن رجال بأعيانهم، بل لهم سمة مشهورة لا يستطاع إنكارها وهي (العشرة المبشرة).
فمضى أبو بكر وعمر،سالمين وكان عهدهما امتدادًا لعهد الرسالة بغير شك، ومضى بعدهما عثمان وهو يتشحط بدمه، وسعيد بن زيد لم يلمع له اسم، وسعد بن أبي وقاص اجتهد أن لا يلوث يده، مع لمعان اسمه في تقويض عرش الأكاسرة، وعبدالرحمن بن عوف كان حكيمًا، فسل نفسه من الفتنة سل الشعرة من العجين فهو من الدهاة الصامتين، ودهاؤه ظهر في تصفيته لأمر الشورى.
وبقي عندنا ثلاثة أقرآن كلهم طامح، وكلهم قوي، وكلهم لا يرى للآخر فضلا عليه، ولا يريد أن يُسلم له عن طواعية، مع ما بينهم من قرابة وصهر وسابقة. ا.
ص: 200
وكان طلحة والزبير يريان - ومن ورائهما قريبتهما أم المؤمنين ذات المقام المكين - يريان أن الخلافة إذا دخلت بيت علي لم تخرج منه؛ لإدلائه بالقرابة من أول الأمر، والقرابة ملازمة له ولأولاده. والقرابة ملازمة له ولأولاده. وكانت المصيبة الخالدة في هذا الإدلاء (1).
فالعقدة على هذا كانت مستحكمة في عهدهم، وزادت استحكاما من بعدهم؛ لأن المؤرخين لاسيما الفقهاء حاروا في أمرها، ناظرين إلى هذا السؤال: كيف اجتمع الرضا والبشارة والخوض في دماء المسلمين.
وكان للعلماء رأي سديد في طي هذه الصحيفة، والمرور بها مر الكرام (2)؛؛ لأنها في حكم المتشابهات ... ولكن ماذا نصنع؟ والنواعب تنعب في كل فرصة مواتية (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ) والذي قر عليه رأي الجماعة: الحكم بالحق لعلي، وبالتوبة لطلحة والزبير.
وحكموا على معاوية بالبغي (3)،مع أن حجته أظهر من حجتهما، أي أنه كان لمعاوية شيء ملموس يتعلق به دونهما وكأن سابقتهما شفعت لهما دونه.
والحكم بالبغي مأخوذ من قوله تعالى: ﴿فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَثَهُمَا عَلَى الْأُخْرَى).
ص: 201
والآية تقتضي فريقًا ثالثًا يدخل بين الطائفتين للإصلاح؛ كما جرى في أسباب النزول، فإن طائفتين من المؤمنين اقتتلوا فدخل النبي بينهما مصلحًا، ولم يدخل بين علي ومعاوية فريق ثالث محايد، حتى ينطبق حكم الآية.
والفقهاء الذين حكموا لعلي على معاوية فيما بعد. هم الموالون لعلي من جماعتنا ... إذ كانوا هم شيعته الخالصة من الشوائب، فتأمل.
وفي ص 91: برز علي يوم الجمل ونادى بالزبير يا أبا عبدالله فخرج الزبير، فتقاربا حتى اختلفت أعناق خيلهما، فقال له علي: دعوتك لأذكرك حديثًا قاله لي ولك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: أتذكر يوم رآك وأنت معتنقي فقال لك:أتحبه؟ قلت: فما لي لا أحبه وهو أخي وابن خالي؟ فقال: أما إنك ستحاربه وأنت ظالم له ...»(1)
وهي قصة مشهورة وضعها بعض طيبي القلب ... وفي الصفحة عينها قصة نباح كلاب الحوأب لما مرت به عائشة، وهو من وضع القصاص، فلا تعبأ به (2).
وفي ص 95: «أم محمد - ابن الحنفية - خولة ... واختلف في أمرها ...». وعلام اختلف في أمرها وهي من سبي بني حنيفة، قوم مسيلمة الكذاب، أخذت سبية في عهد أبي بكر، فوقعت في سهم علي علیه السلام، فكان له منها محمد المذكور.
ولكن ابن أبي الح وارب لإنفاذ مسألة فقهية وهي أن أم محمد من سبي.
ص: 202
أبي بكر، فكيف حل لعلي الخلو بها وأبوبكر غاصب، وتصرفاته غير شرعية ...؟ فتصرف بعض الذاهبين إلى هذا الرأي الأنوك لتوهية الاعتراض ...!
قال قوم: إنها من سبايا الردة قوتل أهلها على يد خالد بن الوليد في أيام أبي بكر ... وقال:قوم هي سبية في أيام رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، قالوا: بعث رسول الله عليّا إلى اليمن فأصاب خولة في بني زبيد، وكانت زبيد سبتها من بني حنيفة في غارة لهم عليهم، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: إن ولدت منك غلامًا فسمه باسمي ص.95
وأثر الصنعة ظاهر، ونوك صانعها ظاهر ...!
والذي رواه النسائي في الخصائص (1): أن عليا افترش جارية من سبي اليمن قبل وصوله إلى النبي صلی الله علیه و آله و سلم، وجرت في ذلك مرافعة ... وتقدمت.شهود فمن تلك الجارية؟ وهذا مما يلحق وصمة بمحمد حاشاه!
قال ابن أبي الح: وقال قوم، وهم المحققون، وقولهم الأظهر!: إن بني أسد أغارت على بني حنيفة في خلافة أبي بكر فسبوا خولة، وقدموا بها المدينة، فباعوها من علي ونسب ذلك إلى البلاذري!
وهذا الخبر لا يخلو من وصمة أيضًا، بل ربما كانت هذه الوصمة أشنع من تلك! لأن إغارة بني أسد إن كانت بإذن أبي بكر فقد رجع الأمر إلى أبي بكر، وإن لم تكن بإذنه وجب تصحيح عملهم بمراجعته وتقديم ما غنموه إليه.
ص: 203
لتخميسه، ومنه أم محمد، وإلا كان عملهم غلولاً:،محمد وإلا كان عملهم غلولًا: ﴿وَمَن يَعْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَ يَوْمَ الْقِيمَةِ)!!.
فإن كان البلاذري مقرًا بما نقل، فالظاهر أنه أكثر من ابتلاع حب البلاذر. (1)
وبين ص 95 - 96: قصة تتعلق بمحمد بن الحنفية وقصيدة في مدحه (2) منسوبة إلى خزيمة بن ثابت الأنصاري (3) وكلتاهما من معمل (بيت الكذب)، ولا علم لخزيمة بإحداهما كما لا علم لعلي بهذا النبأ: «ولقد شهدنا في عسكرنا هذا قوم في أصلاب الرجال وأرحام النساء سيرعف بهم الزمان ...»
وإنما صُنع هذا الخبر للتبشير ...!
ومن معمل بيت (الكذب أن عليا كان يقتل رجلًا ويتعدى آخر، فسألوه.
ص: 204
عن ذلك، فقال: سيخرج ممن اتعداه من يكونون موالين لي في آخر «الزمان؛ وربما كان هذا الخبر تفسيرًا للخبر السابق.
إلا أن ابن أبي الحديد لم ينقل الخبر الأخير؛ لأنه من أهل مذهب يقول بتحكيم العقل! فويلم العقل!! ولعله ينقله في جزء آخر!
وفي ص 96 وهي آخر صفحة: قال الكلبي: قلت لأبي صالح: كيف لم يضع علي السيف في أهل البصرة بعد ظفره؟».
كأن هذا الشعوبي المنتسب بطبعه إلى كلب عقور، لم تشف خاطره الدماء المسفوكة في الواقعة التي وصفها بعضهم بقوله: «ما دخلت دار الوليد بالكوفة التي فيها القصارون إلا ذكرت وقع السيوف يوم الجمل.
وقال آخر: «لقد رأيت الرماح يوم الجمل قد أشرعها الرجال بعضها في صدور بعض كأنها آجام القصب، لو شاءت الرجال أن تمشي عليها مشت ...».
وكان جواب الشعوبي الآخر هكذا سار فيهم بالصفح والمن الذي سار به رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في أهل مكة ...
وليس الأمر كما زعم! إذ لا يقاس المسلمون على المشركين أولا. ولأنه ما من مشارك لفريق إلا وله أقارب في الفريق الآخر ثانيًا. ولذلك شاعت روح التذمر في جيش علي وطفق يتنمر، وكلما امتدت الأيام ظهرت حقيقة وضعه!
ولو سنَّ علي هذه السنة في أهل البصرة؛ لاقتدى به معاوية في أهل الكوفة!.
ص: 205
بعده لما انهزم أهل البصرة ركب علي بغلة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وكانت باقية عنده، وسار في القتلى يستعرضهم ...)، وكان في الاستعراض مثله.
وما ندري - يا للأسف! - تاريخ ولادة البغلة، لنعلم كم كان عمرها يومئذٍ؟ كما لا ندري تاريخ وفاتها لنعلم كم عاشت؟!.
قال بعض المتسمين بالعلم وكان مجلي الحلبة في هذا المضمار: أبو الأسود الدؤلي ... بإرشاد من الإمام علي.
:أقول: إن هذه الدعوى ذات شقين كل منهما يستحق البحث والنقد ولا بأس أن أميل على الشق الأول فأبحث عنه، معتمدًا على أقرب كتاب إلى يدي، وهو الفهرست لابن النديم.
جاء في ص 59 منه بعد كلام إن النحو أخذ عن أبي الأسود ... وقال آخرون رسم النحو نصر بن عاصم ...وقال:آخر كان عبدالرحمن أول من وضع العربية ...».
وفي ص 60 بعد كلام: حتى بعث إليه - أبي الأسود - زياد أن اعمل شيئًا يكون للناس إمامًا ويعرف به کتاب الله فاستعفاه من ذلك، حتى سمع قارئًا يقرأ ... فرجع إلى زياد فقال: افعل ما أمر به الأمير، فليبغني كاتبًا لقنا ... قال أبو الأسود إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة على أعلاه ... فهذا نقط أبي الأسود».
إن هذه القصة تباين الدعوى لأن أصل الدعوى وضع النحو، ومفاد
ص: 206
القصة لا يجاوز النقط، ما، وهو سمي فيما بعد بالشكل
ثم أورد قصة أخرى تتعلق بكلمة (ظالع) أخطأ فيها ناطق (1) من الموالي فقال أبو الأسود: هؤلاء قد رغبوا في الإسلام ودخلوا فيه، فصاروا لنا إخوة، فلو عملنا لهم الكلام، فوضع باب الفاعل والمفعول.
فأي علاقة بين الخطأ في مخرج حرف وبين الفاعل والمفعول؟
ثم أورد قصة طويلة ص 60 - 61 لا يشك الباحث الناقد أنها حديث خرافة.
إن الذي انتهيت إليه من تتبعاتي: أن نسبة النحو إلى علي علیه السلام هي إحدى النسب التي أكل الدهر عليها وشرب.
ولكن روح الحزبية في وقته أملى كثيرًا من التلفيق ... وعقب التلفيق محاولة المساهمة بين علي وزياد بإحداث قاسم مشترك بينهما، أو بين
الحزب العلوي والحزب الأموي، فكان القاسم أبو الأسود الدؤلي والذي قرَّ عليه رأيي أن وضع علم النحو حدث في وسط المجتمع الإسلامي، وليكن،العراقي غير منظور فيه إلى فلان وفلان ... حتى نضج في زمن الخليل أو أنضجه الخليل، وكان كتاب سيبويه المعجزة العربية الخالدة، بعد كتاب الله العربي الخالد ...
ص: 207
وما يُقال من أن علماء الإسلام أخذوا النحو من علماء أهل الكتاب لا دليل عليه وإن كان غير ممنوع بل نشأ في وسط كان مزيجًا من العرب والموالي فهو نتيج ذلك المزيج دون تفصيل.
قال ابن أبي الحديد في ص3: اتفق شيوخنا - المعتزلة - المتقدمون منهم والمتأخرون على أن بيعة أبي بكر الصديق بيعة صحيحة شرعية، وإنها لم تكن عن نص، وإنما كانت بالاختيار الذي ثبت بالإجماع ...»
بعده واختلفوا في التفضيل، فقال قدماء البصريين كعمرو بن عبيد - رأس المعتزلة بعد واصل - ... إن أبا بكر أفضل من علي، وهؤلاء يجعلون ترتيب الأربعة كترتيبهم في الخلافة بتلخيص.
وهذا الذي وقع عليه إجماع الجماعة ولا عبرة بالشواذ، ثم قال:
وقال البغداديون قدماؤهم ومتأخروهم: إن عليا أفضل من أبي بكر»!
فليت شعري ما الذي طرأ على البغداديين حتى عاجوا؟ هذا موضع نظر!
إنه ليس هناك إلا السياسة فلينظر مدى اتصال هؤلاء بالسياسة، وأول من برز في إقحام السياسة في الدين هو المأمون ومذهب المأمون في الاعتزال والتشيع معروف ... فهو أول من ربط بينهما واضطهد العلماء. وتبعه أخلافه، حتى جاء المتوكل فطرد الفريقين وعَوَّل على أهل الحديث، ونسي الأحاديث المائعة المترعة بها المجلدات!
فوجه المطرودون من البلاط العباسي وجهتهم نحو الثائر الزيدي في جبال
ص: 208
الديلم فوقع (التساقي) بين الفريقين ... واتفقوا على (قاسم مشترك)، وهو أن زيدًا كان تلميذًا لواصل بن عطاء رأس الاعتزال (1)، والواضع لقواعده، وتغاضوا عن أن واصلا كان منحرفًا عن علي! وكان حر الفكر لا يبالي بمن خالف ... وربما كان زيد لم يواجه واصلا بله أنه قرأ عليه!
ولعلك تقنع بما سقته إليك إذا نقلت لك هذه المواربة:
قال ابن أبي الحديد: «وإلى هذا المذهب ذهب أبو علي الجبائي (2) أخيرًا، وكان قبلُ من المتوقفين كان يميل إلى التفضيل ولكن لا يصرح به، وإذا صنف ذهب إلى الوقف في مصنفاته وقال في كثير من تصانيفه: (إن.
ص: 209
صح خبر الطائر فعلي أفضل).
فانظر ما معنى (أخيرا)؟ وما معنى (كان قبل ...)؟ وما معنى كان يميل ولا يصرح)؟
أكان الجبائي يقول بالتقية، وهو المعتزلي الجريء؟ وهو شيخ المعتزلة في عصره، ولهذا ألحوا عليه!
بعده: «إن أبا علي ما مات حتى قال بتفضيل علي! نُقل ذلك عنه سماعا ولم يوجد في شيء من مصنفاته.
بعده: «إن أبا علي يوم مات استدنى ابنه أبا هاشم، وكان قد ضعف عن رفع الصوت، فألقى إليه أشياء من جملتها تفضيل علي.
ألا ترى أن رائحة النفاق تفوح من هذا التلون؟ وما الداعي إلى هذا الاهتمام؟ ومتى كان التفضيل من الأصول الخطيرة التي يُخشى على المسلم أن يموت دون القطع بها؟ (1) وما هذا الإلحاح على الجبائي حتى النفس الأخير؟
ثم نقل أسماء المعتزلة الذين يفضلون عليا على عثمان، وهو خطوة إلى الإمام في نظر المشغوفين بالأوهام.
ومن الغريب أن نجد صيغة (الترضي) في ردف كل معتزلي قال بتفضيل علي، وليس لها أثر إثر أبي بكر ولا عمر مع أنهما هما اللذان ساقا الخلافة إلى علي علیه السلام، وهؤلاء لم يسوقوا إلا ألفاظًا فارغة!.
ص: 210
وبعد أن نقل وجوه الرأي في التفضيل اختار هو الوجه الآتي:
وأما نحن فنذهب إلى ما يذهب إليه شيوخنا البغداديون»، هكذا ... اعتباطًا!
وعلى سبيل المصادفة عثرت في الجزء الرابع ص 317 على ما يتصل ببحثنا: وروى ابن ديزيل ... قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على ما إن تساءلتم عليه لم تهلكوا؟ إن وليكم الله وإن إمامكم علي بن أبي طالب، فناصحوه،وصدقوه فإن جبريل أخبرني بذلك».
وقبل أن يفتش عن صحة هذا الحديث يطفر هذه الطفرة: «فإن قلت: هذا نص صريح فما الذي تصنع المعتزلة بذلك؟».
يجيب عن هذا الاعتراض البارد بقوله: «يجوز أن يريد أنه إمامهم في الفتاوى والأحكام الشرعية لا في الخلافة» فكان جوابه أبرد من السؤال.
وكأنه شعر ببرودة هذا الجواب وأخذته منه قشعريرة ... فعطف عليه قوله: وأيضا فإنّا قد شرحنا من قول شيوخنا البغداديين ما محصله: أن الإمامة كانت لعلي إن رغب فيها ونازع عليها وإن أقرها في غيره وسكت عنها، تولينا ذلك الغير، وقلنا بصحة خلافته وأمير المؤمنين لم ينازع الأئمة الثلاثة، ولا جرد السيف ولا استنجد بالناس فدل ذلك على إقراره لهم على ما كانوا فيه ... فلذلك توليناهم وقلنا فيهم بالطهارة والخير والصلاح، ولو حاربهم وجرد السيف عليهم واستصرخ العرب على حربهم لقلنا فيهم ما قلناه في من عامله هذه المعاملة من التفسيق والتضليل». أي يكون حالهم كحال الخوارج، أو كحال أصحاب الجمل قبل التوبة، أو كحال معاوية.
ص: 211
فانظر إلى نوك الطبقة التي ينتمي إليها ابن أبي الحديد من المعتزلة،المعتزلة للمنطق السديد.
وإنما اشترطوا تجريد السيف والاستنجاد بالناس كيلا يرد عليهم أن نهج البلاغة طافح بالتذمر من الثلاثة، فكيف صحت خلافتهم؟ والجواب أن التذمر لا يضر ما لم يجرد سيف! فعفاءَ على تلك العقول الهزيلة التي اتخذت من تحكيم العقل مهزلة.
ومن غريب أمر محكمي العقل ... أنهم حكموا العقل في ما ليس للعقل فيه مجال؛ كالمسائل الأزلية المعقدة ... وأهملوا العقل في ما للعقل فيه مجال؛ كالنقول المائعة ...
ص: 212
مما اتفقت لي مطالعته كتاب عنوانه: (أثر التشيع في الأدب العربي بقلم (محمد سيد كيلاني) (1) من مطبوعات (دار الكتاب العربي بمصر)؛ وكنت علقت عليه في حينه، ولكن لم يكتب للتعليقات أن تنشر في حينها، ولما كان البحثان متناسبين، وجدنا من المناسب إرداف التشريح بما يزيد في التوضيح.
إن الكتاب في جملته فتح في حرية البحث في أكثر المواضيع الإسلامية خطرًا، ومؤلفه ممن امتاز بالجرأة والصراحة والتجرد من مؤثرات العصبية الممقوتة ... وهذا الذي جعلني أدعو بحثه فتحًا في الموضوع، إلا أنه فتح يعوزه تسديد هو فتح في الجملة لا في التفصيل، وذلك أن المؤلف - سدد الله خطاه - اقتحم عقبة لم يستعد لها الاستعداد الكافي.
لا شك أن المؤلف حرر نفسه من الطائفية المنبوذة ... لكنه لم يستطع على ما ظهر لي التحرر من رواسب الدس الشعوبي، والتحرز من الألغام التي بثها خصوم الإسلام في تاريخ الإسلام تحت أغشية القرون المتطاولة.
ص: 213
قال - حفظه الله - في الفصل الأول من الباب الأول: اعتاد بعض قدامى المؤرخين أن يسلكوا في كتابة تاريخ الصحابة مسلكا عجيبا. فتراهم يطمسون بعض الحقائق طمسًا غريبًا؛ بإغراقهم في المدح والثناء بحق وبغير حق ...».
وكان على المؤلف إذ نصب نفسه حكمًا أن يجمع بين مسلكي الخصمين ثم يحكم ... كان عليه أن يجعل إزاء هذا المسلك العجيب المغرق في المدح مسلكًا عجيبًا آخر يضاده، وهو مسلك من يطمسون) الحقائق طمسًا غريبًا بإغراقهم في القدح؛ ليصدر حكمًا عدلا يستخرجه من بين المسلكين المتناقضين المتناهضين.
لا نقول: إن المؤلف أغفل المسلك الثاني فقد وفاه حقه في ما بعد،ولكن نقول: كان عليه أن يجمع بين المسلكين ثم يحكم.
إن المؤلف سجل على نفسه طريقة رشيدة، لكنه لم يحكم التزامها، وتلك الطريقة مستفادة من قوله: وسواء رضي هؤلاء أو غضبوا، فإني أوثر أن أنهج نهج العلماء المحققين الذين يضعون الحقيقة فوق كل اعتبار».
أما وضع الحقيقة فوق كل اعتبار فهو مما ازدان به بحث المؤلف، وأما الوعد بنهج نهج العلماء المحققين فقد تخلف في أنحاء من بحثه، وإن لم يكن متعمدا إخلاف الوعد.
مثال ذلك: قوله حين وضع قدمه على عتبة البحث ص 2: «ما كاد النبي يلفظ النفس الأخير حتى تحركت أطماع الصحابة في منصب الخلافة»! وهذا ما لا نؤاخذه عليه؛ لأنه حكم ملائم للطبيعة البشرية، ولكن الذي نؤاخذه
ص: 214
عليه قوله: وأظهر بعضهم لبعض العداوة والبغضاء، وتكشفت النفوس عما تنطوي عليه من أمور كانت مستورة مدة حياة النبي صلی الله علیه و آله و سلم بعد ساعات قليلة من وفاته.
أنا لا أعتقد عصمة الصحابة، ولكن أقول: إن المؤلف انجرف برواسب نزعة هدامة لنزع الثقة بالسلف من قلوب الخلف، والغارسون لهذه النزعة غير مجهولين فقد زعموا أن فلانا مع رجال سموهم اجتمعوا عند الكعبة قبيل وفاة النبي صلی الله علیه و آله و سلم وتأمروا، وعقدوا بينهم عقدًا، وكتبوا عهدًا، إلى غير ذلك من الشنع التي حشيت بها مأفكة رجل (مزعوم)، زعموا أن اسمه (سليم بن (قيس) (1)، فزلقت قدم المؤلف بدسيسة (المتآمرين) على الإسلام، المفسرين.
ص: 215
ص: 216
ص: 217
لتاريخه تفسيرًا،بحتًا، وليس ما استدل إليه المؤلف من بنات أفكاره.
وما أظن المؤلف إلا مشاركًا لنا في أنَّا إذا اندفعنا مع ريح تلك الدسيسة ساقتنا إلى ما لا يُحمد من الريبة في الرسالة نفسها، وفي صاحبها نفسه، كما لا يخفى على المتأمل!
إن استشهاد المؤلف بالنقل عن مثل كتاب الإمامة والسياسة» (1)،.
ص: 218
ص: 219
ص: 220
ص: 221
المنسوب إلى ابن قتيبة لا نقرّه عليه؛ لأن في هذا الكتاب خليطا من غث وسمين ولم تتحقق نسبته إلى ابن قتيبة، ولكنّا مع ذلك لا نرى بأسًا بالفقرة التي نقلها لقربها من الطبيعة الإنسانية!
إن أبا بكر:قال والله إني لشديد الوجع ولما ألقى منكم يا معشر المهاجرين، أشدُّ عليَّ من وجعي! إني وليت أمركم ولست خيركم في نفسي
ص: 222
فكلكم ورم أنفه إرادة أن يكون هذا الأمر له، وذلك لما رأيتم الدنيا قد أقبلت!».
فانظر كيف ربط (ورم الأنف) بإقبال الدنيا على يده علیه السلام، والمستنبط من هذا أن التهالك على منصب الخلافة ظهر له شكل يُحس بعد اجتماع السقيفة بمدة
وإنما اشتد وجع أبي بكر من المهاجرين؛ لأنه هو الذي استنقذ الخلافة لهم من الأنصار، ولولاه لما صارت إليهم ولاستبد بها الأنصار، ووقع الشقاق بين الفريقين وكان من ذلك ما لا تُعلم عواقبه!
وفي كلمة أبي بكر إيماء إلى الجحود الذي ابتلي به وهو على قيد الحياة.
إن وصف المؤلف للحالة، أو الوصف الذي تبناه مخدوعا ... يشبه وصف وُضع لمُلك جسماني عضوض بمعزل من الروح والعقيدة والأخلاق، ولو كان الأمر كذلك لما قام للإسلام بناء، ولكانت الجاهلية على حالها، لا تأثير فيها للنبوة.
ولو كانت الجاهلية على حالها، ولو أن الأطماع الإنسانية لم تلطفها النفحات النبوية لما كان منتظرًا أن يُسلم المنصب لمثل أبي بكر، ولا كان منتظرًا منه أن يقول: (وليت أمركم ولست خيركم في نفسي).
لندع البحث في العقيدة جانبًا، ولنقل: أليس القرآن وثيقة تاريخية لا تعلوها وثيقة؟ فما نصنع بالشهادات الواردة في قوله: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
ص: 223
لِلنَّاسِ) وقوله: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بينهم)، وقوله: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبهم) (1).
قل لي بربك: بأي قوة استطاع أبوبكر القيام بالأمر أحسن قيام وليس له مكنة الأنصار وهم أهل الديار، ولا عصبية بني أمية وهي العصبية التي لا تناهضها عصبية ولا وجاهة بني هاشم التي تضاعفت بالنبوة، ولم يكن ذا ثراء عظيم يرشو به هذا ويحبو به ذاك ... والقرآن يقول: (ولَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ؟
لو كان عثمان هو الذي قدّم؛ لربما قيل إنه قُدّم بعصبية بني أمية ونفوذها في العرب.
ولو أن عليًا هو الذي قُدّم؛ لقيل إنما قُدّم لوجاهة بني هاشم، تضاعفها القرابة من النبي صلی الله علیه و آله و سلم فأبو بكر إنما قدم لمؤهلاته الذاتية تدعمه الروح الطاهرة،المسئولية وإلا فكيف استطاع ضبط الأمر وإخماد جذوة (العداوة والبغضاء كما ادعى المؤلف؟ لولا أن هناك وازعا دينيًا قضى على الاعتبارات الجاهلية الموروثة وساعد الصديق على إنقاذ خطط الرسالة كما أراد صاحب الرسالة.
وبالتغلب على الاعتبارات الجاهلية التي كانت توسوس بها نفوس بعضهم ... تجردت خلافة أبي بكر من الشوائب فكانت امتدادًا لظل النبوة د.
ص: 224
بل كانت امتدادًا لعصمة النبوة، بل كانت معجزة من معجزات الإسلام عجز الخلف أن يأتوا بمثلها.
وكان عهد عمر امتدادًا لتلك المعجزة ... وكانت أيام عثمان الزاهرة امتدادًا لذلك الامتداد إلى حين، ثم انقطع الحبل بالخلافة الراشدة، إذ ليس الرشد في التصميم على إقامة أحكام الشريعة على وجهها ... ما لم يقرن بها النجاح في إقامة السياسة، كما أنه ليس الرشد في إقامة السياسة وحدها.
ولهذا لم تحظ خلافة معاوية بصفة الرشد، فتأمل، فالموقف دقيق.
إنه لا مناص من القول بأن الخلافة الراشدة كانت امتدادًا لعصمة الرسالة،
والشك في عصمتها يؤول بنا إلى شكوك خطيرة يصعب تلافي عواقبها.
في ص 3: تورط المؤلف في نسبة القول الآتي إلى عمر مخاطبًا به الأنصار يوم السقيفة: من ينازعنا سلطان محمد وميراثه ونحن أولياؤه وعشيرته» (1)، وبنى عليه حكمًا قاسيًا، حيث قال: فأنت ترى عمر في كلامه هذا كان أول من أحيا العصبية، وجعل النبي ملكا على على سلطان!
لقد كان على المؤلف أن يمحص الخبر أولاً ثم يحكم، وكان قد وعد بأنه ينهج نهج العلماء المحققين.
إنه لا ينبغي أن نتجاهل أن للنبوة سلطانًا؛ لأن الإسلام دين وسياسة، إلا أن سلطان النبوة بريء من أن يكون مظنة الشهوات؛ كالسلطان المادي الذي تتطلبه النفوس وتحرص على ميراثه بل هو وظيفة شاقة يتفاداها من يحتاط ق.
ص: 225
لآخرته، ولذلك قال عمر لما طلب إليه أن يوصي لولده: حسب آل الخطاب أن تحملوا ما تحملوا!
ونسبة الملك أو السلطان إلى محمد مما اشتهر به علي رضی الله عنه، كما جاء في صه من الكتاب وعبارته: لا تُخرجوا سلطان محمد من داره، وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم.
وفي نهج البلاغة تعبير (ملك ابن أمي) أو (ملك ابن عمي! والذي أراه أن الكلمة مدسوسة على عمر لتسويغ نسبتها إلى علي! فإذا قيل: كيف يقول علي مثل هذا وهو أستاذ الفقه على حد تعبير بعض المعبرين؟ قيل: قد سبقه إلى ذلك!عمر!
ويقال هنا: أكان علي مقلدًا لعمر؟ أم كان هو الموجه لسياسة عمر كما يزعم الزاعمون؟ ويرون بجرأة أن عمر قال: (لولا على لهلك عمر) (1) عشرات المواطن؟
ومن هذا الباب قول المؤلف: كان واجب العدل يقضي أن تكون الخلافة لعلي ما دامت القرابة اتخذت سندا ص. 5
فيقال له: إن الحكمة السياسية كانت تقضي أن تكون الخلافة محصورة في دائرة معينة إن صح حديث (الخلافة في قريش أو لم يصح، سوى أن هناك دائرتين دائرة ضيقة وهي دائرة القرابة القريبة ودائرة واسعة هي دائرة القرابة البعيدة، والدائرة القريبة منبع تهمة! إذ يقال: إن محمدًا رام ملكًا خلفه.
ص: 226
لأهله، والقرآن محمدًا يوصي أن يقول: (قُل لَا أَسْلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، والملك أجر كما لا يخفى.
والدائرة القريبة أيضًا - لاسيما إذا حصرت في بيت علي - مظنة الاحتكار إلى قيام الساعة وليس الاحتكار من مصلحة الأمة في شيء، لما فيه من معنى الاستبعاد ولا هو من قواعد الإسلام في شيء، لمن يفقه) قواعد الإسلام!
أما الدائرة الواسعة وهي جعل الخلافة مشاعًا في بيوت قريش، فليس فيها مظنة احتكار ولا ملك مخلف.
نعم،، إن هناك احتكارًا نسبيًا بالنسبة إلى غير قريش من القبائل العربية ولكن من يضمن لنا استقامة الأمر إذا أخذنا بنظرية الإشاعة في قبائل كانت تخلفت عن الدعوة وكانت متربصة ... ومن هنا تعلم قيمة القول المنسوب إلى الكميت:
يقولون لم تورث ولولا تراثه لقد شركت فيه بكيل وأرحب
ومما تورط فيه المؤلف قوله في ص 5 أيضًا: «لقد كان العباس أقرب إلى النبي صلی الله علیه و آله و سلم وكان أحق الناس بالخلافة، ولكنه تنازل بحقه هذا العلي.
أقول: في طريق العباس إلى الخلافة عدة عقبات تبعده عن الحق المزعوم على تقدير تسليمه ... الأولى: أنه عم النبي صلی الله علیه و آله و سلم فالتهمة لاحقة.
والثانية: أنه ليس له سبق أبي بكر، ومن في طبقته، ولا استقامتهم، فقد كان قبل إسلامه يداهن الطرفين، ولم يدخل في الإسلام إلا بعد أن رأى كفة
ص: 227
الإسلام هي الراجحة (1)، ولولا لحمة القرابة لكان هو وأبو سفيان في المعارضة والمشاكسة والتأخر عن الدعوة سواء، وقد سبقه إلى المشاكسة أخوه أبو لهب الذي نزل في ذمه القرآن.
فدعوى القرابة يجب أن تطوى عن هذا الموضوع وحسبها أنها جنت على أهلها جناية كبيرة وفي ضمنها الجناية على الإسلام وتاريخه، واستغلتها الشعوبية حتى خرج الأمر عن أهله.
أما زعم أن العباس تنازل عن حقه لابن أخيه فهو من احتجاج العجائز! ومن أين جاءه الحق حتى يتنازل عنه؟ وكيف جاز له التنازل عنه إن كان حقًا شرعيًا؟.
ص: 228
وهل من المعقول أن يكون العباس متصفّا بهذا السخاء وهو الذي كلفه النبي فداء ابن أخيه عقيل بن أبي طالب حين أسرا كلاهما في واقعة بدر، فاعتذر بالعدم؟
وهل من المعقول أن يكون العباس متصفّا بهذا السخاء وهو الذي زاحم عليًا على فدَك لما أطلقها له عمر، زاعمًا أنها إرث، وفدَك قرية لا دولة؟ فأين نهج العلماء المحققين الذي وعد به المؤلف في أول كتابه؟.
ومما أؤاخذ المؤلف عليه: إنكاره على عمر احتجاجه على الأنصار بالأسبقية إلى الإسلام ص 5، وقوله ليست هناك أدنى علاقة بين أسبقية المرء إلى الإسلام وبين صلاحيته للحكم. لأن عمر لم يحتج لشخص، بل احتج لفريق المهاجرين، وكان احتجاجه في مصلحة الإسلام؛ لأن الأنصار لو لم يسلموا له لدامت المشادة بين الفريقين ولتطاحنوا وتعاجنوا، ولا نفرط عقد الإسلام منذ ذلك اليوم فالموقف كان يستدعي حشد الحجج التي ليس من حقنا أن نناقش فيها بعد أن أثمرت وكنا نحن من ثمراتها.
ثم إن علاقة الأسبقية بالصلاحية للحكم علاقة وثيقة لمن درس تواريخ المبادئ: (لَا يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتح)، إذا رافقت الأسبقية مزايا أخرى ... ألا ترى أن عثمان كان أسبق إلى الإسلام من عمر، لأن عثمان أسلم في أوائل الدعوة بسعي أبي بكر رضی الله عنه، وعمر أسلم بعد ست سنين.
وكان احتجاج عمر بسبق المهاجرين إزاء احتجاج الأنصار بأنهم هم (الذين آووا ونصروا)، فالذي أثار احتجاج عمر هو احتجاج الأنصار، ثم إن
ص: 229
الاحتجاج بالصلاحية للحكم وحدها غير كافٍ؛ لأن كلا من الزعماء يرى أنه صالح للحكم، فبمَ يكون التفاضل إذن؟
ولم يكن المؤلف مسددًا حين قال في ص 6: سواء أكان الشيخان وصلا إلى منصب الخلافة بحق أو بغير حق؛ فإنهما من غير شك قد خدما الإسلام خدمة بقي أثرها إلى اليوم!
وذلك أن الحق كان مشاعًا قبل إتمام البيعة، فلا محل لقوله بحق أو بغير حق على سبيل التشكيك كأنه أراد أن يقول: إنهما أخذا المنصب بغير حق، ولكن خدماتهما شفعت لهما!! كلا! إنا لا نجيز لأنفسنا التشكيك؛ فنفتح بابا للمبطلين.
وفي ص 7: ثم مات أبوبكر، واعترافًا منه بفضل عمر عليه ... عهد إليه والظاهر أن أبا بكر وعد عمر فبر بوعده».
لقد استمد المؤلف هذا الحكم من ادعاء أن عليا قال لعمر: احلب حلبًا لك شطره
أولاً: ينبغي التدقيق في صحة الخبر، وما أكثر ما تزيد المؤرخون وأهل القصص؛ ليكون التاريخ دسما، فكان ثلثاه سما.
أما التعبير بفضل عمر على أبي بكر ومقابلة أبي بكر له بالوفاء فما أبعده عن الحقيقة، بل إن عمر أسدى إلى الإسلام خدمة كان فيها رجل الساعة، ولولا موقف عمر لخرجت الخلافة من قريش ولم ترجع إليهم، ولا وقعت بيد على نفسه إلا أن تحدث أمور مطوية عن تقديرنا.
ص: 230
فلعمر الحق: إن لعمر المنة على المسلمين منذ وفاة النبي صلی الله علیه و آله و سلم حتى الساعة: (وَلَكِنَّ الظَّلِمِينَ بِنَايَتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ).
إنه لولا حزم عمر لانحل حزام الإسلام، ولانقطع سيره من أول ومصلحة الإسلام فوق مصالح الأشخاص والبيوت ... فدعونا من السفسفة!
وكم من دعوى فسرتها الأحداث فكانت لها أو عليها، والأحداث أصدق مفسر وأعدل مسعر فلا تُصعر.
وفي بحث عثمان ص 9 جاء بهذه القصة:
إن عثمان عيَّن على الأقاليم ولاة عرفوا بسوء السيرة واشتهروا بالفسق والفجور ومن هؤلاء الحكام أخوه في الرضاعة الوليد بن عقبة الذي كان حاكمًا على العراق، لقد شرب وأفرط ثم ذهب إلى المسجد إلى آخر القصة!!.
أقول: إن مشبهات لهذه القصة وقعت في كل من عهد عمر وعهد أبي بكر وعهد النبي (صلی الله علیه و آله و سلم).
ففي عهد عمر اتُهم المغيرة بن شعبة وهو حاكم على العراق أيضًا بقضية زنا! (1) ...
ص: 231
ص: 232
وفي عهد أبي بكر في أول خلافته!! اتهم خالد بن الوليد بقتل مالك بن نويرة ظلمًا ونكاح امرأته (1) ...
ص: 233
ص: 234
ص: 235
ص: 236
ص: 237
وفي عهد النبي صلی الله علیه و آله و سلم قام أربعة شهود من سرية كان يقودها علي؛ فشهدوا في حضرة النبي أن عليا ضاجع سبية من سبايا اليمن قبل القسمة!! كما جاء في كتاب الخصائص المنسوب إلى النسائي، المطبوع في النجف (1)، فلينظر الفاحص كيف تشابهت هذه القصص؟.
ومن الغريب أن المطاعن التي ألصقت بعثمان ليس فيها واحدة من جنس الشرب والزنا ملصقة بمروان الملاصق لعثمان مع أنه كان في رأس القائمة السوداء! (2))
ص: 238
وقبل ذلك اتُهم أهل العراق سعد بن أبي وقاص فاتح العراق بأنه لا يعدل في القضية ولا يقسم بالسوية! (1) وقال قائلهم:
نقاتل حتى أنزل الله نصره وسعد بباب القادسية معصم!
اجتمع فريق من المسلمين وبايعوا عليا وكان أول من بايعه الأشتر، النخعي أحد قواد جيشه، ولكن عليا وجد أن عددًا كبيرًا ممن يعتد برأيهم من الصحابة غير راضين عنه، فدعا طلحة والزبير،لمبايعته، فتلكأ طلحة، فهدده الأشتر بالقتل، فبايع وجيء بسعد بن أبي وقاص وعبدالله وقاص وعبدالله بن عمر فامتنعا! وتخلف عن البيعة من الأنصار كثير، ومنهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك ومسلمة بن مخلد وأبو سعيد الخدري ومحمد بن مسلمة والنعمان بن بشير وزيد بن ثابت ورافع بن خديج وفضالة بن عبيد وكعب بن عجرة ص 12 (2).
وختم عبارته بقوله: وكان هؤلاء يميلون إلى عثمان لما كان يسبغه عليهم من أموال»!!.
فنقول له: كيف تعينت لديك هذه العلة الفظيعة بالنسبة إلى هؤلاء الرجال، الذين أقل صفاتهم أن يكونوا على بقية من الخير وفيهم سعد أحد العشرة المبشرة وعبدالله بن عمر المعروف بالورع وزيد بن ثابت الذي جمع القرآن.
ص: 239
وأكد هذه الطعنة النجلاء بقوله في ص13.
ثم إن عليا كانت تنقصه صفات لابد من توافرها في كل سياسي ناجح؛ من مكر ودهاء وخداع وشراء للأنصار بالمنح والصلات إلى غير ذلك».
ومآل هذا أن الأمر قام بالرشا من عهد أبي بكر إلى أواخر عثمان! فلما لم يجر علي على هذه الطريقة أخفق في سياسته ولعله أخذ هذا التخرص من شرح النهج لابن أبي الحديد المتلصص.
أن من طبيعة هذه التهمة أن تنساق إلى أصحاب علي أيضًا؛ لأن مع أصحابه الذين حفوا به وبايعوه لم يكونوا أكثر فضيلة من الذين لم يبايعوا، فهم أقرب أن يكونوا مظنة الرشوة.
يمتاز هذا الكتاب بوثبات؛ منها سديدة مر بعضها، ومنها قوله في الفصل الأول ص 1 فتمحيص الحقائق التاريخية والتجرد من الأهواء ... من الأمور التي لم يعرف القدماء إليها سبيلا لنترك هذا الآن ونكتفي بقوله: (اللهم إلا المعتزلة الذين كانوا مطبوعين على الحرية والصراحة)
أقول: إن هذه الصفة كانت في أوائلهم، (1) ثم فسدت طريقتهم بمخالطتهم فرقًا أخرى ... وحسبك ابن أبي الحديد الذي تذمر منه المؤلف، حيث قال: وابن أبي الحديد وإن ادعى أنه معتزلي إلا أني معتزلي إلا أني أشك في هذا الادعاء، وأعتقد أنه كان شيعيا متعصبا» ص 52 ...
ص: 240
وقوله هذا مبني على توهمه أن التشيع والاعتزال لا يجتمعان، ولو كان تتبع المؤلف تامًا لعلم أن المذهبين اصطلحا على مراغمة أهل السنة ووقع بينهما تفاعل عجيب ...! وابن أبي الحديد المذبذب لعب على ثلاثة حبال: التسنن والتشيع والاعتزال، فهو في الأصول معتزلي، وفي البحث شيعي يداهن ابن العلقمي وفي الفروع،شافعي وما أراه منفورًا عند الاثنا عشرية إلا للصيد ... والغافل إذا قرأ شرح النهج لابن أبي الحديد يراه شيعيا لطيفًا ... ولا يدري أن هذا اللطيف هو الذي يجر إلى الكثيف!
والغالب أن المعتزلة الذين فيهم شائبة تشيع هم زيدية لا إمامية أي هم معتزلة بحكم تمذهبهم لزيد (1)، أو أنهم كانوا معتزلة ثم دانوا بالتزيد! فلا يخدعنك لفظ الاعتزال إذا رأيت في جنبه تشيعًا، ثم إن المعتزلة لم يشغلوا أنفسهم بتمحيص التاريخ، وصاحب الكشاف على براعته لم يبرأ من أخبار العجائز.
أما وثبات المؤلف السديدة، فكثيرة، منها قوله في ص 55: وقد رأيت لزامًا عليَّ في هذا المقام أن أتناول نهج البلاغة بالبحث والتحقيق، سالكًا في ذلك سبيل العلماء ... أما هؤلاء الذين لا هم لهم إلا إرسال المدح فمهمتهم هينة لينة فما أيسر أن نقول: (هو كتاب في الإتقان تلو القرآن)! وما أسهل أن تُنمق الألفاظ كما نمقها الشيخان حسن نائل المرصفي ومحمد عبده ...
ص: 241
لقد حل المؤلف بهذه الجرأة عقدة من قلبي!.
وجاء بنموذج من الخطب المتكلفة قائلا: هل ترى فيها ما رآه محمد عبده حين يقول: (وإن جحافل الخطابة وكتائب الذرابة، في عقود النظام وصفوف الانتظام، تنافح بالصفيح الأبلج، والقويم الأملج ...)، فأين هو القويم الأملج؟ وأين هي روائع الحجج؟ ص 58.
ثم أتى بنماذج أخرى معيدًا الكرة على محمد عبده، متهكما من الصفيح الأبلج الذي يمتلج المهج ...»!!
إلى أن قال في ص 68: ولفاطمة خطب تُنسب إليها، ولعلي بن الحسين رسالة تُعرف برسالة الحقوق، لم أحظ بها، وكلها مصنوع!.
ولعائشة أيضًا خطب منسوبة وهل كان داء التاريخ إلا من داء المباراة؟ لاسيما مباراة فلانة وفلانة (1).
وفي ص 75 روي أن عليّا سمع ناقوسًا يُضرب، فقال لمن معه: أتدرون ما يقول هذا الناقوس؟ قالوا: لا! قال: فإنه يقول:
نلنا الدنيا فاستهوتنا *** فاستهوتنا وأذلتنا
واستلبتنا لسنا ندري *** فيها إلا لو قد متنا
وفي البيت الثاني زحاف غير مأنوس، يدل على عامية الشاعر، ولعل فيه.
ص: 242
تحريفًا والبحر من المتدارك بعده:
يا ابن الدنيا زن بالدنيا *** وزنا وزنا وزنًا وزنا
يا ابن الدنيا تفنى الدنيا *** قرنًا قرنا قرنًا قرنا
وكنت عثرت على مثل هذه النغمة في مجلة الكتاب قبل سنتين ولكنها منثورة نثرًا، ولما قرأتها شعرت أنها منظومة، وأعانني الوزن على إصلاح أخطائها، وجهل المستشهد بها أنها شعر!.
وقال في ص 76: ووضعوا - الشيعة - شعرًا كثيرًا فيه إعلاء من شأن علي على ألسنة أعدائهم ...
أقول: لم يضعوا شعرًا فقط ولا قصصًا فقط! بل أحاديث ... منها على لسان سعد بن أبي وقاص، الذي كان امتنع عن مبايعة علي (1)، ولي في هذا بحث بعنوان تدريب في نقد الحديث).
ووضعُ تلك الأحاديث إما للاستشهاد بقول الشاعر (والفضل ما شهدت به الأعداء)، أو لترويجها على الموالين لمن وُضعت على لسانه ... أو لكيلا يقع الاحتجاج بامتناع سعد وهو من أجلاء الصحابة ...
ص: 243
وفي ص 81: تكلم على الوليد بن يزيد وأورد البيتين المشهورين اللذين قالهما عند الاستفتاح بالقرآن ... واستشهد لكذبهما بثلاثة أبيات، فنسبها إلى الوليد، وهي:
أشهد أن الدين دين أحمد *** فليس من خالفه بمهتد
وأنه رسول رب العرش *** القادر الفرد الشديد البطش
أرسله في خلقه نذيرا *** وبالكتاب واعظا بشيرا
والاستشهاد بهذه الأبيات لا يلائم خطة المؤلف في تمحيص الأخبار والذي أراه أن كلا الشاهدين،مصنوع، أحدهما للطعن، والآخر للتبرئة، وبهذا يستقيم الميزان!
ومما أجاد فيه المؤلف بحث القصيدة الميمية التي زعموا أن الفرزدق قالها في مدح بعض الأئمة، فقد أعطى البحث حقه، وزاد على ما كنت أعرف.
كتاب الأدب في ظل التشيع) (1):
بعد كتابة ما تقدم ظفرت بكتاب عنوانه: الأدب) في ظل التشيع)، وهو رد على أثر التشيع ...)، جاء في أول كلمة (التقديم) ما يلي:
في تراثنا الإسلامي مناجم أدبية مطمورة ... كبرت على التحديد والتقدير، وتهب للباحث فيها كثيرًا من صنوف العطاء والحباء ... بقوة الناحية الفنية وبالفكرة العربية ... وبالتفاعل الثقافي ...».
ص: 244
ونحن نجبيه على هذا برقة أو بغلظة ... إن ما زعمته تراثًا إسلاميًا محبوك بتراث وثني! وما زعمته (فكرة عربية مشتبك بفكرة سبئية شعوبية!
وأما صنوف العطاء والحباء فليست نحلة وثنية محرومة من صنف عطاء وحباء.
فإلياذة هوميروس مثلا فيها صنف من صنوف العطاء الوثني وفيها فن ... وكما للإغريق إلياذة. للهند القدماء،إلياذة، وكلها من عطايا الوثنية، وأما التفاعل الثقافي) فهو مغتفر في كل ناحية من نواحي الحياة، إلا ناحية الشرك المخرج من الإسلام ... والمفرق للجماعة الإسلامية بعد أن وحدها التوحيد.
ثم يعيد النغمة ويقول: ولأنه صورة حية لأدبنا العربي تعبر عن المدى البعيد لحيوية الفن والفكر ص4.
ولو قال (صورة أعجمية دخيلة ... لحيوية الفن والكفر)؛ لكان أقرب إلى الصدق.
بعد هنيهه ...: «على أننا لا ننكر أنه قد تناوله بعض الأدباء المعاصرين فخصص لدراسته كتابًا أسماه أثر) التشيع في الأدب العربي)، لكنه جاء درسًا فاقدًا لأكثر شروط الدراسة من النزاهة والتجرد، وطرح كل الاعتبارات الطائفية والتقليدية ...»
وهذا افتراء أكثر من محسوس فقد كانت طريقة المؤلف المردود عليه أكثر من (تجرد)! وهذا الذي دعاني إلى تسديد خطاه في الحلقات السابقة.
ص: 245
وأما الاعتبارات الطائفية والتقليدية)، فلو كان الراد من رواد الإنصاف لما أسندها إلى المردود إذ كان هو أليق بها وأليق به المثل المشهور: (رمتني بدائها وانسلت).
ثم أكد المنكوس الإسناد (المعكوس) بقوله: ولم يتجرد أيضًا من هذه الرواسب التقليدية والمذهبية كما يطلب للباحثين!! وجاءت دراسته (طائفية بغيضة تناول فيها الشيعة ... بالنبز،والطعن وألصق بهم كل أكذوبة وخرافة ...».
مع أن كتابه الذي أعده للرد يشهد بما أنكر!.
على أنا نستطيع أن نقدم له مجلدات ضخمة من الأكاذيب والخرافات.
ونحن لا نتكلف له تعيين اسم كتاب بل نقترح عليه أن يقصد أي مكتبة شاء من (مكتباته الأصلية ... ثم يغمض عينيه ويضع يده على أي كتاب شاء ثم (يفتح عينيه) ويقرأ!
وقد تعجب أو لا تعجب ... من قوله بعد ثرثرة باردة وكان من أبرز ظواهره تحكم السطحية و (الرجعية بروحه، كأننا لا نزال نعيش في متاهات العصور المظلمة ...» ص 5.
ولا يكتفي بذلك، بل يعطف عليه قوله: ولا نريد أن نحاسب المؤلف على هذا كله فإن الحساب للعلم والتاريخ.
ولو كانت هذه الطريقة، طريقة البهت) ... مما اختص به صاحب الرد لما اهتممنا به ولا أعرناه قيمة ... ولكنَّا وجدناها طريقة عامة لكل متصد
ص: 246
للمناظرة من فصيلة ابن سبأ ... ولذلك نبهنا عليه للاحتراز منه.
ونحن نستطيع أن نقلب عليه النصائح التالية:
وما أجدر بهؤلاء ... أن يتوخوا الإنصاف والنزاهة - لو أرادوا النزاهة! - وأن يسموا بأنفسهم عن مزالق الهوى والعصبية - وكيف؟ والسمو عنها نزول عن المذهب - فإن أكثر الناقدين - مع التجدد في لفظ أكثر - لا يفسد عليهم بحوثهم شيء كمثل التحيز ...
ولا أنكر أن هناك طائفة من (المضلين) يعملون على تضليل فئات من المطالعين - بالزور والبهتان ضاربين الحقائق تحت الأقدام، ولا أنكر أيضًا أن فئات غير قليلة تنجرف بهذه الخزعبلات) ... لفراغ جماجمهم!
إلى أن يقول: وحسب هذه الدراسة قيمة أنها دراسة أدب طائفة كبيرة ... لها ثقافتها ومركزها السياسي والاجتماعي والأدبي ...
أما الثقافة والاجتماع فما أدرانا بثقافاتكم واجتماعاتكم ...! وأما الأدب فحسبنا ما نحن فيه ...!
وأما «الأدوار الجسام تتصاعد فيها أمواج الأحداث» ... إلخ. فإنما الافتخار بها لو كانت لمصلحة المجتمع الإسلامي، لا لمصلحة (أفكار سوداء بثها بين سواد الأمة (المعلم (الشاطر) المعروف ب - (ابن السوداء)!
وأما أنها تبلغ عددًا كبيرًا قرابة (مائة مليون)!! منتشرة على أديم هذه الأرض، فالعبرة للكيف لا للكم!
وهذا العدد الذي ضاعفه بيت الكذب ... كان على حساب الوحدة
ص: 247
الإسلامية بالمكر والغيلة، ونصب الشباك المختلفة الأنواع (1). دع الصراع والقراع وتحكيم السيوف في رقاب الموحدين في فرص مؤاتية ... بحيث أن الدماء التي سُفكت في هذا السبيل أضعاف مضاعفة في جنب ما سفكه الصليبيون ودواوين التفتيش التي أقيمت في بعض البلاد الإسلامية تحت إشراف الدراويش) ... ليست أقل شناعة من دواوين التفتيش التي أقيمت في أسبانيا.
ومن الاتفاقات العجيبة وقوع (التعاصر) بين (المجزرتين)، كأنهما على ميعاد، ثم كان حصول التشابه بين النتيجتين)!!.
ص7: وكفاها شأنا أن تكون درسًا لآداب طائفة – هدامة – كانت في أكثر عصور التاريخ أخصب طائفة في - قتل - الحياة الإسلامية وأكثرها عملًا في حقول – التخريب المادي والمعنوي - وأوفرها عددًا في الرجالات الأدبية» المتقلبة المتلونة حيثما دارت زجاجة المنفعة، تسندها التقية المبرقعة.
وفي ص 11 بحث عن حديث مشهور: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» (2) يقول عنده:
والحديث على إطلاقه مفتعل بلا شك لمنافاته للروح العلمية والمنطقية ...
ص: 248
فأقول له جيئوني بحديث واحد من أحاديثكم التي تستندون إليها في خزعبلاتكم موافق للروح العلمية والمنطقية، وهذه يدي إليكم!
ثم يقول: على أنه لو ثبت صدوره عن النبي؛ فإنه لا يعني إلا بعض كبار الصحابة، ومن لهم القدم الراسخة في الإسلام.
وخشية أن يقال له: هذا أبوبكر وعمر مثلا (من كبار الصحابة وممن لهم قدم راسخة) هل في ذلك شك؟.
قيد الصحابة بهذا الوصف: الذين امتازوا بالطاقة الإشراقية في لوحات نفوسهم ...».
فنقول له بعد إغماض العين عن هذا التعبير الوثني المظلم: كيف نستطيع التمييز بين ذوي الطاقة المزعومة وغيرهم وليس لنا بذلك طاقة؟ وصاحب الطاقة علمنا أن نقول ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به؟
ثم يقول وما علينا إلا الإكبار و (الانحناء أمامهم ... إعظامًا واحتراما، فإنهم أكرم ...الأمة. وكان عصرهم أكثر العصور خيرًا وبركة وعزا ...».
ولو أنا سألنا عن أسماء هؤلاء الذين كان عصرهم خيرا وبركة ... إلخ، لتلعثم في الجواب وانكشف عواره ...
إلا أنه لا يبالي أن يقول: ومع هذا لا يكون مانعا عن دراستهم في جو علمي وعقلي ...» ص 11.
فأي علم يعني بعد هذا؟ وأي عقل ...؟
واعجب أو لا تعجب من طفرة الباحث بظلفه ... إلى بحث الأستاذ علي
ص: 249
عبدالرزاق عن الخلافة وأصول الحكم قائلا: «فإنه أوغل فيها بجرأة جامحة، ونزع عن الخلافة أكثر أثوابها القدسية، وتركها في ثوبها السياسي ...» ص 12.
ولكنه لما كان على ثقة من أن بحث الأستاذ يؤول إلى حتفه ... (داور) على الطريقة المتبعة) ... قائلا: (وإن كانت بطريقها وقياسها لا تدل على قوة الروح العلمية ...».
فبعد أن أصعد الأستاذ إلى السماء العليا أهبطه إلى الأرض السفلى، نازعا عنه الروح العلمية، بعد أن اتخذه وسيلة لنزع أثواب القدسية عن الخلافة!
فمثل هذه السمكة المتموجة في لجتها لا يمكن القبض عليها إلا برأس حديدة!
إنه ما كان لي أن أعباً بمثل هذا المؤلف لولا علمي بأنه يمثل طريقة يتساوى فيها أجهل الجهلاء وأعلم العلماء.
إلا أنا استفدنا من هذا الكتاب ما يمس موضوعنا الأصلي، وهو قصيدة تمثل وثنية ابن أبي الحديد الصارخة ... وهي إحدى القصائد السبع الموسومة بالعلويات ص 120(1)، وهي نموذج من دعاويه في أول الكتاب، كما أنها بمنزلة الشرح لديباجة ابن أبي الحديد في شرحه!
يا برق! إن جئت الغري فقل له *** أتراك تعلم من بأرضك مودع
فيك ابن عمران الكليم وبعده *** عيسى يقفيه وأحمد يتبع ...!.
ص: 250
بل فيك جبريل وميكال *** وإسرافيل والملأ المقدس أجمع
بل فيك نور الله جل جلاله *** لذوي البصائر يستشف ويلمع
هذا (ضمير العالم الموجود من *** عدم و سر وجوده المستودع
هذا هو النور الذي عذباته *** كانت بجبهة آدم تتطلع
وشهاب موسى حيث أظلم ليله *** رفعت له لألاؤه تتشفع
لولا حدوثك قلت إنك جاعل *** الأرواح في الأشباح والمستنزع
كان عليه ألا يعبأ بالحدوث؛ لأنه من باب (تجسد الكلمة)!!
لولا مماتك قلتُ إنك باسط الأ *** رزاق تقدر في العطاء وتوسع
وأليق منه وألبق تعطي من تشاء وتمنع وما كان له أن يأبه للممات! لأن له توجيها في بعض الملل.
والله لولا حيدر ما كانت الدنيا *** ولا جمع البرية مجمع
من أجله خُلق الزمان وضوئت *** شهب كنس وجن ليل أدرع
وإليه ... في يوم المعاد حسابنا *** وهو الملاذ لنا غدًا والمرجع!
صدر البيت إشارة إلى قوله تعالى: (وإِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَاحِسَابَهُم)! والعجز مبني على أعجاز نخل خاوية، وأحاديث واهية!
ولكن المؤلف يوجه الإفك للآفك قائلا: «ولو لا ضروب التأويل البعيدة ... لكان مستهجنا وكفرًا» ... أي أنه بالتأويل يخرج من دائرة الاستهجان، كما يخرج من دائرة الكفر!
ص: 251
وليس في العالم مستهجن إلا له تأويل والتأويل يُلحق الخنفساء بالفيل، والكراث بالزنجبيل، ومنه قول المشركين: (لَوْ شَآءَ اللهُ ما أَشْرَكْنَا وَلَا اب اونا)!
قلت: إن المشرفين على طبع الكتاب ليسوا من رجال الميدان.
ليس من عادتي أن أتحامل على العلماء بل على أشباه العلماء!
إن الكتاب مشحون بالأخطاء، ومنها أخطاء مضحكة، وهاك بعض ما عثرت عليه في الجزء الرابع من المضحكات ...
ص 232: إني لعند أمير المؤمنين إذا أقبح قد جاءه يسعى بكتاب»؛ صوابه إذا فيج، والفيج كلمة فارسية معربة بمعنى ساعي البريد وتكرر الخطأ في صفحة
335: وإذا بقييج يشتد بصحيفة في يده وما أدري أي الخطأين أقبح؟
:338 نصرانيا يقال له الزما حسن بن منصور صوابه (الرماحس)!
:343: والدنيا دار مني لها الفناء ... وهي حلوة خضراء» وزاد شناعة الخطأ وقوعه في المتن وهو (دون) كلام الخالق ... مع وجود الصواب في الشرح مرتين!
362 ومن هذا الباب كأني بك يا كوفة تمدين مد الأديم العكازي)!! ولعل الكتاب يُطبع على نسخة (أعجم طمطم)!.
343: وقوله تعالى: (لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزَّا)! فما أحوج هؤلاء إلى تلاوة
ص: 252
(العزائم)؟! وفي ص 14، 21 ج2 طعنه بمعول) ص (بمغول)!
وإذا قدر للطابعين أن يلموا شعث الكتاب بجدول يتضمن الخطأ والصواب وهيهات ... فسيكون الكتاب 21 جزءًا ...!
ولعل الواقفين على الطبع لو وردوا العراق لاستقبلوا بإيمان ... كما استقبل أخوهم ... الذي ورد تحت ستار الزيارة ... والله أعلم بما انطوت عليه أسرار التجارة ...!
الإسلام الصحيح ثقافة روحية عالية أشار إليها القرآن بقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)تُؤْتَى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ بِإِذْنِ رَبِّهَا.
ولا تجد تعبيرًا أتم وأدق من هذه الآية الشريفة في وصف تلك الثقافة المنيفة.
وأخت هذه الآية في وصف من أخذوا بتلك الثقافة من الحاشية المحمدية الأولى، قوله تعالى: ﴿محَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) ويسر على المؤمنين ... وبين الشدة على الكفار والغيظ لهم ... رحمة وقوة تعجب أهل الفتوة.
سوى أن تلك الشجرة،ابتليت منذ أينع ثمرها وزهت نضارتها للعالم، برتل خامس (مغيظ) ... يحاول جهده أن يقتلعها مع استظلاله بها وتمتعه بخيراتها، كفرًا وجحودًا ... والآية نص في الموضوع.
ويضع مكانها شجرة أشار إليها القرآن أيضًا بقوله: ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ
ص: 253
كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ أَجْتُثَتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرارِ) فهي مذبذبة متلونة متقلبة تبدو في كل عصر بلهجة ثقيلة أو خفيفة.
كان أول من برز في قيادة الرتل الخامس: المعلم اليهودي) الشاطر المعروف بابن سبأ أو ابن السوداء، الذي هو أول من غرس في تاريخ الإسلام النزعة السوداء (1) ... ومن رواسبها ابن أبي الحديد وأضرابه.
كان من عادة ذلك الرتل الخامس أن يكتن بشق غائر من الشجرة الطيبة الباسقة مترقبا مترصدًا يوهم الناس أنه جماعة نواطير! فكلما لاحت له فرصة خرج من الشق ليوقع في تلك الشجرة ما تحتمله تلك الفرصة من الأذى ... فهو في فرصة يكسر،غصنًا، وفي فرصة يلوي غصنًا ليمتلخه في فرصة أخرى، وإذا وجد فرصة ملائمة خرجت أفراده وخبطوا الشجرة بالهراوي، فتساقط منها ورق كثير ... وتشعثت أغصان كثيرة ... وربما جرأوا بعض الأوشاب) على رميها بالحجارة، طمعا في الثمر!!
وهو فيما بين ذلك يلتجئ إلى الشق المذكور عند الخوف. فيعبث في جوف الشجرة، ويحدث فيها تخاريب ويوجه المواد السامة إلى عروقها ... وقد واتته فرصة غفلة المسلمين عما يراد بهم ... أن يتخذ له من جوف الشجرة منافذ وكوى ليتطلع منها إلى الغادين والرائحين؛ ليلقي عليهم نفثات مسمومة قد غشيت سمومها بمصنوعات سكرية ذات أصباغ مغرية للجهال، يعدها (مصنع خاص)، له في كل قطر شُعَب وفروع.
هكذا ظل حال الشجرة وحال الرتل الخامس معها، حتى أظللنا هذا.
ص: 254
العصر الذي يسمى عصر النور، ثم عصر الذرة، فانقسم الناس في أمر الشجرة إلى ثلاثة أقسام:
قسم قالوا: إن هذه الشجرة كما يقال أي كذا خلقت، وأن ما هي عليه أزلي لا يرفع.
وقسم قالوا: إن هذه الشجرة التي وقع عليها هذا التشويه أصبحت لا تنفع، وتشويهها مؤذ للأنظار، فمن الصواب أن تُقتلع من جذورها وتُتخذ وقودًا ... وإن لم يكن اقتلاعها فعليكم بهذه الفؤوس، فسلطوها عليها من فوق إلى تحت.
وقسم قالوا: إن هذه الشجرة هي! أمنا التي عاش آباؤنا في حضنها، ونحن أبناء أولئك الآباء! فمن الظلم أن نتعدى على ما كان سببا في نشوئنا وترعرعنا، ما دام العلاج ممكنًا، وذلك بأن نطرد عنها السوس والديدان ... ونعقمها بمادة مطهرة ونملأ الفراغ الذي فيها بمادة سالمة، ونوجه إليها الماء الطاهر؛ فتزكو حينئذ وتعود سيرتها الأولى.
ونحن ممن كُتب له أن يكون من أهل هذا الرأي (1)، وإن كان مستبعدًا بالنظر إلى ما نعانيه ونعانيه ...!
ومما لا شبهة فيه: أن بين الثقافة وبين القومية - ما دمنا ندعيها - علاقة وثيقة، لذلك نقول لبعض دعاة القومية: إما أنكم دعاة مخلصون، فما هذا السكوت؟، وإما أنكم أدعياء،ممخرقون تريدون استغلال كلمتي العروبة والإسلام ولستم منهما في شيء، وكيفما كان ... فأنتم بين منافقين وبين جبناء ...!.
ص: 255
المقدمه ...5
المبحث الأول: كتاب «نهج البلاغة»، ومؤلفه ...8
شروح «نهج البلاغة» وطبعاته ...41
هل يلتزم الشيعة بما في نهج البلاغة مما يُخالف معتقداتهم؟! ...45
المبحث الثاني: ترجمة صاحب شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد، ومذهبه ...56
انحرافات ابن أبي الحديد في «شرحه» ...80
المبحث الثالث: ترجمة الأستاذ محمود الملاح رحمه الله ...86
منهج الملاح في كتاباته ...90
تعقيب حول مقال محمود الملاح؛ للشيخ إسماعيل الأنصاري رحمه الله ...94
نقد الأستاذ كمال الخطيب لبعض ما ورد في تشريح «شرح نهج البلاغة» ...97
صورة غلاف الطبعة الأولى من «تشريح شرح نهج البلاغة» للملاح ...106
تشريح «شرح نهج البلاغة» ...107
فهرست المحتويات ...206
مطابع الحميضي، هاتف: 4581000، فاكس: 4592217
ص: 256