سرشناسه :جعفرپیشه فرد، مصطفی ، 1340 -
عنوان و نام پدیدآور :فقه الدولة/ تالیف مصطفی جعفرپیشه فرد.
مشخصات نشر :قم: موسسه احیاء امر طاها، 1441ق.= 1401.
مشخصات ظاهری :350 ص.
فروست :من سلسله مباحث الفقه والسیاسه؛ 1.
شابک :2000000 ریال: 978-622-92632-1-1
وضعیت فهرست نویسی :فیپا
یادداشت :زبان: عربی.
یادداشت :چاپ قبلی: نشر دانش حوزه، 1397.
یادداشت :کتابنامه: ص. [341] - 350؛ همچنین به صورت زیرنویس.
موضوع :حاکمیت (فقه) *Sovereignty (Islamic law) حکومت دینی Polity (Religion) اسلام و دولت Islam and state اسلام و سیاست Islam and politics
رده بندی کنگره :BP231
رده بندی دیویی :297/4832
شماره کتابشناسی ملی :9118272
ویراستار دیجیتالی:محمد منصوری
اطلاعات رکورد کتابشناسی :فیپا
ص: 1
ص: 2
الحمد لله رب العالمین
وصلی الله علی سیدنا محمد وآله الطیبین الطاهرین
ص: 3
ص: 4
فقه الدولة
تألیف: مصطفی جعفر پیشه فرد
ص: 5
ص: 6
المقدمة.......... 21
المرحلة الأولى: الدولة فی الفقه الإسلامي دراسة في المفهوم والضرورة والملامح.......... 25
الفصل الأول: المبادئ والكلّيات.......... 27
المسألة الأولى: الفقه لغة واصطلاحًا.......... 27
المسألة الثانية: موضوع علم الفقه ودوره في حياة الإنسان.......... 30
المسألة الثالثة: الدولة لغةً واصطلاحًا.......... 35
المسألة الرابعة: تعريف فقه الدولة.......... 41
نظرة أخرى إلى ماهية فقه الدولة.......... 23
المسألة السادسة: المبادئ التصديقية لفقه الدولة.......... 45
المبدأ الأول: عدم استغناء المجتمع عن الدولة ونظام الحكم.......... 46
المبدأ الثاني: انحصار الولاية في الله تبارك وتعالى.......... 47
الفصل الثاني: الدولة وملاك شرعيّتها في الإسلام.......... 49
المسألة الأولى: ملاك شرعية الدولة.......... 49
المسألة الثانية: الأصل في شرعية الدولة.......... 52
مستند الأصل في الولاية:.......... 54
ص: 7
المستند الأول: الأصل العمليّ.......... 54
المستند الثاني: الآيات والروايات الواردة في الولاية.......... 55
المستند الثالث: حكم ضرورة العقل بتساوي آحاد الإنسان.......... 57
المستند الرابع: حكم ضرورة العقل بالولاية الإلهية الانحصارية.......... 58
المسألة الثالثة: الإسلام ونظام الحكم.......... 59
الدليل الأول: دراسة تاريخ بعد الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) .......... 62
الدليل الثاني: دراسة السيرة.......... 62
الدليل الثالث: القرآن.......... 64
الطائفة الأولى: الآيات المشيرة إلى شؤون النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) السياسية والاجتماعية:.......... 64
الطائفة الثانية: الآيات التي تدعو الرسول إلى تنفيذ الأحكام.......... 66
الطائفة الثالثة: آيات البيعة.......... 68
الطائفة الرابعة الآيات المرتبطة بالموارد المالية.......... 69
الطائفة الخامسة: الآيات التي تخاطب المؤمنين لتنفيذ الأحكام.......... 70
المسألة الرابعة: الدولة بعد النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وملاك شرعيّتها.......... 74
إشارة إلى إجماع المسلمين شيعةً وسنّةً على حكم المسألة.......... 74
1-دراسة رأي الشيعة والسنّة في كيفية استمرار نظام الإمامة.......... 77
أ) البحث الكبروي.......... 77
ب) البحث الصغروي.......... 79
ومن السنة: حديث الغدير المتواتر.......... 80
ومنها: حديث المنزلة المتواتر أيضًا.......... 80
ص: 8
المسألة الخامسة: تحرير محل النزاع في دولة عصر الغيبة.......... 80
المرحلة الأولى:.......... 82
المرحلة الثانية:.......... 82
المرحلة الثالثة:.......... 84
المسألة السادسة: المسالك المختلفة لإقامة الدولة الإسلامية.......... 84
أ) بيان المسلكين.......... 84
المسلك الأول: مسلك المشهور.......... 84
المسلك الثاني: مسلك الإمام الخميني (قُدّس سِرّه).......... 85
ب) المائز بين المسلكين.......... 85
الفصل الثالث: في ضرورة إقامة الحكم الإسلامي.......... 89
المسألة الأولى: الوجوه العقلية لضرورة إقامة الحكم الإسلامي (أدلة السيد الإمام الخميني (قُدّس سِرّه).......... 89
الدليل الأول: التأمّل في طبيعة التشريعات الإسلامية.......... 90
المقدمة الأولى: بقاء الأحكام واستمرار التشريعات الإسلامية.......... 91
المقدمة الثانية: لزوم تنفيذ الأحكام والتشريعات الإسلامية.......... 91
المقدمة الثالثة: توقّف تنفيذ التشريع على السلطة.......... 92
الدليل الثاني: ضرورة حفظ النظام وحرمة الإخلال به.......... 92
الدليل الثالث: ضرورة حفظ ثغور المسلمين.......... 94
المسألة الثانية: الروايات الدالّة على جعل كل ما يحتاج إليه وعلى ضرورة إقامة الحكم الإسلامي.......... 96
تقريب الاستدلال:.......... 97
ص: 9
المسألة الثالثة: رواية الفضل بن شاذان وضرورة إقامة الحكم الإسلامي.......... 99
سند الحديث:.......... 99
البحث في دلالة الحديث:.......... 102
المسألة الرابعة: الخطبة الفدكية وضرورة إقامة الحكم الإسلامي.......... 105
سند الخطبة:.......... 105
دلالة الخطبة:.......... 107
المسألة الخامسة: الحاجة إلى الدولة في كلام أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الردّ على الخوارج.......... 108
الفصل الرابع: الأدلة المعارضة لضرورة إقامة الحكم الإسلامي.......... 111
المسألة الأولى: دراسة الأدلة المتعرّضة لأمر قيام زيد بن علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ).......... 111
ومنها: الصحيحة الثانية لعيص بن القاسم.......... 111
ومنها: رواية أبي عبدون.......... 115
نتيجة الطائفة الأولى:.......... 116
المسألة الثانية: دراسة الأدلة الواردة في من ادّعى الإمامة وليس بإمام.......... 117
و منها: صحيحة الفضيل بن يسار.......... 117
ومنها: رواية سورة بن كليب.......... 117
ومنها: صحيحة ابن أبي يعفور.......... 118
ومنها: رواية الحسين بن مختار.......... 118
ومنها: رواية الوليد بن صبيح.......... 118
ومنها: موثّقة طلحة بن زيد.......... 118
ص: 10
المسألة الثالثة: دراسة الأدلة الدالّة على لزوم السكون وعدم التحرّك.......... 121
منها: صحيحة سدير.......... 121
ومنها: رواية جابر الجعفي.......... 121
منها: رواية النعماني.......... 121
منها: ما رواه النعماني أيضًا.......... 122
منها: ما رواه الكليني.......... 122
المسألة الرابعة: دراسة روايات الراية.......... 123
صحيحة أبي بصير.......... 123
ومنها: رواية مالك بن أعين الجهني.......... 124
ومنها: رواية ثانية لمالك بن أعين الجهني.......... 124
ومنها: رواية ثالثة لمالك بن أعين الجهني.......... 124
الفصل الخامس: ملامح الدولة الإسلامية في كلمات الإمام الخميني (قُدّس سِرّه).......... 129
اللمحة الأولى: نهج الحكومة الإسلامية.......... 129
اللمحة الثانية: السلطة التشريعية في الحكومة الإسلامية.......... 130
اللمحة الثالثة: تنزّه الحكومة الإسلامية عن الترف والامتيازات.......... 130
اللمحة الرابعة: توسّلية الحكومة الإسلامية.......... 131
اللمحة الخامسة: الحكومة الإسلامية والحرية والأمن.......... 131
اللمحة السادسة: الحكومة الإسلامية والمصالح العامّة.......... 132
اللمحة السابعة: موقع الدولة والتشريعات الاجتماعيّة في الإسلام.......... 132
اللمحة الثامنة: موقف كلّ من الإسلام والحكومة الإسلامية والأحكام
ص: 11
الفقهية للآخر.......... 133
اللمحة التاسعة: موقع الدولة الإسلامية، بالقياس إلى الأحكام الأولية والأحكام الولائية.......... 136
اللمحة العاشرة: الحكومة الإسلامية وتأسيس الفقه الحكومی.......... 138
المرحلة الثانية: شروط الإمامة في عصر الغيبة.......... 143
لمحة تاريخية للإشارة إلى تاريخ البحث.......... 145
أ) إشارة إلى رأي أهل السنّة.......... 146
ب) إشارة إلى كلمات فقهاء الإماميّة قبل انتصار الثورة.......... 147
ج) إشارة إلى كلمات فقهاء الإمامية بعد انتصار الثورة.......... 149
الفصل الأول: في شرط الفقاهة.......... 153
إشارة إلى تحرير محلّ البحث:.......... 153
المسألة الأولى: الأدلّة العقلية لشرطية الفقاهة:.......... 153
التقريب الأول: مقدّمية علم الوالي لتحقّق الحكومة الإسلامية.......... 154
التقريب الثاني: عدم شرعية ولاية الجاهل.......... 156
المسألة الثانية: شرطية الفقاهة في بناء العقلاء.......... 156
المسألة الثالثة: شرطية الفقاهة في القرآن الكريم.......... 158
الآية الأولى: آية الهداية.......... 158
الآية الثانية: قصّة طالوت.......... 160
الآية الثالثة: آية إنزال التَّوْرَاةَ.......... 162
المسألة الرابعة: شرط الفقاهة في الروايات.......... 167
ص: 12
الرواية الأولى: ما في نهج البلاغة.......... 167
الرواية الثانية: ما في نهج البلاغة ايضاً:.......... 168
الرواية الرابعة: صحيحة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي:.......... 171
الرواية الخامسة: صحيحة عيص بن القاسم:.......... 171
المسألة الخامسة: عدم كفاية العلم التقليدي.......... 172
المسألة السادسة: اعتبار الاجتهاد المطلق.......... 173
المسألة السابعة: عدم اعتبار الاجتهاد بالفعل.......... 174
المسألة الثامنة: عدم اعتبار المرجعية.......... 175
المسألة التاسعة: دراسة اعتبار الأعلمية.......... 175
الفصل الثاني: في اشتراط العدالة في ولي الأمر.......... 183
المسألة الأولى: حكم العقل باشتراط العدالة في الإمام.......... 183
التقريب الأول لحكم العقل:.......... 183
التقريب الثاني لحكم العقل:.......... 185
المسألة الثانية: الآيات القرآنية الدالّة على اشتراط العدالة.......... 186
المسألة الثالثة: الروايات الدالّة على اشتراط العدالة.......... 193
المسألة الرابعة: في تعريف العدالة.......... 200
الأول: العدالة في اللغة والاصطلاح:.......... 200
الثاني: فلسفة اشتراط العدالة في المناصب الاجتماعية.......... 201
ص: 13
المسألة الخامسة: في مراتب العدالة.......... 202
المسألة السادسة: في العدالة المطلوبة في وليّ الأمر.......... 203
والدليل على هذا المدّعى أمور:.......... 205
المسألة الثامنة: في اعتبار عدم الإقبال إلى الدنيا والحرص عليها.......... 207
الفصل الثالث: في شرطية الكفاءة وحسن الولاية.......... 217
المسألة الأولى: في معنى الكفاءة وحسن الولاية وماهيتها.......... 218
المسألة الثانية: دراسة الأدلّة (1).......... 220
حكمُ العقل والعقلاء باشتراط الكفاءة وحسن الولاية.......... 220
المسألة الثالثة: دراسة الأدلة(2).......... 221
حكم الكتاب الحكيم باشتراط الكفاءة وحسن الولاية.......... 221
المسألة الرابعة: دراسة الأدلة(3).......... 223
حكم السنّة باشتراط الكفاءة وحسن الولاية.......... 223
فالنتيجة:.......... 225
المرحلة الثالثة: کيفية تعيين ولي الامر فی عصر الغيبة .......... 227
الفصل الأول: تعيين وليّ الأمر بالنصّ الشرعيّ والتنصيب الإلهي.......... 231
المسألة الأولى: إشارة إلى المباني المختلفة في مسألة تعيين وليّ الأمر.......... 231
المسألة الثانية: نظرة عابرة في كلمات الأصحاب في المسألة.......... 234
المسألة الثالثة: دراسة أدلة التنصيب العام للفقيه الجامع للشروط (1).......... 241
1) دليل الإجماع.......... 241
المسألة الرابعة: دراسة أدلّة التنصيب العام للفقيه الجامع للشروط (2).......... 247
ص: 14
2) دليل العقل.......... 247
المسألة الخامسة: دراسة أدلّة التنصيب العامّ للفقيه الجامع الشروط (3).......... 250
3) سيرة المتشرعة ومؤسسة الوكالة.......... 250
المبحث الأول: سيرة المتشرعة والمرجعية.......... 250
المبحث الثاني: مؤسسة الوكالة وأطروحة التنصيب.......... 250
المسألة السادسة: دراسة أدلّة التنصيب العام للفقيه الجامع للشروط (4).......... 251
4) الأدلة النقلية: القرآن الحكيم.......... 251
المسألة السابعة: دراسة أدلة التنصيب العام للفقيه الجامع (5).......... 254
5) لأدلّة النقلية: الحديث الأول: مقبولة عمر بن حنظلة.......... 254
المبحث الأول: بحث سنديٌّ.......... 255
المبحث الثاني: بحث دلاليٌّ.......... 257
تقريب الاستدلال:.......... 258
المسألة الثامنة: دراسة أدلّة التنصيب العام للفقيه الجامع (6).......... 262
6) الأدلّة النقلية؛ الحديث الثاني: التوقيع الشريف.......... 262
المبحث الأول: بحث سنديٌّ.......... 263
المبحث الثاني: بحث دلاليٌّ في الفقرة الأولى من الحديث.......... 265
المبحث الثالث: بحثٌ دلاليٌّ في الفقرة الثانية من الحديث.......... 266
المسألة التاسعة: دراسة أدلة التنصيب العام للفقيه الجامع (7).......... 268
7) الأدلة النقلية: الحديث الثالث: موثقة علي بن حمزة.......... 268
ص: 15
المبحث الأول: بحث سندي.......... 268
المبحث الثاني: دراسة اختلاف نسخ الحديث.......... 269
المبحث الثالث: تقريب الاستدلال.......... 270
المبحث الرابع: دراسة بعض الملاحظات الواردة على الاستدلال.......... 271
المسألة العاشرة: دراسة أدلة التنصيب العام للفقيه الجامع (8).......... 272
8) الأدلّة النقلية: الحديث الرابع: (موثقة السكوني).......... 272
المسألة الحادية عشرة: دراسة أدلّة التنصيب (9).......... 274
9) الأدلّة النقلية: الحديث الخامس (صحيحة القدّاح) والحديث السادس (مرسلة الصدوق).......... 274
تقريب الاستدلال.......... 276
المسألة الثانية عشرة: دراسة أدلّة التنصيب (10).......... 278
10) الأدلة النقلية: الحديث السابع: (مرسلة تحف العقول) والحديث الثامن: (الخطبة الشقشقية).......... 278
المسألة الثالثة عشرة: النظرة الجامعة الموحّدة لمجموع أخبار الباب.......... 283
المسألة الرابعة عشرة: إشارة إلى غاية ما يمكن أن يذكره المعارض في الباب.......... 285
الفصل الثاني: نظرية التنصيب وكيفية تعيين الفقيه الولي.......... 289
المسألة الأولى: نظرة إلى جذور السؤال تاريخيًّا.......... 290
المسألة الثانية: تقريبٌ جديدٌ لبيان المشكل.......... 293
المسألة الثالثة: دراسة حلول مشكلة تعيين الفقيه الولي (1).......... 295
النظرية الأولى: شورى الفقهاء (مجلس القيادة).......... 295
المبحث الأول) نظرة إلى تاريخ الشورى في التراث الإسلامي.......... 296
ص: 16
المبحث الثاني) بيان نظرية شورى الفقهاء.......... 297
المسألة الرابعة: تقويم نظرية شورى الفقهاء.......... 298
المسألة الخامسة: دراسة النظريات لحل مشكلة تعيين الفقيه الولي (2).......... 301
النظرية الثانية: نظرية التخيير الجمعي دراسةٌ ونقدٌ.......... 301
أ) دراسة نظرية التخيير الجمعي.......... 301
ب) تقويم نظرية التخيير الجمعي.......... 302
المسألة السادسة: دراسة الحلول لمشكلة تعيين الفقيه الولي (3).......... 304
النظرية الثالثة: نظرية التزاحم دراسةٌ ونقدٌ.......... 304
أ) دراسة نظرية التزاحم:.......... 304
ب) تقويم نظرية التزاحم.......... 305
المسألة السابعة: دراسة الحلول لمشكلة تعيين الفقيه الولي (4).......... 306
النظرية الرابعة: نظرية الوجوب الكفائي.......... 306
بيان الركن الأول: ضرورة إقامة الحكم الإسلامي.......... 307
بيان الركن الثاني: سيادة الشعب.......... 308
الفصل الثالث: نظرية الانتخاب بين الدراسة والنقد.......... 315
المسألة الأولى: دراسة أدلة الانتخاب (1).......... 316
الدليل الأول: حكم العقل.......... 316
أ) تقريب الدليل الأول.......... 316
ب) تقويم الدليل الأول:.......... 316
المسألة الثانية: دراسة أدلة الانتخاب (2).......... 317
ص: 17
الدليل الثاني: سيرة العقلاء.......... 317
أ) تقريب الدليل الثاني.......... 317
ب) تقويم الدليل الثاني:.......... 318
المسألة الثالثة: دراسة أدلة الانتخاب (3).......... 319
الدليل الثالث: فحوى قاعدة السلطنة.......... 319
أ) تقريب الدليل الثالث.......... 319
ب) تقويم الدليل الثالث:.......... 320
المسألة الرابعة: دراسة أدلة الانتخاب (4).......... 321
الدليل الرابع: أدلّة لزوم الوفاء بالعقد.......... 321
أ) تقريب الدليل الرابع:.......... 321
ب) تقويم الدليل الرابع:.......... 321
المسألة الخامسة: دراسة أدلّة الانتخاب (5).......... 322
الدليل الخامس: عمومات الشورى.......... 322
أ) تقريب الدليل الخامس:.......... 322
ب) تقويم الدليل الخامس:.......... 323
المسألة السادسة: دراسة أدلة الانتخاب (6).......... 324
الدليل السادس: الروايات الدالّة على انعقاد الولاية بالانتخاب.......... 324
أ) تقريب الدليل السادس:.......... 324
ب) تقويم الدليل السادس:.......... 325
المسألة السابعة: دراسة أدلّة الانتخاب (7).......... 326
ص: 18
الدليل السابع: أدلّة البيعة.......... 326
أ) تقريب الدليل السابع:.......... 326
ب) تقويم الدليل السابع:.......... 328
الخاتمة.......... 333
المصادر والمراجع:.......... 341
ص: 19
ص: 20
باسمه تعالى
من الموادّ الدراسية التي أُقِرّت في قائمة مقرّرات مجمع التعليم العالي للفقه وهو إحدى المؤسّسات التابعة لجامعة المصطفى (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) العالمية مادّة «فقه الدولة» ولا يخفى أن هذه المادّة تعدّ من الموادّ الدراسية الحديثة، وقد أقِرّت بالنظر إلى كثرة الابتلاء بالمسائل والبحوث المطروحة فيها وكثرة الأسئلة والشبهات والردود عليها في الأوساط العلمية والحوزات والجامعات، وخاصّة بعد انتصار الثورة الإسلامية بقيادة قائدها ومفجّرها السيد الإمام روح الله الموسوي الخميني (قُدّس سِرّه).
والمادّة حسّاسة تمامًا ومرتبطة بالسلطة والسلطنة على الأموال والأعراض والنفوس ومقدّرات المسلمين هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ قضية فقه الدولة والفقه السياسيّ والمسائل والبحوث المرتبطة بها من الموضوعات التي تحتاج إلى الكثير من الكتب والمؤلّفات والمقالات العلمية التي تساعد الطالب على درس هذه القضية دراسة علميّة مطابقة للمعايير الأكاديمية. فإن الدراسات المنشورة التي يمكن تصنيفها بأنّها علميّة أكاديمية قليلةٌ بالقياس إلى ما هو مطلوبٌ. وثمة مشكلة أخرى في هذا المجال هي أنّ هذا الموضوع يُعالج في الفقه في سياقات مختلفة. بالنظر إلى ذلك كلّه اقترحت عليّ اللجنة الخاصّة بتدوين المتون الدراسية تدوينَ كتابٍ علمي استدلالي يصلح للاعتماد عليه في مرحلة الدراسات العليا، يمكن اعتماده مقرّرًا تعليميًّا أساسيًّا أو مساعدًا لطلاب الدراسات العليا الذين يُطالبون بدراسة هذه المادة في برامجهم التعليميّة.
فوافقت على الاقتراح بكلّ سرور ورغبة، مستعينًا بالله ومتوسٍّلًا بالنبيّ وأهل بيته، وأخصّ بالذكر منهم الحجة الإمام المنتظر(عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ).
ص: 21
والهدف الأساس لهذه الدراسة هو الجواب عن الأسئلة الآتية:
أولًا: البحث في مشروعية إقامة الدولة الإسلامية وضرورتها وفقًا للفقه الإسلامي؛
ثانيًا: على فرض المشروعية والضرورة، البحث في شروط القائم بهذا الأمر وقائده
ثالثًا: البحث في كيفية تعيين ولي الأمر في عصر الغيبة مقدمة لإعمال الولاية وتنفيذ الأحكام
فبناءً على ما ذكرنا، يشتمل هذا الكتاب، على المباحث الآتية:
أولا: على البحوث التمهيدية الخاصّة بشرح بعض المفاهيم المهمة كمفهوم الفقه، ومفهوم الدولة، وتفسير مصطلح فقه الدولة، وهذه المفاهيم من المبادئ التصورية للبحث، وعلى بيان بعض الكليات والأمور العامة الخاصّة بالموضوع؛ من قبيل العلاقة بين الإسلام والسياسة واستحالة انفكاكها، وتاريخ تأسيس الدولة في الإسلام، وتاريخ البحث في فقه الدولة، وأن الأصل في باب الولاية هو عدم الولاية إلا ما خرج بالدليل، وغير ذلك من الأمور المرتبطة بالعنوان والداخلة في حاقّ البحث.
فمن خلال الأبحاث يظهر أن الدولة الإسلامية الأولى أسست في عصر النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وبيده، كجزء من رسالته ودعوته الإلهية وأن دولة أمير المؤمنين الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أيضًا كانت دولة مؤسسة وفق مباني الشريعة الإسلامية ومبادئها. كما سنشير خلال البحث إلى عقيدة الإمامية إلى قضية عصمة الإمام ووجوب نصبه الإلهي والنص عليه خلافًا للمذاهب والفرق الأخرى، ممّا هو من المبادئ التصديقية للبحث.
ثانيًا: بعد اكتمال الفصول والمسائل التمهيدية يبدأ الكتاب بالبحوث الأصلية بطي ثلاث مراحل. فالمرحلة الأولى خُصصت للبحث في مشروعية إقامة الحكم الإسلامي وضرورة تأسيس الدولة الإسلامية في عصر الغيبة
ص: 22
وزمن قبض يد الإمام المعصوم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ). فبالأدلة العقلية والنقلية المتعددة في الفصل الأول سوف نثبت ضرورة إقامة الحكم الإسلامي ومشروعية الدولة في عصر الغيبة.
ثم في الفصل التالي تُناقَش الأدلة المعارضة الدالّة بحسب الظاهر على عدم مشروعية العمل على إقامة الدولة الإسلامية. وفي ختام هذه المرحلة سوف نعرض لبعض ملامح الدولة الإسلامية في فكر الإمام الخميني (قُدّس سِرّه).
ثالثًا: وسوف تدرس في المرحلة الثانية من البحث الشروط اللازمة لولاية الأمر في عصر غيبة الإمام وقبض يده. وسوف نبيّن أنّه بدلًا من اعتبار العصمة تُشترط العدالة والفقاهة والكفاءة اللازمة لولي الأمر وإمامة الأمة في عصر الغيبة. فبالأدلة المختلفة العقلية والنقلية من الكتاب والسنة يظهر أن الفقيه العادل الكفء هو المنصوب بالنصب العام لتدبير أمور الأمة الإسلامية وإدارة المجتمع.
رابعًا: في المرحلة الثالثة للبحث سوف ندرس كيفية تعيين الفقيه الولي الجامع للشروط، ونبحث فيه المناقشات الواردة حول التنصيب العام ودعوى استحالته فيجاب عنها بشكل مستوفٍ فيظهر من خلالها أن الشعب له حقّ التشخيص ولاستيفاء هذا الحق وامتثال هذا التكليف يرجع إلى الخبرة وهو يرشده إلى الفقيه المتصف بالأوصاف اللازمة للقيادة والزعامة.
وبهذا يجاب عن بعض المناقشات والمداخلات الواردة حول الحكم الإسلامي في عصر الغيبة من أنه ينجرّ إلى الاستبداد بالرأي والدكتاتورية وسلب حرية الشعب، فيثبت في الفصول الأخيرة والمسائل المذكورة فيها أن للشعب سيادته وهي من الأمور القطعية والمسلّمة في الفكر الإسلامي الشيعي فلا يجوز إجبار الناس ولا إكراههم علي ولاية احد وإن كان معصومًا؛ فكيف بإجبارهم علىتولّي غير المعصوم؟ فالولاية مشروعة بالتنصيب الإلهي والجعل الشرعي؛ ولكن إعمال الولاية والأخذ بزمام الحكومة مشروط بالحضور وقيام الحجة بوجود الناصر وهذا أمر مشترك في الإمامة مطلقًا
ص: 23
للمعصوم وغيره، فلا مسؤولية ولا إدانة لأحدٍ مع عدم قيام الحجة بوجود الحاضر.
نعم هناك فارقٌ أساس بين ولاية المعصوم وغيره ألا وهو أنّ ولاية غير المعصوم موكولة إلى تشخيص الأوصاف اللازمة لولاية الأمر وثبوت توفّرها في المرشّح لهذه المسؤولية العظيمة فالقيام بالأمر موقوف على اقتناع الشعب بذلك وإلّا ما دام الناس غير مقتنعين بتوفّر الأوصاف في شخص؛ فيكف يجوز شرعًا إجبارهم على طاعته وإلزامهم بأوامره السياسية والقانونية؟
هذه حصيلة البحث في فصول الكتاب.
ثمّ هناك بحوث أخرى بحاجة إلى دراسة في محلٍّ آخر، كالبحث عن كيفية إعمال الولاية والحاكمية في الدولة الإسلامية ودراسة أطروحة الفصل بين السلطات، ودراسة الأنظمة اللازمة المتولية للحكم بها أيضًا، والبحث عن حدود السلطة وشروطها في نظام الحكم الإسلامي وغير ذلك من الأمور العامّة في هذا المجال. فإنّ دراسة هذه البحوث بحاجة إلى تأليف كتاب آخر مستقل، نسأل الله التوفيق وحسن العاقبة فهو ولي التوفيق وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
27 صفر المظفر 1439 هجري قمري
المطابق 25/ 8 /1396 هجري شمسي
ص: 24
ص: 25
ص: 26
قال في لسان العرب: «الفقه العلم بالشيء والفهم له، وغلب على علم الدين لسيادته. وعن ابن الأثير: اشتقاقه من الشقّ والفتح، وقد جعله العُرفُ خاصًّا بعلم الشريعة. وعن غيره الفقه في الأصل الفهم يقال: أوتي فلان فقهًا في الدين أي فهمًا فيه.»(1)
وقال في مقاييس اللغة: «الفاء والقاف والهاء أصلٌ واحدٌ صحيح، يدلّ على إدراك الشيء والعلم به، تقول: فقهت الحديث أفقهه وكل علم بشيء، فهو فقه يقولون: لا يفقه ولا ينقه.»(2)
وقال الراغب الأصفهاني في مفرداته: «الفقه هو التوصّل إلى علم غائب بعلمٍ شاهد، فهو أخصّ من العلم قال تعالى: (فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) (سورة النساء:الآية 78) وقال تعالى: (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ) (سورة المنافقون: الآية 7).(3)
أقول: بالتأمل في كلمات الفقهاء وكلمات أهل اللغة يظهر:
ص: 27
أولا:أن الفقه في اللغة هو إدراك خاصّ ولا يكون مرادفًا للعلم كما توهم، ولا مرادفًا لإدراك الأشياء؛ بل هو کما يظهر من کلام الراغب عبارة عن فهم خاص وهو إدراك الأشياء الخفية الأمر الّذي قد يُسمى بالفهم العميق العابر من السطح إلى العمق ومن الظاهر إلى الباطن. ويؤيده موارد استعمال هذا الأصل. قال عز من قائل:
(لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا) (سورة الكهف: الآية 93) وقال أيضا: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ). (سورة هود: الآية 91)
ثانيًا: كما إن العلم والإدراك محتاج إلى متعلق يقال له: المعلوم والمدرك فكذلك كلمة الفقه محتاجة إلى متعلّق، يقال: فَقِهَ الأشياء وفَقِهَ الكلام وفقه الحديث وغيرها وعلى هذا نرى في كثير من الاستعمالات، خاصّة في الآيات القرآنية وهكذا في الأخبار المروية عن الأئمة الطاهرين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أن الدين ذكر كمتعلق لهذا الأصل ومشتقاتها قال تعالى: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتفقّهوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُوا إليهمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (سورة التوبة: الآية 122). فمتعلق التفقّه -والتفقّه مصدر باب التفعّل اشتقّ من الفقه -في الآية عبارة عن الدين وعن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):«تفقّهوا في الدين فإنه من لم يتفقّه منكم في الدين، فهو أعرابي فإن الله يقول: (لِيَتفقّهوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُوا إليهمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)»(1)
وفي صحيحة حمّاد بن عثمان عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: «إذا أراد الله بعبد خيرًا فقّهه في الدِّين» فالفقه(2) ومشتقاته، استُعمل في هذه الآيات والروايات في معناه اللغوي وأما «الدين» فهو متعلّقٌ له.
ص: 28
ثالثًا: بعد شيوع هذا الاستعمال وكثرته بين أهل اللغة، نرى أن «الدِّين» كأنّه حُذف من الكلام لأجل كثرة الاستعمال والقرينة على الحذف فكان الفقه بعد أن كان في اللغة مطلقًامن حيث المتعلق غلب عليه الاستعمال في متعلَّق خاصٍّ وهو الدِّين. فصار خاصًّا بعلم الدِّين أعني الإسلام كمصطلح خاصٍّ عند المسلمين.
ومن ذلك ما رواه ابان بن تغلب عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: «لوددت أن أصحابي ضُرِبت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقّهوا».(1)
فالمراد من الفقه في هذا الاستعمال هو فقه الدِّين والمراد من الدِّين جميع المعارف الدينية المنزلة من السماء والمبيّنة على لسان النبيّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) والأئمة الطاهرين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فلا يختصّ الدِّين في هذا المعنى بالأحكام الشرعية الفرعية.
ومن هذا المعنى ما رُوِي عن النبيّ الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «من حفظ على أمّتي أربعين حديثًا بعثه الله فقيهًا عالمًا»(2)
فإنه لا شك في أن المراد من الفقيه في هذا الحديث ليس خصوص العالم بالأحكام الشرعية الفرعية؛ بل المراد منه هو الفقيه والعالم بأمر الدين كلّه أصوله وفروعه.
رابعًا: بعد أن أصبح الفقه بمعنى العلم بالدين مصطلحًا رائجًا في عرف المتشرِّعة، بل في لسان بعض الأدلّة الشرعية، تحوّل معنى الفقه إلى مصطلح جديد وهو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلّتها التفصيلية؛ فالفقه في هذا المصطلح الجديد صار معناه أخصّ من المصطلح السابق؛ لأنه لا يراد منه العلم بجميع المعارف الإلهية من العقائد والأخلاق والأحكام وغيرها؛ بل المراد منه خصوص الأحكام فقط. نعم قد يُستعمل الفقه في الاصطلاح الأوّل ويسمّى بالفقه الأكبر، ويستعمل بحسب الاصطلاح الثاني ويسمّى ب- «الفقه الأصغر»؛ ولكن من المعلوم أنّ النسبة بينهما عموم وخصوص مطلق.
ص: 29
فالمراد من الفقه في هذا المصطلح الخاصّ الثاني هو خصوص العلم بالأحكام الشرعية فقط.نعم الفقه في هذا المصطلح الجديد مقيَّد بالعلم الناشئ عن قوّة الاجتهاد وملكة الاستنباط فلا يسمّى علم المقلّد بالحكم الشرعي فقهًا والمقلّد لا يُسمّى فقيهًا فالشرط المهمّ والأساس، كي يسمّى أحدٌ فقيهًا هو فهمه العميق بالأحكام الشرعية المحصّلة بملكة الاجتهاد وعملية الاستنباط من المصادر الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والعقل.
وبهذا صار الفقه مصطلحًا رائجًا لعلم خاصٍّ يُسمى اليوم أيضًا بعلم الفقه وهو العلم بالشريعة الإسلامية عن اجتهاد وتتبّع في الأدلّة. وكان هذا المعنى للفقه شائعًا منذ القرون الأولى للإسلام إلى يومنا هذا، بين العامّة والخاصّة.(1)
فالفقه هو علم عملية استنباط الأحكام الشرعية وقد اشتهر تعريفه بالعلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية.(2) والفقيه هو الذي يمارس هذه العملية ويقوم بها.
وهذا المصطلح الثاني هو المراد من قولنا: «فقه الدولة»
الموضوع في كل علمٍ هو المحور الذي تدور حوله مسائل العلم وبما أنّ مسائل علم الفقه كلها تهدف إلى تحديد الموقف العملي الشرعي للمكلّف في أي واقعة يواجهها فموضوع علم الفقه هو: «فعل المكلّف من حيث هو مكلّف» وعلى هذا يدخل في موضوع هذا العلم ونطاق مسائله جميع أفعال المكلّفين الاختيارية من العبادات والعقود والإيقاعات مما يرتبط بالأعضاء والجوارح الخارجية إلى وجوب الإيمان بالله والرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وحرمة الشرك والرياء ممّا
ص: 30
يتعلّق بالقلب وضمير الإنسان أعني الجوانح حسب التعبير المصطلح. فالفقه يتدخل في جميع أفعال الإنسان ويبدي رأيه في كلّ فعل يصدر منه هلهو جائز أم حرام؟ وعلى فرض جوازه هل هو واجب أو غير واجب؟ هذا من جهة الحكم التكليفي، ومن جهة الحكم الوضعي أيضًا فهل هو صحيح أو باطل؟
فبالتأمل في موضوع علم الفقه وتعريفه يظهر:
أولًا: أساس الفقه الإسلامي هو الوحي الإلهي، المتمثّل في القرآن الكريم وسنة النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وأحاديث العترة الطاهرة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وهو يكشف عن الجانب التشريعي للربوبية الإلهية. وبهذا يُعرفأن الفقه ينشأ ويشرب من حاقّ التوحيد، ويرتوي من الربوبية الإلهية، فالاعتقاد بعلم الفقه وحجيته، والالتزام به يعتبر من نصاب التوحيد؛ لأنه من لوازم الإيمان بالرب التشريعي. فإن اللازم لمن آمن بالله تعالى وبالتوحيد الخالص واعتقد بالربوبية التشريعية الإلهية، وأنّ الحكم والقانون لا يجوز تشريعه إلا من الله تبارك وتعالى،أن يلتزم بالأحكام الشرعية الإلهية المتجسّدة في الفقه الإسلامي، وأما المخالفة للحكم الإلهي والتشريع الربوبي، مهما كانت فهي من وساوس الشيطان وتعتبر من خط إبليس (لعنه الله) ومنهجه حيث عصى أمر ربّه حينما أمره وأمر جميع الملائكة بالسجود لآدم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ﴿فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَان مِنْ الْكَافِرِينَ﴾ (سورة البقرة: الآية 34). فما كان هناك موجبًا لكفر إبليس وسبباً لاستكباره إلا عدم قبوله لحق التشريع الإلهي وعدم إيمانه واعتقاده بالربوبية التشريعية الإلهية.
ثانيًا: إنّ موضوع علم الفقه في الإسلام من جهة السعة يشمل جميع الأحكام المتعلقة بأفعال المكلّفين، فكما يشمل الأنشطة والأفعال المتعلقة بالجوارح، كذلك يشمل الأفعال الخاصّة بالجوانح. ومن جهةٍ أخرى موضوع الفقه لا يختصّ بما يفعله الفرد من الإنسان بما هو فردٌ واحدٌ وشخصٌ خاصٌّ؛ بل يشمل ما يفعله المجتمع بما هو مجتمع فتدخل الأنشطة الاجتماعيّة في دائرة
ص: 31
علم الفقه أيضًا، وكما يشمل علم الفقه العبادات كالصلاة والصيام والحج، وكما يشمل المعاملات المالية التي تنشأ بين أفراد المجتمع من بيع وإجارة ومضاربة وشركة، كذلك يشمل العلاقات الاجتماعية التي تنظّم الأسرة من الزواجوالطلاق والنسب، ويشمل العلاقات السياسية التي تحدّد علاقة الدولة بالمواطنين وعلاقة المواطنين بالدولة وعلاقة الدولة بسائر الدول أيضا، من وجوب العدل والمساواة وحرمة التسلّط والظلم ونفي السبيل وغيرها. نعم العمل الخارج عن الإرادة والاختيار خارج عن موضوع علم الفقه.
ثالثًا: إنّ علم الفقه لا يختصّ بزمانٍ معيّنٍ من حياة المكلّف، فإنّه علم لإدارة حياة الفرد والمجتمع، وتنظيم الحياة من المهد إلى اللحد، وتحديد الموقف العملي الشرعي لكل واقعة من وقائع الحياة.(1)
فالفقه الإسلامي يضبط ويرتّب حياة الأفراد والجماعات وفق منهج إلهي موافق للكتاب والسنة بعيدٍ عن الأهواء والعقول الناقصة الجاهلة التابعة للشهوات والوساوس الشيطانية.
رابعًا: إنّ مسؤولية الفقه الإسلامي تحديد الموقف العملي وبيان الحلول الشرعية للمشكلات والأزمات الفردية والجماعية وفي شتّی جوانب الحياة فبإمكانه أن يعالج القضايا المستحدَثة المستجدَّة التي تطرأ على حياة الإنسان ومجتمعه؛ فهو قابل للتطبيق في كل مكان وزمان، وقادرٌ على الاستيعاب الشرعي لتطورّات العصر ومعطيات العلم.
والسرّ في ذلك أنّ عنصري المكان والزمان من العناصر المؤثِّرة في الاستنباط الفقهي، واستكشاف الحكم عن الأدلّة الشرعية، كما صرح بذلك السيد الإمام الخميني (قُدّس سِرّه).
خامسًا: الفقه الإسلامي يشمل كل متطلبات الحياة ويتناول علاقات الإنسان جميعًا، علاقته بربّه وعلاقته بنفسه وعلاقته بمجتمعه؛ لأنه شُرِّع للدنيا
ص: 32
والآخرة، ولأنه دين ودولة، ولأنه عامٌّ للبشرية إلى يوم القيامة. وهذا رأي جميع فقهاء المسلمين، وهو متّفَقٌ عليه عند فقهاء مذهب أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وفقهاء سائر المذاهب.(1)
فيشمل أحكام العبادات من صلاة وصيام وحج، ممّا ينظّم علاقة الإنسان بربّه، وأحكام المعاملات من عقود وإيقاعات ممّاينظّم علاقات الناس بعضهم ببعض سواء كانوا أفرادًا أم جماعات، فيشمل أحكام الأحوال الشخصية وأحكام الأسرة مما يُقصَد به تنظيم علاقة الزوجين والأقارب بعضهم ببعض، والأحكام المدنية مما يتعلق بمعاملات الأفراد من بيع وإجارة وشركة وينظّم علاقات الأفراد المالية، ويشتمل أيضاً على الأحكام الجنائية مما يتعلق بالجرائم وعقوباتها التي يقصد بها حفظ حياة الإنسان وأموالهم وأعراضهم وحقوقهم من التعدّي والفساد.
وكما تشتمل الشريعة الإسلامية على أحكام القضاء، كذلك تشتمل على الأحكام المتعلّقة بنظام الحكم وأصوله وأحكام الدولة، وما يتعلق بتنظيم علاقات الدولة الإسلامية مع سائر الدول في حال السلم والحرب والأحكام الاقتصادية والمالية أيضًا مما ينظم العلاقات المالية بين الأغنياء والفقراء وبين الدولة والأفراد كالغنائم والأنفال والخراج والزكاة والخمس.
سادسًا: يُعدّ الفقه برمجة حياة الإنسان إلى يوم القيامة؛ لأنه جيء به لإدارة حياة الإنسان، والمشرِّع له هو خالق العالَم وخالق الإنسان العالِم بحقيقته وكينونته وما يؤمّن سعادته ويدفع عنه الشقاء في الدنيا والآخرة.
ففي صحيحة زرارة، رواها الكليني عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس عن حريز عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن الحلال والحرام فقال: «حلال محمد حلال أبدًا إلى يوم القيامة وحرامه حرام أبدًا إلى يوم القيامة».(2)
ص: 33
فالفقه أسِّس كنظام كامل، وافٍ لحياة الإنسان، صالح للبقاء والتطبيق الدائم.
نعم للأحكام الشرعية ثوابت ومتغيرات(1)
فالثوابت هي الأصول الثابتة والقواعد الكلية التي تبتني عليها التفريعات.
كما روي عنهم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ): «علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع».(2)وأما المتغيرات وهي الأحكام الاجتهادية التي يمكن أن يعتريها التغيير والتبديل تبعًا لتغيير الظروف والأجواء الزمانية والمكانية.
فان الأحكام الشرعية تنقسم إلى ثلاثة أقسام الأحكام الاولية والثانوية والأحكام الولائية فربما يكون لموضوع حكم على حسب الحكم الأولى ولكن يتغير حكمه بحسب تغير الموضوع أو لأجل طُرُوء العناوين الثانوية أو لأنشاء الأحكام الولائية الصادرة من ولي الأمر ومن بيده زمام إدارة المجتمع الإسلامي.
فالاجتهاد وهو ملكة الاستنباط واستفراع الوسع لتحصيل الحكم الشرعي وهو المؤمّن لهذه الصلاحية الموجودة في الفقه الإسلامي الخالد ذي التطبيق الدائم.
سابعًا: الفقه الإسلامي هو المعبّر عن طريق العبودية والصراط المستقيم الذي دعا إليه القرآن الكريم حيث قال:«وَأن اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ»(یس/61) فهو الطريق للولاية الإلهية والسلوك للوصول إلى درجات القرب الإلهية. وهو المؤمّن لكمال الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة، على الصعيدين الفرديّ والاجتماعيّ، وإنّ غايته خير الإنسان وإسعاده في الدارين، لا يرى له بديلًا. لأنّ غيره من القوانين الوضعية وكلها حصيلة عقل الإنسان الجاهل بسرّ الحياة
ص: 34
وحقيقة الكون المحفوف بالشهوات والأهواء وتسويلات الشيطان.
ثامنًا: علم الفقه كما ذكرنا في تعريفه هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية، فمسائل علم الفقه تشمل جميع الأحكام الشرعية الفرعية وبما أنّ موضوع «الفقه» هو عمل المكلف فتدخل فيه جمع الأحكام الشرعية الفرعية المرتبطة بأفعال الجوارح والجوانح للمكلف مطلقًا وعلى هذا فكل حكم من الأحكام الشرعية من باب الطهارة إلى باب القصاص والديات من الكتب الفقهية داخلٌ في مسائل علم الفقه وهذا ما يسمى بالفقه المطلق ولكن ربما يبحث عن قسمٍ خاصٍّ من هذه الأقسام والأبواب، كفقه الصلاة أو فقه الزكاة من أبواب العبادات أو فقه العقود من أبواب المعاملات وغيرها وهذا ما يسمّى بالفقه المضاف فالمراد منه الفقه الذي يبحث عن بابٍ خاصٍّ من أبواب الفقهالمطلق. وفي العقود الأخيرة شاع البحث الخاص عن هذه الأقسام والأبواب كموضوع مستقل بل صار كل واحد من هذه الأقسام فرعًا خاصًّا من الفروع المختلفة الفقهية كفقه الأسرة، وفقه القضاء، وفقه السياسة، وفقه البيئة، وفقه الاقتصاد إلى غير ذلك من الاختصاصات الفقهية.
وعلى حسب هذا التقسيم، يكون المراد من فقه الدولة هو البحث عن المسائل والأحكام الشرعية الخاصّة بالدولة والحكومة.
قال صاحب المقاييس في شرح مبدإ اشتقاق كلمة دولة: الدال والواو واللام، أصلان: أحدهما يدلّ على تحوّل شيء من مكانٍ إلى مكانٍ، والآخر يدلّ على ضعف واسترخاء.
فأمّا الأول فقال أهل اللغة: اندال القوم، إذا تحوّلوا من مكانٍ إلى مكانٍ، ومن هذا الباب تداوَل القوم الشيء بينهم: إذا صار من بعضهم إلى بعض.
ص: 35
والدَّولة والدُّولة لغتان وقد يقال: الدُّولة في المال والدولة في الحرب وإنما سميا بذلك من قياس الباب؛ لأنه أمر يتداولونه فيتحول من هذا إلى ذاك ومن ذاك إلى هذا.
وأما الأصل الآخر فالدُّوَيل من النبت؛ ما يبس لعامه، قال أبو زيد: دالَ الثوب يدول إذا بلي.(1)
وقال صاحب المفردات: الدَّولة والدُّولة واحدة. وقيل: الدَّولة في المال والدُّولة في الحرب والجاه. وقيل: الدَّولة اسم الشيء الذي يتداول بعينه، والدّولة: مصدر، قال تعالى: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾.(2)أقول: صاحب المقاييس وإن ذكر أصلين لمبدء اشتقاق الدولة ولكن بالتأمل فيهما يظهر إمكان إرجاعهما إلى أمر واحد؛ لأنّ الأول يدلّ على التحوّل وعدم الثبات، والثاني أيضًا يدلّ على الضعف والاسترخاء، ولا شكّ في أنّ هذين الأمرين يرجعان إلى أمرٍ واحد وهو الدلالة على عدم البقاء وعدم الدوام طويلًا فيُستفاد منه التحول والتغير بسرعة.
وعلى هذا تطلق الدَّولة على المال أو الحرب أو الجاه والقدرة لسرعة تحوّلها وقصر عمرها وعدم استقرارها.
هذا بحسب مبدإ الاشتقاق اللغوي لكلمة الدولة.
وأما في الاصطلاح فهو موضوع بحثنا الآتي.
استُعملت كلمة الدولة كمصطلحٍ عامٍّ من قديم الزمان عند أهل اللغة ومحاوراتهم؛ بل في الروايات والأدعية والزيارات بمعنى الحكومة والسلطة السياسية الحاكمة على البلد.
ص: 36
وهذا الاستعمال، استعمالٌ متعارفٌ شائعٌ، بحيث صار هذا المعنى هو المعنى الذي ينصرف إليه الذهن عند سماع كلمة الدولة؛ بل كثرة الاستعمال أوجبت أن تصير هذه الكلمة منقولةً أو مرتجلةً من معناها اللغوي المذكور أعلاه إلى المعنى الجديد وهو الدولة؛ بحيث يكون استعمالها في معناها اللغوي بحاجة إلى القرينة ومع عدم القرينة تحمل كلمة الدولة على هذا المعنى الاصطلاحيّ. ولايخفى وجه استعمال كلمة الدولة، في المصطلح الجديد في الحكومة والسلطة السياسة؛ لأنّها تدلّ على التغيّر والتحوّل وعدم الاستمرار، والحكومات لم تزل ولاتزال دائمًا في طور التغير والمداولة والتداول من حاكم إلى حاكم ومن سلطة إلى سلطة.
فقد روي الكليني في كتاب الإيمان والكفر من أصول الكافي؛ عن أبي خالد الكابلي عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنّه قال: «إنّ الله(عزّ و جلّ) جعل الدين دولتين دولة آدم -وهي دولة الله –ودولة إبليس، فإذا أراد الله أن يعبد علانية كانت دولة آدم وإذا أراد الله أن يعبد في السرّ، كانت دولة إبليس».(1)
وذكر العلامة المجلسي في بيان معنى الدولة تفسيرًا لهذه الرواية: «إنّ الدولة نوبة ظهور حكومة حاكمٍ، عادلًا كان أو جائرًا والمراد بدولة آدم، دولة الحق الظاهر الغالب كما كان لآدم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في زمانه فإنّه غلب على الشيطان وأظهر الحق علانية، فكلّ دولة حق غالب ظاهر فهي دولة آدم وهي دولة الحكومة التي رضي الله لعباده، وفي مقابل دولة آدم دولة إبليس. فإذا ظهرت دولة إبليس وغلبت على الأمور فيظهر الباطل علانية وهي الدولة التي لا يرضى لعباده».(2)
وفي هذا المعنى ما روي في كتاب سليم بن قيس: «وقد سمعت عليًّا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يروي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) يوم قُتِل عثمان وهو يقول: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «إنّ التّقية من دين الله، ولا دين لمن لا تقيّة له، والله لولا التقيّة ما عُبِد الله في
ص: 37
الأرض في دولة إبليس» فقال له رجل: وما دولة إبليس؟ قال: إذا وَلِي الناسَ إمام ضلالة فهي دولة إبليس على آدم، وإذا وليهم إمام هدىً فهي دولة آدم على إبليس».(1)
فالدولة في الاستعمال العرفيّ وكلمات عامّة أهل اللغة بمعنى استيلاء إمام وحاكمٍ على الأمر وولايته على أمور العامّة، حقًّا كان أو باطلًا وبرًّا أو فاجرًا.
ومن هذا الباب ما ورد في دعاء عرفة: عن مولانا أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) «لَمْ تخرجني لرأفتك بي وَلُطْفِكَ لي وإحسانك إليّ في دَوْلَةِ أئمّة الْكُفْرِ الَّذينَ نَقَضُوا عَهْدَكَ وَكَذَّبُوا رُسُلَكَ». ومن هذا الباب أيضًا ما ورد في الزيارة المشهورة بزيارة الجامعة الكبيرة؛ في ما يزار به أحدٌ منأئمة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فيقول الزائر موّجها إليهم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بقوله: «منتظر لأمركم مرتقب لدولتكم آخذ بقولكم».(2)
وبهذا الخطاب يعلن الزائر أنّه منتظر لظهور أمر الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ويرتقب دولتهم الحقّه لتأخذ هذه الدولة بزمام الأمور وتملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما ملئت ظلمًا وجورًا.
كما إنّه ورد في الدعاء المشهور بدعاء الافتتاح: «اللَّهُمَّ إِنَّا نَرْغَبُ إِلَيْكَ فِي دَوْلَةٍ كَرِيمَةٍ تُعِزُّ بِهَا الْإسلام وأَهْلَهُ وتُذِلُّ بِهَا النِّفَاقَ وأَهْلَهُ وتَجْعَلُنَا فِيهَا مِنَ الدُّعَاةِ إِلَى طَاعَتِكَ والْقَادَةِ إِلَى سَبِيلِكَ وتَرْزُقُنَا بِهَا كَرَامَةَ الدُّنْيَا والْآخِرَةِ».(3)
وورد أيضًا في أدعية ليلة النصف من شعبان: «اللهم وأدرك بنا أيّامه وظهوره وقيامه (إلى أن يقول): وأحينا في دولته ناعمين».
فلا شك في أنّ الدولة في هذا الاستعمال بمعنى السلطة السياسية الآخذة بزمام الأمور فإذا كانت الدولة بيد أولياء الله فإنها توجب عزّ الإسلام وإذلال النفاق،
ص: 38
ولهذا يدعو المؤمن الله ويرجو منه أن تدوم حياته إلى دولة المهدي(عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ)، ويبين رغبته في ظهور هذه الدولة الكريمة مع ما فيها من الخصال والخصائص الأساسية لسعادة المجتمع في الدنيا والآخرة، ويطلب من الله أن يكون في هذه الدولة الحقّة من الداعين إلى طاعة الله؛ بل أن يكون في عداد قادة هذه الدولة حتى يكون هاديًا للناس إلى سبيل الحق والخير والرشاد، الموجب لكرامة الدنيا والآخرة.
في قاموس علم السياسة الحديث قد تطلق الدولة على الهيئة المكوّنة من ثلاثة عناصر هي: مكان من الأرض يطلق عليه إقليم، وطائفة من الناس تسكن الإقليم يطلق عليهاالشعب، وسلطة يخضع لها الشعب في الإقليم يطلق عليها الحكومة؛ تدبّر علاقات الشعب الداخلية في ما بينهم، وتدبّر علاقاتهم الخارجية مع الأقاليم الأخرى، وتحمي حدود الإقليم ضد الأعداء المحتلّين.
فالعناصر الأساسية لأي دولة في هذا المصطلح هي: الحكومة والشعب والإقليم. والکلام حول هذا المصطلح ودراسته وتقييمه موكول إلى محلّه.(1)
من المهمّ في دراسة مفهوم الدولة تمييزها عن غيرها من الكلمات المشابهة لها بحسب المعنى المتعارف الرائج عند أهل اللغة.
الحكومة من المفاهيم المشابهة لكلمة الدولة؛ فإنّها وإن كان كثيرًا ما تُستخدم كمترادف لمفهوم الدولة، إلا أن مفهوم الدولة في مصطلح علم السياسة أكثر اتساعًا من الحكومة، أي أنّ النسبة بين الدولة والحكومة نسبة الكل والجزء؛ حيث إنّ الدولة كيان شامل يتضمن جميع أعضاء المجتمع والمواطنين، ويتضمن أيضا الإقليم وسائر المؤسسات العامة، والحكومة جزءٌ من الدولة، وهي الوسيلة التي
ص: 39
تمارس من خلالها الدولة سلطتها. ومِن جهة أخرى فإنّ الدولة اكثر ديمومة وبقاءً مقارنة بالحكومة المؤقتة بطبيعتها حيث يفترض بها ان تتداول السلطة.
فالحكومة في مصطلح علم السياسية تنحصر بالسلطة والزعامة السياسية بخلاف الدولة حيث أنها مشكلّة من الحكومة والإقليم والشعب، نعم في المصطلح العام تستخدمان كمترادفين بمعنى القيادة السياسية وإدارة أمور البلد. وبناءً على هذا فإنّ ماهيةالحكومة والدولة هي السلطة على أمور المجتمع مع غضّ النظر عن شرعيّتها وكيفية سيطرتها على الحكم وجواز أخذها بزمام الأمور.
وفي هذا الكتاب كثيرًا مّا يتبع هذا المصطلح.
الولاية من المفاهيم المشابهة لكلمة الدولة. والولاية وإن كانت بحسب اللغة بمعنى القرابة الخاصّة التي توجب الأولوية في التصرف على حسب أنواع القرابة ولها مصاديق مختلفة بحسب نوعية الاتصال والربط والقرابة؛ ولكن المفهوم الرائج للولاية هو الإمارة والزعامة السياسية للمجتمع؛ بحيث إنّ كلمة الولاية تنصرف عند أهل اللغة إلى هذا المفهوم. وبحسب هذا المعنى قد تستخدم الدولة كمفهوم مرادف لمفهوم الولاية وحينئذٍ تكون حقيقة الحكومة والدولة عبارة عن الولاية السياسية على إدارة المجتمع التي قد تُستخدم كلمة الإمامة أو الخلافة كمرادف لها.
نعم إذا كان المراد من الولاية هو الولاية الشرعية التي تعرّف بالسلطة الشرعية المسوِّغة للحقِّ في التصرف لصاحبها، أو تعرّف بالقرابة الخاصة الموجبة شرعًا لجواز التصرّف لمصلحة في أمور المولّى عليه؛ فالولاية في هذا المفهوم لا تنظر إلى التنفيذ بل تشير إلى الحقّ في التصرف وشرعيّته من دون نظر إلى فعلية التصرف وممارسة الحكم. فعلى هذا المصطلح الشرعيّ يشير مفهوما الدولة والحكومة إلى الجانب التنفيذي للولاية السياسية الشرعية.(1)
ص: 40
لعلّ التمييز بين الدولة والسياسة ليس بغامضٍ؛ حيث إنّ السياسة هي إدارة أمور المجتمع ورعاية شؤونه. وهي تتحقّق علي يد الدولة، فإنّها هي التي تباشر هذه الإدارةوالرعاية عمليًّا. فإنّ السياسة بحسب معناها اللغوي مشتقّة من مادّة ساس يسوس سياسة، فالسياسة في اللغة بمعنى القيام على الشيء بما يصلحه وهي فعل السائس. يقال: هو يسوس الدوابّ إذا قام عليها وراضَها والوليّ يسوس رعيّته والسوس الطبع والخُلُق والسجّية.(1)
ومن ذلك ما روي عن النبيّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلّما هلك نبيٌّ خلفه نبيٌّ».(2)
وفي الزيارة الجامعة الكبيرة يخاطب الأئمة الطاهرين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ب- «سَاسَةَ الْعِبَادِ».(3)
ومن هنا، نستخلص أنّ هناك وجوهًا من الاشتراك والتمايز بين مفاهيم الدولة والمفاهيم المشابهة لها من الحكومة والولاية والإمارة والخلافة والإمامة والسياسة فيجب على المحقّق المدّقق دراسة هذا المواضيع المشتركة والفارقة لئلا يختلط بعضها في بعض.
من المواضيع المذكورة أعلاه يظهر أنّ المراد من فقه الدولة، هو «العلم بالأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية الخاصّة بأمر الدولة والحكومة أو المرتبطة بها من هذه الحيثية»؛ لأنّ الدولة والحكومة والسياسة، موضوع كسائر الموضوعات التي تدخل في إطار أعمال الإنسان ويمارسها البشر ويفعلونها، فالدولة موضوعٌ له صلة بعمل المكلف، وله ربطٌ بقسمٍ خاصٍّ من أقسام أعمال
ص: 41
المكلفين؛ لذلك تدخل الدولة في ضمن مجموعة الأبواب الفقهية، هذا من جانبٍ، ومن جانبٍ آخر فإنّ للفقه الإسلامي حكم في كل واقعة من وقائع الحياة، ولا يخرج عن إطار أحكامه شيءٌ من أعمال الإنسان، وإن لجميع أفعالالمكلفين حكمٌ شرعيٌّ خاصٌّ به، فكيف يمكن لأحد إخراج الدولة عن دائرة النظر الشرعيّ، وأن يعتقد بأنّ التشريع الإلهي لا يكون له حكم في هذه الواقعة، مع ما لها من الأهمية الأساس في حياة الإنسان وسعادته؛ هذا خلف. فيظهر ممّا مرّ:
أوّلًا: إنّ الدولة والحكومة من الموضوعات الضرورية في حياة الإنسان وأنها من الأمور التي لا بدّ منها في جميع الأعصار والأمصار.(1)
ثانيًا: لموضوع الدولة مسائل وأحكام فقهيةٌ كثيرةٌ جدًّا كضرورتها وملاك شرعيتها ووظائفها وحقوقها وأحكامها وأنظمتها الخاصة بها إلى غير ذلك من المسائل الشتّى المرتبطة بالحكومة ونظام السلطة؛
ثالثًا: إنّ هذه المسائل بما أنّها من أعمال المكلفين أو مرتبطة بأعمالهم فللشارع الحكيم رأيٌ وحكمٌ فيها فإنّ هذا هو مقتضي الربوبية التشريعية الإلهية؛
رابعًا: على الفقيه أن يبذل جهده وطاقته لاستنباط الحكم الشرعي الخاصّة بهذه المسائل الحكومية والسياسية؛
خامسًا: تُدوَّن وتُبوّب مجموعة الأجوبة المطروحة حول المسائل المرتبطة بالحكم والدولة، والمستكشفة من الأدلّة الشرعية، والتي استنبطها الفقيه عن طريق إعمال صناعة الاجتهاد؛ في فقه الدولة ويُبحث عنها في هذا القسم من الأبواب الفقهية.
وممّا يجب الالتفات إليه ويلزم ذكره أخيرًا: أنّ فقه الدولة بهذا الاسم والعنوان وإن كان غير مذكور في تراثنا الفقهيّ القديم وخاصّة في فقه أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)؛ ولكن لا يخفى على المتتبّع الخبير بالأبواب الفقهية أنّ هناك عشرات بل مئات
ص: 42
المسائل المتفرقة في أبواب فقهية شتّى من العبادات إلى الحدود والديات، كلّها لها صلة كاملة ووثيقة وتامّة بالدولة والحكومة، وهي بحاجة إلى التجميع والتبويب تحت باب خاصٍّ وإطارٍ واحدٍ.والسرّ في ذلك أنّ فقه أهل البيت وإن كان في القرون المتتالية الماضية بمعزلٍ عن نظام الحكم والسلطة لأجل الأجواء المستولية على أتباع الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من الظلم والإجحاف بحقّهم وضرورة التقية ولعوامل أخرى- ليس هنا مجال دراستها والتعرض لها- ولكن الحاجة الملحّة العصرية ولزوم الإجابة عن الأسئلة الفقهية المطروحة في هذه الأرضية المرتبطة بالحكومة والسلطة، تقتضي تدوين كل هذه المسائل في بابٍ خاصٍّ لهذا الموضوع، وخاصّة بعد النهضة الإسلامية العالمية، واليقظة الإسلامية في العالم وسيطرة الحكم الإسلامي في إيران ما ترك مجالًا لتحمّل هذه المسؤولية العظيمة فإنّها من المسائل المبتلى بها في يومنا هذا. ويلزم البحث عنها وبذل الجهد لاستكشاف الرأي الشرعي فيها.
ثم اعلم أنّ المعروف والمشهور من زمن صاحب شرائع الإسلام المحقق الحلّي (رحمه الله) تقسيم الأبواب الفقهية إلى: العبادات والعقود والإيقاعات والسياسات والأحكام، فباعتبار هذه الأبواب قد تضاف كلمة الفقه إلى كلّ واحدٍ منها فيقال: فقه العبادة، فقه العقود، فقه الأسرة، فقه السياسة، فقه القضاء... إلى آخره. فتُلاحظ أنواع مختلفة من الفقه المضاف، وكل واحد يبحث عن جزء خاصٍّ من الأحكام الشرعية المرتبطة بهذا الجزء فقط؛ ولذا قد يقال للمجتهد إنّه مجتهدٌ متجزِّئ لتحقّق ملكة الاجتهاد له في بابٍ خاصٍّ فقط من الأبواب الفقهية.
وقد يُقترح تقسيم الأبواب الفقهية إلى تخصّصات متعددّة لكلِّ منها مجتهدٌ خاصٌّ أعلم يبادر بالاجتهاد والاستنباط الخاص بهذا الباب دون بابٍ آخر؛ لأنّ المسائل الشرعية والأحكام الفرعية المستنبطة من أدلّتها قد توسّعت كثيراً إلى
ص: 43
آلاف المسائل عبر الأزمان ومرور الأعصار، وكل منها بحاجة إلى استفراغ الوسع لاستنباط الحكم الشرعي، ولأنه قد صَعُب على الشخص الوحيد-وإن كان مجتهدًا مطلقًا- بحسب سعة وقته وشروطه وظروفه المتفاوتة أن يستنبط الأحكام الشرعية الخاصة لكل باب من الأبواب.ومن أهمّ هذه الأبواب التي تحتاج إلى دراسةٍ خاصّةٍ وبابٍ مستقلٍّ هو فقه الدولة والولاية؛ لأنّ العارف بأبواب الفقه يعلم أنّ الأحكام والأبواب المرتبطة بالسياسة وفقه الحكم والدولة والولاية تغطّي أكثر الأبواب، وتشمل أكثر المسائل الفقهية بحسب النسبة المئوية؛ بل نرى أحكامًا فقهية كثيرة كالأحكام الفردية مثل الطهارة والصلاة والصوم والحج تتضمّن موضوعات عديدة ذات صلة بالدولة والحكومة. بل إننا لا نرى بابا فقهيًّا إلّا ويُرى فيه أحكام شرعية كثيرة ذات علاقة بالدولة كالولاية على أمور تجهيز الميت والأحكام المرتبطة بصلاة الجمعة والعيدين ومسألة حكم الحاكم في رؤية الهلال وولاية الحج وولاية الزكاة ودور الإمام في أخذ الخمس وصرفه في مصارفه والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وولاية سلطان الجور وولاية العدل والأحكام المرتبطة بالقضاء والشهادات وتنفيذ الأحكام ومسائل النكاح والطلاق وأبواب الميراث وإقامة الحدود والقصاص والديات ونظام الحكم القادر على تنفيذ هذه الأمور؛ وفقه الدولة متكفل للبحث والدراسة حول هذه المسائل والأبواب.
نعم هناك رؤية أخرى للفقه وهي أن جلّ الأحكام الفقهية؛ بل جميعها ربّما ينظر إليها من جهة مسؤولية الفرد الخاصة إزائها بما هو فرد، وتكليفه في امتثال هذا الحكم مثل وجوب الصلاة والصوم والأمر بالمعروف؛ ولكن ربما يُنظر إلى الأبواب الفقهية جميعها من جهة وظيفة المجتمع ومسؤولية الحكومة والدولة تجاهها فحينئذ يُنظر إلى الدولة والحكومة على أنّها مسؤولة عن إقامة الصلاة والصوم والزكاة والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير ذلك من الأبواب الفقهية فعلى حسب هذه الرؤية يظهر أنّ جميع الأحكام الفقهية يدخل في دائرة وظائف الحكومة ومسؤوليات الدولة كما يعرف أنّ تمام الفقه
ص: 44
من وجهة إدارة المجتمع ومن وجهة تكاليف الدولة يعدّ الفقه الحكومي. ووفقًا لهذا المنظار تكون جميع الأحكام والتشريعات الإسلامية حكومية والحكومة والدولة مسؤولتان عن تنفيذها وإقامتها، وتكون الأحكام والتشريعات عبارة عن برنامج لإدارة المجتمع ويجبعلى الدولة والنظام السياسي أن يتصدّى لإدارة المجتمع الإسلامي وفقاً لهذه البرامج ولا يجوز لهما تخطيها.
وبحسب هذه الرؤية فالعارف بالفقه والذائق لحقيقته يعرف أنّ هناك امتزاجًا خاصًّا واختلاطًا معمّقًا بين الفقه والدولة ولا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر؛ فمن جانب نرى الفقه العاري عن الدولة والسياسة ليس بفقه الإسلام، ومن جانب آخر تخرج الدولة والحكومة عن إطار الإسلام وتصبح عارية عن الشرعية والاعتبار والحجية إذا لم تكن مطابقة للفقه الإسلامي وموافقة للشريعة الإسلامية؛ لأنّ الدولة والحكومة داخلة في حقيقة الفقه وتحسب جزء من ماهية الشريعة ولا يمكن خلوّها منها.
والآن بعد الإشارة إلى المبادئ التصورية لموضوع فقه الدولة نبدأ بدراسة المبادئ التصديقية للبحث في فقه الدولة، إن شاء الله.
تنقسم المبادئ التصديقية لفقه الدولة إلى قسمين:
أ) قسمٌ عامٌّ لا يختصُّ ببابٍ خاصٍّ من الأبواب الفقهية، بل تحسب من المبادئ والمقدّمات العامّة لجميع أبواب الفقه كالإقرار بالتوحيد والشهادة برسالة نبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) والإيمان بحجّية القرآن والسنة وحجّية الأخبار المعتبرة الصادرة عن العترة الطاهرة، إلى غير ذلك من المبادئ التي تُدرس في مثل علم الكلام أو فلسفة الفقه وتحسب من الأصول الموضوعة لعلم الفقه والبحث عن هذه المبادئ موكول إلى محلّه.
ب) القسم الثاني من المبادئ هي القضايا والأصول الموضوعة الّتي تحسب من المبادئ الخاصة لفقه الدولة، وتُعدّ من مقدمات الاستنباط في هذا الباب
ص: 45
الخاص من الفقه وهذه القضايا وإن كانت من مسائل سائر العلوم كعلمي الكلام والفلسفة، وعلم الفقه لا يكون مسؤولاً لإثباتها ولكن لأهميتها ودورها الأساس في فقه الدولة والسياسة نذكرها على سبيل الإيجاز لتكون مقدمة وأساساً لدراسة مسائل فقه الدولة.
بحكم الوجدان والتجربة نجد أنّ من ضروريات حياة الإنسان، حاجته إلى نظام الحكم والدولة فإنّ كثيراً من أمور الحياة؛ بل أكثر شؤون الفرد والمجتمع بحاجة إلى مؤسّسة تدّبر أمورها وتأخذ بزمام إدارتها والشاهد على ذلك أنّ تفحّص التاريخ، يدلّ على عدم خلوّ مجتمع من المجتمعات البشرية في عصر من العصور من دولة ونظام متسلّط على الأمور يأخذ بنظام المجتمع ويمنع من الفوضى والهرج والمرج؛ ويهتم برعاية أمور اليتامى والأرامل ونظام الأسرة، إلى القضاء في الدعاوى والخصومات، فتجری الحدود وتمنع من الاعتداء والفساد والمنكر وتحمي الحدود والثغور والأمن وغيرها من الأمور المرتبطة بالدولة، التي يحتاج إليها الإنسان لاستمرار حياته بين الناس ولا يمكن إهمالها وتركها لحالها.
وهذه القضية من المسائل الضرورية والواضحة التي تكشف للإنسان ويؤمن بها بأدنى تصور والتفات إلى مغزاها وحقيقتها وقد قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لا بدّ للناس من أمير بَرّ أو فاجر».(1) أما ما ذهب إليه الخوارج من عدم الإمرة(2)أو ما ادّعاه بعض في عقيدة "الانارشیسم" (3)واللاسلطوية وما ذهب إليه الفوضويون من إنكار الحاجة إلى الدولة ونظام الحكم، واتهامها بأنّها مخالِفةٌ للمبادئ الأخلاقية، فمن المستحيل تصديقه والإيمان به حقيقةً وذلك لعدم
ص: 46
إمكان تنفيذه واستحالة تحققه في المجتمع، ويؤيّد ذلك ما حكي من الخوارج أنّهم قد رجعوا عن ذلك لمّا أمّروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي.(1)
بناءً على البراهين الضرورية العقلية والأدلة القطعية المتواترة من الآيات القرآنية والسنة النبوية وروايات العترة الطاهرة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)أن الله تبارك وتعالى هو المبدأ الوحيد للولاية ولشرعية إصدار الحكم والزام الناس بالأوامر والنواهي فإنّ الله هو الولي والحكم بيده، وهذه القضية من القضايا البديهية والضرورة العقلية وبناءً على هذه القضية فإنّ الله تبارك وتعالى بحكم خالقيّته ومالكيّته وربوبيّته التكوينية والتشريعية، له الحكم فقط ولا يكون لأحد ولاية أو حق طاعة، أو وجوب التبعية لأوامره والالتزام بأحكامه التشريعية غيره إلا إذا كان بإذنه.
وفقه الدولة في الشريعة الإسلامية يبتني على هذا المبدإ وأما دراسته وإثباته فلا يبحث عنه في فقه الدولة؛ لما يأتي:
أوّلًا: لحكم صريح الوجدان وضرورة العقل بها فلا حاجة لإثباته.
وثانيًا: لأنه يُدرس في علم أعلى من الكلام والفلسفة وليس من وظيفة الفقه بما هو فقه البحث عنه.
النتيجة:
إن هذين المبدأين أي حصر الولاية في الله وضرورة تأسيس الدولة يعدّان من أهمّ المبادئ التصديقية لفقه الدولة ويعتبران كأصل موضوعي لاستنباط الأحكام الشرعية المرتبطة بالسياسة والإمامة ونظام الحكم.
ص: 47
ص: 48
إن السلطة السياسية والدولة مهما كانت، حينما تريد أن تتصرف في شؤون المواطنين، في أموالهم وأنفسهم؛ تلزمهم بأمور مختلفة وإن كانت خلافًا لإرادتهم واختيارهم فعليها أن تبيّن شرعية الزاماتها وتبرّر تصرفاتها وإلّا تعتبر دولة غير شرعية وغير قانونية لا اعتبار بتصرفاتها ولا حجِّية لإجراءاتها.
فهناك آراء ومذاهب مختلفة في إثبات شرعية الأنظمة السياسية والدول كقول بعضهم إن منشأ الشرعية هو التوارث أو الاستخلاف، وقول بعضهم القهر والغلبة والاستيلاء على الحكم وقول بعضهم الآداب والثقافات الاجتماعية. وقول بعضهم العقد الاجتماعي والتبعية لرأي الأكثرية والأغلبية وقول بعضهم شخصية الحاكم وامتلاكه لنوع من الكاريزما، إلى غير ذلك من الآراء والأفكار.
ودراسة كل هذه الآراء والعقائد وإن كانت موكولة إلى محلها؛ ولكن لا شك إجمالا في أنّ كل هذه الآراء مخالفةٌ للصواب ويرد عليها المناقشات والإشكاليات المهمّة ومن أهم الإشكالات الواردة عليها جميعًا هو أنّها مخالفة لحكم العقل ولضروره الفطرة.
لأن العقل لا يرى لأحد حقّ الولاية والتصرف في شؤون سائر الناس الذين يكونوا نظيره في الخلقة ويرى أن حق الولاية منحصر في ذات الله تبارك وتعالى
ص: 49
الذي له الربوبية المطلقة في التكوين والتشريع وهو رب العالمين وهو الخالق المالك للعالم وللإنسان؛ فالحكم والولاية له تعالى وهذا من الأحكام الصريحة ومن الضروريات النظرية العقلية المؤيدة بعشرات الأدلّة النصيّة من القرآن والسنّة المنقولة عن أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) الدالّة على «أنّ الله هو الولي»، و﴿الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾ (سورة البقرة: الآیة257)
فعلى هذا الأساس فالمعايير المذكورة في كلمات القوم لبيان شرعية الدولة ومعيارها كلّها مخدوشة ومخالفة لصريح حكم العقل والنقل.
نعم من حكمة الباري(عزّ و جلّ) أن يأذن لبعض أوليائه في التصرّف في شؤون المسلمين ويأذن لهم بالحكم ويجعل لهم حقّ الأمر والنهي ويأمر الناس بطاعتهم واتّباعهم.
فحينئذٍ يكون المعيار والملاك في شرعية حكم الدولة واعتباره-أيًّا ما كانت -هو الدخول في إطار الإذن الإلهي ودائرة الإرادات السياسية المنتهية إلى الربوبية الإلهية.
ثم إنّه بناءً على هذا الملاك والمعيار؛ تنقسم الدول المستولية على الحكم والأنظمة السياسية الموجودة في العالم إلى أقسام ثلاث:
1- الدولة الشرعية؛ التي ثبت لها بالأدلة المعتبرة العقلية والنقلية الإذن في التصرف في شؤون الناس والولاية على أمورهم وهذه هي دولة عدل وحق.
2- الدولة غير الشرعية؛ التي ثبت بالأدلة المعتبرة أنّها دولة باطل وطاغوت وجور قد منعت شرعاً عن التصرف في الأمور وحَرُمَتْ ولايتها.
3- الدولة المشكوكة التي لا تكفي الأدلة الأولية لإثبات شرعيتها والإذن لها بالولاية والتصرّف فبعد الشك في شرعية هذه الدولة نرجع إلى الأصل
ص: 50
الأولي في الولايةوالتصرف في شؤون الغير والأصل كما سنشير إليه، هو عدم شرعية السلطة وحرمة الولاية.
ومحصّل الكلام: أنّه بحسب مقام الثبوت ونفس الأمر تنقسم اعنی مقام النظر فی الأدلّة والأمارات تنقسم الأنظمة السياسية والحكومات إلى الأقسام الثلاثة المذكورة أعلاه. نعم بحسب مقام العمل فالدولة منقسمة إلى قسمين دولة حق ودولة باطل، ودولة صلاح ودولة فساد، ودولة إسلام ودولة طاغوت، ودولة عدل ودولة جور، وإلى هذه النتيجة قد أشارت بعض الأحاديث.
كما عن مولانا الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حيث سُئِل عن معايش العباد فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):
«جميع المعايش كلّها من وجوه المعاملات في ما بينهم ممّا يكون لهم فيه المكاسب أربع جهات: ويكون فيها حلال من جهة وحرام من جهة فأول هذه الجهات الأربع الولاية».
إلى أن قال:
«فإحدى الجهتين من الولاية؛ ولاية ولاة العدل الذين أمر الله بولايتهم على الناس والجهة الأخرى ولاية ولاة الجور. فوجه الحلال من الولاية: ولاية الوالي العادل وولاية ولاته بجهة ما أمر به الوالي العادل بلا زيادة ونقيصة، فالولاية له والعمل معه ومعونته وتقويته حلال محلّل. وأما وجه الحرام من الولاية: فولاية الوالي الجائر وولاية ولاته، فالعمل لهم والكسب معهم بجهة الولاية لهم حرام محرّم، معذّب فاعل ذلك على قليل من فعله أو كثير؛ لأن كل شيء من جهة المعونة له معصية كبيرة من الكبائر وذلك أنّ في ولاية الوالي الجائر دروس الحق كلّه فلذلك حرُم العمل معهم ومعونتهم والكسب معهم إلا بجهة الضرورة نظير الضرورة إلى الدم والميتة».(1)
ص: 51
إشارة: من الأمور المهمة الرائجة في السيرة العلمية للفقهاء والأصوليين، أنّهم عندما يريدون البحث في موضوع أصولي، أو دراسة مسألة فقهيّة العمل على تأسيس الأصل في الموضوع أو المسألة؛ فعلى سبيل المثال في أصول الفقه يقولون: «إن الأصل في حجية الظن هو عدم الاعتبار»، ونتيجته عدم جواز التمسّك بالظنون التي لم يثبت اعتبارها. أو في الفقه يقولون: «الأصل في العقود هو اللزوم» فعند الشك في جواز العقد أو لزومه وعدم توفّر الأدلّة لحسم النزاع، يُرجَع إلى هذا الأصل ويستنتج لزوم العقد وعدم جواز فسخه.
ففائدة تأسيس الأصل في المسألة هي التمسك به في موارد الشك لرفع الحيرة عملاً.
وبما أنّ أهمّ مسألة من مسائل فقه الدولة هي البحث في شرعية الدولة وبيان ملاك هذه الشرعيّة ومعيارها؛ فمن المناسب أن يُبحث عن هذا الأصل في هذه الدراسة. والمراد من شرعية الدولة هنا، ليس هو الشرعية العرفية أو الشرعية الحاصلة عن طريق القوانين الوضعية العرفية؛ بل المراد منها الشرعية المستمدّة من الشارع الحكيم والمستندة إلى الربوبية الإلهية التي تكشف عنها الشريعة الإسلامية.
فكل دولة محتاجة إلى مبرّرات ومستندات تبيّن وتشرح وجه شرعيّة تصرفاتها والتزاماتها السياسية، وتصرّفاتها في الأموال والأنفس ودعوتها الناس إلى طاعة أوامرها ونواهيها واتّباع قراراتها. ومجموع هذه القضايا هي ما يُسمّى في علم السياسة بمسألة المشروعية السياسية، فهناك عدّة مبررّات قد تعدّ لتوجيه الشرعية السياسية من الوراثة أو السلطة التقليدية القائمة على التاريخ والعادات والسلطة الكاريزمية القائمة على قوّة الشخصية إلى السلطة المبنية على القهر والغلبة والسلطة المبنية على العقد الاجتماعي.
هذه الأمور تذكر عادّة كمبرّر للشرعية السياسية في عداد السلطة السياسية
ص: 52
المبنية على الشرعية الإلهية في علم السياسية. وأما في الإسلام فالسلطة السياسية تستمدّ شرعيّتها من المصادر الشرعية الإسلامية؛ أعني الكتاب والسنة. والوجه في ذلك ما ذكرناه في المبادئ التصديقيّة لفقه الدولة من انحصار الولاية وحق الآمرّية بالله تبارك وتعالى، وبناءً على هذهالقضية لا يجوز لأيّ حاكم وأمير أن يُباشر الحكم والأمر والنهي إلا بأذن إلهيٍّ؛ فيجب أن تنال سلطته موافقة الشارع الحكيم وتأييده لالتزاماته وتصرفاته. هذا هو المبدأ الأساس لشرعية الدولة في الإسلام.
وإذا استطعنا حسم مسألة الشرعيّة، وأثبتنا بالأدلّة أنّ مصدر الشرعيّة هو هذا الأمر أو ذاك، فهو، وإلّا فإنّه عند الشكّ وعدم توفّر الأدلة لحسم المسألة، نتمسّك بالأصل في الشرعية؛ وبالتمسّك بالأصل نرفع الحيرة في العمل ونأخذ بنتيجة الأصل.
وهذا الأصل وإن لم يكن مقرّرًا في تراثنا الفقهي بهذا الاسم والعنوان؛ ولكنه مبحوثٌ عنه في كثير من كتب أصحابنا ككاشف الغطاء وصاحب العناوين والسيد الإمام5 و غيرها باسم الأصل في الولاية.
قال كاشف الغطاء (قُدّس سِرّه):«الأصل ألّا يكون لأحدٍ بعد الله تعالى سلطانٌ على أحدٍ؛ لتساويهم في العبودية. وليس لأحدٍ من العبيد التسلّط على أمثاله؛ بل ليس لغير المالك مطلقًا سلطانٌ على مملوك من دون إذن مالكه. فمن أعاره السلطنة في نبوّة أو إمامة أو علم أو علقة نسب أو مصاهرة عقد أو توسط عقد أو إيقاع أو حيازة أو إرث أو نحوها كان له ذلك وإلّا فلا».(1)
فإنّ كاشف الغطاء في مقام بيان الأصل الذي نحن بصدد البحث عنه، وإن وسّع دائرة البحث إلى كل سلطةٍ من المالكية والولاية وغيرها، ولكن يشمل كلامه بعموميته وإطلاقه السلطة اللازمة لكل دولة تريد التصرف في الأموال والأنفس وتدعو الناس إلى الطاعة.
ص: 53
وقال صاحب العناوين (قُدّس سِرّه): «إن الأصل الأوليّ عدم ثبوت ولايةِ أحدٍ من الناس على غيره؛ لتساويهم في المخلوقية والمرتبة، ما لم يدلّ دليل على ثبوت الولاية، ولأنّ الولاية تقتضي أحكامًا توقيفيّةً لا ريب في أنّ الأصل عدمها إلا بدليل».(1)ولا ريب في أنّ الدولة لا تتحقّق إلا بالولاية السياسية على أمور الناس، وإنّها داخلة في ماهية الدولة، فشرعية السلطة الإسلامية بحاجة إلى ولاية إلهية، وإلّا فبحكم الأصل الأوليّ لا تثبت الولاية لأحد على غيره، فهذا الأصل يجري ويسري بالنسبة إلى الأنظمة السياسية والدول المختلفة التي تريد بولايتها وتسلّطها، السلطة والتصرف في شؤون الآخرين.
ويقول السيد الإمام الخمينيّ (قُدّس سِرّه): «الولاية مختصة بالله تعالى، بحسب حكم العقل فهو تعالى مالك الأمر والولاية بالذات من غير جعلٍ وهي لغيره تعالى بجعله ونصبه».(2)
فالنتيجة هي أنّه: عند الشكّ في شرعية السلطة السياسية: الأصل هو عدم شرعية الدولة؛ لأنّ الأصل هو عدم الولاية.
وأما في مقام الجواب عن السؤال حول دليل هذا الأصل المسمى بالأصل في الولاية ومستنده، فيمكن أن تُذكر أمور عدّة، بوصفها مدركًا ومستندًا لهذا الأصل؛ وهذا وبعض ما يمكن ذكره في هذا المجال:
الاستصحاب من الأصول العملية المعتبرة التي يُتمسَّك بها عند فقدان الأمارة وعدم الدليل من الكتاب والسنّة، إذا كان للمشكوك حالة سابقة فبحكم قولهم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) «ابقِ ما كان» وقولهم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ): «لا تنقض اليقين بالشك» يأخذ المشكوكُ اللاحق حكم المتيقّن السابق.
ص: 54
فتطبيقًا للاستصحاب على المقام فعند الشك في شرعية دولة وسلطة، فبما أن ولايتها وتصرفاتها تحتاج إلى الإذن الشرعي فعند الشك في الإذن الشرعي وجعل الولاية لها يبقى ما بعد تصرّفها على حكمه السابق على التصرّف.فعلى هذا التقرير إنّ «أصل عدم شرعية الدولة» مستندٌ إلى الاستصحاب ومشروطٌ بتوفّر شروطه ومقيّدٌ بقيوده ويعامل معه معاملة الأصول العملية.
أصالة عدم شرعيّة السلطة والدولة إلا ما خرج بالدليل يمكن أن تقرّب بدلًا من الاستصحاب، بالأدلّة اللفظية الواردة في الكتاب والسنة، فإنّ ثمّة أدلة كثيرة تدلّ بوضوحٍ على هذا المدّعى.
1- منها ما ورد في آيات الذكر الحكيم حول الولاية والحكم وأنّهما منحصران في الله تبارك وتعالى كقوله تعالى: ﴿فاللّه هُوَ الوَليّ﴾ (سورة الشوری:الآیة9)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ﴾ (سورة المائدة:الآیة55)، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ﴾ (سورة المائدة:الآیة45)، وقوله تعالى: ﴿قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ (سورة آل عمران:الآیة26)، وغيرها من الآيات.
فهذه الأدلة تحصر الحق في الولاية والحكم والملك في الله جلّت عظمته وما دام لم يثبت حق الولاية والحكم والملك والسلطنة لغيره تعالى، فلا يجوز له التصرف في شؤون الناس.
2- ومنها الآيات التي اشتملت على كلمة «أرباب» وهي أربعة آيات:
الأولى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أربابا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾. (سورة آل عمران: الآية 64.)
ص: 55
الثانية: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ ان تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أربابا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾. (سورة آل عمران: الآية 80.)
الثالثة: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾. (سورة يوسف: الآية 39.)
الرابعة: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أربابا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾. (سورة التوبة: الآية 31.)تقريب الاستدلال: أنّ الأرباب جمع الرّب والرّب هو الله(عزّ و جلّ)، هو ربّ كلّ شيء ومالكه وله الربوبيّة على جميع الخلق، وهو ربّ الأرباب ومالك الملوك والأملاك. قد يقال: الربّ بالألف واللام لغير الله وفي الأصل يدلّ على إصلاح الشيء والقيام عليه، فالربّ: المالك والخالق والصاحب يقال: رَبَّ فلان ضيعتَه إذا قام على إصلاحها.(1) وعلى هذا يقال الربّ لمن يدبّر أمور غيره ممّن هو تحت يده ومن تكون شؤونه موكولة إليه. فالقرآن في هذه الآيات الأربع المذكورة أعلاه ينهى عن اتّخاذ الأرباب والتسلّيم لربوبية غيره تعالى، وفي الآية الأخيرة يذمّ اليهود والنصارى؛ لأنهم اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم وعلماء السوء أربابًا لهم، وليس المراد من اتّخاذهم الأحبار والرهبان أربابًا لهم، أنّهم كانوا يعبدون الأحبار والرهبان؛ ولا يعني أنّ الرهبان كانوا يعتقدون لأنفسهم الحقّ في العبادة؛ بل المراد من ذلك على ما في بعض الروايات، أنّ الأحبار والرهبان إنّما حرّموا لهم حلالًا وأحلّوا لهم حرامًا واليهود والنصارى قبلوا منهم هذه الأحكام وأطاعوهم فيها. فكانوا يستحلّون ما يحلّون لهم ويحرّمون ما أحلّ الله لهم، والقرآن يذمّهم لهذه الطاعة ويصف هذه الطاعة بأنّها اتّخاذ الأرباب من دون الله.(2)
وعلى هذا فالطاعة والالتزام بالإلزامات السياسية الصادرة عن الأنظمة
ص: 56
والسلطات السياسية في حكم اتّخاذها الأرباب فلا شرعية لها، وإذا حكموا بشيء فحكمهم بمثابة حكم الطاغوت ما لم يثبت لهم الحقّ في الحكم والولاية على شؤون الأمة. وقد قال تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾ (سورة البقرة:الآیة157). فإذا كانت الولاية والسلطة مستندة إلى ولاية الله فهذه ولاية أهل الإيمان وتوجب خروج الفرد والمجتمع من الظلماتإلى النور وأما إذا كانت السلطة على العكس والولاية مستندة إلى الطاغوت فهذه توجب الخروج من النور إلى الظلمات.
فبناءً على هذا المستند ووفقًا لهذا التقرير: يكون الأصل عدم ثبوت أي حقّ سلطة لأي نظام سياسي وعدم شرعية لأي دولة إلا ما خرج بالدليل.
ثم بناءً على هذا التقريب وخلافًا للتقريب السابق، لا يكون هذا الأصل من الأصول العملية؛ بل يعتبر أمارة كسائر الأمارات التعبّدية المستفادة من الأدلّة الكاشفة عن الحكم الشرعيّ الواقعيّ، والأمارات حجّة في لوازمها.
إنّ الإنسان بحكم ضرورة العقل وبما يجده في فطرته، له الإرادة والاختيار والحرية فجميع أفراد الإنسان متساوون بحسب الجبلّة والخلقة في هذه الخصلة؛ فلكلّ إنسانٍ حريته وإرادته، ولا يجوز لأحدٍ أن يسلب غيره حرية إرادته واختياره أو يقيده ويحدّده ويتسلّط عليه بشيءٍ. وإنّ أبناء آدم كلهم كأسنان المشط لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض.
ثم إنّه بحكم هذا الأصل لا يجوز لأحد أن يفرض إرادته على إرادة آخرين ويسلّط نفسه على غيره من دون مبرّر لهذا الفرض والتسلط. وبما أنّ كل نظام سياسيٍّ لا محالة فرض إرادته على المواطنين ويطلب منهم الخضوع لإرادته
ص: 57
ويريد منهم سلب حريتهم أو تحديدها وتقييدها فالخضوع لإرادة أي نظام سياسي غير جائز عقلا وبحكم الفطرة، ما دام لم نجد عقلًا مبرّرًا له.
وعلى أساس هذا الحكم العقليّ فالأصل في النظام السياسي عدم شرعية تصرّفاته والتزاماته ما دام لم يثبت له الحقّ فيها.
الإنسان مفطور على الاعتقاد بالولاية الإلهية وأنّها منحصرة فيه تعالى، فالعقل يحكم بالضرورة بأنّ حق السلطة والآمرية والإلزام تختصّ بالله تعالى ولا يكون لأحد سلطان على غيره فالأصل عدم الولاية وعدم جواز التصرف في شؤون الغير إلا إذا ثبت بدليل معتبر وهذا هو مقتضي التوحيد والإيمان بالله تبارك وتعالى.
ثم إنّه بناءً على هذا الإيمان والاعتقاد بأنّ الله مالك لكل شيء وأنّه قادر على كل شيء؛ فإنّ أي حكم وأمر وإلزام وأي ولاية وسلطة لا بدّ من أن تكون مستمدّةً منه تعالى وإلّا فهي سلطة عارية عن أي شرعية وحجيّة.
وهذا الأصل هو الأساس للعدالة والقسط والحرية وردّ الظلم والرقية والعنصرية، فيثبت به عدم سلطة أحدٍ على غيره من بني نوعه؛ وفي النتيجة أيّ دولة ونظام سلطة، شرعيّتها مرهونةٌ بالاتصال بالمبدإ الأعلى للولايات والسلطات. منه يجري هذا وإليه ينتهي، وأما في غير هذه الصورة فيدُ السلطة قاصرة عن أي تبرير أو إثبات حقّ مشروع في الإلزام والتصرّف.
وبهذا التقريب يظهر أن الأصل هو عدم شرعية السلطة السياسيّة وبناءً عليه: لا يعدّ أصل عدم الولاية من الأصول العملية ولا من الأمارات الظنية التعبدية؛ بل إن هذا الأصل وهو عدم الولاية يستندُ إلى المبادئ الاعتقادية الضرورية العقلية الفطرية. وهذا الأصل معيار وملاك لجواز الالتزام بالتزامات أي دولة، ووجوب بل جواز الطاعة لأوامر أي نظام سياسي. والنظام السياسي إذا أخذ الشرعية من رأس هرم السلطة المنتهية وهو المبدأ الأعلى جلّت عظمته يجوز
ص: 58
لها التصرف في شؤون المجتمع وتثبت لها السلطة على الأموال والأنفس وفق المعايير الشرعية المعتبرة. وأما عند الشك في ذلك فلا دليل على شرعية الزاماته ولا دليل على جواز الالتزام بأوامره ونواهيه.
دراسة تاريخ السياسة والدولة في الإسلام تحكي وتبيّن بوضوح أن إقامة الدولة وتأسيس نظام الحكم كانت تعدّ جزءًا من الإسلام في طول التاريخ فيما بين المسلمين. وهذا من الأصول المسلّمة عند الفرق والمذاهب الإسلامية. ومن أهم مستنداتهم في هذا المجال بل أساسها التمسك بسيرة النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بعد هجرته حيث أخذ بالزعامة السياسية وتأسيس الحكم الإسلامي في المدينة المنورة، فإنّ هذه الأمور من المتفق عليها ومما أجمع عليه المسلمون ، على الرغم من اختلافهم في كثير من النواحي والمسائل المرتبطة بالأصول والفروع.
نعم في العقود الأخيرة من التاريخ المعاصر قد تُذكر بعض الشبهات والمناقشات حول الدولة النبويةّ فإنّه قد يُسأل هل النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) كان صاحب دولة سياسية إسلامية؟ وهل كان رئيس حكومة دينية كما كان رسول دعوة دينية وزعيمها أم لا؛ بل كان زعيم دعوة دينية فقط؟
فيُبدي بعضُ الكتّاب في مقام الجواب لهذا السؤال رأيًا ونظرًا مخالفًا لإجماع المسلمين حاصله أن الحكومة النبوية لم تكن حكومة في الواقع ومن الأساس وإن كان فيها بعض ما يشبه مظاهرَ الحكومة والسياسة وآثار السلطة كمسألة الجهاد والغزوات فإنّ الجهاد ما كان للدعوة إلى الدين وقد قال تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (سورة البقرة:الآیة256) وقال تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) (سورة الغاشية: الآيتان 21-22)
وقال تعالى: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (سورة يونس: الآية 99)
ص: 59
فعلى حسب زعمه تفيد هذه الآيات أنّ رسالة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) إنما كانت تعتمد على الإقناع وما كانت دعوته ونبوّته في سبيل تكوين الحكومة الإسلامية.
ثمّ إنه بعد التأمّل في هذه الآيات، يقترح أن ندرس الموضوع ونبحث المسألة من جديد ونجد جوابًا لسؤال آخر في هذا الموضوع وهو: هل تأسيسه الدولة وتصرفه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) في ذلك الجانب كان شيئًا خارجًا عن حدود رسالته أم كان جزءًا مما بعثه الله له وأوحى به إليه؟ثم يستنتج من دراسة جوانب حياة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وعيشه مع الناس من جانب، ودراسة حقيقة الحكومة وماهية السياسة من جانب آخر، أن:
محمّدًا (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) ما كان إلا رسولًا لدعوة دينية خاصّة، وأنه لم يكن للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، ملك ولا حكومة وأنه لم يقم بتأسيس دولة إسلامية.
وعلى حسب رؤيته وزعمه فإنّ: وحدة العرب في زمانه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) كانت وحدة إسلامية لا سياسية وزعامة الرسول كانت زعامة دينية لا مدنية.
ثانيًا: أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) لحق بالرفيق الأعلى من غير أن يسمّي أحدًا يخلفه من بعده، ومن غير أن يشير إلى من يقوم في أمته مقامه، بعد أن أدّى رسالته الكاملة وكمل الدين وتمت النعمة.
ثالثًا: اختراع لقب خليفة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) لأبي بكر ولمن بعده من الخلفاء فهذا اللقب صار سببًا لأخطاء كثيرة؛ لأنّه ما كانت هناك خلافة حقيقية والحقّ أن الإسلام بريء من تلك الخلافة التي تعارف عليها المسلمون وإنما هي خطط سياسية صرفة.(1)
ما ذكرناه أعلاه خلاصة شبهة ذكرها بعض الكتّاب من الذين ليس لهم أن يدخلوا في هذا المضمار لعدم استطاعتهم التمييز بين الصواب والخطإ، وبين الحق والباطل؛ والحق أنّهم خرجوا عن طريق السداد والإنصاف وذهبوا
ص: 60
يمينًا وشمالًا لأن ينكروا أمرًا يُحسب من ضروريات الإسلام، ومن إجماعات المسلمين عبر التاريخ ويبدوا رأيًا مخالفًا لآلاف الأدلّة من القرآن والسنة والسيرة والشواهد التاريخية.
نعم لا ريب كما نصّ عليه الشهرستاني في أنه: «أعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة؛ إذ ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة مثل ما سُلّ على الإمامة في كل زمان»(1) فمسألة الدولة والحكومة في الرتبة الأولى من المسائل التي نرى فيها كثرة الخلاف والشجار بين المسلمين من يومِ رحيل النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) إلى يومنا هذا، فالمسلمون اختلفوا في الخلافةوما هو الطريق الصواب الشرعي لأخذ الحكم. ومن المؤسف نتيجة للفتن والمؤامرات القائمة في ما بين الأحزاب وخاصة حزب النفاق وبقايا اليهود الذين استسلموا وما أسلموا، لم يُسلك الطريق المستقيم الذي رسمه النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) في طول حياته، من يوم الإنذار إلى حجّة الوداع في غدير خم، من نصّه بالولاية والوزارة ونصبه عليًّا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إمامًا وخليفةً على الأمّة بأمر الله تبارك وتعالى. ولكن مع ذلك كله من المهمّ أنّه ما أنكر أحد منهم أصل مسألة الخلافة والإمامة وضرورة الدولة بل كلّهم اتفقوا على أنها جزء من الإسلام وقسمٌ من دعوة الرسول الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)
فالمستشكل وقع في هذه الشبهة لأسباب عدّة أهمّها:
أولًا عدم الإحاطة والتتبع الكامل في القرآن الكريم، وعدم دراسة الآيات المرتبطة بالدولة والسياسة؛
وثانيًا: عدم إنجاز تحقيقٍ شاملٍ ومستوفٍ حول الحكومة النبوية والدولة التي أسسها والأنظمة الموجودة فيها؛
وثالثًا: للجهل برأي الإمامية في أمر الخلافة والإمامة وأدلّتها فكأنّه يريد (كما يقال بالفارسية؛ (مي خواهد آبرو را إصلاح كند چشمش را كور كرده است= أراد إصلاح الحاجب ففقأ العين) والمعادل العربيّ لهذا المثل هو: "أراد أن
ص: 61
يكحلها فأعماها". وعلى أي حال سنشير إلى أهم الأدلة والمستندات المبطلة لهذا الزعم على نحو الاختصار؛ لعدم الحاجة إلى بسط الكلام ولوضوح بطلان الشبهة ومخالفتها للضرورة.
إنّ من القضايا الضرورية والمسلّمة تاريخيًّا أنّ المسلمين كافّة من أي رأي ونظر ومتعلّق بأي حزب وطائفة اعترفوا بضرورة الخليفة واستمرار الدولة الإسلامية التي أسسها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بعد هجرته إلى المدينة وكان هو القائم بأمرها، فلمّا توفي بادر المسلمون إلى تعيين رئيس لهذه الدولة من بعده فكان المجمع عليه عندهم وجوب تعيين الإمام وضرورة البيعة له لعدم إمكان تعطيل هذه الدولة وضرورة استمرارها ولقب «الخليفة» تشير إلى هذه الحقيقة، ونعلم أنه كان هناك خلاف في ما بينهم في القيم بهذا الأمر فإنّ الخليفة الأول وإن أخذبالحكم وقام مقام النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) ولكن كان الكلام في استحقاقه لهذا المنصب ومخالفة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وبعض الصحابة؛ ولم يكن الكلام في صرف تسميته بخليفة الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وتلقّبه بهذا اللقب فقط؛ بل كانوا يرون أن هذا الشخص الذي يلقّبونه بالخليفة لا يليق بالجلوس في هذا المكان وليس له حق التصدي لهذا المنصب. وعلى أي حال، ما كان النزاع بينهم في أصل ضرورة الدولة ولا في ضرورة بقاء الدولة الإسلامية؟ وبعبارة أخرى: كان الخلاف في المصداق والتطبيق، وأما مبدأ وجوب بقاء الدولة النبويّة كجزء من رسالته ودعوته، فلم يكن محلًّا للخلاف والنزاع بينهم.
والنتيجة التي نخلص إليها بعد هذا العرض هي: أنّ الحقائق التاريخية التي حصلت بعد وفاة الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) ترفع الشبهة وتبيّن أن النبيّ الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أسس الدولة الإسلامية وكان هذا الفعل جزءًا من دعوته ورسالته.
من الأدلّة الدالّة على أن الدولة كانت جزءًا من رسالة النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) ودخيلة
ص: 62
في ماهيّتها دراسةُ سيرته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) والوجه في ذلك أن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) تولّى زعامة الأمّة وقيادتها وصدرت عنه تصرّفات خاصّة في مجال إدارة شؤون المجتمع، وكانت هذه التصرفات جزءًا من مهامّه الرسالية ومرتبطةً بدعوته، ومن فرائضه الشرعية ولو لم تكن هذه الأمور الإدارية من شؤون رسالته وتكاليفه الإلهية، فما هو الوجه في تدخّله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) في هذه الأمور وصرف وقته إمكانيًاته فيها؟ هل من الصحيح أن الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) مع ما كان متّصفًا به من الحكمة والعقل والتدبير أن يعمل أمورًا غير مرتبطة بمهامّه وشؤونه الوظيفية الإلهية؟ ومن أهم هذه الأمور تجهيزه الجيوش للجهاد كرّات ومرّات عدّة إلى حين وفاته ولحوقه بالمبدإ الأعلى، نعم إن جهاده ما كان ذريعة لنشر رسالته ودعوته تحت ظلال السيوف بل كان كما بين في محلّه دفاعًا عن دينه وأمّته وبلده وكيانه في مقابل عداوة الأعداء وفتنتهم.ثم إن ترتيباته الحكومية ما كانت منحصرًا في الجهاد فقط. بل نرى من سيرته الإقدام والعمل بالنسبة إلى كل شيء تحتاج إليه إدارة أمور المسلمين من القضاء والأمن والاستخبارات والصلح والعهود والاتفاقيات المتعددة مع اليهود والقبائل المختلفة والمشركين والعلاقات السياسية والديبلوماسية إلى غير ذلك من الأمور السياسية والاجتماعية التي تدخل في نطاق مسؤوليات الدولة. والطالب للتفاصيل بإمكانه أن يراجع الكتب المؤلّفة الخاصّة بهذا الموضوع منها ما ألّفه السيد محمد عبد الحي الكتاني (1305-1382ه-.ق) الّذي خصّصه للبحث في نظام الحكومة النبويّة وعنونه ب-«التراتيب الإدارية» وقد ذكر فيه المؤسّسات الإدارية المختلفة الخاصّة بالجهات المتفاوتة في الدولة النبوية مع المصادر والمستندات العلمية الدالّة على أن الحضارة الإسلامية قد وضعت اللَّبنة الأساس لها في عصر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) فهو يقول في مقدمة كتابه:
«إنّه (النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)) حيث كان يشغل منصب النبوة الديني على قاعدة جمع دينه القويم بين سياسة الدين والدنيا جميعًا، مزج بين السلطتين، بحيث كادا أن يدخلا تحت مسمًّى واحدًا وهو الدين».
وهو يصرح بأن ما يتعلق بالمراتب الإدارية من وزارة بأنواعها وكتابة
ص: 63
بأنواعها والرسائل والإقطاعات وكتابة العهود والصلح والرسل والترجمان وكتّاب الجيش والقضاة وصاحب المظالم وفارض النفقات وفارض المواريث وصاحب العسس(1)
في المدينة والسجّان والعيون والجواسيس والمدارس ونصب الأوصياء والممرّضات وصاحب بيت المال ومتولّي خراج الأرض وحافر الخنادق وأنواع المتاجر والصناعات والحرف، فنجد أن في مدة زعامته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) مع قصرها لم تخلُ عن هذه الأعمال والوظائف.(2)وعليه فإنّ دراسة السيرة تدلّ بوضوح على أن تأسيس الدولة وترتيباتها ومؤسستها شغلت جزءًا مهمًّا من رسالة النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) ولا دليل أو قرينة تدلّ على أن هذه الأمور المهمة كانت خارجة من مهامّه الرسالية.
ثمّة عدد هائل من الآيات القرآنية تدلّ بوضوحٍ على أن للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) الحكم والولاية على أمور المجتمع وكان واجبًا عليه القيام بهذه المناصب الإلهية ومن المعلوم أنّه لا يمكن له الإقدام والقيام بهذا التكليف إلا عبر الأنظمة السياسية الاجتماعية وتأسيس الدولة الدينية.
وسوف نصنّف هذه الآيات إلى طوائف وندرسها وفق هذا التصنيف ونتوقّف قليلًا عند أهمّها إن شاء الله.
منها: قوله تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ). (سورة الأحزاب: الآية 6)
فهذه الآية دالّة على رجحان جانب النبيّ الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وأولويّته في كل
ص: 64
جوانب الحياة وتقدّم رأيه وحكمه وقراراته على أنفسهم. وبعبارة أخرى تفيد هذه الآية ولايته المطلقة على شؤون المؤمنين.
ومنها: قوله تعالى: (وَمَا كَان لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا ان يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا). (سورة الأحزاب: الآية 36)
فالآية تدلّ على نفوذ قضائه وحكمه على المؤمنين كافّة وأنه فصل الخطاب في جميع أمور المسلمين وشؤونهم ولا شك في أنّ قضاءه يشمل أحكامه الصادرة في رفعالخصومات والمنازاعات وأحكامه الصادرة لإدارة المجتمع وولاية أمرهم ولا يكون للناس اختيار وخيرة من أمرهم في جنب حكم النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وقضائه.(1)
ومنها: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ). (سورة النساء: الآية 59)
وسائر الآيات الآمرة بالطاعة المطلقة للرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) الدالّة على سريان أوامره إلى كل شيء بما يشمل أوامره الولائية والإدارية.
ومنها قوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ). (سورة المائدة:الآية 255)
ودلالتها على المدّعى من حيث إن الرسول جُعلت له الولاية المطلقة، ودلّت الآية على نفوذ حكمه على المجتمع بوضوح.
ومنها قوله تعالى: (مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (سورة الحشر: الآية7)
فالآية بعموميّتها تدلّ على وجوب الأخذ بكلّ ما يأتيه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) من الأمور السياسية والاجتماعية والانتهاء والاجتناب عن نواهيه. فيجب الأخذ بسيرته السياسية من تأسيس الحكومة لأنّها جزء من رسالته.
ص: 65
ومنها قوله تعالى: (لَقَدْ كَان لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَان يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخر وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا). (سورة الأحزاب: الآية 21)
فهو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بحكم الآية: أسوة حسنة مطلقًا، وينبغي أن يُتأسّى به في كل مجالات حياته وأبعاده بلا استثناء في كل الأمور من العبادات والمعاملات إلى الأمور السياسية والاجتماعية.فهذه الآيات نموذج من الآيات الدالة على نفوذ حكمه وقضائه ووجوب طاعته والتبعية المطلقة لأوامره، وحرمة التخلّف عن أحكامه وقراراته لأنه الوليّ المطلق، له الولاية العامّة والزعامة الكاملة والإمامة المطلقة والقيادة الشاملة في جميع شؤون الأمة فرديًّا أو اجتماعيًّا، فهو يتصرف في أموالهم وأنفسهم حسب ما يراه من المصلحة والحكمة ولا شك في أنّ هذه الولاية والإمامة الموهوبة والمطلقة والإلهية لا تتحقق في الخارج ولا تتكوّن إلا بتأسيس الدولة وتشكيل نظام الإدارة للمجتمع.
ثمّة طائفة أخرى من الآيات غير الآيات المذكورة أعلاه توجّه الخطاب إلى النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وتأمره بتنفيذ أحكام لا شك في أنّه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) لا يستطيع تنفيذها والقيام بامتثال خطاباتها إلا بالاستعانة بالدولة وتأسيس الأنظمة المساعدة له على أداء هذه المهمّة.
منها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾. (سورة التوبة: الآية 73.)
فالآية تفرض على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بذل غاية جهده في سبيل التشديد والغلظة على الكفار والمنافقين ولا شك في أن القيام بهذا الأمر وامتثاله يحتاج إلى قوّة تنفيذية وتخطيط برامج دقيقة لا يمكن القيام بها إلا بدولة قوّية ذات اقتدار وشوكة.
ص: 66
ومنها قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ ورَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ ان أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا...). (سورة التوبة: الآيتان 107-108)
فإنّ التدقيق في مضمون الآيتين خاصّة بعد التأمّل في ما ورد في كتب التفسير حول شأن نزولهماوأنّهما نزلتا في الدعوة إلى القيام بدفع مكر المنافقين وتخطيطهم وحيلهم ومؤامراتهم مع الكفار والمشركين، تبيّن أن القيام بهذه التكاليف بحاجة ماسّة إلى الدولةبكل معنى الكلمة وتأسيس أنظمة خاصّة مشكّلة من العيون والجواسيس وأنظمة الاستخبارات وقوى الأمن وغيرها؛ لأجل التوفيق والوصول إلى القيام بهذه الأمور الهامّة.(1)
ومنها قوله تعالى: (وَان أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ). (سورة التوبة: الآية 6)
ومنها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ان يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِوَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ). (سورة الأنفال: الآية 65)
ومنها قوله تعالى: (وَان جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). (سورة الأنفال: الآية 61)
ودلالة هذه الآيات على المطلوب واضحة.
ومنها قوله تعالى: (الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ * فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِمَّا
ص: 67
تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إليهمْ عَلَى سَوَاءٍ إنّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ). (سورة الأنفال: الآيات 56-58)
فالثقف الظفر والإدراك بسرعة، والتشريد من خلفهم ما يفعله بهم من الإكمال عليهم وتشتيتهم، والخيانة هي نقض العهد، ومعنى الخوف ظهور أمارات تدلّ على وقوع ما يجب الحذر منه، فهذه الآيات تخاطب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بأنّك إن تخف من خيانتهم ونقضهم العهد فانبذ إليهم عهدهم.
ولا ريب في أنّ امتثال هذه الأوامر لا يمكن أن يتحقّق إلا بالأنظمة الخاصّة، ولا يستطيع أحد تحقيقها وامتثالها إلا بتأسيس بالدولة.
ومنها قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ). (سورة النساء: الآية 105)ومنها قوله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ). (سورة الفتح: الآية 29)
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تخاطب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وتدعوه إلى تنفيذ الأحكام والفرائض الإلهية ولا ريب في أنّ امتثالها بحاجة إلى أنظمة سياسية واجتماعية، وإلى دولة ذات اقتدار وشوكة لتحقق الأغراض والأهداف والغايات المترتبة على هذه الأوامر والنواهي وإلّا لو لم يكن القيام بتأسيس نظام الحكم وتشكيل المؤسسات الإدارية ضروريًّا وواجبًا؛ فإن تشريع هذه الأحكام والأوامر الحاسمة والخطابات الشديدة يكون لغوًا ومنافيًا للحكمة الإلهية.
وفي القرآن الكريم آيات كثيرة مرتبطة بالبيعة
كقوله تعالى: (إنّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) (سورة الفتح: الآية 10)، وقوله(عزّ و جلّ): (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) (سورة الفتح: الآية 18)، وكقوله تعالى في الحديث
ص: 68
عن بيعة النساء: (إذا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ...) (سورة الممتحنة: الآية 12). فهذه الآيات تدلّ على أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أسّس بناءً قويًّا من النظام السياسي والحكم ووصولًا إلى أهدافه حيث أخذ البيعة منهم، كما فعل أيضًا في بيعة العقبة الأولى والثانية. فإنّ البيعة من الأساس وبحسب الماهية أمرٌ اجتماعيٌّ سياسيٌّ تؤثّر في تقويم أساس الدولة أو تأسيسها وتكون مظهرًا لسيادتها.
الآيات الدالة على الموارد المالية والأمر بأخذها من الناس كقوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ﴾. (سورة التوبة: الآية 103)وصرّح بصرفها في مواردها المعينة بقوله: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾. (سورة التوبة: الآية 60)
وقوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شيء فإنّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ...). (سورة الأنفال: الآية 41)
وقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأنفَالِ قُلْ الأنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ...). (سورة الأنفال: الآية1)
وقوله تعالى: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ ان اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ). (سورة الحشر: الآية 7)
فهذه الأموال الطائلة والغزيرة من الفيء والأنفال والخمس والزكاة وغيرها
ص: 69
إمّا تعدّ من أموال الرسول أو لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) الحق في صرفها والتصرّف فيها بما يراه مصلحة للأمّة. ولا شك في أن تملك هذه الأموال وأخذها وإحصائها وحفظها وصرفها في مواردها وغير ذلك من الأعمال الكثيرة الخاصة والمرتبطة بها كلها تعتبر من شؤون الحكومة والدولة ولا يمكن أن يتفوّه أحد بأنّ هذه الأمور شخصية ومرتبطة بشخص الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) ولا علاقة لها بإدارة المجتمع وإمامته وولايته.
أضف إلى ذلك كله الآيات المشيرة إلى أحكام مشتركة بين جميع المؤمنين وتخاطبهم جميعهم، والنبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أيضًا داخل ضمن المخاطبين لهذه الآيات بما أنّه واحد من المسلمين فيجب على الجميع ومنهم النبيّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) المبادرة إلى تنفيذها ولا يمكن هذا إلا بتأسيس الدولة الإسلامية؛ كآية القصاص (سورة البقرة: الآية 178)، وآية النهي عن أكل الأموال بالباطل (البقرة: الآية 188)، وآية القتال في سبيل الله (البقرة: الآيات 190 – 193)، وآية الدخول في السلم (سورة البقرة: الآية 208)، وآية النهي عن ولاية الكفّار(سورة آل عمران: الآية 28)، وآية الاعتصام بحبل الله وحرمة التفرقة (سورة النساء: الآية 102)، وآية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (سورة النساء: الآية 104)، وآية النهي عن التحاكم إلى الطاغوت (سورة النساء: الآية 60)، وآية تنفيذ الحدود كحد السرقة وحدّ المحاربة وحدّ الزنا (سورة المائدة: الآيتان 38 و33)، وآية الدعوة إلى الإعداد (سورة الأنفال: الآية 60)، وآية إبعاد المشركين عن المسجد الحرام (سورة التوبة: الآية 28) وآية ظهور دين الحق على الدين كله (سورة التوبة: الآية 23)، وآية إقامة الصلاة (سورة الحج: الآية 41)، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدّالة على لزوم تأسيس نظام الحكم ووجوب إقامة الدولة على المسلمين كافّة. والنبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بما هو مسلم واحد وبما هو شخص بادرة إلى تأسيس الدولة التي تعدّ مقدّمة لتنفيذ هذه الأوامر ودعا سائر أفراد المجتمع الإسلاميّ لمساعدته على ذلك.
ص: 70
والنتيجة هي:إن الآيات المحكمات من القرآن الكريم تدلّ على مجموعة من الأمور، هي:
أوّلا: ولاية النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) المطلقة ووجوب طاعته المطلقة ونفوذ حكمه وقضائه.
ثانيًا: كثيرٌ من الآيات تخاطب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وتدعوه إلى تنفيذ الأحكام السياسية والاجتماعية.
ثالثًا: آيات البيعة
رابعًا: الآيات المرتبطة بالموارد المالية
خامسًا: الآيات التي تخاطب المسلمين بتنفيذ الأحكام وإقامة الشريعة إلى غير ذلك من آيات كثيرة قرآنية تدلّ على أن النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) قام بتأسيس الدولة الإسلامية كجزء من دعوته ورسالته، ودراسة هذه الآيات تدلّ على عدم إمكان انفكاك الرسالة عن إقامة الحكم وإدارة المجتمع؛ بل كانت الدولة الإسلامية جزءًا من الرسالة ووظيفته الإلهية.
إزاحة شبهة
إن قلت: إنّ آياتٍ من القرآن الكريم تدلّ بظاهرها على أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) لم يكن له شأنٌ في الملك السياسي والولاية السياسية وإن عمله الرسالي لا يتجاوز حدود البلاغ. وبما أنّ لسان هذه الآيات لسان حصر فتدلّ على أنّ عمله السياسي خارجٌ عن وظيفته الرساليّة فهذه الطائفة من الآيات نافية لدلالة الطوائف السابقة الدالة لولايته وإدارته وتدبيره، ومن هذه الآيات:
قوله تعالى: (فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا)؛ (سورة النساء: الآية 80)
وقوله تعالى: (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ)؛ (سورة الأنعام: الآية66)
ص: 71
وقوله تعالى: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)؛ (سورة يونس: الآية 99)
وقوله تعالى: (وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ)؛ (سورة يونس: الآية 108)
وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا)؛ (سورة الإسراء: الآية 54)
وقوله: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ)؛ (سورة ق: الآية 45)
ومنها: قوله تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ)؛ (سورة الغاشية: الآيتان 21 -22).
قلت: في مقام الردّ على هذا الإشكال:
أوّلًا: إن الحصر الوارد في هذه الآيات ليس حصرًا حقيقيًّا حتى يسلب عن النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) سائر شؤونه السياسية وزعامته الاجتماعية؛ بل الحصر فيها إضافي؛ فإنّها في مقام الإشارة إلى أمور خاصّة مرتبطة بالسياق، فعلى سبيل المثال قوله تعالى: (فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) كما يظهر من الآيات السابقة عليها ورد في سياق رد توهّم إسناد السيّئات، فالآية تبين أنّه ليس للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) في نفسه وبما هو شخص خاصٌّ دخل في الحسناتوالسيئات، فإنّها من الأحكام الكونية وإن الحسنات من الله وإن السيئات التي تسوء الإنسان كالمرض والمسكنة والفتنة، كلّها تعود إلى الإنسان لا إليه سبحانه ولا شأن للرسول فيها.
وأمّا الآيات النافية للوكالة عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) فالمراد منها نفي الوكالة عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) من جهة منعهم عن التكذيب الموجِب للعذاب فالحصر فيها أيضًا إضافيٌّ. وأما قوله تعالى:(أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) فيشير إلى أمرٍ تكوينيٍّ واقعيٍّ وهو أن الإيمان أمرٌ اختياريٌّ إراديٌّ لا يدخل في قلب الإنسان بالإكراه أو الإجبار، وكذلك يدلّ قوله تعالى: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) على أن الإيمان لا يتحقّق بالإكراه، وهكذا
ص: 72
قوله تعالى: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) لأنّ الأمور القلبية أمور إرادية واختيارية وهي غير داخلة في دائرة الولاية التشريعيّة.
والنتيجة هي أن هذه الآيات كلّها ترتبط بمسألة التكوين كالحسنة والسيئة، أو بمسألة العذاب والثواب، أو بقضيّة الإيمان والكفر والهداية والضلالة؛ فلا تدلّ أبدًا على الحصر الحقيقيّ، وبالتالي هي أجنبية بالكامل عن مسألة الدولة والسياسة ولا شان لها ولاربط لها بالحكومة.
ثانيًا: لو سلّمنا دلالة هذه الآيات على حصر دور النبيّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) في الدعوة والإنذار فقط؛ ولكن هذه الآيات لا تقاوِم في مقام المعارضة مئات الآيات التي ذكرنا نماذج منها الطوائف الخمسة في المبحث السابق، وهي دالّةٌ على ثبوت الولاية والحكم للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) ولزوم تأسيس الدولة. وبما أنّ هذه الآيات مشتملة بحسب الكميّة على طوائف مختلفة أكثر بكثيرٍ من هذه الآيات القليلة وتتضمّن بحسب الكيفية على دلالة نصيّةً واضحةً وقطعيةً، فيحب رفع اليد عن ظاهر الآيات الدالّة على حصر دور النبي، وتقديم الآيات الدالة على ثبوت الأدوار والوظائف السياسية والإداريّة والولائية للنبيّ الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)
فبحكم لزوم تقديم النص على الظاهر والأظهر على الظاهر يجب رفع اليد عن تلك الآيات.ثالثًا: ما ثبت في التاريخ من سيرة الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) من تأسيسه الدولة الإسلامية وأيضًا ما ثبت من إجماع المسلمين واتّفاقهم على ضرورة إقامة الحكم والدولة يوجب القول بأنّ المراد من هذه الآيات هو الحصر الإضافيّ، وأنّها لا تفيد حصر وظيفة الرسول الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) في الدعوة والرسالة.
فزعامته السياسية عين زعامته الإسلامية وأنهما معًا تستهدفان عمارة الدنيا وعمارة الآخرة؛ فإنّه بُعِث رسولًا وإمامًا لتعليم الكتاب والحكمة وأيضًا لتدبير مصالح العباد وسعادتهم ولتحقّق القسط، والهدف الأساس هو تمهيد الأرضية المناسبة للناس ورفع الموانع عن مسيرتهم لطيّ طريق العبودية وصراطه
ص: 73
المستقيم بإرادتهم من دون إكراه وإجبار. قال تعالى: (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ ان يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا ان يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ). (سورة يونس: الآية 35)
فالرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) كما كان إمامًا وزعيمًا للدعوة الدينية كان مأمورًا بتنفيذ دعوته ورسالته وكان هذا التنفيذ جزءًا من رسالته ووظيفته، فهو أخذ بزمام الحكم مع كل ما يلزمه من الإعداد والقوّة والاستعداد.
بعد الفراغ عن دراسة نظام الحكم النبويّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وإثبات أنّ النبيّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أسّس النظام السياسيّ في المدينة المنورة بعد التمكّن من ذلك بعد الهجرة وأنّ هذا الحكم كان من صميم رسالته وجزءًا من نبوّته ودعوته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، يجب أن ندرس الموضوع بالنسبة إلى ما بعد رحيله وبما أنّه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) كان ذا مناصب مختلفة من النبوّة والرسالة والإمامة والقضاء ولا شك في أنّ النبوة والرسالة ختمت به كما نصّ عليه القرآن الكريم: ﴿مَا كَان مُحَمَّدٌ أبا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾. (سورة الأحزاب: الآية 40) فبنبوّته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) انتهت النبوة وما كان لهخليفة لمنصب الرسالة والنبوة؛ ولكن الكلام في استمرار منصب إمامته ولزوم الخليفة لهذا المنصب.
فنقول: من الإجماعات المتّفق عليه عند الشيعة والسنّة الإجماع على ضرورة بقاء النظام السياسي والإمامة الذي أسّسه النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) لظهور الدين كلّه على حكم الكفر والشرك.
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾. (سورة التوبة: الآية 33؛ وانظر: سورة الفتح: الآية 28؛ وسورة الصف: الآية 9)
ص: 74
فهذه الآية تبين الغاية المبتغاة من تأسيس الحكم الإسلامي. وهو ظهور الدين كلّه في جميع العالم. والمسلمون وصحابة الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وفي مقدّمهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كانوا متّفقين على هذا الأصل، وهذا الأصل هو المبنى الأساس في سلوكهم وتَصَرُّفهم الاجتماعيّ، وحكمهم بوجوب استمرار دولة الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، وضرورة بقاء الإمامة. ولانجد أحدًا منهم مخالفًا في هذه المسألة من الخاصّة والعامّة؛ أما بالنسبة إلى الخاصّة فالأمر واضح لأنّ إمامة الأئمة الاثني عشر (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من أصول مذهبهم وأساس اعتقادهم، وأما بالنسبة إلى أهل السنّة فإنّ تراثهم وكلمات مفكريهم قديمًا وحديثًا تفيد لزوم استمرار النظام السياسي للإسلام وضرورة إقامة الحكم الإسلامي ما أمكن ذلك في كافّة العالم، فلنذكر نموذجًا من كلمات أئمتهم في هذا المجال.
قال الماوردي (ت450 ه-ق) في كتابه المشهور «الأحكام السلطانية والولايات الدينية»: «الإمامة موضوعةٌ لخلافة النبوّة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمّة واجبٌ بالإجماع وإن شذّ عنهم الأصمّ. واختلفوا في وجوبها هل وجبت بالعقل أو بالشرع؟ فقالت: طائفة وجبت بالعقل» إلى أن يقول: «وقالت طائفة أخرى: بل وجبت بالشرع لأنّ الإمام يقوم بأمور شرعيّة قد كان مجوّزًا في العقل ألّايرد التعبّد بها».(1)
وقال القاضي أبي يعلي الفرّاء الحنبلي (ت 458 ه-ق) في كتابه المشهور (الأحكام السلطانية):«نصبة الإمام واجبة وقد قال أحمد في رواية محمد بن عوف بن سفيان الحمصي: الفتنة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر الناس والوجه فيه: أن الصحابة لما اختلفوا في السقيفة فقالت الأنصار منّا أمير ومنكم أمير ودفعهم أبو بكر وعمر» إلى أن قال: «فلولا أن الإمامة واجبة لما ساغت تلك المحاورة والمناظرة عليها» ويتابع قائلًا: «وطريق وجوبها السمع لا العقل،
ص: 75
لما ذكرناه في غير هذا الموضع وإن العقل لا يعلم به فَرْض شيءٍ ولا إباحته ولا تحليل شيء ولا تحريمه».(1)
وقال ابن حزم الأندلسي (ت 384 ه-ق): «اتّفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة وأن الأمّة واجبٌ عليها الانقياد لإمام عدل يقيم فيهم أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة الّتي أتى بها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)».(2)
وفي مقدمة ابن خلدون (ت 808 ه-ق): «ثمّ إن نصب الإمام واجب، قد عُرِف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين».(3)
وقال ابن أبي الحديد المعتزلي (ت656 ه-ق): «قال المتكلمون كافّة: الإمامة واجبةٌ إلا ما يحكي عن أبي بكر الأصمّ من قدماء أصحابنا أنّها غير واجبة، إذا تناصفت الأمّة ولم تتظالم. وقال المتأخرون من أصحابنا إنّ هذا القول منه غير مخالف لما عليه الأمّة؛ لأنه إذا كان لا يجوز في العادة أن تستقيم أمور الناس من دون رئيس يحكم بينهم، فقد قال بوجوب الرياسة على كل حال».(4)وعليه فإنّ لزوم الحكومة والإمامة وإقامة النظام الإسلامي بعد الرسول الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) من القضايا التي أجمعت عليها الأمة.
نعم الخوارج في بداية أمرهم كما هو المرويّ في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): ذهبوا إلى القول ب-«لا إمرة إلا لله»(5)؛ لكن استقرّ رأيهم على الحاجة إلى الإمام بعد ما أفتوا في البداية بعدم الحاجة إلى الإمام والسلطة لمّا أمّروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي.(6)
ص: 76
ثمة خلاف شاسع بين السنّة والشيعة في كيفية استمرار النظام السياسي وبقاء الإمامة بعد اتفاقهم على اصل ضرورتها ولزوم استمرارها، فعلى رأي الخاصّة وتابعي مدرسة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أنّ مسألة الإمامة مسألة كلامية وتدخل في موضوعات علم الكلام فإنّ الكلام يهتمّ بدراسة العقائد الإسلامية، وموضوعه ذات الله تبارك وتعالى وصفاته وأفعاله في الدنيا والآخرة وبما أنّ نصب الإمام من باب اللطف واجب، فالإمامة مسألة كلامية عقائدية. وأما على حسب رأي العامّة فالإمامة تدخل في الفروع والمسائل الفقهية الباحثة عن التكاليف الشرعية ومن تكاليف المجتمع تعيين الإمام. فعلى رأي جمهور العامّة أن الإمامة (وهي رياسة عامه في أمور الدين والدنيا وخلافة الرسول في إقامة الدين وحفظ حوزة الملّة) فريضة إلهية ولكن نصب الإمام عندهم:
أوّلًا: واجب شرعي وتكليف على الأمةثانيًا: من شروط الإمام عندهم: الاجتهاد في الأصول والفروع ليقوم بأمور الدين، وأن يكون متمكنًا من إقامة الحجج وحلّ الشبه في العقائد الدينية مستقلًّا بالفتوى في النوازل والأحكام والوقائع نصًّا واستنباطًا
ثالثًا: تثبت الإمامة بالإجماع وببيعة أهل الحل والعقد.(1)
ولكنّ الإماميّة خالفوا سائر المسلمين في جميع هذه الأمور الثلاثة استنادًا إلى البراهين العقلية والأدلة النقلية فهم ذهبوا إلى أنّ نصب الإمام:
أوًلًا: واجب على الله تعالى لا على الناس .
ثانيًا: إن شرطها العصمة دون الاجتهاد .
ثالثًا: ثبوتها بالنص دون الإجماع والبيعة .
ص: 77
والمحور الأساس فيما بين هذه الأمور الثلاثة أعني النصب الإلهي والعصمة والنص هو العصمة، والدليل عليه كما بُيِّن في علم الكلام وجوهٌ كثيرة من العقل والنقل. منها: أنّ الإمام حافظ للشرع فيجب أنّ يكون معصومًا، فلو جاز الخطأ عليه؛ لم يبق وثوق بما تعبّدنا الله تعالى به. وأيضا لو وقع منه الخطأ لوجب الإنكار عليه وذلك يضادّ أمر الطاعة له بقوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ (سورة النساء:الآیة59) وأيضا لو وقع منه المعصية لزم نقض الغرض من نصب الإمام.
فشرط الإمام العصمة والعصمة أمر خفيٌّ لا يعلمه إلا الله تعالى فيجب أن يكون نصبه من قبله تعالى ويجب النص على الإمام.(1)
ومنها: أنّ الإمامة والسلطة والتصرف في الأموال والأنفس من شؤون الولاية، والولاية كما مرّ تفصيله منحصرة في ذاته تبارك وتعالى، فهو الولي المطلق على كافّة الناس والأمر والنهي والإلزام والتكليف على العباد حقّ طلق لله تعالى فإنّ جميع الأشياء ملك له تعالىحقيقةً، فالملكية بيده تعالى بحقيقة الملكية وبيده ملكوت كل شيء وليس لغيره الولاية اللهم إلا أن يعطي هو تعالى الولاية لمن شاء من العباد. هذا ثابت بحكم العقل وتأييد النقل: قال تعالى: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وأباؤكم مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ». (سورة يوسف: الآية 40)
فالآية تدلّ صراحةً على أن حقّ تشريع الأحكام منحصر به تعالى والمراد بالحكم هو التعبير عن الرأي، وجعل الواجبات، أو هو نفس النظر المُعبّر عنه، أو الواجبات المجعولة فلا ريب في أنّ جميع الإلزامات الصادرة عن النظام السياسي يصدق عليها الحكم فيجب أن يكون برضاه وإذنه والاّ لا
ص: 78
اعتبار به، ويكون من مصاديق العبودية لغيره تعالى؛ وقد أمر وحكم بأن لا نعبد إلا إياه.
فالمستفاد من الضرورة العقلية والأدلة المتواترة النقلية أن الولاية والإمامة وزعامة الأمة مشروطة بإذن من الله وجعل منه تبارك. كما هي مشروط بالعصمة. هذا بحسب الكبرى
أما بحسب الصغرى والبحث المصداقي، فقد نبیِّنَ في محلّه أن النصوص المتواترة والمعتبرة سندًا والصريحة دلالة تدلّ على أنّ خلافة الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وإمامة الأمة بعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) مختصّة بأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ثمّ بالأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من ولده (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولنشر إلى بعضها تيمّنا:
فمن الآيات قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾. (سورة المائدة: الآية 55)فإنّ الأوصاف الثلاثة اجتمعت في علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وبما أن كلمة «إنّما» تدلّ على الحصر وأنّ الوليّ يفيد الأولى بالتصرّف فالآية تدلّ على أنّ الولاية بعد الله تبارك وتعالى وبعد الرسول الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) تصل إلى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).(1)
ومنها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾. (سورة النساء: الآية 59)
فإنّ إطلاق الطاعة المأمور بها في الآية المباركة دليلٌ واضحٌ على ثبوت حقّ الولاية للرسول وأولي الأمر، والرجوع إلى روايات كثيرة فيها صحاح معتبرة يعطي ويوضح أنّ المراد بهم أمير المؤمنين وأبنائه المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).(2)
ص: 79
ومنها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾. (سورة التوبة: الآية 119)
حيث أمر تعالى بالكون مع الصادقين أي الذين يضمن منهم الصدق ولا يتحقّق ذلك إلا في حقّ المعصوم؛ إذ غيره لا يضمن صدقه على نحو العلم واليقين، ولا معصوم غير علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالإجماع.(1)
حيث إنّ النبيّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) قال لعليّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلا أنّه لا نبيّ بعدي». وتواتر نقل هذا الحديث بين المسلمين جميعًا.(2)
وتفصيل سائر الأدلّة وشرح الاستدلال بها مذكورٌ في كتب الكلام.(3)
هذا تمام الكلام في مسألة الإمامة، واستمرارها وكيفية بقاء الدولة الإسلامية بعد عصر النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، حسب رأي الطرفين من المسلمين شيعةً وسنّةً.
فإن النبيّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) قال في غدير «خم» في طريق رجوعه من حجة الوداع: «معاشر المسلمين ألست أولى بكم من أنفسكم»؟ قالوا: «بلى» قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «من كنت مولاه فعليٌّ مولاه. اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله». وقد نقل المسلمون كافّة هذا الحديث نقلًا متواترًا.(4)
بعد ثبوت عدم صحّة الفصل بين الإسلام والسياسة، وثبوت أنّ جلّ أحكامه إن لم يكن كلّها على صلة بشأن المجتمع وإدارته؛ وبعد ثبوت الولاية للنبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) والأئمة الطاهرين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بتنصيب إلهيٍّ؛ فوّض إليهم إدارة المجتمع؛
ص: 80
فكانوا ساسة العباد، وجمع الله لهم رئاسة الدّين والدنيا. ومن شروط الإمامة العصمة والنصّ والتعيين الإلهي. ويقع البحث في حكم إقامة الدولة وتأسيس النظام الإسلامي في صورة عدم إمكان التواصل مع المعصوم.
فالمسألة هي أنّه إذا لم يتصدَّ المعصوم لإقامة الحكم الإسلامي، إما لعدم بسط يده، لأجل طروء العوائق المانعة من ذلك كما لو استبدّ ظالمٌ بالسلطة، وإما لضرورة غيبته ولزوم كونه مستورًا عن الناس. وعلى أيٍّ من الاحتمالين أو غيرهما، فالسؤال هو: ما هو حكم إقامة النظام الإسلامي في تلك الظروف والأزمنة علمًا بأن أمد المانع الثاني طال حتّى استوعب حوالى اثنتي عشر قرنٍ في حالة الإمام الثاني عشر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالَی فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ بل أكثر من ذلك إذا نظرنا إلى سائر الموانع التي كانت معاصرة لحياة سائر الأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) قبل الغيبة؛ حيث لم تكنأيديهم مسبوطةً، ولم يتمكّنوا من إقامة الدولة الشرعية إلا في سنوات قليلة من حياة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وشهور من حياة الإمام الحسن بن على المجتبى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ). ففي هذه الظروف والشروط التي لا يتمكّن المعصوم من إقامة النظام السياسيّ الإسلاميّ لعدم بسط يده أو لغيبته فما هو حكم الشارع الحكيم بالنسبة إلى هذه المهمة التي ليس ثمة ما هو أهم منها في حياة الإنسان الاجتماعي؟ والسؤال كما يظهر لا يختصّ بعصر الغيبة بل يشمل عصر الحضور أيضًا. وبعبارة أخرى: يمكن توسعة مصطلح الغيبة وتعميمه ليشمل عصر عدم بسط يد الإمام وعدم تمكّنه من إقامة القسط والعدل ونشر المعارف الإلهية. فمثل هذا العصر في الحقيقة يعتبر من الغيبة؛ لأنّ جوهر السؤال هو البحث عن الحكم الشرعيّ لإقامة الدولة مع عدم تمكّن الإمام من إقامة العدل والنهوض بأعباء الإمامة وقيادة المجتمع، وعجز المؤمنين عن مدّ يد البيعة إلى الإمام ومعاونته على أداء مهمّته.
فمسألتنا هي أنّ الشارع الحكيم هل اكتفى بجعله الإمامة والولاية للائمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فقط؟ فمن جهةٍ كلّفهم بإقامة الحكم مع توفّر الظروف ووجود المقتضي وعدم المانع، ومن جهة أخرى كلّف الناس بنصرتهم
ص: 81
وطاعتهم وبيعتهم وإعلان التبعية لهم؛ ولكن اكتفى بهذا المقدار وليس له حكمٌ آخر ولا تشريعٌ بديلٌ خاصٌّ بصورة عدم تحقق الظروف وعدم توفّر الشروط اللازمة لإقامة العدل الإسلامي على يد المعصوم. فكأنّه رفع قلم التكليف عن ذمّة الناس ولم يطالبهم بإقامة السياسة الإسلامية. هذا هو الاحتمال الأول.
ولكن ثمّة احتمال آخر وهو أنّ الشارع الحكيم جعل على عاتق الأمة ولو بالعنوان الثانوي وظيفةً أخرى في فرض الاضطرار وظرف الضرورة وعدم إمكان تحقّق الإمامة بالأصالة والعدل المحض، فهناك طريقٌ آخر للوصول إلى الحكم الإسلامي وتحقق الولاية الشرعية وهي الإمامة بالنيابة؟ فدراسة هذين الاحتمالين هي محل البحث في هذه المسألةوهو كما ذكرنا لا يختصّ بعصر الغيبة؛ بل يشمل عصر الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وزمن قبض أيديهم وعدم تمكّنهم من إقامة الدولة.
ثمّ بعد اتّضاح موضوع المسألة، وبعد تحرير محل النزاع يجب أن ندرس الموضوع على مراحل ثلاث.
في جواز إقامة الدولة الإسلامية وشرعية تأسيس دولة العدل الإسلامي بل ضرورته ووجوبه في زمن قبض يد المعصوم كعصر الغيبة مع التمكّن من تأسيسه وإقامته في بعض النواحي من العالم.
بعد الفراغ من دراسة المرحلة الأولى وإثبات الجواز؛ بل وجوب إقامة الحكم الإسلامي، يقع البحث في مقوّمات هذه الدولة وميزاتها ويجب البحث بشكل خاص عن شروط قائد هذه الدولة وإمامها الذي جعلت له ولاية أمر الأمة والذي نصّب لإقامة الحكم الإسلامي.
توضيح ذلك: أنّ هرم السلطة وتأسيس النظام في الإسلام يشبه من بعض الوجوه سائر الأحكام الشرعي كالصلاة مع الطهارة المائية ثمّ الطهارة الترابية
ص: 82
في صورة الاضطرار وعدم التمكّن من الماء، وأيضًا كالصلاة من قيام وجلوس التي لها نظامٌ خاصٌّ ومراتب مختلفة بحسب ظروف المصلّي وشروطه في إقامتها:
ففي المرتبة الأولى يجب عليه إقامة الصلاة عن قيامٍ.
ثم في المرتبة الثانية وفي صورة الاضطرار يجب إقامة فريضة الصلاة عن قيام ولكن مستندًا.ثم في المرتبة الثالثة وفي صورة عدم التمكّن من القيام ولو مستندًا، تجب إقامتها عن جلوس ثم في المرتبة الرابعة وفي صورة عدم التمكن من المراتب السابقة تجب إقامتها مضطجعًا على الجانب الأيمن ثم على الأيسر.
وهكذا إلى آخر مراتب الاضطرار كالصلاة مستلقيًا، فنرى وجود نظامٍ من الأحكام والحالات التنازلية على حسب المكلفين، ونواجه نظير هذه الأنظمة في كثير من الأحكام الشرعية كالصوم والحج وغيرهما.
ففي مسألتنا هذه أعني إقامة العدل وتأسيس النظام السياسي للإسلام يكون السؤال: هل لها نظامٌ ومراتب متنازلة بحسب ظروف الضرورة والاضطرار، فيكتفى بالحكم الظاهري بدلًا عن الحكم الواقعي ويكتفى بالفقيه العادل نيابةً عن الإمام المعصوم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) كالصلاة والصوم والحج؛ على حسب نظام الأيسر فالأيسر؟ أم لا بل ليس لها إلا مرتبة واحدة فقط وهي إقامة العدل المحض والحكم الإسلامي المطابق للواقع ببركة وجود النبيّ الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) والعترة الطاهرة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من وُلده؟
فعلى الاحتمال الأول يكون لإقامة النظام السياسي الإسلاميّ مراتب مختلفة؛ من مرتبة الحكم الأوليّ إلى مراتب أخرى وسلسلة هذه المراتب على النحو الآتي:
المرتبة الأولى: إقامة العدل المحض والحكم الإسلامي الواقعي بإمامة المعصوم.
ص: 83
المرتبة الثانية: إقامة العدل على حسب الميسور والحكم الإسلامي الظاهري بإمامة الفقيه العادل.
المرتبة الثالثة: إقامة العدل على حسب الميسور والاكتفاء بالحكم الإسلامي الظاهري بإمامة المؤمن العادل بإذن الفقيه العادل.
المرتبة الرابعة: إقامة العدل على حسب الميسور والاكتفاء بالحكم الظاهريّ الإسلامي بإمامة المؤمن العادل مع عدم التمكّن من الفقيه وعدم التمكن من تحصيل إذنه.المرتبة الخامسة: التصدّي للأمور الحسبيّة وتنفيذ بعض الأحكام ولو كان حكمًا واحدًا بقدر المستطاع للفقيه العادل إلى غير ذلك من المراتب.
وهذا هو المسلك الذي سلكه السيد الإمام الخميني (قُدّس سِرّه)، وسنزيده شرحًا في المسألة التالية بعون الله وتوفيقه إن شاء الله.
ثم بعد الفراغ عن المرحلتين، يقع البحث في كيفية تعيين وليّ الأمر في عصر الغيبة
للبحث عن حكم إقامة النظام السياسي للإسلام في زمن الغيبة وعدم التمكن من الإمام المعصوم لإقامة العدل الإسلامي؛ ثمّة منهجان وطريقان أساسيان لدراسة الموضوع وبيان الرأي في المسألة: نسمّيهما مسلك المشهور ومسلك الإمام الخميني (قُدّس سِرّه)
تثبت الولاية للنبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) ثم للأئمة الطاهرين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بنصّ إلهي بالولاية
ص: 84
على الأمّة وإمامتها، وبالنسبة إلى عصر الغيبة وعصر قبض يد المعصوم، بشكل عامٍّ المسلك
المشهور بين أصحابنا هو القول بثبوت الولاية للفقيه الجامع للشرائط نيابةً عن الأئمة الطاهرين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فعلى حسب هذا المنهج يكون للفقيه حقّ الولاية الإلهية ويعمل على إقامة الدولة الإسلامية وتأسيس النظام السياسي الإسلاميّ في عصر الغيبة وقبض اليد، فكأنّهم لإثبات ضرورة الدولة ومراتب الولاية سلكوا قوس النزول حسب الترتيب من الأعلى إلى الأدنى.
علي حسب ما يُرى في كلمات السيد الإمام الخميني (قُدّس سِرّه)، فإنه لإثبات ضرورة الدولة الإسلامية يسلك قوس الصعود حيث إنّه في الخطوة الأولى يثبت أولًا ضرورة إقامة الدولة الإسلامية، ووجوب الاهتمام بشأنها في عصر حضور النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وعصر حضور المعصوم؛ حيث إنّ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أسّس دولته في المدينة المنورة، وأيضًا أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أقدم على تسنّم مقاليد الحكم بعد تمكنه لذلك وبيعة الناس له.
ثانيًا يثبت السيد الإمام (قُدّس سِرّه) ضرورة إقامة الدولة في عصر الغيبة الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأنّها تكليف لا بدّ منه على الأمّة الإسلامية.
ثم في الخطوة الثانية يدرس شروط الحاكم الذي بيده ولاية أمر الأمة وزعامة إدارة المجتمع الإسلامي مع غياب الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وفي ضمن الشروط يتكلم عن الفقاهة والعدالة والكفاءة، ويصل أخيرًا إلى شرطية الفقاهة في الحاكم، ويستنتج أنّ الولاية ثابتة للفقيه العادل وأنّه منصوب لزعامة الأمّة وإقامة الحكم في عصر الغيبة.
فهذا المسلك الذي سلكه السيد الإمام الخميني (قُدّس سِرّه) في البحث عن الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه.
إنّ الفارق بينهما يظهر في أمور عدّة:
ص: 85
أولا: مسلك المشهور يهتمّ بمسألة الولاية ثم في أثناء البحث يدخل في مسألة الدولة، فبناءً على المسلك الأول ثبوت الولاية للفقيه لا يختصّ بصورة التمكّن من إقامة الحكومة الإسلامية في زمن من الأزمان، وفي ناحية من نواحي العالم؛ بل الولاية ثابتة للفقيه مطلقًا؛ سواء كانت يده مبسوطةً لإقامة النظام السياسي أو مقبوضةً، فإنّ الولاية مجعولة للفقيه، وبحكم ولايته يتصدّى للأمور الحسيبة، ويتصرّف في أموال الإمام ويقيم الحدود، ويقضيبين المتنازعين إلى غير ذلك من الأمور المرتبطة بشؤون الإمام المعصوم بالأصالة وبالذات. وإن لم يتمكّن من تأسيس النظام السياسيّ الإسلاميّ.
وأما المسلك الثاني يهتمّ أولًا بمسألة الدولة والسلطة السياسية ثم أثناء البحث يأتي الكلام عن شروط الحاكم ولزوم فقاهته. فبناء على المسلك الثاني، فالمسألة تختص بصورة تمكن الفقيه من إقامة النظام الإسلامي في ناحية من النواحي وفي عصر من الأعصار، فلا يهتمّ هذا المسلك لصورة قبض يد الفقيه.
ثانيًا: بناءً على المسلك الأوّل ثمّة من التزم بثبوت الولاية للفقيه في دائرة الأمور الحسبية فقط، ولم يوسّع دائرة الحسبة لتشمل إقامة الدولة الإسلامية. وأما بناءً على المسلك الثاني فإنّ ضرورة الحكومة الإسلامية تقتضي الحكم بالولاية المطلقة والعامّة للفقيه في شعاع أوسع من الأمور الحسيبة المشهورة. اللهم إلا أنّ يوسّع الأمور الحسيبة بحيث تشمل الدولة ونظام الحكم كما ذهب إليه عددٌ من الفقهاء ليتمكّن بها من تأسيس النظام الإسلامي.
ثالثًا: بناءً على المسلك الأول الولاية الثابتة للفقيه هي حكمٌ شرعيٌّ مجعولٌ من قبل الشارع. وهذه الولاية المجعولة الاعتبارية تقع موضوعًا لأحكام شرعيّة مختلفة كجواز تصرّفه في الأموال والأنفس، ونفوذ حكمه وقضائه إلى غير ذلك. وأمّا بناء على المسلك الثاني فإنّ الدولة والنظام السياسي من المواضيع العرفية التي حكم الشارع بضرورة إيجادها كسائر التكاليف الواجبة التي يجب القيام بها. نعم بعد التمكّن من الإقامة يجب القيام بها على أساس الشريعة الإسلامية من الحكم بالعدل وتنفيذ الأحكام الإلهية وإجراء الحدود وغيرها.
ص: 86
رابعًا: بناءً على المسلك الأول لا ملازمةَ قطعيةً بين ثبوت الولاية للفقيه وبين ضرورة إقامة الدولة الإسلامية، فلأحد أن يلتزم بثبوت الولاية للفقيه، دون أن يلتزم بوجوب إقامة الدولة الإسلامية في عصر الغيبة، أو يذهب إلى ضرورة إقامة الحكم الإسلامي؛ ولكن لايرى ثبوت الولاية للفقيه، أو لايرى الفقاهة شرطًا للحاكم، فكلٌّ من ضرورة الدولة الإسلامية وولاية الفقيه بحاجة إلى البرهان وإقامة الدليل.
وهكذا بناءً على المسلك الثاني أيضًا بحسب الرأي والنظر لا ملازمة بين القول بضرورة إقامة الدولة الإسلامية، وبين القول بثبوت الولاية للفقيه فلأحدٍ الالتزامُ بالأوّل دون الثاني. فكماإنّ الأول أعني ضرورة الحكم بحاجة إلى الاستدلال وإقامة الدليل، فكذلك الثاني أعني ثبوت الولاية للفقيه، واشتراط الفقاهة للحاكم محتاجين إلى البحث ودراسة الأدلة. نعم الحق والصواب كما سيأتي تفصيله هو القول بضرورة الدولة الإسلامية كما إن الأدلة تقضي بثبوت الولاية المطلقة للفقيه، وإن الفقاهة شرط لشرعية السلطة السياسية في عصر الغيبة.
خامسًا: يعتمد المسلك الأول في بداية مسيرته المنهج الكلامي وإن انتهى إلى المنهج الفقهي؛ بخلاف المسلك الثاني حيث إنه في البداية يسلك سلوكًا فقهيًّا؛ ولكن في النهاية يستعين بالأصول والقواعد الكلامية لتعيين الحاكم ولإثبات شرعية تصرّفاته.
ص: 87
ص: 88
لايخفى أن هناك طائفة من الأدلة العقلية والنقلية قد أقيمت لإثبات ضرورة إقامة النظام السياسي الإسلامي، والاستدلال على وجوب تأسيس الدولة الإسلامية في عصر الغيبة وزمن عدم بسط يد الإمام المعصوم. فلنبدأ بدراسة هذه الأدلة ولنشرع في بيان الوجه العقلي المذكور في كلمات السيد الإمام الخميني (قُدّس سِرّه) في تقريب المسألة:
يظهر من تراث أصحابنا وسيرتهم وتاريخ حياتهم أمورٌ نعرضها في ما يأتي:
أولًا: بحسب النظر وبيان الفكرة فإنّ أول من تعرّض لإثبات وجوب إقامة الدولة الإسلامية بشكلٍ صريحٍ وواضحٍ واستدلّ عليه، هو السيد الإمام الخميني (قُدّس سِرّه).
ثانيًا: بحسب الإقدام والتوفيق فأوّل فقيهٍ وفّق لأداء هذه الفريضة واجتهد لتحقيق حُلُم الأنبياء على حسب التعبير المنقول عن الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قُدّس سِرّه) في يوم انتصار الثورة الإسلامية (22/11/1357ه-.ش) وأسّس الحكم السياسي المبتني على الشريعة الإسلامية ومدرسة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) هو السيد الإمام روح الله الموسوي الخميني (قُدّس سِرّه).
ص: 89
وفي مقام تقريب الوجوه العقلية للمسألة: يقول:«إن الأحكام الإلهية سواء الأحكام المربوطة بالماليات والسياسيات، أو الحقوق لم تنسخ؛ بل تبقى إلى يوم القيامة. ونفس بقاء تلك الأحكام يقضي بضرورة الحكومةِ وولايةٍ تضمن حفظ سيادة القانون الإلهي وتتكفّل لإجرائه ولا يمكن إجراء أحكام الله إلا بها لئلاّ يلزم الهرج والمرج، مع أن حفظ النظام من الواجبات الأكيدة واختلال أمور المسلمين من الأمور المبغوضة. ولا يقوم ذا ولا يسّد عن هذا إلا بوالٍ وحكومةٍ. مضافًا إلى أن حفظ ثغور المسلمين عن التهاجم، وبلادهم عن غلبة المعتدين واجبٌ عقلًا وشرعًا، ولا يمكن ذلك إلا بتشكيل حكومة. وكلُّ ذلك من أوضح ما يحتاج إليه المسلمون. ولا يعقل ترك ذلك من الحكيم الصانع، فما هو دليلُ الإمامة بعينه دليلٌ على لزوم الحكومة بعد غيبة ولي الأمر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالَی فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ. سيما مع هذه السنين المتمادية ولعلها تطول إلى آلاف من السنين والعلم عنده تعالى».(1)
وفي آخر كلامه (قُدّس سِرّه) يؤكد أنّ «لزوم الحكومة لبسط العدالة والتعليم والتربية، وحفظ النظام، ورفع الظلم وسدّ الثغور والمنع عن اعتداء الأجانب من أوضح أحكام العقول من غير فرق بين عصر وعصر أو مصر ومصر».(2) انتهى كلامه (قُدّس سِرّه)
أقول: هذا الكلام منه (قُدّس سِرّه) كلامٌ مجمل يشير فيه إلى وجوه مختلفة من الأدلّة الدالّة على المدّعى، وبحاجة إلى شرح وتفسير فلنشر إلى شرح هذه الوجوه وتقريب الاستدلال بها.
هذا الدليل مذكورٌ في صدر كلام السيد الإمام (قُدّس سِرّه)، وهو بحسب التحليل مؤلّفٌ من مقدمات عدّة:
ص: 90
الأحكام الإلهية والتشريعات الإسلامية في شتّى المجالات، بدءًا من الأمور المرتبطة بالأموال والسياسة والأُسرة وانتهاءً إلى القضاء والحدود والجهاد، ومن أوّل الأبواب الفقهية بحسب ترتيب الفقه الإسلاميّ إلى آخر أبوابه، هذه التشريعات المقرّرة والمسائل التي يبحث عنها الفقهاء غير منسوخة؛ بل كلها أحكامٌ حيّة باقية، وقامت الحجج المعتبرة على ثباتها إلى يوم القيامة . ولا يسع أحدًا أن يدّعي نسخها في عصر الغيبة، أو القول بأنّها كانت أحكامًا موقتةً مرهونة بأوقات خاصّة انتهى أمدها. فإنّ هذه الدعاوى خلاف الضرورة ممّا عُلِم من خطابات هذه الأحكام وأدلّتها الموجودة في الكتاب السنه الموجِهّة خطاباتها إلى كافّة المسلمين في جميع الأزمنة والأمكنة. والشاهد على ذلك أن هذه التشريعات كانت محلّ بحثٍ في تراثنا الفقهي من عصر الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) إلى يومنا هذا، وقد تعرّض جميع الفقهاء وعلماء المذاهب الإسلامية للبحث في هذه التشريعات، وما تفوّه أحد منهم بنسخها، ولا احتمل عدم بقائها، وما توهّم أنّها كانت مؤقتةً؛ بل اتّفق الجميع بحكم الضرورة والبداهة الفقهيّة، بأن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة. فإنّ النّبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) خاتم الأنبياء وشريعته خالدة وما دام لم يثبت بالحجة والبينة القطعية نسخ حكم أو توقيته يحكم بعمومه الأزماني.
لا شكفي أنّ الغرض من التشريعات الإسلامية ليس إلا تنفيذها وتطبيقها. ولا يعقل من حكمة الباري الحكيم أن يشرِّع الأحكام، ويقنن القوانين المختلفة، ولا يريد تنفيذها وتطبيقها؛ فإنّ التشريع بنفسه لا قيمة له ولا يُطلب لنفسه؛ بل هو مقدمة وخطوةٌ أولى في طريق التطبيق والعمل، حتى تتحقق الأغراض والأهداف والغايات المتوقعة منه، ومن هذه الغايات المرجوّة إقامة العدل والقسط ورفع الظلم والإجحاف وبسط المعروف وسدّ أبواب المنكر والفحشاء والفساد.
ص: 91
إنّ التشريعات الإسلامية وإنْ سلّمنا بأنّ تنفيذ قسم منها وامتثال بعضها ليس بحاجة إلى الأجهزة والمؤسّسات والسلطات كالتكاليف الموجّهة إلى الأفراد التي تطالبهم بالصلاة والصوم؛ ولكن أكثر التشريعات الإسلامية؛ بل جلّ الأحكام الشرعية يستحيل تنفيذها وتحقيقها وامتثالها في الخارج وفي وسط المجتمع إلا بالاستعانة بالأنظمة السياسية والدولة والحكومة، وأمثلة هذا النوع كثيرةٌ منها: الجهاد، وإقامة الحدود والتعزيرات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقضاء بين المتخاصمين، ورفع الظلم، ودفع الفساد، وإحقاق الحقوق المالية وغير الماليّة، وحماية المجتمع من الفحشاء، بل حتّى إقامة الصلاة وتحويلها إلى ظاهرة اجتماعيّة، وغيرها من الأحكام الاجتماعية والسياسية المرتبطة بإدارة المجتمع. فإنّ هذه الأحكام والقوانين لا يمكن تطبيقها وتنفيذها، إلا تحت لواء نظامٍ سياسيٍّ صالح عادل يستطيع أن يحققها حسب ما هو المطلوب شرعًا وعقلًا والمقررّ فيهما.
النتيجة: يجب إقامة الدولة الإسلامية مقدّمة لتنفيذ الأحكام الإلهية والتشريعات الإسلامية المحتاجة إلى السلطة والقوّة وتمهيدًا لتحقق الحكمة المكنونة في هذه التشريعات التابعة للمصالح والمفاسد الواقعية فيها وإطاعة للأوامر واحترازًا عن النواهي والمكروهات وتلبية للإرادات الربوبية.
يشير السيد الإمام (قُدّس سِرّه) في طيّات كلامه الشريف إلى الدليل الثاني، وهذا الدليل أيضًا يتشكّل من مقدّمات هي:
الأولى: إن حفظ نظام المجتمع الإسلامي من الواجبات الأكيدة في التشريع الإسلامي وإن الإخلال بأمور المسلمين، وما يترتّب عليه من الهرج والمرج، من المحرمات المبغوضة التي لا يرضى الشارع الحكيم بتحقّقها في المجتمع.
ص: 92
وعلى هذا فالمراد من حفظ النظام في هذا الدليل ليس حفظ النظام السياسي؛ بل المراد منه ما يقابل الهرج والمرج مما يوجب اختلال نظام المجتمع.
الثانية: لا يتحقّق حفظ النظام الاجتماعي ولا يسدّ باب الاختلال، إلا بحكومة عادلة.
النتيجة: يجب إقامة الدولة لحفظ نظام المجتمع الإسلامي، والمنع من اختلال أمور المسلمين.
ثمّ إن هذا الدليل وإن كان يستشكل عليه بحسب ظاهره، ويرد عليه بأنّه أعمّ من المدّعى لأنّ حفظ نظام المسلمين والمنع عن اختلال أمورهم وإن كان أمرًا ضروريًّا ولا يتحقّق ذاك ولا يسدّ باب الاختلال إلا بوجود دولة وسلطة سياسية؛ لكنّ هذا الدليل لا يثبت وجوب كونها إسلاميّة، فالنظام قد يتحقّق بدولة غير إسلامية، فإنّ الدولة القوية القادرة بالأخذ بزمام الأمور تستطيع أن تحفظ النظام وتمنع من اختلال الأمور؛ فالمستنتج من هذا الدليل هو ضرورة إقامة الدولة ولو لم تكن إسلامية مع أنّ هدف الاستدلال هو إثبات وجوب إقامة الدولة الإسلامية.
ولكن يمكن أن نردّ هذا الإشكال؛ بالقول بأنّ المطلوب في الإسلام ليس حفظ نظام المجتمع الإسلامي وسدّ باب اختلال الأمور وفقًا لأيّ قاعدة عرفية أو قانون وضعيّ، أو طريقة تابعة لأيّ إرادة سياسية منبعثة عن أيّ حاكم ووالٍ، برٍّ أو فاسقٍ؛ بل ما يطلبه الشارع الحكيم هو أن يحفظ النظام وفق قواعد التشريع الإسلامي، وعلى أساس مراعاةحدودها وشروطها وبأسلوب موافقٍ للحكمة والعدل والإنصاف ومطابقٍ للقيم ومكارم الأخلاق، ومنسجمٍ مع سيرة الأنبياء وآداب الأولياء.
ولا شك في أن تحقّق هذا النظام الاجتماعي غير ميسّر، إلا تحت ظلال الدولة الكريمة الإسلامية المتخلِّقة بأخلاق الأنبياء والمتربية بتربية الأولياء.
ص: 93
فالعقل وإن حكم بضرورة النظام والوقوف في وجه الإخلال به؛ ولكن العقل يحكم:أوّلًا: بأن هذا يجب أن يكون موافقًا للربوبية التشريعية الإلهية، ومطابقًا للحدود التشريعية الإسلامية؛ فإنّ العقل لا يرتضي استقرار النظام والقضاء على الاختلال والهرج والمرج بالاستعانة بطرقٍ غير مشروعةٍ واعتماد الوسائل المحرّمة كالظلم والتعدّي والإجحاف.
وثانيًا: بأنّ الدولة التي تأخذ بزمام الحكم وولاية الأمر لاستقرار النظام بالاستناد إلى طرق غير مشروعة، هي دولةٌ لا شرعية لها، ولا يجوز الإصغاء إليها، ولا تولّيها، ولا الالتزام بأوامرها ونواهيها؛ لأن ولايتها تعدّ من ولاية الشيطان والطاغوت التي يجب الكفر بها والوقوف أمامها بحكم العقل والشرع.
فمراد السيد الإمام (قُدّس سِرّه) والله العالم من دليل حفظ النظام لإثبات ضرورة الدولة ليس النظام بما هو هو؛ بل النظام المبنيّ على المقررات والقوانين الشرعية، والدولة التي تستمدّ ولايتها من مبدأ الولايات الإلهية.
هذا الدليل أيضًا مركّبٌ من مقدمات:
الأولى: حفظ ثغور المسلمين من اعتداء المعتدين وهجومهم واجبٌ عقلًا وشرعًا
الثانية: لا يمكن حفظ الثغور إلا بتأسيس الدولة.
النتيجة: يجب تأسيس الدولة تمهيدًا لحفظ ثغور بلاد المسلمين، ومنعًا لتغلّب الأعداء على أعراضهم وأموالهم وأنفسهم.
وهذا الدليل أيضًا وإن كان يبدو من ظاهره أنّه أعم من المدّعى؛ لأنه لا يُستنتج منه إلا ضرورة إقامة نظامٍ سياسيٍّ ذي شوكة يستطيع الأخذ بزمام الأمور
ص: 94
وحفظ ثغور المسلمين وحدود البلاد، ولا يستفاد منه وجوب أن يكون النظام الحامي لثغور المسلمين دولة إسلامية.ولكن كما مرّ في الجواب عن الإشكال الوارد على الدليل الثاني نجد:
أوّلًا: أنّ العقل يحكم بحفظ ثغور المسلمين؛ ولكن من الطرق المشروعة ووفقًا للتشريعات الإلهية، فالدولة المتولّية حفظ ثغورها يجب أن تحفظ الحدود والثغور بالتمسك بالشريعة الإسلامية، ويجب أن تكون دولةً إسلامية.
ثانيًا: الدولة التي تأخذ بزمام الحكم وتمارس حفظ الثغور يجب أن تكون مأذونةً في تصرّفاتها وولايتها من قِبل صاحب الولايات، كما ذكرنا في الأبحاث السابقة فإنّ الولاية والسلطة لله وحده (تبارك وتعالى) وملاك شرعية الدولة موقوفٌ على إذنه (تبارك وتعالى) وإلّا تكون هذه الدولة طاغوتًا يجب الكفر به، ولا تجوز الطاعة والبيعة لها.
هذا تمام الكلام في الأدلة الثلاثة المذكورة في كلام السيد الإمام (قُدّس سِرّه) لإثبات ضرورة تشكيل الدولة وتأسيس الحكم الإسلامي مع تحليل وتقريب منّا.
وأخيرًا يجب أن نلفت النظر إلى أن مغزى هذه الأدلة والحدّ الوسط لهذه البراهين بحسب مصطلح أهل المنطق هو التمسك بالحكمة الإلهية فإنّ الحكمة واللطف الإلهي كما تحكم بضرورة إمامة المعصوم والنصّ عليه ونصبه، فكذلك في عصر الغيبة وعدم بسط يد المعصوم فإنّها تحكم بضرورة إقامة الدولة الإسلامية.
نعم هذه الوجوه العقلية المذكورة في كلام السيد الإمام (قُدّس سِرّه) لا تُبَيِّن شروط الحاكم ولا تتعرّض لمواصفات الولي الذي يأخذ بولاية الأمر، ولا تشير إلى أنه هل يجب أن يكون فقيهًا عادلًا أم لا؟ بل تثبت أصل ضرورة إقامة الدولة الإسلامية من دون نظر إلى سائر الأمور والشروط.
ودراسة هذه الأمور موكولةٌ إلى المرحلة الثانية من البحث، وستأتي في القسم الثاني إن شاء الله تعالى.
ص: 95
قد عقد ثقة الإسلام الكليني (قُدّس سِرّه) في أصول الكافي بابًا سمّاه «باب الردّ إلى الكتاب والسنة» وأنه ليس شيء من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج الناس إليه إلا وقد جاء فيه كتاب أو سنة... ونقل في هذا الباب أخبارًا كثيرة لا يبعد دعوى بلوغها حدّ التواتر، فلنذكر أوّلًا بعضها تيمّنًا ثم نشير إلى تقريب الاستدلال بها لضرورة إقامة الحكم الإسلامي.
1- حديث مرازم عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: «إنّ الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء، حتى والله ما ترك شيئًا يحتاج إليه العباد، حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن؟ إلا وقد أنزله الله فيه».(1)
2- خبر عمرو بن قيس عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: سمعته يقول: «إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئًا يحتاج إليه الأمة إلا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وجعل لكلّ شيء حدًّا وجعل عليه دليلًا يدلّ عليه وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدًّا».(2)
3- صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «إنّ أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بيّنت للأمّة جميع ما تحتاج إليه».(3)
4- صحيحة عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: سمعته يقول: «إنّ عندنا صحيفة طولها سبعون ذراعًا إملاء رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وخطّه علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)
ص: 96
بيده وإن فيها لجميع ما يحتاج إليه الناس حتى أرش الخدش.»(1)
5- موثقه أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: «خطب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) في حجة الوداع فقال: «يا أيها الناس والله ما من شيء يقرّبكم إلى الجنّة ويباعدكم من النار، إلا وقد أمرتكم به. وما من شيء يقرّبكم من النار ويباعدكم من الجنة، إلا وقد نهيتكم عنه».(2)
هذه جملة من الروايات الكثيرة المتواترة الدالّة على هذا المضمون.
بيان الاستدلال بهذه الأخبار متوقّفٌ على أمور:
الأول: هذه الأخبار تدلّ بصراحة ووضوح على أنّ كل ما يحتاج إليه الناس والأمة في أيّ زمن كان، إلى يوم القيامة قد جاء فيه حكم عن الله في الكتاب والسنّة كما يدلّ على هذا المضمون قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾. (سورة المائدة: الآية 3) فلو لم يكن الدين تامًّا غير ناقص وما انتهى إلى حدّ لا يحتاج إلى شيء خارج عنه ولم يكن كاملًا وما وصل إلى مرتبه يحصل الغرض منه؛(3) ما احتجّ الله على عباده به كما ورد في بعض الأخبار.(4)
وعلى أساس هذا الأصل تكون النسبة بين التشريع الإسلامي وحاجة الأمّة نسبة التساوي، كلّ حاجة لها تشريعٌ، وكلّ تشريع يرفع حاجةً.
الثاني: من الحاجات الضرورية الملحّة للبشر في جميع الأعصار والأزمنة ومنها عصر الغيبة، جعل ولاية شرعية تكون بديلًا عن ولاية الطاغوت. قال
ص: 97
تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾. (1)فالناس في عصر الغيبة من جهة يجب عليهم التولّيلله تعالى ويحرم عليهم تولّي الطاغوت؛ بل الواجب هو الكفر به ومن جهة أخرى تكون زعامة المعصوم وتصدّيه للأمور في عصر الغيبة منتفية.
الثالث: حاجة المجتمع والأمة الإسلامية لا تُقضى إلّا بجعل ولاية أخرى شرعية لتكون بديلًا اضطراريًّا عن ولاية المعصوم وفي طول ولايته.
النتيجة: فهذه الأخبار بعمومها تدلّ على جعل ولاية شرعية أخرى ترتفع الحاجة بها ولا يجوز للحكيم اللطيف إهمال هذه المهمّة، وعدم جعله ولاية شرعيّة ترفع حاجة الأمة الإسلامية بها في هذا العصر.
ثم إن هذه الأخبار ناظرةٌ إلى مقام الثبوت والواقع، ومقام جعل الأحكام، وأما بحسب مقام الإثبات ودراسة الأدلّة فهذه الأحكام المحتاج إليها على أقسام:
1. ما هو موجود عند الأئمة الهداة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ولم يُبيّن للناس، أو بُيِّن ولكن خفي عليهم لظلم الظالمين وكيد الخائنين ونحوه. فهذا القسم يُترك علمه لأهله ولا مجال للبحث فيه.
2. ما هو ثابتٌ ومعلومٌ بالأدلّة القطعية العقلية أو النقلية، تتداوله أيدي الناس.
3. ما هو ثابتٌ ومعلومٌ؛ ولكن بالأدلّة الاجتهاديّة والفقاهتيّة، وثبت بواسطة الأحكام الظاهرية عن طريق الاجتهاد.
ثم إنّه لا شك في أنّ مسألة الدولة الإسلامية، وكونها ضرورةً وواجبةً يعدّ من القسم الثاني. نعم أحكامها الفرعية وما يتشعّب منها يدخل في القسم الثالث.
قال الإمام الخميني (قُدّس سِرّه) في مقام الاستنتاج من هذه الأخبار «وأيّة حاجة
ص: 98
كالحاجة إلى تعيين من يدبِّر أمر الأمة، ويحفظ نظام بلاد المسلمين طيلة الزمان ومدى الدهر في عصر الغيبة، مع بقاء أحكام الإسلام التي لا يمكن بسطها إلا بيد والي المسلمين وسائس الأمة والعباد؟».(1)نعم لا شك في أنّ مراده (قُدّس سِرّه) من قوله «من يدبّر أمر الأمة ويحفظ نظام المسلمين» ليس فردًا معيّنًا وشخصًا خاصًّا جُعِل له هذا المنصب؛ بل المراد هو أصل شرعية الدولة وضرورة إقامة الحكم الإسلامي.
نعم ستأتي الإشارة إلى أمر في الأبحاث القادمة، وهو أنّه لا شك في أنّ هذه الولاية تحتاج إلى وليّ وأنّ هذا الوليّ يجب أن ييتّصف بأوصاف معلومة مبينة، ويجب أن يكون منصوبًا من قبل الشارع لتولّي هذه المسؤولية العظيمة، وهو الفقيه المدير المدبّر العادل الشجاع.
من الوجوه المستدلّ بها على ضرورة إقامة الحكم الإسلامي رواية الفضل بن شاذان المروية في علل الشرائع وعيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن أبي الحسن الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): يتعرّض فيها لبيان علل تعيين أولي الأمر، ومبرّرات الأمر بطاعتهم.
قال الصدوق في علل الشرائع حدّثني عبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري العطّار، قال: حدّثني أبو الحسن علي بن محمد قتيبة النيسابوري قال: قال أبو محمد الفضل بن شاذان النيسابوري.(2)
ورواه في العيون بالسند نفسه، كما رواه بسندٍ آخر عن أبي محمد جعفر بن نعيم بن شاذان، عن أبي عبد الله محمد بن شاذان، عن الفضل بن شاذان أنّه قال:
ص: 99
سمعت هذه العلل عن مولاي أبي الحسن ابن موسى الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فجمعتها متفرّقة وألفّتها...(1)والحديث طويل، نذكر منه موضع الحاجة وهو وجوه ثلاثة يبيّن ويشرح فيها أدلة تدلّ على أنّها لا تختصّ بإمامة المعصوم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بل العلل المذكورة فيها عامّة لكل زمان، تشمل عصر الغيبة؛ بل تشمل زمن عدم بسط يد المعصوم مطلقًا.
قال الراوي: «فإنّ قال قائل: فلِمَ جَعَل أولي الأمر وأمر بطاعتهم؟ قيل: لعلل كثيرة
(الوجه الأول): منها أنّ الخلق لمِّا وقفوا على حدٍّ محدود وأُمِروا أن لا يتعدَّوا تلك الحدود (ذلك الحد: العيون)؛ لما فيه من فسادهم لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم إلا بأن يجعل عليهم فيها (فيه العيون) أمينًا يأخذهم بالوقف عند ما أُبيح لهم، ويمنعهم من التعدّي على ما (والدخول فيما – العيون) حُظِر عليهم؛ لأنّه لو لم يكن ذلك لكان أحدٌ لا يَتْرُك لذّته ومنفعته لفساد غيره، فجُعِل عليهم قيّمٌ (قيمًا – العيون) يمنعهم من الفساد ويقيم فيهم الحدود والأحكام.
(الوجه الثاني): ومنها أنّا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملّة من الملل بقوا وعاشوا، إلا بقيّم ورئيس. لما (ولما – العيون) لا بدّ لهم منه في أمر الدين والدنيا، فلم يَجُز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق ممّا يعلم أنه لا بدّ لهم منه ولا قوام لهم إلاّ به، فيقاتلون به عدوّهم ويقسمون به فيئهم (يقسمون فيئهم – العيون)، ويقيمون به (ويقيم لهم – العيون) جمعتهم وجماعتهم، ويمنع ظالمهم من مظلومهم.
(الوجه الثالث): ومنها أنه لو لم يجعل لهم إمامًا قيمًا أمينًا حافظًا مستودعًا لدُرست الملّة، وذهب الدين وغُيرت السنن والأحكام، ولزاد فيه المبتدعون ونقص منه الملحدون وشبّهوا ذلك على المسلمين؛ إذ قد (لأنّا – العيون)
ص: 100
وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين، مع اختلافهم واختلاف أهوائهم وتشتّت حالاتهم (أنحائهم – العيون)؛ فلو لم يجعل لهم فيها ( خ ل) قيمًا حافظًا لما جاء به الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) لفسدوا على نحو ما بينّاه (بينا –العيون)، وغُيِّرت الشرائع والسنن والأحكام والإيمان، وكان في ذلك فساد الخلق أجمعين».(1)
بحث في سند الحديث:
ذهب إلى اعتبار الحديث عددٌ من المحقّقين: أما من جهة الطريق الأول فإنّ عبد الواحد بن محمد بن عبدوس وإن كان مجهولًا، بحسب وجهة نظر السيد الخوئي(2)؛
ولكنّه من مشايخ الصدوق، وهو يروي عنه كثيرًا، ويترضّى عليه، فهذه القرائن تدلّ على ثقته به واعتماده عليه. وأمّا القول بأن نقل الرواية عن الشخص لا يدل على وثاقته ولا على توثيقه؛ لأنّ الراوي قد يستند إلى أصالة العدالة فيروي عمّن لا يعرف وثاقته، فهذا محلّ منع ونقاش من قبلنا. وبالتالي نرى أنّ كثرة النقل عن شخصٍ دليلٌ كافٍ لإثبات وثاقته عند من يكثر النقل عنه.(3)
أمّا علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري فعدّه النجاشي صاحب الفضل بن شاذان وراوي كتبه، وقال في ترجمته أيضًا: اعتمد أبو عمرو الكشي عليه في كتاب الرجال، وقال: له كتب فهو من العلماء في نقل الحديث، وتلميذ الفضل. وعن رجال الشيخ: أنّه تلميذ الفضل بن شاذان فاضلٌ. وحكم العلامة بصحة روايته، فلا يبعد أن ذلك كله يكشف عن وثاقته؛(4) بل جلالته وإن ذهب بعض إلى عدم اعتباره.(5)
أمّا من جهة الطريق الثاني فإنّ في سند عيون أخبار الرضا: جعفر بن نعيم
ص: 101
بن شاذان، وهو من مشايخ الصدوق يروي عنه مترضيًا عليه، كما عن الوحيد البهبهاني ومحمد بن شاذان أيضًا: كان مرجعًا للناس، قد عدّه ابن طاووس من وكلاء الناحيه، كان يعيش في زمانالغيبة الصغرى وقد يروي عنه الكشي كثيرًا. ولا شك في كون الرجل شيعيًّا إماميًّا. وأمّا من جهة الوثاقة، فلا يبعد إمكان الاعتماد على هذه القرائن والحكم بالوثاقة. وإن ذهب بعض أصحابنا الرجاليّين إلى خلاف هذا الرأي.(1)
وأمّا الفضل بن شاذان النيسابوري الراوي الأوّل للحديث، فهو من الأجلّة ومن عظماء الطائفة. وعن النجاشي: هو في قدره أشهر من أن نَصِفَه. وعن الكشي: إنّه صنّف مئة وثمانين كتابًا.
نعم هنا شيء وهو أنّ الفضل على ما ذكره الشيخ في رجاله من أصحاب الهادي والعسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فكيف يروي هذا الحديث عن الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)؟ وقد يُجاب بأنّه أدرك عصر الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في عهد شبابه، وكان ممّن يحضر مجلسه في خراسان، فلا مانع يمنع من روايته عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، وقد تُوفِّي سنة 260 والإمام الثامن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) استُشهِد سنة 202 أو 203 أو 206.(2)
هذا الحديث وإن كان بظاهره في مقام بيان أدلّة الإمامة وولاية الأئمة الهداة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)؛ ولكن العلل والوجوه المذكورة فيه لا تختص بهم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ولا بزمن حضورهم وبسط أيديهم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بل تشمل عصر غيبتهم وحصرهم وحبسهم في جميع الأعصار، فيدلّ الحديث على لزوم الدولة الإسلامية وضرورة وجودها في عصر الغيبة أيضًا.
فإن حاصل الوجه الأول (الوجه الفقهی): هو لزوم التحفّظ على الأحكام
ص: 102
الإلزامية، وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، وتأديب من يريد التعدّي عن حدّه ومنعه عنه. وهذه العلّة بعينها موجودة في زمن الغيبة، فيجب الحكم بضرورة الدولة الإسلامية فيه.وحاصل الوجه الثاني (الوجه العقلی): أنّ المسلمين كسائر الفرق محتاجون في أمر دينهم وديناهم إلى قيّم ورئيس يقاتلون عدوّهم تحت لوائه، ويقيم هذا القيّم جُمعتهم وجماعتهم فلم يجز في حكمة الحكيم أن يُترك المسلمون، مما يعلم أنّه لا بدّ لهم منه.
وهذه العلة بعينها محقّقة في زمن الغيبة فلا بدّ في حكمة الله الحكيم أن لا يتركهم ممّا لا بدّ لهم منه، وهو جعل الحكومة والولاية الإلهية لهم وعليهم.
وحاصل الوجه الثالث(الوجه الکلامی): لو لم يكن الإمام لدرست الملّة، وذهب الدين، وغُيِّرت الشريعة وشبّه أمر الدين على المسلمين، وكان في مثل ذلك فساد الناس، فالإمام حافظ للدين من التغيير والتحريف والاندراس والبدعة.
وهذه العلة بعينها تقضي بضرورة الإمامة والنظام السياسي الإسلامي لئلا يقع هذا الفساد العظيم.
فبالتأمّل في هذه العلل والأسرار الثابتة والعامّة والشاملة لكل الأعصار والأمصار يظهر أوّلًا: أنّه لا مجال لاحتمال أن يُقال هذه العلل خاصّة بعصر حضور الأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وزمان بسط أيديهم، ولا تتعدّى إلى غيره من الأزمان.
وذلك أن هذه العلل والحِكم ترجع إلى أمور مستمرّة باقية في المجتمع البشري وأمور لا بدّ منها كحفظ الأحكام وتنفيذها ومنع الظالمين والعاصين والأعداء من الفساد والتعدّي والعداوة، فهذه العلل الدائمة والباقية مقتضية للولاية، فلا وجه بعد الغيبة الكبرى أن لا يشرع الشارع الحكيم الولايةَ، وأن لا يدعو إلى إقامة الدولة ولو على يد غير المعصوم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).
ص: 103
وبعبارة أخرى: مع بقاء هذه العلل واستمرارها في عصر الغيبة؛ فلا بدّ من القول على نحو المنفصلة الحقيقية بحسب اصطلاح المناطقة: إمّا من القول بضرورة إقامة الدولة الإسلامية ولو بيد غير المعصوم، وهذا هو مقتضى الحكمة الإلهية، وإمّا من الاعتقاد بترك هذه العلل وتجاهلها فيُفسح المجال للطواغيت وعبدة الشيطان والضالّين المضلّين؛ليحكموا الخلق ويهلِكوا الحرث والنسل ويفسدوا في الأرض، ويظلموا عباد الله ويخرّبوا المساجد ويبثّوا الرذائل والفواحش والمنكرات، ويتعدّوا حدود الله ويسفكوا الدماء.
فهل يجوز للحكيم أن يرضى بالثاني ويترك الأول؟ مع أن ضرورة العقل تراه منافيًا للحكمة الإلهية ومنافيًا لكثير من آيات القرآن الدالّة على وجوب الكفر بالطاغوت، والنهي عن الفحشاء والمنكر، والمنع عن البغي والفساد، والناهية عن الركون إلى الظالمين وغيرها.
فلا يرى العقل إلّا وجوب الاختيار بين أحد هذين الأمرين: إما اعتماد الخيار الأوّل والحُكم بأنّ ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه، والميسور لا يسقط بالمعسور، والضرورات تقدّر بقدرها كما بُيِّن في محله. وإما افتراض أنّ الناس بأنفسهم عاملون بالوظائف الإسلامية حافظين لها، لا يتعدّون ولا يظلمون، وقد بلغت قدرتهم إلى حدّ لا يتجرّأ عدوّهم على الهجوم عليهم، وبالتالي هم مستغنون عن الدولة ولا يحتاجون إليها، وهذا كما هو واضحٌ توهّم محض، وهو فرضٌ خيالي لا واقع له، فإنّ الإنسان بحسب طبعه وفطرته وجبلّته وغرائزه بحاجة إلى الحكومة وإلى قيّمٍ وأمينٍ يقوم بهذه الوظائف الأساسية ويُشرف على حفظها والالتزام بها.
فعلى هذا لاريب في تمامية الحديث ودلالته على المدّعى، أضف إلى ذلك كلّه أن مدلول هذا الحديث والعلل المذكورة فيها يتوافق بالكامل مع ما يحكم به العقل، ومع البراهين العقلية الدالّة على ضرورة إقامة الدولة الإسلامية، فمضمون الحديث إرشاد إلى حكم العقل فيجب الأخذ به، ولو نوقش في سند الحديث أو قيل إنّه ورد في شأن الأئمة الهداة المهديّين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)
ص: 104
فإنّ هذه المناقشات لا تمنع عن التمسك بمضمونه والاستفادة منه، فإنه يخبر عن الضرورات العقلية في المسألة كما لا يخفى. والله العالم.
المسألة الرابعة: الخطبة الفدكية وضرورة إقامة الحكم الإسلامي(1)
من المبرّرات التي يُستند إليها لإثبات ضرورة إقامة الدولة الإسلامية، النظر في علّة تشريع الإمامة بحسب الخطبة الفدكية المنسوبة إلى الصديقة الطاهرة(عَلَيْها السَّلاَمُ)، كما إنّ المضمون نفسه يمكن ملاحظته في في بعض حكم نهج البلاغة المنقولة عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).
أما الخطبة الفدكية فهي مروية في «من لا يحضره الفقيه» وفي «علل الشرائع»:
رواها الصدوق(2) عن محمد بن موسى بن المتوكل عن علي بن الحسين السعد آبادي عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي عن أبيه عن إسماعيل بن مهران عن أحمد بن محمد الخزاعي، عن محمد بن جابر عن عبّاد العامري عن زينب بنت علي أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قالت، قالت فاطمة(عَلَيْها السَّلاَمُ) في خطبتها في معنى فدك: «...عهدٌ قدّمه إليكم وبقية استخلفها عليكم: كتاب الله بينة بصائره (إلى أن قالت): ففرض الله الإيمان تطهيرًا من الشرك، والصلاة تنزيهًا عن الكبر، والزكاة زيادة في الرزق، والصيام تبيينًا للإخلاص، والحج تسنية (تشييدًا خ ل) للدّين، والعدل تسكينًا للقلوب، والطاعة نظامًا للملّة، والإمامة لَمًّا من الفرقة، والجهاد عزًّا للإسلام».(3)
جميع رجال السند لا بأس بهم إلى إسماعيل بن مهران، وأمّا إسماعيل بن مهران بن أبي نصر السكوني أيضًا نفسه، فثقة معتمدٌ عليه، وبحسب
ص: 105
المجلسي (قُدّس سِرّه): «والظاهر أن روايته عن الضعفاء كان لاعتبار كتبهم كالسكوني والأقوى عندي الاعتماد على روايته...»(1) وأما أحمد بن محمد الخزاعي ومحمد بن جابر فغير مذكورين في كتبنا الرجاليّة واستظهر المحقق محمد تقي المجلسي (قُدّس سِرّه) في روضة المتّقين ويرى أنهما من رجال العامّة وأن إسماعيل بن مهران روى هذا الخبر من طرقهم لإثبات جواز اللعن، واعتراض ابن الغضائري عليه فوجهه ظاهر وهو النقل عنهم فلا بأس به فالخبر قويٌّ لاحتمال كونهما عنده ثقتين لكن لا نعرف حالهما.(2)
أقول: صرف احتمال الوثاقة لا يكفي لإثباتها وقوّة الخبر، اللهم إلا أن يقال: أولا إن اعتماد الأجلّاء على الرواية يكفي لإثبات الاعتبار، ثانيًا إن الأصل عند العقلاء خاصة في الأمور المهمة هو إمّا نقل الثقة عن الثقات وإمّا الاطمئنان والاعتماد بالخبر لاحتفافه بالقرائن، ولا يخرج عن هذا الأصل إلا مع وجود دليل. أضف إلى ذلك كلّه أن الخطبة الفدكية عند الطائفة وصلت إلى حدّ من الشهرة والاعتبار، بحيث يُستغنى بشهرتها عن المناقشة في سندها، حتّى إنّه يمكن عدّها من العقائد الإمامية، ومضامينها ومداليلها مؤيّدة بسائر الأدلّة النقلية والعقلية.
ويؤيده أيضًا ما رُوي في نهج البلاغة عن مولانا أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بهذا المضمون وهو أنّه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: «فرض الله الإيمان تطهيرًا من الشرك والصلاة تنزيهًا عن الكبر...» إلى أن قال: «والإمامة نظامًا للأمة والطاعة تعظيمًا للإمامة».(3)
نعم في بعض نسخ نهج البلاغة، وردت هذه العبارة على هذا النحو: «والأمانة نظامًا للأمّة». وعلى هذه النسخة يكون الحديث أجنبيًّا عن المقام؛ ولكن القرائن المتوفّرة في نفس الحديث تؤيّد النقل الأول كما لا يخفى.
ص: 106
تعدُّ الصدّيقة الكبرى فاطمةُ الزهراء(عَلَيْها السَّلاَمُ) الإمامةَ واحدة من الفرائض الإلهية؛ وتقول في بيان علّة هذه الفريضة إن الله جعل: «الإمامة لمًّا من الفرقة» وهذه الكلمة «أعني لمًّا» مفعول لأجله لقوله: «فرض الله». وهي بفتح اللام تدلّ على اجتماع ومقاربة ومضامّة، يقال: لمُمتُ شَعَثهُ إذا ضَممتَ ما كان من حاله متشعّثًا منتشرًا.(1) فبمقتضى هذا الحديث الشريف: يكون الموجب والباعث والعلّة الأساس لفرض الإمامة وتشريعها هو أنّها تجمع أمر الأمّة وتلمّ شعثها وترفع عنها التشتت والتفرّق الموجود بين الطوائف والأحزاب والتّيارات في المجتمع الإسلامي وتغيّرها إلى الوحدة وتجعلها أمة واحدة فلَمُّ الأمة علّة لفرض الإمامة وتشريعها، وهذه العلّة لا تختصّ بعصر حضور المعصوم وبسط يده؛ بل الأمّة في عصر الغيبة وقبض اليد بحاجة ملّحة إلى الوحدة وعدم الافتراق أيضًا، فإنّها من المصالح الملزمة المطلوبة للشارع الحكيم دائمًا. ثم إنه لا ريب في أنّ الوصول إلى الاجتماع والوحدة وتجنّب الفرقة والتشعّب بحاجة إلى دولة قوية تقوم بهذه المهمّة، وتكون ولايتها وإمامة أمرها أولا وبالذات بيد الإمام المعصوم فهو المطلوب الأول، وإن لم يمكن هذا: لمصلحة الغيبة أو لمنع الظلمة والغاصبين، يجب على الشارع سدّ هذه الحاجة بدولة أخرى تكون زعامتها تحت راية غير المعصوم.
فعلى هذا يلخّص الاستدلال في مقدّمات، هي:
1- الأمّة الإسلامية في كل زمان ومكان محتاجة إلى اللَمّ والوحدة.
2- إنّ اللمّ والوحدة الإسلامية لا تتحقق إلا بالدولة الإسلامية.
النتيجة: تجب إقامة الدولة الإسلامية في جميع الأزمنة والأمكنة، ولو كانت بزعامة غير الأئمة الطاهرين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).
نعم للإمامة وضرورتها علل وحِكم أخرى بعضها يختصّ بالمعصوم وحده
ص: 107
من دونٍ بديل له؛ لأنّ غير المعصوم لا يستطيع القيام بها كتفسير باطن القرآن وبيان جميع الأحكام الواقعية والتشريعات الإلهية؛ ولكن محلّ البحث هو في العلل والحِكم التي يستحيل تعطيلها، فمع عدم التمكّن من المعصوم يجب على غيره القيام به وبما أنّ لزوم الوحدة وحرمة الافتراق، وضرورة إقامة الدولة مقدّمة لتحقّق الوحدة من الأحكام الواضحة للعقل العملي، فيكون ما ورد في هذا الحديث إرشادًا إلى هذا الحكم العقلي ولا غبار عليه.
فإن قيل: إنّ مصلحة الوحدة ومفسدة التفرّق والتشعّب من الأمور الضرورية الواضحة؛ ولكن تحقّق هذه الوحدة لا تنحصر بالدولة الإسلامية فإنّ كل مجتمع وكل أمة بحاجة إلى الوحدة، وهذه المصلحة تتحقّق بأيّ نظامٍ سياسيٍّ يؤمّن الوحدة ويجنّب الأمّة الفرقة؛ حتّى لو لم يكن دولةً إسلاميّةً، وبناء على هذا الاعتراض يكون الدليل أعمّ من المدّعى.
وفي الردّ على هذا الاعتراض نقول: ليس المطلوب تحقّق الوحدة أيًّا ما كانت، وكيفما كانت، وبأي طريق وآلة وصلنا إليها، ولو كانت تحت ظلال السيوف وارتكاب المظالم والمفاسد؛ بل المراد الوحدة المطلوبة في الأمّة الإسلامية وفقًا للحدود الإلهية وبطريقة وأسلوب منسجمٍ مع التشريعات الإسلامية، وهذا أمر لا يمكن لأيّ دولةٍ القيام بها إلا إذا كانت دولة شرعية لها ولاية معطاةٌ من الله تعالى، وهذا الحديث يشير إلى هذه النكتة بقولها(عَلَيْها السَّلاَمُ) «فرض الله» فإنّ محلّ الكلام هو الإمامة التي تعدّ من الفرائض الإلهية، لا إمامة الطواغيت والشياطين وعبدة الأوثان والأهواء القائلين بالعلمانية، وعدم تدخل الدين في السياسية المنكرين للربوبية التشريعية الإلهية.
عندما سمع أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) شعار الخوارج «لا حكم إلا لله» قال في مقام الردّ عليهم: «كلمة حقٍّ يُراد بها الباطل، نعم إنّه لا حكم إلا
ص: 108
لله؛ ولكنّ هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله وإنّه لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر».(1)
تقريب الاستدلال:
يبيّن الإمام أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في هذا الكلام المنقول عنه في الردّ على شعار الخوارج أنّ الناس لا بدّ لهم في معيشتهم من أمير برّ أو فاجر؛ لكي يقوم بالوظائف والمصالح، وهذه اللابدّية عامّةٌ لجميع الأزمنة والأمكنة، تشمل زمن الغيبة أيضًا وبما أنّ إمارة الفاجر، غير مشروعة ويمنع عنها الكتاب والسنة وتحسب من الطاغوت التي أمر القرآن بالكفر بها، فلا يبقى إلا أمارة البرّ. وهي تعبير آخر عن الدولة المشروعة الإسلامية وإن كانت ولايتها تحت أمر غير المعصوم.
تقريب اخر للاستدلال:
لسان هذا الحديث وطريقته في التعبير بحسب مصطلحات المناطقة، لسان القضية المنفصلة الحقيقيّة، ويبيّن بعد ضرورة أصل السلطة السياسية أن الإمارة إمّا برّة وإمّا فاجرة؛ لكنّ الإمارة الفاجرة غير شرعية، ولا مشروعة لا في العقل ولا عند الشرع ولا يقرّ العقلاء لها بأهلية التصرّف وممارسة السلطة، فيبقى الخيار الآخر وهو إمارة البرّ.
إن قلت: هذا الحديث منضمًّا إلى سائر الأدلة من الكتاب والسنّة وإن كان يفيد أنّ الإمارة المشروعة منحصرة في إمارة البرّ؛ ولكنّ لسان الحديث لسان إخبار والجملة جملة خبريّة، وليس فيها إنشاء حكمٍ شرعيٍّ يقضي بضرورة تأمير البرّ، وتأسيس دولته. وما ينفع في الاستدلال هو استفادة الإنشاء والطلب.قلت: إنّ المستفادَ من هذا الحديث وسائر الأدلة من الكتاب والسنة أن الدولة الفاجرة محرّمة منهيٌّ عنها شرعًا؛ بل يجب الوقوف في وجهها لأنّها طاغوت، وولاية الطاغوت غير معترفٍ بها، ولا يجوز الركون إليها، ولا تجوز
ص: 109
طاعتها، وبين الإمارتين تضادٌّ بين ضدّين لا يخلو الواقع من أحدهما، ونفي أحد الضدّين يعني في هذه الحالة ثبوت الضدّ الآخر.
ثم اعلم أن هناك وجوهًا أخرى كصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: «بُنِي الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية. قال زرارة: وأي شيء من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل؛ لأنّها مفتاحهنّ والوالي هو الدليل عليهنّ ...».(1) واستُدلّ بها لإثبات المدّعي وهي بحاجة إلى الدراسة والتأمّل في مفادها ولا نتعرّض لها لعدم البناء على التفصيل، ومن أراد المزيد يمكنه مراجعة سائر المصادر.(2)
ص: 110
ثمّة أدلّةٌ نقليّةٌ من روايات أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ربّما توهم حرمة إقامة الحكم الإسلامي، ووجوب السكوت في قبال مظالم الأعداء في عصر الغيبة ولزوم عدم التدخل في الشؤون السياسية.
فهذه الأدلة على فرض تماميّتها تكون معارضة للأدلّة السابقة الدالّة على ضرورة إقامة الدولة العادلة الإسلامية.
وفي هذا الفصل سوف ندرس هذه الأدلّة على طوائفها المختلفة.
طائفة من الروايات المانعة عن القيام والخروج لإقامة الحكم الإسلامي ناظرة إلى قضية زيد بن علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقيامه على السلطة الحاكمة،
منها: الصحيحة الأولى لعيص بن القاسم
محمد بن يعقوب عن على بن إبراهيم عن أبيه عن صفوان بن يحيى عن عيص بن القاسم، قال سمعت أبا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له وانظروالأنفسكم فوالله إنّ الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلًا هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها. والله لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرّب بها ثم كانت الأخرى باقية يعمل على ما قد استبان لها ولكن له نفس
ص: 111
واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة فأنتم أحقّ أن تختاروا لأنفسكم، إن أتاكم آتٍ منّا فانظروا على أيّ شيء تخرجون ولا تقولوا خرج زيد، فإنّ زيدًا كان عالمًا وكان صدوقًا، ولم يدعُكم إلى نفسه، وإنما دعاكم إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)؛ ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه، إنما خرج إلى سلطانٍ مجتمعٍ لينقضَه، فالخارج منّا اليوم إلى أي شيء يدعوكم، إلى الرضا من آل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، فنحن نشهدكم أنّا لسنا نرضى به وهو يعصينا اليوم وليس معه أحد وهو إذا كانت الرايات والألوية أجدر أن لا يسمع منّا إلّا من اجتمعت بنو فاطمة معه. فوالله ما صاحبكم إلا من اجتمعوا عليه إذا كان رجب فأقبلوا على اسم الله وإن أحببتم أن تتأخّروا إلى شعبان فلا ضير وإن أحببتم أن تصوموا في أهاليكم فلعلّ ذلك يكون أقوى لكم وكفاكم بالسفياني علامة».(1)
تقريب الاستدلال:
يأمر الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في صدر الحديث بتقوى الله ولا سيما في التبعية لمن يخرج على السلطان الجائر، ويحذّر من أن يدخل الموالي لأهل البيت نفسه تحت زعامة أيّ داعٍ؛ لأنّه ليس للإنسان إلا نفس واحدة، يجب أن ينظر أين يجعلها، لئلا يهدر دمه في سبيل الطغاة الجائرين،وعليه تفيد هذه الصحيحة أن لا خيار أمام الإنسان سوى الانقياد لإمام الحقّ.
ثمّ بعد هذا التمهيد المؤيّد بحكم العقل؛ بل بالفطرة السليمة الإنسانية، ينهى الحديث عن الخروج إلا مع من اجتمعت بنو فاطمة(عَلَيْها السَّلاَمُ) معه. والمراد به هو الإمام الثاني عشر بقرينة قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في آخر الحديث وكفاكم بالسفياني علامة؛ حيث إنّ خروج السفياني منالعلامات القطعية لظهور الحجة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ). فلا محالة يكون مفاد الحديث النهي عن اتّباع أي أحد على طريق السالبة الكلية إلا اتّباع صاحب الأمر(عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ)، فيُستفاد منه أن الخروج لإقامة الدولة الإسلامية والحكم الإسلامي غير مجاز شرعًا.
ص: 112
مناقشة الاستدلال:
إن الصحيحة تدلّ على أن الخروج والقيام على السلطان الجائر قد يكون باطلًا؛ لأنّ الخارج قد يدعو الناس إلى نفسه مع عدم استحقاقه لما يدّعيه، وقد يكون محقًّا كدعوة زيد بن على بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حيث دعا الناس لنقض السلطنة الجائرة وتسليم الحق إلى أهله وإلى الرضا من آل محمد (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)؛ فيجب على الّذين أن ينظروا ويتأمّلوا ويتريّثوا في المسألة حتى لا يختلط عليهم الحق والباطل.
بل يظهر من الحديث أنّ خروج زيد كان خروجًا مأذونًا فيه من الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وسبب مشروعيّته الأساس، هو كون زيدٍ عالمًا بأحكام الإسلام، على معرفة بالحلال والحرام. والسبب الثاني هو أنّه كان صدوقًا في دعواه فيعمل وفقًا لعلمه، فلم يكن يدعو الناس إلى نفسه؛ بل كان يرى أنّ الحقّ في الإمامة والولاية هو للإمام المنصوب الإلهي المعبّر عنه بالرضا من آل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) فكان يدعو الناس إليه.أضف إلى ذلك أنّه قام لنقض السلطان الجائر وكفّ يده عن المجتمع لكي تتيسّر سبل إقامة العدل وتمكين الإمام العادل المنصوب من الله من ممارسة سلطته. فهذه الأسباب مجتمعةً هي التي جعلت من ثورته ثورةً شرعيّةً ممضاةً من الإمام المفترض الطاعة.
ومنه يعلم أن الحكم بشرعية القيام أو حرمته دائر مدار هذه العلّة، فهذا المعيار والملاك إذا تحقّق في أيّ زمانٍ ومكانٍ وبالنسبة إلى أيّ خارجٍ فالقيام مشروعٌ وممضًى لتابعي أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ). فإذا كان الغرض من القيام، إقامة الحكم الإسلامي وتنفيذ التشريعات الإلهية فهذا القيام يكون من سنخ قيام زيد ويكون جائزًا ومؤيّدًا بتأييد أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).نعم هناك فرق بين قيام زيد والقيام في محلّ الكلام أي القيام في عصر الغيبة فإنّ الهدف من قيام زيد كان تسليم الأمر بعد الظفر والفتح إلى الإمام المعصوم لا تصدّيه بنفسه، بخلاف محلّ البحث فإنّ الهدفَ من القيام في هذا العصر هو تصدّي الثائر وقائد الحركة للأمور بنفسه إلى أن يظهر الحجة (عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ).
ص: 113
ولكن هذا الفرق لا يوجب فارقًا بين القيامين في الحكم، فإنّ في عصر الغيبة أيضًا الهدف هو تسليم الأمور إلى الحجّة (عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ) والقيام ممهّد لدولة المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولكن بما أنّ إقامة الأحكام والحدود الإلهية في زمن الغيبة غير ممكنة إلا بتصدّي شخص واجدٍ للشروط فلا محالة تبقى زعامة الأمور بأيدي غير المعصوم حتى يفرّج الله الغمّ عن الأمة ويظهر وليّ الأمر ويسلّم الأمور إليه.
رواها الصدوق (قُدّس سِرّه) في العلل عن محمد بن على ماجيلويه عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن يحيى بن عمران الهمداني ومحمد بن إسماعيل بن بزيع جميعًا عن يونس بن عبد الرحمن عن عيص بن القاسم قال: سمعت أبا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول:«اتّقوا الله وانظروا لأنفسكم فإنّ أحقّ من نظر لها أنتم، لو كان لأحدكم نفسان فقدّم إحداهما وجرّب بها؛ استقبل التوبة بالأخرى، ولكنّها نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة. إن أتاكم منّا آتٍ ليدعوكم إلى الرضا منّا فنحن ننشدکم أنّا لا نرضى إنّه لا يطيعنا اليوم وهو وحده، فكيف يطيعنا إذا ارتفعت الرايات والأعلام».(1)
تقريب الاستدلال:
لعلّ هذه الرواية مختصرة من الصحيحة الأولى، ويحتمل اتّحادهما وعلى أيّ حال بعد ذكر المقدمة، تحكم بعدم رضاه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالقيام والخروج وإن كان داعيه يدعو إلى الرضا من آل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، فالقيام والخروج أيًّا ما كان غير مشروع على نحو السلب الكلي.
مناقشة الاستدلال:
كما مرّ في الجواب عن الصحيحة الأولى إن الرواية تكشف سرّ عدم شرعية القيام وتبيّن العلّة التي إلى التحفّظ على الخروج فتفيد أن وجه عدم المشروعيّة هو أنّ الداعي لا يدعو إلا إلى نفسه؛ لأنّه لا يطيع الإمام المعصوم لا في بداية
ص: 114
دعوته ولا في نهايته، فيكون هدف الخارج والداعي هو الميول والمشتهيات النفسية، بخلاف الداعي الذي في عصر الغيبة لا يكون له همٌّ إلا الدّعوة إلى تشريعات الأئمة الهداة، وتطبيق فقههم في الحياة الاجتماعيّة، فإنه يحسب مطيعًا لهم من البداية إلى المآل أيضًا ليس له هدفٌ إلا تسليم الراية إلى وليّها والرضا برضاه.
فبالنتيجة الصحيحة الثانية لعيص بن القاسم كالصحيحة الأولى لا تدلّ على عدم جواز القيام ولا على حرمة الخروج لإقامة الحكم الإسلامي؛ بل تدلّ على أن الداعي قد تكون دعوته باطلة بأن يدعو إلى نفسه مع عدم استحقاقه لما يدّعيه؛ فحينئذ لا يجوز الخروج معه وقد تكون دعوته دعوة حقٍّ كدعوة زيد بن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وفي هذه الحالة تجوز إعانته والخروج معه.
رواها الصدوق (قُدّس سِرّه) في العيون عن أحمد بن يحيى المكتب، عن محمد بن يحيى الصولي عن محمد بن زيد النحوي عن ابن أبي عبدون عن أبيه عن الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حديثٍ: «لمّا حُمِل زيد بن موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى المأمون، وقد كان خرج بالبصرة وأحرق دور وُلد العباس، وهب المأمون جرمه لأخيه علي بن موسى الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقال له: يا أبا الحسن لئن خرج أخوك وفعل ما فعل لقد خرج قبله زيد بن علي فقُتِل، ولولا مكانك منّي لقتلته فليس ما أتاه بصغير. فقال الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): يا أمير المؤمنين، لا تقس أخي زيدًا إلى زيد بن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فإنّه كان من علماء آل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، غضب لله(عزّ و جلّ) فجاهد أعداءه حتى قُتل فيسبيله، ولقد حدّثني موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنّه سمع أباه جعفر بن محمد بن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول: رحم الله عمّي زيدًا إنّه دعا إلى الرضا من آل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) ولو ظهر لوفى بما دعا إليه».
إلى أن قال: «فقال المأمون: يا أبا الحسن، أليس قد جاء في من ادّعى الإمامة بغير حقّها ما جاء؟ فقال الرضا: إن زيد بن علي، لم يدّع ما ليس له بحقّ وإنّه كان اتقى الله من ذلك، إنه قال: أدعوكم إلى الرضا من آل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وإنما جاء
ص: 115
ما جاء في من يدّعي أنّ الله تعالى نصّ عليه ثم يدعو إلى غير دين الله ويضلّ عن سبيله بغير علم...»(1)
تقريب الاستدلال:
الرواية تدل على أن القيام والخروج لإقامة الحكم الإسلامي في عصر الغيبة كائنًا من كان؛ غير جائز مطلقاً لأنّ الداعي لم ينصّ الشارع على ولايته وإمامته، وهو يريد إمامة الأمة بعد القيام والظفر على الحكم، فهو يحسب ممّن ادعى الإمامة بغير حقّها فقيامه محرّم وغير مشروع.
الردّ علی الاستدلال:
إن الرواية تنظر إلى الهدف من القيام والخروج، وتقسّم القيام على حسب الأهداف والنيّات، وتبيّن أنّ المعيار الأساس في معرفة الحكم هو النظر إلى الهدف، فإن كان الهدف مشروعًا وإلهيًّا كقيام زيدٍ بن عليٍّ، وأراد الجهاد ضدّ أعداء الله، ولم يكن الخارج داعيًا إلى نفسه ولم يدّعِ ما ليس له فقيامه مشروعٌ مرغوب فيه وويلٌ لمن سمع واعيته فلم يجبه. أمّا إذا كان الهدف دنيويًّا وغير شرعي والداعي يدعو إلى غير دين الله، ويضلّ عن سبيله بعلمٍ أو بغير علم ويدّعي الإمامة بغير حقّها فهذا قيام ممنوع محرّم.
فعلى هذا لايختلف مدلول الحديث عن مدلول صحيحتي العيص وإن كان سند الحديث غير معتبر لوجود المجاهيل في طريقه.
بناءً على ما ذكرناه: يتبيّن أنّ الطائفة الأولى لا تدلّ على حرمة القيام لتأسيس السلطة الإسلامية مطلقًا، وعلى سبيل السلب الكلّي؛ بل تدلّ على جوازه واستحسانه إذا كان الهدف هو القيام لله والغضب له والجهاد ضدّ أعداء الله.(2)
ص: 116
نعم إذا كان الهدف الدعوة إلى النفس ومشتهياتها وليس الدعوة إلى طاعة الله والرسول وتنفيذ الأحكام الإلهية والتشريعات الإسلامية، فهذا القيام حرام وداعيه يحسب من الطاغوت.
هناك روايات وردت في مذمّة من ادّعى الإمامة ومن زعم أنّه إمام وليس بإمام رواها الشيخ الكليني (قُدّس سِرّه) في كتاب الحجة من أصول الكافي في باب عنوانه: باب من ادّعى الإمامة وليس لها بأهل والنعماني أيضًا في كتابه المشهور ب- «غيبة النعماني» يروي هذه الروايات في باب، عنوانه: باب ما روي في من ادّعى الإمامة ومن زعم أنه إمام وليس بإمام. وهذه الروايات تدلّ على حرمة إمامة غير الأئمة الهداة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).
في الكافي عن محمد بن يحيي، عن عبد الله بن محمد بن عيسى عن على بن الحكم عن أبان بن عثمان عن الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: «من ادّعى الإمامة وليس من أهلها فهو كافر».(1)
في الكافي عن محمد بن يحيي عن أحمد بن محمد عن محمد بن سنان عن أبي سلام عن سورة بن كليب عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: قلت له: قول الله(عزّ و جلّ): ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ﴾. (سورة الزمر: الآية 60) قال: «من قال إنّي إمام وليس بإمام، قلت: وإن كان علويًّا قال: وإن كان علويًّا قلت: وإن كان من ولد علي ابن أبي طالب؟ قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وإن كان».(2)
ص: 117
في الكافي عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الوشاء عن داود الحمّار عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: سمعته يقول: «ثلاثة لا يكلِّمهم الله يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم. من ادّعى إمامة من الله ليس له ومن جحد إمامًا من الله ومن زعم أنّ لهما في الإسلام نصيبًا».(1)
الكليني عن الحسين بن المختار قال: «قلت لأبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): جُعِلت فداك ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله؟ قال: كلّ من زعم أنه إمام وليس بإمام قلت: وإن كان فاطميًّا علويًّا؟ قال: وإن كان فاطميًّا علويًّا».(2)
قال: «سمعت أبا عبد الله يقول: إنّ هذا الأمر لا يدّعيه غير صاحبه؛ إلا بتر الله عمره.»(3)
محمد بن يحيي عن محمد بن الحسين عن محمد بن سنان عن طلحة بن زيد: عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: «من أشرك مع إمام إمامته من عند الله، ومن ليست إمامته من الله، كان مشركًا بالله.»(4)
والروايات في هذا المعنى وبهذا المضمون كثيرة، بعضها صحيحة وبعضها يمكن الاعتماد عليه سندًا؛ بل هي مستفيضة يُطمأن لصدورها فلا إشكال فيها من جهة السند والاعتبار.
ص: 118
تقريب الاستدلال:
المقدّمة الأولى
هذه الأخبار تدلّ على أنّ الإمامة من الله، وهي عهد إلهي لا ينعقد بالنّسب أو الاستخلاف أو العقد والبيعة أو الادّعاء أو غيرها؛ فهي منحصرة بأشخاص منصوبين من الله نصّ على إمامتهم على لسان نبيّه في السنّة النبويّة والأحاديث المروية عن العترة الطاهرة وهم الأئمة الاثنا عشر (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ولا يسع أحدًا غيرهم ادّعاء الإمامة.
المقدمة الثانية
الإمامة كما عُرِّفت على لسان المتكلِّمين هي رياسة الدين والدنيا، فمن يتقدّم لإقامة الدولة الإسلامية وتنفيذ التشريعات الإلهية، فهو في الحقيقة يريد رياسة الدين والدنيا فهو يدّعي الإمامة.
النتيجة: من لا يكون إماماً من الله، لا يجوز له القيام والإقدام؛ لأنّه لا يجوز إلا للمأذون من الله والمنصوب لهذا الإقدام فإقامة الحكم الإسلامي لا تجوز إلا للإمام المنصوب من الله المعصوم من الزلل والخطأ.الردّ على الاستدلال بهذه المجموعة من الروايات:
هذه الروايات لا إشكال فيها من جهة الاعتبار والحجية، أمّا من جهة الدلالة فإنها وإن كانت تصرّح بأنّ الإمامة عهدٌ من الله تعالى، وأنّ من يدّعيها دون نصٍّ عليه بالإمامة، فهو كاذب على الله، وجهه مسودٌّ يوم القيامة.
ولكن لا يُستفاد من هذا حرمة إقامة الحكم الإسلاميّ وعدم مشروعيّته في عصر الغيبة وحين عدم بسط يد الإمام المنصوب من الله تبارك وتعالى؛ وذلك لأنّه:
أوّلا: لابدّ للناس من أمير برّ أو فاجر، فلا شكّ في ضرورة الحكومة ولزوم إقامة الحكم ولو كان حكمًا باطلًا بيد أئمة الجور والطواغيت وذلك دفعًا
ص: 119
للهرج والمرج وسدًّا لأبواب اختلال النظام الاجتماعي؛ فمن جهة: المجتمع مضطرٌّ إلى الحكم ومحتاجٌ إلى الإمام؛ ومن جهة أخرى: الإمام المنصوب غائبٌ لا تصل أيدي الناس إليه.
فلا يبقي إلّا إقامة الحكم غير الإسلامي أو القيام لإقامة الحكم الإسلامي؛ لكنّ الأول باطلٌ وحرامٌ بالضرورة المنصوص عليها في الكتاب والسنّة فالثاني هو الحق والصواب.
ثانيًا من يخرج ويقدِم على إقامة الدولة الإسلامية في عصر الغيبة، إن كان يدّعي أنه إمامٌ من الله، فهو كاذبٌ كما نصّت عليه هذه الأخبار، أمّا إذا كان غير مدّعٍ لذلك؛ بل يريد إقامة الحكم الإسلامي من باب الضرورة والاضطرار في ظروف الغيبة فقط ويريد تسليم الأمر إلى صاحبه الأصلي المنصوب من الله فور ظهوره، فهذا خارج عن دلالة هذه الأدلة.
بل في الحقيقة كم من فرق بين الحكومة الإسلامية التي تكون إمامتها وزعامتها بيد الإمام المنصوب المعصوم والحكومة الإسلامية الاضطرارية في عصر الغيبة، فإنّ الحكومة الإسلامية إذا كانت بيد الإمام المنصوب الإلهي فهي حكومة إسلامية بحقيقة معنى الكلمة تجري الحكم وتنفذ الأحكام وفقًا للتشريعيات الإلهية والأحكام الواقعية وبشكل مطابقٍ لباطن القرآن ولحقيقة الكتاب المنزل من الله تبارك وتعالى والسنّة الواقعيّة الصادرة من رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) ووليّ أمر هذه الحكومة هو وليّ الله وحجّته على خلقه، له شؤون ومنازل كثيرةتكوينًا وتشريعًا لا يمكن لكلٍّ راغب إدراك هذه المنازل والمراتب، ولا نبالغ إذا قلنا إنّ قدرة البشر العاديّين تضيق عن فهم موقع الإمام حقّ الفهم.
وهذا بخلاف إقامة الحكم المنفذ بيد غير الإمام المعصوم فإنّ أساس هذا الحكم معتمد على الأحكام الظاهرية والعلوم الكسبية الاجتهادية التي تحتمل الخطأ والصواب فيها ولا يفترض لها شؤون ومراتب متعددة مختلفة، وليس لها إلا شأنُ الحكم وتنفيذ التشريع المتّخذ من الرأي والاجتهاد. نعم مصدر هذا الاجتهاد ومستند المجتهد هو الأحكام والسنن المتخذة من الإمام المنصوب
ص: 120
الإلهي الذي له شؤون ووظائف ومهامُّ كثيرة أحدها هو إقامة الحكومة الإسلامية.
ثالثًا لو سُلِّم، فإنّ مقتضى الجمع بين هذه الأدلّة والأدلّة الدالّة على وجوب إقامة الدولة الإسلامية في عصر الغيبة، هو القول بوجوب تأسيس الحكم الإسلامي في عصر الغيبة، وتقييد دلالة هذه الأدلّة بصورة التمكُّن من الإمام المعصوم وبسط يده. والقرينة التي نستند إليها للميل إلى هذا التقييد هي حكم العقل والنقل بضرورة الدولة للمجتمع؛ بل نفس الطائفة الأولى من الروايات الواردة في صحّة قيام زيد بن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وشرعيّتها قرينة على هذا التقييد.
الطائفة الثالثة من الأدلّة المعارضة لضرورة إقامة الحكم الإسلامي هي أحاديث تأمر بالسكون وتنهى عن الحركة وتمنع من الخروج إلى ظهور علامات الفرج.
عن روضة الكافي قال سدير: قال أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «يا سدير، الزم بيتك وكن حلسًا من أحلاسه، واسكن الليل والنهار، فإذا بلغك أنّ السفياني قد خرج فارحل إلينا ولو على رجلك.»(1)
رواه الشيخ عن جابر الجعفي عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: «الزم الأرض ولا تحرّك يدًا ولا رجلًا حتى ترى علاماتٍ أذكرها لك....»(2)
في كتاب الغيبة عن أبي بكر الحضرمي قال: دخلت أنا وأبان على أبي عبد
ص: 121
الله وذلك حين ظهرت الرايات السود بخراسان، فقلنا: ما تري؟ قال: «اجلسوا في بيوتكم، فإذا رأيتمونا قد اجتمعنا على رجلٍ فانهدوا إلينا بالسلاح.»(1)
أقول: قوله فانهدوا من «نهد» المناهدة في الحرب المناهضة ونهد القوم لعدوّهم: إذا صَمَدوا له وشرعوا فی قتاله بمعنى نهض وبرز.(2)
في كتاب الغيبة عن جابر، عن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: «اسكنوا ما سكنت السماوات والأرض فإنّ أمركم ليس به خفاء، ألا إنّها آية من الله(عزّ و جلّ)، ليست من الناس، ألا إنّها أضوأ من الشمس، لا تخفى على برّ ولا فاجر، أتعرفون الصبح؟ فإنّها كالصبح ليس به خفاء.»(3)
عن عمر بن حنظلة قال: سمعت أبا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول: «خمس علامات قبل قيام القائم: الصيحة والسفياني والخسف وقتل النفس الزكية واليماني». فقلت: جعلت فداك إن خرج أحد من أهل بيتك قبل هذه العلامات أنخرج معه؟ قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لا...».(4)
تقريب الاستدلال:
هذه الروايات من حيث السند لا إشكال عليها، وفيها من الروايات الصحاح المعتبرة سنداً على أنها تبلغ حدّ الاستفاضة ما يوجب الاطمئنان بصدورها.
وأما من جهة الدلالة فدلالتها على حرمة القيام والإقدام على تأسيس
ص: 122
الدولة الإسلامية واضحة حيث تأمر بالسكون ولزوم البيت وعدم الخروج، فالوظيفة والتكليف في عصر الغيبة وقبل خروج الحجة (عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ) هو عدم شرعية تأسيس الدولة الإسلامية، وعدم مشروعيّة أيّ إقدام في هذا السبيل.
الرد علی الاستدلال:
أولًا: إن هذه الروايات ناظرة إلى ادّعاء المهدوية أو الوكالة، وإلى الدعوة التي لا يكون الهدف منها إلا الإمامة والرئاسة والإمارة لشخص الدّاعي كما ذكرنا في الجواب عن روايات الطائفة الثانية.
ثانيًا: لو سلّمنا إطلاقها وأنها مانعة عن أيّ قيام؛ ولو كان لتنفيذ الأحكام الإسلامية والحدود الإلهية، لكن لا يمكن الالتزام بهذا الإطلاق لوجود قرينة منفصلة أشرنا إليها آنفًا، وهي أخبار الطائفة الأولى الدالّة على أن التحرّك والقيام على قسمين: قسم له هدفٌ أصيلٌ يريد الإسلام وأحكامه ولا يدعو الخارج والثائر الناس إلى نفسه، وقسم آخر ليس له الهدف منه إلا حبّ الإمامة والرياسة. وما هو الحرام هو القسم الثاني. وأمّا شرعية القسم الأول فهوثابتٌ بروايات الطائفة الأولى بل جواز هذا النوع من القيام والخروج هو من ضروريات الشريعة الإسلامية ومن مسلّمات الكتاب والسنة.
ثمة روايات عدّة تدلّ على حرمة رفع أيّ راية قبل راية الحجة (عجل الله تعالى فرجه) وقبل ظهوره، ومن هذه الروايات:
رواها في الكافي عن محمد بن يحيي عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن حمّاد بن عيسى عن الحسين المختار القلانسي(1) عن أبي بصير عن
ص: 123
أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: «كلّ رايه تُرفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله (عزّ و جلّ).»(1)
رواها النعماني في كتاب الغيبة عن عبد الواحد بن عبد الله قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن رباح الزّاهري قال: حدّثنا محمد بن العباس بن عيسى الحسيني عن الحسن بن علي بن أبي حمزة عن أبيه عن مالك بن أعين الجهني عن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال: «كل رايه ترفع قبل قيام القائم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) صاحبها طاغوت.»(2)
رواها في كتاب الغيبة قال: أخبرنا علي بن الحسين قال حدّثنا محمد بن يحيى العطار بقم، قال: حدّثنا محمد بن حسّان الرازي قال: حدّثنا محمد بن علي الكوفي عن على ابنالحسين عن ابن مسكان عن مالك بن أعين الجهني قال: سمعت أبا جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول: «كلّ راية تُرفع قبل قيام القائم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) صاحبها طاغوت.»(3)
رواها في كتاب الغيبة قال: أخبرنا علي بن أحمد البندينجي عن عبيد الله بن موسى العلوي عن علي ابن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن عبد الله بن المغيرة عن عبد الله بن مسكان عن مالك بن أعين الجهني قال: سمعت أبا جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول: «كلّ راية تُرفع -أو قال تخرج- قبل قيام القائم صاحبها طاغوت.»(4)
ص: 124
بحث عن السند:
هذه أخبار أربعة ترجع إلى خبرين أحدهما مرويٌّ في الكافي بسند صحيح كله من الثقات عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والثاني هو خبر مالك بن أعين المروي في كتاب الغيبة للنعماني عن الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ويرويه النعماني عن مالك بن أعين بثلاثة أسناد. ومالك بن أعين الجهني حكم المحقق الخوئي في معجم رجال الحديث بوثاقته حيث قال: إنّ مالك بن أعين الجهني لا ينبغي الشك في كونه شيعيًّا إماميًّا حسَنَ العقيدة، وهو ثقة بشهادة ابن قولويه وعليه فرواياته معتبرة.(1)
نعم نُقل أنّ السيد الخوئي عدل عن هذا القول بتوثيق كلّ من ورد اسمه في روايات ابن قولويه، وأنّه قال في حقّ ابن أعين هذا: «لم يرد فيه توثيق وما ورد في حقّه من الروايات المادحة لا يمكن الاعتماد عليها في الحكم بوثاقته؛ لأنه هو الراوي لها، نعم قد يستفاد منها أنه شيعي إمامي حسن العقيدة أما أنّه ثقة فلا.»(2)اللهم إلا أن يقال إنّ عبد الله بن مسكان وقع في طريق الخبر الثاني والثالث وهو من أصحاب الإجماع عند البعض وهو يروي عن مالك بن أعين بلا واسطة، وهذا يكفي لإثبات وثاقته.
ولكن على أيّ حال لم تثبت وثاقة بعض الرجال الواقعين في طريق الحديث بطرقه الثلاثة؛ بل بعضهم ضعيفٌ فالاعتماد على خبر مالك بن أعين مشكلٌ؛ نعم اختلاف طرق الحديث يقوّي جانب الاعتبار والاعتماد عليه، خاصّة صحيحة أبي بصير -الخبر الأول المذكور أعلاه –الذي يكفي للاعتماد والتعويل عليه.
تقريب الاستدلال:
دلالة هذه الطائفة الرابعة على المدّعى، وهو عدم شرعية القيام قبل ظهور
ص: 125
الإمام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قويّةٌ جدًّا، وتختلف من هذه الجهة عن الطوائف الثالثة السابقة فإنّها تدلّ بالعموم على أن رفع الراية أي راية كانت، حرامٌ قبل خروج القائم، حتى لو كان صاحب هذه الراية يهدف إلى إحياء الشريعة وتنفيذ الحدود وتطبيق الأحكام، وتدلّ على أنّ صاحب هذه الراية طاغوتٌ يعبد من دون الله.
ولو سلّم تمامية الأدلة الدالّة على ضرورة إقامة الحكم الإسلامي في عصر الغيبة؛ فهذه الأخبار تعدّ معارضة لها؛ ولایکون هناک طریق جمع لمدلولهما، لتحقق التباین الكلي والتکاذب بینهما،احدهما یدل علی الوجوب و الثانی یدل علی الحرمه، فهما إما یتساقطان فیرحع الی الاصل و هو البرائة و إما الی اصالة التخییر ، علی المبانی المدروسة فی علم ونتيجة هذا الكلام أنّ الحكم بوجوب القيامة وتأسيس الدولة في عصر الغيبة محلّ تأمّلٍ بل لایمکن الالتزام به.
الرد علی الاستدلال:
أولًا: إن العموم المدّعى استفادته من روايات الطائفة الرابعة غير تامٍّ يجب رفع اليد عنه؛ وذلك لوجود المخصّص المنفصل الثابت في الطائفة الأولى حيث إن روايات الطائفةالأولى تدلّ على أن القيام ورفع الراية على قسمين؛ فإن كانت بهدف الدعوة إلى النفس فصاحبها طاغوت وهذا هو القدر المتبقّي تحت العام من الطائفة الرابعة بعد التخصيص بالطائفة الأولى.
وأمّا إن كانت بهدف إقامة الحكم الإلهي وأن الداعي والرافع لها لا يرى لنفسه إمامة من الله؛ بل يرى نفسه تابعًا لولاية الأولياء، ولا يرى لدعوته هدفًا غير تنفيذ التشريعات الإلهية، وهو حتى مع قيامه وخروجه منتظر لظهور الحجة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليسلِّم الراية إليه، فهو لا يحسب من الطاغوت.
ثانيًا: إن الحكم بتعميم تحريم رفع الراية مخالفٌ لمئات الأدلّة القرآنية والروائية، ومخالفٌ لعمومات وإطلاقات كثيرة تدعو المسلمين والمؤمنين إلى الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود الإلهية والفرائض الشرعية ومواجهة الفساد والفحشاء والمعاصي كلها في كل عصر وزمان.
ص: 126
ولا شكّ في أنّه إذا عارض عموم هذه الأخبار هذه النصوص القرآنية والروائية الصريحة في وجوب القيام والدعوة وعدم تولّي حكم الطاغوت وحرمة تبعية الطواغيت، وعدم شرعيّة الركون إلى الظالمين، يجب رفع اليد عن عموم هذه الطائفة وتخصيصها بما ذكرناه.
ثالثًا: الالتزام بعموم هذه الأخبار مخالف للحكمة الإلهية، فإنه لا شك في أنّ الجهاد والدفاع مشروعٌ وواجبٌ، فهل يجوز في الحكمة الإلهية أن يجب الجهاد والدفاع في مواجهة هجوم الكفار ثم تفويض أمر الحكومة وولاية أمر المسلمين بعد الغلبة على الكفار إلى أهل الفسق والعصيان؟! أو هل يجوز في الحكمة الإلهية أن يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوقوف أمام الطاغوت والسلطان الجائر ثم بعد الغلبة عليه وإخراج زمام الأمور من يده، تركها على حالها حتى يأتي أحد يضرب السيوف ويقاتل الناس لأخذها والاستيلاء عليها ثم يجب مرّة أخرى الوقوف أمام هذه السلطة الجديدة وهلّم جرًّا حتى يتسلسل فهل هذا جائز في حكم الحكيم وهل يجوّزه العقل السليم؟وبعبارة أخرى: الالتزام بعموم حرمة خروج الراية مستلزمٌ للقول بحرمة الدفاع عندما يهجم الكفّار على بلاد المسلمين وحرمة رفع الأيادي المحتلّة لأراضي المسلمين؛ بل يجب عليهم ترك المهاجم لحاله حتى يأتي ويتسلط على بلاد المسلمين وأموالهم وأنفسهم وأعراضهم ويأخذ نساءهم ويفعل ما يشاء، فكأنّ الشارع الحكيم أباح لهم كل شيء من القتال وهلاك الحرث والنسل ولا شك في أن الالتزام بهذا الرأي التزام بخلاف القرآن والسنة ومخالف للحكمة؛ بل مخالف لضرورة العقل وبداهة الفطرة بل منافٍ للغريزة المودعة في كل حيوان والتي تقضي بشرعية الدفاع وجوازه، فلا بدّ إما من الالتزام بترك هذه الأخبار، وإمّا القول برفع اليد عن عمومها وتخصيص الحرمة بالرايات الباطلة الداعية إلى الطاغوت وحكم الشيطان.
وعلى أيّ حال لا تصل النوبة إلى مرحلة التعارض المستقرّ فيما بين الأدلة حتى يؤول الأمر إلى اللجوء إلى المرجّحات أو إلى القواعد
ص: 127
والأصول المطروحة فی باب التعارض من التساقط أو الرجوع إلی الأصل أو التخيير.
رابعًا: لا بد للناس من أمير برّ أو فاجر؛ فإقامة الحكم وتأسيس الدولة لحفظ النظام ودفع الهرج والمرج من ضروريات الاجتماع البشري، وهذا من الأحكام الإمضائية الإسلامية، الحاكم بلزومه وضرورته كلّ العقلاء؛ بل ثبتت ضرورته ببداهة العقل والوجدان، ولا شك في أن الحكم بحرمة خروج كل راية في عصر الغيبة مخالفٌ للحكم بضرورة الدولة والإمارة، ومن هنا نخلص إلى النتائج الآتية:
أوّلًا: لزوم التناقض والتهافت بين التشريعات التأسيسية والإمضائية، وهذا غير معقولٍ.
ثانيًا: منافاته للحكمة ومخالفته لضرورة العقل والعقلاء.
فيجب رفع اليد عن هذا العموم تنزيهًا للحكمة الإلهية، وانسجامًا مع حكم العقل الضروريّ، وحكم العقلاء الموافق للتشريعات الإسلامية والله العالم.إلى هنا تمّ الكلام في الأدلّة المذكورة التي ربّما يُتخيّل أنها معارضة للحكم بضرورة إقامة الحكم الإسلامي وتأسيس النظام السياسي للإسلام في عصر الغيبة وزمان قبض يد الإمام.
ص: 128
يشير السيد الإمام الخميني (قُدّس سِرّه) المؤسّس الأول لإقامة النظام السياسي الإسلامي في عصر الغيبة في مقامي النظر والعمل، في بحوثه الفقهية إلى حقيقة الحكومة الإسلامية وأماراتها وملامحها المختلفة. وهذا الفصل يتكفّل بالإشارة إلى أهم هذه الملامح:
إنّ الإسلام ظهر لتأسيس حكومة عادلة فيها قوانين مربوطة بالضرائب وبيت المال، وبقوانين العقوبات والأحكام الجزائيّة قصاصًا وحدًّا وديات، وقوانين مربوطة بالقضاء والحقوق على نهج عادل وسهل، فأُسُس الحكومة الإسلامية ليست على نهج الاستبداد المحكم فيه رأي الفرد وميوله النفسانية على حساب المجتمع، ولا على نهج المشروطة أو الجمهورية المؤسَّسة على القوانين البشرية التي تفرض تحكيم آراء جماعة من البشر على المجتمع؛ بل حكومةٌ تستوحي وتستمدّ جميع تشريعاتها من القانون الإلهي حتى الطاعة لولاة الأمر. نعم للوالي أن يعمل في الموضوعات على طبق الصلاح للمسلمين، أو لأهل منطقته وليس ذلك استبدادًا بالرأي بل هو طبق الصلاح فرأيه تبع للصلاح كعمله.(1)
ص: 129
الحكومة الإسلامية لا تشبه الأشكال الحكومية المعروفة، فليست حكومة مطلقة يستبدّ فيها رئيس الدولة برأيه عابثًا بأموال الناس ورقابهم وإنما هي دستورية؛ ولكنها ليست دستورية بالمعنى المتعارف الذي يتمثّل في النظام البرلماني أو المجالس الشعبية وأنما هي دستورية مشروطة بمعنى أن القائمين بالأمر يتقيدون بمجموعة الشروط والقواعد المبينة في القرآن والسنة، ويمكن التمييز بين الحكومة الإسلامية والحكومات الدستورية الملكية والجمهورية في أن ممثّلي الشعب أو ممثلي الملك هم الذين يقنّنون ويشرعون، في حين تنحصر سلطة التشريع بالله(عزّ و جلّ).
وليس لأحد أيًّا كان أن يشرّع، وليس لأحد أن يحكم بما لم ينزل الله به من سلطان. لهذا السبب فقد استبدل الإسلام المجلس التشريعي الذي هو واحد من ثلاث سلطات توجد في الدول الحديثة بمجلسٍ آخر للتخطيط يعمل على تنظيم سير الوزارات في أعمالها وفي تقديم خدماتها في جميع المجالات.(1)
حكومة الإسلام حكومة القانون والحاكم هو الله وحده، وهو المشرّع وحده لا سواه، وحكم الله نافذ في جميع الناس وفي العاملين في الدولة نفسها، والحكومة الإسلامية ليست ملكية ولا شاهنشاهية ولا إمبراطورية لأنّ الإسلام منزَّه عن التفريط والاستهانة بأرواح الناس وأموالهم بغير حق؛ ولذلك لا يوجد في حكومة الإسلام نظير لما كَثُر وجوده عند السلاطين والأباطرة من قصور ضخمة وخدم وحشم وبلاط ملكي وديوان لولي العهد وأمثال ذلك. حياة الرسول الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) كانت في منتهى البساطة بالرغم من أنه كان يرأسالدولة ويحكمها بنفسه وكانت حكومة علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حكومة صالحة وكان يعيش ببساطة تامّة.(2)
ص: 130
القيام بشؤون الدولة لا يُكسِب القائمين بالأمر مزيد شأن ورفعة، لأنّ الحكومة وسيلة لتنفيذ الأحكام وإقرار النظام الإسلامي العادل وتتجرّد الحكومة عن أية قيمة إذا اعتبرت هدفاً مقصوداً يطلب لذاته. روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال لابن عبّاس وقد كان بيد الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) نعل يخصفه: ما قيمة هذه النعل؟ قال ابن عباس: لا قيمة لها. قال الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «والله لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلا أن أقيم حقًّا أو أدفع باطلاً.»(1)
فالحكم ليس غاية في نفسه وإنما هو وسيلة، تكون له قيمته ما دامت غايته نبيلة فإذا طلب باعتباره غاية واتخذت لنيله جميع الوسائل فإنه يتدنّى إلى مستوى الجريمة ويصبح طلابه في عداد المجرمين.
واستدلالاً على هذه الحقيقة نذكر ما قاله أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في خطبة له في مسجد الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بعد بيعة الناس له: «اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنردّ المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطلة من حدودك».(2)
بما أن حكومة الإسلام هي حكومة القانون فالحاكم الأعلى في الحقيقة هو القانون والجميع يستظلّون بظلّه والناس أحرار في تصرفاتهم المشروعة فليس لأحد على غيره أيحق وليس لأحد -بعد تنفيذ القانون- أن يقسر أحدًا على الجلوس في مكان معين أو الذهاب إلى مكان معيّن بغير حق. فحكومة الإسلام تطمئن الناس وتؤمّنهم ولا تسلبهم أمنهم واطمئنانهم. فالكل آمن على نفسه وماله وأهله وما يملك؛ لأنه لا يحق لحاكم أن يخطو في الناس بما يتنافى
ص: 131
ما قرّر في الشرع الإسلامي الحنيف فالإسلام يعتبر القانون آلة ووسيلة لتحقيق العدالة في المجتمع وسبيلاً إلى تهذيب الإنسان خلقيًّا وعقائديًّا وعمليًّا. (1)
الحاكم الأعلى لا بد من أن يكون نظره في المصالح العامة ولا يعبأ بالعواطف ولا تأخذه في الله لومة لائم؛ ولذا نرى أن كثيراً من المصالح الخاصّة المؤثرة قد قضي عليها رعاية للمصالح العامّة فقد أتى الرسول الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) على يهود بني-قريظة عن آخرهم لما لمسه منهم من الإضرار بالمجتمع الإسلامي وبحكومته وبجميع الناس فجرأة الحاكم في الله عند تنفيذ أمره وإقامة حدوده من غير خضوع لعاطفة أو انسياق لهوى وكذلك عطفه ورأفته وحنانه وشفاعته للناس؛ الصفتان تجعلان من الحاكم كهفاً يلجأ الناس إليه.(2)
«الإسلام هو الحكومة بجميع شؤونها، والأحكام قوانين الإسلام وهي شأن من شؤونها؛ بل الأحكام مطلوبة بالعرض وأمور آلية لإجرائها وبسط العدالة».(3)
في هذه العبارة يبين السيد الإمام (قُدّس سِرّه) موقع الحكومة الإسلامية في الإسلام أولا وموقع التشريعات الإسلامية في الحكومة الإسلامية ثانيًا.
فبحسب رؤيته: الإسلام هو دولة بجميع شؤونها، والحاكم الإسلامي ووليّ الأمر في الإسلام يكون حصنًا للإسلام، أمينًا وحافظًا لجميع شؤونها من بسط العدالة وإجراء الحدود وحفظ الثغور وأخذ الخراجات وصرفها في مصالح المسلمين ونصب الولاة في الأصقاع. وأمّا الأحكام الفرعية والتشريعات الإسلامية، فهي وسائل ووسائط وآلات بيد الحكومة الإسلامية للوصول إلى
ص: 132
غايتها وهي بسط العدالة، فالتشريعات مندكّة في الحكومة الإسلامية وتُحسب شأناً من شؤونها، فلا يمكننا أن ننظر إلى الأحكام مستقلةً، بلا اعتبار للحكومة الإسلامية وغضّ النظر عنها وجميع الفقه حكومي ينظر إلى كل فرع من فروعه كمقدّمة لتنفيذه في المجتمع.
فبحسب رأيه ورؤيته:
أولا: إن حقيقة الإسلام وماهيته هي الدولة بجميع شؤونها؛ لأنها برمجة لحياة الإنسان وهدايته ورشده وتعاليه من المهد إلى اللحد في جميع أبعادها الفردية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها.
ثانياً: إن التشريعات والفروع الفقهية شأن من شؤونها وكأن النسبة بينها وبين الدولة الإسلامية نسبة الكلّ والجزء؛ ولكن الأصالة للحكومة الإسلامية القائمة بجميع شؤون الإسلام، وأمّا التشريعات الإلهية فهي ليست مطلوبة بالذات؛ بل هي مطلوبة بالعرض لأنّها آلاتٌ تعدّ الأرضية المناسبة لتستطيع الدولة الإسلامية تحقيق الأغراض والأهداف والملاكات الموجودة في الفروع الفقهية من المصالح والمفاسد التي في رأسها بسط العدالة.
يشرح السيد الإمام (قُدّس سِرّه) في كلام آخر له ويفسّر موقف كلّ من هذه الثلاثة أعني الإسلام والدولة الإسلامية والأحكام الفقهية من الآخر ببيان مختلفٍ حيث يقول ما حاصله:
«إن الحكومة بمعنى الولاية المطلقة المفوّضة إلى النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) من أهم الأحكام الإلهية وهي متقدّمة على سائر الأحكام الفرعية، فلا تكون في عرض سائر الأحكام وفي إطار الفروع الأخرى، وإلاّ لو كانت صلاحيات الحكومة في إطار الأحكام الفرعية وما كانت متقدمة عليها؛ لصار جعل الحكومة والولاية المفوّضة في الحقيقة أمرا لَغويًّا عارياً من المغزى واسما بلا مسمّى. فالحكومة
ص: 133
الإسلامية التي تعدّ شعبة من الولاية المطلقة الخاصّة لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) من الأحكام الأولية للإسلام، وهي متقدمة على سائر الأحكام الفرعية بما فيها من الصلاة والصوم والحج. فالحكومة حينما ترى المصلحة في المنع عن فريضة الحج أو تعطيل المساجد أو تخريب المنازل أو إلغاء الاتفاقيات، فلها هذه الصلاحيات فإنّ لها الولاية الإلهية المطلقة المفوّضة.»(1)
فمن جهة؛ الإسلام هو الحكومة بجميع شؤونها وقوانين الإسلام وتشريعاته شأن من شؤونها، ومن هذه الجهة تدخل القوانين في إطار الحكومة الإسلامية.
ولكن من جهة أخرى؛ إن الحكومة الإسلامية حكم من أحكام الإسلام وتشريع الإلهي من التشريعات الإلهية ولا تهافت أو تناقض بين هاتين الجهتين، فإنّ الولاية والحكومة الإسلامية وإن كانت فريضة من الفرائض الإلهية وحكماً كسائر الأحكام والتشريعات ولكن بحسب الرتبة ليست في عرض سائر الأحكام وفي رديف واحد منها، بل هناك أولويات وتراتيب في التشريعات فإنّ الحكومة الإسلامية والحاكم الإسلامي هو المسؤول عن إدارةالمجتمع وفقاً للأحكام الشرعية والحدود الإلهية وهو المسؤول عن تنفيذها وتحققها مع مراعاة المصالح العامّة والأولويات والتراتيب والمقتضيات الزمانية والمكانية. نعم الهدف الأعلى والغاية القصوى هو هداية المجتمع إلى طريق السعادة الأبدية الدنيوية والأخروية والوصول إلى النجاة والفوز العظيم من بسط العدالة والقسط ونشر المعروف وسدّ أبواب الفساد والظلم، إلى غير ذلك من الغايات المنظورة من تحقق المصالح وتجنّب المفاسد.
فالحكومة والدولة الإسلامية وإن كانت من الأحكام الوضعية المجعولة الإلهية وإقامتها من الفرائض التكليفية وحاكمها وولي الأمر فيها له الولاية على المجتمع الإسلامي؛ ولكن لا تقاس سائر التشريعات والفروع المجعولة المدروسة في علم الفقه بهذه الفريضة كسائر الأحكام الأولية؛ وضعيةً كانت
ص: 134
كولاية الأب والجدّ وطهارة الماء ونجاسة الخنزير أو تكليفية كوجوب الصلاة والصوم. فبحسب الرتبة والأهمية لا تُقاس بها سائر الأحكام؛ بل هي متقدمة على جميع الأحكام لأنّ القوانين والفروع تعد شأناً من شؤون الحكومة وهي مطلوبة بالعرض وأمور آلية لتطبيق التكليف بإقامة الحكومة الإسلامية وتنفيذها.
ثمّ إنه وفقاً لهذا المبنى المذكور أعلاه ونتيجة له ومتفرّعا عليه، ففي موارد التزاحم بينها وبين سائر الأحكام الإلهية والفروع الفقهية فهي ومصالحها العامة متقدّمة على سائر الأحكام وملاكاتها.
ونظراً إلى هذه الأهمية والموقف الرئيس وفي سبيل حفظ هذه الولاية واستمرارها أو لأجل إقامتها وتأسيسها يجب أن يضحّي أفضل خلائق الله بماله ونفسه وأهله ويجاهد بماله ونفسه لأجلها؛ فليس هناك مصلحة أهم وفي المرتبة العليا المرتبطة بهذا التشريع الإلهي والسرّ في ذلك أنّه ببركته تقام سائر الفرائض والأحكام وهو مفتاحها ودليلها وقيامها به.
ومن النصوص الصحيحة الدالّة على هذا المبنى كما صرّح به السيد الإمام في بعض كلماته ما ورد في روايات كثيرة مروية عن أئمة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حول مسألة الولاية ومنزلتهاودورها في المعارف الإسلامية؛ منها ما رواه الشيخ الكليني بسند صحيح عن علي بن إبراهيم عن أبيه وعن عبد الله بن الصلت جميعاً عن حمّاد بن عيسى عن حريز بن عبد الله عن زرارة عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: «بني السلام على خمسة أشياء: على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية قال زرارة: فقلت: وأي شيء من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل؛ لأنّها مفتاحهنّ والوالي هو الدليل عليهن....»(1)
فإن الظاهر من الولاية في هذه الأخبار، ليس هو الاعتقاد بالإمامة التي لا يُقبل عملٌ بدونها، بل المراد هو الحكومة والسياسة التي نصب أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)
ص: 135
في يوم الغدير لإقامتها وتأسيسها لبسط العدل وفقاً لما يرضي به الله تبارك وتعالى.(1)
نعم لو فرض طروء ظروف خاصةٍ دار الأمر فيها بين مصلحة الحكومة الإسلامية ومصلحة نفس الإسلام بحيث بقاء الإسلام يكون مرهوناً برفع اليد عن إقامة الحكومة والولاية الإلهية كما تحقّق هذا الفرض بعد رحيل النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بالنسبة إلى أمير المؤمنين حيث إنّه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قدّم المصلحة الأهم وهي بقاء الإسلام، وعمل بالتكليف الإلهي وتحمّل مسؤوليته الشرعية وامتثل وصيّة الرسول الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بغضّ النظر عن الولاية والحكومة، وقدّم مصلحة بقاء الإسلام وأركانه، وتشديد مبانيه على مصلحة استلامه السلطة السياسيّة، فصبر وكظم الغيض على ذهاب حقّه في خلافة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وغصب خمسه وانتهاك حرمته.(2) فحينئذٍ تقدّم مصلحة الأهم وهي حفظ أساس الإسلام وأمّا في غير هذا الفرض النادر جدًّا فالولاية والحكومة الإسلامية التي تعدّ من الأحكام والفرائض الإلهية تكون مقدّمة على جميع الأحكام والفرائض فتقدّم مصلحتها على جميع المصالح.
ثم إن للسيد الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كلامًا في أواخر عمره الشريف، يصرّح فيه بموقع الحكومة ومكانة الولاية بين الأحكام الإسلامية فيقول: «ولاية الفقيه والحكم الحكومتي، من الأحكام الأوّلية في الإسلام »(3)، فما هو المراد من هذا الكلام وكيف ينسجم هذا الكلام مع سائر مواقفه التي يعبّر فيها عن معانٍ قد تبدو مختلفةً عن هذا الموقف.
ص: 136
فنقول في تفسير هذا الكلام:
أولا إن السيد الإمام (قُدّس سِرّه) في البحث عن أصل مسألة ولاية الفقيه ربّما يعبّر عن هذه الولاية بالحكومة الإسلامية؛ لأنّه بالاستناد إلى الأدلة العقلية والنقلية، يعتقد أن الإسلام أسّس الحكومة الإسلامية وأن زمام أمرها كان بيد النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) والأئمة الهداة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ). ثم إن ما ثبت للرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) والأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فهو ثابت للفقيه وهذا هو الذي يعبّر عنه بولاية الفقيه أو الحكومة الإسلامية.(1)
فعلى هذا فما يعبّر عنه في هذه العبارة المذكورة أعلاه «بالحكم الحكومتي» ويعطفها على المبتدأ أعني ولاية الفقيه قبل ذكر الخبر يشير _بهذه العبارة _ إلى أصل الحكومة الإسلامية.
ثانياً لا شك في أنّ الحكومة الإسلامية هي من الأحكام الاولية للإسلام؛ بل هي في صدر قائمة الأحكام الإسلامية وتشريعاتها لأنّ الحكومة الإسلامية؛ فهي أوّلًا لا تُعدّ من الأحكام الثانوية الإسلامية التي تنشأ وتُشرّع بملاك طروء العناوين الطارئة الثانوية كالضرر والحرج والاضطرار والتقية وغير ذلك. وثانياً؛ لا تعتبر من الأحكام الولائيّة والحكومية التي هي عبارة عن التشريعات الصادرة عن ولي أمر المسلمين الراجعة إلى إدارة المجتمع الإسلامي وتعتبر قسماً ثالثاً من الأحكام في عرض الأحكام الأولية والثانوية.
ثالثاً إن السيد الإمام (قُدّس سِرّه) تشييداً لما ذهب إليه من ولاية الفقيه والحكومة الإسلامية في كتابه المسمى بولاية الفقيه ينصّ على أن هذا الموضوع ليس جديداً ابتدعه هو؛ بل إن المسألة بُحثت من أوّل الأمر عندما حكم المرحوم الميرزا الشيرازي (قُدّس سِرّه) بحرمة التنباك، فكان حكمه صادراً من موقع ولاية الفقيه العامّة على الناس والفقهاء الآخرين وكان فقهاء ايران - باستثناء قلّة منهم- قد التزموا بهذا الحكم ولم يكن حكمه ذلك قضاء في نزاع أو خلاف بين اثنين، وإنّما كان حكماً حكوميًّا، رُوعِيَت فيه مصالح المسلمين بحسب الوقت
ص: 137
والظروف والملابسات وبارتفاع تلك الظروف ارتفع الحكم. والمرحوم ميرزا محمد تقي الشيرازي حين أفتى بالجهاد الدفاعيّ واتّبعه العلماء في ذلك كان حكمه صادراً من موقع سلطته وولايته الشرعية العامّة.(1)
فعلى هذا ربّما يستعمل ويعبّر «بالحكم الحكومي» ويراد مصاديق الحكم الحكومي التي أنشأها بعض الفقهاء كحرمة التنباك، وهذا ما يعبّر عنه في المصطلح بالحكم الحكومي والحكم الولائي كقسمٍ ثالث من الأحكام في مقابل الحكم الأولى والثانوي.
ولكن ربّما يُستعمل مصطلح «الحكم الحكومي» ويراد منه أصل الحكومة الإسلامية وأصل ولاية الفقيه، ففي هذا الاستعمال ليس المراد مصاديق الحكم الحكومي بل المراد منه أصل الولاية والحكومة ومشروعيّتها التي جُعِلت للفقيه في عصر الغيبة كحكم وضعي في قبال سائر الأحكام الوضعية الشرعية، ولا شك في أنّ هذا الحكم من الأحكام الأولية الإسلامية؛ بل بحسب الأهمية في رأس الأحكام الأولية وبهذا التعبير ليس الحكم الحكومي قسماً ثالثاً في مقابل الحكم الأوليّ والحكم الثانوي؛ بل هو في صدر الأحكام الأولية.
اللمحة العاشرة: الحكومة الإسلامية وتأسيس الفقه الحكومی(2)
في التعبير عن الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه «بالحكم الحكومي» (حكم حكومتي) نقطة ظريفة، وهي الإشارة إلى فقه الدولة وفقه الحكومة وإن كل فتوى وحكم إذا صدر ونشأ واستُنبِط خارج إطار الحكومة والولاية فإنّه وإن كان حجّة ومعتبرة لفرد المفتي أو مقلّده بعنوان أنّه إخبار عن الحكم الإلهي وتشريعه؛ ولكن إذا كان للفتوى والحكم صلةً وربطاً بالمجتمع وأموره وكانت
ص: 138
له أبعاد اجتماعيّة فحينئذٍ يكون تنفيذه وإجراؤه في المجتمع بحاجة إلى الولاية وأمره موكول إلى من بيده زمام أمر الأمّة، وليس لغير ولي الأمة مزاحمة الحاكم والإقدام على تنفيذ الأحكام مباشرة بلا استئذان وتنسيق مع الحكومة الإسلامية.
ومن هنا، قد يقال هناك فرق بين الفقه الحكومي و فقه السياسة، فإنّ موضوع فقه السياسة يختصّ بالتشريعات السياسية كالجهاد وإجراء الحدود والقصاص وغيرهما ممّا يعدّ قسماً من الأحكام الفقهية لا جميعها، والنسبة بين مسائل فقه السياسة والمسائل الفقهية عموم مطلق، وأمّا موضوع الفقه الحكومي، فلا يختصّ بالتشريعات السياسية، بل يشمل جميع الأحكام والمسائل الفقهية برمّتها ولكن من الوجهة الاجتماعية والبعد الاجتماعي فإنّ وظيفة الحكومة الإسلامية ومسؤوليتها هي تنفيذ جميع الأحكام وإقامتها وبسطها ونشرها، وذلك من الطهارة والصلاة إلى القصاص والديات والدولة الإسلامية، وكما هي مكلّفة بإجراء الحدود الإلهية والقضاء والجهاد والمنع من الظلم والفساد والتعدي ممّا يُعدّ من مسائل الفقه السياسي فكذلك الدولة مكلّفة بإقامة العبادات والمناسك والصلاة والصوم في المجتمع وبسط الأخلاق ونشر العقائد الحقّة وتعليم الناس الآداب الاجتماعيةالصحيحة وغيرها فالدولة مكلّفه بإقامة جميع الأحكام الفقهية ومسؤولة عنها بإيجاد الأرضية المناسبة لتحقق كل منها، وتخطيط البرامج والاستراتيجيات المدروسة والمدونة في هذا المجال. كلّ هذا من وظائف الدولة الإسلامية وتكاليفها ووضع هذه الوظيفة على عاتق الدولة الإسلامية من الأحكام الأوّلية الفقهية الصادرة عن مبدأ التشريع الإلهي. وبعبارة أخرى: إنكان هناك حكم وفتوى مستنبطة من الأدلة الشرعية فهذا الحكم في الحقيقة بما أنّه مرتبط بالقضايا الاجتماعية، فهو شأنيٌّ وأمّا فعليّته ولزوم تنفيذه في المجتمع فمشروطٌ أو معلّق على رأي إمام المسلمين وداخل في صلاحيات الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه، بحسب ما يراه الوليّ من الظروف الاجتماعية بلا تهاون وفتور، ثم بعد إبداء رأيه بالتنفيذ يصير حكماً فعليًّا منجّزاً يجب اتّباعه وامتثاله. نعم إذا لم تكن هناك حكومة وولاية مشروعة
ص: 139
وشرعية ولم يوجد فقيه متّصف بأوصاف الولاية، فالأمر يدخل في مسألة ولاية عدول المؤمنين ونحوها، وذلك وفق التفصيل الذي يُبحث في مراتب الأولياء.
ومن هنا، يرى حسب ما يُستفاد من فكر السيد الإمام (قُدّس سِرّه) أنّ جميع الفقه الإسلامي في بُعده الاجتماعي هو فقه حكومي، من العبادات إلى القصاص والديات، وإن تنفيذه وتحققه الاجتماعي، بالتواجد في وسط الحياة الاجتماعية لا في هامشها، وإقامتها في جميع أبعاد حياة البشر هذا التحقّق مرتبط ومتّصل بالحكومة والولاية. وهذا حكم أوليّ مقدّم على جميع الأحكام الأولية والثانوية. وهذا الحكم الأولي يعبّر عنه السيد الإمام (قُدّس سِرّه) بولاية الفقيه والحكم الحكومي، وفي مقام التطبيق، إذا وصل الحكم إلى مرحلة الإقدام والإعلان والإنشاء، وأنشأ الفقيه الوليّ حكماً واصدر إلزاماً، فهو يعبر عن حكمه وإلزامه بالحكم الولائي أو الحكم الحكومي. وبهذا البيان يظهر أن الفقه وإن كان بإمكاننا أن نخصّصه بعدّة اختصاصات كفقه القضاء وفقه العبادة وفقه الأسرة وفقه الاقتصاد وفقه العقود وفقه الوقف وفقه التربية إلى غير ذلك من الفروع الفقهية المضافة المتشعبة من الفقه غير المقيّد بأحد هذه القيود، بأن تكون صلة كل فرع إلى أصل الفقه، صلة الجزء والكل فبالنتيجة إضافةالفقه إلى كل من هذه الفروع من قبيل الإضافة التبعيضية؛ ولكن أمر الفقه السياسي يختلف فإنّ الفقه السياسي إن كان المراد منه، الأحكام الخاصّة بالسياسة مباشرة كالجهاد والأمر بالمعروف وإجراء الحدود وما شابه ذلك؛ فحينئذٍ يكون فقه السياسة فرعاً من الفروع الفقهية في عرض سائر الفروع ولكن إذا كان المراد؛ أن جميع الفقه حتى باب الطهارة ومقدمات الصلاة وأحكام الأموات له صلة وثيقة بالحكومة والسياسة وإن البرامج والتخطيطات والاستراتيجيات الدولة لها تأثير خاصٌّ في إقامة الأحكام الإلهية والتشريعات الشرعية، وقلنا إن من وظائف الحكومة الإسلامية أن تقرّ وتعتمد برامج خاصّة لتحقق جميع الفقه في المجتمع، فعلى حسب هذه الرّؤية إلى الفقه من بدايته إلى نهايته _كما يرى في فكر السيد الإمام ومنهجه الفقهي_ لا يكون الفقه السياسي فرعاً بمحاذاة سائر الفروع الفقهية ولا قسماً
ص: 140
من أقسام الفقه الإسلامي. وبعبارة أخرى: عبارة الفقه السياسي ليس من باب المضاف والمضاف إليه بل يعتبر الفقه السياسي من باب الصفة والموصوف. وإن كلمة السياسي توضّح ماهية الفقه وتبيّنها فإنّ السياسة صفة لجميع الأبواب الفقهية لا قسما من أقسام الفقه. وبهذا البيان يظهر أنه ما ربما يُوهم أن هناك فرقًا بين الفقه الحكومي والفقه السياسي لا يخلو من تأمّل ومناقشة. بل جميع الفقه سياسي، وكل الأحكام الفقهية وفروعها له صلة وثيق بالدولة والحكومة الإسلامية.
وهذا الأمر بمكان من الوضوح خاصّة في الفقه والاجتهاد المعاصر حيث نرى أن كثيراً من الأحكام والفروع الفقهية كانت تعدّ في السابق من الزمان في عداد الأحكام الفردية ومن الوظائف الفردية دون تكاليف المجتمع والدولة؛ ولكن في العصر الراهن أعني عصر التقدّم والتكنولوجيا نرى أن وظائف الدولة قد توسّعت كثيرًا إلى نواحي عدّة ونرى أن هذه الأحكام الفردية صارت اليوم من الوظائف المباشرة للدولة. على سبيل المثال بيع السلاح لأعداء الدين التي يبحث عنها، في المكاسب المحرمة من حيث الإباحة والحرمة والصحة والفساد تكليفاً أو وضعاً، وكان اتّجاه البحث إلى بيان وظيفة الفرد وموقفه بالنسبة إلى هذهالقضية؛ ولكن اليوم صارت هذه المسألة واضحة بأنّ أمر السلاح كلّه: مِن صنعه وبيعه وشرائه إلى إعطائه وإهدائه وغير ذلك من التصرفات المرتبطة به من شؤون الحكومة والدولة. ويجب أن يكون تحت إشرافها وولايتها. ومن هذا القبيل أيضا مسألة وجوب التعلم وأن العلم فريضة على المسلمين، ففي السابق كان ينظر إلى هذه القضية على أنّها قضيّة فرديّة؛ ولذا كان الفقهاء يفتون بوجوب تعلّم الأحكام المبتلى بها وتعلم أصول الدين فقط، دون وجوب سائر العلوم ولكن اليوم مسألة نظام التعليم من المسائل المهمة، التي صارت جلّ أمورها داخلة في صلاحيات الدولة ومسؤوليات الحكومة الإسلامية لاتخاذ البرامج والاستراتيجيات لكي يصل المجتمع الإسلامي في جميع الفروع العلمية إلى حدّ الكفاية والقدرة على التطوّر والرقيّ، والاستغناء على الأجانب والأعداء.
ص: 141
وهذا الحكم من الفرائض والواجبات العينية على الدولة الإسلامية ولايختصّ بفرع خاص من الفروع العلمية؛ بل يشمل جميع العلوم برمّتها.
فبالنتيجة من هذا المنظار يرى أن الفقه هو برمجة الحياة وأن تحقّقه وإقامته في وسط المجتمع موكول إلى الحكومة والولاية فالفقه كلّه حكومي وسياسي وولائي.
إلى هنا تم الكلام عن المرحلة الأولى من فقه الدولة، ويتلوه الكلام عن المرحلة الثانية الخاصّة بالبحث عن شروط وليّ الأمر في عصر الغيبة.
ص: 142
ص: 143
ص: 144
تقدّم أنّ البحث في فقه الدولة يتمحور حول المحورين الأساسيين، المحور الأول هو البحث في ضرورة إقامة الدولة الإسلامية في عصر الغيبة، والمحور الثاني في شروط وليّ الأمر والإمام الذي يريد أن يقيم الدولة ويتصدّى للحكم في هذا العصر. وقد أكملنا البحث حول المحور الأول وفي هذا القسم نبحث عن المحور الثاني.
من الواضح أن أتباع مدرسة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وفقهاء مذهبهم، بخلاف سائر المذاهب المشهورة، يرون بحسب الحكم الأولي، أن الشرط الأساس للإمامة وإقامة الحكم هو العصمة والنصّ. والبحث الآن ليس في هذا الفرض؛ بل المفروض هو عصر الغيبة وزمن قبض يد الإمام المعصوم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وعدم بسطها، أعني الزمن الذي تجب إقامة الدولة الإسلامية فيه، من جهةٍ ومن جهةٍ أخرى الزمن الذي لا يتمكّن الناس فيه من الوصول إلى المعصوم أو التواصل معه، فما هي الشروط والصلاحيات التي يجب أن يتّصف بها الإمام وولي أمر المسلمين في هذه الظروف؟
وهذه المسألة من المسائل المستحدثة التي لم يتعرّض فقهاء الطائفة في كتبهم الفقهية غالباً كبحث مستقلٍّ ومستوفًي؛ لعدم كونها محلّ ابتلاء عند أتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ). وذلك لأنّ الأمر في الأعمّ الأغلب، وفي طول التاريخ إلّا ما شذّ منه كان بيد الذين احتلّوا مسند الإمامة دون أن يكونوا أهلًا لها. وأتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) كأئمتهم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) كانوا في أكثر فترات التاريخ في حالة ضيق وشدة وحصر وتقية. وفي مثل هذه الظروف لم تكن إقامة الدولة العادلة ممكنةً؛ حتّى يبحثوا في شروط رأسها. فالمسألة كانت محلًّا للابتلاء عند سائر المذاهب
ص: 145
الإسلامية؛ ولذلك نجد أنهم تعرّضوا للبحث عن شروط ولي الأمر على حسبمعتقدهم، حيث إنهم لا يعترفون بلزوم العصمة، ولا يقرّون بمسألة الغيبة فالأمر عندهم بعد وفاة الرسول الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) في كل الأزمنة سواء، وعلى مدار واحد لا فرق بينها.
وعلى هذا المبنى، فإنّهم ذكروا شروطاً للإمام، لا بأس من الإشارة إلى بعض آراء مفكريهم كنموذج لاعتقادهم.
1) رأي الماوردي: يشترط الماوردي في وليّ الأمر شروطاً سبعة، هي: 1. العدالة على شروطها الجامعة؛ 2. العلم المؤدّي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام؛ 3. سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان؛ 4. سلامة الأعضاء من النقص؛ 5. الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح؛ 6. الشجاعة؛ 7. النسب وهو أن يكون وليّ الأمر من قريش.(1)
2) رأي الفرّاء: يرى الفرّاء وجوب اتّصاف الإمام ووليّ بشروط أربعة هي: 1. أن يكون قرشيًّا من صميم؛ 2. أن يكون على صفة من يصلح أن يكون قاضيًا من الحرية والبلوغ والعقل والعلم والعدالة؛ 3. أن يكون قيّمًا بأمر الحرب والسياسة وإقامة الحدود؛ 4. أن يكون من أفضلهم في العلم والدين.(2) ونظيره ما ذهب إليه القاضي الباقلاني.(3)
3) رأي القاضي عضد الدين الإيجي: يقول الإيجي في شروط الإمامة: الجمهور على أن أهل الإمامة مجتهد في الأصول والفروع ليقوم بأمور الدين، ذو رأي ليقوم بأمور الملك شجاع ليقوى على الذّبّ عن الحوزة.(4)
ص: 146
4) رأي إمام الحرمين الجويني: الشروط التي يجب أن يتّصف بها الإمام، عند الجويني هي: 1. الاجتهاد وهذا متفق عليه؛ 2. التصدي لمصالح الأمور وضبطها؛ 3. النجدة(1)
في تجهيز الجيوش وسدّ الثغور؛ 4. أن يكون ذا نظر حصيف(2) في النظر إلى الأمّة؛ 5. الشجاعة والإقدام؛ 6. ومن شرائطها عند أصحابنا يعني الشافعية أن يكون الإمام من قريش.(3)
5) رأي ابن خلدون: شروط منصب الإمامة عنده أربعة هي: العلم والعدالة والكفاية وسلامة الحواس والأعضاء مما يؤثّر في الرأي والعمل، واختُلف في الشرط الخامس وهو النسب القرشيّ.(4)
أقول: بالتأمّل في كلمات أعاظم المذاهب الأربعة يظهر أنّهم متّفقون في أكثر الشروط وخاصّة أن في صفات الاجتهاد والعدالة والكفاية، فهذه الشروط هي محلّ اتّفاقٍ بينهم.
من الواضح أن علماء مذهب اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) كانوا يتعرّضون لشروط الإمام في الكتب الكلامية بحسب الحكم الأولي وبما أن أهمّ شروط الإمامة عندهم هو شرط العصمة،(5)
فكانوا لا يرون مجالاً للبحث عن أوصاف ولي الأمر في زمن الغيبة وعدم التمكن من المعصوم، فكأنّ المسألة كانت منتفية من باب انتفاء السالبة بانتفاء موضوعها؛ ولكن بعد اقتدار أتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وكثرة عددهم وازدياد نفوذهم الاجتماعي شيئاً فشيئاً، وخاصّة بعد تمكّنهم الأخير من إقامة الحكم في إيران وتأسيس النظام الإسلامي وبعد انتصارالثورة الإسلامية وكتابة الدستور الإسلامي، جرى البحث حول شروط الإمامة والقيادة عندهم.
ص: 147
نعم، ذكر فقهاؤنا العظام في كتبهم الفقهية - عند البحث عن المرجعية في أبواب الاجتهاد والتقليد- في خلال البحث شروط المجتهد الذي يجوز تقليده من البلوغ والعقل والإيمان والعدالة والرجولة والأعلمية وغيرها ومن المعلوم أن المرجعية وماهيّتها المحقّقة في أوساط الطائفة الإمامية ما كانت مسؤولياتها الاجتماعية منحصرة عندهم في التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم فقط؛ بل حقيقتها ترجع إلى نوع من القيادة والزعامة والولاية للمجتمع ولذا يعتبرون المجتهد المرجع حاكماً يُرجَع إليه في المرافعات والخصومات ولا يجوز الرجوع إلى غيره في هذه الأمور، ويفتون بعدم جواز نقض حكم الحاكم الجامع للشرائط.(1)
فالمرجع عندهم عبر التاريخ كان مرجعاً في الأمور الاجتماعية التي يعبّر عنها بالأمور الحسبية. ففي مقام البحث عن المرجع الصالح للتقليد المتصدّي للأمور الحسبية بحثوا عن الشروط ولا ريب أن الشرط الأول والأساس في هذا المجال هو الاجتهاد فذكروا الاجتهاد كالحجر الأساس لجواز التقليد أو الإفتاء والقضاء وأمور الحسبة، ثم بعده تعرّضوا لسائر الأوصاف والشروط. هذا ما تعرّضوا له في خلال بحوث الاجتهاد والتقليد.
لكن أول من تعرّض لشروط الإمامة وولاية الأمر في زمن الغيبة لأجل إقامة الحكومة الإسلامية هو السيد الإمام (قُدّس سِرّه). حيث إنّه بعد الفراغ عن المرحلة الأولى لبحثه وإثبات ضرورة الحكومة الإسلامية دخل في المرحلة الثانية في البحث عن الأوصاف فيقول:
«إن الحكومة الإسلامية لمّا كانت حكومة قانونية؛ بل حكومة القانون الإلهي فقط -وإنما جعلت لأجل إجراء القانون وبسط العدالة الإلهية بين الناس- لا بدّ في الوالي من صفتين هما أساس الحكومة القانونية ولا يعقل تحقّقها إلّا بهما: أحدهما العلم بالقانونوثانيتهما العدالة، ومسألة الكفاية داخلة في العلم بنطاقه
ص: 148
الأوسع ولا شبهة في لزومها في الحاكم أيضا وإن شئت قلت: هذه شرط ثالث من أسس الشروط.»(1)
نعم ذكر العلامة الحلي (قُدّس سِرّه) قبل السيد الإمام (قُدّس سِرّه) في خلال بحثه عن قتال أهل البغي أنه جرت العادة بين الفقهاء أن يذكروا الإمامة في هذا الموضع ليُعرف الإمام الذي يجب اتّباعه ويصير الإنسان باغيا بالخروج عليه وليست من علم الفقه؛ بل هي من علم الكلام فذکر شروطا للإمام بالمناسبة من التکلیف والإسلام و العدالة والحريّة والذكورة والعلم والشجاعة والكفاية وصحة الأعضاء والقرشية والعصمة والنصّ عليه وأن يكون أفضل أهل زمانه وتنزهه عن القبائح.(2)
ولا شك في أنه وإن يذكر العلامة هذه الشروط في الفقه؛ ولكن هو يبحث عن الإمامة بالأصالة بحسب الحكم الأولي وهذا الفرض خارج عن محلّ بحثنا.
كلّ ما ذكرنا أعلاه كان بياناً لتاريخ البحث عن الأوصاف والشروط قبل انتصار الثورة وما جاء في تراثنا الفقهي ممّا ذكره أصحابنا 5
لا شك في أنه بعد انتصار الثورة تغير الأمر كثيراً وعلى حسب الظروف الجديدة توسّع البحث عن أوصاف الحاكم وإمام زمن الغيبة فيما بين الآراء والمناهج الفقهية المختلفة من أصحابنا الإمامية. وستأتي الاشارة إلى إجمالها وحصيلتها. ولكن من بين الآراء والمؤلّفات المدوّنه المتعرّضة للبحث عن أوصاف ولي الأمر ما هو أهمّ دوراً وأكثر قيمةً وهو ما جاء في الدستور الجمهورية الإسلامية في إيران، فإنّ هذا الدستور ليس كسائر الدساتير للبلاد الأخرى وليس كسائر المؤلّفات أيضاً ولا نتيجة رأي شخص واحد وفكرخاصٍّ؛ بل هذا الدستور هو ثمرة آراء عشرات الفقهاء والمفكرين والقانونيين
ص: 149
الذين شاركوا في لجنة كتابة الدستور ممثّلين للشعب الإيراني في السنة الأولى من انتصار الثورة فناقشوا في كلّ الموادّ بل في كل كلمة منها وبعد جهد كبير انتهوا من الدستور. وأعلن الشعب الإيراني موافقته على هذا الدستور وتأييده له في استفتاء خاصّ. ومن هنا يمكن التعامل مع هذه الوثيقة الدستورية كوثيقة فقهيّة؛ لأنّها مبنيّة على بحثٍ فقهيّ ووجهات نظر فقهيّة.
ففي بعض الفصول وخلال بعض موادّ هذا الدستور صُرِّح بشروط الإمامة وولاية الأمر.
ومن ذلك ما ورد في المادّة الخامسة حيث صرّح بأنّ «مسؤولية ولاية الإمر وإمامة الأمّة في الجمهورية الإسلامية في إيران زمن غيبة الإمام المهدي(عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ) تقع على عائق فقيه عادل ورع بصير بقضايا عصره شجاع، كفء (مدير)، حصيف (مدبّر)، يتولّى المسؤولية وفقاً للمادة (107) السابعة بعد المئة من الدستور.(1)
ومنها المادّة التاسعة بعد المئة (109): شروط ومواصفات القائد:
1. القدرة العلمية اللازمة على الإفتاء في مختلف أبواب الفقه
2. العدالة والتقوى المطلوبتان لقيادة الأمّة الإسلامية
3. الرؤية السياسية والاجتماعية الصحيحة والتدبّر والشجاعة والكفاءة الإدارية والقدرة الكافية على القيادة. وفي حالة تعدّد الأشخاص المتوافر لديهم الشروط المذكورة أعلاه، يرجّح الذي يمتلك منهم رؤية فقهية وسياسية أدّق.(2)والآن بعد هذا الموجز من تاريخ المسألة والتعرّف إلى الآراء الفقهية فيها
ص: 150
فلندخل في صلب الموضوع، ولنبحث عن شروط الإمام والقائد في زمن الغيبة وقبض يد الإمام المعصوم وبما أن ما هو مذكور في موادّ الدستور الجمهورية الإسلامية هو مغزى البحث، وهو الأساس وعمدة ما ذكر في هذا الباب من قبل الفقهاء والقانونيين، فإننا نقتفي أثره ونبحث في الشروط بحسب ترتيب الشروط المذكورة في الدستور.
ص: 151
ص: 152
الشرط الأول لإمامة الأمّه في عصر الغيبة هو القدرة العلمية اللازمة للإفتاء في مختلف أبواب الفقه التي يعبرّ عنها بالفقاهة. وهذا الشرط كما ذكرنا أعلاه متفق عليه عند المذاهب الأربعة؛ بل اتفق عليه العقلاء كافة على حسب التقرير الذي سنشير إليه.
وبناء عليه يجب أن يكون ولي الأمر صاحب ملكة يقدر بها على الاجتهاد ويستطيع بها أن يستنبط الأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية وبهذا الشرط:
أولا: يخرج الجاهل بالإسلام وأحكامه وتشريعاته.
ثانياً: يخرج العالم بالأحكام تقليداً لأنّه ليس صاحب رأي وفتوى في مختلف المسائل الفقهية.
ثالثاً: يخرج المجتهد المتجزِّئ الذي يقدر على استنباط الحكم الشرعي في بعض الأبواب الفقهية دون بعضها.
يُستدلّ لشرطية الفقاهة والاجتهاد بأدلّة مختلفة عقلية ونقلية.
أمّا الدليل العقل فيمكن تقريبه وتوضيحه بتقريبين مختلفين:
ص: 153
لا بدّ عقلاً في الوالي وزعيم الأمة الإسلامية من العلم بالشريعة والفقاهة، ولا يعقل تحقق الحكومة الإسلامية إلا بعلمه بقانون الإسلام وتشريعاته(1)
فإنّ الوالي يريد أن ينفّذ أحكام الإسلام ومقرّراته، وليس له شان ولا همّ سواه؛ فمن الواجب عقلاً أن يعلم الوالي الإسلام عن اجتهاد ورأيٍ حتى ينفّذه في وسط المجتمع. وبحسب هذا التقريب يكون العلم بالقانون مقدّمة لأداء الوظيفة والمسؤولية.
وحكم العقل هذا ليس خاصًّا بالدولة الإسلامية؛ بل العقل يحكم بضرورة العلم بالقانون مطلقاً لمن يريد أن يقوم بالحكم ويتسلّط على الأمور على حسب قانون خاص ومبدإٍ فكري خاص، بل حكم العقل أوسع من ذلك لأنّه لتفويض أي أمر من الأمور إلى أيّ أحدٍ يرى العقل لزوم كونه عالماً بكيفية العمل وفنونه، فإذا أريد استئجار شخص لإنشاء البناء، يشترط العقل في الأجير أن يكون عالمًا وخبيرًا في فنّ العمارة، وهكذا في سائر الأمور من الزرع والغرس والتجارة وغيرها إلى أمر الولاية(2) التي لا يرى أمر أهم منها في المجتمع البشري، فإذا فوّض أمر الولاية إلى أحد وفرض أن المفوضين يعتقدون بمبدإ خاص أو أيديولوجية خاصّة متضمنة لقوانين مخصوصه وأرادوا إدارة شؤونهم وفقاً لهذا المبدأ الخاص وهذه الأيديولوجية الخاصة، فلا بد لهم عقلاً من اختيار عالمٍ بهذا المبدأوهذه الفكرة، حتى لو اعتقدوا مثلاً بالمبدإ المادّي وفكرة الليبرالية فعليهم أن يفوضوا أمرهم إلى شخص عالم بهذه الفكرة ومؤمنٍ بهذا المبدإ. هذا ما حكم به العقل على سبيل الموجبة الكلية في جميع الأمور فتطبيقاً لهذا الحكم الكلي على الولاية والحكومة الإسلامية يرى العقل أن الذي: يريد أن يحكم على حسب مبدأ الإسلام
ص: 154
وتشريعاته وينفّذ قرارات الإسلام، ويقيم الحدود وينشر المعارف الإسلامية ويبسط العدالة والقسط ويدافع عن الحرية على حسب الفقه الإسلامي وفي المجتمع الإسلامي؛ لا بد من أن يكون عالماً بهذه الأحكام جميعاً علماً اجتهاديًّا وأو يكون صاحب رأيٍ، وهذا الحكم العقليّ الصريح، تشهد به الفطرة الإنسانيّة أيضًا.
ويؤيّد ذلك بل يدلّ عليه ما ورد في صحيحة عيص بن القاسم المذكورة آنفاً في الفصل الأخير من المرحلة الأولي عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فإنّ الإمام أرجع الراوي إلى صريح حكم عقله وما يدركه بحقيقة فطرته حيث قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):
«وانظروا لأنفسكم فوالله إنّ الرجل ليكون له الغنم، فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه، ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها».(1)
فإنّه يستفاد من الرواية
أولا: اعتبار العلم في الإمام ووليّ الأمر، وأنه اعتبار عقلي يمضيه الشرع لا أمر تعبّدي لا طريق للعقل إلى كشف ملاكه.
ثانياً: العقل والشرع متعاضدان لا على اعتبار العلم فقط؛ بل على اعتبار الأعلمية والمراد من الأعلمية المطلوبة هو الأعلمية اللازمة لتدبير أمر الأمة على ما ينبغي من حيث الفقاهة والإدارة والكفاءة وكشف المصالح وغيرها.
هذا هو التقريب الأول لحكم العقل وملخّصه ضرورة الفقاهة في الإمام وولي الأمر مقدّمةً للوصول إلى الحكومة الإسلامية ومقاصدها وأغراضها. وهذا الحكم يعتبر من غيرالمستقلات العقلية على حسب مصطلح الأصوليين لأنّ تأسيس الحكومة الإسلامية فريضة شرعية فتجب مقدماتها التي منها علم الحاكم بالإسلام وقوانينه.
ص: 155
بحسب مبدإ الحكمة الإلهية من المحال أن يجعل الله تبارك وتعالى الجاهل والياً على المسلمين وحاكماً على مقدراتهم وأموالهم ونفوسهم مع ما نعرف من شدّة اهتمام الشارع الأقدس بذلك.(1)
فإن الولاية بحاجة إلى إذنه تعالى وهو مبدأ الولايات كما مرّ في القسم الأول، ومن المحال أن يأذن للجاهل في التصرّف في مقدّرات المجتمع الإسلامي لمنافاة ذلك مع الحكمة الإلهية.
والنتيجة: أن الجاهل خارج عن مدار جعل الولاية وأن الولاية خاصّة بالعالم بمقرّرات الإسلام وتشريعاته.
وهذا التقريب خلافاً للتقريب السابق من المستقلات العقلية يحكم به العقل على حسب المبادئ الكلامية والفلسفية الإسلامية المعتبرة مع قطع النظر عن كون علم الحاكم والوالي مقدّمة لتحقق الحكومة أم لا؟ فلا يخفى الفرق بين التقريبين.
من سيرة العقلاء في تصرّفاتهم ومعاملاتهم تفويض أمورهم وشؤونهم وما يهتمّون به من أغراضهم إلى العالم والخبير ويعتبرون من السفه أن يوكلوا أمورهم ولو كان أمرا بسيطاً كبناء بيت أو إصلاح سيارة إلى الجاهل وغير الخبير ومن لم يكن عنده المهارة اللازمة للقيام بالأمر، فكيف بما إذا كان الأمر من الأمور المهمة المؤثرة في جميع شؤون حياتهموسعادتهم الدنيوية والأخروية وخاصّة الولاية والحكومة التي تعتبر منشأ لاستجلاب القوّة والقدرة والعدّة والثروة، فلا يرون أي وجهٍ للتساهل بلزوم علم ولي أمرهم بالقوانين والقيم والاعتقادات التي يرونها واجبة التنفيذ.
ص: 156
فلا حاجة لاعتبار علم الإمام ولزوم فقاهة الحاكم إلى تعبد شرعي؛ بل نفس بناء العقلاء وسيرتهم يكفي دليلاً لاعتباره وشرطيته. وبما أن هذه السيرة والبناء كان في مرأى ومسمع الشارع، فيستكشف من سكوته عنه إمضاؤه شرعاً فلا يكون هناك تعبد شرعي خاص به.
نعم هذه القاعدة العقلائية لا تقضي أزيد من اعتبار العلم لمن يوكل إليه الأمر، إمّا بنفسه مباشرة وإمّا بتفويضه إلى أحد خبير عارفٍ يأتي به كما ينبغي فلا توجب القاعدة المباشرة؛ بل توجب معرفة إتيان الأمر بنحو مطلوب لتحقق الأهداف والآمال.(1)
ثم مما ذكرنا أعلاه يعلم:
أولا: أنّه لا وجه لجعل هذه القاعدة العقلائية ودليل العقل الذي ذكرناه أعلاه دليلاً واحداً لإثبات المدّعى كما قد يتوهم ويرى،(2)
لأنّهما كما بُيِّن في علم الأصول دليلان مختلفان فإنّ هناك فرق بين حكم العقل وبناء العقلاء، بحسب المقدّمات والمبادئ ووجه الحجية وكيفية التقريب والآثار. فهما حجّتان مستقلّتان يجوز التمسّك والاستدلال لكل واحد منهما لإثبات المطلوب.
إن قلت: من المحتمل قويًّا أن علّة تحقق بناء العقلاء واستقرار سيرتهم على اعتبار العلم هو حكم العقل وارتكازهم العقلي؛ بل اقتضاء فطرتهم لذلك قلت: بعد فرض التسليم لكن هذا لا يوجب وضع الدليلين دليلاً واحداً كما لا يخفى.ثانياً: إن استقرار بناء العقلاء لا يكون فقط في اعتبار العلم في الجملة أو مطلق العلم بل المعتبر هو الأعلمية اللازمة لولي الأمر وحاكم المسلمين ورئيس الدولة وهي العلم بأصل الأحكام الشرعية اجتهاداً لا تقليدًا وكيفية تطبيقها على مواردها مع حسن الإدارة على حسب المعايير العقلية والشرعية وحفظ المصالح، كلّ ذلك في طريق تحقق الأهداف والأغراض كنشر التوحيد وبسط العدالة.
ص: 157
هناك آيات من الذكر الحكيم يستدلّ بها لاعتبار العلم ولزومه:
قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلْ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ ان يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا ان يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾. (سورة يونس: الآية 35)
بيان الاستدلال:
الآية الشريفة وإن وردت في سياق الاحتجاج والجدل مع المشركين لإبطال شركهم بالحجج القاطعة؛ ولكنّها مع ذلك متضمّنة لحجة عقلية مرتكزة في الفطرة الإنسانية، وهي وجوب تبعية الحق عقلاً على سبيل الإطلاق، حتى لو فرض أن أحداً زلّ في بعض أعماله عن طريق الحق واتّبع غيره لغلط أو شبهة أو هوى وشهوة نفسية فإنما يتّبعه بحسبانه إياه حقًّا والتباس الأمر عليه، وإلاّ فالحق واجب الاتّباع عقلاً على الإطلاق. هذه هي المقدّمة الأولى.ثم إن الهادي إلى الحق أيضًا واجب اتباعه عقلا وبحكم الفطرة؛ لما عنده من الحق فمن الواجب ترجيحه على من لا يهدي إليه لأنّ اتّباع الهادي إلى الحق اتّباع لنفس الحق الذي معه ووجوب اتباعه ضروري. وهذه هي المقدّمة الثانية.
وهذه الحجّة العقلية قضية مطلقة وموجبة كلية قابلة للتطبيق على المصاديق المختلفة والصغريات المتفاوته، منها تطبيقها على مورد الآية وهو الشرك والسؤال عن شركاء المشركين هل فيهم من يهدي إلى الحق؟ ومنها تطبيقها على الولاية والإمامة فإنها تقتضي التبعية والإطاعة وبحكم هذه الحجة العقلية المذكورة في الآية لا يجوز تبعية غير الهادي إلى الحقّ. وأمّا من لا يهدي إلا أن يهدي كالجاهل فلا يجوز اتّباعه.
ص: 158
وقوله تعالى «لا يهدّي» بكسر الهاء وتشديد الدال، أصله يهتدي، ظاهر في الذي يهتدي بغيره لا بنفسه وهو غير العالم الذي يحتاج في هدايته إلى عالم يهديه ويوصله إلى المطلوب والإتيان بصيغة «أحقّ»، في الآية منسلخة عن معنى التفضيل، فلا مجال لتوهّم اشتمال اتباع غير الهادي إلى الحق على حق، ولو في مرتبة نازلة وضعيفة.(1)
فبالنتيجة إنّ هذه الآية الشريفة تدلّ بوضوح على عدم جواز اتّباع غير العالم الذي لا يهتدي بنفسه إلى الحقّ، وحيث إنّ مسألة الولاية والإمامة موقوفة على تبعية الأمّة فلا محالة يجب أن يكون الإمام وولي الأمر متّصفًا بوصف العلم والفقاهة حتى يهدي الأمّة إلى الحق فيتّبعوه.
وأمّا غير العالم بالأحكام الشرعية وغير الفقيه؛ فلا يستطيع أن يهدي بنفسه إلى الأحكام الإسلامية فلا يكون مهتديا بنفسه فلا يجوز اتّباعه.
نعم المصداق الأتم والأكمل والأعلى لهذه الحجّة القاطعة المذكورة في الآية هم الأئمة الهداة المهديين المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) كما ورد(2) في بعض الأخبار والروايات فمع وجودالإمام المعصوم وبسط يده وتمكّن الأمّة من الوصول إليه، لا يجوز تبعية غيره لأنه مهتدٍ بنفسه.
وأمّا في ظروف الغيبة وعدم بسط اليد فلا شك في أنّه إذا دار أمر التبعية والإمامة بين الفقيه العالم المجتهد وغيره، فالمتعين هو التبعية له فإنه الذي يعرف الأحكام الشرعية لتنفيذها وتحقيقها وتحققها في أوساط المجتمع وبما أن الآية الكريمة جعلت الضرورة العقلية دليلاً لوجوب اتّباع العالم المهتدي بنفسه، يستكشف أنّ الحكم ليس تعبّديا محضاً؛ بل حكم يعترف به ذوو الألباب وأن العقل والشرع معتضدان على ذلك فظاهر الآية مؤيد لما مرّ في الدليل الأول من الحكم العقلي بلزوم الفقاهة في ولي الأمر.
ص: 159
قال الله تبارك وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ إلى أن قال: ﴿قَالَ ان اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (سورة البقرة: الآيتان 246-247)
بيان الاستدلال:
ففي قصة طالوت لمّا أعلن بنو إسرائيل عدم قبولهم بالملك طالوت، ففي مقام ردّ مقالتهم ودفاعاً عن صلاحية طالوت للملك عنها قال لهم نبيهم؛ ﴿زَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾، فيدلّ هذا الجواب على أن للعلم وسعته دخلاً في حصول المُلك الإلهيّ، واختيار الشخص لولاية أمر القوم، فالولاية الصالحة والمقبولة عند الله تعالى مقيدة بعلم الولي، وهذا هو المطلوب لإثبات المدّعى ويشهد لصحّة الاستدلال بالآية ما رُوي في تمام نهج البلاغة في خطبة من خطب أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنّه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعد تلاوة هذه الآيات قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):«وإنه (الله تعالى) فضّل طالوت وقدّمه على الجماعة باصطفائه إيّاه وزيادته بسطة في العلم والجسم، فهل تجدون الله(عزّ و جلّ) اصطفى بني أمية على بني هاشم وزاد معاوية عليّ بسطة في العلم والجسم؟!» (1)
فالرواية تدلّ على أن العلم والبسطة فيه شرط في ولي الأمر وهذا هو الوجه لتفضيله على غيره.
هذا تمام التقريب للاستدلال بالآية.
بقي أمور:
الأمر الأول: ما هو المراد من متعلّق العلم الذي كان عند طالوت؛ بحيث يكون شرطاً في وليّ الأمر؟ والجواب إن هذا يعرف من خلال التأمل في
ص: 160
مناسبة الحكم والموضوع، فإنّ المراد من العلم المعتبر في وليّ الأمر ليس مطلق العلم ولا العلم المطلق؛ بل المراد هو العلم الذي له دخل تامّ في أداء وظائف الإمامة ومسؤوليات الولاية المطلوبة في الحكومة الإلهية والدولة الإسلامية ألا وهي:
أولا: العلم بالأحكام الإلهية والقوانين الشرعية التي يوكل تنفيذها إلى الحاكم وولي الأمر؛ وثانياً: العلم بكيفية تطبيقها على صغرياتها ومواردها وكيفية إدارة أمور الأمة على حسب المعایير والملاكات المدروسة الإلهية والمصالح العامة الاجتماعية. فالآية الشريفة كما تدلّ على لزوم الفقاهة والاجتهاد في وليّ الأمر تدلّ أيضًا على أن هذا الشرط لازم؛ ولكنه غير كافٍ ويحتاج إلى انضمام العلم بالتطبيق وحسن الإدارة ومعرفة المصالح.
الأمر الثاني: إن الآية في مقام التعليل وبيان الدليل تجعل زيادة طالوت بسطة في العلم والجسم وجهاً وعلّة لمشيئته تعالى إيتاءه الملك، فمن خلال التعليل والاستدلال يفهم أن هذا الدليل ليس أمرًا توقيفيا تعبّديا لا سبيل للعقل إلى كشف ملاكه؛ بل اشتراط العلم فيالملك من الأمور اللازمة والمعروفة لدى العقل وهو يعترف باعتباره ويقتنع أن يكون سببًا للاصطفاء والتفضيل.
وعلى هذا الأساس فاعتبار العلم في المُلك ليس شرطا أسّسه الشارع؛ بل هو أمرٌ عقليٌ وبناء عقلائي. والآية في الحقيقة ليست دليلًا مستقلًّا، بل هي دليلٌ على الإمضاء الشرعي لحكم العقل وبناء العقلاء.
ومن هنا، يُعرف أنّ الأساس في اعتبار العلم، هو الدليل الأول العقلي الذي ذكرناه أعلاه.
الأمر الثالث: من خلال دراسة الآية الكريمة يُعرف أنّ الشرط ليس هو العلم فقط؛ لأنّه لا يكتفى بأصل العلم؛ بل المعتبر والمطلوب في ولي الأمر زائداً على نفس العلم هو زيادة البسط في العلم. ومن هنا، يُعرف أن للأعلمية دخلًا في الاعتبار ولكن المراد ليس هو الأعلمية في جهة خاصة؛ بل الأعلمية المعتبرة
ص: 161
هي الأعلمية من حيث المجموع في جميع الجهات والأبعاد المؤثّرة والدخيلة في حسن الولاية وإدارة البلاد في الحكومة الإسلامية.
وبما أن هذه الأعلمية أمر مشكك ذو مراتب حسب الظروف والشروط ففي عصر حضور المعصوم وبسط يده؛ يكون هو الذي تجب طاعته عقلاً وشرعاً لأنه هو أعلم الأمّة. وأمّا في عصر الغيبة وعدم بسط يد المعصوم فالفقيه الأعلم من جميع الجهات هو ولي الأمر وواجب الطاعة والتبعية عقلاً وشرعاً.
قال الله(عزّ و جلّ): ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوْا النَّاسَوَاخْشَوْنِي وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ﴾ (سورة المائدة: الآية 44).
بيان الاستدلال
أولًا: هذه الآية المباركة تبين أن الله سبحانه شرّع لهذه الأمم على اختلاف عهودهم شرائع وأودعها في الكتب المنزلة إليهم ليهتدوا بها ويرجعوا إليها في ما اختلفوا فيه. وأمر الأنبياء والربانيين والأحبار منهم أن يحكموا بها ويتحفظوا عليها ولا يطلبوا في الحكم ثمناً قليلاً ولا يخشوا غيره.
ثانياً: الآية الشريفة تشير إلى الحاكمين بالكتب النازلة وهم الأنبياء والربانيّون والأحبار، والترتيب الذي اعتمدته الآية في العدّ يدلّ على ترتيبهم في الفضل والكمال، ففي الرتبة الأولى يقع الأنبياء، ثم في الرتبة الثانية الربانيّون، وفي الرتبة الأخيرة الأحبار. والمراد من الربانيّين كما يظهر من حديث كميل بن زياد النخعي المروي في نهج البلاغة(1)
العلماء المنقطعون
ص: 162
إلى الله علماً وعملاً، أو الذين قاموا بتربية الناس بعلومهم بناء على اشتقاق اللفظ من الربّ أو التربية. وأمّا الأحبار فهم الخبراء من علمائهم الذين حُمِّلوا علمه بالتعليم والتعلّم.
ثالثًا: إن هناك فرق بين علم الربانيّين وعلم الأحبار، فإنّ علم الأحبار عن طريق التعليم والتعلّم العاديّين الذي يُعبَّر عنه بما حُمّلوا في قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾ (سورة الجمعة: الآية 5) فالأحبار يمكن أن يخالفوا العلم ويتخلّفوا عنه، ويعصونه عمدًا أو خطأً لأنّ علمهم تحميلي وكسبي واجتهادي.
أمّا علم الربانيّين فهو علم فوق رتبة علم الأحبار. وهذا العلم لا يكون عن طريق التعليم والتعلّم والتحميل؛ بل علم يتناسب مع ربّانيّتهم وغورهم في الربوبية والتربية، فعلمهمعلمٌ حقيقيٌّ ربوبيٌّ، وبهذا يثبت أن هناك منزلة بين منزلتي الأنبياء والأحبار، وهي منزلة الأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ). وقد أخبر الله سبحانه عن ذلك في قوله: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (سورة السجدة: الآية 24).
رابعًا: الأمر المشترك الذي كان لهؤلاء الطوائف الثلاث على حسب ترتيبهم ومراتبهم هو الحكم بالتوراة والكتب النازلة، فكانوا يقومون على الحكم ويمارسونه وفقاً للقوانين والتشريعات النازلة في هذه الكتب ومع فقدهم يعدّ التنزيل أبتراً.
خامساً: السبب الأول المبرّر لهم الحكم بين الناس والمجوّز لشرعيته هو أمر الله إياهم أن يحفظوا كتابه من التغيير والتحريف والاندراس فإنّ الاستحفاظ هو سؤال الحفظ أي طلبه، ومعناه التكليف بالحفظ. والباء في قوله «بما استحفظوا» للسببية، فكانوا مكلّفين بحفظ الكتاب في جميع مراتبه
ص: 163
من التحريف والتغير والاندراس والنسيان وترك العمل في ظاهر اللفظ أو في المدلول أو في غيرهما.
والسبب والمبرّر الثاني للحكم هو الشهادة على الكتاب، فكانوا رقباء وشهداء عليه فمن الواجب عليهم أن لا يتركوه ولا يتغيّروا أو يغيّروا وعليهم أن يبيّنوا ما يخفى منه.
فالله سبحانه شرَط إذنَه لهم في الحكم بحفظهم للكتاب وشهادتهم عليه.
سادساً: للحفظ والشهادة مراتب. فكم من فرق بين حفظ الأنبياء والربانيين وشهادتهم، وبين حفظ الأحبار وشهادتهم؟!
فحفظ الأنبياء وشهادتهم يكونان بالإيحاء والتنزيل إليهم بغير واسطة وأخذهم الكتاب والعلم به من لدن عليم حكيم، أمّا حفظ الربانيين وشهادتهم فتكون بأخذهم الكتاب والعلم به بالعلم الحقيقي الكشفي واللدني المأخوذ من الأنبياء وهذا هو مقتضي ربّانيتهم.ولا يتم حفظ هاتين الطائفتين للكتاب وشهادتهما عليه _ كما يصرّح به السيد الطباطبائي(1) _ إلا مع العصمة وهما ليستا من شأن غير المعصوم من قبل الله سبحانه فإنّ الله تعالى شرَط إذنه لهم في الحكم بحفظهم للكتاب واعتبر شهادتهم بناءً على ذلك الحفظ عليه. ومن المحال أن يعتبر شهادتهم على الكتاب وهي التي يثبت بها الكتاب مع جواز الخطأ والغلط عليهم.
وهذا لاينافي تكليف الأحبار بالحفظ والشهادة وأخذ الميثاق منهم بذلك؛ لأنه ثبوت شرعي اعتباري وهو يختلف عن الثبوت الحقيقي الذي يتوقف على حفظ حقيقي خالٍ عن الغلط والخطأ. والدين الإلهي كما لا يتمّ من دون هذا، لايتمّ من دون ذاك فالكل مكلّف بالحفظ والشهادة على اختلاف مراتبهما وعلى حسب مراتبهم.
ص: 164
سابعاً: إن الآية بالرغم من أنها تحكي قصّة بني إسرائيل ونزول التوراة فيهم وحكم الأنبياء والربانيين والأحبار فيهم؛ ولكنها تدل على سرّ ذلك أيضًا وهو أن التوراة كان كتابا منزلاً من عند الله سبحانه ومشتملاً على هدى ونور أعنى المعارف الاعتقادية والعملية التي تحتاج إليها الأمة وكان ذلك هو المستدعي لهذا الاستحفاظ والشهادة اللذَين لا يقوم بهما إلا الطوائف الثلاث، وإذا كان هذا حال التوراة فهذا الحكم سارٍ وجارٍ بالنسبة إلى كل كتاب منزل من عند الله مشتمل على معارف إلهية وأحكام عمليه. فهذه سنّة إلهية ثابتة جارية في كلّ الأمم ومن جهة الإذن في الحكم بين الأمة والتكليف بالحفظ والشهادة لايختص باليهود والتوراة.
ويؤيّد ذلك؛ بل يدلّ عليه ما ورد في الروايات من أن الآية نزلت في بيان شؤون الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).
ففي تفسير العياشي عن أبي عمرو الزبيري في رواية عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «إنّ ممّا استُحِقّت به الإمامة التطهير والطهارة من الذنوب والمعاصي الموبقة التي توجب النار ثمالعلم النور (المنوّر) بجميع ما يحتاج إليه الأمة من حلالها وحرامها والعلم بكتابها خاصّه وعامّه والمحكم والمتشابه ودقائق علمه وغرائب تأويله وناسخه ومنسوخه.
قلت: وما الحجة بأنّ الإمام لا يكون إلا عالماً بهذه الأشياء التي ذكرت؟ قال: قول الله في من أذن (الله) لهم في الحكومة وجعلهم أهلها: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ﴾، فهذه الأئمة دون الأنبياء الذين يربّون الناس بعلمهم وأمّا الأحبار فهم العلماء دون الربانيين. ثم أخبرنا بقوله: «بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ولم يقل: بما حملوا منه».(1)
ص: 165
محصّل الكلام:
1. بناء على السنة الإلهية القائمة في الأمم: فإن الأنبياء والربانيين (وهم الأئمة الهداة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والأحبار (وهم العلماء بالكتاب وبجميع ما يحتاج إليه الناس من الحلال والحرام) مأذونون للحكومة بين الناس وهذه الحكومة لا تختص بالقضاء في المنازعات والمرافعات؛ بل تشمل الولاية والإمامة على الناس وذلك لإطلاق قوله تعالى في صدر الآية: «يحكم بها...» وقوله تعالى في ذيل الآية «ومن لم يحكم بما أنزل الله» الشامل لجميع أنواع الحكم ويشهد له قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الرواية «أذن لهم في الحكومة».
2. إن الطوائف الثلاث كما إنهم مأذونون بالحكومة والولاية كذلك مكلّفون بحفظ الكتاب والشهادة عليه
3. هؤلاء الطوائف مأذونون ومكلّفون على حسب ترتيبهم في الفضيلة والكمال.4. المراد من الطائفة الأخيرة وهم الأحبار، العلماء بالكتاب وبالحلال والحرام المعبر عنهم حسب المصطلح الدارج في ما بين المسلمين بالفقهاء والمجتهدين.
فظهر أن المأذون بالحكومة والإمامة في الدرجة الأولى هم الأنبياء ثم في الدرجة الثانية الربانيون والمعصومون وفي الدرجة الثالثة: الأحبار والعلماء. وأمّا حكومة غير الفقيه وإمامته بين الناس فغير مأذون لها ولا شرعية لها. هذا هو المطلوب.
هذا تمام الكلام في تقريب الاستدلال بالآية.
إلى هنا تم الكلام في المسألة الثالثة الخاصّة للاستدلال بالآيات الثلاثة القرآنية الدالّة على اشتراط الفقاهة. نعم؛ إن هناك آيات آخر قد يستدلّ بها لإثبات شرطية الفقاهة في ولي الأمر كقوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا
ص: 166
يَعْلَمُونَ﴾ (سورة الزمر: الآية 9)، وقوله تعالى: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ (سورة يوسف: الآية 55)، وقوله تعالى: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ﴾ (سورة النمل: الآية 40)
ولكن لا يخلو الاستدلال بهذه الآيات من التأمل والمناقشة.(1)
هناك عدد هائل من الروايات تدلّ على شرط الفقاهة واعتبار ملكة الاجتهاد في ولي الأمر، والقائم بالنظام السياسي في عصر الغيبة، نشير إلى بعضها:
الرواية الأولى: ما في نهج البلاغة(2)
«إن مثل مُعَاوِية لا يجوز أن يكون أميناً على الدِّمَاءِ وَالأحكام وَالفُرُوجِ وَالْمَغَانِمِ وَالصَّدَقَةِ» إلى أن قال: «قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لا ينبغي أن يَكُونَ الوالي عَلَى الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِوالْمَغَانِمِ وَالْأحكام وَإمامةِ الْمُسْلِمِينَ الْبَخِيلُ، فَتَكُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ.(3)
وَلَا الْجَاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ، ولا الجافي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ...».(4)
تقريب الاستدلال:
هذه الرواية في مقام تعداد موانع الإمامة والولاية، وهي تعدّ الجهل من الموانع وتُبَيّن سرّه بأنّ جهل الوالي يستوجب ضلالة المجتمع الإسلامي فلا ينبغي أن يكون إمام المسلمين جاهلًا. وقد كان هذا الأمر من الأمور المعلومة الواضحة لدى عامّة المسلمين المخاطبين بهذا الكلام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لا فقط لدى خواصّهم
ص: 167
وعلمائهم حيث إنّه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال في صدر كلامه مخاطباً جميع الأمّة: «وَقَدْ عَلِمْتُمْ» فالإمامة مشروطة إجماعاً بعلم الإمام ليهديهم إلى طريق المستقيم.
«أَيُّهَا النَّاسُ! إن أَحَقَّ النَّاسِ بِهذَا الْأَمْرِ أَقْوَاهُمْ عَلَيْهِ، وَأَعْلَمُهُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ فِيهِ. فَإن شَغَبَ شَاغِبٌ اسْتُعْتِبَ؛(1)
فَإن أَبَى قُوتِلَ».(2)
تقريب الاستدلال:
أولا: لا ريب في أنّ المراد بهذا الأمر، هو أمر الولاية والحكومة
ثانياً: نصّ الحديث «أحقّ الناس بأمر الولاية أعلمهم بأمر الله فيه» يدلّ بوضوح على أن للعلم بأمر الله دخلاً في الإمامة.ثالثاً: إن قوله «أحقّ» منسلخ عن معنى التفضيل فحق الولاية مختص بالعالم ولا يجوز لغير العالم التصدّي له، وإلّا لو لم يكن حقّ الولاية مختصًّا به لم يكن وجهٌ لقتال المشاغب الآبي.
رابعًا: إنّ المراد من العلم بأمر الله فيه هو العلم بالأحكام الشرعية والتشريعات الإلهية في أمر الإمامة والولاية. وهذا العلم لا يختصّ بباب دون باب؛ بل يشمل جميع الأبواب الفقهية، لأنّ للحكومة والدولة دخالة تامّةً في جميع شؤون الأمّة ممّا يُحتاج إليه في سعة عيش الأمة للرعاية. أمّا المراد من «أقواهم عليه» فهو القدرة على حسن الإدارة والحكم.
وهي ما رواه ابن شعبة الحرّاني في تحف العقول عن السبط الشهيد أبي عبد
ص: 168
الله الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ضمن خطاب له طويل(1) في أيام معاوية بعد استشهاد أخيه السبط الأكبر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بمنى في أيام الحج خطبها بمحضر الخواصّ من علماء المسلمين من الصحابة التابعين؛ تكلّم في البداية عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم وجّه في النهاية الخطاب إليهم وقال: ما خلاصته:
«ثم أنتم أيتها العصابة، عصابة بالعلم مشهورة وبالخير مذكورة وبالنصيحة معروفة وبالله في أنفس الناس مُهابة، يهابكم الشريف ويكرمكم الضعيف ويؤثركم من لا فضل لكم عليه ولا يدَ لكُمْ عنده. أليس كلّ ذلك نلتموه بما يرجى عندكم من القيام بحقّ الله وإن كنتم عن أكثر حقّه تقصرون؟ فاستخففتم بحق الأئمة، فأمّا حق الضعفاء فضيّعتم وأمّا حقكم بزعمكم فطلبتم فلا مالاً بذلتموه ولا نفسًا خاطرتم بها للذي خلقها، أنتم تتمنون على الله جنته ومجاورة رسله، وأماناً من عذابه لقد خشيت عليكم أيها المتمنّون على الله أن تحلّ بكم نقمة من نقمائه وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون وأنتملبعض ذمم آبائكم تفزعون وذمّة رسول الله محقورة وبالادّهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون كل ذلك مما أمركم به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون».
ثم بعد هذا الخطاب الحارّ إلى الخواصّ من علماء الأمة وتوبيخهم لترك العمل بتكليفهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقول لهم:
«وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غُلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تشعرون ذلك بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سلبتم ذلك إلا بتفرّقكم عن الحقّ واختلافكم في السنّة بعد البينة الواضحة. ولو صبرتم على الأذى وتحمّلتم المؤونة في ذات الله كانت أمور الله عليكم ترد وعنكم تصدر وإليكم ترجع ولكنّكم مكّنتم الظلمة من منزلتكم».
ثمّ في نهاية كلامه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هكذا يناجي ربّه: «اللهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان
ص: 169
منّا، منافسة في سلطان، ولا تلتماسًا من فضول الحطام ولكن لنرى المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك ويأمن المظلومون من عبادك ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك. فإنكم إن لا تنصرونا وتنصفونا قوي الظلمة عليكم وعملوا في إطفاء نور نبيكم وحسبنا الله وعليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير.(1)
تقريب الاستدلال:
إن قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) «مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه» يدلّ على أن مسار أمور الأمة الإسلامية وأحكامهم في القضايا المختلفة؛ لفصلها وأخذ القرار فيها لا بدّ من أن ينتهي في الأخير إلى العلماء الذين يعرفون الله حقًّا لا كلّ عالمٍ، والأمناء على حلاله وحرامه الذين يعلمون أحكام الله تبارك وتعالى وتشريعاته ويحفظونها بجميع مراتب الحفظ؛ فدلالة هذه الجمل على المدّعى واضحة،حيث تدلّ على أن التدخّل في شؤون الأمة الإسلامية، والحكم فيها قد جعله الله تعالى بأيدي العلماء الأمناء الذين يعرفون الله، ويعرفون أحكامه، ويعملون بما يقتضيه من الحفظ والأمانة؛ فتدلّ على لزوم الفقاهة واعتبار العلم بالله وأحكامه في ما يرتبط بأمر ولاية المسلمين وإمامتهم وليس للجهال بالله وأحكامهالحقّ في التصرّف والتدّخل في هذه الأمور والشؤون الولائية.
وأمّا ما قد يقال من أن المراد من العلماء هم الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وخصوص المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)(2)
فخلاف الظاهر؛ بل خلاف الصريح من الرواية كما يظهر ذلك بعد التأمّل في تمام الحديث.
فلا ريب في أنّ المراد من العلماء بالله والأمناء على حلاله وحرامه في هذه الرواية الشريفة العالية المضامين هم فقهاء الأمّة الإسلامية العارفون بالله وجميع أحكامه من الحلال والحرام؛ وهو المطلوب.
ص: 170
رواها في الكافي عن على بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن اُذينة عن زرارة عن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي الواردة في دخول جمع من رؤساء المعتزلة على أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) طالبين منه الدخول معهم في مبايعة محمد بن عبد الله بن الحسن فسألهم عن مسائل هامّة كانوا لا يقدرون الإجابة عنها، ففي النهاية أقبل على عمرو بن عبيد، فقال له: «اتّقِ الله! وأنتم أيّها الرهط فاتّقوا الله! فإنّ أبي حدّثني وكان خير أهل الأرض وأعلمهم بكتاب الله(عزّ و جلّ) وسنّة نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): أنّ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) قال: من ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضالّ متكلّف».
ودلالتها على المدّعى واضحة.
قد مرّ ذكرها في الفصل الثالث عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):
«وانظروا لأنفسكم فواللّه إنّ الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها، يخرجه ويجيئ بذلك الرجل الذى هو أعلم بغنمه من الذى كان فيها».(1)
هذه روايات خمس تدلّ على المدّعى. على أن هناك روايات أخرى كثيرة مستفيضة منقولة في تراث الفريقين تدلّ على أن الولاية والرئاسة مشروطةٌ بالفقاهة والعلم بالإسلام وأحكامه. وهذا تمام الكلام في بيان الأدلّة.
وعلى أيّ حال إن المسألة متّفقٌ عليها فيما بين المذاهب الإسلامية ومعروفة ما بين فرق المسلمين.
ص: 171
والنتيجة هي أنّه: من خلال البحث ودراسة الأدلّة واتفاق الأمّة يظهر أنّ مسألة اشتراط الفقاهة في ولي الأمر وولاية الفقيه لا تختصّ بمذهبٍ خاصٍّ دون مذهب على أن اعتبار العلم في الحاكم ووليّ الأمر ممّا استقرّ عليه بناء العقلاء ومما يحكم به العقل والفطرة فلا شبهة يعتريها.
بعد دراسة ما ذكرنا من الأدلة العقلية والنقلية الدالّة على اشتراط العلم بالكتاب والسنة واعتبار الفقاهة في وليّ أمر عصر الغيبة والحاكم على المسلمين يظهر:أنّه لا يكفي للإمامة العلم بالأحكام الشرعية إذا كان مستندًا إلى التقليد، لأنّ علم المقلِّد يعتبر علماً بالفتاوى الصادرة عن مقلَّده والعلم بالفتاوى لا يستلزم العلم بأصل التشريع الإلهي، على أن المقلّد وإن فرض سعة علمه التقليدي وكونه عارفاً بجميع ما أفتى به مجتهده، إلّا أنّه لأجل عدم اطّلاعه على أدلّة المسائل ومستندات الأحكام لا يكون عارفاً بجميع أبعاد المسائل وخصوصياتها وزواياها التي تغيب عن المقلِّد، ويكون عادةً جاهلًا بها؛ بل هو جاهل بخصوصيات مسألة واحدة فكيف بجميع المسائل في جميع الأبواب. وهذا بخلاف المجتهد الذي له الإحاطة العلمية بالمباني والأدلّة فيميز بين العام والخاص، والمطلق والمقيد، والأمارة والأصل العمليّ، ويعرف كيف يجمع بين الأخبار ويحلّ التعارض فيما بينها، كما له القدرة على الرجوع إلى المرجّحات، ويميِّز بين باب التعارض والتزاحم، وغيرها من مئات المسألة الأصولية والفقهية التي لها أثر عميق في الفتوى.
ونتيجة ما تقدّم أنّ المقلّد العالم بالفتوى يُعدّ في الواقع جاهلاً بالحكم لجهله بالدليل والمستند؛ فيجب أن يكون ولي الأمر فقيهاً ذا ملكة يقدر بها على الاجتهاد واستنباط الحكم الشرعي من أدلته التفصيلية.
ص: 172
الاجتهاد اللازم في الإمام وقائد الأمّة الإسلامية، هو الاجتهاد المطلق ولا يكفي اجتهاد المتجزِّئ وإن كان مجتهداً في الأبواب الخاصّة التي هي أكثر ارتباطاً بالدولة والحكومة كأبواب الجهاد والأمر بالمعروف والحدود والديات.
والوجه في ذلك:
أولا: أن المجتهد المتجزئ يعتبر جاهلاً بالأحكام الشرعية التي لم يجتهد فيها، مع أن مقتضى بعض إطلاقات الأدلة هو العلم المطلق المستوعب للعلم بجميع الأبواب الفقهية كقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في نهج البلاغة: «وَلا الْجَاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ»، وكقوله تعالى في آيةإنزال التوراة «والأحبار»، فإنّ الظاهر من الأحبار هم العلماء الذين لهم الإحاطة العلمية الحاصلة بالتعليم والتعلّم بجميع الأحكام والمعارف النازلة في الكتاب.
وأمّا المتجزِّئ فهو جاهل بالنسبة إلى بعض الأحكام. ويؤيد ذلك ما ورد في تفسير الآية من أن ممّا استحقّت به الإمامة هو العلم بجميع ما تحتاج إليه الأمة من حلالها وحرامها الحديث.
وقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أيضا في رواية تحف العقول: «مجاري الأمور على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه»، فإنّ المجتهد المتجزئ لا يعتبر عالماً بالله ولا أمينا على حلاله وحرامه بالنسبة إلى ما هو خارج عن دائرة اجتهاده. إلى غير ذلك من العمومات والإطلاقات الواردة في اعتبار العلم، والدالّة على عدم الإذن للجاهل بالإمامة والولاية.
ثانياً: إن كثيراً من الأدلة يعتبر الأعلمية في الحاكم ووليّ الأمر، كقوله تعالى في قصّة طالوت: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ﴾ وكصحيحة عبد الكريم بن عتبة وكصحيحة عيص بن القاسم، وما في نهج البلاغة: «وإنّ أحقّ الناس بهذا الأمر
ص: 173
أعلمهم بأمر الله فيه». ولا شك في أنّ المجتهد المتجزئ خارج حدود دلالة هذه الأدلة.
ثالثاً: إن الحاكم وولي الأمر يتصدّى لجميع أمور الأمّة وإن وظيفة الحكومة الإسلامية هي إدارة جميع أمور الأمة طبق الموازين الإسلامية، وهي مسؤولة عن تنفيذ جميع الأبواب والأحكام الفقهية. وهذه الوظيفة لا تختص بباب كالأمر بالمعروف أو الجهاد دون باب؛ بل جميع أبواب المعاملات وما يرتبط بالأسرة كالنكاح والطلاق إلى أبواب العبادات كالحج والصوم والصلاة ومقدّماتها؛ تدخل في نطاق الحكم الإسلامي ونُظُمِه ومؤسساته وتشكيلاته. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ ان مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أقاموا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ﴾ (السورة الحج:الآیة41)؛ فالحاكم الإسلامي له دورٌ بالنسبة إلى جميع الأبواب لتنفيذ تعاليمها وأحكامها، وتحقيق التعاليم في المجتمع، وبناء عليه يجب أن تكون له قدرة على الاجتهاد وأن تكون عنده ملكة الاستنباط في جميع الأحكام الفقهيّة. وقد أشرنا سابقاً إلى أنّ «الفقهالحكومي والاجتماعي» يشمل جميع أبواب الفقه. وإلى أنّ الفقه هو برنامج لإدارة الحياة الإنسانيّة من المهد إلى ما بعد اللحد. والله العالم.
المعتبر في وليّ الأمر من الفقاهة والاجتهاد، هو ملكة الاجتهاد والقدرة العلمية اللازمة لاستنباط الحكم الشرعي. أما الاجتهاد بالفعل فغير معتبر؛ بل غير ممكن لغير المعصوم فإنّه لا يستطيع الإنسان العاديّ أن يعلم فعلًا بجميع الأحكام والمسائل في مختلف الأبواب، مهما بلغه علمه وإحاطته بالمصادر. فما هو المهم والأساس هو الاتصاف بملكة الاجتهاد والقدرة على الاستنباط حتى بالنسبة إلى المسائل المستحدثة الجديدة التي لا سابقة لها في تراث الفقه وكتب الأصحاب فيجب عليه أن يكون قادراً على استخراج حكمها من مصادرها وأدلة الكتاب والسنة.
ص: 174
ممّا ذكرنا أعلاه يظهر أنّ ما هو المستفاد من جميع الأدلّة العقلية والنقلية هو اعتبار الفقاهة والاجتهاد المطلق وأما المرجعية والتصدّي الفعليّ للإجابة عن استفتاءات الناس، وتقليد هؤلاء الناس له، فهو ليس من شروط الولاية.
وهذا هو سرّ تغيير المادّة الخاصّة بشروط وليّ الأمر في دستور الجمهورية الإسلامية؛ فقد كانت المادّة التاسعة بعد المئة قبل التعديل تصرّح في مجال التعبير عن شروط الوليّ الفقيه، ورأس الدولة «باعتبار القدرة العلمية والتقوى اللازمتين للإفتاء والمرجعية».
ولكن بعد تشكيل لجنة التعديل بأمر السيد الإمام الخميني (قُدّس سِرّه) عدّلت هذه المادة فصارت هكذا: «القدرة العلمية اللازمة على للإفتاء في مختلف أبواب الفقه». وهذا هو بعينه ما ذكرناه أعلاه من لزوم القدرة وملكة الاجتهاد في جميع أبواب الفقه.وأمّا المرجعية والتصدي لأمر الإفتاء بالفعل فهو أمر خارج عن اعتبار الأدلة فإنّ المرجعية ناظرة إلى الاتجاه الاجتماعي للفقيه والمجتهد واتصاله بالناس والأقوام والطوائف، وهذا لا صلة له بمدلول الأدلّة، الأمر الذي صرّح به السيد الإمام قبل تعديل هذا المادّة.
حيث يقول:
«ممّا كنت أعتقد به وأصرّ عليه من البداية هو عدم لزوم اشتراط المرجعية وكفاية المجتهد العادل المؤيّد والمعيّن من قبل خبراء جميع البلد المحترمين».(1)
هل يشترط في وليّ الأمر مجرّد الفقاهة والعلم بالأحكام وموضوعاتها أو يشترط فيه الأعلمية أيضًا؟
ص: 175
يظهر من بعض الأدلة أنّ الأعلمية من شروط الولاية، فإنّ الظاهر من قوله تعالى: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ﴾، وأيضا بحسب قوله في صحيحة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي: «وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضالّ»، وقوله في صحيحة عيص بن القاسم «ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه»، وقول أمير المؤمنين: «إنّ أحقّ الناس بهذا الأمر أعلمهم بأمر الله فيه»، إلى غير ذلك من الأدلة المذكور في المطولّات.(1)
يظهر من هذه الأدلّة ولو لأوّل وهلةٍ أنّ الأعلمية من الشروط أيضًا.
نعم مسألة الأعلمية بحسب المفهوم والتعريف لا تخلو من غموض وتحتاج إلى تأمّل ودقّة ويتوقّف تبنّي موقف من اشتراط الأعلمية في الوليّ على لفت النظر إلى أمور، هي:
أولا: إن أكثر هذه الأدلة الدالة على اعتبار الأعلمية ناظر إلى مسألة الأعلمية في ظرف حضور الإمام المعصوم وبسط يده، ولا ريب في أنه مع وجود الإمام الربّاني الآخذ علمهعن المبدأ الإلهي دون تعليم أو تّعلم، لا يجوز لغيره أن يتصدّى لأمر الولاية بل علم غيره في ميزان علمه ليس بعلمٍ؛ ولكن هذا خارج عن فرضنا للمسألة.
فإنّ محلّ البحث هو عصر الغيبة وزمن قبض يد المعصوم فإنه مع عدم التمكن من الوصول إلى الأعلم، فلا مناص من الرجوع إلى العالم غير الأعلم، وإلّا لا يجوز بحكم العقل وبناء العقلاء. وهذا ما تقتضيه أدلة رجوع الجاهل إلى العالم.
ثانياً: إذا دار الأمر، في عصر الغيبة،بين الأعلم وغير الأعلم، فإنّ من المحتمل حسب ما يُستظهر من بعض هذه الأدلّة النقلية الواردة في بيان لزوم إمامة المعصوم عدم اعتبار الأعلمية؛ لأن المراد من الأعلم في هذه الأخبار هو الإمام المعصوم الذي مع ظرف حضوره، تتعيّن الإمامة فيه، وإن الأعلمية منسلخة عن
ص: 176
معنى التفضيل بالنسبة إليه؛ فحينئذٍ تكون هذه الروايات غير ناظرة إلى غير عصر الحضور، ولا يستفاد منها اعتبار الأعلمية مع عدم حضور المعصوم، على أن هذا هو القدر المتيقّن من دلالة هذه الأدلة. ولكن على حسب ما يظهر من بناء العقلاء وصحيحة عيص بن القاسم أيضًا هو لزوم الأعلمية حتى في ظرف عدم التمكّن من الإمام المعصوم وفي عصر الغيبة؛ لأنّ بناء العقلاء لا يختصّ بمسألة خاصّة وهو اعتبار الأعلم في ولي أمر المسلمين؛ بل بناء العقلاء بناءٌ عامٌّ يسري ويجري في جلّ الأمور التي يحتاج إلى إيكالها إلى الغير، فالعقلاء بناؤهم قائمٌ على عدم إيكال الأمر إلا إلى الأعلم فيه.
ثالثاً: لو سلّمنا اعتبار الأعلمية ببناء العقلاء في عصر الغيبة، ولكن هذا الاعتبار العقلائي يحتاج إلى دراسة من جديد حتى تظهر أبعاده وجوانبه المختلفة، وإلّا فالالتزام بهذا الاعتبار مطلقاً بلا قيد ولا شرط محلّ إشكال بل منع. فيجب أن نبحث عن قيوده وشروطه وسنشير إلى أهمها.
رابعًا: إذا دار الأمر بين الأعلمية وسائر الشروط اللازمة والمعتبرة في ولي الأمر كالعدالة والكفاءة والشجاعة وغيرها، كما لو دار أمر ولاية الأمة بين عالم كفء للإدارة وعالم غير كفء من الناحية الإداريّة؛ فحينئذ تدخل المسألة في صغريات باب التزاحم،فيجب أن يُقدَّم ملاك الأهم ولا ريب في أنّ العالم الكفء مقدّم على الأعلم غير الكفء الذي لا يُرى فيه حسن التدبير والإدارة.
خامساً: من الواجب التأمّل في مفهوم الأعلمية وتحليل بناء العقلاء في هذا المفهوم
فإن كان المراد من الأعلمية هو الأعلمية في استنباط الأحكام الكلية الفرعية دون تطبيقاتها والأعلمية بموضوعاتها؛ فهذا خلاف سيرة العقلاء فإنّ بناء العقلاء هو الرجوع إلى الأعلم من جميع الجهات، لا إلى الأعلم من جهة واحدة، فالأعلمية المعتبرة في ولي الأمر هي الأعلمية الشاملة لاستنباط الحكم الكلي ولمعرفة موضوعات الأحكام وتطبيقاتها على مواردها ومصاديقها، والشاملة أيضاً لما تقتضيه المصالح العامّة للإسلام والمسلمين.
ص: 177
سادساً: قد يُقال الرجوع إلى الأعلم واعتبار الأعلمية ثابتة ببناء العقلاء في الأمور والمسائل التي يُعلم اختلاف رأي الأعلم فيها مع رأي غيره، أمّا في ما إذا لم يُعلم اختلاف الفتوى فيجوز الرجوع إلى غير الأعلم؛ ولكن هذا القول مخالفٌ لما يرى من بناء العقلاء، فإنهم يرون الرجوع إلى الأعلم ليس فقط في المسائل المعلومة الخلاف بين الأعلم وغير الأعلم؛ بل إنهم يعتبرون الرجوع إلى الأعلم حتى في المسائل التي يُحتمل فيها الخلاف في الرأي بين الأعلم وغير الأعلم. فالرجوع إلى الأعلم ثابت ببناء العقلاء مطلقاً، ولو في المسائل التي لا يعلم الاختلاف في الفتوى والرأي بين الأعلم وغير الأعلم؛ نعم إذا عُلِم عدم الاختلاف بين الأعلم وغير الأعلم؛ فحينئذٍ يكون الرجوع إلى الأعلم وغير الأعلم سيان ببناء العقلاء.
فمن هذه الحيثية الرجوع إلى الأعلم واعتبار الأعلمية ثابتة في سيرة العقلاء؛ ولكن مع ذلك فإنّ الرجوع إلى الأعلم واجبٌ فيما إذا كان الفارق بين الأعلم وغير الأعلم عظيماً يعتدّ به وخاصّة إذا كانت المسألة من المسائل الهامّة.أمّا إذا كان الفرق بين الأعلم وغير الأعلم بحسب الرتبة قليلٌ وغير معتدٍّ به، فلا يرى العقلاء وجوب البحث عن الأعلم واتّباعه خاصّةً إذا كانت المسألة من المسائل التي في درجة ثانية من حيث مستوى اهتمامهم بها.
سابعاً: إن الأعلمية في الاجتهاد واستنباط الحكم الشرعي وإن كان له صلة وربط وثيقٌ بالعلوم الرسمية المتداولة في الحوزة العلمية بين أيدي الفقهاء منالأصول والأدب والرجال وفقه الحديث والتفسير والدقيقات العلمية والالتفات إلى القضايا الدقيقة والظرائف، والدقّة في الأدلّة خاصّة الأدلّة الفلسفية والعقلية؛ ولكن من المهم بل الأهم إيلاء العناية الخاصّة بحقيقة الإسلام وروحه السارية والجارية في جميع الأحكام الإسلامية. وهذا ما يحتاج إليه المجتهد في استنباطاته زائداً على هذه العلوم الرسمية الدخيلة في الاجتهاد، فإنه يُرى أن كثيراً من التدقيقات العقلية الأصولية والظرائف من الاستدلالات والمناقشات لا تترتب عليها سوى الثمرات والنتائج النظريّة؛ ولكن من جهة أخرى الفهم
ص: 178
العميق لسيرة النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) والأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ودراسة أعمالهم ومنهجهم وتصرفاتهم في القضايا المختلفة خاصّةً حينما كان الحكم بيدهم، وعندما كانوا مبسوطي اليد لإدارة المجتمع وولاية الأمر كحكومة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)وأميرالمؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فمنخلال دراسة هذه الأمور يتعرّف الفقيه إلى حقيقة الإسلام ويعرف المهمات والأولويات عند الشارع الحكيم. فهناك فرقٌ شاسع بين فقيه له تحقيقاته العلمية وتضلّعه في المصطلحات وصناعة الاجتهاد، ولكنّ أفكاره وآرائه بعيدة عن سيرة النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وأمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)من تأسيس الحكم والدولة وتجهيز الجيش وقتال العدوّ وإجراء الحدود وغيرها، فهل يمكن بناء على السيرة العقلائية اعتبار الفقيه الأول أعلمَ صالحاً للإمامة دون الثاني، مع أن من المقطوع به أنّ رأي الثاني أقرب إلى واقع الإسلام وحقيقته وروحه.
أضف إلى ذلك كلّه أنّ من الأمور التي لها دخل تامٌّ في الأعلمية التعرف على المسائل الفكرية والثقافية المعاصرة، وخاصّة ما يرتبط بالقانون والحقوق، فإنّ لهذه الأمور دخلٌ تامٌّ في الاستنباط الشرعي للمسائل المستحدثة وحتى في المسائل القديمة التي تحتاجإلى دراسة من جديد؛ بسبب ظهور أمور خاصة وعناوين جديدة صارت محلًّا للابتلاء، ويجب إعادة بحثها ودراستها كالمسائل المرتبطة بالفقه الحكومي والقضاء والاقتصاد والمصارف والعملة وغيرها، فلهذا الأمر أثر في الاستنباط الفقهي فكيف يمكن أن يعدّ الفقيه أعلمَ مع كونه أجنبيًّا عن هذه الأمور.
ومن العناصر المهمة الدخيلة في الاجتهاد والأعلمية أيضًا والتي يُغفل عنها في سياق تعداد معايير الفقاهة والأعلمية،_ الإحاطة العلمية بمعارف اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وتراثهم الذي هو بين أيدينا من الأمور الواردة في الكلام والعقيدة والتاريخ والأخلاق وغيرها، فإذا كان هناك فقيه له إشراف تامٌّ على الأحاديث الفقهية المنقولة في وسائل الشيعة مثلًا؛ ولكنّه كان غير مطلع على سائر علومهم ومعارفهم وغير خبير بالثقافة الإسلامية العامّة، مع ما لهذه الأمور من دخل تامٍّ
ص: 179
في الاستنباط المؤدّي إلى الواقع، فكيف يعدّ العقلاء هذا الفقيه أعلم بسبب تضلّعه في الأصول والدقائق والظرائف المذكورة في الترتب والاستصحاب ومقدمة الواجب والأصل المثبت وغيرها، مع غفلته وعدم اطّلاعه الکافي على سائر علوم أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، مع أن علوم الكتاب والسنة ومعارف أهل البيت مجموعة مترابطة متصلة بعضها ببعض لها روحٌ واحدة ونفس واحدة، ولا يستطيع أحد أن ينظر إلى التشريعات الإسلامية كجزيرة منفصلة عن سائر الأمور العقائدية والأخلاقية والسيرة وغيرها.
ويدلّ على هذا دليل العقل وبناء العقلاء والأدلة النقلية كقوله: «أعلمهم بأمر الله فيه» وقوله تعالى: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ وما ورد أيضًا في صحيحة عيص بن القاسم.
فعلى هذا ظهر أن مسألة الأعلمية بحاجة إلى إعمال فكر ودقّة حتى تعرف جوانبها المختلفة وأبعادها المتفاوتة ويحلِّل بناء العقلاء بالنسبة إلى هذه الأبعاد والوجوه المتفاوتة. وحينئذٍ وإن سلّمنا باعتبار الأعلمية في ولي الأمر في عصر الغيبة، فإننا ننظر إلى هذا الشرط بهذه النظرة الشاملة؛ وعليه فإنّ المسألة ليست على ما تبدو من البساطة فيتفسير الأعلمية بالأعلمية في مجال الاستنباط؛ بل يجب الالتفات إلى جميع وجوهها وأبعادها، وأخذها بهذا المعنى الشامل الواسع.
ثامناً: إن إقامة الحكومة الإسلامية في عصر الغيبة -وهو محل الابتلاء اليوم- هو إقامتها في ناحية من النواحي لا في جميع العالم فإنّ استقرار حكومة واحدة عالمية بيد إمام غير معصوم، هو أمرٌ بعيد عن مطمح النظر في الوقت الحاضر.
فحينما نتكلم عن الفقيه الأعلم؛ بل حينما نتكلم عن اشتراط الفقاهة واعتبار الاجتهاد، فهذا يختص بناحية وبلد أو مكان يمكن استقرار الحكومة الإسلامية فيها؛ كما تحقّق في إيران بعد الثورة الإسلامية؛ فحينئذ يقال: تعتبر
ص: 180
الفقاهة والأعلمية لولي أمر هذه الحكومة على قدر الإمكان، وأمّا إذا كان هناك مكان يتمكن المؤمنون من إقامة الحكم؛ ولكن لم يكن بينهم فقيه يتصدّى لأمر الولاية، أو كان الفقيه موجوداً ولكن لم تكن عنده الكفاءة والقدرة على إدارة المجتمع، أو كان الفقيه خارج هذا المكان ولم يمكن الوصول إليه لأجل إقامة الحكم تحت نظره وإشرافه، فحينئذٍ يجب إقامة الحكم وإن كان الحاكم غير فقيه أو غير أعلم.
فعلى هذا اعتبار: الأعلمية والفقاهة اعتبار إضافيٌّ نسبيٌّ يدرس على حسب الظروف وما يقتضيه الزمان والمكان.
تاسعاً: قد يُقال إن من المحتمل أنّه إذا كان هناك فقيه أعلم في استنباط الأحكام فقط دون التطبيقات وتشخيص الأمور، وفقيه آخر أعلم وأكثر خبرة في معرفة الأمور والوقائع والموضوعات دون استنباط الأحكام؛ فلازم الأدلة هو انقسام تولّي أمور المسلمين بينهما بحسب وجدان كلّ منهما، وأمّا ما ورد في الروايات من اعتبار وحدة الإمام فهو خاصٌّ بالإمام المعصوم.(1)ولكن لا يخفى ما في هذا الاحتمال من الضعف، فإنّ الولاية على الأمة بحسب طبيعتها وماهيتها أمر بسيطٌ لا يقبل الانقسام ذاتاً؛ بل هي حكم لموضوع واحد في مكان واحد.
نعم إذا كان هناك بلادٌ مختلفة ونواحي متفاوتة مع حدود وثغور متمايزة ويمكن إقامة الحكم في كل واحد منها مستقلًّا عن الآخر فحينئذ لكل منها حكمه الخاص به.
وأمّا في بلد واحد مع حدود وأطراف محددة وثغور متميزة، فلا يمكن تقسيم الولاية فيها؛ لأنّ الولاية لا تقبل التكثّر والتعدّد، فٍفي مفروض المسألة حينئذ أنّه إذا كان هناك فقيه أعلم في الاستنباط وفقيه آخر أعلم في تعرّف الأمور فالمسألة تدخل في باب تزاحم الملاكات، فيجب أن يدرس الأهم، وأمّا ما يقال من أن
ص: 181
قول الأعلم هو طريق لازم الاتباع والولاية على الأمّة إنما تكون ثابتة له ولا ولاية لغير الأعلم في تلك الموارد التي يكون الأعلم مخالفاً له،(1) فهذا الكلام لا يخلو من إشكال ومناقشة فإنّ تقديم الأعلم مطلقًا على غير الأعلم، قد يكون مخالفاً لترجيح ملاك الأهم خاصّة في ما يرتبط بالمصالح العامّة وكياسة التدبير وتشخيص الصغريات وتطبيقات القواعد العامة عليها، فإنّها عند العقلاء أهم من الأعلمية في الاستنباط فقط. والله العالم.
ص: 182
تمهيد:
الشرط الثاني من شروط الإمامة والولاية على الأمّة في عصر الغيبة وزمن قبض يد الإمام المعصوم هو العدالة. واعتبار هذا الشرط في الإمام والحاكم كما في الفقه على المذاهب الأربعة،(1) متّفق عليه بين مذاهب العامّة، وقد صرّح باشتراطه كثيرٌ من فقهاء أهل السنّة كالماوردي، والقاضي أبي يعلي الفرّاء، والقاضي الإيجي، والشريف الجرجاني، وابن خلدون، والقلقشندي. والشيء نفسه فعله فقهاء الإماميّة ومنهم العلامة الحلّي(2)
والسيد الإمام وغيرهم.
وفي المادّة 956 من دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، وهي المادّة المخصّصة لبيان شروط الوليّ الفقيه ومواصفاته نصّ على أن العدالة والتقوى من الشروطالتي تتوقّف عليها صلاحية الوليّ. وسوف نعرض الأدلّة التي يُستدلّ بها على هذا الشرط في ما يأتي.
قد يقرّب الوجه العقليّ لاعتبار العدالة بهذا البيان:
ص: 183
وهو أن العقلاء إذا أرادوا أن يفوّضوا أمراً من الأمور إلى شخص فلا محالة يراعون فيه أموراً؛ منها أن يكون أميناً يُوثق به، والولاية وإدارة شؤون الأمة من أهمّ الأمور، فلا محالةيُشترط في الوالي، بحكم العقل والفطرة، أن يكون أميناً يمكن الوثوق به، ويعبّر المسلمون عن الأمانة والاستقامة بالعدالة.(1)
أقول: يرد على هذا التقريب:
أوّلًا: قد خلط فيه بين حكم العقل وسيرة العقلاء، وقد مرّ في البحث عن شرطية الفقاهة أنّهما أمران مختلفان، ودليلان مستقلَّان يجب التمييز بينهما لعدم تلازمهما.
ثانياً: ثمّة فرقٌ بين الأمانة والعدالة، فما هو مذكور في تقريب الدليل هو حكم العقل أو سيرة العقلاء، بلزوم الأمانة في المفوّض إليه الأمور؛ ولكن المدّعى هو لزوم العدالة مع أنّ بينهما، كما سيأتي تفصيله، عمومٌ مطلقٌ لأنّ العدالة المعتبرة في الفقه هي اجتناب المعاصي الكبيرة وعدم الإصرار على ارتكاب الصغائر، أمّا الأمانة فلا يشترط فيها اجتناب جميع المعاصي؛ لأنّها ضدّ الخيانة وهي مخالفَة الحقّ بنقض العهد في السرّ، قال تعالى: ﴿لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ﴾(سورة الانفال:الآیة127)، وقال تعالى:﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ (سورة الأحزاب:الآیة72)؛(2) فالأمانة قد تبقى محفوظةً حتّى مع الفسق وارتكاب بعض المعاصي كشرب الخمر وأكل الميتة والدم بخلاف العدالة. فالعدالة أخصّ من الأمانة وإثبات الأعمّ لا يكفي لإثبات الأخصّ. وعلى هذا فالدليل أعمّ من المدّعى.
ومن هنا، يظهر أنّه لا يمكن التمسك بسيرة العقلاء لإثبات المدّعى؛ فإنّ ما هو ثابتٌ من سيرتهم هو تفويض أمورهم إلى الأمين، وهذا يكشف عن
ص: 184
أنّهم يشترطون الأمانة؛ ولكن لزوم العدالة غير ثابت من سيرتهم، بحسب هذا التقريب.
ما ذكره السيد الإمام (قُدّس سِرّه) لبيان حكم العقل:
«الظالم والفاسق لا يعقل أن يجعل الله تعالى أحدهما والياً على المسلمين وحاكماً على مقدّراتهم، وعلى أموالهم ونفوسهم، مع شدّة اهتمام الشارع الأقدس بذلك».(1)
وبعبارة واضحة:
أولا: إن الولاية كما بيّنّاه في أوائل البحث عهدٌ إلهيٌّ وحقٌّ منحصرٌ في ذاته تبارك وتعالى، فهي متوقّفةٌ على جعله تعالى وإذنه بالتصرف في الأموال والنفوس.
ثانياً: إنّ جعل الله تعالى الولاية والإذن في التصرف للظالم والفاسق غير معقول؛ لأنه مخالف للأغراض الإلهية وغير موافق لما يهتمّ تعالى به بشدّة من حفظ الأموال والأنفس ومقدرات المسلمين.
ثالثاً: إنّه مخالفٌ للغرض ولما يهتمّ به الله تبارك تعالى وضدّ الحكمة الإلهية فيستحيل تحقّقه منه تعالى.
ونتيجة هذا الكلام أنّه: يستحيل إضفاء الشرعية على تصرّف الفاسق والظالم، في الأموال والأنفس، ولا يمكن جعل الولاية لهما من الله تبارك وتعالى عقلاً.
وهذا التقريب لحكم العقل تقريبٌ صائبٌ ومتينٌ يثبت المدّعى بواسطة ما يُسمّى في علم المنطق ببرهان الخلف، ولا يرد عليه ما أورد على التقريب الأول.
ثم إنّه ممّا يؤيّد حكمَ العقل بشرطية العدالة، أنّه لا يعقل تحقّق إجراء القانون بما
ص: 185
هو حقّه إلا بيد الوالي العالم العادل.(1) وليس المراد من عدم المعقولية الاستحالة العقلية بل المراد عدم المعقولية عادةً، وعلى حسب المتعارف والمعتاد. فإنّ الفاسق الجاهل لا يهتمّبتنفيذ الشريعة مئة بالمئة، كيف وهو أسير الشهوة والأهواء وفي سجن الشيطان والمعاصي التي يرتكبها، فلا يرجى منه تنفيذ الأحكام الشرعية كما هو حقّه ويستحقّه.
ثمّة طائفة من آيات الذكر الحكيم قد يستدلّ بها لاعتبار العدالة في إمام المسلمين نذكر منها ما هو أقرب بالمقصود وأوضح دلالة.
الآية الأولى: قوله تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ﴾. (سورة هود: الآية 113)
استدلّ بها العلامة في التذكرة، وموضع الاستدلال الجملة الأولى أعني قوله «ولا تركنوا إلى الذين ظلموا».(2)
بيان الاستدلال:
يتوقّف الاستدلال بالآية الكريمة على أمور نذكرهاتباعًا:
الأوّل: الركون إلى الظالمين منهيٌّ عنه ويُستفاد من حرمته من التهديد بمسّ النار من يركن إلى ظالمٍ.
الثاني: ركن الشيء هو جانبه الذي يسكن إليه ويُستعار للقوّة(3).
قال تعالى: ﴿لَوْ أنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾(سورة هود:الآیة80) فالركون إلى الذين ظلموا هو نوع
ص: 186
اعتماد عليهم والسكون إليهم وهو حرام مطلقاً، بحكم الآية ومن أظهر مصاديقه وأوضح تطبيقاته المهمة هي أن يُسمح لهم بإدارة أمور المجتمع الإسلامي وولاية الأمور العامّة. فالاقتراب من الظالمين والاعتماد والاتّكاء عليهم بتفويض مقدّرات الأمّة إليهم،وتسليطهم على الأموال والأنفس، كلّ ذلك يعدّ من المحرّمات الشرعية لما يؤدّي إليه من إماتة الحق وإحياء الباطل.(1)
الثالث: أول ما ينسبق إلى الذهن من معنى الظلم، وأول ما يتبادر عند الناس من معناه هو الظلم الاجتماعي، وهو التعدّي على حقٍّ اجتماعي، كسلب الأمن من أحدٍ، أو الاعتداء على عرضه وكرامته، أو ماله من غير حقٍّ مسوّغ؛ ولكن الظلم بحسب معناه واللغوي لا ينحصر في هذا الظلم الاجتماعي الذي ينسبق إليه الذهن؛ بل هو في اللغة عبارة عن الخروج عن وسط العدل، فهو أعمّ مما يسبق إلى ذهن الناس هذا أوّلًا.
ثم من المهمّ: أن العرف قد وسّع في ما يسبق إلى فهم الناس، فسمّى كل مخالفة لقانون أو سنّة جارية ظلماً؛ بل كلّ ذنب ومعصية لخطاب مولوي ظلمً من المذنب بالنسبة إلى نفسه وأيضًا هو ظلمٌ، بالنسبة إلى الله سبحانه لما له من حقّ الطاعة المشروع هذا ثانياً.
ثم إن العرف ربّما يوسّع الظلم ثانياً ليشمل مخالفة التكليف مطلقاً وإن كان عن سهو أو نسيان أو جهل؛ بل إلى مخالفة النصيحة والأمر الإرشادي هذا ثالثاً. فللظلم عرفاً عرض عريض؛(2) ولكن بمناسبة الحكم والموضوع وبقرينة قوله تعالى في الآية الكريمة ﴿فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ﴾، وقوله أيضاً: في هذه الآية ﴿وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ﴾ (سورة هود: الآیة113)، وبقرنية سائر الآيات الواردة
ص: 187
في الظلم كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ﴾. (سورة البقرة: الآية 229)
يظهر أمور:
الأوّل: أنّ المراد من الظلم في الآية الكريمة أعمّ مما ينسبق إليه الذهن من الظلم الاجتماعي.الثاني: ليس المراد من الظلم في الآية كل ما يوسّعه العرف من المخالفة والمعصية وإن كانت مخالفة للأمر الإرشادي، أو كانت المخالفة مقرونة بعذر كالسهو والنسيان والجهل، فالمراد من الظلم في الآية أخصّ مما يسمّى في العرف واللغة ظلماً.
الثالث: المراد من الظلم في الآية بناءً على ما ذكرناه هو التعدّي عن حدود الله وعدم رعاية الإلزامات الشرعية عن قصد وعمد واختيار، دون عذر شرعي أو عقلي. فالمراد منه هو المخالفة والمعصية المستوجبة للعقوبة. بعبارة أخرى الظلم في الآية مساوقٌ للفسق فإنّ الفاسق يظلم نفسه ولا يراعي جانب حقّ نفسه ويظلم ربَّه ولا يراعي جنب حقّه تعالى من وجوب عدم المخالفة لأوامره ونواهيه وبحكم الآية لا يجوز الركون إلى هؤلاء الفاسقين الظالمين ويجب الاجتناب عن الاتّكاء إليهم والاعتماد عليهم بتفويض الأمور إليهم وتسليطهم على ولاية أمر المجتمع الإسلامي وهذا هو المطلوب من اشتراط الولاية والإمامة بالعدالة والتحرّز عن الفاسق.
ويؤيّد ما استظهرناه في معنى الآية المباركة ما ورد في الروايات تفسيراً للآية الكريمة:
كما عن تفسير القمي في قوله تعالى: «ولا تركنوا... الآية قال: ركون مودّة ونصيحة وطاعة».(1)
وما في الكافي عن أبي عبد الله في قول الله(عزّ و جلّ): «﴿لا تركنوا إلى الذين ظلموا
ص: 188
فتمسّكم النار﴾ قال: هو الرجل يأتي السلطان فيحبّ بقاءه إلى أن يدخل يده إلى كيسه فيعطيه».(1)
فالرواية الأولى تعدّ الطاعة من الركون. والرواية الثانية تعدّ مجرّد حبّ بقاء السلطان، ولو في زمان قصير جدّاً ركوناً إليه.النتيجة من شروط الطاعة والالتزام بأوامر السلطان ونواهيه عدم كونه ظالماً وفاسقاً، وهو المطلوب، والله العالم.
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾. (سورة الإنسان: الآية 24)
بحكم الآية المباركة تحرم طاعة الآثم الفاسق، وبالتالي تفيد أنّ ولايته غير مشروعة. وهذا هو محلّ البحث أي اشتراط العدالة في وليّ الأمر لإثبات مشروعيّة ولايته ووجوب طاعته.
تقريب الاستدلال:
الاستدلال بهذه الآية المباركة يتوقّف على بيان أمور:
الأول: نهى الله تعالى نبيَّه الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) عن طاعة الآثم، والنهي ظاهرٌ في الحرمة فيحرم على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) طاعة الآثم والكفور. ومن الواجب على النبيّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، على ما يظهر من الفقرات السابقة لهذه الآية أن يصبر على حكم ربّه ويطيع أحكامه المنزلة عليه في القرآن ويلتزم بولاية الله تبارك وتعالى.
قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرآن تَنْزِيلاً * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾. (سورة الإنسان: الآيتان 23 و24)
الثاني: فسّر الراغب في المفردات كلمة «الآثم» بأنّها اسم للأفعال المبطِّئة
ص: 189
عن الثواب، وربّما يُتوهّم منه عدم اختصاصه بالمحرّمات؛(1)
ولكن هذا القول منه للإشارة إلى تضمّنه لمعنى البُطء وإلّا على ما يستظهر من سائر الآيات فإنّ الإثم لا يوجب الإبطاء عن الثواب فقط؛ بل يوجب العقاب والعذاب أيضًا وذلك لقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ (سورة الأعراف: الآية 33) ؛ وهذه الآية تعدّ الإثم في عداد ما حرّمه الربّ ولا شك في أنّ المحرّم يستلزم العقاب. فالمراد من الآثم هو المتلبّس بالمعصية.ثم إن المراد من قوله تعالى «الكفور» هو المبالغ في الكفر؛ فعلى هذا يشمل قوله تعالى (آثِمًا أَوْ كَفُورًا)، الكفّار والفسّاق جميعاً.(2)
الثالث: إنّ الإثم علّة للنهي عن طاعة الآثم مطلقاً، ولا يختصّ بما إذا دعا الآثم إلى طاعته في ما أثم فيه؛ وذلك لأنّ تعليق الحكم بالوصف مشعرٌ بالعلية،(3) فيظهر من الآية أنّه لا يجوز طاعة الآثم على أيّ نحوٍ كان وعلى أيّ وجهٍ من الوجوه وإن لم يدعُ إلى إثمه.
الرابع: لا يختص تحريم الطاعة بخصوص النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بل الحكم عامّ لجميع الأمّة، فالآثم الفاسق لا يجوز أن تطيعه الأمّة الإسلامية، وذلك بسبب كونه آثمًا فإنّ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية، على أن إلغاء الخصوصية (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) العرفية أيضًا يكفي لعدم اختصاص الحكم بالنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ).
الخامس: بما أنّ الولاية والإمامة يستلزمان الالتزام والطاعة بما يلزِمِ به الإمام ووليّ الأمر، فلا يصلح الفاسق والآثم لولاية أمر الأمة. وهو المطلوب لإثبات شرط العدالة.
الآية الثالثة: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَان أَمْرُهُ فُرُطًا﴾. (سورة الكهف: الآية 28)
ص: 190
تقريب الاستدلال:
يظهر المدّعى ببيان أمور:
1) إنّه تعالى نهى الرسول الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) عن طاعة من أغفل الله قلبَه عن ذكره واتّبع هواه وأفرط وتجاوز في غفلته واتّباعه لهوى نفسه.
2) هذا النهي يشمل كل من يعصى الله (جلّ وعلا) لأنّ المعصية حصيلة غفلة القلب عنه تعالى، وهي متحققة في كلّ واحدة من المعاصي، فإذا استمرّ أحد على ارتكابالذنوب والمعاصي، تكون غفلته مستمرّة ودائمة، فموضوع الآية شامل لكل مذنب؛ فتدلّ على حرمة طاعته.
3) اختصاص الخطاب بالنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) لا يوجب اختصاص الحكم به؛ بل علّة التحريم هي ارتكاب المعاصي والجرائم وغفلة القلب. فالآية تنهى المؤمنين عن طاعة الفسّاق فيُشترط في الولاية وطاعة وليّ الأمر العدالة. هذا غاية التقريب للاستدلال بالآية.(1)
ولكن يُشكّك في الاستدلال بالآية،بأنّ يُقال: الآية تختصّ بمن تكون غفلته دائمة، ويكون في اتباعه لهواه مفرطاً ومتجاوزاً. ولا تشمل كلّ فاسق ومذنب فإنّ الآية لا تنهى عن اتّباع المذنب الذي يكون حين ذنبه غافلاً عن ذكره؛ ولكن غفلته ليست دائمةً ولم يصل اتّباعه لهواه إلى مرحلة الإفراط، وعلى هذا فالدليل أعمّ من المدّعى. وعلى يُحتمل هذا المعنى، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.
الآية الرابعة: ﴿وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾. (سورة الشعراء: الآيتان 151-152)
تقريب الاستدلال:
الآيتان حكاية عن لسان صالح على نبيّنا وآله و، تنهيان عن طاعة أوامر المسرفين
ص: 191
وإلزاماتهم، والمراد من المسرف هو الفاسق العاصي، فلا تجوز طاعته فتدلّ على اعتبار عدالة ولي الأمر؛ ولكن يرد على الاستدلال: أنّ الآية تنهى عن طاعة أمر المفسدين دون الفاسقين والنسبة بينهما عمومٌ مطلقٌ فإنّ من الفاسقين من لا يكون موغلًا في إسرافه ولا مفرطاً، في معصيته ويكون أمره بحيث يُرجى منه بعد الصلاح دعوة الناس إليه فطاعة هذا الفاسق غير منهيٍّ عنها بحكم الآية، فدلالة الآية كسابقتها أخصّ من المدّعى ويكفي مجرّد الاحتمال لردّ الاستدلال.(1)الآية الخامسة: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا﴾ (سورة الأحزاب: الآيتان 67-68)
تقريب الاستدلال:
تحكي الآية عن أهل النار طلبهم أن يعذّب الله سادتهم وكبراءهم؛ لأنّهم كانوا سبب ضلالهم. فالآية تدلّ على مبغوضية طاعة هؤلاء السادة الكبراء. والسرّ فيها هو مبغوضية فعلهم؛ لأنّهم يدعون إلى المعصية ومخالفة أمر الله تعالى، فلا تجوز طاعتهم فالآية تدل على اشتراط العدالة في المطاع.
ولكن يرد على الاستدلال:
أنّ الدليل أخصّ من المدّعى؛ لأنّها تشمل طائفة خاصّةً من الناس، لا جميعهم؛ فإنّ السادة الكبراء الفاسقين على طائفتين طائفةٌ هم الذين يدعون الناس إلى المعاصي والذنوب فهؤلاء لا تجوز طاعتهم بحكم الآية؛ والطائفة الثانية من هؤلاء الفسّاق هي التي لا تدعو الناس إلى العصيان، فمثلهم غير داخل في حدود دلالة الآية المباركة فالاستدلال بالآية مخدوش.(2)
والنتيجة: أنّه يكفي لإثبات اعتبار العدالة في ولي الأمر الآية الأولى والآية الثانية.
ص: 192
ثمّة طائفة كثيرة من الأخبار المروّيّة عن أئمة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) قد يستدلّ بها لإثبات اشتراط العدالة في ولي الأمر وإمام المسلمين.(1) نذكر ما هو الأهم منها سندًا ودلالة.الرواية الأولى: معتبرة سدير بن حكيم
رواها الكليني (قُدّس سِرّه) في الكافي عن على بن إبراهيم عن صالح بن السندي عن جعفر بن بشير عن حنّان عن أبيه عن أبي جعفر قال، قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا تصلح الإمامة إلا لرجلٍ فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم». وفي رواية أخرى: «حتى يكون للرعية كالأب الرحيم».(2)
تقريب الاستدلال:
أولًا بحكم هذه الرواية الإمامة مشروطة بالورع الذي يحجز عن معاصي الله، ثانياً إنّ المراد من الإمامة المذكورة فيها: هو ولاية أمر المسلمين.
وعليه فإنّ إمامة المسلمين مشروطة بالورع، والورع عبارة أخرى عن العدالة؛ لأنّ الورع هو الاجتناب عن المعاصي، وبما أنّ ترك الواجب أيضًا من المعاصي فالورع والعدالة يتصادقان على معنى واحد.
اللهم إلا أن يقال: إن الورع أخصّ من العدالة، فإنّ الوَرِع هو من اتقى الشبهات وترك الحرام مخافة الوقوع في الحرام،(3) فالإمامة مشروطة بالورع، وتحقّق الورع يتوقّف على اجتناب المعاصي، ومضافًا إليه على اجتناب الشبهات في موارد احتمال الوقوع في الحرام؛ وبناء عليه لا تكفي العدالة بل المطلوب هو مرتبة أعلى منها.
ص: 193
الرواية الثانية: رواية نهج البلاغة
«وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ الوالي عَلَى الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ والْمَغَانِمِ وَالْأحكام وَإمامةِ الْمُسْلِمِينَ الْبَخِيلُ، فَتَكُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ. ولَا الْجَاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ، وَلَا الْجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ، وَلَا الْحَائِفُ (الجائف) لِلدُّوَلِ فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ، وَلَاالْمُرْتَشِي فِي الْحُكْمِ فَيَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ، وَيَقِفَ بِهَا دُونَ الْمَقَاطِعِ، والمعطل لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ الْأُمَّةَ».(1)
وزاد عليه في تمام نهج البلاغة: «ولا الباغي فيدحض الحقّ ولا الفاسق فيشين الشرع».(2)
تقريب الاستدلال:
هذه العبارة من خطبة طويلة ألقاها قبل أيامٍ من استشهاده يصف فيها إمام الحق ويذكر أنّ مثل معاوية لا يجوز أن يكون أميناً على الدماء والأحكام والفروج. ثم في ذيلها يتعرّض للشروط المعتبرة في الإمامة يُستفاد منها اعتبار العلم والعدالة. أمّا العلم فقد مرّ البحث عن اعتباره، وأمّا الوجه في استفادة اشتراط العدالة في الإمام من هذه الخطبة فهو أنّه مضافاً إلى التصريح باعتبار خلوّ الإمام عن الفسق على ما في نسخة تمام نهج البلاغة؛ فلأنّ الإمام في هذه الخطبة يذكر في هذه الخطبة عددًا من الصفات السلبية وهي: البخيل والجافي والحائف للدول والمرتشي والمعطّل للسنّة، ويُستفاد من كلام الإمام أنّ أصحاب هذه الصفات لا تجوز إمامتهم؛ وذلك: 1) إنّ البخيل يشبع نهمه(3) ويقضي شهوته من أموال الناس؛ 2) الجافي(4) يطرد الناس ويقطعهم ويوجب الكراهية والنفور بأخلاقه السيئة؛ 3) الحائف للدول(5) بسبب حيفه وظلمه في أموال الناس يوجب التحيز لهذا على حساب ذلك والمحاباة لأشخاص دون
ص: 194
آخرين؛ 4) الآخذ للرشوة في الحكم يحكم بغير الحق فيوجب الظلم وإذهاب الحقوق؛ 5) المعطّل للسنّة يسبّب تعطيل الشريعة والأحكام المبنيّة في سيرة النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بترك نفسه ومنعه الناس عن العملبها. ولا شك في أنّ الفسق هو الجامع لهذه الخصال السيئة والأوصاف الرديئة فكأنه إجمال لتفصيلها.
نعم لقائل أن يقول:
لا يرتكب هذه الأعمال الشنيعة والدنيئة المذكورة في الحديث كلّ فاسق ما لم يهبط في دركات الفسق وما لم يتنزّل العاصي إلى مراحل من الفسق الموجبة للطغيان والبعد الشاسع والغفلة التامّة عن ذكر الله الموجب لهذه الأمور. فإنّ تعطيل السنة والمنع عنها وحيف الأموال والجفاء والجور بين الناس أيضًا تعدّ من أكبر الكبائر، والرواية إنّما تمنع عن إمامة هؤلاء الفسّاق دون سائر الفسّاق الذين لا يرتكبون هذه الكبائر العظيمة.
الرواية الثالثة: رواية تحف العقول
عن الصادق : حينما سأله سائل عن جهات معايش العباد التي فيها الاكتساب ذكر أربع جهات: الولاية ثم التجارة ثم الصناعات ثم الإجارات.
فبدأ بتفسير الولاية فقال : «فإحدى الجهتين من الولاية ولاية ولاة العدل الذين أمر الله بولايتهم وتوليتهم على الناس، وولاية ولاته وولاة إلى ولاته أدناهم بابًا من أبواب الولاية على من هو والٍ عليه. والجهة الأخرى من الولاية ولاية ولاة الجور وولاة ولاته إلى أدناهم بابا من الأبواب التي هو والٍ عليه.
فوجه الحلال من الولاية ولاية الوالي العادل الذي أمر الله بمعرفته وولايته، والعمل له في ولايته وولاية ولاته وولاة ولاته، بجهة ما أمر الله به الوالي العادل بلا زيادة في ما أنزل الله به ولا نقصان منه ولا تحريف لقوله ولا تعدٍّ لأمره إلى غيره...»
إلى أن قال :.«وأمّا وجه الحرام من الولاية فولاية الوالي الجائر وولاية ولاته، الرئيس منهم وأتباع الوالي فمن دونه من ولاة الولاة إلى أدناهم بابًا من أبواب
ص: 195
الولاية على من هو والٍ عليه، والعمل لهم والكسب معهم بجهة الولاية لهم حرام محرّم... الحديث».(1)
تقريب الاستدلال:
يتوقّف تقريب الاستدلال على بيان أمور:
الأول: الرواية تدلّ بوضوح على أن الولاية في الشريعة الغرّاء في تمام مراحلها من المرتبة العليا نزولًا إلى أدنى مراتبها مشروطةٌ بالعدالة؛ فلا شرعية لولاية الفاسق الجائر.
وإن قيل: بما أنّ ولاية الجور في الرواية جُعِلت في قبال ولاية العدل كمضادٍّ لها لا ثالث لهما، وبما أنّ الفسق أعمّ من الجور، وذلك أنّ الجائر هو الذي يعتدي على حقوق الناس ويظلمهم، أمّا الفاسق ربّما يرتكب بعض المعاصي الفردية التي لا توجب الجور والاعتداء على الآخرين كشرب الخمر وترك الصلاة والصوم، فليس كل فاسق جائر؛ فالرواية تدلّ على التنافي بين الجور وبين الولاية دون الفسق، ونفي الخاصّ لا يدلّ على نفي العامّ؛ فالرواية لا تدلّ على اعتبار العدالة بمعناها المصطلح المضادّ للفسق؛ بل تدلّ على اعتبار العدالة الاجتماعية في الولاية وهي الاجتناب عن ظلم الآخرين، وتضييع حقوقهم. وبعبارة أخرى: إنّ القسم الثاني من الولاية أعني ولاية الجور قرينة لتفسير صدرها وتقييدها، وهي ولاية العدل.
وفي مقابل هذا الاحتمال يمكن أن يُقال:
الظاهر والله العالم أنّ الأمر على العكس، وإن الصدر قرينة على تفسير الذيل وبيان معنى الجور، وذلك لوجود القرائن الآتية في الرواية:
القرينة الأولى: أنّه قال: في ضمن تفسير ولاية العدل «بجهة ما أمر الله به الوالي العادل بلا زيادة ولا نقصان منه ولا تحريف لقوله، ولا تعدٍّ لأمره إلى
ص: 196
غيره؛ فإذا صار الوالي واليَ عدلٍ بهذه الجهة؛ فالولاية له والعمل معه ومعونته في ولايته وتقويته حلال محلّل، وحلال الكسب معهم وذلك أنّ في ولاية والي العدل وولاته إحياء كلّ حق وكلّ عدل وإماتة كل ظلم وجور وفساد؛ فلذلك كان الساعي في تقوية سلطانه والمعين له على ولايته ساعياً إلى طاعة الله مقوّيا لدينه»
ولا شك في أن هذه العبارات الساطعة الوهّاجة تدلّ على مانعية الفسق في الوالي وضرورة خلوّه منهن واجتنابه أي معصية من المعاصي، وتحرّزه عن مخالفة أي أمر من الأوامر الإلهية، فإنّ هذه البرامج من «إتيان ما أمر الله به الوالي بلا زيادة ونقصان» وهذه الأغراض والنتائج «من إحياء كل عدل وإماتة كل فساد» لا يتوقع إتيانها وتحققها من الفاسق الجائر مع نفسه، ولو لم يكن جائراً في تصرفاته مع الناس.
القرينة الثانية: أنّه قال في ضمن تفسير ولاية الجور:
«إنّ في ولاية الوالي الجائر دروس الحق، وإحياء الباطل كلّه وإظهار الظلم والجور والفساد، وإبطال الكتب وقتل الأنبياء والمؤمنين وهدم المساجد وتبديل سنّة الله وشرائعه، فلذلك حرّم العمل معهم ومعونتهم والكسب معهم، إلا بجهة الضرورة نظير الضرورة إلى الدم والميتة».
ومن الواضح أيضًا أنّ هذه العبارات الساطعة تدلّ على أن فسق الوالي وجوره مع نفسه وإن لم يكن جائراً بالنسبة إلى غيره باعثاً وموجباً لإتيان هذه الأعمال السيئة الكريهة.
فبالنتيجة: إن الرواية تدلّ على اعتبار العدالة في مراتبها العالية والإيمان الشديد والتقوى الكاملة للولاية على حسب درجاتها ومراتبها لهداية المجتمع الإسلامي، وأخذه في سبيل الرشد والكمال وصولًا إلى أعلى مراتب السعادة والتقرّب إلى الله جلّ وعلا.
الثاني: هذه الرواية تبيّن وتفسّر بالصراحة جميع أقسام الولايات العادلة والجائرة في جميع مراتبها، فلا تختصّ بولاية الأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)؛ بل
ص: 197
دلالتها على المقام ومحلّ البحث، أعني ولاية الأمر في عصر الغيبة وزمن الحرمان من الإمام المعصوم أيضًا، واضحة لا غبار عليهما.
الثالث: الرواية وإن كانت مرسلةً؛ ولكنّ متانة النصّ وقوّة المضمون تجعلها بحيث تفوح منها آثار الصدق والحقيقة، وذلك لأنّ مثلها لا يصدر عن غير المعصوم والله العالم.
الرواية الرابعة: صحيحة محمد بن مسلم
قال: سمعت أبا جعفر : (في حديث طويل) إلى أن قال: «والله يا محمد مَن أصبح من هذه الأمّة لا إمام له من الله (جلّ وعزّ) ظاهراً عادلاً؛ أصبح ضالّاً تائهًا. وإن مات على هذه الحالة مات ميتة كفر ونفاق...(1)
توضيح الاستدلال: يدلّ الحديث على أن من لم يكن له إمام عادل فقد أصبح ضالّاً تائهاً، وإن مات مات على حال الكفر أو النفاق؛ فيدلّ على لزوم ائتمام كل إنسان بإمام، والعدالة من الصفات التي تذكرها هذه الرواية للإمام المطلوب اتّباعه.
اللهم إلّا أن يُقال: إنّ الظاهر من الحديث والتأمّل في جميع فقراته، يدلّ على أنه في مقام بيان إمامة الإمام المعصوم، ومنزلته ودوره في حياة الإنسان. والحدّ الأدنى أن يُطرح هذا المعنى كاحتمال في الرواية، وعليه يكون الاستدلال به على شروط الوليّ في زمن الغيبة محلّ شكّ وتأمّل.
الرواية الخامسة: رواية حبيب السجستاني
عن أبي جعفر قال: «قال الله تبارك وتعالى «لأعذبنّ كلّ رعية في الإسلام دانت بولاية كلّ إمام جائر ليس من الله؛ وإن كانت الرعية في أعمالها برّة تقية. ولأعفونّ عن كلّ رعية في الإسلام دانت بولاية كلّ إمام عادل من الله؛ وإن كانت الرعية في أنفسها ظالمة مسيئة».(2)
ص: 198
والكلام في بيان وجه الاستدلال والإشكال عليه كما في سابقه.
الرواية السادسة: رواية عبد الله بن أبي يعفور
عن أبي عبد الله في حديث، قال: «لا دين لمن دانَ اللهَ بولاية إمامٍ جائر ليس من الله. ولا عتب على من دان بولاية إمام عادل من الله».(1)
وهذه الرواية أيضًا الكلام فيها والاعتراض عليها كسابقتها.
الرواية السابعة: رواية أخرى في نهج البلاغة
من كتابه الطويل الذي أمر أن يُقرأ على الناس كل يوم جمعة: «ولكنّني آسي أن يلي أمر هذه الأمّة سفهاؤها وفجّارها، فيتّخذوا مال الله دُوَلا وعباده خَوَلا والصالحين حَرْباً(2) والفاسقين حزباً».(3)
بيان وجه الاستدلال:
يكشف الإمام في هذه الكلمة عن حزنه من أن يلي أمر الأمّة السفهاء والفجّار؛ لما يعرفه من عواقب هذا الأمر والمصائب العظيمة المترتبة عليه؛ فإنّ ولاية الفجّار والسفهاء تذهب بمقدّرات المجتمع الإسلامي إلى المهالك والمفاسد التي لا نهاية لها.
أقول: هذه سبعة أحاديث أخذناها من مجموعة من الروايات الكثيرة المستدلّ بها لإثبات اشتراط العدالة في وليّ الأمر، وهذه السبعة وإن كان بعضها لا يخلو من المناقشة؛ ولكن في المجموع لا بأس بالاستناد إليها من تمامية بعضها سندًا ودلالة وجبر بعضها بعضًا. كما إنّ ما ذكرناه من دليل العقل وما تلوناه من آيات الذكر الحكيم يكفي لإثبات المطلوب على أن المسألة من المسائل المجمع عليها عند الخاصّة والعامّة. فلنبدأ في بعض المسائل المتفرّعة على هذا الأصل.
ص: 199
تمهيد:
تشترط الشريعة الإسلامية العدالة في عددٍ من الأشخاص المرشّحين لتولّي بعض المناصب أو التصدّي لبعض المهام. ومن هذه المناصب أو المهام المشروطة بالعدالة: المرجعية والقضاء والشهادة وإمامة الجماعة ومنها إمامة المسلمين وولاية أمرهم. وهذا يستدعي البحث في تعريف العدالة، وهنا أمران:
العدالة في اللغة من العدل وهي مصدر بمعنى الاستقامة أو الاستواء كما عن الروضة البهية وجامع المقاصد ومجمع الفائدة والمبسوط والسرائر وكشف اللثام وغيرهم، وليست من عدل بمعنى زاغ ومال فإنه متعدٍ بِمنْ وإلى.(1)ثم إنّ العدالة لم تثبت أنّ وضعًا شرعيًّا خاصًّا أو متشرّعيًّا، وإنما هي على حسب معناها اللغوي والعرفي تستعمل في الآيات القرآنية والروايات أعني الاستقامة وعدم الاعوجاج والانحراف.
قال تعالى: (فَإن خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً)؛ (سورة النساء: الآية 3)
قال تعالى: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ)؛ (سورة النساء: الآية 129)
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَان ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ)؛ (سورة المائدة: الآية 106)
قال تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ)؛ (سورة الطلاق: الآية 2)
ص: 200
قال تعالى: (ان اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ)؛ (سورة النحل: الآية 90)
فالعادل عرفاَ ولغةً هو المستقيم الذي لا يميل شمالاً ولا يميناً. وهو الشخص الثابت على الدوام، في طريق الإيمان بالله، وسلوك طريق الآخرة، والسعي للتقرّب إلى الله تعالى، بحيث تكون العدالة صفة نفسانية وملكة وكيفية وحالة وهيئة نفسانية تدفعه إلى الالتزام بإتيان الواجبات واجتناب المحرّمات، وليست صفة للعمل فقط.
ومن هنا وإن ذكرت للعدالة في المصطلح الفقهي تعريفات مختلفة؛ ولكن أصل هذه التعريفات مصطادة من مفهومها العرفي. فقد اشتهر بين العلماء تعريفها «بأنّها عبارة عن ملكة راسخة باعثة على ملازمة التقوى، من ترك المحرمات وفعل الواجبات» وبعضٌ بدّلوا كلمة الملكة، بالكيفية أو بالحالة أو بالهيئة. والحقّ أنّ النتيجة واحدة ولعلّ المراد واحد.(1)
الغرض الأساس لتشريع اشتراط العدالة، وسرّ الحاجة إليها شرطاً في المناصب المختلفة، كما نصّ عليه السيد الطباطبايي (قُدّس سِرّه) هي سدّ حاجة المجتمع إليها؛ فإنّ للعدالة والاتّصاف بها قيمةٌ عظيمةٌ في المجتمع لا بديل لها، فإنّ الناس على حاجة ملحّة في حياتهم الجماعية إلى أفراد يُوثق بسلوكهم الاجتماعي، ويكونون متلبسين بالاعتدال في الأمور، والاحتراز عن الاسترسال في نقض القوانين، ومخالفة السنن والآداب الجارية؛ لتفوّض إليهم الأمور المهمة من التصرف في الأموال والأنفس، وأخذ القرارات والحكم بين الناس وغيرها. هذا بالنسبة إلى كل مجتمع ومن المعلوم أنّه في المجتمع الإسلامي لا تُسَدّ هذه الحاجات، إلا إذا كان المشترط فيه هذا الشرط يعمل بحسب قواعد
ص: 201
السلوك الإسلامي، وهو الذي يسمّى في علم الفقه بملكة العدالة. فالعدالة الفقهية المعتبرة هي الملكة أو الهيئة النفسانية الباعثة على فعل الواجبات والرادعة عن ارتكاب المعاصي.
ثمّ إنّ المعتبر في المناصب المذكورة كإمامة الجماعة والشهادة والقضاء وولاية الأمر هو الاتّصاف بهذا الوصف، وهذه الهيئة أو الملكة بحسب النظر والرأي العرفي لا بالدقّة العقلية، تختلف عن الملكة الراسخة حقيقةً المعتبرة في فنّ الأخلاق.(1)
فمن هنا، يظهر ما في بعض الملاحظات التي تُوجّه إلى القائلين بالملكة، من أنها لا توجد إلا في المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)؛ حتى استبعد صاحب الجواهر (قُدّس سِرّه) وجودها في مثل المحقّق الأردبيلي (قُدّس سِرّه)، فإنّ المعتبر هو تواجد هذه الهيئة والملكة النفسانية على حسبالرؤية العرفية وليس أكثر. ولذا يعبّر عنها الشيخ الأنصاري (قُدّس سِرّه) بأدنى مراتب الملكة(2) وهي التي يجد الإنسان بها مدافعة الهوى في أول الأمر، فلا يضرّ ببقاء العدالة والاتّصاف بالملكة ارتكاب المعصية في بعض الأحيان، لغلبة الشهوة والغضب، في ما إذا أقدم على التوبة فوراً بعد الارتكاب. ولا يعتبر عدم صدور المعصية عنه طيلة حياته. ولعلّ هذا هو السرّ لما حُكِي عن المحقّق الهمداني (قُدّس سِرّه) أنّه يُعرِّف العدالة:
بأنها عبارة «عن كون الرجل مباليًا بدينه؛ بحيث يبعثه تديّنه في العادة على فعل الواجبات وترك المحرمات». ولعلّ التقييد بقيد «العادة» للإشارة إلى ما ذكرناه أعلاه من أنّ صدور المخالفة أحياناً، على خلاف ما تقتضيه العادة من قبيل أنّ الجواد قد يكبو، غير منافٍ للاتصاف.(3)
ص: 202
وقد حُكِي عن أستاذ الكلّ، الوحيد البهبهاني (قُدّس سِرّه): أنّ حصول الملكة بالنسبة إلى كلّ المعاصي، بمعنى صعوبة الصدور لا استحالته، فإنّ العدالة ممّا تعمّ به البلوى وتكثر إليه الحاجات في العبادات والمعاملات والإيقاعات، فلو كان الأمر كما يقولون لزم الحرج واختلّ النظام؛ مع أنّ القطع حاصلٌ بأنّه في زمان الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) والأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ما كان الأمر على هذا المنهج.
وعلى هذا يظهر أولًا: وجود فرق بين ملكة العدالة والعصمة، وإن ما هو معتبر في العدالة هو الاستقامة النفسانية الحاصلة من خشية الله والإيمان به وبالآخرة؛ حيث يردعه ذلك عن المعصية. ثانياً: العبرة بكون تلك الحالة باعثة هو الحال المتعارف في آحاد الإنسان، دون حالة كماله فقد يتعرّض الإنسان لحالة لا يتمكن فيها من ضبط نفسه لقوّة قهر الشهوة والغضب وغلبتهما. ولعلّ على هذا المعنى وعلى هذا البيان لملكة العدالة يمكن حمل الجواب المحكي عن المحقق الاردبيلي (قُدّس سِرّه) حينما سأله أحدهم إذا ابتليَبامرأة مع استجماع جميع ما له دخل فی رغبة النفس رغبة إلى المعصية؟ فما أجاب (قُدّس سِرّه) بعدم الفعل ولم يشهد لنفسه بعدم التورّط في المعصية؛ بل أجاب بأنه يسأل الله أن لا يبتلينّه بذلك. فإنّ عدم الوثوق بالنفس في مثل هذه الفروض الخارجة عن المتعارف لا يوجب عدم الملكة فيه؛ إذ مراتب الملكة في القوّة والضعف متفاوتة يتلو آخرها العصمة والمعتبر من العدالة أدنى المراتب.(1)
وللكلام تفصيل ستأتي الإشارة إليه في المسألة التالية، إن شاء الله.
بعد الإذعان بأنّ العدالة حقيقة مشكّكة ذاتُ مراتب مختلفة، حسب درجات الإيمان وقوّة الخشية وشدّة المحبّة وضعفها، فلا شك في أنّ القدر المتيقّن من مرتبة العدالة اللازمة في مثل إمامة الجماعة وشهادة البينة هو أدني مراتبها، وأنّ تحقّق الغرض من تحمل المسؤولية في مثل إمامة الجماعة وأداء الشهادة.
ص: 203
ولكن من المهمّ هاهنا أن نتعرّض للمرتبة اللازمة في المناصب الخطيرة المهمّة والحسّاسة من المناصب الاجتماعية كالقضاء والمرجعية وخاصّة العدالة اللازمة في الإمامة وولاية الأمر التي تحسب في ذروة السنام من المناصب، والتي تتحقّق بموجبها للوالي ووليّ الأمر الولاية على الأموال والنفوس ويباح له التصرف في جميع شؤون المجتمع، وبعد تحقق هذه السلطة الخطيرة العظيمة يحقّ له أن يتدخّل في شؤون المجتمع ويلزم الناس بما يراه هو من المصلحة، فما هي درجة العدالة والإيمان والخشية اللازمة لوليّ الأمر؛ ليستطيع أن يأخذ بزمام نفسه في ما إذا غلبت عليه قوّة الشهوة والغضب وليستطيع أن يلتزم بما هو واجب عليه شرعاً حينما يتسلّط على أريكه السلطة، وأن لا يخرج عن مسيرة الشريعة وسلوك الصراط المستقيم حينما يفتح له المجال ليعمل على حسب ما يروم؟ هل أدنى مراتب العدالةالكافية لإمامة المصلّين تكفي لإمامة المسلمين؛ أو أن هذا الموقع بحاجة إلى درجات عالية من مراتب العدالة؟
في مقام الجواب عن هذا السؤال بعضهم ذهب إلى «أن ولي الأمر يجب عليه تكاليف كثيرة تقتضيها سمةُ ولاية أمره، فهو كأحد الأفراد من الرعايا يكلّف مثلهم بتكاليفهم من الواجبات والمحرمات ويزيد عليهم بتكاليف أخرى تقتضيها ولاية الأمر، كوجوب أمر الناس بالجهاد الابتدائيّ والدفاع ووجوب نصب القضاة المتّصفين بالشروط لحلّ المخاصمات وإجراء الحدود والتعزيرات إلى غير ذلك من تكاليف عديدة كثيرة، يكون ترك العمل بها من الكبائر، ولا محالة يكون تحقّق العدالة فيه بأن لا يرتكب كبيرة من الكبائر التي يتصوّر إتيانها من عامّة الناس، وبأن لا يرتكب أيضًا المعصية الكبيرة المتحقّقة بالنسبة إلى شخصه من جهة الوظائف التي يوظّف بها من حيث أنّه ولي الأمر».(1)
وهذا الكلام وإن كان حقّاً موافقاً للصواب بلا شك؛ ولكنّ المسألة ليست في الحقيقة في كمّية الوظائف وعدد التكاليف، فإنّها لا تنحصر في عدد الواجبات، ولا تقف على حدّ التكاليف والمهام؛ حتّى يُقال إنّ تكاليف الوالي أكثر من
ص: 204
تكاليف غيره ومهامّه أكثر من مهامّه؛ بل المسألة في الواقع ترتبط بشدّة الإيمان وقوّة الخشية الكامنة في حقيقة نفس الوالي الباعثة على العدالة الظاهرية، والالتزام بالأوامر والنواهي الموجبة لأداء المهام والتكاليف، والتخفّف من أعباء المسؤولية كما هو مطلوبٌ.
فاختلاف العدالة المعتبرة في إمام الجماعة وإمام المسلمين، ليست في عدد الوظائف؛ بل المسألة لها ربط وثيق بأهمّية المنصب وخطورة الموقع والموقف، وكلّما كان الموقع والمنصب أهم وأخطر كان بحاجة إلى عدالة أشد وأقوى وأعلى؛ لأنّ الموقعالأعلى يولّد سلطة أعلى وهي توجب الفتنة والتعريض للمهالك المهمّة الخطيرة التي تحتاج إلى قوة روحية شديدة لمواجهة إغراءات السلطة وتجاوز تحدّياتها.
ولعلّ هذا هو السرّ في أن دستور الجمهورية الإسلامية في إيران في الشرط الثاني من المادّة 109 الخاصّة بشروط الوليّ ومواصفاته يصرّح بلزوم: «العدالة والتقوى المطلوبتان لقيادة الأمّة الإسلامية».
فإن الظاهر من هذه العبارة أن العدالة المطلوبة للقيادة والإمامة تختلف عن العدالة اللازمة لتولّي سائر المهام والمسؤوليات كإمامة الجماعة فإنّ لهذا المنصب خطورة خاصّة به؛ بحيث لا يمكن لكلّ فردٍ أن يتحمّله ما لم يبلغ درجة من الثقة النفسانية في القلب والروح تساعده وتعينه على القيام بما هو واجب عليه. فالمدّعى هو أنّ العدالة المعتبرة في إمامة المسلمين هي العدالة في أعلى درجاتها ومراتبها التي على حسب تعبير الشيخ الأنصاري (قُدّس سِرّه) تتلوها العصمة.
الأول: حكم العقل بذلك. فإنّ العقل حينما يرى خطورة المسؤولية وأهمية المنصب يحكم بأن القائم بهذه المسؤولية يجب أن يتّصف بأوصاف نفسانية قوية يوثق معها بأنه قادرٌ على القيام بها ويستطيع أن يضبط الأمور كما هو حقها في سبيل السداد والصواب وهداية الأمور إلى ما هو صلاح الأمّة الإسلامية
ص: 205
وأمّا الضعيف في القوّة النفسانية العاجز عن ضبط النفس حينما يطرأ عليه حالة غليان القوّة الشهوية والغضبية يخرج عن الثبات والاستقامة على جادّة العدالة فهو عقلاً لا يجوز له أن يستلم المسؤولية، كما لا يجوز للآخرين أن يسمحوا له بتسليم المسؤولية إليه.
وبعيد أيضًا عن اللطف الإلهي والحكمة الإلهية الإذن له في التصرف في الأموال والنفوس والرضا بتسليطه على مقدّرات المجتمع.الثاني: بعض الأدلة النقلية المذكورة أعلاه يؤيّد ما حكم به العقل من لزوم الدرجات العليا من العدالة.
منها معتبرة سدير بن حكيم حيث قال: «لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه ثلاث خصالٍ: ورعٌ يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي لهم كالوالد الرحيم».(1)
فإن هذه الخصائص وخاصّة الأولى منها وهي الورع، لا تتحقق في كل عادلٍ إذا كان في درجاتها العالية؛ بل الورع وهو المفسّر بالوقوف عند الشبهة والحلم الموجب للتملّك في ردّات الفعل عند الغضب، وحسن الولاية على من يلي بحاجة إلى ملكة نفسانية عالية قوية ولا تكفي لها العدالة العامّة.
الثالث: ما مرّ ذكره من نهج البلاغة من انه قال: «لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء البخيل والجافي ولا الحائف ولا المرتشي ولا المعطّل للسنة».
فإنه كما ذكرنا هناك إن العدالة بمعناها العامّ لا تكفي لارتفاع هذه الأوصاف السلبية عن الوالي بحيث يكون بعيداً عنها. وإن خطورة هذا المنصب تستلزم درجات عالية من الإيمان والعدالة حتى تمنع الحاكم عن ركوب هذه الجرائم حينما يأخذ بزمام الحكم؛ فإنّ كثيراً من الناس توجد عندهم العدالة؛ ولكن كظاهرة بسيطة بمعناها المتعارف، ومثل هؤلاء الأشخاص تجدهم حين الفتنة
ص: 206
والابتلاء وفوران الشهوة واشتعال الغضب لا يستطيعون ضبط أنفسهم؛ فكيف يمكن أن يضبطوا الأمّة على مسار الحقّ.
الرابع: ما مر ذكره أيضًا من رواية تحف العقول:
فإنّ الصفات المذكورة فيها كمهام وأغراض من ولاية الأمر، مثل: « إحياء كل حق وكل عدل وإماتة كل ظلم وجور وفساد» وما بُيِّن فيها من مخاطر الولاية الجائرة «من دروسالحق وإحياء الباطل كلّه، وإظهار الظلم والجور والفساد، وإبطال الكتب وقتل الأنبياء وهدم المساجد وتبديل سنّة الله وشرايعه».
فإن القيام بتلك الوظائف للوالي العادل والتحرّز عن هذه الأعمال الموبقة الموجودة في الوالي الجائر بحاجة إلى جبالٍ من الوثاقة النفسانية القوية وبحار من الإيمان وأضواءٍ من الخشوع والخشية والحبّ في الله؛ حتى يقوم بهذه الوظيفة وليس كل عادل بقادر على تحقيق هذه الأمور التي يثقل تحمّلها.
إشارة:
من الأمور المهمة في البحث عن عدالة الإمام، البحث عن لزوم تجنّبه الحرص على الدنيا والإقبال عليها.
فإن مشهور الفقهاء في ضمن بيان الشروط اللازمة لمرجعية التقليد ذكروا بعد اشتراط العدالة عدم كونه مقبلاً على الدنيا شرطاً لها.
قال في العروة الوثقى: «وأن لا يكون مقبلاً على الدنيا، وطالباً لها مكبّاً عليها مجدّاً في تحصيلها».(1)
وقال في تحرير الوسيلة: «يجب أن يكون المرجع للتقليد عالما مجتهدا
ص: 207
عادلاً ورعاً في دين الله؛ بل غير مكب على الدنيا، ولا حريصاً عليها وعلى تحصيلها - جاهاً ومالاً- على الأحوط».(1)فإن الظاهر ذكر هذا الشرط بعد العدالة، زائداً عليها يدلّ على أن العدالة العامّة اللازمة لمثل إمامة الجماعة لا تكفي للمرجعية.
ولكن ربّما يُستشكل في اعتبار هذا الشرط زائداً على العدالة؛ بأن ما يستفاد من الأدلّة كرواية الاحتجاج المشهورة عن الإمام العسكري اعتبار مخالفة المرجع لهواه، فقط حيث قال: «من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه».(2)
فإن كان المراد من المخالفة للهوى في الحديث، هو المخالفة للهوى ولو في المباحات الشرعية، فلا وجه لاعتباره؛ وذلك لأمرين أوّلا: عدم إمكان اتصاف غير المعصوم به، أو صعوبته جدّاً؛ فلا يتيسّر إلا للأوحدي من الخواصّ، مثلما نُسِب إلى بعضهم أنّه ما ارتكب مباحاً طيلة حياته؛ بل كانت المباحات التي يقدم عليها، مقدّمة لأمرٍ راجح من واجبٍ أو مستحب؛ ولكن النادر ملحق بالمعدوم.
ثانياً: بُعد اعتبار ذلك في المرجع؛ حيث إنّ الله كيف يحرّم ما أحلّه على الناس جميعاً.
وأمّا إن كان المراد من المخالفة للهوى مخالفته في ما نهى الشارع عنه من العصيان وارتكاب الإثم، فهذا عبارة أخرى عن العدالة ولا يكون شرطاً زائدا عليها.
فعلى هذا ما ذكره بعض من اعتبار الزهد أو الورع أو عدم الإقبال على الدنيا ونحوه في المرجع فلا دليل عليه.(3)
ص: 208
ولكن ردًّا على هذا الإشكال، لقائل أن يقول: ليس المراد من اشتراط المخالفة للهوى، لا الاحتمال الأول ولا الاحتمال الثاني؛ أما الأول فلأنّ ارتكاب المباحات في نفسه لا يعدّ عرفاً موافقة للهوى ولا اتّباعًا له، فلا تنافي بين مخالفة الهوى وبين ارتكاب المباحاتالمحلّلة شرعاً. وأمّا الثاني فلأنّ الظاهر من الرواية والله العالم ليس المراد من الهوى المطلوب مخالفته، هو ارتكاب المعاصي.
وليكن هناك احتمال ثالث في معنى الرواية يساعد عليه النظر العرفي، وهو أن يكون المراد من اعتبار المخالفة للهوى أن لا يكون الإنسان تابعاً لهواه وعبداً لكل ما تشتهيه النفس وتتلذّذ به، وإن كان من الأمور المشتبهة أو من الأمور الممهِّدة لارتكاب المعاصي التي تحسب من المباحات الأولية. فالإفراط فيها مذمومٌ واتّباع للهوى، كالأكول والنعوس والنّوام وغيرهم، فإنّ الأكل الكثير والنوم الكثير وكثرة الكلام في ما لا يعني وارتكاب هذه الأمور الذميمة وإن كان لا ينافي الإباحة ولا ينافي العدالة العامّة اللازمة لمثل إمامة الجماعة؛ ولكن مع ذلك فإنّ عدم التحرّز عن هذه الأمور لا يناسب منصب المرجعية ونحوها من المناصب الخطِيرة. وعدم الاجتناب عن هذه الأمور يعدّ اتّباعًا للهوى. وأمور أخرى أيضا كالسكن في القصور والمباني الواسعة جدًّا والجلوس على الأرائك والسّجادات الفاخرة وركوب السيارات الغالية الثمن، ولبس الألبسة الأنيفة غير الضرورية وإن لم يعدّ ذلك كلّه من ارتكاب المحرّمات؛ بل يعدّ من المباحات والأمور الجائزة لعامّة الناس؛ ولكن ارتكابها إذا كان خلاف العادة والشأن، وكان اشتغالًا بغير الضروريّ من الأمور فإنّه يُعدّ اتّباعًا للهوى، فهؤلاء تابعون للأهواء النفسانية وحريصون على الدنيا ومنكبّون عليها، ومشتهون لتحصيل الدنيا وكسب المال والجاه وغيرهما، فإنه وإن كانت بداية تحصيل هذه الأمور في دائرة الأمور الجائزة والمباحة؛ ولكن هذا الحرص والتبعية للهوى قد يدخله في ارتكاب الأمور المشتبهة، ثم قد يقوده بعد ذلك إلى ارتكاب الأمور المقدّمة للحرام ثم هَلُمَّ جَرّا. على مستوى الاستدراج قد يضع نفسه في ورطة الهلكات. فهذه الأمور
ص: 209
تعدّ من مزلّات الأقدام والفتن. فالتابع للهوى والحريص على الدنيا والمقبل عليها أقرب شخص إلى الوقوع في ارتكاب المعاصي وإتيان المحرّمات.ومن هنا، يظهر أن هذا الشرط المذكور للمرجعية إمّا هو أمرٌ زائدٌ على العدالة العامّة، أو على الأقلّ هو أمر يُتوقّع الاتّصاف به في المراتب العالية من العدالة وإن لم يُتوقّع في العدالة العامّة المعتبرة في مثل منصب الجماعة. وذلك لأنّ ما هو ضدّ للعدالة العامّة هو الفسق وارتكاب المعصية أو ترك الواجب، وليس المراد من اشتراط المخالفة للهوى هو التخلّي والتنزّه عن الفسق فقط؛ بل المراد منه هو اعتبار رعاية جانب الاحتياط والوقوف عند الشبهات في جميع التصرفات؛ وخاصّة في ما يرتبط بالتصرّف في الأموال، وما يرتبط بالجاه والشهرة؛ بحيث إنّ المتّصف به يصدق عليه عرفاً أنه غير حريص على الدنيا وغير مقبل أو مكبّ عليها، لا يريدها ولا يفتتن بها.
ولا شك في أن المرجعية من المناصب الإلهية فشأن المرجع يختلف عن شؤون الآخرين؛ بل حتى إنّه يختلف عن منصب الجمعة والجماعة والمتوقّع منه غير المتوقّع منه.
وعلى هذا فالإقبال على الدنيا وزخارفها والجدّ في تحصيل المال والجاه، وإن كان قد لا ينافي العدالة المعتبرة في إمام الجماعة؛ ولكن هذه الأمور بحسب طبعها تجعل الإنسان وإن كان عادلاً في معرض الوقوع في المهالك، فإنه ليس ببعيد عن من يتّبع الهوى أن يصغي إلى الوساوس الشيطانية والتسويلات النفسانية، وأن يتورّط في المهالك. فعلى هذا الأساس: ما هو معتبر من العدالة في إمام الجماعة يختلف عن العدالة المعتبرة في مثل إمام الجمعة، وما يعتبر في إمام الجمعة يختلف عما يعتبر في مثل القاضي، وما يعتبر في مثل القاضي يختلف عما يعتبر في مثل المرجع وهكذا.
ثم إنّه إذا كان عدم الإقبال على الدنيا وعدم الحرص عليها شرطاً في المرجعية زائداً على العدالة العامّة المعتبرة في إمام الجماعة، فما هو الحكم بالنسبة إلى اشتراطها في ولاية الأمر في عصر الغيبة؟ والصواب لزوم اشترطها فيها.
ص: 210
والوجه في ذلك أمور:
الأول: قياس الأولوية
إذا التزمنا باعتبار عدم الإقبال إلى الدنيا والحرص عليها للتصدّي لمنصب المرجعية؛ فلا ريب في أنّها أيضًا شرطٌ في منصب ولاية الأمر وإمامة الأمة بطريق أولى.
فإن منصب الإمامة أخطر وأهمّ وأولى من منصب المرجعية، فما هو شرطٌ في المرجع هو شرط في الحاكم والإمام بشكل أعلى وأقوى. بل في الحقيقة إنّ المرجعية الرائجة والمتعارفة عند أتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) نوعٌ من الإمامة، وليست خارجة عنها؛ فالأدلّة الدالّة على لزوم الورع وعدم الإقبال إلى الدنيا والحرص عليها وعدم كون المتولّي لهذا المنصب مجدًّا في تحصيل الدنيا وعدم كونه مكبّاً عليها، تدلّ على لزوم هذه الأمور أيضًا في الإمامة وقيادة الأمّة.
الثاني: ما في الكافي ونهج البلاغة عن أمير المؤمنين: «إن اللهَ تَعَالى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أن يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ، كَيْلَا يَتَبَيَّغَ(1)
بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ!».
رواها الكليني في الكافي عن علي بن محمّد عن صالح بن أبي حمّاد وعدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمد وغيرهما بأسانيد مختلفة في بيان احتجاج أميرالمؤمنين على عاصم بن زياد حين لبس العباء وترك الملأ(2)
وشكاه أخوه الربيع بن زياد إلى أمير المؤمنين أنّه قد غمّ أهله وأحزن ولده بذلك فقال أمير المؤمنين عليّ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعاصم بن زياد فجيء به؛ فلمّا رآه عبس في وجهه، فقال له: أما استحييت من أهلك؟ أما رحمت ولدك؟
أترى الله أحلّ لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها، أنت أهون على الله من ذلك؟....
ص: 211
فقال عاصم: يا أمير المؤمنين: فعلى ما اقتصرت في مطعمك على الجشوبة وفي ملبسك على الخشونة؟
فقال: «وَيْحَكَ إن اللهَ(عزّ و جلّ) فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أن يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ، كَيْلَا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ!».(1)
تقريب الاستدلال:
هذه القصّة التاريخية المبيّنة لسيرة أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الحكومة وسياسة الأمّة، تدلّ بوضوح على أن من فرائض الإمام لزوم البساطة في العيش، فيجب عليه أن يساوي نفسه في لباسه وطعامه بالضعفاء من الناس؛ كيلا يهلك الفقراء من الناس، فإنّهم إذا رأوا إمامهم بتلك الهيئة وبذلك المطعم كان أدعى لهم إلى السلوان عن لذّات الدنيا والصبر عن شهواتها.
ثم إذا كان واجباً على إمام العدل السير بسيرة الفقراء والضعفاء، فبطريق أولى يجب عليه أن لا يكون مقبلاً على الدنيا ولا طالباً لها ولا مكبّاً عليها ولا مجدّاً في تحصيلها، ويجب أن يكون مجتنباً عن هذه الورطات والمهالك كما لا يخفى.
الثالث: ما هو مرويٌّ في نهج البلاغة من كتاب لأمير المؤمنين إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري، وهو من أجلّاء الصحابة ووجوههم، قديم الإسلام شهد مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) مشاهده، كما شهد مع أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الجمل وصفين والنهروان. وقد بلغه أنّه دُعِي إلى وليمةِ قومٍ من أهل البصرة فمضى إليها، فكتب إليه معاتباً:
«أَمَّا بَعْدُ، يَا بْنَ حُنَيْفٍ! فَقَدْ بَلَغَنِي أنّ رَجُلاً مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إِلَى مَأْدُبَةٍ، فَأَسْرَعْتَ إليها تُسْتَطَابُ لَكَ الْأَلْوَانُ، وتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ. ومَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلَى طَعَامِ قَوْمٍ، عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ، وغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ. فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُهُ مِنْ
ص: 212
هذَا الْمَقْضَمِ، فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَعِلْمُهُ فَالْفِظْهُ، ومَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ. أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إماماً، يَقْتَدِي بِهِ ويَسْتَضِي ءُ بِنُورِ عِلْمِهِ؛ أَلَا وَإِنَّ إمامكُمْ قَدِ اكْتَفى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ. أَلَا وَإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذلِكَ، وَلكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ، وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ. فَوَاللهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً، ولَا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً، ولَا أَعْدَدْتُ لبالي ثَوْبِي طِمْراً، ولَا حُزْتُ مِنْ أَرْضِهَا شِبْراً، وَلَا أَخَذْتُ مِنْهُ إِلَّا كَقُوتِ أَتَان دَبِرَة،(1)
وَلَهِيَ فِي عَيْنِي أَوْهَى وَأَهْوَنُ مِنْ عَفْصَةٍ مَقِرَةٍ(2)».(3)
تقريب الاستدلال:
لا ريب في أنّ قبول الدعوة إلى مائدة طعامٍ يُصنع فيها أصناف من الطعام يطيب أكلها في نفسه أمر جائز شرعاً، ولا تعدّ استجابة هذه الدعوةمن المعاصي والمحرّمات، ولكن يبدو من الكتاب أنّ أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لا يقبل مثل هذا السلوك من واليه على البصرة، عثمان بن حنيف، بل كأنّ لزوم اجتنابه وعدم قبوله لهذه الدعوة كان بحدٍّ من الوضوح؛ استدعت المسارعة إلى العتاب وتفصيل القول والتحذير والوعظ والإرشاد، والمشكلة الأساس التي استدعت هذا كلّه هو ما أشار إليه الإمام في كتابه إلى عامله هو أنّ أصحاب الدعوة يقصرون دعوتهم على الأغنياء، ويجفون الفقراء.
وعلى هذا فالواجب على مثل ابن حنيف الذي ينوب عن أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في البصرة أن ينظر إلى ما يأكله ومن يستجيب له، فما يكون طعامًا متيقّن الطيب من كلّ الوجوه جاز له تناوله وأكله، ومن دعاه مع الفقراء إلى مائدته جاز له تلبية دعوته، ، أمّا الطعام الذي فيه شبهة الحرام من أيّ وجهٍ، أو المائدة التي لا تفرش إلّا للأغنياء دون الفقراء، فمثل هذا وهذه لا يجوز تناوله ولا تجوز تلبية الدعوة إليها،وهذه هي السيرة اللازممراعاتها لولاة العدل وأئمة المسملين.
ص: 213
يجب عليهم رعاية جانب الفقراء والمساكين وذوي الحاجات في المأكل والملبس والمسكن والمركب وغيرها ورعاية مستواهم في هذه الأمور اقتداءً بأمير المؤمنين وسائر الأئمة الهداة المهديّين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في الحدّ الأدنى من سيرتهم في هذه الأمور؛ وإلّا كما صرّح به الأمير أنّ غيره لا يقدرُ على تطبيق جزئيّات سلوكهم حرفًا بحرف؛ ولكنّ هذا لا يسقط الحدّ الأدنى من الورع وبذل الجهد في الاقتراب، ولا يسقط وجوب العفّة والسداد.
الرابع: ما في الكافي أيضًا قال أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):«إنّ الله جَعَلني إمامًا لِخَلَقه فعَرّض على التَقدِير فِي نَفسِي ومَطعَمِي ومَشرَبِي ومَلبَسي كضُعَفاء الناس كي يَقتَدي الفَقِير بِفَقرِي ولا يُطْغِيَ الْغَنِيَّ غِنَاهُ»(1).
سند الرواية:
رواها في الشيخ الكليني عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن حمّاد عن حميد وجابر العبدي عن أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ).
ورجال السند كلهم من الأجلّة. نعم حُميد وجابر الجعفي الراويان للرواية مجهولان؛ ولكن ابن محبوب من أصحاب الإجماع على قولٍ فعليه الرواية معتبرة سنداً على أن جلالة الطريق واستفاضة المضمون وإتقان الکلام تکفي للاعتماد.
تقريب الاستدلال:
أوّلًا الظاهر من قوله «جعلني إمامًا لخلقه» أن الإمامة هي سبب جعل هذه الفريضة، فلا يختصّ هذا الحكم بأمير المؤمنين بل يشمل كل من يتصدّى لإمامة المسلمين ويأخذ بزمام أمرهم.
ثانيًا يدلّ الحديث على أن الإمام واجبٌ عليه التقدير والتضييق في جميع أموره الخاصّة به، بحيث لا يشبه أسلوب حياته أسلوب حياة المتكبرين المترفين.
ص: 214
وبذلك يظهر أن فرائض الإمام ووليّ الأمر تختلف عن سائر الناس فإنّ هناك كثيراً من الأمور المباحة والجائزة لغير الحاكم والوالي -يجب على الوالي اجتنابها.
ولا شك في أنّ الاجتناب عن هذه الأمور بحاجة إلى قوّة نفسانية وملكة روحية عالية، وبيمن هذه القوى وبركتها يتحقّق الحدّ الأعلى من البعد عن الدنيا وتجنّب الانكباب عليها، وبالتالي لا تكفي العدالة المطلوبة في إمام الجماعة والقاضي، للإمام والوالي.
ص: 215
ص: 216
تمهيد
بعد الفراغ عن اعتبار الفقاهة والعدالة في الإمامة وولاية الأمر في زمن قبض يد المعصوم وعصر الغيبة نصل إلى الشرط الثالث وهو الكفاية وحسن الولاية.
فقد ذكر العلامة الحلّي (قُدّس سِرّه) في عداد شروط الإمام: التكليف والإسلام والعدالة والحرية والذكورة والعلم، كما ذكر: الشجاعة والكفاية وصحة الأعضاء.(1)
ويشير السيد الإمام الخميني (قُدّس سِرّه) إلى هذا الشرط بقوله: «ومسألة الكفاءة داخلة في العلم بنطاقه الأوسع والأشبه لزومها في الحاكم أيضًا وإن شئت قلت: هذه شرط ثالث من أسس الشروط.»(2)
ومن هنا، يظهر أنّ الشرط الثالث بخلاف الشرط الأول (العلم والفقاهة) والثاني (العدالة) وإن كان متفقًا عليه بين الأصحاب؛ ولكن لم يتّفق الفقهاء والمتكلّمون الذين تعرّضوا له على التعبير عنه بعنوانٍ واحدٍ؛ بل ثمّة عناوين عدّة وعددٌ من الأوصاف استُخدمت للإشارة إلى مفهوم الكفاءة وحسن الولاية. فقد يشار إليه أحيانًا بحسن التدبيروالقوة. وقد أدخل بعضهم هذه المعاني في صفة العلم وقصد من العلم ما هو أوسع من العلم بالأحكام الشرعية والعلم بجميع
ص: 217
ما يتوقف عليه حسن تدبير الأمة دينيًّا ودنيويًّا.(1) كما إن أهل الكلام قد يكتفون بعبارة ويستغنون به عن سائر العناوين ألا وهو التعبير بقولهم: «إنّ الإمام يجب أن يكون أفضل من غيره».(2)
وفي المادة التاسعة بعد المئة من دستور الجمهورية الإسلامية في عداد شروط القائد وصفاته، يذكر الشرط الثالث بهذا البيان: «الرؤية السياسية والاجتماعية الصحيحة والتدبّر والشجاعة والكفاءة الإدارية والقدرة الكافية على القيادة».
وعلى هذا الأساس؛ يشير العنوان المختار للتعبير عن الشرط الثالث أعني: الكفاءة وحسن الولاية، إلى جميع هذه الأوصاف والمواصفات من سلامة الحواس وسلامة الأعضاء إلى كونه صاحب الرأي المقتضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح والرؤية السياسية الصحيحة والتدبر والشجاعة وحسن التدبير، فإنّ الكفاءة وحسن الولاية كما سيظهر عنوانٌ عامٌّ يشمل جميع هذه الأمور ونحوها.
الكفاءة: الكاف والفاء والهمزة، أصل يدل على التساوي في الشيئين يقال: كافأت فلانًا: إذا قابلته بصنيعته، والكفء: المثل، قال الله تعالى: ﴿ولم يكن له كفوا أحد﴾، والتكافؤ: التساوي وعن رسول الله1«المسلمون تتكافأ دماؤهم» أي تتساوى.(3)
وقال في لسان العرب: كافَأهُ على الشيء مكاَفأة وكفاءً: جازاه، تقول: ما لي به قِبَلٌ ولا كفاءٌ أي: ما لي به طاقة على أن أكافئه. وقول حسان بن ثابت: «وروح
ص: 218
القدس ليس له كفاء أي جبريل ليس له نظير. ومثله وفي الحديث: فنظر إليهم فقال: من يكافئ هؤلاء؟ وفي حديث الأحنف: لا أقاوم من لا كفاءَ له يعني الشيطان.(1)
وفي المصباح المنير: «كل شيء ساوى شيئًا حتى صار مثله فهو مكافئ له. والمكافأة بين الناس من هذا».(2) ومن هنا يظهر:
أوّلًا: أنّ الكفاءة مصدرٌ والمراد به القدرة والقوّة والمؤهّلات اللازمة والأهلية للقيام بعملٍ وحسن تصرّف فيه يقال: له كفاءة عملية وكفاءة فنّية أو يقال كفاءة صناعية أو يتمتع بكفاءة عالية.
ثانيًا: كلمة الكفاءة مهموز اللام وليس من الناقص ومعتلّ اللام كما قد يُتوهم وكتابتها الصحيحة هي الكفاءة، وأما كتابتها بالياء فهو خطأ. وكلمة كفي بالحرف المعتلّ كلمة أخرى، لها معنى آخر يدلّ على الحسْب الذي لا مستزاد فيه يقال: كفاك الشيء يكفيك وقد كفي كفاية، إذا قام بالأمر.(3)
ثالثًا: المراد باعتبار الكفاءة في وليّ الأمر وحاكم المسلمين أن يكون له الكفاءة الإدارية الكافية للقيادة والجدارة والأهلية اللازمة والكافية للقيام بإعمال الولاية والقوة والقدرة اللازمة لإدارة المجتمع الإسلامي. وقد يعبر عن هذه المواصفات كما ذكرناه أعلاه بالقدرة والقوّة وحسن الولاية.
رابعًا: لا شك في أنّ الإمام الكَفُوء: للولاية لا بد من أن يتحقق فيه هذه الأمور الآتية:الأول: سلامة الأعضاء والحواس بمقدار ما يرتبط ذلك بأداء مهامّه ووظائفه المفوّضة إليه، لتدبير أمر الأمّة التي يؤثّر عدمها وفقدانها سلبًا على قيامه بإعمال الولاية هذا من ناحية الجسم.
الثاني: الرؤية السياسية والاجتماعية الصحيحة، وأن يكون نافذ البصيرة
ص: 219
وصاحب الرأي المفضي إلى حسن سياسة البلاد وتدبير المصالح المسلمين وهذا أمر يرتبط بالكفاءة الذاتية والاستعدادات الذاتية المطويّة في وجوده.
الثالث: الشجاعة النفسيّة وقوّة الإرادة والقدرة على أخذ القرار في المجالات الخطيرة الصعبة التي هي بحاجة إلى القوة والسرعة والقدرة الكاملة النافذة؛ بحيث لا يتأثّر بأيّ شيء، ولا يسمح لأصحاف المصالح بالتأثير في رأيه ولا يخاف في الله لومة لائم.
الرابع: الإحاطة العلمية الكاملة الكافية لإعمال الولاية وكيفية التدبير والاطلاع على ظروف الزمان والمكان وأوضاعهما، والمعرفة بالحالة النفسيّة والمعنويّة للأمّة، والاطّلاع على ثقافة المجتمع ومعرفة حاجاته، إلى غير ذلك من الأمور، فيجب عليه الإحاطة العلمية بها والاطلاع عليها.
فالمراد من اعتبار العلم هاهنا يختلف عن العلم المذكور في الشرط الأول فإنّ المراد من العلم في الفصل الأوّل هو ملكة الاجتهاد وقوّة الفقاهة لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلّتها التفصيلية. وأمّا المراد من العلم اللازم في اعتبار الكفاءة هو العلم بالتطبيقات وتشخيص المصاديق وحوادث الزمان والمسائل الجزئية لتطبيق الأحكام الكلية والقواعد والقوانين العامّة عليها.
خامسًا: يجمع هذه الأمور الأربعة المتوقّف عليها صفة الكفاءة في الحاكم، عنوانُ حسن الولاية والقوّة والقدرة اللازمة لتدبير أمر الأمة الإسلامية وزعامتها.
يُعدّ شرط الكفاءة وحسن الولاية في الوليّ من الأمور الواضحة البديهية عقلًا وعقلائيًّا.(1) أما بحسب سيرة العقلاء فإنّ اعتبار الكفاءة في تفويض الأمر يعدّ
ص: 220
من القواعد العقلائية المتسالم عليها عندهم، حيث إنّ العقلاء حينما يریدون تفويض أمرٍ مّا إلى شخصٍ آخر، ولو كان أمرًا بسيطًا، يرون من الضروري إحراز كفاءة الشخص المفوّض إليه وقوّته وقدرته على الإقدام والتنفيذ، ولا يتسامحون مع التهاون في ذلك المجال؛ بل يذمّون ويلومون التساهل في إحراز الكفاءة، ولا يقبلون تفويض المهام إلى غير أهلها؛ ويرون أنّ ذلك من السفاهة وإتلاف الأموال والأنفس والإمكانيات، هذا في الأمور البسيطة فكيف بالأمور المهمة الخطيرة، فإنّه كلما كان الأمر المفوّض أهم وأعلى قيمةً، تعتبر ضرورة هذا الوصف وإعمال الدقّة لإحرازه أوضح وأظهر.
أما بحسب حكم العقل فإنّ العقل يستقبح تفويض الأمور إلى من ليس له المؤهّلات اللازمة من القدرة والكفاءة ويراه ظلمًا وتفويتًا للحقوق، بل يعدّ هذا الحكم العقلي من الأحكام الارتكازية الفطرية التي يكفي تصوّرها للتصديق بها ويعتبره العقل من القضايا الّتي قياساتها معها.
وعلى هذا ما أقيم لإثبات هذا الشرط من الأدلّة النقلية للكتاب والسنة يعتبر إرشادًا إلى حكم العقل الواضح الذي لا غبار عليه بذلك.
ثمّة آيات في الذكر الحكيم تدلّ على اعتبار الكفاءة في من يتولّى أمرًا أو مهمّةً، تدلّ هذه الآيات على دور الكفاءة في بقاء عزّة الأمة وقوتها.(1)
الآية الأولي: قوله تعالى في قصة طالوت: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ والْجِسْمِ﴾ (سورة البقرة: الآية 247)
فإنّ الآية في مقام الردّ على زعم المعارضين لملك طالوت، تبيّن و تشرح
ص: 221
أنّ تفوّقه في العلم والقدرات البدنيّة، من الأمور التي بُنِي عليه اختياره للولاية الإلهيّة.(1)
ولا شك في أنّ زيادة البسطة في العلم تشمل العلم والخبرة بالأمور التي بيد الملك تنفيذها وإجراؤها من الأمور المرتبطة بإدارة البلد ونظم الجيش وفنون الحرب، فلا يختصّ العلم بالعلم بالأحكام الكلية فقط.
وهكذا الزيادة في البسطة في الجسم تدلّ على القوة والقدرة الجسدية اللازمة للملك التي تجعله كفوءاً لأخذ زمام الأمور بيده؛ بل هذا الوصف يدلّ على قوّته الروحية وشجاعته العالية لركوب الأمور الصعبة.
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شيء وهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوي هُوَ ومَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقيم ﴾ (سورة النحل: الآية 76).فإنّ الآية تشير إلى رجلين، وتذكر أنّ الرّجل الأوّل أبكم لا يقدر على شيء ولا يأتي بخيرٍ، لجهله بصواب الأمور. وهذا بخلاف الرجل الثاني، الخبير بكيفية التصرف لأنّه يأمر بالعدل ويقوم على الصراط المستقيم، وأسلوب الآية هو أسلوب الاستفهام الإنكاري، وهي تفيد نفي الاستواء بينهما بحكم الفطرة السليمة الإنسانية. ولا شك في أنّه يدخل في مجال عدم استوائهما، للأخذ بزمام الأمور وتولية الأمور، فإنّ هذا يعدّ من القدر المتيقّن لعدم استوائهما في الأمور وإن كانا مستويين في بعض المجالات الأخرى، فلا يرد على دلالة الآية ما أورده بعضهم.(2)
الآية الثالثة: قوله تعالى حكاية لقصة يوسف واقتراحه لملك مصر: ﴿اجْعَلْني عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفيظٌ عَليمٌ﴾ (سورة يوسف: الآية 55)
ص: 222
فإنّ الظاهر من قوله تعالى إني عليمٌ، أنّه كان عليمًا بفنون حفظ خزائن الأرض وصرفها في مواردها. ولا شك في أنّ الظاهر من الآية بمقتضى التعليل الوارد فيها أنّها تدلّ على أنّ هذا العلم والخبرة من المواصفات اللازمة لولاية الأموال، وأنّ هذا الحكم لا يختص بيوسف فقط، فلا إشكال في دلالة الآية على المدّعى بهذا التقريب.
الآية الرابعة: حكاية لقصّة موسى وما قالته بنت شعيب في حقّ موسى : ﴿قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ان خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمين ﴾ (سورة القصص: الآية 26).
فالآية في مقام التعليل لإثبات إن موسى كفؤا لرعاية الغنم تبين أنّه متّصف بوصفي القوّة والأمانة، فتدلّ الآية على اشتراط القوّة للراعي فكيف باعتبار القوّة في رعاية الأمة فلا شك في أن العرف بمناسبة الحكم والموضوع يستفيد من الآية اعتبار وصف القوة لمن يفوّض الأمر إليه. فلا يرد عليه ما أورده بعضهم.(1)ويؤيّد ذلك ما ذكره القرآن الكريم في قصة سليمان حكاية عن العفريت: ﴿قالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتيكَ بِهِ قَبْلَ ان تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمين﴾ (سورة النمل: الآية39)
ثمّة طائفة كثيرة من الأحاديث المروية عن العترة الطاهرة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)(2) تدلّ على اعتبار الكفاءة وحسن الولاية في ولي أمر المجتمع الإسلامي، نشير في ما يأتي إلى بعض منها:
ص: 223
الأول: معتبرة سدير بن حكيم
«رواها الكليني (قُدّس سِرّه) بإسناده عن عليّ بْن إِبْرَاهِيمَ عَنْ صَالِحِ بْنِ السِّنْدِيِّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ حَنَان عَنْ أَبِيهِ عَنْ أبي جَعْفَرٍ قَالَ: قَال رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): لَا تَصْلُحُ الْإمامةُ إِلَّا لِرَجُلٍ فِيهِ ثَلَاثُ خِصَالٍ وَرَعٌ يَحْجُزُهُ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ وحِلْمٌ يَمْلِكُ بِهِ غَضَبَهُ وحُسْنُ الْوِلَايَةِ عَلَى مَنْ يَلِي حَتَّى يَكُونَ لَهُمْ كَالْوَالِدِ الرَّحِيمِ». وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «حَتَّى يَكُونَ لِلرَّعِيَّةِ كَالْأَبِ الرَّحِيم»(1)
والرواية من ناحية السند معتبرةٌ عند أهل التحقيق في علم الرجال، ويمكن الإفتاء بمضمونها.
أمّا من جهة الدلالة فدلالتها على المدّعى واضحة صريحة حيث إنّها في مقام ذكرها ما يعتبر في الإمام من الأوصاف حتى تثبت صلاحيته وأهليّته لإمامة المسلمين، يذكرحسن الولاية على من يلي؛ بل يمكن إلحاق الشرط الثاني المذكور في الحديث أعني الحلم أيضًا إلى الكفائة فالحاكم والوالي يجب أن يتزين بأوصاف متعددة يتوقّف حسن الولاية على اجتماعها في وجود الإمام من الشجاعة والحلم والتدبير وغيرها.
الثاني: صحيحة عيص بن القاسم
«رواها الكليني بإسناده عن على بْن إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ صَفْوَان بْنِ يَحْيَى عَنْ عِيصِ بْنِ الْقَاسِمِ قَالَ سَمِعْتُ أبا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: «عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وانْظُرُوا لأنفُسِكُمْ، فَوَاللَّهِ إنّ الرَّجُلَ لَيَكُونُ لَهُ الْغَنَمُ فِيهَا الرَّاعِي، فَإذا وَجَدَ رَجُلًا هُوَ أَعْلَمُ بِغَنَمِهِ مِنَ الَّذِي هُوَ فِيهَا يُخْرِجُهُ ويجيء بِذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي هُوَ أَعْلَمُ بِغَنَمِهِ مِنَ الَّذِي كَان فِيهَا الحديث».(2)
أوردنا هذه الرواية مرّتين سابقًا؛ مرّة في الفصل الثالث من المرحلة الأولی،
ص: 224
في البحث عن الأدلّة المعارضة لضرورة إقامة الحكم الإسلامي، والمرّة الثانية في الفصل الأول من المرحلة الثانية ضمن الأدلّة الدّالّة على اعتبار العلم والفقاهة في الحاكم.
ولكن بما أن دلالة هذه الصحيحة مطلقة؛ حيث إنها معتمدة على ما يحكم به العقل والفطرة وما تسالم عليه العقلاء من إيكال الأمور وتفويضها إلى الأعلم بأمرها، وترجيحهم الأعلم على غير الأعلم حتّى في مثل رعي الغنم، فهي تصرّح بإمضائها حكم العقل والعقلاء مطلقًا في اعتبار الكفاءة العلمية والفنّية والتمتع بالمواصفات المؤهِّلة لإيكال الولاية والإمامة إلى الغير؛ فإطلاق الصحيحة يشمل كلا المجالين، اعتبار الأعلمية في مجال الأحكام الشرعية والفقاهة واعتبار الأعلمية في كيفية تدبير الأمور وإدارة المجتمع وفقًا للمصالح العالية الشاملة للإسلام وكافّة المسلمين.فعلى هذا لا مانع من الاستدلال لإثبات شرط الفقاهة ولاعتبار الكفاءة وحسن الولاية في ولي الأمر كما لا يخفى.
إلى غير ذلك من الروايات المذكورة في المطوّلات الدّالّة على اعتبار الكفاءة وحسن الولاية في وليّ الأمر. وقد أشرنا أعلاه، إلى أن اعتبار هذا الشرط من الأحكام العقلية الواضحة ومن القواعد المعترف بها في سيرة العقلاء فلا حاجة إلى إطالة الكلام في هذا البحث.
أنّنا قد بحثنا في المرحلة الثانية عن الأوصاف اللازمة المعتبرة في ولي الأمر في عصر الغيبة وزمن قبض يد الإمام المعصوم وأثبتنا أولًا اعتبار العلم بل الأعلمية بمعناها الدقيق الواسع في الإمامة والولاية.
ثانيًا أثبتنا اعتبار العدالة اللازمة في الإمامة المختلفة عن العدالة اللازمة في سائر المجالات.
ثالثًا أثبتنا اعتبار الكفاءة وحسن الولاية. إلى هنا نكون قد انتهينا من البحث
ص: 225
عن الأوصاف وإن كان هناك شروط أخرى مذكورة في المطولات كالذكورة والبلوغ والإسلام والإيمان والعقل وطهارة المولد والحرية إلى غيرها من الأوصاف نطوي الكلام عن البحث فيها ونوكل الطالب العزيز إلى الكتب والمؤلّفات المفصّلة في هذ المجال. والآن بقي البحث في كيفية تعيين ولي الأمر وأنه هل ثمّة نصبٌ من جانب الشارع الحکيم أو أنّ أمر اختيار وليّ الأمر موكول إلى انتخاب الأمّة لتصدّي الزعامة بالفعل؟
يوم دحو الأرض
25/ذي القعدة/1437ه ق8/6/1395ه ش قم المقدس
ص: 226
ص: 227
ص: 228
إشارة:
بعد الفراغ عن ضرورة الحكومة في عصر الغيبة في المرحلة الأولى من كتابنا هذا وبيان الشروط اللازمة للحاكم وولي الأمر في عصر الغيبة وزمن قبض يد الإمام المعصوم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في المرحلة الثانية، يقع البحث في المرحلة الثالثة في كيفية تعيين وليّ الأمر وما تنعقد به إمامة المسلمين في هذا العصر.
وقبل الشروع في صلب البحث لا بدّ من أن نشير من باب المقدّمة إلى نفس هذا السؤال بالنسبة إلى عصر الحضور وبسط يد المعصوم، وأنّه كيف انعقدت إمامة النبيّ الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وسائر الأنبياء كيوسف وموسى وسليمان وداود (على نبينا وآله وعليهم السلام)؟ وكيف انعقدت ولاية أمير المؤمنين أيضا؟ وهل انعقدت ولايتهم وإمامتهم بتعيين الأمّة وانتخابها وبيعتها وهل أن الأمّة هي مبدأ الولاية ومنشأ مشروعية الإمامة ومصدر السلطة؟ أو أن صاحب السيادة ومبدأ الولاية هو الله تبارك وتعالى وبيده الحكم، فمن فوّض الله إليه الحكم ونصبه وجعله للناس إماماً ونصّ عليه بالولاية والإمامة فله حق الحكم والولاية وهؤلاء الأنبياء والأولياء انعقدت إمامتهم وولايتهم بالنص والتنصيب الإلهيّ، وأما من لم يفوَّض إليه الأمر بالنصّ والجعل الإلهي، فليس له حقّ الحكم والإمارة والولاية أصلا وأبدًا، وليس لبيعة الناس وتعيينهم في هذا المجال أعني مجال انعقاد الولاية والإمامة أثرٌ شرعيُّ وإن كان له أثرٌ في بعض المجالات الآخر أي في ما يرتبط بمرحلة إعمال الولاية وتنفيذ الحكم كما سيظهر وسيفصّل (إن شاء الله تبارك وتعالى)؟
والخلاصة هي أنّ السؤال الأساس في المرحلة الثالثة هو: هل تنعقد الإمامة والولاية بالنصّ والتنصيب الإلهي أو بالبيعة وانتخاب الناس؟
ص: 229
ص: 230
للإجابة عن السؤال المذكور أعلاه ذهب جميع علماء المسلمين وكافّة المذاهب من الإمامية وغيرهم إلى أن الإمامة يمكن أن تنعقد عن طريق النصّ والجعل الإلهي بلا شبهة ولا ريب؛ ولكن الكلام كلّ الكلام في الحصر وعدمه، ووحدة الطريق أو تعدّده؟ فإنّ الإمامية ذهبوا إلى أنّ الإنعقاد الإمامة لایکون إلّا طريق واحد ينحصر أمر انعقاد الإمامة فيه، وهو الجعل والنصّ الإلهيّ، بينما ذهب أهل المذاهب الأخرى إلى أنّ الطريق لا ينحصر بالتنصيب الإلهي؛ بل إنّما تنعقد بالبيعة وانتخاب الأمّة أيضًا كما إنّها تنعقد بالاستخلاف أو بالقهر والغلبة.
قال العلّامة الحلّي في تذكرة الفقهاء ما ملخّصه:
«تنعقد الإمامة بالنصّ عندنا، ولا نتعقد بالبيعة خلافًا للعامّة بأسرهم فإنّهم أثبتوا إمامة أبي بكر بالبيعة، ووافقونا على صحة الانعقاد بالنصّ؛ لكنّهم جوّزوا انعقادها بأمورٍ:
أحدها: البيعة واختلفوا في عدد الذين تنعقد الإمامة ببيعتهم، فقال بعضهم لا بدّ من أربعين إلى أن قال بعضهم: يكفي ثلاثة لأنّ الثلاثة مطلق الجمع، فإذا اتفقوا لم يجز مخالفة الجماعة. وقال بعضهم: إثنان لأنّ أقلّ الجمع إثنان. وقال بعضهم: واحد، لأنّ عمر بن الخطّاب بايع أبا بكر أوّلًا ثمّ وافقه الصحابة.
ص: 231
الأمر الثاني: استخلاف الإمام قبله وعهده إليه كما عهد أبو بكر إلى عمر.
الأمر الثالث: القهر والغلبة فإذا مات الإمام فتصدّى الإمامة من يستجمع شرائطها من غير استخلاف وبيعة، وقهر الناس بشوكته وجنوده انعقدت الخلافة، لانتظام الشمل بما فعل.
وهذا كلّه ساقطٌ عندنا لأنّا قد بيّنا أنّ الإمامة لا تثبت إلّا بالنص لوجوب العصمة.»(1) انتهى كلامه (قُدّس سِرّه) ملخّصًا.
أقول: والحقّ هو الرجوع إلى الملاك والمعيار وإلى مقتضى الأصل والقاعدة في هذه المسألة المهمّة التي لا توجد مسألة فقهية؛ بل كلامية أخطرَ بعد مسألة التوحيد من هذه المسألة، أعني مسألة الولاية، كما أشير إليه في بعض الأخبار مثل ما ورد في صحيحة زرارة عن أبي جعفر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: «بُنِي الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية. قال زرارة: وأيّ شيءٍ أفضل؟ فقال: الولاية».(2)
ثمّ لا ريب في أن المعيار في المسألة، كما بينّاه سابقًا في مباحث المرحلة الأولى من هذا الكتاب، هو الرجوع إلى الأصل في الولاية وهو أنّ الولاية منحصرة في اللهتبارك وتعالى ﴿فَاللَّهُ هُوَ الوَلِيُّ﴾ (سورة الشورى: الآية 9) وأنّه لا ولاية لأحد غيره إلا بإذنه تعالى وتشريعه ونصّه.
فبمقتضى هذا الأصل المبرهن بالضرورة العقلية والفطرة السليمة، المستدلّ عليه بمئات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وروايات الأئمة الطاهرين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)؛ أنّ الولاية بالأصالة ثابتةٌ للولي المطلق وهو ربّ العالمين.
ص: 232
ثم في الرتبة الثانية وفي طول ولايته تعالى؛ تثبت الولاية بإذنه تعالى للنبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بحکم قوله تعالی: ﴿والنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم﴾ (سورة الأحزاب: الآية 6)
ثم في الرتبة الثالثة مبنيًّا على ما يعتقده الإمامية؛ أنّ الولاية ثابتة بنصِّ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) والتشريع الإلهي لأمير المؤمنين ومن بعده لأحد عشر إمامًا من أولاده (عَلَيْهِم السَّلاَمُ): ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (سورة المائدة: الآية 55).
وعلى مذهب الإمامية انعقاد الولاية للأنبياء والأولياء (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بغير هذا الطريق لا دليل عليه، لا بالبيعة والانتخاب، ولا الاستخلاف؛ لعدم وجود نصٍّ وتشريع معتبر يدلّ على ذلك. ومن العجيب في هذا المجال القول بشرعية الطريق الثالث وثبوت الولاية بالتغلّب والقهر؛ حيث إنّه بمقتضى معتقدات هذه المذاهب أنّ الخروج على الإمام المتسلّط والمستولي على الأمور حرامٌ وبغيٌ ومحاربةٌ يجب قتال الخارج ودفعه، ثم إذا فُرِض أحدٌ ارتکب الحرام وخرج على الإمام المستولي للأمر، ثم غلب عليه واستولى على الأمر؛ فحينئذٍ بمقتضى شرعية الطريق الثالث ينقلب هذا الباغي والمحارب إمامًا واجب الطّاعة وإن كان من أفسق الفسقة وأظلم الظلمة.
والظاهر أنّ قولهم بانعقاد الولاية والإمامة بهذه الطرق الثلاثة وخاصّة بالطريق الثالث متأثّرٌ بالواقع التاريخيّ وبما جرى على الأمة الإسلامية بعد الرسول الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) فإنّهم كانوا غالبًا بصدد تبرير الوضع القائم، وتدبير الحوادث المتحقّقة في ما بينالمسلمين؛ فلذا ذهبوا إلى شرعية الاستخلاف أو البيعة بعدّة قليلة كثلاثة واثنين وواحد، وشرعية التغلب والاستيلاء.(1)
وعلى أيّ حال فالولاية حسب ما تقتضيه الأصول الضرورية للإمامية بالنصّ
ص: 233
الشرعي القطعي في عصر الحضور منعقدةٌ وثابتةٌ للأئمة الاثني عشر (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)؛ ولكنّ كلامنا في عصر الغيبة وزمن قبض يد الإمام المعصوم، فما هو الحكم في مسألة انعقاد الولاية؟ وجوابًا عن هذا السؤال نقول: بناءً على ما ذكرناه في مسائل المرحلة الثانية من هذا الكتاب؛ إنّ الولاية في عصر الغيبة مشروطة بشروط من أهمها الفقاهة والعدالة والكفاءة، فلا شك في أنّ الولاية ثابتة للفقيه العادل الكفء. وليس لغيره حقّ الولاية وزعامة الأمّة؛ ولكن ثمّة سؤال أهم وأدقّ وهو أنّ هذه الولاية هل تثبت بالنصّ الشرعي وتنصيب الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أو أن النص الشرعي غير ثابتٍ له وأنّ الأدلة غير كافية لإثبات ولاية الفقيه ونصبه الشرعي؟ فالأمر موكول إلى الأمّة فيجب عليهم انتخاب الفقيه الجامع لتلك الشّروط وليًّا وإمامًا لهم، وبانتخابهم تنعتقد له الإمامة والولاية، وأمّا ما دامت الأمة لم تنتخب أحدًا من الفقهاء المتّصفين بالشروط فالولاية ليست منعقدة ولا ثابتة لأحد منهم إلا بالقوّة (أي على نحو الأهلية فقط، مقابل الفعل) لأجل اتّصافه بالشروط. فالولاية بالقوّة لأحد المتّصفين وأمّا الولاية الفعلية فهي تتحقق بالانتخاب الفعليّ لأحدهم؟
ففي المسألة احتمالان؛ الاحتمال الأوّل هو ثبوت النصّ الشرعيّ وتنصيب الأئمة الفقيهَ الجامعَ لشروط الولاية، والاحتمال الثاني هو انتخاب الأمّة وتعيين الشعب الفقيهَ المتّصفَ والموافقَ لشروط الولاية. وكيف ما كان فإنّ الفقيه المتوفّرة فيه الشروط هو المتعيِّن للولاية إمّا بالتنعيين والتنصيب، وإمّا بانتخاب الأمّة واختيارها.(1)
لا يخفى على من تتبّع كلمات الأصحاب، وراجع مؤلّفاتهم ومصنّفاتهم المدوّنة في المقام الخاصّة بولاية الحاكم وحدود صلاحيّاته ونحوهما، وضوح وصراحة هؤلاء العلماء، في أنّ الرأي الوحيد الذي يتبنّونه هو تعيّن التنصيب،
ص: 234
وأنّ الفقهاء الجامعين للشروط هم المنصوبون من قبل الأئمة الطاهرين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بالتنصيب العام. وأمّا نظرية الانتخاب، فليس لها سابقةٌ في تراث الطائفة، وإنّما طُرِحت في السنوات الأخيرة، بعد انتصار الثورة الإسلامية فللتعرّف على رأي فقهائنا العظام في هذا المجال نشير هنا إلى مختارات من كلماتهم الواضحة:
1) الشيخ المفيد (ت 413 ه-ق)
الشيخ المفيد أوّلًا في ضمن التعرّض لمسائل الوصية يشير إلى أن الوصيّ إن مات كان الناظر في أمور المسلمين يتولّى إنفاذ الوصية ومراده من الناظر في أمور المسلمين هو الإمام المعصوم المعبَّر عنه في كتب الأصحاب بالسلطان العادل، ثم يقول: «وإذا عُدِم السلطان العادل في ما ذكرناه من هذه الأبواب، كان للفقهاء أهل الحقّ العدول من ذوي الرأي والعقل الفضل أن يتولّوا ما تولّاه السلطان.»(1)
فعلى حسب رأيه أنّ الفقيه المتّصف بهذه الأوصاف سيتولّى في عصر الغيبة، جميع ما يتولّاه الإمام المعصوم ولا شك في أنّ تمكنه من تولّي الأمور ثابت بالنصّ والتنصيب الشرعي لا غير.
ثانيًا إنّه في البحث عن إقامة الحدود يرى أنّ سلطان الإسلام منصوب من قبل الله تعالى، وقد فوّضوا النّظر فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الإمكان. ثم يصرّح بأنّ للفقهاء منشيعة الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أن يقضوا بالحقّ، ويفعلوا جميع ما جُعِل للقضاة في الإسلام لأنّ الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) قد فوّضوا إليهم ذلك.(2)
ثالثًا إنّ الشيخ المفيد (قُدّس سِرّه) في كلمته الأخيرة في هذا المجال يعلن بالصراحة أنّه: «ومن لم يصلح للولاية على الناس لجهلٍ بالأحكام، أو عجزٍ عن القيام بما يُسنَد إليه من أمور الناس، فلا يحلّ له التعرّض لذلك، والتكلّف له فإنّ تكَلَّفَه فهو عاصٍ غير مأذون له
ص: 235
فيه من جهة صاحب الأمر الذي إليه الولايات».(1)
فالشيخ المفيد يرى أنّ فقهاء الطائفة قد أُذِن لهم من قِبَل صاحب الأمر(عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ) أن يتولّوا أمر الناس. وبهذا يظهر أنّ كلام هذا الفقيه العظيم واضحُ الدلالة على أن الفقيه العدل الإماميّ مأذون في زمن الغيبة من قبل صاحب الأمر في أن يلي أمر الأمّة، ويفعل بهم ما يجب أن يفعله وليّ الأمر المعصوم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، فهو يفتي بوضوح بأنّ الفقيه المذكور وليّ أمر الأمّة بالنصّ الشرعي والتنصيب الإلهي.(2)
2) أبو الصلاح الحلبي (ت 447 ه-ق)
الشيخ أبو الصلاح تقيّ الدين بن نجم الحلبيّ (قُدّس سِرّه) من قدماء أصحابنا ممّن عاصر الشيخ المفيد، ومن تلامذة الشريف المرتضى والشيخ الطوسي. يقول في كتابه القيّم «الكافي في الفقه»:
أوّلًا في الفصول المختصّة بحقوق الأموال(3)
حينما يصل إلى: فصل في جهة هذه الحقوق يقول: «يجب على كل من تعيّن عليه فرض زكاة أو فطرة أو خمس أو أنفال أن يخرِج ما وجب عليه من ذلك إلى سلطان الإسلام المنصوب من قبله سبحانه، أو إلى من ينصِّبه لقبض ذلك من شيعته ليضعه مواضعه، فإن تعذّر الأمران فإلى الفقيهالمأمون».(4) فعلى حسب رأيه في عصر الغيبة تحمل الحقوق الواجبة في الأموال إلى الفقيه المأمون.
ثانيًا في فصل خاصّ لتنفيذ الأحكام، بعد بيان رأيه من أنّ «تنفيذ الأحكام الشرعية والحكم بمقتضى التعبّد فيها من فروض الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) المختصّة بهم دون من عداهم ممّن لم يؤهِّلوه لذلك».(5)
يشير إلى فرض تعذّر الأئمّة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) كما في عصر الغيبة فيقول: «فإن تعذّر تنفيذها بهم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وبالمأهول لها من قبلهم
ص: 236
لأحد الأسباب؛ لم يَجُز لغير شيعتهم تولّي ذلك، ولا التحاكم إليه ولا التوصّل بحكمه إلى الحقّ ولا تقليده الحكم مع الاختيار، ولا لمن لم يتكامل له شروط النائب عن الإمام في الحكم من شيعته، وهي: العلم بالحق في الحكم المردود إليه، والتمكّن من إمضائه على وجهه، واجتماع العقل والرأي، وسعة الحلم، والبصيرة بالوضع، وظهور العدالة، والورع، والتدين بالحكم، والقوة على القيام به ووضعه مواضعه».(1)
وهذا البيان صريحٌ في أنّ الفقيه الجامع للشروط نائب عن إمام العصر(عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ) في تنفيذ الأحكام. ثم إنّه بعد ذكر أدلّته لشروط النيابة عن الحجة، يأتي إلى النتيجة وهي :«فمتى تكاملت هذه الشروط فقد أُذِن له في تقلّد الحكم وإن كان مقلِّده ظالماً متغلِّباً، وعليه متى عرض لذلك أن يتولّاه، لكون هذه الولاية أمرًا بمعروف ونهيًا عن منكر تعيّن فرضها بالتعريض للولاية عليه، وإن كان في الظاهر من قبل المتغلِّب، فهو نائبٌ عن وليّ الأمر في الحكم ومأهولٌ له لثبوت الإذن منه وآبائهم (كذا في المصدر ويبدو أنّ الصحيح ومن آبائه) (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لمن كان بصفته في ذلك، ولا يحلّ له القعود عنه».
ثم في كلامه أخيرًا يشرح وظيفة المؤمنين في تلك الظروف بقوله: «وإخوانه في الدين مأمورون بالتحاكم وحمل حقوق الأموال إليه والتمكين من أنفسهم لحدٍّ أوتأديبٍ تعيّن عليهم، لايحلّ لهم الرغبة عنه ولاالخروج عن حكمه، وأهل الباطل محجوجون بوجود من هذه صفته مكلّفون الرجوع إليه».(2)
ولا يخفى أنّ التأمل في كلامه في الفصول الخاصّة بحقوق الأموال والفصول المخصّصة للبحث في تنفيذ الأحكام يكشف عن أنّ نصّ عليه أستاذه الشيخ المفيد من كون الفقيه نائبًا عن الإمام الحجّة(عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ) في تنفيذ الأحكام الشرعية الإلهية وحمل حقوق الأموال من الزكاة والخمس والأنفال إليه وإقامة الحدود وغيرها، ولا شك في أنّ تولية هذه الأمور تدلّ على أن له الولاية على
ص: 237
الأمّة بالنصّ الشرعي ونصب الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ولا يختصّ هذا بباب القضاء وما هو وظيفة القاضي فقط.
وقريبٌ ممّا ذكره المحقق أبو الصلاح الحلبي (قُدّس سِرّه) في هذا المجال، ما ذكره المحقق ابن إدريس (قُدّس سِرّه) (ت 598 ق) في كتابه الشريف «السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي».(1)
3) المحقّق الكركي (ت 940 ه-ق)
المحقق الثاني علي بن الحسين الكركي (قُدّس سِرّه) يبدي رأيه في مجال البحث عن كيفية تعيين الفقيه وليًّا للأمر بقوله: «اتفق أصحابنا، (رضوان اللّه عليهم)، على أن الفقيه العدل الإمامي الجامع لشرائط الفتوى، المعبر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية نائب من قبل أئمة الهدى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل. وربّما استثنى الأصحاب القتل والحدود مطلقًا، فيجب التحاكم إليه، والانقياد إلى حكمه، وله أن يبيع مال الممتنع من أداء الحقّ إن احتيج إليه، ويلي أموال الغيّاب والأطفال والسفهاء والمفلسين، ويتصرف على المحجور عليهم، إلى آخر ما يثبت للحاكم المنصوب من قبل الإمام».(2)فيرى المحقّق الكركي أنّ مسألة نيابة الفقيه عن الأئمّة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في حال الغيبة نيابةٌ مطلقةٌ من المسائل المتفق عليها بين أصحابنا الإمامية. وأن الفقيه جُعِل حاكمًا مطلقًا من قبل الإمام وبالتنصيب والنصّ الشرعي ولا شك في أنّ استثناء إقامة الحدود أو القتل لا يضرّ بالمدّعى كما لا يخفى.
4) الفاضل النراقي (ت 1245ه-ق)
يقول المولى محمد أحمد النراقي في كتابه القيم «عوائد الأيام» في العائدة التي عقدها لبيان ولاية الحاكم وما لَه فيه الولاية: «كلّ ما كان للنبيّ والإمام الذين
ص: 238
هم سلاطين الأنام وحصون الإسلام فيه الولاية وكان لهم؛ فللفقيه أيضًا ذلك، إلّا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نصّ أو غيرهما».(1)
ولا يخفى أنّ كلام الفاضل النراقي صريحٌ في أنّ الولاية للفقيه ثابتة في كلّ ما هو ثابت للمعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من الولاية والزعامة إلا ما استُثنِي وهذه الولاية ثابتةٌ بالتننصيب والنصّ الشرعي بلا شك.
5) صاحب الجواهر (ت 1266ه-ق)
وينصّ المحقّق الباهر الشيخ حسن النجفي الشهير بصاحب الجواهر (قُدّس سِرّه)، وهي الموسوعة الفقهيّة الكبيرة ، في خاتمة البحث عن الحدود وإقامتها في عصر الغيبة، على حقيقة الأمر في المسألة بوضوح وصراحة بقوله: «لولا عموم الولاية لبقيَ كثيرٌ من الأمور المتعلّقة بشيعتهم معطّلة، فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك، بل كأنّه ما ذاق من طعم الفقه شيئًا، ولا فَهِم من لحن قولهم ورموزهم أمرًا، ولا تأمّل المراد من قولهم: «إنّي جعلتُه عليكم حاكمًا وقاضيًا وحجةً وخليفةً»، ونحو ذلك ممّا يظهر منه إرادة نظم زمان الغيبة لشيعتهم في كثير من الأمور الراجعة إليهم».(2)فالأمر في المسألة بالنسبة إلى صاحب الجواهر (قُدّس سِرّه) على درجة عاليةٍ من الوضوح، فهو يعبِّر عن رأيه بصراحة في أنّ الولاية الثابتة للفقيه ثابتةٌ بالنصّ الشرعيّ والجعل الإلهيّ الذي كشف عنه الأئمّة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).
6) المحقق البروجردي(ت 1380ه-ق)
السيد حسين الطباطبائي البروجردي (قُدّس سِرّه) بعد إثباته ولاية الفقيه وتجويزه تصدّيه للأمور الاجتماعية والسياسية بدليلٍ خاصٍّ، يمكن عدّه من ابتكاراته، يرتّب دليله على طريقة القياس الاستثنائي المؤلّف من قضية منفصلة حقيقية
ص: 239
بقوله: «إمّا أنّه لم ينصِبِ الأئمّةُ (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أحدًا لهذه الأمور العامّة البلوى وأهملوها، وإمّا أنّهم نصبوا الفقيه لها؛ لكنّ الأوّل باطلٌ فثبتَ الثاني».(1)
وهذا الكلام واضح الدلالة على أنّ ثبوت الولاية للفقيه بتنصيب الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) له في ذلك.
7) السيد الإمام الخميني (ت 1409ه-ق)
القائد الكبير للثورة الإسلامية والمؤسس العظيم للجمهورية الإسلامية في إيران، في بحثه عن ولاية الفقيه، بعد تسديده لأركان ولاية الفقيه وتشييده لجوانبها المختلفة، في مقام بيان نتائج البحث يقول: «فللفقيه العادل جميع ما للرسول والأئمّة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)؛ ممّا يرجع إلى الحكومة والسياسة، ولا يعقل الفرق؛ لأنّ الوالي، أيّ شخص كان، هو المجرِي لأحكام الشريعة، والمقيم للحدود الإلهية، والآخذ للخراج وسائر الضرائب، والمتصرّف فيها بما هو صلاح المسلمين.
فالنبيّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) ضرب الزاني مئة جلدة، والإمام كذلك، والفقيه كذلك، ويأخذون الصدقات بمنوالٍ واحد، ومع اقتضاء المصالح يأمرون الناس بالأوامر التي للوالي،وتجب إطاعتهم. فولاية الفقيه بعد تصوّر أطراف القضيّة، ليست أمراً نظريًّا يحتاج إلى برهان، ومع ذلك دلّت عليها بهذا المعنى الوسيع روايات».(2)
والسيد الإمام (قُدّس سِرّه) في مطلع بحثه في كتابه المسمّى بالحكومة الإسلامية يعتقد أيضًا أنّ: «ولاية الفقيه فكرة عملية واضحة، قد لا تحتاج إلى برهان بمعنى أنّ من عرف الإسلام أحكامًا وعقائد يدرك بداهتها؛ ولكنّ وضعَ المجتمع الإسلامي ووضع مجامعنا العلميّة على وجه الخصوص، يضع هذا الموضوع بعيدًا عن الأذهان، حتى لقد عاد اليوم بحاجة إلى البرهان».(3)
ص: 240
فكلام قائد الثورة ومحيي الشريعة في القرن الأخير ومشيِّد أركان ولاية الفقيه، في مقام بيان فكرته حول هذه المسألة يرى أنّ صلاحيات الفقيه وشعاع دائرة حكمه لا يختلف عن حدود صلاحيّات المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)؛ فله الولاية المطلقة المحقّقة بالنصّ الشرعي وتنصيب الأئمة الطاهرين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).
فالحاصل، أنّنا قد ذكرنا في هذه المسألة سبعةَ أقوالٍ من أساطين الفقاهة كنموذج للتعرّف على الرأي السائد في المقام وعلى هذا الأساس وبعد تتبّع كلمات الأصحاب والتأمّل في مغزاها يظهر ويتّضح أنّ رأي أركان الفقه الإسلامي ورموزه في ولاية الفقيه يدور حول النصب العامّ للفقهاء وإثبات النصّ الشرعي لولايتهم، وأنّ الولاية والإمامة تنعقد لهم بالتعيين الإلهي.
من الأدلّة المستدلّ بها لإثبات ولاية الفقيه بالنصب الإلهي هو الإجماع، فمن اللازم أوّلًا الإشارة إلى الإجماعات المذكورة في كتب الأصحاب (رضوان الله تعالى عليهم) وثانيًا دراستها وتقويمها.
أوّلًا؛ في بيان الإجماعات المذكورة للنصب العامّ
أ) المحقق الكركي (ت 940ه-ق)
ذكرنا أعلاه أنّ المحقق الثاني (قُدّس سِرّه) يصرّح قائلًا: «اتفق أصحابنا (رضوان اللّه عليهم) على أن الفقيه العدل الإمامي الجامع لشرائط الفتوى، المُعبَّر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية نائبٌ من قبل أئمة الهدى(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخلٌ وربّما استثنى الأصحاب القتل والحدود مطلقا».(1)
ولا شك في أنّ كلامه هذا ظاهرٌ في ادّعاء الاتفاق والإجماع على أنّ الفقيه
ص: 241
بحكم النائب بالنيابة العامّة عن الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) منصوبٌ شرعًا للولاية والإمامة لأنّ الولاية من الأمور الّتي يكون للنيابة فيها مدخل.
ولا يضرّ بهذا الإجماع استثناء القتل والحدود، فإنّ الولاية نيابةٌ عن المعصوم شيءٌ، واستثناء بعض الأمور من هذه النيابة العامّة لدليلٍ خاصٍّ شيءٌ آخر. ولا شكّ في أنّ الولاية لا تتقوّم بإقامة الحدود والعقوبات التي تصل إلى حدّ القتل، فليس هذان الأمران جزءًا مقوّمًا للولاية، بحيث تنتفي بانتفائهما، نعم القتل قصاصًا ودفاعًا عن حياض الإسلام وسدًّا لأبواب الفساد، ومنعًا لاختلال النظام من الأمور الضروريذة لإقامة الحكم وولاية الأمر، ولا شك في أنّه لا مجال لأحد أن يخالفه فكيف بالفقيه؟فالمراد من استثناء القتل، بعض أفراد القتل المرتبط بالحدود وما شابهه لا جميع أنواع العقوبات التي تصل إلى القتل. فعقوبة القتل في بعض الحالات لا شبهة في شرعيتها، كما إنّ دفع المنكر والفساد والمعاصي عن المجتمع من ضروريّات الحكم، ولا ينافي هذا مخالفة فقيه، لشرعية إقامة الحدود في عصر الغيبة كما لا يخفى. وبهذا يظهر جواب ما أورد على الإجماع المذكور في كلمة المحقق الثاني (قُدّس سِرّه).(1)
ب) المحقق الأردبيلي (ت 992ه-ق)
ذهب العلامة (قُدّس سِرّه) في كتابه إرشاد الأذهان، إلى أنّ للفقيه الجامع لشرائط الإفتاء وهي العدالة والمعرفة بالأحکام الشرعیة عن أدلّتها التفصیلیة إقامة الحدود والحكم بين الناس بمذهب أهل الحق.
ويقول المحقّق المولى أحمد الأردبيلي (قُدّس سِرّه) في شرحه لهذا الكلام: «إشارةٌ إجمالیة إلى شرایط الاجتهاد وإجراء الأحکام وإقامة الحدود وللمجتهد... والظاهر أنّه لا خلاف في جواز الفتوى والحكم له؛ بل في وجوبهما عليه ويؤيّده مقبولةُ عمر بن حنظلة وأبي خديجة».(2)
ص: 242
ففي هذ الكلام يصرّح المحقق الأردبيلي بوجوب الفتوى والحكم للفقيه الجامع فهو بالنصّ والتنصيب يتصدّى لمنصب إجراء الأحكام وتنفيذها ولا يخفى أنّ إطلاق الحكم وخاصّة كلامه "إجراء الأحكام" يشمل الولاية ولا يختص بمنصب القضاء. نعم لقائل أن یقول: إنّ الحكم يختصّ بمنصب القضاء فقط وشموله لموضع النزاع محلّ تأمّل.
ج) الفاضل النراقي (ت 1245ه-ق)
يقول الفاضل النراقي (قُدّس سِرّه) كما نقلنا عنه في ما سبق: «بأن كل ما كان للنبي (صل الله عليه وآله) والإمام فيه الولاية، كان للفقيه أيضًا ذلك إلّا ما أخرجه الدليل» ثم إنّه (قُدّس سِرّه) في مقام الاستدلال على هذا المدّعى يقول: «فالدليل عليه بعدَ ظاهرِ الإجماع؛ حيث نصّ به كثير من الأصحاب بحيث يظهر منهم كونه من المسلمات، ما صرّحت به الأخبار»,(1)
فالتأمّل في كلامه يبيّن أنّ أوّل دليلٍ يدلّ على ثبوت الولاية المطلقة والإمامة العامّة للفقيه هو الإجماع الذي صرّح به كثير من الأصحاب، فكأنّه يدّعي أنّ هذ الإجماع في كلمات الأصحاب قد بلغ إلى حدّ الاستفاضة، وارتقي إلى رتبة المسلّمات والضروريّات في فقه الإمامية. ولا شك في أنّ معقد هذا الإجماع، وهذا الأصل الضروري والقاعدة المسلّمة الفقهية، هو ثبوت الولاية بالنصب والنص الشرعي.
د) صاحب العناوين (ت 1250ه-ق)
المحقق السيد مير عبد الفتاح الحسيني المراغي في كتابه المعروف «العناوين» المدوّن لبيان القواعد الفقهية يخصّص العنوان 74 لولاية الحاكم الشرعي وفي مقام الاستدلال لهذه الولاية، قال: «الأدلّة الدالّة على ولاية الحاكم الشرعي أقسام: أحدها: الإجماع المحصل».
ص: 243
ومراده من هذا الإجماع كما بيّنه في كتابه، الإجماع على القاعدة، بمعنى انعقاد الإجماع على أنّ كلّ مقام لا دليل فيه على ولاية غير الحاكم فالحاكم وليٌّ له، كالإجماع على أصالة الطهارة ونحوها. وهذا الإجماع واضح لمن تتبع كلمات الأصحاب.ثم قال: «وثانيها: منقول الإجماع في كلامهم على كون الحاكم وليًّا في ما لا دليل فيه على ولاية غيره. ونَقْل الإجماع في كلامهم على هذا المعنى لعلّه مستفيضٌ في كلامهم».(1)
فهذا الفقيه المحقّق بعد تبنّيه عموم ولاية الحاكم الشرعي، يثبت هذا العموم بالإجماع المحصّل بالتتبع في كلمات الأصحاب والإجماع المنقول في كلماتهم الذي يحتمل وصوله إلى حدّ الاستفاضة. فعموم ولاية الحاكم كقاعدة فقهية عامّة كلية قد قام عليه الإجماع المسلّم بكلا قسميه؛ الإجماع المحصل والإجماع المنقول. ولا شك في أنّ مراده من الحاكم الشرعيّ هو الفقيه الجامع للشروط، ولا ريب في أنّ هذه الولاية ثابتةٌ معيّنةٌ له بنصب الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والنصّ الشرعي كما لا يخفى.
ه) صاحب الجواهر (ت 1266ه-ق)
يرى الشیخ محمد حسن النجفي المعروف بصاحب الجواهر (قُدّس سِرّه) أنّ مسألة ثبوت الولاية العامّة للفقيه من الواضحات الفقهية التي لا تحتاج إلى أدلّة (2) و لا ريب في أنّ عدّ المسألة من الواضحات أقوى وأهمّ من ادعاء الإجماع عليه.
ثم اعلم أنّه قد أشير إلى هذا الإجماع في كلمات بعضٍ آخر من المحقّقين. وطلبًا للاختصار، ورغبة في عدم الإطالة، نكتفي بذكر أسمائهم بعضهم، وهم:
الفاضل الدربندي (ت 1285 ق)، في «خزائن الأحكام».(3)
ص: 244
و المحقق رضا الهمداني (ت 1322 ق) في كتابه «مصباح الفقيه» في باب الخمس.(1)
و المحقق محمد بحر العلوم (ت 1326 ق) في كتابه «بلغة الفقيه».(2)
و الشيخ محمد تقي النجفي (ت 1331 ق) في رسالته «بحث في ولاية الحاكم الفقيه».(3)
ثانيًا دراسة الإجماعات وتقويمها
ممّا ذكرناه أعلاه في المقام الأوّل تعرّفنا إلى الإجماعات المذكورة والمدّعاة لإثبات التنصيب العامّ للفقيه، وقد عرفنا أنّ الإجماع بقسميه ثابتٌ لعموم ولاية الفقيه كقاعدة فقهية. وما قد ذكر في كلمات القوم لعلّه يبلغ حدَّ الاستفاضة وتعرّفنا على أن المسألة في كلماتهم تعدّ من المسلّمات والواضحات التي لا نحتاج إلى الأدلة لإثباتها.
ومع ذلك كلّه قد أُورِد على ادّعاء الإجماع بعض الإيرادات والملاحظات.
منها كيف يمكن دعوى الإجماع مع مخالفة بعض الفقهاء، في الفتوى المدّعى الإجماع عليها.
ومنها أنّ الإجماع المدّعى مذكورٌ في كلمات المتأخّرين كالمحقق الثاني (قُدّس سِرّه)، لا في كلمات القدماء فلا قيمة له.
ومنها أنّ هذا الإجماع مدركيٌّ لا اعتبار به.
ولكن يمكن التخلّص من هذه الإيرادات بأمور:
الأول: أنّ مخالفة بعض الفقهاء لها، ليست في أصل المسألة؛ بل لو كانت فإنها هي في حدود الصلاحيات؛ وإلّا فالكلّ متّفقون ومجمعون على ثبوت
ص: 245
الولاية للفقيه في الأمور الحسبية، أو جواز تصرّفه فيها من باب القدر المتيقّن. ولا شك في أنّ إقامة الدولة وتأسيس نظام الحكم الإسلامي من أهم الأمور الحسبية بل في صدرها.
ويؤيّد ذلك ما يُرى من سيرتهم العملية من الالتزام بولاية الفقيه ولوازمها من أخذ أموال الإمام وصرفها في مصارفها، وتولية أمور من لا ولّي له وسائر الأمور الحسبية.
فالرأي المخالف غير ثابتٍ في المسألة، وبذلك تتمّ شروط التمسك بالإجماع الحدسي.الثاني: نقل الإجماع أو ادّعاؤه وإن كان مطروحًا في كلمات متأخِّري المتأخِّرين؛ ولكن أصل الفكرة يمتدّ بامتداد تاريخ الشيعة الإماميّة، وقد ذكرنا سابقًا قولي الشيخ المفيد وأبي الصلاح الحلبي من القدماء في هذا المجال.
وبذلك يظهر أنّ المسألة من المسائل العريقة في فقه الإمامية؛ بل تعدّ امتدادًا لمسألة إمامة الائمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وولايتهم في عصر الغيبة، حتى لا يترك المجتمع الإسلامي بلا راعٍ ولا ولي أمرٍ، يدافع عنهم ويجمع شملهم نيابة عامّة عن الحجة (عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ).
الثالث: إنّ وصف هذا الإجماع بأنّه مدركيٌّ هو ادّعاء قابلٌ للمناقشة صغرويًّا وكبرويًّا؛ لأنّه لا مبرِّر للحكم على هذا الإجماع بأنّه مدركيٌّ؛ بملاحظة أنّ هذا الإجماع يختلف عن سائر الإجماعات، فإنّه ليس إجماعًا على حكم فرعي فقط؛ بل هو إجماعٌ على القاعدة العامّة الفقهية، بل هو أمرٌ يعدّ من الواضحات عند الإمامية.
مضافًا إلى أنّه لا يمكن القول بعدم اعتبار الإجماع المدركيّ ونفي حجيته مطلقًا، مع احتمال أنّ المدرك الموجود بيد المجمعين قد كان محفوفًا بقرائن خاصة عندهم لكونهم قريبي العصر إلى زمن المعصوم، وبناء على تلك القرائن أجمعوا على أمرٍ اشتبه علينا، لأجل خفاء القرائن، ولكن بما
ص: 246
أنّ اتفاق الاصحاب وإجماعهم انعقد على حكمٍ أو قاعدة مستفادة من تلك الأدلة فإذا كان الإجماع المدركيّ واجدًا لسائر شروط الاعتبار، والحجية لا نتركه بمجرد ادّعاء كونه مدركيًّا. والسّر في ذلك هو فهم الفقهاء على امتداد التاريخ، وخاصّة فهم القدماء منهم واستظهارهم من الأدلّة وتفسيرهم لها ولمفرداتها ممّا يعين الفقيه ويساعده على فهم مغزى كلام المعصوم. وهذا أمرٌ تساعد على إثباته سيرة العقلاء أيضًا، فإنّه إذا كانت هناك ظاهرة بحاجة إلى التفسير والشرح، فالعقلاء ينظرون إلى تفسير الآخرين من أهل الخبرة والتخصص فيها، وهذا ما نراه في معطيات العلوم في الفحوصات الطبيّة والفيزيائيّة والنجوم وغيرها فاستظهار أهل الخبرة للقضايا والحوادث وشرحهم وتفسيرهم لها من الأمور المساعدة للوصول إلى حدّ الاطمئنان والاعتبار والحجية.ففي مسألة التنصيب العام للفقيه وإن سلّمنا مدركية الإجماع؛ ولكن فهم المجمعين للروايات والأدلّة وخاصة قريبي العهد إلى زمن الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) قد يشكِّل قرينة للاستظهار من الأخبار والأدلّة، فهؤلاء المجمعون وأهل الخبرة لقرب عصرهم للأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لفهمهم ورموزهم ورواياتهم ومنهجهم ومدرستهم حينما أجمعوا على تفسير الروايات وفهموا فهمًا معينًا لها، فهذا قد يحقق قرينة لدفع الشبهة عن تلك الروايات وتبديلها من التشابه إلى الإحكام، والله العالم.
التقريب الأول: الحكمة الإلهية وعدم شرعية ولاية الجاهل(1):
بعد الإذعان بالحكمة الإلهية والإقرار بأنّه تعالى حكيمٌ قديرٌ فمن المحال أن يجعل الجاهل والعاجز والضعيف والفاسق والظالم واليًا على المسلمين وحاكمًا على أموالهم وأنفسهم وأعراضهم؛ لمنافاته مع حكمته تعالى، فلا شك في أنّ
ص: 247
الجاهل والفاسق والضعيف خارج عن مدار الولاية وزعامة الأمور وهذا من المستقلّات العقلية التي لا غبار عليها ويؤيّدها القرآن والسنّة.
فلا شك في أنّ الشرعية والحجية في جواز التصرف في البلاد والأعراض والأموال والنفوس تختصّ بالعالم بالأحكام الشرعية والكفء العادل، وإن الله تبارك وتعالى لا يرضى لعباده ولاية غير الفقيه الجامع للشرائط في عصر الغيبة وعدم بسط يد الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وإن كان هو منتخب الأمّة وقد بايعه الناس هذا من جانب عقد السلب وأمّا من جهة عقد الإيجاب فانظر إلى الدليل الثاني.
الدليل الثاني: بيان القياس الاستثنائي لاثبات نصب الفقيهإنّ السيد البروجردي (قُدّس سِرّه) كما أشرنا سابقاً، أقام برهانًا منطقيًّا على نهج القياس الاستثنائي لإثبات التنصيب العام للفقيه وبرهانُه متشكِّل من عدّة مقدّمات نذكرها ملخَّصًا:
الأول: إنّ للمجتمع الإنساني حاجات اجتماعية لا يكون قضاؤها إلا على يد سائس المجتمع وقائده.
الثانية: إنّ الديانة المقدسة الإسلامية كما يظهر من التتبع في قوانينها ديانةٌ ممزوجةٌ ومختلطةٌ بالسياسة. ولم يهمل الإسلام الحاجات الاجتماعية؛ بل شرّع أحكامًا كثيرة ذات علاقة بسياسة البلاد وتنظيم الأمور.
الثالثة: إنّ سائس المسلمين بداية هو الذي وضع اللبنة الأساسيّة لإدارة المجتمع وهو النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) ثم الخلفاء من بعده على رأي العامّة والأئمّة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) على رأي الخاصّة.
الرابعة: على حسب معتقد تابعي مذهب أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) إنّ هذه الحوائج الاجتماعية والأمور السياسية تكون من حقوق الأئمة الطاهرين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ويكونون هم المرجع لتلك الأمور في عصر الحضور وبسط أيديهم، وهذا كان من مرتكزات الإمامية وعلمائهم كأمثال زرارة ومحمد بن مسلم، فكانوا لا يرون الاعتبار والمرجعية لهذه الأمور إلا نفس الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أو من نصبوه لذلك.
ص: 248
ثمّ بعد هذه المقدمات الأربعة التي تُحسب من مباني هذا البرهان، نشير إلى متن البرهان بذكر بعض الأمور:
1) هذه الأمور السياسية والحاجات الاجتماعية، كانت محلًّا للابتلاء، وكانت مما لا بد منها؛ ولكن لم يكن الشيعة في عصر الحضور متمكنين من الرجوع إلى الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)؛ لتفرّقهم في البلاد وضغوط التقية وغيرها فلا محالة يحصل القطع بأنّهم _وخاصة زرارة ومحمد بن مسلم وغيرهم من خواصّ الأئمة_ كانوا يسألونهم عن المرجع وعن المنصوب لمثل تلك الأمور فيما لو لم يستطيعوا أن يلتقوا بالإمام.2) نستنتج من الأمر السابق أنّ الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ما أهملوا هذا الأمر المهم؛ بل نصبوا للشيعة من يُرجع إليه حينما يكونون غير متمكِّنين من اللحوق بالإمام واللقاء به في عصر قبض اليد، وخاصة في عصر الغيبة التي كان طريق اللقاء واللحوق فيها مسدودًا، فهل من المحتمل أن يُنهى الشيعةُ عن الرجوع إلى الطاغوت وقضاة الجور، ومع ذلك يهمل لهم الأمر ولا يعيّن وينصّب لهم من يرجعون إليه في هذه الحوائج؟!
3) يُستنتج من الأمرين السابقين أنّ الفقيه هو المعيّن والمنصوب لهذه الأمور والحوائج؛ إذ لم يقل أحدٌ بنصب غيره، بل من المحال أن ينصب غيره لمنافاته للحكمة فالأمر يدور بين عدم النصب وبين نصب الفقيه العادل، وإذا ثبت بطلان الأول يثبت صحة الثاني.
فهذا قياس استثنائي مؤلَّف من قضية شرطية منفصلة حقيقية وقضية حملية:
إنّ الأئمة الطاهرين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) إما لم ينصبوا أحدًا أو نصبوه،
ولكنّ الأول باطلٌ؛ فالثاني صحيح.
ثمّ إنّ المنصوب إمّا غير الفقيه أو الفقيه؛ لكن المقدم باطلٌ، فالتالي صحيح.(1)
ص: 249
نتيجة دليل العقل :
1) الحكمة الإلهية تقتضي عدم شرعية ولاية الجاهل
2) البرهان العقليّ يدلّ على ضرورة تنصيب الفقيه
وممّا يؤيّد ذلك، بل من الأدلّة الدالّة على نصب الفقيه أمران: السيرة المستمرة للمتشرعة ومؤسسة الوكالة وسنفصلهما في المبحثين الآتيين.
أما السيرة فإنّ من المسلّم منذ عصر الحضور وصولًا إلى عصر الغيبة أنّ شيعة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) كانوا يرجعون إلى الفقهاء في أمورهم السياسية والاجتماعية المحتاجة إلى التولية من الأمور الحسبية وغيرها ولا شك في أنّ تحقّق هذه السيرة القطعية بين المتشرعة كان بإشارة الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وإشرافهم؛ لأنّ هذه الأمور أولا وبالذات من وظائفهم وليس لأحد التدخّل فيها والتصدي لها والمبادرة إليها إلا بإذنِ من له الأمر ورضاه. ومن هنا، نرى في الشيعة الإمامية منذ عصر الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) تحقّق عنوان المرجعية فيهم، وتأسيس هذه المؤسسة الضخمة الفخمة الثمينة التي تُحسب فخر الشيعة في قبال مؤسسات الطواغيت وحكّام الجور، وتعدّ رمز بقاء الطائفة في مقابل الأعداء الماكرين لهم والحالفين للقضاء عليهم برمّتهم.
وأمّا مؤسسة الوكالة
فإنّ دراسة سيرة الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) منذ عصر الصادقين (علیهما السلام) تكشف تأسيس نظامٍ بإمكاننا أن نسمّيه بنظام الوكالة؛ لدعم الامتداد الشيعي في المناطق المختلفة والنواحي المتفرقة البعيدة والاتصال والعلاقة والترابط في ما
ص: 250
بينهم وبين إمامهم. فالضرورة فَرضت عليهم تشكيل مؤسسة الوكالة لحفظ علاقة الشيعة المتفرقين في المناطق المختلفة كالجزيرة العربية من المدينة ومكة واليمن والبحرين وصولًا إلى العراق كالكوفة والبصرة وبغداد وواسط والمدائن إلى شمال أفريقيا ومصر والمغرب إلى بلاد إيران كقم والري وقزوين والأهواز وهمدان وسبزوار ومرو وبلخ مع أئمة الهدى (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).
وكان نظام الوكالة هرميَّ الشكل، أُسِّس وكان في قمّته ورأسه الإمام ثم الوكلاء العارفين المسمّين بأبواب الإمام من ثَمّ الوكلاء المنتشرون بمختلف المناطق ثم من كان يعين ويسمّى بالسيار كالكوكب.فمن أهم أهداف نظام الوكالة ومهامّه هي:
أن يكون حلقة الوصل بين الشيعة والإمام في أخذ الأموال الشرعية وصرفها في مصارفها، أو نقلها إلى الإمام، الإرشاد والتعليم، دعم الشيعة في مقابل نظام الجور، حلّ مشاكل الشيعة وإعدادهم لعصر الغيبة.
والسيرة ومؤسسة الوكالة
1) سيرة الشيعة الإمامية وتكوّن مؤسسة المرجعية منذ عصر الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وشاهد ومؤيد؛ بل من الأدلّة المقامة لإثبات المدّعى.
2) مؤسسة الوكالة مند عصر الصادقين (علیهما السلام) إلى عصر الحجّة (عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ) شاهد ومؤيد بل من أدلة الدالّة لإثبات المدّعى.
من التأمّل في بعض الآيات القرآنية يظهر أنّ هناك عدّة من الأنبياء والأولياء صرّحوا بأنّهم كانوا منصوبين بالتنصيب الخاص لإدارة المجتمع والحكم بين الناس وولاية أمرهم:
ص: 251
منهم النبيّ إبراهيم خليل الله حيث قال الله تعالى في شأن إمامته:
﴿وإِذِ ابْتَلى إِبْراهيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً قالَ ومِنْ ذُرِّيَّتي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمينَ﴾ (سورة البقرة: الآية 124)
ومنهم النبيّ داود (على نبينا وآله وعليه السلام): حيث قال الله تعالى في شان خلافته وحكمه:﴿يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَليفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبيلِ اللَّه ﴾ (سورة ص: الآية 124)
وقال الله: في شأن ملكه: ﴿وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ والْحِكْمَةَ وعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاء﴾ (سورة البقرة: الآية 251)
ومنهم طالوت (على نبينا وآله وعليه السلام):
﴿وقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ ان اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا ونَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ولَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ ان اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ والْجِسْمِ واللَّهُ يُؤْتي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ واللَّهُ واسِعٌ عَليم﴾ (سورة البقرة: الآية 247)
ومنهم سليمان (على نبينا وآله وعليه السلام)؛ حيث قال الله تعالى في شان ملكه:
﴿ولَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمان وأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ قالَ رَبِّ اغْفِرْ لي وهَبْ لي مُلْكاً لا يَنْبَغي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ (سورة ص: الآيتان 34-35)
ومنهم ذو القرنين (على نبينا وآله وعليه السلام)؛ حيث قال الله تعالى في شان ملكه وحكمه:
﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شيء سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ
ص: 252
وَجَدَها تَغْرُبُ في عَيْنٍ حَمِئَةٍ ووَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا ان تُعَذِّبَ وإِمَّا ان تَتَّخِذَ فيهِمْ حُسْنًا﴾ (سورة الكهف: الآيات 84-86)
هذه بعض النماذج من الحكومات والدول الدينية التي أشار إليها في القرآن الكريم. وتدلّ آيات الذكر الحكيم على أنّ رئيس هذه الدول ووليّ أمرها كان منصوبًا خاصًّا بالنص الشرعي الإلهي.
ولكن كما ذكرناه أعلاه في المرحلة الثانية من الكتاب في شروط الولاية في ضمن الأدلّة القرآنية الدالّة على شرط الفقاهة: إنّ هناك بعض الآيات تشير إلى ثبوت الحكموالولاية للنبيّين والربانيّين والأحبار والعلماء بالكتب الإلهية، وحلالها وحرامها؛ بالنص الإلهي وإذنه ونصبه العام.
قال الله(عزّ و جلّ): ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فيها هُدىً ونُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذينَ أَسْلَمُوا لِلَّذينَ هادُوا والرَّبَّانِيُّونَ والْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ واخْشَوْنِ ولا تَشْتَرُوا بِآياتي ثَمَناً قَليلاً ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أنزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ﴾ (سورة المائدة: الآية 44)
وهذه الآية كما بحثنا عنها سابقًا في المرحلة الثانية تدلّ على وجود طوائف ثلاثٍ أهلها مأذونون ومنصوصٌ عليهم في القرآن الحكيم ومنصوبون بالنّصب العامّ للحكومة بين الناس وهم:
الدرجة الأولى: الأنبياء (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).
الدرجة الثانية: الربانيّون.
الدرجة الثالثة: الأحبار والعلماء بالكتاب والشريعة وهي مشتملة على جميع ما يحتاج الناس إليه من الحلال والحرام.
ص: 253
وإنّ هذه الحكومة غير مختصّةٍ بالحكم والقضاء في المرافعات؛ بل تشمل الحكم على الناس مطلقًا ودليل الإطلاق قوله تعالى: ﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ﴾، وكذلك بقرينة قوله تعالى: ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ﴾؛ حيث إنّ المطلوب منهم ما يجب عليهم القيام به هو حفظ الكتاب، ولا يمكن امتثال هذا الأمر والتكليف إلا بالحكومة على الناس وولاية أمرهم.
كما إنّ شهادتهم على الكتاب هي سبب الحكم على الناس والأخذ بزعامتهم وولاية أمرهم. فالقضاء من مصاديق الحفظ ولا ينحصر فيهثم إنّ هذه العلّة والسببية التي تشير إليها الآية الشريفة لا تختص بالتوراة؛ بل تشمل جميع الكتب السماوية؛ بل تعم الأمة الإسلامية.(1)
فالتوراة كتابٌ منزلٌ مشتملٌ على هدى ونورٍ وهو مبيّن للمعارف والشريعة التي تحتاجها الأمّة، فإذا كان هذا حال التوراة؛ فهذا الحكم سارٍ وجارٍ بالنسبة إلى كل كتاب منزّل من عند الله تعالى مشتمل على المعارف والأحكام العملية ويؤيّد هذا المعنى ما ورد من الروايات في تفسير الآية.
«مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الكليني عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ صَفْوَان بْنِ يَحْيَى عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ حَنْظَلَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أبا عَبْدِ اللَّه عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ فِي دَيْنٍ أَوْ مِيرَاثٍ فَتَحَاكَمَا إِلَى السُّلْطَان وإِلَى الْقُضَاةِ أَيَحِلُّ ذَلِكَ؟ قَالَ: مَنْ تَحَاكَمَ إليهمْ فِي حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ فَإِنَّمَا تَحَاكَمَ إِلَى الطَّاغُوتِ، إلى أن قال: قُلْتُ: فَكَيْفَ يَصْنَعَانِ؟ قَالَ: يَنْظُرَان مَنْ كَان مِنْكُمْ مِمَّنْ قَدْ رَوَى حَدِيثَنَا ونَظَرَ فِي حَلَالِنَا وحَرَامِنَا وعَرَفَ أحكامنَا فَلْيَرْضَوْا بِهِ حَكَمًا، فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ حَاكِمًا فَإذا حَكَمَ بِحُكْمِنَا فَلَمْ
ص: 254
يُقْبَلُ مِنهُ فَإِنَّمَا اسْتُخِفَّ بِحُكْمِ اللَّهِ، وعَلَيْنَا رُدَّ والرَّادُّ عَلَيْنَا الرَّادُّ عَلَى اللَّهِ، وهُوَ عَلَى حَدِّ الشِّرْكِ بِاللَّهِ...» الْحَدِيثَ.ورَوَاهُ الشَّيْخُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَمُّونٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى وبِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ على بْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى نَحْوَهُ» (1)
ثم إنّ دراسة الحديث وتقييم الاستدلال به تتمّ في بحوث:
هذه الرواية صحيحة معتبرة مرويّةٌ بطُرقٍ مختلفةٍ في الكافي والتهذيب ومن لا يحضره الفقيه. ولاشتهارها وعمل الأصحاب بها اشتهرت بوصفها بالمقبولة، فلا حاجة إلى البحث عن السند تفصيلًا ومع ذلك لئلّا يخلو الكتاب عن البحث الرجالي نكتفي ببيان رجال طريقه الأول ففي الطريق الأول:
أولًا محمد بن يعقوب الكليني هو من الأجلّاء ومن رموز الطائفة
ثانيًا: محمد بن يحيي العطار هو من الأجلّاء ومن ثقات الإمامية. قال النجاشي عنه: «محمد بن يحي أبو جعفر العطار القمي، شيخ أصحابنا في زمانه، ثقة، عين، كثير الحديث، له كتب.»(2)
ثالثًا: محمد بن الحسين هو محمد بن الحسن الصفار، إمامي، ثقة جليل.
رابعًا: محمد بن عيسى بن عبيد إمامي، ثقة، جليل قال النجاشي في حقّه: «محمد بن عيسى بن يقطين بن موسى مولي أسد بن خزيمة أبو جعفر، جليل بين أصحابنا، ثقة، عين، كثير الرواية، حسن التصانيف.»(3)
خامسًا: صفوان بن يحيى البجلّي إمامي، ثقة، جليل، من أصحاب الإجماع، لا يروي ولا يرسل إلا عن ثقة.
ص: 255
سادسًا: دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ الأسدي الواقفي، ثقة، وقد يقال: إنّ المشايخ أخذوا عنه قبل وقفه.
فالسند لا إشكال عليه إلى نفس الراوي أعني عمر بن حنظلة فإنّه قد وقع الخلاف في وثاقته حيث لم ينصّ أحد من القدماء على وثاقته وإن ذهب الشهيد الثاني من المتأخّرين إلى وثاقته.
والحقّ أنّه ثقةٌ وذلك لعدّة وجوه:
منها رواية صفوان بن يحيى عنه في مواردَ متعدّدة في من لا يحضره الفقيه والتهذيب؛(1)
فهو من مشايخ صفوان، وصفوان من الّذين قال الشيخ في حقّهم: «الذين عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسِلون إلّا عمّن يوثق به».(2)
ومنها كثرة الرواية عنه؛ بحيث تبلغ رواياته في الكتب الأربعة نحو سبعين موردًا.
ومنها أنّ هذه الرواية المتّصفة بالقبول، قد قبلها الأصحاب وعملوا بها في أبواب مختلفة کباب القضاء وولاية الحاکم والأمر بالمعروف وأبواب الحدود من الکتب الفقهية، وأيضًا أبواب التعادل والتراجيح من الكتب الأصولية؛ ولا شك في أنّ هذا دليلٌ على اعتبار عمر بن حنظلة ووثاقته.
ومنها رواية أصحاب الإجماع عنه؛ ورواية أصحاب الإجماع كما بُيِّن في محلّه، تدلّ على وثاقة كل من كان في الطريق إلى أصحاب الإجماع إلى الإمام المعصوم، ولا تختصّ بوثاقة الراوي المباشر الذي يروي عنه أصحاب الإجماع فقط.
ومنها ورود رواياتٍ في مدح عمر بن حنظلة بعضها روايات معتبرة كرواية
ص: 256
يزيد بن خليفة؛ حيث قال: «إذًا لا يكذب علينا»؛ فإنّ الظاهر من هذه العبارة نفي أصل الكذب فتدلّ على وثاقته.(1)
ومنها نصّ بعض الأصحاب على وثاقته كالشهيد الثاني.
فهذه الأمور مجتمعةً تكفي لإثبات وثاقة عمر بن حنظله خاصّةً أنّه لم يرد في ذمّه شيءٌ، وغاية ما في الباب أنّه لم يرد فيه توثيق خاصٌّ. وهذه القرائن تكفي لإثبات وثاقته.
وعلى أيّ حالٍ هذه الرواية المبحوث عنها في المقام لا يمكن طرحها ولا الإعراض عنها؛ لأنّها مقبولة عند الأصحاب، وعمل بمضمونها فقهاء الطائفة في مختلف الأبواب الفقهية، فهي متّسمة بالشهرة الروائية والشهرة الفتوائية ومعتبرة، لا محيص من الاعتماد عليها والعمل بمفادها ومضمونها.
إشارة تاريخية:
مقبولة عمر بن حنظلة من الروايات المشهورة التي أشار إليها أو استدلّ بها كثيرٌ من فقهاء الطائفة5لإثبات ولاية الحاكم، من الشيخ المفيد (قُدّس سِرّه) وأبي الصلاح الحلبي إلى المحقق الكركي والفاضل النراقي وصاحب الجواهر والشيخ الأنصاري والميرزا النائيني والإمام الخميني وغيرهم5بل وردت الإشارة في بعض الحوادث التاريخية إلى مضمون هذه الرواية الجليلة التي تعدّ من غرر حكم أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لبقاء الشيعة في طول التاريخ وحفظهم واستمرار خطّ الولاية في عمود الزمان، منها رسالة الشاه طهماسب، من ملوك الصفوية، إلى المحقق الكركي باللغة الفارسية وإشارته فيها إلىمقبولة عمر بن حنظلة ونصّه بأنّه «يظهر ويلوح من الرواية أن مخالفة أحكام الفقهاء الحافظين لشريعة سيد المرسلين على حدّ الشرك.»
ص: 257
وفي تقرير للسيد نعمة الله الجزائري (قُدّس سِرّه)؛ أنّ المحقق الكركي جاء إلى الشاه طهماسب فحينما وصل إليه، قال الشاه مخطابا إيّاه :«أنت أحقّ بالملك؛ لأنّك نائب عن الإمام وإنّما أكون من عمّالك أقوم بأوامرك ونواهيك».(1)
الاستدلال بالمقبولة لإثبات كون الفقيه منصوبًا لولاية الأمر في عصر الغيبة وزمن عدم بسط يد الإمام يظهر ببيان أمور:
الأمر الأول: محلّ الاستدلال قوله: « يَنْظُرَان مَنْ كَان مِنْكُمْ مِمَّنْ قَدْ رَوَى حَدِيثَنَا، ونَظَرَ فِي حَلَالِنَا وحَرَامِنَا، وعَرَفَ أحكامنَا؛ فَلْيَرْضَوْا بِهِ حَكَماً فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ حَاكِماً.»
حيث إنّه متضمّنٌ لشيئين أحدهما بيان التكليف في مورد سؤال السائل والثاني بيان التعليل، إما ببيان التكليف حينما سأل الراوي الإمام عن التحاكم إلى الطاغوت وقضاة الجور فالإمام بعد منعه عن ذلك يرجِعه إلى فقهاء الطائفة ويعلّل وجوب هذا الرجوع بأنّهم حكّام عليكم بجعلي إياهم للحكم عليكم.
الأمر الثاني: قوله: «مَنْ كَان مِنْكُمْ مِمَّنْ قَدْ رَوَى حَدِيثَنَا ونَظَرَ فِي حَلَالِنَا وحَرَامِنَا وعَرَفَ أحكامنَا» صريح في لزوم الفقاهة وأن مَن يكون أهل الرأي والنظر في فقه أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ويعرفه عن اجتهاد واستنباط، مجعولٌ له الحكم على الطائفة الإمامية وأمّا المحدّثون ورواة الأخبار، فليس لهم هذا الشأن ولا الدخول في هذا المنصب.
الأمر الثالث: بعد المنع عن التحاكم إلى السلطان والطاغوت وقضاة الجور والحث على التحاكم إلى الفقيه قوله: «فإنّي قد جعلته عليكم حاكمًا» في مقام التعليلوالتفريع مع التأكيد بحرف «أنّ» وكلمة «قد» وبيانه في جملة اسمية. فهذه القرائن كلّها تدلّ بوضوح وصراحة أنّه في مقام تنصيب الفقيه وليًّا مطلقًا في مقابل السلطان وقاضي الجور.
ص: 258
قال صاحب الجواهر:ظهور قوله «فإنّي قد جعلته عليكم حاكمًا» في إرادة الولاية العامة، نحو المنصوب الخاص كذلك إلى أهل الأطراف الذي لا إشكال في ظهور الولاية العامّة في جميع الأمور المنصوب عليهم فيه».(1)
وأمّا قوله: «فليرضوا به حكماً» فليس المراد منه قاضي التحكيم بل المراد وجوب قبول التحاكم إلى الفقيه حيث إنّه منصوب من قبل الإمام.
الأمر الرابع: أنّ هناك ناصبٌ، ومنصوبٌ، ومنصوبٌ له. أمّا الناصب فهو الإمام وأمّا المنصوب فهو الفقيه الإمامي، وأمّا المنصوب له أعني متعلّق التنصيب فهو الحكم على الطائفة مطلقًا. وهذا الجعل لا يقف على القضاء فقط ولا يختصّ به؛ وذلك أولًا: الحاكم في اللغة والعرف غير القاضي فإنّ القاضي يحكم بين المتنازعين وأمّا الحاكم فهو الذي بيده الحكم يحكم على الناس بما يدبّر أمرهم، فصلاحيات القاضي تختلف عن صلاحيات الحاكم، فالقاضي يرفع الخصومة والنزاع في ما بين المتنازعين فيما إذا كان الحق غير معلومٍ فقط، وأمّا وظيفة الحاكم فهو تنفيذ الأحكام في شتّى المجالات حتى في ما إذا كان الحقّ معلومًا ولكن استيفاءه بحاجة إلى القوّة القهرية فيما إذا كان من عليه الحق لا يؤدّي الحقّ المعلوم فإنّ هذا القسم من المنازعات يرجع إلى الحاكم والأمير دون القاضي. وكذلك إذا قتل شخص ظلمًا ووقع النزاع فيما بين الأولياء فلا مرجع لرفعه إلا الوالي والحاكم لا القاضي.
قال الشيخ الأنصاري: «إنّ المتبادر عرفا من لفظ «الحاكم» هو المتسلّط على الإطلاق، فهو نظير قول السلطان لأهل بلدة: جعلت فلانًا حاكمًا عليكم، حيث يفهم منه تسلّطه على الرعيّة في جميع ما له دخل في أوامر السلطان جزئيًّا أو كلّيًّا.» وفيكلام آخر منه في وجه الاستدلال برواية التوقيع الشريف يقول: «وإن شئت تقريب الاستدلال بالتوقيع وبالمقبولة بوجهٍ أوضح، فنقول: لا نزاع في نفوذ حكم الحاكم في الموضوعات الخاصة إذا كانت محلًّا للتخاصم، فحينئذ
ص: 259
نقول: إن تعليل الإمام وجوب الرضى بحكومته في الخصومات بجعله حاكمًا على الإطلاق وحجّة كذلك، يدلّ على أن حكمه في الخصومات والوقائع من فروع حكومته المطلقة وحجيته العامة، فلا يختص بصورة التخاصم».(1)
ثانيًا في كلامه :«فإنّي قد جعلته عليكم حاكمًا» فقوله «على» الدالّة على الاستعلاء يتناسب مع الولاية أكثر من القضاء.
ثالثًا «الطاغوت» في صدر الرواية مصدر بمعنى الطغيان، كالجبروت والملكوت، للمبالغة في الطاغي والظالم الذي طغى في ظلمه وجوره فالإمام بقرينة المقابلة منع عن التحاكم وتولّي ولاية الطاغوت وأمر بالكفر به ونصب مكانه الفقيه وليًّا وحاكمًا، ففي مقابل نظام الحكم الطاغوتي المحرّم نصب نظام الحكم الإلهي المحلّل وسلب الشرعية عن الأول وأعطى الشرعية إلى للثاني ففي كل شيء من الموضوعات الخاصّة بالأمور الولائية من القضاء وغيره؛ تكون المرجعية مسلوبة عن الأنظمة الطاغوتية وثابتة للأنظمة الشرعية الإلهية.
قال المحقق النائيني في تقريب الاستدلال بالمقبولة: «لا بأس بالتمسّك بمقبولة عمر بن حنظلة؛ فإنّ صدرها ظاهر في ذلك حيث إنّ السّائل جعل القاضي مقابلًا للسّلطان والإمام قرّره على ذلك، فقال سألت أبا عبد اللّه عن رجلين من أصحابنا تنازعا في دين أو ميراث فتحاكما إلى السّلطان أو إلى القضاة أيحلّ ذلك إلى آخره
بل يدلّ عليه ذيلها أيضا حيث قال : «ينظران من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما فإنّي قد جعلته عليكم حاكمًا»فإنّ الحكومة ظاهرة في الولاية العامّة فإنّ الحاكم هو الّذي يحكم بين النّاس بالسّيف والسّوط وليس ذلك شأن القاضي».(2)
ص: 260
المبحث الثالث: دراسة ما أورد على الاستدلال بالمقبولة
هناك بعض الملاحظات والإيرادات أوردت على الاستدلال بالمقبولة لإثبات التنصيب العامّ للفقيه، سنشير إلى ماهو الأهمّ منه وهو: «أن الظاهر أن الإمام الصادق لم يكن في مقام الثورة والقيام ضدّ نظام السلطة في عصره لكي ينصب واليًا وأميرًا في قبالها، بل كان بصدد رفع مشكلة الشيعة في عصره في باب الخصومات».(1)
الجواب عن الإيراد:
ليست مسألة المقبولة مسألة الثورة والإقدام على نظام الحكم الموجود. بل مسألة المقبولة مسألة حلّ مشكلة الشيعة في كلّ عصر وزمان وكل مكان ومنطقة في عصر الغيبة وفي عصرعدم بسط يد الإمام المعصوم في كلّ أمر يحتاج إلى الولي ومن يقوم بالأمر. فإنّ شيعة أهل البيت كانوا مأمورين بالكفر بالطاغوت مطلقًا وعدم التبعية للسلطة الغاصبة للحكم فكان الواجب على الإمام أن يشرح وظيفة شيعته في تلك الظروف فإنّ الكفر بالطاغوت وعدم قبول السلطة الحاكمة بحاجة إلى سلطة مشروعة بديلة ليتوجّه إليها في الأمور المحتاجة للسلطة والولاية. وحاجة الشيعة ما كانت منحصرة في القضاء فقط حتى ينصب قاضيًا لهم.
بل كانت الحاجة أوسع وأشمل بكثيرمن جانب القضاء، من الأمورالحسبية والأمور الولائية كتنفيذ الأحكام الشرعية وإقامة الحدود والتعزيرات والقصاص والديات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأخذ الوجوه المالية كالخمس والأنفال، فالإمام بمقتضي دلالة هذه المقبولة وغيرها من الروايات جعل الفقيه لعصره ولما بعد عصره من الأعصار والأزمان القادمة وليًّا وحاكمًا مطلقًا بالنصب العام؛ والفقيه الجامع للشروط على حسب الظروف والقدرات وبقدر الاستطاعة يجب عليه كفايةً القيام بهذه الأمور ولا ينحصر الأمر بتأسيس نظام
ص: 261
الحكم فقط؛ بل هذه ولاية مجعولة بالحكمة واللطف للشيعة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في كل عصر وكل مصر لئلا يبقى الشيعة بلا راعٍ وحامٍ وحافظٍ ووليّ؛ بل حينما لا يتمكّنون من الرجوع إلى المعصوم يرجعون إلى نائبه العامّ في كلّ أمرٍ كان ذا علاقة مع الإمام المنوب عنه على قدر استطاعتهم وتمكّنهم من تنفيذ حكمٍ واحدٍ وإقامة حدٍّ واحدٍ فقط، وقضاءٍ في رفع التنازع بين المتنازعين إلى تشكيل الحكم الإسلامي وتأسيس الدولة وإقامة السلطة الإسلامية.
فالإمام يريد أن ينصب بديلاً للطاغوت وسلطان الجور لحلّ مشاكل الشيعه في ما يرتبط بزمام الحكم وولاية الامر وهذا هو السر في تغيير كلمة القاضي إلى الحاكم، فلو سلّم أنّ الإمام نصب قاضيًا لا وليًّا حاكمًا فالأمر أبتر وبعيدٌ عن حكمة الشارع أن يبادر إلى نصب المهم ولا يبادر إلى ما هو الأهمّ والأكثر احتياجًا إليه في حياة مجتمع تابعي أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فبتنقيح المناط يظهرأنّ الجعل لاينحصر بالخصومة في الميراث؛ بل يشمل كلّ المنازعات والمرافعات فكذلك بتنقيح المناط القطعي يظهر أنّ الجعل لا ينحصر بالمرافعات فقط، بل يشمل جميع ما يرتبط بالحاكم من تنفيذ الأحكام الإلهية. والله العالم.
رواه الشيخ الصدوق فِي كِتَابِ «إِكْمَالِ الدِّينِ وإِتْمَامِ النِّعْمَةِ» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِصَامٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَعْقُوبَ قَالَ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَان الْعَمْرِيَّ أن يُوصِلَ لِي كتابًا قَدْ سَأَلْتُ فِيهِ عَنْ مَسَائِلَ أَشْكَلَتْ على فَوَرَدَ التَّوْقِيعُ بِخَطِّ مولانا صَاحِبِ الزَّمَانِ : «أَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ أَرْشَدَكَ اللَّهُ وثَبَّتَكَ...» إِلَى أن قَالَ: «وأَمَّاالْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا، فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ، وأَنَا حُجَّةُ اللَّهِ. وأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَان الْعَمْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وعَنْ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ فَإِنَّهُ ثِقَتِي وكِتَابُهُ كِتَابِي.»
ورَوَاهُ الشَّيْخُ فِي كِتَابِ الْغَيْبَةِ عَنْ جَمَاعَةٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قُولَوَيْهِ
ص: 262
وأبي غَالِبٍ الزُّرَارِيِّ وغَيْرِهِمَا كُلِّهِمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ ورَوَاهُ الطَّبْرِسِيُّ فِي الْاحْتِجَاجِ مِثْلَهُ»(1)
وإنّ دراسة هذا الحديث وتقييم الاستدلال به تتمّ في بحوث:
هذا التوقيع من رواية الشيخ الصدوق والشيخ الطوسي والشيخ الطبرسي (قدس الله أسرارهم). أمّا سند الصدوق إلى إسحاق بن يعقوب فلا بأس به، إلّا أنّه وقع في الطريق محمد بن عصام الكوفي الذي لم يُصرَّح بوثاقته؛ ولكن بما أنّه من مشايخ الصدوق كما ورد في مشيخة الفقيه، وقد ترضّى عنه صريحًا فعلى بعض المباني الرجالية أنّ هذا كافٍ للحكم بوثاقته والاعتماد عليه.(2)
أمّا سند الشيخ الطوسي إلى إسحاق بن يعقوب فصحيحٌ وهو أفضل وأهمّ من سند الصدوق؛ لأنّ الرجال الواقعين في السند كلّهم من الأجلاء، فالجماعة الذين روى عنهم ابن قولويه هم: المفيد والحسين بن عبيد الله أحمد بن عبدويه على ما صرّح به نفسه في ترجمة ابن قولويه، كما إنّ ابن قولويه ومحمد بن يعقوب الكليني في درجة عالية من الوثاقة والجلالة واعتبار القدر. نعم طريق الطبرسي الذي هو من علماء القرن السادس إلى محمد بن يعقوب الكليني غير معلوم لا يُعتمد عليه.
فلا يبقى إلّا الراوي المباشر للتوقيع وهو إسحاق بن يعقوب حيث إنّه لم يرد فيه توثيق ولا قدح ولا ذمّ؛ فهو مجهول والسند من هذه الجهة محلٌّ للمناقشة.
ولكن مع ذلك كله هناك عدّة محاولات يُتمسَّك بها لإثبات وثاقته وهي:
أولًا ورود التوقيع إليه مع ما فيه من المضامين العالية والدعاء له في أوّل التوقيع بقوله : «أرشدك الله وثبّتك الله»، وأيضًا التسليم عليه في آخر التوقيع
ص: 263
بقوله : «سلام عليك يا إسحاق بن يعقوب وعلى من اتبع الهدى»؛ فإنّ هذه الأمور تدلّ على وثاقته بل تدلّ على علوّ مكانته.
ولكن يلاحظ عليه، أنّه هو راوي هذا التوقيع، ولا يستدلّ به على وثاقة شخصٍ برواية يرويها هو بنفسه.
ثانيًا إنّ رواية الكليني (قُدّس سِرّه) مع عظمة شأنه وعلوّ قدره لهذ التوقيع ونقل ابن قولويه الذي يعدّ من رموز الطائفة، لجلالته وعظمته، لهذه الرواية ونقل جماعة كأمثال الشيخ المفيد والحسين بن عبد الله وأبي غالب الزراري، من المشايخ الكبار للطائفة، لهذا التوقيع الشريف فهذا كله يدلّ على وثاقة الرجل ولا شبهة في أنّ افتراء التوقيع على الحجة صاحب الأمر(عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ)، في بدايات الغيبة، وفي ظروف كان لورود التوقيع قيمته الخاصّة لا يمكن أن يخفى على أمثال الكليني وابن قولويه والجماعة مع ما هم عليه من ضبط ودقّة وأمانة وهم معاصرون للغيبة الصغرى ولعصر التوقيعات، خاصّة لو ثبت أنّ إسحاق بن يعقوب هو أخو محمد بن يعقوب الكليني.
وامّا ما أورد على هذ الوجه من أنّه لو كان هذا صوابًا فلماذا لم يذكر الكليني التوقيع في كتابه القيّم الكافي.(1)
فيُجاب عنه بأن عدم النقل التوقيع في الكافي لا يضرّ؛ إذ من المحتمل وصول هذا التوقيع إليه بعد تأليف الكافي مضافًا إلى أنّه ليس من منهج الكليني أن يذكر كل رواية ثبتت عنده في الكافي.
على أن عدم نقله في الكافي لعلّه لأجل أنّ ذكر الخبر في الكافي كان سببًا لإشهار الراوي بين الناس وموجبًا لتعريف خواصّ الإمام ونائبه وهذا منافٍ للتقية.
وعلى هذا من المستبعد جدًّا أن لا يكون الكليني عارفًا بحال مثله من معاصريه وهو ينقل عنه التوقيع بخطّ الإمام الحجة رفالظاهر أنّه كان يعرف
ص: 264
الرجل بالوثاقة والأهلية لمثل هذا التوقيع ولعلّه كما استظهره بعض هو أخو الكليني (قُدّس سِرّه).
ثالثًا متانة نصّ التوقيع وما تضمّنه كما حكاه الأردبيلي في جامع الرواة عن الأسترابادي يدلّ على علوّ قدره واعتباره، قال العلّامة المامقاني (قُدّس سِرّه):
«ولا يخفى على من درس كلمات الأئمة الأطهار (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وتركيبات الجمل التي يستخدمونها واللحن الخاصّ بهم؛ أن الحديث والتوقيع المذكور هو صادر عن الإمام بحيث لا يشوبه شك.»(1)
فبالنتيجة ملاحظة هذه القرائن خاصّة بعد تجميعها، كافٍ عادة للوصول إلى وثاقة إسحاق بن يعقوب بل جلالة قدره وشأنه واعتبار روايته والله العالم.(2)
عدّة من الأجلة من الفقهاء العظام كصاحب الجواهر والشيخ الأعظم الأنصاري والمحقق آقا رضا الهمداني والسيد الإمام الخميني5استدلّوا بالتوقيع الشريف لإثبات الولاية الفقيه منصبًا عامًّا له.
ولأجل ذلك يتمسك عادةً بفقرتين من الرواية الفقرة الأولى: عموم قوله «وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا»، والفقرة الثانية: عموم التعليل في قوله: «فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وأَنَا حُجَّةُ اللَّهِ».
أمّا الفقرة الأولى: فيظهر الاستدلال بها ببيان أمور:
1) الجمع المحلّى بالألف واللام في قوله «الحوادث» يفيد العموم، وهو يشمل كل حادثةٍ لا بدّ من الرجوع فيها عرفًا أو عقلًا أو شرعًا إلى الوليّ، وليس المراد خصوص المسائل الشرعية كما نصّ عليه الشيخ الأعظم في مكاسبه.(3)
ص: 265
2) إرجاع نفس الحوادث إلى الرواة لا الرجوع في حكمها إليهم فإنّ وجوب الرجوع في المسائل الشرعية إلى العلماء هو من الأمور البديهية، ومما لم يكن يخفى على مثل إسحاق بن يعقوب ليسأل عن مثل هذا الأمر في عداد مسائل أشكلت عليه، فهذا بخلاف نفس الحوادث والمصالح العامّة التي بحاجة إلى الرجوع في غياب الحجة (عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ).
3) ليس المراد من رواة الحديث هو من يروي لفظ الحديث فقط، دون تفقّه وإدراك لمعناه؛ بداهةَ أنّه لا معنى لإرجاع الأصحاب إلى الراوي بهذا الوصف بل المراد بمناسبة الحكم والموضوع هو الراوي المتفقّه والمتفهم لدرك مضمون كلامهم من أهل الرأي والنظر من الفقهاء وأهل الاجتهاد والاستنباط.
فبالنتيجة: وجوب الرجوع في الحوادث الواقعة إلى الفقيه بأمره «فارجعوا» يدلّ على أن الفقيه هو المرجع في إدارة الأمور وإصدار القرارات في هذه الحوادث الحسّاسة.
وقد يُلاحظ على الاستدلال بالفقرة الأولى:
بأنّ اللام في قوله: «الحوادث» لم يثبت أنّها لام الجنس، وبالتالي لم تثبت إفادتها العموم؛ إذ من المحتمل أن تكون اللام لام العهد للإشارة إلى الحوادث التي كتب إسحاق بن يعقوب إلى الإمام يسأله عنها، وعلى هذا فقوله : «ارجعوا فيها» يكون إرجاعًا إليهم في تلك الحوادث المعهودة بين السائل والمجيب، ونحن لا نعلمها فلا ينعقد ظهور للكلام في العموم حتى يُتمسَّك به.ويُرَدّ على هذا الاعتراض بأن هذا الاحتمال ضعيف، وهو خلاف الظاهر من أمره بالرجوع في هذه الحوادث؛ حيث إنّ الظاهر أنّه يأمر كل الطائفة بالرجوع في الحوادث إلى رواة الحديث.
الاستدلال بالفقرة الثانية للرواية وعموم التعليل الوارد في قوله «فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله» ظاهرٌ حيث إنّه كالنصّ على المدّعى
ص: 266
فإنّ الحجة بمعنى الدليل والبرهان فعلّل الإمام وجوب الرجوع إلى رواة الحديث بأنّهم دليله وبرهانه على الشيعة ومن بهم يُحتجّ عليهم. ثم فاء التفريع والتأكيد بأن، وإضافة لفظ الحجة إلى ياء المتكلم كلّها لبيان أن الفقيه حجّة الإمام على شيعته في ما يرتبط بالإمام وشيعته ولا شك في أنّ من وظائفه واختياراته تولّي أمورهم وإدارة شؤونهم بحسب ما يراه من المصلحة. فالشيعة يجب عليهم الرجوع إلى الفقيه؛ لأنّه حجة الإمام كما إنّ الإمام حجّة الله على خلقه، وليس معنى الحجية هي بيان الأحكام الشرعية فقط؛ فالمراد من أنّ الإمام وآباءه الطاهرين حجج الله على خلقه؛ أنّه يُحتج بوجودهم وسيرتهم وأعمالهم وأقوالهم على العباد في جميع الشؤون.
قال الإمام الخميني (قُدّس سِرّه): «إنّهم حجج على العباد بمعنى أنّه لو رجعوا إلى غيرهم في الأمور الشرعية والأحكام الإلهية من تدبير أمور المسلمين وتمشية سياستهم وما يتعلق بالحكومة الإسلامية لا عذر لهم في ذلك مع وجودهم.»(1)
ومن الواضح عند الإمامية أنّ كون الإمام حجة الله تعالى، عبارة أخرى عن ولايته ومنصبه الإلهي على كافّة شؤون المسلمين لا مرجعًا للأحكام فقط، فكذلك الأمر بالنسبة إلى حجية الفقيه.فكلمة الحجة المكرّرة في هذه الفقرة من التوقيع تشير إلى معنى واحد وهو زعامة الأمر وإمامة الأمة.
ومن هنا، يظهر الجواب عمّا أُورد على الاستدلال بأنّ الظاهر من الحجية هو الحجة بالنسبة إلى كشف الأحكام وبيانها؛ فلا صلة لمسألة الحجّة بالزعامة والولاية السياسية؛ وذلك لأنّ تفسير الحجّة بمفسِّر الأحكام ومبيِّنها، لا يتوافق مع ما ما فهمه الشيعة الإمامية في طول التاريخ من هذه الكلمة، ومع ما يبدو أنّه الفهم العرفيّ. فإنّ الحجة كالبرهان والدليل عرفًا ما يكون سببًا للاحتجاج على الآخرين، وكما إنّ الإمام حجةٌ يُحتجّ به فكذلك الفقيه فلا تنحصر الحجية في
ص: 267
بيان الأحكام فقط خاصّة حسب ما هو مرتكِزٌ عند الإمامية في معنى الحجّة فإنّ الأئمّة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حجج الله على خلقه معناه أنّهم المعيار والملاك ولهم المرجعية العلمية والسياسة في كل الأمور الدينية، ولا تختصّ هذه الحجية بشأنٍ دون شأن. والنتيجة هي أنّ دلالة التوقيع الشريف وخاصة الفقرة الثانية منه، دلالة تامّة واضحة كالنصّ على المدّعى.(1)
فقد روى الشيخ الكليني (قُدّس سِرّه) في أصول الكافي عن مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ على بْنِ أبي حَمْزَةَ قَالَ سَمِعْتُ أبا الْحَسَنِ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ يَقُولُ: «إذا مَاتَ الْمُؤْمِنُ بَكَتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ وبِقَاعُ الْأَرْضِ الَّتِي كَان يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَيْهَاوأَبْوَابُ السَّمَاءِ الَّتِي كَان يُصْعَدُ فِيهَا بِأَعْمَالِهِ، وثُلِمَ فِي الْإسلام ثُلْمَةٌ لَا يَسُدُّهَا شيء؛ لأنّ الْمُؤْمِنِينَ الْفُقَهَاءَ حُصُونُ الْإسلام كَحِصْنِ سُورِ الْمَدِينَةِ لَهَا.»(2)
ثم إنّ دراسة الحديث وكيفية الاستدلال به يتمّ ضمن بحوث.
إنّ رجال السند كلّهم من الثقات والأجلّاء وليس في السند من يُتأمّل فيه إلا علي بن حمزة البطائني وهو من رؤوس الواقفة ومشهور بضعفه.
إلا أنّه لا يبعد إثبات وثاقته عن طرق:
أولًا ما قاله الشيخ في العدّة: «ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بأخبار الفطحية مثل عبد الله بن بكير وغيره وأخبار الواقفة مثل سماعة بن مهران وعلي بن أبي
ص: 268
حمزة وعثمان بن عيسى».فهذه شهادة من الشيخ بكونه ثقة في الحديث وبأنّ الطائفة الإمامية عملت بأخباره.
ثانيًا رواية المشايخ الثلاث وهم صفوان بن يحيي وابن أبي عمير والبزنطي عنه. وقد قال الشيخ في العدّة إنّ هؤلاء الثلاثة لا يروون ولا يرسلون إلا عمّن يوثق به.
وثالثًا رواية أصحاب الإجماع عنه كرواية حمّاد بن عيسى وعثمان بن عيسى وعبد الله بن المغيرة وحسن بن محبوب (بناء على كونه من أصحاب الإجماع).(1)
إلى غير ذلك من الطرق المتعددة التي يثبت بها وثاقته فلا إشكال في الحديث سندًا
قبل بيان الاستدلال بالحديث لا بدّ من الالتفات إلى اختلاف النسخ المنقول فيها الحديث. أمّا أولًا بالنسبة إلى صدر الحديث بدلًا من قوله : «إذا مات المؤمن» فقد نقل الكليني (قُدّس سِرّه): عن على بن إبراهيم، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه عن الصادق : «إذا مات المؤمن الفقيه ثُلِم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شيء.»
فمن المحتمل سقوط لفظ الفقيه من صدر رواية علي بن أبي حمزة، خاصّة أنّ الجهات المذكورة في الرواية تتناسب مع موت الفقيه، مضافًا إلى أن الكليني (قُدّس سِرّه) قد عنون الباب الذي روى هذا الحديث فيه بباب «فقد العلماء» وهو شاهدٌ على وجود العنوان الفقهاء في الرواية. كيف وأن سائر أخبار هذا الباب أيضًا موضوعها موت الفقيه أو العالم، على أن في دوران الأمر بين النقص والزيادة، قد يقال إنّ العقلاء يحكمون بوقوع الحذف وأن احتمال الزيادة لا يُعتنى به. وعلى هذا لا بأس من الأخذ بالمرسلة لاعتبارها سندًاأيضًا ولا منافاة بين النقلين ليُحمل المطلق على المقيد.
ص: 269
ثانيًا هذا الحديث يرويه أيضًا الشيخ الكليني عن عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد وعن على بن إبراهيم عن أبيه جميعًا عن ابن محبوب عن على بن رئاب قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر...الحديث، إلى أن قال: «لأنّ المؤمنين حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها.»
ففي صحيحة علي بن رئاب: كلمة الفقهاء محذوفة من الذيل، فلا يمكن التمسّك بها في الاستدلال؛ ولكن بما قلنا في دوران الأمر بين الزيادة والنقيصة فأصالة عدم الزيادة مقدّمة على أصالة عدم النقيصة عند العقلاء، ولكثرة الخطأ بالسقط، على أن الأمور والجهات المذكورة في الرواية كالثلمة والحصن بحسب تناسب الحكم والموضوع تتناسب مع موت الفقيه فالقدر المتيقن من ثبوت حصن الإسلام، ثبوتهاللفقهاء من المؤمنين. وقد روي هذ العنوان بسندٍ معتبر فلا إشكال في الأخذ والاستدلال به.(1)
إنّ الاستدلال بالحديث يتوقّف على شرح أمورٍ:
1) كلمة «الفقهاء» المذكورة في الحديث لا يُراد منها معناها اللغوي؛ بل المراد منها إمّا الفقيه في الدين الذي له فهم معمّق لجميع الدين ومعارفه من العقيدة والأحكام والأخلاق، وإمّا المراد منه الفقيه بالمعنى الاصطلاحي وهو المجتهد لاستنباط الحكم الشرعي. وقد كان شائعًا هذا المصطلح في عصر الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).
2) حسب ما يظهر من الحديث إنّ عنوان حُصُونُ الإسلام ليس مجازًا ولا مبالغة ولا تشريفًا. وعلى هذا إنّ المراد من حصن الإسلام وتشبيه الفقيه بحصن سور المدينة هو حفظ الإسلام بجميع أبعاده عن هجوم المخالف والمعاند والأعداء كما إنّ سور المدينة وهو حائط عظيم في نهاية القوة والثبات يُبنى للدفاع عن المدينة وأهلها ودفع الشرور عنهم. فالفقهاء أيضًا حصون الإسلام
ص: 270
وهذا وصف حقيقيٌّ جعله الإمام لهم للكناية عن حفظهم الإسلام في جوانب شتّى من النشاطات العلمية والثقافية ودفع الشبهات ونشر المعارف والإفتاء وإبداء الرأي في المجالات المختلفة الفقهية والكلامية والتفسير یه وحفظه عن الاندراس والبدعة والخرافة والانحراف وحفظه أيضًا في جانب القوة والتنفيذ والسلطة لئلا تتسلّط قوّة الأعداء على نواميس الإسلام وأعراض المسلمين.
ولا ريب في أنّه لا يصدق على الفقيه أنّه حصن الإسلام إلا إذا قام بدوره في الشؤون المختلفة العلمية والاجتماعية والسياسية، فلا يفسح المجال لأعداء الإسلام للإغارة على الإسلام والمسلمين وإراقة دمائهم.قال السيد الإمام (قُدّس سِرّه):«إنّ الفقيه لا يكون حصن الإسلام كسور البلد له إلا بأن يكون حافظًا لجميع الشؤون من بسط العدالة وإجراء الحدود وسدّ الثغور وأخذ الخراجات والماليّات وصرفها في مصالح المسلمين ونصب الولاة في الأصقاع وإلّا فصرف الأحكام ليس بإسلام؛ بل يمكن أن يُقال: الإسلام هو الحكومة بجميع شؤونها والأحكام قوانين الإسلام وهي شأن من شؤونها. بل الأحكام مطلوبات بالعرض وأمور آلية لإجرائها وبسط العدالة، فكون الفقيه حصنًا للإسلام كحصن سور المدينة لها، لا معنى له إلّا كونه واليًا له، نحو ما لرسول الله والأئمة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من الولاية على جميع الأمور السلطانية» انتهي كلامه رفع مقامه.(1)
وعلى هذا فالفقيه بحكم الحديث جُعِل حصنًا للإسلام من دون انتظار انضمام شيء آخر كانتخاب المسلمين وغيره.
ممّا ذكرناه أعلاه من تقريب الاستدلال يظهر الجواب عمّا أُورِد على الاستدلال: «من أنّ وصف الحصنية وإن سلّمنا أنّه ثابت للفقهاء. ولكن لا يتعيّن كونه بالنصب؛ بل لعلّ المراد أنّه يجب عليهم ترشيحه بأنفسهم وإعداد
ص: 271
القويّ ويجب على المسلمين القيام والتعاون وانتخابهم له، فيصير المنتخب بانتخاب الأمة واليًا».
ولا يخفى ما فيه؛ لأنّه خلاف الظاهر، حيث إنّ الظّاهر أنّ الإمام في مقام الجعل والإنشاء وإثبات وصف الحصنية لهم بالفعل، لا بالقوّة بأن يثبت لهم هذا الوصف بعد انتخاب الناس لهم نعم لاشك في أنّه لا يمكن لهم القيام بهذا الواجب إلّا بعد تبعية الناس لهم والتعاون منهم. فتحقق الحفظ والحصنية بحاجة إلى وجود الناصر وحضور الحاضر طبعًا، وإلا فالإسلام لايحفظ بالإجبار والإكراه والقهر والغلبة.(1)وأما مايقال من أنّ المتبادر من حصن الإسلام هو صونه وحفظه عن البدع والانحراف ودفع الشبهة والدفاع عنه بالأبحاث العلمية والنشاطات الثقافية؛ فهذا الاحتمال أيضًا خلاف ما يظهر من الحديث لأنّ أمر الحصن لا يختص بهذه الجهة، ولاينحصر فيه فهو بإطلاقه يشمل جميع الجهات والساحات كما لايخفى.
أضف إلى ذلك وهو الأهم أنّ حفظ الإسلام من البدع والضلال والانحراف لايمكن تحقيقه ولا يتحقّق معناه الواقعيّ في وسط المجتمع إلّا بالسلطة والتمكن والولاية فإنّها هي الأساس وهي المفتاح لجميع الجهات كما في بعض الأخبار.
يظهر ممّا ذكرنا أعلاه من البحث عن رواية موثقة علي بن حمزة تقريب الاستدلال بموثقة السكوني: علي عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّوْفَلِيِّ عَنِ السَّكُونِيِّ عَنْ أبي عَبْدِ اللَّه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «الْفُقَهَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ مَا لَمْ يَدْخُلُوا فِي الدُّنْيَا.
ص: 272
قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: ومَا دُخُولُهُمْ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: اتِّبَاعُ السُّلْطَان؛ فَإذا فَعَلُوا ذَلِكَ فَاحْذَرُوهُمْ عَلَى دِينِكُمْ.»(1)
وهذه الرواية من الروايات المشهورة مرويّةٌ أيضًا في مصادر أخرى كالمستدرك ونوادر الراوندي وفي كنز العمال أيضًا من مصادر أهل السنّة.(2)
وسندها لا إشكال فيه إلّا من جهة النوفلي والسكوني. وقد ثبت في محلّه وثاقتهما.
أمّا النوفلي وهو الحسين بن يزيد فلم يرد فيه قدح؛ ولكثرة روايته، ورواية الأجلّاء عنه، ووقوعه في أسناد «كامل الزيارات»، لا إشكال في اعتباره.وأمّا السكوني وهو إسماعيل بن مسلم أبو زياد، فلم يقل أحدٌ من الأصحاب بعدم وثاقته؛ بل غاية ما قيل فيه إنّه عاميٌّ؛ ولكن بما أنّه كثير الرواية، ولشهادة الشيخ الطوسي في العدّة بعمل الطائفة بما رواه أمثال السكوني فيُستفاد منه اعتباره ووثاقته.(3)
وأمّا دلالة الحديث فيمكن شرحها بنفس التقريب المتقدّم في حديث «الفقهاء حصون الإسلام»؛ حيث يدلّ على أنّ الفقهاء أمناء لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) في جميع الشؤون المتعلّقة برسالته، وأوضحها زعامة الأمّة وإمامتها لبسط العدالة وتنفيذ الأحكام وإقامة الحدود، فالفقيه أمين لرسول الله وحصن للإسلام، فله الولاية المطلقة على الأمّة لأجل القيام بتحقّق هذه الأوصاف.(4)
فتأمّل.
ص: 273
أ) الحديث الخامس: صحيحة القدّاح:
روي الشيخ الكليني (قُدّس سِرّه) عن علي بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى عَنِ عبد الله بن ميمون الْقَدَّاحِ عَنْ أبي عَبْدِ اللَّه قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ. وإنّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِهِ، وإِنَّهُ يَسْتَغْفِرُ لِطَالِبِ الْعِلْمِ مَنْ فِي السَّمَاءِ، ومَنْ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ. وفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ النُّجُومِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ. وإنّالْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأنبِيَاءِ، إنّ الأنبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا ولَا دِرْهَمًا؛ ولَكِنْ وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ مِنْهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِر.»(1)
ورواها أيضًا الشيخ الكليني عن عبد الله بن ميمون بطرق أخرى. كما إنّها مرويةٌ في أمالي الصدوق وثواب الأعمال وبصائر الدرجات والرواية صحيحةٌ سندًا وفي غاية الاعتبار.
وجه الاستدلال:(2)
قوله «العلماء ورثة الأنبياء» أطلق الوراثة على علماء الأمة الإسلامية، ومقتضى هذا الإطلاق، انتقال كل ما كان لهم إليهم، إلّا ما ثبت أنّه غير ممكن الانتقال كالولاية الكلية الإلهية. ولا شبهة في أنّ الولاية الاعتبارية قابلة للانتقال كالسلطنة التي كانت عند أهل الجور وقد ورثوها خلفًا عن سلفٍ.
نعم ربّما يُقال: إنّ المراد من العلماء الأئمّة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) كما ورد عنهم «نحن العلماء».(3)
ص: 274
وفيه ما لا يخفى؛ ضرورة أنّه مع عدم القرينة يكون لفظ العلماء ظاهرًا في الفقهاء غير الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، مع أنّ قوله في هذا الحديث «من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا» لا ينطبق على الأئمة بالضرورة، فهذا أيضًا قرينة على أن المراد غير الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).
أمّا ما يُقال من أنّ وراثة الأنبياء بما هم أنبياء لا تقتضي إلا تبليغ الأحكام، فإنّ الوصف العنواني مأخوذ في القضية وشأن الأنبياء بما هم أنبياء ليس إلا التبليغ.
فيجاب عنه بأنّ هذ التحليل خارجٌ عن فهم العرف، ولا ينقدح في الأذهان من هذه العبارة؛ إلّا الوراثة عن موسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء. وعلى هذا لا شبهة في أنّ ما ثبت لعنوان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) في الكتاب والسنة يرثه العلماء. وقد قال الله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾. (سورة الأحزاب الآية 6)نعم ثمّة إشكالٌ آخر وهو أن احتفاف الرواية بتعظيم العلماء، ثم قوله في ذيل الحديث «إنّ الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا ولكن ورثوا العلم فمن أخذ منه أخذ بحظّ وافر»، ربما يمنع عن فهم عموم الشؤون. فتأمّل.
ب) الحديث السادس: مرسلة الصدوق
روى الصدوق (قُدّس سِرّه) في آخر كتابه «من لا يحضره الفقيه» قال: أمير المؤمنين: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «اللهم ارحم خلفائي: قيل يا رسول الله من خلفاؤك؟ قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): الذين يأتون من بعدي ويروون حديثي وسنتي».
ورواه في عيون أخبار الرضا إلّا أنّه زيد في ذيله: «فيعلِّمون الناس من بعدي». ورواه الصدوق (قُدّس سِرّه) في معاني الأخبار ومروي أيضًا في مستدرك الوسائل وعوالي اللآلي وغيرها من المصادر الإماميّة.(1) وقريب منه ما هو
ص: 275
مرويٌّ في كنز العمال من مصادر أهل السنّة.(1)
والرواية من جهة السند وإن كانت مروية في "من لايحضره الفقيه" مرسلةً، وفي سائر المصادر أيضًا لا يخلو رجالها من ضعاف ومجاهيل؛ ولكن:
أوّلًا كثرة أسناد الحديث وطرقه
ثانيًا إرسال الحديث إرسال المسلَّمات في «من لا يحضره الفقيه»، مع اشتراط الصدوق (قُدّس سِرّه) في أول الكتاب أن يروي ما يفتي به ويحكم بصحته ويعتقد أنّه حجة.(2)
وقد قالوا: مراسيل الصدوق جزمًا لا تقصر عن مراسيل ابن أبي عمير.(3)فهذا كله يوجب الاطمئنان بصدور الحديث واعتباره.
من جهة الدلالة إنّ عبارة «اللهم ارحم خلفائي» وإن كانت للدعاء، ونداء لله تبارك وتعالى؛ ولكن يُراد بها إخبار الناس بأن هؤلاء العلماء الفقهاء الذين يأتون من بعده ويروون حديثه وسنّته هم خلفاء الرّسول الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) ومعنى الخلافة عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أمرٌ واضحٌ ليس فيه أيّ إبهام. وقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) «الذين يأتون من بعدي» معرّف للخلفاء، لا محدّد لمعناها؛ فيظهر من الرواية أنّ للعلماء جميع ما له (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، إلا أن يدلّ دليل على إخراجه فيُتبع.
وتوهّم أنّ المراد من الخلفاء هو الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في غاية الوهن؛ فإنّ التعبير عن الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) برواة الحديث غير معهود، فإنّهم خزّان علمه تعالى. كما إنّ الاختصاص بالراوي والمحدّث دون الفقيه أوهن من سابقه؛ لأنّ المحدث والراوي ليس شغله تعليم سنة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، إلا إذا كان فقيهًا كأمثال الكليني والصدوقين ونظائرهم (قدس الله أسرارهم). هذا بالنسبة إلى نسخة عيون
ص: 276
أخبار الرضا التي فيها زيادة «فيعلِّمون الناس بعدي». وأما بالنسبة إلى نسخة الفقيه التي ليس فيها هذا الذيل؛ فلأنه لا شك في أنّ المطلوب من بسط سنة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، لا ما ينسب إليه ولو كان كذبًا وعلى خلاف سنته، والذي يتيسّر له تمييز السُّنّة عن غيرها هو المجتهد المتبحِّر والمحدث الفقيه لا ناقل الحديث كائنًا من كان.(1)
ما يلاحظ عليه:
لا ريب بناء على أصول مذهب الإمامية في أنّ أمر الخلافة بعد النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) والولاية على الأمّة موكول إلى أئمة الهدى (عَلَيْهِم السَّلاَمُ). وإن الخلفاء بعده منحصرون في الأئمة الاثني عشر المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).فالسؤال الأساسُ هو عن كيفية الجمع بين أصل خلافة الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومفاد هذه الرواية من ثبوت الخلافة للفقهاء والعلماء من بعد الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، فإنّ هذا بحاجة إلى شرح ورفع إبهام عن معنى الرواية وإلّا بظاهره، فظاهر الحديث يعارض ذلك الأصل الثابت بالضرورة.
فلا يبقى هناك إلا لزوم التصرّف في المعنى لرفع المعارضة، وهو إمّا حمل الخلافة المذكورة في الحديث على أئمة الهدى (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وهذا الحمل وإن كان خلاف الظاهر؛ ولكن أصل خلافة الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) قرينة عليه فتختص الرواية بهم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ولا تشمل الفقهاء.
وإمّا أن تُحمل الخلافة على الخلافة عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) في تبليغ السنة وتعليم حقائقها، لا على الخلافة المعهودة والولاية على الأمّة. فحينئذٍ الرواية تشمل الفقهاء أو تختصّ بهم ولا إشكال في أنّ كلا الحملين موافقٌ للجمع العرفيّ بين الأدلّة. وأمّا حمل الرواية عل خصوص الفقهاء وإرادة ثبوت الخلافة المطلقة والولاية الكلية للفقهاء، فهو خلاف الظاهر، خاصةً أنّ ولاية الفقيه لا تكون في عرض ولاية الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)؛ بل هي في طول ولايتهم وخلافتهم نيابة عنهم؛ ففي الحقيقة
ص: 277
إنّ الفقيه ليس خليفة الرسول؛ بل هو خليفة الخليفة في عصر الغيبة وفي زمن عدم بسط يد المعصوم .
أ) الحديث السابع: (مرسلة تحف العقول)
روى الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحرّاني في كتابه الشهير تحف العقول عن آل الرسول، من كلام أبي عبد الله الحسين في طيّ خطبة طويلةٍ في منى خطبها لعلماء الأمّة؛ بعد بيان أهمّية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:«ثُمَّ أَنْتُمْ أَيَّتُهَا الْعِصَابَةُ عِصَابَةٌ بِالْعِلْمِ مَشْهُورَةٌ، وبِالْخَيْرِ مَذْكُورَةٌ وبِالنَّصِيحَةِ مَعْرُوفَةٌ، وبِاللَّهِ فِي أَنْفُسِ النَّاسِ مَهَابَةٌ يَهَابُكُمُ الشَّرِيفُ ويُكْرِمُكُمُ الضَّعِيف» إلى أن قال: «وَأَنْتُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ مُصِيبَةً لِمَا غُلِبْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ مَنَازِلِ الْعُلَمَاءِ، لَوْ كُنْتُمْ تَشْعُرُونَ ذَلِكَ بِأنّ مَجَارِيَ الْأُمُورِ والْأحكام عَلَى أَيْدِي الْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ الْأُمَنَاءِ عَلَى حَلَالِهِ وحَرَامِهِ، فَأَنْتُمُ الْمَسْلُوبُونَ تِلْكَ الْمَنْزِلَةَ، ومَا سُلِبْتُمْ ذَلِكَ إِلَّا بِتَفَرُّقِكُمْ عَنِ الْحَقِّ واخْتِلَافِكُمْ فِي السُّنَّةِ بَعْدَ الْبَيِّنَةِ الْوَاضِحَةِ ولَوْ صَبَرْتُمْ عَلَى الْأَذَى وتَحَمَّلْتُمُ الْمَؤونَةَ فِي ذَاتِ اللَّهِ كَانَتْ أُمُورُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تَرِدُ وعَنْكُمْ تَصْدُرُ وإِلَيْكُمْ تَرْجِع».(1)
بحث سنديٌّ:
إنّ الرواية وإن كانت بحسب الظاهر مرسلةً؛ ولكن يمكن إثبات اعتبارها بالالتفات إلى أمور:
أولًا إنّ ابن شعبة الحرّاني ثقةٌ معتمدٌ عليه، وقد وصفه الشيخ الحرّ العامليّ في الوسائل بالشيخ الصّدوق، وقال عنه في أمل الآمل فاضلٌ محدِّثٌ جليلٌ وله ترجمةٌ في رياض العلماء وروضات الجنّات وتنقيح المقال وأمل الآمل وعلى
ص: 278
هذا فالمؤلف من أصحابنا القدماء يروي عنه المفيد (قُدّس سِرّه) وهو ثقة جليل القدر.(1)
ثانيًا كتاب تحف العقول لا يعدّ من المراسيل؛ بل للأصحاب طريقٌ إليه وصاحب الوسائل (قُدّس سِرّه) عدّه من الكتب المعتمدة التي وصلت إلينا كما صرّح به في الفائدة الرابعة والفائدة الخامسة.
ثالثًا مؤلّف الكتاب قد صرّح في مقدمة كتابه بأنّ روايات الكتب كانت مسندةً، وأكثرها كان له بها سماعٌ حيث قال: «وأسقطت الأسانيد تخفيفًا وإيجازًا وإن كان أكثره لي سماعًا». وشهده على اعتبار روايات الكتاب بأمر معاشر الشيعة بالعمل بما فيالكتاب، بقوله: «تلقّوا ما نقله الثقات عن السادات (يعني الأئمة عليهم السلام) بالسمع والطاعة.» وهذه شهادة واضحةٌ منه بأنّ رواة الكتاب ثقات. وعلى هذا، لا يبعد القول باعتبار مراسيل تحف العقول.(2)
بحثٌ دلاليٌّ:
لا يخفى أنّ للحديث الشريف دلالة واضحة على أن ولاية الأمة، المعبّر عنها بمجاري الأمور، قائمة على أيدي العلماء بالله والأمناء على حلاله وحرامه وعليهم أن يقوموا ويسعوا لأن يتولّوا أمور المجتمع.
وأمّا ما يقال بأنّ المراد من العلماء في الرواية: هم الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لقوله الأمناء على حلاله وحرامه وقوله: «العلماء بالله»، لا العلماء بأحكام الله، فهم بواسطة الفيوضات التكوينية والتشريعية، تكون مجاري الأمور بيدهم لا جعلًا، فهي دليل على الولاية الباطنية لا الولاية الظاهرية المجعولة».(3)
فيُلاحَظ عليه بأنّ هذا خلاف التحقيق بلا ريب ولا شك، فإنّ الدّقة والتأمّل
ص: 279
في الرواية من صدرها إلى ذيلها تكشف عن عدم صحة حمل كلمة «العلماء» المذكورة فيها على الأئمة الهداة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)؛ فإنّ خطاب الرواية متوجّهة إلى العلماء المعاصرين لأبي عبد الله من الصحابة والتابعين في عصر معاوية الذين ما قاموا بوظيفتهم من إقامة الحق فيخاطبهم ويوبّخهم على ذلك، كما إنّ حملها على الولاية الباطنية، خلاف الظاهر كما لا يخفى.(1)
ب) الحديث الثامن: (الخطبة الشقشقية)
في ذيل الخطبة الثالثة من خطب نهج البلاغة للشريف الرضي (قُدّس سِرّه)عن أمير المؤمنين: «أَمَا والَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَوْلَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، ومَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ، أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ، ولَا سَغَبِ مَظْلُومٍ، لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا ولَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا ولَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْز.»
بحثٌ سنديٌّ:
هذه الخطبة وإن رُوِيت مرسلةً في نهج البلاغة كسائر روايات هذا الكتاب؛ ولكن كما فصّل في محلّه إنّ روايات نهج البلاغة كانت مسندة وحُذِفت أسنادها لأجل غرض المؤلف (قُدّس سِرّه)من تأليف كتاب في بلاغة كلمات أمير المؤمنين فقط؛ هذا أوّلًا.
على أن هذه الخطبة، قبل السيد الرضي (قُدّس سِرّه)، قد رواها الصدوق (قُدّس سِرّه) في علل الشرائع ومعاني الأخبار، وفي كلّ منهما بسندين ورواها الشيخ (قُدّس سِرّه) أيضًا بسند آخر في أماليه ورواها المفيد (قُدّس سِرّه) مرسلةً في الإرشاد. وقد حُكم بصحة سند الخطبة واعتبارها بالإسناد المذكور في علل الشرائع ومعاني الأخبار.(2)
ص: 280
وعلى أيّ حالٍ كثرة الطرق وتعدّد الأسناد وقوّة المضمون وإتقان المتن كلها قرائن توجب الاطمئنان باعتبار الخبر.
بحثٌ دلاليٌّ:
هذه الخطبة قد أنشأها أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعد ما ذكرت الخلافة عنده. وقد نصّ وفيها بما هو من ضروريات الإمامية وأصول معتقداتهم من أنّ الخلافة وتولّي الأمور الأمّة كانت حقًّا له قد نهبها وغصبها الآخرون ثمّ في آخر الخطبة، يفصح عن سرّ قبوله للبيعة بعد مقتل الخليفة الثالثة؛ لأنّها كانت وظيفة دينية ومسؤولية الإلهية، قد جعلها الله(عزّ و جلّ) في ذمّة العلماء بعد تحقّق شروط تنجزّها.فقد ذكرأن قبوله للخلافة وتولية للأمور هو العهد الذي أخذه من العلماء أن لايسكنوا ولايسكتوا أبدًا، في قبال الظلم الشديد الذي يأتي به الظالمون على حقوق المظلومين فقوله : «لا يقارّوا على كظّة ظالم» أي على العلماء أن لايصبروا على امتلاء الظالم من المال الحرام، فإنّ قوله: لايقاروا من قارّ يقارّ بمعنى السكون وعدم التحرك يقال: قارّ فلان عمّه أي قرّ معه وسكن. وقوله: كظّة بمعنى الامتلاء وقوله: وسغب مظلوم، السغب: الجوع ومعناه منع المظلوم من حقّه الواجب وقوله: ألقيت حبلها على غاربها، هذا مثلٌ، يُقال: ألقيت حبل البعير على غاربه أي على سنامه ليرعى كيف شاء وأنّى شاء.
ومعنى قوله :«وَلَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْز» فالزهيد أي القليل والعفطة الريح الذي يخرج من أنف المعز.
فبهذه العبارات يبيّن الإمام أن العهد الإلهي على العلماء ثابت للقيام بأخذ الحقوق للمظلوم من الظالم، إذا تحقق الشرط اللازم لهذا القيام. وتنجّزَت هذه الوظيفة والمسؤولية بحضور الحاضر ووجود الناصر؛ فحينئذٍ الحجّة على العالم تتمّ وعليه أن يقوم بواجبه فالناس المظلومون يجب عليهم الحضور ونصرة العالم؛ ولكنّهم إذا عصوا ولم يمتثلوا الأمر بالحضور والنصرة، فلا يمكن للعالم القيام وأخذ الحق.
ص: 281
ولا شك في أنّ المراد من العلماء، ليس كل عالم، بل بمناسبة الحكم والموضوع، يظهر أنّ المراد به العلم بالإسلام وأحكامه وحلاله وحرامه.
فقوله: العلماء صيغة الجمع المحلّى بالألف واللام بعموميته يشمل جميع العلماء والفقهاء الخبراء في الدين الحنيف والجامعين للشروط،في جميع الأعصار والأمصار، ولا يختص هذا بالأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)؛ نعم العلماء هم في الرتبة العليا وفي الصفّ الأول؛ ولكنّ هذا لايمنع من ثبوت الولاية وهذا العهد الإلهي لسائرالعلماء غير المعصومين الذين يقعون في المرتبة الثانية من مرتبتهم والدرجة النازلة عنهم. وإن كان علم الإمام علم لدنّي بحقيقة الإسلام كشفًا وشهودًا وعلم غيرهم من العلماء علمٌكسبيٌّ حصوليٌّ اعتباريٌّ عن اجتهاد ونظر في الأدلّة القرآنية والروايات؛ ولكن عموم قوله العلماء يشمل جميع المراتب.
ولا يقتضي هذا أن يكون العالم غير المعصوم في عرض الإمام المعصوم؛ لأنّ مقتضى الجمع بين هذا الدليل والأدلّة الدالّة على ولاية الأئمة الهداة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أنّ ولاية العلماء غير المعصومين في طول ولاية المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)فمع التمكّن من الإمام المعصوم وبسط يده وحضور الحاضر وتمامية الحجّة بوجود الناصر له، هو يقوم بإدارة الأمور. أمّا مع عدم بسط يده وغيبته، فالأمر موكولٌ إلى العلماء مع تنجّز التكليف في حقهم أيضًا من حضور الحاضر ووجود الناصر لتمامية الحجّة حينئذٍ عليهم.
ومن هنا، يظهر كما سنبيّن في الفصل التالي، أن بقية الناس وانتخاب الأمّة وإن لم يكن له دخلٌ في ثبوت ولاية الأولياء الإلهيين ولكن لا ريب في أنّ حضورهم وبيعتهم وإعلانهم التبعيةَ للوليّ من شروط تنجّز هذه المسؤولية على عائق الولي الإلهي.
لا يُقال: إنّ القيام لأخذ حقّ المظلوم من الظالم لا صلة له بالولاية وتولية أمور الناس، فإنّه لا شك ولا ريب في أنّ أخذ حقوق المظلومين مع مالها من السعة
ص: 282
والتعميم بحاجة إلى القوة والقدرة والسلطة. وأمّا من لا يكون له السيف واليد على الظالم فكيف يستطيع القيام بهذا الواجب؟ وعلى هذا ثبوت الملازمة بين الواجب التكليفي وجعل الحكم الوضعيّ واضحٌ ولا مجال للمناقشة فيه. والله العالم.
قد درسنا في مسائل هذا الفصل الروايات المستدلّ بها لثبوت منصب الولاية للفقيه الجامع. ورأينا أنّ معظمها تامٌّ سندًا ودلالةً بلا شك وريب، كمقبولة عمر بن حنظلة والتوقيع الشريف، وموثّقة علي بن حمزة. وبعضُها تامٌّ دلالةً كرواية تحف العقول، والخطبة الشقشقية، وأمّا بحسب السند فقد أُوردت على هذه الطائفة من الأخبار بعضُالملاحظات؛ ولكن ثمّة مجال لردّ هذه الملاحظات ومعالجتها، بحيث يمكن وصفها بأنّها تامّة السند معتبرةٌ. نعم هناك طائفة ثالثة من الروايات تامةُ السند؛ ولكن في دلالتها على المدّعى مجالٌ للمناقشة والتأمّل ويمكن أن تكون هذه الطائفة مؤيِّدة لما يُراد الاستدلال عليه. والله العالم.
ثم إنّه لو سلّمنا، ورفعنا اليد عن دلالة كلّ واحدٍ من أخبار الطائفة الأولى والثانية؛ ولكن هناك تقريب آخر للاستدلال على المدّعى، وهو الاستدلال بمجموع الأخبار ذكره المحقق النراقي (قُدّس سِرّه) ببيانٍ شافٍ ووافٍ بالمقصود.(1)
وهذا التقريب منه، لا ينظر إلى هذه الأخبار واحدًا تلو آخر ومنفصلًا بعضها عن بعض؛ بل ينظر إليها بنظرةٍ واحدة شاملةٍ جامعةٍ، فإنّه (قُدّس سِرّه) بعد بيان مدّعاه؛ وحاصله أنّ كلّ ولايةٍ ثابتةٍ للنبيّ والإمام الذين هم سلاطين الأنام وحصون الإسلام ، فللفقيه أيضًا ذلك إلا ما أخرجه الدليل من إجماعٍ أو نصٍّ أو غيرهما. وفي مقام الاستدلال على المدّعى، بعد الإجماع، يشرح أنّ الدليل عليه هو
ص: 283
ما صرّحت به الأخبار المتقدِّمة من كونه وارث الأنبياء وأمين الرسول وخليفة الرسول وحصن الإسلام ومثل الأنبياء وبمنزلتهم والحاكم والقاضي والحجّة من قِبَلهم، وأنّه المرجع في جميع الحوادث وأنّ على يده مجاري الأمور والأحكام، وأنّه الكافل لأيتامهم الذين يُراد بهم الرعية.
فإنّ من البديهيات التي يفهمها كلّ عاميٍّ وعالمٍ ويحكم بها، أنّه إذا قال نبيٌّ لأحد عند سفره أو وفاته: «فلان وارثي ومثلي وبمنزلتي وخليفتي وأميني وحجّتي، والحاكم من قِبَلي عليكم، والمرجع لكم في جميع حوادثكم، وبيده مجاري أموركم وأحكامكم، وهو الكافل لرعيَّتي»، من يسمع هذا الكلام يفهم منه أنّ له كلّ ما كان لذلك النبيّ في أمور الرعية، وما يتعلّق بأمّته بحيث لا يشكّ فيه أحدٌ ويتبادر منه ذلك.كيف لا؟! مع أن أكثر النصوص الواردة في حقّ الأوصياء المعصومين المستدلّ بها في المقامات لإثبات الولاية والإمامة المتضمنين لولاية جميع ما للنبي فيه الولاية ليس متضمّنا لأكثر من ذلك»
ثم إنّ المحقق النراقي (قُدّس سِرّه) ولمزيد من التوضيح لمقصوده ومراده ؛ يشبّه المقام بما لو كان حاكم أو سلطان في ناحية وأراد السفر إلى ناحية أخرى وقال إنّ هذه الأوصاف والألقاب المذكورة في روايات الباب في حقّ أحدٍ، فلا يبقى لأحد الشك في أنّه له فعل ما كان للسلطان في أمور رعية تلك الناحية إلّا ما خرج بالدليل.
«ولا يضرّ ضعف تلك الأخبار بعد الانجبار بعمل الأصحاب وانضمام بعض ببعض وورودها في الكتب المعتبرة»
أقول: يُلاحظ أنّه؛ أوّلًا: إنّ الأصحاب فهموا من هذه الأخبار أن للفقيه النيابة العامّة في عصر الغيبة، وثانيًا: أنّهم عملوا وفق هذا المفهوم وهذا المعنى ونفس هذه القرينة حجّة على المدّعى.
ومن هنا، يظهر الجواب عن الملاحظة التي تقول: إنّ هذه الجمل لم تذكر
ص: 284
في سياقٍ واحدٍ؛ بل كلّ جملة منها ذكرت في رواية مستقلّة مع قرينة صالحة لتقييدها.(1)
والجواب هو: إنّ تفرّق هذه الأوصاف والألقاب لا يضرّ بالاستدلال بعد فهم الأصحاب النيابة العامّة منها وعملهم بها. هذا أوّلًا، وثانيًا: إنّ النظر إلى مجموعها يشكّل قرينةً واضحةً على منزلةِ الفقيه في الأمّة الإسلامية في غياب الإمام المعصوم وكما إنّ أدلّة ولاية أمير المؤمنين إذا نُظر إليها متفرّقة مشتّتة قد يُحتمل فيها وجود قرينة متّصلة صالحة لتقييدها، ولكن إذا نُظِر إلى مجموعها يرتفع الشكّ، ويضمحلّ احتمال وجود قرينة صارفة. فكذلك في ما نحن فيه؛ حيث إنّ النظر إلى مجموعها يبيّن رأي الشارع بالنسبة إلى شأن الفقيه ومنزلته، ويكشف عن أنّ دوره دورٌ رساليٌّ وقياديٌّ في حياة المجتمع بالنيابةً عن الإمام الأصيل. والله العالم.
ممّا بحثناه في هذه المسائل من هذا الفصل حول الأدلّة النقلية الدالّة على ثبوت منصب الولاية الفقيه الجامع، يظهر الجواب عمّا ذكره السيد الخوئي رحمه الله في المقام.
فإنه (قُدّس سِرّه) أوّلًا ذهب إلى أنّ الاخبار المستدلّ بها على الولاية المطلقة قاصرةُ السند أو الدلالة؛ وذهب ثانيًا إلى أنّ الفقيه في الأمور الحسبية (وهي الأمور التي لا بدّ من التصدّي لها قربةً إلى الله، ولا يرضى الشارع بإهمالها وتركها)هو القدر المتيقّن لنفوذ التصرّف فيها بنفسه أو وكيله، فإنّ تلك الأمور لا يرضى الشارع بإهمالها، كما لا يحتمل أن يرخّص فيها لغير الفقيه بإدارتها ولا يرخّص الفقيه بذلك، فيستنتج من ذلك أنّ الفقيه هو القدر المتيقن في تلك التصرفات. وأما الولاية فلا. وإذا كان لا بدّ من استخدام مصطلح الولاية، فهي ولاية جزئية
ص: 285
تثبت في موارد محدّدة هي الأمور الحسبية التي لا بد من التصدّي لها ومتابعتها، ومعنى الولاية هنا هو نفوذ تصرفاته فيها بنفسه أو وكيله.(1)
أقول: أما بالنسبة إلى ما ذكره (قُدّس سِرّه) أولًا من قصور سند الأخبار أو عدم تمامية دلالتها، فقد ذكرنا في طي المسائل السابقة أنّ عددًا منها تامٌّ سندًا ودلالةً على أن تقريب الاستدلال الأخير من المحقق النراقي (قُدّس سِرّه) يكفي للجواب عنها.
وأمّا بالنسبة إلى ما ذكره أخيرًا من ثبوت الولاية الجزئية للفقيه في الأمور الحسبية، بمعنى نفوذ تصرفاته فيها بنفسه أو وكيله؛ فهذا القول أقصى ما ذُكِر في المخالفة للمدّعى؛ ولكن بالتأمّل وإعمال الدقّة في هذا الرأي تظهر نقاط مهمّة للبحث حيث إنّ قوله هذا:أولًا: هو موافِقٌ لرأي المجمعين وما اتفقت عليه فتوى أصحابنا من ثبوت الولاية للفقيه الجامع للشروط، في أمور الحسبة، وإن عبّر هو (قُدّس سِرّه) عنه بأنّ الفقيه هو القدر المتيقَّن لنفوذ التصرّف فيه بنفسه أو وكيله وعلى كلا الرأيين لا مجال شرعًا لأحد غير الفقيه لأن يتصدّى لإعمال الولاية فيها.
ثانيًا: لاريب في أنّ إدارة المجتمع وتولّي أمور المسلمين من الأمور الحسبية؛ بل من أهمّها وفي صدرها. فكيف يمكن للشارع إهمالها مع منعه عن الرجوع إلى الطاغوت وأمره بالكفر به؟ وكيف يُحتمل أن يرخّص فيها لغير الفقيه دون الفقيه؟ فالفقيه هو القدر المتيقّن لجواز التصرف فيها؛ فبذلك يثبت أصل المدّعى وهو ثبوت الإذن الشرعي وجواز تصرّف الفقيه في ما يرتبط بأمور المجتمع وسياسته وزعامة أمره. وهذا الإذن الشرعي ثابتٌ للفقيه في عصر الغيبة وزمن بسط يد الإمام المعصوم، بلا حاجة إلى شرط آخر من انتخاب الناس ولزوم بيعتهم له، نعم كما ذكرناه سابقًا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر من شروطها على قدر المستطاع، فهو بقدر ما يستطيع وما يتمكّن من تنفيذ الأحكام وإقامة الحدود الشريعة يتولّى أمور المجتمع.
ص: 286
هذا تمام الكلام في دراسة الأدلة النقليّة الدالّة على ثبوت منصب الولاية للفقيه الجامع للشروط.
وسوف ندرس في الفصل اللاحق أمرين: أوّلهما كيفية تعيين الفقيه الولّي مع تعدد الفقهاء؛ وثانيهما دور الشعب ومدى سلطته في مجال إقامة الحكم الإسلامي.
ص: 287
ص: 288
إشارة:
بعد الفراغ عن ضرورة إقامة الحكم الإسلامي في عصر قبض يد المعصوم، وفي زمان الغيبة في المرحلة الأولى من البحث، ومتابعة البحث في المرحلة الثانية عن الشروط اللازمة للإمامة والقيادة في تلك الظروف وصلنا إلى هذه النتيجة: وهي أنّ ولي أمر الأمّة يجب أن يكون متّصفاً بصفات في مقدّمها العلم والعدالة والكفاءة.
ثمّ في المرحلة الثالثة بدأنا بالبحث في الفصل الأول عن كيفية تعيين ولي الأمر المتّصف بتلك الأوصاف وهل أن ولايته وإمامته بالتنصيب الإلهي والتعيين الشرعي أم بغيره من الطرق كالانتخاب أو الاستخلاف أو التغلّب؟
فوصلنا إلى هذا الجواب كنتيجة للبحث المذكورة في مسائل الفصل الأول من المرحلة الثالثة وهي أنّ الإمام المعصوم قد نصّب بالتنصيب العام: الفقيهَ الجامع لتولّي أمور المسلمين وأنفذ تصرّفاته في مايرتبط بإقامة النظام الإسلامي وتدبير المجتمع وكما إنّ للولي المعصوم، عن طريق التنصيب الإلهيّ، حقّ الولاية على الأموال والأنفس، وكذلك للولي الفقيه عن طريق تنصيب الإمام حقّ الولاية له على المجتمع، غاية الأمر أنّ هذا التنصيب في طول ذلك وبالنيابة عنه. هذه خلاصة ما استنتجنا من الأبحاث السابقة.
والآن نبدأ في مسائل الفصل الثاني بدراسة مسألة تعيين الفقيه الولي في حالة
ص: 289
تعدّد الفقهاء الذين تتوفّر فيهم الشروط، بناء على نظرية التنصيب العامّ. والسؤال الذي يُطرحهنا هو عن كيفية إمكان الجمع بين القول بالتنصيب العامّ للفقهاء، وبين اختيار واحدٍ من هؤلاء الفقهاء المتعدّدين الكُثُر المتّصفين بشروط الإمامة والقيادة الذين قد يبلغ عددهم العشرات ؟
أوّلًا: ترجع جذور مشكلة التعيين تاريخيًّا إلى عصر الشهيد الأول وكيفية تعيين القاضي من بين الفقهاء المتعدّدين، فيقول الشهيد الأول (قُدّس سِرّه):
«وفي غيبة الإمام ينفُذُ قضاء الفقيه الجامع للشرائط، ويجب الترافع إليه، وحكمه حكم المنصوب من قبل الإمام خصوصًا. ولو تعدّد فكتعدّد القضاة. نعم يتعيّن الترافع إلى الأعلم، فإن تساويا فالأورع. ولو كان أحدهما أعلم والآخر أورع، رُجِّح الأعلم».(1)
وهذا الكلام من الشهيد الأول وإن كان صدر عنه في باب القضاء؛ ولكن يمكن تعميم السؤال وعدم تخصيصه بالقضاء، بل هو يشمل ولاية القضاء وسائر الولايات التي نُصِب الفقيه وليًّا عليها. فما هو الطريق لتعيين الفقيه مع تعدّد الفقهاء؟
الطريق الذي يسلكه الشهيد الأول لحلّ المشكل هو الرجوع إلى المرجّحات الواقعية الثبوتيّة من العلم والورع، دون التخيير ودون الرجوع إلى المرجّحات الإثباتية كانتخاب الشعب.
ثانيًا: مشكلة كيفية تعيين الولي الحاكم تاريخيًّا ترجع إلى حوالى مئة وعشرين سنة سابقة؛ إذ أوّل من تعرّض للمشكلة وأسّس بنيان الشبهة هو الشيخ محمد علي الأصفهاني (ت 1318ق) في رسالته المسمّاة ب-«رسالة في الولايات»، وكلّ من جاء بعده وقصد التركيز على المشكل في الحقيقة ما أتى
ص: 290
بشيءٍ جديدٍ، على الرغم من عدم التصريح أحيانًا بأنّ المبدع لبيان الإشكال هو الشيخ الأصفهاني (قُدّس سِرّه) في رسالة الخاصّة بالموضوع.حيث إنّه بعد التصريح بأن الحاكم لا خلاف في ولايته إجماعًا وبالضرورة من مذهبنا وأنّ النصوص في ذلك مستفيضة.(1)
بدأ بالبحث عن حدود ولاية الحاكم وفي سياق بيان موارد ولايته يقول: «ولايتُه في جميع الأمور الراجعة إلى السلطان من جباية الخراج، وتجهيز الجيوش، وسدّ الثغور، وأمثالها؛ إذ لا بدّ من سلطان يتصدّى نظمَ أمورهم. والسلطنة من الأمور التي نعلم عدم رضاء الشارع بتعطيلها، ولا متولّي لها في زمن الغيبة فتنحصر بالحاكم.»(2)
وبحسب رأيه: «الولاية في جميع الأمور الراجعة إلى أمر السلطنة؛ فظاهرُ الأصحاب رجوعها إلى المجتهد، وهو الوليّ فيها، وله أن يقوم بأمورها من جباية الخراج، وتجنيد الجنود، وحفظ الخزائن، وأمثالها؛ والعلّة في ذلك، مضافا إلى الأخبار، أنّ الناس لا بدّ لهم من سلطان ظاهر، وإلّا اختلط أمر معاشهم ومعادهم؛ ولا استقرار للناس في يوم واحد بغير سلطان. والإجماع قائم على عدم سلطنة غير المجتهد، فيتعيّن فيه.»(3)
ثم بدأ بالإشكال والاعتراض على ما تقدّم ذكره من ولاية الحاكم في جميع الأمور الراجعة إلى السلطنة بقوله: «إنّ كل مجتهد سلطان حينئذٍ أو بعضهم معينًا أو غير معيّن؛ لا سبيل إلى واحد من الصور. أما الأوّل فلحكم العقل والعقلاء بقبح جعل السلطانين فضلًا عن سلاطين متعدّدة في مملكةٍ واحدةٍ لأنّ ذلك ينتهي إلى الهرج والمرج لجهة اختلاف الآراء والمذاهب، وإن فرضناهما عادلين لأنّ العدالة لا توجب اتفاق الرأي والعقيدة. وأمّا الثاني، فلأن ذلك البعض إن فُرِض معيّنًا، فلا قائل به؛ على أنّه ترجيح بلا مرجّح. وإن كان غير معيّن فهو مستحيل؛
ص: 291
إذ الولاية صفة عارضة، لا بدّ لها من معروض ومن يتّصف بها فعلا في الخارج، وكلّ واحد من المجتهدين لا بدّ إمّاأن يتّصف بهذه الصفة، فيصحّ إطلاق هذا المنصب في حقّه، أو يتّصف بعدمها؛ إذ لا واسطة بين الإثبات والنفي.
فنقول في جواب من ادّعى سلطنة أحدهم لا بعينه: إن كلّ واحد منهم إن كان متّصفًا بالولاية حينئذ يلزم القسم الأوّل، وهو كون جميعهم سلاطين، وإن كان متّصفًا بعدمها، فيلزم عدم كون أحدهم سلطان؛ لأنّ النفي عن تمام آحاد الأفراد يستلزم النفي عن المجموع.»(1)
وبهذا الإشكال والاعتراض بين الشيخ محمد علي الأصفهاني (قُدّس سِرّه) أنّ القول بثبوت منصب الولاية للمجتهدين في عصر الغيبة يواجه عويصة يجب التخلص منها.
نعم في آخر كلامه يستدرك ويقول: «اللهم إلا أن يقال بأنها وظيفة الأعلم فالأعلم. وفيه أيضًا وجوه من الإشكال فتأمّل جدًّا.»(2)
وبهذا البيان يريد أن يتخلّص عن الإشكال باللجوء إلى المرجّحات والأوصاف الثبوتية والواقعية كما سيظهر الكلام حولها.
ثم من بعد الشيخ محمدعلي الأصفهاني (قُدّس سِرّه) تصدّى بعضالكتّاب لحلّ الإشكال، ولكنّ الملاحظ أنّه أنكر تنصيب الحاكم، وبذلك يكون قد غيّر أساس الفكرة الموجودة في ولاية الحاكم في طول تاريخ الفقه، وخالف معقد إجماع الأصحاب، وما يستفاد من الروايات المستفيضة المرويّة في الباب. وحاصل دعواه أنّ الولاية الثابتة للمجتهد، ليست ولاية إخبارية أخبر بها الشارع، بل هي ولاية إنشائية ينشئها الشعب وتتضمّن الاعتراف بالسيادة للشعب وأنّه هو مصدر السلطة ومانح الولاية.(3)
ص: 292
فبإحداث هذا المصطلح الجديد (السيادة الشعبية أو سيادة الشعب) هو يريد أن ينكر ما اتّفق عليه الأصحاب، وأن يخالف إجماعهم على تنصيب الفقيه من قبلالشارع، وبذلك يذهب إلى رأيٍ مخترع حاصله إعطاء الولاية والسلطة للناس، دون الشارع كما ذهب إليه أهل السنّة بعد النبي الأعظم 2
ثم إنّ هناك بعض التقارير الجديدة للإشكال المذكور أعلاه وإن كانت لا تختلف عما حكينا أعلاه؛ ولكن بتقريب جديد بمحتملات خمسة بدلًا عن السؤال أو الإشكال الذي عرضناه والمبنيّ على الموازنة بين ثلاثة محتملات.
وهذه المحتملات الخمسة هي:
الأوّل: أن يكون المنصوبون هم الفقهاء جميعًا، بنحو العموم الاستغراقي؛ فيكون لكلّ واحدٍ منهم منفردًا الولاية الفعلية والحقّ في إعمالها مستقلًّا.
الثاني: أن يكون المنصوبون هم الفقهاء جميعًا كالاحتمال السابق؛ ولكن مع عدم جواز إعمال الولاية إلّا لواحد منهم.
الثالث: أن يكون المنصوب واحدًا منهم فقط.
الرابع: أن يكون المنصوب الجميع؛ ولكن يتقيّد إعمال الولاية لكلِّ واحدٍ منهم بالاتفاق مع الآخرين.
الخامس: أن يكون المنصوب للولاية هو المجموع من حيث المجموع؛ فيكون المجموع بمنزلة إمامٍ واحدٍ وتثبت الولاية لهم مجتمعين.
وكلّ واحدٍ من هذه الاحتمالات له ما يبطله.
أمّا ما يرد على الاحتمال الأوّل: فهو أنّ اختلاف آراء الفقهاء غالبًا في استنباط الأحكام وفي تشخيص الحوادث والموضوعات مما لا ينكر، فعلى فرض نصب الجميع يلزم الهرج والمرج ونقض الغرض من تأسيس الحكومة.
ص: 293
ويرد على الاحتمال الثاني: أوّلًا: كيف يعين من له الحقّ في التصدّي فعلًا؟ فإن كان ذلك بانتخاب الأمة أو أهل الحل والعقد أو خصوص الفقهاء لواحد منهم صارالانتخاب معيارًا لتعيين الولي، اللهم إلا أن يقال إنّ التنصيب أيضًا مما لا بدّ منه لمشروعية الولاية وانتهائه إلى الله فالنصب للمشروعية والانتخاب لتعيين من له التصدّي فعلًا ولكن نقول على أيّ حال فإنّ غير المنتخب لا يجوز له التدخل. وثانيًا: إن جعل الولاية حينئذٍ للباقين لغوٌ قبيحٌ.
ويرد على الاحتمال الثالث: أنّه كيف يُعيَّن من جُعِلت له الولاية الفعلية؟ فإن لم يكن ثمّة طريق إلى التعيين صار الجعل لغوًا وهو قبيح؛ وإن قيل إنّه بالانتخاب قلنا: يصير التنصيب لغوًا وتنعقد الإمامة بالانتخاب لا به، اللهم إلّا أن يقال بالجمع بينهما.
ويرد عل الاحتمال الرابع وكذا الخامس: أنّه مخالفٌ لسيرة العقلاء والمتشرِّعة وممّا لم يقل به أحد.
فالحاصل أنّ تنصيب الفقهاء في عصر الغيبة؛ بحيث تثبت الولاية الفعلية بمجرّد التنصيب بمحتملاته الخمسه قابلٌ للخدشة ثبوتًا. وإذا لم يصح بحسب مقام الثبوت فلا تصل النوبة إلى البحث فيه في مقام الإثبات. نعم يصح ترشيحهم لذلك من قبل الشارع حتى لا تحوم الأمة حول غيرهم.(1)
تقريب ثالث للمشكل:
ثّمة تقريبٌ آخر للإشكال، لا بأس من بيانه ملخّصًا، وهو أنّه لو قلنا بعموم التنصيب لجميع الفقهاء الذين تتوفّر فيهم الشروط، كان مقتضى ذلك جواز بل وجوبُ تصدّي كلِّ واحدٍ منهم بالوجوب الكفائيّ لشؤون الولاية والرئاسة ووجب قهرًا على الأمة طاعتهم والتسليم لهم؛ بل يجب على كلٍّ من الفقهاء أيضًا طاعة الآخر. هذا إذا أذعنوا بكون الحاكم المتصدّي واجدًا للشرائط وأمّا إذا لم يُذعِنوا بذلك فلا تجب
ص: 294
الطاعة قهرًا، وإن أمكن القول بحرمة التجاهر بالمخالفة. لا يخفى أنّه من هذه النقطة أيضًا ينشأ التشاجر والاختلاف واختلال النظام وفوت المصالح المهمّة.وأما إذا قلنا بعدم التنصيب، وقلنا بكون الفقيه الواجد للشروط أهلًا للولاية، وإنّما تنعقد ولايتهم بالفعل فتستحكم الولاية ويحصل النظام ويدفع الفساد. نعم لو ترك الناس العمل بهذه الفريضة المهمة أمكن القول بوجوب تصدّي الفقهاء الواجدين للشرائط للأمور المعطلة من باب الحسبة.(1)
هذه خلاصة الشبهة العويصة في المسألة، ألا وهي كيفية تعيين الفقيه الوليّ واختياره من بين عددٍ من الفقهاء المؤهّلين لتولّي منصب الولاية.
مقدمة:
ثمّة نظرياتٍ عدّة طُرِحت لحلّ مشكلة تعيين الوليّ من بين الفقهاء المتعدّدين الذين قد يصل عددهم في بعض الأزمنة إلى عشرات الأشخاص. وبالنظر إلى أهميّة كلٍّ من هذه النظريات والأطروحات، سوف نذكر كل واحدةٍ منها لدراستها تفصيلًا
النظرية الأولى: شورى(2) الفقهاء (مجلس القيادة)
نظرية الشورى ترى أنّ القيادة جُعِلت للمجموع، وأنّ هناك مجموعة من الفقهاء تتصدّى لأمر الولاية بدلًا من الشخص الوحيد. وفي هذه النظريّة نقطتان تستحقّان البحث، إحداهما قضية الشورى وتاريخها، والثانية الاستدلال بها لتأييد هذا الحلّ.
ص: 295
لا تحظى هذه النظرية بسابقة تاريخيّة تنسجم معها وتؤيّدها، لا عند الشيعة الإماميّة، ولا عند أهل السنّة نعم في التاريخ الإسلام كلامٌ عن أنّ الخليفة الثانية جعلأمر الخلافة شورى بين عدد من الأشخاص لتعيين الخليفة الثالثة، واختار ستة أشخاص ليكونوا أعضاء في هذه اللجنة. ولكن ثمّة فرق بين تلك الشورى التي أسسها لتعيين الولي والشورى في المقام لإدارة المجتمع وإعمال الولاية لها.
فانعقاد الشورى للإمامة والقيادة لا سابقة لها وغاية ما يرى من جذور الشورى على حدّ الاحتمال نظريًّا في تراثنا العلميّ فقط هو ما ذكره العلامة الحلّي (قُدّس سِرّه) من شورى القضاء؛ حيث إنّه (قُدّس سِرّه) يرى في القواعد: «جواز تعدّد القضاة في بلد واحد، سواء شرّك بينهم بأن جعل كلًّا منهم مستقلًّا أو فُوّض إلى كلّ منهم محلّة وطرفًا، ولو شرط اتفاقهم في حكم فالأقرب الجواز».(1)
فحسب فكرة العلامة (قُدّس سِرّه) إن تعدّد القضاة في بلدٍ واحدٍ يجوز ويُتصوَّر على ثلاثة وجوه، إمّا كلّ واحد منهم مستقلًّا أو تفويض أمر كل محلّة وناحية إلى واحد، وأمّا الطريق الثالث فهو تشريكهما في الحكم؛ لكن هذا في القضاء أمّا في الإمامة والقيادة فلا خبر عن هذا الشكل من أشكال الحكم قبل لا في الواقع ولا في الطرح النظريّ، حتى ما قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران.
أمّا بعد الثورة وكتابة دستور الجمهورية الإسلامية في إيران ففي المادّة السابعة بعد المئة قبل التعديل أشير إلى شورى القيادة في هذا النصّ الدستوريّ: «إذا نودي بأحد الفقهاء الواجدين للشروط المذكورة في المادة الخامسة من هذا القانون مرجعًا وقائدًا من قبل الأغلبية الساحقة للشعب كما حصل مع مرجع التقليد الكبير وقائدة الثورة سماحة آية الله العظمى الإمام الخميني (قُدّس سِرّه)؛ حينئذٍ تقع ولاية الأمر وجميع المسؤوليات المتفرّعة
ص: 296
عنها على عاتق هذا القائد، وفي غير هذه الحالة يقوم الخبراء المنتخبون من قبل الشعب بالمراجعة والتشاور في ما بينهم بشأن جميع الاشخاص الذين يمتلكون الأهليه للمرجعية والقيادة، فإذا وجدوا مرجعًا يمتلك ميزة خاصةًللقيادة يقومون بتعريفه إلى الشعب وإعلانه قائدًا له، وإلا فيقومون باختيار ثلاثة أو خمسة مراجع ممن توفّر فيهم شروط القيادة كأعضاء في مجلس القيادة وتعريفهم للشعب.»
ولكن في النصّ المعدّل للدستور عُدِّلت هذه المادة، ونصّ التعديل على أنّه في فرض عدم وجدان المرجع الواحد الذي يمتلك ميزة خاصّة للقيادة ينتخبون أحد الاشخاص الذين تتوفّر فيهم شروط القيادة ويعلنونه قائدًا.
ما ذكرناه أعلاه كان نظرةً عابرة إلى تاريخ الشورى في التراث الإسلامي والآن يجب أن نبين أصل فكرة الشورى.
صاحب نظرية الشورى يرى أنّ الطريق الوحيد والمشروع لإعمال الولاية في فرض تعدّد الفقهاء هو القول بالشورى وانعقاد مجلس القيادة فإنّ الطريق ينحصر بحسب الحصر العقلي في خمسةٍ أربعةٌ منها غير صحيحة وغير مقبولة، فلا يبقى إلا الطريق الخامس.
وأما الطرق الأربعة الأولى فهي:
1. نفوذ رأي كلّ فقيه على مقلّديه فقط.
وفيه أنّه يؤدّي إلى اختلال النظام والهرج والمرج.
2. نفوذ رأي الفقيه غير المعين للجميع.
وفيه أن هذا محال لأنّ غير المعين ثبوتًا وإثباتًا أمر محال.
3. نفوذ رأي الفقيه المعين كالأعلم.
وفيه أنّ هذا أولًا ترجيح بلا مرجّح، ثانيًا لا دليل على اعتبار الأعلمية، ثالثًا
ص: 297
هناك اختلاف شاسع في ضابطة الأعلمية وفي تعيين مصداقها، رابعًا إنّ كل فقيهٍ يرى نفسهالأعلم يرى استحقاق التدخّل في الأمور فتصير الأمور فوضى وتنجرّ إلى اختلال النظام.
4. نفوذ رأي الفقيه المنتخب.
وهذا أيضًا يؤدّي إلى اختلال النظام والفوضى؛ لأنّ لكل طائفة من الناس الحقّ في انتخاب فقيه فهذا يوجب الضرر النوعي.
ودعوى أنّ المعيار هو الأكثريّة؛ بحيث يتعيّن الفقيه الذي تختاره أكثريّة الناس؛ يرد عليها أوّلًا أنّ رأي الأكثرية لا شرعية له ولا يكون في عرض الأحكام والتشريعيات.
ثانيًا إنّ الأدلّة الدالّة على ثبوت الولاية للفقيه، مطلقة غير مقيدة برأي الأكثرية.
ثالثًا بعد إحراز بطلان هذه الطرق الأربعة، لا يبقى إلّا طريق خامس، وهو القول بنفوذ رأي أكثرية الفقهاء. وهذه عبارة أخرى عن شورى الفقهاء، وهو طريق لحلّ مشكل تعيين الولي الفقيه. أضف إلى ذلك كله أنّ هذا الطريق يسدّ باب الاستبداد بالرأي الذي يتحقق غالبًا في القيادة الفردية.(1)
نظرية الشورى وإن ذكرها بعض المعاصرين كطريق حلّ لعويصة تعيين الفقيه الوليّ؛ ولكن مضافًا إلى عدم وجود تجربة تاريخيّة تستحقّ الذكر لهذه النظرية في واقع التاريخ أو التراث الفقهيّ. وإنّ ذكرها بعض المعاصرين كطريق لحلّ عويصة تعيين الولي الفقيه، ولكن ما واجه إقبالًا من جانب الحوزات والمراكز العلمية والشخصيات الفكرية والفقهية. والسرّ في ذلك
ص: 298
مواجهة هذه النظرية لمشكلات عديدة قد تعلو على أصل مشكلة تعيين الفقيه الولي.
ومن أهم هذه الإشكالات والردود:
أولًا: إنّ هذه نظريةٌ مخالفةٌ لظاهر أدلّة ولاية الفقيه، فإنّ مفادها ثبوت الولاية للجميع على سبيل عموم الاستغراقي، لا أنّ الولاية ثابتة للمجموع على سبيل العموم المجموعي.(1) فلا يمكن اللجوء إليها والموافقة عليها إلّا بعد الضرورة والاضطرار إلى رفع اليد عن ظاهر الأدلّة لأجل رفع الشبهة وإلّا ما دام هناك حلول لرفع الإشكال؛ فلا موجب لرفع اليد عن ظهور الأدلة.
ثانيًا: إنّ نظريّة شورى الفقهاء ومجلس القيادة مخالِفةٌ لما ثبت من التجربة التاريخيّة للأمم الأمم والملل في مجال الأنظمة السياسية والحكومات والدول، ومخالِفة لما جرت عليه سيرة المسلمين؛ بل سيرة العقلاء من وحدة الحاكم ووليّ الأمر. والسرّ في ذلك أنّ إدارة المجتمع ولا سيما في المواقع الخطيرة المهمّة تتوقّف على وحدة مركز القرار لحفظ المصالح والأولويات. وأمّا الشورى والتعدّد فيوجبان تفويت المصالح وضياع الأولويات.
ثالثًا: إنّ ما هو معلومٌ ومعروفٌ من سيرة أئمة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وأحاديثهم
ورواياتهم أنّهم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) مع ما كانوا عليه من شدّة الخلاف والإنكار على سلاطين عصرهم الأنظمة الظالمة وكانوا (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لا يرون لها حظًّا من الحقّ والشرعيّة؛ ولكن مع ذلك كلّه ما تعرّضوا لها من جانب لزوم كون الولاية في الشورى، وأنه لا يجوز الحكم برأي فردٍ واحدٍ، فمن خلال هذه السيرة يُعرف أنّ الشورى والتعدّد ليس من شروط الحكم في مدرسة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في أيّ حال من الأحوال.
رابعًا: في بعض الروايات المنقولة عن الأئمة الطاهرين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أنّ التعدّد
ص: 299
وكون الحكم شورى أمرٌ لا يقرّونه ولا يقبلون به، مثل ما رواه الفضل بن شاذان عن علي بن موسى الرضا(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الرواية المعروفة المفصّلة من قوله: «فإن قال: فلمَ لا يجوز أن يكونفي الأرض إمامان في وقتٍ واحدٍ أو أكثر من ذلك؟ قيل: لعلل منها: إنّ الواحد لا يختلف فعله وتدبيره، والاثنين لا يتفق فعلهما وتدبيرهما.»(1)
وما رُويَ عن أمير المؤمين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) :«الشركة في الملك تؤدّي إلى الاضطراب.»(2)
فهذه الأخبار وإن كان ظاهر بعضها يشير إلى خصوص الإمام المعصوم ولكن بالتأمل في فلسفة الحكم ومغزى الكلام والعلة المشار إليها في بعضها يظهر أنّ الحكم بحاجة إلى وحدة مركز أخذ القرار، وهذا لا ينسجم مع الشورى والتعدّد.
وهذا هو السر الذي دعا لجنة تعديل الدستور في الجمهوريّة الجمهورية الإسلامية، إلى إلغاء فكرة مجلس القيادة من الدستور كما ذكرنا أعلاه.(3)
فبالنتيجة إن التشاور والمشاورة وإن كانت من الأمور المهمّة التي حثّ عليها العقل والكتاب والسنة؛ ولكن نظرية مجلس الشورى ومجلس القيادة المتشكلة من الفقهاء وغير الفقهاء لأخذ القرارات، ولتولّي إدارة المجتمع أمر مخالفٌ لما ذهب إليه العقل والعقلاء، ولما هو معروف من الكتاب والسنة. وفي الحقيقة لا يلزم منه إلا الفوضى واختلال النظام والتفرقة وتفويت الحكم واضمحلال الدولة.
ص: 300
صاحب هذه النظرية وإن كان يناقش جميع الأدلّة المذكورة لإثبات مشروعية الانتخاب لتعيين وليّ الأمر في عصر الغيبة؛ ولكن لحل شبهة استحالة النصب ثبوتًا وكيفية تعيين الفقيه الوليّ في فرض التعدّد يبدي رأيًا في هذ المجال ضمن مقدمات فيقول:
1) إنّ مقتضى الإطلاق الشمولي للأدلة اللفظية لولاية الفقيه ثبوت حقّ الولاية لجميع الفقهاء العدول الجامعين للشروط.
2) في فرض عدم وقوع التزاحم في إعمال الولاية والتصدّي لها، فلا إشكال في جواز التصدّي لمن يقدم على إعمال الولاية، فلا يرى إشكال في البين فأي واحد من الفقهاء الجامعين للشروط بادر إلى استلام زمام الحكم وإعمال الولاية كان على الناس أن يتّبعوه ويطيعوه من دون حاجة إلى الانتخاب.
3) أما في فرض وقوع التزاحم في ما بينهم يتحوّل الإطلاق الشمولي إلى الإطلاق البدليّ، بمعنى وجوب طاعة واحد منهم على سبيل البدل، وذلك بقرينة عقلائية ارتكازية، وهي عدم إمكان الالتزام بالتساقط في فرض وقوع التعارض بين الفقهاء في إعمال الولاية والتصدّي لها؛ لأنّه يؤدّي إلى بقاء المجتمع بلا ولي.
4) الإطلاق البدلي بالمعنى المذكور يؤدّي إلى تخيير الأمّة في انتخاب الولي كمرجّح إثباتي لحلّ التعارض، وأما اللجوء إلى القرعة مثلاً كطريق لحلّ إشكال التعارض، وكمرجّح فلا نذهب إليه؛ لأنّ الأدلّة اللفظية لولاية الفقيه بعد عدم إمكان حملها على الإطلاق الشمولي تنصرف إلى الإطلاق البدلي الموجب للتخيير وانتخاب الأمة.
ص: 301
5) فيتحوّل ظهور الدليل اللفظي على ضوء ما ذكرنا أعلاه إلى التخيير الجمعي الحاصل بالانتخاب العامّ وترجيح رأي الاكثرية.
6) افتراض الترجيح بصفة واقعية بحتة في الولي كالأعلمية والأكفئية من دون دخل لاختيار الأكثرية وانتخابهم إيّاه في ذلك، أمرٌ غير محتمل؛ إذ أوّلًا قد يتفق تساوي فقيهين مثلًا في تلك الصفة الواقعية فنقع مرة أخرى في الفساد؛ وثانيًا إن الترجيح بأمر واقعي بحت إنّما يمكن في العمل الفرديّ كباب التقليد، وكذلك في موارد إعمال الولاية بشكل فردي أو جزئي قبل بلوغ الأمة مستوى استلام زمام الحكم، وأمّا في الولاية على المجتمع فالترجيح بصفة واقعية بحتة غير ممكن؛ لأنّ الناس يختلفون في تشخيص من هو الأكفأ أو الأعلم؛ فنتورّط مرّة أخرى في الفساد الذي ينشأ من تعدّد الأولياء فالتخيير الفردي غير ممكن في باب الولاية العامّة فلا حلّ إلا التخيير الجمعي.
7) فبالنتيجة يتحول ظهور الدليل اللفظي لولاية الفقيه على ضوء ما ذكرنا أعلاه إلى التخيير الجمعي الحاصل بالانتخاب العامّ، وترجيح رأي الأكثرية في فرض التعارض في مجال إعمال الولاية. نعم لكل واحد منهم إعمال الولاية بشكل فردي وجزئي في ما لا يوجب خللًا للنظام والفساد.(1)
إنّ نظرية التخيير الجمعي مع ما لها من الميزات والمزايا للخروج عن الإشكال وبيان الحلّ وفقًا لصناعة الفقاهة وللأصول المقبولة والمدروسة في سبيل الاستنباط الفقهي، ولكن قد يُواجه بعض المناقشات وهي:
أولًا: إنّ هذه النظرية لا تنظر إلى المرجِّح الثبوتي دفعًا للفساد والفوضى، وتلجأ إلى المرجّح الإثباتيّ وهو انتخاب الأمّة، مع أن هناك طريقًا آخر وهو الأولى، ألا وهو أن يُجعل المرجح الثبوتي هو المعيار؛ ولكن لدفع الفساد والاختلاف يلجأ في تعيين المصداق وتشخيص من له المرجح الثبوتي إلى
ص: 302
الانتخاب فبذلك يجمع بين المرجح الثبوتي والإثباتي. وبعبارة أكثر إتقانًا وأدقّ، المعيار هو الترجيح بالصفات في مقام الثبوت؛ ولكنّ طريق الوصول إليه هو رأي الأكثرية، فالمعيار هو الشخص الأصلح بحسب جميع الأوصاف والطريق إليه هو الانتخاب.
ثانيًا: الرجوع إلى رأي أكثرية الناس وانتخاب الأمة في مرحلة واحدة محلّ تأمل ونظر؛ لأنّ تمييز الفقيه الواجد للشروط بحاجة إلى الخبرة والتجربة، وعامّة الناس لا توجد عندهم الصلاحيات اللازمة لتشخيص هذه الأمور المحتاجة إلى التخصص والخبرة.
ثالثًا: إن هناك خلطًا في هذه النظرية بين التشخيص والانتخاب واكتشاف الفقيه الولي واختياره، فإن أردنا أن نقيس محلّ الكلام على باب تقليد الأعلم نرى أنّ المكلف بتشخيص الأعلم يرجع إلى أهل الخبرة وشهادتهم، وليس لانتخابه دورٌ في هذا المجال، نعم إذا كان الأعلم مردّدًا بين شخصين أو عدّة أشخاص، فإنّه بالخيار في اختيار أحدهم مقلَّدًا له ومرجعًا.
وهكذا في البحث عن الفقيه الولي فما هو الواجب في المرحلة الأولى هو تشخيص الواجد للشروط وهو شخص واحد غالبًا. نعم قد يتفق أن يتردّد بين أشخاص متعدّدين، فحينئذٍ للانتخاب والاختيار مجال.
وأما قياس ما نحن فيه على اختيار الماء للوضوء إذا كان هناك عدّة أواني للتوضّؤ منها فمحلّ تأمّل جدًّا.
رابعًا: إنّ نظرية التخيير الجمعي لا تجيب عن سؤال مشروعية سلطة الفقيه وعلاقتها بالانتخاب، وأنّ الانتخاب هل هو جزء لمشروعيّته أو شرطٌ لها؟ أو لا هذا ولا ذلك بل طريق لإعمال الولاية والخروج عن مشكلة التعدّد؟
خامسًا: تطبيق عنوان التعارض على المقام ومحلّ البحث قابلٌ للتأمل؛ لأنّ تعدّد الفقهاء المنصوبين من قبل الشارع لا ينطبق عليه عنوان التعارض، فإنّ قوام التعارضبالتكاذب لأنّ المجعول أمر واحد مع أنّه ليس في ما نحن فيه
ص: 303
تكاذبٌ، ولا شك في أن المجعول هو الولاية لكل شخص جامع للشروط. نعم ما هو قابل للانطباق في محلّ الكلام هو عنوان التزاحم كما سيأتي تفصيله.
يمكن تلخيص حلّ مشكلة تعيين الفقيه الولي، وفق قواعد التزاحم في الأمور الآتية:
أولًا: قبول عموم التنصيب، يعني أنّه لا تعارض ولا تكاذب بين الأدلّة الدالّة على عموم التنصيب؛ لأنّ ذلك يفترض أنّ إنشاء الولاية لأحد الفقهاء لا ينافي إنشاءها للآخر.
ثانيًا: ما يلزم من هذا العموم إنّما هو التزاحم بين هذه الولايات في مرحلة الممارسة الفعلية للولاية؛ حيث إنّ إعمال الولاية بحسب الحقيقة والماهية لا يقبل التعدّد والتكثر.
ثالثًا: إن الحل في باب التزاحم يختلف عن الحلّ المعتمد لرفع التعارض، كما ذكر في كتب الأصول، وهو اللجوء إلى الترجيح على أساس الملاكات، وتعيين ما هو الأهم والأقوى ملاكًا. وبعبارة أخرى الملاك هو المرجح الثبوتي.
رابعًا: في الولاية السياسية المرجّح الثبوتي الأهم هو الفقاهة والتقوى والكفاءة، وبالتالي ينبغي الاعتقاد بثبوت الولاية الفعلية للفقيه الذي تتوفّر فيه هذه الملاكات الثلاثة. وما هو المحصّل منها بصورة أقوى.
خامسًا: إذا اتفقتالأمة واجتمعت على فقيه لاعتقادها أنّه هوالأصلح لتوفّر الملاكات الأهمّ المشار إليها أعلاه فيه، من الأعلمية والأورعية والكفاءة، يتعين له الحقّ في إعمال الولاية. وأما إذا اختلفت الأمّة في تعيين الأصلح ومن هو أوفر حظًّا من ناحية الاتّصاف بالصفات المذكورة، فلا حيلة حينئذٍ إلا قبول
ص: 304
رأي أكثرية الشعب أو الأكثرية بين النخب الاجتماعية وأهل الخبرة؛ وإلا يجب اللجوء إمّا إلى القرعة، وإمّا العمل برأي الأقلية، وإما إهمال أمرالولاية وقبول الفوضى، وإما قبول الولاية الفعلية لأكثر من واحد الأمر الذي ينجرّ إلى الفساد؛ ولا يخفى أن العقلاء لا يعترفون من هذه الطرق الخمسة إلا بالطريق الأول، وهو جعل رأي الأكثرية معيارًا وملاكًا لتشخيص الفقيه الولي وتمييزه من بين الآخرين.(1)
أولًا: لا يخفى أنّ التعبير عن هذه الحالة بمصطلح التزاحم لا يخلو من تسامح؛ لأنّ باب التزاحم الاصطلاحيّ يختص بالتزاحم بين حكمين فيرجّح أحدهما في مقام العمل لأهميّة ملاكه، إذا لم يمكن استيفاء الملاكين فيهما كإنقاد الغريقين، ولا ينطبق هذا المفهوم أي مفهوم التزاحم على محل البحث، فإنّه ليس في المقام إلا ملاك واحد يجب استيفاؤه والإتيان به وهو التدبير وإعمال الولاية.
وهذا الملاك لايمكن استيفاؤه إلا بشخص واحد لعدم إمكان التعدّد والتشتت، وهذا لا يعبر عنه في المصطلح الأصولي لا بالتزاحم ولا بالتعارض. نعم بإمكاننا أن نطلق عليه التزاحم لغةً؛ لأنّ کلّ واحد يزاحم الآخر في تولّي الأمر، ولا يمكن إعمال ولايتهما معًا، بل لا بدّ من امتثال رأي أحدهما دون الآخر أو الآخرين، فحينئذٍ إذا كان هناك عدّة أشخاص يستطيع كل واحد أن يتصدّى لاستيفاء الملاك في واقعة من الوقائع ويمكن أن يتحقق بينهم التزاحم ، وحينئذٍ لا مفرّ عقلًا ولا عقلائيًّ من اللجوء إلى منتتوفّر فيه مرجحات ثبوتية كالأعلمية والأورعية الاقوائية وغيرهما مما يستطيع بها ان يستوفي الملاك بنحو احسن واعلى ويمتثل التكليف المولي ويتحقق أغراضه وأمنياته بنحو أوفي وأكثر.
ص: 305
ثانيًا: هذه النظرية خلافًا لنظرية التخيير الجمعي ترى أن التصويت ورأي الأكثرية لا موضوعية له؛ بل إن رأي الأكثرية طريق لكشف الملاك ومرجح ثبوتي؛ ولكن هذه النظرية لا تجيب عن وجه حجية رأي الأكثرية وجواز التبعية لمختارهم وما اتفقت عليه آراؤهم.
مع أنّ الأقلية أيضًا يرون أنّ من يختارونه هم هو الأصلح وهو الذي تتوفّر فيه ملاكات الترجيح التي تسمح له بإعمال ولايته..
ثالثًا: أضف إلى ذلك كله أن هذه النظرية تواجه بعض الإبهامات من حيث إنّها تعبر عن إعمال الولاية بالولاية الفعلية، مع أنّه بناء على عموم التنصيب، الولاية لكل فقيه واجد للشروط فعليةٌ لا شأنيةٌ ولا اقتضائيةٌ، ولا تتوقّف فعلية ولايته على الانتخاب. على أنّه إذا كانت فعلية الولاية متوقفة على الانتخاب، فما هي الفائدة من جعل الولاية للآخرين. ألا يكون جعل الولاية لأكثر من واحد لغوًا وخلافًا للحكمة الإلهية؟
إشارة: كما بُيِّن في علم الأصول في البحث عن أقسام الواجب، أن الواجب ينقسم إلى قسمين كفائيّ وعينيّ، والكفائي هو الواجب الذي تتعلّق إرادة المولى بتحقّقه بغضّ النظر عن الشخص الذي يأتي به؛ ولذلك لا يتوجّه التكليف به إلى شخص محدّد، بل يُطلب تحقّقه من المسلمين جميعًا فإذا أتى به واحدٌ سقط عن الآخرين واكتُفي به. كمافي الأمر بدفن الميت وتجهيزه حيث إنّ المطلوب وجوده في الخارج من أي واحد من المكلفين.(1)
ثم بعد هذه الإشارة فالنظرية الرابعة تقوم على أساس ركنين: الركن الأول يرتبط بالفقيه وهو وجوب إقامة الحكم الإسلامي عليه كفائيًّا مشروطا بتمام
ص: 306
الحجة بوجود الناصر؛ والركن الثاني: يرتبط بالناس وسيادتهم وما لهم وما عليهم من إعانتهم للفقيه لإقامة الحكم الإسلامي وتحقيق العدل الإلهي.
وأما هذا الركن فشرحه موقوف على بيان أمور:
الأول) إن الظاهر من أدلة ولاية الفقيه كما بينّاه في الفصل الأول من المرحلة الثالثة، هو التنصيب العام على سبيل العموم الاستغراقي لكل فقيه جامع للشروط.
الثاني) إن جعل الولاية للفقيه حكم وضعي يلازم تكليفه بالتصدي لإقامة الحكم وتولّيه الأمور مشروطًا بالتمكن وقدرته على إقامته.
الثالث) حينما يتعدّد الفقهاء الواجدون للشروط فتصدّي جميعهم لإعمال الحكم يوجب الفوضى؛ وما يوجب اختلال النظام والهرج والمرج ليس أصل عموم التنصيب، وجعل الولاية لعدّة من الفقهاء كما زعمه المستشكل؛ فإنه لا تعارض ولا تزاحم ولا تنافي في أصل ثبوت الولاية لهم فإنّ للتنصيب العام مصالح ومنافع كثيرة في طول التاريخ بعد عصر الغيبة؛ بل قبله في زمن قبض يد الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)فبيمن هذا العموم وبركته كان يجوز أن يتصدى كلّ واحد من الفقهاء لإعمال الولاية الجزئية في صقع من الأصقاع كتولية وقف عام، أو حفظ أموال غائب أو قاصر، أو إقامة حكم على واحد وغير ذلك. فما هو مستوجب لاختلال النظام هو التصدي لإعمال الولاية الكلية السياسية في صقع واحد معين من أكثر واحد منهم.
الرابع) إن ممارسة الحكم والتصدّي لإقامة النظام الإسلامي وإن كان واجبًا كفاية على الفقيه؛ ولكن هذا الوجوب من جانب مقيّد بعدم كونه موجبًا لاختلال النظام الإسلامي والهرج والمرج. حيث إن اختلال النظام حرام عينًا وحفظ النظام واجب عينًا على كل مكلّف، والوجوب الكفائي لإقامة النظام مشروط ومقيد بعدم استلزامه للهرج والمرج والفوضى واختلال النظام؛ وإلّا
ص: 307
يحرم القيام به؛ وذلك لأهمية حفظ النظام ملاكًا ومبغوضية اختلال النظام شرعًا ومن جانب آخر أهم وهو أن الوجوب مشروط بحضور الحاضر وتمامية الحجّة بوجود الناصر.
النتيجة: إن تحقق الأرضية المناسبة لتولية الأمور شرط وجوب لإقامة الحكم وتأسيس النظام السياسي في الإسلام وفي هذا الشرط لا فرق بين دولة المعصوم ودولة غير المعصوم من الفقهاء العظام والمؤمنين العدول، فعلى هذا إذا توفّرت الشروط والإمكانيات لإقامة الحكم الإسلامي في المجتمع من جميع الجهات فحينئذٍ فإن كان الشخص الموجود لإقامة الحكم والجامع لجميع الشروط هو الفقيه الواحد فهو يقوم بإقامة الواجب بلا وجود لأي تزاحم وتناقش وتقابل وتعارض في البين؛ ولكن بشرط حضور الحاضر وبيعة الناس وانتخابهم له وإلّا بلا حضور الحاضر وعدم بيعة الناس، فليس عليه تكليف بل لا يبعد القول بحرمة الإقامة عليه إذا انجرّ إلى اختلال النظام والهرج والمرج وتفويت المصالح العليا للمسلمين والإسلام؛ نعم يجب عليه على قدر المستطاع الإرشاد والأمر بالمعروف والدعوة لقيام الشعب به.
وأما إذا كان الفقيه المتّصف بالشروط متعددًا فلا يقدّم لإقامة الحكم من بينهم إلا من تمت الشروط بالنسبة إليه وتحققت الفعلية اللازمة لإقامة الحكم من حضور الحاضر وتمامية بيعة الناس له وتمامية الحجّة عليه؛ فحنيئذٍ هو يبادر لإقامة الحكم وأما غيره فالوجوب الكفائي مع عدم تحقق الفعلية اللازمة وعدم تمامية الحجة بالنسبة إليه في الخارج مرفوع بالنسبة إليه.
هذه الأمور كلها بالنسبة إلى الركن الأول.
لتوضيح المقام وشرح المسألة لا بدّ من أن نذكر أمورًا:
الأمر الأول: إن الإنسان خلق مختارًا مريدًا تكوينيًّا وتشريعيًّا. وهذا معناه سيادة الإنسان وسيادة المجتمع فالمجتمع صاحب السيادة وله السلطة على
ص: 308
شؤونه؛(1)
ولكن في نفس الوقت كما إن هناك أمام الإرادة التكوينية للإنسان حواجز وموانع تسدّه عن الوصول إلى ما يريد، فكذلك إن إرادته الحرّة التشريعية مقيدة بقيود عقلاً وشرعاً؛ حيث إن العقل والأخلاق والقيم والفطرة الإنسانية لا يسمح له أن يقدِم على كل شيء يريده فلا يجوز له يأمر أحد الناس بقتله، أو يجعل نفسه عبدًا لغيره ويجعل نفسه تحت قيمومية آخرين وولايتهم.
هذا حكمٌ يحكم به العقل والشرع، ومن المتّفق عليه بين جميع العقلاء، وأبناء البشر، وقد أثبتنا في البحث عن الأصل في الولاية في المرحلة الأولى أنّ الأصل عدم ولاية أحد على أحد، وأنّ الولاية منحصرة في ذاته تعالى إلا ما خرج بالدليل، كولاية الأنبياء والأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حيث إن ولايتهم تكون بإذنه وتأييده. فعلى هذا سيادة الإنسان والشعب ثابتةٌ له على نفسه عقلًا وشرعًا؛ ولكن تحت إطار معين ومحدّد.
الأمر الثاني: تطبيقاً للأمر الأول لا يجوز للإنسان ولا للمجتمع أن يجعل وليًّا ويختار قيمًا وينتخب حاكمًا على نفسه، إلا إذا كان بإذنه تعالى وتحت إطار القواعد والشروط العقلية والأحكام التشريعية الإلهية والقِيم الأخلاقية، فإذا عيّن شخصٌ بتعيين الإلهي وتنصيب ربّاني للولاية على الأمة كالنبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وأمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يجب على الشعب أن يطيعوه ويقبلونه إمامًا وقيمًا على أنفسهم وأموالهم وشؤونهم،ويجب عليهم أن يعلنوا بيعتهم ويأذنوا بأن رضاهم رضا الله ورضا محمد وآل محمد(عَلَيْهِ السَّلاَمُ).
وهذا بالنسبة إلى دور بيعتهم للمعصوم ورأيهم وانتخابهم له.
الأمر الثالث: فإذا حضر الحاضر وأعلن الجمهور وفاءهم وبيعتهم لمن جعله الله وليًّا عليهم، فحينئذٍ تقوم الحجة عليه وتتحقق الشروط لتولّيه الأمر
ص: 309
وتنفيذ الحكم. كما بين أمير المؤمنين ذلك بوضوح في الخطبة المعروفة بخطبة الشقشقية: «أَمَا والَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْلَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، ومَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ ولَا سَغَبِ مَظْلُومٍ، لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا ولَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا ولَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْز.»
وهذه الرواية كما ذكرناه سابقًا في مقام الاستدلال بها لتنصيب الفقيه معتبرة لا إشكال عليها سندًان وإن رويت مرسلة في نهج البلاغة؛ ولكن بما أنّها رويت في المجامع الأخرى قبل السيد الرضي (قُدّس سِرّه) كالأمالي للشيخ الطوسي، والإرشاد للمفيد، وفي علل الشرائع ومعاني الأخبار للصدوق بأسناد معتبرة فتكون حجة لإثبات سيادة الشعب كما إنها تكون حجة لإثبات ولاية الفقيه بالتنصيب العامّ.(1)
فهذه الرواية بصوت عالٍ تدلّ أولا على ما يجب على الشعب والجمهور من مبايعة ولي الأمر ونصرته وأن يكونوا حاضرين للطاعة والوفاء بالبيعة.
ثانيًا: هذه البيعة وهذا الحضور والنصرة لا تعطي الشرعية الإلهية والولاية وحقّ الحكم إلى ولي الأمر فإنّه يأخذ هذا الحقّ من التنصيب والجعل الإلهي.
ثالثًا: إنّه لولا حضور الحاضر وبيعة الشعب وانتخاب الناس لا تقوم الحجّة ولا يتحقّق شرط وجوب القيام لإقامة الحكم وبسط العدالة وأخذ الحق للمظلوم من الظالم؛ فقيام الشعب والمظلومون لأخذ حقّهم من الظالمين وبيعتهم للولي الإلهي شرطٌ لوجوب قيام ولي الأمر وتأسيسه للحكم وإقامة العدل وتنفيذ القسط، فالتكليفالإلهي والوظيفة الشرعية مشروطةٌ بقيام الحجة بوجود الناصر وحضور الحاضر وإلا فالولي لا يحسب مبسوط اليد فلا شيء عليه.
الأمر الرابع: قضية اشتراط وجوب إقامة الحكم والنظام السياسي الإسلامي بحضور الحاضر قضية مطلقة لا يستثنى منها أيّ دولة من الدول العادلة الحقّة
ص: 310
الإسلامية، سواء كانت دولة الأنبياء (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وحكومة النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، أو دولة أمير المؤمنين أو غيره من الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)وهذا الشرط نفسه يسري على دولة الفقيه ودولة عدول المؤمنين، ففي كلّ دولة من الدول الحقّة الإسلامية المشروعة على جميع مراتبها وأصنافها ما لم يتحقق هذا الشرط، لا يثبت التكليف الإلهيّ على عاتق ولي الامر.
الأمر الخامس: قد أثبتنا في الأمر الرابع أنّ الولي الإلهي يجب عليه القيام بعد تحقق الشرط وحضور الحاضر؛ ولكن متى يجب على الشعب الحضور والبيعة وانتخاب وليّ الأمر، وما هو شرط ذلك؟
وفي الكلام على هذا الشرط تفصيل بين أقسام الدولة الحقّة العادلة الإسلامية.
الصورة الأولى: إن كانت الدولة دولة الأنبياء ومنهم النبي الاعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أو دولة الإمام المعصوم فتكليف الحضور والبيعة ونصرة الوليّ غير مقيد بشرط إلا الشروط العامّة للتكليف من القدرة والعقل. وأما العلم بالولي المعصوم وشخصه، فهو شرط لتنجّز التكليف لا لأصل التكليف كما بُيِّن في محلّه.
الصورة الثانية: إن كانت الدولة متعلقة بغير المعصوم كالفقيه، فهناك شرط آخر لوجوب الحضور والطاعة زائدًا على الشروط العامة، وهو تشخيص الفقيه الواجد للشروط من العلم والعدالة والكفاءة وغيرها من شروط الولاية وتمييزه من الآخرين.
ففي هذه الحالة يجب على الناس تجب الطاعة والانتخاب والبيعة إذا كان الفقيه الموصوف بالصفات اللازمة موجودًا مكشوفًا ومبينًا لديهم بصورة واضحة بلا شك ولا ريب، فحينئذٍ إذا كان الفقيه الواجد لأوصاف الولاية وزعامة الأمة واحدًا فبعد اكتشافهلدى الجمهور وعلمهم بأنّه يليق بالزعامة فحينئذٍ يجب عليهم بيعته وإعلانهم لطاعته وتنفيذ أوامره وتمكّنهم له لإقامة الدولة الحقّة العادلة.
ص: 311
الصورة الثالثة: في صورة تعدّد الفقهاء الواجدين للشروط وإن جُعلت الولاية لهم بالتنصيب العامّ؛ ولكنّ إقامة الدولة كما ذكرنا أعلاه مشروطةٌ بحضور الحاضر وانتخاب الناس؛ نعم، تمكينهم له وحضورهم وبيعتهم هو تكليف عليهم بعد اكتشافهم للفقيه الواجد للشروط. وحينئذٍ بعد رجوعهم إلى أهل الخبرة وبعد التفحّص لاكتشاف ولي الأمر الواجد للشروط حينما يواجهون عددًا من الأشخاص الواجدين لشروط الزعامة والقيادة، فحينئذٍ المتبع هو حكم العقل وسيرة العقلاء، وهو اختيار أحدهم إذا لم يتوفّر أساسٌ للترجيح، وإلا يختار وينتخب ويبايع مع من عنده المرجّحات الآخر الثبوتية من الأعلمية والأورعية والأكفئية وغيرها.
كما إن الأمر في المرجعية والتقليد كذلك، فإن الناس وعموم المكلفين يبحثون ويراجعون إلى أهل الخبرة لتشخيص الفقيه المتصف بشروط المرجعية، فإذا كان المتصف واحدًا يختارونه مرجعًا لهم وإن كان المتصف متعدّدًا يقدّمون الأعلم وإن كان الأعلم في ضمن عدّة منهم يختارون واحدًا منهم للتقليد وأخذ الفتوى هذا في التكليف الفردي. وكذا الأمر في التكليف الجمعي فعند تعدّد الفقهاء بما أن الحكم والسلطة غير قابل للتعدّد فالمجتمع بعد الفحص والبحث عمن عنده المرجّح فينتخبه زعيمًا وقائدًا لتولية الأمر وإن كان في ضمن عدد من الفقهاء فيختار أحدهم للتولية وإن كان هذا الفرض لا يتفق في الخارج إلا قليلًا جدًّا؛ حيث إنّ الزعامة والقيادة بحاجة إلى أوصاف متعدّدة كثيرة قلّما يتفق اجتماعها في شخص واحد.
الأمر السادس: آليات تنفيذ الاختيار والانتخاب حقٌّ للناس، والشعب له السيادة وله حقّ الانتخاب كما عليه التكليف عقلًا وشرعًا للانتخاب ففي طريق تنفيذ هذا الحق وفي سبيل امتثال هذا التكليف:
أولا: على الشعب أن يبحث ويفحص لاكتشاف الولي الجامع للصفات وذاك بالرجوع إلى أهل الخبرة فإذا انتخب الناس عدّة من الخبراء كما يرى في
ص: 312
دستور الجمهورية الإسلامية في ايران،(1) لأجل هذه المهمة فإنهم بعد البحث والفحص إن رأوا أن هناك شخص واحد هو الوحيد اللائق لتولية الأمر وأن الأمر منحصر به، فحينئذٍ عليهم أمران أساسيان:
أحدهما: تعريفه إلى الجمهور والشعب إجابة لما طلبوا منهم في هذا المجال.
ثانيهما: تعيينه واختياره لتولّي الأمور وزعامة الأمة والبيعة له أصالة من عند أنفسهم ونيابة عن الجمهور والشعب؛ حيث إنهم وكلاء الأمة ونوابهم في هذا المجال.
وأما إذا كان أمامهم عدّة خيارات فيلتجئون إلى المرجحات المختلفة وينتخبون واحدًا منهم عن طريق التصويت فيما بينهم ويعلنونه قائدًا ويبايعونه عن أنفسهم أصالة ويبايعونه عن الشعب نيابة. ومن الواضح أن هذا الانتخاب يختلف ماهية عن الانتخاب المذكور في نظرية الانتخاب مقابلًا لنظرية التنصيب كما سيأتي تفصيله في الفصل المقبل حيث إن صاحب نظرية الانتخاب يرى أن الشعب هو المصدر لإعطاء الولاية إلى المنتخب.
وعلى هذا، إن الطريق لتنفيذ الشعب سيادته وحقّه الشرعي والعقلي والعرفي بناء على نظرية التنصيب هو رجوعه وانتخابه للخبراء وتعيينهم وكيلًا ونائبًا عنه أولًا لتشخيص الصالح وكشفه بعد المراجعة والتشاور؛ وثانيًا انتخابه وإعلانه قائدًا.
فلا يرى أي عويصة أو مشكلة بناء على نظرية التنصيب لتعيين زعيم المجتمع من اختلال النظام أو الهرج والمرج أو اللغوية أو غير ذلك من الشبهات والإيرادات. والله العالم.
ص: 313
ص: 314
إشارة:
ذهب بعض، بعد أن رأى بزعمه أنّ القول بالتنصيب قابل للخدشة ثبوتًا أو إثباتًا، إلى نظرية الانتخاب وأن الفقيه غير منصوب للولاية فعلًا؛ بل الفقيه الواجد للشرائط أهلٌ للولاية وصالحٌ لها وأصلح من غيره وإنّما تنعقد ولايته بالفعل بانتخاب الأمة بمرحلة واحدة أو بمرحلتين، فلا محالة يصير الوالي بالفعل من الفقهاء من انتخبته الأمة وفوّضت إليه الامر فعلى هذا الفرض أمر الولاية الفعلية بيد الأمّة، وإن وجب عليهم في مقام الانتخاب رعاية الشرائط التي اعتبرها الشارع في الوالي من الفقاهة وغيرها.(1)
ففي هذا الفصل طيّ مسائل عدّة سوف نبحث عن أدلة هذا الرأي وما أورد عليها وإن كان ما بحثناه في الفصل السابق يغنينا عن ذلك حيث درسنا في ذلك الفصل زعم استحالة التنصيب ثبوتًا، وأثبتنا أنّ النصب العام ممكن ثبوتًا أولًا، وثانيًا أنّه أمر ضروريٌّ على الشارع القيام به والمبادرة إليه، لحلّ أزمات الأمة الإسلامية في جميع الأزمنة والأمكنة في طول عصرالغيبة وحتى في عصرالحضور، وقبض يد الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فالتنصيب العام أمر اقتضته الحكمة الإلهية والربوبية التشريعية الإلهية، وما وجب على الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من تولية أمور
ص: 315
المجتمع وهداية الناس وإرشادهم إلى السعادة، حيث لاسبيل للقيام بهذه الأمور إلا عن طريق التنصيب العام.
ثالثًا قد دلّ على التنصيب العام عددٌ من الأدلّة النقلية من الكتاب والسنة فلا حاجة إلى التكرار وعلى هذا لامجال لنظرية الانتخاب ولاتصل النوبة إلى البحث عنها؛ ولكن مع ذلك لاستيفاء البحث ندرس أدلة هذه النظرية في هذا الفصل باختصار.
العقل الذي هو أمّ الحجج. يحكم بالبداهة بقبح الفوضى والهرج والفتنة ووجوب إقامة النظام تحت ظلّ دولة صالحة عادلة ذات شوكة، ولا يحصل هذا إلا بخضوع الأمة في قبالها والطاعة لها هذا ما حكم به العقل وكلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع.
والدولة لا تخلو من أن توجد بالتعيين والتنصيب من قبل الله تعالى أو بقهر قاهر على الأمة أو بانتخاب الأمة. والأول مفروض العدم، والثاني ظلمٌ على الأمة يحكم العقل بقبحه، فالثالث هو المتعين. ويؤيد ذلك استمرار سيرة العقلاء في جميع الأعصار والظروف على الاهتمام بذلك وتعيين الولاة والحكام بانتخاب ما هو الأصلح والأليق بنظرهم. والله تبارك وتعالى جعل في الإنسان غريزة الانتخاب ومدح عباده على إعمال هذه الغريزة وانتخاب المصداق الأحسن فقال: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ (سورة الزمر: الآيتان 17-18)
لا يخفى ما في هذا الوجه الذي سمّاه بأمّ الحجج من الضعف، فإن حكم العقل يجب أن يكون حكمًا بيّنًا قطعيًّا، بلا تخصيص ولا استثناء.(1) فلو حكم
ص: 316
العقل بضرورة انتخاب الأمة فكيف يجوز من ناحية الشرع؛ بل من ناحية الله تبارك وتعالى التنصيب؟ وكيف يجوز لله تعالى ارتكاب ما يكون مخالفًا لحكم العقل القطعي مع أنّه محال على الله لمخالفته للحكمة؟وعلى هذا فالأقسام الثلاثة المذكورة في الدليل من التنصيب والانتخاب متداخلة وليست دائرة بين النفي والإثبات. ولا تناقض ولا تهافت بين التنصيب والانتخاب، فإن الناس إذا حضروا ورضوا بالمنصوب من قبل الله تبارك وتعالى يصير هو أيضًا منتخب الأمة، وعلى هذا لا يُرى أيّ تزاحم أو تضادٍّ
أو تناقض بين التنصيب والانتخاب.
ومن هذا ظهر ضعف ما قاله من السيرة المستمرة العقلائيّة على الانتخاب؛ فإن السيرة لو كانت هكذا فكيف ارتكب الشارع الحكيم ما هو مخالف لها اللهم إلا أن يُقال كما ذكرنا أعلاه إن العقلاء يرون التنصيب موافقًا مع الانتخاب لا مقابلًا وقسيمًا له.
وأما ما ذكره أخيرًا من الاستناد إلى الآية الشريفة فضعفه واضحٌ جدًّا؛ حيث إنّ الآية أجنبية عن المقام وتدلّ على لزوم اتباع القول الأحسن. وأما الدلالة على لزوم انتخاب الحاكم وإعطائة الولاية كمصداق للأحسن فهي لا إشعار لها بهذا، مع أن أمر الولاية كلّها بحكم الأصل في الولاية بيد الله تبارك وتعالى، والآيه ليست ناظرة إلى هذا الاصل حتى تكون مخصصة أو منافية له في الولاية.
استمرار سيرة العقلاء في جميع الأعصار والظروف على الاستنابة في بعض الأعمال، ومن ذلك الأمور العامّة التي يحتاج إليها المجتمع، ولا يتيسّر لكل فرد فرد تحصيلها فينتخبون لذلك واليًا متمكنًا ويفوضونها إليه. ومن هذا القبيل
ص: 317
إجراء الحدود والتعزيرات وفصل الخصومات، حيث يُفوّض إجراؤها وتنفيذها إلى من يتبلور فيه كل المجتمع وهو الوالي المنتخب. والاستنابة والتوكيل أمر عقلائي استمرّت عليه السيرةوأمضاه الشارع أيضًا كما في نهج البلاغة في كتاب له إلى أصحاب الخراج: «فإنكم خزّان الرعية ووكلاء الأمة وسفراء الأئمة».(1)
مضافاً إلى أنّ هذا الدليل تكرار لجزء من الدليل الأول، وقد بينّا ضعفه، فإنّه يرد عليه أوّلًا: إن هذا الدليل من عجيب الكلام؛ فإن القول بأن الاستنابة والتوكيل أمر عقلائي أمضاه الشارع أمر صحيح وصواب لا غبار عليه، ولكن لا تخفى المغالطة الموجودة في الدليل من تطبيق هذه القضية على المقام، فإن الاستنابة الصحيحة النافذة مشروطة بأن تكون في الأمور القابلة للاستنابة والتوكيل، وأما إذا كان الأمر من الأمور التي لا صلة للإنسان به، وليس من شؤونه؛ بل كانت من شؤون الغير والتصرف فيها، فالتوكيل والاستنابة فيها لا معنى له فإن الإنسان لا يجوز له التوكيل والاستنابة في شؤون الآخرين، ولا شك في أنّ تولية أمور المجتمع وخاصّة ما مثّل به المستدلّ من إجراء الحدود والتعزيرات، وفصل الخصومات ليس من شؤون الإنسان حتى يستنيب أحدًا فيها، بل هذه الأمور، من الأمور الولائية التي هي موكولة إلى الله تبارك وتعالى، وهو الشارع الحكيم، وليس لغيره شأن بالنسبة إليها، فإنّ الإمامة أمر إلهيٌّ من الله تبارك تعالى، وليس للتوكيل فيها مجال وقد ورد في الروايات أن إقامة الحدود إلى من إليه الحكم.(2)
ثانيًا ما ادّعاه من استمرار سيرة العقلاء على انتخاب الوالي للمجتمع في جميع الأعصار والأمصار، أمر يشهد لخلافه ما هو مدوّنٌ في تاريخ البشرية، فإنّ التاريخ، إلا ما شذّ وقلّ، مليء بالحكومات الفاسدة القاهرة المتغلبة على الأمور بالظلم والعدوان والفساد والقتل من الملوك المستبدة الفاجرة،
ص: 318
ويكفي لذلك شاهدًا ما جرى في تاريخ الأمة الإسلامية، من حكومة الأمويّين والعباسيّين والعثمانيّين وسلسلة الملوك الوراثيةكالقاجاريّين والبهلويّين في إيران فكيف يمكن لأحدٍ أن يدّعي استمرار السيرة على الانتخاب؟
فالقول بأن السيرة على ضدّ الانتخاب لعلّه أصح واوفق بما مرّ في التاريخ البشري. نعم في العصور الأخيرة من تاريخ الغرب الأوروبي والأمريكي، يُرى أن الحكومات الانتخابية ظاهرة باسم الديموقراطية وإن كان الواقع هو خضوع اختيار الناس لسلطان المال والدعاية.
نعم ما جرى في التاريخ من السيرة غير القابلة للإنكار في هذا المجال هو أنّ العقلاء طوعًا أو كرهًا في حال عدم التمكن يستسلمون لأمرالحاكم الغالب حقنًا لدمائهم وأموالهم وحفظًا لأنفسهم ودفعًا للفساد واختلال النظام والهرج والمرج. وأمّا الانتخاب فلا سيرة مستمرّة للعقلاء تسمح بنسبتها إليهم.
وأما ما استند إليه في آخر الدليل بكلام أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فأمره أوضح؛ فإنّ أمر عمّال الخراج بيد الحاكم والوالي وليس موكولًا إلى الناس فالمراد من الوكالة في كلامه ليست الوكالة المصطلحة.
بحكم العقل وسيرة العقلاء إنّ الناس مسلّطون على أموالهم، وقد نفّذ الشارع هذا الحكم وصار من مسلمات فقه الفريقين وقد روي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) : «إنّ الناس مسلّطون على أموالهم»
فإذا فرض سلطة الناس على أموالهم، وأن لهم أن يتصرّفوا فيها بما شاؤوا إلا ما حرمه الله فهم بطريق أولى مسلّطون على أنفسهم فإنّ السلطنة على النفس مقدمة رتبةعلى السلطة على المال؛ بل العلّة والملاك لها هي السلطة على
ص: 319
الذات والنفس؛ لأنّ المال نتيجة عملها وفكرها. فالإنسان خلق حرًّا مختارًا مسلّطًا على ذاته، وليس لأحد أن يحدّ حرّيات الأفراد أو يتصرف في مقدراتهم بغير إذنهم وللأفراد أن ينتخبوا الأصلح ويولّوه على أنفسهم، إلا إذا كان هناك إمام منصوص عليه من قبل الله تبارك وتعالى، فلا بدّ من اتباعه. وأما مع عدمه فالمتّبع هو ما يختاره الناس وينتخبونه.(1)
يرد على فحوى قاعدة السلطنة بعد تسليم أصل القاعدة؛ أولًا: أن حجية مفهوم الموافقة وقياس الأولوية مشروطة بكونها قطعية لا يشوبها شك وريب، كما في قوله تعالى: ﴿ولا تقل لهما أفٍّ﴾؛ حيث إن ظهور الآية في الفحوى ظهور بين واضح وإلّا مجرد احتمال الأولوية، لا قيمة له، وهو من القياس الباطل.
ومما يؤيد ذلك كما قيل إنه لو كانت الأولوية قطعية، لكان مقتضاها عدم إمكان نصب أحدٍ للولاية على الأمّة، فإنّه خلاف تلك الأولوية مع أنّ تنصيب الأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) للولاية مقطوع به.(2)
ثانيًا: لو سلّمنا سلطة الناس على أنفسهم؛ ولكن المدّعى ليس ذلك؛ بل المدّعى هو سلطة الناس على أن يسلطوا غيرهم على أنفسهم ويجعلونه قيمًا على أمرهم وهذا أول الكلام؛ فهل تبرّر سلطة الناس على أنفسهم أن يجعلوا أنفسهم رقًّا وعبيدًا للآخرين؟ أو هل يجوز لهم الإذن لأحدٍ من الناس بقتلهم؟ لا يبدو أنّ صاحب الدعوى يوافق على هذه اللوازم.
ثالثًا: القاعدة تدلّ على سلطة الناس على أموالهم وأنفسهم لا على أموال الآخرين وأنفسهم.
ص: 320
الإمامة وتفويض الولاية كما ذهب إليه بعض علماء أهل السنّة عقدٌ كسائر العقود، إيجابه من الأمة وقبوله من الإمام.(1) ويدلّ على صحته ونفوذه مثل قوله تعالى: ﴿أَوفُوا بِالعُقُودِ﴾ (سورة المائدة: الآية 1) وبما أن إقدام الناس على انتخاب الإمام دارج ورائج بين العقلاء وشائع بين القبائل والعشائر والأمم فالآية الشريفة تقتضي باعتباره وصحته؛ لأنها ناظرة إلى العقود العقلائية المتعارفة.(2)
يرد على هذا الدليل: أوّلًا: لو سُلِّم؛ ولكن أدلّة وجوب الوفاء بالعقد لا تقتضي أزيد من وجوب الوفاء بالعقد على خصوص المتعاقدين ولا يدلّ على وجوب الوفاء على غيرهما، فلا تدلّ هذه الأدلّة على وجوب الوفاء والطاعة على الأقلية الذين لم يجري العقد بينهم وبين الإمام .(3)
ثانيًا: تطبيق عنوان العقد المتعارف بين العقلاء على الإمامة والولاية، هو أول الكلام؛ فإن قوام العقود بحسب الحقيقة والماهية بمبادلة ما بين طرفي العقد، فهل يجوز عند العقلاء أن يعقد الإنسان على حرّيته وإرادته ويجعل نفسه مطيعًا وتابعًا لإرادة الغير وتحت قيموميته ولولايته ورقيته؟ فهذا محلّ تأمّل وإشكال؛ بل العقلاءوالعقل يحكمان بعدم صحة عقد الرقية وما شابهه وعقد الإمامة الولاية من هذا القبيل وخارج عن الأمور القابلة للتوكيل والتفويض.
ص: 321
ثالثًا تمامية هذا الدليل موقوفةٌ عل التمسك بسيرة العقلاء والقول بأن الإمامة والولاية عقد متعارف بين العقلاء والشارع، يحكم عليه بالصحة والنفاذ، بعموم أدلة الوفاء بالعقود مع أن إثبات هذه السيرة كما مرّ في مناقشة الدليل الأول والثاني محلّ تأمل ومنع، فليس هناك سيرة عقلائية دالّة على تفويض الأمور إلى الوالي والحاكم، بل السيرة الغالبة في تاريخ البشر وفي جميع القبائل والعشائر والامم هو الاستسلام طوعًا أو كرهًا لمن غلب على الأمر بالقهر أو بالوراثة أو بالشيخوخة أو بالثقافة الدارجة فيما بينهم وأما الانتخاب فلا.
تمسّك بعض علماء أهل السنّة بأدلّة الشورى لإثبات مشروعية الخلافة بعد النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، بّان المسلمين استندوا إلى الشورى لتكون أساسًا للخلافة.(1)
ولكن الشيعة وأتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)ناقشوهم في ذلك بعد التسليم بثبوت النصّ والتنصيب على ولاية أمير المؤمنين والأئمة من ولده (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)هذا بالنسبة إلى عصر الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).
وأما بالنسبة إلى عصر الغيبة فالمستدلّ يدّعي فقد النصّ فتصل النوبة إلى الشورى قهرًا بمقتضي عمومات الشورى،(2) كقوله تعالى: ﴿وَأَمرُهُم شُورَى بَينَهُمْ﴾ (سورةالشورى: الآية 38)، وعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ):«من جاءكم يريد أن يفرّق الجماعة، ويغصب الأمّة أمرها ويتولّى من غير مشورة فاقتلوه فإنّ الله قد أذن بذلك».(3)
ص: 322
وكلمة الأمر في الآية الشريفة وفي الروايات تنصرف إلى الحكومة، أو هي القدر المتيقن منه، فالولاية تنعقد بشورى أهل الخبرة وانتخابهم ويعقبه انتخاب الأمّة قهرًا ولا منافاة بين كون الولاية أمر الله وعهده وبين كونها من أمور الأمة.(1)
أولًا: إن كلمة الأمر وجمعه الأمور مطلق يشمل جميع أمور الناس، ولا اختصاص له ولا انصراف إلى خصوص ولاية أمر الأمّة، إلا إذا كانت هناك قرينة في البين. نعم له معنى آخر في مقابل النهي وجمعه الأوامر. وهذا المعنى بعيد عن الآية؛ فعلى هذا تدلّ الآية على أن من الصفات المحمودة للمؤمنين كإقامة الصلاة والاستجابة للربّ، اعتناء كلّ منهم بشؤون الآخرين بحيث يستفيد كلّ منهم من التشاور مع غيره؛ ليجمع عقل الناس مع عقله، إلا أنّه بعد المشورة فالأمر بيده،(2)فلسان الآية كلسان قوله تعالى: ﴿وَ شَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ (سورة آل عمران: الآية 159)
ثانيًا: لو سلّم دلالة الآية بالعموم وشمولها لولاية أمر الأمة؛ ولكن لا شك في خروج الولاية عن هذا العموم لأنّ الولاية لله تعالى، وللمنصوبين من قبله تعالى من النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) لقوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ (سورة الأحزاب: الآية 6)، وأمير المؤمنين إلى غيره من الأئمة الهداة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)،(3) وفي عصر الغيبة الولاية تختص بالإمام الحجة الثاني عشر وليس للناس في ثبوتها شأن أصلًا؛ فإنها تصرّف في شؤون الغير وهو حرام وباطل، كما عليه عقائد طائفة الإمامية، فلا مجالللتمسك بعموم أدلّة الشورى بعد خروج الولاية عن محلها قطعًا، لا في عصر الحضور ولا في عصر الغيبة. والملاك عند الشك هو التمسك بالأصل في الولاية كما ذكرناه سابقًا في المرحلة الأولى.
ص: 323
ثمّة روايات كثيرة تدلّ على أن الإمامة والولاية تنعقد وتتحقق بانتخاب الأمة.
1- منها ما في نهج البلاغة لمّا أرادوا بيعته بعد قتل عثمان: «دعوني والتمسوا غيري... إن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم، وأنا لكم وزيرًا خير لكم مني أميرًا».(1)
2- ومنها قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حين بيعته: «إنّ بيعتي لا تكون خفيًا (خفية) ولا تكون إلا عن رضي المسلمين».(2)
3- ومنها قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أيضًا حين البيعة: «أيها الناس-عن ملأ وإذن- إن هذا أمركم ليس لأحدٍ فيه حقّ إلا من أمّرتم».(3)
4- ومنها ما في نهج البلاغة: «وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار؛ فإذا اجتمعوا على رجل منهم فسمّوه إماما؛ كان ذلك للّه رضى».(4)
5- ومنها ما في كتاب امير المؤمنين إلى شيعته: «وقد كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) عهد إليّ عهدًا؛ فقال: يا ابن أبي طالب: لك ولاء أمّتي، فإن ولّوك في عافية وأجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم، وإن اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه».(5)
ص: 324
6- ومنها ما في كتاب الحسن بن علي (علیهما السلام) إلى معاوية: «إنّ علیّا لمّا مضی لسبیله ......ولّاني المسلمون الأمر بعده.... ».(1)
7- ومنها ما في كتاب صلح الحسن مع معاوية: «صالحه على أن يسلّم إليه ولاية أمر المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب اللّه وسنة رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وسيرة الخلفاء الصالحين. وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهدًا؛ بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين.».(2)
إلى غير ذلك من الموارد التي يعثر عليها المتتبع.
وليس الغرض هو الاستدلال بكلّ واحد واحد من هذه الأخبار المتفرّقة؛ حتى يناقش في سندها أو دلالتها، بل المقصود أنه يُستفاد من خلال مجموع هذه الأخبار الموثوق بصدور بعضها إجمالاً كون انتخاب الأمة أيضًا طريقًا عقلائيًّا لانعقاد الإمامة والولاية، وقد أمضاه الشارع أيضًا فلا ينحصر الطريق في التنصيب من طرف المقام العالي، وإن تقدّمت رتبته على الانتخاب.(3)
لا ريب في أنّ هذه الروايات والأدلة لو سلّمنا الوثوق بصدور بعضها إجمالا؛ ولكن من جهة الدلالة هي قابلة للمناقشة ولا وجه للتمسك بها لإثبات المدّعى.وذلك لأنّ هذه الأدلّة وردت جدلًا في قبال من لم يسلّم الحق ولا يعتقد بأن أمير المؤمنين وابنه الحسن بن علي (علیهما السلام) إلى سائر الأئمة من ولده (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) هم المنصوبون والمنصوص عليهم للإمامة، فلا يمكن التمسك بها لإثبات أنّ الولاية تثبت بانتخاب الناس، وفي مقابلها الأدلة القطعية العقلية النقلية من الكتاب والسنة تدلّ على أن ولاية تنحصر في الله تبارك وتعالى وأنها عهد إلهي لا يثبت لأحد إلّا بنصّه ونصبه كما ثبت للأنبياء والأولياء (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).
ص: 325
فهذه الأدلة بالنسبة إلى مرحلة ثبوت الولاية لأمير المؤمنين وانتخاب الأمّة وبيعة الناس فلا دلالة لها أبدًا.
نعم بالنسبة إلى مرحلة إعمال الولاية وتنفيذ الأحكام ومقام تولية الأمور فهي تدلّ،(1) على أن هذه المرحلة مرهون بحضور الناس ورضاهم بقبول الولاية وتولّي الأمر، وهذا الأمر بيد الأمة ومن حقوق الناس ولهم السلطة على مقدّراتهم ولهم سيادتهم الذاتية، ولهم حريتهم ولكن هذا الحق وهذه الحرية والاختيار الثابتة تكوينًا وتشريعًا تستفاد منها في إطار حدود وقيود خاصة يرسمها العقل والشرع. وذلك أمر واضح وثابت في جميع الملل والأقوام والثقافات العقلائية فللإسلام أيضًا حدوده الشرعية وقيودها في إعمالها ولهذا يجب عليهم أن يتولّوا ويبايعوا ويطيعوا من أعطاه الإمامة ونصبه وليًّا على أمر الامة.
ومن هنا يظهر أن هذه الأدلّة تدلّ على نفس ما يدلّ عليه قوله في ذيل خطبة الشقشقية: «ولولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر؛ لألقيت حبلها على غاربها...» وقد مرّ البحث عنه في الفصل الثاني.
ثمة آيات وأخبار كثيرة تدلّ بظاهرها على أن البيعة من طرق إنشاء الولاية وعقدها. سنشير في المقام أوّلًا إلى بعضهان وثانيًا نبحث في ماهيتها.
أمّا أولًا:
1- منها قول الله(عزّ و جلّ): ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَنْ
ص: 326
نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ﴾ (سورة الفتح: الآية 10)، والآية تدلّ على أن البيعة بطبيعتها تحتمل كلًّا من الوفاء والنكث.
2- منها قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ (سورة الفتح: الآية 18)
3- منها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ... فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (سورة الممتحنة: الآية 12)
4- و منها ما في نهج البلاغة وإرشاد المفيد: «أيّها النّاس إنكم بايعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي، وإنما الخيار للنّاس قبل أن يبايعوا فإذا بايعوا فلا خيار لهم. وإن على الإمام الاستقامة وعلى الرّعيّة التسليم، وهذه بيعة عامّة، من رغب عنها رغب عن دين الإسلام واتّبع غير سبيل أهله، ولم تكن بيعتكم إياي فلتة».(1)5- و منها ما في نهج البلاغة أيضًا في كتابه إلى لمعاوية :«إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يردّ».(2)
6- ومنها ما في بيعة الإمام الحسن بن علي (علیهما السلام) بعد ما قبض أمير المؤمنين : فقام عبد الله بن العباس فقال: معاشر الناس هذا ابن نبيكم ووصي إمامكم فبايعوه، فاستجاب له الناس فقالوا: ما أحبّه إلينا وأوجب حقّه علينا وبادروا بالبيعة له بالخلافة.(3)
7- ومنها في خبر أبي بصير عن أبي جعفر في أمر القائم(عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ): «فوالله لكأنّي
ص: 327
أنظر إليه بين الركن والمقام يبايع الناس بأمر جديد وكتاب جديد وسلطان جديد من السماء».(1)
إلى غير ذلك مما ورد في بيعة العقبة الأولى والثانية وبيعة أهل الكوفة لمسلم بن عقيل وبيعة المأمون لعلي بن موسى الرضا بولاية العهد.
أمّا ثانيًا فمن جهة الماهية:
لا يخفى أنّ البيع والبيعة، مصدران لباع وحقيقتهما واحدة والذي ينسبق إلى الذهن في ماهية البيعة أنها كانت وسيلة لإنشاء الولاية بعد ما تحققت المقاولة والرضا. وعلى هذا إن هناك طريقان لانعقاد الإمامة بنصب الله ونصب الأمّة.(2)
إنّ دراسة أدلة البيعة ومناقشتها بحاجة إلى مقال وتأليف على حدة؛ ولكن في هذا المجال مختصرًا لا بدّ من أن نشير إلى أن البيعة:أوّلًا: بحسب الماهية فإنّها أمر إنشائي ويدل على هذا اشتراكها اللغوي مع عقد البيع؛ ولكن المنشأ بالبيعة، ليس أصل الولاية؛ بل المنشأ بها الإعلان عن الوفاء والطاعة والقبول للولاية، أو للعهد أو تجديد العهد أو بعض الأمور الأخرى. كما في بيعة النساء ويدلّ على ذلك ما هو معروف من مصاديق البيعة، كبيعة العقبة وبيعة الرضوان للرسول الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وبيعة أبي بكر وبيعة عمر وبيعة عثمان وبيعة أمير المؤمنين وغير ذلك من أقسام البيعة؛ فإن حقيقة هذه البِيعات ما كانت مختلفة وإن كان موردها ومتعلقها قد يختلف من مصداق إلى مصداق؛ ولكن كلها مشتركة في حقيقة واحدة وهي إنشاء الوفاء والإعلام عن الطاعة والقبول.
ثانيًا: بناءً على ما تدل عليه الأدلة الكثيرة القطعية والمتواترة من العقل والآيات القرآنية والروايات المتعدّدة، إن ولاية نبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) والأئمة
ص: 328
المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) كانت بالتنصيب من الله ونصّه على ذلك ولا ريب في أنّ مقتضى هذه الأدلة أن الولاية بالفعل ثابتة لهم من الله تعالى وان تنصيبه لهم هو تمام الموضوع لهذا الاعتبار، لم يشترط ثبوتها لهم بأمر آخر أصلا كالبيعة مثلاً.
ومن لوازم جعل هذه الولاية لهم أنه يجب اتّباعهم وطاعتهم، وكما إن البيعة ليست شرطًا في أصل ثبوت منصب الولاية، فكذلك ليست هي شرطًا في وجوب الطاعة والتبعية.
فلايبقيى لإنشاءالبيعة شيء إلا أمرآخر، وهو أنّ بيعة الناس إعلان وإظهار الاستعداد لامتثال أوامر ولي الأمر. ونتيجة هذه البيعة أن ولي الأمر بعون حضور المبايعين يستطيع ويتمكّن من إقامة النظام؛ ومن تحقيق متعلّق البيعة بما يراه مصلحة للأمة. وبالحقيقة ما هو أثر إنشاء البيعة، وهو من العناوين الإنشائية، هو التمكّن والفعلية وحصول القدرة والسلطة والسيطرة بالفعل على تنفيذ الأمور.وقد يشير إلى هذا العنوان آخر الخطبة الشقشقية حيث يقول: «لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء... لألقيت حبلها على غاربها».(1)
فهذا الحديث المبارك يتضمّن أمرين مهمّين في مسألة إقامة الدولة الإسلامية:
أحدهما: حضور الحاضر الذي بوجوده ونصرته تقوم الحجّة على ولي الأمر، فهذا الحضور يوجب حصول القدرة له على تحقيق الأهداف وتنفيذ الأحكام.
ثانيهما: ما أفاده بقوله «ما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم»؛ فكظة الظالم كناية عن امتلاء جوفه من المظالم التي ظلم بها المظلومين، وسغب المظلوم إشارة إلى شدّة جوع المظلوم والانكسار الذي
ص: 329
يعتريه بظلم الظالم، فهذاعهد إلهيأخذهعلىالعلماءكافّة وفيصدرهمالأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بالأصالة وسائر العلماء والفقهاء بالتبع أن لا يكون لهم قرار وسكون وجلوس في قبال أكل الظالمين وسلب حق المظلومين.
فهذا العهد الإلهيّ المعبّر عنه بالتنصيب وتلك السلطة المحقّقة بالبيعة إذا اجتمعتا تقوم الحجة ويتم التكليف على العالم ووجوب القيام عليه بإعمال الولاية.(1)
فالبيعة ليست شرطًا في إنشاء الولاية ولا دخيلًا في وجوب الطاعة، بل هي ذات أثر في إعلان الوفاء. ومن خلال البيعة يعرف المطيع عن العاصي ويميز الوفي عن غيره، وفائدته أن المبايع بعد إنشاء البيعة طائعًا أو كارهًا ليس له الرجوع ونقض البيعة.
وبعبارة أخرى: إن البيعة من جهة تعدّ من حقوق الناس، جعلها الله لهم وأقرّتها الشريعة الإسلامية. ويدلّ حقّ البيعة على حرية الناس وسيادة الشعب من السلطة على أمورهم ومقدّراتهم.وفي الوقت نفسه، ومن جهة أخرى إنّ إنشاء البيعة وعقدها مقيّدٌ بأحكام تشريعية خاصّة.
فمن جهةٍ، يحرم إنشاء البيعة وإعلان الوفاء وقبول التولية لأهل الظلم والمساعدة على الجور وإقامة دولة الغاصبين والجائرين، فإنّ العقل والنقل قد تضافرا على النهي عن ذلك. ومن جهة أخرى، يجب إنشاء البيعة وإعلان الوفاء وقبول ولاية إمام العدل وإقامة دولة الحقّ التي يرأسها الأنبياء والأولياء (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) المنصوبون من قبل الله تعالى لولاية أمر الناس، ثم بعد تحقق البيعة وإنشاء عقدها، فالبيعة تكشف عن تمام الحجّة للإمام وللناس فعلى الإمام القيام بوظائفته بإقامة الحدود والأحكام، وعلى الناس بعد البيعةالالتزام بمضمونها وعدم نكثها.
ص: 330
وإلى هنا، يتمّ الكلام عن مسائل هام حول فقه الدولة وأحكامها الأساس المهمة وإن كان هناك مسائل أخرى كثيرةٌ بحاجة إلى دراستها نوكلها إلى فرصة أخرى ونسأل الله التوفيق وحسن العاقبة.
ص: 331
ص: 332
يمكن تلخيص حصيلة ما انتهينا إليه في هذه الأبحاث في الآتي:
أ) الأصول المستفادة من المرحلة الأولى للبحث:
1- المراد من فقه الدولة هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية الخاصّة بأمر الدولة ونظام الحكم أو المرتبطة بها من هذه الجهة.
2- لو نظر إلى الفقه كعلم بُني وأُسّس لإدارة المجتمع وتنظيم الأمور الاجتماعية (وهو الذي قد يسمّي بالفقه الحكومي أو الفقه الاجتماعي) في مقابل الفقه الفردي، فعلى حسب هذه الرؤية تكون لجميع الأبواب الفقهية صلةٌ بالحكومة والدولة، وعلى عاتقها مسؤولية تنفيذ الأحكام الشرعية كبرمجة لإدارة المجتمع وفقًا لمعاييرها. وعلى حسب هذه الرؤية ثمّة مزجٌ خاصٌّ بين الفقه والدولة إلى درجة أنّه لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر.
3- لفقه الدولة مبادئه العامة المشتركة مع سائر الأبواب الفقهية ومبادئه الخاصّة به. ومن أهمّ هذه المبادئ: عدم استغناء المجتمع عن الدولة والسلطة والحكم، وأن الولاية والسلطة على النفوس والأموال والأمر والنهي خاصّة بالله تبارك وتعالى، فتنحصر وتختصّ به؛ وبمن أُذن لهم من الأنبياء والأولياء المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).
4- المعيار والملاك في مشروعية الدولة هو الدخول في إطار الإذن الإلهي وفي دائرة الربوبية التشريعية الإلهية.
ص: 333
5- الأصل في الولاية أن لا ولاية لأحد بعد الله تعالى على أحدٍ لتساويهم في العبودية له تعالى. وهذا الأصل لا يحسب من الأصول العملية، ولا يدخل في الأمارات الكاشفة عن الرأي الشرعي المنعكس في الكتاب والسنة؛ بل هذا الأصل مستند إلى حكم العقل الفطري بضرورة انحصار الولاية بالله وحده.
6- من الأمور الضرورية عند كافّة المسلمين والثابتة في الكتاب والسنة وسيرة النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، أن إقامة الدولة وتأسيس نظام الحكم جزء من الإسلام، وأن الزعامةالسياسية للنبيّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) عين زعامته الدينية وأنهما معًا تهدفان لعمارة الدنيا وعمارة الآخرة. وكما كان رسول الإسلام (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) إمامًا وزعيمًا للدعوة الدينية كذلك كان إماما وزعيمًا لتنفيذ دعوته ورسالته وإقامة الحكم الإسلامي.
7- من الإجماعات المتفق عليها بين الخاصّة والعامّة هو ضرورة بقاء الدولة والنظام السياسي التي أسسه النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، من بعد وفاته وعروجه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) إلى الرفيق الأعلى. نعم هناك خلاف شاسع بين أهل السنّة وبين الإمامية في كيفية بقاء الدولة واستمرار النظام السياسي المؤسّس بيد النبي الإسلام (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) فإنّ أهل السنّة ذهبوا إلى أن نصب الإمام واجب شرعي على الأمّة وأن من شروطها الاجتهاد وهي تثبت ببيعة الناس وأهل الحلّ والعقد؛ ولكن الإمامية خالفوهم في جميع ذلك فعلى رأيهم أنّ نصب الإمام واجب على الله تعالى ومن شروطها العصمة وأنها تثبت بالنصّ الشرعي. فعلى حسب معتقدهم تكون الإمامة بعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) مختصّة بالأئمة الاثني عشر المعصومين الطاهرين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).
8- ثمة طائفة من الأدلة العقلية والنقلية تدلّ على ضرورة استمرار النظام السياسي للإسلام ووجوب تأسيس الدولة الإسلامية في زمن قبض يد الأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وفي عصر الغيبة. فمن الأدلة العقلية التي أقامها السيد الإمام الخميني (قُدّس سِرّه)؛ التأمل في التشريعات الإسلامية بطبيعتها، ومنها
ص: 334
ضرورة حفظ النظام وحرمة الإخلال به ومنها ضرورة حفظ ثغور المسلمين من خطر المعتدين وهجوم الأعداء. ومن الأدلة النقلية والأخبار الدّالة على جعل كل ما يحتاج إليه العباد ومنها رواية الفضل بن شاذان الشارحة لفلسفة جعل الإمامة وعلّة تشريعها، ومنها الخطبة الفدكية للصديقة الكبرى فاطمة الزهراء(عَلَيْها السَّلاَمُ) ، ومنها كلام أمير المؤمنين ردًّا على شعار الخوارج وقولهم لا حكم إلا لِله.
9- ثمة بعض الأدلة النقلية ربّما توهم معارضتها للأدلّة الدالّة على ضرورة إقامة الحكم الإسلام كالأخبار الدالة على لزوم السكون وعدم التحرك والروايات الدالّة على حرمة رفع الراية قبل الظهور الحجّة(عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ) ولكن هذه العمومات على تقدير تسليمهايجب رفع اليد عن عمومها لأجل الأدلة المخصّصة والمقيدة لها من القرائن العقلية والنقلية، فهي مختصّة بمي يدّعي الإمامة. فرفع الرّاية إن كان للدعوة إلى النفس والمطامع الدنيوية والشهوات واللذات المادية فصاحبها طاغوت لا يصغى إليه واما إن كان لإقامة الحكم الإسلامي وكان الرافع لها لا يرى لنفسه إمامة من الله بل يرى نفسه تابعاً لولاية الأولياء فهو ليس طاغوتا، فإقامة الحكم الإسلامي مشروع وضروري بالأدلة العقلية والنقلية.
ب) الأصول المستفادة والمستخرجة من المرحلة الثانية للبحث:
10- من الشروط المعتبرة لولاية أمر الأمة في عصر الغيبة هو القدرة العلمية اللازمة على الإفتاء في مختلف الأبواب المعبّر عنها بالفقاهة والاجتهاد المطلق لعدم مشروعية ولاية الجاهل عقلاً ولما ثبت في بناء العقلاء وسيرتهم من إيكال أمورهم المهمّة إلى الخبير العالم بالأمر وتدلّ عليه أيضًا آيات من الذكر الحكيم والروايات الكثيرة المروية عن أئمّة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).
11- الأعلمية المعتبرة في ولي الأمر هي الأعلمية الشاملة والكاملة لاستنباط الحكم الكلي الشرعي الحاصل من قوّة الاجتهاد وملكته والتضلّع في العلوم الرسمية أولا، وثانياً: الدراية الخاصّة بحقيقة الإسلام وروحه السارية
ص: 335
في جميع الأحكام _بالإضافة للإحاطة بالعلوم الرسمية _ الحاصلة من دراسة سيرة النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) والأئمّة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)خاصة حينما كان الحكم بأيديهم وثالثاً: التعرف على المسائل الفكرية والثقافية المعاصرة وخاصة ما يرتبط بالقانون والحقوق. ورابعًا:: الإحاطة العلمية بسائر المعارف الإسلامية من الكلام والعقيدة والتاريخ والتفسير والحديث وغيرها. خامساً: معرفة موضوعات الأحكام وكيفية تطبيقها على الموارد والمصاديق ولما تقتضيه المصالح العامّة للإسلام والمسلمين.
12- الشرط الثاني من الشروط المعتبرة لولاية أمر الأمّة في عصر الغيبة هو العدالة الثابتة بحكم العقل والنقل وبإجماع الخاصّة والعامّة عليه فلا يجوز الركون إلى الظالمين ولا إطاعة الآثم المتلبس بالمعاصي. فلا دين لم دان الله بولاية إمام جائرٍ.13- المراد من العادل هو المستقيم الذي لا يميل شمالاً ولا جنوباً وله الاستقامة الدائمة المطلقة في الإيمان بالله وسلوك طريق الآخرة فهي ملكة أو هيئة نفسانية راسخة باعثة على فعل الواجبات وترك المحرمات ولا يخفى إن المعتبر من ملكة العدالة هو الحال المتعارف في أفراد الناس بحسب الرؤية العرفية لابالدقّة العقلية التي لاتنفك عن العصمة. فالمعيار هو أدني مراتب الملكة الذي يقتضي عادة ملازمة الواجبات وترك المحرمات.
14- العدالة والتقوى المطلوب لقيادة الأمّة الإسلامية تختلف عن العدالة اللازمة لإمامة الجماعة ونحوها وذلك لخطورة هذا المنصب التي لايتحملها كل أحد ما لم تبلغ درجةً من الثقة النفسية؛ فالعدالة المعتبرة لولاية الأمر هي العدالة في أعلى درجتها التي تتلوها العصمة.
15- من الأمور المهمّة في عدالة ولي الأمر هو اعتبار عدم إقباله على الدنيا والحرص عليها وإن كان قد لا ينافي العدالة المعتبرة في إمامة الجماعة. فإن الله(عزّ و جلّ) فرض على أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفاء الناس كي يتبيّغ بالفقير ولا يهيج به فقره.
ص: 336
16- الشرط الثالث، من الشروط المعتبرة في ولي الأمر والحاكم في عصر الغيبة هو الكفاءة وحسن الولاية والمراد به أن يكون له الكفاءة للقيادة والجدارة والأهلية اللازمة للقيام بأعمال الولاية والقوّة والقدرة اللازمة للإدارة المجتمع الإسلامي واعتبار هذا الوصف من الأمور الواضحة عقلاً وعقلائيا، لقبح تفويض الأمور إلى من ليس له المؤهلات اللازمة من القدرة والكفاية. وهناك عدة آيات وروايات تدلّ على اعتبار هذا الوصف.
ج) الأصول المستفادة والمستخرجة من المرحلة الثالثة للبحث:
17- اتّفقت كافّة المذاهب الإسلامية على إن الإمامة والولاية تنعقد عن طريق النصّ والنصب الإلهي غير أنّ الإمامية ذهبوا إلى إن هذا هو الطريق الوحيد للانعقاد الإمامة، وامّا المذاهب الأخرى فتعتقد إن الطريق لا ينحصر بالنصب بل بالبيعةوالانتخاب أو بالاستخلاف أو بالقهر والغلبة ونحوها ايضاً. ولا شك أنّ المقتضي الأدلّة المذكورة في الكتاب والسنة والأصول والقواعد المبيّنة في علم الكلام هو الأول دون الثاني هذا بالنسبة إلى عصر الحضور وبسط يد الإمام .
18- من المجمع عليه عند الإمامية، المصرّح به في كلمات أساطين الفقاهة الإمامية كالشيخ المفيد وأبي الصلاح الحلبي والمحقق الكركي والفاضل النراقي وصاحب الجواهر والمحقق البروجردي والسيد الخميني5أنّ الولاية للفقيه في عصر الغيبة وقبض يد الإمام تثبت بالنص والنصب له ويدلّ على ذلك بعد الإجماع الأدلّة المختلفة من العقل والسيرة ومؤسسة الوكالة الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وتدلّ على ذلك عدّة من الأدلّة النقلية أيضًا كمقبولة عمر بن حنظلة والتوقيع الشريف.
19- من مجموع الأدلّة العقلية والنقلية يظهر أن الفقيه المتصف بالعدالة والكفاءة وسائر الشروط اللازمة لولاية الأمر دوره دور الرسالي والقيادي في حياة المجتمع نيابة عن الإمام الأصيل، وهو منصوب بالنصب العامّ لهذه المهمّة.
ص: 337
20- على تقدير التسليم والقول بعدم تمامية أدلة النصب العام فنقول أنّ إدارة المجتمع وتولية أمور المسلمين من الأمور الحسبية بل من أهمها وفي صدر قائمتها والفقيه هو القدر المتيقّن لجواز التصرف فيه بنفسه أو وكيله كما ذهب اليه السيد الخوئي (قُدّس سِرّه).
21- قد يشكل بأن النصب العام للفقهاء في عصر الغيبة قابل للخدش ثبوتاً فلا تصل النوبة إلى البحث عنه إثباتا نعم يصح ترشيحهم لذلك من قبل الشارع حتى لا تحوم الأمّة حول غيرهم. وهناك عدّة نظريات اختيرت لحلّ الإشكال كنظرية شورى الفقهاء ونظرية التخيير الجمعي ونظرية التزاحم ونظريات أخرى لا يخلو كلّ منها من إشكالات وأسئلة ترد عليها.
22- الحق أن النصب العام لا يواجه أي إشكال ثبوتاً بحسب مقام الجعل والتشريع، نعم في مقام إعمال الولاية والتنفيذ إذا تعدّد الفقهاء الواجدون للشروط، وأراد الجميع أن يتصدى للحكم وإعمال الحاكمية فهذا قد يوجب الفوضى واختلالالنظام وهو حرام شرعاً، وعلى هذا بما أنّ ممارسة الحكم والتصدي لأعمال السلطة من الواجبات الكفائية وهذا الوجوب مقيد بعدم كونه موجباً لاختلال النظام؛ فتحقق الأرضية المناسبة المساعدة لتولية الأمر؛ لوجوب إقامة الحكم. ولا شك في أنّ الأرضية المناسبة تحصل بحضور الحاضر وبيعة الناس وقيام الحجة بوجود الناصر فإذا تمّ حضور الحاضر بالنسبة إلى فقيه فهو يبادر لإقامة الحكم وإعمال الولاية دون غيره من الفقهاء.
23- لولا حضور الحاضر وبيعة الشعب لا تقوم الحجة على الولي المنصوب ولا يتحقق شرط وجوب القيام لإقامة الحكم وبسط العدالة وهذه قضية مطلقة دائمة ولا تستثنى أي دولة من الدول العادلة الحقة منها سواء كانت دولة الأنبياء (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) كدولة يوسف وموسى وداوود وسليمان أو كانت دولة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أو دولة الإمام علي أو دولة الفقيه في عصر الغيبة.
24- إن كانت الدولة متعلّقة بغير المعصوم كالفقيه في عصر الغيبة فحضور
ص: 338
الشعب وبيعتهم ونصرتهم مشروط بتمييز الفقيه الواجد للشروط عن غيره وتشخيصه من بين الآخرين، وحينئذ بعد رجوعهم إلى الخبرة _ إن لم يكونوا من أهلها_ وبعد التفحص والتشخيص؛ فإن كان هناك شخص واحد واجد للشروط فيجب عليهم الطاعة والبيعة والنصرة له وامّا إن كان الواجد للشروط متعدّداً فالمتّبع هو حكم العقل وسيرة العقلاء من اختيار أحدهم إن لم يكن هناك مرجّح، والّا يختار من يثبت له المرجّحات كأن يكون أعلماً وأورعا واكفأً وغيرها.
25- للشعب سيادته وحقه للانتخاب وفي طريق استيفاء هذا الحق؛ عليه أن يبحث ويفحص عن الولي الجامع للشروط وذلك بالرجوع إلى أهل الخبرة وتعيينهم وكيلاً ونائبا عنهم لتشخيص الشخص الصالح للولاية وانتخابه وإعلانه ولياً وقائداً لتولية أمر الأمة.
26- ما زعمه بعضهم بعد تسليم الشبهة الوارد على النصب العام من اللجوء إلى نظرية الانتخاب والقول بأن الفقيه غير منصوب للولاية فعلاً بل له الأهلية فقط وإنما تنعقد ولايته بانتخاب الأمّة؛ هو زعم لا يمكن الموافقة عليه وذلك:
أولا: لما قد أثبتناه من أنّ النصب العام ممكن ثبوتاً بل النصب العام أمر ضروري وواجب على الشارع القيام به وتقتضيه الحكمة الإلهية لحلّ الأزمات الاجتماعية في الأزمنة والأمكنة المختلفة في عصر الغيبة وزمن قبض يد المعصوم.
ثانياً قد تدلّ على النصب العام الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنّة.
ثالثاً الأدلّة القائمة لإثبات نظرية الانتخاب من حكم العقل وسيرة العقلاء وفحوى قاعدة السلطنة وأدلّة لزوم الوفاء بالعقد وعمومات الشورى وأدلّة البيعة وما دلّ على انعقاد الولاية بالانتخاب؛ فكلّ هذه الأدلة مخدوشة سنداً أو دلالة ولا يمكن الاستناد إليها.
27- هناك مسائل فقهية هامّة كثيرة حول الدولة مطلقاً ودولة الحق الإسلامية
ص: 339
خاصّة من حدود صلاحيتها وشروط إعمال الولاية لها وأنظمتها ومؤسساتها وسلطاتها التشريعية والقضائية والتنفيذية ومواردها المالية وكيفية الرقابة على السلطة وآلياتها وغيرها من المسائل التي تحتاج إلى الإكمال في بحثها في كتاب آخر شاء الله تبارك وتعالى نسئل الله التوفيق والعافية وحسن العاقبة بحقّ محمّد وآله الطيبين الطاهرين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ).
وآخر دعوانا ان الحمد لله ربّ العالمين
يوم الجمعة 23 /4 / 1396 ه-.ش.
19 شوال المكرم/ 1438 ه-.ق.
ص: 340
القرآن الكريم
نهج البلاغة، صبحی الصالح.
1. ابن أبي الحدید المعتزلي، عبد الحمید بن هبة الله، شرح نهج البلاغه، تحقیق: محمد أبو الفضل إبراهیم، قم، إیران، منشورات مکتبة آیة الله العظمی المرعشي النجفي، 1385 ه ق.
2. ابن الأثیر، الکامل فی التاریخ، الطبعة الأولی، بیروت لبنان، دار إحیاء التراث العربی، 1408 ه ق.
3. ابن ادریس؛ السرائر الحاوي لتحریر الفتاوي، قم، إیران، دفتر انتشارات اسلامی وابسته به جامعه مدرسین حوزه علمیه قم، 1410 ه ق.
4. ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، مقدمة ابن خلدون، بیروت، لبنان، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، لا تاريخ.
5. ابن طاووس، علي ابن موسی، کشف المحجة، قم، إیران، بوستان کتاب، 1375 ه ش.
6. ابن منظور، لسان العرب، بیروت، لبنان، دار إحیاء التراث العربي، 1408ﻫ.ق
7. أبو الفرج الأصفهاني،مقاتل الطالبیین،مؤسسة الأعلمي ،بیروت،1408 ه.ق
8. أحمد بن فارس بن زکریا، معجم مقاییس اللغة، قم، إیران، ممكتب الإعلام الاسلامی، 1406ه- ق.
ص: 341
9. الأردبیلی، المحقق أحمد، مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان، قم، إیران، دفتر انتشارات اسلامی وابسته به جامعه مدرسین حوزه علمیه قم، 1403 ه ق.
10. الأصفهاني، الخوانساري، محمد باقر، روضات الجنات، قم، إیران، مکتبة إسماعلیان، چاپ اول، 1390 ه ش.
11. الأصفهانی، الراغب، المفردات فی غریب القرآن، بیروت، لبنان، دار المعرفة للطباعة والنشر، 1412 ه ق.
12. الأصفهاني، المحقق، محمد حسین، حاشیة المکاسب، تهران، إیران، المکتبة المحمدیة، 1373 ه ش.
13. الأمیني، العلامة، الغدیر في الکتاب والسنة، بیروت، لبنان، دار الکتاب العربي، 1403ﻫ .ق.
14. الأندلسی، ابن حزم، الفصل فی الملل والأهواء والنحل، القاهرة، مصر، مکتبة الخانجي، 2010 م.
15. الأنصاري، الشیخ مرتضى، المکاسب، قم، إیران، دار الذخائر، 1411 ه ق.
16. الانصاری الشیخ مرتضی،تراث الشیخ الأنصاری ،کتاب المکاسب ،1418ه.ق
17. --------------- تراث الشیخ الأنصاري، رسائل فقهیة، رسالة فی العدالة، قم، إیران، کنگره بزرگداشت شیخ أنصاري، 1414 ه ق.
18. --------------- کتاب القضاء والشهادات، قم، إیران، کنگره بزرگداشت شیخ أنصاري، 1415 ه ق.
19. الإیجی، القاضي عضد الدین عبد الرحمن، شرح المواقف، الطبعة الأولی، بیروت، لبنان، منشورات محمد علي بیضون، دار الکتب العلمیة، 1419 ه ق.
ص: 342
20. بحر العلوم، المحقق محمد، بلغة الفقیه، تهران، إیران، منشورات مکتبة الصادق ، 1403 ه ق.
21. البحرانی، السید هاشم، البرهان فی تفسیر القرآن، قم، إیران، مؤسسة البعثة، 1374 ه ش.
22. البخاري الجعفي، محمد بن إسماعیل، شرح وتحقیق: الشیخ قاسم السماعي الرفاعي، صحیح احادیث الأنبیاء، الطبعة الأولی، بیروت، لبنان، دار القلم، 1407 ه ق.
23. البروجردي، السید حسين، البدر الزاهر فی صلاة الجمعة والمسافر، تقریر أبحاثه بقلم الشیخ حسین علي المنتظری، قم، إیران، دفتر آیت الله منتظری، 1416 ه ق.
24. الجزیري، عبد الرحمن، الفقه علی المذاهب الأربعة، مبحث شروط الإمامة، بیروت، لبنان، دار الثقلین، 1419 ه ق.
25. جعفر پیشه، مصطفی، فقه المرجعیّة و الولایه، قيد الطبع
26. جعفریان، رسول، دوازده رساله فقهی در باره نماز جمعه در روزگار صفوی، قم، إیران، انتشارات أنصاریان، الطبعة الأولى، 1381 ه ش.
27. الحرّاني، ابن شعبة، تحف العقول عن آل الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، قم، إیران، جامعة المدرسین، 1404 ه ق.
28. الحسیني الحائري، السید کاظم، ولایة الأمر فی عصر الغیبة، قم، إیران، مجمع اندیشه اسلامی، 1424 ه ق.
29. الحلبي، أبو الصلاح، تقي، الدین الکافي في الفقه، إیران، أصفهان، کتابخانه امام امیر المؤمنین (علیه السلام)، 1403 ه ق.
30. الحلي، العلامة، حسن بن یوسف بن مطهر الأسدي، تذکرة الفقهاء، قم، إیران، مؤسسة آل البیت (علیهم السلام، 1414 ه ق.
ص: 343
31. ------------------- کشف المراد فی شرح تجرید الاعتقاد، قم، إیران، مؤسسة النشر الإسلامي، 1407 ه-. ق.
32. الحنبلي، القاضي أبي یعلی محمد بن الحسین الفرّاء، الأحکام السلطانیة، الطبعة الثانیة، مکتب الإعلام الإسلامي، 1406 ه ق.
33. الخمیني، الإمام السید روح الله الموسوي، المکاسب المحرمة، قم، إیران، مؤسسه تنظیم ونشر آثار امام خمینی (رحمة الله علیه)، 1415 ه ق.
34. -------------------، الحکومة الإسلامیة (ولایة الفقیه)، تهران، إیران، مؤسسة تنظیم و نشر تراث امام خمینی، 1429 ه-.ق.
35. -------------------، کتاب البیع، قم، إیران، مؤسسه مطبوعاتی إسماعیلیان، لا تاريخ.
36. -------------------، تحریر الوسیلة، تهران، إیران، مؤسسة تنظیم و نشر آثار الإمام الخمینی، 1421ﻫ.ق.
37. ------------------، صحیفة امام، چاپ اول، تهران، ایران، مؤسسه تنظیم و نشر آثار امام خمینی، 1378 ه ش.
38. الخوئي، السید أبو القاسم الموسوي، التنقیح فی شرح العروة الوثقی، المقرِّر میرزا علي الغروي، لا مكان، 1418 ه ق.
39. -------------------، معجم رجال الحدیث، لا مكان، 1413 ه ق.
40. -------------------، موسوعة الإمام الخوئي، قم، إیران، مؤسسة إحیاء آثار الإمام الخوئي، 1418 ه ق.
41. الداوري، الشیخ مسلم، التقیة فی فقه أهل البیت، الطبعة الثانیة، دار الهدی، 1426 ه ق.
ص: 344
42. ------------، أصول علم الرجال بین النظریة والتطبیق، الطبعة الأولی، قم، إیران، مؤسسة المحبین للطباعة والنشر، 1426 ه.ق.
43. الزحیلي، وهبة، الفقه الإسلامي وأدلّته، پیشاور، پاکستان، مکتبة فریدیه، لا تاريخ.
44. الزمخشری، جار الله، أساس البلاغة، بیروت، لبنان، دار صادر، 1979 م.
45. السید ابن طاووس، إقبال الأعمال، بیروت، لبنان، مؤسسة الأعلمي، 1417ﻫ.ق.
46. الشریف المرتضی، علی بن الحسین الموسوي، الشافي في الإمامة، الطبعة الثانیة، حققه: السید عبد الزهراء الحسیني الخطیب، تهران، إیران، مؤسسة الصادق للطباعة والنشر، 1426 ه ق.
47. الشهرستاني، محمد بن عبد الکریم، الملل والنحل، بیروت، لبنان، مؤسسة ناصر للثقافة، 1981 م.
48. الشیرازي، السید محمد حسین، الفقه، الموسوعة الاستدلالیة فی الفقه الإسلامی، قم، ایران، مؤسسة الفکر الإسلامي، 1407 ه ق.
49. الشیرازي، السید مرتضى الحسیني، شوری الفقهاء، بیروت، لبنان، مؤسسة الفکر الإسلامي، 1411 ه. ق.
50. الصدوق، الشیخ محمد ابن بابویه القمي، معاني الأخبار، قم، ایران، دفتر انتشارات جامعه مدرسین حوزه علمیه قم، 1403 ه. ق.
51. --------------------، عیون أخبار الرضا، تهران، إیران، نشر جهان، 1378 ه. ق.
52. --------------------، من لا یحضره الفقیه، قم، إیران، انتشارات اسلامی وابسته به جامعه مدرسین حوزه علمیه قم، 1413 ه ق.
ص: 345
53. -------------------، الخصال، قم، إیران، جامعة المدرسین، 1362 ه. ش.
54. --------------------، علل الشرائع، قم، إیران، مکتبة الداوري، 1385 ه. ش.
55. الصفار، محمد بن حسن، بصائر الدرجات، قم، إیران، مکتبة آیت الله المرعشي، 1404 ه. ق.
56. الطباطبائی، السید محمد حسین، المیزان فی تفسیر القرآن، الطبعة الثالثة، تهران، إیران، دار الکتب الإسلامیة، 1397 ه. ق.
57. الطباطبائي، السید محمد کاظم الیزدي، العروة الوثقی، تهران، المکتبة العلمیة الإسلامیة؛ لا تاريخ.
58. الطبري، محمد بن جریر، تاریخ الأمم والملوك، الطبعة الخامسة، بیروت، لبنان، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1409 ه. ق.
59. الطوسي، الخواجة نصیر الدین، کشف المراد فی شرح تجرید الاعتقاد العلامه حلي، صححه الأستاذ حسن زادة الآملی، قم، إیران، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة، 1407 ه ق.
60. الطوسي، الشیخ أبو جعفر محمد بن الحسن، التهذیب ، الطبعة الأولی، صححه: علي أکبر غفاري، تهران، إیران، مکتبة الصدوق، 1376 ه. ش.
61. ---------------------، العدّة، قم، إیران، چاپخانه ستاره، 1417 ه ق.
62. ---------------------، الأمالي، تهران، إیران، کتابچی، 1376 ه ش.
63. ---------------------، التبیان فی تفسیر القرآن، بیروت، لبنان، دار إحیاء التراث العربي، 1417 ه. ق.
ص: 346
64. عالم، عبد الرحمن، بنیادهای علم سیاست، إیران، تهران، نشر نی، چاپ بیست و هفتم، 1394 ه-.ش.
65. العاملي الحسیني، السید محمد جواد، مفتاح الکرامة فی شرح قواعد العلامة، قم، إیران، انتشارات اسلامي جامعه مدرسین حوزه علميه قم، 1419 ه. ق.
66. العاملي، الشیخ حسن زین الدین، معالم الدین فی الأصول، قم، ایران، مؤسسة الفقه للطباعة والنشر، 1418 ه ق.
67. العاملي، الشهید الأول، الدروس الشرعیة فی فقه الإمامیة، قم، ایران، انتشارات جامعه مدرسین حوزه علمیه قم، 1417 ه ق.
68. العاملي الحرّ، الشیخ محمد بن الحسن، تفصیل وسائل الشیعة إلی تحصیل مسائل الشریعة قم، إیران، مؤسسة آل البیت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، 1409 ه ق.
69. علي، عبد الرازق، الإسلام وأصول الحکم، القاهرة، مصر، دار الکتاب المصري و دار الکتاب اللبناني، 2011 م.
70. الفاضل الدربندي، المولی ، خزائن الأحکام فی بیان ولایة الفقهاء بعد فقد النبي والأئمة، رسائل فی ولایة الفقیه، تحقیق:محمد کاظم الرحمن ستایش ومهدی مهریزي، قم، ایران، انتشارات دفتر تبلیغات اسلامی، 1425 ه ق.
71. الفیومی، أحمد بین محمد المقري، المصباح المنیر، قم، ایران، مؤسسة دار الهجرة، 1414 ه ق.
72. القمي، الشیخ عباس، سفینة البحار ومدينة الحکم والاثار مع تطبیق النصوص الواردة فیها علی بحار الأنوار، تهران، إیران، مؤسسه انتشارات فراهانی، 1402 ه ق.
ص: 347
73. القمي، المؤمن محمد، الولایة الإلهیة الإسلامیة، ج 2، قم، ایران، دفتر انتشارات اسلامی وابسته به جامعه مدرسین حوزه علمیه قم، 1425ه ق
74. کاشف الغطاء، الشیخ جعفر، کشف الغطاء، قم، ایران، دفتر تبلیغات اسلامی حوزه علمیه قم، 1422 ه ق.
75. الکتاني، السید محمد عبد الحی، نظام الحکومة النبویة المسمی التراتیب الاداریّة، تحقیق عبد الله خادمي، بیروت، لبنان، الطبعة الثانیة، شرکة دار الأرقم بن أبی الأرقم، لا تاريخ.
76. الکرکي، علي بن الحسین (المحقق الثاني)، رسائل المحقق الکرکي، قم، ایران، کتابخانه آیت الله مرعشی نجفی، 1409 ه ق.
77. الکلیني، الشیخ، محمد بن یعقوب، الفروع من الکافي، تحقيق: محمد جواد درایتي ومحمد حسین، قم، إیران، دار الحدیث للطباعة و النشر، 1429 ه ق.
78. -------------------، الأصول من الکافي، تهران، إیران، دار الکتب الإسلامیة، 1407 ه ق.
79. ،اللنکراني، الفاضل محمد، تفصیل الشریعة فی شرح تحریر الوسیلة، قم، إیران، مرکز فقهی أئمه أطهار (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، 1429 ه ق.
80. المامقاني، العلّامة عبد الله، تنقیح المقال في علم الرجال، قم، إیران، مؤسسة آل البیت لإحیاء تراث أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)1389 ه ش.
81. الماوردي، علي بن محمد بن حبیب، البصري البغدادي، الأحکام السلطانیة والولایات الدینیة، الطبعة الثانیة، قم، إیران، مرکز نشر مکتب الإعلام الإسلامی، 1406 ه ق.
82. المجلسی، العلامة محمد باقر، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، بیروت، لبنان، دار إحیاء التراث العربي، 1403 ه. ق.
ص: 348
83. -----------، مرآة العقول، تهران، إیران، دار الکتب الاسلامیة، 1404 ه ق.
84. -----------، روضة المتقین فی شرح من لا یحضره الفقیه، قم، إیران، مؤسسه فرهنگی اسلامی کوشانبور، 1406 ه. ق.
85. مجموعة من کبار أساتذة الفقه الإسلامي، موسوعة الفقه الإسلامي المقارن، الشهیرة بموسوعة جمال عبد الناصر الفقهیة، القاهرة، مصر، المجلس الأعلی للشؤون الاسلامیة، 1386 ه ق.
86. المراغی، السید میر عبد الفتاح ، العناوین، قم، إیران، دفتر انتشارات اسلامی وابسته به جامعه مدرسین حوزه علمیه قم، 1417 ه ق.
87. مشروح مذاکرات شورای بازنگری قانون اساسی جمهور اسلامی ایران، چاپ قدیم و جلسه30، ص1228، چاپ جدید.
88. المشهدی، الشیخ محمد بن محمد رضا القمي، تفسیر کنز الدقائق وبحر الغرائب، الطبعة الأولی، قم، إیران، مؤسسة الطبع و النشر وزارة الثقافة والإرشاد الاسلامي، 1361 ه ش.
89. المفید، الشیخ محمد بن محمد بن النعمان، الإرشاد، قم، إیران، کنگره شیخ مفید، 1413 ه ق.
90. ----------------------، المقنعة، قم، إیران، کنگره جهانی هزاره شیخ مفید، 1413 ه ق.
91. المنتظری، الشیخ حسین علي، دراسات في ولایة الفقیه وفقه الدولة الإسلامیة، قم، إیران، نشر تفکر، 1409 ه ق. المؤمن القمي، الشیخ محمد، الولایة الإلهیة أو الحکومة الإسلامیة، الطبعة الأولی، قم، إیران، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة، 1428 ه ق.
92. النائني، المحقق میرزا حسین، منیة الطالب فی حاشیة المکاسب، تهران، إیران، المکتبة المحمدیة، 1373 ه ش.
ص: 349
93. النجفي، الشیخ محمد حسن (صاحب الجواهر)، جواهر الکلام في شرح شرائع الإسلام، بیروت لبنان، دار إحیاء التراث العربي، لا تاريخ.
94. النراقي، المولی أحمد، عوائد الأیام، رسائل فی ولایة الفقیه، قم، إیران، دفتر تبلیغات إسلامي حوزه علمیه قم، 1417 ه ق.
95. النعماني، ابن أبي زینب، الغیبة، تهران، إیران، نشر صدوق، 1397 ه ق.
96. النوري، المحقق، مستدرک الوسائل، بیروت لبنان، مؤسسة آل البیت علیهم السلام، 1408 ه ق.
97. الهلالي، سلیم بن قیس، کتاب سلیم بن قیس الهلالي، قم، إیران، الهادي، 1405 ه ق.
98. الهمداني، المحقق آقا رضا، مصباح الفقیه، کتاب الخمس، قم، إیران، مؤسسة الجعفریة لإحیاء التراث و مؤسسة النشر الاسلامی، 1416 ه ق.
99. المتقی الهندي، علی، کنز العمال فی سنن الاقوال و الافعال، حققه: الشیخ بكري الحياني، تصحیح وفهرسة:الشیخ صفوة السقا، مؤسسة الرسالة، تاریخ النشر، 1401 ه ق.
ص: 350