مکارم الأخلاق و رذائلها

هویة الکتاب

مکارم الأخلاق و رذائلها

كاتب: الخامنه اي، السید علي، رهبر جمهوری اسلامی ایران

مؤلفين آخرين

جامع: عاشور، علی

تعداد جلد: 2

لسان: العربية

الناشر: مؤسسة التاريخ العربي - بیروت - لبنان

سنة النشر: 1428 هجری قمری|2008 میلادی

ص: 1

المجلد 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

مکارم الأخلاق و رذائلها

نويسنده: خامنه ای، علی، رهبر جمهوری اسلامی ایران

سایر نویسندگان

گردآورنده: عاشور، علی

ص: 3

ص: 4

مقدمة

بسم اللّه الرحمن الرحيم، و الحمد للّه ربّ العالمين و الصلاة و السّلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد و على آله الطيبين الطاهرين و بعد:

إنّ شخصية القائد أدام اللّه عزّه و سيرته الذاتية مشعل هداية و نور لمن أراد السير و السلوك نحو اللّه سبحانه و تعالى، فقد تعرّض سماحته للكثير من المفاهيم المهمة و القضايا الحساسة في خطاباته و بياناته و لم تنظم في كتاب مستقل، إذ مسؤولية تولّي أمور المسلمين و تتبع شؤونهم و حماية مصالحم و مقدساتهم لها همّها الكبير.

و حاولنا من خلال مراجعة مجموعة من محاضرات ولي أمر المسلمين حفظه المولى التي ألقاها في مناسبات مختلفة و على عدة سنوات (18 سنة و نيف)(1)، أن نستخرج منها عدة عناوين أخلاقية مختلفة، و قد تم تنظيمها بشكل و ترتيبها ثم تهذيبها لتصبح كتابا مهنيا يستفيد منه القارىء كلّ على حسب حاجته و مشربه.

و حاولنا قدر الإمكان إخراج الكتاب عن كونه مجموعة محاضرات و بمناسبات عدة الى كونه كتابا علميّا مهنيّا يحمل طابع التأليف و التحقيق، و ذلك بحذف كل ما لا ربط له بالموضوع المبحوث، أو تقديم بعض الكلام و تأخير البعض، أو تهذيب بعض المطالب، مع الحفاظ على مصدر المحاضرة في الهامش.

نشكر كل من ساهم في نشر هذا الكتاب و نخصّ بالذكر سماحة الشيخ محمد طحيني الذي أفادنا بملاحظاته القيّمة حول الكتاب.

ص: 5


1- و التي كانت تطبع مترجمة على شكل بيانات خطابية في قم المقدسة من قبل دار الولاية للثقافة و الإعلام طيلة هذه السنوات.

و نسأل اللّه تعالى أن يحفظ السيد الولي و أن يلهمنا الصفاء في متابعة إعداد هذا الكتاب إنّه ولي التوفيق، و الحمد للّه رب العالمين و نشكره على ما أنعم علينا من فضله الدائم، و صلّى اللّه على سيدنا محمد و على آله الطيبين.

ص: 6

وصية القائد بالكتاب

الكتاب و إصلاح ثقافة المجتمع

الكتاب الهادف يجب أن ينشر من أجل إصلاح الثقافة العامة، و كذلك الأفلام يجب أن تنتج لإصلاح الثقافة الإسلامية العامة. و على كل إذاعة أن تعمل دوما من أجل الثقافة العامة، كما يجب على العلماء و أئمة الجمعة و الخطباء و المبلغين و الكتاب المحترمين - في أية مسؤولية كانوا - أن يبذلوا جهودهم و مساعيهم من أجل هذا الأمر المهم، فمجموعة تقوم بتحليل الامور، و اخرى تتدبر في آيات الكتاب العزيز، و مجموعة تتولى شرح و بيان كلمات المعصومين عليهم السّلام.

كما يجب أن يكون عموم توجّه الصحافة نحو إصلاح الثقافة العامة، و على المؤسسات المختصة بشؤون التبليغ و الإعلام كمنظمة الإعلام الإسلامي و المؤسسات التابعة لها أن تبذل جهودها في إتجاه إصلاح الثقافة العامة أيضا.

إنّ الشعوب المسلمة تمتلك الأرضية في هذا المجال، و ميزة المشاريع الأساسية أن تبقى مرتكزة في نفوس الناس و تنتقل من جيل إلى جيل و تصبح جزء من فطرة أبناء المجتمع، و حتى لو أن الناس انفصلوا عنها برهة من الزمن فإنهم - و بأدنى حركة - سيعودون مباشرة الى فطرتهم و الى تلك الخصال الإسلامية التي اكتسبوها.

و يجب البحث و اكتشاف الأهم و الأقوى و الأكثر أصالة في المجال الأخلاقي ليبتدأ به كأولوية، و من ثم العمل على نشره و تركيزه، كما يجب السعي الى أن تكون كافة

ص: 7

النشاطات في هذا المجال متمركزة، و يجب على أصحاب الفكر و القلم و الشعر و الفن أن يدعوا و يروّجوا لهذه الأولويات الأخلاقية، كما تقع المسؤولية في هذا المجال على عاتق العلماء الأعلام في شتى أنحاء العالم الإسلامي و بمختلف مذاهبهم و أطيافهم.

إنّ الأهداف الإسلامية و التعاليم النبوية تشمل كافة الامور الفردية و الإجتماعية و لا يوجد نقص في أي موضوع ثقافي أو أخلاقي، فالإسلام دين الكمال و الرقي و التقدم، و لو تم إنجاز هذا المشروع (إصلاح الثقافة العامة في المجتمع) فسيتمكن المسلمون في أي بقعة من الوصول الى أهدافهم الحقيقية تلك(1).

و أمّا الأخلاق الإلهية و المكارم الأخلاقية فقد وضّحتها و فصّلتها الشريعة الإسلامية المقدسة، سواء ما يتعلق منها بالإنسان ذاته كالصبر، و الشكر، و الإخلاص، و القناعة، أو ما يتعلق منها بصلاته مع الآخرين كالتسامح، و التواضع، و الإيثار، و تكريم الناس، أو ما يتعلق منها بعموم المجتمع الإسلامي.

للأخلاق الإسلامية مجال واسع. و هي تلك الامور نفسها التي تركّزت معظم جهود الأنبياء عليهم السّلام و الأولياء و الشخصيات الكبرى في الأديان الإلهية، و كذا في الإسلام تركزت جهود الرسول الأعظم و الأئمة الأطهار عليهم السّلام على بنائها. و لا شكّ أنّ هذه الامور لا تنال في ظل الحكومات الجائرة إلاّ بشق الأنفس، كما ذكرنا من قبل...

يجب أن نبدأ نحن و الخطباء و المثقفون و الكتاب و من بيدهم وسائل الإعلام، و غيرهم لتعليم و إشاعة الأخلاق بين الناس؛ ليكون اللّه أيضا عونا لكم، و ليرضى قلب صاحب الزمان عنكم و عنّا، و تكون الهداية الإلهية معنا بإذن اللّه، و لتحظى روح إمامنا الكبير الخميني (رحمة اللّه عليه) من هذه الحركة الأخلاقية بالفيض و الرحمة(2).

ص: 8


1- من كلمة ألقاها في: 11 صفر 1416 ه
2- من كلمة ألقاها في: 27 رجب 1417 ه

باب مكارم الأخلاق

المكرمة الأولى

بناء الذات

الخطوة الأولى و المهمة في طريق بناء الذات هي أن ينظر المرء إلى نفسه و أخلاقه و سلوكه نظرة انتقاد فيرى عيوبه بدقة و وضوح ثم يسعى للخلاص منها؛ و هذا ما يسعنا إنجازه، فهو تكليف ملقى على عواتقنا.

تراحموا فيما بينكم كي يرحمكم اللّه، و على من كانت أيديهم مبسوطة أن لا يمدوها عدوانا على مصالح و ثروات الآخرين، و لا يستغل من توفرت لديهم الفطنة و الذكاء و الإمكانيات و القوة و المسؤولية و شتى القدرات، أن لا يتلفوها للعدوان على من سواهم.

لنجعل من أنفسنا عبيدا لله مكلفين بمداراة سائر عباد اللّه و الإحسان إليهم و البر بهم و إلتزام الإنصاف أزاءهم، إذ ذاك سيغمرنا الباري بوابل رحمته و فضله فيطهّرنا و تنهمر علينا مواهبه، و هذا - بطبيعة الحال - تكليفنا جميعا، بيد أن مسؤولية أصحاب القدرة و المنصب و الثروة و ذوي الكلمة النافذة بين الناس تفوق من سواهم في قبال هذا العبء الثقيل؛ عبء بناء النفس و كبح جماح الشهوات عن التعدي على

ص: 9

الآخرين(1).

أولياء اللّه قدوة في السلوك

إنّ التشبّه بالأكابر و الانتساب إلى الأولياء من عمل أذكياء العالم. كل امرئ يبحث عن اسوة له، لكن التوفيق لا يحالف الجميع في انتهاج منهج الصواب عند البحث عن الاسوة.

لو سألت بعض الأشخاص في هذا العالم عن الشخصية التي أثارت انتباهه و اجتذبته إليها، تجده يقتفي أثر اناس وضيعين و تافهين أمضوا أعمارهم في عبودية هوى النفس و لا يتقنون سوى ما يغتر به المغفّلون و هو لا يتعدى إلهاء بعض السذّج و الغافلين فتصبح أمثال هذه الشخصيات قدوات للناس العاديين في هذا العالم.

البعض يقتدي بشخصيات سياسية و تاريخية و ما شابه ذلك و يتخذها اسوة له لكن أذكى الناس من يتخذ أولياء اللّه اسوة و قدوة له؛ لأنّ من أبرز الخصائص التي يتسم بها أولياء اللّه أنهم على درجة من الشجاعة و القوة و الإقتدار بحيث يصبحون أسيادا على نفوسهم لا عبيدا أذلاء لها.

ينسب إلى أحد الفلاسفة و الحكماء القدماء أنه قال للاسكندر المقدوني: أنت عبد عبدي.

فتعجب الإسكندر من قوله و غضب عليه. فقال له: لا تغضب؛ فأنت عبد شهوتك و غضبك؛ إذا طلبت شيئا أو غضبت، اضطربت و لم تصبر، و هذه عبودية للشهوة و الغضب، أما أنا فسخرتهما حتى صارا عبدين لي.

قد تكون هذه القصة حقيقية، و قد لا تكون كذلك. إلاّ أنّها صحيحة بالنسبة لأولياء اللّه و الأنبياء العظام عليهم السّلام، و معالم طريق الهداية الإلهية للبشرية، و من الأمثلة عليها

ص: 10


1- من كلمة ألقاها في: غرة شوال 1422 ه - طهران.

يوسف، و ابراهيم، و موسى عليه السّلام.

و هناك أمثلة متعددة لذلك في حياة أولياء اللّه. و أذكى الناس هو من يتخذ هؤلاء الأكابر و هذه الشخصيات الشجاعة المقتدرة اسوة، و يكسبون لأنفسهم عن هذا الطريق أسباب الإقتدار و العظمة باطنيا و معنويا.

و فيما بين هؤلاء الأولياء و الأكابر أنفسهم توجد شواخص مميزة. و لا شكّ أنّ أبا عبد اللّه الحسين عليه الصلاة و السّلام من أبرز هذه الشواخص.

حقا يجب القول أنّ نور الحسين بن علي و أهل بيته عليهم السّلام يسطع كالشمس لا علينا نحن الناس الترابيين الصغار فحسب بل و على كل عوالم الوجود و أرواح الأولياء و الأكابر، و الملائكة المقربين، و على جميع عوالم الوجود المتداخلة في بعضها، المعروفة أو المجهولة بالنسبة لنا. و من مشى في هدي نور هذه الشمس فقد جاء بعمل كبير سام(1).

ص: 11


1- من كلمة ألقاها في: 3 شعبان 1417 ه

ص: 12

أخلاق النبي و أهل بيته عليهم السّلام

أخلاق النبي الشخصية

لقد اجتمعت فيه كافة صفات الإنسان الكامل، و لسوف أتحدث عن جانب من مميزاته الأخلاقية باختصار إلاّ أن المرء يحتاج إلى ساعات و ساعات ليدخل إلى العالم الأخلاقي الذي تفرد به الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله.

إن العديد من الكتب و المؤلفات تزخر بالقدر الوافر من الحديث حول أخلاق النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله؛ و الذي سأورده هنا اقتباس من مقالة لأحد العلماء المعاصرين - و هو المرحوم آية اللّه الحاج السيد أبو الفضل الموسوي الزنجاني - بصورة مختصرة و مفيدة.

دعونا نقسّم أخلاق النبي باختصار إلى «أخلاق شخصية» و «أخلاق حكومية»، أي أخلاقه كإنسان و أخلاقه و مميزاته و سلوكه كحاكم. و هذا بالطبع غيض من فيض، لأن شخصيته تشتمل على الكثير من المميزات البارزة و الجميلة و التي ليس بوسعي الآن إلاّ الاقتصار على بعضها.

لقد كان النبي صلّى اللّه عليه و آله رجلا أمينا و صادقا و صبورا و حليما، كما كان شهما و حاميا للمظلومين على الدوام؛ فمن حيث الصدق كان سلوكه مع الناس قائما على الصدق و الإخلاص و الوفاء. كما كان طيّب القول، و كان يتجنب الإساءة و التجريح. و كان عفيفا و معروفا لدى الجميع بالعفّة و الحياء و النجابة في ذلك الجوّ الأخلاقي الفاسد

ص: 13

الذي كان يخيم على الحجاز قبل الإسلام، فلم يقترف الخبائث في مرحلة شبابه.

ثم إنه كان من المتميزين بنظافة الظاهر، حيث كان نظيف الملبس و الرأس و الوجه، و امتاز بحسن السلوك. كما كان النبي صلّى اللّه عليه و آله شجاعا لا تفتّ من عضده كثرة العدو، و كان صريحا لا يقول إلاّ الصدق، و كان زاهدا و حكيما في حياته، كما كان رؤوفا متسامحا كريما يتجنب الثأر و الانتقام، و كان من صفاته الرحمة و المداراة، كما كان ذا أدب جمّ لا يمدّ رجله أبدا في محضر الآخرين و لا يسخر منهم. كما كان الحياء صفته، فكان يستحي من ملامة الناس و يطأطئ رأسه خجلا و حياء، و مواقفه في ذلك تشرق بها صفحات التاريخ.

و كان رحيما و غاية في التسامح و العبادة. و كانت كل هذه الخصال متجسّدة في شخصية الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و آله في شتى مراحل حياته منذ صباه و حتى وفاته في الثالثة و الستين من عمره. و سأبسط الحديث في بعض هذه الخصال.

و كما كان الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله معتمدا حيث كان يعمل بالتجارة في الجاهلية - كما ذكرنا - و كان يسافر إلى الشام و اليمن و يسهم في قوافل التجارة و يشارك الآخرين.

و يقول أحد الذين شاركوه في زمن الجاهلية لقد كان أفضل شريك لي، فلم يكن يعاند و لا يجادل و لا يلقي بعبئه على كاهل الآخرين، و لا يتعامل مع الزبائن بسوء، و لا يبيع لهم بثمن باهظ، و لا يكذب عليهم؛ فقد كان صادقا أمينا. و لهذا أعجبت به السيدة خديجة و هي السيدة الأولى في مكة و كانت شخصية بارزة في الحسب و النسب و الثراء.

طلاقة وجه النبي صلّى اللّه عليه و آله

و كان يعامل الناس معاملة حسنة؛ فقد كان دائما طلق الوجه أمام الناس، و لم يكن يبدي لهم ما يعتمل صدره من هموم و أحزان. كما كان يسلّم على الجميع، و عند ما كان يؤذيه أحد، فإنه لم يكن يشتكي مع ظهور آثار ذلك الأذى على ملامحه.

ص: 14

و كان لا يسمح لأحد أن يسبّ الآخرين في مجلسه، و لم يكن هو نفسه يسبّ أحدا أو يتحدث بما يسي الآخرين.

و كان يداعب الأطفال، و يعطف على النساء، و يحنو على الضعفاء، و يمازح أصحابه و يجاريهم في سباق الخيل(1).

الأخلاق الحكومية للنبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله

و أما خلقه كحاكم، فقد كان عادلا و مدبّرا؛ فالذي يقرأ تاريخ هجرته إلى المدينة، و تلك الحروب الشعواء بين القبائل، و تلك الغزوات الوحشية القبلية، و إخراج العدو من مكة إلى الفيافي، و تلك الضربات المتوالية، و ذلك الصراع مع العدو المعاند، فإنه سيلاحظ مدى ما كان يتّصف به من تدبير شديد و حكيم و شامل بما يبعث على الدهشة، ممّا لا مجال لديّ الآن للإسهاب فيه.

كان صلّى اللّه عليه و آله شديد الرعاية و الحفاظ على القانون، و لم يكن يدع أحدا ينقض أحكام الشريعة أو يفرّط بالقانون، فضلا عن نفسه، و كان يعتبر نفسه خاضعا للقانون كما ينصّ القرآن على ذلك، فكان يطبق القانون على نفسه كما يطبقه على من هم سواه بلا أدنى تجاوز.

و عند ما غزا المسلمون بني قريظة فأسروا رجالهم و قتلوا خائنيهم و غنموا أموالهم و متاعهم، فإن بعض أمّهات المؤمنين و منهن زينب بنت جحش، و عائشة، و حفصة، قلن للنبي صلّى اللّه عليه و آله: يا رسول اللّه، لقد غنمنا كل هذه الأموال من اليهود فاجعل لنا نصيبا فيها، إلاّ أنه لم يذعن لقولهن مع حبه و احترامه لهن، و مع أن أحدا من المسلمين لم يكن ليعترض عليه. فلمّا زاد إلحاحهنّ فإنه صلّى اللّه عليه و آله اعتزلهنّ شهرا كاملا على غير ما يتوقع منه. ثم لم يلبث أن نزلت آيات سورة الأحزاب الشريفة: يٰا نِسٰاءَ اَلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ

ص: 15


1- من كلمة ألقاها في: 7 صفر 1241 ه - طهران.

كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّسٰاءِ (1) يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوٰاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَلْحَيٰاةَ اَلدُّنْيٰا وَ زِينَتَهٰا فَتَعٰالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَرٰاحاً جَمِيلاً * وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلدّٰارَ اَلْآخِرَةَ فَإِنَّ اَللّٰهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنٰاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (2) فدعاهنّ الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله إلى الزهد و احترام القانون.

و من خلقه أيضا كحاكم صلّى اللّه عليه و آله إنه كان يرعى العهود، و لم ينقض عهدا له أبدا.

و عند ما نقضت قريش عهده فإنه ظل راعيا له، و كذلك كان الحال مع اليهود الذين نقضوا عهده غير مرة.

كما كان صلّى اللّه عليه و آله حافظا للسر؛ فعند ما خرج لفتح مكة فإنه لم يعلم أحدا بوجهته، فعبّأ الجيش بأجمعه ثم أمرهم بالخروج. و عند ما سألوه: إلى أين؟ فإنه أجابهم: سيتضح ذلك فيما بعد. فلم يخبر أحدا بأنه قاصد مكة، لدرجة أن أهل مكة لم يعلموا بقدومه حتى اقترابه منها!

و من أهم مميزات سيرة النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه لم يكن ينظر إلى أعدائه نظرة واحدة؛ فالبعض كانوا له أعداء ألدّاء، لكنه كان لا يمسّهم بسوء إذا لم يجد منهم خطرا. و أمّا الذين كان يلمس خطرا فيهم فإنه كان يراقبهم و يقف منهم على حذر كعبد اللّه بن أبيّ.

فلقد كان عبد اللّه بن أبيّ منافقا من الطراز الأول، و كان يتآمر على الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، لكنّ الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله اكتفى بوضعه تحت الرقابة حتى آخر حياته.

و قد مات ابن أبيّ قبل وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله بفترة وجيزة، لكنه صلّى اللّه عليه و آله تحمله حتى النهاية.

لقد كان أولئك من الذين لا يشكلون خطرا شديدا على النظام و الحكومة و المجتمع الإسلامي، و لكنه صلّى اللّه عليه و آله كان شديدا على من يشكلون خطرا جسيما. إن ذلك

ص: 16


1- سورة الأحزاب: 32.
2- سورة الأحزاب: 28-29.

الرجل الرحيم المتسامح هو الذي أمر بقتل الخائنين من بني قريظة - و كانوا عدّة مئات - في يوم واحد، و هو الذي أخرج بني النضير و بني قينقاع و فتح خيبر، و ذلك لما كانوا يمثلونه من خطر.

لقد عاملهم الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله برفق لدى قدومه إلى المدينة، لكنهم خانوه و طعنوه من الخلف و تآمروا عليه و هدّدوه.

إن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله تحمل عبد اللّه بن أبيّ، و تحمل يهود المدينة، و فتح صدره لمن استجار به و من لم يؤذه من قريش، كما عفا عن أهل مكة عند الفتح و فيهم أبو سفيان و أمثاله من كبار رجال مكة، حتى إنه أعطى بعضهم شيئا من الإمتيازات لأنهم لم يعودوا يشكلون خطرا(1).

و لكنه مع ذلك تعقّب فلول الأعداء الألدّاء الذين لمح فيهم الغدر و الخطر و الخيانة و قمعهم بشدّة.

و قد كان هذا خلقه صلّى اللّه عليه و آله كحاكم و قائد؛ فكان شديدا على الكفار رحيما بالمؤمنين(2)، و خاضعا و مطيعا لأمر اللّه و عبدا له بمعنى الكلمة، و كان حريصا على مصالح المسلمين.. و لم يكن ما تقدّم سوى خلاصة من أخلاقه صلّى اللّه عليه و آله(3).

ص: 17


1- كأبي سفيان حيث قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حقه: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» انظر الوسائل: 18/11 باب 5، و البحار: 104/21-117.
2- قال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللّٰهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّٰاءُ عَلَى اَلْكُفّٰارِ رُحَمٰاءُ بَيْنَهُمْ سورة الفتح: 28.
3- من كلمة ألقاها في: 7 صفر 1241 ه - طهران.
أهل البيت عليهم السّلام منبع الأخلاق

إن سلسلة الأنبياء عليهم السّلام هي أطهر سلاسل البشرية و أقدسها، و أشدّها نورا على طول التاريخ، و من بين العظماء و الأطهار الذين يحظون بمعنوية إلهية و عرشية هو الوجود المقدّس لخاتم الأنبياء محمد المصطفى صلّى اللّه عليه و آله، فهو على رأس هؤلاء؛ و كذلك أهل بيته الأطهار - الذين صرّح بطهارتهم القرآن الكريم بقوله: إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (1) فهم من أطهر و أعظم الناس و أشدهم نورا على طول التاريخ. من من النساء - على مدى التاريخ - مثل فاطمة عليها السّلام و من من الرجال مثل علي المرتضى عليه السّلام سجّله لنا التاريخ؟

إنّ عترة النبي الأكرم عليهم السّلام في التاريخ، شموس مضيئة، استطاعت من حيث المعنوية أن تربط البشرية بعالم الغيب و بالعرش الإلهي فهم «السبب المتصل بين الأرض و السماء»(2).

إن أهل البيت عليهم السّلام هم معدن العلم، و معدن الأخلاق الحسنة، و معدن الإيثار و التضحية، و معدن الصدق و الصفاء، و منبع كل إحسان و جميل و إنارة تحلّى بها وجود الإنسان في كل عصر و عهد. و قد كان كلّ منهم شمسا مضيئة لوحده(3).

ص: 18


1- سورة الأحزاب: 33.
2- بحار الأنوار: 86/99.
3- من كلمة ألقاها في: 15 شعبان 1420 ه - طهران - مصلى الإمام الخميني (قده).

مكارم الأخلاق

السير نحو مكارم الأخلاق

فقد يتمتع مجتمع باناس متفكّرين و عقلاء و من أهل الصفح و الخير و الإحسان و التعاون، من أهل الصبر و الحلم عند النوائب و الشدائد و ذوي أخلاق حسنة في التعامل و من المضحّين، فهذا مجتمع إسلامي.

و قد لا يتمتّع مجتمع باناس يتحلّون بهذه الصفات، كأن لا تكون علاقاتهم مبنيّة على التراحم و المروءة و الإنصاف و الأخلاق الحسنة، بل على الاستغلال، فيقبل أحدهم الآخر ما دام يوافق مصالحه و إلاّ فمستعد للقضاء عليه، فهذا مجتمع جاهلي(1).

الحاجة للأخلاق:

علينا أن ندعو الناس إلى الأخلاق الفاضلة مثل الإيثار، الرحمة، المحبّة، الصبر و الاستقامة في المهمات، و الحلم، و كظم الغيظ، و عدم الخيانة، و الأمانة و عدم الكيد للآخرين.

فالناس دائما بحاجة إلى هذه القيم، و لا يمكن أن نفرض أنّ الناس يمكنهم

ص: 19


1- من كلمة ألقاها في 27 رجب 1415 ه

الإستغناء عن هذه الامور في وقت من الأوقات. و إذا افتقد المجتمع القيم الأخلاقيّة هذه، فسيصبح مجتمعا غير صالح حتّى و إن استطاع أن يصل إلى أعلى مدارج الرقي.

و مثل هذا المجتمع لا يطاق أبدا، و هذا ما نراه اليوم في بعض المجتمعات الغربية، هذه المجتمعات نجدها قد وصلت إلى مستوى عال من حيث العلم و المدنيّة و الثروة، و لكن الحياة فيها جحيم لا يطاق.

في أمريكا هناك بعض المناطق الّتي يتعسّر العيش فيها، الإنسان في تلك المناطق لا أمان له مطلقا، فلا يأمن على ماله و لا على عرضه و لا على حياته.

الشباب هناك لا يأمنون على حياتهم فهم دائما معرّضون لمختلف الضغوطات النفسيّة و العصبيّة و الّتي تؤثّر و بشدّة على نفسيّاتهم و أرواحهم. هذا ما هو موجود بالفعل في انجلترا و أمريكا و غيرها من الدول. هم يمتلكون كلّ شيء إلاّ أنهم يفتقدون إلى الحياة، و إلى السعادة. و السؤال لماذا؟

نقول لأنّ الأخلاق لم تواكب المدنيّة في حركتها التطوّرية المطّردة.

الإنسان في المجتمعات الغربيّة يفتخر لكونه يسعى للحصول على المال و الثروة.

أمّا في المجتمعات الّتي تحكمها المعنويات، فلا يوجد هناك أيّ مدعاة للتفاخر في مجال المادة و الثروة؛ لأنّ الوحوش الحيوانيّة هي الاخرى أحدها يفترس الآخر؛ لتبقى على قيد الحياة و تشبع بطنها. فما الداعي للتفاخر و التباهي، الافتخار هو أن يفتخر الإنسان بسعيه للحصول على الفضائل الأخلاقيّة، أن يفتخر بمساعدته للآخرين، بأن يفدي نفسه من أجل الآخرين. و هؤلاء الغربيون لا يرون في كلّ هذه القيم ما يدعو إلى الفخر و الاعتزاز. و إذا رأوا من يفخر بهذه الامور، يسخرون منه و يعتبرونه إنسانا ساذجا.

إذن الأخلاق يحتاج إليها في كلّ مكان و في كلّ زمان و لا يمكن الاستغناء عنها بأيّ حال من الأحوال.

و من الامور الّتي يحتاجها دائما الإنسان المؤمن صاحب الأخلاق هو الوعي

ص: 20

السياسي، و لا بدّ للشعب من أن يمتلك التحليل الصحيح و الذهنيّة السياسيّة الواعية حتّى لا ينخدع. فالإذاعات الأجنبيّة تسعى إلى إدخال ما تنسجه من أكاذيب و أقاويل إلى أذهان الشعب و بطرق محبّبة، بحيث أنّ كلّ من يستمع إلى هذه الإذاعات لا بدّ و أن يتصوّر نسبة من الصحة و إن كانت قليلة (30 أو 50)، في حين أنّ بعض الأخبار تكون كلّها كذبا و افتراءا 100.

و لكنّهم يبثّونها بالصورة الّتي لا يعلم كذبها. و قد يكون الخبر صحيحا، و لكنّهم لا يقصدون الخبر بحدّ ذاته و إنّما يهدفون من وراء الخبر إيصال كلمة لها دلالتها الخاصة ضمن كلمات الخبر، أي أنّهم يريدون من وراء الخبر تفهيم كلمة معيّنة لها أثرها لدى السذّج من الناس الّذين لا يمتلكون قدرة تحليلية للأخبار.

و من هنا بات من الضروري أن يزوّد المؤمن بالتحليل الصحيح كي لا تؤثّر هذه الأساليب الخبيثة فيهم، لأنّه بالتحليل الصحيح يمكن أن نكتشف الزيف و الخداع الّذي تمارسه هذه الإذاعات. إذن الوعي السياسي و التحليل السياسي أيضا من الامور الّتي نحتاجها في عملية التهذيب و السلوك.

و على أيّة حال لا بدّ من التأكيد على الجوانب المعنويّة، على الدعاء و التضرّع، خصوصا في شهر رمضان، شهر الدعاء و شهر القرآن، و شهر الارتباط بالله، كما أنّه ينبغي التأكيد و التواصي على الجوانب الأخلاقيّة و التزكية و التهذيب، و هذه الجوانب نحتاجها في كلّ مكان و زمان، و لا يمكن تحديدها بزمان أو مكان معيّن و لا يمكن الإستغناء عنها.

كما أنّ تبيين الحقائق الّتي من شأنها أن تكرّس حالة الوعي لدى الإنسان المؤمن و تزيد من مقدرته على استيعاب القضايا و المسائل السياسية أيضا لا يمكن الاستغناء عنها في كلّ الأحوال لتأثيرها على سلوكية الإنسان العامة(1).

ص: 21


1- من كلمة ألقاها بتاريخ 23 شعبان 1415 ه
أهمية الأخلاق العامة في المجتمع

إن الهوية الأخلاقية هي الهوية الحقيقية للمجتمع، أي أن مركز الثقل في المجتمع هو القطب الأخلاقي، و جميع الامور الاخرى إنما تدور حول محورها.

فعلينا أن نولي الأخلاق أهمية كبيرة، و على الإذاعات و التلفزة و كافة وسائل الإعلام التخطيط في مجال نشر الفضائل الأخلاقية و تفهيمها و بيانها، كالأخلاق السلوكية لأفراد المجتمع، و الانضباط الاجتماعي، و النظم و التخطيط، و الأدب الاجتماعي، و الاهتمام بالاسرة، و رعاية حقوق الآخرين، و حفظ كرامة الإنسان، و الإحساس بالمسؤولية و الاعتماد على النفس، و التحلّي بالشجاعة الذاتية و الوطنية، و القناعة التي هي من أهم الفضائل الأخلاقية في المجتمع.

و لو أننا قد تعرضنا حاليا في بعض المجالات إلى المصائب، فمرد ذلك إلى غفلتنا عن السجية الحسنة.

و كذلك الأمانة و الصلاح و مساندة الحق و ابتغاء الجمال بمعنى اختيار الحياة الجميلة من الناحيتين الظاهرية و الباطنية، و تجنب الاستهلاك، و اختيار العفة، و احترام الأبوين و الاستاذ.

هذه هي فضائلنا الأخلاقية، التي ركز عليها الإسلام و حثّ عليها أهل البيت عليهم السّلام، و على العلماء الأعلام و أصحاب الأقلام النيّرة دعم هذه الفضائل في كافة البرامج التلفزيونية أو غيرها التي تعدونها و في كل مسلسل و حوار و كلمة و اجتماع و مكالمة هاتفية أو تقرير أو مقالة حتى لا يتم نقضها أو تضييعها(1).

ص: 22


1- من كلمة ألقاها في: 17 /شوال/ 1425 ه الموافق: 1383/9/11 ه ش.
تشويه الأخلاق

لقد حاول الأعداء تهميش رسالة الحرية، و الأخلاق و المعنويات، و المثل و الفضائل و الكرامة الإنسانية التي تنطوي عليها هذه الثورة الإسلامية، و كان هذا العمل مدروسا، و واصلوه من خلال دعاياتهم بشتى ضروبها و أصنافها؛ و الغرض من ذلك هو سلب الرافد الفكري للشعب الذي يمثل في واقع الأمر المرتكز الذي تقوم عليه إرادتها و عزيمتها الراسخة، لتشعر الشعوب بفقدان أصلها.. و هل يقوى الإنسان على مواصلة الطريق الذي يسلكه دون إيمان و إعتقاد و قناعة به؟!

فعلى الجميع أن يأخذوا القضايا الثقافية و المعنوية على محمل الجد. و مظهر هذا الغزو هو تلك الإباحية التي تثار عن طريق التشكيك بالعقائد و التشجيع على السلوكيات المنافية للأخلاق في المجتمعات و إشاعة أنواع الفساد. إنها أمور يتوجب على كافة المسؤولين و العلماء إيلاؤها المزيد من الاهتمام، و لا يقتصر الأمر على المسؤولين في القطاع الثقافي(1).

ص: 23


1- من كلمة ألقاها في: 12 جمادى الأولى 1422 ه - طهران.
أثر مجالسة علماء الأخلاق

إنّ ما رأيناه من الإتجاه الأخلاقي لدى الإمام الخميني هو اتجاه عملي و مؤثر جدا.

أحيانا يقوم الإنسان بتدريس المفاهيم الأخلاقية و بأسلوب مرتب لطلابه و مع أن هذا الأسلوب يعلّم المستمعين الأخلاق إلاّ أنه ليس معلوما أنهم يصبحون أخلاقيين من خلال هذا الأسلوب.

و أحيانا أخرى و من خلال الصحبة فقط مع أصحاب الملاكات الأخلاقية يجد الإنسان نفسه شيئا فشيئا قد اتجه في الإتجاه الصحيح من هذه الناحية، أنا و من خلال تواجدي 14 عاما مع الإمام في النجف لاحظت هذا البعد حيث تنتقل الفضائل الأخلاقية من الإمام الى طلابه من خلال أعمال الإمام و سلوكياته فبعد مصاحبته تجد نفسك بشكل طبيعي و غير محسوس قد أصبحت السيطرة على الأهواء النفسانية من قبيل الابتعاد عن الغيبة و الافتراء و الكذب ملكة في نفسك، و هذا معنى الحديث (كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم)(1).

هذه القدرة التي كان يتحلى بها الإمام و التي كانت بحق أوقع في النفوس من المراقبات و الرياضات الأخلاقية نشأت لديه أثناء سنوات الشباب عند ما أهتم بهذا الجانب و لقد أعانته هذه الملكات الروحية و الأخلاقية التي تحلى بها كثيرا في إدارة الثورة، فمثلا عدم الخوف مطلقا في مقابل العدو و التي هي من الصفات البارزة في شخصيته كانت ناشئة من اعتقاده الراسخ بأن (لا مؤثر في الوجود إلاّ اللّه). و بإنتقال هذه الروحية لأنصار الإمام و المحيطين صار من السهل عليهم الصمود و عدم التراجع أمام الصعاب و العقبات.

ص: 24


1- الكافي: 78/2 ح 14.

و أتذكر هنا أنه في الأيام الأولى لاستقرار الإمام عليه الرحمة في النجف و في أحد المجالس ذكر للمرحوم و الذي كان مكان نفيه في تركيا عبارة عن بقايا جزيرة قد أتت عليها المياه العميقة من كل جانب..

فقال له الوالد: ألم تخف أن يقوم الجلاوزة الذين كانوا معك برميك في الماء و إغراقك.

فرد عليه الإمام: أبدا لم يكن ذاك شيء مهم.

ثم أضاف: في الليلة التي اعتقلوني في قم و أرسلوني الى طهران و بينما نحن في الطريق تغير مسير السيارة التي كانت فيها و اتجهت وسط الصحراء الى جهة غير معلومة عندها أيقنت أن لدى هؤلاء أمرا بتصفيتي جسديا في وسط الطريق و في هذه اللحظة راجعت نفسي و سألتها: يا ترى هل دخل شيء من الخوف في قلبي؟ إلاّ إنني وجدت الجواب حينها أنني لم أخف قط.

هذه الروحية بقيت تلازم الإمام عليه الرحمة الى آخر حياته و لكن بشكل أتم و أكمل، مثلا في بداية الحرب المفروضة أصبحت المنطقة التي يسكنها الإمام في جمران محلا لجولان الطائرات العراقية و مع ذلك فإن الإمام لم يتحرك أبدا من مكانه الذي هو فيه بجانب النوافذ الزجاجية الخطرة بل إنه لم يطفأ مصباح غرفته طوال الليل في حين أن الكثيرين و بعضهم الآن يدعي الشجاعة، بادروا الى النزول في الأقبية، و هذه الحالة من عدم الخوف و باقي الملكات الروحية و الأخلاقية معلولة لبناء الذات و المجاهدات الأخلاقية التي تربى عليها خلال سنوات متمادية و هي قدوة لنا جميعا(1).

فإذا كان الحديث عن الحرية و الكرامة الإنسانية، و إذا كانت حقوق الإنسان في المجتمعات مطروحة، و إذا كان العدل و رفع الحيف لا يزال شعارا خلاّبا في الدنيا،

ص: 25


1- من كلمة ألقاها في: 17 /شوال/ 1425 ه الموافق: 1383/9/11 ه ش.

و إذا كانت مكافحة الفساد و المفسدين و الظلم و الظالمين، و إذا كان الإيثار و التضحية في سبيل الحق موضع اهتمام الإنسان، فإنّما يعود الفضل في ذلك إلى الأنبياء و عباد اللّه الصالحين الذين قدّموا هذه المفاهيم للتاريخ و وضعوها في متناول البشرية.

و عليه فإنّ عباد اللّه الصالحين يغيّرون وجه التاريخ، و يحوّلون المستحيل إلى ممكن، من خلال توكّلهم على اللّه و خشيته.

إذ لا يمكن تغيير الإنسان و الإنسانية عن طريق الرجاء المادّي و الخوف البهيمي.

إنّ خشية عباد اللّه و رجاءهم ليست كخشية عبيد الدنيا و رجائهم، إذ أنّهم يتمسكون بالله و يتوكّلون عليه، و تتلخص خشيتهم من معصيته، و يرون جميع القوانين الطبيعية - الّتي تمسك يد القدرة الإلهية بأطرافها - في خدمة أهدافهم، و يتحرّكون بالتوكّل على اللّه، و لذلك يستطيعون تغيير العالم.

و قد كان إمامنا العظيم في زمرة هؤلاء العظام. إنّ عباد اللّه الصالحين يهيمنون على القلوب و ذلك عن طريق اتصالهم بالله تعالى.

إنّ ولاية عباد اللّه الصالحين ولاية معنوية و باطنية، و إنّ ولايتهم الظاهرية إذا تحقّقت فهي استمرار طبيعي لولايتهم المعنوية و الباطنية.

إنّ اللّه سبحانه و تعالى يلهم عباده الصالحين و أنبياءه و أوصياءهم قدرته و إبداعه فيسلّطهم على القلوب.

أثر أولياء اللّه في الأرض

إنّ السلطة الحكومية و إن كان فيها شيء من الجمال إذا لم تكن متفرّعة عن الولاية المعنوية، لا تعدو أن تكون لونا من التمويه و الكذب.

و من هنا كانت حكومة عباد اللّه الصالحين و الربّانيين مختلفة عن غيرها من الحكومات.

و قد عرض علينا الإمام نموذج ذلك، و شاهدناه عن كثب.

ص: 26

إنّنا حينما ننظر إلى أنفسنا، نجد أنّ المسافة بيننا و بين الأنبياء عليهم السّلام و أولياء اللّه و عباده العظام عميقة و بعيدة المنال، إلاّ أنّ الإمام العظيم أرانا - في فترة غياب الأنبياء عليهم السّلام و انقطاع الوحي - من خلال تواجده و فكره و سلوكه نموذجا حيّا للولاية الروحية.

و حاليا يمثل سلوك الإمام و فكره و هدفه وسيلة نجاة الشعب الإيراني و الأمة الإسلامية(1).

و قال علي بن موسى الرضا عليه السّلام: «و سئل عن خيار العباد؟

فقال عليه السّلام: الذين إذا أحسنوا استبشروا، و إذا أساءوا استغفروا، و إذا أعطوا شكروا، و إذا ابتلوا صبروا، و إذا غضبوا عفوا»(2)

خيار العباد للّه تعالى هم الذين تتوفر فيهم هذه الصفات:

1 - إذا قاموا بعمل الخير و الإحسان فرحوا و استبشروا.

2 - إذا ارتكبوا سيئة أو قاموا بعمل غير صالح تابوا و استغفروا منه.

فإنّ واحدة من آفات و عيوب الإنسان أنه لا يراقب أعماله بل يقف حياديا مقابل أعماله السيئة أيضا. و على عكس ذلك الإنسان الذي يراقب أعماله و إذا ارتكب عملا سيّئا تذكّر و استغفر ربّه و تاب إليه، فإنّ هذه من صفات المتّقين كما قال اللّه تعالى:

إِنَّ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا إِذٰا مَسَّهُمْ طٰائِفٌ مِنَ اَلشَّيْطٰانِ تَذَكَّرُوا (3) .

3 - إذا أعطاهم اللّه نعمة أو أحسن إليهم الناس بمال و غيره شكروا ذلك و حمدوا اللّه تعالى.

4 - إذا نزلت بهم الإبتلاءات و الحوادث صبروا و استقاموا، فلا يتوقفون و لا

ص: 27


1- من كلمة ألقاها في: 1384/3/14 ه ش. - الموافق 26 /ربيع الثاني/ 1426 ه - الموافق 2005/6/4 م. - طهران.
2- تحف العقول، صفحة: 445.
3- سورة الأعراف: 201.

يتراجعون عن الخط الذي ساروا فيه لأجل تلك البلاءات و لم تكن مانعا و لا عائقا عن إكمال مسيرهم.

5 - إذا غضبوا عفوا و تجاوزوا هذا إذا كان الغضب لأنفسهم أثناء حياتهم اليومية و علاقتهم مع الناس، لا الغضب للّه و في سبيل اللّه تعالى(1).

و عن أحمد بن عمر الحلبي قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام أي الخصال بالمرء أجمل؟

قال عليه السّلام: وقار بلا مهابة، و سماح بلا طلب مكافأة، و تشاغل بغير متاع الدنيا.(2)

يسأل الراوي الإمام الصادق عليه السّلام عن أي الخصال هي أجمل للمرء؟

فأجابه الإمام عليه السّلام: الوقار من دون مهابة أي أنه في نفس الحال الذي يكون وقورا لا يخافه الناس.

و السماح و العفو مع الآخرين من دون أن يطلبوا منه ذلك. طبعا العفو و السماح ليس منحصرا بالمال بل يشمل ما إذا كان يلبّي مطالب كل من يطلب منه شيئا سواء كان مالا أم مساعدات إجتماعية أخرى فإنه يقضي طلباتهم بسهولة من دون أن يتوقّع منهم جبران ذلك.

و التشاغل بالأمور النافعة غير الدنيوية على الدوام و لا يكون عاطلا عن العمل.

طبعا الإنشغال بالأمور المعيشية الدنيوية لا إشكال فيه إذا كان ضمن الحد المعقول من قبيل تنظيم أمور العائلة و التوسعة على الأهل و العيال و إنجاز أموره الخاصة.

قال اللّه تعالى اَلْمٰالُ وَ اَلْبَنُونَ زِينَةُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا. و لكن هذا لا يعني أن يصرف و يبذل كل همّه و جهده في تحصيل الأمور الدنيوية و التجملات و توفير المال

ص: 28


1- كلمات مضيئة: 5.
2- الخصال/باب الثلاثة/ح 36 /.

و الثروة(1).

و قال الإمام أبي محمّد الحسن بن علي العسكري عليه السّلام للشيعة: أوصيكم بتقوى اللّه و الورع في دينكم و الإجتهاد للّه و صدق الحديث و أداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برّ أو فاجر، و طول السجود و حسن الجوار، فبهذا جاء محمد صلّى اللّه عليه و آله.

صلّوا في عشائرهم و اشهدوا جنائزهم و عودوا مرضاهم و أدّوا حقوقهم، فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه و صدق في حديثه و أدّى الأمانة و حسّن خلقه مع الناس قيل هذا شيعيّ فيسرّني ذلك...»(2)

عصر الإمام الحسن العسكري عليه السّلام كان مهمّا جدا، فإنّ الشيعة آنذاك كانوا كثيري العدد و منتشرين في جميع الأقطار الإسلامية. و لذلك أوصاهم عليه السّلام مضافا إلى مراعاة الموازين الدينية بالمحافظة على الخصوصيّات الشيعية و هي كما قال:

التقوى و الورع و الإجتهاد و الجدّ في سبيل اللّه و أداء الأمانة (سواء كانت مالا أم أسرارا أم حرمات و نواميس). من دون فرق بين أصناف الناس سواء كانوا أبرارا أم فجّارا.

و طول السجود (لأنّه من مظاهر التواضع و الخضوع للّه تعالى) و حسن المعاملة مع الجيران. فإنّ هذه التوصيات كلها جاء بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و كذلك يوصيهم بحضور جماعة أهل السنّة و عيادة مرضاهم و تشييع أمواتهم و أداء حقوقهم إليهم.

و على هذا فإن قام أحدكم بذلك بأن ورع في دينه و صدق في حديثه و أدّى الأمانة لأهلها و كان خلقه حسنا مع الناس، فإنّ الناس سوف تقول عنه هذا هو الشيعي في مقام المدح و الإطراء عليه و هذا الأمر يدخل السرور على قلب الإمام عليه السّلام(3).

ص: 29


1- كلمات مضيئة: 9.
2- تحف العقول، صفحة: 487.
3- كلمات مضيئة: 6.
جملة من مكارم الأخلاق

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام: «يا علي، ثلاث خصال من مكارم الأخلاق: تعطي من حرمك و تصل من قطعك و تعفو عمّن ظلمك»(1).

المكارم جمع مكرمة، و المراد بها هنا الاخلاق العالية الرفيعة، فإنّ بعض الصفات حميدة و ذات قيمة، و لكن بعضها الآخر مضافا الى ذلك تتصف بالعظمة و الرفعة.

و منها هذه الصفات الثلاثة:

1 - تعطي من حرمك:

فمثلا إذا طلبت قرضا من شخص فامتنع و أبى عن إقراضك ثم جاء هو بعد ذلك و طلب منك إقراضه تعطيه و إن كان قد حرمك.

2 - تصل من قطعك:

كما إذ قطع بعض أقاربك و أرحامك صلتهم و لم يتعاملوا بعاطفة و مودة معك، و لكن أنت لا تبادلهم بالمثل بل تصل رحمهم و لا تقطع علاقتك بهم.

3 - تعفو عمّن ظلمك: فمثلا إذا حكم عليك شخص ظلما و من دون حق، أو تكلّم عليك بكلام باطل فتقابله بالعفو و التسامح، و لا تنتقم منه و لا تعامله بالمثل.

فهذه من مكارم الاخلاق العالية(2).

و روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أورع الناس من وقف عند الشبهة.

ص: 30


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 121.
2- كلمات مضيئة: 18.

و أعبد الناس من أقام الفرائض.

و أزهد الناس من ترك الحرام.

و أشدّ الناس اجتهادا من ترك الذنوب»(1)

وردت في المعارف الإسلامية بعض المفاهيم و العناوين من قبيل الورع و الزهد، و قد اهتمّ الشارع المقدّس بها و حرص و شجع و حثّ عليها أيضا.

و لكن قد يظن البعض أن إدراك و فهم هذه العناوين أمر صعب و شاق و مشكل، إلاّ أنّ الروايات بيّنت و وضّحت المراد منها كما في هذه الرواية على النحو التالي:

أورع الناس هو الشخص الذي يتوقّف عند مواجهة الشبهات فلا يدخل فيها.

و أعبد الناس هو الشخص الذي يأتي بالواجبات و الفرائض الإلهية.

و أزهد الناس هو الشخص الذي يترك و يجتنب عن المحرّمات الإلهية.

و أشدّ الناس اجتهادا و أكثرهم سعيا و جهدا هو الشخص الذي يترك الذنوب(2).

و عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «ثلاث خصال من كنّ فيه أو واحدة منهن كان في ظلّ عرش اللّه عز و جل يوم القيامة يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه:

رجل أعطى الناس من نفسه ما هو سائلهم لها.

و رجل لم يقدّم رجلا و لم يؤخّر أخرى حتّى يعلم أنّ ذلك لله فيه رضى أو سخط.

و رجل لم يعب أخاه المسلم بعيب حتى ينفي ذلك العيب عن نفسه، فإنه لا ينفي منها عيبا إلاّ بدا له عيب، و كفى بالمرء شغلا بنفسه عن الناس»(3).

هناك ثلاثة خصال إذا وجدت كلها أو واحدة منها في الإنسان كان مستظلا بظل

ص: 31


1- الخصال، باب الواحد، ح: 56.
2- كلمات مضيئة: 6-7.
3- الخصال/باب الثلاثة/ح 3.

العرش الإلهي يوم لا ظل إلاّ ظلّ الرحمة و الأمان الإلهي. و هي:

1 - الشخص الذي يعطي الناس كل الأمور التي يتوقّع أن يعطوها إياه إذا سألهم عنها، فيقوم بأدائها لهم كما يحب أن يؤدوها له. فمثلا إذا كان يتوقّع من الناس أن يسعفوه و يساعدوه في قضاء حوائجه عند ما تضيق به السبل أو كان يتوقّع منهم الإحترام و حفظ حقه و حرمته، فالواجب عليه أن يقوم بمثل هذا بحقهم.

2 - الشخص الذي لا يقدم على عمل إلاّ إذا رأى أن هذا العمل هل فيه لله رضا أو سخط؟ فإذا إطمأن بأن اللّه يرضاه أقدم عليه و إذا كان يسخطه إجتنبه.

3 - الشخص الذي لا يعيب على الآخرين أيّ عيب إلاّ بعد أن يزيل و ينفي هذا العيب عن نفسه أولا.

و الفائدة و الثمرة المترتبة على هذه الصفة هي أن الإنسان لن يعيب الآخرين بعيب أصلا و لن يتتبع عيوبهم، أو أنه سوف ينشغل بإزالة العيوب عن نفسه و تطهيرها منها.

و بتعبير الإمام عليه السّلام أن كل عيب يزيله و ينفيه عن نفسه سوف يلتفت بعده الى وجود عيب آخر فيه فيسعى لإزالته و هكذا، فينشغل بعيوبه عن عيوب الناس.(1)

و عن سفيان الثوري قال: «لقيت الصادق جعفر بن محمد عليه السّلام فقلت له: يا ابن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أوصني.

فقال لي: يا سفيان لا مروءة لكذوب، و لا أخ لملوك(2)، و لا راحة لحسود، و لا سؤدد لسيّ ء الخلق.

فقلت: يا ابن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) زدني.

فقال لي: يا سفيان، ثق باللّه تكن مؤمنا، و ارض بما قسم اللّه لك تكن غنيا، و أحسن مجاورة من جاورته تكن مسلما، و لا تصحب الفاجر فيعلمك من

ص: 32


1- كلمات مضيئة: 8.
2- في بعض المصادر: لملول.

فجوره، و شاور في أمرك الذين يخشون اللّه عزّ و جلّ».(1)

المروءة مشتقة من مادة «مرء» و المراد بها الفتوّة و الرجولة و الشجاعة.

و الإنسان الكذوب لا مروءة و لا شجاعة لديه.

و الأشخاص الذين يتصدرون دفة الحكم و السلطنة و القدرة أي الملوك و السلاطين لا يوجد لهم أخ، لأن الذين يتقربون إليهم هدفهم من ذلك ثروتهم و سلطتهم و ليس غرضهم الصداقة و المودة لهم.

و الحسود ليس لديه راحة لأنه يوجد في داخله ما يبعث على العذاب و الألم و الحسرة.

و الشخص الذي تكون أخلاقه سيئة في معاشرته للناس لن يصل الى السيادة أبدا و لا يعيش مرتاحا على الإطلاق.

و أما الثقة باللّه تعالى فالوثوق و الاطمئنان و الاعتماد على اللّه تعالى يساوي الإيمان.

لأن المؤمن الحقيقي هو الذي يعتمد و يثق بالوعود الإلهية الواردة في القرآن الكريم كإستجابة الدعاء مثلا اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (2) أو النصرة الإلهية وَ لَيَنْصُرَنَّ اَللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ (3).

و إذا لم يستجب دعاؤه في مورد ما فلا يشك في الوعد الالهي بل يبحث و يفتش عن المانع الذي حال بينه و بين الاجابة.

و أما الرضا بما قسم اللّه له و التسليم به فهذا يجعله غنيا عن الناس فلا يمدّ يد الحاجة إليهم و لا يستعطيهم لأنه يشعر بالكفاف. طبعا هذا لا يعني أن الإنسان لا يسعى و لا يجد في حياته بل يجب عليه الجدّ و الكد و السعي و لكن يقنع بالعطاء الإلهي و لا يأكله الحرص و الطمع و لا يمد عينه نحو مال الآخرين.

ص: 33


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 222.
2- سورة غافر: 60.
3- سورة الحج: 40.

و أما مجاورة الجار فلا بد أن تكون حسنة و لطيفة فيتعامل مع جاره بالإحسان و المودة، و أما الفسّاق و الفجار فهؤلاء يجب الاجتناب عن صحبتهم لأنهم يعلّمون الفسق و الفجور.

و إذا أراد المشورة في أمر ما فعليه أن يشاور التقي الورع الذي يخاف اللّه تعالى لأنه لا يشير عليه إلاّ بما يراه خيرا و صلاحا(1).

و عن علي بن الحسين زين العابدين عليه السّلام: «ما من خطوة أحبّ الى اللّه عزّ و جلّ من خطوتين: خطوة يسد بها المؤمن صفا في سبيل اللّه، و خطوة الى ذي رحم قاطع.

و ما من جرعة أحبّ الى اللّه عزّ و جلّ من جرعتين: جرعة غيظ ردها مؤمن بحلم و جرعة مصيبة ردها مؤمن بصبر.

و ما من قطرة أحبّ الى اللّه عزّ و جلّ من قطرتين: قطرة دم في سبيل اللّه، و قطرة دمع في سواد الليل، لا يريد بها عبد إلاّ اللّه عزّ و جلّ».(2)

في الميزان الإلهي، يوجد خطوتان أفضل و أحبّ الى اللّه عزّ و جلّ من سائر الخطوات التي يخطوها الإنسان، و هما:

1 - الخطوة الّتي يخطوها المؤمن للذّهاب الى الجبهة و الحرب ليكمل صفوف المجاهدين في سبيل اللّه، و الظّاهر في الرّواية هو الجهاد العسكري إلاّ أنّه يمكن شمولها للجهاد الثّقافي و السّياسيّ أيضا.

2 - الخطوة الّتي يخطوها المؤمن من أجل صلة رحم أقاربه و أرحامه الّذين قطعوا صلتهم معه.

و كذلك الحال توجد جرعتان في الميزان الإلهي، هما أفضل و أحبّ إلى اللّه عزّ

ص: 34


1- كلمات مضيئة: 9-10.
2- الخصال/باب الاثنين/ح 60.

و جلّ من سائر الجرعات الّتي يتجرّعها الإنسان و هما:

1 - جرعة الغيظ الّتي يتجرّعها المؤمن عند ما يتعرض لحادثة تغضبه و تغيظه، فيقوم بشربها و ابتلاعها بصبره و تحمّله.

2 - جرعة الصّبر على المصاب الّذي يحلّ به.

و كذلك توجد قطرتان هما أفضل و أحبّ إلى اللّه عزّ و جلّ من سائر القطرات الّتي تنهمل من الإنسان و هما:

1 - قطرة دم تراق منه في سبيل اللّه.

2 - قطرة دمع يريقها في سواد اللّيل من أجل اللّه تعالى و لا يريد بها إلاّ اللّه عزّ و جلّ، سواء كانت خوفا من اللّه تعالى أم حبّا له أم استغفارا و توبة(1).

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لأحد أصحابه و يدعى معاوية: «يا معاوية من أعطي ثلاثة لم يحرم ثلاثة: من أعطي الدعاء لم يحرم الإجابة.

و من أعطي الشكر أعطي الزيادة.

و من أعطي التوكّل أعطي الكفاية.

فإنّ اللّه عزّ و جلّ يقول في كتابه: «وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» (2) و يقول «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ» (3) و يقول «اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» (4).(5)

كل شخص أعطي هذه الامور الثلاثة لم يحرم ثلاثة خصال أخرى معها، و هي:

1 - الذي يوفّق للدعاء فإن الإستجابة تكون من نصيبه، لقوله تعالى:

«اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ».

ص: 35


1- كلمات مضيئة: 13.
2- سورة الطلاق: 3.
3- سورة إبراهيم: 7.
4- سورة غافر: 60.
5- الخصال/باب الثلاثة/ح 56.

2 - الذي يوفّق لشكر النعم لإلهية سوف تزداد و تكثر النعم عليه، لقوله تعالى:

«لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ».

3 - الذي يتوكّل على اللّه عزّ و جلّ سوف يكفيه، لقوله تعالى: «وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» (1).

و عن علي بن الحسين عليه السّلام قال: «كان آخر ما أوصى به الخضر موسى بن عمران عليه السّلام، أن قال له: لا تعيّرنّ أحدا بذنب، و إنّ أحب الأمور الى اللّه عز و جل ثلاثة: القصد في الجدة و العفو في المقدرة و الرفق بعباد اللّه.

و ما رفق أحد بأحد في الدنيا إلاّ رفق اللّه عز و جل به يوم القيامة.

و رأس الحكمة مخافة اللّه تبارك و تعالى».(2)

آخر وصية أوصاها الخضر عليه السّلام الى النبي موسى عليه السّلام كانت ما يلي:

- لا تشمت بالشخص الذي يرتكب الذنوب و المعاصي و لا تعيّره بذلك.

- إنّ أحب الأمور الى اللّه تعالى ثلاثة:

1 - الإعتدال و القصد في الإنفاق عند القدرة و التمكن المالي، إنّ عدم الإسراف في حال الضيق و الفقر أمر طبيعي و أما حينما يكون مقتدرا ماليا فالواجب عليه أيضا أن لا يسرف و لا يتعدّى الحدود، لأنه قد يتوهم و يعتقد أنّه حينما يحصل على الثروة و المال فلا مانع من الإسراف و التجاوز عن الحدود.

2 - العفو و التسامح حينما تكون لديه المقدرة و السلطة على الإنتقام.

3 - الرفق و المداراة بعباد اللّه تعالى.

طبعا هذه المسألة لا تشمل المنافقين و المعاندين لأن اللّه يقول بشأنهم أَشِدّٰاءُ

ص: 36


1- كلمات مضيئة: 32.
2- الخصال/باب الثلاثة/ح 83.

عَلَى اَلْكُفّٰارِ (1) .

فكل شخص يتعامل بالرفق و المداراة مع عباد اللّه تعالى فإن اللّه عزّ و جلّ سوف يتعامل معه برفق و مداراة يوم القيامة، لأن الإنسان يحتاج الى المداراة في ذاك اليوم، و كما ورد في دعاء أبي حمزة الثمالي «اللهم ارحمني إذا انقطعت حجّتي و كلّ عن جوابك لساني و طاش عند سؤالك لبّي»(2).(3).

ص: 37


1- سورة الفتح: 29.
2- مصباح المتهجد: 593.
3- كلمات مضيئة: 14.

ص: 38

الخلق الحسن

تعريف حسن الخلق

قيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ما أفضل ما أعطي المرء المسلم؟ قال: الخلق الحسن».

و قال أيضا «حسن الخلق نصف الدين»(1).

قد ورد في بعض الروايات المرتبطة بحسن الخلق و أريد منه هناك الصفات الحميدة الحسنة كالشجاعة و الكرم و الحلم و نحوهما و أمّا في هذه الرواية فالمراد من حسن الخلق التعامل مع الناس بأخلاق و تصرفات حسنة.

و هذا في الحقيقة هو المظهر العملي للأخلاق الحميدة في الإنسان.

فالإنسان يجب في معاشرته مع الناس أن يتعامل معهم بأخلاق حسنة و أن يتصرّف معهم بطريقة حسنة و مسلكية صحيحة، فيكون صابرا متحمّلا متجاوزا عنهم و إذا رأى تصرفا سيّئا من الناس استوعبه و تحمّله، و يظهر لهم من النوايا الحسنة و الخيرة و يتواضع لهم.

و هذا في الحقيقة أمر مهم جدا سواء للشخص نفسه لأن هذه الأخلاق الفاضلة و الحميدة سوف تنمو و تتطور في نفسه أكثر، أم للطرف المقابل الذي سوف يتأثر بهذه الأخلاق أو يراد له أن يتأثر بها.

ص: 39


1- الخصال، باب الواحد ح: 106، ح: 107.

و يتأكد هذا المطلب أكثر بالنسبة للأشخاص العاملين في حقل التبليغ للإسلام و المعارف الدينية فإنّ الواجب عليهم أن يلتفتوا إلى هذا الأمر و يهتمّوا به كثيرا(1).

أهمية الخلق الحسن

من وصايا الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، مكتوب في الإنجيل:

طوبى للمتراحمين أولئك هم المرحومون يوم القيامة، طوبى للمصلحين بين الناس أولئك هم المقرّبون يوم القيامة، طوبى للمطهّرة قلوبهم أولئك هم المتّقون يوم القيامة، طوبى للمتواضعين في الدنيا أولئك يرتقون منابر الملك يوم القيامة»(2).

يقول الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام أنه مكتوب في الإنجيل ما يلي:

طوبى و هنيئا للذين يرحمون الناس و يعاملونهم بلطف و رحمة، فإنّ أولئك سوف يكونون يوم القيامة في رحمة اللّه تبارك و تعالى.

و طوبى و هنيئا للذين يصلحون بين الناس فيسعون لرفع الإختلافات و النزاعات و الكدرات بينهم، فإنّ أولئك في عالم الآخرة يكونون في جملة المقرّبين.

و طوبى و هنيئا للذين طهّروا قلوبهم و نظّفوها من الرذائل و التلوّثات الأخلاقية من قبيل الضغينة و الحقد و الحسد و البخل و حبّ الدنيا. فإنّ أولئك في الآخرة يكونون في صفّ المتّقين و الورعين.

و التقوى بمعنى المراقبة للذات لها بعدان فتارة تكون بمعنى المراقبة لأعمال الجوارح و أخرى تكون بمعنى المراقبة للقلب و هي أعلى مراحل التقوى.

و طوبى و هنيئا للذين يتواضعون بحيث يرون أنفسهم دائما أقلّ من الآخرين و لا

ص: 40


1- كلمات مضيئة: 23.
2- تحف العقول، صفحة: 394.

ينظرون للناس نظرة احتقار، فإنّ أولئك يكونون يوم القيامة على كراسي الملك و السلطان(1).

و من مواعظ النّبي صلّى اللّه عليه و آله: «خياركم أحاسنكم أخلاقا، الذين يألفون و يؤلفون»(2).

أفضل الناس هم الذين يكون تعاملهم مع الناس أفضل و أحسن من الجميع، و الذين يكون وجههم باعثا لرغبة الناس في الإلفة و الأنس بهم فيألفونهم لذلك.

و ليس معنى الرواية تفضيل الذين لا يقومون بتكليفهم الشرعي و لكنهم على معاملة حسنة مع الناس على الذين يقومون بوظائفهم الشرعية و لكنهم ليسوا ذوي وجه حسن مع الناس.

بل معنى الرواية تفضيل المؤمن الذي يقوم بوظائفه الشرعية و هو على خلق حسن على المؤمن الذي يقوم بوظائفه الشرعية و لكنه ليس على خلق حسن(3).

ص: 41


1- كلمات مضيئة: 22.
2- تحف العقول، صفحة: 45.
3- كلمات مضيئة: 27.
التخلق بالأخلاق الحسنة

إذا سادت الأحكام الإلهية و ظهر نظام قائم على الإسلام و تحققت العدالة الإجتماعية، فقد انجز - لهذا الحد - هدف متوسط، أو قطع في الحقيقة شوط من الطريق.

و المرحلة التالية هي أن يجد الناس - الذين يعيشون في ظل هذا النظام بأمن و رخاء و ينعمون بعدل الحياة - فسحة و فرصة للتخلق بالأخلاق الحسنة، مشتاقين و ساعين إليها.

يجب أن يتخلق الناس بالأخلاق الحسنة. و من الطبيعي أن التخلق بالأخلاق الحسنة يوجب التسامي و التكامل المعنوي و النفسي و المعرفة الأفضل، و هذا من مراحل الإنسان الكامل - و نحن غير قادرين على إدراك ذلك بشكل صحيح، و إنّما يسمع الإنسان أشياء من الأكابر و أهل المعرفة - المرحلة المتعلّقة بنا حاليا هي مرحلة الأخلاق.

و لقد كان حقا ما قاله الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق»(1) و هذا الحديث منقول من طرق الفريقين؛ نقله الشيعة و السنّة.

كلمة «إنّما» ذات مغزى كبير. أي أنّ جوهر بعثتي لهذا الغرض. هذا هو الهدف، و ما سواه مقدمة. لاتمم مكارم الأخلاق بين الناس و لدى أبناء المجتمع لتبلغ الامة مرحلة الكمال و النضج، و يتحلى الجميع بمكارم الأخلاق لنبلغ مرحلة الإنسانية.

يجب أن يكون كل منا إنسانا. يجب أن نقوّي و نكمل الأخلاق الإنسانية في ذواتنا.

ص: 42


1- بحار الأنوار: 210/16.

و هذه هي الخطوة اللاحقة، و هي ذات أهمية كبرى. فإذا بقينا بعيدين عن الأخلاق في مجتمع إسلامي و في نظام يقوم على مبادئ الإسلام، و بقينا نلهث وراء النزوات و الأنانية و الشهوة، و كل منا يسعى للحصول على مزيد منها ليأكل أكثر و يعيش حياة أكثر رفاهية، و يتكالب على هذا و ذاك، و إذا استدعى الأمر يستولي على حق الآخرين، و إن لم يكن إيثار و لا تضحية، فأيّة حكومة هذه؟! و أي إسلام، و أي مجتمع إسلامي؟!

هذا هو أساس القضية. «بعثت لاتمم مكارم الأخلاق».

إعلموا يا أعزائي أنّ عالم اليوم بحاجة إلى هذا. و ممّا يؤسف له أنّ العالم المادي محروم من هذه الخاصيّة بالمرّة!

و أمّا الأخلاق الإلهية و المكارم الأخلاقية فقد وضحتها و فصلتها الشريعة الإسلامية المقدسة، سواء ما يتعلق منها بالإنسان ذاته كالصبر، و الشكر، و الإخلاص، و القناعة، أو ما يتعلق منها بصلاته مع الآخرين كالتسامح، و التواضع، و الإيثار، و تكريم الناس، أو ما يتعلق منها بعموم المجتمع الإسلامي.

للأخلاق الإسلامية مجال واسع. و هي تلك الامور نفسها التي تركّزت معظم جهود الأنبياء عليهم السّلام و الأولياء و الشخصيات الكبرى في الأديان الإلهية، و كذا في الإسلام تركزت جهود الرسول الأعظم و الأئمة الأطهار عليهم السّلام على بنائها.

و لا شكّ أنّ هذه الامور لا تنال في ظل الحكومات الجائرة إلاّ بشق الأنفس، كما ذكرنا من قبل.

في الأنظمة التي يقوم أساسها على الباطل و الظلم و على المادية - كحكومات الطواغيت في العالم - من الطبيعي أنّ مثل هذه الأشياء لا يمكن بلوغها بسهولة، و لكن يمكن تحقيقها في ظل النظام الإسلامي بكل سهولة، و هذا ما يحتاجه العالم اليوم(1).

ص: 43


1- من كلمة ألقاها في: 27 رجب 1417 ه
محاسن الأخلاق

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «ذلّلوا أخلاقكم بالمحاسن، و قودوها إلى المكارم، و عوّدوا أنفسكم الحلم»(1).

التذليل بمعنى التأهيل و الإعداد و التربية.

في أخلاق الإنسان الطبيعية (الإنسان الذي لم يخضع للتربية) هناك عدم انسجام و تلائم و عدم توافق و تطابق بين أخلاقيّاته، و تكليف الإنسان تجاهها هو تصفية و تهذيب أخلاقه من الصفات غير المتناسبة و توجيهها نحو الإتجاه المتعادل. فمثلا صفة القوّة و البطولة يوجهها نحو الشجاعة و لا يتركها لتتحوّل إلى صفة التهوّر الذميمة.

و هذا العمل يتم من خلال معرفة الصفات و وضع البرنامج و الممارسة و المجاهدة لأن القرارات السريعة و المؤقتة لا تعطي نتيجة.

نعم هناك عامل آخر إذا وجد في الإنسان فإنّه يحدث فيه انقلابا عجيبا في أخلاقيّاته، و هذا العامل هو المحبة الإلهية، فإنّ قلب الإنسان إذا اتجه نحو الحق سبحانه و تعالى أوجد ميلا و رغبة لديه لأن يقطع طريق مئة سنة بليلة واحدة.

ثمّ في المقطع الأخير يتحدث عن الحلم و تعويد النفس عليه.

و الحلم ليس معناه عدم الغضب فقط، بل يكون بمعنى السعة و التّحمّل أيضا فالإنسان في مقابل ما يعرض عليه من أسباب الغضب أو أسباب الغرور و العجب أو الفرح و السرور المزيّنين الخاليين من أيّة فائدة، يجب أن يكون كالبحر الذي تهدأ

ص: 44


1- تحف العقول، صفحة: 224.

بالوصول إليه الأنهار الصاخبة المتلاطمة لأنّه يضمّها و يبتلعها في نفسه كلها جميعا(1).

و اجبنا تجاه نشر الأخلاق

على مجتمعنا القيام بحركة أساسية كصيغة مكملة للثورة الإسلامية الكبرى، و هذه الحركة الأساسية ذات مرحلتين: إحداهما إقرار النظم و إشاعة الأخلاق الإسلامية، كقيم كبرى بين أبناء مجتمعنا، أي أن يكون لها أهميتها و شأنها؛ بعد أن كانت قد سقطت عن درجة القبول في عهد الحكومات الطاغوتية التي حكمت بلادنا الإسلامية. فالشخص الصادق في أقواله يعدّ ساذجا لدى قصيري النظر، إنّه صادق، فيقول ما يعلم، و لكنهم يعتبرون من لا يقول الصدق، و يقلب الحقائق و يتحايل، يعتبرونه ذكيّا فهيما. هذا هو قلب القيم. هكذا كان الوضع على مدى حكم الطواغيت و حكومات الملوك الظلمة الجائرين الفاسدين المعادين للأخلاق.

و ممّا يؤسف له أنّ البنية الأخلاقية في بلادنا قد تلقت ضربات كثيرة.

لقد ساعدت الحركة الثورية على إرساء الاسس الأخلاقية و الركائز الداخلية و الروح الأخلاقية في مجتمعنا و أعادت لها الحياة، و لكن لا بدّ من بذل الجهود. هذه هي الخطوة الاولى.

أمّا المرحلة الثانية فهي أن تنقلوا هذه القيم الأخلاقية إلى العالم؛ فعالم اليوم بحاجة لها.

و الإنسانية تعاني اليوم على الصعيد العالمي من فقدان الأخلاق، و بإمكان الإسلام و المسلمين تقديم أفضل هدية أخلاقية للشعوب و للبشرية.

مع الأسف إنّ أكبر جرائم الإستكبار العالمي اليوم هي الكذب، و الخداع، و التحايل، و إشاعة نزعة الباطل من خلال سلوكهم في العالم. و أنتم ترون اليوم

ص: 45


1- كلمات مضيئة: 46.

أشخاصا في الحكومات المتجبّرة في العالم - و على رأسها أمريكا - ارتكبوا أكثر حالات الإرهاب في أرجاء العالم.

لقد ارتكبوا القتل و الاغتيال و الانقلابات و غيرها من الممارسات البشعة في كل بقعة من العالم و خاصة في أمريكا اللاتينية و في الكثير من بقاع العالم الاخرى. و في إيران شاهدنا بأنفسنا ما فعلوه هنا، و هكذا الحال في المناطق الاخرى.

لقد دافعوا عن أبشع الإرهابيين في العالم، و منحوهم اللجوء، و بادلوهم علاقات الود، و كرّموهم، و قدموا لهم - و لا زالوا - المعونات المادية. و ساندوا و قدموا أكبر العون لإسرائيل، و هي دويلة قائمة على الإرهاب و مبنية على الغصب و الظلم و العدوان، و هم يدعمونها علانية، و لا يدعمون أصدقاءهم العرب بقدر ما يدعمون إسرائيل. و أمريكا لا تساند الدول التي تعتبر صديقة تقليدية لها مثلما تساند إسرائيل.

و في الواقع إنّ صديقها الحقيقي هو إسرائيل و هي تفضّلها على جميع الدول، في حين أن إسرائيل دولة قائمة على الإرهاب.

لقد اعتمد هذا الكيان منذ أول يوم ظهر إلى الوجود، أساليب الإرهاب، و اغتيال المعارضين، و الكذب، و الظلم، و تدمير الإنسان، و القتل الجماعي و الكثير من مساوىء الأخلاق.

هذه هي مساندتهم للإرهاب. و في الوقت نفسه نرى أمريكا اليوم ترفع لواء مكافحة الإرهاب!!

لاحظوا، هذا هو الكذب و الخداع، و هذا هو الابتعاد عن الأخلاق، و افتقار البشر للأخلاق! و هذا أشد مرارة و إيلاما من أي شيء آخر في العالم هو أن يرى المرء ألدّ أعداء الفضائل يدّعون القيم و الفضائل.

العالم بحاجة إلى الرسالة التي تنادون بها، و الحقيقة التي تحملونها، و الطريق الذي تسلكونه، و إلى القرآن، و إلى البعثة التي تحضون بها، إلاّ أنّه لا يمكنكم أن تنقلوها و تعلموها الآخرين إلاّ بعد أن تعلموها و تعرفوها أنتم أنفسكم، فنكون قد تعلمناها

ص: 46

مسبقا و عملنا بها.

يجب أن نبدأ نحن و الخطباء و المثقفون و من بيدهم وسائل الإعلام، و غيرهم لتعليم و إشاعة الأخلاق بين الناس؛ ليكون اللّه أيضا عونا لكم، و ليرضى قلب صاحب الزمان عنكم و عنّا، و تكون الهداية الإلهية معنا بإذن اللّه، و لتحظى روح إمامنا الكبير الخميني (رحمة اللّه عليه) من هذه الحركة الأخلاقية بالفيض و الرحمة(1).

سبب المعاناة الإنسانية

إنّ بؤرة معاناة الإنسانية اليوم هنا، و المصائب التي يعاني منها عالم اليوم من قبيل الطغيان السياسي و تسلط الطواغيت على مقدرات الإنسان تعود في جذورها إلى علل أخلاقية، كما أنّ حالة الشقاء التي تعيشها الشعوب ناجمة من جهلها على الأغلب.

و الإسلام يقضي على مثل هذه العلل و الأسباب.

على المسلمين أن يحيوا هذه المضامين و نحن في الجمهورية الإسلامية استطعنا وضع أقدامنا على طريق الإسلام، و السير في الإتجاه المؤدي إليه، و إشاعة أحكام الإسلام في المجتمع و السعي جهد الإمكان لتطبيقها في واقع الحياة. و نجحنا في عرض القيم الإسلامية كأسمى و أنبل قيم في الجمهورية الإسلامية، و تمكّنا من نشر كلام اللّه بين أبناء الشعب و توجيه الأفئدة نحو اللّه. و هذا طبعا من فعل الثورة، و لا يمكن لشخص أن يدّعي هذا لنفسه. ثورتنا انتجت - بفضل اللّه - مثل هذا العطاء في نظامنا. و وقفنا لهذا بعون اللّه، و علينا مواصلة هذا الطريق بجد؛ إذ لمسنا مكاسبه بهذا القدر، و جعل اللّه لنا فيه العزّة.

لقد أمتهن شعبنا و بلدنا و مجتمعنا على مدى سنوات طويلة على يد الحكام الطواغيت، و سحقت كرامته و عانى من التخلف، و لم يكن أبناء الشعب على معرفة

ص: 47


1- من كلمة ألقاها في: 27 رجب 1417 ه

بحقوقهم، و رجال الدولة ما كانت تربطهم بأبناء الشعب أية صلة، و لم يكن للنظام الحاكم أي موقف صلب أمام القوى المتجبّرة في العالم، بل كان نظاما تابعا بالكامل.

و لم تكن للمعارف الإلهية أهميتها اللازمة في ذهن و في رأي الناس، و لم تكن التربية و التعليم يسيران على أساس الإسلام. و ظل هذا الشعب يعاني على مدى سنوات طوال من حكم الطواغيت على هذا البلد، من الفقر و الفاقة و الذل.

و لكن اللّه تعالى منّ علينا بفضل الالتفات إلى القيم المعنوية للإسلام، و بفضل الاهتمام برسالة الإسلام السياسية، بالنجاة من تلك المعاناة. و معنى هذا أنّ الإسلام لا يريدنا أن تحتفظ فئة من الناس بالعقيدة في أذهانها و تؤدي واجباتها الخاصة في ضوئها، و يبقى النظام الإجتماعي تحت تسلط أعداء اللّه؛ فالإسلام جاء لصياغة حياة الناس.

و نحمد اللّه أن هذه المهمّة قد أنجزت في ظل النظام الإجتماعي للإسلام، و لمس شعبنا نتائج ذلك و ذاق طعم ثمارها الطيبة.

ينبغي علينا اليوم السير بإتجاه تغيير ذاتنا و بإتجاه المثل التي ينادي بها الإسلام، لتغيير أنفسنا كأشخاص، أي أن يبدأ كل فرد بذاته. صحيح أنّ الحكومة مكلفة أمام الشعب بواجبات خطيرة في مجال التعليم و التربية، لكن هذه الواجبات لا تمنع أن يعمل كل واحد منّا على تزكية ذاته جهد المستطاع.

يجب علينا إصلاح ذاتنا و تهذيب أخلاقنا و تطهير باطننا تقرّبا إلى اللّه، و أن يعمل كل واحد منا بصفته الفردية على مجاهدة ذاته، و أن نتلو آيات اللّه بتدبّر، و ندني قلوبنا إلى اللّه بالإكثار من ذكره تعالى.

هذا الواجب يجب أن يؤديه كل منا، إذ سيكون أداؤه عونا لنا على إنجاز ما علينا من واجبات إجتماعية و أخلاقية على خير وجه.

كما على سائر أبناء الشعب أن يعتبروا هذه المهمة الفردية و هذا الواجب الأخلاقي الفردي، واجبا مهما بالنسبة لهم. هذا فضلا عن الواجبات الإجتماعية الملقاة على

ص: 48

عاتق الجميع، و ما من أحد إلاّ و هو مكلف بواجبات إجتماعية.

أشعر أننا بحاجة لبذل المزيد من الجهود لتهذيب و تزكية نفوسنا و نفوس الآخرين، و أن البناء المعنوي الجديد للنظام الإسلامي يستلزم أداء هذه المجاهدة الكبرى.

أسأل اللّه أن يتفضل علينا لنتمكن من إشاعة الأخلاق و الفضائل المعنوية المقرونة بالإخلاص و المحبّة في جوانب حياتنا و في ربوع بلادنا الإسلامية؛ بالتمسك بالعناية الربّانية و بمضامين الآيات القرآنية الكريمة و كلمات الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة المعصومين عليهم السّلام، و أن نتمكن بمؤازرة كل واحد من ابناء هذا البلد من توفير مستلزمات هذا النهج الذي استطاع الإسلام بواسطته إحراز كل ذلك النجاح المؤزر و تلك الإنتصارات و الإنجازات الباهرة، و تمهيده لأنفسنا و لشباب بلدنا عبر البرمجة الدقيقة المدروسة، و سنتمكن بعون اللّه من مواصلة هذا الطريق بعزم و نشاط أكثر(1).

كيفية تجسيد المعنويات و الأخلاق

تعتبر نهضة الإمام الحسين بن علي عليه السّلام تجسيدا للمعنويات و الأخلاق، و ما عدا الجانب الإجتماعي و السياسي و التحرك الثوري و المواجهة الصريحة بين الحق و الباطل، ثمة ميدان آخر للصراع في هذه النهضة هو نفوس الناس و سرائرهم و بواطنهم؛ فحيثما تراكمت نقاط الضعف و المطامع البشرية و الضعة و الشهوات و الأهواء النفسية في كيان الإنسان صدّته عن المبادرة للخطوات الكبرى، و هذا ميدان حرب أيضا و هي حرب مضنية للغاية؛ و حيثما يقتفي المؤمنون المضحون من الرجال و النساء أثر الحسين بن علي عليهما السّلام إذ ذاك تتضاءل في أعينهم الدنيا و ما فيها من متع و زخارف في قبال الشعور بالتكليف، و تنتصر المعنويات الكامنة

ص: 49


1- من كلمة ألقاها في: 27 رجب 1418 ه

المتبلورة في أعماق البشر و سرائرهم على جنود الشيطان القابعة في باطنهم - و هم جنود العقل و الجهل الذين تذكرهم رواياتنا(1) - و هكذا كانت غلبة العقل على الجهل في بواطن ثلة من العظماء الأماجد الذي خلّدوا كأنموذج عبر التاريخ(2).

ص: 50


1- انظر محاسن البرقي: 196/1، و الكافي: 21/1 ح 14.
2- من كلمة ألقاها في: 14 محرم 1423 ه - محافظة خوزستان (معسكر دوكوهه).
الإمام الخميني (ره) معلم الأخلاق

في عام 1340 ه ش. توفي آية اللّه البروجردي الذي كان مرجع التقليد في عهده، و طرحت أسماء مجتهدين كبار من قبل أصدقائهم للتصدي لأمر المرجعية، و تبيّن في تلك الأثناء أنّ الدروس الأخلاقية التي كان يلقيها الإمام الخميني الراحل لم تكن مجرد كلام أو محض معلومات يلقيها على أسماع الآخرين، بل إنه أوّل من يعمل بتلك الدروس التي يراد منها تهذيب الأنفس، و ثبت للجميع أنّ هذا الرجل زاهد بالمنصب و الرئاسة - عند ما تواضع في مرجعيته - حتى و إن كانت تلك الرئاسة مرجعية أو زعامة روحية و معنوية، و أنه لا يسعى من أجل المقام و المنصب و الجاه، بل و يحاول ما استطاع منع الآخرين من السعي لأجل هذه الغاية(1).

كان الإمام الخميني مظهرا للتجديد العلمي و التبحرّ في الفقه و الأصول. و كنت قد شاهدت من قبله استاذا بارعا في مشهد، و هو المرحوم آية اللّه الميلاني، الذي كان من الفقهاء البارزين. و كان زعيم الحوزة العلمية في قم آنذاك هو المرحوم آية اللّه العظمى البروجردي الذي، كان استاذا للإمام الخميني. و كان هنالك أيضا أساتذة كبار آخرون. إلاّ أن الوسط الدراسي الذي كان يجتذب إليه القلوب الشابّة المتلهفة الدؤوبة المتحفّزة نحو تفعيل الطاقات، هو درس الفقه و الاصول الذي كان يلقيه الإمام الراحل، و أخذنا نسمع تدريجا من الطلبة الأقدم منّا بأنّ هذا الرجل فيلسوف كبير أيضا، و كانت دروسه الفلسفية أوّل دروس فلسفية في قم، غير أنه يرجح في الوقت الحاضر تدريس الفقه.

ص: 51


1- من كلمة ألقاها في: 19 صفر 1420 ه - طهران - مرقد الإمام (قده).

و سمعنا كذلك أنّ هذا الرجل كان معلّما للأخلاق، و كان هنالك اشخاص يحضرون دروسه في الاخلاق، و قد أبدى اهتماما جادّا بتقوية الفضائل الأخلاقية لدى الشباب، و هذا ما لمسناه عن كثب أثناء دروسه عبر سنوات طويلة. و إلى هذا الحد كانت شخصية هذا الرجل - الذي يزخر باطنه بالخصائص المجهولة - معروفة بالنسبة إلى أكثر الناس آنذاك بصفته استاذا عالما و مربيا فاضلا و مهذّبا لأخلاق الطلبة و التلاميذ(1).

ص: 52


1- من كلمة ألقاها في: 19 صفر 1420 ه - طهران - مرقد الإمام (قده).
ضرورة معرفة الأخلاق الإسلامية

إن دروس الأخلاق لا تفي بكل مسؤولياتنا في التخلق بالأخلاق الحسنة؛ فعلى كل منّا أن ينازع ما بداخله من رذائل و مثالب بقلبه و عمله و أن يهتم بتهذيب نفسه بشكل متواصل.

فاقرأوا دعاء (مكارم الأخلاق) الشريف - و هو الدعاء العشرون من أدعية الصحيفة السجادية - باستمرار، حتى تعرفوا ما هي الأمور التي سألها الإمام السجاد عليه السّلام من اللّه تعالى في هذا الدعاء. إننا نجهل الكثير من هذه الأدعية كفصل مهم من باب الأخلاق الحميدة.

إن المفاهيم و المضامين الواردة في الدعاء الخامس من الصحيفة السجادية «يا من لا تنقضي عجائب عظمته»(1) و الذي تقول بدايته «اللهم أغننا عن هبة الوهابين بهبتك، و اكفنا وحشة القاطعين بصلتك»(2) تعتبر كلها دروسا لنا. فلنتعرف كلمات الأئمة عليهم السّلام و أدعية الصحيفة السجادية هذه الأدوية الناجعة التي تشفي أمراضنا الأخلاقية و تضمد جراحنا و آلامنا.

اعرفوا قدر الدعاء و التوسل و التضرع و التوجه إلى اللّه و ما يضفي به من نور على نفوسنا.

لقد كان إمامنا العظيم - كما سمعت من كبارنا - يتعبّد منذ شبابه في حرم السيدة المعصومة.

ص: 53


1- الصحيفة السجادية: 29.
2- الصحيفة السجادية: 46.

و قد نقل لنا المرحوم الميرزا جواد الطهراني في مشهد قبل الثورة بعدة سنوات فقال: ذهبت إلى قم للدراسة في الحوزة، و كنت في كل يوم أذهب فيه إلى الحرم أرى وجها نورانيا، و رجلا وقورا، و شابا نورانيا، و سيدا نورانيا، و قد غرق في العبادة، فانجذبت إلى نورانيته و تعبّده، و سألت عنه، فقالوا إنه الحاج السيد روح اللّه الخميني.

و كان هذا في ذلك الزمان عند ما لم يكن إمامنا العظيم - هذه الشخصية البارزة - قد بلغ الثلاثين من عمره. نعم، فهذه هي نتائج تلك العبادات و التوجهات و الارتباط و الاتصال بمعدن نور الغيب الإلهي و الأولياء الإلهيين. فاغتنموا هذه الاشراقات في قلوبكم الشابة و قدروها حق قدرها(1).

الأخلاق الحسنة توصل الى المقامات الإنسانية العالية

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

إنّ المجتمع الذي لا يتعامل أفراده بالأخلاق الحسنة، لا يمكن له بلوغ الأهداف السامية لبعثة الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله؛ لأنّ الأخلاق الحسنة هي التي توصل الإنسان الى المقامات الإنسانية العالية، و لا يقتصر معنى هذه الأخلاق على إظهارها عند التعامل مع الناس و حسب، بل يتعدى الى تنمية الصفات الحسنة و الأخلاق الفاضلة في قلوبنا و أرواحنا و ترجمتها على مستوى أعمالنا.

و إنّ المجتمع الذي يبتلي أفراده بالتحاسد، و العداوة، و الخداع، و الحرص على الدنيا و البخل بمالها، و التحاقد، لا يمكن له أن ينال السعادة، و يصل الى مستوى المجتمع الإنساني المطلوب، حتى و إن طبّق فيه القانون بصورة دقيقة، أو تقدم من الناحية العلمية و وصلت به الحضارة الظاهرية الى منتهى ذروتها.

إنّ المجتمع الذي لا يأمن أفراده بعضهم البعض، و يكون كل فرد فيه

ص: 54


1- من كلمة ألقاها في: 7 رجب 1421 ه - المدرسة الفيضية/قم المقدسة.

معرّضا للحسد و للضغينة و الحقد و المؤامرات و الطمع بما يملك من قبل الآخرين، لا يشعر بطعم الراحة.

أمّا إذا كانت الفضائل الأخلاقية في المجتمع حاكمة على قلوب و أرواح الأفراد، و تعاطف الناس بعضهم مع البعض الآخر، و تحلّوا بروح الصفح و العفو و التسامح، و لم يحرصوا على مال الدنيا، أو يبخلوا بما يملكون، و لم يتحاسدوا فيما بينهم، و لم يتبعوا عثرات بعضهم البعض، و تجمّلوا بالصبر و السماحة؛ فإنّ ذلك سيؤدي بأن يشعر أفراده بالطمأنينة و الراحة و السعادة - و إن لم يكن متقدما تقدما كبيرا على الصعيد المادي - هذه هي النتيجة المتوخاة من الأخلاق، و هذا ما نحن بحاجة إليه؛ لذا علينا أن ننمّي الأخلاق الإسلامية في قلوبنا يوما بعد الآخر، فمما لا شك فيه أنّ قانون الإسلام الشخصي و الإجتماعي هو وسيلة لسعادة البشر؛ إذا ما طبّق في المكان الذي خصص له، إلاّ أنّ تطبيق هذه القوانين يحتاج الى الأخلاق الحسنة أيضا(1).

محاسن الأخلاق و تزكية النفس

و هو ما أكدت عليه الآيات الشريفة و بيّنه الحديث النبوي الشريف المعروف لدى جميع الفرق الإسلامية، و هو قوله صلّى اللّه عليه و آله: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

تصوروا ذلك المجتمع الذي تسوده الخصال الحميدة و الخلق الكريم، و السجايا النبيلة كالإحسان و الأخوة و التسامح و العدل و العلم و الحق و الانصاف، بعيدا عن الصفات الرذيلة و الخلق المقيت، كيف يعيش في سعادة و يتقلب في نعيم(2).

ص: 55


1- من كلمة ألقاها في 1385/1/6 ه. ش الموافق 25 /صفر/ 1427 ه. ق الموافق: 2006/3/26 م - طهران.
2- من كلمة ألقاها في: 27 رجب 1418 ه
ترسيخ الأخلاق في المجتمع

إنّنا نحتاج الى أمرين من أجل ترسيخ الأخلاق في المجتمع: أحدهما التمرين و المجاهدة من قبلنا، و الآخر الدروس الأخلاقية التي لا بد أن يتلقاها المجتمع بجميع طبقاته، من قبل المجاميع و المؤسسات المتكفّلة للقيام بهذه المهام، كوزارة التربية و التعليم، و المؤسسات التربوية و التعليمية الأخرى و الجمعيات الثقافية.

ينبغي لنا أن نجعل فهرسا خاصا لإدراج الصفات الرذيلة و القبيحة، و من ثم عرضها على سلوكنا و أخلاقنا للتعرّف على وجود شيء منها في نفوسنا أم لا، و العمل على إزالة الموجود منها، و كذلك إعداد فهرس آخر للصفات الحسنة، و السعي للحصول عليها من خلال التربية و التعليم.

من الطبيعي أنّ الأمر الذي يقود للتقدم في هذا المجال هو المحبة، المحبة لله و لرسوله، و المحبة لحملة الأخلاق و معلميها - أي الرسل و الأئمة المعصومين عليهم السّلام - هذه المحبة هي التي تجعل الإنسان يتقدم بسرعة في هذا الطريق، و ينبغي لنا أن نعمّق هذا الحبّ في أنفسنا يوما بعد آخر، «اللهم ارزقني حبّك و حبّ من يحبّك و حبّ كلّ عمل يوصلني الى قربك»(1).

علينا أن ننمّي في قلوبنا حبّ اللّه، و حبّ أحباء اللّه، و حبّ الأعمال التي يحبها اللّه تعالى، فهذا جانب من تعليمات الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله الذي جسّد الأخلاق الإسلامية الكاملة(2).

ص: 56


1- جامع السعادات: 121/3.
2- من كلمة ألقاها في 1385/1/6 ه. ش الموافق 25 /صفر/ 1427 ه. ق الموافق: 2006/3/26 م - طهران.

البعد الأخلاقي للثقافة العامة

الثقافة و الأخلاقيات العامة

إنّ العامل الثقافي المعتمد عليه هو غير العامل الذي تتصّدى له الوزارات المختصة بالشؤون الثقافية مباشرة، لأنّ تلك الوزارات أو المراكز الثقافية في الواقع متصدية للعلم أكثر من الأبعاد الثقافية الاخرى، و العلم جزء من الثقافة، لكن الأخلاق و البعد الأخلاقي للثقافة لها الأثر الأوفر في ضمان المستقبل، و هذا ما لا تتكفلّه تلك الوزارات أو المراكز و الأندية الثقافية، لو فرضنا من باب المثال في الجمهورية الإسلامية فوزارة الثقافة و الإرشاد متكفّلة بها بمقدار أكثر ثم وزارة التربية و التعليم و من بعدهما و إلى حدّ ما وزارة التعليم العالي، في حين أن المجلس الأعلى للثورة الثقافية يتكفّل الجانب العلمي أي العلوم البحتة أكثر من الجوانب الأخلاقية العملية، لهذا فإنّني عند ما أنظر - من بعيد - لجهودكم الموفّقة و المباركة أيّها السادة الأكارم أعضاء المجلس الأعلى - أتصّور أنّه يلزم عمل حثيث لضمان الجوانب الأخلاقية و الثقافة العامة.

و عند ما نقول الأخلاق، فلا يتبادر إلى الذهن الأخلاقيات الفردية ليقال: أن نجلس و نعظ الناس، كلا المقصود هو الأخلاقيات العامة.

ص: 57

الأطر القانونية للأخلاق

على سبيل المثال إنّنا طرحنا مع بدء هذا العام شعار ضمير العمل و الانضباط الإجتماعي، فهذان نوعان من الأخلاق.

الإنضباط الإجتماعي

لقد قال وزير الطرق و المواصلات في مقابلة معه قبل أيام: إنّ حوادث المرور في بلدنا تعادل عشرة أضعاف الحد الوسط لسائر الدول في العالم. فكم مؤلم هذا، و كم يموت من الشباب و تتلاشى اسر، و كم تموت شخصيات رفيعة في هذه الحوادث، ثم قال: إنّ السبب الرئيسي يرجع إلى العامل الثقافي.

فهذا حديث وزير وزارة غير مختصة بالشؤون الثقافية، إنّه وزير الطرق، إنه يقول - في إحصائية - إنّ طرقنا ليست السبب الأكبر في الحوادث، بل السبب الرئيسي هو قلة الوعي المروري.

فلو وجد الانضباط الإجتماعي لما حدثت كل هذه الحوادث، و لو وجد الانضباط الإجتماعي، لما حدثت هذه المخالفات و المفاسد المالية التي حدثت في أماكن مختلفة.

و كأني أرى بناءا جميلا و رفيعا في زاوية ما من البلاد، - و افرضوا في مؤسسة ما - و قد أكلت أرضة جميع الجدران و الأعمدة بعيدا عن عيوننا و دون أن نعلم، و إذا بضربة واحدة ينهدم هذا البناء، فالفساد ينفذ هكذا في بعض الأماكن.

إنّ الفرق بيننا و بين الأنظمة الفاسدة هو في الأركان و الاسس، فالأنظمة الفاسدة أساسها خاطئ و غير ثابت، أمّا نحن، فأركاننا راسخة و مستحكمة برسوخ الإسلام، و لكن توجد بين الجدران و الأركان الفرعية شبكات فساد، و لو كان الانضباط

ص: 58

الإجتماعي لما وجدت هذه، و إن كانت هناك دقّة في العمل. و مقصودي أن لو تتبعنا أخلاق المجتمع - طبعا لا أقصد الأخلاق الفردية - و أطّرناها باطر قانونية و حقوقية، نكون قد أرسينا دعائم السير نحو تلك الحضارة.

فإن كان هدفنا إيجاد ضمانة قانونية أو شبه قانونية للأخلاقيات الإجتماعية في هذه البلاد أو غيره و متابعتها - لا تقل ضمير العمل، فالجميع يقول ذلك، بل أن نعمل شيئا لإيجاد ضمير العمل هذا، نريد أن يصبح ضمير العمل عامّا -، فهل يمكن ذلك دون السعي؟ و هل يمكن ذلك بالنصيحة فقط؟ كلا من دون شك، و من يمكنه أن يتصدّى للقيام بهذا العمل؟ و هل هناك غير المجلس الأعلى للثورة الثقافية؟ أي أن المجلس الأعلى للثورة الثقافية يحمل على عاتقه هذه الرسالة العظيمة، و يمكن لهذا المجلس القيام بهذه الوظيفة نظرا لوجود - و لله الحمد - شخصيات بارزة و جليلة و رفيعة المنزلة و القدر و ذات مقامات فكرية و علمية و إسلامية فيه.

و أود التركيز على الضمانة الثقافية العامة و الإسلامية و الثورية لتكون ضمانة لهذه البلاد، فليس بإمكان أي بلد بلوغ مرحلة أرقى دون السعي الحثيث و المستمر و دون الإخلاص في العمل و عدم الاعتناء بالزخارف الدنيوية و المادية إلى حدّ ما، فقد كان المخترعون و المكتشفون في العالم قليلي الاعتناء بزخارف الدنيا، و لو لم يكونوا كذلك لما حصل كل هذا التقّدم العلمي، و بدون المجاهدة لا تبلغ الامم القمم.

فيجب تبيين السلوكيات الإجتماعية التي تهيّئ الأرضية اللازمة للسير نحو المدنية المنشودة - و التي نوّد الوصول إليها و إيصال الدنيا إليها -

فيجب تبيين هذه السلوكيات و القيام بحركة عظيمة لأجل إدخال هذه السلوكيات في حياة الناس، أيّ تبديل السلوكيات السيئة الحالية - طبعا ذلك المقدار السيئ، فالطيّبة موجودة و لله الحمد - بسلوكيات طيّبة و مفيدة و مؤثّرة، و يجب القيام بحركة اخلاقية و حركة ثقافية عظيمة في البلاد الإسلامية.

و إنني ألفت الأنظار إلى الجانب الأخلاقي أكثر، و لا أودّ أن أقول إنّ الثقافة أخلاق،

ص: 59

و لا يمكن القيام بذلك إلاّ بتصدي جماعة لهذه الحركة، و قد يلزم إضافة واجبات إلى أعمالكم و حذف اخرى، و تغيير تنظيم و ترتيب العمل و إضافة أفراد آخرين.

يجب أن ننتهز هذه الفرصة للقيام بأهمّ عمل أي القيام بثورة ثقافية حقيقية و بمعنى أكثر تحوّل أخلاقي، و إلاّ نكون قد قصّرنا في عملنا و سيحاسبنا اللّه(1).

أثر الثقافة على شخصيّة الأفراد

الثقافة العامة نوعان:

الأوّل: الامور البارزة و الواضحة جدّا و الّتي تتمثّل أمام أعيننا و ترتبط بمصير المجتمع. و لا يمكن القول بأنها لا ترتبط بمستقبل و مصير المجتمع، بل لها تأثير بعيد المدى على حركة و حياة الشعوب، كالأزياء و هيئتها الّتي تعتبر جزء من الثقافة العامة للمجتمع و من مصاديق هذا النوع من الثقافة. فما الّذي يجب أن نرتديه؟ و كيف نرتدي؟ و ما هو النموذج الّذي يتّبعه الرجال و النساء في أزيائهم؟ هذه كلّها من المصاديق و النماذج البارزة للثقافة العامة للمجتمع.

و من مصاديق ذلك أيضا هندسة البناء و نوعية البيوت الّتي انشئت قديما و حديثا، و طريقة معيشة الساكنين في كلا النوعين من البيوت، و حتى شكل الأبواب و الشبابيك و طريقة اتصال الغرف فيما بينها. كلّ هذه الامور لها تأثير خاص على ذهن و أخلاق و خصال و تربية الأشخاص.

و على هذا فإن تأثير هذا النوع من الثقافة على مصير المجتمع هو تأثير بعيد المدى لأنّ كلا من الزي و السلوك و طريقة الجلوس على المائدة و اسلوب الكلام لها أثر في تكوين شخصيّة أفراد المجتمع، و لا يمكن إنكار هذه الحقيقة.

ص: 60


1- من كلمة ألقاها بتاريخ 6 رجب 1415 ه
أثر الثقافة على أخلاق المجتمع

النوع الثاني: و هناك نوع ثان من الثقافة العامة له تأثير آني و محسوس، بالرغم من أنّه نفسه غير محسوس بصورة واضحة.

و القسم الأكبر من هذا النوع من الثقافة تكوّنه الأخلاق الفرديّة و الإجتماعيّة لأبناء المجتمع.

افترضوا أنّ أفراد مجتمع ما يدركون أهمية أوقاتهم. و لكنك حينما تدخل إلى هذا المجتمع فسوف لا تدرك بسرعة هل أن أبناء ذلك المجتمع يعرفون أهمّية الوقت أم لا؟ إلاّ أن تأثير معرفة أهمية الوقت على مصير و مستقبل المجتمع أمر في غاية الأهمية.

و كذلك الأمر بالنسبة لمسألة الإخلاص في العمل أي أنّ أفراد المجتمع حينما يتقبلون مسؤولية القيام بعمل ما فإنّهم يعتبرون أنفسهم مسؤولين قبال ذلك و يكون لهم شعور وجداني تجاه المسؤولية، و لا يكتفون بمجرّد إسقاط المسؤولية عن عاتقهم، بل إنّهم يقومون بإنجاز العمل الموكل إليهم بإتقان و كمال.

أو افترضوا أنّ شعبا على استعداد لخوض المخاطر و عدم إيثار الراحة، و على استعداد لدخول ساحات المواجهة أيضا، فمن المسلّم أنّ هذه الخصلة ستترك آثارها على حياة ذلك المجتمع.

و كذلك لو كان هناك مجتمع صبور و محبّ للضيف، أو أنّه معتاد على احترام كبار السنّ فإنّه بذلك يبرز أخلاقه الإجتماعيّة الإيجابيّة.

و كل هذه العناوين تعتبر جزء من أخلاق مجتمع ما و ترتبط بموضوع الأخلاق الفرديّة و الإجتماعية و تأثيرها كبير جدّا في حياة الشعوب، و بإمكانها أن تغيّر مصير و مستقبل شعب ما.

إنّ عامة الامور الّتي استطاعت الشعوب الأوروبية من خلالها تحقيق التقدّم في

ص: 61

حياتها قد أكّد عليها الإسلام و أوصى بها.

فليس من الصدفة أنّ شعوبا (في أوروبا) كانت تعيش في منتهى الجهل و الظلام و الخرافات و التخلّف، و لم تكن تعرف ما هو الكتاب و لم يكن لديها مكتبات، و كانت محرومة من مبادئ العلوم و المعرفة، إلاّ أنّها استطاعت فجأة و خلال قرن من الزمن أن تخرج من ذلك المستنقع - طبعا في الجوانب المادّية فقط - و للأسف فإن هذه الحركة الّتي قامت بها اوروبا ترافقت مع ما يسمّى بالتنوير الفكري، حيث أدّى ذلك عمليّا إلى إلغاء الدّين من حياة الناس و أعطى قيمة أكبر لفكرة أصالة الإنسان في الفلسفة و السلوك.

و هذا هو النقص الّذي عانى منه الأوروبيون، و لو أنّهم لم ينحّوا المعنويات جانبا لكانت حياتهم اليوم - بلا شكّ - أفضل من السابق بأضعاف المرات، و لتضاعف نور العلم في تلك المنطقة مئات بل آلاف المرّات.

و لكنّهم - على كلّ حال - ركّزوا على جوانب إيجابيّة في الحياة استطاعوا من خلالها الخروج من تلك المستنقعات الّتي كانوا يعيشون فيها.

و أنتم إذا ما طالعتم تاريخ اوروبا فسيكون بإمكانكم العثور على تلك الجوانب و النقاط الإيجابية، و معرفة كافة الأخلاق الإيجابية الّتي بإمكانها إنقاذ المجتمع من حضيض البطالة و الفقر و الذلّ و التخلّف، و بلوغ قمّة التقدّم المادّي كان الإسلام قد أعارها أهمّية كبيرة و أوصى بها بصورة مؤكّدة، و كلّ من يراجع المفاهيم الإسلاميّة سوف يعترف بصحّة هذا الموضوع.

أمّا المميزات التي نشعر أنّ أوساط مجتمعنا تعيش نقصا فيها: فإن لها جذورا في تأريخنا.

فمنذ أن بدأت حركة التنوير الفكري في بلادنا و شعرت مجموعة من الناس بضرورة التبعية للغرب و أخذ الجوانب الإيجابيّة منه.

و بدلا من كسب تلك الأخلاق الإيجابيّة و الدعوة لها، أخذ المتنوّرون يروّجون

ص: 62

و يدعون لامور قشريّة تافهة و عديمة الأهمّية، كالحرية الجنسية و الاختلاط بين الرجال و النساء و عدم الاهتمام بالامور المعنويّة و إلغاء الدين و التشهير بعلماء الدين، و منحوا الأهميّة لامور تافهة كالأزياء و الأثاث و ما شابه ذلك.

و هي امور إمّا قليلة الأهمية أو ليس لها أهمية أو أنّها امور ضارة من الأساس.

و نحن حينما نطرح موضوع الهجوم الثقافي و نصرّ عليه، فهذا لا يعني أن الثقافة يجب أن لا تضيف إلى نفسها شيئا من الخارج، بل على العكس يجب أن يكون هناك تبادل بين الثقافات، إلاّ أنّ هذا الأمر لم يحدث في إيران(1).

إذن يوجد في الإسلام جذور كافة هذه المعنويات و الأخلاق الفاضلة و لكن لم يتم - للأسف - الاهتمام بها. و في الماضي كانت الحكومات الاستبدادية و الحكام المستبدون و رجال الدين المزيّفون و وعاظ السلاطين يدعون للنماذج السلوكية المنافية للأخلاق و إضعاف الأخلاق الفاضلة لدى المجتمع.

و ما تبقّى من تلك الأخلاق الفاضلة هو شيء قيّم جدا، فإنتصار الثورة الإسلامية و الصمود في الحرب المفروضة و المقاومة أمام التهديدات الغربية و الشعور بالعزة و الاستقلال أمام القوى الكبرى في العالم كلها نعم كبيرة جدا، و هي امور ناشئة من بقايا تلك الثقافة الإسلامية التي أخذت مكانة ثابتة في نفوس أبناء الشعب.

و نحن نشكر الباري عزّ و جلّ على أن الفرصة لم تتح لأعداء الدين لإلغاء هذه الأخلاق القيّمة و القضاء عليها.

و هذا القدر المتبقي من تلك القيم الفاضلة هو الذي أوجد هذه العزة و هذا التقدم و هذه الحركة الشعبية في ميدان المواجهة، و أنهى العلاقات الاستبدادية و الاستغلالية التي كانت قائمة في العهود السابقة، و سينتهي إلى نتائج أفضل في المستقبل.

و نحن إذا استطعنا أن نجعل أخلاق المجتمع و ثقافته أخلاقا و ثقافة إسلامية، و إذا

ص: 63


1- كما تجده مفصّلا في كتاب حاكميّة الإسلام.

استطعنا تربية المجتمع على الأخلاق الإسلامية و نحيي في نفوس أبناء شعبنا تلك الخصال التي خلقت من جماعة صغيرة - في صدر الإسلام - مجتمعا عظيما مقتدرا، فإننا سنوفق للحصول على أهم النتائج و أطيب الثمار.

إن وجود هذه الحالة في صدر الإسلام كان ناشئا من القيم و الأخلاق التي غرسها الإسلام في نفوس الناس، و لذا فقد اهتم المسلمون بالعلم و العمل و بذلوا المساعي و الجهود و قاموا بالتجديد في كافة المجالات.

إنّ معرفة طبيعة الإنسان و التأريخ، و معرفة طرق العيش و التعامل الحسن و الأخوي كلها امور ترتبط بالثقافة، و لا يستطيع أي جهاز مقتدر إيجادها ما لم يتمكن من تصحيح ثقافة و نظرة الناس.

ص: 64

أثر فصل العدالة الإجتماعية عن الأخلاق

و تدخل في هذا المضمار مسألة العدالة الإجتماعية أيضا. فلو أن العدالة الإجتماعية فصلت عن الثقافة السليمة فستكون عدالة مفروضة، و هو الشيء الناقص و الخاطي الذي كان موجودا في الدول الشيوعية، و قد رأيتم ما ذا ارتكبوا من أعمال باسم العدالة الإجتماعية و خلقوا الفوضى في كافة المجالات و لم يعطوا أهمية لشعوبهم.

إنّ الدول الشيوعية كانت دولا عظيمة و قد كانت شعوبها تهدف إلى ضمان و تحقيق العدالة الإجتماعية، إلاّ أن الطبقات المرفّهة في الحكومة و الدولة أوجدت قيصرا جديدا و أوصلت إلى السلطة ستالين الذي كان أكثر فسادا و ظلما و قسوة من الأنظمة السابقة. و العدالة الإجتماعية تصبح هكذا حينما تنفصل عن الأخلاق و الثقافة السليمة.

العدالة الإجتماعية أمر إجتماعي محض و يرتبط بالحكومة و السياسة و اسلوب الحكم في المجتمع، و هي من ثمرات و نتائج ثقافة سليمة متركزة في أذهان كل فرد من أبناء المجتمع، و هي أمر لا يمكن فرضه على الناس. و كذلك الأمر بالنسبة لكافة الإنتصارات في جميع الميادين.

و إن من يريد نقل الثقافة الإسلامية الى هذا المجتمع أو ذلك و يعيد للمجتمع المسلم تلك القيم التي سلبت منه فيجب عليكم القيام بعمل كبير جدا.

و قد ورد في دعاء مكارم الأخلاق: «و استصلح بقدرتك ما فسد مني»(1)

ص: 65


1- الصحيفة السجادية: 99.

و مصداق هذه الفقرة هو ما يجب القيام به من إعادة ثقافة الإسلام الحقة و تعاليم النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله التي جاء بها و هو إنما جاء ليتمم مكارم الأخلاق.

و إصلاح تلك الأجزاء التي فقدت و فسدت في حياتنا نتيجة للظلم و الاستبداد و الإنحراف، و الأساليب المنحرفة، و تدخل الأجانب و غير ذلك هو أمر بحاجة الى عمل ضخم جدا.

كيف نصلح الثقافة العامة

فالكتاب الهادف يجب أن ينشر من أجل إصلاح الثقافة العامة، و الأفلام يجب أن تنتج لإصلاح الثقافة الإسلامية العامة. و على الإذاعة و التلفزيون أن تعمل دوما من أجل الثقافة العامة، كما يجب على العلماء و أئمة الجمعة و الخطباء و المبلغين المحترمين - في أية مسؤولية كانوا - أن يبذلوا جهودهم و مساعيهم من أجل هذا الأمر المهم، فمجموعة تقوم بتحليل الامور، و اخرى تتدبر في آيات الكتاب العزيز، و مجموعة تتولى شرح و بيان كلمات المعصومين عليهم السّلام.

كما يجب أن يكون عموم توجّه الصحافة نحو إصلاح الثقافة العامة، و على المؤسسات المختصة بشؤون التبليغ و الإعلام كمنظمة الإعلام الإسلامي و المؤسسات التابعة لها أن تبذل جهودها في إتجاه إصلاح الثقافة العامة أيضا.

إنّ الشعوب المسلمة تمتلك الأرضية في هذا المجال، و ميزة المشاريع الأساسية أن تبقى مرتكزة في نفوس الناس و تنتقل من جيل إلى جيل و تصبح جزء من فطرة أبناء المجتمع، و حتى لو أن الناس انفصلوا عنها برهة من الزمن فإنهم - و بأدنى حركة - سيعودون مباشرة الى فطرتهم و الى تلك الخصال الإسلامية التي اكتسبوها.

و يجب البحث و اكتشاف الأهم و الأقوى و الأكثر أصالة في المجال الأخلاقي ليبتدأ به كأولوية، و من ثم العمل على نشره و تركيزه، كما يجب السعي الى أن تكون كافة النشاطات في هذا المجال متمركزة، و يجب على أصحاب الفكر و القلم و الشعر و الفن

ص: 66

أن يدعوا و يروّجوا لهذه الأولويات الأخلاقية، كما تقع المسؤولية في هذا المجال على عاتق العلماء الأعلام في شتى أنحاء العالم الإسلامي و بمختلف مذاهبهم و أطيافهم.

إنّ الأهداف الإسلامية و التعاليم النبوية تشمل كافة الامور الفردية و الإجتماعية و لا يوجد نقص في أي موضوع ثقافي أو أخلاقي، فالإسلام دين الكمال و الرقي و التقدم، و لو تم إنجاز هذا المشروع (إصلاح الثقافة العامة) فسيتمكن المسلمون في أي بقعة من الوصول الى أهدافه الحقيقية تلك(1).

ص: 67


1- من كلمة ألقاها في: 11 صفر 1416 ه
دور الثقافة و الأخلاق في تقرير مصير الشعوب

إن الهمّ الثقافي و الاهتمام بقضية الثقافة قد يكون حالة من الحساسية الشخصية أحيانا، و قد يكون أيضا ناتجا عن النظرة إلى الثقافة. و لعل الحساسية الشخصية و كذلك الأهداف و المقاصد الفردية قد لا تكون ذات بال و لا قيمة، بل إن المهم هو أن نعرف ما هو تأثير الثقافة على مصير البلاد في الواقع، و كيف أن الاهتمام بالمسألة الثقافية و الشعور بالحساسية أزاءها يمكن أن يقوم بدور مشهود في صناعة المستقبل الذي نهواه و نعمل من أجله.

و برأينا فإن عقائد و سلوك الفرد أو المجتمع تمثل القسم الأعظم من الثقافة. و إن السلوك الإجتماعي الذي يشكل جزءا من الثقافة العامة و الوطنية ينبع من هذه العقائد.

و في الحقيقة فإن العقائد و الأخلاقيات هي التي تعمل على إيجاد سلوكيات الإنسان و تبلورها.

إن الأخلاقيات الإجتماعية تعمل على انبثاق و إيجاد السلوكيات الإجتماعية، و كذلك الأخلاقيات الفردية، و لهذا فإن المقولة الثقافية تشتمل على السلوكيات أيضا في أحيان كثيرة، غير أن أساس الثقافة و أصلها عبارة عن العقيدة و انطباع كل إنسان عن واقعيات و حقائق العالم و الوجود و كذلك الأخلاق الفردية و الأخلاق الإجتماعية.

و لسوف أستعرض فيما يلي عددا من نماذج الأخلاق الإجتماعية و القومية التي تقرر مصير شعب أو أمّة؛ فمنها مثلا العزم و الإرادة، و الكبرياء الوطنية، و الاحساس بالقوة و العنفوان، و الشعور بالقدرة على الإقدام و العمل و البناء، و كذلك الانضباط، و النشاط، و التعاون و المشاركة.

و لو افترضنا أن أمّة تمتلك هذه الأخلاقيات إلى جنب ما تمتلكه من إيمان

ص: 68

و عقيدة، لوجدنا كيف أنها تشدّ أزرها في بلوغ أهدافها و طموحاتها. و لهذا فإننا نعتقد بأن مقولة الثقافة لا يمكن مقارنتها بشيء آخر من حيث تأثيرها على مستقبل بلد أو أمّة، و من هنا تأتي أهمية مقولة الثقافة و إصلاحها.

تحريف الثقافة تحريف للإنسانية

و لذلك فإن كل ما يبعث على قلق الإنسان أزاء مستقبل بلد ما و أهدافه و آماله هو بعينه ما يبعث على القلق بخصوص القضايا الثقافية.

و على هذا الأساس فإن هذا الهم الثقافي نابع من القلق حيال إنسانية الإنسان و حيال الأهداف الإنسانية السامية و حيال تلك الأشياء و المقاصد التي نريد بلوغها في الحقيقة و التي نسعى و نعيش من أجلها.

و بالتالي فإننا لو افترضنا أن نتاجا ثقافيا غير صحيح ينتشر في بلد ما - كالفكر غير الصحيح، و الأخلاق غير السوية، و السلوك غير المناسب، و الوسائل الثقافية غير الموضوعية، و الإعلام غير السليم، و الكتاب غير المفيد، و الأساليب الفنية غير اللائقة - و الذي من شأنه المساس بالعقائد و إضعافها عن طريق الخرافات و الأفكار و الأساليب غير الصحيحة و المنحرفة، فلا بد و أن ننظر إلى هذا النتاج أنه نتاج معاد للإنسانية، و أنه لا بد من مواجهته بهدف الدفاع عن الإنسانية، و أن على الجميع أن يشعروا بالمسؤولية في هذا الصدد. فهذه هي وجهة نظرنا حول الثقافة.

ص: 69

الرؤية المادية للعقيدة و الأخلاق

إن الثقافة - بمعنى العقيدة و الأخلاق - ليست لها هذه المنزلة في الرؤية المادية لقضايا العالم؛ أي أن العقيدة و الأخلاق لا تحظى بهذه الأهمية التي تحظى بها عندنا بالنسبة لاولئك الذين ينظرون إلى قضايا العالم و شؤون البشرية و أمور الحياة نظرة مادية صرفة.

و لهذا فإن الغرب المادي يتخذ موقفا على صعيد العقائد و الأخلاق غير الموقف الذي يتخذه في مجال السلطة و المال و الذي تتجسد من خلاله المصالح المادية و الملموسة؛ فحيثما يشعر الغرب بأن ثمة مجالا للوصول إلى السلطة و كسب الثروة و الأرباح أو المنافسة فإنه ينزل إلى الميدان بكل ما لديه من قوة دون أي تساهل أو تسامح أو مداراة، و هذا ما لا يفعله في مجال العقيدة و الأخلاق - أو على أقل تقدير في مقام الإدعاء - حيث يدّعي التسامح و عدم التعصب؛ أي أنه لا يقيم لها وزنا؛ فلكل شخص أن يختار عقيدته أو أخلاقه بالشكل الذي يريد، و إن كنّا نرى أحيانا أن الغربيين يبدون الكثير من العصبية في المجال الثقافي؛ أي عند ما يكون الأمر متعلقا بمصالحهم السياسية أو التوسعية أو السلطوية بشكل أو بآخر، فإنهم حتى على الصعيد الثقافي يدخلون الميدان بعنف و عصبية دون إبداء شيء من المرونة أو التسامح.

و لكن القاعدة العامة عندهم هي عدم إظهار الحساسية أو إتخاذ موقف ما عند ما يتعلق الأمر بقضايا العقيدة و الدين و الثقافة و الأخلاق. و هذه هي العلمانية؛ أي الفكر المحايد و غير المبدئي في مجال العقيدة و الأخلاق و ما إلى ذلك. هذه هي الرؤية المادية الغربية.

ص: 70

و بالطبع فإن الغربيين ليسوا هكذا جميعا، بل إن في الغرب أيضا فكرا معنويا و إلهيا و عرفانيا يعلن عن نفسه في بعض الأحيان، و لا سيما في أيامنا هذه، و لكن هذا هو مبنى الفكر المادي السائد في الغرب بصفة عامة.

ص: 71

العقيدة و الأخلاق في الرؤية الإسلامية

إن الأمر يختلف تماما عند ما يتعلق الحديث بالإسلام، حيث إن النظرة إلى القضايا العقائدية و الأخلاقية في الإسلام ليست نظرة غير مبالية أو غير مكترثة و لا مسؤولة؛ فالإسلام يعطي شطرا من نشر العدالة لقضية العقائد و الأخلاق، أي أن الذي يتجاهل الحيلولة دون إنحراف شخص ما، مع تمكنه من ذلك، يكون قد أجحف بحقه، كما أن الذي يستطيع هداية شخص ما أو توعيته و إرشاده على الصعيد الأخلاقي ثم يتوانى عن ذلك، يكون قد ظلم ذلك الشخص و أجحف في حقه.

و هناك عدة روايات حول تفسير قوله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنٰا عَلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسٰادٍ فِي اَلْأَرْضِ فَكَأَنَّمٰا قَتَلَ اَلنّٰاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْيٰاهٰا فَكَأَنَّمٰا أَحْيَا اَلنّٰاسَ جَمِيعاً (1).

روى حمران بن أعين قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام سألته عن قول اللّه مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنٰا عَلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ إلى قوله فَكَأَنَّمٰا قَتَلَ اَلنّٰاسَ جَمِيعاً قال عليه السّلام: منزلة في النار إليها انتهى شدة عذاب أهل النار جميعا فيجعل فيها، قلت: و ان كان قتل اثنين؟ قال: أ لا ترى أنه ليس في النار منزلة أشد عذابا منها، قال عليه السّلام: يكون يضاعف عليه بقدر ما عمل.

قلت: (فمن أحياها).

قال عليه السّلام: نجاها من غرق أو حرق أو سبع أو عدو. ثم سكت ثم التفت إلى فقال:

ص: 72


1- سورة المائدة: 32.

تأويلها الاعظم دعاها فاستجابت له.(1)

و في رواية أخرى قال عليه السّلام: «من أخرجها من ضلال إلى هدى فقد أحياها، و من أخرجها من هدى إلى ضلالة فقد قتلها»(2).

أي الذي يهدي إنسانا.

فهداية إنسان واحد كأنها هداية للإنسانية جمعاء، و ذلك لأن الجوهر الإنساني واحد في هذا الإنسان كما في كافة البشرية؛ فعند ما تقومون بمدّ يد العون للجوهر الإنساني متمثلا في شخص واحد و تفيضون عليه من قبس الهداية - سواء على صعيد الدين أو في مجال الأخلاق - تكونون قد منحتم العون و المساعدة للجوهر البشري بأجمعه، و لهذا فإن الدرجة و القيمة واحدة في الحالتين.

إن هذا يدل على أن هداية البشر و العمل على خلاصهم ليس بالأمر الهيّن على كل إنسان؛ فحتى عند ما يقول تعالى فَلْيَنْظُرِ اَلْإِنْسٰانُ إِلىٰ طَعٰامِهِ (3) فإن الإمام عليه السّلام يصرّح في بعض الروايات بأن هذا الطعام هو الطعام المعنوي؛ أي طعام الدين و الأخلاق.

و النظر إلى الطعام معناه إعطاء الأهمية لما يتناوله الإنسان أو ما يعطيه للآخرين لكي يتناولوه.

و هذا يدل على أهمية الغذاء الروحي و المعنوي و أثره على بناء الشخصيّة.

و هناك رواية أخرى تقول بأن أمير المؤمنين علي عليه السّلام كان يستعد للسفر إلى اليمن من أجل تولّي أمر القضاء - و يبدو أن ذلك كان في أواخر حياة الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله - فذهب إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله يسأله الوصية و النصيحة؛ و عندئذ قال له الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله:

ص: 73


1- انظر البحار: 36/24، و البرهان: 464/1. و تفسير الصافي 439/1، و تفسير القمي: 167/1، و تفسير العياشي: 313/1 ح 78.
2- انظر تفسير البرهان: 464/1، و تفسير القمي: 167/1، و تفسير العياشي: 313/1 ح 78.
3- سورة عبس: 24.

«يا علي، لئن يهدي اللّه بك رجلا خير مما طلعت عليه الشمس»(1).

و هذا يعني أن الإنسان لو قدّموا له كل ثروات العالم و منحوه كافة أنواع السلطة و السيطرة و حاز أسمى المناصب المادية فإن ذلك كله لن يرقى إلى مرتبة أن يهدي اللّه به شخصا واحدا.. و هذا أمر طبيعي، لأن الثروة و السلطة و المنصب كلها عرض زائل و ليست لها قيمة حقيقية، و لكن هداية إنسان واحد لها كل هذه الأهمية الكبرى عند اللّه تعالى(2).

ص: 74


1- أعيان الشيعة: 647/3.
2- من كلمة ألقاها في: 21 رمضان 1241 ه - طهران.
الفرق بين الإقتدار المعنوي و المادي

إن كل شعب يحتاج لأن يتقوى من أجل الدفاع عن المبادئ السامية، و أن تعريف القوة وفق المنطق الديني و المعنوي يختلف كثيرا عن تعريف القوة في المنطق المادي، فالمنطق المادي يرى القوة في الأجهزة و الآلات، في السلاح النووي و الكيماوي و الجرثومي و في مختلف المعدات المادية المتطورة، و هذه ليست القوة بأجمعها، فالجانب الأعظم من القوة يتمثل بوجود الذين يعملون على إستخدام هذه القوة. فإذا تميزت أية مجموعة بحقانيتها و عملها من أجل الحق، و تجاهد في سبيل مبادئ و قيم سامية، و هي على إستعداد لأن تسخّر وجودها و قدراتها و قابلياتها في هذا الجهاد، فهذه هي القوة الحقيقية، و إن المجموعة التي تعمل من أجل الحق و القيم الحقة تأبى إستخدام القوة بصورتها الحيوانية، و لا ترتكب الظلم و الإستكبار و لا تمتهن البشر و لا تتجاوز أو تعتدي على أراضي الغير، و لا تسلب الأمم و الشعوب ثرواتهم و إمكانياتهم و تضمها إليها. إن هذه هي أخلاق القوة المعنوية.

إن القوة المادية لم تعرف الأخلاق و لا علم لها بها، و إن القوى المادية لا تستخدم من أجل الحق و القيم الحقة، و إن منطق أصحاب القوة المادية هو منطق الغاب، فنظرا لإمتلاكهم القوة المادية فإنهم يرون الحق مختصا بهم، و هذا أمر خاطئ و معادلة باطلة(1).

ص: 75


1- من كلمة ألقاها في: 30 جمادى الأولى 1424 ه - طهران.
حتمية زوال الحضارة الغربية لأنها علم بلا أخلاق

إن الإنحرافات هي السبب في اضمحلال الحضارات؛ فعند ما تبلغ الحضارات ذروتها فإنها تؤول للانحطاط جراء نقاط الضعف و الفراغات و الإنحرافات؛ و هو ما نشاهده اليوم في الحضارة الغربية التي تقوم على علم بلا أخلاق، و ماديات بلا معنويات و لا دين، و سلطة بلا عدالة.

ففي فلسطين المحتلة مثلا و حيث يحولون دون الفلسطينيين من العيش في بلادهم أو الحياة بيسر و كرامة في وطنهم، و عند ما يضطر أحد المواطنين الفلسطينيين للقيام بحركة أو إلحاق ضرر بأحد الصهاينة الأجانب الغرباء الغاصبين، فإنهم يعبّئون كل وسائلهم الإعلامية في الغرب من أجل إبراز هذا الحدث...! و لو حدث أن قتل أحد الصهاينة فإنهم ينشرون صورة أبيه و أمه و ابنه و أخته، و يعبرون عن بكائهم و حزنهم في المجلات الأمريكية و سواها من الصحف العالمية!

و لكن عند ما يقتل صبي أو شاب فلسطيني و هو في أحضان والده و على مرأى منه في فلسطين، و عند ما يطلقون الرصاص على النساء و الرجال و الأطفال و المسلمين و المصلين في المسجد الأقصى، فإن الأمر لا يقابل إلاّ بالصمت أو التعتيم! و حتى عند ما تضطر فإنها تنقله بصورة مقتضبة مشوهة، و بأسلوب منحاز و غير حيادي، و بالشكل الذي يصب في صالح الغاصبين المحتلين و ليس في صالح الشعب الفلسطيني المظلوم! هذه كلها من علامات تدهور و انحطاط الحضارة الغربية.

و بالتأكيد فإن ظهور الحضارات أو أفولها لا يأتي طفرة، بل إنه أمر تدريجي و تاريخي، و لكن هذه هي إمارات الاضمحلال.

لقد توصل العديد من المفكرين الغربيين إلى هذه الحقيقة اليوم، و ها هم يشيرون

ص: 76

و يحذرون من العواقب. و لهذا فإنه لا داعي إلى الدهشة و التعجب فيما إذا ومض ضوء في مكان ما من العالم، كما ظهرت كافة الحضارات التاريخية، أو فيما إذا ظهر فكر جديد أو مشروع جديد للبشرية يقوم على أساسه نظام سياسي في إحدى جهات المعمورة فيجتمع عليه شعب من الشعوب، و يقوم بدعمه و ترسيخه، و يعمل في إطار الشروط الضرورية التي أوضحتها، و يستعيد خواص و صفوة و نخبة المجتمع فرصتهم و أدوارهم و يعملون طبقا لها؛ و حينئذ لا يكون من المستبعد أن تزدهر هذه الحضارة كبقية الحضارات و تسطع كالشمس المتألقة في كبد السماء و تمنح أشعتها و نورها لكافة أرجاء العالم، بل إنه لأمر حتمي(1).

ص: 77


1- من كلمة ألقاها في: 7 رجب 1421 ه - المدرسة الفيضية/قم المقدسة.

ص: 78

الأخلاق الإجتماعية

الأخلاق شرط الحياة السعيدة

إن تحقيق حياة سعيدة مناسبة للإنسان يتطلب تزكية أخلاقية للفرد تغسله من الدناءة و الدنس، كما لا بد أيضا من حركة جماعية تفتح أمامه ساحات الحياة على تعامله مع الطبيعة و على مواجهته الحتمية مع حراس أنظمة الظلم و الإستكبار.

الإسلام يمنح الكون و الحياة محتوى و معنى، و بتعيينه الطريق السوي الصحيح للمسير يهدي الإنسان إلى حياة سعيدة حقيقية و إلى الصراط الإلهي المستقيم، و كل الأحكام و التعاليم الإسلامية و كل الخطوط الأساسية في المنهج السياسي و الإجتماعي و الإقتصادي للإسلام و جميع العبادات و القرارات الفردية و الجماعية تشكل أجزاء متلاحمة منسجمة لهذه الوصفة الداعية إلى السعادة و الحياة.

المجتمعات البشرية المختلفة، و هي تعاني اليوم من فراغ روحي و ضياع و حيرة و ويلات إجتماعية و فردية، و التي جرها طواغيت الثروة و القوة على الساحة العالمية؛ تحتاج إلى الإسلام و إلى تعاليمه و دروسه الكبرى، و الدعوة الإسلامية تحمل عناصر الجذب و النفوذ و الأمل ليس فقط للشعب الذي يحترق بنيران الفقر و الاستضعاف، بل أيضا و بنفس القدر للشعوب التي تتخبط في مستنقعات الفراغ و الحيرة و الفقر الروحي في البلدان الثرية و المتطورة؛ و ما تذكره الإحصائيات و الدراسات من تزايد التوجه إلى الإسلام بين فئات الشباب و بين كل المشمئزين من خواء الحياة المادية

ص: 79

في البلدان المتطورة الغربية دليل على هذا الجذب و النفوذ.

إذا كانت الأجواء و بفعل الذهنيات المنحرفة و الأغراض المستفحلة قد أوحت يوما بأن الإسلام محصور بالمسجد و المحراب و نافع للحياة الفردية و الروحية و ليس له رأي في ساحات السياسة و الإقتصاد و النضال الإجتماعي و الصعيد الدولي، و إذا كانت نظرية فصل الدين عن السياسة أداة بيد القوى الاستعمارية و السلطات الظالمة و الحكومات الاستبدادية لخنق روح الإصلاح بين المسلمين و تجفيف معين النهضات الإسلامية، فإن قيام الجمهورية الإسلامية اليوم في إيران و تغلبها على كل المؤامرات و الخصومات العسكرية و السياسية و الإقتصادية، و وقوفها كالجبل الأشم أمام جبهة واسعة جهزها الكفر و الإستكبار و الاستبداد، و تبديدها لآمال أميركا و الصهيونية و من لفّ لفهما ممن عبأ كل قواه للقضاء عليها أو لدفعها على طريق الإنحراف، و ما سجلته من نمو و إقتدار متزايد خلال الأعوام العشرين، كل ذلك أحبط تلك الذهنيات المنحرفة و الاهداف المغرضة، و أثبتت نظرية الإسلام السياسية و الإجتماعية صحتها و واقعيتها على الصعيد العملي(1).

ص: 80


1- من كلمة ألقاها في: 1 ذو الحجة 1419 ه لحجاج مكة المكرمة.
الإصلاح الإجتماعي الأخلاقي

إن آخر ما يبلغه الإصلاح في أي تغيير إجتماعي هو الأخلاق. و الأخلاق هنا لا بمعنى السلوك، صحيح أن سلوك الناس في ما بينهم يطلق عليه عرفا اسم «الأخلاق» و هذا أيضا بطيء التغيّر، و لكن ليس هذا هو مرادنا. إنّ آخر ما يناله التغيير هو الملكات الخلقية الراسخة الفردية و الإجتماعية. فلكل واحد من المجتمعات البشرية خصائصه الأخلاقية؛ فبعضها معروف بالتعصب، و بعضها الآخر معروف بالترف و الميل إلى الراحة، و ما إلى ذلك. و هذه تتغيّر ببطء. فإذا كان مجتمع ما يتّصف بمثل هذه الأخلاق القبيحة فإنّها تتغيّر بشكل بطيء جدا.

إذا أردتم التأثير على مخاطبيكم - سواء كانوا يدركون ما أشرنا إليه أم لا - يجب عليكم مواجهتهم بأخلاق حسنة، لتثبتوا لهم أنّ أخلاقنا قد تغيّرت. يجب أن نثبت أنّ الإسلام تغلغل و رسخ في أعماقنا و في سويداء قلوبنا. و إلا فإذا كان مجرّد انتحال لإسم الإسلام و التظاهر به و بالجمهورية الإسلامية، فإن آخرين من قبلنا فعلوا ذلك، و فعله و سيفعله آخرون من بعدنا. و ليس لهذا الإدعاء أهمية تذكر. بل و قد ينطوي على ضرر أحيانا.

إذا أردتم أن تحققوا الجاذبة المعنوية للإسلام في مخاطبيكم - أي مسلم في العالم، حتى و إن كان مسلما غير عامل - و اجتذابهم إلى الإسلام الحقيقي، فعليكم أن تتمسكوا بالأخلاق الإسلامية و السلوك الإسلامي، و الحكمة و التسامح و بعد النظر و النضوج، و الإنسانية و حب الخير و المروءة(1).

ص: 81


1- من كلمة ألقاها في: 6 ذي القعدة 1418 ه - طهران.
الاستغفار و الإصلاح الاجتماعي

الإستغفار و الإصلاح الاجتماعي يعتبر من أكثر مصاديق الاستغفار تأثيرا على حياة الإنسان، بل هو المفهوم و المحتوى و المضمون الواقعي للإستغفار، فيجب علينا أن نقوم بإصلاح مسيرتنا و هدفنا الإجتماعي على قدر ما نستطيع، و علينا أن لا نعتبر هذا الأمر أمرا صعبا، فمن خلال الإرادة يمكن أن تذلّل الصعوبات.

نقرأ في دعاء أبي حمزة الثمالي: (و أنّ الراحل إليك قريب المسافة)(1). إنّ أهم الأمور هو الإرادة و الإقدام و شحذ الهمم... (و إنّك لا تحتجب عن خلقك إلا أن تحجبهم الأعمال دونك)(2).

إنّ الطريق الى اللّه تعالى قريب المسافة، و إذا ما وفقنا فإنّ توفيقنا هو دلالة على رحمة اللّه تعالى. إذا استطعتم أن تستغفروا من أعماق قلوبكم و تصلحوا أعمالكم، فسوف يشملكم الباري برعايته، و يقربّكم و يحببكم إليه.

إنّ اللّه تعالى ينسب التوبة في القرآن الكريم الى ذاته المقدسة في كثير من الآيات المباركة كما في قوله تعالى: ثُمَّ تٰابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا (3).

فما هو معنى التوبة؟ التوبة تعني: الإلتفات و الإنابة، و بسببها يرعاكم اللّه تعالى بعطفه، من أجل أن تميل قلوبكم إليه.

إذا لم يحصل التعلّق من قبل المعشوق *** فمهما سعى العاشق فلا يصل الى غايته

ص: 82


1- مصباح المتهجد: 583.
2- المصدر السابق.
3- سورة التوبة: 118.

و جاء في دعاء أبي حمزة الثمالي أيضا: (معرفتي يا مولاي دليلي عليك و حبّي لك شفيعي إليك و أنا واثق من دليلي بدلالتك و ساكن من شفيعي الى شفاعتك)(1).

إذا رأيتم أيادي الشباب و هي ترفع الى السماء في شهر رمضان المبارك داخل المساجد، و صوت (العفو) يدوّي من الحاضرين، إعلموا أنّ اللّه تعالى يرعى هذا الشعب، و يعطف عليه؛ لأنّه يريد أن يرسل رحمته و لطفه (اللهم إنّي أسألك موجبات رحمتك)(2)، فالله تعالى يريد أن يشمل برحمته و لطفه هذا الشعب(3).

ص: 83


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: 61 ح 97.
3- من كلمة ألقاها في: 1384/8/8 ه. ق الموافق: 26 /رمضان المبارك/ 1426 ه الموافق: 10/30 / 2005 ه - طهران.
التلازم بين السلطة و الأخلاق في الإسلام

إنّ السلطة إنما هي ظالمة غاصبة إذا ما خلت من الأخلاق.

يجب أن تكون سبل الوصول إلى السلطة و المحافظة عليها سبلا أخلاقية، فلا معنى في الإسلام للتشبث بأي وسيلة لبلوغ السلطة، و ليس ثمة حق لأي كان - فردا أو فئة - في اللجوء لأي سبيل أو وسيلة للإمساك بالسلطة، كما هو شائع في عصرنا هذا في الكثير من بلدان العالم، فالسلطة المتأتية أو التي تجري المحافظة عليها عن هذا السبيل إنما هي سلطة ظالمة و تفتقد الشرعية.

إن للأساليب أهميتها في الإسلام، شأنها في ذلك شأن القيم، فكما يهتم الإسلام كثيرا بالمثل فإن الأساليب تحتل نفس تلك الأهمية، و لا بد أن تتجسد هذه المثل عن طريق الأساليب أيضا.

و إذا ما أردنا لحكومتنا أن تكون إسلامية بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة فما علينا إلاّ السير في هذا الطريق دون مواربة، و يجب على كافة المسؤولين في شتى الحقول أن تنصبّ جهودهم في استثمار السبل الصالحة و الأخلاقية لإنجاز المهام الملقاة على عواتقهم و تحقيق أهدافهم، و قد يؤدي ذلك إلى بعض الإخفاقات و المتاعب في مجال بلوغ الحكم، غير أنه من المؤكد عدم صواب اللجوء للوسائل غير الأخلاقية من وجهة نظر الإسلام و أمير المؤمنين عليه السّلام، فهذا هو منهج علي و أهل بيته عليهم السّلام الذي يتعين علينا اقتفاؤه(1).

ص: 84


1- من كلمة ألقاها في: 20 ذي الحجة 1421 ه - طهران.
دور الأخلاق في كافة الشؤون

من الطبيعي أن تبليغ الدين و تبيين الحقائق، الذي يعد من واجب العلماء و دعاة الإسلام، يجب أن يتضمن كل هذه الأمور. فنحن حتى إذا بلغنا ذروة الرفاه الإقتصادي، و كسبنا أضعاف ما نحن عليه من إقتدار و مجد سياسي، لكن أخلاق الناس لم تكن أخلاقا إسلامية، و لم نكن نتحلى بالصبر و الحلم و التفاؤل و حسن الظن، فسينهار العمل من أساسه. فأساس الأمور الأخلاق. و هذا كله مقدمة للأخلاق الحسنة «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

و غاية الحكومة الإسلامية أن يتربى الناس في هذه الأجواء؛ لتتسامى أخلاقهم و ليكونوا أكثر قربا من اللّه، و لتبنى نواياهم على القربة للّه تعالى.

و السياسة أيضا تستلزم وجود قصد القربة، فكل من يتحدث بشؤون السياسة و يحلل و يكتب فيها و يتخذ القرارات بشأنها لا بدّ و أن تكون لديه مقدرة على قصد القربة.

و لكن متى يعقد النيّة على القربة؟ حينما يدرس الإنسان الأمور و يبحث فيها، يجب عليه أن ينظر هل في ذلك للّه رضى؟ إذا رأى في ذلك للّه رضى يمكنه عقد نيّته على التقرب إلى اللّه تعالى.

إذن يجب أولا إحراز رضى اللّه. لاحظوا مدى وضوح المنهج، و كيف أنّ البعض لا يلتفت إليه!(1).

ص: 85


1- من كلمة ألقاها في: 24 ذي الحجة 1418 ه ق - طهران.
القيم الأخلاقية لا تشكل حاجزا أمام الحرية

إنّ حرّية الحياة، و حرية المعتقد، و حريّة الكفاح السياسي مقيّدة بهذه الحدود.

و يستخلص من هذا أنّ الحرية في العالم المادي الغربي لها حدودها و قيودها أيضا.

غاية ما في الأمر أنها قيود مادية...

أما القيم الأخلاقية فلا تشكل هناك أي حاجز أمام الحرية. فهناك - على سبيل المثال - في أمريكا حركة الشذوذ الجنسي، و هي من الحركات الناشطة و تتباهى بسعة نشاطها و تنظم التظاهرات في الشوارع، و تنشر ما تشاء من الصور في المجلات، و تشير بكل فخر إلى أسماء التجار و الساسة الذين ينتمون إليها، من غير أن ينكر أحد منهم مثل هذا الإنتماء أو يشعر بالخجل منه.

و الأدهى من ذلك هو أنّ بعض من يعلنون معارضتهم لهذه الحركة يواجهون هجمة شرسة من بعض الصحف و المجلات. و خلاصة القول هي أنّ القيم الأخلاقية لا توجب لديهم فرض أي قيود على الحرية.

من الأمثلة الاخرى الشائعة في الدول الأوربية هي أنّ حرية البيان تتقيّد بعدم الدعاية لصالح الفاشية، و من الواضح أنّ الدافع الكامن وراءه دافع مادّي و منفعة حكومية، في حين أنّ حركة العري - و هي حركة أخرى أيضا - لا تفرض عليها مثل هذه القيود. و هذا يعني أن حدود الحرية وفقا للنظرة الغربية و في ظل جذورها و دوافعها الفلسفية، تتقيد بالحدود المادية لا الأخلاقية. غير أنّ الإسلام يقر قيودا أخلاقية لها. أي أنّه يعتقد بحدود معنوية للحرية فضلا عن تلك الحدود المادية.

و لا شك طبعا في وجوب تقييد حرّية كل من يقدم على عمل فيه اضرار بمصلحة البلد. و هذا أمر منطقي، إلاّ أنّ القيود المعنوية موجودة أيضا.

ص: 86

إذا كان الإنسان يؤمن بعقيدة ضالّة فلا مؤاخذة عليه. و حينما نقول لا مؤاخذة عليه فذلك يعني أنه مؤاخذ أمام اللّه و أمام المؤمنين، إلاّ أنّ الحكومة غير مكلفة بإتخاذ أي إجراء ضدّه. كان إليهود و المسيحيون و اتباع بقية الأديان موجودين في المجتمع الإسلامي في زمن صدر الإسلام، و في بلدنا في الوقت الحاضر، و لا مانع من ذلك. أما إذا حاول صاحب العقيدة الفاسدة إضلال الناس البسطاء - لا بدّ - من وضع قيود أمام حريته.

و هذا المثال ينطبق أيضا على من يبتغي إشاعة الفساد السياسي أو الفكري أو الجنسي، و على أدعياء الفلسفة ممن يدأبون على تدبيج مقالات تقدح على سبيل المثال بالدراسات العليا للشباب و تحصي ما فيها من المعايب و النواقص. من الطبيعي أن مثل هذه المقالات عديمة التأثير بنسبة تسعين بالمائة، لكنها من المحتمل أن توثر على بعض الشباب الكسولين بنسبة عشرة بالمائة. و لا يجوز في مثل هذه الحالة السماح لمن يتّبع أساليب الخداع و الأكاذيب لصرف الشباب عن مواصلة الدراسة.

الحرية لا تعني الأكاذيب و لا بث الإشاعات و الأراجيف.

إنّ مما يحز في النفس هو عدم الرجوع إلى الدراسات و المبادئ الإسلامية في ما يخص قضايا الحرية.

ورد في الآية 60 من سورة الأحزاب لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اَلْمُنٰافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْمُرْجِفُونَ فِي اَلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ (1) المنافقون و الذين في قلوبهم مرض فئتان و إلى جانبهما فئة المرجفين الذين يثيرون الرعب و الخوف على الدوام في أوساط المجتمع الإسلامي الوليد الذي يجب أن يكون أفراده في حالة استعداد روحي دائم للدفاع عنه، إلاّ أنّ فئة كانت تقع في النفوس كوقع الآكلة، و تثبط العزائم و الهمم.

ص: 87


1- سورة الأحزاب: 60.

و هؤلاء هم المرجفون الذين يحذرهم القرآن إنهم إذا لم يكفوا عن عملهم، ليغرينّك بهم و يؤلبك عليهم. و هذا حد للحرية. إذن الفارق الآخر الذي تتسم به الحريّة في المنطق الإسلامي هو أنّ لها قيودا من القيم المعنوية.

و هناك فارق آخر أيضا و هو أنّ الحرية في منطق الفكر الليبرالي الغربي تتنافى مع التكليف؛ على اعتبار أنّ الحرية تعني التحرر من التكليف أيضا. في حين يذهب الإسلام إلى أنّ الحرية هي الوجه الآخر للتكليف، و الناس أحرار لأنهم مكلفون. و إذا لم يكن هناك تكليف فلا ضرورة للحرية، و لكانوا على طبائع الملائكة؛ و كما قال الشاعر مولوي ما معناه: إنه جاء في الحديث أنّ الخلاق المجيد خلق العالم على ثلاثة أنماط، و أحد هذه الأنماط هم الملائكة الذين كلّهم عقل و علم و لا يعرفون غير السجود للّه.

بينما يتصف البشر بأنه مركّب من جملة غرائز و دوافع متناقضة يسير من بينها على طريق الكمال. و قد منح الحرية من أجل طي طريق الكمال هذا.

و هذه الحرية على ما لها من قيمة إنّما منحت له من أجل تكامله، مثلما أنّ حياته نفسها وهبت له في سبيل السير نحو الكمال. مٰا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ (1)فهو تعالى خلق الجن و الانس من أجل أن يبلغوا مرتبة العبودية، و هي مرتبة عالية جدا.

و الحرية أيضا كحق الحياة، تمثل مقدّمة للعبودية.

بلغوا في الغرب في رفضهم للتكليف مرحلة رفضوا معها كل تفكير ديني و غير ديني، و كل عقيدة فيها تكليف، و حلال و حرام، و يجب أو لا يجب. و يلاحظ حاليا في مؤلفات الكتّاب الليبراليين الأمريكيين و من يحذون حذوهم، و من يتخذونهم بمثابة أنبياء لهم - مع أنهم ينتمون إلى أمم في بلدان أخرى، و يشكل بعض الأفراد في بلادنا -

ص: 88


1- سورة الذاريات: 56.

و للأسف - فئة منهم - إنهم يذهبون إلى أنّ الفكر الغربي الحر يتعارض مع مبدأ «يجب أو لا يجب» و مع كل مبدأ عقائدي. في حين يقف الإسلام على طرف نقيض من ذلك و يعتبر الحرية مواكبة للتكليف لكي يستطيع بواسطة هذه الحرية اداء تكاليفه على نحو صحيح، و ينجز أعمالا كبرى، و يستطيع بلوغ التكامل(1).

ص: 89


1- من كلمة ألقاها في: 11 جمادى الأولى 1419 ه ق - طهران.
العمل الإجتماعي الهادف

فمثلا حاليا تنجز الأعمال في مصانع السلاح الأمريكية، و هناك عمال أيضا - سواء العامل البسيط أو الماهر أو رئيس العمال أو مدير العمل أو مدير المصنع أو المخططين الأساسيين في هذا المصنع - و لكن لأي شيء؟ إنها لإثارة الحروب و إعانة الغاصب - كإسرائيل - من أجل قصف هيروشيما بالقنابل الذرية فيما مضى، و اليوم لو لا خوف أمريكا من الرأي العام العالمي و خشية التآكل الداخلي و لو لا القيود و الروادع التي تقف بوجهها لكانت على استعداد لقصف أي بقعة من الأرض بالسلاح الذري، لأنّها لا تستصعب سفك الدماء!.

و كذلك أيضا بالنسبة إلى معهد العلوم الاستخباراتية أو الجاسوسية في منظمة ال (السي آي أي) الأمريكية، فهناك معلّم يدرّس و تلميذ يدرس. لكن هل يحظى هذا المعلم بنفس القيمة الكبيرة التي نوليها نحن المسلمون للمعلم؟ ليست ثمرة العمل و الجهود هناك و نجاح الطالب للمحافظة على المصالح الوطنية الأمريكية، فلو كان الأمر كذلك لما اعترضنا، فليسع الأمريكيون إلى إدارة أنفسهم و مصالحهم الوطنية في إطار بلادهم بشكل معقول، فلسنا بخلاء و لا نمنعهم من ذلك، و لكن هذا التعليم و هذه التربية حاليا من أجل خدمة أقذر و أبشع الشخصيات السياسية في العالم، و من أجل محاربة المنظمات التحررية و البلدان التي تتطلع إلى الحرية و كل بلد يطالب بالاستقلال، من أجل الأنظمة الرجعية و ضد الأنظمة التقدمية. هذه هي هدفيتهم.

أعزائي العمال و المثقفون في البلاد! أردت أن الفت انتباهكم إلى هذه النقطة و هي أنّ مادة العمل ليست هي الحاسمة، و إنّما الحاسم و المهم هو روح العمل، فإن مجرد أن يتحرك ذراع و يدير عجلة لا يخلق إبداعا، إنّما المهم هو الإبداع المعنوي

ص: 90

و الأخلاقي، فينبغي معرفة لماذا تدور العجلة و لأي شيء؟ و لا يكفي مجرد تأسيس قاعة للدرس ليبذل المعلم فيها قصارى جهده متحرّقا لتربية الطالب و إشباعه بالمعلومات و المعارف و يعلمه الكلمة بعد الاخرى، فهذا كله لا يكفي لصنع إبداع، بل لا بدّ من التعرّف على المادة التي تدرس و ما هي الغاية منها و لأي جهة يمارس التعليم و التربية؟ أعزائي هذا هو المهم.

في بعض بقاع العالم يتم حاليا تدريس العلوم للقضاء على القيم الإنسانية. فهناك من يتعلّم العلم لكي يقدّم العون إلى المتربّصين خلف الحدود و في البلدان الأجنبية و لأهداف شيطانية و هذا ليس إبداعا. و في يوم ما و في أرضنا المقدسة هذه، كان هناك من اكتسب العلم ليسوق المجتمع الإيراني و إيران نحو فساد أكثر و أفظع، و هذا العمل لا يملك أي قيمة و اعتبار، إنّما المهم هو الهدفية و روح العمل.

إنّ كل حركة علمية و ثقافية و عملية تنجز لصالح النظام و الجمهورية الإسلامية و تطوير الصناعة و التقدم و الإعمار في هذه البلاد هي عبادة، و لا فرق بين هذا المصنع و ذاك و هذه المدرسة و تلك، فلو أنّ المعلم حاليا في إيران الإسلامية علّم الطالب كلمة بقصد تقديم خدمة إلى هذه البلاد - التي هي حاليا مهد الإسلام و ساحة عظمة الأحكام الإسلامية و إشعاعها - فإن هذه الكلمة حسنة و إن صارت مائة كلمة غدت مائة حسنة و إن استوعب التعليم ليله و نهاره ملأت الحسنات أوقاته.

إنّ العامل الذي يعمل في مصنع أو يخطط أو يشرف أو يقدم أي مجهود آخر لأجل تطوير إيران الإسلامية - التي هي اليوم ساحة المظاهر المعنوية و الإلهية - و تقدمها و إزدهارها و لكي تستغني عن الأجانب و لا تقلق من ناحية الحظر الإقتصادي الذي تفرضه هذه القوة العظمى أو تلك، فإن هذا العامل يحصل في كل لحظة من عمله على حسنة و يكون قد أتى بعبادة، و كل من يتعاون معه في هذا العمل سيشاركه في هذه العبادة دون أن ينقص ثواب العامل الأول. إنّ العطاء الإلهي بهذا الشكل، فأحيانا يشترك عشرة أشخاص بإنجاز عمل واحد لكنّهم يحصلون على عشر

ص: 91

حسنات، لا أن تتقسم الحسنة الواحدة بينهم، بل إنّ لكل واحد منهم ثوابا مستقلا عند اللّه تعالى.

قلما توجد في الدنيا قاعة درس و صالة مصنع أو مختبر أو جامعة يشملها اللّه برضاه، بل و حتى ساعات استراحة المعلم و العامل - الذي يستريح بقصد أن يكون قادرا على العمل في الغد - يكون مشمولا برضا اللّه تعالى. و هكذا في أية بقعة من العالم يكون عمل الإنسان ذا محتوى و هدف و قربة للّه تعالى و يكون نتيجة هذا العمل خدمة الناس و مصالحهم، فإن عمله مشمول أيضا لرضى اللّه تعالى(1).

ص: 92


1- من كلمة ألقاها في: 12 ذي الحجة 1416 ه
إفتقاد الأنظمة للهداية الإلهية

تطرح في هذه الأيام في شتى أنحاء العالم النظرية السياسية للإسلام و نظام الجمهورية الإسلامية، أي حاكمية الشعب الدينية(1)؛ فالجمهورية تعني حاكمية الشعب، و الإسلامية تعني الدينية، و هنالك من يتصور أننا إذ أطلقنا شعار حاكمية الشعب الدينية فقد جئنا بشيء جديد. كلا، فالجمهورية الإسلامية تعني حاكمية الشعب الدينية التي تتمثل في حقيقتها بتوجيه النظام و إدارته في ضوء الهداية الإلهية و الإرادة الشعبية.

و المؤاخذة التي تطال الأنظمة فى العالم هي إما أنها تفتقر للهداية الإلهية كما هو حال الديمقراطيات الغربية التي تحكمها الإرادة الشعبية ظاهريا لكنها تخلو من الهداية الإلهية، أو أنها تخضع أو تزعم أنها تخضع للهداية الإلهية لكنها تفتقر للإرادة الشعبية، أو تفتقدهما معا، و هذا ما عليه الكثير من البلدان؛ أي لا يدخل رأي و إرادة الجماهير في شؤون البلاد و لا وجود للهداية الإلهية فيها.

أما الجمهورية الإسلامية - حيث تتظافر الهداية الإلهية إلى جانب الإرادة الجماهيرية في التأثير ببنية النظام - فلا ترد أية مؤاخذة أو إشكال حول هذه النظرية في المحافل الجامعية أو التحقيقية؛ لكنكم إن أردتم إثبات أحقية هذه النظرية أمام شعوب العالم فعليكم إثباتها عمليا، و هذا هو التحدي الأهم الذي يواجهه نظام الجمهورية الإسلامية.

ص: 93


1- و قد فصّل سماحته هذه النظرية في كتابه «حاكمية الإسلام بين النظرية و التطبيق» في ثلاث مجلدات.

إن جهود أعداء الإسلام انصبّت على أن لا يحصل هذا الأمر، أي البناء في ظل نظام الجمهورية الإسلامية، و لأجل ذلك تأتي العراقيل بشتى ضروبها التي يضعها الأعداء بوجه بلادنا في مجال النفط و غيره من المجالات. إنهم يحاولون الحيلولة دون بلوغ الجمهورية الإسلامية المستوى الذي يطمحان إليه من الإعمار و البناء و التقدم و الرقي و التنمية في ظل هذا النظام كي لا يغدو مثلا يحتذى به من قبل سائر البلدان، و لئلاّ تلقى النظرية السياسية للإسلام رواجا في العالم(1).

ص: 94


1- من كلمة ألقاها في: 25 شعبان 1422 ه - كاشان.

العلم و الأخلاق

البعد الإنساني و الأخلاقي و القيمي للمعلم و العامل

إن مشكلة المجتمع في كثير من الحالات تكمن في سوء الفهم، فعند ما ينظر للعامل - مثلا - في مجتمع ما على أنه أداة للإنتاج و يجري تجاهل شخصيته و كرامته الإنسانية فإن كل ما يعطونه من أجور لن تكون مقنعة بالنسبة له، أو إذا ما عدّ المعلم عضو شرف في المجتمع و اتخذ الدعم العام للمعلمين طابعا اقتصاديا ضمن البرامج و السياسات و القوانين و أهمل البعد الإنساني و الأخلاقي و القيمي للمعلم فتلك إهانة للمعلم.

فمن المؤكد أن المعيشة أمر مهم و لا بد من الاهتمام بها بيد أنّ الإنسان و شأن الإنسان لا ينحصر في المعيشة، فالمعلم في الإسلام يمثل منزلة سامية حقا، و إذا ما سادت الثقافة الإسلامية مجتمعا فحري بجميع الناس أن يعتبروا أنفسهم مدينين للمعلم لأن المعلم إنسان يعمل على تحويل ماهية الإنسان البسيطة إلى طاقة فعالة و بناءة و دفاقة و نافعة و متخصصة و عالمة و هذا أعظم فعل يمكن القيام به في عالم الطبيعة.

إن العامل إنسان قد حمل على كاهله أهم مقاطع الحركة في المجتمع إذ أن جانبا مهما من العمل و الجهد و الاعمار و الإنتاج يرتكز على القوى الإنسانية، أي العمل الذي يقوم به العامل، و إذا ما أدركت قيمة العامل في المجتمع فإن جميع الذين

ص: 95

يتنعمون بأيّ من خيرات المجتمع يعتبرون أنفسهم مدينين للعامل، و هذا ما يخلق لدى العامل و المعلم شعورا بالشرف و الكرامة و الاحترام، و ذلك في غاية الأهمية في المجتمع.

فإذا ما اعتقد السياسي و الذي يضع الخطط و المقنن بهذه الكرامة و الحرمة لشريحتي المعلم أو العامل فإنه سيسنّ القانون و ينظم السياسة التنفيذية بنحو يتم معه أداء حقوقهما كما هما أهله، فإذا ما نظرنا بعين الحقيقة فإن شريحتي العامل و المعلم الذين يعدّان البناة و المنتجين الحقيقيين في البلاد و المدراء الحقيقيين للمجتمع لهما الشرف - مئات المرات - على الذين يتربعون حول مائدة معدّة للأكل و همهم الاستهلاك فقط دون أن يقدموا خيرا للمجتمع أو لتطوره(1).

ص: 96


1- من كلمة ألقاها في: 11 /ربيع الأول/ 1425 ه. طهران.
أهمية العلم و الأخلاق

يمكننا بناء صرح العلم و الأخلاق - لا العلم المناوئ للأخلاق الموجود حاليا في العالم الغربي - و التقدم و العزّة الحقيقية للإنسان في المجتمع و إرساء أسس العدالة فيه، و إن ما تشاهدونه من التقدم الذي حققناه في العلوم الذرّية و الخلايا مما يعدّ من العلوم النادرة في العالم، و غيرها من العلوم، و الذي اعترف لنا به حتّى الأعداء، دليل على أن الأجواء إذا اقترنت بالفضائل الحسنة و سادتها الثقة بالنفس و آمن فيها الشعب بقدراته و باشر نشاطه بحرية بعيدا عن السيطرة الأجنبية، يغدو بالأمكان فيها بناء جميع أنواع الصروح، بحيث لو نظر كل شاب في هذه البلاد إلى الآفاق المائلة أمامه لوجدها مشرقة.

إن العالم الغربي المعاصر يجد عجزا في هذه الناحية، فإن البلدان التي تقع حاليا في قمة التطور العلمي و الصناعي و المادي، يشعر الشباب فيها باليأس و الإحباط و إنعدام الأمل، و لذلك تتفشى فيها مظاهر الإنتحار و الجرائم.

يمكننا توفير مناخ الأمل المصحوب بالتقدم المادي و المعنوي و إقامة العلاقات العادلة في البلاد، شريطة أن تعملوا أيها الشباب بما يليق بجيلكم في هذه المرحلة، فعليكم استيعاب دروسكم جيدا، و عليكم مراعاة الإنضباط الإجتماعي بدقة، فإن الأجواء التي يسودها الإضطراب و المناخات التي ينعدم فيها الأمل، لا تصلح للتقدم و الرقي، و لحسن الحظ أرى شبابنا يتمتعون بالوعي و اليقظة، و إن إقامة المنظمات الطلابية الإسلامية و تواجد الشباب من التلاميذ و الطلاب، و طلبة العلوم الدينية في مختلف الأصعدة الإجتماعية و تفكيرهم للمستقبل - مما أرى بوادره - لخير دليل على حسن نشاط شبابنا المعاصر، و لكن مع ذلك يجب عليهم أن يتحلوا باليقظة، لأن بلوغ

ص: 97

القمّة مع وجود الأوضاع الراهنة يحتاج إلى إجتياز مسافة، لا يمكن إجتيازها من خلال الركون إلى الدعة أو الإنشغال بالأمور التافهة التي يضعها العدو في طريقنا و طريق شبابنا، فعلى الجيل المعاصر إكمال و إتمام الأعمال التي بدأتها الأجيال المتقدمة.

إن أعداءنا الذين يأسوا من مواجهة شعبنا مباشرة، يحاولون التأثير عليه بشتى السبل، و يسعون إلى تعكير الأجواء، و بثّ اليأس في نفوس الشباب و إشغالهم بالأمور التافهة، و إبعادهم عن طلب العلم، و تشجيعهم على إثارة الإضطراب، فعليه لا بد من اليقظة، و إجتياز هذه المسافة من خلال التلاحم و العمل الدؤوب المصحوب بالتدبير و الحنكة و التوكّل على اللّه تعالى(1).

أثر تجرد العلم عن الأخلاق

إن المزج بين العلم و العاطفة الإنسانية أمر مهم و ضروري في كل مكان، و السبب الذي جعل هذا العلم المتطور جدا في العالم الغربي عاجزا عن استنقاذ البشرية، يعزى إلى عدم اقترانه بالبعد الإنساني؛ فحيثما وجد علم مجرد عن الضمير و الأخلاق و البعد المعنوي و المشاعر الإنسانية، فإن البشرية لا تنتفع به.

العلم إذا تجرد عن الأخلاق و القيم المعنوية يصبح قنبلة ذرية تفتك بالأبرياء، و يصبح سلاحا يصوّب إلى صدور المدنيين في لبنان و فلسطين المحتلة و مناطق العالم الاخرى، و يتحول إلى أسلحة كيمياوية تلقى على (حلبجة) و على نقاط اخرى في العالم، لتقضي على النساء و الأطفال و الكبار و الصغار، و الإنسان و الحيوان.

من أين جاءت هذه الأسلحة الفتّاكة؟ انتجتها مراكز العلم، قد جاءت من هذه البلدان الأوروبية، فهم الذين صنعوا هذه المواد و وضعوها تحت تصرف نظام لا

ص: 98


1- من كلمة ألقاها في: 1383/12/24 ه ش الموافق 3 /صفر/ 1426 ه الموافق 2005/3/14 م.

يراعي ما ينبغي مراعاته! فكانت النتيجة هي ما شاهدتموه أو سمعتم عنه.

إنّ الأسلحة و جميع أنواع المنتجات العلمية غير قادرة اليوم على إسعاد البشرية، أو إسعاد الأسرة أو أن تهب الفتيان و الأطفال و النساء و الرجال لذة الحياة؛ لأنها لا تواكبها الأخلاق و القيم المعنوية.

نحن في ظل الحضارة الإسلامية و في ظل نظام الجمهورية الإسلامية المقدّس الذي يتّجه صوب تلك الحضارة، جعلنا نصب أعيننا أن نطوّر العلم جنبا إلى جنب مع القيم المعنوية.

و ما تلاحظونه من حساسية لدى الغرب أزاء تمسكنا بالقيم المعنوية، و وصمه إلتزامنا الديني بالتعصب و التحجّر، و اعتباره توجهاتنا نحو الأسس الأخلاقية و الإنسانية مناهضة منا لحقوق الإنسان، إنما يعود سببه إلى اختلاف مسارنا عن مسارهم.

فهم قد طوّروا العلم - و قد كان بلا شكّ عملا عظيما و على درجة من الأهمية - و لكن بمعزل عن الأخلاق و القيم المعنوية، فنتج عن ذلك ما نتج!

أما نحن فنريد أن يتطوّر العلم إلى جانب الأخلاق، و مثلما تكون الجامعة مركز علم، يجب أن تكون أيضا مركزا للدين و القيم المعنوية، و أن يتحلى خرّيج الجامعة بالتديّن مثل خرّيج الحوزة. و هذا ما لا يحبّذونه و لا يرغبون فيه.

و لهذا السبب استمروا سنوات طويلة يلفقون التهم ضد الإسلام و دأبوا على اجترار تلك التهم حتى باتت تشمئز منها نفوس السامعين! هكذا يتهمون الجمهورية الإسلامية بالتعصّب و التحجّر، و بالاصولية - على حد تعبيرهم - أي الجمود الذي لا مرونة فيه، هكذا يصفون الإسلام، في حين أنّ الجمود عندهم، و حياتهم هي البعيدة عن القيم المعنوية و عن الرحمة و الشفقة و الإنسانية، حتى إنّ جوّ الأسرة عندهم غير قادر على احتضان الأطفال! لاحظوا كم يوجد اليوم في الدول المسماة بالدول المتقدّمة صناعيا صبيان و أطفال بلا معيل، أو قد يوجد المعيل إلاّ أنهم يفرون من

ص: 99

بيوتهم و يتسكعون في الشوارع ليلا، و يرتكبون الجرائم و يقتلون، و يعتادون التدخين و يقعون فريسة لأنواع الاعتياد الضار، هذا بعض ما لديهم! و هذا هو الجمود الذي يدفع الشبّان هناك إلى العصيان.

الأعمال التي كان يمارسها قبل ثلاثين أو أربعين سنة شبّان بأسماء مختلفة - مثل بيتل و ما شابه ذلك - و حتى هذا اليوم، يعود سببها إلى أنّ تلك المجتمعات غير قادرة على إشباع تلك العواطف الإنسانية، لأنها مجتمعات جامدة و متحجّرة و ظالمة و متشددة.

أما الأجواء الإسلامية فهي على الضد من هذا، الجو الإسلامي تملؤه الرحمة و الاعتدال، و تشيع فيه القيم المعنوية و التقوى، و التقوى تعني فيما تعنيه أن تكون القلوب منشرحة لجميع العواطف و المشاعر الإنسانية السليمة، و يتوفّر إلى جانبها التعايش و الاستقرار المعنوي و سكينة القلوب الأمر الذي يقوي الإنسان للتدرج العلمي و التقني(1).

طبعا إن الدين الذي عارضه المستنيرون في أوروبا لم يكن لائقا بالحياة الإنسانية، فهو دين مشحون بالخرافات، يؤدّي إلى الحكم بالقتل على غاليلو تارة، و الى قتل آخر تحت التعذيب تارة أخرى، لمجرد توصله إلى اكتشاف علمي! حيث إن المسيحية الحقيقية قد طالها التحريف، و لا اعتراض على فصل السياسة عن الدين المحرّف، إنما الإشكال على فصل الأخلاق و المعنويات عن العلم و السياسة و نظام الحياة و الروابط الفردية و الاجتماعية، فالذي حصل هو إعطاء الحرية المطلقة للعقل و تعطيل الدين عن ممارسة دوره، و قد مضى القرنان الأخيران على هذا المنوال.

بل و أخذوا في العقود الخمسة الأخيرة يشككون حتى في العقل، و ينكرون ثوابته، و أخذوا يميلون إلى النسبية و التشكيك في جميع الأسس الأخلاقية و العقلانية و حتى

ص: 100


1- من كلمة ألقاها في: 7 جمادى الأولى 1418 ه

العلمية.

و عليه فإن هذه التجربة ليست جديرة بالتقليد، فمن الخطأ أن نقتفي أثر الغرب في طريقه التي لم تؤدّ به إلى غايته.

عدم تقليد الغرب

ذات يوم و في مستهل فتح بوابة الحياة الغربية على إيران - حيث كان التقدم و العلم و التكنولوجيا و لم يكن عند الإيرانيين شيء - بدلا من أن يفكر الساسة و النخب آنذاك بالتغيير الجذري كما صنع أمير كبير في عهد ناصر الدين شاه، ظهر شخص في عصر المشروطة ليقول: إن الأسلوب الوحيد لإنقاذ إيران يكمن في تقليد الغرب جسما و روحا، و قلبا و قالبا!

ثم عمد الإنجليز إلى تنصيب سلالة البهلوي، ثم حلّ الأمريكان محلّ الإنجليز، و قد كان رضا خان و ابنه محمد رضا أفضل الخيارات الإنجليزية و الأمريكية، لأنهما مارسا نفس الدور الاستعماري الذي يريده الغرب مع المحافظة على ظاهرهما الإيراني.

فمن الخطأ حاليا أن يحاول شبابنا سلوك الطريق الغربي.

لا عار في أخذ العلم من الغرب

نحن نأخذ العلم من أيّ كان، فقد قال لنا نبينا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «اطلبوا العلم و لو بالصّين»(1)؛ إذ كانت الصين آنذاك ذات حضارة عريقة و متقدّمة، و برغم ابتعادها عن الإسلام و بعدها، لذا قال النبي صلّى اللّه عليه و آله اطلبوا العلم و التجربة - أو ما يصطلح عليه حاليا بالتقنية - أينما وجدتموها.

ص: 101


1- روضة الواعظين: 11.

و قد ذكرت في حضور بعض الجامعيين: لا نجد أيّ عار في أخذ العلم من الغربيين و الأوروبيين، و إنما العار أن نستمر على بقائنا تلاميذ لهم.

أو نبقى كحوض ماء خاضع في ملئه و تفريغه لرغبة الآخرين، بل نريد أن نكون بمثابة الينبوع الذي يتفجّر ماؤه تلقائيا.

أخذ العلم من الغرب لا يعني ترك استثمار الطاقات

نريد أن نستثمر طاقاتنا الذاتية، و إني أرى إمكان استثمار هذه الطاقات في كل موضع تقع عليه عيني.

و لا ينحصر ذلك في التقدم الحاصل في الطاقة النووية، بل هناك أمثله أخرى كالخلايا الجنينية التي أذهلت المراقبين الأجانب، و غيرها من الأمثلة الأخرى.

تفقّدت أمس مجمّع «سر جشمه»، و قد سبق للإنجليز و الأمريكان من بعدهم أن أرادوا استثمار هذا المجمّع، و قد عملوا على هذا الأساس و خطّطوا و لكن لم يتمّ تفعيله.

و حينما انتصرت الثورة قام مهندسونا بتشغيله و استثماره، و أنجزوا أعمالا جيدة، ثم بادر مهندسونا في العقد الثالث - منذ عام 1380 ه ش - 2001 م تقريبا - إلى القيام بمشروع توسعته، و لا تزال أعمال توسعته قائمة على قدم و ساق، و هذا الإنجاز هو من أروع الإنجازات التي تقوم بها الحكومة الإسلامية حاليا.

إننا إذا تجاوزنا نهب الأجانب خيرات البلاد الوطنية، فهل يمكننا تجاوز مسألة إذلال الشعب الإيراني! إن أشدّ ما يحز في أنفسنا و يسوؤنا أنهم كانوا يذلّون شعبنا.

فهل هناك ذلّة أكبر من أن تجلس امّة بكامل طاقاتها لتأتي شرذمة من الأجانب و تزيح هذه الأمة جانبا لتباشر عملية الاستثمار بنفسها دون أن تجيز لأبناء الوطن حتى الاستفادة من تجاربها، و تكتفي بإعطاء الشعب نزرا يسيرا و تحتفظ لنفسها بالسهم الأوفر، و هذا ما كان يحصل بالنسبة إلى النفط و النحاس و الحديد و مختلف المصادر

ص: 102

الأخرى من إقامة السدود و المطاحن، و القطاعات الجامعية و العلمية في كثير من البلاد الإسلامية(1).

أثر المعنوية و الأخلاق على العالم

إنّكم لو استطعتم أن تظهروا حقيقة الإسلام الصافية، و جوهره المتألق، و تجسّدوا قيمه الرفيعة في الأوساط العلمية لكان ذلك إنجازا كبيرا، و لكنتم قد مهّدتم الطريق أمام النخبة للنزول إلى هذه العرصات.

إنّ تحصيل العلم و المعنوية، و العلم و الإيمان، و العلم و الأخلاق، هو ما يفتقر إليه العالم اليوم؛ و إنّ الجامعة الإسلامية توفر العلم مع الإيمان، و العلم مع المعنوية، و العلم مع الأخلاق بلا فصل أحدها عن الآخر.

إنها تمنح العلم و المعرفة استمدادا من الأخلاق و الإيمان.

إنّ الذين يقولون: التناقض بين العلم و الدين؛ لم يشاهدوا منطقة نفوذ العلم و الدين، فلكل منهما منطقة نفوذ معا، و المزج بينهما يعني أن يوجّه الإيمان سلاح العلم نحو الجهة المطلوبة؛ لأنّ سلاح العلم يمكن أن يستهدف الأخيار و الأشرار، و لكن الأمر يتوقف على من يمتلك هذا السلاح.

إنه سلاح العلم، و أما الإيمان فهو الذي يسير به في الإتجاه الصحيح.

فلو كان الإيمان يتحكم بالعلم في الدول الغربية لما اتجه الغرب نحو تصنيع القنبلة الذرية، ثم ما لبث أن وقف أمامها عاجزا لا يستطيع أن يسيطر عليها، أو يتركها تدمّر العالم.

إنّ هذا لم يكن ليحدث لو كان الإيمان توأما للعلم.

ص: 103


1- من كلمة ألقاها في: 1384/2/19 ه ش الموافق: 30 /ربيع الأول/ 1426 ه الموافق: 2005/5/9 م - كرمان.

و لما كانت هناك أصلا ظاهرة الاستعمار و الاستعمار الجديد - الذي هو وليد العلم - و لما عانت الدول و الشعوب من التسلّط و السيطرة و القهر و نهب الثورات خلال القرنين الماضيين.

إنّ كل هذه الكوارث تعود إلى مسألة الفصل بين العلم و الإيمان.

و ما على النخبة في الجامعات الإسلامية إلاّ أن تسدّ هذا الفراغ، و أن تجمع بين العلم و الإيمان، بمعنى أن تروّوا العلم بالإيمان، سواء أ كان ذلك في نسيجة الداخلي، أو في نتائجة، أو في المجالات التي سيستخدم فيها(1).

ص: 104


1- من كلمة ألقاها في: 1384/10/29 ه ش - 18 /ذي الحجة/ 1426 ه ق - 2006/1/19 م.

التقوى خير الزاد

آيات التقوى

ذكر سبحانه و تعالى في كتابه الكثير من الآيات التي تتحدث عن التقوى و آثارها الشخصية و الإجتماعية و إليك هي:

قال سبحانه و تعالى: بسم اللّه الرحمن الرحيم * يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّٰهَ حَقَّ تُقٰاتِهِ وَ لاٰ تَمُوتُنَّ إِلاّٰ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (1).

إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي جَنّٰاتٍ وَ نَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (2) .

وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَحْتَسِبُ (3) .

وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) .

وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اِبْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبٰا قُرْبٰاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمٰا وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ اَلْآخَرِ قٰالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قٰالَ إِنَّمٰا يَتَقَبَّلُ اَللّٰهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ (5) .

يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثىٰ وَ جَعَلْنٰاكُمْ شُعُوباً وَ قَبٰائِلَ لِتَعٰارَفُوا إِنَّ

ص: 105


1- سورة آل عمران: 102.
2- سورة القمر: 54، 55.
3- سورة آل عمران: 102.
4- سورة الطلاق: (2، 3، 4).
5- سورة المائدة: 27.

أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ إِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (1) .

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقٰاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللّٰهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ (2) .

إِنَّ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا إِذٰا مَسَّهُمْ طٰائِفٌ مِنَ اَلشَّيْطٰانِ تَذَكَّرُوا فَإِذٰا هُمْ مُبْصِرُونَ (3) .

ذٰلِكَ أَمْرُ اَللّٰهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئٰاتِهِ وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (4) .

يٰا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنٰا عَلَيْكُمْ لِبٰاساً يُوٰارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِبٰاسُ اَلتَّقْوىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ ذٰلِكَ مِنْ آيٰاتِ اَللّٰهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (5) .

وَ لِلّٰهِ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ إِيّٰاكُمْ أَنِ اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلّٰهِ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وَ كٰانَ اَللّٰهُ غَنِيًّا حَمِيداً (6) .

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرىٰ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنٰا عَلَيْهِمْ بَرَكٰاتٍ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنٰاهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ (7) .

ذٰلِكَ اَلْكِتٰابُ لاٰ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ... أُولٰئِكَ عَلىٰ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ (8).

وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللّٰهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اَللّٰهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (9)

أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جٰاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلىٰ رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ لِتَتَّقُوا وَ لَعَلَّكُمْ

ص: 106


1- سورة الحجرات: 13.
2- سورة الأنفال: 29.
3- سورة الأعراف: 201.
4- سورة الطلاق: 5.
5- سورة الأعراف: 26.
6- سورة النساء: 131.
7- سورة الأعراف: 96.
8- سورة البقرة: 2، 5.
9- سورة آل عمران: 123.

تُرْحَمُونَ (1) .

اَلشَّهْرُ اَلْحَرٰامُ بِالشَّهْرِ اَلْحَرٰامِ وَ اَلْحُرُمٰاتُ قِصٰاصٌ فَمَنِ اِعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ (2) .

وَ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنٰا هَبْ لَنٰا مِنْ أَزْوٰاجِنٰا وَ ذُرِّيّٰاتِنٰا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اِجْعَلْنٰا لِلْمُتَّقِينَ إِمٰاماً (3) .

وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاٰةِ وَ اِصْطَبِرْ عَلَيْهٰا لاٰ نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَ اَلْعٰاقِبَةُ لِلتَّقْوىٰ (4) .

تِلْكَ اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لاٰ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فَسٰاداً وَ اَلْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (5) .

تِلْكَ مِنْ أَنْبٰاءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهٰا إِلَيْكَ مٰا كُنْتَ تَعْلَمُهٰا أَنْتَ وَ لاٰ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هٰذٰا فَاصْبِرْ إِنَّ اَلْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (6) .

وَ اَلَّذِي جٰاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ (7) .

لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ لٰكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلاٰئِكَةِ وَ اَلْكِتٰابِ وَ اَلنَّبِيِّينَ وَ آتَى اَلْمٰالَ عَلىٰ حُبِّهِ ذَوِي اَلْقُرْبىٰ وَ اَلْيَتٰامىٰ وَ اَلْمَسٰاكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ اَلسّٰائِلِينَ وَ فِي اَلرِّقٰابِ وَ أَقٰامَ اَلصَّلاٰةَ وَ آتَى اَلزَّكٰاةَ وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذٰا عٰاهَدُوا وَ اَلصّٰابِرِينَ فِي اَلْبَأْسٰاءِ وَ اَلضَّرّٰاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ (8) .

ص: 107


1- سورة الأعراف: 63.
2- سورة البقرة: 194.
3- سورة الفرقان: 74.
4- سورة طه: 132.
5- سورة القصص: 83.
6- سورة هود: 49.
7- سورة الزمر: 33.
8- سورة البقرة: 177.

إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي جَنّٰاتٍ وَ عُيُونٍ * آخِذِينَ مٰا آتٰاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كٰانُوا قَبْلَ ذٰلِكَ مُحْسِنِينَ * كٰانُوا قَلِيلاً مِنَ اَللَّيْلِ مٰا يَهْجَعُونَ * وَ بِالْأَسْحٰارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَ فِي أَمْوٰالِهِمْ حَقٌّ لِلسّٰائِلِ وَ اَلْمَحْرُومِ (1) .

وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوىٰ (2) .

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ لِلّٰهِ شُهَدٰاءَ بِالْقِسْطِ وَ لاٰ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلىٰ أَلاّٰ تَعْدِلُوا اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوىٰ وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ إِنَّ اَللّٰهَ خَبِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ (3) .

وَ أَنَّ هٰذٰا صِرٰاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لاٰ تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذٰلِكُمْ وَصّٰاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (4) .

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (5) .

ص: 108


1- سورة الذاريات: 15-19.
2- سورة البقرة: 237.
3- سورة المائدة: 8.
4- سورة الأنعام: 153.
5- سورة البقرة: 183.
معنى التقوى

ما ذا تعني التقوى؟ إنها تعني تلك الشدة من المراقبة بحيث لا يحيد الإنسان عن جادة الحق في ممارساته الشخصية. و هذا ما تعنيه التقوى؛ أي أن يراقب المرء نفسه مراقبة تامّة في تداوله للأموال، في التلاعب بكرامة الناس، في الاختيار و الرفض، في التحدث حيث يحتاط أن لا يقول ما يخالف الحق. تصفحوا نهج البلاغة فهو حافل بهذه المقولات. و مما يؤسف له الآن أن البعض درجوا على ارتكاب ما حلالهم تحت طائلة أن أمير المؤمنين عليه السّلام كان كذلك و يفعل هكذا، ما هو دليلهم و من أين لهم هذا؟ إن أمير المؤمنين عليه السّلام هو ذاك في نهج البلاغة، و هو ذاك في الروايات الواردة عنه و عن أولاده الطاهرين، فأين هذه الأمور التي يدعيها البعض قائلين إن عليا كان كذلك؟ كلاّ، فعلي هو ذاك في نهج البلاغة؛ طالعوا نهج البلاغة من أوله إلى آخره، فهو حافل بالحث على التقوى و الدعوة إليها، و ما لم يكن الإنسان تقيا فلا قدرة له على إقامة دين اللّه، فأسوأ المرض تلوث الباطن، فتلوث قلب الإنسان بالمعصية لا يدع للإنسان فرصة إدراك الحقيقة، ناهيك عن أن يتحرك صوبها(1).

ص: 109


1- من كلمة ألقاها في: 13 رجب 1423 ه - طهران.
أهمية التقوى

قد لاحظت من خلال التدبّر في القرآن و في الروايات أخيرا أنّ المعيار الذي تؤكّد عليه الآيات و الروايات أكثر من أيّ شيء آخر - حتّى من الإسلام نفسه - هو مسألة التقوى، فالتقوى هي التي ترشد الناس - منذ بداية تديّن الفرد أو المجتمع - إلى قبول دين الحق و الاستجابة للأوامر الإلهية؛ و لذا يصف الباري عزّ و جلّ القرآن الكريم بأنّه هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (1).

فإذا كنّا نمتلك التقوى فإن القرآن سيكون هاديا لنا، و التقوى بالنسبة للإنسان المؤمن هي عبارة عن الرعاية الدقيقة للموازين الدينية. و من الممكن أن تكون التقوى موجودة لدى الإنسان غير المتديّن، إلاّ أنّ تقواه تلك ليست تقوى دينية، و لكنّها شيء حسن في حدّ ذاته، فالتقوى تعني: الاجتناب عمّا يكون سببا لهلاك الإنسان و الإضرار به و سقوطه، و هذا الاجتناب هو الذي يسمّى «تقوى».

و من البديهي أنّ الإنسان عند ما يريد الاجتناب عن شيء ما فإن اجتنابه ذلك مستند على اصول و معايير معيّنة و مرتكز على مبنى فكريا يؤمن به؛ و لهذا قد تجد إنسانا آخر - و إستنادا إلى مبنى فكري آخر - لا يكتفي بعدم الاجتناب عن ذلك الشيء بل يمارسه و ينجذب إليه، إذن فالمبنى الذي تستند إليه التقوى عند الإنسان المتديّن هو الدين. و التقوى الدينية تعني أنّ الإنسان أينما حلّ يجب عليه أن يكون مراقبا لنفسه؛ لكي يصونها من الإنحراف عن الطريق الصحيح، و يجب أن تكون تلك المراقبة شاملة لجميع الأعمال التي يمارسها الإنسان و لا سيّما الأعمال المهمة

ص: 110


1- سورة البقرة: 3.

و الامور التي تعتبر معالم في حياة الناس، و بالأخصّ لمسؤولي الدولة فيما يمارسونه من امور ترتبط بإدارة شؤون البلاد.

فيجب على الإنسان رعاية الموازين الدينية في جميع تلك الشؤون، أن يرى ما هي الامور التي تنسجم مع الاسس الدينية و تجلب رضا اللّه سبحانه و تعالى، فيأخذ بها من دون أيّة مجاملة، و يلاحظ الامور المخالفة لرضا الباري عزّ و جلّ فيتركها، و هذا هو المعيار الأساسي.

و بالطبع إنّ رعاية التقوى بهذا المعنى هو عمل شاقّ و يستلزم الدقّة و الحساسية المستمرة في مقابل الإنحرافات و تجاوز اللذائذ و الأهواء النفسية و تجاوز الصداقات و المجاملات و تحمّل بعض الضغوط و المتاعب.

و بالرغم من أنّ الإنسان سينال الموفّقية و النجاح في نهاية هذا المطاف، إلاّ أنّ سلوك هذا الطريق يشوبه كثير من المشاق و الصعوبات، و لأجل تذليل تلك الصعوبات أمام الإنسان فقد بيّن لنا الباري عزّ و جلّ في القرآن الكريم بعض نتائج و آثار الإلتزام بالتقوى؛ لكي نعرف أنّ تلك المتاعب و الصعوبات ستكون لها ثمرة طيبة، و لكي نعرف أنّه عند ما تكون الموفّقية هي النتيجة لإلتزام التقوى فلا بأس أن يكون ثمنها تحمّل تلك المشاق و المتاعب(1).

فالتقوى معناها أن يتحرّز على نفسه من ليس له سلطان إلاّ على نفسه، و أن يتحرّز على نفسه و على غيره من له سلطان على غيره أيضا. أما الذين يقفون على رأس السلطة فيجب عليهم التحرز على أنفسهم و على المجتمع كلّه لكي لا ينزلق نحو التهافت على الدنيا و التعلق بزخارفها، و لا يسقط في هاوية حب الذات.

و هذا لا يعني طبعا الانصراف عن بناء المجتمع، بل يجب بناء المجتمع و الاستكثار من الثروة، و لكن لا لأنفسهم، فهذا مستقبح. كل من لديه قدرة على زيادة

ص: 111


1- من كلمة ألقاها بتاريخ 22 ربيع الأوّل 1415 ه

ثروة المجتمع و القيام بإنجازات كبرى، يكسب ثوابا عظيما، و لا يدخل عملهم هذا في إطار حب الدنيا. و إنما يصدق حب الدنيا فيما لو كان المرء يطلب النفع لذاته و يعمل لنفسه، أو يفكر في جمع الثروة لنفسه من بيت مال المسلمين أو من غيره.

و هذا هو التصرف القبيح.

يجب إذن الحذر من الوقوع في مثل هذه المنزلقات، و إذا انعدم الحذر ينحدر المجتمع تدريجيا نحو التخلي عن القيم و يبلغ مرحلة لا تبقى له فيها سوى القشرة الخارجية، و قد يأتيه على حين غرّة و يفاجئه ابتلاء شديد - كالابتلاء الذي تعرض له ذلك المجتمع حين اندلاع ثورة أبي عبد اللّه عليه السّلام - فلا يخرج منه ظافرا(1).

و من وصية لأمير المؤمنين عليه السّلام للحسن و الحسين عليهما السّلام لما ضربه ابن ملجم لعنه اللّه قال: أوصيكما بتقوى اللّه، و ألا تبغيا الدنيا و إن بغتكما، و لا تاسفا على شيء منها زوي عنكما، و قولا بالحق، و اعملا للأجر، و كونا للظالم خصما، و للمظلوم عونا أوصيكما، و جميع ولدي و أهلي و من بلغه كتابي، بتقوى اللّه، و نظم أمركم، و صلاح ذات بينكم، فإنّي سمعت جدكما صلّى اللّه عليه و آله و سلم يقول صلاح ذات البين أفضل من عامه الصلاة و الصيام(2).

التقوى تعني كلّ شيء للإنسان، و هي دنيا الأمّة و آخرتها و الزاد الحقيقي في هذا الطريق الطويل الذي لا بدّ للبشرية أن تقطعه، فالتقوى هي كلام أمير المؤمنين عليه السّلام الأوّل و الأخير و هي مقدّمة على كل شيء في حياة الإنسان، فكأنّه عليه السّلام يريد أن يقول في وصيته الخالدة: يجب عليكم يا أولادي مراقبة أنفسكم و أعمالكم و وزنها بالمعيار الإلهي الحق.

و ليس كلامه عليه السّلام في مسألة الخوف من اللّه، كما فسّرت التقوى من قبل البعض

ص: 112


1- من كلمة ألقاها في: 11 محرم 1419 ه ق - طهران.
2- نهج البلاغة: 76/3 ح 47.

بأنّها الخوف من اللّه و خشيته سبحانه و تعالى. صحيح أنّ الخشية و الخوف من اللّه تعالى لها قيمة و تعتبر من أنواع التقوى إلاّ أنّ التقوى الحقيقية تعني مراقبة الإنسان المستمرة لأعماله كي تكون منطبقة مع المصالح الإلهية التي يقدّرها المولى سبحانه و تعالى له.

و هذا أمر لا يمكن للإنسان أن يستغني عنه بأيّ حال من الأحوال.

و إذا حاولنا الاستغناء عن هذه الحالة فالطريق أمامنا مليء بالأخطار و الوادي عميق تحت الأقدام و سننزلق بلا ريب إلاّ أنّه قد نعثر على حجر أو شجر نتشبّت به لعلّه يعيننا على الصعود الى الأعلى من جديد إِنَّ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا إِذٰا مَسَّهُمْ طٰائِفٌ مِنَ اَلشَّيْطٰانِ تَذَكَّرُوا فَإِذٰا هُمْ مُبْصِرُونَ (1).

فالإنسان المتّقي عند ما يشعر بمسّ الشيطان له يتذكر اللّه و يعود الى نفسه حالا بالمراقبة و المحاسبة. و علي عليه السّلام يعلم أنّ الشيطان لن يتركنا أبدا فلا بدّ أن تكون الفقرة الأولى من الوصية هي تقوى اللّه سبحانه و تعالى(2).

ص: 113


1- سورة الأعراف: 201.
2- من كلمة ألقاها في: 12 رمضان 1414 ه - طهران.
الوصية بالتقوى

عند ما نوصي بالتقوى فليس معنى ذلك عدم وجود التقوى، كلا بل هي وصية بالحفاظ على هذا المكتسب المعنوي إن كان فينا و تكميله إن كان ناقصا و توفيره إن كان مفقودا، و هذا هو معنى الوصية بالتقوى. كما ليس الأمر بأن الذي يوصي بالتقوى أقل حاجة للتقوى من الموصى. بل الموعظة و القول و الوصية ضرورية، فقد يكون الموصي نفسه أكثر حاجة بكثير لهذه الوصية، لذلك فقد جاء ذكر التواصي في الشريعة الإسلامية المقدسة، فحري بالجميع إيصاء بعضهم البعض. أن نتواصى بالحق و الصبر و الحفاظ على صراط اللّه المستقيم، و أن لا ننحرف عن هذا الصراط(1).

وصية أمير المؤمنين عليه السّلام بالتقوى

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه، و اغتنام طاعته ما استطعتم في هذه الأيام الفانية، و إعداد العمل الصالح لجليل ما يشفي به عليكم الموت، و آمركم بالرفض لهذه الدنيا التاركة لكم، الزائلة عنكم، و إن لم تكونوا تحبّون تركها، و المبلية لأجسادكم و إن أحببتم تجديدها»(2).

يقول عليه الصلاة و السّلام عليكم الإستعداد بالعمل الصالح للمصائب و الأهوال الكبرى و المجهولة التي ستحل بكم في عالم ما بعد الموت. فالموت حادثة عظمى كان الأكابر و الأولياء يرتعشون خوفا منها؛ لأن الحوادث التي تواجه الإنسان بعد

ص: 114


1- من كلمة ألقاها في: 7 /رمضان/ 1424 - طهران.
2- مستدرك الوسائل: 30/6، و البحار: 237/86.

الموت لها عظمة و خشية لا تطاق، و هناك طريق واحد لمقابلة هذه المصاعب و الشدائد الكبرى التي كان عباد اللّه و أولياؤه الصالحون يخشونها بسبب ما لديهم من خبر عنها على وجه العموم، و ذلك هو العمل الصالح لوجه اللّه. لأن الشيء الوحيد الذي يغيث الإنسان هناك هو العمل الصالح.

«و آمركم بالرفض لهذه الدنيا التاركة لكم» فهو عليه السّلام أمير معنوي و أمير مادي، و أمير ظاهري و أمير باطني، و أمير الأجسام و أمير الأرواح؛ و يأمر الناس بترك زخارف الدنيا، و عدم الاستغراق في شؤونها المادّية لأنها «الزائلة عنكم، و إن لم تكونوا تحبّون تركها، و المبلية لأجسادكم و إن أحببتم تجديدها». فهذه الدنيا تبلي أجسادكم و تضعفكم و تعدم قواكم حتى و إن كنتم ترغبون في بقاء هذه القوى على الدوام.

ثم يقول عليه السّلام: «فإنّما مثلكم و مثلها كركب سلكوا سبيلا فكأنهم قد قطعوه و أفضوا إلى علم فكأنّما بلغوه، فلا تنافسوا في عز الدنيا و فخرها، و لا تعجبوا بزينتها و نعيمها، و لا تجزعوا من ضرائها و بؤسها، فإن عزها و فخرها إلى إنقطاع، و إنّ زينتها و نعيمها إلى ارتجاع، و إنّ ضراءها و بؤسها إلى نفاذ، و كل مدّة منها إلى منتهى، و كل حيّ فيها إلى بلى».

كان أمير المؤمنين عليه السّلام يحيي الأرض بنفسه و يزرعها، و يحفر البئر، و قد تحدّث بهذا الكلام في وقت كان فيه حاكما على دولة تمتد حدودها من بلاد ما وراء النهر إلى البحر الأبيض المتوسط.

فهو عليه السّلام كان يدير دفة شؤون الدولة و يهتم بشؤون الحرب و السلم و السياسة و بيت المال و غيرها من نشاطات البناء الاخرى. و كلامه هذا لا يدعو فيه إلى عدم إعمار الدنيا، و إنما يعني به أن لا يجعل الإنسان ذاته محورا لجميع الأعمال و النشاطات المادية، و لا تنفقوا كل الطاقات لأجل أنفسكم و لا تحولوا الدنيا إلى جحيم من أجل نصيبكم من الحياة.

ص: 115

و لا تكدروا عيش الآخرين لأجل المال و المنال و الرفاه و الراحة.

عليكم بالتقوى. أي عليكم بالحذر لئلا يكون في أي عمل أو قول أو قرار يصدر عنكم ضرر يلحق بالإنسانية و بالمجتمع، و لا تكون فيه إساءة إلى أخراكم أو انتقاص من دينكم، هذا هو معنى التقوى. و في كل جمعة يكرر امام الجمعة مخاطبة الناس و مخاطبة نفسه بالقول: «أوصيكم و نفسي بتقوى اللّه». كلنا بحاجة لسماع مثل هذه الوصايا(1).

و قال الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لبعض شيعته: «إي فلان، إتّق اللّه و قل الحقّ و إن كان فيه هلاكك، فإنّ فيه نجاتك.

إي فلان، إتّق اللّه ودع الباطل و إن كان فيه نجاتك، فإنّ فيه هلاكك»(2)

يجب على الإنسان أن يقول الحقّ حتى و إن كان موجبا لضرره و مساءته، لأنّ النجاة في قول الحق و إن كان بحسب الظاهر يتوهّم أنه مضرّ به.

و يجب على الإنسان أن يترك الباطل حتى و إن توهّم أنّ نجاته و خلاصه به و توهّم أنه بحسب الموازيين و المعايير الظاهرية بميله و رغبته للباطل قولا و عملا سوف ينجو، لأنّ الباطل في الواقع موجب لهلاكه.

إنّ تقرير مصير سعادة و شقاء الإنسان باتباعه طريق الحقّ و اجتنابه عن طريق الباطل.

و إذا مال الإنسان إلى الباطل نتيجة سلوكه القواعد الخاطئة و الباطلة و الإنتفاع السريع الزوال سوف ينحرف تدريجيا عن طريق الحق، و لذلك يجب عليه أن يكون أمامه هذا المعيار و الميزان شاخصا و هاديا و مرشدا على الدوام لحظة لحظة في كل

ص: 116


1- من كلمة ألقاها في: 9 رجب 1419 ه - طهران.
2- تحف العقول، صفحة: 408.

وقائع الحياة و ما يعرض عليه فيها(1).

التقوى في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام

إن التقوى هي الدرس الخالد الذي يعطيه أمير المؤمنين عليه السّلام، فلو أنكم تراجعون نهج البلاغة ستدركون أنه لم يدع إلى شيء بالمقدار الذي دعى فيه إلى التقوى.

إن التقوى في الواقع من أهم المفاصل في حياة أمير المؤمنين عليه السّلام العملية، و تعاليمه الربانية.

فعلى العبد أن يراقب - و الذي هو مفهوم التقوى - نفسه دائما، فيراقب أعماله و سلوكياته، أي يراقب عينه و لسانه و سمعه و يده، كما يراقب قلبه، و عدم تغلغل الخصال الحيوانية الدنيئة، و عدم الميل إلى الهوى، و عدم الانجذاب إلى المظاهر التي تؤدي به إلى الهاوية، فلا يضمر الحسد و لا يريد الشرّ لغيره، و أن لا يسمح للوساوس بالتطرق إلى فؤاده، و عليه أن يجعل من قلبه مسرحا للفضائل و ذكر اللّه تعالى و حبّ أوليائه و عباده.

و أن يراعي التقوى في الفكر و العقل، بأن يصون العقل من الانحراف و الوقوع في الأخطاء و المزالق، و إنقاذه من الجمود، و توظيف الذكاء في شؤون الحياة(2).

ص: 117


1- كلمات مضيئة: 131.
2- من كلمة ألقاها في: 1384/5/28 ه ش - 1426/7/13 ه ق - 2005/8/19 م.
أقسام التقوى

إن التقوى أساس الخيرات جميعها في المجتمع. و التقوى الفردية إنما تعني سعي كل فرد بينه و بين ربّه أن لا ينحرف عن جادة الصواب و الحق و لا يطأ موطئا منحرفا، فيما تعني التقوى السياسية أن يجتهد المرء للتعامل في عمله السياسي مع القضايا السياسية تعاملا صادقا غيورا دافعه الحرص.

و السياسة بمعنى التحايل و الخداع و الكذب على الرأي العام ليست مما ينشده الإسلام، و إنما السياسة تعني الإدارة الصائبة للمجتمع و هي من الدين.

و التقوى السياسية إنما تعني أن يعمل المرء بصدق في ميدان السياسة.

و التقوى الإقتصادية تعني إذا ما اضطر المرء للقيام بنشاط إقتصادي لإمرار معيشته و تحسين وضعه فعليه أن ينتخب الطريق الصحيح، فالغصب و أكل الحرام و التطاول على أموال الآخرين - لا سيما الأموال العامة - و استغلال موارد الناس للصالح الخاص، و التوسل بالحيل التي قد يستبطنها القانون بظاهره أحيانا بيد أن المرء يعلم مدى فساد باطنها و إنحرافها، هذه جميعا تتنافى مع التقوى الإقتصادية.

أما التقوى الإجتماعية فهي تعني أن يتسم التعامل مع الناس في مختلف الأوساط - سواء في وسط التكسب أو المعاشرة أو الوسط العائلي أو المدرسي و الجامعي أو الوظيفي - بالإنصاف و الخشية من اللّه و الأمانة و الصدق. و إذا ما تحققت هذه المثل في المجتمع و طبقت عمليا ستجد أغلب مشاكل الناس المادية و المعنوية طريقها إلى الحل. فالتقوى و الورع إنما تعني الامتداد الواسع للأعمال الصالحة و الخيّرة، و ما هو حسن من أفعال و تروكات.

من أهم فصول صلاة الجمعة التوصية بالتقوى. و مثل هذه التقوى لا تتحقق -

ص: 118

بالطبع - بالقول و التوصية بالرغم من الدور الهام للقول و التوصية و ضرورة عدم إغفال دور البيان و النصح و الإنذار و التبشير - و ذاك فعل الأنبياء عليهم السّلام - غير أن الوصية الحقيقية هي لنا نحن خطباء الجمعة و العاملين و القائمين على الخدمة في صلاة الجمعة و المبرمجين و المنفذين لمختلف أقسام صلاة الجمعة، فعلينا بذل أقصى الجهود في أعمالنا و تصرفاتنا لئلا تطفو هذه التقوى على ألسنتنا فحسب، بل أن تتجلى في أعمالنا أيضا، و هذه تمثل سبلا طبيعية للغاية في الإسلام العزيز لهداية المجتمع و البلاد و إدارتهما(1).

ص: 119


1- من كلمة ألقاها في: 16 جمادى الأولى 1423 ه - طهران.
فوائد التقوى

قال اللّه في كتابه: اِتَّقُوا اَللّٰهَ حَقَّ تُقٰاتِهِ (1).

و قال أمير المؤمنين عليه الصلاة و السّلام في كلام له: «إنّ من فارق التقوى أغري باللذات و الشهوات و وقع في تيه السيّئات و لزمه كثير التبعات»(2).

فائدة التقوى في حياة الإنسان تشمل كثيرا من الأمور:

إحدى هذه الأمور هي أنّ الإنسان المتّقي يستطيع صيانة نفسه من منزلقات و مطبّات الحياة، بينما الإنسان غير المتّقي لا يمكنه ذلك، و باستطاعة الإنسان أن يمتلك روح التقوى التي هي عبارة عن مراجعة الإنسان الدائمة لنفسه و أعماله و حتّى أفكاره و ما يفعله و ما يتركه التي تنسب إليه و عدم الغفلة عن ذلك. و إذا استطاع الإنسان أن يوجد هذه الحالة في نفسه فإنّه سوف يفوز في الإمتحانات الإلهية التي يمرّ بها في حياته.

إنّ الجميع يمرّون بهذا الإمتحان فالأمم تمتحن بما هي أمم و الأفراد يمتحنون بما هم أفراد.

الاختبارات متباينة لكنّها قائمة على أيّة حال. فعند ما تعرض على النفس لذّة مخالفة للشرع تميل النفس إليها، فهذا من مواضع الإمتحان و الاختبار، و عند ما يعرض على الإنسان مال يستطيع الحصول عليه خلافا للشرع و التشريع الإلهي فهذا موضع آخر للإمتحان الإلهي، و عند ما يتحدّث الإنسان بحديث يستبطن مصلحة شخصيّة

ص: 120


1- سورة آل عمران: 102.
2- عيون الحكم و المواعظ: 154.

لكنّه حديث باطل في الحقيقة، و حين يصبح الكلام واجبا شرعيا على الإنسان رغم ما يتبعه من مخاطر و متاعب أخرى فهذا اختبار آخر للإنسان.

و حينما نقيس هذه القضية بمقياس الشعوب و الأمم فالنتيجة مماثلة لذلك أيضا، فعند ما تحصل أمّة على الثروة و الرفاه و تكسب القوة و النصر و تحقّق التقدّم العلمي فهذا إمتحان و اختبار لتلك الأمّة. و إذا استطاعت الأمم صيانة نفسها من الإنحراف و هي في قمّة إقتدارها فإنها ستخرج من الاختبار مرفوعة الرأس.

و أمّا إذا اصيبت الشعوب و المجتمعات بالغرور و الابتعاد عن اللّه سبحانه نتيجة لحصولها على الراحة و الرخاء فستخرج خاسرة من الإمتحان الذي تتعرّض له؛ لذلك فإن القرآن يخاطب النبي صلّى اللّه عليه و آله في سورة «النصر» القصيرة، بسم اللّه الرحمن الرحيم إِذٰا جٰاءَ نَصْرُ اَللّٰهِ وَ اَلْفَتْحُ * وَ رَأَيْتَ اَلنّٰاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اَللّٰهِ أَفْوٰاجاً هذه هي قمّة إقتدار نبي من الأنبياء عند ما ينزل اللّه عليه النصر و الفتح و يدخل الناس أفواجا في دينه، عند ما يجب على الإنسان أن يراقب نفسه؛ لذلك فإن القرآن يقول: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اِسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كٰانَ تَوّٰاباً (1)، يعني عليك أن تذكر اللّه في ساعة النصر و تحمده و تسبّحه لأنّ هذا النصر كان من اللّه و ليس منك.

لا تنظر الى نفسك بل أنظر الى قدرة اللّه سبحانه، فقائد إلهي و حكيم كالنبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله يسعى في مثل هذه الظروف أن لا تخرج الأمّة عن الطريق القويم، و هنا يأتي دور التقوى التي تستطيع أن تنفذ الامة من الضلال و الإنحراف.

ترك فوائد التقوى يؤدي للسقوط

و إذا كانت الأمّة تقيّة فإنّها ستواصل مسيرتها في طريق التقدّم و الإيمان و طريق العبودية للّه سبحانه. و لكن إذا ابتعدت الشعوب عن طريق التقوى فإنّها ستبتلى بما

ص: 121


1- سورة النصر: 3.

ابتليت به الأمم السابقة عند ما أصيبوا بالإستكبار و الغرور و الظلم و الطغيان و الإنحراف، فأضلّوا الناس و خرّبوا الدنيا و أفسدوها و أخيرا سقطوا هم أيضا، كما نجد ذلك في أماكن عديدة من التاريخ، و كنموذج لذلك ما حدث لبعض الأمبراطوريات العظيمة في السنوات الأخيرة كنتيجة طبيعية لإنحرافها عن طريق التقوى.

إنّ كلّ البعيدين عن طريق التقوى في العالم سواء كانوا أفرادا أو شعوبا يجب عليهم أن ينتظروا سقوطهم الحتمي الذي لا بدّ له أن يتحقّق، فالسقوط هو النتيجة الحتمية للابتعاد عن طريق التقوى، و من الطبيعي فإن السقوط يسبقه الإنحراف و الخراب و الفساد.

من فوائد التقوى النجاح بالامتحان الإلهي نموذج في قصة نوح عليه السّلام

و الآن أتعرّض لجزء يسير من التجربة القرآنية الخاصة بأصحاب نوح النبي عليه السّلام و المؤمنين به؛ لأنّ المؤمنين بنوح عليه السّلام كانوا من الصفوة المختارة بالتأكيد. و قد أمعنت النظر في الآيات الواردة في سورة هود و التي تحدّثت طويلا عن النبي نوح عليه السّلام و عن أصحابه.

لقد دعى نوح قومه تسعمائة و خمسين سنة فكانت النتيجة لهذه السنوات الطويلة من الدعوة و التبليغ إيمان عدد قليل من أفراد ذلك المجتمع الجاهل و الطاغي فقط وَ مٰا آمَنَ مَعَهُ إِلاّٰ قَلِيلٌ (1) إنّ ساعة البلاء «الطوفان» كانت قد اقتربت من ذلك المجتمع.

ص: 122


1- سورة هود: 40.

بدأ نوح عليه السّلام بصنع السفينة في اليابسة فكان ذلك سببا لسخريّة كلّ الذين كانوا يمرّون عليه؛ لأنّ المفروض أن تصنع السفينة قريبا من ساحل البحر و ليس في اليابسة التي كانت تفصلها مسافة بعيدة عن البحر، إذ كيف يعقل أن تصنع سفينة كبيرة يراد لها أن تحمل جماعة من الناس بعيدا عن ساحل البحر، قال تعالى: وَ كُلَّمٰا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ (1).

و لكن المؤمنين بنوح عليه السّلام تحمّلوا كلّ هذا الاستهزاء و السخرية من غير أن يعرفوا الغاية التي من أجلها تصنع السفينة، و لم يكن أحد يعرف ما سيحدث من طوفان و فوران الماء من الأرض و السماء.

فهؤلاء المؤمنون كان إيمانهم من القوة بحيث استطاعوا الصمود أمام كلّ ذلك الاستهزاء و السخرية و ضغط الرأي العام الذي كان يوجّهه المتسلّطون في ذلك المجتمع، و كان اولئك المؤمنون من الطبقة السفلى في المجتمع كما أخبر تعالى على لسان أعدائه: هُمْ أَرٰاذِلُنٰا بٰادِيَ اَلرَّأْيِ (2) و لعلّهم كانوا يعتبرون من مواطني الدرجة الثالثة أو الرابعة لذلك المجتمع.

الآن أنتم تصوّروا فئة قليلة مستضعفة تقف مقابل فئة كبيرة تمتلك جميع وسائل القوّة و الإقتدار من ثروة و قوّة و وسائل إعلام.

كانت الإهانة و السخرية توجّه الى هذه المجموعة الصغيرة المحيطة بالنبي نوح عليه السّلام و لكنّها كانت تصبر و تتحمل و كان هذا يتطلب إيمانا قويّا من الإنسان، و عند ما جاءت مسألة صنع السفينة تبيّنت قوّة إيمانهم أكثر من السابق فلم يأتوا الى نبيّهم و يعترضوا عليه لأنّه يصنع السفينة في اليابسة بعيدا عن البحر و أصبح بذلك سببا للسخرية منهم بل تحمّلوا ذلك و صبروا عليه.

ص: 123


1- سورة هود: 38.
2- سورة هود: 27.

تصوّروا شخصا يريد أن يصنع سفينة في إحدى الساحات العامة لإحدى المدن الكبرى مثل طهران التي يفصلها مئات الفراسخ عن ساحل البحر فهل هناك تبرير لهذا التصرف الغريب.

لقد كان يبدو أنّ الحقّ مع الذين كانوا يستهزئون من هذا التصرّف، لكن الذين آمنوا بنوح تحمّلوا هذا الاستهزاء الذي كان يبدو منطقيا، و هذا كان يتطلّب إيمانا قويا و ثابتا.

و بعد كلّ ذلك بدأت الأمطار تهطل من السماء و تفجّرت الأرض عيونا، أمر نوح أصحابه بركوب السفينة، فأركبوا الحيوانات أوّلا و ركبوا هم باسلوب يوحي بأنّ المياه سوف تغرق الدنيا بأجمعها فقال سبحانه: قُلْنَا اِحْمِلْ فِيهٰا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ (1).

فقد كان من الواضح أنّ البلاء في هذه الحادثة سوف لا يرحم أيّ شيء في الدنيا.

ركبوا في السفينة فجرت بهم و قد عمّ الماء جميع أرجاء الكرة الأرضية، فأغرق الناس و جميع الحيوانات، و لم يبق سوى هذه المجموعة الصغيرة التي آمنت بنوح عليه السّلام و ركبت معه.

و بهذا فإن إمتحان الكفّار كان قد انتهي. بينما إمتحان المؤمنين قائم و مستمر. كانت تلك الفترة فترة إمتحان و تحمّل المتاعب و السخرية و الاستهزاء و الصبر على ما كانوا يتعرّضون له في عهد النبي نوح عليه السّلام.

كان هذا إمتحان فترة الشدة و العسرة و قد تجاوزوه بسهولة، فإمتحان مرحلة الشدة يكون أهون من مرحلة الرخاء و الرفاهية في بعض الأحيان، و قد تجاوز البعض بنجاح مرحلة المواجهة الصعبة مع إسرائيل الغاصبة و بعد مرور عدة سنوات على هذا الاختبار الصعب و بفضل بعض المواقف استطاع هذا البعض كسب احترام الامة

ص: 124


1- سورة هود: 40.

و الحصول على الأموال الطائلة، و لكنّهم فشلوا في اختبار المرحلة الاخرى و هي مرحلة الراحة و الاسترخاء و إلقاء السلاح و ابتعاد خطر الموت، و تراجعوا تراجعا خطيرا ذهب بكل مصداقيتهم.

لقد شاهدتم فضيحة بيع فلسطين - و يوجد العديد من القضايا من هذا القبيل -، و قد شاهدت بنفسي بعض المناضلين ممّن تجاوز مرحلة الشدّة بكلّ نزاهة لكنّه سقط و انحرف بعد ذلك في مرحلة الرفاه و الاسترخاء.

إنّ مستنقع الاختبار يصعب عبوره، فنفس الثلة القليلة التي آمنت بنوح عليه السّلام و تحمّلت تلك الشدائد و المصائب تدخل الآن مرحلة الرخاء قال تعالى: قِيلَ يٰا نُوحُ اِهْبِطْ بِسَلاٰمٍ مِنّٰا وَ بَرَكٰاتٍ عَلَيْكَ. انتهى الطوفان و رست السفينة و كان من المقرّر أن ينزلوا الى دنيا خالية من الشرك و الطغيان.

بدأ أصحاب نوح حياتهم الإسلامية و الإلهية في عالم خال من المستكبرين و المترفين، يقول القرآن الكريم: قِيلَ يٰا نُوحُ اِهْبِطْ بِسَلاٰمٍ مِنّٰا وَ بَرَكٰاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلىٰ أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ عجبا، فهذه التحية و هذا اللطف الإلهي لا يشمل كلّ المؤمنين الذين خرجوا بنجاح من إمتحان هذه المرحلة، فهذا السلام الإلهي يشمل البعض منهم فقط:

وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنّٰا عَذٰابٌ أَلِيمٌ، و أمّا بعض من كان معك فسوف نمتّعهم و بعد هذا التمتّع و بعد أن يذوقوا طعم الأمن و الرفاه يَمَسُّهُمْ مِنّٰا عَذٰابٌ أَلِيمٌ (1)، سوف نعذّبهم عذابا أليما و ذلك يعني أنّهم سيفشلون في الإمتحان الإلهي و يتراجعون في مرحلة الرخاء.

ص: 125


1- سورة هود: 48.
عود على بدء

إذن من يستطيع أن يخرج مرفوع الرأس من هذا الاختبار الإلهي: إنّهم فئة المتّقين كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام في الرواية التي تقدمت في بداية البحث. بقوله عليه السّلام: «من فارق التقوى اغري باللذات و الشهوات و وقع في تيه السيّئات و لزمه كثير التبعات»(1).

فحينما تعدم التقوى و تفقد مراقبة النفس و حينما نغضّ النظر عن أعمالنا و أقوالنا و نتهاون في المسؤوليات الإسلامية التي تحمّلناها في ميدان الثورة و في مجال الخدمة في أجهزة الدولة أو الجمعية فإن الانزلاق في الهاوية سوف يكون بانتظارنا.

و لا تتصوّروا أنّ الإنزلاق يخصّ صنفا خاصّا من الناس، و ليست شهوة حب المال تخصّ البعض دون البعض الآخر، لا ليس كذلك فكلّ إنسان يبتلى بالشهوات لكن شهوة البعض غالية الثمن و شهوة البعض رخيصة الثمن، شهوة البعض فاخرة و شهوة الآخرين حقيرة و صغيرة، فاللذة هي اللذة على كلّ حال. و اللذة المحرمة؛ محرّمة، ليس هناك فرق بين لذة صغيرة و كبيرة فكلاهما حرام. و تحرم أيضا على الإنسان الشريف و الوضيع و لا تفاوت بينهم في ذلك أبدا.

و الإمتحان إمتحان يشمل جميع طبقات المجتمع، لكنّه أشقّ على من يفترض بهم تقديم خدمات أكبر للمجتمع (لأجل زيهم أو منصبهم أو ظاهرهم أو حديثهم)، فيجب على هؤلاء مراقبة أنفسهم أكثر من الآخرين لأنّ إنحرافهم أقبح و آلم للمجتمع، لكنّ هذا الإمتحان يشمل الجميع على أيّة حال.

ص: 126


1- عيون الحكم و المواعظ: 154.

و كما يمتحن الفرد تمتحن الأمّة أيضا كما امتحنت في عهد النبي نوح عليه السّلام و قد رأيت رواية عن النبي صلّى اللّه عليه و آله يشرح فيها لأمير المؤمنين عليه السّلام معالم إنحراف الأمّة الإسلامية و في آخر الرواية يدور محور الكلام حول التقوى.

و في نفس الآيات الواردة في قصّة النبي نوح عليه السّلام بعد الآية التي قرأتها يقول اللّه تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْبٰاءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهٰا إِلَيْكَ مٰا كُنْتَ تَعْلَمُهٰا أَنْتَ وَ لاٰ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هٰذٰا فَاصْبِرْ إِنَّ اَلْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (1) فالعاقبة الحسنى ترتبط ارتباطا وثيقا بمسألة التقوى، و في قصة نوح كانت الآية تشير الى أنّ العلّة الأساسية لسقوط اولئك الذين سقطوا هي ابتعادهم عن طريق التقوى.

الطريق الوحيد للنجاة هو التزوّد بالتقوي

الطريق الوحيد للنجاة هو التزوّد بالتقوي، و مراقبة الإنسان لنفسه. قد تفلت أحيانا من يده فيرتكب بعض الذنوب، فالمهم أن تراقبوا أنفسكم و تقرّروا أن لا ترتكبوا معصية بعد الآن، هذه هي روح التقوى و روح الحذر، فأنت عند ما تحذر من نفسك ستكون حذرا من عدوّك أيضا، و حينما تكون مراقبا لشيطانك الداخلي فستكون مراقبا للشيطان الخارجي أيضا. و حينما لا يستطيع شيطان النفس إلحاق الضرر بنا فسوف لا يستطيع شيطان الخارج أن يحكمنا أو يوجه ضرباته لنا بسهولة.

فقوله عزّ من قائل: كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (2) هو مقدّمة للحصول على التقوى، و التقوى هي الغاية المنشودة(3).

ص: 127


1- سورة هود: 49.
2- سورة البقرة: 183.
3- من كلمة ألقاها في: 7 رمضان 1414 ه - طهران.

أسباب الحاجة للتقوى

الغفلة أسوأ أمراض المجتمع

علينا أن لا نغفل فإنّ أكبر عذاب إلهي ينزل بامة عند ما تصاب تلك الامة بالغفلة، و أسوأ مرض تصاب به الامة الغفلة، يجب أن لا نغفل عن ذكر اللّه، يجب أن يكون اللّه حاضرا في نفوسنا و قلوبنا و في جميع قراراتنا و حركاتنا، في الأعمال الإدارية و السياسية و العسكرية، و عند صرف الاموال و تخصيص الميزانية، و وضع القوانين و القضاء، و في جميع الحالات يجب علينا أن نذكر اللّه، يجب أن نعمل لله تعالى، و بهذا النحو يتقدم المجتمع فالكل يحتاج الى التقوى أنا و أنتم نحتاج التقوى لأمرين:

الأمر الأول: إذا عملنا من غير تقوى و اصبنا أثر ذلك بخسارة فإنها تنزل بالإسلام لا بنا، و عندها يكون الوزر و الوبال على عاتقنا.

لقد ذكرت على ما يخطر ببالي في إحدى خطب صلوات الجمعة قصة لمولوي لا زلت كلما تذكرتها اهتز، و حاصلها أنه كان في إحدى المدن الإسلامية محلّة يقطنها النصارى، و قد تعلق قلب إحدى الفتيات المسيحيات بالإسلام و رغبت في اعتناقه، و قاطعت الكنيسة و المراسيم الدينية، و قد احتار والدها في أمرها، و حدث أن عثر على مؤذن قبيح الصوت، فأعطاه الأب مالا، و قال له: أذّن عند بيتنا، فعند ما أذّن ذلك الشخص، و ارتفع صوته النكر أصاب الذعر أهالي المحلة، فسألت الفتاة، ما الخبر؟ فأجابها الأب لا شيء إنه آذان المسلمين، فقالت الفتاة: أ هؤلاء هم المسلمون؟ فزال

ص: 128

حبّ الإسلام من قلبها.

هذه القصة يذكرها مولوي في كتابه (مثنوى) و هو كتاب مليء بالحكمة و هذه من حكمه.

و هذه حقيقة فإنه ينظر الى الإسلام من خلالنا، و بواسطتنا يتعرفون على الحقائق الإسلامية، و عند ما نخطئ يحسب خطأنا على الإسلام، و انكسار المسلمين لا سمح اللّه يحسب على الإسلام أيضا، إذ يقولون إنّ الإسلام انكسر، و لا يقولون إنّ مجموعة من الناس لم تفهم الإسلام، و لم تعمل به بالشكل الصحيح قد انكسرت. هذا هو فهمهم فلا تقولوا حتى بألسنتكم إنّ نظامنا ليس قيميّا بل هو كسائر أنظمة العالم فإنّهم يكونون قد وصلوا الى هدفهم و هذا انكسار لنا، فإنّ هدفهم تحطيم هذه الجبهة و هذه الجبهة لا تتقدم إلاّ بالتقوى و الطهارة و النزاهة و محاسبة كل منا لنفسه محاسبة دقيقة و سليمة «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا»(1) بدون ذلك لا يمكن أن يتقدم النظام.

إذا تصور أحد أننا نقوم بنفس الأعمال التي تقوم بها الحكومات الاخرى و موظفوها في العالم فذلك خطأ، فنحن نملك أصولا و أساليب مخصوصة أساسها الإسلام، و هذه الاصول يجب أن تحكم العالم لا أن نقبل بالأصول الخاطئة الجاهلية السائدة في العالم الاستكباري التي يريدون فرضها علينا.

ص: 129


1- وسائل الشيعة: 99/16 ح 21082.
يجب المحافظة على نظام الإسلام بالتقوى

يجب أن لا نغفل عن ذكر اللّه و لا ننسى الموت و الحساب الإلهي، فلو تعرض عملنا أو احتملنا تعرضه لتفتيش مفتش بشري ضعيف قليل الاطلاع، لأخذنا جانب الحيطة و الحذر، فكيف بنا و اللّه يقول في كتابه: مٰا لِهٰذَا اَلْكِتٰابِ لاٰ يُغٰادِرُ صَغِيرَةً وَ لاٰ كَبِيرَةً إِلاّٰ أَحْصٰاهٰا (1).

عند ما نصاب بالتعب و نشعر بعدم ضرورة الاستمرار بالعمل، و عند ما يأتينا صديق، و عند ما تميل أنفسنا، و تبرز روح الأنانية و التفكير الشخصي، و عند ما يتخذ موقف باطل أزاء أخ مسلم، عندها تذكروا هذه الآية (ما لهذا الكتاب...) فالآخرون لا توجد لديهم هذه الآيات، و الأنظمة التي لا تعتقد بالله و القيامة يتصرف أصحابها على أساس الخداع و الحيلة و قلب الامور و التمويه حتى لا يطلع المفتش و القاضي و المحكمة و الجهات العليا و تنتهي القضية.

أما نحن فلسنا هكذا، فعند ما لا يطلع الاخرون، و لا يشخصون خطأنا، تبدأ مشكلتنا، فلا ينبغي لأنفسنا أن تتغلب علينا، و توسوس لنا.

أيها الاخوة يجب المحافظة على النظام على أساس التقوى و طريق التقوى ذكر اللّه.

إنّ أقل فشل تصاب به أمتنا اليوم يؤدي الى تراجع الصحوة الإسلامية خمسين سنة أو أكثر الى الوراء، فهؤلاء الشباب في أفريقيا و آسيا و الشرق الأوسط، و حتى في مدن البلدان الأوروبية يهتفون باسم الإسلام، و يتحركون باسم الجمهورية الإسلامية،

ص: 130


1- سورة الكهف: 49.

هؤلاء شاهدوا الإسلام مع كل هذا التقدم مع ذلك الوجه النوراني و الكلمات النورية، و الإدارة الإلهية للمجتمع مع تلك التقوى التي عمّت المجتمع ببركة الثورة الإسلامية و شملت جميع الأفراد و بمستويات مختلفة فإن حصل انكسار أو فشل أو عمل شيء فستبقى آثار و تغيرات سلبية، و يتجرأ العدو علينا و على الإسلام.

ص: 131

التوفيق مشروط بالتقوى

الأمر الثاني: أنّ حركة هذا النظام و موفقيته لا تتحقق إلاّ ببركة التقوى.

و هذه خصوصية النظام الالهي فنظام الحق لا يتقدم إلاّ بالتقوى، أما نظام الباطل المقابل لنظام الحق فهو شكل آخر، و هناك ثمة اصول و قواعد يجب الالتزام بها أيضا حتى يمكن التقدم.

أما التقوى فهي بمعنى الطهارة و النقاء و الورع و رعاية كل القيم المطلوبة في مجتمع إسلامي عقائدي، أما في جبهة الباطل فهذه الامور ليست لازمة، فهؤلاء لما كانوا غير ملتزمين، فلا يتورعون عن الأساليب الباطلة، و لا تهمهم النتائج القبيحة، فهم يقتحمون، و يتحركون و يفقدون شيئا و يكسبون آخر. أما جبهة الحق فليست كذلك فهي لا تستطيع الوقوف بوجه الباطل و التقدم إلاّ عند ما تكون مع اللّه و متحلية بالتقوى فقط لا غير.

يجب المحافظة على أن يكون نظامنا دينيا، نظاما قيميّا و لكن الاستكبار و أياديه و أبواقه يسعون في هذه السنوات الى إقناعنا بعدم فائدة ذلك، و إيصالنا الى حالة الندم فتراهم يكثرون القول بأنّ هؤلاء رجعيون متعصبون، و قد قاموا بعرض بعض الأحكام الإسلامية و شوهوها، و يحسبون أعمالنا الشخصية أو أعمال غيرنا من المسلمين على الإسلام، كل ذلك من أجل أن نرتعب و تزهق نفوسنا، و تسبق منا كلمة، و نقول، نظامنا ليس نظاما دينيا بل هو نظام كسائر أنظمة العالم المختلفة.

لا تعتبروا أنفسكم في غنى عن الدعاء و النافلة و الذكر و التوجه و التوسل و البكاء و الإنابة الى اللّه تعالى.

لا تقولوا: إننا ما دمنا مشغولين بخدمة الناس فلا حاجة لنا بالدعاء، إنما يدعوا

ص: 132

الاشخاص الذين لا عمل لهم. كلاّ يا سادة هذا هو أصل القضية، فعند ما لا يكون ذلك نصبح بلا حافظ، فحينما تصطف الوساوس أمامنا و نحن ضعفاء النفس لم نتربّ و حريصون على الدنيا فإنا سننقاد الى هذه الوساوس حتما. إذن من الذي يحفظنا من ذلك، و الى ذلك أشار سبيحانه و تعالى بقوله: قُلْ مٰا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لاٰ دُعٰاؤُكُمْ (1).

فادعوا و صلّوا النوافل و توجهوا الى اللّه، و اجعلوا لكم في اليوم ساعة بينكم و بين اللّه، دعوا فيها الأعمال المختلفة و كونوا في انس مع اللّه و أوليائه، مع ولي العصر عجل اللّه تعالى فرجه و أرواحنا فداه. و آنسوا أنفسكم بالقرآن و تدبروه.

أنا أحوج منكم الى هذه النصائح فكلنا محتاجون. و هكذا نستطيع تحمل المسؤولية الثقيلة و الأمانة الإلهية التي لم يعطها اللّه لأحد خلال القرون الطويلة منذ صدر الإسلام و الى وقتنا الحاضر و قد وضعها اللّه في أعناقكم.

هكذا نتمكن من حمل هذه المسؤولية و إبلاغها هدفها و إلاّ أصابنا الخزي دنيا و آخرة(2).

التقوى ضمان تطبيق الإسلام

إنّ أحكام الشرع المقدّس؛ تلبي حاجات الناس و تضمن لهم السعادة كما كان و ما زال حتى يومنا هذا. - و بحمد اللّه - فإن قوانين الجمهورية الإسلامية هي أرقى القوانين و أكثرها انطباقا مع الأحكام الإسلامية. فقوانينها الإقتصادية و الحقوقية و القوانين المختلفة التي لها ارتباط بعلاقات الناس مع بعضهم البعض، كلها قائمة على أساس الإسلام و مستوحات منه.

ص: 133


1- سورة الفرقان: 77.
2- من كلمة ألقاها في بتاريخ 3 صفر 1412 ه

و يجب أن تكون جهود الحكومة منصبة على إحياء القيم الإسلامية في أوساط المجتمع أكثر فأكثر، و التقوى هي أسمى و أعظم تلك القيم؛ فالتقوى هي التي تضمن لنا مواصلة السير في طريق الإسلام و هي تعني مراقبة النفس بشكل مستمر، و التقوى لا تختص بفئة من الناس.

فعلى كل إنسان - و في أي مكان كان و كل عضو من أعضاء المجموعة العاملة في جهاز الدولة بدءا بأصحاب المناصب العليا و إنتهاءا بالموظفين العاديين، و كل فرد من أفراد الشعب و في أي مكان يعيش - أن يحذر من الخروج عن طريق الإسلام القويم.

فالإسلام وعد بالنصر و القرآن وعد بالتقدّم و النجاح في جميع جوانب الحياة.

فالقرآن يصلح دنيا الناس و آخرتهم - كما نشاهد ذلك - خلال هذه الفترة الوجيزة التي حكم فيها الإسلام هذا البلد. فقد انجزت أعمال - من أجل رفاه الشعب - لا يمكن مقارنتها بما انجز في العهود الماضية، و الخدمات التي قدمت للطبقات المحرومة خلال هذه الفترة لا يمكن مقارنتها بما انجز من أعمال و ما قدّم من خدمات قليلة قبل إنتصار الثورة بالرغم من وجود كل هذه المشاكل و العقبات في طريقها فهذا كله بسبب إلتزام تقوى اللّه و تعاليم الإسلام.

فنهج الإسلام هو نهج السعادة. و المعيار الذي نعرف من خلاله مدى إلتزامنا بالإسلام هو التقوى، و كل فرد يمكنه معرفة ذلك من خلال عمله الشخصي، فالتقوى تعني مراقبة النفس مراقبة مستمرة. فاحذروا أيّها الأخوة و الأخوات في جميع الأرجاء أن تتجاوزوا ما يرضي اللّه سبحانه و تعالى، و لا تتبعوا شهوات النفس فتضلوا عن الطريق الإلهي(1).

ص: 134


1- بتاريخ 17 ربيع الأول 1415 ه

آثار التقوى

اشارة

الآثار المترتبة على التقوى كثيرة، و لو عرف الإنسان الآثار المترتبة على التقوى في القرآن الكريم، لأدرك أن جميع الأسئلة و الهواجس التي تختلج في ذهنه قد وردت الإجابة عنها.

1 - الفرقان و الوضوح:

و من جملة تلك الآثار هي أنّ اللّه يجعل لنا بيانا واضحا في رؤيانا، قال تعالى: إِنْ تَتَّقُوا اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقٰاناً (1) أي أننا لن يشتبه علينا طريق الحق و الباطل، و إنّما سيتجلّى الطريق أمامنا بكل وضوح. و حينما يميّز الإنسان الحق من الباطل يتحرك بشجاعة أكبر.

2 - الرزق:

و من جملة تلك الآثار الرزق قال تعالى: وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَحْتَسِبُ (2).

ص: 135


1- سورة الأنفال: 29.
2- سورة الطلاق: 2-3.

فلسان هذه الآية المباركة هو لسان عام - طبعا حينما يقوم الإنسان بمراجعة القرآن الكريم سيرى أنّ هذه الآية نزلت في مورد خاص و جزئي -، و لكن لسانها يشير إلى مفهوم و دليل عام و لا يوجد فيها أيّ تخصيص.

فمضمون هذه الآية يشير إلى أنّ كلّ من يسلك طريق التقوى فإن النتيجة سوف تكون بالنسبة له «يجعل له مخرجا» أي: أنّه سوف لن يصل إلى طريق مسدود في حياته، و هذا الأمر لا إستثناء فيه، و من البديهي أنّ ذلك المخرج الذي توفّره التقوى للإنسان يتناسب مع الهدف الذي يبتغيه ذلك الإنسان.

افترضوا أنّ إنسانا يركب في طائرة أو سفينة و يريد الذهاب إلى مكان ما، فإذا قام ذلك المسافر بإعداد مستلزمات السفر بشكل جيّد فإنّه سيصل إلى هدفه و لن يقع في مأزق، أيّ أنّه سوف لا يبقى في الطريق أو لا يغرق في البحر، و هذا لا يعني أنّه سوف لا يتعرّض لمشاكل السفر في البحر، و لكن إعداد مستلزمات السفر «التقوى» سوف توفّر للإنسان مخرجا يتناسب مع الهدف الذي يريد الوصول إليه.

فالإمام الحسين عليه السّلام كان أتقى الأتقياء و لكنّه استشهد، فمن الممكن أن يقول شخص: إذن لماذا لم يتوفّر للإمام الحسين عليه السّلام مخرج من المأزق الذي واجهه في كربلاء؟

و الجواب: أنّ الإمام الحسين عليه السّلام لم يواجه أيّ طريق مسدود في تحرّكه، و المخرج و الفرج الذي حصل عليه كان يتناسب مع أهدافه. فهدف الإمام الحسين عليه السّلام من الذهاب إلى كربلاء لم يكن الوصول الى السلطة، بل إنّه عليه السّلام و في مثل تلك الظروف الخاصة التي كانت تعيشها الامة أراد أن يعطي درسا خالدا لتاريخ الإسلام عمّا يجب فعله و إتخاذه من موقف في مثل تلك الظروف التي يتعرّض فيها الإسلام للخطر؛ و لهذا فإن الإمام الحسين عليه السّلام حقّق هدفه و نجح في تعليم الامة ما يجب إتخاذه من مواقف.

إذن لم يكن هدف الإمام الحسين عليه السّلام هو تجنّب الشهادة، فالشهادة كانت تعدّ

ص: 136

فوزا عظيما لأمثال الإمام الحسين عليه السّلام.

و بالطبع لو كان هدف الإمام الحسين عليه السّلام هو تجنّب الشهادة لكان يلزمه إتخاذ بعض التدابير التي لو عمل بها - بمعنى إعمال التقوى التي يستلزمها هذا الأمر - فسيكون له مخرج من دون أيّ ريب(1).

و بطبيعة الحال فإن العمل بالمستلزمات يجب أن يكون عن الطريق الشرعي و الصحيح؛ لكي يصدق عليه تقوى اللّه سبحانه و تعالى.

و أنتم في أيّ طريق كنتم سائرين إذا راعيتم الامور التي قرّرها الباري لهذا الطريق و هذا الهدف فلن تصلوا الى طريق مسدود، و لن يواجهكم أيّ مأزق.

افترضوا أنّنا نريد إدارة شؤون البلاد على نحو يمكن فيه تأمين دنيا الناس و آخرتهم؛ لأنّنا لا نريد إصلاح الدّنيا للناس فقط، بل نريد تأمين الدّنيا و الآخرة معا، فلو كنّا نريد إصلاح الدّنيا للناس فقط و لم يهمنا أمر آخرتهم لم نكن نواجه بعض المشاكل التي نواجهها الآن، و لكانت مهمتنا أيسر مما عليه الآن.

و لكن حينما يريد الإنسان الحفاظ على دين الناس و إعمار دنياهم فسوف تكون مسؤوليته أكبر و أثقل، و لكن الباري عزّ و جلّ بيّن لنا سبيل حمل هذه المسؤولية الثقيلة.

و من البديهي أنّ الوصول الى الهدف المنشود من خلال هذا الطريق سيكون أبطأ؛ لأنّ العمل سيكون أصعب و تعترضه مشقات أكبر، و لكن حينما نقوم برعاية الاسس اللازمة لطيّ هذا الطريق فإنّنا سوف لن نصل الى طريق مسدود، أي أنّنا سنصل إلى الهدف من دون ريب.

صحيح أنّ زمن الوصول إلى الهدف المنشود سيكون أطول و يستلزم تحمّل مشقات أكبر و غضّ النظر عن شهوات و لذائذ أكثر - و هذا أمر لا شكّ فيه - إلاّ أنّ

ص: 137


1- و قد بيّن سماحته تفصيل حركة الإمام الحسين عليه السّلام و ثورته في كتاب مستقل قيد الإنجاز.

تقيّدنا بمقرّرات هذا الطريق سوف يوصلنا إلى الهدف المنشود حتما، فالموفّقية و السعادة تمكن في طريق يراعي فيه الإنسان تقوى اللّه عزّ و جلّ.

و بعد ذلك تقول الآية الكريمة وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَحْتَسِبُ، ففي مثل هذا الطريق تختل - في كثير من الأحيان - المعادلات المادّية السائدة التي يخطّط لها الإنسان بواسطة العقل المادّي فقط. يعني أنّ اللّه سبحانه يفيض على الإنسان السائر في هذا الطريق و يعينه بطريق لم يكن يحتسبه أبدا.

و بعد هذا تقول الآية المباركة وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، أي لا يأخذكم العجب، فإن الإنسان إذا ما توكّل على اللّه فإن اللّه سوف يكفيه و ينزل عليه العون و المساعدة(1).

و من الطبيعي أنّ رزقكم لا يعتبر رزقا خاصا بكم؛ لأن كل واحد منكم يمثل قطاعا واسعا من أبناء هذه الأمّة و هذا البلد. رزقكم هو الذي ييسّر لكم عملكم و يوفّر أمامكم الإمكانيّات. و قد يجعل اللّه بركته أحيانا في المال القليل، و قد تسلب البركة أحيانا من الأموال الكثيرة و من الدخل الوفير. و لكن حينما يكون الإنسان تقيّا و يعمل لله بإخلاص، يبارك له اللّه في عمله.

انظروا كم أنجز في فترة الحرب - التي كان بعضكم يتبوّأ خلالها مناصب حسّاسة - من أعمال كبيرة، على الرغم من صعوبة تلك الظروف و مع ما كنّا نتعرّض له من قصف معاد. ففي مدينة طهران لم يكن باستطاعة أيّ إنسان أن يمكث ساعة من ساعات الليل و النهار و هو مطمئن البال من عدم سقوط قذيفة على غرفته. و لكن في مثل هذه الظروف استطاعت الحكومة، و مجموعة فاعلة من أمثالكم بفضل سعيها و علو همّتها و إيمانها و اتّكالها على اللّه أن تقدم أعمالا كبرى و بمداخيل ضئيلة جدا، و حتّى أقل ممّا كانت عليه في السنة الماضية. كانت هناك بطبيعة الحال مشاكل جمّة،

ص: 138


1- من كلمة ألقاها بتاريخ 22 ربيع الأوّل 1415 ه

و لكن لم تكن هناك توقّعات بحلّها على هذا النحو، و لكن تمّ حلّها و سارت أمور البلد على ما يرام و أحرز بعض التقدّم الى أن وصل الى مرحلة البناء. و مجرّد أن تستطيع الحكومة و الشعب خوض تلك التجربة العصيبة و الوصول الى مرحلة البناء يعتبر ذلك بحدّ ذاته عملا جبّارا.

إن الطاقات المتوفّرة لديكم طاقات هائلة مصدرها التوكل على اللّه و الاعتماد عليه. و نحن إذا جعلنا اللّه نصب أعيننا و عملنا بدافع أداء الواجب، فإن الباري تعالى سيمنّ علينا بلطفه و فضله و كرمه و عونه من حيث لا نحتسب. و أنتم تلاحظون أثناء ظروف العمل العادية كيف تتفتح أمامنا في بعض الأوقات منافذ لم تكن في حسباننا، و لم نبذل من أجلها أيّ جهد، و نحن نعلم بحقيقة ذلك، إلاّ أنّ البعض قد يتصور من بعيد أننا نحن الذين حققنا هذا الإنجاز أو ذاك على الصعيد العالمي أو على الصعيد الاقليمي أو المحلّي. و نحن حينما نجلس سويّة ندرك أن ذلك كان بعون اللّه تعالى و بسبب إلتزامنا بالتقوى.

يجب أن نؤمن بوجود العون الالهي الذي يأتي من حيث لا يحتسب الإنسان.

و هذا العون ناجم عن التوكل و الإيمان الذي يراه اللّه تعالى في هؤلاء المسؤولين.

و الإخلاص الذي يراه اللّه لدى الشعب و لدى المسؤولين العاملين في خدمته فيه منفعة لهم و سيعود أثره عليهم بالعون و المدد الإلهي(1).

3 - إستشعار حلاوة الحياة:

و من آثار التقوى فتح بركات اللّه تعالى، و ذلك أنّ كل من يطمع في قطع شوط الحياة على طريق معبّد خال من المطبّات و لا يجابه فيه أيّ عائق أو عارض فهو في الحقيقة إنسان ساذج و سيسقط ذات يوم على رأسه و يتحطّم، فطريق الحياة طريق

ص: 139


1- من كلمة ألقاها في: 12 جمادى الأولى 1420 ه - طهران.

عسير و حافل بالمنعطفات و العراقيل، و فيه مشاكل تزداد حجما و خطورة مع كل خطوة يخطوها المرء باتّجاه غاياته الإلهية و الإنسانية النبيلة، و قد تكون بعض تلك المشاكل أجسم ممّا عرض له في السابق، و قد يكون بعضها الآخر كسابقاتها أو أقلّ منها. و معنى هذا أنّ طريق الحياة لا يخلو من المعاناة. و ينبغي أن لا يرتجي المرء سبيلا مهيعا خاليا من المصاعب و المتاعب.

أمّا المهم بالنسبة للإنسان فهو اليقظة و الفطنة و عدم إضاعة الهدف و عدم الإنحراف عن السبيل، و العزم الراسخ على بلوغ الآمال المنشودة، و هذه الخصال هي التي تسمّى في العرف الإسلامي و في الثقافة القرآنية ب (التقوى). و لو تدبّر المرء القرآن لرأى أن كل الخيرات مترتبة على التقوى؛ سواء الخيرات الأخروية و المعنوية و الروحية، أم الخيرات المادّية و الإجتماعية قال عزّ من قائل: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرىٰ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنٰا عَلَيْهِمْ بَرَكٰاتٍ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ (1). و التقوى ينجم عنها إستشعار حلاوة الحياة، و نيل العزّة، و يأس العدو. و هذه هي حالة المراقبة التي يتحدثون عنها(2).

4 - التقوى تمنع الفساد:
اشارة

التقوى معناها المراقبة التامّة لكل الأعمال و التصرفات و السلوك، و أن لا يترك المرء ذاته على هواها. و هذه المراقبة فيها بركات كثيرة، و هي التي تحافظ على مسيرة الإنسان على الصراط الإلهي المستقيم، و كل شيء يسهل مناله على أثر التقوى، هذه حقيقة قرآنية، و لو أنّ أهل التحليل و البرهنة من أهل المعرفة و المطلعين على هذه القضايا درسوا هذه الحقيقة لخرجوا بإستدلالات عقلية تبرهن صحّتها. و ليس كلامنا

ص: 140


1- سورة الأعراف: 96.
2- من كلمة ألقاها في: 27 /ذي الحجة 1419 ه - طهران.

هذا رجما بالغيب، بل تلك الحقيقة مما يمكن تبيينها و البرهنة عليها، بل قد بينت شيئا ما في الموضع المناسب و لست هنا بصدده.

التقوى تكون مدعاة لنجاح الفرد أو المجتمع في كل ميدان يرده؛ قال تعالى:

... وَ اَلْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (1) أي أن عاقبة هذا المسار التاريخي و العالمي للمتقين، و الآخرة أيضا من نصيب المتقين، و حتى عاقبة هذا العالم الدنيوي للمتقين. و لو لم يكن سماحة الإمام الخميني رجلا تقيا، لما استطاع أن يكون على هذه الدرجة من البراعة و قوّة الشخصية فيصبح قطبا لمثل هذه الحركة الجبّارة التي انتهت إلى هذه الغاية، فتقواه هي التي بلغت به هذا المبلغ، و هي التي حفظت شخصيته.

أي نظام إذا تحلّى زعماؤه بالتقوى، فلا يجد الفساد إلى ذلك النظام سبيلا، و إذا كان قادة جبهة الحرب يتصفون بالتقوى بما تعنيه من المراقبة الدائمة لأنفسهم، لا تقع في جبهتهم أية خسائر.

و لا يعني هذا أنّ العدو - عند اختلال ميزان القوى - لا يقدر على إحراز أي إنتصار، أبدا؛ فهو قد ينتصر في مثل هذه الحالة، إلاّ أنّ التقوى تقود المرء في تلك الحالة أيضا إلى اتباع نفس العمل الذي يمارسه في حالة تعادل القوى. أي أنكم إذا لم تغفلوا و لم تتصرفوا بأسلوب مغلوط، و أديتم ما ينبغي عليكم في أوانه، لا تقع عند ذاك أية خسارة(2).

إنّ الإنسان يصاب بالفساد في كافة أرجاء الدنيا، و إن كل إنسان لا يراقب نفسه يصيبه الفساد.

من هنا يأتي التركيز على التقوى في القرآن و نهج البلاغة و الأحاديث الشريفة، فالتقوى كما ذكرنا إنما تعني مراقبة النفس، لئلاّ يفسد الإنسان و ينحرف، و إنّ كل

ص: 141


1- سورة الأعراف: 128.
2- من كلمة ألقاها في: 14 جمادى الأولى 1418 ه

إنسان له القابلية على الإنزلاق و الفساد إن لم يراقب نفسه. و بناء على هذا فلا بد من إحتمال وجود الفساد هنا أو هناك، و في بعض الأماكن من الواضح وجوده(1).

إن مكافحة الفساد لمن أبرز الأمور المهمة، و إن مكافحة الفساد لا تقتصر على البعد الأخلاقي البحت، بل إن ادارة البلاد تتوقف على مكافحة الفساد. إن الفساد في المجتمع يشبه حوضا للسباحة يستمد ماءه من عدة آبار عميقة بوسيلة أنابيب طويلة بشكل مستمر، و لكنه لا يمتلئ. فعند ما تتفقدون ذلك الحوض تجدون أنه مصاب بالتشقق في جدرانه و بالثقوب في قاعه، فمهما صببتم فيه من الماء تسرب من الناحية الأخرى، و مهما مددتم تلك الأنابيب بالماء فإنه لا يصل أساسا. و هذا هو شأن الفساد في المجتمع.

إن الفساد المالي هو كالجذام و الايدز و السرطان، فلا بد من مكافحته.

إن نقطة واحدة من الفساد تشوه كافة أجزاء البدن. فعند ما يصاب البدن بالمرض و يشعر بالألم - كتسوس الأسنان مثلا - فإن الإنسان يمضي ليلة ساهرا بلا نوم. إن القلب سليم. و كذلك المعدة و الرئتان و الدورة الدموية، إلاّ أن سنّا واحدا غير سليم لا يجعل الإنسان يذوق النوم. و هكذا هو الفساد، فلا بد من مكافحته بصورة جادة، فإذا ما أراد الإنسان أن يكافح الفساد، فعليه أن يكون حذرا بالدرجة الأولى من أن يستولي عليه الفساد(2).

كيف نكافح الفساد

و قد تقدم الكلام عن أصناف و أنواع الفساد، و نزيد هنا أن العمل لا ينجز بالتوجيهات اللفظية فقط، بل لا بد من أن تقف سلطة النظام بوجه تيار الفحشاء

ص: 142


1- من كلمة ألقاها في: 17 جمادى الثانية 1423 ه - طهران.
2- من كلمة ألقاها في: 1383/3/27 ه. ش، 28 /ربيع الثاني/ 1425 ه

و الفساد؛ فلا تسمحوا لأهواء حفنة معدودة و مجموعة صغيرة و قليلة في داخل المجتمع أن تكون سببا في إغواء عقول الشباب من الفتية و الفتيات، و المؤمنين من الرجال و النساء الذين لا دافع لهم يحدوهم نحو الفساد.. قفوا بوجه مثل هؤلاء.

و المسؤولية ملقاة على عاتق جميع المسؤولين في هذا المجال، فلا تسمحوا لحفنة من المتشدقين باسم الحرية - و في الحقيقة جدير بنا البكاء على الحرية لما يجري من سوء استغلال لاسمها - بإشاعة المنكرات و الفحشاء و التحلل في المجتمع، إذ إن عاقبة ذلك زرع روح التشاؤم لدى البعض أزاء النظام كما هو الحال في بداية الحركة الدستورية(1).

5 - معرفة المساوىء:

من وصيّة النبي صلّى اللّه عليه و آله لأمير المؤمنين عليه السّلام: «يا علي عليك بالصدق و لا تخرج من فيك كذبة أبدا.

و لا تجترأنّ على خيانة أبدا.

و الخوف من اللّه كأنك تراه.

و ابذل مالك و نفسك دون دينك.

و عليك بمحاسن الأخلاق فاركبها.

و عليك بمساوىء الأخلاق فاجتنبها(2).

إنّ كثيرا من مساوىء الأخلاق لا يلتفت إليها، فأحيانا إذا قال شخص لآخر: «أهلا بك» مثلا يتوّهم أنّه يقوم بالتلطّف و إظهار المودّة و المداراة معه، و الحال أنّ هذه الكلمة خرجت منه تملّقا أو تشجيعا لمن يرتكب الحرام.

ص: 143


1- من كلمة ألقاها في: 12 جمادى الأولى 1422 ه - طهران.
2- تحف العقول، مواعظ النبي صلّى اللّه عليه و آله، صفحة: 6.

فإذا أردنا أن نتحلّى بمكارم الأخلاق و نجتنب عن الأعمال السيئة و مساوىء الأخلاق فعلينا قبل ذلك أن نعرفها.

و طريق معرفتها هو التقوى، و التقوى تعني الدقّة في الكلام و الأعمال لئلاّ ينحرف الإنسان عن الطريق المستقيم و طريق الخلاص و النجاة(1).

و قال النّبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «أيّها الناس إنّ لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم.

و إنّ لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم.

إنّ المؤمن بين مخافتين:

أجل قد مضى لا يدري ما اللّه صانع فيه.

و أجل قد بقي لا يدري ما اللّه قاض فيه»(2).

هناك نوعان من الخوف محيطان دائما بالمؤمن:

أحدهما الخوف من الماضي فإنّه لا يعلم ما ذا سيفعل اللّه بما مضى من أعماله السابقة. فما أكثر الأعمال التي قمنا بها و صارت في طيّ النسيان عندنا و لكن اللّه أحصاها جميعا، قال اللّه تعالى: أَحْصٰاهُ اَللّٰهُ وَ نَسُوهُ (3).

و الآخر الخوف من المستقبل فإنّ المؤمن لا يعلم المصير و النهاية التي قدّرت له.

و فائدة هذين الخوفين هي التوبة من الماضي و التيقّظ و الإنتباه و الإلتفات للمستقبل و هذا هو معنى التقوى أيضا(4).

ص: 144


1- كلمات مضيئة: 31.
2- تحف العقول، صفحة: 27.
3- سورة المجادلة: 6.
4- كلمات مضيئة: 132.
6 - العزّة:

من وصيّة النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من أحبّ أن يكون أعزّ الناس فليتق اللّه.

و من أحبّ أن يكون أقوى الناس فليتوكل على اللّه.

و و من أحبّ أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد اللّه أوثق منه بما في يده»(1)

ذكرت في القرآن الكريم آثار للتقوى من قبيل قوله تعالى:... وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَحْتَسِبُ (2).

و من آثار التقوى أيضا ما جاء في هذه الرواية أي العزّة.

ثمّ إن ما في يد الإنسان محدود و لكن ما في يد اللّه كل عالم الوجود، قال اللّه تعالى:

... وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ عِنْدَنٰا خَزٰائِنُهُ وَ مٰا نُنَزِّلُهُ إِلاّٰ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (3) .

و الإنسان إذا كان عنده ثقة و اطمئنان باللّه تعالى فإنّ اللّه عزّ و جلّ يكفيه من كل شيء، قال اللّه تعالى: أَ لَيْسَ اَللّٰهُ بِكٰافٍ عَبْدَهُ (4).(5).

ص: 145


1- تحف العقول، صفحة: 27.
2- سورة الطلاق: 2-3.
3- سورة الحجر: 20.
4- سورة الزمر: 36.
5- كلمات مضيئة:.
7 - العدالة:
اشارة

علينا أن نعرف كيف نترجم التقوى بنية تطبيقها عمليا، لا سيما بالنسبة لاولئك الذين يتحملون المسؤوليات في المجتمع و يتبوءون موقعا في الحكومات، فلقد تمثلت العدالة الفردية بأعلى درجاتها في شخصية أمير المؤمنين عليه السّلام، و ذاك هو ما نعبر عنه بالتقوى، تلك التقوى التي كان عليه السّلام يجسدها في عمله السياسي و العسكري و في توزيعه لبيت المال و استفادته من مواهب الحياة و استثماره لبيت المال، و في قضائه و جميع شؤونه؛ فالعدالة الفردية و الذاتية للمرء تمثل في واقع الأمر سندا للعدالة الإجتماعية و صاحبة التأثير في العدالة على صعيد الحياة الإجتماعية.

ليس بمقدور من يفتقد للتقوى في ذاته و في عمله، و هو رهين أهوائه النفسية و أسير للشيطان، الادعاء بقدرته على تطبيق العدالة في المجتمع، فذلك محال؛ فمن أراد أن يكون مصدر إشعاع للعدالة في حياة الامة، فلا بد له - و الحال هذه - أن يلتزم التقوى على صعيد نفسه أولا؛ تلك التقوى التي أشرت لها سابقا، و التي تعني المراقبة للحيلولة دون الوقوع في الخطأ.

و هذا لا يعني أن الإنسان لن يخطئ، كلا فلا مفر لغير المعصوم من ارتكاب الخطأ، و ما هذه المراقبة إلاّ صراط مستقيم و سبيل للنجاة تنتشل الإنسان من الغرق و تمنحه القوة، و الذي لا يمارس الرقابة على نفسه و يعاني من فقدان العدالة و التقوى على صعيد القول و الفعل و حياته الشخصية لا قدرة له على أن يكون مصدرا للعدالة الإجتماعية في أوساط المجتمع(1).

ص: 146


1- من كلمة ألقاها في: 20 ذي الحجة 1421 ه - طهران.
متى تنعم الدنيا بالعدالة و التقوى؟

لكن متى ستنعم الدنيا بالعدالة و التقوى؟ عند ما يتحلى صناع القرار في العالم - و هم زعماء الدول و قادة الشعوب - بالعدالة و التقوى، و إلاّ فلو ابتعد مسؤولو أي بلد أميالا عنهما فلن يتحقق هنالك أي مفهوم للعدالة و التقوى. و بناء على هذا، فلا بد من صلاح الأساس، و ذلك ما يتمثل في النظام و الحكم الذي ترسى قواعده على أساس الأحكام الإلهية و يتمتع المسؤولون فيه بالعدالة و التقوى، و إذا ما أردنا لديننا و دنيانا الخلاص من الأزمات فعلينا التمسك بهذا المبدأ، و هو إرساء قواعد العدل و التقوى؛ و لكن من هم أول المتضررين جراء هذا التحرك و التغيير الإجتماعي العملاق؟ إنهم الذين بسطوا سلطتهم الغاشمة على البلاد الإسلامية و تحكموا على رقاب الشعب متغطرسين ناهبين لثرواته المادية و المعنوية، فكان هؤلاء أول من انبرى لمعاداة هذا التحرك و التغيير، و هم من نسميهم في قاموس الثورة الإسلامية "الإستكبار العالمي"؛ فنظرا للتقارب و التواصل القائم بين شعوب و دول العالم في الوقت الحاضر و ضيق حلقات التباعد بينها؛ فإن الناهبين للثروات في العالم لا يكتفون بما لديهم، بل يحاولون الإستيلاء على الدنيا بأسرها، و إنكم تشاهدون ما تمارسه القوى الإستكبارية اليوم بغية مدّ نفوذها على العالم بشعوبه و دوله، و إذا ما نجح شعب في طرد هذه السلطة الجهنمية الشيطانية من بلده و نهض لإقامة الحق و العدل فإن هذه الدوائر العالمية ستقف في مقدمة من يناصبونه العداء؛ و يفعلون ما وسعهم للحيلولة دون نجاح هذا الشعب في تقويض بساط الظلم و الجور، كما حصل أثناء مرحلة الثورة - و هذا ما يتذكره المعاصرون للأحداث آنذاك و لا زالوا شهودا عليه - حيث وقفت هذه الدوائر بوجه حركة الشعب جاهدة لثني الشعب الإيراني عن مواصلة طريقه هذا، سواء عبر التوسل بالسلاح من مدافع و دبابات أو عبر الحرب الإعلامية و عمليات الإغواء.

ص: 147

فلئن تمكنوا من ثني الشعب يكونوا بذلك قد بلغوا مرامهم و مضوا في اغتصاب السلطة، و إلاّ فلو نجح الشعب - أي شعب - في استئصال الظلم و التعسف و الطغيان عن بلاده إذ ذاك ستتغير طبيعة العداء الذي تبديه الدوائر الإستكبارية و العالمية، حيث ستنصب جهودهم على الحيلولة دون بلوغ هذا الشعب أهدافه و طموحاته المتمثلة في استتباب العدالة و التقوى في البلاد(1).

8 - إصلاح الأعمال:

قال تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمٰالَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَنْ يُطِعِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فٰازَ فَوْزاً عَظِيماً (2).

الأيام و الساعات من الاوقات التي يجب علينا حقا أن نغتنمها.

إنّ الكلام الجوهري و المهم - في نظري - هو أن نفكر بمسؤوليتنا التي تعدّ أمرا في غاية الخطورة و هو في ذات الوقت له قيمة أيضا، فلنحافظ عليها و نخرج منها ظافرين و ليكن هذا هو سعينا، و هذا ما لا يتيسر إلاّ بإلتزام التقوى، فإذا ما التزمنا التقوى فسيصلح عملنا و سيتقدم وفقا للشروط الضرورية و بعيدا عن الشوائب و حالات الخلل التي تنجم عن فساد العمل و سيعطي ثماره.

من شأن التقوى أن نحسن الفهم و نحسن القول و العمل، فعند ما يحسن المرء الفهم و العمل و القول فإن النجاح حتمي و لا مناص منه، و إنّ أكثر ما وردت الوصية به في القرآن و الروايات بالنسبة للمؤمنين هي التقوى، و نحن الذين نحتاج للتقوى أكثر من سائر الناس لأن مسؤوليتنا ثقيلة و إنّ جانبا و نصيبا من الاقتدار الوطني هو بأيدينا، فلو لا التقوى ربما لا يوظف هذا الاقتدار الذي هو ملك الشعب و يقع جانب منه في يد

ص: 148


1- من كلمة ألقاها في: 25 شوال 1422 ه - طهران.
2- سورة الأحزاب: 70-71.

كل من الجمع الحاضر، في مساره و موضعه الصحيح. بناء على هذا فإن أهم قضية بالنسبة إلينا هي التقوى(1).

9 - التقوى ضمانة من الإنحراف و الزلل:

أوصيكم بالحذر من الزلل يقول الإمام السجاد عليه السّلام في الصحيفة السجادية في دعائه لجند الإسلام، و هو من دعائه لأهل الثغور «اللهم صلّ على محمد و آله و أنسهم عند لقائهم العدو ذكر دنياهم الخداعة الغرور، و امح عن قلوبهم خطرات المال الفتون و اجعل الجنة نصب أعينهم»(2).

إن المال خطير و فتون و هو يصيب الكثيرين بالانحراف و الزلل، و هناك من عظماء التاريخ من جعله المال يشعر بالدوار عند ما بلغ القمة فأصيب بالإنحراف، فعليكم بالحذر الشديد من فتنة المال و المادة.

فما هي الكلمة التي استخدمها الشرع المقدس لحالة الحذر هذه؟ إنها التقوى فعند ما يوصي القرآن بالتقوى في جميع آياته، فإنه يعني الحذر و مراقبة النفس. إن الطمع من صفات النفس الإنسانية(3).

10 - المغفرة و الهداية:
اشارة

لو أنّنا جميعا حافظنا في مسيرتنا العامة - و منها نشاطنا أثناء المسؤولية - على رعاية التقوى و الشعور بالمسؤولية، فإنّ اللّه تعالى سيشملنا بتوفيقه و مغفرته يٰا أَيُّهَا

ص: 149


1- من كلمة ألقاها في: 7 /رمضان/ 1424 - طهران.
2- الصحيفة السجادية: 133 (142).
3- من كلمة ألقاها في: 28 /ربيع الثاني/ 1425 - طهران.

اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمٰالَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (1) .

و إذا تمسّكنا بالتقوى فإنّ اللّه سيصلح أعمالنا و يهدينا إِنَّ عَلَيْنٰا لَلْهُدىٰ (2).

و لو أنّنا لم ننحرف عن التقوى و التزمنا بأوامر اللّه و نواهيه و راقبنا أنفسنا، فلا شكّ في أنّ اللّه تعالى سيهدينا و يغفر لنا ذنوبنا وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ.

و إذا صدر منّا ذنب جهلا أو سهوا فإن اللّه سيغفره لنا و يستر علينا.

إذا فالتقوى ملاك قيّم يتحقّق فيه التفاضل أمام اللّه، و من خلالها نميّز الأعمال - الجيدة المنتجة من غير المنتجة - و ما ينبغي فعله أو تركه، فالمعيار هو التقوى.

إذا تمسّكنا بالتقوى فإنّ قولنا و فعلنا سيكون بهداية اللّه و عونه على المسار الصحيح. إذا فالتقوى هي الأول و الأخير في جميع أعمالنا(3).

التقوى مصدر الهداية

إنّ وصية أمير المؤمنين و أهل بيته عليهم السّلام بتقوى اللّه و اتباع رضوانه و الإلتزام بما جعله اللّه تكليفا في كل الأمور من أجل سعادتنا و صلاح ديننا و دنيانا، فلو التزم المتكلم بتقوى اللّه هداه اللّه في قوله، و إذا ما التزم المستمع و العامل بتقوى اللّه عرّف اللّه عزّ و جلّ الحق و الحقيقة الى قلبه و هدى قواه و قدراته صوب تحقيق كل ما هو حق و عدل، فالتقوى مصدر الهداية و الفرج و مصدر الاقتدار و العزيمة و الإرادة الإنسانية، فلنغتنم وقتنا من أجل الإلتزام بالتقوى التي ليست سوى مراقبة النفس، فلنراقب قولنا و فعلنا و معاشراتنا و مواقفنا، و لنحذر لئلا تتغلغل إرادة الشيطان في مواقفنا و أعمالنا و أفكارنا.

ص: 150


1- سورة الأحزاب: 71.
2- سورة الليل: 12.
3- من كلمة ألقاها في: 1384/3/8 ه ش - 20 ربيع الثاني 1426 ه - 29 مايو 2005 م.

هذه هي التقوى و إنّ اللّه ليعين كلّ من يتمتع بهذه المراقبة، لا أنه لن يرتكب الخطأ و لا أنه يصبح معصوما عن الذنب و المعصية، و لكن اللّه يعينه و يهديه(1).

11 - إزالة الشدائد و النواقص:

إن الدنيا و الآخرة تحت ظلّ التقوى، هذا هو درس أمير المؤمنين عليه السّلام، و نحن حاليا في أمسّ الحاجة إليه، و لسنا بحاجة إليه في هذا اليوم فقط، و إنما نحتاجه دائما، إلاّ أن هذه البرهة الزمنية مهمة بالنسبة لنا.

إن الأصول و الحقائق الإنسانية لا تتغير بتعاقب الأزمنة، فالإنسان ينشد العدالة منذ فجر التاريخ إلى يومنا هذا و سينشدها إلى نهاية العالم، كما أن الناس على مر الأزمنة بحاجة إلى المسؤولين الأوفياء؛ الذين يخدمونهم و يعملون من أجلهم بصدق، فهذا ما لا يمكن له أن يتغير.

إن درس أمير المؤمنين عليه السّلام في نهج البلاغة ناظر إلى هذه الأمور، لقد قام أمير المؤمنين عليه السّلام ببيان هذه الأصول و ثوابت الحياة البشرية على طول التاريخ و هذا هو ما نريده و نصبو إليه، و إلا فنحن لا نقول بالاستمرار على السفر بوسائط النقل السائدة في عهد أمير المؤمنين عليه السّلام، فبالإمكان حاليا الاستفادة من الطائرة، و ربما استحدثت بعد مدة واسطة أسرع من الطائرة، و قد كان البريد يستغرق آنذاك مدة شهرين من الزمن كي يصل إلى غايته، في حين أن بإمكانكم حاليا الاتصال بجميع نقاط العالم عبر شبكة الأنترنيت لحظة بلحظة.

فهذه متغيرات، و الحال أن العدالة و الصلاح في المسؤولين شيء ثابت، و هكذا عدم التبذير في ما بأيدينا من أموال الناس، فهذه لا تقبل التغيّر، فإذا أمكننا بتوفيق اللّه بلوغ التكامل في هذا الاتجاه و واصلنا الخطوات التي قطعناها حتى الآن، فعندها

ص: 151


1- من كلمة ألقاها في: 22 ذي الحجة/ 1424 ه. طهران.

ستتنعم بلادنا الإسلامية بالخير و العدل و الغزّة و التقدم.

و لو كنت أنا و أمثالي من الصادقين فسيغدو بإمكاننا إنشاء مجتمع صادق.

و لو لم تستول علينا الأهواء فيمكننا إنشاء مجتمع متحرر من الأهواء، و لو كنا شجعانا أمكننا إنشاء مجتمع شجاع، و لو كنت و أمثالي في أسر الأهواء و المطامع، و كنا أذلّة خائفين لما أمكننا إنشاء المجتمع على الفضائل.

و يتوقف ذلك على حظ الإنسان في العثور على أستاذ جيد ليعمل على تربيته من الناحية الفردية.

الدولة الإسلامية هي التي تنشيء بلدا إسلاميا، و إذا أقيم البلد الإسلامي أقيمت الحضارة الإسلامية؛ و عندها ستعمّ الثقافة الإنسانية أجواء المجتمعات قاطبة.

و كل ذلك يتأتى من خلال التقوى العملية، و مراقبة النفس و تقوى الفرد و الجماعة و الأمة.

و لو كانت الأمة الإسلامية تقيّة أمكنها التحرك في الأزمات، و تغلّبت على المشاكل و لم تتغلب المشاكل عليها.

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «من أخذ بالتّقوى عزبت عنه الشّدائد بعد دنوّها»(1).

فلو أن فردا - و أقول: و لو أن شعبا - اتخذ من التقوى طريقا له و اتقى فسوف تبتعد عنه المشاكل حتى لو كانت قريبة منه، «و احلولت له الأمور بعد مرارتها، و انفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها و اسهلت له الصعاب بعد انصابها»(2)، و هذه هي الحقيقة.

إن الشعوب المسلمة ليس لديها حاليا ما تقوله تجاه القوى العالمية، فلا تمتلك علما كافيا و لا إبداعا أو تقدما، و لا مهارة في المجالات السياسية المختلفة، فلما ذا نحن متخلفون؟ لأننا تركنا التقوى، و هذه هي الشدائد التي ترتفع من خلال التقوى(3).

ص: 152


1- نهج البلاغة: 174/2 خ 198.
2- المصدر السابق.
3- من كلمة ألقاها في: 1384/5/28 ه ش - 1426/7/13 ه ق - 2005/8/19 م.
12 - التكامل الإنساني:
اشارة

إنّ فلسفة و حكمة خلق الإنسان هو التكامل، و التكامل مرتبط و مرهون بالمعرفة و العبادة للّه تعالى، و العبادة النابعة و المتحرّكة من القلب و الروح تساعد الإنسان في وصوله إلى هدفه النهائي(1).

و من الطبيعي أن التخلق بالأخلاق الحسنة يوجب التسامي و التكامل المعنوي و النفسي و المعرفة الأفضل، و هذا من مراحل الإنسان الكامل - و نحن غير قادرين على إدراك ذلك بشكل صحيح، و إنّما يسمع الإنسان أشياء من الأكابر و أهل المعرفة - المرحلة المتعلّقة بنا حاليا هي مرحلة الأخلاق.

و لقد كان حقا ما قاله الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق»(2).(3).

إنّ من خصائص الدين الإسلامي المقدّس - على الأخص الفكر الشيعي الذي يمتاز بعدة امور - إحتواءه على جميع العوامل الضرورية لتكامل الفرد و المجتمع الإنساني؛ و هذا شيء مهم جدّا. فقد تعرض على البشر ثقافة أو حضارة أو عقيدة، و التي قد تحتوي على نقاط إيجابية تؤدي إلى تفجير الطاقات الكامنة عند البشر و تحريك قابلياتهم فيعملون و يبدعون و يبنون و يستثمرون و يعمّرون العالم، إلاّ أنّ في هذه العقيدة خللا يؤدي بالناس الذين حصلوا على منافع هذه العقيدة إلى

ص: 153


1- كلمات مضيئة: 190.
2- بحار الأنوار: 210/16.
3- من كلمة ألقاها في: 27 رجب 1417 ه

التعرض لمختلف الأضرار و الصعاب، و أحيانا تكون الأضرار أكبر من المنافع.

المثال البارز على ذلك التفكير الغربي الراهن و الثقافة الرأسمالية و الحرية الفردية و العلمانية الشائعة في الغرب.

عليكم يا من تبلّغون الدين و القرآن أن تدقّقوا في هذه الامور كثيرا.

و حينما نذكر الثقافة الغربية لا نقول إنّها فاسدة و منحطة من ألفها إلى يائها، فقد ذكرنا الكثير عن الغرب و الغزو الثقافي و... و ذلك لا يعني أنّ ثقافة الغرب بأجمعها فاسدة و قبيحة، و إلاّ لرفضتها الشعوب الغربية نفسها و لما تحملتها منذ البداية، بل هناك بعض المواطن الإيجابية في هذه الثقافة، قد خدعت الناس و بهرتهم و جذبتهم إليها.

و المثال البارز لهذه المجتمعات يرى بوضوح في المجتمع الأمريكي، فهناك توجد ثقافة الغرب الرأسمالية و ما يدعوه الغربيون أنفسهم بالليبرالية، كما توجد في هذه الثقافة و هذه الحضارة و ما يسمونه بالآيديولوجية امور إيجابية، فهي تدعو الناس إلى السعي و العمل و مراعاة الدقة في الوقت و الطاقات الإنسانية.

و لكن ما هي نتيجة هذه الثقافة بما فيها من الإيجابيات؟ النتيجة هي ظهور مجتمع غنيّ بالثروة و التطور و العلم و التكنولوجيا و هي الامور التي بهرت أعين الشعوب الغربية و مفكّريها و ارتضاها الجميع منذ قرنين أو ثلاثة - سواء في أمريكا أو أوروبا - و أعجبهم هذا الاسلوب المعيشي و هذه العقيدة و الثقافة و هذه الأفكار، و لكن لم تتوفر في هذه الثقافة عوامل الحفاظ على التكامل الحقيقي للإنسان، فقد أغفلها هؤلاء و لم يلتفتوا إليها.

فمثلا لو صنعتم خزّانا للمياة لتوفّروا للناس المياه الصالحة للشرب و أحكمتم جدران هذا الخزّان و سددتم جميع نوافذه و تركتم منفذا واحدا لدخول الماء فيه و أحكمتم هذا كله و لم يبق لديكم قلق من هذه الناحية، إلاّ أنكم لم تلتفتوا إلى أنّ هذا الماء سيتسمم بسبب مجاورته لمعدن أو مادة معينة. أجل، سيتجمّع الماء و سيكون

ص: 154

باردا زلالا، و سيشعر الإنسان باللذة حينما يشربه إلاّ أنّه ملوث بالجراثيم و الديدان.

فالذي أعدّ هذا الخزّان لم يلتفت إلى هذا الجانب و إنّما التفت إلى جوانب اخرى فقط.

كذلك أغلب العقائد البشرية من هذا القبيل، حتى العقيدة الرأسمالية، فلقد شاهدوا الجوانب التي تحثّ الإنسان على العمل و بذل الجهد و التطور و التكامل المادي و الثروة و العلم و ما إلى ذلك من الامور - و هي صحيحة - إلاّ أنّهم لم يلاحظوا الجوانب الاخرى.

فالمجتمع الذي ترتفع فيه ناطحات السحاب و تزداد فيه الثروات و... و مع ذلك ينتشر فيه الفقر و البؤس بين اناس كثيرين و فيه من يموت جوعا و فيه الإضطهاد.

و الأسوء من هذا كله الفساد الشامل الذي دخل حتى إلى منازل الذين بهرتهم هذه الثقافة، فنغّض عليهم حياتهم.

إذن فقد تحوّل هذا إلى شيء ناقص و قبيح.

إنّ أهليّة العقيدة هي في توفّرها على جميع العوامل، و إلاّ فعالمية العقيدة جيدة و يمكنها غزو العالم إلاّ أنّها لا تتمكن من الحفاظ عليه، و بإمكانها أن تحافظ على الثروات الطبيعية و لكنها لا تستطيع أن تحافظ على الطاقات الإنسانية، و بإمكانها أن تحرز تقدما ماديا إلاّ أنّها لا تحرز تقدما معنويا، و بإمكانها إقرار المساواة بين الناس - كالعقيدة الشيوعية - و لكنها لا تتمكن من القضاء على العنصرية و التمييز الطبقي بين الطبقات الراقية.

لقد عمد الشيوعيون إلى تخصيص المؤن و قضوا على الثروات الخاصة ليتساوى الناس! فالذي كان ثريا انتكس و تساوى الجميع، أي غدا الناس فقراء بأجمعهم، و في موضع آخر قضوا على الأغنياء لينتفع الفقراء، و على كل حال هم يدّعون اليوم أنهم ساووا بين الطبقات الفقيرة.

ص: 155

الإسلام يجمع بين التكامل المادي و المعنوي

إنّ ميزة الإسلام إنّما هي في اشتماله على جميع عوامل التكامل الإنساني المادي أو المعنوي، ففي الإسلام هناك: خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً (1) و قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّٰهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبٰادِهِ (2).

و الإستفادة من الثروات الماديّة و العمل و السعي، و تقبيل الرسول صلّى اللّه عليه و آله يد العامل، و عمل أمير المؤمنين (عليه السّلام)، و هذا كله يشير إلى شيء، و كذلك فيه هذه الحقيقة و هي أنّ الذي لا يعمل لا يستجاب دعاؤه.

فقد حبس البعض أنفسهم في البيوت تمسكا بقوله تعالى: وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (3) فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه سوف لا يستجيب أيّ دعاء لكم، لماذا؟ ليتّجه المجتمع نحو التنمية و البناء.

قارنوا بين أيام الإسلام الاولى حيث كان الناس يعيشون في الضيق، و بعد خمسين سنة حيث ملأت النعم المادية الدول الإسلامية، فهذه التنمية كانت بسبب هذا البعد.

كما أنّ الإسلام يدعو أيضا إلى التكامل المعنوي و يحثّ على زيارة بيت اللّه تعالى: قُلْ مٰا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لاٰ دُعٰاؤُكُمْ (4)، وَ قٰالَ رَبُّكُمُ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (5) فلا قيمة لحياة الإنسان الروحية و المعنوية إلاّ بالاتصال باللّه، فبمجرد أن تغفلوا عن اللّه فسيفقد هذا القلب حيويته و ستموت هذه الروح، و إذا تذكر عاد القلب إلى حيويته، و إذا طال أمدها ستتحول إلى جماد.

ص: 156


1- سورة البقرة: 29.
2- سورة الأعراف: 32.
3- سورة الطلاق: 30.
4- سورة الفرقان: 77.
5- سورة غافر: 60.

هذا ما يقوله لنا الإسلام و آيات القرآن: أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اَللّٰهِ (1)، أَلاٰ بِذِكْرِ اَللّٰهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ (2).

هذا موجود في الإسلام الذي يدعو في الوقت نفسه إلى اكتشاف الثروات الطبيعية و إعمار الدنيا و الإمساك بالمعدات المادية و تسليح الذهن بالعلم و التعرف على الدنيا و الطبيعة و المادة و الثروات و اكتشافها و استثمارها - لأنّها تعود إليهم - و في الوقت نفسه يأمر الإسلام بإنجاز هذه الامور قربة إلى اللّه تعالى، و عدم إغفال ذكر اللّه، و امتثال هذه الامور بشكل عبادي، أي أنّ الإسلام يجمع بين السعي و الإعمار المادي و بين الإعمار المعنوي.

لذا فإنّ الذي كان في الإسلام يسعى وراء الإعمار المادي هو أيضا (أزهد خلق اللّه).

فأمير المؤمنين عليه الصلاة و السّلام الذي يحفر القناة بيده حتى يخرج الماء منها كما يخرج الدم من منحر البعير، يخرج بثوبه الذي علاه الوحل و يجلس على حافة البئر و يأخذ صحيفة ليكتب عليها: (أوقفت هذه البئر و تصدقت بها على الفقراء)، أي أنّه يعمّر الأرض و ينفقها لوجه اللّه تعالى، فهو أكثر الناس إنفاقا و أكثرهم إصلاحا.

كما أنّه عليه السّلام من الناحية المعنوية الأعلى و الأسمى. و قد جمع الإسلام بين هذين الأمرين.

على المجتمع أن يطوي و يزيل الفساد الذي في داخله كما تصنع تيّارات الماء الهدّارة.

تدبّروا أنهار العالم العظيمة تجدون أن تيّاراتها الهدّارة تطوي كل ما يلقى فيها من الأدران و الأقذار و تبدّلها إلى مواد حيوية فيطهر الماء.

ص: 157


1- سورة الحديد: 16.
2- سورة الرعد: 28.

فعلى المجتمع أن يكون كذلك و أن يصل إلى المستوى الذي يقضي فيه حتى على قطرة الفساد الواحدة(1).

إنّ طبيعة الإنسان الوقوع في المنزلق لأن عوامل الانزلاق و الإنحراف كامنة في أعماقنا و إذا لم يتم ضبط و ترشيد غرائزنا فإن بإمكان أيّ منها أن تصبح نافذة و قناة لسقوطنا و جنوحنا عن الصراط المستقيم و أبرز هذه الغرائز حب الإنسان نفسه، و هذه الغريزة - بطبيعة الحال - ملازمة لوجود الإنسان، فحب الذات هو الذي يدفع الإنسان نحو الحركة التكاملية لتسلق قمم العروج الإنساني، و لكن إن لم يتم ترشيد حبّ النفس سيخلّف إنحرافات كبرى؛ فاكتناز الثروة و حب السلطة و الشهوات و طمع الإنسان و طغيانه و الإنحرافات الكبرى التي يشهدها التأريخ البشري و ما وقع و يقع من ظلم فظيع إنما تعود بأجمعها إلى غريزة حب النفس التي أطلق البعض عنانها و بسببها ارتكبوا الأخطاء و الممارسات الخيانية و الكوارث المريعة(2).

و التكامل الإنساني له درجات مختلفة، و كل مرتبة و درجة يصل إليها الإنسان يوجد فوقها درجة أعلى.

فالإنسان الذي يضيّع عمره بالبطالة و لا يستفيد من حياته بالشكل المطلوب و لا يصل إلى المراحل العليا من الكمال، أو الإنسان الذي سعى و كافح و قام بأعمال الخير و البرّ و لكنه أحرقها كلها بصاعقة الذنوب و الأعمال السيئة التي ارتكبها، فهكذا إنسان سوف يتعذّب بنار الحسرة يوم القيامة(3).

ص: 158


1- من كلمة ألقاها في 1416/12/26 ه
2- من كلمة ألقاها في: 5 رمضان 1423 ه - طهران.
3- كلمات مضيئة: 191.
تأثير التقوى على جميع شؤون الحياة

التقوى - هذا العنصر الحاسم - له تأثيره في كافة ميادين الحياة. انظروا كم تحدث القرآن عن التقوى.

و ليس كل المراد أنّ الإنسان إذا توفي و رحل إلى الآخرة يثيبه اللّه هناك على تقواه، كلا ليس هذا فحسب، بل التقوى تدير الحياة و تصلحها في هذه النشأة أيضا، و لولاها لاستحوذت الغفلة على الإنسان.

يشبّه أمير المؤمنين عليه السّلام التقوى بالفرس الذلول الذي يركبه صاحبه و يوجهه حيث شاء، و هو يوصل صاحبه إلى غايته بدون أية مصاعب، و يشبّه المعصية - و هي على الضد من التقوى - بفرس جموح إذا ركبه صاحبه أسقط اللجام من يده و تقحم به المهالك.

التقوى لها تأثير في شؤون الحياة أيضا عليكم و ذلك بالسعي لإحياء التقوى في كل ربوع المؤسسات، على صعيد العمل الفردي، و على صعيد العمل الجماعي، في مجال العمل، و في مجال النظم، و السياسة - في مواضعها المناسبة - و في علاقتكم باللّه، و في علاقتكم بالناس، و في ما يتعلق ببيت المال.

التقوى و الاتكال على اللّه، و السير على طريق اللّه بكل عزم و إخلاص و بلا أي قيد أو شرط هي الموصل للسعادة في دار الدنيا.

سبيل اللّه حافل بكثرة السائرين، و قد سلكه الكثيرون على مدى التاريخ، و من الطبيعي أن لا يخلو من الصعاب، و لكن لا بمعنى أنه محفوف كله بالمصاعب، طريق اللّه طريق الفخر و العزّة، و لو طوي بالشكل الصحيح لكانت فيه سعادة الناس، و الشعوب في ظل سيرها على طريق اللّه تبلغ مرحلة الأمن و الرفاه و الاستقرار

ص: 159

و الوعي و المعرفة. و تعاسة شعوب العالم يعزى سببها إلى عدم السير على طريق التقوى، و بسبب تحكم إرادة الطواغيت فيها.

نقلت الأخبار أنّ ثمة عشرين مليون طفل بلا أبوين، أو كمن لا والدين لهم، يعيشون مشردين تعساء، و هناك مئات الملايين من الجياع في العالم، لا شكّ أنّ الطواغيت هم الذين يوقعون الناس في مثل هذه الحالة من البؤس و الشقاء، و طريق اللّه هو طريق العزّة و الكرامة و رفع الظلم عن الناس، هو طريق الرفاه و طريق التربية الصالحة للنفوس الطيّبة.

من الطبيعي إنّ هذا الطريق إذا أريد له الثبات لا بدّ و أن يتحمّل رجال الحق و ثلة من الناس قدرا من المصاعب.

و إنّ الباري تعالى سيكون عونا لكم وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (1) ثم إنّ المصاعب لا بقاء لها، لأن هذا المسير إذا تواصل بمثل هذه الدقّة، فسيفتح اللّه تعالى أمام السائرين، و أمام كافة الشعوب المظلومة و المستضعفة، و أمام كل من يجاهد و يعمل في هذا السبيل، باب الفرج بإذنه(2).

ص: 160


1- سورة الطلاق: 2.
2- من كلمة ألقاها في: 14 جمادى الأولى 1418 ه
التقوى في الإدارة
اشارة

إذا ما أردنا إبراز التقوى في حياتنا - إذ ليس كافيا الادعاء بالتقوى و التلفظ بها و لا بد من التحلي بالتقوى و الورع حقا - فإن أهم ميادين تجلي التقوى بالنسبة إلينا نحن المسؤولين هو ميدان المسؤوليات الإجتماعية، ففيها ينبغي تجسيد التقوى.

يتعين على المسؤولين في شتى المرافق أن يكون أبهى مظهر لتقواهم هو أداء المسؤولية التي نهضوا بها وفقا للقانون، و على أفضل وجه دون نقص أو خلل، هذا هو الموقف على صعيد المستوى العالي لمسؤولي البلاد، و قد يقال الكثير فما يخص المستويات الوسطى أو داخل هيكلية القطاعات الواسعة من مسؤولي البلاد، مما يجب أن لا يقال، فالآمال المعلقة بهم بهذا المستوى.

إن من أهم مواطن تجلي التقوى هو نكران الذات لدى أداء المسؤولية، على العكس تماما مما يضعه أهل الدنيا في الحسبان بالنسبة للمسؤولية، فأهل الدنيا إنما يريدون المسؤوليات الحكومية و غيرها لدنياهم، فإذا ما طلبوا الرئاسة أو الإدارة أو العضوية في المجالس النيابية و ما شابهها من المراكز فإن ما يحظى بالأهمية في الدرجة الأولى بالنسبة إليهم هي الأمور الشخصية، لذلك فهم و على مدى مسؤوليتهم يحتوشون نتاجها و ربما يعملون على تأمينها لأنفسهم لفترة طويلة من حياتهم! و هذا حساب خاطئ في ظل النظام الإسلامي البتة، فالذي يلج المسؤولية عليه أن يتجاهل مصالحه الشخصية لدى تحمله المسؤولية، و إذا ما كان هذا العمل أو المسؤولية لا تنسجم مع طاقته فلا يقبل المسؤولية، و لكن إذا ما تحمل المسؤولية فإن ما يحظى بالأهمية بالدرجة الأولى بالنسبة إليه و لا يجاريه شيء هو أداء المسؤولية و إن انتهى بضرره و خلافا لمصالحه.

ص: 161

لنتحمل المسؤولية بصعوباتها و هواجسها و رغم الجهد الذي يجب بذله لأدائها، و إذا ما حصل ذلك إذ ذاك يكون المرء أبيض الوجه أمام اللّه و الشعب و إنّ الجماهير لتدرك ذلك.

من الحالات التي ينبغي أن تتجلى عن التقوى في المسؤولين و النظام هو الإلتزام بحدود القانون في كافة المجالات و عدم تجاوز ما وضعه الدستور و القوانين المعتبرة لمختلف الدوائر و الأجهزة، فتجاوز هذه القوانين ينجم عنه في بعض الحالات المشكلة الكبرى المتمثلة بالفساد الاقتصادي و فساد الأجهزة المسؤولة، أو أنه يؤدي الى التضارب بين شتى الأجهزة و تشتتها و الى سجالات مضرة مفسدة.

فالتقوى بالنسبة لنا نحن المسؤولين هي الأهم و درجتها من السمو بحيث لا نكتفي بالمستوى المتعارف عليه من التقوى لدى عامة الناس(1).

أثر التقوى على الأمور الإدارية

عند ما نتخذ التقوى كلمة ثابتة و كلمة حق و تكليفا دائما يمكننا أن نؤدي دورا فاعلا في المجتمع قال تعالى: وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ اَلتَّقْوىٰ (2). و يجب أن نضع التقوى نصب أعيننا في القول و الفعل؛ في عملنا مع زملائنا، و عند إتخاذ القرارات، و مع العاملين تحت إمرتنا، لأن إلتزامنا التقوى درس لهم، و سلوكهم درس لأبناء الشعب(3).

من جملة الميادين التي لم نستطع أن نحرز فيه التقدم بواسطة التقوى هو ميدان النظام الإداري المتناسب فإنّ الخلاص و الإنعتاق المعنوي و الانعتاق الإجتماعي

ص: 162


1- من كلمة ألقاها في: 7 /رمضان/ 1424 - طهران.
2- سورة الفتح: 26.
3- من كلمة ألقاها في: 16 رمضان 1420 ه - طهران.

و الانعتاق الفردي و الانعتاق السياسي أمر مهم في المجتمع - و أن يتخلص من العبودية و من الأغلال التي تعيق حركته و إنطلاقه، و تضع في مقابل تلك الأغلال قوانين و قيودا تعينه على الحركة و الإنطلاق و تساعده على الإلتزام و التعبّد؛ فالصلاة هي الاخرى قيد أيضا، إلاّ أنّها «معراج المؤمن»(1)؛ أي أن هذا التقيّد و هذا الإلتزام يعرج بالإنسان و يسمو به و ينقّيه من الدنس و الآثام.

و لكن متى يحصل هذا الانعتاق؟ و إلى أيّ مدى يستطيع النظام الإداري تأدية دوره في هذا المضمار؟ لا نستطيع القول بوجود كثير من التقصير في العمل - فلعلهم عملوا كثيرا - و لكن تقدمنا كان ضئيلا على كل الأحوال. و مع أن الجميع يتحدثون عن هذا الجانب و يركزون عليه، إلاّ أن المرء لا يشاهد العمل و الجهد المطلوب، و هذا من معايبنا؛ و المسؤولون المعنيون يجب عليهم العمل في هذا المجال. و ما يتعلّق بالنصح و التذكر في هذا المجال هو ما عرضته عليكم، إلاّ أن هذا لا يكفي، و هو مجرد نصح و تذكير لنفسي و لكم(2).

حاجة المسؤول للموعظة

لا بد و أن نستفيد من النصائح و العبر الموجودة في نهج البلاغة؛ لأننا جميعا بحاجة إلى مثل هذه النصائح، و بالخصوص أمثالنا من المسؤولين نكون بحاجة للنصيحة أكثر من غيرنا؛ فإننا محتاجون للنصيحة في قضايانا الشخصية من أجل تطهير قلوبنا، و توثيق علاقتنا بالله تعالى، و الالتزام بالتواضع و الخشوع الذي له أهمية كبيرة في تحقيق السلوك الصحيح الذي يؤدي الى تحمّل المسؤولية، هذا من جهة، و من جهة أخرى كون كل واحد منا مسؤولا عن أمر مهم من أمور إدارة الدولة، حيث إن فهم

ص: 163


1- مستدرك سفينة البحار: 343/6.
2- من كلمة ألقاها في: 16 رمضان 1420 ه - طهران.

المنطق العلوي في باب المسائل الكبرى لإدارة شؤون البلاد يمكن الحصول عليه من خلال مواعظ أمير المؤمنين عليه السّلام.

و مع أن أكثر هذه المسائل هي مسائل منطقية و استدلالية، و البعض منها يحتاج الى البحث الدقيق، إلاّ أنّ ما يفهمه الإنسان في ثنايا مواعظ و وصايا أمير المؤمنين عليه السّلام، يكون أحيانا أكثر عمقا و تأثيرا على الروح مما يحصل عليه من خلال ما يطرح بصورة تحليلية و استدلالية؛

كل منا يخطىء

أولا: يجب أن لا نفسح المجال لأنفسنا للتصور بأننا لا يمكن أن يطرأ علينا الخطأ أبدا، أي أن على الإنسان أن لا يعتمد على ما نحن عليه - على سبيل المثال - من تديّن و طاعة اللّه و يدّعي بأننا لا يمكن أن يطرأ علينا الانحراف، كلا، فليس الأمر كذلك؛ لأنّ إمكانية السقوط و الانحراف عن الصراط المستقيم يمكن أن يعرض لأيّ واحد منّا، و كلنا قادرون كذلك على التوقّي من الانحراف.

فلا تتصوروا أننا ندّعي أن هناك قضاء مبرما و حتميا فيما إذا سار شخص ما في طريق المسؤولية فإنّه يعرض للسقوط؛ كلا، فإنّ الإنسان يستطيع أن يكمل مسيرته دون أن يتعرّض للسقوط و الانحراف، إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ الإنسان يمكن أن يضمن عدم تعرضه للإنحراف؛ و اعتمادا على ذلك يكون مرتاح البال و يضع رأسه على وسادة من الحرير و هو غافل عن نفسه؛ بل علينا أن لا نغفل عن كلا طرفي القضية.

ص: 164

وسائل الإجتناب من الإنحراف و المعاصي

إنّ أحد وسائل اجتناب الإنحراف هو مراقبة النفس، علينا أن نراقب أنفسنا، و إذا فعلنا ذلك فسوف نتجنب الإنحراف، أما إذا لم نقم بمراقبة أنفسنا فلا محالة من الانحراف، و يحصل هذا إما بسبب لين و ضعف أسسنا و مبانينا العقائدية، أو بسبب الشهوات التي تعتري الإنسان، حتى أولئك الذين يمتلكون الأسس و المباني العقائدية المتينة، في بعض الأحيان تتغلب الشهوات النفسانية على تصوراتهم و أفكارهم الصحيحة و المتجذرة في مبانيهم و أهدافهم فيقعون في الانحراف؛ و هذا ما لمسناه من خلال التجربة.

توجد هناك عدّة آيات في القرآن الكريم تتطرق الى هذا الأمر، و من هذه الآيات، و التي تهتز لها مشاعر الإنسان هي الآية التي تناولت الحديث عن معركة أحد؛ قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعٰانِ إِنَّمَا اِسْتَزَلَّهُمُ اَلشَّيْطٰانُ بِبَعْضِ مٰا كَسَبُوا (1) و سبب هذا الانكسار و التقهقر هو (ببعض ما كسبوا) أي بسبب بعض المعاصي التي فعلوها في الماضي؛ فإنّ التعلّق بالشهوات و الأهواء النفسية تبرز آثارها في مثل هذه المواطن؛ أو في آية شريفة أخرى عند ما يقال لهم أنفقوا، فيتخلفوا عن الإنفاق تكون نتيجتهم فَأَعْقَبَهُمْ نِفٰاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمٰا أَخْلَفُوا اَللّٰهَ مٰا وَعَدُوهُ.

فعند ما يقطع الإنسان على نفسه عهدا بينه و بين اللّه تعالى، ثم يتخلّف عن ما وعد اللّه فيه؛ سوف يستحوذ النفاق على قلبه.

ص: 165


1- سورة آل عمران: 155.

و بناء على ذلك، فإننا إذا لم نلتفت إلى أنفسنا و اتبعنا الشهوات و هوى النفس، نكون بذلك قد غلّبنا هوى نفوسنا على إيماننا و عقلنا، و سوف نقع في الانحراف الذي كنّا نخشى الوقوع فيه؛ و بناء على ذلك لا بد للإنسان أن يكون دائم التصور لإمكانية السقوط في الانحراف، فلا يعتقدنّ أحد أنّه بعيد عن خطر الوقوع في الانحراف؛ هذه المسألة الأولى، و أحد الأمثلة عليها هي قصة (بلعم بن باعورا) المعروفة حيث وصل الى درجة وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اَلَّذِي آتَيْنٰاهُ آيٰاتِنٰا فَانْسَلَخَ مِنْهٰا (1).

المسألة الثانية: إذا أردنا - و نحن في هذا الموقع من المسؤولية - أن نصون أنفسنا من خطر الوقوع في الانحراف، علينا أن لا نتأذى من النصائح الخشنة من قبل المصلحين؛ لأنّ أحد طرق النجاة هو الاستماع لمثل هذه النصائح.

يوجد هناك بعض الأشخاص المؤذين الذين يتكلمون بأنواع الكلام، و يقومون بترويج الشائعات هنا و هناك و بإثارة الحروب النفسية و الكذب على هذا و ذاك بلا رادع، و يمكن أن يعتري قلب الإنسان الألم من جراء أفعالهم - إلاّ أنّه لو علمتم بأنّ أحدا ما لا يقصد العناد و العداء، فلا بد أن لا تتأذوا منه حتى و إن كان يتكلم بلهجة خشنة - و عليكم أيضا أن لا تنقادوا للكلام المعسول و المغري للمتملقين، و هذه أيضا مسألة أخرى، و أعتقد لو أننا التزمنا بها سوف ننتفع كثيرا.

المسألة الثالثة: لو راجعنا الرسالة التي بعثها الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام الى مالك الأشتر لوجدنا أنها تحمل في طياتها نوعا من الخشونة و المرارة، فالإمام عليه السّلام في رسالته الى مالك الأشتر يتكلم بلهجة حادة، بحيث لو أن شخصا ما يقوم بنصيحتنا بهذا الشكل لأعرضنا عنه.

إلاّ أن مالك الأشتر يتحمّل ما يقوله الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، كيف لا و قد وصفه بقوله: «فإنه ممن لا يخاف وهنه، و لا سقطته و لا بطؤه عما الإسراع إليه

ص: 166


1- سورة الأعراف: 176.

أحزم، و لا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل)»(1) أي كما أنّه رجل ليس بغافل عن نفسه، هو حكيم و عالم في نفس الوقت، فهو لا يسرع في المكان الذي يستلزم البطء، و لا يبطئ في المكان الذي يستلزم السرعة، الإمام عليه السّلام كان يصف مالك الأشتر بهذا الوصف في رسالة بعثها الى اثنين من قادة الجيش في صفين(2).

ص: 167


1- انظر كتاب الغدير: 39/9 ح 2.
2- من كلمة ألقاها في: 1384/7/17 ه ش الموافق 14 رمضان المبارك 1426 ه الموافق 005/10/9 م طهران.
قصد القربى و هدفية العمل

إنّ جميع الامور - سواء ما يتعلّق فيها بالعمل أو ما يتعلّق بالتربية و التعليم - يمكن إنجازها بأحد نحوين: الأوّل: ذو غاية و هدف، و الثاني، بلا غاية و هدف.

فتارة يبحث الشخص لنفسه عن عمل دون أن يبالي كثيرا بنوعية ذلك العمل، و إنّما المهم عنده أن يعمل و يحصل على أرباح.

و تارة اخرى يبحث عن العمل الأكثر فائدة و الذي يحتاجه الناس، فيختاره لنفسه.

و هذا هو ما يسمى بالعمل الهادف. و لقد اهتم الشرع الإسلامي كثيرا بهذا النوع من الأعمال.

طبعا لا اريد القول هنا: إنّ على كل شخص أن يختار العمل الأنفع، فالامور الداخلة في مجال القرار الشخصي خارجة عن بحثنا، و إنّما نريد أن نفكر بما هو صالح للبلاد و المجتمع بشكل عام.

إنّ الإسلام قد اهتم كثيرا بنوعية العمل. فمثلا يشترط في العبادات قصد القربة، و قصد القربة معناه الهدفية و أن يأتي الإنسان بالعمل قربة إلى اللّه تعالى و ابتغاء مرضاته. و ربما لا يختلف ظاهر العمل و شكله المادي كثيرا، إلاّ أنّ روح العمل تختلف.

فمثلا ورد في الشرع الإسلامي استحباب غسل الجمعة. قد يبدو للإنسان أنّ هذا الغسل إنّما شرّع للنظافة و لكي ينظّف الإنسان جسمه على الأقل مرة واحدة في الاسبوع، و بذلك تحرز النظافة التي أرادها الإسلام. و لكن لو مكثتم يوم الجمعة ساعة كاملة في حوض السباحة و تنظفتم بالماء و الصابون دون نيّة غسل الجمعة فسوف لن يكتب لكم ثواب غسل الجمعة الذي حدّده الشارع. إنّ الشكل الظاهري للعمل واحد

ص: 168

- و هو الغسل - و هدفه الظاهري في كلا الموردين - أي في غسل الجمعة و في الارتماس في حوض الماء - النظافة أيضا، إلاّ أنّ في غسل الجمعة شيئا زائدا و هو الهدفية، فما هو الهدف؟ الهدف أن يمتثل العمل قربة إلى اللّه تعالى.

إنّ الإسلام يريد من المسلمين أن ينجزوا جميع أعمالهم قربة إلى اللّه، حتى يحصلوا على فائدتين: الاولى هي الفائدة المادية من ذلك العمل، و الاخرى هي الفائدة المعنوية و الروحية التي يحصل عليها الإنسان من خلال قصده للقربة و التي لولاها لما حصل عليها.

فعند ما تتناولون الطعام بقصد أن يكسب الجسم القدرة على مواصلة الحياة لأنّ اللّه أراد ذلك، فهنا الطعام هو الطعام نفسه بقيمته الغذائية التي ستصل إلى الجسم و نفس اللذة التي تستشعرونها في طعمه، و لكن ستحصلون مضافا إلى ذلك ثوابا من اللّه. لماذا؟ لأنكم مضافا إلى الاعتناء بجسمكم قد وجّهتم أنفسكم و جعلتم لها هدفا.

و عند ما تسيطر مثل هذه النفسية على الإنسان في جميع شؤونه، فسوف لا يقترف الحرام و لا يأكله و لا يدني من فمه طعاما جاء عن طريق السرقة و الظلم، و سوف لا يلوّح بيده بحركة ظالمة و لا يفكر فيما يعود بالضرر على الإنسانية و على إخوته من المسلمين. أي أنّ هذا الشيء الذي يبدو صغيرا جدا سيؤدي إلى إقصاء جميع مشاكل الحياة عن الإنسان بالتدريج كالجرائم و الذنوب و التمرّد بشتى صوره و الشهوات و الأطماع و أمثالها.

انظروا كيف تنطلق حكمة الدين و الأحكام الشرعية من دائرة صغيرة و بسيطة و تنتشر و تستوعب مساحة واسعة. و لذا فإن قصد القربة يعني جعل الأعمال ذات هدف و غاية.

و الآن انظروا بدقة إلى المجتمع - فذلك داخل أيضا في قصد القربة، فما نذكره هنا لا يخرج عن قصد القربة فهو أحد مصاديقها - حيث العمل و التربية و التعليم و حيث مختلف الجهود، لكن ما هي الغاية منها؟ و في أي إتجاه يتحرك هذا العمل أو هذه

ص: 169

التربية و التعليم؟.(1).

و كان مما أوصى به أمير المؤمنين عليه السّلام ولديه الحسنين عليهما السّلام: «و اعملا للأجر» يعني الأجر الحقيقي و الإلهي. فلا تعمل عبثا أيّها الإنسان، إنّ عمرك و عملك و حتى أنفاسك هي رأس مالك الوحيد و الحقيقي فلا تفرّط به.

و إذا أردت أن تعمل عملا أو تتنفّس نفسا أو تصرف قواك في شيء فليكن ذلك من أجل الحصول على أجر يتناسب مع ذلك. فما هو هذا الأجر الذي يجب أن نحصل عليه؟ هل هو دراهم معدودة نحصل عليها؟ هل هو جلب رضا فلان و علاّن من الناس؟ هل هذه الامور هي الأجر الحقيقي لضياع عمر الإنسان؟ من المؤكّد أنّ الجواب على ذلك سيكون بالنفي.

أتذكّر أنّ رواية عن الإمام السجاد عليه السّلام يقول فيها: «فليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنة، ألا فلا تبيعوها بغيرها»(2).

فكما يكون الأجر أقل من ذلك فإن الغبن سيكون من نصيبنا فلتكن أعمالنا من أجل الأجر الحقيقي و هو الأجر الأخروي(3).

و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «كونوا على قبول العمل أشدّ عناية منكم على العمل.

و قال عليه السّلام: الزهد في الدنيا قصر الأمل»(4).

يجب على الإنسان أن يسعى و يجتهد لتكون أعماله التي يقوم بها مقبولة عند اللّه تعالى و ليس المهمّ كثرة العمل و حجمه و إنّما الشيء المهم الذي يجب على الإنسان

ص: 170


1- من كلمة ألقاها في: 12 ذي الحجة 1416 ه
2- تحف العقول، صفحة: 391، و نهج البلاغة: 105/4 ح 456.
3- من كلمة ألقاها في: 12 رمضان 1414 ه - طهران.
4- الخصال، باب الواحد، ح: 50.

أن يصرف جهده و سعيه فيه هو كيفيّة و باطن و حقيقة العمل(1).

أثر الكماليات على التقوى في الإدارة

عليكم أيها الإداريون أن تحذروا و تعلموا أن أيّ سلوك و أيّ قول و أيّة حركة منكم تترك تأثيرا طويل الأمد، و تستطيع أن تترك تأثيرات واسعة في حياة الناس.

منذ سنوات و أنا أذكّر بشأن الحياة الارستقراطية، و من الطبيعي أن ظاهرة الإستقراطية تنطوي على جانبين سلبيين: أحدهما أصل التعلق بالكماليات و مظاهر الترف؛ و هذا جانب قبيح و لا يليق بشأن و منزلة الإنسان السامي؛ لأن ذلك يعني تعلق الإنسان بشيء أدنى من شأنه، فضلا عمّا فيه من إسراف و تضييع للأموال و الثروات.

أمّا الجانب الآخر منها فهو لا يقل قبحا عن الجانب الأول، و هو انعكاس نزعتكم الارستقراطية و الكمالية على حياة الناس، لكن البعض غافل عن هذا الجانب؛ فأنتم حينما تجعلون غرفتكم و مكتبكم و أجواء عملكم زاخرة بكل هذه الكماليات و البذخ، فهذا يعتبر بحد ذاته درسا عمليا يؤثر في كل من يراه، فيجب على الأقل ملاحظة هذا الجانب.

ينبغي أن لا نجعل الأجواء زاخرة بمظاهر الكمالية و الاعتياد على البذخ و الإسراف، لأن هذه النزعة إذا شاعت اليوم في أوساط مجتمعنا - و من المؤسف أنّها شاعت إلى حد كبير - فلن تحل الكثير من المشاكل الإقتصادية و الإجتماعية و الأخلاقية الموجودة في البلاد.

إن النزعة الكمالية و الميل إلى الارستقراطية تحمل في طيّاتها أضرارا و مخاطر فادحة، و من جملة ذلك أنها تحول دون تحقيق العدالة الإجتماعية، و لن تتحقق في ظلّها روح الإخاء و التآلف و الانسجام، و التي هي ضرورية لجميع البلدان و الشعوب

ص: 171


1- كلمات مضيئة: 116.

كضرورة الماء و الهواء، خاصّة بالنسبة لبلدنا و شعبنا. و هذا مثال بارز على تأثير كلامنا و عملنا في نفوس الناس، و هذا ما يزيد من أهمية عنصر التقوى بالنسبة لنا.

التقوى وسيلة و أسلوب للعلاج

و على كل حال فإن ما نستخلصه من هذه الآية وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ اَلتَّقْوىٰ و من آيات كثيرة أخرى هو أن التقوى هي وسيلة، و هي أسلوب للعلاج أيضا، و هي ليست مجرد تكليف و واجب، يعني أن اللّه سيسألنا عن التقوى وحدها يوم الحساب، مع أنه لو أدركناها تعتبر أمرا عظيما؛ فنحن بصفتنا مسؤولين غافلون عن الحساب الإلهي و عن صعوبته و عن فزع يوم الحساب، و كلما كبرت مسؤوليتنا، يزداد معها هذا الخطر فداحة.

يجب أن ندرك أن البارى تعالى إذا لم يعاملنا بلطفه و فضله و رحمته فسنكون في موقف عسير؛ فلكل واحدة من تفاصيل نفقاتنا و مصاريفنا و تعاملنا و سلوكنا مع الناس حساب عند اللّه تعالى فإن «في حلالها حساب و حرامها عقاب»(1).

و فضلا عن وجوب التفكير في الحساب الإلهي، يجب أن ندرك أيضا أن التقوى تفتح أمامنا السبل: وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَحْتَسِبُ فالتقوى تساعد على التخلّص من جميع الطرق المسدودة أمام الإنسان و خاصة في المجال الإجتماعي.

و في المعضلات الكبرى تفتح التقوى أمام المسؤولين سبل الخلاص: وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَحْتَسِبُ (2).

إن حساباتنا و حساباتكم لا تأتي على الدوام دقيقة و متقنة؛ إذا فأساس القضية هو

ص: 172


1- انظر نهج البلاغة: 130/1 كلام 82.
2- سورة الطلاق: 3.

التقوى، و نحن أيضا نوصي بالتقوى، فيجب عليكم الاهتمام بمشاكل الناس على أساس هذه الروحية من التقوى(1).

التساهل نقيض التقوى

إلى جانب التحجر، هناك التساهل الفكري و العملي؛ فالتساهل و التسيب، سواء في الفكر - أي أن ينجذب الإنسان نحو كل ما يطرح في الساحة من فكر و ينبهر به دون روية و تقويم و نقد و فهم دقيق مع ما في الأمر من حساسية - أو في العمل؛ أي الجانب المقابل للتقوي، و التقوى هي نقيض التساهل؛ و التقوى تعني الدقة و المراقبة و المواظبة خشية أن يبدر من الإنسان عمل يتجاهل الموازين، سواء كان ذلك في القول أو الفعل، و سواء كان ذلك العمل من الجوارح أو الجوانح؛ فهذه هي التقوى.

و أما التساهل و التسيب فهو نقيض ذلك. فيا لها من مصيبة أن يكون ذلك التساهل في مجال الفكر، أو العلم، أو في أي مجال آخر! فحيثما كان التساهل و التسيب - و الذي يستتبعه التساهل في القبول و الفعل و الفهم - فإن العواقب سوف تكون وخيمة(2).

ص: 173


1- من كلمة ألقاها في: 16 رمضان 1420 ه - طهران.
2- من كلمة ألقاها في: 7 رجب 1421 ه - المدرسة الفيضية/قم المقدسة.
أثر التخلي عن التقوى

و قال الباري عزّ و جلّ: أَ لَيْسَ اَللّٰهُ بِكٰافٍ عَبْدَهُ (1)، فجميع المشاكل التي يعاني منها المنحرفون عن طريق الدين في العالم ناشئة من عدم فهمهم لهذه الامور أَ لَيْسَ اَللّٰهُ بِكٰافٍ عَبْدَهُ فهؤلاء يتصورون أن اللّه غير كاف عبده، و أنّه لا بدّ أن يكون الى جانب الباري عزّ و جلّ شيء آخر حتّى يتمكن الإنسان من الوصول إلى هدفه، و هذا هو موضع الخطأ عندهم، و إنّ جميع مشاكل الذين يطرأ خلل على تقواهم؛ هي عدم إدراكهم أن امتلاكهم التقوى سيمنعهم من الوصول الى طريق مسدود، و سوف يتمّ إنقاذهم وفقا للهدف الذي يتحرّكون من أجله، و أنّ الباري سينزل عليهم العون و المساعدة من طريق لم يحتسبوها. فعدم إدراك هؤلاء لهذه الامور هو الذي يجعلهم ينحرفون عن طريق التقوى.

و قد يحصلون في حال إنحرافهم عن طريق التقوى على بعض اللذائذ و النجاحات المؤقتة، إلاّ أنّهم سوف لن يصلوا إلى هدفهم النهائي أبدا.

سبب الإنحرفات ترك التقوى

فجميع الإنحرافات التي وقعت في طريق الأديان الإلهية و الأخلاق الحسنة و الأهداف السامية منشؤها الأمر الذي ذكرناه.

مثلا حينما قامت الثورة الفلانية في القرن السابع عشر فإن قيامها لم يكن من أجل تحقيق هدف سيئ، بل قامت من أجل أن تحقّق أهدافا سامية، و لكنّنا نرى أنها لم

ص: 174


1- سورة الزمر: 36.

تتمكن من تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها، لماذا؟ و الجواب: إنّ السبب في عدم بلوغها تلك الأهداف هو نفس الأمر الذي ذكرناه آنفا (ابتعادها عن طرق التقوى).

و ما هو السبب في أنّ المذاهب التي وجدت من أجل تحقيق مصالح الناس قد تحوّلت فيما بعد إلى حالة مضادّة للأهداف التي وجدت من أجلها؟ من الممكن أن يكون أحد الأسباب هو عدم صحّة الاسس التي قامت عليها تلك المذاهب، إلاّ أنّ تلك المذاهب كان لديها كثير من الأفكار الصحيحة، لكنّها لم تستطع تحقيقها أيضا، و في هذا العالم توجد كثير من الأفكار و الشعارات الصحيحة، إلاّ أنّ أصحابها لا يستطيعون تحقيقها؛ و السبب هو عدم إدراكهم في أنّ الإنسان إذا ما سار في الطريق الإلهي و التزم بالتقوى فإن اللّه تعالى سيكون كافله و كافيه، و أنّ اللّه قد وعدنا بذلك و لا يوجد أحد أصدق من اللّه في وعده.

فلو أنّ المصرف أرجع شيكا - كتبته لشخص -، بسبب قلة المبلغ الموجود في حسابي ساعاتب مدير المصرف بأنّك تعلم أنني لا أخلف في و عودي فلما ذا لم تسدّد المبلغ لحامل الشيك من أموال المصرف، و أنا ساسدّد لك بعد ذلك.

يعني أنّنا و بالرغم من ضعفنا و عجزنا و نسياننا نتوقع من الناس أن يصدّقوا بوعودنا و كلامنا، و لكنّنا نشكّك بوعد اللّه تعالى لنا؟ الربّ الذي يسيّر جميع هذا الوجود بإرادته (فهي بإرادتك دون أمرك مؤتمرة) فجميع الكون مسيّر بإرادة اللّه تعالى، و أنّه يفعل ما يشاء و قد رأينا أنّه يفعل الامور البعيدة عن تصوّرات الإنسان و حساباته.

فقد رأيتم أن الأمريكيين جاءوا إلى طبس و قد وقعت لهم تلك الواقعة. و لو أنّ أحدا كان يخبركم قبل وقوع تلك الحادثة بأنّ حادثة من هذا القبيل ستقع فهل كنتم تصدّقون؟ و لو كانوا يقولون ذلك لأكثر الناس إيمانا فإنّه و على أكثر تقدير سيقول:

(نأمل أن يكون الأمر على هذه الصورة إن شاء اللّه) و لكنّكم رأيتم أنّ ذلك قد وقع

ص: 175

فعلا.

و قبل الحرب المفروضة هل كان أحد يصدّق بأنّ جميع القوى الكبرى ستهاجمنا عسكريا و لكنّها لا تستطيع اقتطاع شبر واحد من أراضينا، و لم تتمكن من إسقاط الجمهورية الإسلامية أو القضاء على الثورة، و في نهاية المطاف ترجع خائبة؟ و لكن الجميع شاهدوا وقوع هذا الأمر الذي لا يصدّق.

إنّ حياتنا مليئة بأمثال هذه الامور، و إنّنا نعلم أنّ اللّه لا يقول إلاّ الصدق، و أنّ وعده حتمي الوقوع، و نحن لم نحصل على هذا العلم عن طريق الإعتقاد فحسب، بل حصلنا عليه عن طريق التجربة أيضا.

و على هذا فهل يحقّ لنا عدم الوثوق بوعد اللّه تعالى الذي قال وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (1)؟ فكلّ إنسان يتوكّل على اللّه فإن اللّه سيكون كافيه و لن يكون بحاجة إلى أحد أبدا. فهل يحقّ لنا أن لا نصدّق بقول اللّه تعالى وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً و في مقابل ذلك نقول: إنّ هذا الطريق مسدود و لا يمكننا التحرّك، و أنّ الظروف العالمية تحتّم علينا إتخاذ خطوة مخالفة للتقوى، أي أنّنا نعرف أنّها مخالفة للتقوى، فهل هذا الكلام منطقي؟ قعطا إنّه ليس منطقيا فإن الباري عزّ و جلّ يقول:

وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ فلا تجاملوا أحدا و لا تعيروا أهمية لطلبات بعض الناس غير المنطقية، اعرفوا ما هو تكليفكم الشرعي و اعملوا به وفقا للضوابط و القيود الموجودة.

كما أنّ عليكم العمل بصمود و قوّة و رفعة رأس.

أتذكّر مرّة أنّنا كنّا في زيارة للإمام (رض) برفقة سماحة الشيخ الرفسنجاني و مجموعة من الاخوة الآخرين و في الاثناء سألت الإمام «رض» (منذ متى تبلورت في ذهنكم فكرة إقامة الحكومة الإسلامية) بالطبع - إنّ الإمام كان قد درّس مبحث ولاية

ص: 176


1- سورة الطلاق: 3.

الفقيه سنة 1347 - إلاّ أنّ مقصودي هو هل أنّه فكّر في هذا سنة 1342.

فتأمّل الإمام فترة ثمّ أجاب: في الحقيقة إنّني لا أتذكّر منذ متى تبلورت هذه الفكرة في ذهني، إلاّ أنّني كنت و في أيّة فترة من الفترات أرى ما هو واجبي الشرعي فأعمل به الى أن وصل الأمر الى هذا الحد.

يعني: أنّ كلّ أمر كان الإمام يشعر بأنّ مسؤوليته الشرعية القيام به كان يبادر إلى العمل به من دون تردّد. في حين أنّ الإنسان عند ما ينظر من بعيد كان يتصور بأنّ الإمام يعمل وفقا لأدق الخطط و أبعدها مدى، بينما هذه هي خصوصية العمل وفق التكاليف الشرعية، و حقّا أنّ هذه هي معالم الطريق التي تقول للإنسان - انظر الى هذه العلاقات و واصل طريقك و لا تلتفت الى باقي الامور، فإن هذه العلامات هي التي ستدلّك على الطريق حتّى نهايته(1).

مشاكل العالم ناجمة عن ضعف التقوى

إنني و حيثما أنظر إلى الوضع المضطرب لعالم اليوم يخالجني شعور وطيد بأن مشاكل العالم المعاصر و المعضلات التي تعانيها البشرية إنما ناجمة عن ضعف التقوى و الورع و إطلاق العنان لنزوات الأنانية و حب الذات لدى الأقوياء الطامعين بالتسلط، و إلاّ فلو لا غرور و طغيان جبابرة العالم و الأقوياء الفاقدين للتقوى فإن الإنسان لا يعاني نقصا في طبيعته و وجوده الإنساني و قابلياته، فالإنسان المعاصر بإمكانه العيش بأمن و سلامة في بدنه و روحه، و الدنيا بوسعها أن لا تشهد الهوة العظيمة بين الأثرياء و مكتنزي الذهب و بين جياع العالم، و بالمقدور توفير الأمن للدنيا بأسرها و أن تغيب هذه الحروب و عمليات سفك الدماء و الإبادة الناجمة عن حب السلطة التي تعج بها الدنيا و لو قدّر للبشر أن يسلكوا طريق الدين و التقوى

ص: 177


1- من كلمة ألقاها بتاريخ 22 ربيع الأوّل 1415 ه

لتحققت كافة هذه الطموحات قال عز من قائل: يَهْدِي بِهِ اَللّٰهُ مَنِ اِتَّبَعَ رِضْوٰانَهُ سُبُلَ اَلسَّلاٰمِ (1).

و قال تعالى: وَ اَللّٰهُ يَدْعُوا إِلىٰ دٰارِ اَلسَّلاٰمِ وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ (2).

إن الدعوة التي تحملها الأديان الإلهية إنما هي بإتجاه سلام البشر و أمنهم و استقرارهم و ليس بإتجاه التوتر و الشقاء و الفقر و الحرب و الإبادة، غير أن الأديان الإلهية و منذ بداية ظهور الدين - أي خلق الإنسان - و حتى يومنا هذا عانت من عداء الجبابرة و السلطويين؛ هؤلاء الذين يحاولون إحكام هيمنتهم أو الإبقاء عليها في كل بقعة أو زاوية من العالم فيها حياة للبشرية و ذلك عبر اعتمادهم على قوتهم، فالدين واجه على الدوام هذا العدو الرهيب و الخطير(3).

ص: 178


1- سورة المائدة: 16.
2- سورة يونس: 25.
3- من كلمة ألقاها في: 5 رمضان 1423 ه - طهران.
أثر مجالسة أهل التقوى

و يجب أن ألفت أنظاركم - أيّها الاخوة الأعزاء - بأنّنا إذا أردنا تعميق روح التقوى في نفوسنا فيجب علينا مجالسة أهل التقوى؛ لأنّ هذه إحدى الطرق المهمة جدّا، و إنّنا إذا جالسنا أهل التقوى فإن تلك الحالة ستسري إلينا.

و هذا المعنى يجري في كلّ الامور، فالمجالسة شيء عجيب حقّا. و البعض يجالس بعض الناس الذين لا يعرفون هذه الامور من الأساس فتسري إليهم بالتدريج نفس تلك الصفات و الخصال. فالخصوصيات تؤثّر تدريجيا في النفس و لا سيّما إذا كان الإنسان الذي نجالسه يمتلك جانبا مؤثّرا ولديه بعض المرجّحات.

و لهذا نشاهد أحيانا بعض الناس يغفلون عن أصغر المسائل الدينية - مع العلم أنّهم من الناس الطيبين كما يدلّ عليه تاريخهم -؛ و السبب في ذلك أنّ جلساءهم جلساء سوء، فالمجالسة و المعاشرة هي امور في غاية الأهمية، فعليكم بمعاشرة و مجالسة أصحاب التقوى و الناس المتدينين.

و إذا كانت أجواء عملكم تضطركم الى معاشرة و مجالسة الناس البعيدين عن التقوى فعليكم الإكثار من مجالسة المتّقين و الأبرار؛ بسبب نوع العمل أو لبعض المعاملات على معاشرة و مجالسة بعض الأشخاص غير المناسبين للمجالسة، و في مثل هذه الحالة يجب عليكم تعميق علاقتكم مع الأشخاص الأتقياء، و لا أقصد بهذا معاشرة كلّ من يدّعي الإلتزام بالتقوى بل يجب معاشرة و مجالسة المتّقين الحقيقيين.

عمّقوا علاقتكم مع المتّقين و الناس الصالحين و المؤمنين و إن كانوا مجهولين و غير معروفين. فهناك اناس معروفون على أنّهم اناس صالحون إلاّ أنّ الإنسان لا يجد عندهم شيئا ذا قيمة، فعليكم معاشرة الناس المتدينين، جالسوهم، تكلّموا معهم،

ص: 179

تناولوا الطعام معهم، سافروا معا، أقيموا العلاقات مع العلماء المتدينين و لا سيما إذا كانوا ذوي معرفة و اطّلاع على المعارف الإلهية؛ لأنّ هذا يساعدنا كثيرا في الحفاظ على روح التقوى.

إنّ من الحسن مجالسة اسر الشهداء و المعلولين و تركيز العلاقة معهم، و لا سيّما زيارة روضات الشهداء التي تعتبر من الأعمال الحسنة جدّا، فهناك سيرى الإنسان النتائج القيّمة لزيارة تلك الروضات المباركة. و إذا ما قمتم بهذه الامور - التي ذكرناها - فسوف تزداد كثيرا نوعية و سرعة الحركة العظيمة التي تقومون بها(1).

شعارنا سيادة التقوى و القيم المعنوية

و في عالم تعكس فيه الحكومات مظهرا للإستكبار و التسلّط و الجور و النزعة المادية البعيدة عن التقوى، يفخر النظام الإسلامي برفع شعار سيادة التقوى و القيم المعنوية، حيث لا تمثل فيه الحكومة تسلطا مستبدا و لا رئاسة قائمة على الخداع و التصنّع، و إنما هي ولاية و محبّة و ترابط قلبي و إيماني، و تعتمد - بدلا من المعايير الشائعة حاليا و المبتنية على المال و الدعايات الزائفة - الفقاهة و العدالة معيارا لها.

هذه هي ذروة ما ينبغي أن يبلغه النظام الإسلامي، بحيث أنّ أيّ فرد من أبناء الامة الإسلامية و في أيّ مكان كان من العالم متى ما يراه و يعرفه حقّ معرفته يتعلق به قلبه.

و هذا هو المنهاج الواضح القادر على إيصال المجتمع الإسلامي الى الاستقلال و الحرية و الرفاه المادي و العزّة بين العالم(2).

ص: 180


1- من كلمة ألقاها بتاريخ 22 ربيع الأوّل 1415 ه
2- من كلمة ألقاها في: 6 ذي القعدة 1419 ه ق - قم المقدسة.
تجسيد صورة التقوى

في القرآن الكريم نقطة أساسية هي إلتزام التقوى. و حينما يريد المرء تجسيد صورة عن التقوى تتبادر إلى ذهنه معاني الصوم و الصلاة و العبادة و الذكر و الدعاء.

صحيح أنّ هذه المعاني بأجمعها يتضمنها مفهوم التقوى؛ إلاّ أنّ أيا منها لا يعكس بمفرده معناها. فالتقوى تعني مراقبة الذات و أن يلتفت الإنسان إلى كل عمل من أعماله، و أن يصدر كل فعل من أفعاله عن قصد و فكر و إرادة و عزم و اختيار، كمثل الإنسان الذي يمتطي فرسا و يمسك زمامه بيده و يعلم إلى أين يريد المسير. هذا هو مفهوم التقوى.

أما من حرم من التقوى فأفعاله و قراراته و مستقبله ليس طوع يديه، تشبهه أحد خطب نهج البلاغة بمن لا يعرف الفروسية و أركب - لا برغبته - فرسا صعبا جموحا، حتى و إن كان ركوبه برغبته فهو لا يعرف كيف يمسك بلجام الجواد... لا يدري أين يذهب به الفرس، أين ما ذهب به لا يملك خيارا آخر، و مثله لا نجاة له.

إذا نظرنا إلى التقوى بهذا المعنى يبدو لي من الممكن طي الطريق بنوع من السهولة، إنه لمن الصواب جدا أن يتمسك الشاب بمنهج الإسلام في الحياة. فهو إذا كان متديّنا، ينظر دوما و يراقب مدى صحّة أو عدم صحّة فعله و سلوكه و دراسته و علاقته و فهمه للأمور. و هذا التفكير - في صحة أو سقم سلوكه - بحد ذاته تجسيد للتقوى.

حتى إذا لم يكن الشخص متديّنا و اتصف بهذه الخصلة - التفكير و المراقبة على نفسه - فهي تنتهي به إلى انتهاج سبيل الدين و التديّن، كما جاء في قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (1) فالقرآن لم يقل هدى للمؤمنين. أي أنّ الشخص إذا كان متقيا - بالمعنى الذي ذكرته للتقوى - حتى و إن لم يكن متديّنا، فهو بلا شك سيهتدي بهدي القرآن و يصبح مؤمنا.

ص: 181

حتى إذا لم يكن الشخص متديّنا و اتصف بهذه الخصلة - التفكير و المراقبة على نفسه - فهي تنتهي به إلى انتهاج سبيل الدين و التديّن، كما جاء في قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (1) فالقرآن لم يقل هدى للمؤمنين. أي أنّ الشخص إذا كان متقيا - بالمعنى الذي ذكرته للتقوى - حتى و إن لم يكن متديّنا، فهو بلا شك سيهتدي بهدي القرآن و يصبح مؤمنا.

و لكن إذا لم تكن لدى المؤمن تقوى لا يستبعد تزعزع إيمانه إذا صادفته ظروف و أجواء غير إيجابية، إلاّ أن يحالفه الحظ و تكون الظروف إيمانية و الأجواء جيدة فسيثبت على إيمانه.

و على هذا الأساس إذا أتيح استثمار تلك الخصائص الثلاث و سددت إلى سبيل الهداية على نحو سليم، تتمخض عنها - على ما أعتقد - معطيات إيجابية و يعيش الشباب الحياة التي يرتضيها لهم الإسلام(2).

ص: 182


1- سورة البقرة: 2.
2- من كلمة ألقاها في 11 محمرو 1419 ه
التقوى طريق اللّه تعالى

علينا أن نلجأ الى اللّه و نعوذ به من مضلات الفتن، و الطريق الى ذلك هو التقوى و الاستمرار في مراقبة النفس. و من هنا يدرك الإنسان سرّ التحول البالغ 180 درجة في بعض الشخصيات عبر التاريخ، فتحول من مؤمن مخلص صادق الى عدوّ معاند معارض لدود، فهؤلاء هم ذوو الإيمان غير المستقر.

و كما قلت فإن هذا الإيمان لا يستأذن الشخص عند زواله، بل يزول تدريجا دون وعي الإنسان، فلا بد إذن من مراقبة النفس و الاستعاذة بالله.

الجملة الأخيرة فيما يتعلق بعهد الإمام (عليه السّلام) الى مالك الأشتر، و هو عهد عجيب، و إنّ الحكم فيه لا تعدّ و لا تحصى، و إنّ الإنسان ليستشعر الضآلة لعظمتها و عمقها، فقد جاء في هذا العهد: «و إنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها»(1)، أي أنّ الناس إذا افتقروا فسوف يدبّ الخراب الى أرضهم.

و الإمام عليه السّلام إنما يبين هذا الشيء كحقيقة، و ليس مجرد فلسفة، و الكلام لا يخص أرض مصر و إن كان الكلام موجها الى الوالي عليها، فهو يشمل سائر الأراضي الأخرى، فلو أمكن إغناء أهل الأرض أمكن عمارتها، و إن أفقرتهم أو أبقيت على فقرهم أو لم تتمكن من القضاء على فقرهم فسوف تتعرض أرضهم الى الخراب.

ثم يقول عليه السّلام مضيفا: (و إنما يعوز أهلها لأشراف أنفس الولاة على الجمع)، فسبب افتقار الناس يعود الى الحكام و الولاة، فهم الذين يعملون على

ص: 183


1- نهج البلاغة: 97/3 رقم 53.

انتشار الفقر بين الناس من خلال استئثارهم بالثروات(1).

التقوى غاية الصوم

في هذه الآية فرض اللّه سبحانه و تعالى علينا الصيام محدّدا التقوى غاية منه، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (2) أي أن الصيام يعيننا على التحلّي بالتقوى بما تعنيه من مراقبة النفس، و قد عرّفت الروايات التقوى بأداء الواجبات و ترك المحرّمات، فمفهوم التقوى أن يراقب المرء نفسه؛ أي يراقب مسيرته و توجهاته و تحركاته و زاده الفكري و إيمانه، فعلى الإنسان أن يراقب نفسه من أجل أن يحصل شيء و لا يحصل آخر، إذ من المتعارف أن الغاية من المراقبة أن يقع أمر دون أن يقع آخر فالذي نحرص على أن يقع هو سلوك الصراط المستقيم، فعلينا مراقبة أنفسنا لأن نتحرك في الصراط الإلهي المستقيم و بإتجاه الهدف الذي خلقنا من أجله و شخّصه الإسلام لنا، و أن نحذر لئلاّ نقع في الإنحراف و الانزلاق، إذ أن طبيعة الإنسان الوقوع في المنزلق لأن عوامل الانزلاق و الإنحراف كامنة في أعماقنا، و إذا لم يتم ضبط و ترشيد غرائزنا فإن بإمكان أيّ منها أن تصبح نافذة و قناة لسقوطنا و جنوحنا عن الصراط المستقيم...

لاحظوا أمير المؤمنين عليه الصلاة و السّلام فإن أهم الفصول التي أولاها اهتماما و ركّز عليها في كلماته هو فصل التقوى، فالتقوى تملأ نهج البلاغة من أوله إلى آخره، و الدعوة إلى التقوى زخرت بها كتبه و خطبه، فالتقوى عماد فلاح الإنسان و المجتمع و علينا أن لا نستهين بها، كما أن التقوى ليست مما يفرض على الإنسان؛ بل لا بد لنا نحن من توجيه التحذير لأنفسنا و أن نلقّن أنفسنا ذكر اللّه و التوجه إليه و الاهتمام بالتكليف و التحلي بالصدق، و أن نحث أنفسنا لتجنب الإنحراف عن الصراط

ص: 184


1- من كلمة ألقاها في: 1383/8/20.
2- سورة البقرة: 21.

المستقيم. فالصيام إنما يعيننا لسلوك هذا الطريق(1).

شهر رمضان يقربنا من التقوى

إن شهر رمضان فرصة لإلتزام المزيد من التقوى، لماذا؟ لأن شهر رمضان شهر كفّ النفس و ردعها، و يتمثل الحد الأدنى لهذا الردع في الامتناع عن الأكل و الشرب و اللذائذ الجسمية، غير أن أقصاه هو الامتناع عن المعاصي و الأخطاء الأخلاقية و السلوكية، و هذا ما ورد في معنى الصيام و وظائف شهر الصيام التي جاءنا الحث عليها و الترغيب بها، فإذا ما صمنا فإن هذا الامتناع الذي نتمرس عليه خلال هذا الشهر يقرّبنا من تلكم التقوى و الرقابة، إذ نراقب أنفسنا لئلاّ نحيد عن الصراط المستقيم، و هذا الامتناع بمثابة المران و المراقبة في نفس الوقت، هذا هو تكليفنا.

في شهر رمضان يقدّر اللّه سبحانه و تعالى لعباده بركاته و رحمته ففي رواية أن أبواب السماء مفتحة(2) في شهر رمضان أي إن العلاقة القلبية بين الإنسان و بين اللّه تعالى تغدو أكثر سهولة من أي وقت.

و في رواية أيضا إن أبواب الجنة تفتح في شهر رمضان(3) أي أن الفرصة تتهيأ أمام الإنسان للتوفيق لعمل الخير بفضل الصيام و التوجه و الخشوع الذين يعدّان من لوازم الصيام، و لا تعني الفرصة - بطبيعة الحال - تحقق ما يصبو إليه الإنسان منها بل هي تستدعي منّا الإرادة و الدأب و الرغبة و الحركة(4).

ص: 185


1- من كلمة ألقاها في: 5 رمضان 1423 ه - طهران.
2- انظر ثواب الأعمال: 65.
3- انظر مصباح الكفعمي: 633.
4- من كلمة ألقاها في: 5 رمضان 1423 ه - طهران.
ثمرة شهر رمضان هي التقوى

إن ثمرة شهر رمضان هي التقوى و مخالفة هوى النفس: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (1)، و إن هذه التقوى وسيلة لبلوغ غاية أعلى: وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (2)، وَ اِتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (3)وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّٰهُ (4).

فإنما ينال العبد العلم و الفلاح و الرحمة الإلهية بفعل التقوى و أهمها الفلاح، فإذا كنا قد حصلنا على التقوى في هذا الشهر الشريف فعلينا أن نحتفظ به، فإنها ثمرة ثمينة، و هي شبيهة بالثمرة التي يحصل عليها زارعها بعد عناء طويل فيحصدها و يحفظها في مكان أمين لتكون قوته خلال السنة.

فالتقوى التي حصلنا عليها في هذا الشهر ينبغي أن تكون ذخيرة لنا طوال السنة و علينا أن نصونها من الأخطار التي تهددها و التي تتمثل بأنواع الوساوس و الزبارج و الشهوات و الأهواء و الذنوب(5).

أثر شهر رمضان على القلوب

عيد الفطر هو عيد العبادة و عيد المغفرة، و هو عيد إنتهاء دورة مضغوطة من الترويض للمؤمن الذي يطمح إلى تسخير هذا الترويض لبناء و تقوية الأبعاد الخيّرة و الملكات الصالحة في ذاته، للاستفادة منها على امتداد السنة و طوال عمره؛ فهذه الرياضة الإلهية الشرعية و هذا الصبر على الجوع و العطش، و هذه المحاربة لأهواء

ص: 186


1- سورة البقرة: 21.
2- سورة البقرة: 189.
3- سورة الأنعام: 155.
4- سورة البقرة: 282.
5- من كلمة ألقاها في: 1383/8/24) الموافق: 30 /رمضان/ 1425 ه

النفس و الشهوات البشرية تؤدي إلى تقوية الملكات الصالحة في الإنسان، لأن الإنسان في حقيقته عبارة عن مجموعة من هذه الملكات و الصفات و الخصال؛ فمن يتمتعون بصفات و خصال حميدة يغادرون هذه الدنيا بزاد وافر، فكل الأعمال العبادية و التقوى و سائر الواجبات المفروضة على الإنسان هدفها النهائي هو أن يتمكن الإنسان من أن يجعل من ذاته مجموعة من الملكات النورانية و يجعل من نفسه إنسانا حقيقيا و يصطبغ بصبغة إلهية.

الإنسان الذي اكتسب، بفضل شهر رمضان، القدرة على محاربة أهوائه النفسية، قد حقق في الواقع إنجازا باهرا، يجب عليه حفظه. و الإنسان الذي يعاني نتيجة استجابته لأهوائه النفسية و عاداته القبيحة إلى أبعد مدى، يستطيع في شهر رمضان التغلّب على هذه العادة و الاحتفاظ لنفسه بها(1).

ص: 187


1- من كلمة ألقاها في: 1 /شوال/ 1420 ه - طهران.
بعض الأعمال المؤدية للتقوى
اشارة

إنّ لشهر رمضان ثلاثة أعمال و وظائف رئيسية، و إن كانت لجميع الأعمال الحسنة المقرّبة الى اللّه فضيلة كبيرة، فقد ورد أنّ «أنفاسكم فيه تسبيح، و نومكم فيه عبادة»(1) انظروا كم هي فضيلة هذا الشهر، و هذا لا يختصّ بالصائمين فقط، بل يشمل الذين تعذّر عليهم الصيام أيضا، فهم خسروا الصيام و لم يخسروا شهر رمضان، فالجميع يستفيد من شهر رمضان حتّى المعذور لسفر أو مرض أو شيء آخر، إذن هناك ثلاث وظائف رئيسية في هذا الشهر:

الصيام

1 - الصيام، فإنّه شيء ثمين، فإن وفّقتم لصيام هذا الشهر، فاعتبروه نعمة كبيرة من جانب الباري سبحانه و تعالى، فتحمّل الجوع و العطش يلطّف الروح، طبعا قد تذهب اللطافة و تدنّس الروح بالذنوب، فعند ما تغسل الثياب بأفضل أنواع المساحيق (المنظّفات) كذلك يمكن توسيخها و تلويثها بالطين و الأوساخ. إذا عند ما يقال أصبح نظيفا لا يعني أنّه لا يمكن توسيخه، كلا، بل النظافة بمعنى إمكانية الاستفادة من تلك اللطافة و الطهارة؛ فإن صلّى بتلك اللطافة فصلاته مقبولة حتما، و هذه الصلاة هي معراج المؤمن و تقرّبه الى اللّه تعالى، و إلاّ فالصلاة بحالة كسل و روح ملوّثة دون خشوع و توجّه لا تكون «قربان كلّ تقي»(2) و «معراج المؤمن»(3) إذا الصوم في

ص: 188


1- بحار الأنوار: 356/93 ح 25.
2- تفسير نور الثقلين: 205/4 ح 51.
3- مستدرك سفينة البحار: 343/6.

نفسه مطهّر للإنسان - و هذه الطهارة قيّمة - و يذهب الذنوب، يوقظ الإنسان و ينبّهه و كذا يذكّره بالجوع، فقد ورد في الحديث «و اذكروا بجوعكم و عطشكم فيه جوع يوم القيامة و عطشه»(1).

قراءة القرآن

2 - تلاوة القرآن: و قد تحدّثنا حولها كثيرا، إنّها من الوظائف الكبيرة؛ فكم هي قيمة تلاوة القرآن و ختمه و تمرير معارفه في الذهن و لو لمرة واحدة، إنّ فضيلة قراءة جزءين من القرآن دون تأمّل و تدبّر أقلّ من قراءة سطرين منه بتدبّر و إمعان، و كلّما كثرت قراءة القرآن - طبعا بتدبر و توجّه للمعنى - كلما كانت أفضل، و من لا يفهم العربية فعليه بالقرآن المترجم، فإن لم تكن هناك ترجمة في السابق، لكن الآن و للّه الحمد فتوجد أربع الى خمس ترجمات أغلبها جيّدة، فعليكم بتلك الترجمات و تدبّروا في كلّ آية تقرؤنها لتروا فيها الخير الكثير(2).

تجسد اللذة الظاهرية عذابا

3 - تجسيد اللذة: في الحديث الشريف: «الصيام جنّة العبد المؤمن يوم القيامة كما يقي أحدكم سلاحه في الدنيا»(3).

ما هي خصيصة الصيام حتّى يكون غدا (جنّة من النار)؟

إن الصيام عبارة عن كفّ النفس، و نهيها عن الهوى، و هو مظهر للصبر عن

ص: 189


1- بحار الأنوار: 356/93.
2- من كلمة ألقاها في: 1 رمضان 1414 ه
3- بحار الأنوار: 249/93 ح 14.

المعاصي و التغلب على الشهوات، و من هنا فقد جاء في الأحاديث الشريفة تفسير الصبر في قوله تعالى: وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاٰةِ (1) بالصيام.

إن مدة الصيام رغم محدوديتها، حيث تستغرق بضعة ساعات من أيام شهر واحد من السنة، إلاّ أنها نموذج لمسيرة الإنسان الأساسية، لأن الأهواء النفسية هي الطريق التي تؤدي بالإنسان الى ارتكاب المعاصي، و لا يذهبنّ بكم التصوّر الى أنّ ما تشتهيه الأنفس و الذنوب متلازمان و لا يمكن انفكاكهما عن بعضهما، إذ يدخل بعض ما تشتهيه النفس في الحلال، إلاّ أنّ إلقاء حبل النفس على الغارب و تركها أسيرة لمشتهياتها هو الذي عبّر عنه أمير المؤمنين عليه السّلام بقوله في نهج البلاغة: (حمل عليها أهلها)(2)، فكما يحمل الإنسان على الصعبة التي تقتحم به في المهاوي، فإن أهواء النفس تقود الإنسان نحو الذنوب.

و هذا المعنى هو الذي ترمي إليه الآية الشريفة التي تقول: إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ اَلْيَتٰامىٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً (3). فإن اللذة الظاهرية التي تبدو في هذه الحياة الدنيا من أكل مال اليتيم، تتجسد على حقيقتها عذابا في الحياة الحقيقية حيث ترتفع الحجب على الإنسان و تمتثل الحقائق أمامه: هُنٰالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مٰا أَسْلَفَتْ (4).(5).

ص: 190


1- سورة البقرة: 45.
2- نهج البلاغة: 48/1.
3- سورة النساء: 10.
4- سورة يوسف: 30.
5- من كلمة ألقاها في: 121383/8/6 /رمضان/ 1425 طهران.

تهذيب النفس

النفس العدو الأكبر

نحن مطالبون بالتحدث و تذكر الأخلاق الإسلامية، و الجوانب المعنوية، و أن ننبّه الناس إلى عدوهم الباطني الذي هو النفس الأمارة أو الشيطان الرجيم، و إلى عدوهم الإجتماعي الذي هو الشيطان الأكبر أو غيره من الشياطين الصغار إضافة إلى تنبيههم إلى عملاء الشيطان و أذنابه.

و عند ما تتّخذ العبودية للّه هذه الصيغة التي تجعل الإنسان يجتنب أعداء اللّه و يتبرأ منهم، يجب عليه التبرّي من جميع تلك الأشكال.

قد يتجسد أعداء اللّه أحيانا بالنفس الأمارة؛ «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك»(1)، و قد يتمثّل بالشيطان الذي يصفه الدعاء الوارد في الصحيفة السجّادية بأنّه: جعلته في وجودي و مكنته ما لم تمكنّي منه، و قد يصدق تارة اخرى على شياطين الساحة السياسية الذين يتربّصون لإغواء الشعوب و سلبها و التسلط عليها و ضربها و سوقها إلى جهنم.

هؤلاء هم أعداء اللّه، و الدعوة إلى العبودية تفرض عليكم التبري منهم، و لا مناص

ص: 191


1- بحار الأنوار: 64/67 ح 1.

لكم من ذلك(1).

إنّ مسألة تهذيب النفس و جلائها هي مسألة أساسية و مهمّة لكلّ واحد منّا في أيّ مكان و أيّة مسؤولية كان. فلا تستصغروا الفرص و لا تحطّوا من قيمتها. فالتضرّع و التوسّل إلى اللّه و العلاقة الوطيدة مع اللّه هي امور لها دورها الأساسي و الفعّال في تهذيب النفس(2).

ثمة ميزة تعود نفعها لكم في هذه الحياة و تشمل الآخرين أيضا في منفعتها فيما لو توفرت فيكم، كما أن منفعتها تمتد إلى مرحلة ما بعد الموت و النشأة الآخرة، و هي تهذيب النفس؛ فعليكم بتطهير أنفسكم الذي يتسنى للشباب عن طريق الولوج في المعارف الدينية الإلهية و طرق أبواب العلوم الإنسانية و العمل الديني السليم(3).

أهمية تهذيب النفس

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «إن اللّه تبارك و تعالى أخفى أربعة في أربعة:

أخفى رضاه في طاعته فلا تستصغرن شيئا من طاعته فربما وافق رضاه و أنت لا تعلم، و أخفى سخطه في معصيته فلا تستصغرون شيئا من معصيته فربما وافق سخطه و أنت لا تعلم، و أخفى إجابته في دعوته فلا تستصغرن شيئا من دعائه فربما وافق إجابته و أنت لا تعلم، و أخفى وليّه في عباده فلا تستصغرن عبدا من عبيد اللّه فربما يكون وليّه و أنت لا تعلم».(4)

لقد أخفى اللّه تعالى أربعة أمور في أربعة أمور:

1 - فأخفى رضاه و سروره في موارد طاعته، و لذلك فلا ينبغي أن يستصغر الإنسان

ص: 192


1- من كلمة ألقاها في: 23 شعبان 1418 ه - طهران.
2- من كلمة ألقاها في 7 ذي الحجة 1414 ه
3- من كلمة ألقاها في: 2 ذي الحجة 1241 ه - طهران.
4- الخصال/باب الأربعة/ح 31.

شيئا من موارد الطاعة، لأنه قد يكون هذا الأمر العبادي صغيرا في نظرك و لكن رضا اللّه موجود فيه.

2 - و أخفى غضبه و سخطه في معصيته، و لذلك لا ينبغي للإنسان أن يحقّر و يستصغر أية معصية من المعاصي، لأنه يمكن أن تكون هذه المعصية التي اعتبرها صغيرة تشتمل على غضب اللّه و سخطه.

3 - و أخفى إجابته في دعائه فقال: اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (1) و لكن ليس كل الأدعية تستجاب، و ذلك لوجود الموانع من الاجابة إلاّ أنه مع ذلك فقد أخفى إجابته ضمن مجموع هذه الأدعية فلا يعلم أي دعاء هو المستجاب، و لذلك لا ينبغي التقصير في الدعاء بل يجب أن يبادر الى الدعاء في كل الظروف المقتضية له إذ لعلّه يوفق للدعاء المستجاب.

4 - و أخفى أولياءه في عباده، و لذلك لا ينبغي استصغار أو تحقير أو إهانة أي عبد من عباد اللّه إذ يحتمل أن يكون وليا للّه، و من المعلوم أن إهانة أو إحتقار اولياء اللّه تعالى هي مبارزة و معاندة للّه تعالى.(2)

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ أحقّ الناس أن يتمنى للناس الغنى البخلاء، لأن الناس إذا استغنوا كفوّا عن أموالهم.

و إنّ أحق الناس أن يتمنى للناس الصلاح أهل العيوب.

و أحق الناس أن يتمنى للناس الحلم أهل السفه، الذين يحتاجون الى أن يعفى عن سفههم.

فأصبح أهل البخل يتمنون فقر الناس، و أصبح أهل العيوب يتمنون معايب الناس، و أصبح أهل السفه يتمنون سفه الناس.

ص: 193


1- سورة غافر: 60.
2- كلمات مضيئة: 45.

و في الفقر الحاجة الى البخيل، و في الفساد طلب عورة أهل العيوب، و في السفه المكافاة بالذنوب»(1).

إنّ أحق و أولى الناس لأن يتمنى للآخرين الغنى و الثروة هم البخلاء. لأن اللّه تعالى إذا أعطى المال و الثروة لكل الناس فحينئذ لن يطمع أحد في أموال البخلاء.

و إن أحق و أولى الناس لأن يتمنى للآخرين الصلاح و التحلي بالأخلاق و الفضائل الحسنة هم أهل العيوب، لأنه إذا أتصف الناس بالصلاح فإنهم لا يفتشون عن معايب الآخرين.

و إنّ أحق الناس لأن يتمنى للآخرين الحلم و الصبر و التحمل هم أهل السفه، (المراد من السفهاء هنا الذين يتعاملون مع الآخرين بسوء الأدب و يتصرفون في معاشرتهم و علاقتهم مع الناس تصرفات غير مؤدّبة).

ثم يبيّن الإمام عليه السّلام أحوال الناس في زمانه و أنهم أصبحوا على عكس ما ذكره: فالبخيل أصبح يتمنى فقر الناس مع أن في فقر الناس الحاجة إليه.

و أصحاب العيوب أصبحوا يتمنون معايب الناس مع أن في معايب الناس طلب عيوبهم و عوراتهم.

و أهل السفه أصبحوا يتمنون سفه الناس مع أن في سفه الناس التكافؤ في الذنوب و ردّ الذنب بالذنب لا بالعفو.

إنّ هذه الرواية من لطائف روايات أهل البيت عليهم السّلام(2).

و قال علي بن الحسين عليه السّلام: «إبن آدم، إنك لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، و ما كانت المحاسبة من همّك، و ما كان الخوف لك شعارا، و الحذر لك

ص: 194


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 188 /
2- كلمات مضيئة: 43.

دثارا»(1).

الإنسان و إن كان لا يستغني عن وعظ الآخرين له إلاّ أنّ الموعظة الأفضل هي الموعظة الناشئة من داخله، لأن كل شخص أعرف من كل الناس بعيوبه و صفاته.

و يجب أيضا أن يكون همّه في محاسبته نفسه فإنه إذا لم يحاسبنا الآخرون فهذا لا يكون دليلا و حجة على أن لا نحاسب أنفسنا لأن محاسبة النفس تجنّب الإنسان في المستقبل من الوقوع في الزلاّت.

و المقصود من الخوف هنا الخوف من اللّه تعالى و عذابه و أعمال الإنسان السيّئة، لا الخوف من الناس و القوى المتهافتة.

و الحذر معناه الإحتياط و لكن لا بمعنى أن لا يقدم الإنسان على القيام بالنشاطات و يحجم عنها، بل يجب على الإنسان الدخول إلى مختلف الميادين و الساحات و لكن مع مراعاة الإحتياط و الورع و هذا هو معنى التقوى أيضا(2).

و قال أبو جعفر عليه السّلام لجابر بن يزيد الجعفي: «و أوصيك بخمس: إن ظلمت فلا تظلم، و إن خانوك فلا تخن، و إن كذّبوك فلا تغضب، و إن مدحت فلا تفرح، و إن ذممت فلا تجزع»(3).

ليس المراد من الجملة الأولى أنه لا تردّ على الظلم حتى و إن كان جوابك و ردّك له عادلا، بل المراد أنّ الظلم لا يجاب بالظلم، لأنّ الظلم قبيح دائما حتّى و إن كان في مقابل الظلم.

و كما جاء في قوله تعالى: وَ لاٰ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلىٰ أَلاّٰ تَعْدِلُوا... (4).

و المراد من الجملة الثالثة (إن كذّبت...) هو أنّه في مقابل تكذيب الآخرين لك لا

ص: 195


1- تحف العقول، صفحة: 280.
2- كلمات مضيئة: 47.
3- تحف العقول، صفحة: 282.
4- سورة المائدة: 8.

تغضب لا أنه لا تستدل على إثبات صحة كلامك.

و الجملة الأكثر حساسية و صعوبة هي القسم الآخير من هذه الوصيّة (و إن مدحت...) و ذلك لأن قوّة النفس تحتاج إلى التعالي لكي لا يدخل عليها الفرح بمدح الآخرين.

و هذا أحد طرق معرفة الشيطان حتّى أن شياطين الإنس الذين لا يقلّ خطرهم عن خطر شياطين الجن ينفذون إلى داخل الإنسان من هذا الطريق.

و لذلك قال الإمام عليه السّلام لجابر: يا جابر لا تنخدع مقابل مدح الآخرين و لا تفرح بذلك.

و كذلك لا تجزع إن ذمّوك.

و هذا المطلب لا يتنافى مع تأثر قلب الإنسان عند ما يكذبه الآخرون إلاّ أنّ هذا الأمر لا ينبغي أن يؤدّي به الى الجزع و الفزع.

و الأفضل للإنسان في مثل هكذا ظروف أن يغتنم الفرصة لمراجعة نفسه فينظر هل هذه الصفات موجودة في نفسه أم لا؟(1).

ص: 196


1- كلمات مضيئة: 48.
تنقية النفس

اعلموا أنّه يكمن في وجودكم عنصر نفيس و ثمين جدّا، و للأسف قد مزج في كثير من الحالات بالتراب و النحاس و بأشياء اخرى لا قيمة لها، و إنّ في داخل نفوسكم حربا قائمة مزجت بالأشواك، و إنّ جميع الجهود و المساعي الّتي بذلها الأنبياء عليهم السّلام كان الهدف منها هو أن نتمكّن من تنقية ذلك العنصر الثمين في نفوسنا من الشوائب، كما أنّ الاختبارات الإلهيّة كلّها من أجل تحقيق هذا الهدف، و الشدائد الّتي نتعرض لها في الدّنيا هي من أجل تحقيق هذا الهدف، و التكاليف الشاقّة الّتي يضعها الباري على الناس هي لتحقيق هذا الهدف، و الجهاد في سبيل اللّه لتحقيق هذا الهدف أيضا.

و إنّ السبب الّذي جعل الشهيد يحوز كلّ هذه المنزلة العظيمة عند اللّه عزّ و جلّ هو أنّه بجهاده العظيم قد وضع نفسه في طريق التضحية، و بهذا استطاع تنقية نفسه من جميع الشوائب الّتي تعلق بها، فالتنقية هنا هي كتنقية الذهب ممّا يعلق به من شوائب.

و هذا الشهر هو شهر التنقية. و لو نظرنا بإمعان لوجدنا أنّ التنقية في هذا الشهر هي أيسر و أسهل من الطرق الاخرى للتنقية، فبإمكاننا تنقية أنفسنا في هذا الشهر المبارك بالصيام و مجاهدة النفس.

إنّ أغلب الضلال و الإنحراف الموجود في العالم، إمّا أن يكون ناشئا من الذنوب و المعاصي الّتي تصدر منّا، أو من الخصال السيّئة الموجودة فينا ثُمَّ كٰانَ عٰاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَسٰاؤُا اَلسُّواىٰ أَنْ كَذَّبُوا بِآيٰاتِ اَللّٰهِ (1) فعاقبة المعاصي هي الضلال؛ ما لم يتلألأ نور

ص: 197


1- سورة الروم: 10.

التوبة في قلب الإنسان.

و الّذي جعل الأئمة يؤكّدون علينا دوما - بأنّكم إذا أذنبتم فبادروا إلى التوبة عقب ذلك الذنب، و اندموا على تكرار المعصية، صمّموا على ألا تصدر منكم معصية فيما بعد - هو أنّ السقوط في مستنقع المعصية هو شيء خطير للغاية. ففي بعض الأحيان يصل الإنسان إلى مستوى لا يكون لديه طريق للعودة. هذا هو أحد أسباب الضلال الّذي يحصل للإنسان.

أمّا السبب الآخر فهو الخصال السيّئة الموجودة في نفس الإنسان، و دور الخصال السيئة أكبر من دور المعاصي الفعليّة الّتي يرتكبها الإنسان، فلو أنّنا كنّا متكبّرين، و لو كنّا أنانيين، و لو كنّا مستبدّين بآرائنا و نخطّي الجميع في كلّ شيء و في كلّ حديث و كلّ نظريّة، و نقول نحن الّذين نفهم بشكل صحيح فقط، و نحن الّذين نعمل بشكل صحيح فقط و لا نصغي لاستشارة و لا لكلام حقّ و لا لمنطق و لا لإستدلال، فلو تأصّل الحسد في نفوسنا بحيث أصبحنا نرى الجميل قبيحا و لم نكن على استعداد للإقرار بالحقيقة الناصعة الّتي تقع في مكان ما، و لو صدّنا حبّ الشهرة و حبّ المال و حبّ المنصب عن القبول بالحقّ، فهذه جميعها من الصفات الخطيرة الّتي تبعث على الضلال في حياة الإنسان.

فأغلب الّذين تشاهدونهم ضلّوا في العالم كان ضلالهم عن هذا الطريق، و إلاّ «كلّ مولود يولد على الفطرة»(1) و الطهارة موجودة في جميع النفوس و الجميع لهم ضمير يقبل بالحقّ إلاّ أنهم يغطون على هذا النبع الوضّاء بالأهواء النفسيّة و الخصال السيّئة، الّتي يكون بعضها وراثيا، و بعضها إكتسابيّا.

إنّ علماء الأخلاق - و الأخلاق هي إحدى فروع العلوم أيضا، و بالرغم من أنّ الأخلاق العمليّة لها قيمة كبيرة بالنسبة لنا، إلاّ أنّ هناك أخصّائيين في هذا المجال كما

ص: 198


1- بحار الأنوار: 279/3 ح 11.

يوجد اخصّائيون في المجالات الاخرى - يقولون: إنّ بإمكان الإنسان تغيير حتّى الأخلاق الوراثيّة، فبإمكاننا تغيير التكامل الذاتي و الطمع الذاتي و البخل الوراثي و الحسد الوراثي و العناد الوراثي. فالبعض معاندون و مهما وضع الإنسان أمامهم من حقائق فإنّهم يصرّون على موقفهم المعاند، و هذا من شأنه أن يبعد الإنسان عن الحقيقة.

و حينما يعاند الإنسان أوّل الأمر يدرك نور الحقيقة شيئا ما؛ و لعلّه يشعر بأنّ موقفه موقف معاند، و لكن حينما يتكرّر ذلك منه فإنّه سوف لن يدرك بأنّ باطنا كاذبا و إيمانا بعقيدة باطلة يتكوّن لديه، بحيث أنّه إذا رجع إلى نفسه و تعمّق فيها فسيرى أنّ تلك ليست عقيدة و ليست ناشئة من أعماق النفس بل هي شيء في ذهنه فقط، إلاّ أنّ العناد لا يدع صوت الحقيقة و نداء الحقّ يصلان إلى قلب الإنسان(1).

ص: 199


1- من كلمة ألقاها في 3 رمضان 1415 ه
أثر الإتصال باللّه تعالى على تهذيب النفس

إنّ الإبتهال إلى اللّه تعالى و الإتصال القلبي به كفيل بإقتدار و رسوخ القوى التي تريد تحدي و مقاومة تلك الجبهة. و لا طريق آخر سوى هذا.

إذا ضعفت هذه الصلة باللّه، و وقع الإنسان صريع نزواته، و صارت توجهاته محكومة بأهوائه، تضعف عند ذاك قدرته على مجابهة العدو.

الإنسان في معرض الأهواء و الرغبات، و ليس من اليسير صيانة الإنسان بالمرّة عنها، إلاّ أنّ المهم هو أن لا يسمح للأهواء النفسية و المصالح المادية و الرغبات التافهة أن ترسم للإنسان مسار حياته، و تعيّن له النهج الذي يقتفيه، و يكون لها دور حاسم و قدرة على استبدال السبيل الذي يسلكه.

إنّ ما من شأنه تقليل الأضرار في هذا المجال هي تلك القضايا المعنوية و الأخلاقية و الدعاء و الذكر و التوجّه إلى اللّه و تهذيب النفس و بناء الذات و تطهيرها من الرذائل، و هذا السلوك على قدر كبير من الأهمية. نعم ما أكثر الأشخاص الذين يكثرون من الدعاء و الذكر و ما شابه هذه الأعمال، لكنهم لم ينجحوا في استئصال الرذائل و الأنانية و الكبر و البخل و الحرص و الحسد و الحقد و سوء الظن و الكيد لهذا و ذاك، من نفوسهم، أو إلغاء تأثيرها على سلوكهم.

و على العكس من ذلك تلك الجنّة الأخلاقية التي أرادها الإسلام للناس؛ فالإسلام أراد للناس أن يتراحموا في ما بينهم، و أن يهتم كل منهم بمصير الآخر، و يحرص على مصالحه، و أن يشارك الآخرين في معاناتهم و يسعى في تصحيح أخطائهم، و أن يدعو أحدهم للآخر، و أن يتعاملوا بالمودة و الرأفة قال تعالى: ثُمَّ كٰانَ مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ تَوٰاصَوْا بِالصَّبْرِ وَ تَوٰاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (1). و هي المحبّة بين الأخوة، و بين الأصدقاء، و بين الأخوات، و بين أفراد الأمة الإسلامية، و الارتباط العاطفي، و حب الخير للآخرين، صفات فاضلة و نبيلة، و يجب على المرء أن يعمل للإستزادة منها.

ص: 200

و على العكس من ذلك تلك الجنّة الأخلاقية التي أرادها الإسلام للناس؛ فالإسلام أراد للناس أن يتراحموا في ما بينهم، و أن يهتم كل منهم بمصير الآخر، و يحرص على مصالحه، و أن يشارك الآخرين في معاناتهم و يسعى في تصحيح أخطائهم، و أن يدعو أحدهم للآخر، و أن يتعاملوا بالمودة و الرأفة قال تعالى: ثُمَّ كٰانَ مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ تَوٰاصَوْا بِالصَّبْرِ وَ تَوٰاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (1). و هي المحبّة بين الأخوة، و بين الأصدقاء، و بين الأخوات، و بين أفراد الأمة الإسلامية، و الارتباط العاطفي، و حب الخير للآخرين، صفات فاضلة و نبيلة، و يجب على المرء أن يعمل للإستزادة منها.

إن أقبح ما في الإنسان من صفات هو أن يجعل ذاته و مصالحه المادية محورا، و يكون مستعدا لتدمير و إيذاء أناس كثيرين في سبيل إشباع رغباته الخاصّة. هذه الصفات ينبغي معالجتها و اجتثاث جذورها من قلوبنا. و هذه المعاني موجودة في تلك الأدعية.

على الرغم مما نقل إلينا من أدعية مأثورة عن جميع الأئمة عليهم السّلام - على ما أتصوّر - إلاّ أنّ المثير في الأمور هو أنّ أكثرها و أشهرها هو المنقول عن ثلاثة أئمة كانوا قد قضوا أعمارهم في صراعات كبرى و مريرة. أولهم أمير المؤمنين عليه السّلام الذي نقل عنه دعاء كميل، و أدعية اخرى فيها معان و مفاهيم كبيرة. و من بعده الأدعية المروية عن الإمام الحسين عليه السّلام؛ كدعاء عرفة الذي يزخر حقّا بمثل تثير الدهشة. ثم من بعدها الإمام السجاد عليه السّلام، ابن واقعة عاشوراء و حامل رسالتها، و المجاهد في قصر الجور؛ قصر يزيد. هؤلاء هم الأئمة الثلاثة عليهم السّلام الذين كان لهم الدور الأبرز في ميادين الصراع، و الأدعية المأثورة عنهم هي الأعمق، و العبر المستقاة من أدعيتهم هي الأكثر.

تأمّلوا هذه السجايا الأخلاقية الواردة في الصحيفة السجادية.

أوصيكم أيّها الأعزاء فردا فردا، أن تأنسوا جهد المستطاع بمضامين الصحيفة السجادية فهو كتاب عظيم. و إذا وصفت بأنها زبور آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فهي هكذا حقا، فهي زاخرة بالسجع المعنوي، هي دعاء و دروس؛ دروس في الأخلاق، و في علم النفس، و في الشؤون الإجتماعية. تأملوا هذا الجملة الواردة فيها: «اللّهم إني أعوذ

ص: 201


1- سورة البلد: 17.

بك من هيجان الحرص و سؤرة الغضب، و إلحاح الشهوة»(1).

إنّه يبيّن لنا - بلسان الدعاء - كل واحدة من السجايا المعنوية و الأخلاقية، و الجذور الفاسدة التي تعتمل في نفوسنا.

يجب أن تسألوا اللّه تعالى حين الدعاء و المناجاة، الخلاص و النجاة من هذه المشاكل الداخلية و النفسية. و المجتمع الذي تنشأ مجموعة كبيرة من أفراده على هذه الخصائص التربوية لا تؤثر فيه أي من تلك الأساليب المعادية.

لو أن الدعاء و التوسل المقرون بالمعرفة أتّخذ في هذا المجتمع منهجا و سلوكا - بأن يكون التوسل عن معرفة و ليس بلا معرفة و لا إدراك، أي بالمعنى الصحيح للتوسل الذي أوصانا به القرآن، و الروايات المنقولة عن الأئمة، و نهج البلاغة و يمكن أن تكون الصحيفة السجادية خير معين لنا في هذا الصدد. توجهوا إلى هذا المعنى و إلى هذا المقام المعنوي، تعارفوا مع الأدعية، و عرّفوا هذا النهج للشبّان الآخرين، و لأبنائكم. و أن يكون ذلك.

في قالب كلمات الإمام السجاد عليه السّلام التي وردت في الصحيفة السجادية، و أمثال ذلك، و نهج البلاغة يتضمن طبعا نفس هذه الروح المعنوية - يكون هذا المجتمع حينذاك مجتمعا يخشاه كل عدو مستكبر، و يفقد الأمل بإمكانية احتوائه أو هضمه.

و عليه أن يعلم أنه طالما كانت روح الإسلام، و معنوية الإسلام، و التعبّد بالإسلام، و الإعتقاد بالإسلام موجودا في المجتمع، يستحيل على أي عنصر أن يزيغ بهذا الشعب و هذا المجتمع عن صراط الثورة الإسلامية المستقيم(2).

ص: 202


1- الصحيفة السجادية: 57 ح 8.
2- من كلمة ألقاها في: 3 شعبان 1418 ه - طهران.
أثر الإبتلاءات على تهذيب النفس
اشارة

هناك أمور أخرى لا تتوفر للإنسان إلاّ في بعض الأحيان التي تفتح فيها أبواب الرحمة الإلهية و أبواب السموات و الجنان و تهبّ الانفاس الفردوسية على حياتنا المادية و الدنيوية، فهذه ليست دائمة بل هي حينية كما أشار إلى ذلك الحديث الشريف عن أهل البيت عليهم السّلام: «إنّ للّه في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها»(1)فطوبى لمن وقع في طريق هذه النفحة الإلهية في هذه اللحظات النادرة و استغلها.

فمن الممكن حدوث ذلك في فترة من التاريخ لكن من النادر أن تصبح هذه النفحة عامّة.

فهذه الثورة العظيمة - التي حصلت في إيران - نفحة من النفحات الإلهية. أنتم شباب تملكون فكرا منفتحا و وعيا، و وهبكم اللّه قلبا نقيّا و حسّاسا، فتأمّلوا و تدبّروا في أوضاع الدنيا و سيرها الجنوني نحو المادية، ثمّ ارجعوا الى بلدكم و مجتمعكم، الى انبثاق حكومة و نظام بقيادة عارف إلهي محظ ليس له أدنى ارتباط بالماديات حسب ما اعتاد عليها الناس، و مبنية على الأفكار و المبادئ الإلهية، فتأمّلوا هذه النفحة الإلهية العظيمة في إيران الإسلامية، و وجود ذلك الرجل العظيم - الخميني - و كلامه كان إحدى النفحات الإلهية التي اخذت منّا.

إنّ مصيبة الحرب هي أيضا من النفحات الإلهية القيّمة التي فتحت من خلالها أبواب الجنة علينا، طبعا لا يعتقد أحد أننا نحبّ الحرب و إننا فرحنا لثمان سنوات من الحرب، كلاّ؛ فالحرب كانت مصيبة و بلاء و شدة لكن «في الصعاب يظهر الفضل

ص: 203


1- عوالي اللئالي: 296/1 ح 195.

و الرجولة و السيادة».

فلا بدّ من الابتلاءات العظمى ليموج بحر الفضائل الأخلاقية في باطن الإنسان بصورة معجزة لا عادية و تقوى القيم و المبادئ الإنسانية و الخصال المعنوية، فأنتم الشباب الذين شهدتم الحرب و اكتسبتم التجارب و لمستم أخطار الحرب بجلودكم و لحومكم و عظامكم، و التجأتم في تلك اللحظات الى اللّه عزّ إسمه، إعلموا انّكم حظيتم ببحر من المعنويات(1).

الإبتلاء سلّم لتقدم الإنسان

إننا إذا أمرنا الناس بالصبر على المصائب لا يعني ذلك أن يستسلموا للمصيبة، بل عليهم عكس ذلك، لقد كان الماديون في أيام شبابنا يقولون: إن الأديان الإلهية تدعو الطبقات المحرومة و المستضعفة و الطبقات العمالية إلى الصبر و عدم المطالبة بحقوقها، و هذه ليست سوى تهمة توجه إلى الأديان الإلهية و عكسها هو الصحيح.

نحن نعتقد أن كل إنسان يمكنه في ظل النظرة الواقعية إلى الحياة - سواء جميلة كانت أو مريرة - أن يبلغ قمة التعالي المعنوي، و أن يواجه المصائب برباطة جأش و هذا مهم جدا، و هو لا يعني عدم مطالبته بحقوقه، إلاّ أنه مع مطالبته بحقه يعلم أنه لا يصبر على مكروه قربة إلى اللّه، إلاّ و أثابه و أرضاه في حياته الحقيقية التي سينتقل إليها بعد وفاته(2).

و ليس هناك من يبخس حقه في الحسابات الإلهية، فالمتمكن يحصل على ثواب بأزاء عمله الصالح، و المحروم يحصل على ثواب أكبر بأزاء ذلك العمل الصالح، فالذي يصاب بالزلزال مثلا يكون أجره محفوظا عند اللّه، و كذلك الذي يفقد أحبته

ص: 204


1- من كلمة ألقاها في: 12 ربيع الأول 1414 ه - طهران.
2- كما يأتي تفصيله عند الكلام عن الصبر.

و الذي يتحمل الصعاب و يقاسي آلام الحياة.

يؤكد الإسلام أن على الإنسان أن يسعى، و أن يبدل الصعاب و المرارات بحدود طاقته البشرية إلى سعادة و هناء.

أي أن عليه السعي من أجل إحقاق الحق، و لكن في الوقت نفسه عليه أن يعلم أنه يثاب على المرارات و المنغصات التي يواجهها في حياته.

فعلى المتضررين بالزلزال و الفاقدين لأحبتهم أن يعلموا أنهم إذا توجهوا إلى اللّه فإنه سيعوضهم عما فقدوه، فلا يستوي المصاب بالزلزلة عند اللّه مع غير المصاب بها، فإن للأول أجرا لا يحظى به الثاني.

إن جميع مصائب الدنيا سلّم لتقدم الإنسان و الأمة

أثناء الحرب المفروضة احيط بنا من كل جانب، و حالوا دوننا و دون وصولنا إلى العلم و المعرفة و الإبداع و منعونا من الوصول إلى ما نفتقر إليه، و حرمونا من أبسط الأسلحة الدفاعية، إلاّ أن شعبنا إستثمر هذه الصعوبات و المضايقات لصالح تقدمه.

إن العالم المعاصر يخشى من السلاح النووي للشعب الإيراني، فبرغم أننا لا نسعى إلى امتلاك هذا السلاح إلاّ أن إيران قد بلغت من الإمكانات العلمية مرحلة أخذ معها العالم المتطور و الذي يمتلك أسلحة نووّية مدمرة، يخشى من الشعب الإيراني المسلم و شبابه و علمائه.

و هذا تقدم كبير، فكيف حصلنا على هذا التقدم؟ لقد تمكن الشعب الإيراني من امتطاء الصعاب و المصائب و جعلها سلّما لرفع نفسه، و هذا ما حصل بالفعل.

تتصور القوى الإستكبارية أن بيدها مفتاح سعادة الشعوب و تعاستها.

و طبعا هذا يصح بالنسبة إلى الشعوب الخانعة التي لم ترفع عزمها و إرادتها شعارا لها، و قد رأينا شعوبا مسلمة لم تستخدم إرادتها، و لذلك أصبحت حياتها و موتها قبضة تحت قبضة الأجانب، حتى بسطت هيمنتها عليها.

ص: 205

و أما إذا أخذ الشعب بزمام أموره و امتلك عزمه و إيمانه و إرادته و آمن بهويته و شخصيته، فسوف لا يكون بإمكان أي قوة أن تهيمن عليه.

و يستطيع الحصول على ما يفتقر إليه العالم الغربي من الإيمان و التدين، من خلال صموده و عزمه و إرادته الراسخة و الحفاظ على إتحاده و تلاحمه(1).

ص: 206


1- من كلمة ألقاها في: 1384/2/14 ه ش - محافظة كرمان.
أثر الجوع و مقاومة الأهواء على تهذيب النفس

إنّ إحدى الوسائل المؤثّرة جدّا في تهذيب النفس و تربيتها هو تحمّل الجوع و مقاومة الأهواء و الشهوات.

«شهر رمضان شهر الإسلام» كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام أي شهر (إسلام الوجه لله) يعني التسليم لله، فلما ذا يتحمّل هذا الشاب الجوع و العطش و يقف في مقابل جميع الغرائز الّتي تقوده نحو الأهواء و الشهوات؟ إنّه يتحمّل ذلك امتثالا لأمر اللّه.

و هذا هو التسليم لله تبارك و تعالى، و لا يوجد لدى المسلم في أيّ يوم عادي من أيّام السنة و بالصورة الطبيعيّة كلّ هذا التسليم لله كالّذي يكون لديه في أيّام شهر رمضان وفق الصورة الطبيعية. إذن هو شهر الإسلام و شهر التسليم.

ثمّ يقول عليه السّلام: و «شهر الطهور» ففي هذا الشهر يوجد شيء يطهّر أرواحنا، فما هو ذلك الشيء؟ إنّه الصيام، و تلاوة القرآن، و الدعاء و التضرّع، و كلّ هذه الأدعية هي موائد الضيافة الإلهيّة في هذا الشهر المبارك.

كما أنّ القرآن الكريم هو إحدى تلك الموائد، و كلّما تكون استفادتكم أكبر من هذه الموائد ستكون بنيتكم المعنويّة أقوى و ستكونون أقدر على تحمّل الصعاب في طريق الكمال و السمو، و ستكون السعادة أقرب إليكم.

ثمّ يقول عليه السّلام: و «شهر التمحيص». التمحيص هو تنقية النقي أي نكون نقيين و خالصين من خلال هذا الشهر.

ص: 207

أثر المسجد على تهذيب النفس

إنّ المساجد ليس فقط في عصرنا هذا و في بلدنا الإسلامي العزيز بل في جميع أنحاء العالم و على مدى التاريخ كانت مصدرا لعطاء ثرّ، و لانتفاضات و حركات إسلامية كبرى.

على سبيل المثال ثورة بلدان شمال أفريقيا و هي بلدان إسلامية طبعا - كالجزائر مثلا و غيرها من الدول التي رزحت تحت هيمنة الاحتلال العسكري الفرنسي - كانت قد انطلقت من المساجد و كتب لها النصر و استقلت تلك البلدان، إلاّ أنّ الثورة فيها آلت إلى الهزيمة و فقدت تلك الشعوب استقلالها يوم قطعت صلتها بالمساجد و بالدين و تعاليمه و قيمه و فقدت إيمانها بالمساجد.

و في صدر الإسلام أيضا، فقد كان المسجد في عهد الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و كذلك في حكومة أمير المؤمنين عليه السّلام المباركة مركزا لإتخاذ القرارات المهمة و الأعمال الكبرى. لا أقصد تشبيه مسجد اليوم بمسجد الكوفة على عهد أمير المؤمنين في الوضع الزمني لأن مقتضيات كل زمن متفاوتة.

و على العموم فالمسجد باعتباره قاعدة للدين و العبودية و المعرفة، بإمكانه أن يكون مصدرا للعطاء و مركزا لإنطلاق حركات كبرى و خالدة للشعوب الإسلامية.

و كذلك كان أحد أسباب إنتصار هذه الثورة المباركة في إيران - أو على الأقل تسهيل بلوغ ذلك الإنتصار - هو إقبال أبناء الشعب على المساجد؛ فامتلأت المساجد بالشباب و استثمرها العلماء الأعلام كمركز للتعليم و التربية و التهذيب و إنارة الأفكار و العقول، و باتت المساجد معقلا للتحرك و التوعية و النهوض و كشف أسرار الرؤوس الفاسدة و العميلة لنظام الطاغوت.

ص: 208

و هكذا كان الحال في عهد ثورة الدستور «المشروطة» و على هذا المنوال في عهد تأميم النفط أيضا إلى حدّ ما.

و في زمن الثورة بلغت هذه الحالة ذروتها.

و على الشعوب الإسلامية كافة أن تغتنم المساجد و تنظر إليها باعتبارها معقلا للمعرفة و التثقيف و التوعية و المقاومة الوطنية.

و إن كان هناك من يظن أنّ المسجد تصلّى فيه عدّة ركعات فقط، فما عسى أن يؤثر هذا؟ فهو واهم، و ليس الأمر هكذا؛ و ذلك أولا أنه لو نظر إلى هذه الركعات المعدودة بعين البصيرة وجدها مصدرا لعطاء وفير، فالصلاة التي وصفها مشرّع الصلاة و الأذان بأنها خير العمل، و أنها الفلاح، تدفع امّة كاملة للقيام للّه، و تنهى الناس عن الفحشاء و تقربهم إلى الخلوص و إلى التضحية و الفداء.

أضف إلى هذا أنّ المسجد لا ينحصر في الصلاة، بل فيه أنواع العبادات، و منها التفكّر ف «تفكر ساعة خير من عبادة سنة»(1) أو كما جاء في بعض الروايات «خير من عبادة أربعين سنة» أو «سبعين سنة» و المقصود طبعا هو التفكير السليم. و رواد المساجد يحصلون على هذا النوع من التفكير عبر سماع حديث عالم الدين و الفقيه.

و على هذا فالمسجد مدرسة و جامعة، و محل للتفكر و التأمل و تهذيب النفس و معقل لتحصيل الإخلاص و اتصال العبد بربّه.

المسجد نقطة الإتصال بين الأرض و السماء، و هو الموضع الذي يوصل فيه الإنسان ذاته بمصدر الفيض و القدرة الأزلية.

و من هذا يجب معرفة قدر المساجد، و ينبغي الحضور فيها. و بحمد اللّه فقد تجلى هذا المعنى في السنوات الأخيرة بفضل الثورة بشكل أفضل. و لا بدّ قد سمعتم بما شهدته المساجد في أيام الاعتكاف في شهر رجب في كل أرجاء البلاد، حيث ذهب

ص: 209


1- مستدرك الوسائل: 183/11 ح 12689.

الشباب و النساء و الرجال من مختلف الشرائح الإجتماعية و من مختلف الأعمار إلى المساجد و اعتكفوا فيها؛ صاموا ثلاثة أيام و اتخذوا اللّه لهم أنيسا. و بعدها غادروا المسجد بالبكاء و الدموع و الآهات، و خرجوا منه استعدادا للسنة المقبلة(1).

ص: 210


1- من كلمة ألقاها في: 28 شعبان 1417 ه.
أثر الصلاة في تهذيب النفس

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «و اللّه اللّه في الصلاة فإنّها عمود دينكم و اللّه اللّه في بيت ربّكم لا تخلّوه ما بقيتم، فإنّه إن ترك لم تناوروا»(1).

لا تدعو هذا البيت يخلّي، فإن بيت اللّه تعالى لو اخلي و ترك لا يمهلكم سبحانه و تعالى، أو لا يمكنكم العيش بعد ذلك أبدا، و قد فسّرت هذه العبارة بمعاني مختلفة(2).

و أحد أسرار الدعوة إلى المواظبة على الصلاة في التعاليم الإسلامية؛ لأنّ الصلاة أفضل وسيلة لبلوغ أفراد المجتمع المسلم التهذيب الأخلاقي و السمو الروحي و المعنوي.

إنّ للصلاة ثلاث خصائص رئيسية لها الدور الأساس في تهذيب النفس و تربية الروح:

الاولى: أنّ الصلاة بهيئتها المحدّدة في الإسلام - أي الحركات و الأذكار المخصوصة - تدعو المصلّي - بصورة طبيعية - إلى الابتعاد عن الذنب و الرذيلة إِنَّ اَلصَّلاٰةَ تَنْهىٰ عَنِ اَلْفَحْشٰاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ (3)، هذه الدعوة المستمرة لها القدرة على إنقاذ أيّ كان من المستنقعات و أن تسمو به.

الثانية: الصلاة تحيي في المصلي روح العبودية و الخضوع أمام ساحة الباري

ص: 211


1- موسوعة الإمام علي عليه السّلام: 255/7.
2- من كلمة ألقاها في: 12 رمضان 1414 ه - طهران.
3- سورة العنكبوت: 45.

تعالى المحبوب الحقيقي و الفطري لكل إنسان، و تزيل عن هذه الحقيقة الساطعة المودعة في أعماق فطرته غبار النسيان.

الثالثة: تزرع في قلب و روح المصلّي تلك السكينة و ذلك الإطمئنان اللذين يعتبران الشرطين الأساسين للنجاح في جميع ميادين الحياة، و تبعد عنه التزلزل و الاضطراب اللذين يعتبران مانعا كبيرا في طريق السعي الجاد في التربية الأخلاقية.

و كل واحدة من هذه الخصائص الثلاثة جدير بالتدبّر و الإمعان؛ لتتضّح من خلاله الكثير من معارف الصلاة.

و عند ما نرى الصلاة بهذه الخصائص و بتأثيرها الاستثنائي، وسعة دائرتها حيث إنّها تشمل كل المجتمع الإسلامي - أي يجب على الجميع أداء الصلاة تحت أي ظرف و في أي مكان كانوا -، و لم يخرج أحد عن دائرة هذه الفريضة الإلهية أبدا؛ فحينها ندرك مدى تأثيرها البالغ في تحقيق السعادة لشعب و مجتمع ما.

و الحقيقة أنّه متى ما شاعت الصلاة بكل شروطها بين فئة من الناس، فإن هذا الواجب الإلهي بعينه سيرفعهم تدريجيا نحو كل أشكال السعادة و إقامة صرح الدين في حياتهم.

و لا يفوتنا القول إنّ كل هذه تتعلّق بتلك الصلاة التي تقام بروحها أي مع الإنابة و حضور القلب، فمثل هذه الصلاة تجعل المصلّي متناغما و متماشيا مع عالم الخلق كله، و تفتح السبيل أمام تطبيق السنن الإلهية في الطبيعة و التأريخ؛ لأنّ عالم الخلق كله - وفق الرؤية الإسلامية - في حالة تسبيح و عبودية للحق تعالى يُسَبِّحُ لِلّٰهِ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ (1).

وصيتي الأكيدة للجميع و لا سيّما الشباب هي الانس بالصلاة و الإلتذاذ بها، أي أن يقيموا الصلاة مع فهم لمعانيها و شعور بالحضور لدى حضرة الربّ المتعال جلّت

ص: 212


1- سورة الجمعة: 1.

عظمته، و أن يسهّلوا بالممارسة هذا العمل على أنفسهم؛ ليتمكّنوا من الإتيان بالنوافل لا سيّما نافلتي الصبح و المغرب أيضا. و إن كان بين الأرحام و الأقرباء و الأصدقاء من حرم نفسه من فيض الصلاة، فليردعوه عن ارتكاب هذا الذنب الكبير و الخسارة العظمى، و ليكون ذلك بالحكمة و الموعظة الحسنة. طبعا على الآباء و الامّهات مسؤولية أكبر تجاه أبنائهم لا سيّما الأحداث(1).

ص: 213


1- من كلمة ألقاها في: 10 ربيع الثاني 1416 ه
أثر الصلاة على العلاقة المعنوية مع الرب

من جملة المهام الخطيرة التي تقع على عاتق المؤمنين و الخيرة من عباد اللّه، و التي يقترن وجوبها بإقامة الحكم الإلهي في أية بقعة من بقاع الأرض، هي إقامة الصلاة التي منحها القرآن شأنا خاصّا و جعل لها مكان الصدارة، فقال: اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنّٰاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ أَقٰامُوا اَلصَّلاٰةَ... (1) و لو لم يكن لإقامة الصلاة أهمية أساسية و لو لم ينظر إليها كعمود راسخ من أجل تحقيق الأهداف الكبرى للنظام الإسلامي، لما كانت قد حظيت بكل هذا التأكيد.

و الحقيقة أن الصلاة بما لها من دور تربوي جسيم و تأثير عميق في تحقيق الطمأنينة و السكينة في قلوب المؤمنين، و غرس روح التوكل و التقوى و الإخلاص في قلب المصلي، و إشاعة جو زاخر بالنفحات القدسية و المعنوية من حوله، و تنزيهه و الآخرين عن ارتكاب المعاصي، إضافة إلى ما تنطوي عليه ألفاظها و أذكارها من معان و دروس في المعرفة، فهي أكبر من مجرد فريضة فردية، بل لها دور حاسم في إدارة شؤون الفرد و المجتمع.

التأكيدات البليغة التي وردت بشأن أداء هذه الفريضة، و المهمة التي ألقيت على عاتق الأبوين في تعويد أولادهما منذ الصغر على الأنس بها، أعطتها صفة لا تضاهيها فيها جميع الفرائض الاخرى. و يعود السبب في هذا إلى الدور الاستثنائي للصلاة في تهذيب الحوافز الروحية لدى الإنسان و تمهيد الأجواء الإيجابية التي تمكّنه من تحمل الأعباء الثقيلة لواجباته في المجتمع.

ص: 214


1- سورة الحج: 41.

و في ضوء كل هذه الأبعاد يجب حقّا اعتبار الصلاة كأفضل الأعمال.

و شعار «حيّ على خير العمل» الوارد في نداء الصلاة يعتبر بحق كلاما فياضا بالحكمة.

الصلاة هي التي تنفخ في روح الإنسان دواعي الإيثار و نكران الذات و التوكل و التعبّد، باعتبارها السند الحتمي للواجبات الخطيرة و المهام العسيرة كالجهاد و النهي عن المنكر و الزكاة، و تدفعه لتقحّم تلك الميادين بكل بسالة.

عند ما يقع هجوم من الأعداء تصبح لفريضة الجهاد أهمية استثنائية، أو حينما تواجه بعض الشرائح الإجتماعية ضغوطا معاشية تصبح فريضة الزكاة و الانفاق شاملة للجميع، و ربّما تؤدي الجهود المحمومة للأعداء في ميادين الثقافة و الأخلاق إلى أن تتخذ فريضة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر صيغة شمولية، في كل هذه الظروف لا تضعف الصلاة عن كونها (خير العمل) و لا تهبط من هذه المرتبة بل تزداد أهمية بسبب ما تضفيه من دعم روحي و معنوي لجميع ألوان الجهاد و الإيثار و تقحّم المخاطر.

لقد بات الإنسان و الإنسانية اليوم يرزحان تحت وطأة الحياة الآلية و ضغوطها، و ذلك لهيمنة الماكنة على المجتمعات البشرية كافة. حتى صار كل واحد من بني الإنسان يجد نفسه مرغما على برمجة نمط حياته الفردية و الإجتماعية مع الإيقاع الثقيل و الممل للماكنة و الحياة الآلية. و من الطبيعي أن سجايا الرأفة و الشفقة و الإيثار و التضحية و غيرها من القيم الأخلاقية الاخرى تفقد تأثيرها في خضم صخب هذا الإيقاع و تغدو باهتة لا روح فيها، و تهدم و تسحق في ظل مثل هذه الأوضاع أسس الأسرة، و علاقات الالفة و المحبة فيها.

و قد استشعر معالم هذا الخطر و حذّر منه قبل عشرات السنين الحريصون و ذوو النظرة الثاقبة حتى في قلب الحضارة الصناعية و الآلية، و لكن ممّا يؤسف له أن ملايين الناس و خاصة من الشباب - أصحاب النفوس الرقيقة و الأكثر عرضة للضرر - لا زالوا

ص: 215

يعيشون هذا البلاء الكبير مجردين من كل وسيلة دفاع و مجابهة.

هذا هو السبب الذي يجعل العلاقة المعنوية مع الرب الرحيم و الكريم لجميع بني الإنسان اليوم أكثر أهمية من أي وقت مضى.

و تبرز الصلاة هنا كأفضل و أجدى أداة لتأمين هذه الحاجة، البشرية اليوم أكثر حاجة من أي وقت مضى للصلاة الخالصة و الكاملة. و أنتم المسؤولون عن إشاعة الصلاة يجب عليكم بعون اللّه إرواء جميع النفوس المتعطّشة و الحائرة؛ ليس بالنسبة لشبان بلدنا فحسب بل لكل البشرية في جميع أرجاء العالم، تمهّدون ريّها من ينبوع الصلاة الفيّاض(1).

ص: 216


1- من كلمة ألقاها في: 26 جمادى الأولى 1418 ه.
مقامات و مراتب الصلاة
اشارة

«إن للصلاة إجمالا مقامات و مراتب، بحيث يكون لصلاة المصلّي في كلّ مرتبة فرق كبير عن المرتبة الاخرى، مثلما أنّ لمقامه (فيها) فرقا كبيرا عن المقامات الاخرى.

فما دام الإنسان على "صورة" الإنسان، أي أنّه إنسان بالصورة (الشكل) فصلاته أيضا تكون صورة الصلاة و صلاة صوريّة.

و فائدة هذه الصلاة تنحصر في صحّتها الفقهية و كونها مجزية (صوريا و فقهيا) فلا يجب عليه إعادتها.

هذا إذا أقامها بجميع أجزائها و شروط صحتها، و لكنها غير مقبولة و لا مرضيّة عند اللّه.

أمّا إذا انتقل الإنسان من مرتبة الظاهر إلى الباطن و من الصورة إلى المعنى، اكتسبت صلاته من الحقيقة عندئذ مقدار المرتبة التي تتحقق فيها، بل إنّ الحال تنعكس (في علاقة التأثير) بناء على ما تقدّمت الإشارة إليه أنّ الصلاة هي مركب السلوك و براق السير إلى اللّه؛ فما دامت صلاة الإنسان هي صورة الصلاة، و لم يتحقّق الإنسان في مرتبتها الباطنية و سرّها، فالإنسان أيضا هو (هنا) "صورة الإنسان" و لم يتحقّق بحقيقته.

إذن فالميزان في كمال الإنسانيّة و حقيقتها هو العروج بالمعراج الحقيقي و الصعود إلى أوج الكمال، و الوصول إلى باب اللّه بمرقاة الصلاة.

لذا يلزم المؤمن بالحق و الحقيقة و السالك إلى اللّه بقدم المعرفة أن يعدّ نفسه لهذا السفر المعنوي و المعراج الإيماني، و يصحب معه ما يلزم من العدّة و العدّة و المؤونة

ص: 217

و المعونة؛ و يبعد عن نفسه موانع السّير و السفر و عقباتهما، و أن يطوي هذا الطريق مع الجنود الربّانيين و المصاحب و الموافق لكي يظلّ مصونا محفوظا من الشيطان و جنوده و هم قطّاع طريق الوصول(1).

الصلاة المقبولة

من وصيّة أمير المؤمنين عليه السّلام لكميل بن زياد: «يا كميل، ليس الشأن أن تصلي و تصوم و تتصدّق، الشأن أن تكون الصلاة بقلب نقيّ و عمل عند اللّه مرضيّ و خشوع سويّ. و انظر فيما تصلي و على ما تصلي إن لم يكن من وجهه و حلّه فلا قبول»(2).

من هذه العبارات يريد الإمام علي عليه السّلام من تلميذه الوفي أن ينفذ من القشر الظاهري إلى ما وراء ذلك و يدخل إلى باطن و حقيقة الأعمال.

و يستفاد من ذلك أن لكل عمل جسما و روحا، فإذا لم تكن الروح موجودة فيه فالجسم ميّت و لا قيمة له، و لا ينبغي للإنسان أن يفرح قلبه بالقشر من دون اللّب، فإنّ اللب و المخ هما الأهم. و كما قال الإمام السّجاد عليه السّلام: «اللّهم ارزقني عقلا كاملا، و عزما ثاقبا، و لبّا راجحا، و قلبا زكيّا، و علما كثيرا، و أدبا بارعا و اجعل ذلك كله لي، و لا تجعله عليّ برحمتك يا أرحم الراحمين»(3).

و المهمّ في الصلاة هو كيفيتها فيجب أن تؤدى الصلاة بقلب طاهر و نقي، و خاضع خاشع لتكون مرضيّة للّه تعالى. و أمّا إن كانت الصلاة في مكان مغصوب أو لباس مغصوب أو غير حلال فلا تكون صحيحة عند اللّه تعالى.

ص: 218


1- عن كتاب سرّ الصّلاة، ص 50.
2- تحف العقول، صفحة: 174.
3- الصحيفة السجادية: 177.

و الرواية و إن كانت واردة في الصلاة إلاّ أنّ كل الأعمال الأخرى يجب أن تكون كذلك، حتى النشاطات السياسية أيضا يجب أن تكون مصحوبة بروحيّة إصلاح الأمّة الإسلامية و إلا فلا تكون مطلوبة للّه تعالى(1).

ص: 219


1- كلمات مضيئة: 217.

ص: 220

محاسبة النفس

أهمية محاسبة النفس

روي عن الإمام السجاد عليه السّلام أنه قال: «يا بن آدم لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك»(1).

فالموعظة التي تأتيك من نفسك تسدي النصح لعقلك و لقلبك و لضميرك و لإيمانك.

صحيح أنّ الموعظة التي تأتي من الآخرين مفيدة و مجدية، إلاّ أن ما هو أكثر فائدة و جدوى هو أن يكون للإنسان واعظ من نفسه: (ما كان لك واعظ من نفسك و ما كانت المحاسبة من همّك)(2). أي يجب أن لا نترك أنفسنا على هواها بل نحاسبها، فإذا صدر منّا كلام يجب أن نحاسب أنفسنا على سبب صدور ذلك الكلام. و إذا قمنا بعمل ما أو أخذنا مالا أو أعطينا مالا ينبغي أن نحاسب أنفسنا على ذلك العمل و على سبب ذلك الأخذ و على سبب ذلك الإعطاء.

و من الطبيعي أن محاسبة الإنسان لنفسه تكون أكثر دقّة من محاسبة غيره له؛ لأنه لا يخفى عليه شأن من شؤون نفسه.

ص: 221


1- وسائل الشيعة: 96/16.
2- وسائل الشيعة: 96/16.

و إنك أيّها الإنسان ستكون بخير (ما كان الخوف لك شعارا و الحزن لك دثارا)(1).

أي عليك أن تحذر و أن تخشى عذاب اللّه و سخطه و غضبه و أن تضع ذلك نصب عينيك عند محاسبتك لنفسك، و احذر أن تزلّ قدمك إلى ما يوجب سخط اللّه عليك.

و إنك ستكون بخير ما دمت مواظبا على موعظة نفسك و محاسبتها و كنت على حذر و خوف من عذاب اللّه و سخطه؛ و سيكون في ذلك خير دنياك و صلاح آخرتك، و تهذيب لأخلاقك و صفاء لحياتك، و إزالة لأسباب الإضطراب و فقدان الأمن في ما بينك و بين الناس، و ستكون الحياة عندئذ طيبة هنيئة.

يا ابن آدم إنّك ميّت و مبعوث و موقوف بين يدي اللّه عزّ و جلّ و مسؤول، فأعدّ جوابا.

و هذا اليوم سنقف فيه جميعا أنا و أنت بهذه المشاعر و بهذا الكيان بين يدي اللّه تعالى بعد أن نبعث من التراب. سيجمعنا اللّه تعالى يوم القيامة و يسألنا، و علينا أن نعدّ لذلك اليوم جوابه.

و روي عن الإمام السجاد عليه السّلام أنه قال: «المؤمن.. يجلس ليعلم، و ينصت ليسلم، لا يحدّث بالأمانة الأصدقاء، و لا يكتم الشهادة للبعداء، و لا يعمل شيئا من الحق رئاء، و لا يتركه حياء»(2).

عند ما يسأل البعض عن سبب عدم أداء الصلاة أو النافلة في أول وقتها في الموضع الفلاني، تراه يقول إنه لم يفعل ذلك خجلا.

و هنا تأتي نصيحة الإمام عليه السّلام بعدم ترك عمل الخير خجلا أو حياء، و عليك أن لا تترك حسنة دفعا لأسباب توجيه التهم إليك بالرياء و التظاهر، و لا ينبغي لك ترك كلام الحق و عمل الخير نزولا عند مشاعر الآخرين و توجهاتهم.

ص: 222


1- وسائل الشيعة: 96/16.
2- وسائل الشيعة: 145/11.

و من جملة الخصال الأخرى للمؤمن أنه إن زكّي خاف ممّا يقولون، و يستغفر اللّه لما لا يعلمون(1). أي أنه يستغفر اللّه للعمل السيّئ الذي ارتكبه، و لكن المزكّي ليس على علم به، و من خصاله أيضا أنه (لا يضره جهل من جهله)(2).

أوصيكم يا أعزائي، و خاصة الشباب، بتعلم هذه الخصال و التحلّي بها، و تهذيب أنفسكم بهذه الإرشادات. و لا شك في أنّ البلد و الشعب الذي يزدان بمثل هؤلاء الشبيبة المؤمنين المهذبين لن يتخلف في أي ميدان من ميادين الحياة، و ستصبح دنياه و آخرته عامرتين(3).

و من وصايا الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، أصلح أيّامك هو الذي أمامك. فانظر أي يوم هو؟ و أعدّ له الجواب. فإنّك موقوف و مسؤول.

و خذ موعظتك من الدهر و أهله، فإنّ الدّهر طويله قصير و قصيره طويل و كل شيء فان»(4).

أحسن الأيام و أصلحها هو اليوم الذي أنت فيه فعلا أي اليوم الحاضر أمامك.

فاليوم الحاضر هو أفضل الأيام و أحسنها، بخلاف الماضي و المستقبل.

لأنّ الماضي و إن كان من الممكن أن يبعث على التأسّف إلاّ أنه لا ينبغي أن يعطى من الأهميّة بالنحو الذي ينسيه الحاضر.

و المستقبل و إن كان يجب أن يضع له برنامجا عمليا إلاّ أنه لا ينبغي أن يشغلنا ذلك عن الحاضر و ينسيه.

نعم لا ينبغي أن ننسى الماضي بل يجب أن نتّعظ من الزمن الماضي و أهله، لأن أعظم موعظة لنا هي الزمان الماضي و أهل ذاك الزمان و أعمالهم التي أتوها فيه.

ص: 223


1- الكافي: 111/2، ح 2.
2- بحار الانوار: 138/75، ح 19.
3- من كلمة ألقاها في 16 ربيع الثاني 0241 ه - طهران.
4- تحف العقول، صفحة: 391-494.

و البعض قد لا يلتفت إلى الماضي و لا يهتم به و يغفل عنه إلاّ أنّ البعض الآخر ينظرون إلى الماضي بمسؤوليّة و معرفة و يتّعظون منه.(1)

و قال الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلّ يوم، فإن عمل حسنا استزاد منه، و إن عمل سيئا استغفر اللّه منه و تاب إليه»(2).

المراد من قوله «ليس منّا» أي ليس من خواصنا المقرّبين إلينا و لذلك فإنّ الإنسان الذي لا يحاسب نفسه كل يوم ليس من خواص أهل البيت عليهم السّلام.

و المحاسبة هنا تشمل المحاسبة المالية و الكلامية و العملية بل حتى المحاسبة في القرارات و المواقف الإجتماعية أيضا.

و حينئذ فإن وجد منها شيئا حسنا و مرضيّا ازداد منه. و أما إذا وجد منها شيئا سيّئا غير مرضيّ طلب من اللّه تعالى المغفرة و العفو و تاب إليه منه.

و ذلك لأنّ أعظم و أكبر آفة و خسارة للإنسان في حياته هي الغفلة و التغاضي عن نفسه، و من هنا جعل الشارع المقدّس البرامج لأجل جبران و تعويض هذه الخسارة كالصلوات الخمس اليومية فإنّ الإتيان بها في أوقاتها المقرّرة لها يوقظ الإنسان من غفلته و تناسيه و جهله. و هذا أحد حكم و علل محاسبة النفس أيضا(3).

ص: 224


1- كلمات مضيئة: 124.
2- تحف العقول، صفحة: 396.
3- كلمات مضيئة: 124.
المراقبة و المحاسبة

قال تعالى في الآيات الأخيرة من سورة الحشر: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ مٰا قَدَّمَتْ لِغَدٍ (1)، اتقوا اللّه - أي راقبوا أنفسكم - و احذروا الوقوع في المزالق و الأخطاء و الانحرافات، و ثمرة هذه المراقبة المتمثلة في قوله تعالى:

وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ مٰا قَدَّمَتْ لِغَدٍ، ما قاله تعالى مباشرة في هذه الآية، من قوله تعالى وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ إِنَّ اَللّٰهَ خَبِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ (2).

إذا علينا مراقبة أنفسنا، و أرى أنّ هذا هو الخط و الاتجاه الأساسي الذي لو التزمنا به و أوليناه اهتمامنا سيؤدي إلى وضع خطط ناجحة في حياتنا الإجتماعية(3).

و قد قال الإمام علي بن موسى الرضا عليه السّلام في هذا المجال: «و سئل عن خيار العباد؟ فقال عليه السّلام: الذين إذا أحسنوا استبشروا، و إذا أساءوا استغفروا، و إذا أعطوا شكروا، و إذا ابتلوا صبروا، و إذا غضبوا عفوا»(4).

خيار العباد للّه تعالى هم الذين تتوفر فيهم هذه الصفات الخمس و التي أهمها:

1 - إذا قاموا بعمل الخير و الإحسان فرحوا و استبشروا.

2 - إذا ارتكبوا سيئة أو قاموا بعمل غير صالح تابوا و استغفروا منه.

فإنّ واحدة من آفات و عيوب الإنسان أنه لا يراقب أعماله بل يقف حياديا مقابل أعماله السيئة أيضا. و على عكس ذلك الإنسان الذي يراقب أعماله و إذا ارتكب عملا

ص: 225


1- سورة الحشر: 18.
2- سورة المائدة: 8.
3- من كلمة ألقاها في: 1384/3/8 ه ش - 20 ربيع الثاني 1426 ه - 29 مايو 2005 م.
4- تحف العقول، صفحة: 445.

سيّئا تذكّر و استغفر ربّه و تاب إليه، فإنّ هذه من صفات المتّقين كما قال اللّه تعالى:

إِنَّ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا إِذٰا مَسَّهُمْ طٰائِفٌ مِنَ اَلشَّيْطٰانِ تَذَكَّرُوا (1) .(2).

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من مقت نفسه دون مقت الناس آمنه اللّه من فزع يوم القيامة»(3).

إنّ الغفلة هي أساس زلاّت الإنسان. و أحد مظاهر الغفلة عدم توجّه الإنسان إلى نفسه و عيوبه.

و ما أكثر الأمور التي يراها الإنسان في غيره و لكنه يتسامح و يتساهل بها إذا وجدها في نفسه. و هذا الأمر موجب لأن يرى عيوب الناس كبيرة بينما لا يرى عيوب نفسه.

و أما إذا التفت إلى عيوبه و اعتنى بها فسوف يحصل على فائدتين:

1 - أن يقوم بإصلاحها، و كما ورد في دعاء مكارم الأخلاق «و استصلح بقدرتك ما فسد منّي»(4). أي أنه يستعين بالقدرة الإلهية ليصلح مادة الفساد في نفسه.

2 - أن لا يتحدّث عن عيوب الناس، و لذلك ورد في هذا الحديث أنّ الإنسان إذا مقت و عادى الصفات المذمومة الموجودة فيه و عمل على رفعها و إزالتها من نفسه قبل أن ينظر إلى عيوب الناس و يفتّش عنها فإنّ اللّه تعالى سوف يؤمنه من فزع أهوال يوم القيامة(5).

و من مواعظ أبي جعفر عليه السّلام: «من لم يجعل اللّه له من نفسه واعظا فإنّ مواعظ الناس لن تغني عنه شيئا»(6).

ص: 226


1- سورة الأعراف: 201.
2- كلمات مضيئة: 5.
3- الخصال، باب الواحد، ح: 54.
4- الصحيفة السجادية: 99.
5- كلمات مضيئة: 125.
6- تحف العقول، صفحة: 295.

الإنسان الذي لا يوفّقه اللّه تعالى لأن يكون له من داخله و باطنه واعظ فلا تنفعه مواعظ و نصائح الآخرين و لا تؤثّر فيه.

من الممكن أن يؤثّر فيه كلام الأستاذ أو العالم أو قراءة رواية ما، إلاّ أنّه تأثير مرحلي و سريع الزوال.

بخلاف ما إذا كان الواعظ باطنيا و نفسانيا لأنه أعرف الناس بعيوبنا لأنه يعظ الإنسان و يأمره و ينهاه لكي يتقدّم في طريق التكامل و السمو و حينئذ سوف تحلّ مشكلته التربويّة(1).

ص: 227


1- كلمات مضيئة: 125.
أثر محاسبة النفس
اشارة

قال علي بن الحسين عليه السّلام: «إبن آدم، إنك لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، و ما كانت المحاسبة من همّك، و ما كان الخوف لك شعارا، و الحذر لك دثارا»(1).

الإنسان و إن كان لا يستغني عن وعظ الآخرين له إلاّ أنّ الموعظة الأفضل هي الموعظة الناشئة من داخله، لأن كل شخص أعرف من كل الناس بعيوبه و صفاته.

و يجب أيضا أن يكون همّه في محاسبته نفسه فإنه إذا لم يحاسبنا الآخرون فهذا لا يكون دليلا و حجة على أن لا نحاسب أنفسنا لأن محاسبة النفس تجنّب الإنسان في المستقبل من الوقوع في الزلاّت.

و المقصود من الخوف هنا الخوف من اللّه تعالى و عذابه و أعمال الإنسان السيّئة، لا الخوف من الناس و القوى المتهافتة.

و الحذر معناه الإحتياط و لكن لا بمعنى أن لا يقدم الإنسان على القيام بالنشاطات و يحجم عنها، بل يجب على الإنسان الدخول إلى مختلف الميادين و الساحات و لكن مع مراعاة الإحتياط و الورع و هذا هو معنى التقوى أيضا(2).

يجب على المرء مراقبة ذاته

إن المراقبة و المحاسبة و مقارنة اليوم بالأمس في أعمالكم الفردية أمر مطلوب

ص: 228


1- تحف العقول، صفحة: 280.
2- كلمات مضيئة: 47.

- المقصود وجود روح التقوى في أعمالكم و لو كانت أعمالا عامة - مثلا هل أنّ الأعمال العبادية التي كنتم تمارسونها في العام الماضي تمارسونها هذا العام أيضا أم لا؟ و هل قلّت أو كثرت؟ و هل تحسّنت نوعيتها أم لا؟ هل ازداد مقدار ما كنتم تتلونه من القرآن أم نقص؟ و هل أنّ كثرة المشاكل تمنعكم من تلاوة القرآن أو على الرغم من وجود تلك المشاكل فإنّكم تجدون فرصة لتلاوة القرآن بتدبّر و تفكّر؟ و هل أنّ عدد الأشخاص المؤمنين، و من أبناء حزب اللّه و المعروفين بالتديّن و الإلتزام ازداد هذه السنة في محيط عملكم و مسكنكم أم نقص؟

إذن فهذه امور يجب الاهتمام بها في موضوع المحاسبة و المراقبة(1).

إن أيّا منّا غير مصون و لا منزّه عن الوقوع في المفاسد، و حتى المؤمنين و الصالحين؛ تشير الرواية الشريفة إلى أنه «هلك العاملون إلا العابدون و هلك العابدون إلا العالمون، و هلك العالمون إلا الصادقون، و هلك الصادقون إلا المخلصون، و هلك المخلصون إلاّ المتقون، و هلك المتقون إلاّ الموقنون و إنّ الموقنين لعلى خطر عظيم، قال اللّه لنبيه صلّى اللّه عليه و آله: وَ اُعْبُدْ رَبَّكَ حَتّٰى يَأْتِيَكَ اَلْيَقِينُ (2)»(3).

فإذا كان الموقنون في خطر، فما بالك بنا؟! و لهذا يجب علينا الإكثار من مراقبة أنفسنا؛ فالفساد قد يبدأ من نقطة صغيرة ثم يستفحل و لا يشعر به الإنسان إلاّ إذا هلك أو أوشك على الهلاك، و عندها يصبح من الصعب عليه إتخاذ القرار القاطع؛ لأن الإنسان يصعب عليه إتخاذ القرار من بعد أن يفهم أنّ المرض سرى و استفحل في أوصاله.

إذن يجب على المرء مراقبة ذاته، و هذه هي المراقبة التي أكدتها الأديان كلها، و ركز

ص: 229


1- من كلمة ألقاها بتاريخ 22 ربيع الأوّل 1415 ه
2- سورة الحجر: 99.
3- البحار: 245/67، و مستدرك الوسائل: 100/1.

عليها القرآن و نهج البلاغة، و هي التقوى التي ظل أمير المؤمنين (ع) يوصي بها طوال فترة حكمه - ربّما لا تجد في نهج البلاغة موضوعا حظي بالاهتمام مثلما حظي به موضوع التقوى - و أكثرت الأدعية و الروايات من طلب التقوى، و كثيرا ما كان الإمام الخميني (رضوان اللّه عليه) يحث في كلماته على التمسّك بالتقوى، على اعتبار أنها حصن.

إن المراقبة الدائمة لأنفسكم بمثابة حصار يحيط بكم، فإيّاكم و أن يكسر هذا الحصار. فالمهم هو مراعاة هذا الجانب في كل لحظة إلى حين اليوم الاخير و الساعة الاخيرة لوجودكم في هذه(1).

ص: 230


1- من كلمة ألقاها في: 15 صفر 1420 ه - طهران.
أثر مراقبة النفس

و عليه فإن المراقبة المستمرة للجوارح و القلب و الفكر و العقل، من التقوى؛ فإن الكثير من الأعمال التي نرتكبها و المزالق التي نقع فيها تنشأ من عدم المراقبة، و كثير من المعاصي تصدر عنا لا بقصد سابق، و إنما نغفل عن أنفسنا فنقع في الغيبة و التهمة و بثّ الشائعات و الكذب، و هكذا الأمر بالنسبة إلى أيدينا و أعيننا.

إذا الغفلة هي التي توقعنا في البلاء.

فلو أننا راقبنا أعيننا و ألسنتنا و أيدينا و تواقيعنا و أحكامنا و كتاباتنا و كلامنا، فسنكون بمنأى عن كثير من الأخطاء و الذنوب الكبيرة و الصغيرة.

و لو أننا راقبنا أفئدتنا، لما ترسّخ الحسد و إرادة الشر و سوء الظن و الحقد و البخل و المخاوف الواهية و الطمع بالأمور الدنيوية، و التعرض لأعراض الآخرين و ممتلكاتهم.

إن هذه المراقبة تعتبر طريق العبد إلى النجاة، و أن العبد ليحصل على حسن العاقبة من خلال هذه المراقبة وَ اَلْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (1) و لو توفّرت هذه المراقبة لدى العبد، فستقلّ نسبة احتمال وقوعه في المعصية، كما تثبت العدالة للعبد من خلال هذه المراقبة، و تنشأ استقامة الإنسان و الأمة و المطالبة بالحق و إتّباعه من هذه المراقبة.

فإنّ هذه المراقبة و هذه التقوى امّ كلّ الفضائل، كما تحصل الهداية من خلال هذه المراقبة، و أن التقدّم في الدنيا و الآخرة ناشئ من هذه المراقبة.

و عند ما نراقب يشرع فكرنا بالعمل، و يصان قلبنا من الخطأ، و لا تقع جوارحنا

ص: 231


1- سورة الأعراف: 128.

و أعضاؤنا في الخطأ أو الزلل و قلّما يقع(1).

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لابن جندب: «و اجعل نفسك عدوّا تجاهده، و عارية تردّها، فإنك قد جعلت طبيب نفسك، و عرّفت آية الصحة، و بيّن لك الداء و دللت على الدواء»(2).

المقصود من النفس شخصية الإنسان و هويّته ذات الأبعاد المختلفة، ففيها جهات الخير كالفطرة و القوى العقلانية، و فيها عناصر الفساد أيضا كالغرائز و الصفات المذمومة.

و للأسف فإنّ الإنسان بسبب حبّه لنفسه - و هو مصداق لقاعدة حبّ الشيء يعمي و يصم(3) - ينزلق و يسقط مقابل طغيان شهوته و ميوله النفسانية.

و قد ورد في الآيات و الروايات الذمّ للنفس لأجل هذه الجهة السلبيّة الموجودة فيها.

و الإمام الصادق عليه السّلام هنا يأمر ابن جندب بأن يعتبر نفسه عدوا له تجب مجاهدته و ذلك بأن لا تطيعها و لا تسمع لها فيما إذا دعتك للشهوات و العمل على خلاف إرشادات العقل.

و في نفس الوقت يجب أن تعلم أن النفس أي هذه المجموعة من القوى و الإرادات العقلانية ليست من عندك بل هي عارية يجب عليك إرجاعها إلى صاحبها و هو اللّه تعالى، و يجب أن تعلم أيضا أنّ مجاهدة النفس أمر ممكن لأن أنبياء اللّه قد بيّنوا و شخّصوا أمراض النفس و أعطوا الإنسان الدواء المناسب لها. إذن فكل إنسان يجب أن يكون طبيب نفسه(4).

ص: 232


1- من كلمة ألقاها في: 1384/5/28 ه ش - 1426/7/13 ه ق - 2005/8/19 م.
2- تحف العقول، صفحة: 304.
3- انظر تفسير الرازي: 73/3.
4- كلمات مضيئة: 126.
أهمية مجاهدة النفس
اشارة

من وصيّة أبي جعفر عليه السّلام لجابر بن يزيد الجعفي: «إنّ المؤمن معنيّ بمجاهدة نفسه ليغلبها على هواها، فمرّة يقيم أودها و يخالف هواها في محبّة اللّه، و مرّة تصرعه نفسه فيتّبع هواها فينعشه اللّه فينتعش، و يقيل اللّه عثرته فيتذكّر، و يفزع إلى التوبة و المخافة فيزداد بصيرة و معرفة ما زيد فيه من الخوف»(1)

إنّ المؤمن مطلوب منه مجاهدة نفسه بإرادة و عزم لكي لا يدعها تسقط في كل طرق الظلل و الأهواء و الوساوس المذلّة.

و حينئذ فتارة ينتصر الإنسان في مجاهدته هذه الأهواء من خلال الإستعانة بالمحبّة الإلهية و هذا هو سروره و سعادته.

و المحبّة الإلهية سبب مهم جدا ليفوز الإنسان و ينجح في سعيه لتحصيل الفضائل و اجتثاث الرذائل.

و لذلك عمل الأئمّة المعصومون عليهم السّلام قبل أي شيء على سوق الناس باتجاه المحبة الإلهية.

و تارة أخرى يهزم الإنسان في جهاده مع هواه و لكن اللّه تعالى يمدّ إليه في هذه الحالة يد العون فيأخذ بيده من جديد نحوه و بالتضرّع و الشكوى و الأنين يدخل إلى الساحة الإلهية، و هذا التضرّع و الشكوى يوجبان زيادة معرفته و بصيرته.

و هذا هو الفرق بين الإنسان الذي يدخل ميدان الجهاد لهوى النفس و بين الإنسان القاعد و المتقاعس عن ذلك. فإنّ الأول يكون متعرّضا للإمدادات الإلهية الغيبيّة

ص: 233


1- تحف العقول، صفحة: 284.

بخلاف الثاني، قال اللّه تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا إِذٰا مَسَّهُمْ طٰائِفٌ مِنَ اَلشَّيْطٰانِ تَذَكَّرُوا فَإِذٰا هُمْ مُبْصِرُونَ (1).(2).

الجهاد الأكبر هو جهاد النفس

قال الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و آله بعد أن رجع القوم من ميدان معركة ضارية: إنّ هذا الجهاد الأصغر و بقي الجهاد الأكبر و هو جهاد النفس(3).

و ينبغي أن لا نحصر جهاد النفس في حدود الشخص الواحد. طبعا محاربة الشهوات و الركون الى الدعة و الطمع و الأخلاق الرذيلة في وجود الإنسان يمثل صراعا مع النفس و هذا مهمّ بحدّ ذاته.

على الإنسان أن يصارع دائما شيطانه الباطني، و يسيطر عليه لكي لا يستطيع أن يجرّه الى الأعمال الرذيلة. لكن الجهاد مع النفس له معنى آخر في الإطار الإجتماعي الكبير، و هو نفس إيجاب المعنويات للإنتصار، إنّ هذه الأفكار و الأحاسيس هي التي تؤدي الى اجتياز الإمتحانات بفخر(4).

ص: 234


1- سورة الأعراف: 201.
2- كلمات مضيئة: 49.
3- مستدرك الوسائل: 137/11 ح 12639.
4- من كلمة ألقاها في 8 جمادى الأولى 1413 ق.

السير و السلوك و أثرهما

الكل يسير نحو اللّه تعالى

الوحدة في الدين الإسلامي الحنيف أصل أساسي، ابتداء من الذات المقدسة للباري تعالى - التي هي أصل و مظهر الوحدة و الوحدانية - و إلى آثار هذه الوحدة؛ حيث يتّجه كل عالم الوجود نحو ذلك المركز العظيم و السامي وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ (1) و الجميع سائرون نحو الذات الإلهية المقدسة إِلَى اَللّٰهِ اَلْمَصِيرُ (2).

فحركة عالم الخلقة متجهة إلى الباري عز شأنه. و في الرؤية الإسلامية تنحصر حركة و صيرورة الإنسان و بقية الموجودات بالسير نحو اللّه، أي على الرغم من اختلاف الأصناف و الأنواع، و التفاوت الظاهري في الدوافع، و تنوع المواطن الجغرافية، و تباين العناصر المكوّنة للموجودات، و ما تتميّز به من تفاوت فيما بينها، على الرغم من كل هذا التنوع الظاهري، إلاّ أنّ عالم الخلقة يسير بأجمعه كالقافلة الواحدة نحو غاية واحدة، هو الباري تعالى.

إنّ سعادة كل إنسان رهينة بمعرفته لتلك الغاية و مطابقة سلوكه الاختياري معها، و يكمن شقاء و تعاسة كل امرئ في جهله لتلك الغاية و عدم التوجه بسلوكه الفردي

ص: 235


1- سورة آل عمران: 28.
2- سورة البقرة: 156.

و مشاعره و مجمل تصرفاته في سياق هذا المسار العام و المتّسق و الشامل لجميع العالم، على أنّه سيصفع بضربته. و مثل هذه الوحدة هي الحجر الأساس في الرؤية الكونية و التفكير و التصور الإسلامي عن عالم الوجود.

لا تعيروا أهمية للإدعاءات و الدوافع الظاهرية و الفهم المنحرف و الخاطئ من قبل الأشخاص الناقصين و القاصرين؛ فكل عالم الوجود كالنهر الجاري صوب نقطة واحدة و يسير بإتجاه واحد.

و لقد كانت المهمة الكبرى للأنبياء عليهم السّلام هي تعريف بني الإنسان بتلك الغاية القصوى و المقصد الأعلى و إرشاده إلى الطريق، و ليقولوا إنّ الصراط المستقيم هو الصراط إلى اللّه، و يبيّنوا أنّ كل القوى الإنسانية التي تحت تصرف الإنسان من عقل، و مشاعر، و حواس ظاهرية، و قدرة، و يد، و رجل، و عين، إضافة إلى ما في الطبيعة من نعم، هي أدوات لكي يطوي بها الإنسان هذا الطريق بصورة أسهل، و إنّ أفضل الناس هو من يعرف هذا الطريق، أي طريق اللّه و هدف عالم الوجود - الذي هو هدف الخلقة نفسه - و يسخّر طاقاته و نعم الطبيعة لبلوغ هذا الطريق.

و لهذا فإن كل فعل يصدر من عباد اللّه الصالحين، من نوم، و طعام، و تجارة، و كلام، و رياضة، و دراسة، و عمل سياسي و إجتماعي أو أي نشاط دنيوي آخر، فهو لأجل هذا الهدف. و بالسير صوب هذا الهدف تتكون حول الإنسان جنّة منشؤها انسجام و تجانس مشاعره و إرادته مع المسار الطبيعي لعالم الوجود. و هذه الحياة الإسلامية التوحيدية المعنوية لا يشوبها التناقض و التضاد و لا التصارع و الاختلاف.

و قد بعث الأنبياء عليهم السّلام لأجل هذه الحقيقة، و وضعوا أقدامهم بين الناس ليبيّنوا لهم أنّ هذه الاختلافات ظاهرية و سطحية، و كل ما لديكم من إرادة، و عين، و لسان، و ثروة، و قدرة، و منصب، و وعي سياسي و فني، و علم، و صناعة، و قوة سواعد من الممكن وضعها في خدمة هدف عالم الوجود، كالإنسان الذي يسبح مع تيار الماء، و لا يبقى أي أثر للصراع و التباغض و الحسد و الأحقاد في صدره.

ص: 236

هذه هي الحياة التي أوصانا بها الأنبياء عليهم السّلام، على العكس ممّا في حياة الشياطين و أشباه الشياطين، التي يسودها التنازع، و التناحر، و السباحة ضد تيار عالم الوجود و في الإتجاه المعاكس لهدف الخلقة و هذا أول الطريق للسلوك نحو الباري عز إسمه(1).

الإنسان الكامل و السير نحو اللّه تعالى

إن أشرف الناس و أكثرهم تكاملا هو القادر على السير في سبيل اللّه و نيل رضاه، و أن لا تستعبده الشهوات، و هكذا يكون الإنسان الكامل.

أما الإنسان المادي المنقاد لشهوته و غضبه و أهوائه النفسية و نزواته فهو إنسان تافه حتى و إن كان في الظاهر كبيرا و يحتل منصبا ما. و حتى رئيس أكبر دولة في العالم و من يملك أكبر ثروات العالم إذا كان عاجزا عن مجابهة نوازعه النفسية إنما هو شخص دنيء.

أما الفقير القادر على كبح رغباته و السير على الصراط السوي - و هو طريق اللّه و طريق التكامل - فهو إنسان كبير حقا.

الاستغفار يستنقذ الإنسان من حضيض الحقارة، و يحرره من القيود و الأغلال، و يطهر القلب و يزيل عنه الكدورة. و القلب هنا بمعنى روح الإنسان و نفسه و ذاته الحقيقية. لكل إنسان نور، و حتى الإنسان الذي لا يعرف اللّه و لا صلة له به، له في ذاته و جوهره نور، غاية ما في الأمر أن الصدأ يتراكم عليه نتيجة للجهل و كثرة الذنوب. و الإستغفار يجلو عنه الصدأ.

إن كل ما يراه في هذا العالم إنما هو مقدمة لذلك العالم الذي تعتبر لحظة الاحتضار مدخلا إليه.

ص: 237


1- من كلمة ألقاها في 25 جمادى الاولى 1417 ه

أيها السالكون، إننا في لحظة الاحتضار نرد عالما آخر، و ينبغي لنا إعداد أنفسنا لذلك اليوم. فهذه الدنيا و ما فيها من ثروات و ما منّ اللّه به علينا من طاقات، و كل ما أراده اللّه لبني الإنسان من حكومة عادلة و حياة زاخرة بالرفاه، و ما شابه ذلك، فهي لأجل أن يعد الإنسان ذاته للنشأة الآخرة، فاستعدوا لذلك اليوم و اذكروا اللّه و استغفروه.

و من الطبيعي أنّ الإنسان الذي يتوجه إلى ربّه بهذه الصورة و يطهر قلبه و يعرض عن المعاصي و يعقد العزم على فعل الخير هو إنسان عظيم و قادر على مجابهة المعضلات في هذا العالم. و مثال ذلك هو إمامنا الكبير الخميني و المثال الآخر هم المؤمنون من أبناء الشعوب المسلمة و المستضعفة؛ من الشبان المخلصين، و من الشهداء و المعوقين، و من الذين تحملوا السجن في فترة الأسر، و من الذين تحملوا فراق أعزّتهم، و من الذين تحملوا مصاعب ساحات الحرب، كل واحد من هؤلاء مثال رفيع، و خليق بكل شعب لديه شخص واحد من هؤلاء أن يكرمه و يمجّده و يجعله مثالا يحتذى به(1).

عالم اليوم بحاجة لندائكم في التطهير و التزكية. أمّا هذا الظلم و القهر و التمييز الذي يجتاح العالم، و هذا الشقاء الذي يلف الإنسان في الكثير من البلدان، و هذا الضلال الذي يعيشه الشباب في البلدان المتقدمة، و هذه العلاقات الشاذّة بين الرجل و المرأة، و هذه الرذائل التي تثيرها الشهوات، و هذا الانحطاط السياسي، و الرذائل التي تقترف على الصعيد المالي، كلها إفرازات لعدم سعي الناس نحو تطهير و تزكية أنفسهم.

إنّ القرآن ينادي بالتزكية، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دأب على تطهير بني الإنسان عبر الصلاة، و عن طريق الزكاة، و بالصوم و بعيد الفطر. و هذه الفرصة متاحة أمام الجميع في ظل الحكم الإسلامي و انتشار الوعي و الصحوة الإسلامية.

ص: 238


1- من كلمة ألقاها في: 21 رمضان 1417 ه - جامعة طهران.

يتعين على الجميع السير إلى اللّه، و أن يرفعوا أيديهم بالدعاء و يستعينوا به و أن يسعوا إلى تطهير أذيالهم و تجنّب الرذائل. فالعاملون في الحقل المالي معرضون لمخاطر الوقوع في الرذائل المالية، و العاملون في النشاطات السياسية و الإجتماعية مهددون بمخاطر رذائل من نمط آخر، و الذين تستحوذ عليهم الشهوات يخشى عليهم الإنحراف في مهاوي الرذائل الجنسية و الشهوية، و الذين في مقام الرئاسة معرضون لرذائل الظلم و الجور، و الذين يؤتمنون على الأعمال عرضة لمخاطر الوقوع في الخيانة.

إذن فالجميع مطالبون بالحذر، و الكل مكلفون بمراقبة سلوكهم، و هذه الرقابة هي المعروفة بالتقوى التي امرنا بها(1).

قال الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، إنّ المسيح عليه السّلام قال للحواريّين: يا عبيد السؤ يهولكم طول النخلة و تذكرون شوكها و مؤونة مراقيها و تنسون طيب ثمرها و مرافقها، كذلك تذكرون مؤونة عمل الآخرة فيطول عليكم أمده و تنسون ما تفضون إليه من نعيمها و نورها و ثمرها»(2).

يقول النبي عيسى عليه السّلام في وعظه و نصحه لخواص أصحابه المعروفين بالحواريّين:

كما أنّكم تخافون و تفزعون حينما تنظرون إلى النخلة الطويلة المرتفعة حيث تذكرون الصعاب و المتاعب التي تواجهونها عند صعودكم عليها من شوكها و غيره و لكنكم في الوقت نفسه تنسون لذيذ و طيب ثمرها. فكذلك حالكم في هذه الدنيا تذكرون التعب و المشقّة و الصعاب التي سوف تواجهونها إذا نظرتم إلى الآخرة حيث تتطلب العبادة من صلاة و صيام في الأيام الطويلة الحارة و الإستيقاظ ليلا للعبادة في

ص: 239


1- من كلمة ألقاها في: 1 شوال 1417 ه
2- تحف العقول، صفحة: 392.

نصف الليل و الحضور في ساحات الجهاد و القتال في سبيل اللّه، و لكنّكم في الوقت نفسه تنسون الثواب العظيم و الأجر الجزيل و النعيم الأخروي الذي أعدّه اللّه لكم.

و هذا الكلام موعظة و درس كبير لنا في كل مراحل حياتنا، فإذا واجه الإنسان في أي عمل يريده مرارته و مشقاته و أتعابه فعليه فورا أن يتذكر منافعه و ثماره و أجره و ثوابه ليهون و يسهل عليه القيام به(1).

ص: 240


1- كلمات مضيئة: 120.
ضرورة إرساء العدالة و السلوك الأخلاقي

إن فلسفة الإسلام هو السعي لتحقيق العدالة و نشر السلوكيات الأخلاقية في المجتمع، أي الاهتمام بالبعد الروحي و كذلك بالبعد المادي للحياة. و مثل هذا الأمر، مع أنه عظيم و مقدس، لا يخلو من الصعوبة و العراقيل. و إنّ كافة مساعي الجمهورية الإسلامية كانت منصبة على بلوغ هذا الهدف الرفيع.

إنهم لمخطئون اولئك الذين يسيرون في اتجاه معاكس متغافلين عن العدالة. و إن تجاهل المعنويات لمن الأخطاء الفاحشة. كما أن الذين لا يقدّرون إنجازات الآخرين مخطئون.

إن الطريق ليس ممهدا دائما لبلوغ الآمال الكبرى، بل أنه محفوف بالعراقيل و العقبات الكأداء، و هو ما ينبغي أخذه بالحسبان.

إننا لا يمكن أن نرضي أنفسنا بالكلمات و الخطب و الإتكاء على أريكة السلطة - أو على سدّة الحكم حسب التعبير الشائع - دون التفكير في وضع و مستقبل البلاد الإسلامية و العمل على التقدم المادي و المعنوي، فهذا لا يصح. إن النظام الإسلامي يطالب المسؤولين بوضع أنفسهم و محاكمتها أمام اللّه تعالى دون الأخذ بالاعتبار ما إذا كان الناس يفهمونهم أم لا أو أنهم يثنون عليهم أم لا. فكل هذا يأتي بالدرجة الثانية. و أما ما هو مهم بالدرجة الأولى فهو أن يشعر المسؤولون بالمسؤولية أمام اللّه تعالى في تقديم الخدمات للمواطنين و إقرار العدالة في المجتمع(1).

ص: 241


1- من كلمة ألقاها في: 21 شوال 1424 - مدينة قزوين.
الإخلاص في السلوك الديني

إن السلوك الديني المخلص من أهم الامور التي تزكي النفس، و ينبغي التأكيد على عنصر الإخلاص في مسألة السلوك، إذ يمكن للسلوك الديني أن يكون ناشئا عن الرياء و التصنع، كما يمكنه أن يكون منبثقا عن الإخلاص، فعلينا حثّ الناس على العمل الديني الصالح، و أن يصدر عنهم بإخلاص(1).

إعرفوا قدر أنفسكم، لأنّ الدنيا خلقت لأجل السعي و العمل و البناء و الجهاد و الإعمار على يد الإنسان. و جميع النشاطات سواء الإقتصادية و الإجتماعية و السياسية، و كذا العسكرية و الجهادية - عند الضرورة - و النشاطات العلمية و التحقيقية لازمة للإنسان، و لا شكّ أنّ على كلّ إنسان القيام بدوره في هذه المجالات حسب قدره و الفرصة المتاحة له، لكن الأبعد من كلّ ذلك هو هذه النكتة المعنوية و الإلهية؛ و هي أن كل مسؤولية تتحمّلونها - سواء كانت نشاطا سياسيا أو علميا، و سواء كانت دراسة او تدريسا أو تحقيقا و بحثا، و سواء كانت بناءا لأركان المجتمع أو هدما لأركان الفساد و الضلال - فهي لا تخرج عن حالتين، فإمّا أنّ هذا العمل الذي تقومون به يعينكم على السلوك المعنوي الذي خلق الإنسان لأجله، أو أنّه يصدّكم عن ذلك، و لا ثالث له.

لقد كان هدف جميع الأديان الإلهية، و جهود جميع الأنبياء عليهم السّلام، و شهادة كبار رجال الحقّ كلّها لأجل إيصال البشر إلى الطريق الأوّل، أي القيام بعمل يجعل البشرية على الصراط المستقيم و لتتحرّك نحو العروج المعنوي و الكمال الإنساني و معرفة اللّه

ص: 242


1- من كلمة ألقاها في: 17 /شوال/ 1425 ه الموافق: 1383/9/11 ه ش.

و تأمين مستقبلها الذي هو الهدف الرئيسي للحياة، أي مرحلة ما بعد الموت، ف «الدنيا مزرعة الآخرة».

إننا هنا نعدّ مقدّمات الحياة الأبدية، و كل ما نقوم به من دراسة و تدريس و جهاد و رياضة و بناء و عمران للدنيا و مقارعة للأعداء و سائر الأعمال التي يقوم بها الإنسان - و التي هي ضرورة - يجب أن تتصف بروحيّة السير على الصراط المستقيم، و كل ما يصدّكم عن هذا الطريق فهو معصية. و المعصية - في الإصطلاح الديني و في أقوال الأنبياء - هي العوائق و الموانع في طريق الكمال الإنساني. و ليس معناه أنّ اللّه - و العياذ بالله - أراد حرمان عباده من السعادة و من اللذائذ، كلاّ، بل اللذّة التي تمنع الإنسان من السير نحو اللّه كالطعام اللذيذ الضارّ الذي يتناوله الإنسان. فيقرّبه من الموت، فالعاقل لا يتناول هذا الطعام و ينبذ هذه اللذّة. لهذا فقد تمّ التأكيد على ذكر اللّه تعالى و الإستغفار في القرآن بقوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اَللّٰهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ (1).

عليكم أن تكونوا امثولة للنزاهة للوصول الى السلوك المعنوي، فشباب العالم اليوم يعاني من مختلف ضروب المآسي و يتلقّى نتائج معاصيه. و ما ترون من استمرار الشذوذ في المجتمعات الغربية، و معاناة الاسر و الآباء و الامهات من ضروب المآسي و أشكال التعاسة؛ فذلك لابتعادهم عن رحاب اللّه و غفلتهم عن الاستغفار و لعدم ارتداعهم عن ارتكاب المعاصي. و لهذه الظاهرة - طبعا - عوامل، منها أنّهم لا يستطيعون إرواء الشباب معنويا، فالشباب يبحث عن الارتواء من منبع صاف، فإن لم يجدوا ذلك، انحرفوا.

إنّ المجتمعات الغربية رغم غفلتها الكبيرة عن الامور المعنويّة، و انحصار وعيها في الامور المادّية فقط، و رغم وقوفها على الإشكالات و الإنحرافات متأخّرا إلاّ أنّها

ص: 243


1- سورة آل عمران: 135.

اليوم أفاقت، بحيث إن ساستها و زعماءها قد اعترفوا بذلك. و هذا أول الغيث؛ لأنّ هذا السيل الجاري من المفاسد الأخلاقية الذي بدأ بالجريان لم يصل إلى أسفل الجبل بعد، و عندها يبدأ بهدم ما يعترضه فتنهار عندها الحضارة الغربية القائمة على المادّية المحضة، و قد ترون هذا الأمر بأعينكم في المستقبل أيّها الشباب، و لن يكون ذلك بعيدا(1).

ص: 244


1- من كلمة ألقاها في: 15 ربيع الثاني 1416 ه - مشهد المقدسة.
كيف نبلغ درجة الكمال و السلوك المعنوي

قال الإمام محمد بن علي الجواد عليه السّلام: «المؤمن يحتاج إلى توفيق من اللّه و واعظ من نفسه و قبول ممن ينصحه»(1).

الإنسان المؤمن يحتاج من أجل بلوغه درجات الكمال و المعنويات و التحرك في الصراط المستقيم إلى ثلاثة أمور:

1 - توفيق اللّه تعالى له، و التوفيق هنا بمعنى تهيئة الأرضية و المقدّمات من أجل الإتيان بالأعمال الحسنة.

2 - الواعظ الداخلي في نفسه، بمعنى أن يكون بداخله باعث و محرّك يحذّره دائما.

3 - قبول النصيحة و الموعظة و التذكير من الآخرين.

نسأل اللّه تعالى أن يشملنا بتوفيقاته و عناياته الخاصة(2).

و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لأمير المؤمنين عليه السّلام: «يا علي أحبّ العمل إلى اللّه ثلاث خصال: من أتى اللّه بما افترض عليه فهو من أعبد الناس

و من ورع عن محارم اللّه فهو من أورع الناس

و من قنع بما رزقه اللّه فهو من أغنى الناس»(3).

يوجد في هذا الحديث جملتان يجب على الذين يريدون الوصول إلى المقامات

ص: 245


1- تحف العقول، صفحة: 457.
2- كلمات مضيئة: 120.
3- تحف العقول، مواعظ النبي صلّى اللّه عليه و آله، صفحة: 7، الحديث الأول.

المعنوية و السالكين و العارفين و المتعرّضين للفيّوضات الإلهية أن يلتفتوا إليهما و يعوهما بشوق و شغف لكي يصلوا إلى تلك المقامات. و لا يتوهموا أن طريق الوصول إلى اللّه تعالى شيء آخر غير فعل الواجبات و ترك المحرمات.

و ما أشدّ غفلة الذين يغرقون في الشهوات و المحرّمات بينما يجري على ألسنتهم اسم العرفان و المعنويّات و يفرحون قلوبهم بذلك.

فليعلموا أنّ الطريق إلى اللّه تعالى يسلك من خلال هذه الفرائض و ليس هناك طريق آخر غيرها(1).

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «بحقّ أقول لكم، إنّكم لا تصيبون ما تريدون إلاّ بترك ما تشتهون، و لا تنالون ما تأملون إلاّ بالصبر على ما تكرهون»(2).

لكل شخص في هذه الحياة هدف و مقصود، و الواجب عليه أن يترك كل الشهوات و الأهواء المانعة من الوصول إلى ذاك الهدف. فمثلا الشخص الذي يريد الوصول إلى المقامات العلمية العلية يجب عليه الإجتناب عن الكسل و قلّة العمل، و كذلك الشخص الذي هدفه الوصول إلى المقامات المعنوية و الكمالات الإنسانية العالية يجب أن يزيل كل الموانع من وصوله لذلك.

و كذلك فالإنسان و لأجل الحصول على ما يريد و يتمنّى يجب عليه تحمّل الصعاب و المشقّات و المكاره و الصبر و الإستقامة على ذلك(3).

ص: 246


1- كلمات مضيئة: 121.
2- تحف العقول، صفحة: 305.
3- كلمات مضيئة: 121.

التربية و التزكية و أثرهما

أهمية التربية

مثّلت مسألة التربية بالنهر الذي تختلف مجاريه و تتعدد، فهذا «نهر اروند» مثلا يحصل عند مصبه في الخليج الفارسي تياران: أحدهما تيار المدّ و الجزر حيث يندفع الماء المالح من الخليج إلى نهر اروند، و هناك تيار آخر لنهر أروند يجري في الطبقة السفلى من النهر، و ماؤه حلو.

الفارق بين هذين التيّارين هو أنّ الأول منهما يكون سطحيا، و يكون موجودا تارة و غير موجود تارة اخرى، و ذلك تبعا لوجود المد و الجزر. و بالإضافة إلى ما يتصف به هذا التيار من عدم الاستمرار و الديمومة، فهو كالرغوة و الزبد، يكون على السطح العلوي.

أما التيار الآخر الذي يجري في الاسفل فهو دائم لا إنقطاع فيه.

أعتقد أنّ التربية الأساسية شبيهة بذلك التيار السفلي.

أما التربية العارضة الطارئة فأشبه ما تكون بهذا التيار السطحي. و لكن هذا لا يمنع أن تكون التربية في الجامعات و المدارس ذات بعد أساسي و جذري و تسير في الإتجاه الصحيح. و هذا ما يوجب عليكم إعطاء أهمية بالغة للتربية التي تتصف بالجذرية و الدوام.

إعداد الإنسان من مادّته الإنسانية الخام يفوق في أهميته نحت تمثال من الحجر

ص: 247

على غرار التماثيل التي نحتها ميكالنجلو. و بإمكانكم إنجاز مثل هذه الإبداعات الفنية في ما يخص الأطفال.

يجب أن تنشئوا الأطفال على الأمل و النشاط، و هو ما بوسعكم صياغته في ضمن المناهج الدراسية، و في الوصايا التي تقدّم للمعلمين، و في مجمل سلوككم(1).

التربية في مرحلة الشباب

تعتبر مسألة تربية الناشئين و اليافعين و الأطفال أخلاقيا مسألة ذات أهمية لجميع الدول و المجتمعات، و تتضاعف هذه الأهمية لنا؛ لأنّ المجتمع الإسلامي - أي المجتمع الذي يراد بناؤه طبقا للأفكار و الأحكام الإسلامية - قد أعدّ نفسه لكفاح أسمى و أشق من الكفاح الاعتيادي لسائر المجتمعات و تحمّله قهرا، فجميع المجتمعات تخوض كفاحا، و لا يمكن تحقق الصلاح في المجتمع دونما كفاح، و الكفاح يعني السعي و المجاهدة ضد القوى المعارضة.

ففي كل مكان هناك عناصر تعلّم الصغار - كل حسب ثقافته - على السرقة و الفساد و الكسل و الإنحراف، و الصغار بدورهم يتلقّون هذه التعاليم. فكم هي نسبة الأطفال الذين يتعلّمون هذه الأمور المرفوضة و المنبوذة مع أنها تختلف من مكان إلى آخر؟ فعلى كل دولة أو الوزارة المتصدية للأمر أن تحارب بعض الأمور؛ ليمكنها تربية شبابها خبراء نشطين و مفيدين و مواطنين صالحين في خدمة بلدهم، و لا يتحقّق هذا العمل دون الكفاح.

إذن يوجد كفاح ضد عناصر الشر في كل الدول، و لا يختص بالبلاد الإسلامية، لكن كفاحنا مضاعف. فعلى سبيل المثال المجتمعات غير الإسلامية لا تجد مشكلة في اختلاط الجنسين لتعالجها، فإنها مسألة طبيعية لهم و لا تنافي أهدافهم؛ مع أنها

ص: 248


1- من كلمة ألقاها في: 3 ربيع الثاني 1419 ه ق - طهران.

تنافي أهدافنا، و لهذا نحن نخوض كفاحا أشق.

و كذا تعاطي الشباب للخمور - و إن كانوا لا يجيزون للأطفال تعاطي الخمور - لا يمثل عندهم منكرا مع أنه حرام عندنا و يجب محاربته.

فعلى جميع الشرائح و بالخصوص الشباب الكفاح؛ ليعيش المجتمع حياة طيبة و يسلك طريق الصلاح.

و هذا لا يخصنا بل يلزم على كل المجتمعات القيام بهذا الكفاح، و بدونه تفسد كل الأجيال. و لهذا يلاحظ غلبة الفساد في بعض الدول؛ بسبب فتور و ضعف هذا الكفاح الناشئ من فساد مؤسسات تلك الدولة و أجهزتها.

و قد قرأتم أو سمعتم أخيرا في الإحصائيات أنّه يقتل في كل شهر عدد من الشباب أو الأطفال في المدارس الأمريكية بواسطة زملائهم! و هي مسألة خطيرة أن يقتل الأطفال في بلد ما بعضهم البعض باستمرار؛ و ذلك نتيجة لكسل العاملين هناك، و جراء مفاسد أخرى، أو نتيجة الهجوم العنيف لتيار الفساد.

إذن يلزم الكفاح في كل مكان بالدليل الذي ذكرناه، إلاّ أنّ كفاحنا كمسلمين أشق.

هناك عامل آخر يجعل كفاحنا أكثر صعوبة و هو وجود أياد - إضافة إلى عوامل الفساد و الشر الموجودة في كل مجتمع بشكل قهري - تعد البرامج لترويج الشر و الفساد في أوساط الشباب و الناشئين بمجتمعنا، و هذا أمر واضح و مسلّم. و قد يشكّ البعض في هذا الموضوع، و لكن لا ينتابني أدنى شك في ذلك، فأنا أشاهد قرائن و علامات لا تدلّ على شيء سوى على وجود أياد و عقول أو أجهزة منظمة و خفية تروج الفساد في الجمهورية الإسلامية و بالخصوص بين الشباب.

فقد تكون طبيعة حركة المجتمع أو حياة الناس أحيانا بشكل تبعث على الفساد؛ لأنّ الطبيعة الإنسانية تميل إلى الأدنى و الأسفل، و هذا موجود في كل مجتمع و منها مجتمعنا، لكن تشاهد عناصر في المجتمع قد شدّت أحزمتها لتروج الفساد و بالخصوص في أوساط الجيل الناشئ بصورة مستمرة، لهذا يجب أن يكون كفاحنا

ص: 249

أكثر وعيا.

و على سبيل المثال إقامة العلاقات مع الناشئين في سائر الدول عمل عالمي و جيد، لكنه يأتي في الدرجة الثانية من حيث الأهمية، أما بعض الأهداف و التي لها تأثير فردي من الناحية التربوية على الأفراد، فهي مهمة جدا و رئيسية. فيجب أن نحافظ على هذه المجموعة التربوية لحاجة البلاد إليها هذه الأيام، فكما أنّ المدرسة من غير معلم لا تعتبر مدرسة، كذلك يجب أن تكون نظرتنا إلى مسألة التربية هكذا. فإن لم يوجد التربوي في المدرسة أو كان غير نشط، تكون نظرتنا إليه كنظرتنا إلى مدرسة من غير معلم. فهي في الحقيقة لا تقل أهمية عن ذلك.

إن هدف النظام الإسلامي هو تقديم أنموذج للحياة الإنسانية، فأنواع الحياة الموجودة هي دون شأن الإنسان، إن بعضها شأن الحيوانات، شأن المجرمين. ففي كل نظام يعيش أناس من أهل الترف و البذخ، لكن الترف و البذخ ليس من شأن الإنسان، فالإنسان من حيث الحاجة الدنيوية يطلب الراحة و الأمن اللذين لا يتوفران إلاّ قليلا في عالمنا، و من حيث محتوى الحياة هو بحاجة إلى التكامل و العروج المعنوي و الوصول إلى القرب الإلهي و التي لا أثر لها في حضارة اليوم.

إنّ أساس حياة الإنسان هو الراحة و الأمن؛ و أنّ المال يطلب أيضا من أجل الراحة و الأمن.

فلو قدّم لك اقتراحان و قالوا: إننا مستعدون أن ندفع لك مبالغ طائلة - و افرضوا عشرة ملايين تومان شهريا - على أن يسلبوا منك الراحة النفسية و الأمن في الحياة، أو أن يدفع لك في الشهر 40 ألف تومان و يوفر لك تمام الراحة و الأمن، فأيّهما ينتخب الإنسان؟ و أيّ عاقل مستعد لقبول الأول و فقد الثاني؟ قد ينتخب البعض الأول غفلة، لكنه سيفسخ العقد قبل إنتهاء الشهر الأول.

إن الإنسان يطلب الراحة و الأمان، لأن روح الإنسان كجسمه على أقل تقدير، فهل يمكن لإنسان أن يستمر في الحياة و جسمه يعذّب يوميا؟ كذلك الروح؛ لأنّ الروح

ص: 250

التي لا تتمتع بالراحة و الأمن كالجسم الذي يحترق دوما. فهذه لا تعتبر حياة، إن الحياة هي أن يشعر الإنسان بالراحة و الأمان و التي لا وجود لها في عالمنا اليوم. و أساس الراحة و الأمان هو أن يملك الإنسان وسائل المعيشة على أقل تقدير، و إلا فلو واجه الإنسان الجوع و النقص و المشاكل، فلا معنى للراحة و الأمن عنده.(1)

ص: 251


1- من كلمة ألقاها في: 27 رمضان 1415 ه
التربية و العروج المعنوي

يحثّ اللّه تعالى و روايات أهل البيت عليهم السّلام الإنسان على العروج المعنوي. فالراحة و الأمان مطلوبان في هذه الدنيا و نافعان حتى لحظة الاحتضار، لكن لا نفع بهما بعد الموت، عندها يلزم شيء آخر و هو التكامل و العروج و الفتح الروحي و التقرب إلى اللّه. فالتخلق بأخلاق اللّه هو الباقي هناك، و يبلى جسم الإنسان لكن شكل الروح باق و نافع هناك.

لكن لا أثر لهذا و لا ذاك في الحضارة البشرية الحالية، بل الموجود هو الشهوات و اللذات و التحرر الجنسي و تعاطي المشروبات الروحية و التي تأخذ الإنسان إلى عالم الأوهام بعيدا عن المشاكل فترة ثم تعود عليه المشاكل نفسها بصورة أشد. قد يمتلك البعض الثروة أحيانا، لكن الثروة لا تعني الحياة و الراحة و الأمان.

فالنظام الإسلامي يودّ توفير هذه الأمور و الوصول إلى مجتمع توفر فيه الراحة أي السكينة ثُمَّ أَنْزَلَ اَللّٰهُ سَكِينَتَهُ عَلىٰ رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ (1)، و الأمن اَلَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (2)رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً (3)، فعند ما دعا النبي إبراهيم عليه السّلام لمكّة، فلم يقل رب أجعل هذا البلد مخضرا، بل قال (رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً).

إذن الأمن في المرحلة الأولى، فإن أرادت حضارة أن تكون قدوة توفر للبشر الأمن

ص: 252


1- سورة التوبة: 26.
2- سورة قريش: 4.
3- سورة إبراهيم: 35.

و الراحة، فعليها أن تسعى كثيرا، و لا يحصل ذلك بمرور ستة عشر عاما من عمر الثورة، بل لتحقيق هذين الهدفين يجب القيام بحركة بعيدة المدى؛ لأنه سوف يأتي يوم يذهب فيه الجيل الذي قام بالثورة، فما ذا للغد؟ و ما ذا بعد ذهاب هذه المجموعة، و ما ذا عن الجيل الذي يريد ديمومة هذا النظام و يكون قاعدة متينة للحياة؟ فعليكم اليوم الإعداد لذلك، و لا أمل إلاّ في التربية.

فقوموا بهذا العمل للّه و بنيّة القربة إلى اللّه، و نظرا لآثاره و نتائجه الكثيرة اجعلوا جزاءه على اللّه و اسعوا لأن لا يقع أدنى تقصير في ذلك.

و التربية بحاجة إلى مهارة و متابعة و علم، فحذار أن يتصدى لهذه الأمور أناس جهلة غليظو الطباع متعصبون معقدون غير مطلعين على أصول التربية؛ لأنّ هذا علم ظريف و مهم و أسمى من عمل المعلم، فليكن المتصدون لهذه المسألة و المبعوثون إلى المدارس أو المراكز الثقافية أهلا لها، فلا يكن هؤلاء - لا سمح اللّه - عناصر سوء في التربية و كارهين لأصول التربية، و لتكن أساليبهم علمية(1).

ص: 253


1- من كلمة ألقاها في: 27 رمضان 1415 ه
التربية الروحية و التربية الفكرية

و تقسم هذه التربية إلى تربية تعنى بقواه الفكرية و العقلية، و هي ما تسمّى بالتعليم، و ينصبّ هدف الاخرى على تهذيب نفسه و قواه الروحية و قواه الشهوية و الغضبية، و هي ما تسمى بالتزكية.

و إذا ما تعلّم الإنسان و زكّى نفسه بشكل سليم، فهو تلك المادة الخام التي سبكت في قالبها المناسب في المصنع المطلوب و بلغت مرحلة كمالها. و يصبح في هذه النشأة مصدر خير و بركة و سببا لإعمار الدنيا و بناء قلوب الناس. و بعد ما يرد عالم الآخرة ينال الخاتمة التي ترنو إليها الإنسانية منذ البداية و حتى يومنا هذا؛ أي النجاة و الحياة السعيدة الخالدة في الجنّة.

لقد حدد الأنبياء عليهم السّلام من أولهم و حتى خاتمهم - النبي الكريم صلّى اللّه عليه و آله - هدف بعثتهم و أنّه التزكية و التعليم فقال تعالى في كتابه الكريم: يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحِكْمَةَ (1) أي يربّون الناس تربية عقلية و فكرية من جهة، و تربية روحية من جهة اخرى.

و جميع العبادات و التكاليف الشرعية التي أمرنا بأدائها تمثل في الحقيقة أدوات لهذه التزكية أو التربية، و هي بمثابة الرياضة التي يكون فيها كمالنا، مثلما أننا إذا لم نمارس الرياضة تضعف قوانا الجسمية، و نفقد قدراتنا و نصبح عرضة للأمراض الجسدية، فإذا أردنا لأجسامنا القوّة و القدرة و الجمال و الكفاءة للقيام بالأعمال المختلفة يجب علينا أن نمارس الرياضة.

ص: 254


1- سورة آل عمران: 164.

و كذلك هذا الجانب؛ فالصلاة رياضة، و الصيام رياضة، و الإنفاق رياضة، و اجتناب المعاصي رياضة، و عدم الكذب رياضة، و حب الخير للناس رياضة. و ممارسة هذه الرياضات تضفي على الروح جمالا و قوّة و كمالا. و نحن إذا لم نمارس هذه الرياضات الروحية قد يبدو ظاهرنا جميلا، و لكن يبقى باطننا في غاية البشاعة و منتهى الوضاعة و عرضة لنزول الأضرار به.

الصوم واحد من تلك الرياضات، و الصوم لا يتلخص بالامتناع عن الطعام و الشراب، فلا بدّ أن يكون الامتناع عن الطعام و الشراب صادرا عن نيّة، و إلاّ فقد تعرض للإنسان مشاغل أحيانا تلهيه عن الطعام و الشراب 12 ساعة أو 15 ساعة، لا ينال عن ذلك أي ثواب. أما إذا كان الامساك عن نيّة، «إجعلنا ممّن نوى فعمل» أي أن ينوي و يعمل في أعقاب النيّة، فهذا هو الجوهر الوضّاء الذي يضفي عليكم الجلال و يزيّن أرواحكم بالكرامة.

شرط الصيام النيّة. و لكن ما هو المراد بالنيّة؟ المراد بها أنّ هذا العمل و هذا الإمساك و هذه الرياضة تؤدّى في سبيل اللّه و امتثالا لأمره. و هذا هو الذي يضفي على كل عمل قيمة.

و لهذا السبب جاء في دعاء الليلة الأولى من شهر رمضان المبارك: «اللّهم اجعلنا ممّن نوى فعمل و لا تجعلنا ممّن شقى فكسل»(1).

فالكسل و التقاعس و التلكّؤ عن أداء العمل سواء كان عملا ماديا أم معنويا يجلب على الإنسان الشقاء.

الصوم من أفضل الأعمال. و مع أنه ظاهريا لا ينطوي على أي إقدام، إلاّ أنه في الباطن إقدام و عمل إيجابي، و سبب ذلك هو انعقاد النيّة على أداء هذا العمل. و هذا هو ما يجعلك أيّها الإنسان في حالة عبادة منذ لحظة الصيام الأولى من طلوع الفجر و على

ص: 255


1- مستدرك الوسائل: 444/7 ح 8620.

مدى النهار حتّى و إن كنت نائما أو كنت ماشيا.

و هذا هو ما نقل عن رسول اللّه (عليه و على آله الصلاة و السّلام) أنه قال:

«أنفاسكم فيه تسبيح و نومكم فيه عبادة»(1).

و لكن كيف يكون النوم عبادة، و التنفس تسبيحا؟ و ذلك لأن الإنسان يدخل إلى هذا الوادي بهذه النيّة، حتى و إن كان لا يؤدي أي عمل فهو في حالة عبادة مستمرّة.

و جاء في رواية اخرى: «نوم الصائم عبادة، و صمته تسبيح، و عمله متقبّل، و دعاؤه مستجاب»(2).

و سبب هذا يعود إلى أنّ الإنسان يمسك و يقلع عن بعض لذاته الجسدية طوال ثلاثين يوما و هي أيام شهر رمضان، في سبيل اللّه و لنيل رضاه.

و هذه العبادة و ما سواها من العبادات الاخرى تدور كلها حول محور مكافحة الإنسان لشهواته و أهوائه التي تنزع به صوب الرذيلة و العبودية للهوى.

لا يبتني إطلاق لجام النفس على أية حكمة، و إن السعي لنيل اللذات كيفما كان لا يجلب السعادة للإنسان.

بل هذا يدخل في إطار الحيوانية، و هو من صفات الحيوانات. و الإنسان طبعا فيه جانب حيواني، و مثل هذا السلوك فيه تكريس للصفة الحيوانية.

من الطبيعي أنّ الجانب الحيواني جزء من وجودنا، و لا أقصد أن لا يكون فينا، و الطعام و الشراب و الراحة و اللذة المباحة جزء من وجودنا و لم يمنع أحد عنها، أما ما نهي عنه فهو أن ينغمس فيها الإنسان، و جنوح الإنسان نحو الجانب المادّي يؤدّي به إلى الانغماس في هذا الجانب.

أما الأديان و الأساليب العقلائية التي أرسى الإله نظام الكون على أسسها، فهي

ص: 256


1- بحار الأنوار: 356/93 ح 25.
2- وسائل الشيعة: 401/10 ح 13689.

تصد الإنسان عن الانحدار في هذه الهاوية، و لا تجعله يفقد زمام ذاته فيتدرج فيها.

كل دعوة تحثّ الإنسان على إرخاء الزمام لنفسه في منحدرات اللذة و مشتهيات الحياة؛ فهي دعوة له إلى النار، و إلى الشقاء و الهلكة. أما دعوات الأنبياء عليهم السّلام و الحكماء فهي تدعو الإنسان إلى كبح جماح نفسه عن اللذائذ. و الصوم كعبادة يدخل في هذا العداد.

إعتبرت رواياتنا شهر رمضان فرصة ثمينة يمرّن فيها الإنسان نفسه على الاقلاع عن الذنوب، و قد دوّنت في هذا الباب بضع روايات؛ جاء في أولاها عن الإمام الصادق (ع) أنه قال لمحمد بن مسلم: يا محمد إذا صمت فليصم سمعك و بصرك و لسانك و لحمك و دمك و جلدك و شعرك و بشرتك(1).

فلا تكذب و لا تضمر لغيرك الشر و لا توقع الناس في المهالك و لا تضلّ القلوب، و لا تتآمر على أخيك المسلم و على مجتمعك الإسلامي، و لا تحقد و لا تبخس الناس في البيع، و تمسّك بالأمانة، و ما إلى ذلك.

الإنسان الذي يصوم شهر رمضان من خلال كفّ نفسه عن الطعام و الشراب و المشتهيات النفسية و الجنسية يجب عليه أيضا أن يصوم بصره و سمعه و كل أعضائه و جوارحه، و أن يعتبر نفسه ماثلا بين يدي ربّه، و هاجرا للذنوب و المعاصي.

و جاء في تتمة الرواية: و لا يكون يوم صومك كيوم فطرك.

و إنطلاقا من ضرورة تربية أنفسنا، يجب علينا اغتنام هذه الفرصة.

و جاء في رواية اخرى عن أمير المؤمنين (عليه الصلاة و السّلام) أنّ صوم النفس غير صوم الجسم، ف صوم النفس إمساك الحواس الخمسة عن سائر المآثم، و خلو القلب من جميع أسباب الشر(2). أي أن نطهر القلب من كلّ غل و غش للّه

ص: 257


1- روضة الواعظين: 350.
2- ميزان الحكمة 1687/2 ح 2358.

و لعباده.

كما توجد روايات كثيرة اخرى في هذا المضمار.

يجب علينا إذن انتهاز فرص العبادة كشهر رمضان المبارك للتقرّب إلى اللّه، و الاقتراب من مرحلة الكمال و تنقية نفوسنا من المفاسد و المعاصي.

إنّ فرصة الاستغفار التي تتاح في هذا الشهر فرصة ثمينة ينبغي أن لا يفرّط بها.

و شهر رمضان هذا سينطوي على وجه السرعة، و إذا بقينا على قيد الحياة حتى شهر رمضان القادم، فسيمر هو الآخر كالبرق، أو كمر السحاب، و ستضيع منّا فرصة ثمينة.

فيجب إذن استثمار كل يوم من أيامه و كل ساعة من ساعاته.

أوصيكم أيّها الأخوة و الأخوات، و خاصة الشباب منكم بالاستفادة من ربيع الرحمة الإلهية هذا و الدخول في ضيافة اللّه و الاستغفار من معاصي الجسم و معاصي الروح و معاصي الفكر و معاصي القلب. و المجتمع الذي ينال توبة اللّه و غفرانه، يصبح مجتمعا نيّرا ينزل عليه الباري تعالى - ببركة ذلك النور - وافر خيراته، مثلما أنزل على هذا الشعب و على هذا البلد خيراته و بركاته و لطفه على مدى الثماني عشرة أو التسع عشرة سنة التي مرّت على إنتصار الثورة، بفضل طهارة قلوبكم و طيب أرواحكم أنتم يا أبناء هذا الشعب، إذن يجب الدخول في ضيافة اللّه لأجل استنزال رحمته(1).

ص: 258


1- من كلمة ألقاها في: 3 رمضان 1418 ه - جامعة طهران.
التربية أمر مستمر

لا ينبغي حصر مسألة التربية في الأمر بالمعروف، نعم يجب علينا الأمر بالمعروف، فالأمر بالمعروف لا يتم بالرجاء، بل يجب إيجاد حركة تأمر الناس بالمعروف، و يجب تكرار الأمر، نعم لو أمرتم بشيء و تابعتموه، حينها لا يعتبر ذلك أمرا باللسان، بل يكون تكليفا آخرا، فلو كرر خمسة أو عشرة أشخاص تلك الكلمة الواحدة، فسيظهر أثرها، و لا داعي إلى إلحاق الأذى و تضييق الخناق على الآخرين؛ لأن الأمر بالمعروف عندها لا يترك أثره، و لا ينحصر الواجب في الأمر بالمعروف فإنه تكليف يجب القيام به و ضمانة لكثير من الأمور، لكن التربية أمر مستمر و ظريف و دقيق. و القصد من هذا الكلام هو الدقة التامة في الأساليب و في إنتخاب الأفراد؛ ليمكنكم القيام بهذا العمل العظيم و حمل هذا الثقل؛ و حينها يضمن المستقبل أصحاب العمل(1).

ص: 259


1- من كلمة ألقاها في: 27 رمضان 1415 ه
التزكية و الطهارة

يستشف من مجموع ما يتعلق بعيد الفطر و عيد الأضحى أن هذا اليوم الشريف يوم تزكية و طهارة؛ ففي إحدى السورتين اللتين تقرآن في صلاة العيد يقول تعالى:

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّٰى (1) الفلاح يراد به الموفقية في مضمار الحياة و بلوغ هدف الخلقة.

و يقول تعالى في السورة الثانية: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّٰاهٰا (2) و هي تشتمل على نفس المضمون، أي أن من يزكّي نفسه يكون قد بلغ الفلاح و النجاة. و كلا السورتين تتحدثان عن التزكية و الطهارة.

و الزكاة أيضا حق مالي يوجب تطهير الإنسان: خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهٰا وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاٰتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. (3)

و دفع هذه الصدقة المالية يطهّر الروح من الرذائل و اللؤم و الحرص و البخل و سائر القذارات.

عيد الفطر إذن يوم طهارة و تزكية.

و قد تكون هذه التزكية انطلاقا من صيامكم لمدّة شهر و ترويض أنفسكم و تنقيتها من الخبائث.

و قد يكون إضافة إلى ذلك بسبب حضوركم إلى ميدان العبادة هذا، و التوجه إلى اللّه بالعبادة الجماعية (صلاة العيد).

ص: 260


1- سورة الأعلى: 14.
2- سورة الشمس: 9.
3- سورة التوبة: 103.

و على كل حال يتبيّن من هذا أن المسلم يدخل من بعد شهر رمضان في يوم عيد الفطر إلى مضمار الطهارة و التزكية.

أنتم طهّرتم أنفسكم و زكّيتموها. و إذا كنتم قد صمتم كما ينبغي، و أديتم صلاة العيد بشكلها الصحيح عليكم أن تدركوا قدر تهذيب النفس و تطهير الروح.

و إن ما ينجي الإنسان هو هذه الطهارة، و ما يوقعه في المهالك هو الانغماس في المفاسد الأخلاقية و المفاسد الناتجة عن الشهوة و الغضب و الحرص و البخل و غيرها من الرذائل الأخلاقية. و لم يكدّر صفو العالم إلاّ مجموعة من بني الإنسان تحمل هذه الصفات القذرة، و لوّثوا وجه المعمورة و كفروا بأنعم اللّه تعالى.

في ظل الحكم الإسلامي - و هو نظام إلهي و قرآني - يتيسّر للناس توفير الطهارة الروحية أفضل مما في ظل النظم الاخرى، فاعرفوا قدر هذا.

عالم اليوم بحاجة لندائكم في التطهير و التزكية. أمّا هذا الظلم و القهر و التمييز الذي يجتاح العالم، و هذا الشقاء الذي يلف الإنسان في الكثير من البلدان، و هذا الضلال الذي يعيشه الشباب في البلدان المتقدمة، و هذه العلاقات الشاذّة بين الرجل و المرأة، و هذه الرذائل التي تثيرها الشهوات، و هذا الإنحطاط السياسي، و الرذائل التي تقترف على الصعيد المالي، كلها إفرازات لعدم سعي الناس نحو تطهير و تزكية أنفسهم.

إنّ القرآن ينادي بالتزكية، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دأب على تطهير بني الإنسان عبر الصلاة، و عن طريق الزكاة، و بالصوم و بعيد الفطر. و هذه الفرصة متاحة أمام الجميع في ظل حكم الإسلام أو انتشار الإسلام.

أيّها الفتيان و الفتيات يا من تمرون اليوم في مرحلة التهذيب و نورانية القلوب و النفوس، يجب أن تكونوا أكثر من غيركم إدراكا لأهمية هذه الطهارة، و أن تصونوها و بلدكم سيكون بلدا حرا و عامرا بفضل اللّه تعالى و بفعل هذا التهذيب الروحي، و سيطوي مراحل نموّه و تزول منه معالم الدمار و الفقر و التمييز و الشقاء و غيرها من الظروف العصيبة.

ص: 261

يتعين على الجميع السير إلى اللّه، و أن يرفعوا أيديهم بالدعاء و يستعينوا به و أن يسعوا إلى تطهير أذيالهم و تجنّب الرذائل.

فالعاملون في الحقل المالي معرضون لمخاطر الوقوع في الرذائل المالية، و العاملون في النشاطات السياسية و الاجتماعية مهددون بمخاطر رذائل من نمط آخر، و الذين يستحوذ عليهم الشهوات يخشى عليهم الإنحراف في مهاوي الرذائل الجنسية و الشهوية، و الذين في مقام الرئاسة معرضون لرذائل الظلم و الجور، و الذين يؤتمنون على الأعمال عرضة لمخاطر الوقوع في الخيانة.

إذن فالجميع مطالبون بالحذر، و الكلّ مكلفون بمراقبة سلوكهم، و هذه الرقابة هي المعروفة بالتقوى التي امرنا في صلاة عيد الفطر بأن نوصي بها أنفسنا و مستمعينا(1).

ص: 262


1- من كلمة ألقاها في: 1 شوال 1417 ه
التزكية و التربية

إن الصلاح الأخلاقي و السلوكي يزكي الناس و يطهرهم من رذائل الأخلاق و أدرانها، و يصنع إنسانا خلوقا زاكيا كما قال سبحانه و تعالى: وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحِكْمَةَ (1)، فالتزكية هي إحدى المرتكزات الأساسية التي كان يستند إليها النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله في عمله التربوي مع أبناء الامة فردا فردا لبناء الإنسان(2).

لو اقترن الفضل الإلهي بتوفيق الاستفادة الحقيقية من هذه الضيافة الإلهية و الانتفاع من مائدة الإنعام و الإحسان الإلهي، فإنه لا يمكننا القيام بشكر اللّه تعالى حق شكره حتى و إن بقينا نشكره على هذه النعمة إلى آخر إعمارنا.

لقد خلق الباري تعالى الإنسان بشكل يحتاج معه إلى أن يربّى من الخارج و يربّي ذاته من الداخل(3).

التزكية و العلم

جاء في الحديث الشريف: «الناس ثلاثة: عالم رباني، و متعلم على سبيل نجاة، و همج رعاع»(4)، الأمر الذي يؤكد أنّ الإسلام يعطي القيمة بالدرجة الأولى الى العلم تعلما و تعليما.. و من هنا عليكم أن تدركوا أيها الأعزة أنّ خوضكم في ميادين المعرفة

ص: 263


1- سورة آل عمران: 164.
2- من كلمة ألقاها في: 24 صفر 1422 ه - طهران.
3- من كلمة ألقاها في: 3 رمضان 1418 ه - جامعة طهران.
4- نهج البلاغة: 35/4.

و العلم سواء أ كان من العلوم الإنسانية أم القرآنية أم الطبيعية أم غيرها، و الغور في مجال التحقيق العلمي، لا ينبغي أن يصدكم عن التقدم في ميادين المعرفة الدينية و ممارسة الأخلاق و اكتساب الفضائل بل عليكم أن تجمعوا بينهما، و هذا هو الذي أشار إليه قوله تعالى: وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحِكْمَةَ (1).

و عليه فإن التعليم توأم التزكية، و لا يفترق أحدهما عن الآخر، و إنّ الاعتقاد بأنّ من يلج ميدان العلم عليه الخروج تلقائيا من ميادين الفضيلة و الأخلاق اعتقادا خاطئ تمّ استيراده من الأجواء التي سادت أوروبا المسيحية في العصور الوسطى، و هي أجواء مختلفة تماما عن مناخ التعاليم الاسلامية و أجنبية عنها؛ إذ أنّ العالم الذي ينعم بالفضيلة و الأخلاق أيا كان مجال اختصاصه سيعمل على رقي النوع الإنساني و إعلاء شأن بلاده، و يجعل من الأهداف أهدافا قيّمة، و تنتهي جهوده لصالح الإنسانية و العدالة و الفضيلة، و الحيلولة دون الشرور المحدقة بالعالم المعاصر، فعليكم أن تكونوا من صنف هؤلاء العلماء في المستقبل، و ما عليكم إلاّ أن تعدوا العدة لذلك، و أن تطووا المقدمات الكثيرة للوصول الى ذلك الهدف.(2).

ص: 264


1- سورة آل عمران: 164.
2- من كلمة ألقاها في: طهران، 1383/7/5 ه. ش.

الدعاء و آثاره

تعريف الدعاء

الدعاء هو ارتباط الإنسان باللّه، الدعاء هو بمعنى النداء و ليس بمعنى الطلب، نعم قد يكون معه الطلب لكن هو ليس بمعنى الطلب، فالمناجاة أيضا دعاء، فالدعاء يعني أن ينادي و يناجي و يكلّم الإنسان ربّه، فقد قال اللّه سبحانه و تعالى في الآية الشريفة اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (1)، فعند ما تقول: «يا اللّه» فهذا دعاء، فيعقبه «لبيك» من الباري تعالى، فالدعاء شيء قيّم جدّا، و إنّني أعتقد أنّ الشعوب الإسلامية اليوم بحاجة مضاعفة الى الدعاء، لقد كان الدعاء في يوم ما وسيلة للإنشغال فقط، فقد كانوا يذيعون الأدعية في الإذاعات أيام شهر رمضان، فكان الدعاء هيكلا بلا روح و معنى، و كان لا شيء، و إن كان بصوت جميل يهيّج الإنسان قليلا و لا غير، و هذا ليس دعاءا.

إنّ الدعاء هو الارتباط باللّه تعالى، فإن كان المحيط معنويا و فيه الصالحون الذين يأنسون بمخاطبة اللّه - كعصرنا الحاضر في الجمهورية الإسلامية - كان للأدعية في الإذاعة فائدة و تأثير، لأنّ القلوب مستعدّة، و الأرواح مأنوسة باللّه هنا، فهنا للدعاء قيمة كبيرة و فيه حاجة ماسّة.

ص: 265


1- سورة غافر: 60.
أهمية الدعاء

قال اللّه تعالى في محكم كتابه قُلْ مٰا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لاٰ دُعٰاؤُكُمْ (1).

لقد بني الأمر و الإرادة الإلهية في شهر رمضان على أن يتحرك الإنسان المؤمن بكل استعداده و طاقته و يسعى بكلّ سرعة الى الكمال و التهذيب و السمو و العروج، و القضية هكذا، إنّ الهدف من شهر رمضان هو أن تعطى للإنسان المؤمن فرصة لتطهير نفسه و لتصفية باطنه.

فالإنسان مبتلى بالسهو و النسيان و الغفلة و المشاكل، يرتكب الذنوب و يبتعد عن اللّه و عن الهدف من خلقه، فيلزم إعطاؤه فرصة ليجبر النواقص و ما فاته، و شهر رمضان أفضل فرصة لهذا الأمر.

طبعا إنّ ليالي الجمعة و يوم عرفة و كذا ليلة النصف من شعبان و يوم الغدير هي أيضا فرص لذلك، بيد أنّه لا فرصة كشهر رمضان المبارك، فكلّ ساعة في الثلاثين يوما ليلا و نهارا فرصة مستقلّة يمكن للإنسان فيها التزوّد من الفيوضات الإلهية في هذا الشهر الى أقصى درجة ممكنة، و هذه فرصة جيّدة لمن ينوي العروج المعنوي و السير نحو الكمال و الخلاص من المادّيات و بلوغ المقام المعنوي، فيجب عليه أن يقطع هذا الطريق بهمّته و إرادته.

طبعا هي تمرّ أيضا كالبرق، فاليوم هو اليوم الأوّل، فإن بقينا أحياء، نلاحظ بعد فترة قصيرة إننا في نهاية الشهر، فتطوى هذه الصفحة الى العام القادم، إنّني كنت اوصي الاخوة دائما بقراءة دعاء الوداع لشهر رمضان في بداية الشهر و لو لمرة واحدة، لأنّه عند ما نقرأ هذا الدعاء بخشوع و أنين في آخر ليلة من شهر رمضان المليء بالفضائل

ص: 266


1- سورة الفرقان: 77.

و الحسنات، فقد انتهت الفرصة فينبغي على المؤمنين قراءة هذا الدعاء في بداية الشهر ليعرفوا قيمة هذه الفرصة(1).

لا يتصوّر أحد بأنّ الدعاء و التوسّل ليس له دور في حياة شعب يمرّ بمرحلة إعمار بلاده، بل أقول إنّه لا بدّ لشعب أمامه طريق شاق و طويل و يهدف الى إنجاز عمل عظيم أن يفتح لنفسه بابا واسعا للدعاء و التضرّع و طلب العون من اللّه تعالى الى جانب العمل الجاد و السعي الحثيث.

و لهذا نرى النبي الأكرم (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و الأئمة المعصومين عليهم السّلام كانوا يمدّون يد التوسّل و الدعاء و يلتجئون الى اللّه سبحانه و تعالى في الحروب و في ساحات الخطر و عند القيام بالأعمال الكبيرة و عند إتخاذ المواقف المهمة. فهل بإمكان أحد أن يقول بأنّ النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و المسلمين في الصدر الأول لم يبذلوا الجهود المضنية من أجل أداء مسؤولياتهم؟ و هل توجد مساع و جهود أكبر من المساعي و الجهود التي بذلها اولئك المؤمنون؟ فالعشر سنوات التي تولّى فيها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم زمام الامور في المجتمع الإسلامي كانت مليئة بالجهود الجادّة و المساعي الحثيثة.

و إلى جانب تلك الجهود و المساعي التي كان يبذلها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المسلمون، كان للدعاء و التوسّل و الاستغفار و الإنابة مكانة خاصّة في حياتهم.

إذن فالسبيل الوحيد الذي تستطيع الامة من خلاله تحقيق النجاح في حياتها هو تعزيز و توطيد العلاقة مع اللّه سبحانه و تعالى.

فإذا أرادت الامّة إنجاز الأعمال الكبيرة لا بدّ لها من طلب العون و المدد من اللّه، و إذا ما أرادت إزالة الخوف من الأعداء فيجب عليها أن لا تخشى أحدا إلاّ اللّه؛ لأنّ مصائب الشعوب ناشئة - كما تعرفون - من خشيتها و خوفها من القوى الإستكبارية

ص: 267


1- من كلمة ألقاها في: 1 رمضان 1414 ه

و الأشقياء و قطّاع الطرق الدوليين، و الامّة تبدأ بالسقوط في منزلق الذلّة و الهوان عند ما يتسرّب الخوف إلى قلبها من أصحاب القوة و الأشقياء في العالم.

و هذا الأمر لا يقتصر على أبناء الامّة فحسب، بل إذا تسرّب الخوف من القوى الكبرى إلى قلوب مسؤوليها و أولياء الامور فيها، فسوف تكبّل أيديهم و أرجلهم و لا يستطيعون القيام بأيّ تحرّك من أجل خدمة شعوبهم. و السبيل الوحيد لتقدّم أيّ شعب و تمكينه من الاستغلال الصحيح لقابلياته و طاقاته الذاتية ينحصر في عدم خوفه و خشيته من القوى الطاغوتية و قطاع الطرق الدوليين.

و لكي لا يخشى الإنسان من القوى الكبرى يجب عليه تركيز الخوف من اللّه تبارك و تعالى في نفسه. فالقلب المليء بالخوف من اللّه و العامر بحبّ اللّه عزّ و جلّ لا يتسرّب إليه الخوف و الرعب من أيّة قوّة في العالم مهما تعاظمت: «من خاف اللّه أخاف اللّه منه كل شيء و من لم يخف اللّه أخافه اللّه من كل شي»(1).

و هذه هي الفائدة الحقيقية المترتّبة على الدعاء و التوسّل إلى اللّه.

و السرّ الكبير في نجاح إمامنا الراحل (رض) الذي وقف كالجبل الشامخ بوجه القوى الكبرى - كما كنتم ترون - يتمثّل في علاقته الوطيدة مع اللّه سبحانه و تعالى.

فيجب على الشباب أن لا يسمحوا للخوف من القوى الكبرى أن يتسلّل إلى قلوبهم، و أن لا ينبهروا بالمظاهر التي تمتلكها تلك القوى.

و هذا لا يتحقّق إلاّ عن طريق الانس مع اللّه و الدعاء و التضرّع و التوسّل إليه تبارك و تعالى(2).

ص: 268


1- أصول الكافي: 68/2 ح 3.
2- من كلمة ألقاها في 7 ذي الحجة 1414 ه
الحاجة للدعاء

أما سبب وجوب الدعاء علينا، فهو للشكر أوّلا، و لطلب الهداية الإلهية في المستقبل ثانيا، و للصبر على المصائب و ما سيحلّ بنا ثالثا.

فلكلّ هذه الامور نحن بحاجة الى الدعاء و الارتباط باللّه، و هذا إجمال الكلام حول الدعاء(1).

الدعاء تحدّث الى اللّه تعالى

إنّ الإحساس بالقرب من اللّه و بث هموم القلب بحضرته، و رجائه و تمجيده و تحميده، و التودد إليه، هو من معاني الدعاء.

إنّ الدعاء هو أحد أهم العبادات للفرد المؤمن و الإنسان الراغب في الصلاح و الفلاح و النجاة، و هذا من الأدوار الأساسية للدعاء في تطهير الروح(2).

ص: 269


1- من كلمة ألقاها في: 1 رمضان 1414 ه
2- من كلمة ألقاها في 1 /شهر رمضان المبارك/ 1426 ه - طهران.

ص: 270

أبعاد الدعاء
اشارة

إنّ للدعاء ثلاثة أبعاد، و لكلّ بعد أهمّيته الخاصة:

البعد الأول: الدعاء علة ضمن قانون العلية

الدعاء لعرض الطلب و الرغبة على اللّه، كأن يغفر الذنوب، و يمدّ في العمر، و طلب السلامة، و شفاء المريض، و سلامة المسافر، و رفع المشاكل، و طلب المال، و قضاء حوائج الدنيا، و ما يطلب في الدعاء عادة، و هذا بعد مهمّ من أبعاد الدعاء.

و الباري تعالى وعد بالإجابة إن كان الدعاء و الطلب حقيقيا لا لقلقة لسان و لا يتعارض مع مصلحة أخرى، كأن يكون في طلب شيء نفع لك و ضرر على غيرك، فيدعو هو و تدعو أنت أيضا، فلا يمكن القول أن يستجاب دعاؤك دون دعائه، و طبقا للمثل المعروف فإن صانع الفخّار يدعو لعدم هطول الأمطار خوفا على سلامة الفخار الموضوع في الشمس، و الفلاّح يدعو لهطول الأمطار لإنقاذ الزراعة من الجفاف، فالطلب واحد لكن الدعاءين متناقضان، فيمكن استجابة دعاء أحدهما دون الآخر.

فإن دعا أحدكم ربّه و لم يستجب دعائه، فلا يتصوّر أنّ اللّه سبحانه و تعالى لا يعتني بدعائه، كلا، بل لكلّ دعاء مقتضى في الإجابة كما ورد في الحديث الشريف: «و دعوة

ص: 271

من ناجاك مستجابة، و عداتك لعبادك منجّزة»(1) فالطلب من اللّه مستجاب لا محالة.

و من الوعود الإلهية قوله تعالى: اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (2)، فالجواب لا يكون بالنفي، و لا معنى أن تكون الاستجابة بالنفي بأن يقول «لا اعطيك ما تريد» بل تكون بالإيجاب أي «اعطيك ما تريد».

فالدعاء على هذا الأساس هو أحد أسباب الخلقة و هو علة في سلسلة العلل و العوامل، فلا يتصور أحد أنّ الدعاء نقض لسلسلة العلة و المعلول و نقض لقانون العلّية في الخلق، كلا، بل الدعاء في نفسه علّة، فمن أوجد قانون الجاذبية الأرضية بحيث ينجذب الجسم الصغير الى ما هو أكبر منه - كسقوط جسم الى الأرض - فكلّ جسم في هذا الكون ينجذب نحو الجسم الأكبر منه. إنّ الكواكب في المنظومة الشمسية تدور حول كوكب أكبر أي الشمس، فهذا قانون جعله الخالق، فالذي جعل قانون الجاذبية الأرضية و قانون الذرة، و القوانين المختلفة المرتبطة بالحياة المادّية.

كذلك جعل قانون اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ في سلسلة العلل و العوامل، طبعا بشروطها، و في مقدّمة الشروط أن يكون الدعاء واقعيا و حقيقيا و نابعا من القلب.

تأمّلوا في الروايات، تلاحظوا الكثير من الروايات في هذا الباب و هو طلب الامور الصغيرة من اللّه، فقد ورد في الحديث «اتقوا اللّه و أجملوا في الطلب»(3) فلا فرق عند اللّه تعالى بين القليل و الكثير، فإن طلبتم مائة شيء فاطلبوا الواحد بعد المائة و هكذا، و اطلبوا الأشياء الكبيرة من اللّه تعالى أيضا.

و قد ورد في الصحيفة السجادية في باب دعاء السحر: «إلهي طموح الآمال قد خابت إلاّ إليك، و معاكف الهمم قد تعطّلت إلاّ عليك»(4) فكلّ ما طلبتم فهو قليل،

ص: 272


1- مصباح المتهجد: 739 ح 830.
2- سورة غافر: 60.
3- أصول الكافي: 74/2 ح 2.
4- مستدرك الوسائل: 41/13 باب استحباب الدعاء في طلب الرزق.

فاطلبوا الأكثر لدنياكم و آخرتكم، طبعا لا تتوقّعوا الإجابة، فدعاؤكم بمقتضى الاستجابة لا العلة التامة للاستجابة، فمن الممكن وجود مصلحة معارضة فلا يستجاب دعاؤكم، فقد يكون ما لا يستجاب خيّرا لنا مما يستجاب كما ورد في دعاء الافتتاح «و لعلّ الذي أبطأ عنّي هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور»(1) فنحن لا نعلم بالخير و الشرّ، بل اللّه سبحانه و تعالى يعلم ذلك، فيعمل ما هو خير لنا و لو كان خلافا لدعائنا.

ص: 273


1- مصباح المتهجد: 573.
البعد الثاني الدعاء بحر من المعارف

و هو بعد المعرفة، أي أنّ الأدعية المأثورة عن الأئمة هي بحر من المعارف الإسلامية، فلا شيء يحوي من المعارف أكثر مما في الأدعية، و هذه نتيجة استنتاجي الإجمالي من الأدعية، طبعا من رغب في الوصول الى النتيجة القطعية فعليه أن يتتبّع كلّ رواية على حدة، و لكني احتمل أنه لو جمعت كلّ الروايات حول المعارف فإنّها لا تكون بمقدار المعارف الواردة في الأدعية، فالمعارف الإسلامية في أدعية الصحيفة السجادية و دعاء أبي حمزة الثمالي و المناجات المتعددة المأثورة عن الأئمة، و المناجاة الشعبانية، و دعاء كميل... كثيرة جدّا، و خصوصا في الصحيفة السجادية، إنّ كلّ دعاء فيها هو كتاب للمعارف الإلهية في الموضوعات المختلفة.

ففهم الأدعية يجعل الإنسان على معرفة بالإسلام و بالمعارف الإسلامية و يبعده عن الخرافات، فأهل الخرافة غالبا هم اناس بعيدون عن الأدعية و المعارف الحقيقية، فالتأمّل و التدبّر في الأدعية يرشدنا الى ما يجب الإعتقاد و الإيمان به و ما يجب ردّه.

ص: 274

البعد الثالث الدعاء هدف لا وسيلة
اشارة

العلاقة و الارتباط باللّه، فيجب على كلّ إنسان الإحساس بهذا، و في هذه الحالة يكون الدعاء هدفا لا وسيلة، و بهذه النظرة يكون الدعاء هو العلقة نفسها، و هو نفس الاحساس الذي نحتاجه، و هذا الاحساس يحصل بالدعاء و هو لازم و ثمين جدا، إنّ جميع الأشياء في الدنيا مرتبطة بالذات الربوبية المقدّسة، و الإنسان كذلك باعتباره أشرف المخلوقات وجوده مرتبط بالذات الإلهية المقدّسة، و هذا الاحساس يعطي للإنسان حالة من المعنوية و العروج و السلوك، و هذه أعظم فوائد الدعاء.

و هذا ما يستفاد من الأدعية المأثورة عن المعصومين و كيف أنّ الأئمة عليهم السّلام كانوا يناجون ربّهم و ينسون أنفسهم، و قد لحقت بالبشرية اليوم خسائر عظمى جرّاء عدم الإحساس هذا، طبعا هذه الخسائر في مجتمعنا أقلّ؛ لأنّ الناس هنا يحسبون أنفسهم مرتبطين باللّه و عبيدا له، فكلّما زاد هذا الاحساس عندهم كلّما حالفهم التوفيق أكثر، و كلّما قلّ كلّما قلّت نسبة التوفيق و النجاح في المجتمع، فلا تتصوّروا أنّ النجاح هو في صنع القنبلة الذرية، إنّ هذا ليس نجاحا، إنّ التقدّم العلمي سيف ذو حدّين، فقد يكون نجاحا و قد يكون خسرانا، و اليوم أصبح العلم وسيلة خسران و هلاك للمجتمع الغربي المنحرف.

أثر الإرتباط بالله تعالى

ما ذا يريد الإنسان من الحياة ليكون سعيدا و مرتاح البال؟ هو بحاجة الى الأمن و المحبة و الراحة، و هل هذه الأمور موجودة اليوم في العالم؟، و هل هناك أمن و محبّة

ص: 275

و راحة في عالم العلم اليوم؟، و هل لدى رئيسهم و وزيرهم و وكيلهم و أصحاب الشركات هذه الامور؟ أم انّهم يحترقون في جهنم الحرص و الطمع و التجبّر و الاعتداء المسعور؟. فلا تتصوّروا أنّ السعادة هي في العلم، و إلاّ لما سمعتم أنّ امرءا و زوجته في تلك الدولة يهجران المدينة و يعيشان وسط الغابات و هما سعيدان لما يشهدانه من تحول المجتمع الى جهنّم من المصائب و الآلام.

ص: 276

الدعاء ارتباط بمركز القدرة
اشارة

من يشعر بالارتباط باللّه فهو سعيد؛ لأنّ عمدة مصائب الإنسان إمّا من الإحساس باليأس و الذلّ و الوحدة و الضعف، و إمّا من الطغيان.

1 - الإرتباط يزيل الإحساس باليأس:

إنّ شقاء و تعاسة أكثر الشعوب و الأمم و المجتمعات و الأفراد هي من العجز و الضعف و عدم وجود الناصر و المعين و الوحدة و الغربة المطلقتين.

فارتباط الإنسان باللّه تعالى معناه الارتباط بمركز القدرة و العلم، فهو ليس وحيدا إن كان اللّه معه «يا عون من لا عون له، يا رجاء من لا رجاء له»(1).

فلو كنتم في قلب العدو لكنكم تؤمنون بوجود وسيلة عندكم يمكنكم الارتباط و الاتصال بها في لحظة واحدة فتحميكم من العدو، فهل تشعرون في هذه الحالة بالخوف و الضغط عليكم، و هذا إحساس من يعتقد و يرتبط باللّه، و قد جرّبنا ذلك في سجون الطاغوت، فقد كان معنا سجناء شيوعيون أو سجناء لم يؤمنوا بشيء أبدا، لقد يئسوا و أصبحت الحياة عندهم مرّة و اصيبوا بأنواع الأمراض الروحية، و أمّا المؤمنون من السجناء فلم يكونوا هكذا، إنّني كنت أتألّم لهؤلاء المساكين، إنّنا عند ما تضيق صدورنا، عند ما نخاف فنتكلّم مع اللّه، لكن من لا يملك الإيمان فهو شقيّ و تعيس.

ص: 277


1- مدينة المعاجز: 54/2.
2 - الإرتباط يمنع من الطغيان:

و العامل الثاني هو الطغيان و الإستكبار، إنّ الارتباط باللّه يمنع الإنسان من الطغيان و الإستكبار، و من يرتبط باللّه و إن كان قويّا و يشعر بالقوة لكن يعلم أنّ هذه القوة ليست من ذاته، بل من اللّه تعالى.

فالإستكبار و الطغيان و الغنى عن اللّه سببها عدم ارتباط الإنسان باللّه، و تصوّر الإنسان أنّ القوة الظاهرية منه، و الثروة الظاهرية ملكه، و لا يتصوّر أنه يمكن أن تزول في لحظة واحدة.

فإن دعا الإنسان ربّه و شعر بالارتباط، فلا يصاب بالضعف و الانكسار، و لا بالطغيان و الإستكبار، فببركة الدعاء يمكن بناء مجتمع مؤمن متكامل مرتبط باللّه تعالى. فلا تغفلوا عن أدعية شهر رمضان، اقرؤا دعاء أبي حمزة و دعاء الافتتاح و أدعية الأيام التي لها مضامين عالية و بقية الأدعية في ليالي القدر، و ادعو اللّه بغير هذه الأدعية المأثورة و في كلّ مكان، في الطريق، و في العمل، و اطلبوا من اللّه التوفيق و العون و الهداية و النورانية القلبية أكثر من كلّ شيء.

نسألك اللّهم و ندعوك باسمك العظيم الأعظم الأعزّ الأجلّ الأكرم يا اللّه، يا رحمن يا رحيم، يا مقلّب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك...

اللّهم اهدنا بحقّ محمّد و آل محمد، و تفضّل علينا بخيراتك و بركاتك.

اللّهم نوّر قلوبنا بحقّ محمّد و آله محمد و اهدنا و أعنّا على المضيّ في صراطك المستقيم، و اجعلنا شاكرين للإسلام(1).

ص: 278


1- من كلمة ألقاها في: 1 رمضان 1414 ه
معطيات و فوائد الدعاء
اشارة

عند ما نناجي الباري عزّ و جلّ، و نشعر بوجوده قربنا، و نعتقد أنّه مخاطبنا و يستمع لكلامنا، هذه المعطيات هي من جملة فوائد و عوائد الدعاء(1).

إن كلّ الأدعية سواء الأدعية المأثورة عن المعصومين، أو غيرها من الأدعية الّتي يطلب فيها الإنسان قضاء حاجته من اللّه تبارك و تعالى، لا تخلو من فائدة أبدا، و هناك من الأدعية ما تتوفّر على أكثر من فائدة و هذه الفوائد في غاية الأهمّية:

1 - الطلب و التضرع من اللّه تعالى لا إلى غيره
اشارة

الغرض من الدعاء و هو الطلب من اللّه تعالى، فلدينا حاجات كثيرة، بل إنّ كياننا برمّته محتاج و فقير، و لو أمعنّا النظر في وجودنا لرأينا أنّ وجودنا كلّه فقر، من أعلى رأسنا إلى أخمص قدمينا، بدءا بالتنفّس و الأكل، المشي، الاستماع و النظر، و إلى غير ذلك ممّا نحتاج إليه.

أودع اللّه تعالى فينا مجموعة من القوى و الإمكانيات لنستطيع من خلالها أن نعيش، و جميع هذه القوى و الإمكانات تحت إرادة اللّه و مشيئته. فإذا اختلّت إحدى هذه القوى، فسيواجه الإنسان مشكلة أساسيّة في حياته.

مثلا لو توقّف وعاء دموي في جسم الإنسان عن العمل، أو اختلّ عمل مجموعة

ص: 279


1- من كلمة ألقاها في 1 /شهر رمضان المبارك/ 1426 ه - طهران.

خلايا عصبيّة، أو عضلة من العضلات، أو غيرها من المشاكل الّتي تطرأ على الإنسان من الخارج، أو المشاكل الروحيّة أو الإجتماعيّة. إذن الإنسان وجود محتاج و فقير، فممّن نسأل و ممّن نطلب لسدّ حوائجنا هذه و رفع المشاكل الّتي تواجهنا؟

نطلب كلّ ذلك من اللّه المتعال الّذي يعلم حاجاتنا وَ سْئَلُوا اَللّٰهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (1) و قال تعالى: وَ قٰالَ رَبُّكُمُ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (2).

بقي أن نقول إنّ الاستجابة لا تعني قضاء الحاجة، فهناك شروط كثيرة بالإضافة إلى الحاجة الّتي طلبها الإنسان، كلّها تدخل ضمن الاستجابة.

إذا النقطة الاولى هي: أنّ للإنسان إحتياجاته و لقضاء هذه الإحتياجات لا بدّ من الدعاء و الطلب من اللّه، و قرع بابه تعالى؛ ليستغني الإنسان من التضرّع إلى الآخرين.

ص: 280


1- سورة النساء: 32.
2- سورة غافر: 60.
دور الدعاء الإعجازي

و في الأحاديث الشريفة عن أئمتنا عليهم السّلام ما يرشد لذلك نذكر بعضها:

الحديث الأوّل: «أفضل العبادة الدعاء»، و الحديث الآخر للنبي جاء فيه: «أ لا أدلّكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم و يدرّ أرزاقكم، قالوا: بلى يا رسول اللّه.

قال صلّى اللّه عليه و آله: تدعون ربّكم باللّيل و النهار فإن سلاح المؤمن الدعاء»(1).

إذن لقضاء الحاجات لا بدّ من التسلّح بسلاح الدعاء، كما أنّه لا بدّ من التسلّح به لمواجهة الأعداء و الحوادث و الابتلاءات.

و هناك رواية اخرى عن الإمام السجّاد عليه السّلام يقول: «الدعاء يدفع البلاء النازل و ما لم ينزل»(2).

و هذه مسألة مهمّة جدّا و هي أنّ اللّه تعالى أعطى الإنسان سببا يمكن من خلاله أن يقضي جميع حاجاته و يحصل على كلّ ما يريد؛ إلاّ في الموارد المستثناة و الّتي ساشير إليها بعد قليل.

و في رواية عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «ثمّ جعل في يدك مفاتيح خزائنه بما أذن فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمه (خزائنه)(3)»، و هذا أمر عظيم و مهمّ جدّا، فلما ذا يحرم الإنسان نفسه من هذا السبب و الّذي هو على غاية الأهمّية و الخطورة؟

ص: 281


1- الكافي: 468/2 ح 3، و جواهر الكلام: 131/12.
2- الكافي 469/2 ح 5.
3- نهج البلاغة: 48/3.
2 - الدعاء هو لتوفير الأسباب المادية

و هنا تواجهنا عدّة أسئلة، منها: إذا كان للدعاء مثل هذا الدور الإعجازي، فما الّذي يعنيه وجود هذه الأسباب المادّية و الوسائل و الأدوات و العلم و الصناعة؟

الجواب: هو أنّ الدعاء ليس من قبيل الأدوات و الأسباب المادّية، و لا من سنخها.

و لا يعني أنّ الإنسان إذا رغب في السفر مثلا فعليه أن يذهب إمّا بالقطار أو بالقطار أو بالطائرة أو بالدعاء، و لا يعني أنّه إذا أراد أن يحصل على شيء فإمّا أن يحصل عليه أزاء مبلغ من المال أو بالدعاء. ليس هذا و لا ذاك، الدعاء معناه أن يطلب الإنسان من ربّه أن يوفّر له هذه الأسباب المادّية، إنّ المقصود من الدعاء هذا المعنى:

فمثلا قد يكون هناك شخص مدين لك بمبلغ من المال، لكنّه يأبى أن يسدّد لك هذا الدين، و في ليلة و ضحاها يلقى في روعه أن يأتي و يدفع لك أموالك، إذا هناك سبب أدّى بهذا الإنسان أن يغيّر موقفه، و ما المانع من أن يكون السبب في ذلك هو الدعاء، أي أنّ الدعاء هو الّذي جعله يدفع لك أموالك. و كلّ الأسباب و العلل الموجودة في العالم هي من هذا النوع.

إذا ينبغي أن لا يكون الدعاء ذريعة و مدعاة للكسل، أو أن يهمل الإنسان العلم و الأسباب المادّية و قانون العلّية، فالدعاء ليس في عرض هذه الامور و إنّما هو في طولها.

و غالبا ما تكون مهمة الدعاء هي توفير كلّ هذه الامور.

و أمّا بالنسبة للمعجزة و الّتي قد تحدث في بعض المرّات، فلها موضوعها المستقل، و هو من موارد الإستثناء، و في غير موارد الإستثناء فإن مهمة الدعاء كما أشرنا هي تهيئة و إعداد الأسباب و المستلزمات الّتي لا بدّ من وجودها في الحالات

ص: 282

الاعتيادية.

فعند ما يطلب أحدكم من اللّه أن يتمّ العمل الفلاني مثلا، و الّذي أنتم بحاجة إليه، فلا بدّ و أن تكونوا قد استنقذتم قواكم لتحقيقه إلى جانب الدعاء.

و إذا أحسستم بالكسل فعليكم أن تدعو اللّه تعالى أن يطرد عنكم هذا الكسل، و لكي يطرد عنكم الكسل لا بدّ لكم من إرادة و عزم و إصرار على تركه.

إذا هنا يوجد سبب طبيعي و مادّي آخر و هو العزم و الإرادة، و لا يتصوّر أحدكم أنّ اللّه تبارك و تعالى سوف يقضي حاجاتنا بمجرّد أن نجلس في بيوتنا و ندعوه تعالى من دون أن نحرّك ساكنا أو نقوم بشيء أو نصمّم على القيام بشيء، فهذا لا يمكن أن يكون أبدا.

إذا الدعاء يجب أن يكون إلى جانب العمل و مع العمل، و من هنا نجد أنّ كثيرا من الأعمال لا تكلّل بالنجاح، من دون الدعاء، فإذا ما دعا الإنسان تكلّلت جهوده بالنجاح و وفّق لما كان يطمح إليه(1).

ص: 283


1- من كلمة ألقاها بتاريخ 17 رمضان 1415 ه.
3 - إحياء ذكر اللّه تعالى في القلوب:

إحدى فوائد الدعاء هي: أولا: إحياء ذكر اللّه في القلوب، و إزالة الغفلة - التي هي أساس الانحراف و الفساد اللذين يعتريان حياة الإنسان - و تعويد الإنسان على الذكر و ترسيخه في قلبه.

إنّ أكبر الخسائر التي تحصل نتيجة ترك الدعاء هو زوال ذكر اللّه من القلب.

إنّ النسيان و الغفلة عن اللّه تعالى هو من أكبر خسائر البشر، و في القرآن الكريم ذكرت عدّة آيات في هذا الصدد، و فيها بحث مفصّل(1).

ص: 284


1- و قد تقدم الكلام عن الغفلة و أثرها.
4 - تقوية و ترسيخ الإيمان في قلب الإنسان:

لأنّ من خصوصيات الدعاء هو إقامة و تثبيت الإيمان في القلب.

إنّ الإيمان مهدد بخطر الزوال عند اصطدامه بأحداث العالم و مشاكله و مغرياته و ملذاته و الحالات المختلفة للإنسان.

لقد تعرّفنا على أشخاص مؤمنين، إلاّ أنّهم فقدوا إيمانهم عند ما امتحنوا بالأموال و السلطة و الشهوات الجسدية و القلبية، إنّ مثل هذا الإيمان مزلزل و غير ثابت.

إنّ من خصوصيات الدعاء ترسيخ الإيمان و استقراره في قلب الإنسان؛ و من خلال الدعاء و استمراره، و التوجه لله تعالى يزول الخطر الذي يهدد الإيمان بالزوال.

5 - نفث روح الإخلاص في النفس

إنّ الحديث مع اللّه تعالى و القرب منه يعمّق في الإنسان روح الاخلاص، و الإخلاص: هو العمل لله بنية خالصة، إنّ جميع الأعمال يمكن أن تنوى لله تعالى.

إنّ بعض المؤمنين يقومون بتأدية جميع أعمالهم الحياتية اليومية مع نية التقرب لله تعالى، و بعضهم لا يستطيعون أن يؤدوا حتى أهم الأعمال العبادية - كالصلاة - قربة لله تعالى.

إنّ عدم الاخلاص ثقل كبير على روح الإنسان، و الدعاء وظيفته أن يهب للإنسان روح الإخلاص.

ص: 285

6 - ترسيخ و تنمية الفضائل الأخلاقية في النفس

إنّ الإنسان من خلال الارتباط بالله تعالى و مناجاته، يقوّي الفضائل الأخلاقية في نفسه؛ أي أن الدعاء هو من الأمور التكوينية و الطبيعية للإستئناس بحضرة الباري تعالى، و بناء على ذلك، فإنّ الدعاء يعد سلّم عروج الإنسان نحو الكمالات.

و بالمقابل، فإنّ الدعاء يزيل الرذائل الأخلاقية من نفس الإنسان و يبعدها عن وجوده، فهو يبعد الإنسان عن البخل و التكبر و الأنانية و العداء لعباد اللّه و ضعف النفس و الجبن و الجزع.

7 - إيجاد المحبّة لله تعالى

و الدعاء يحيي العشق القلبي لله تعالى، و هو مظهر لجميع كمالات الباري تعالى.

الدعاء و الأنس و النجوى مع اللّه تعالى يخلق هذه المحبة في القلوب.

8 - بثّ روح الأمل في وجود الإنسان

إنّ الدعاء يعطي للإنسان قابلية التصدّي للتحديات التي يواجهها في الحياة، فإنّ كل إنسان لا بد أن يصطدم مع مشاكل الحياة، و يواجه بعض التحديات في حياته.

الدعاء يعطي للإنسان القوّة و القابلية، و يجعله قادرا على مواجهة المشاكل؛ و لهذا عبّر عن الدعاء في الرواية بأنّه سلاح، فقد نقل عن الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «أ لا أدلّكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم، تدعون ربّكم بالليل و النهار فإنّ سلاح

ص: 286

المؤمن الدعاء»(1).

إنّ الاستعانة بالله هو كالسلاح القاطع في يد الإنسان المؤمن؛ و لهذا فإن الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و آله مع ما كان يمارسه من أعمال في ساحة الحرب، كتجهيز الجيش، و تعديل الصفوف، و توفير الإمكانات اللازمة له؛ كان يسجد في وسط الميدان رافعا يديه بالدعاء و التضرع الشديد، يناجي اللّه عزّ و جل و يستمد منه العون.

إنّ هذا الارتباط بالله يبعث على القوة في قلب الإنسان.

9 - قضاء الحوائج

إنّ إحدى مكتسبات الدعاء هي قضاء الحوائج التي يطلبها الإنسان من الباري عزّ و جلّ.

إنّ قضاء الحوائج ليس هو الهدف الوحيد للدعاء؛ بل هو أحد فوائد الدعاء، يذكر الى جانب الفوائد الأخرى كما قال تعالى: وَ سْئَلُوا اَللّٰهَ مِنْ فَضْلِهِ (2)، التي تظهر نتيجته في دعاء أبو حمزة الثمالي المنقول عن الإمام السجاد عليه السّلام حيث قال فيه:

(و ليس من صفاتك يا سيّدي أن تأمر بالسؤال و تمنع العطيّة و أنت المنّان بالعطيّات على أهل مملكتك)(3).

عند ما يأمرنا اللّه تعالى أن ندعوه و نسأله قضاء الحوائج، فهذا يعني أنّه عازم على أن يعطينا ما نريد؛ و لهذا جاء في الرواية: «ما كان اللّه ليفتح لعبد الدعاء فيغلق عنه باب الإجابة و اللّه أكرم من ذلك»(4).(5).

ص: 287


1- الكافي: 468/2 ح 3، و جواهر الكلام: 131/12.
2- سورة النساء: 32.
3- مصباح المتهجد: 583.
4- ميزان الحكمة: 873/2 ح 1196 باب الدعاء مفتاح الاجابة.
5- من كلمة ألقاها في 1 /شهر رمضان المبارك/ 1426 ه - طهران.
10 - تعميق العلاقة مع اللّه تعالى

و أهم فوائد الدعاء هو تعميق العلاقة مع اللّه تعالى، و الشعور بالمحبة و العشق للتقرب من خالق الكون، و أنه يتكلم مع اللّه تعالى بلسان و اله يعبر عن قلب مفعم بالمحبة و العشق للّه عز و جلّ (1).

ص: 288


1- . من كلمة ألقاها في 1 /شهر رمضان المبارك/ 1426 ه - طهران.
أهداف الدعاء
الهدف من الدعاء

إن الهدف من الدعاء هو قضاء الحاجات. فلا تستعظموا أيّ حاجة، و لا تقولوا إنّ هذه الحاجة، أو هذا الأمر لا يمكن أن نطلبه من اللّه تعالى. بل أنّ كلّ شيء إذا لم يكن في تضاد مع السنن الحاكمة في العالم يمكن أن تطلبوه من اللّه تعالى مهما كان كبيرا.

ففي شهر رمضان عادة ما يدعى بهذا الدعاء بعد كلّ صلاة و هو «اللهمّ أدخل على أهل القبور السرور، اللهمّ أغن كل فقير»(1) هنا لم يقل أغن فقراء إيران أو فقراء الإسلام. و هذا ليس بالأمر المستحيل؛ لأنّ الفقر ليس أمرا ملازما بالضرورة للمجتمعات البشريّة، بل هو أمر مفروض على هذه المجتمعات. فإذا أمكن القضاء على العوامل المؤدّية للفقر كان من الممكن القضاء على الفقر نفسه.

و تقرأون في الدعاء أيضا «اللهمّ اشبع كلّ جائع اللهم اكس كلّ عريان»(2).

في هذا الدعاء نجد أنّ الإنسان يطلب من اللّه تعالى هذا الطلب العام و الشامل، كما تقرأون في الدعاء الخاص بسحر ليلة الجمعة و هو من الأدعية المستحبّة و الرائعة و القصيرة و الّتي اوصي بقراءتها، تقرأون «إلهي طموح الآمال قد خابت إلاّ لديك

ص: 289


1- المصباح: 617.
2- مستدرك الوسائل: 477/7 ح 14.

و عواكف الهمم قد تعطّلت إلاّ عليك»(1).

نعم يا إلهي قوافل الحاجات لا تقضى إلاّ إذا أناخت ببابك، اللّه سبحانه و تعالى لا يخاف من حاجات الإنسان مهما كانت كبيرة و عظيمة، فاسألوا اللّه تعالى عظائم الامور. و حذار من أن يتصوّر أحدكم أنّ هذا الشيء الّذي اريده لو طلبته لنفسي فإن الاستجابة ممكنة و لكن لو طلبت العافية مثلا لجميع الناس فهذا شيء عظيم كيف يمكن أن أطلب من اللّه مثل هذا الطلب.

أقول: اطلبوا ذلك للناس كافّة. و هناك من الامور الّتي ينبغي أن نسألها اللّه، كما في الدعاء «اللهم اصلح كلّ فاسد من امور المسلمين» فهنا الدعاء خاص لأهل الإسلام، و السبب في اقتصاره على المسلمين لأنّه لا يمكن أن يصلح اللّه تعالى جميع ما فسد من الامور من دون أن يكون الإسلام هو الحاكم، إذ أنّ شرط الإصلاح هو الإسلام.

و لا تتردّدوا في أن تطلبوا من اللّه الحوائج الصغيرة و الحقيرة. فقد ورد في الروايات: أن اسأل اللّه حتّى في شسع النعل.

و في الرواية عن الإمام الباقر عليه السّلام: «لا تحقروا صغيرا من حوائجكم فإن أحبّ المؤمنين إلى اللّه أسألهم»(2). فالإنسان يحتاج حتّى إلى شسع النعل و للحصول عليه لا بدّ من الدعاء.

إذا كلّ شيء مهما كان صغيرا إذا احتجتم إليه، يجب أن تتوجّهوا بقلوبكم إلى اللّه و تدعوه أن يوفّقكم للحصول عليه، و إن كان المال متوفرا لديكم ذلك لأنّ اللّه هو الّذي يعطي هذا الشيء لكم و من دون اللّه لا يمكنكم أن تحصلوا على أيّ شيء.

ص: 290


1- المصباح: 53.
2- ميزان الحكمة: 872/2 ح 1197 باب شرائط الاستجابة.
لماذا نسأل الحاجات الصغيرة

و السؤال المطروح هنا هو لماذا ينبغي لنا أن نسأل اللّه تعالى الحاجات الصغيرة؟

الجواب: لكي نتنبّه إلى إحتياجاتنا و عجزنا و فقرنا و حقارتنا. فلو أنّ اللّه تعالى لم يرزقنا القدرة و الفكر و الإبداع، و لم يوفّر لنا الأسباب فلن نستطيع الحصول على أيّ شيء حتّى شسع النعل، فمن الممكن أن تذهبوا لتشتروا ما ترغبون و في الطريق تسرق أموالكم أو تفتقد، تصادفكم حادثة في الطريق، و بالتالي ترجعون دون أن تشتروا شيئا.

أسألوا اللّه تعالى أقلّ الأشياء و أحقرها حتّى شسع النعل، و قوت اليوم، و حطّموا هذه «الأنا» ذات العظمة الكاذبة المتضخّمة في صدورنا، لنحطّم هذه النفس الّتي نتصوّر أنّها مصدر كلّ القوى، لقد كانت هذه «الأنا» سببا في شقاء و تعاسة الكثير من الناس.

إنّ بإمكان الإنسان الحصول على ما يريده بواسطة الدعاء.

و الآن لينظر كلّ واحد منكم إلى ما يحتاجه هو و ما يحتاجه المسلمون، و إخوته المؤمنون و المرضى و المعوّقون و ما تحتاجه البلاد الإسلامية. انظروا إلى ذوي القلوب الحرّى، إلى النّاس الّذين يعيشون حواليكم في دولتكم الإسلاميّة و في العالم الإسلامي و في الكرة الأرضيّة، فيدعو لجميع هؤلاء في ليالي القدر.

نموذج قرآني لحب الأنا

في أحد البحوث القرآنية الّتي أعددتها في وقت سابق أشرت إلى أنّ القرآن الكريم قد تحدّث عن تجربة موسى في موارد كثيرة.

فقصّة النبي موسى عليه السّلام من القصص المعبّرة و العجيبة و الحديث عنها

ص: 291

يبقى معبّرا و مجديا و لا يستنفذ أغراضه مهما طال و تشعّب. في هذه القصة توجد عدّة شخصيات من أصحاب النبي موسى عليه السّلام قد ارتدّت و انحرفت. منها:

السامري و قارون و غيرهم من الّذين امتنعوا عن الذهاب إلى الأرض المقدّسة، هؤلاء كانوا مصاديق بارزة للارتداد و الجبن...

و تعتبر قضية قارون من أكبر القضايا المريرة في حياة النبي موسى عليه السّلام لقد كان قارون من أقرباء موسى عليه السّلام و كان إسرائيليّا مؤمنا مريدا للنبي موسى عليه السّلام أوّلا، ثمّ صار مبغوضا، خبيثا، حلّت عليه اللّعنة الإلهيّة ثانيا. و قد خصّه القرآن الكريم بآيات عديدة، و هذا يبيّن مدى خبث و سوء سريرة هذا الرجل.

مشكلة قارون أن ردّ على نصيحة النبي موسى عليه السّلام: أُوتِيتُهُ عَلىٰ عِلْمٍ عِنْدِي (1) أي بذكاءي و بتدبيري، و لكن هنا أقول: ألم يكن اللّه سبحانه و تعالى هو الّذي رزقه المال، كما يرزق الإنسان الحياة و البنين، كم كان جاهلا هذا الإنسان؟ لماذا يعصي و يخطأ و يعجب بنفسه و يكثر من تريد «أنا و أنا».

ما هي ال (الأنا)؟ و ما قدرها؟ يقول اللّه تعالى في حديثه عن المجاهدين الّذين تصدّوا للأعداء و أوقعوا فيهم الهزيمة: وَ مٰا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ رَمىٰ (2) أي أنّ ما تملكه من قوّة و إرادة و دقّة في إصابة العدو كلّها من عند اللّه، و بعبارة اخرى كلّ ما عندك فهو من اللّه، و مع هذا كلّه أتطاول على هذه القوّة المالكة المدبّرة المحيطة، أتطاول على اللّه الّذي في قبضته كلّ شيء و أقول (أنا). هذه هي النقطة الأساس في فساد البشريّة، و هي مذمومة و باعثة على الفساد أينما وجدت.

فذاك الصهيوني الّذي يترأس إحدى الشركات المتعدّدة الجنسيات و يقول (أنا و أنا) و يتصوّر أنّه يدير العالم برمته، أو هتلر ذاك الإنسان الّذي أشعل فتيل الحرب، أو

ص: 292


1- سورة القصص: 78.
2- سورة الأنفال: 17.

أحد رؤساء أمريكا الطغاة، أو أحد قطاعي الطرق، أو ذاك الشخص الّذي يتلبّس بلباس الدين، و يدعو في الحقيقة لنفسه، أو أنا و أنتم الّذين لا ننتمي إلى أيّ من الطوائف الّتي ذكرناها في حال اتّباعنا للهوى و تحكيمنا (الأنا) و إستكبارنا، في كلّ هذه الموارد تكون المحصّلة النهائيّة، مزيدا من الفساد و الإنحراف.

و بالطبع كلّما كبر الإنسان، تكبر (الأنا) فيه، و مهمة الدعاء هي أن يهزم (الأنا)، و لذلك جاء في الروايات أسألوا اللّه الامور الصغيرة لتنتبه إلى عجزك و فقرك. فقد يحدث أن تكون هناك ذبابة أو بعوضة تضرّ بالإنسان، بحيث تعيقه عن العمل تماما(1).

ص: 293


1- من كلمة ألقاها بتاريخ 17 رمضان 1415 ه.
المعارف الإلهية في الدعاء

و هذا يختصّ بالأدعيّة الواردة عن الأئمّة المعصومين عليهم السّلام. و منها ما جاء في الصحيفة السجّادية، حيث أودع فيها الإمام السجاد عليه السّلام الكثير من المعارف الإلهيّة و المفاهيم الإسلامية بصيغة الدعاء. فالتوحيد الخالص إنّما تجدونه في الصحيفة السجاديّة.

كما أنّ فيها معانيّ سامية في النبوّة و الحبّ و الذوبان في شخص و منزلة نبي الإسلام صلوات اللّه و سلامه عليه و على آله. و فيها أيضا من المعارف ما يخصّ عالم الخلقة كما هو موجود في سائر الأدعيّة المأثورة الاخرى من قبيل دعاء أبي حمزة الثمالي الّذي تقرأونه في الأسحار. و ما أرجوه منكم هو أن تقرأوا هذا الدعاء و تتدبّروا فيه.

و دعاء كميل الّذي يقرأ كل ليلة الجمعة أو ليالي شهر رمضان هو الآخر ملي بالمفاهيم و المعارف الإسلاميّة و الحقائق الّتي صيغت بلسان الدعاء. و هذا لا يعني أنّ الإمام عليه السّلام لم يكن هدفه الدعاء و أنّه عليه السّلام أراد أن يغطّي على حديثه بالدعاء، لا، بل كان عليه السّلام في مقام الدعاء، و كان يناجي به، و كلّ ما في الأمر أنّ الإنسان الّذي ينفتح قلبه على اللّه و على المعارف الإلهيّة، يكون حديثه متضمّنا لهذه المعاني، و دعاؤه أيضا يكون طافحا بالحكمة.

و من هنا نجد في الأدعية المأثورة عن أئمّتنا عليهم السّلام الكثير من المعارف الّتي يحتاجها الإنسان حقيقة. و من خلال الدعاء يعلّمنا الأئمة عليهم السّلام ما ذا نطلب من اللّه تعالى.

و من هنا احاول أن اشير إلى عدّة فقرات من دعاء أبي حمزة الثمالي هذا الدعاء

ص: 294

الشريف الّذي يتضمّن جانبا رائعا من المناجاة و سأستعرض مقتطفات من المقطع الثالث لهذا الدعاء.

في مناجاته هذه يسأله الإمام عليه السّلام اللّه تعالى جملة امور منها أن يجعل حياته هنيئة طيّبة فيقول: «ارغد عيشي»(1). و كما تعلمون فإن العيش الرغيد لا يأتي بالمال و لا بالسلطة و لا بالذهب. فقد يكون هناك من الناس من له ثراء واسع لكنّه يفتقد إلى الحياة الرغيدة نظرا لما يعانيه من قلق و اضطراب ناشيء من مشكلة عائليّة، كأن يكون له ولد سيّى الخلق - نستجير بالله - يجعل من حياته جحيما لا يطاق. قد يتناهى إلى سمع الإنسان نبأ سيّى يجعل حياته مرّة المذاق، فنجد هذا الإنسان مع ما يمتلك من إمكانات و مقدرات لكنّه يفتقر إلى الحياة الهانئة.

و في المقابل نجد شخصا آخر فقيرا يعيش حياة بسيطة جدّا، و لكن قد تكون حياته على بساطتها أكثر هناءا و سعادة من حياة ذلك الشخص الثري صاحب الجاه العريض.

انظروا الإمام عليه السّلام كيف يشخص النقطة الأساس في المسألة حيث يقول:

«و أرغد عيشي و أظهر مروءتي» أي وفّقني أن اظهر مروءتي في ساحة العمل، لا أن يكون الهدف هو أن يراني الناس صاحب مروءة. و إذا أردنا للمروءة أن تظهر بيننا و تنتشر، فيجب أن نجسّدها نحن أوّلا.

ينبغي للإنسان أن يجسّد المروءة على الصعيد العملي و لا يكفي أن يحملها في داخله، و هذا معنى قوله: «و اظهر مروءتي و اصلح جميع أحوالي».

ثمّ يسأل الإمام عليه السّلام اللّه تعالى أن يصلح له جميع أحواله.

إنّه دعاء كامل و جامع يشمل الاحوال العائليّة و الشخصيّة و جميع الخصائص الاخرى. «و اجعلني ممّن أطلت عمره و حسّنت عمله و أتممت عليه نعمتك

ص: 295


1- مصباح المتهجد: 594.

و رضيت عنه و أحييته حياة طيبة»(1).

هكذا يعلّمنا الأئمة عليهم السّلام ما ذا نسأل من اللّه تعالى. البعض يطلب الوفرة، و يدعو أن تتمّ هذه الصفقة، أو أن يسافر إلى المكان الفلاني، أو أن يحصل على هذا العمل أو ذاك. و أمّا الأئمة فيعلموننا كيف نسأل من اللّه و ما ذا نسأل.

و بالطبع فطبيعة الدعاء و نوع الطلبات الّتي يجب أن نطلبها من اللّه و الّتي يحاول الأئمة عليهم السّلام أن يربّونا عليها يشكّل بحثا مستقلا و موسّعا في حدّ نفسه.

و هناك نقطة اخرى نود الإشارة إليها و هي أنّ هذه الأدعية تبيّن لنا مواطن الضعف في الإنسان و الّتي قد تؤدّي به إلى السقوط في الهاوية. و هذا ما نجده في دعاء أبي حمزة الثمالي: «اللهمّ خصّني منك بخاصّة ذكرك و لا تجعل شيئا ممّا أتقرّب إليك في آناء اللّيل و أطراف النهار رياء و لا سمعة و لا أشرا و لا بطرا»(2)، إذا يجب أن لا يكون العمل مصحوبا بالغرور و الرياء و الّتي تشكل مواطن الضعف. فقد يقوم الإنسان بعمل صالح و رائع لكن بمجرّد أن يخالطه شيء من الغرور و السمعة، يصبح ذلك العمل هباءا منثورا.

و من هنا سعى الأئمة عليهم السّلام و من خلال الدعاء أن ينبّهونا و يحذّرونا من هذه المطبّات.

و النقطة الاخرى في هذه الأدعية تتضمّن معارف و مفاهيم كثيرة. ففي دعاء كميل نقرأ: «اللهمّ اغفر لي الذنوب الّتي تهتك العصم، اللهمّ اغفر لي الذنوب الّتي تنزل النقم، اللهم اغفر لي الذنوب الّتي تغيّر النعم، اللهم اغفر لي الذنوب الّتي تحبس الدعاء»(3)، أي أنّ هناك من الذنوب ما تهتك العصم، و قسم منها تكون سببا في نزول النقم، و منها ما تغيّر النعم، و من الذنوب ما تحبس الدعاء فترى الإنسان بعد

ص: 296


1- المصدر السابق.
2- الصحيفة السجادية (أبطحي): 230.
3- فقرة من دعاء كميل أنظر مصباح المتهجد: 844.

أن يرتكب هذه الذنوب يدعو فلا يستجاب له و لا يجني أيّ فائدة من دعائه هذا.

إنّ الدعاء يفقد روحه و أثره عند ما يسلب عن الإنسان حالة التوجّه و الانفتاح على الدعاء.

و هنا أنقل لكم مقولة لأحد العظماء جاء فيها «أن أمنع الدعاء أخوف من أن أمنع الإجابة»(1).

ففي بعض المرّات قد يسلب الإنسان حالة الإقبال و التوجّه إلى الدعاء، و يفقد الرغبة و النشاط في مواسم الدعاء، و هذا نذير خطر. و من الممكن تلافي حالة الإدبار هذه و ذلك بالتوسّل إلى اللّه و الإلحاح عليه بأن يرزقه حالة الإقبال و الإنابة و النشاط في الدعاء.

كلّ هذه المعاني نجدها في دعاء كميل.

هدف الدعاء إظهار الخشوع و التذلّل أمام اللّه

و هذا هو اسّ الدعاء و ركيزته الاولى. و من هنا جاء في الحديث الشريف عن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله «الدعاء مخّ العبادة»(2).

فالدعاء يعبّر عن حالة الاندكاك المطلق في اللّه تعالى و الخشوع في ساحة الرب و هذا هو أصل العبادة و أساسها.

و الآية الكريمة وَ قٰالَ رَبُّكُمُ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبٰادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دٰاخِرِينَ (3) تبيّن هذا المعنى و هو أنّ الهدف الأوّل من الدعاء هو ترويض النفس الإنسانيّة و إخضاعها للرقابة الإلهيّة و تذليلها لله.

ص: 297


1- تاريخ مدينة دمشق: 242/19.
2- مستدرك الوسائل: 167/5 ح 5576.
3- سورة غافر: 60.

أعزائي لو ألقيتم نظرة إلى البيئة الّتي تعيشون فيها و إلى بلدكم و إلى العالم كلّه، فإن ما ترونه من فساد و شرّ إنّما هو ناشيء من أنانية و إستكبار و غرور النفس الإنسانية، و هدف الدعاء التغلّب على كلّ هذه المسائل.

إنّ الهدف من الدعاء هو التضرّع إلى اللّه و طلب الحاجة منه و التواضع إليه و الابتعاد عن الإستكبار و الاستعلاء، قال تعالى في محكم آياته: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا إِلىٰ أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنٰاهُمْ بِالْبَأْسٰاءِ وَ اَلضَّرّٰاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْ لاٰ إِذْ جٰاءَهُمْ بَأْسُنٰا تَضَرَّعُوا وَ لٰكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطٰانُ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ (1) و هذا التضرّع الّذي يحدثه اللّه تعالى في نفوسنا جراء المصائب و الابتلاءات هو لأجلنا نحن؛ و إلاّ فهو غني عنه و لا حاجة له به(2).

ص: 298


1- سورة الأنعام: 42-43.
2- من كلمة ألقاها بتاريخ 17 رمضان 1415 ه.
شروط إستجابة الدعاء
اشارة

في بعض الأحيان قد لا يستجاب الدعاء مهما دعا الإنسان، فما هو السبب؟ و قد أجابت الروايات على هذا السؤال، بأنّ للدعاء شروطا، و لا بدّ من توفّر هذه الشروط في الدعاء(1).

و أحيانا يدعو الإنسان و يشعر أن حاجته لم تتحقق بحسب الظاهر.

إنّ الشرط المهم لاستجابة الدعاء هو أن يكون دعاء صادقا بمعنى الكلمة و متضمنا لشرائطه.

[الشروط الّتي وردت على لسان الأئمة عليهم السّلام]
اشارة

من هذه الشروط الّتي وردت على لسان الأئمة عليهم السّلام هي:

1 - طهارة القلب

و ذلك أن ندعو بقلوب صادقة و طاهرة كقلوب الشباب؛ و لهذا فإنّ قابلية الاستجابة لدعاء الشباب أكثر من غيرهم.

البعض كانوا يقولون لي: أدعو لشبابنا، أنا دائما أدعو للشباب؛ و لو علم هؤلاء الشباب بأهمية القلب النقي و الحيوي، لتيقّنوا بأنّ دعاءهم يمكن أن يكون أقرب للإستجابة من دعاء غيرهم.

ص: 299


1- من كلمة ألقاها بتاريخ 17 رمضان 1415 ه.
2 - الدعاء مع المعرفة

بأن يعلم الإنسان أنّه يدعو موجودا قادرا على تلبية جميع حاجاته، و يعتقد بأثر الدعاء في الاستجابة.

جاء عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه سئل: (ندعو فلا يستجاب لنا) فقال عليه السّلام: (لأنّكم تدعون من لا تعرفونه)(1).

و ذكر معنى المعرفة في إحدى الروايات المتعلقة بالدعاء التي جاء فيها: (يعلمون أني أقدر أن أعطيهم ما يسألوني)(2).

و اظبوا على الدعاء و اطلبوا الحاجات الكبيرة، اطلبوا الدنيا و الآخرة، و لا تقولوا إنّ ذلك كبير و كثير؛ كلا، فإنّ ذلك ليس بالشيء الكثير على اللّه تعالى؛ الشرط الأساسي هو أنكم تدعون مع العمل بشرائط الدعاء.

و لكون الإنسان غافلا تجد أنّه في بعض الأحيان لا يعلم أنّ العمل الذي تحقق له، هو إجابة لدعائه.

3 - الإجتناب عن المعاصي و التوبة منها

إننا جميعا مبتلون بالمعاصي و التقصير، تقصيرا كثيرا أو قليلا؛ علينا أن نعتذر لله و نستغفره و نتوب و نؤوب إليه.

و لا بد أن نعزم على أن لا نتطرّق الى المعصية.

أحيانا يعزم الإنسان و يصمم على أن يتجنب المعصية، ثمّ يبتلى بالذنوب مرة أخرى نتيجة لغفلته و خطأه، فعليه أن يستغفر و يتوب مرّة أخرى، إلاّ أنّ الاستغفار لا بد

ص: 300


1- ميزان الحكمة: 873/2 ح 1197 باب شرائط الاستجابة.
2- تفسير الميزان: 43/2.

أن يكون صادقا و حقيقيا كما تقدم تفصيله.

نيّة الإجتناب عن المعاصي لا بد أن تكون جدية و صادقة و حقيقية.

جاء في إحدى الروايات فيما يتعلق بالدعاء و استجابته: (و ليخرج من مظالم الناس)(1) على الإنسان الخروج من مظالم الناس حتى يستجاب دعاؤه.

و في رواية أخرى يخاطب اللّه تعالى موسى عليه السّلام بقوله: (يا موسى ادعني بالقلب النقي و اللسان الصادق)(2)، و إذا تحقق هذا فإنّ الدعاء لا بد أن يكون مستجابا.

4 - حضور القلب و عدم الغفلة

كما قلنا إنّ معنى الدعاء هو الكلام مع اللّه، و أن نشعر بأنّ اللّه حاضر أمامنا و ينظر إلينا.

إنّ طلب الإنسان من اللّه شيئا بلسانه - كالدعاء لنفسه أو لوالديه - دون أن ينتاب قلبه حالة من الشعور بالحاجة لله لا يعتبر دعاء، بل لقلقة لسان (لا يقبل اللّه عزّ و جلّ دعاء قلب لاه)(3).

إذا دعا الإنسان الغافل الذي تلوث قلبه بالشهوات النفسية و ألهاه الأمل، فإنّ اللّه تعالى لا يقبل دعائه، فكيف يتوقع الإنسان الإجابة من اللّه و هو على هذه الحال؟!

البعض يؤجلون العبادة و الدعاء و التوبة الى سنّ الشيخوخة، إنّ هذا خطأ كبير.

يقولون لنا توبوا، نقول لهم لدينا متسع من الوقت.

أولا: ليس من المتيقّن أنه سيكتب لنا عمرا طويلا من أجل التوبة لكي نتوب، فلا

ص: 301


1- تفسير الميزان: 875/2.
2- بحار الأنوار: 341/90.
3- الكافي: 473/2 ح 2.

يدري الإنسان متى يموت.

و ثانيا: لو فرضنا أننا واثقون من بقائنا الى سن الشيخوخة - كأن نفترض أن الإنسان يستطيع أن يقضي فترة شبابه غافلا و غارقا بالشهوات، و عند سن الشيخوخة يتوب و هو مرتاح البال - فإن هذا خطأ كبير.

إنّ حالة التوجه للدعاء و الإنابة ليست من الأمور التي تحصل للإنسان في كل الأوقات، ففي بعض الأحيان نحاول أن نتوجه للدعاء فلا نتمكن: ذٰلِكَ بِمٰا قَدَّمَتْ يَدٰاكَ (1).

إنّ الإنسان الذي لا يمتلك أرضية التوجه لله و الإنابة إليه، لا يتوقع أنه متى ما أراد التوبة يستطيع الدخول في حرم اللّه تعالى فيتوب عليه.

أنتم تعلمون أن بعض القلوب الطاهرة - قلوب الشباب غالبا - تستطيع الاقتراب من اللّه تعالى بسهولة، أما قلوب البعض الآخر لا تستطيع ذلك مهما حاولت.

إنّ الذين يمتلكون فرصة للتقرب من اللّه تعالى و المحافظة على صفاء قلوبهم، يجب عليهم الحفاظ على تلك العلاقة و تقويتها؛ لكي يستطيعوا أن يدخلوا حرم اللّه متى شاؤوا(2).

علينا أن ندعو بحضور قلب و بتوجّه، و أمّا لقلقة اللّسان و الدعاء بقلب لاه، كأن يقول: إلهي ارحمني، إلهي وسّع عليّ في الرزق، إلهي أدّ ديني، إلهي أعطني الشيء الفلاني، فلو بقي عشر سنوات يدعو بهذا النحو من الدعاء لن يستجاب له و لن يجني فائدة من ورائه.

فمن شروط الدعاء قول المعصوم عليه السّلام: «اعلموا أنّ اللّه لا يقبل دعاء عن قلب غافل»(3).

ص: 302


1- سورة الحج: 10.
2- من كلمة ألقاها في 1 /شهر رمضان المبارك/ 1426 ه - طهران.
3- ميزان الحكمة: 875/2 ح 1197 باب شرائط الاستجابة.

و من هنا لا بدّ من أن تتضرّعوا و أن تلجّوا بالدعاء و بالتضرّع و أن تطلبوا و تطلبوا منه تعالى، و بلا أدنى ريب سيستجيب اللّه هذا الدعاء(1).

5 - عدم طلب المستحيل

أن لا تسألوا اللّه امورا مستحيلة التحقّق. فقد ورد في الرواية أنّ الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله سمع رجلا يدعو قائلا: «اللهمّ لا تحوجني إلى أحد من خلقك» فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لا تقولنّ هكذا، فليس من أحد إلاّ و هو محتاج إلى الناس» فسأل الرجل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: فبم أدعو يا رسول اللّه.

فقال الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «قل اللهمّ لا تحوجني إلى شرار خلقك»(2).

هذا ما ينبغي أن تدعو به.

و أمّا الدعاء بالامور المستحيلة فلا يستجاب لمخالفته للسنن الحاكمة على العالم(3).

إستجابة الدعاء مقيدة بالقوانين الطبيعية

ليس من الضروري أن ينجم عن الدعاء نقض القوانين الطبيعية، و السير في الإتجاه المغاير لها. كلا، و إنما يستجاب الدعاء و تلبى الحاجات في إطار القوانين الطبيعية؛ فالقدرة الإلهية قد تهيئ الأسباب و تجعل القوانين تسير في نسق تلّبي في

ص: 303


1- من كلمة ألقاها بتاريخ 17 رمضان 1415 ه.
2- مستدرك الوسائل: 263/5 ح 5831.
3- من كلمة ألقاها بتاريخ 17 رمضان 1415 ه.

ضوئه حاجة الداعي.

و من الطبيعي أنّ الدعاء لا يستجاب فيما إذا تضارب مع قانون إلهي آخر، إنّ الوعد الإلهي حق، و لكن في الوقت ذاته ليس هناك ضمانة توجب استجابة دعاء الأشخاص البطّالين الذين يريدون تحقيق أمانيهم من غير كد و تعب، فإذا ما دعا المرء ربه؛ قد يستجاب دعاؤه و قد لا يستجاب. فحينما يتعارض الدعاء مع قانون طبيعي، لا توجد ثمة ضمانة بتلبيته.

و لكن هنالك حالات يخرق فيها الدعاء حتى القوانين الطبيعية. و إذا قلنا إنّ الدعاء يستجاب فلا يعني ذلك أنه يستجاب حتى لو تعارض مع السنن الإلهية، و لم يقترن بالعمل، و لم ينبعث من قلب ملتفت صادق؛ غير أنّ الدعاء إذا كان عن طلب و إرادة و إصرار، فإنه يستجاب، أما إذا رافق الدعاء عمل و جهد و سعي على طريق الغايات الكبرى، فيصبح إحتمال الاستجابة أكبر.

و في الحالات التي يتواصل فيها الدعاء، تكون الاستجابة أكبر. و إذا تكرر الدعاء و لم تحصل الاستجابة له فينبغي عدم اليأس، خاصة إذا كان الموضوع يتعلق بقضايا كبرى و بمصير الإنسان، و مصير الدول و الشعوب؛ لأن من طبيعة القضايا الكبرى أن يستغرق تحققها وقتا طويلا أحيانا(1).

الوعد الإلهي باستجابة الدعاء

قال اللّه تبارك و تعالى بسم اللّه الرحمن الرحيم... وَ إِذٰا سَأَلَكَ عِبٰادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدّٰاعِ إِذٰا دَعٰانِ (2).

ص: 304


1- من كلمة ألقاها في: 6 رمضان 1419 ه ق - طهران.
2- سورة البقرة: 186.

و نقل عن النبي نوح عليه السّلام أنه؛ فَدَعٰا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (1).

و جاء عن موسى (ع)؛ فَدَعٰا رَبَّهُ أَنَّ هٰؤُلاٰءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (2) شاكيا إلى اللّه مستجيرا به.

وعد الباري تعالى في آيات عديدة من كتابه الكريم باستجابة الدعاء، و من ذلك ما جاء في الآية الشريفة: وَ قٰالَ رَبُّكُمُ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (3) و يحتمل أن لا تكون الاستجابة بمعنى تلبية تلك الحاجة مئة بالمئة؛ فقد لا تقتضي قوانين الخلقة ذلك أحيانا - و ذلك لوجود قوانين في بعض الحالات، لا تسمح بتلبية تلك الحاجة، أو قد لا تسمح بتلبيتها في ذلك الحين - أمّا القاعدة المتعارفة في غير هذه الموارد فهي أنه تعالى يستجيب الدعاء.

كما ورد في دعاء أبي حمزة الثمالي الذي يقرأ في أسحار شهر رمضان. و جاء في القرآن الكريم: وَ سْئَلُوا اَللّٰهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (4) و هذه الآية نفسها وردت في الدعاء، مع اختلاف طفيف طبعا؛ إذ وردت في الدعاء «إن اللّه كان بكل شيء رحيما» بينما وردت في القرآن بصيغة كٰانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً ثم يقول الإمام السجاد عليه السّلام: «و ليس من صفاتك يا سيدي أن تأمر بالسؤال و تمنع العطية»(5).

بمعنى أنّ القدرة الإلهية و الرحمة الإلهية و الكرم الإلهي إذا أمرت بالطلب و الدعاء، فإنها كفيلة بتلبيته.

و هذا هو الوعد الإلهي الذي صرّحت به الآية الكريمة بقوله تعالى: وَ إِذٰا سَأَلَكَ

ص: 305


1- سورة القمر: 10.
2- سورة الدخان: 22.
3- سورة غافر: 60.
4- سورة النساء: 32.
5- مصباح المتهجد: 583.

عِبٰادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدّٰاعِ إِذٰا دَعٰانِ (1) . فكل من يدعو اللّه، هنالك بلا ريب جواب له و هو ما جاء بلسان أهل البيت عليهم السّلام: «لكل مسألة منك سمع حاضر و جواب عتيد»(2).

هذه قضية على جانب كبير من الأهمية، و يجب على عباد اللّه المؤمنين أن يقدّروها حق قدرها.

و من الطبيعي أنّ من لا إيمان له لا يغتنم هذه الفرصة، مثلما يفرّط في الكثير من الفرص الاخرى.

هذا وعد إلهي حتمي بالاستجابة لكل من يتوجه له بالدعاء؛ و هذا وعد، و من الطبيعي أنّ لكل وعد شروطه، و قد جمعت في هذا المجال آيات عن الوعد الإلهي، و لا أروم دخول البحث تفصيليا و إنما أكتفي باستذكار بضع نقاط بإيجاز:

نموذج قرآني للوعد الإلهي

قطع اللّه تعالى على نفسه الكثير من الوعد لعباده؛ و من جملتها هذا الوعد الذي نتحدث عنه.

و كمثال على الوعود الإلهية الاخرى نذكر قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صٰالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَسٰاءَ فَعَلَيْهٰا (3).

و من الوعود الإلهية الاخرى أيضا قوله: إِنّٰا لاٰ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (4).

و هذا الوعد لا يقتصر على الآخرة، بل يشمل الدنيا و الآخرة، أو إحداهما. و الوعد

ص: 306


1- سورة البقرة: 186.
2- مصباح المتهجد: 801.
3- سورة فصّلت: 46.
4- سورة الكهف: 30.

الآخر هو قوله عزّ من قائل: مَنْ كٰانَ يُرِيدُ اَلْعٰاجِلَةَ عَجَّلْنٰا لَهُ فِيهٰا مٰا نَشٰاءُ لِمَنْ نُرِيدُ (1).

شروط الوعد الإلهي

و من الطبيعي أنّ التعجيل لمن يريد العاجلة له شروط هي أن يسعى و يكد و يثابر حتى ينال ما يريد.

و هذا ينطبق حسب ما تعرفونه على بعض الشعوب التي كدّت و تحملت الصعاب و اقتنعت بالقليل و اقتصدت في ما ينبغي لها الإقتصاد فيه حتى استطاعت بلوغ مكانة عظيمة.

و قال تعالى استمرارا لهذه الآية: وَ مَنْ أَرٰادَ اَلْآخِرَةَ وَ سَعىٰ لَهٰا سَعْيَهٰا وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولٰئِكَ كٰانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً * كُلاًّ نُمِدُّ هٰؤُلاٰءِ وَ هَؤُلاٰءِ (2) أي أننا نعين من يريد نيل الآخرة، و نساعد أيضا من يسعى لنيل الدنيا، فيما إذا كان في سعيه رضا اللّه. و هذه هي سنة الخلق و هذه هي سنة اللّه في الوجود؛ فإذا ما سعى الإنسان فلا بد و أن يحصل على نتيجة سعيه؛ فهو تعالى لا يترك عملا بلا نتيجة، بل من المؤكد أن تستتبع السعي نتيجة.

و قد يتسنى لبني الإنسان أحيانا معرفة تلك النتيجة؛ كأن يضعوا نصب أعينهم غاية معينة ثم يسعوا بإتجاهها حتى يبلغوها، و لكنهم أحيانا لا يعلمون على وجه الدقة النتيجة التي تترتب على ذلك العمل، و يتأملون من ورائه نتيجة أخرى، إلاّ أنّ ذلك العمل يعطي النتيجة المترتبة عليه هو نفسه.

و خلاصة القول هي أنّ اللّه عزّ و جلّ لا يترك أي سعي بلا مقابل.

ص: 307


1- سورة الإسراء: 18.
2- سورة الإسراء: 19-20.
و عود إلهية أخرى

و من الوعود الإلهية الاخرى هو قوله تعالى: وَعَدَ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ (1) و هذا وعد إلهي قطعي؛ فكل قوم أو جماعة أو شعب يؤمن و يعمل صالحا يصبح خليفة اللّه في الأرض، أي بيده زمام السلطة في الأرض. و هذا ما حصل فعلا في إيران الإسلامية، و حصل في كل مرحلة من مراحل تاريخنا توفرت فيها مثل هذه الشروط لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي اِرْتَضىٰ لَهُمْ فإذا كان هناك إيمان و لكن غير مقرون بالعمل الصالح، فلن يصبحوا خلائف للّه في أرضه.

فالإيمان المجرد من العمل لا جدوى من ورائه، أما إذا اقترن الإيمان بالعمل فلا بدّ و أن يؤتي النتيجة المتوخّاة منه.

إقتران الوعد الإلهي بالعمل

ثمة وعد إلهي آخر، و هو قوله: وَ اَلَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا (2) و هذا ما كنّا نقرؤه و نقوله و نعتقد به ذات يوم في أيام شبابنا، بيد أننا لم نلمسه بالتجربة على نحو واضح، و مع أننا كنّا نؤمن بصحة كلام اللّه، لكننا لم نجرب ذلك، أما اليوم فقد لمست هذه الحقيقة بالتجربة، ففي العهد الذي اندلعت فيه النهضة الإسلامية في إيران، إذا كان أحد يريد أن يعيش حياة إسلامية كريمة في إيران التي أضحت اليوم مهد الإسلام و مئذنته العليا، أو في طهران، لم يكن ذلك بالأمر الهيّن اليسير، بمعنى أنه

ص: 308


1- سورة النور: 55.
2- سورة العنكبوت: 69.

إذا كان يريد أن يحيا حياة إسلامية تامة بدون هداية و تربية الآخرين لما استطاع، إذ كان هنالك معوقات و موانع شتى؛ فإذا قال أحد أنّ هذه النهضة التي أشعل ذلك السيد فتيلها في قم و هناك عدد من طلبة العلوم الدينية يلتفّون حوله، و ما أن يرفعوا صوتهم بالاحتجاج على الحكومة حتى تسارع الأجهزة الأمنية إلى اعتقالهم و تعذيبهم و التنكيل بهم، و إنّ الأمور ستدول على أثر صبر و ثبات هؤلاء الرجال الإلهيين السائرين على طريق الحق، و تستقطب زعامتها الحكيمة المسددة نحوها كل القلوب و تنجح في إستنفار جميع أبناء الشعب، لما كان أحد يصدّق ذلك.

و لو قيل إنّ الحكومة ستتحول يوما ما - بفضل مشاركة الشعب في الساحة السياسية - إلى حكومة إسلامية، ما كان أحد يصدق ذلك، إلاّ أنّ الوعد الإلهي حينما اقترن بالعمل تحول إلى حقيقة واقعة(1).

الوعد مشروط بالثبات و الصبر

إن الوعود الإلهية للمسلمين لا تتحقق على أي نحو كان، فقد يتحقق بعد مضي مدّة من الزمن. فهناك وعد إلهي بعزّة المسلمين، غير أنه لا يتحقق بين ليلة و ضحاها، و لا يمكن أن يصبح حقيقة بلا سعي و عمل؛ هنالك وعد إلهي بنصرة كل شعب يؤمن و يجاهد في سبيل اللّه تعالى. و ها هو الشعب الإيراني على سبيل المثال و شعب لبنان قد آمن و جاهد فانتصر(2).

فانظروا كيف تمكن عدد قليل من الشباب الذين لم يكن لهم من سلاح سوى الإيمان من القيام في لبنان بعمل عجزت عنه جميع الجيوش العربية برغم ما تمتلكه من السلاح المتطور، حيث تغلب هؤلاء الشباب على جيش إسرائيل المدجج

ص: 309


1- من كلمة ألقاها في: 6 رمضان 1419 ه ق - طهران.
2- من كلمة ألقاها في: 6 رمضان 1419 ه ق - طهران.

بالسلاح و أنواع الاجهزة المعقدة، و وصم جبينه بالخزي و العار، و هذا هو السرّ في انتصار المؤمنين عبر التاريخ الاسلامي(1).

و ينصّ الوعد الإلهي على أنكم بعد هذا الإنتصار تدخلون في صراع مع أعداء اللّه تعالى و إذا ما صمدتم و صبرتم فسيكون النصر حليفكم أيضا إِنْ تَنْصُرُوا اَللّٰهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدٰامَكُمْ (2). أي أن هناك وعدا بالنصر و وعدا أيضا بخوض هذا الصراع.

أجل متى ما تظهر القدرة الإلهية و ترتفع راية الإسلام، و راية القرآن، و راية القيم و المثل المعنوية، يهب لمناهضتها الظلمة و المفسدون و كل من لا يحتمل سيادة القيم المثلى قال تعالى: وَ لَمّٰا رَأَ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْأَحْزٰابَ قٰالُوا هٰذٰا مٰا وَعَدَنَا اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ (3)؛ ففي غزوة الأحزاب، لمّا تكالبت قريش من جهة، و اليهود من جهة، و ثقيف من جهة، و غيرهم من الأعداء الآخرين، و حاصروا المدينة، انقسم الناس عندها إلى فئتين؛ إذ تبلور المؤمنون على رؤية معينة، و اتبع غير المؤمنين و من فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ (4) رؤية أخرى، فكانوا يقولون: مٰا وَعَدَنَا اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ إِلاّٰ غُرُوراً (5).

لقد غررنا و لم يتمكن الإسلام من توفير العزة و الأمان لنا، و ينقذنا مما نحن فيه.

لقد حاصروا المؤمنين من كل جانب و تكالب الأحزاب و الأعداء شرقيّهم و غربيّهم، و الجار و البعيد، و اتفقوا على مهاجمة الدولة الإسلامية؛ فقال المؤمنون:

هٰذٰا مٰا وَعَدَنَا اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ، فنحن لم نفاجأ و لا نعجب من هذا؛ لأن اللّه و رسوله قد

ص: 310


1- من كلمة ألقاها في 27 شعبان 1425 ه. ق 1383/7/22 ه. ش - طهران.
2- سورة محمد: 7.
3- سورة الأحزاب: 22.
4- سورة البقرة: 10.
5- سورة الأحزاب: 12.

وعدانا به. كما أن اللّه و رسوله وعدانا أيضا: اَلَّذِينَ آمَنُوا يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَلطّٰاغُوتِ (1)؛ فأنتم المؤمنون تقاتلون في سبيل اللّه، و أما الذين لا يمتّون إلى اللّه بحبل فيقاتلون في سبيل الطاغوت. أجل، اولئك أيضا يقاتلون، و لكن فَقٰاتِلُوا أَوْلِيٰاءَ اَلشَّيْطٰانِ إِنَّ كَيْدَ اَلشَّيْطٰانِ كٰانَ ضَعِيفاً (2) فإذا قاتلتم و صبرتم و لم تفقدوا ثباتكم فأنتم المنتصرون، و أما إذا وهنتم و يئستم و نكصتم، فلا غرو حينذاك لو هاجمكم أعداؤكم: هٰذٰا مٰا وَعَدَنَا اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ مٰا زٰادَهُمْ إِلاّٰ إِيمٰاناً وَ تَسْلِيماً (3).

النصر يستتبع كيد الأعداء

نستخلص مما أسلفنا قوله إنّ وعد اللّه مسلّم به؛ أي إذا صبر المرء و ثبت عند القتال، يكتب له النصر، و إذا أخلص و صدق النيّة يتكالب عليه الأعداء.

لاحظوا كم من بلد في العالم يدّعي لنفسه صفة حمل رسالة الإسلام، بيد أننا لم نسمع قط أنّ دعايات الإستكبار العالمي و الامبراطورية الإعلامية العالمية قد توجهت بسهام الاحتجاج و الإستكبار لأي منها بسبب صفتها الإسلامية؛ بينما تعرضت إيران الإسلامية منذ اليوم الأول لإنتصار ثورتها لمختلف الهجمات و التهم و الافتراءات و الشتائم من قبل الأبواق الدعائية كافة بسبب حملها لراية الإسلام. فإذا كنتم صادقين في مسيرتكم لا بدّ و أن يجلب عليكم هذا الصدق كيد أعدائكم، و لكنكم إذا صبرتم فالنصر لكم قطعا.

و هذا كله وعد اللّه(4).

ص: 311


1- سورة النساء: 76.
2- سورة النساء: 76.
3- سورة الأحزاب: 22.
4- من كلمة ألقاها في: 6 رمضان 1419 ه ق - طهران.
قصة و عبرة من الوعد الإلهي

ففي عهد الحكم الفرعوني الظالم المستبد عند ما أنجبت أم موسى عليها السّلام طفلها و كانت على يقين من أنه سيقتل، ظلت حائرة؛ فلو كان الوليد بنتا لكانت مرتاحة البال؛ كان قلبها طافحا بمحبة طفلها و لكنها بقيت حائرة لا تدري ما تصنع. و هنا جاءها الوحي الإلهي: وَ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ أُمِّ مُوسىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذٰا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اَلْيَمِّ (1)أي جاءها الوحي أن لا تخافي، و لكن إذا ازداد الخطر و خفت أن يقع الطفل بيد الأعداء، لا تدعيهم يأخذوه منك، بل ألقيه في البحر.

ذكر اللّه تعالى هذه القصة في مواضع عديدة من القرآن، و عرضها في كل موضع بأسلوب لطيف و معبّر.

و مرّت بهذه الأم ظروف أشعرتها بدنو الخطر على طفلها؛ إذ داهم جنود فرعون دار هذه الأسرة الكريمة من بني إسرائيل لقتل هذا الصبي، و أدركت أمّ موسى أنها ستفقده على نحو أو آخر، فاضطرت هناك لإلقائه في النيل. ورد التعبير القرآني أنها ألقته «في اليم»، بيد أنّ القرائن تشير إلى أنه المراد هو نهر النيل نفسه، إنه موقف مرير؛ إذ كيف يتأتى لأم أن تضع وليدها في صندوق و تلقيه في نهر مائج؟! غير أنّ الوحي الإلهي أكد لها: إِنّٰا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جٰاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ (2).

هنا وعد اللّه هذه الأم أوّلا: بإعادة طفلها إليها، و ثانيا: جعله من المرسلين. و بعد أن سار الموج حاملا الطفل، قالت أمّ موسى لأخته أن تتبعه: وَ قٰالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ، لترى إلى أين سينتهي به المطاف، كانت في قلق عليه لأنه مولود و رضيع، و لم يكن عمره قد تجاوز عدّة أيام...

ص: 312


1- سورة القصص: 7.
2- سورة القصص: 7.

إلى أن أخذه الماء قريبا من قصر فرعون فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ و ألقى اللّه في قلوبهم أن يحفظوه. و قررت امرأة فرعون الاحتفاظ به لأنفسهم قائلة: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ كان جائعا و يطلب الرضاع، و لكن بعد ما جاؤوه بالمرضعات لم يرضع ثدي أي منهن وَ حَرَّمْنٰا عَلَيْهِ اَلْمَرٰاضِعَ، و عندها تقدّمت إليه أخت موسى قائلة: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ؟؛ انظروا إنّ اللّه حينما يريد استجابة الدعاء و تحقيق وعده كيف يهيئ الظروف و الأسباب؛ فهو هنا يلقي في قلب هذه الفتاة الإلهام و الشجاعة لتأتي آل فرعون و تعرض عليهم ذلك الرأي، و بعد ما وافقوا على عرضها ذهبت و أحضرت أمّ موسى و أخبرتهم بأنها مرضعة، فناولوها موسى عليه السّلام الذي شمّ ريح أمه و رضع لبنها.

هنا لم تراود آل فرعون الشكوك و لم يدر في خلدهم أن هذه المرأة هي أمّه؛ لأن الباري تعالى أراد هنا إنجاز وعده: فَرَدَدْنٰاهُ إِلىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهٰا وَ لاٰ تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اَللّٰهِ حَقٌّ و قد رأت بعينها ذلك الوعد.

أما الوعد الآخر: وَ جٰاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ فقد أنبأ منذ ذلك الوقت عن بعثة موسى عليه السّلام التي حصلت بعد سنوات طويلة، و كان بمثابة بشرى لبني إسرائيل ليعلموا أن هذا الطفل سيكون رسولا و يبعث لينجيهم من آل فرعون، و هذا هو ما حصل بعد ذاك.

من الطبيعي أنه منذ أن ألقى اللّه تعالى في قلب أمّ موسى وَ جٰاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ و حتى اليوم الذي تلقى فيه موسى مقام النبوّة و الرسالة و أمر بإنقاذ بني إسرائيل، مرت فترة أمدها ثلاثون أو أربعون سنة. و على الرغم مما تشير إليه الروايات، إلاّ أنّ أسانيد هذه الروايات لا تبعث على اليقين كثيرا، و الذي يستشف من القرائن هو مضي ثلاثين سنة على أدنى تقدير(1).

ص: 313


1- من كلمة ألقاها في: 6 رمضان 1419 ه ق - طهران.
أدعية الأئمة عليهم السّلام أفضل الأدعية

إنّ الأدعية المأثورة الواردة عن الأئمة عليهم السّلام، هي من أفضل الأدعية؛ لأن المطالب التي فيها مطالب واسعة لا يمكن أن تخطر على أذهاننا، و لا يمكن أن تجري إلاّ على لسان الأئمة عليهم السّلام، فمن خلال دعاء أبي حمزة الثمالي و دعاء عرفة يستطيع الإنسان أن يدعوا بأرقى المطالب و يحصل على أفضل الحاجات و يجعلها ذخرا له إذا ما أراد ذلك، هذا أولا.

و ثانيا: إنّ هذه الأدعية هي منبع الخشوع و التضرع لله تعالى، و مطالبها نظّمت بلغة و أسلوب و بيان يجعل القلب خاشعا و ذليلا.

و توجد في هذه الأدعية المعاني العالية و البليغة التي تجعل الإنسان يموج في بحر من الحب و الشوق و الهيام لله تعالى.

على الإنسان أن يعرف أهمية هذه الأدعية و كيفية الاستفادة منها و فهم معانيها(1).

ص: 314


1- من كلمة ألقاها في 1 /شهر رمضان المبارك/ 1426 ه - طهران.
أوقات الدعاء

الدعاء ليس مقصورا على أوقات الضيق، بل ينبغي أن تدعو دائما.

البعض يظن أنّ الدعاء مقصور على أوقات الضيق و البلاء، كلا، على الإنسان أن يدعو حتى في الحالات الطبيعية للحياة، و يحافظ على علاقته بالله تعالى.

بتعبير إحدى الروايات عن الإمام الصادق عليه السّلام قال: «اذا دعا العبد في البلاء و لم يدع في الرخاء حجبت الملائكة صوته و قالوا: هذا صوت غريب، أين كنت قبل اليوم!»(1)...

البعض يؤجلون العبادة و الدعاء و التوبة الى سنّ الشيخوخة، إنّ هذا خطأ كبير.

يقولون لنا توبوا، نقول لهم لدينا متسع من الوقت.

أولا: ليس من المتيقّن أنه سيكتب لنا عمر طويل من أجل التوبة لكي نتوب، فلا يدري الإنسان متى يموت.

و ثانيا: لو فرضنا أننا واثقون من بقائنا الى سن الشيخوخة - كأن نفترض أن الإنسان يستطيع أن يقضي فترة شبابه غافلا و غارقا بالشهوات، و عند سن الشيخوخة يتوب و هو مرتاح البال - فإن هذا خطأ كبير(2).

ص: 315


1- بحار الأنوار: 382/90 ح 10.
2- من كلمة ألقاها في 1 /شهر رمضان المبارك/ 1426 ه - طهران.
الدعاء في ليلة القدر

قال تعالى: لَيْلَةُ اَلْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ؛ هذه الليلة التي عرفت بإسم ليلة القدر، و هي تتردد بين عدة ليالي، على الإنسان المؤمن أن يستفيد أكثر ما يمكن من هذه الليلة المباركة، و أفضل الأعمال في الليلة المباركة الدعاء، و إن أهم الأعمال في إحياء ليلة القدر هو الدعاء و التوسل و الذكر، و الصلاة - التي هي أحد المستحبات في ليلة القدر - هي مظهر من مظاهر الدعاء و الذكر.

إنّ الدعاء كما ورد في الرواية هو (مخّ العبادة)، أو بالمصطلح العام هو (روح العبادة)(1).

ص: 316


1- من كلمة ألقاها في 1 /شهر رمضان المبارك/ 1426 ه - طهران.

الذنوب و آثارها

أنواع الذنوب
النوع الأول: ظلم النفس

- و ذكر ذلك في آيات و أحاديث كثيرة - و هو الذنب الذي يرتكبه الشخص و لا يضر به إلاّ نفسه، و يشمل الذنوب الفردية العادية المتعارفة.

النوع الثاني: الذنوب التي يرتكبها الشخص، و يلحق من خلالها الضرر المباشر بالآخرين،

و هذا الذنب يعتبر أشد من ظلم النفس، مع أنّه يعتبر ظلما للنفس أيضا؛ إلاّ أنه بسبب كون الإعتداء و التجاوز على الآخرين الذي يتم من خلاله، فإنّ بشاعة الذنب تكون فيه أكثر و علاجه يكون أصعب؛ من قبيل الظلم، و الغصب، و هضم حقوق الآخرين، و هضم حقوق الإنسانية.

إنّ الحكومات هي المسؤولة عن هذه الحقوق، و إنّ هضمها هو ذنب المسؤولين و السياسيين و الشخصيات العالمية.

إنّ هذه هي ذنوب الذين تستطيع كلمة منهم أو توقيع، أو عزل أو نصب، أن تؤثر على عوائل، و أحيانا على شعوب بأكملها.

و كالمعتاد فإنّ الناس العاديين لا يقعون في مثل هذه الذنوب، و حتى لو وقعوا فيها فإنّ نطاقها سوف يكون محدودا، كأن يمشي أحدهم و يقوم بضرب أحد الأشخاص في رجله متعمدا.

ص: 317

أمّا أنا و أنت إذا ما قدّر لنا أن نبتلي بمثل هذا الذنب فسوف تكون دائرته أوسع، و كما ذكرت سابقا فإنّ توقيعا أو حكما أو كلمة أو قضاء أو حركة تصدر منّا في مكان إتخاذ القرار يمكن أن يؤثر تأثيرا مباشرا على اناس كثيرين.

إنّ لمثل هذا الذنب إستغفارا يناسبه، إذ أنّ الإستغفار الذي يناسب النوع الأول من الذنوب هو أن يطلب الإنسان المغفرة من اللّه تعالى بقلب صادق.

أما النوع الثاني من الذنوب فلا يكفي فيه الإستغفار فقط، بل لا بد للإنسان من جبره و إصلاحه.

حيث تأتي هنا مرحلة الإصلاح و تصحيح الأخطاء(1).

الإصلاح و التوبة من الذنوب

لقد جاءت كلمة (التوبة) في كثير من آيات القرآن الكريم مقرونة بكلمة (الإصلاح)، قال تعالى: إِلاَّ اَلَّذِينَ تٰابُوا وَ أَصْلَحُوا (2) و قال تعالى: مَنْ تٰابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً (3).

و في مكان آخر ذكر مصداق هذا الإصلاح أيضا كما في قوله تعالى: إِلاَّ اَلَّذِينَ تٰابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا (4)، في مقابل الأشخاص الذين يكتمون الحقائق كما قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلْبَيِّنٰاتِ (5)، أو قوله تعالى إِلاَّ اَلَّذِينَ تٰابُوا

ص: 318


1- من كلمة ألقاها في: 1384/8/8 ه. ق الموافق: 26 /رمضان المبارك/ 1426 ه الموافق: 10/30 / 2005 ه - طهران.
2- سورة النساء: 146.
3- سورة مريم: 60.
4- سورة البقرة: 60.
5- سورة البقرة: الآية 159.

وَ أَصْلَحُوا وَ اِعْتَصَمُوا بِاللّٰهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلّٰهِ (1) إنّ الطريق للتوبة، و إصلاح النفوس مقرون بتطهير و تنقية القلوب، و جعلها خالصة لله تعالى.

و بناء على ذلك فإنّ الإصلاح يعتبر من لوازم التوبة(2).

إن بعض السلوكيات يمكن للمرء أن يتوب منها، كما أن بعضها يستعصي على التوبة لأن إصلاحها مستحيل؛ فالقرآن الكريم يردف في موارد متعددة إِلاَّ اَلَّذِينَ تٰابُوا وَ أَصْلَحُوا (3) قوله تعالى وَ أَصْلَحُوا، لأن التوبة تكون أحيانا مختصة بالتصرفات الفردية و السلوكيات الشخصية، فنتوجه إلى اللّه تعالى بالدعاء مقرّين بخطئنا، فيمحو اللّه سبحانه آثامنا.

و لكن الأمر يختلف عند ما يكون الفعل مؤثّرا على النطاق الإجتماعي، فيأتي معه بواقع جديد أو يزيل واقعا ما من المجتمع، و هنا لا تكون التوبة مقبولة إلاّ بإعادة إصلاح هذا العمل. فهل هذا ممّا يمكن إصلاحه دائما؟! و هل يمكن دائما إعادة المياه إلى مجاريها؟! و لهذا فلا بد من الدقة التامة(4).

النوع الثالث: الذنوب التي ترتكبها الشعوب.

فالذنوب ليست متوقفة على أن يرتكب أحدهم ذنبا و يتضرر منه جماعة، بل أحيانا يبتلى أحد الشعوب أو مجموعة من الأفراد المؤثرة على شعب آخر بالذنب.

و هذا الذنب له إستغفار يناسبه أيضا.

تجد أحيانا شعبا ما يسكت على المنكر و الظلم لسنوات عديدة و لا يبدي أي رد

ص: 319


1- سورة النساء: 146.
2- من كلمة ألقاها في: 1384/8/8 ه. ق الموافق: 26 /رمضان المبارك/ 1426 ه الموافق: 10/30 / 2005 ه - طهران.
3- سورة البقرة: 160.
4- من كلمة ألقاها في: 15 ربيع الأول 1421 ه - طهران.

فعل تجاه ذلك، و هذا أحد الذنوب أيضا، و لعله أعظمها، و يبيّن ذلك قوله تعالى: إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُغَيِّرُ مٰا بِقَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ (1).

إنّ هذا الذنب هو الذي يزيل النعم الكبرى، و هو الذي يوقع البلايا العظيمة على الأفراد و الشعوب العاصية.

لقد تحمّل الشعب الإيراني أعباء فعلته بعد خمسين عاما - حيث تمّ في مدينة طهران تشكيل المجلس التشريعي و صودق هناك على إنتقال السلطة و الدولة الى رضا شاه - بسبب وقوفه موقف المتفرج و هو يرى المجتهد الكبير الشيخ فضل اللّه نوري يعدم وسط مدينة طهران دون أن ينبس ببنت شفة، و يرى كيف عدّوه مخالفا للحركة الدستورية - و لا يزال بعض الكتّاب و المؤلفين يرددون هذا الكلام الكاذب، و الفارغ من المحتوى و المضمون - لأنّه كان يعارض أفكار البريطانيين و الموالين للغرب في هذه المسألة - مع أنّ الشيخ فضل اللّه نوري كان من مؤسسي و قادة الحركة الدستورية -

فلم يكن هذا ذنب مجموعة خاصة من الناس، بل كان ذنبا شعبيا عاما و شاملا وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لاٰ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً (2).

في بعض الأحيان تكون العقوبة جماعية - رغم أنّ مرتكبي المعصية هم فئة خاصة، و لم يكن الجميع قد شاركوا بارتكاب المعصية بصورة مباشرة - لكون الفعل هو فعل جماعي، و على أثره أصبحت العقوبة عامة و شاملة.

إذا فللنوع الثالث من الذنوب إستغفار يتناسب مع طبيعته أيضا(3).

ص: 320


1- سورة الرعد: 11.
2- سورة الأنفال: 25.
3- من كلمة ألقاها في: 1384/8/8 ه. ق الموافق: 26 /رمضان المبارك/ 1426 ه الموافق: 10/30 / 2005 ه - طهران.
أشد الذنوب

عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «أربعة أسرع شيء عقوبة: رجل أحسنت إليه و يكافيك بالإحسان إليه إساءة، و رجل لا تبغي عليه و هو يبغي عليك، و رجل عاهدته على أمر فمن أمرك الوفاء له و من أمره الغدر بك، و رجل يصل قرابته و يقطعونه».(1)

إن الذنوب و المعاصي كلها مضافا الى العقاب الأخروي عليها يترتب عليها آثار و عقوبات دنيوية أيضا، و لكن هذه الصفات الأربع المذكورة في الرواية عقوبتها المترتبة عليها أسرع من سائر العقوبات. و هي:

1 - الشخص الذي تحسن إليه و لكنه بدلا من أن يكافيك بالإحسان ورد الجميل، يبادلك بالإساءة و يجيب الإحسان إليه بالإساءة إليك.

2 - الشخص الذي لا تظلمه و لا تتعدى عليه و لا تتجاوز حقوقه، و لكنه يبادلك بالظلم و التعدي و التجاوز.

3 - الشخص الذي إذا عاهدته على أمر وفيت له بعهدك و لكنّه يغدر بك و لا يفي بما عاهدته عليه بل ينقض العهد و يحنث به.

4 - الشخص الذي يصل أقرباءه و لكنّهم يبادلونه بقطيعته.

و هذه الأمور الأربعة ترجع الى أمر واحد عام و هو أن المعاملة الإجتماعية و العلاقات و الروابط بين الأشخاص تكون من أحد الطرفين مبتنية على الإحسان و العدل و الإنصاف بينما تكون من الطرف الآخر مبتنية على الظلم و الغدر و نقض

ص: 321


1- الخصال/باب الأربعة/ح 71.

العهد و عدم المروءة، ففي هكذا موارد سوف يرى الشخص الظالم و الغادر و القاطع لرحمه عواقب أعماله عاجلا و سريعا.(1)

وقت الإعتراف بالذنب

و قد رأيت في رواية أنّ عرفات سمّيت عرفات لأنّ هذا المكان و هذا اليوم هما فرصة للإنسان كي يعترف بذنوبه بين يدي الباري عزّ و جلّ.

فالإسلام لا يجيز للإنسان الاعتراف بالذنوب و الخطايا أمام الآخرين، أمّا بين يدي اللّه سبحانه و في خلواتنا مع أنفسنا فلا بدّ لنا من الاعتراف بقصورنا و تقصيرنا و أخطائنا و ذنوبنا التي تكبّلنا و تعوّقنا من التحرّك و تكون سببا لاسوداد وجوهنا أمام اللّه.

و إذا ما أراد الإنسان أن يسير في طريق الخير و الصلاح فلا بدّ له من الاعتراف - بينه و بين ربّه - بذنوبه و عيوبه.

أمّا الذين يتصوّرون أنّهم مبرّؤون من كلّ عيب و نقص فلن يتمكّنوا من السير في هذا الطريق أبدا.

و هذا الأمر لا يقتصر على الفرد فقط بل ينطبق على المجتمع أيضا. فإذا أراد المجتمع أن يسير في طريق الرشاد لا بدّ له من معرفة مواضع أخطائه و إنحرافاته، و معرفة ما هي تلك الأخطاء التي ارتكبها؟ و يعترف بذنوبه بين يدي اللّه. و لذا يجب على الامّة الإسلامية اليوم أن تعترف بتهاونها في أداء مسؤولياتها تجاه الإسلام العظيم، و على المسلمين في العالم أن يعترفوا بأنّ متابعة القوى المعادية للإسلام و القبول بالثقافة الغربية الفاسدة و المبتذلة هو إنحراف عن الطريق السوي. و إذا ما اعترفت الشعوب الإسلامية بهذه الامور فإن الطريق سيفتح أمامها و تكون قادرة على

ص: 322


1- كلمات مضيئة: 178.

إصلاح نفسها.

فالإعلام العالمي يريد أن يشغل الشعوب؛ حتّى لا تستطيع أن تميّز بين الخطأ و الصواب. و هذا ما تشاهدونه في وسائل الإعلام العالمية من صحف و إذاعات و في مختلف المجالات السياسية و الإقتصادية و في مجال الاستهلاك و غيرها من المجالات.

نموذج للإعتراف بالذنب

أمّا السرّ الأساسي الذي حدا بالشعب الإيراني المسلم أن يقوم بهذه الثورة العملاقة - التي أيقظت الشعوب من نومها و أوجدت هذا التحوّل العميق - فهو رجوعه عن الطريق الخاطئ الذي سار عليه مدّة من الزمن. فقد عرف هذا الشعب أنّ متابعة السلاطين و الظلمة و السكوت عمّا يرتكبونه من ظلم و إجحاف هو سلوك خاطئ لا بدّ من تغييره، فأبدل هذا الطريق المنحرف بآخر سليم، الأمر الذي جعله ينال الموفّقية و السعادة.

و قد فتح الشعب الإيراني بموقفه هذا طريقا أمام الشعوب المستضعفة في العالم، حتّى أنّنا نرى أنّ كلّ المثقّفين المسلمين و أصحاب الضمائر الحيّة في العالم الإسلامي يتابعون نفس الطريق الذي سار عليه هذا الشعب؛ لأنّه هو طريق السعادة و الموفقية، طريق النجاح و الانعتاق من سيطرة القوى الإستكبارية.

و إنّنا نأسف لأنّ بعض الشعوب الإسلامية لم توفّق لحدّ الآن من السير في هذا الطريق؛ لأنّ الحكّام الفاسدين و الخونة لم يسمحوا لها أن تجد طريقها الصحيح(1).

ص: 323


1- من كلمة ألقاها في 7 ذي الحجة 1414 ه
أثر الذنوب

قال الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، إنّ المسيح عليه السّلام قال للحواريّين: بحقّ أقول لكم، إنّ من ليس عليه دين من الناس أروح و أقلّ همّا ممنّ عليه الدين و إن أحسن القضاء، و كذلك من لم يعمل الخطيئة أروح همّا ممن عمل الخطيئة و إن أخلص التوبة و أناب»(1).

يقول النبي عيسى عليه السّلام في وعظه و نصيحته لخواص أصحابه المعروفين بالحواريّين:

إنّ الشخص الذي عليه دين للناس يعيش حالة الهمّ و عدم الراحة بخلاف الشخص الذي ليس للناس في عهدته شيء فإنّه يعيش أفضل راحة من ذاك حتى و إن كان سوف يقضي دينه في موعده إلاّ أن نفس كونه مدينا يدخل الهمّ على قلبه.

و هكذا حال الإنسان المخطيء المذنب فإنّ ذنبه يجعله مهموما حتى و إن تاب و أناب إلى اللّه تعالى بخلاف الشخص الذي لم يذنب و لم يخطيء فإنه يعيش مرتاح البال.

و هذا القلق و تشويش الذهن و البال الناشيء من ارتكاب الذنب إنّما يحصل للإنسان فيما إذا تذكّر ذنوبه و أخطاءه، و لذلك كان نسيان الذنوب و الأخطاء أعظم آفة تجعل الإنسان غافلا عن علاج نفسه و إصلاحها.

و من هنا فإنّ تذكّر الذنب و الخطيئة و الإقرار بهما لنفسه و ليس للآخرين (لأن الإعتراف بالذنب أمام الآخرين غير جائز) من الأمور التي أوصى بها الإسلام و أكّد عليها(2).

ص: 324


1- تحف العقول، صفحة: 392.
2- كلمات مضيئة: 179.

الإستغفار

أهمية الإستغفار

إنّ الإستغفار إذا كان حقيقيا و صادقا، يذلل الصعاب أمام الإنسان. نفترض أنّ أحدكم لديه مشكلة كأن يكون أحد أعزائه مريضا، و طرق كل الأبواب المتعارفة و لم يحصل له على علاج يشفيه، و لم يبق أمامه إلاّ التوسل إلى اللّه و دعاؤه، يا ترى كيف يدعو اللّه في مثل هذا الموقف؟

يجب أن يكون استغفار الذنوب على هذه الشاكلة أيضا، أي أن تستغفروا اللّه عن صدق و تقرروا عدم اقتراف هذا الذنب ثانية.

بطبيعة الحال قد يقرر الإنسان عدم العودة إلى مثل ذلك الذنب، لكنه قد ينزلق و يرتكبه مرة اخرى، عليه أيضا أن يتوب ثانية.

و حتى إن تاب مائة مرة و لم يلتزم و عاود ارتكاب الذنب يبقى باب التوبة مفتوحا أمامه للمرة الواحدة بعد المائة.

لكن من يتوب و يستغفر يجب أن لا يضمر في قرارة نفسه أنه يستغفر الآن و بعدها يعاود ارتكاب الذنب، فهذه لا تسمى توبة(1).

ص: 325


1- من كلمة ألقاها في: 7 رمضان 1417 ه - جامعة طهران.
الإستغفار عن ندم

روي عن الأئمة الأطهار عليهم السّلام حديثا جاء فيه: «من استغفر بلسانه و لم يندم بقلبه فقد استهزء بنفسه»(1).

أيّ استغفار هذا؟! هذا لا يعد استغفارا. الإستغفار معناه أن يطلب الإنسان من ربّه بجد أن يعفو عما ارتكبه من خطأ، فكيف يبيح لنفسه العزم على ارتكاب ذلك الذنب مرّة اخرى؟ و هل يتجرأ على طلب الغفران من ربّه؟ و أي استغفار هذا؟

هذا الاستغفار لا جدوى منه. لا بدّ أن يكون الاستغفار حقيقيا و جديا(2).

فوائد الإستغفار

قال اللّه الحكيم في كتابه الكريم: بسم اللّه الرحمن الرحيم * وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّٰهَ يَجِدِ اَللّٰهَ غَفُوراً رَحِيماً (3).

جاء في دعاء أيام شهر رمضان المبارك: «و هذا شهر التوبة و هذا شهر الإنابة و هذا شهر العتق من النار»(4).

الإستغفار يعني طلب المغفرة الإلهية للذنوب، و لو أداها العبد بشكل صحيح لفتحت عليه باب البركات الإلهية. فالذنوب التي نرتكبها تغلق على الفرد و المجتمع كل ما يحتاجه من الألطاف الإلهية، من فضل اللّه، و رحمته، و نوره، و هدايته، و توفيقه، و إعانته في أعماله، و مؤازرته بالنصر في مختلف الميادين، الذنوب تسدل

ص: 326


1- بحار الأنوار: 356/75 ح 11.
2- من كلمة ألقاها في: 28 جمادى الثانية 1422 ه - طهران.
3- سورة النساء: 110.
4- الصحيفة السجادية: 235.

حجابا بيننا و بين رحمة اللّه و فضله، و الاستغفار يزيل هذا الحجاب و يفتح علينا باب فضل اللّه و رحمته. و هذه هي فائدة الاستغفار.

لهذا يذكر القرآن للإستغفار - في عدة مواضع - فوائد دنيوية و كذا يذكر فوائد اخروية، كقوله تعالى: وَ يٰا قَوْمِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ اَلسَّمٰاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرٰاراً (1) و أمثالها و يفهم من الآيات كلّها أنّ الفضل الإلهي يجد طريقه إلى قلب الإنسان و جسده و إلى المجتمع الإنساني ببركة الاستغفار. و هذا يعني أنّ الإستغفار أمر مهم.

الاستغفار بذاته يمثل في الواقع جزءا من التوبة، و التوبة معناها العودة إلى اللّه.

و على هذا فأحد أركان التوبة، الاستغفار؛ أي طلب المغفرة من اللّه تعالى، و هذا من النعم الإلهية الكبرى.

أي أنّ اللّه تعالى فتح باب التوبة لعباده ليتسنى لهم طي مدارج الكمال، و لكي لا يكون الذنب سببا في انشدادهم إلى الأرض؛ لأن الذنب يسقط الإنسان من ذروة علاه الإنساني. و كل ذنب يلحق ضررا بروح الإنسان و نقائه و معنويته و اعتزازه الروحي، و يقضي على شفافية روح الإنسان فتتراكم عليها الرسوبات.

أثر الذنب على الإنسان

الذنب يجرّد الإنسان من ذلك البعد المعنوي الذي يميز الإنسان عن سائر موجودات هذا العالم المادي، و يقضي على روحانيته و يقرّبه إلى الحيوانات و الجمادات.

و فضلا عن الضرر المعنوي الذي تلحقه الذنوب بحياة الإنسان، فهي تجلب عليه الكثير من الإخفاقات، فالكثير من ميادين الحياة الإنسانية يفشل فيها الإنسان بسبب

ص: 327


1- سورة هود: 53.

ما يرتكبه من ذنوب. نعم، لفشل الإنسان و إخفاقه تفسير علمي و نفسي و فلسفي أيضا، و ليس ذلك بالتعبد الصرف أو بيان ألفاظ.

كيف يتأتى للذنب أن يصيب الإنسان بالإحباط؟ في معركة أحد مثلا أدى تهاون مجموعة من المسلمين إلى تحويل النصر الابتدائي إلى هزيمة، أي أنّ الغلبة كانت للمسلمين في الوهلة الأولى إلاّ أن الأشخاص الذين أوكلت إليهم مهمة المرابطة في مضيق الجبل لصد أي تسلل للعدو من خلف الجبهة، تركوا مواضعهم و هرعوا إلى ساحة القتال طمعا في نيل الغنائم، فالتفّ عليهم العدو من الخلف و باغتهم بهجوم مفاجئ، فدمّرهم.

و هذا هو السبب في هزيمة احد، هذا أثر من آثار الذنوب.

وردت في سورة آل عمران عشر آيات أو اثنتا عشرة آية أو أكثر بشأن هذه القضيّة.

فبما أنّ المسلمين كانوا يعيشون حالة من الاضطراب النفسي لذلك كان وطء هذه الهزيمة ثقيلا عليهم. فنزلت الآيات القرآنية لطمأنتهم و لهدايتهم و لتبيّن لهم العوامل التي انتهت بهم إلى الهزيمة، و الظروف التي أدت بهم إلى ذلك، و تسلسل الآيات حتى قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعٰانِ إِنَّمَا اِسْتَزَلَّهُمُ اَلشَّيْطٰانُ بِبَعْضِ مٰا كَسَبُوا (1) أي أنّ الذي حصل من ترك مجموعة من المقاتلين لمهمتها حتى انتصر العدو لم يكن أمرا اتفاقيا، بل كانت أرضية نفوسهم قد استعدت لذلك بسبب ذنوبهم. أي إنهم كان فيهم خلل داخلي و قد استعان الشيطان بما كانوا قد ارتكبوه سابقا من أعمال، و دفعهم إلى الإنحراف.

أي أنّ الذنوب السابقة يظهر أثرها في الجبهة؛ في الجبهة العسكرية و في الجبهة السياسية و في جبهة مواجهة العدو، و في جهاد البناء، و في مجال التربية و التعليم، و في كل حقل يستلزم الاستقامة، و يستلزم الفهم و الاستيعاب الدقيق، و في المواضع

ص: 328


1- سورة آل عمران: 155.

التي ينبغي للإنسان يكون فيها صلدا كالحديد يقطع كل ما يعترض سبيله من الموانع، و يسير قدما.

المقصود طبعا الذنوب التي لم يستغفر منها الإنسان و لم يتب منها توبة نصوحا.

في هذه السورة ذاتها ثمة آية اخرى وردت بنمط آخر لكنّها تعكس نفس هذا المعنى.

فالقرآن يريد القول: لا عجب في انكساركم في جبهة المعركة فأمثال هذه الوقائع قد تحصل، و قد حصلت من قبل فقال عز من قائل: وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قٰاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمٰا وَهَنُوا لِمٰا أَصٰابَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ مٰا ضَعُفُوا وَ مَا اِسْتَكٰانُوا (1) أي أن أمثال هذه الحوادث قد حصلت للأنبياء السابقين في ساحة القتال، ثم يقول تعالى بعد هذا:

وَ مٰا كٰانَ قَوْلَهُمْ إِلاّٰ أَنْ قٰالُوا رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنٰا ذُنُوبَنٰا وَ إِسْرٰافَنٰا فِي أَمْرِنٰا (2) أي أنّ أصحاب الأنبياء عليهم السّلام عند ما تعرضوا لمثل هذه الحوادث في المعارك أو حينما يتعرضون لمصائب اخرى في مختلف الميادين، كانوا يتوجهون إلى اللّه بالإستغفار قائلين:

رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنٰا ذُنُوبَنٰا وَ إِسْرٰافَنٰا فِي أَمْرِنٰا و هذا يدل في الواقع على أن الحادثة و المصيبة التي تقع لكم إنما تنشأ بسبب ما ارتكبتموه أنتم من ذنوب. هذا هو تأثير الذنوب.

الأثر المعنوي و المادي للذنوب

إذن فانظروا إلى هذه الذنوب التي يقترفها الإنسان، و هذه المخالفات، و الأعمال الناجمة عن الانسياق وراء الشهوات و حب الدنيا و الطمع و الحرص على مال الدنيا و التعلق بالمناصب الدنيوية، و بخل المرء بما في يده من الأموال، إضافة إلى صفات

ص: 329


1- سورة آل عمران: 146.
2- سورة آل عمران: 147.

الحسد و الغضب، تلاحظون أنها تترك على الإنسان أثرين حتما؛ أحدهما: تأثير معنوي يسقط من الروح صفاءها و نقاءها، و يطفئ فيها وهج النور، فيخبو في الإنسان ذلك البعد المعنوي، و ينغلق بوجهه سبيل الرحمة الإلهية.

التأثير الآخر يبرز في ميدان النشاط الإجتماعي حيث تتطلب حركة الحياة الجد و الحزم و صلابة الإرادة؛ هناك تكون الذنوب عائقا أمام المرء. و إذا افتقد العناصر الاخرى التي تعوض عن هذا الضعف، يكتب له الفشل.

بطبيعة الحال قد تكون لدى الإنسان عوامل اخرى أحيانا تعوّض عن ذلك كالسجيّة الحسنة و العمل الصالح، إلاّ أنها ليست موضع بحثنا. أما الذنب بذاته فهذه تأثيراته.

نعمة المغفرة من الذنب

في مثل هذه الحالة يمنح اللّه الإنسان نعمة كبرى و هي نعمة المغفرة، و يقول له:

إنك إذا ندمت على الذنب الذي اقترفته - و هو ما ينبغي أن يبقى أثره السيئ - فذاك باب التوبة و الاستغفار مفتوح. فكأنك بارتكابك للذنب قد أنزلت ببدنك جرحا و أدخلت إليه مكروبا، فالمرض واقع بك لا شك.

و إذا شئت إزالة أثر هذا الجرح و هذا المرض من جسدك، فإن اللّه تعالى قد فتح لك بابا و سمّاه باب التوبة و الاستغفار و الإنابة و العودة إلى اللّه. فإذا تبتم فسيعوض اللّه عليكم. هذه نعمة كبرى منحها اللّه إيّانا.

جاء في دعاء وداع شهر رمضان و هو الدعاء الخامس و الأربعون من الصحيفة السجادية، كلام للإمام السجاد (ع) يدعو ربّه قائلا -: «أنت الذي فتحت لعبادك بابا إلى عفوك سميته التوبة، و جعلت على ذلك الباب دليلا من وحيك لئلا يضلوا عنه». و يقول بعد بضع كلمات: «فما عذر من أغفل دخول ذلك المنزل بعد فتح

ص: 330

الباب لإقامة الدليل»(1). فاطلبوا المغفرة من اللّه.

و في حديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: فيه: «إن اللّه تعالى يغفر للمذنبين إلاّ من لا يريد أن يغفر له، فقيل: يا رسول اللّه من الذي يريد أن لا يغفر له؟ قال: من لا يستغفر»(2).

فالإستغفار مفتاح باب التوبة و المغفرة و به تنال الرحمة الإلهية(3).

موانع الإستغفار
اشارة

إننا إذا شئنا الإستغفار و استجلاب هذه النعمة الإلهية يتعين علينا تنزيه ذواتنا من خصلتين: إحداهما الغفلة، و الاخرى الغرور.

1 - الغفلة:
اشارة

الغفلة تعني أن لا يكون الإنسان متنبّها و ملتفتا بشكل تام إلى أنه يقترف ذنبا، كما هو الحال بالنسبة لبعض الناس، لا أقول الكثير من الناس - فلا تهمني الكثرة و القلة - فقد يكون في بعض المجتمعات أقل. على كل حال، هذا النمط من الناس موجود و يرتكب الذنب غفلة و بدون أن يشعر بصدور المخالفة منه، فقد يكذب، و يداهن، و يغتاب، و يضر الآخرين، و يصدر منه الشر، و يخرب، و يقتل، و يخلق المشاكل للناس الأبرياء، و بنظرة أوسع و بمستوى أعلى، يخطط بشكل مروّع للإيقاع بالشعوب، و يضلل الناس، من دون أن يشعر أساسا أنه يمارس أعمالا منكرة. و لو قال له قائل إنك تقترف ذنبا، قد يضحك منه مستهزئا و يقول: و أي ذنب هذا؟!

ص: 331


1- الصحيفة السجادية: 222.
2- ميزان الحكمة 2274/3 ح 3083.
3- من كلمة ألقاها في: 17 رمضان 1418 ه - جامعة طهران.

بعض هؤلاء الناس غافل، أو قد لا يعتقد أساسا بمبدأ الثواب و العقاب، و البعض الآخر يعتقد بالثواب و العقاب لكنه تائه في غمار الغفلة غير ملتفت لما يعمل، و لو تأملنا في حياتنا اليومية لرأينا بعض تصرفاتنا شبيهة بتصرفات الغافلين، الغفلة أمر عجيب و ذات خطر بليغ.

و قد لا يوجد عدو أشد، و لا خطر أكبر منها على الإنسان، نعم بعض الناس هم من هذا الطراز.

الغافل لا يفكر بالاستغفار بتاتا، بل و لا يخطر بباله أنه يرتكب ذنبا. و هو غارق على الدوام بالذنوب، و منغمس سكران غاط بنومه، و هو أشبه ما يكون بمن يؤدي بعض الحركات و هو نائم. و لهذا اطلق أهل السلوك الأخلاقي - في بيانهم لمنازل السالكين في طريق تهذيب النفس و تحصيل الأخلاق - على المنزل الذي يروم المرء فيه الخروج من الغفلة، اسم منزل اليقظة.

أثر الغفلة

أما في المصطلح القرآني فيطلق على الحالة المقابلة للغفلة، اسم التقوى. التقوى تعني التنبّه و اليقظة الدائمة و المواظبة. قد تصدر عن الغافل عشرات الذنوب و هو لا يشعر أساسا أنه ارتكب ذنبا. و الإنسان المتقي في الحالة المقابلة له تماما؛ فلا يكاد يرتكب ذنبا حتّى ينتبه إلى أنه ارتكب ذنبا، فيبادر إلى إصلاحه: إِنَّ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا إِذٰا مَسَّهُمْ طٰائِفٌ مِنَ اَلشَّيْطٰانِ تَذَكَّرُوا فَإِذٰا هُمْ مُبْصِرُونَ (1).

يا أعزائي، و يا اخواني و أخواتي، أيا من تكونوا، انتبهوا هذا الكلام غير موجّه لفئة معيّنة فنقول مثلا على غير المثقفين أو على قليلي المعرفة أو الشبان أو الصغار أن ينتبهوا، كلا، بل على الجميع أن ينتبهوا؛ من العلماء و الأكابر و الشخصيات المعروفة

ص: 332


1- سورة الأعراف: 201.

و الأغنياء و الفقراء و الكبار و الصغار لكي لا ينغمسوا في الغفلة فتصدر منهم أخطاء قد لا يكونون ملتفتين لها. هذا شيء عظيم.

الذنب الذي نقترفه أنا و أنت قد لا نلتفت إليه و لا نتوب منه و لا نستغفر، لأننا لا نعلم أننا قد أذنبنا.

و في يوم القيامة حين يكشف عن أبصارنا نعي حينها كم في سجل أعمالنا من أشياء عجيبة، يندهش الإنسان في ذلك الموقف و يتساءل عن زمن ارتكابه لهذه الأعمال لأنه لا يتذكرها أصلا. هذا هو ذنب الغفلة، و هذه سلبياته. إذن فأحد موانع الاستغفار هو الغفلة(1).

2 - الغرور يمنع الإستغفار:

المانع الآخر عن التقوى و التهذيب هو الغرور، الإنسان قد يغتر لأدنى عمل يؤدّيه.

إيّاكم أن تغترّوا و تقولوا إنّنا لم نذنب. كلا، بل إننا غرقى في القصور و في التقصير «و ما قدر أعمالنا في جنب نعمك»(2). و ما هو قدر عمل الخير الذي نتصوّر أننا قد فعلناه، و ما هي أهمّيته و ما نسبته إلى جانب نعم اللّه و في مقابل حق الشكر للّه، فنحن غير قادرين على أداء حق شكره، «لا الذي أحسن استغنى عن عونك»(3).

و هل بإمكان الإنسان الاستغناء عن فضل اللّه و لطفه في آن من آنائه؟ نحن على الدوام بحاجة للطف اللّه، و لطفه تعالى يأتينا على الدوام «خيرك إلينا نازل»(4) و نحن عاجزون عن شكره، و هذا قصور أو تقصير يستدعي في كل الأحوال طلب

ص: 333


1- من كلمة ألقاها في: 17 رمضان 1418 ه - جامعة طهران.
2- البحار: 85/95.
3- البحار: 39/95.
4- البحار: 85/95.

المغفرة(1).

وردت في الأدعية و الروايات كلمة «الاغترار باللّه». جاءت في الدعاء السادس و الأربعين من الصحيفة السجادية - الذي يقرأ في أيام الجمعة - عبارة مثيرة و هي:

«و الشقاء الأشقى لمن اغتر بك، ما أكثر تصرفه في عذابك و ما أطول تردده في عقابك و ما أبعد غايته من الفرج و ما أقنطه من سهولة المخرج»(2). فالمغرور كما تصفه هذه الرواية هو من يغتر باللّه تعالى.

فهو يغتر لأدنى عمل يؤديه. فإذا صلّى ركعتين مثلا، أو قدّم خدمة للناس، أو تصدّق بمبلغ من المال، أو قام بعمل في سبيل اللّه، يصاب من فوره بالغرور و يحسب أنه أصلح ذاته بين يدي اللّه تعالى، و حسن حاله عنده و لا حاجة له في شيء آخر! إنه لا يتلفّظ بهذا الكلام، لكنه يفكر هكذا في نفسه.

ص: 334


1- من كلمة ألقاها في: 17 رمضان 1418 ه - جامعة طهران.
2- الصحيفة السجادية: 241.
غفران الذنب لا يعني سهولته

إنتبهوا إلى أنّ اللّه تعالى حينما يفتح باب التوبة و يغفر الذنوب، لا يعني هذا أنّ الذنب شيء بسيط أو أمر قليل الأهمية. كلا، فقد تؤدي الذنوب أحيانا إلى هلاك الوجود الحقيقي للإنسان، و تستنزله من مكانته السامية في الحياة الإنسانية إلى حيوان مفترس و قذر و لا يعرف للقيم أيّ معنى، نعم هكذا هي الذنوب. فلا تظنوا الذنب أمرا يسيرا، فهذا الكذب، و هذه الغيبة، و عدم المبالاة بكرامة الناس، و هذا الظلم و لو بكلمة واحدة هي ذنوب غير طفيفة و غير يسيرة.

الشعور بالذنب لا يستلزم أن يكون المرء غارقا في الذنوب لسنوات متمادية، لا أبدا، حتى الذنب الواحد لا ينبغي الاستخفاف به، جاء في الروايات الشريفة باب اسمه «استحقار الذنوب»(1)، و فيه مذمّة لمن يستهين بالذنوب.

أما السبب الذي جعل الباري تعالى يغفر الذنب فهو أن الأوبة إلى اللّه تحظى بأهمية كبيرة، لا بمعنى أنّ الذنب صغير و يسير.

إنّ الذنب أمر خطير لكن العودة إلى اللّه و الرجوع إليه له من الأهمية بحيث إنّ المرء إذا قام به عن صدق و إخلاص، يشفى من ذلك المرض المزمن.

و على هذا فالاغترار بالعمل الصالح - و هو حسب تصوّرنا عمل صالح، و قد لا يكون صالحا أو لا يحظى بأهمية معينة - يدفع بالمرء إلى ترك الاستغفار.

يقول الإمام السجاد عليه السّلام في دعاء آخر: «فأمّا أنت يا إلهي فأهل أن لا يغتر بك

ص: 335


1- انظر الكبائر من الذنوب للشاكري: 98.

الصديقون»(1).

لاحظوا ما يتضمنه هذا الدعاء من بيان و من معرفة، فلو لا الغفلة لما كان الاغترار باللّه و لما كان العجب، و لأقبل المرء على الإستغفار(2).

خطر إستصغار الذنوب

قال الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، إنّ المسيح عليه السّلام قال للحواريّين: و إنّ صغار الذنوب و محقّراتها من مكائد إبليس، يحقّرها لكم و يصغّرها في أعينكم فتجتمع و تكثر فتحيط بكم»(3)

يقول النبي عيسى عليه السّلام في وعظه و نصيحته لخواص أصحابه المعروفين بالحواريّين:

إنّ الذنوب الصغيرة و الحقيرة جزء من مكائد و حيل إبليس، فهو الذي يجعلنا نعدّها صغيرة و حقيرة لأنّه يصغّرها و يحقّرها في أعيننا و أنّها ليست بذلك الشيء المهم. و لكن في النتيجة حينما نقدم عليها و نرتكبها شيئا فشيئا و بالتدريج سوف تتجمّع و تكثر و في نهاية المطاف سوف تحيط بنا و تؤدّي بنا إلى الهلاك، لأن البلاء الذي سيحصل لنا هو نفسه الذي يقع فيه من غرق في دوّامة الذنوب الكبيرة.

على أنّ بعض الذنوب الكبيرة كالغيبة و نتيجة تكرارها مرارا تصبح بنظر الإنسان صغيرة فيقدم عليها بجرأة و لا مبالاة. و من هنا يجب علينا التوجه و الإلتفات و المراقبة الشديدة(4).

و عن أبي جعفر عليه السّلام: «من الذنوب التي لا تغفر قول الرجل: يا ليتني لا أؤاخذ

ص: 336


1- الصحيفة السجادية: 190-194.
2- من كلمة ألقاها في: 7 رمضان 1417 ه - جامعة طهران.
3- تحف العقول، صفحة: 392.
4- كلمات مضيئة: 177.

إلاّ بهذا»(1)

واحدة من الذنوب التي لا يغفرها اللّه هي أن يرتكب الإنسان ذنبا ما و لكنه يستصغره و لا يراه ذاك الذنب المهم و يقول في نفسه يا ليت لا يؤاخذني اللّه يوم القيامة إلاّ بهذا الذنب فقط.

فإنّ هذا القول يعتبر استحقارا و استخفافا بالذنب، و لذلك إذا لم يتب الإنسان من هذا الذنب فلن يغفر له.

و هذا النوع من الروايات الغرض منه هو أن يدقّق الإنسان أكثر في عيوب نفسه، و يخلع عن عينيه نظارة العجب بنفسه، و لا يرى أن ذنوبه صغيرة بينما ذنوب الآخرين كبيرة(2).

الإستغفار عن الذنب الأخلاقي

الاستغفار إمّا أن يكون عن ذنب ارتكبناه، و إمّا أن يكون عن ذنب أخلاقي. لو فرضنا أن شخصا لم يرتكب ذنبا، لا من كذب و لا من غيبة، و لا من ظلم، و لا من خلاف، أو شهوة، أو إهانة لأحد، أو تطاول على مال الناس - و من الطبيعي أنّ أمثال هؤلاء الناس نادر جدا - إلاّ أنّ الكثير من هؤلاء الناس إذا لم تكن لهم ذنوب بالجوارح، فهم بلا شك يقعون في ذنوب الجوانح، و هي ذنوب أخلاقية. فلو أنّ مثل هذا الشخص الذي لم يرتكب أي ذنب كان يسير بين الناس و يفكر مع نفسه قائلا:

مساكين هؤلاء الناس منغمسون في الذنوب، و الحمد للّه إنني صنت نفسي و هذبتها و لا أرتكب مثل هذه الذنوب. أي أنه في مثل هذه الحالة أعتبر نفسه خيرا منهم، و هذا بحد ذاته ذنب و سقوط و انحدار يستوجب الاستغفار.

ص: 337


1- الخصال، باب الواحد، ح: 83.
2- كلمات مضيئة: 177.

إن احتقار الناس، و اعتبار الذات أفضل من الآخرين، و النظر إلى عمله و كأنه أكثر قيمة من عمل غيره، و ما شابه ذلك من صفات الحسد و الطمع و العجب، كلها تستوجب الاستغفار.

و لو فرضنا أنّ شخصا سلم من كل هذه الذنوب لكنه لم يتعمق في باب علم التوحيد و معرفة اللّه - و هو باب غير محدود و غير مغلق و لا نهاية له - و كان جميع الأنبياء عليهم السّلام و الأولياء يتعمّقون فيه من أجل تكامل النفس و نيل مزيد من المعرفة بشأن الباري جل شأنه، و لسبر أغوار صفاته الكمالية، فإذا لم يحرز الإنسان تقدما في هذا السبيل، يعتبر ذلك قصورا منه و تخلفا و عجزا معنويا يوجب الاستغفار(1).

معنى استغفار أهل البيت عليهم السّلام

الاستغفار لا يختص بفئة معينة من الناس حتى يقال على الذين أسرفوا في ارتكاب الذنوب أن يستغفروا، كلا، بل يجب الاستغفار على جميع الناس و حتى على من هو في حد النبي صلّى اللّه عليه و آله لِيَغْفِرَ لَكَ اَللّٰهُ مٰا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ مٰا تَأَخَّرَ (2) أي حتى الرسول الأعظم صلوات اللّه عليه و آله يجب أن يستغفر أيضا(3).

فالاستغفار مطلوب من الجميع. تلاحظون مدى اللوعة و الحرقة التي تتسم بها أدعية الأئمة عليهم السّلام.

يتصور البعض أنّ هذه اللوعة و الحرقة التي يبديها الإمام السجاد عليه السّلام مثلا في الأدعية الغرض منها تعليم الآخرين. أجل تعليم الآخرين موجود أيضا في الشكل و في المضمون، و لكن ليس هذا أصل القضية، بل أصلها هو الحالة الذاتية لهذا العبد

ص: 338


1- من كلمة ألقاها في: 7 رمضان 1417 ه - جامعة طهران.
2- سورة الفتح: 3.
3- من كلمة ألقاها في: 28 جمادى الثانية 1422 ه - طهران.

الصالح و الإنسان العظيم، هذا الشغف و اللوعة متعلّقة به ذاتا، و هذا الخوف من عذاب اللّه و الرغبة الجامحة في التقرب إليه و نيل رضاه، منبثق من ذاته، و هذا الاستغفار و التضرع إلى اللّه نابع حقا من ذاته.

قد يكون - مثلا - الإقبال على اللذائذ المباحة و الأعمال المباحة في الحياة نوعا من الانحطاط و السقوط في نظر إنسان على تلك الدرجة من العلو و الرفعة، فهو يتطلع مثلا إلى عدم الاهتمام بالضرورات المادية و الجسمية، و عدم النظر إلى المباح و القضايا العادية في الحياة بل تحدوه الرغبة في أن يحث السير في هذا الوادي اللامتناهي صوب رضوان اللّه و جنّة المعرفة الإلهية، فإذا لم يتحقق له هذا تراه يستغفر. إذن فالاستغفار مطلوب من الجميع.

يجب على الجميع أن يستغفروا سواء الذين يكثرون من العبادة، أم من هم في حد متوسط منها، أم الذين يكتفون منها بأدنى الواجبات، أم من لا يؤدي - لا سمح اللّه - قسما من الفرائض، عليهم أن يدركوا جميعا بأنّ هذه الصلة بينهم و بين اللّه لها أثرها الإيجابي.

استغفروا ربكم و اطلبوا منه العفو، و اسألوه رفع هذا الحجاب المتراكم من الذنوب، و إزالة هذه السحب المانعة لشمس لطفه و فضله، ليشع نور لطفه على هذه الأفئدة و على هذه النفوس، فتلاحظون عندها ظهور التعالي و السمو في ذات الإنسان(1).

فالإستغفار كما تقدم طلب المغفرة من اللّه و العودة إليه، التوبة معناها الأوبة إلى اللّه. فحيثما كان الإنسان و في أية مرحلة من الكمال و حتى إذا كان في درجة أمير المؤمنين عليه السّلام يبقى أيضا بحاجة إلى الاستغفار، فقد خاطب اللّه عزّ و جلّ رسوله

ص: 339


1- من كلمة ألقاها في: 7 رمضان 1417 ه - جامعة طهران.

الأعظم صلّى اللّه عليه و آله بالقول: وَ اِسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ (1)، و فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اِسْتَغْفِرْهُ (2).

و اليوم فإن بلسم الآلام المزمنة التي يقاسيها العالم و الجراح التي تئنّ منها البشرية إنما يكمن في الأوبة إلى اللّه قال اللّه تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اَللّٰهِ (3)؛ فعلى البشرية العودة إلى اللّه و أن تعيش حالة وفاق معه و مع الإيمان و المعنويات، فهذه عاقبة ما اقترفه الذين عمدوا لإبعاد البشر عن المعنويات و الإيمان و عن التوجه إلى اللّه؛ و البشرية إذ تتعرض لأحداث يوم هنا و يوم هناك، فما عليها إلاّ الرجوع إلى اللّه و المعنويات.

فعلاج الآلام التي تئنّ منها هو التوجه إلى اللّه و العودة إلى الإيمان، و هذا فراغ تتحسسه الضمائر الطاهرة على امتداد المعمورة(4).

سبب إستغفار النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله

أمر اللّه في القرآن الكريم رسوله الأعظم صلّى اللّه عليه و آله مرّات عديدة بالاستغفار، مع أنّ الرسول الأعظم معصوم؛ لا يذنب و لا يعصي أمر اللّه، و لكنه مع هذا يأمره بالاستغفار.

و لكن ممّ يستغفر الأولياء و الأكابر؟ هذا بحد ذاته موضوع جدير أن يبحث على حدة.

فاستغفارهم من أشياء ليست كذنوبنا؛ لأن أمثال هذه الذنوب لا تصدر عنهم.

فالمقام الرفيع و القرب الإلهي قد لا يليق به أحيانا ما هو مباح أو حتى ما هو مستحبّ بالنسبة لنا، لذلك فهو يستغفر من تلك الأمور استغفارا جادّا، لا مجرّد استغفار شكلي.

لاحظوا كيف يبدأ أمير المؤمنين عليه السّلام دعاء كميل - الذي تفيد الروايات بأنّه صدر عنه إنشاءا - بعد أن يقسم على اللّه باسمه و بقدرته و بعظمته و بصفات جلاله و جماله،

ص: 340


1- سورة غافر: 55.
2- سورة النصر: 3.
3- سورة الذاريات: 50.
4- من كلمة ألقاها في: 28 جمادى الثانية 1422 ه - طهران.

ثم يقول: «اللّهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم...»(1) و إلى آخر الدعاء.

و هكذا أيضا في دعاء ابي حمزة الثمالي، و الأدعية الاخرى. إذا كان هذا شأن الناس الكبار، فما أحوجنا أنا و أنتم للإستغفار(2).

فرص الإستغفار

ليلة القدر: فرصة سانحة للاستغفار و طلب العفو من اللّه تعالى، فهو طالما قد فتح المجال أمامي و أمامكم لنعود إليه و نطلب منه العفو و المغفرة، فلنفعل و نرجع إلى اللّه و إلاّ فسيأتي يوم يقول فيه عزّ و جلّ للمجرمين: لاٰ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (3) لا يأذن لنا - لا سمح اللّه - يوم القيامة بالاعتذار، و لا يؤذن للمجرمين بالتفوّه بكلمة واحدة للاعتذار، فليس هناك مجال للاعتذار. و ما دام باب العفو مفتوحا هنا، و ما دام الاستغفار يرفع الإنسان درجة و يغسل الذنوب و يضفي على الإنسان نورا فليستغفر و ليعتذر إليه تعالى، و طالما كانت الفرصة سانحة لاسترحام و طلب الرأفة منه بنا و العطف علينا فعلينا بالمسارعة إلى مثل هذا العمل، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ (4) أي في نفس اللحظة التي يتوجه فيها القلب إلى اللّه و يستحضر ذكره، يتفضل هو عليكم بلطفه و رحمته و بركته، و يمدّ لكم يده بالبذل و العطاء. علينا أن نفعل ما يؤهلنا لأن نكون مذكورين عند اللّه تعالى و لا يأتي الخطاب الإلهي إِنّٰا نَسِينٰاكُمْ (5) هكذا يكون موقف يوم القيامة.

فلنغتنم هذه الفرصة التي حبانا اللّه اياها للتضرع و البكاء و التوسل إليه، و ذرف

ص: 341


1- فقرة من دعاء كميل، أنظر إقبال الأعمال: 332/3.
2- من كلمة ألقاها في: 17 رمضان 1418 ه - جامعة طهران.
3- سورة المرسلات: 36.
4- سورة البقرة: 152.
5- سورة السجدة: 14.

دموع الطهارة و المحبّة من قلوبنا الدافئة على خدودنا، و إلا فسيحل يوم يقول فيه اللّه تعالى شأنه للمجرمين: لاٰ تَجْأَرُوا اَلْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنّٰا لاٰ تُنْصَرُونَ (1) هذه الفرصة هي فرصة الحياة. و هي اليوم متاحة أمامنا للعودة إلى اللّه تعالى.

و من أفضل الفرص على مدار السنة هي جملة أيام، منها أيام شهر رمضان المبارك، و في شهر رمضان ليلة القدر التي هي واحدة من ليال ثلاثة كما جاء في الرواية التي نقلها المحدّث القميّ بأنهم سألوا الإمام عن الليلة التي يرجى فيها ما يرجى، قال: إحدى و عشرين أو ثلاث و عشرين، قال: فإن لم أقو على كلتيهما؟ قال: ما أيسر ليلتين في ما تطلب(2).

كان البعض ينظر إلى شهر رمضان من أوله إلى آخره على أنّه ليلة القدر و يؤدون فيه أعمال ليلة القدر. فلنعرف قدر هذا.

إنّ ما ينزل على الشعوب من المآسي إنما يأتيها من أيديها فَبِمٰا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ (3) أي من الغفلة و الذنوب و المفاسد التي يقترفونها بأيديهم.

و من يلوذ باللّه يقترب خطوة من العصمة و يدنو نحو صيانة نفسه من المعاصي.

فعلينا أن نعتصم باللّه و نستعين به و نعمل لأجله و نسير في سبيله، و نفوّض نفوسنا إليه، و نجلي قلوبنا بذكره.

و حينما تصفو القلوب و تحرر من حبّ الدنيا و التعلق بها و النوازع الماديّة و لا تكون القلوب رهينة لها، يصبح المجتمع حينذاك مجتمعا نورانيا و نقيّا و طاهرا. و مثل هذا المجتمع يعمل أفراده بجد و نشاط و يعمّرون دنياهم.

طبعا عدم التعلق بالدنيا لا يعني عدم إعمارها؛ إعمار الدنيا إذا كان في سبيل اللّه يدخل ضمن الأعمال الأخروية؛ إنّ ما ينتهي إلى بناء الحياة المادية هو ما أمرنا به اللّه

ص: 342


1- سورة المؤمنون: 65.
2- أنظر الكافي: 156/4 ح 2.
3- سورة الشورى: 30.

و هو عمل أخروي أيضا، و حتى هذه الأعمال أكملها و أفضلها و أحلاها هو ما يقترن بذكر اللّه تعالى.

إعرفوا أهمية ليالي القدر. القرآن الكريم يصرّح خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (1)، هذه قيمة كبيرة، و هي الليلة التي تنزل فيها الملائكة و كذلك الروح، و هي الليلة التي وصفها اللّه بأنها السّلام و التحية الإلهية للإنسان، و بمعنى السلم و الأمن و الصفاء بين الناس و بين القلوب و الأرواح و الأجساد و المجتمعات.

اعرفوا أهمية هذه الليلة من الناحية المعنوية، و ادعوا في ليلة القدر لما فيه صالح الإسلام و صالح أنفسكم و لما فيه خير المسلمين و البلدان الإسلامية، و اطلبوا من اللّه الحل لمشكلات المسلمين، و ادعوا لهداية جميع الناس و لأنفسكم، و ادعوا لمسؤوليكم و لبلدكم و لأسلافكم، ادعو اللّه لما تريدون. اعرفوا قدر هذه الساعات و هذه اللحظات. كما و إني أسألكم الدعاء في ليالي القدر المباركة(2).

الاستغفار و التوبة

إنّ اللّه تعالى يأمرنا دائما - في القرآن الكريم كما مرّ في الآية المتقدمة - بالإستغفار و التوبة.

و التوبة تعني: الإنابة الى اللّه تعالى، و إنّ هذه الإنابة تتحقق على صعيد الإيمان و على صعيد العمل و السلوك، و إننا غير معصومين من الذنوب و علينا إصلاح أنفسنا بالدرجة الأولى.

قال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم. الر كِتٰابٌ أُحْكِمَتْ آيٰاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلاّٰ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّٰهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ * وَ أَنِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا

ص: 343


1- سورة القدر: 3.
2- من كلمة ألقاها في: 17 رمضان 1418 ه - جامعة طهران.

إِلَيْهِ... (1) . أي أنّ القرآن الكريم بعد أن يذكر التوحيد - باعتباره أهم الأهداف من خلق الإنسان - يذكر بعد ذلك مباشرة الأمر بالإنابة الى اللّه تعالى و طلب المغفرة منه.

إنّ مسألة التوبة و الإستغفار تشمل جميع طبقات البشر، من أعلى مستوى - المتمثل بالرسول محمد صلّى اللّه عليه و آله - الى أدنى المستويات؛ إلاّ أن الإستغفار من الذنوب عندنا شيء، و عند الأبرار و المقربين شيئا آخر، - لا تقس عمل المطهرين مع عملك -

فكما نحن محتاجون للإستغفار، فهم محتاجون إليه أيضا؛ لأنّ الجميع يقع في دائرة الإمكان - (إنّ الذنوب لا تفارق الموجودات الممكنة في كلا النشأتين، و اللّه أعلم) - فالمقرّبون و الأبرار محتاجون للإستغفار و الإنابة بالمقدار الذي يناسبهم، من أجل جبران النقص و التقصير النسبي الذي تعرّضوا له.

أما نحن فقد اثقلت كواهلنا بالخطايا و الذنوب، و ليس بخطأ أو خطأين و علينا الإستغفار من ذلك.

لقد جاء في أحدى الروايات: «ادفعوا أبواب البلايا بالإستغفار»(2)؛ و جاء في الآية المتقدمة قوله تعالى: يُمَتِّعْكُمْ مَتٰاعاً حَسَناً... (3) و شروط تحقق ذلك إنّما يكون بالإستغفار و التوبة و طلب العفو من اللّه تعالى.

و جاء في رواية أخرى: «خير الدعاء الإستغفار»(4) و جاء في المناجات الشعبانية:

«إلهي ما أظنّك تردّني في حاجة قد أفنيت عمري في طلبها منك»(5)، فما هي هذه الحاجة التي أفنيت عمري في طلبها منك؟ هي طلب المغفرة و العفو الإلهي(6).

ص: 344


1- سورة هود: 1-3.
2- ميزان الحكمة: 2274/3 باب الاستغفار ح 3083.
3- سورة هود: 3.
4- مستدرك الوسائل: 321/5 ح 23 باب استحباب الاستغفار.
5- إقبال الأعمال: 297/3.
6- . من كلمة ألقاها في: 26 /رمضان المبارك/ 1426 ه الموافق: 2005/10/30 ه - طهران.

أنواع الإستغفارات

الإستغفار من الخلافات

1 - علينا أن نستغفر و نتوب بسبب ما نثيره من خلافات؛ لأنّ الخلافات تضرّنا.

إنّ الخلافات تحدث أحيانا من خلال إثارة الشعور القومي و المذهبي و المحلي و السياسي، و أحيانا تحدث من خلال إيصال الخلافات الفكرية الى مرحلة الصراع.

لا إشكال فيما لو وجدت خلافات فكرية، إلاّ أنه لا ينبغي أن يصل هذا الخلاف الى حالة الصراع، و هذا هو سبب اعتراضنا على بعض الأشخاص الذين يطلقون العنان لأقلامهم الشيطانية بالكتابة ضد معتقدات الناس، و ضد الحقائق الموجودة في المجتمع، و ضد التاريخ الحقيقي، و إلا فليس لدينا أي اعتراض على مسألة حرية التعبير، فإنني معتقد بمسألة حرية التعبير بكل ما لهذه الكلمة من أبعاد و معاني.

كل ما في الأمر هو ملاحظة ما يطرح في المحافل العامة، إذ أنّ هناك أمورا يجب طرحها فقط في الأوساط و المحافل التي تطرح فيها البحوث التخصصية.

نعم، لا بأس من أن يجلس مجموعة من الفقهاء و الحقوقيين و الفلاسفة و علماء الإجتماع و يتباحثون فيما بينهم بما يتعلق بالمسائل المهمة و الضرورية، فيقبل أحدهم و يرد الآخر و يستدل الثالث، ثم تنشر بحوثهم ليقرأها الناس، إلاّ أنّ ذلك ينبغي أن يبحث في الأوساط التخصصية.

و هكذا بالنسبة لدلائل الثورة، و بالنسبة للقضايا الأساسية لنظام الجمهورية

ص: 345

الإسلامية، ينبغي أن تبحث في الأوساط التخصصية، و هذا هو السبب لما طرحناه بالنسبة الى الحركة الفكرية المتحررة.

لقد تحرّكت الجامعات و الحوزات العلمية حركة جيدة و أبدت تجاوبها، إلاّ أنّ ذلك لم يتحقق على أرض الواقع.

فعلى الأوساط العلمية أن تفتح أبوابها و تشرع بكتابة البحوث، لا أن يقوم شخص ما ببيان مسألة - من المفروض أنّها توضع على طاولة البحث و الإستدلال في الحوزات التخصصية - لعامة الناس بصورة مبتذلة، و إنّ مثل هذا الأمر لا يعد من مصاديق حرية الرأي.

لقد سعى الأعداء لسنوات طويلة من أجل إثارة الخلافات الفكرية و السياسية و تعميق الخلافات بين مسؤولي الدولة.

و من الواضح أن الصراع بين المسؤولين في البلد، و التنازع و الخلاف بينهم، و عدم قبول أحدهم الآخر و تربّص أحدهم للإيقاع بالآخر، يؤدي الى وقف عجلة التقدّم في العمل.

لا ضير من الإنتقاد، إلاّ أنّه يجب أن يكون إنتقادا منصفا، أي مبنيا على أساس معرفة قدرة و قابلية الأشخاص، و مقدار عزمهم و أهدافهم.

إنّ الإنتقاد من أجل الإصلاح و المطالبة بقضاء حوائج الناس، أمر حسن.

إلا أن تتبع العيوب بلا مورد، و تعظيم الأمور، و توجيه التهم، و الإفتراء، و بث الإشاعات التي ليس لها أساس من الصحة، أمر قبيح.

فلا بد من التمييز بين الأمرين. علينا الإستغفار، و عدم الإستمرار بالغفلة عن كلّ الأمور التي قصّرنا فيها على هذا الصعيد سابقا.

ص: 346

الإستغفار من حب الأنا

2 - حبّ الأنا، بكل ما تمتلك هذه العبارة من معنى.

فإذا ما وجد حبّ الأنا في نفوسنا فعلينا الإستغفار من ذلك؛ لأنّ حبّ الأنا يتعارض مع حبّ اللّه تعالى، فإنّ قلب الأناني بقدر ما يحمل من حبّ الذات و عبادتها، يكون بعيدا عن حبّ اللّه و عبادته.

إنّ حبّ الذات بمعناه الواسع، يتضمن الدفاع الغير منطقي و التعصبي و المشوب بالحميّة من قبل الإنسان عن الحزب أو التيار الذي ينتمي إليه، أو عن أقربائه و من ينضوي تحت لوائه أو أصدقائه الخلّص، و بما أن كثيرا من الخلافات السياسية التي يبتلى بها المجتمع من جرّاء ذلك، فإنّ هذا الأمر يعتبر خطأ كبير.

فلا تفسحوا المجال لمثل هذه الخلافات، و لا تجعلوا حبّ الأنا يترسّخ في أذهانكم و تترتب على ذلك الآثار السيئة(1).

ص: 347


1- من كلمة ألقاها في: 1384/8/8 ه. ق الموافق: 26 /رمضان المبارك/ 1426 ه الموافق: 10/30 / 2005 ه - طهران.
خطر حبّ الذات

أبرز غرائز الإنحراف حب الإنسان نفسه، و هذه الغريزة - بطبيعة الحال - ملازمة لوجود الإنسان، فحب الذات هو الذي يدفع الإنسان نحو الحركة التكاملية لتسلق قمم العروج الإنساني، و لكن إن لم يتم ترشيد حب النفس سيخلّف إنحرافات كبرى؛ فاكتناز الثروة و حب السلطة و الشهوات و طمع الإنسان و طغيانه و الإنحرافات الكبرى التي يشهدها التأريخ البشري و ما وقع و يقع من ظلم فظيع إنما تعود بأجمعها إلى غريزة حب النفس التي أطلق البعض عنانها و بسببها ارتكبوا الأخطاء و الممارسات الخيانية و الكوارث المريعة.

إن حب النفس من الغرائز التي إن لم تخضع للرقابة و المحاسبة فإن حالات الطغيان التي تفرزها ستأتي على القيم الإنسانية و السماوية الراقية و تسحقها و تطيح بكافة الحقوق ليسحقها الإنسان الطائش المنحرف بظلمه و طغيانه و تمرده؛ و هنالك عوامل متعددة من شأنها أن تكفل هذه الهداية في أعماقنا بيد أن أهمها جميعا تقوانا، فعلينا أن نراقب أنفسنا و نحوطها و لا نغفل عن عيوبنا، فحب النفس يجعل الإنسان يرى في نفسه الكثير من العيوب التي يراها في غيره و يغضب لها، لكنه يغض الطرف عنها، إذ أن الكثير من الأخطاء التي نستهجنها من الآخرين و نجاهر بالتحامل عليها أحيانا؛ إذا ما حصلت فينا فإننا ننظر إليها بعين التغافل و هذا نتيجة فقدان الرقابة، أي إننا نمر مرورا سطحيا على خطايانا و العيوب و الإشكالات الكامنة فينا، و هذه المعايب إنما تطرأ متى ما فقدت العين الثاقبة للرقيب الذي يتحرّى العيوب و يدفع الإنسان

ص: 348

لمراقبة نفسه مراقبة دائمية، بناء على هذا فإن التقوى على هذا القدر من الأهمية(1).

الإستغفار من الغفلة

3 - ينبغي الإستغفار عن غفلة الإنسان عن واجباته و قد تقدم في مطلع البحث تفصيل كون الغفلة مانعا عن ذلك.

الإستغفار من المذلة

4 - التغافل عن مبادئ الإقتدار الوطني و العوامل الباعثة على تحقيق قواعده الأساسية.

إنّ الشعب الذي يريد الوصول الى السعادة المعنوية و الحرية و الرقي العلمي، لا بد أن يكون قويا و مقتدرا غير ذليل - مع أنّ هذه الأمور هي من بواعث الإقتدار أيضا -

إنّ الشعب الضعيف المهان الخاضع للدول المستكبرة، الذي يطمح الى أيدي و أفواه الآخرين و الذي لا يمتلك إقتدارا وطنيا، لا يستطيع أن يصل الى أهدافه العليا.

كيف يتحقق الإقتدار الوطني؟ يتحقق بالعلم و الأخلاق.

لقد تحدثنا كثيرا في مجال العلم(2)، و هنا نتحدث عن الأخلاق.

علينا أن نتحلى بدرجة عالية من الأخلاق؛ لأنّ رسولنا صلّى اللّه عليه و آله هو معلم الأخلاق، و هو الذي رفع راية التهذيب و كمال الأخلاق، و دعا إليها من خلال رسالته، فعلينا أن لا نتخلّف عن ركب قافلة الأخلاق.

إنّ أحد القواعد الأساسية للإقتدار الوطني هو أن يعتقد المسؤولون و أفراد الشعب

ص: 349


1- من كلمة ألقاها في: 5 رمضان 1423 ه - طهران.
2- كما فصلناه في كتاب حاكمية الإسلام.

أنهم قادرون على طي الطريق و تحقيق الأهداف، و أن لا يشعروا أنفسهم بأنّهم عاجزون و مكبلوا الأيدي و الأرجل في طريق مسدودة، و علينا أن نبيّن ذلك للشعب، فإنّ هذه هي إحدى وظائفنا، و هو جزء من عمل الحكومة(1).

ص: 350


1- من كلمة ألقاها في: 1384/8/8 ه. ق الموافق: 26 /رمضان المبارك/ 1426 ه الموافق: 10/30 / 2005 ه - طهران.

الهداية الإلهية

هداية الإنسان و سعادته

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أربع من كنّ فيه كان في نور اللّه الأعظم: من كانت عصمة أمره شهادة أن لا إله إلاّ اللّه و أني رسول اللّه.

و من إذا أصابته مصيبة قال: إنا لله و إنا إليه راجعون.

و من إذا أصاب خيرا قال: الحمد لله رب العالمين.

و من إذا أصاب خطيئة قال: أستغفر اللّه و أتوب إليه»(1).

هناك أربعة أمور إذا وجدت في شخص كان في نور اللّه الأعظم.

و المراد من نور اللّه هو نور الهداية الإلهية الذي يشرق و يشع على قلب المؤمن و يصلح له أموره الدنيوية و الأخروية معا. و هذه الأربع هي:

1 - من يكون عصمة أمره أي الملجأ و الحصن الذي يتحصن به في أموره كلها و الأساس المتين الذي يبني عليه حياته كلها هو شهادة أن لا إله إلاّ اللّه و أن محمدا صلّى اللّه عليه و آله رسول اللّه.

2 - الذي إذا أصابته مصيبة سواء كانت على نفسه أم على من يرتبط به كالأولاد و الأموال و نحوهما، يقول: إنا لله و إنا اليه راجعون. طبعا ليس المراد الذكر اللساني

ص: 351


1- الخصال/باب الأربعة/ح 49.

فقط بل المقصود الذكر القلبي و الروحي فيتوجّه بقلبه و روحه الى اللّه تعالى ثم يجري على لسانه هذا الذكر.

3 - الشخص الذي حصل على النعم الإلهية سواء كانت نعمة العلم أم الثروة و المال أم المقام و المنصب و السلطة أم نعمة الصحة و العافية و السلامة، يقول: الحمد لله رب العالمين. أي يشكر اللّه على نعمه و يعتقد أنها من اللّه تعالى و ليس هو الذي اكتسبها و حصل عليها بعلمه و عمله كما صنع قارون حيث قال: أُوتِيتُهُ عَلىٰ عِلْمٍ عِنْدِي (1).

4 - الشخص الذي إذا ابتلي بالمعاصي و ارتكب الذنوب يقول: أستغفر اللّه و أتوب إليه.

أي أنه يلجأ الى اللّه و يتعوّذ به من العودة الى الذنب مجددا و يطلب منه المغفرة.

و ذلك لأن بعض الناس يغفلون عن ذلك، فإن الغفلة عن الإستغفار تجعل الذنوب متراكمة و كثيرة حتى تصير حجابا على القلب فلا يهتدي أبدا. و لذلك يجب الإستغفار من المعصية بعد ارتكابها فورا، لأن الإستغفار و التوبة يغسلان القلب من صدأ المعصية.(2)

لو أراد أحد حصر أبعاد البعثة النبوية لنبي الإسلام صلّى اللّه عليه و آله بما لدينا من عقول ناقصة، لألحق ظلما فاحشا بهذه البعثة و بحقيقتها، و بحقيقة هذه الرسالة؛ فلا يجوز تقييد مضامين بعثة الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله بما نحمله من فهم ناقص و رؤية قاصرة، و لكن إذا أردنا عرض تعريف إجمالي مقتضب للبعثة و آفاقها - و إن كانت غير متناهية - لقلنا إنّ البعثة للإنسان و في سبيل الإنسان؛ و الإنسان أيضا بطبيعته كائن غير متناه، و ذو أبعاد شاسعة و لا ينحصر في إطار الجسم و المادة و لا في نطاق الأيام المعدودة التي يعيشها

ص: 352


1- سورة القصص: 78.
2- كلمات مضيئة: 68.

في الحياة الدنيا، و ليس محدودا في الجوانب المعنوية فحسب، و لا بمقطع زمني معين من التاريخ، و الإنسان - في كل الظروف و الأحوال و على الدوام - إنسان و أبعاده الوجودية لا متناهية و مجهولة، و لا زال الإنسان حتى الآن كائنا مجهولا، و قد جاءت البعثة من أجل هذا الإنسان و من أجل مصيره و هدايته.

من الطبيعي أنّ كل فرد و كل جماعة تغترف في كل عصر و في كل زمان من معين البعثة النبوية على قدر طاقتها و استعدادها و كما استطاع مسلمو صدر الإسلام اقتباس شيء من نور البعثة و نشره في أرجاء العالم يومذاك، فكان سببا لهداية الكثير من الناس نحو الصراط القويم و استمالتهم نحو حقيقة العبودية، تمكنوا بعدها من إقامة حضارة و إيجاد علوم في برهة من التاريخ لا زال بريقها يخلب الأبصار حتّى من وراء أسوار التاريخ العالية و بعد كل هذه الفواصل الزمنية الطويلة، فتنعّم العالم على أثر ذلك بنعيم ذلك التقدم العلمي و الصناعي و الفكري و المدني. و في كل عصر من العصور أخذ المسلمون نصيبهم المناسب من الإسلام، سعدوا. و كل من اخذ من هذا الدين على قدر استعداده فقد كتب لنفسه السعادة(1).

سير العالم نحو الهداية

إن الإسلام يرى أن العالم يسير نحو الصلاح لا محالة، فإن كافة الأنبياء عليهم السّلام و الأولياء قد جاؤوا ليقودوا الناس إلى هذا الطريق الرحب الذي لو وضعوا أقدامهم عليه لتفتحت طاقاتهم تلقائيا، و إن الأنبياء عليهم السّلام و الأولياء قد أرشدوا الناس إلى هذا الطريق الأصلي بعد إنقاذهم من سبل الضلال و دروبه و وديانه و صحاريه و غاباته، و لكن البشرية لم تخط الخطوة الأولى بعد على هذا الطريق المستقيم و لم تصل إلى نقطة البداية، فهذا ما سوف يحدث في زمن ولي العصر (أرواحنا فداه)، و إن كانت

ص: 353


1- من كلمة ألقاها في: 27 رجب 1419 ه - طهران.

كافة هذه المساعي و الجهود قد بنيت على أساس أن نهاية هذا العالم هي نهاية غلبة الصلاح، و لربما كان ذلك عاجلا أو آجلا، و لكنه حادث لا محالة. و كما سيقهر الصلاح الفساد، فإن قوى الخير ستقهر قوى الشر. و هذه رؤية إسلامية لا ريب فيها(1).

قال الإمام الصادق عليه السّلام: «يا ابن جندب، لا تقل في المذنبين من أهل دعوتكم إلاّ خيرا، و استكينوا إلى اللّه في توفيقهم، و سلوا التوبة لهم، فكلّ من قصدنا و والانا و لم يوال عدوّنا و قال ما يعلم و سكت عمّا لا يعلم أو أشكل عليه فهو في الجنّة»(2).

يمكن تقسيم المجتمعات البشريّة من نظرة أخرى إلى نوعين من المسافرين:

الأول: المسافرون الذين ركبوا السفينة و تحرّكوا نحو المقصد المعيّن، و هؤلاء قد يتأخرون أحيانا أثناء مسيرهم أو يختلفون فيما بينهم بعض الإختلافات الجزئية أو يقومون بأعمال خارجة عن الأدب و الأخلاق، و لكن حيث إنهم تحركوا نحو المقصد فسوف يصلون إليه على كل حال.

الثاني: المسافرون الذين ركبوا السفينة اشتباها و تحرّكوا إلى غير مقصدهم، فهؤلاء و إن كانوا سريعين في مسيرهم أو كانوا على أدب و أخلاق و لكنهم لن يصلوا إلى مقصدهم أبدا لأنّهم أخطأوا في ذلك من أول الأمر.

و في المجتمع الإسلامي يعتبر الأئمة الطاهرون عليهم السّلام رافعي لواء الإسلام الحقيقي و المدافعين عن سنّة النّبي صلّى اللّه عليه و آله. و قد اجتمع حولهم أناس كثيرون و انتهجوا مسلكهم و اقتدوا بهم، و لكن في بعض الأحيان إذا صدر الخطأ و المعصية منهم و الذنب مطلقا قبيح إلاّ أن الإمام عليه السّلام مع ذلك يقول بحقّهم:

إنه يجب علينا أن نتعامل معهم بالحسنة و لا نقول لهم إلاّ الخير و ندعوا لهم اللّه

ص: 354


1- من كلمة ألقاها في: 5 رمضان 1421 ه - طهران.
2- تحف العقول، صفحة: 302.

تعالى ليوفقهم للتوبة، و ذلك لأنّ حركتهم في المسير الصحيح(1).

الإسلام مشعل هداية

يجب فهم الإسلام فهما إنسانيا صحيحا مثلما ورد في مصادره الأصيلة و الانتفاع منه بالهداية القرآنية.

القرآن نفسه: تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ (2)، فهو نهج و بيان و مسار، على العكس مما يلقى الى أصحاب الفكر و الرأي في المجتمعات الإسلامية - و هذا التلقين جاء نتيجة للتسلط الفكري و الثقافي الغربي الذي يخشى سيادة الفكر الإسلامي - من وجوب فهم الإسلام في ضوء الأدوات و المعارف الغربية.

من الطبيعي أنّ المعارف كلها توعّي الإنسان و تعينه على استحصال فهم أفضل، بيد أنّ الإسلام يجب استقاؤه من الإسلام ذاته؛ الحقائق الإسلامية ينبغي استخلاصها من النصوص الإسلامية و يجب فهمها و تطبيقها في ضوء المصطلحات الإسلامية.

الإسلام ذاته مشعل هداية ينير الأفكار و العقول و يهدي الناس، و القرآن كتاب هداية و كتاب نور، و من يرجع الى القرآن و يتدبّر معانيه و يوجد الأرضية و الاستعداد اللازمين في ذاته لاكتساب نصيب أكبر من معارف القرآن، بإمكانه الاستفادة من القرآن. و نحن يجب أن لا نكترث بمدى الوقع الذي يتركه فهمنا للإسلام على من لا صلة لهم به و لا يستسيغونه و ينظرون إليه كمصدر إزعاج لهم - سواء في المجال الإقتصادي أم في المجال السياسي - و هل يتقبلون فهمنا هذا أو يستنكرونه.

لقد جاء الإسلام هاديا للبشرية و اتخذ له حيّزا في عقول الناس في وقت تعالت ضده صيحات التكذيب و الإنكار. و حتى رسول الإسلام صلّى اللّه عليه و آله كالوا له أنواع التهم،

ص: 355


1- كلمات مضيئة: 72.
2- سورة يوسف: 111.

و القرآن طافح بالتعابير التي كان أعداء الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله يستخدمونها ضده(1)، و هي تعابير لو أنّها استخدمت ضد إنسان ضعيف لدمّرته و لحطّمت إرادته و لأزالت جرأته على الافصاح بما يريد، إلاّ أنّ الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله لم يكترث لكل ذلك، و بيّن كلمة اللّه التي كانت قد جرت على لسانه، و ألهم بها في قلبه، و فعلت نورانية الكلام الإلهي فعلها.

و هكذا الحال في عصرنا الراهن؛ فإمامنا الكبير الخميني - الذي استفاد من سيرة النبي صلّى اللّه عليه و آله - حينما نزل إلى الساحة، و أدرك العالم كله حينها أنّ هذا الإنسان عازم على العمل وفقا للإسلام و إقامة حكومة إسلامية، انقلبت ضده حتى الأجهزة الإعلامية التي كانت في ما سبق تشيد به، و أخذت تكيل تعابير الإهانة و الاستخفاف له و لرسالته و للمجتمع الإسلامي و لأصل النظام الإسلامي، غير أنه لم يأبه بها، و سار شعبنا و شبابنا و علماؤنا و مفكرونا و مسؤولونا على هذا الطريق بكل جرأة و شجاعة، و كان النجاح حليفهم.

إن النظام الإسلامي و الدولة الإسلامية اليوم من أكثر دول العالم عزّة، و المنطقة التي نعيش فيها من أبرز المناطق السياسية فيه. فشعبنا عزيز و شامخ و دولتنا دولة عزّة و مجد، و الأمور تجري فيها على نحو صحيح لا تشوبه شائبة و لا تعتريه أية معضلة كبرى، و هذه الأمور على جانب كبير من الأهمية، و قد تحققت بفضل وجود الإسلام و هدايته، و لم تؤثر أساليب الضغط و التهم و الاستخفاف، و الرمي بالتعصب و التطرف، و واصل شعبنا سيره قدما، و هكذا هو الحال اليوم أيضا.

لا أعتقد أنّ باستطاعة أي شخص اعتبار فهم الإسلام حكرا عليه دون غيره، بل إنّ فهم الإسلام و استيعاب القرآن يستلزم كأي استنباط و فهم آخر لجملة مقدمات،

ص: 356


1- نحو قوله تعالى في سورة البقرة (104) حكاية عنهم: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَقُولُوا رٰاعِنٰا وَ قُولُوا اُنْظُرْنٰا. و انظر تفسير القمي: 58/1.

و يحتاج إلى عمل جاد و استعداد، و هذا ما لا ينسجم أبدا مع التحجّر و التعصّب و قصر النظر، كما إنه لا ينسجم مع اللامبالاة و التحلل، إلاّ أنّ القضية المهمة تتلخص في أنّ ما يفهم من الإسلام، و ما يرتضيه الإسلام و ما يعرض لنا بصفته هداية إسلامية يجب أن يؤخذ به بكل إقتدار و شجاعة و إيمان و أمل و رؤية مشرقة(1).

هداية الأمة باتجاه الفضائل الأخلاقية

أمّا ميزة النظام الإسلامي فهي أن الأحكام الإلهية المقدسة و قوانين القرآن و نور الهداية الإلهية الذي يشع على قلوب أبناء الشعب و أعمالهم و عقولهم و يهديهم هي التي تمثل هذا الإطار؛ فهداية الامة واحدة من تلك القضايا ذات الأهمية القصوى التي طواها الإهمال في الأنظمة السياسية الشائعة في العالم و لا سيما الأنظمة الغربية.

و هداية الامة تعني العمل على أن تتخذ إرادة الامة سيرها بإتجاه الفضائل الأخلاقية و إقصاء الأهواء المفسدة - التي تطرح أحيانا تحت يافطة آراء الشعب و إرادته - عن آفاق الإنتخاب الشعبي، و ذلك إثر التعليم و التربية الصحيحين و إرشاد الامة نحو مناهل الفضيلة.

إنكم تشاهدون اليوم في الكثير من الديمقراطيات الغربية إتخاذ أقبح الإنحرافات - الإنحرافات الجنسية و ما شابهها - طابعا قانونيا و رسميا على أنها رغبة شعبية و تتم الإعانة عليها، و هذا ما يدلل على غياب العنصر المعنوي و الهداية الإيمانية.

و في النظام الإسلامي - أي حاكمية الشعب الدينية - فإن الشعب هو الذي ينتخب و هو صاحب القرار و هو الذي يمسك بمقدرات البلد و إرادته عن طريق منتخبيه، بيد أن رغبته و إنتخابه و إرادته إنّما تستظل بظل الهداية الإلهية، و لا يحيد بها عن جادة الصلاح و الفلاح و لا يخرج عن الصراط المستقيم أبدا، و هذا هو البعد الجوهري في

ص: 357


1- من كلمة ألقاها في: 27 رجب 1419 ه - طهران.

حاكمية الشعب الدينية؛ و هذه هي هدية الثورة الإسلامية للشعوب، إنها تجربة حديثة و فتيّة لكنها جديرة بالتأمل و اقتفاء أثرها و تقليدها من قبل الذين تهفو قلوبهم نحو الفضائل و نحو مجتمع إنساني طاهر صالح؛ و يعانون الأمرّين من الجرائم و الرذائل الأخلاقية و تفشي القبائح الخلقية بين البشر(1).

ص: 358


1- من كلمة ألقاها في: 12 جمادى الأولى 1422 ه - طهران.
طريق القرآن هو طريق التقوى

علينا أن نقلل من ابتعادنا عن القرآن لكي نعزّ و نقوى و نغنى و نغدو علماء. و أنتم أيّها الشباب الأعزاء لئن عكفتم على الدراسة و جعلتم من الطهارة و العفة و التقوى شعارا لكم؛ و لئن نبضت قلوبكم من أجل القيم الإسلامية، و لئن تطلعتم لأن تبلغ الامة الإسلامية أوج عزتها و تأهّبتم لخوض الجهاد من أجل هذه المهنة فاعلموا أنكم سائرون في طريق القرآن؛ فطريق القرآن هو طريق العلم و الجهاد و التقوى و الرأفة بالناس و الرحمة بهم(1).

كل ما لدينا بفضل الإسلام و القرآن

لقد بدأنا مسيرتنا بفضل الإسلام، و تقدّمنا بفضل الإسلام، و صنعنا لأنفسنا افق مستقبل مشرق بفضل الإسلام، و زرعنا اليأس في قلوب العدى بفضل الإسلام، و كشفنا عن الكثير من أحابيلهم بفضل الإسلام، و قطعنا شوطا بعيدا على طريق إعمار هذا البلد ماديا و معنويا بفضل الإسلام، و لا زلنا على هذا النهج سائرين، و قدّمنا في مسيرتنا هذه إنجازات جمّة(2).

إن القرآن هو القادر على هداية الإنسان و البلوغ به من مستوى الإنسان الذي لَفِي خُسْرٍ (3) إلى الإنسان الذين وصف بقوله تعالى: إِنَّكَ كٰادِحٌ إِلىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاٰقِيهِ(4)

ص: 359


1- من كلمة ألقاها في: 1 شعبان 1423 ه - طهران.
2- من كلمة ألقاها في: 27 رجب 1419 ه - طهران.
3- سورة العصر: 2.
4- سورة الإنشقاق عصر: 6.

فيسير نحو اللّه و يصير إليه و يلقاه...، و من هذا القرآن انبثق الإيمان الخالص الذي تحلى به المؤمنون عبر التاريخ الإسلامي، و هذا ما ينبغي عرفان قدره(1).

فكل ما لدينا من الإسلام و كل ما لدينا من القرآن، و كل ما لدينا جاء بفضل إرشادات ذلك القائد الكبير، و نحن على ثقة بأنّ مواصلة السير على هذا الطريق ستقود هذا الشعب إلى السعادة و ستروي ظمأه المادي و المعنوي، و ستحلّ جميع مشاكلنا بفضل التمسك بالإسلام و السير على هذا الطريق باستقلالية؛ و جميع المسؤولين يواصلون العمل الدؤوب و بذل الجهود، و هم على إعتقاد تام بهذه الحقيقة لأن الإسلام مشعل هداية.

كلما اقترب مسلمو العالم نحو الإسلام أكثر، تذوّقوا طعم هذا الدين أكثر فأكثر، و كلّما ازدادوا تلاحما جنوا فوائد من الإسلام أكثر. و المسلمون مطالبون اليوم بتجاوز اختلافاتهم الفرعية و الطائفية و التاريخية و المذهبية، و مدّ يد الإتحاد بعضهم إلى بعض. و ستجتاز هذه الامة الكبرى في جميع البلدان الإسلامية كل العقبات الكبرى التي تعترض طريقها، و سيكون مستقبل الامة الإسلامية - بإذن اللّه - أفضل من ماضيها بكثير.

نأمل - بإذن اللّه - أن تستقي كل الشعوب الإسلامية من فيض الإسلام و القرآن، و ينالوا عناية بقية اللّه (أرواحنا فداه)، و ينزل عليهم الباري تعالى لطفه و رحمته و بركته.(2)

ص: 360


1- من كلمة ألقاها في: 11 ذي القعدة 1423 ه - طهران.
2- من كلمة ألقاها في: 27 رجب 1419 ه - طهران.
القرآن الهادي الحقيقي لسعادة الإنسان

إنّ تلاوة القرآن التي تركّز عليها روايات أهل البيت عليهم السّلام إلى هذا الحد، هي بمثابة الخطوة الأولى. القرآن الكريم يصف ذاته على أنحاء شتّى؛ منها: أنه يقول: إِنَّ هٰذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (1)؛ أي أنّ القرآن يهدي الإنسان فردا و جماعة إلى أفضل السبل و أفضل الأساليب و إلى أفضل نظام و أفضل أخلاق و أفضل عمل.

بنو الإنسان كلهم اليوم بحاجة إلى القرآن، و لكننا - نحن المسلمين - إذا لم نعمل بالقرآن يلحقنا من الضرر أكثر مما يلحق بغيرنا؛ لأننا نملك هذه الوصفة الطبيّة و هذه التعليمات، كما أننا نملك التجربة التاريخية الخاصّة بهما.

لقد بلغت الإنسانية ذروة التألق في الصدر الأول للإسلام بفضل إلتزامها بالقرآن علما و عملا و أخلاقا و في شتى ميادين التقدم المادي و المعنوي، القرآن نابض بالحياة على الدوام، و هو يهتم بمتطلبات الإنسان، و بإمكانه أن يكون أفضل و صفة لسعادة الإنسانية.

لقد أصبحت المجتمعات البشرية اليوم في أقصى أرجاء العالم، و بسبب ابتعادها عن الشؤون المعنوية و عن حقيقة الإنسان و عن اللّه و عن الأخلاق، غير قادرة على إستشعار السعادة على الرغم مما أحرزته من تقدم مادي هائل. و لكن لماذا أصبح الإنسان في مثل هذا الوضع؟ أ ليس الإنسان اليوم أكثر ثراء و علما من أي وقت مضى؟ ألم يتمتع اليوم بالمستلزمات التي تذلل له مصاعب الحياة؟ إذن فلما ذا الحياة على هذه الدرجة من المرارة؟ و لماذا كل هذه الصراعات في العالم؟ و لماذا كل هذه الحروب؟ و لماذا كل هذا الجور؟ و لماذا لا يشعر شبان أغنى بلدان العالم بالسعادة؟ و هل تتطلب سعادة الإنسان شيئا غير متوفّر بين يديه؟

ص: 361


1- سورة الإسراء: 9.

يمكن الإجابة عن كل هذه التساؤلات بكلمة واحدة، و هي أنّ الإنسان تنقصه رسالة الأنبياء عليهم السّلام، و لا تتوفر لديه و صفة الأنبياء التي تجلب له الراحة و الأمان، أو أنها متوفرة لديه و لكنه لا يعمل بها، و هذا هو ممكن تعاسته، و القرآن يقدّم له أكمل و صفة و أكثرها قدرة على العلاج.

لقد نجحنا - نحن أبناء الشعب الإيراني - بتطبيق قسم من هذا الكتاب المقدّس، إذ ليس بإمكان أحد أن يزعم أننا طبّقنا الإسلام بحذافيره، فكانت نتيجة تمسّكنا بجانب من جوانب الإسلام أننا تخلصنا من ذل التبعية للإستكبار.

تلاحظون اليوم أنّ الرأي الأول و الأخير في قضايا العالم المهمة بيد أمريكا و من هم على شاكلتها، سواء في الشرق الأوسط أم في أفغانستان أم في أوروبا و أمريكا اللاتينية و أفريقيا، و سواء في مجال الإقتصاد أم في مجال النفط أم ما شابه ذلك؛ و كثير من الدول و الشعوب مضطرّة للإنقياد لهذه الأوامر الصادرة عن منطق القوة.

أما نحن أتباع القرآن فلا نعترف برأي المستكبرين المتطفلين و لا نأخذ به، لا في ما يخص قضايانا الداخلية، و لا في ما يخص حكومتنا أو إقتصادنا أو سياستنا الخارجية أو ما يتعلق بمواقفنا أزاء قضايا الشرق الأوسط، و لا في ما يتعلق باختيار الصديق من العدو.

الحياة و العزة و النشاط في العمل بالقرآن:

لقد جاء كل هذا العز الذي أحرزناه بفضل هذه الخطوة التي خطوناها مع القرآن، إذ بعثت فينا الحياة و العزّة و النشاط، و هذا كله جاء بفضل القرآن و بفضل الإسلام و اتباع تعاليمهما.

إن كل خطوة تخطونها في سبيل اللّه، يعينكم تعالى عليها و يهديكم، و يفتح لكم مغالق الأمور، إذ أنه قال عزّ من قائل: وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَحْتَسِبُ (1)، و قال أيضا: وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (2).

ص: 362

إن كل خطوة تخطونها في سبيل اللّه، يعينكم تعالى عليها و يهديكم، و يفتح لكم مغالق الأمور، إذ أنه قال عزّ من قائل: وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَحْتَسِبُ (1)، و قال أيضا: وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (2).

و ورد في دعاء سيد الساجدين عليه السّلام: «و إن الراحل إليك قريب المسافة، و إنّك لا تحتجب عن خلقك»(3).

الخطوات اللازم اتباعها للعمل الكامل بالقرآن

للعمل الكامل بالقرآن ينبغي معرفة معاني نصوص القرآن. في العهد الطاغوتي المباد لم يكن أبناء شعبنا على معرفة بالقرآن، و قليل من الناس كانت لديهم قدرة على قراءة القرآن - و بشكل لا يخلو من الخطأ - و لم يكن لدى الشباب و من نشأوا في مدارس العهد البهلوي أية معرفة بالقرآن؛ و إذا كان لأحدهم أب مؤمن أو أم مؤمنة كانا يعلّمانه القرآن بشكل أو آخر. و لم تكن المدارس آنذاك تتكفل بمسؤولية التربية القرآنية، و كان القرآن غريبا في أجواء المجتمع، و كان من النادر جدا أن تقام للقرآن دورات بمدينة طهران الكبيرة هذه و يشارك فيها عدة أشخاص و يتعلمون التجويد أو القراءة على يد استاذ، و هكذا الحال بالنسبة لسائر المدن الاخرى.

حينما يدخل القرآن أجواء مجتمع ما، تتذوق القلوب حلاوته، و ظاهرة القرآن سائدة اليوم في بلدنا، و الخطوة الأولى على هذا الطريق هي تعلّم معاني القرآن، لذا يجب أن يزداد هذا الأمر يوما بعد يوم. و إذا شئنا أن يتعلم جميع الناس القرآن، فلا بدّ و أن يكون البعض في القمّة - شأنهم في ذلك شأن أي قطاع آخر - فإذا شئنا مثلا تعميم ممارسة الرياضة، فلا بدّ من وضع عدة أبطال نصب أعين الناس.

و إذا أردنا أن يتبوّأ القرآن مكانته اللائقة به في البيت، بين الصغار و بين الكبار

ص: 363


1- سورة الطلاق: 2-3.
2- سورة الطلاق: 3.
3- ميزان الحكمة 1907/3 ح 2637.

و لدى الرجال و النساء، فيجب علينا تكريم الأبطال القرآنيين، و هذا هو السبب الذي يدعونا إلى احترامهم و تقديرهم؛ هؤلاء هم حملة القرآن و هم أعزّة لدينا، و ألسنتهم عزيزة و شفاههم و قلوبهم عزيزة لدينا لأنها تأنس بالقرآن و تشجع على قراءته، و أرواحنا فداء للقرآن.

إن القضية لا تنتهي عند هذا الحد، بل يلزم أيضا حفظ القرآن و استيعاب معانيه و مفاهيمه، و ترجمته على نحو دقيق لمن لا يجيدون اللغة العربية. و إذا فهمت كلمات القرآن يجب حينذاك التدبّر في معانيها؛ و حتى الذي يجيد اللغة العربية إذا لم يتدبّر لا ينال إلاّ نصيبا قليلا من القرآن؛ و التدبّر معناه التفكر في مفاهيم القرآن لأنه كلام ذو مغزى عميق و عظيم، و يجب التدبّر فيه.

القرآن صادر عن الباري تعالى بألفاظه و مفاهيمه، و هذا ما يوجب التأمل الدقيق فيه و استيعاب معانيه، و الغور في أعماقه؛ و لا يتأتى هذا إلاّ عبر الأنس به.

ربّوا أولادكم على القرآن أكثر مما هم عليه حاليا. و اعرفوا أيها الشباب الأعزاء قدر معرفتكم بالقرآن و أنس قلوبكم الطاهرة النورانية به. و الذين وفّقوا لحفظ القرآن عليهم أن يقدروا هذه النعمة حق قدرها، فهي نعمة عزيزة و ثمينة، لأن معرفة قدر هذه النعمة تقود إلى مواصلة هذا العمل. و لن تنتهي عند ذاك الغاية من السير نحو مصدر نور القرآن، و سيتسنى للأمة الإسلامية أن تتبوّأ - بفضل القرآن - مكانتها اللائقة بها.

اللّهم نقسم عليك بمحمد و آل محمد أن تعجل حلول ذلك اليوم على الامة الإسلامية جمعاء(1).

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنما أتخوّف على أمتي من بعدي ثلاث خصال: أن يتأوّلوا القرآن على غير تأويله، أو يتبعوا زلّة العالم، أو يظهر فيهم المال حتى يطغوا و يبطروا.

ص: 364


1- من كلمة ألقاها في: 2 شعبان 1419 ه - طهران.

و سأنبئكم المخرج من ذلك:

أما القرآن فاعملوا بمحكمه و آمنوا بمتشابهه.

و أما العالم فانتظروا فيئته و لا تتبعوا زلّته.

و أما المال فإنّ المخرج منه شكر النعمة و أداء حقه».(1)

هناك ثلاثة أمور يتخوّفها النبي صلّى اللّه عليه و آله على أمته بعد موته، و هي:

1 - تأويل القرآن في غير الآيات المتشابهات ممنوع مطلقا، و أما الآيات المتشابهات فهذه علمها عند اللّه وَ مٰا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّٰهُ وَ اَلرّٰاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ (2).

و لكن آيات القرآن لها ظاهر و باطن، و إرجاعها الى الباطن يعني تأويلها و لكن يجب أن يكون ذلك بدقة و تدبّر. و التأويل على نحوين: أحدهما: تأويل بحق.

و الآخر تأويل بالباطل، و هو أن يتخذ القرآن وسيلة لإثبات و تثبيت الأفكار الباطلة من قبيل ما صنعه الخوارج حيث فسّروا و أوّلوا قوله تعالى إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاّٰ لِلّٰهِ (3)بتفسير باطل، و هذا يؤدي الى أمور خطيرة جدا.

2 - تتبع زلّة العالم، أي البحث و التفتيش عن أخطائه أو إتباع العلماء في الموارد التي زلّوا فيها و السير على نهجها.

و لكن الظاهر أن المعنى الثاني هو المقصود هنا.

3 - جمع المال و إدخاره بنحو يؤدي الى طغيان الإنسان و غروره و بطره.

نعم لا إشكال في تأمين الثروات العامة و صرفها و إنفاقها في تطور و تقدم العلوم و الصناعات أو التسليح العسكري مقابل الأعداء. فمقصود الرواية من جمع المال هو جمعه لأجل الثراء الشخصي و بناء القصور و تهيئة الوسائل و الكماليات و التجملات.

ص: 365


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 216.
2- سورة آل عمران: 7.
3- سورة:.

و أما طريق النجاة و الخلاص من هذه المهالك الثلاث فهو:

أما بالنسبة للعالم فهو انتظار رجوعه عن زلاته و أخطائه و عدم اتباعه في هذه الأخطاء و الزلات.

و أما بالنسبة للمال فهو الشكر و أداء الحقوق المتعلقة بهذا المال سواء كانت حقوق اللّه أم حقوق الناس.

و أما بالنسبة للقرآن فهو أن يعمل بآياته المحكمة و إرجاع الآيات المتشابهة الى أهلها(1).

ص: 366


1- كلمات مضيئة: 67.
الهداية و الضلال

و من وصايا الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، إنّ للّه على الناس حجّتين: حجّة ظاهرة و حجّة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل و الأنبياء و الأئمة، و أمّا الباطنة فالعقول»(1).

الحجّة الإلهية هي ذاك الأمر الذي يحتجّ به اللّه تعالى على الناس يوم القيامة.

فاللّه عزّ و جلّ له على الناس حجّتان عظيمتان يحاسب الناس على أساسهما، و إذا ساروا في طريق الخطأ و الإنحراف يكونون مغلوبين و مقهورين للحجّة الإلهية:

إحداها: الحجة الظاهرة يعني الأنبياء عليهم السّلام الذين يحذّرون و ينذرون الناس من طريق الضلالة و الإنحراف و يهدونهم و يسوقونهم إلى صراط الهداية العظيم.

و الأخرى: الحجّة الباطنة يعني العقل فإنّ الإنسان ملزم باتّباع و إطاعة العقل أيضا.

فبعض الناس لا يستخدمون قواهم العقلية و لا يسترشدون بهدى العقل في حياتهم بل يسقطون في وادي الضلال، نظير من أضلّ طريقه في الصحراء و لا يسأل أحدا عن الطريق الصحيح.

و بعض الناس - مع أنّ هداية العقل و إطاعته واضحة عندهم - لا يعملون على طبق ذلك.

نظير الشخص التائه في الصحراء فيرى العلائم المرشدة إلاّ أنه لا يتحرّك نحوها.

فهؤلاء أيضا لا يهتدون و لا يستفيدون من نور سراج العقل، و اللّه تعالى سوف

ص: 367


1- تحف العقول، صفحة: 386.

يؤاخذ و يحاسب كلا الطّائفتين المذكورتين.

طبعا ليس المقصود أنّ العقل دائما يهدي إلى الصواب و أنّه لا يخطيء أبدا بل أحيانا يقع العقل في الإشتباه، و لكن في كل مورد لم يكن فيه حكم شرعي على خلاف ما أدركه العقل فحكم العقل صحيح و إن كان واقعا مشتبها(1).

و قال الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، إن كل الناس يبصر النجوم و لكن لا يهتدي بها إلاّ من يعرف مجاريها و منازلها. و كذلك أنتم، تدرسون الحكمة و لكن لا يهتدي بها منكم إلاّ من عمل بها»(2).

إحدى خواص النجوم الهداية، بمعنى أنّ الصحراء لا تدل إلاّ على الطريق المضلّ المتحيّر التائه بخلاف النجوم فإنها تهدي و ترشد إلى الطريق الصحيح.

و لكن هذا الدليل لا يهتدي به إلاّ من يعرف منازل و مجاري و أماكن طلوع و غروب النجوم.

و الإنسان كذلك فإنّ حصول الهداية له في مختلف مراحل حياته كمن يهتدي بالنجوم بمعنى أن كل الناس تتعلم الحكمة و المعرفة و لكن الذين يستفيدون و يهتدون من ذلك في حياتهم بحيث تكون الحكمة نورهم و سراجهم هم الذين يعملون بها.

و من وجهة نظر المعارف الإسلامية فإن العلم و الحكمة ليس دائما هما مفتاح الحلول، بل الذي يكون مفتاحا للحلول هو الإستفادة و العمل بالأرصدة و المدّخرات العلمية.

فإنّ النورانيّة و النجاة من الزوايا المظلمة في الحياة يكون بالعمل و العلم، و كل من

ص: 368


1- كلمات مضيئة: 66.
2- تحف العقول، صفحة: 392.

يكون علمه أكثر فمن الطبيعي أن يكون عمله أكثر(1).

و عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من علّم باب هدى فله مثل أجر من عمل به و لا ينقص أولئك من أجورهم شيئا.

و من علّم باب ضلال كان عليه مثل أوزار من عمل به و لا ينقص أولئك من أوزاره شيئا»(2).

كل شخص يفتح للمجتمع باب هداية فبمقدار الأشخاص الذين يهتدون به و ينتفعون بهدايته و يعملون بها يكتب لهذا الشخص الذي فتح هذا الباب من الثواب و الأجر، من دون أن ينتقص من ثواب أولئك العاملين.

و كذلك الحال بالنسبة للضلال فكل من يفتح بابا للضلال في المجتمع فبعدد الذين أساءوا الإستفادة و النفع و ارتكبوا المعاصي و الفسق، يكتب لهذا الشخص الذي أوجد هذا الباب من الضلال من الذنوب بعددهم، من دون أن ينتقص من ذنوبهم شيئا.

و هذه المسألة ليست محصورة بالأمور و المسائل الفقهية و الشرعية، بل تجري في هذه الأمور السياسية و الإجتماعية أيضا، فمثلا إذا استخدم شخص كلمة الحرية و طرحها في المجتمع و هي تحمل معنيين من دون أن يبيّن المعنى الصحيح منها و كانت النتيجة أنّ البعض قام بالفسق و الفجور استنادا إلى كلامه، فحينئذ فكل الذنوب التي تسجّل عليهم سوف تكتب عليه أيضا.

إذن يجب التدقيق كثيرا في الخطابات و الكتابات، لأن الصراط الإلهي دقيق جدا و متزلزل و خطير.(3)

ص: 369


1- كلمات مضيئة: 67.
2- تحف العقول، صفحة: 297.
3- كلمات مضيئة: 70.

و من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «لا يتكلّم أحد بكلمة هدى فيؤخذ بها إلاّ كان له مثل أجر من أخذ بها، و لا يتكلّم بكلمة ضلالة فيؤخذ بها إلاّ كان عليه مثل وزر من أخذ بها»(1).

التبليغ و إرشاد الناس و تبيّن الحق بنظر الإسلام عمل خطير و قيّم، و يجب على من يتصدّى للتبليغ و التبيّن أن يتكلّم بعد البحث و التحقيق و المطالعة و الإحساس بالمسؤولية، و لا يؤثّر فيه ميل و رغبة و سليقة المستمع في التراجع عن قول الحق أو اللجؤ إلى قول الباطل.

و طبقا للمعارف الإسلامية إذا خرج من فم المتكلّم كلمة حكمة أو هداية فبعدد الأشخاص الذين اهتدوا في حياتهم بكلامه و عملوا به سوف يكتب لهذا المبلّغ و المتكلم من الحسنات و الثواب.

و على العكس من ذلك فإنّ كل شخص تكلّم بكلام باطل و مضلّ فبعدد الذين استمعوا لكلامه و ضلّوا عن الطريق المستقيم به سوف يكتب له من الوزر و العقاب(2).

و قال عليه السّلام: «أنه قال: يقول اللّه عزّ و جلّ: من استنقذ حيرانا من حيرته سمّيته حميدا، و أسكنته جنّتي»(3).

كل إنسان ينقذ شخصا متحيّرا تائها - سواء كان متحيّرا في الأمور الدينية أم في الأمور الدنيويّة أم في المسائل الشخصيّة - من حيرته هذه و يهديه من الضلال - كان عند اللّه ممدوحا و محمودا و أسماه «حميدا»، و أسكنه في أعلى جنانه.

و كلّما كانت الحيرة أشدّ و أخطر كان ثواب و أجر إنقاذه منها أكثر(4).

ص: 370


1- تحف العقول، صفحة: 375.
2- كلمات مضيئة: 70.
3- تحف العقول صفحة: 382.
4- كلمات مضيئة: 71.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي، و إذا فسدا فسدت أمتي.

قيل: يا رسول اللّه و من هما؟

قال صلّى اللّه عليه و آله: الفقهاء و الأمراء»(1).

إنّ صلاح الأمّة الاسلاميّة مرتبط بصلاح طائفتين من النّاس هما:

علماء الدّين و الأمراء.

فأمّا علماء الدّين فهم المرجع لرجوع النّاس إليهم في مختلف الأمور، و كلامهم نافذ لدى عامّة النّاس، و النّاس تأخذ معالم دينها من أقوالهم و أفعالهم، و هم في الحقيقة حجّة و علم و راية للإسلام.

فإذا ابتلوا بالفساد - و العياذ بالله - سواء كان فسادا عمليّا أم عقائديّا أم أخلاقيّا، و صاروا من أهل التّجمّل و حبّ الدّنيا و المؤامرات، فسوف يلحق بالمجتمع الإسلاميّ ضرران و مفسدتان:

1 - أحدهما مرتبط بالنّاس المتوسّطين، حيث إنّهم سيظنّون أنّ الدّين هو هذا، لذلك سوف يسلكون طريق الفساد.

2 - و الآخر مرتبط بالنّاس الكبار، حيث إنّهم سيقولون أنّ الدّين إذا كان هذا هو حاله، و إنّ هذه الأمور من تعاليم الدّين فنحن لا نريده إذن.

و على هذا فالفقهاء بمقدار ما يصلحون أخلاقهم - أي إيجاد الصّفات الحميدة و الكريمة في نفوسهم - و بمقدار ما يصلحون أعمالهم، أي العمل بالاحكام الدينيّة، و بمقدار ما يصلحون تصرفّاتهم، أي المعاملة الحسنة للنّاس، سوف يهيئون الارضيّة، للتّأثير في صلاح الامّة.

و أحد الأسباب و العلل المؤثّرة في انتصار الثّورة الاسلاميّة، هو شأن و اعتبار

ص: 371


1- الخصال/باب الإثنين/ح 12.

و مكانة العلماء العظام الذين أورثوها للأجيال اللاحقة نسلا فنسلا، و نحن مكلّفون بحفظ هذه الذّخيرة.

كما أنّه يجب علينا الالتفات الى مقدار الخسارة الكبيرة الّتي تلحق المجتمع من خلال استجابتنا لبعض الأمور الشّخصية المحبّبة للنّفس.

و أمّا الأمراء فحيث إنّ تدبير و إدارة شؤون النّاس الاجتماعيّة و السياسيّة بيدهم، و بما أنّ اقتصاد النّاس و مصيرهم بيد الأمراء أيضا، فلذلك فإنّ لهم دورا مهمّا جدّا و بنّاء في صلاح المجتمع و فساده(1).

ص: 372


1- كلمات مضيئة: 71.

فهرس الموضوعات

مقدمة 5

وصية القائد بالكتاب

الكتاب و إصلاح ثقافة المجتمع 7

باب مكارم الأخلاق

المكرمة الأولى

بناء الذات 9

أولياء اللّه قدوة في السلوك 10

أخلاق النبي و أهل بيته عليهم السّلام

أخلاق النبي الشخصية 13

طلاقة وجه النبي صلّى اللّه عليه و آله 14

الأخلاق الحكومية للنبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله 15

أهل البيت عليهم السّلام منبع الأخلاق 18

ص: 373

مكارم الأخلاق

السير نحو مكارم الأخلاق 19

الحاجة للأخلاق: 19

أهمية الأخلاق العامة في المجتمع 22

تشويه الأخلاق 23

أثر مجالسة علماء الأخلاق 24

أثر أولياء اللّه في الأرض 26

جملة من مكارم الأخلاق 30

الخلق الحسن

تعريف حسن الخلق 39

أهمية الخلق الحسن 40

التخلق بالأخلاق الحسنة 42

محاسن الأخلاق 44

واجبنا تجاه نشر الأخلاق 45

سبب المعاناة الإنسانية 47

كيفية تجسيد المعنويات و الأخلاق 49

الإمام الخميني (ره) معلم الأخلاق 51

ضرورة معرفة الأخلاق الإسلامية 53

الأخلاق الحسنة توصل الى المقامات الإنسانية العالية 54

محاسن الأخلاق و تزكية النفس 55

ترسيخ الأخلاق في المجتمع 56

ص: 374

البعد الأخلاقي للثقافة العامة

الثقافة و الأخلاقيات العامة 57

الأطر القانونية للأخلاق 58

الإنضباط الإجتماعي 58

أثر الثقافة على شخصيّة الأفراد 60

أثر الثقافة على أخلاق المجتمع 61

أثر فصل العدالة الإجتماعية عن الأخلاق 65

كيف نصلح الثقافة العامة 66

دور الثقافة و الأخلاق في تقرير مصير الشعوب 68

تحريف الثقافة تحريف للإنسانية 69

الرؤية المادية للعقيدة و الأخلاق 70

العقيدة و الأخلاق في الرؤية الإسلامية 72

الفرق بين الإقتدار المعنوي و المادي 75

حتمية زوال الحضارة الغربية لأنها علم بلا أخلاق 76

الأخلاق الإجتماعية

الأخلاق شرط الحياة السعيدة 79

الإصلاح الإجتماعي الأخلاقي 81

الاستغفار و الإصلاح الاجتماعي 82

التلازم بين السلطة و الأخلاق في الإسلام 84

دور الأخلاق في كافة الشؤون 85

القيم الأخلاقية لا تشكل حاجزا أمام الحرية 86

العمل الإجتماعي الهادف 90

إفتقاد الأنظمة للهداية الإلهية 93

ص: 375

العلم و الأخلاق

البعد الإنساني و الأخلاقي و القيمي للمعلم و العامل 95

أهمية العلم و الأخلاق 97

أثر تجرد العلم عن الأخلاق 98

عدم تقليد الغرب 101

لا عار في أخذ العلم من الغرب 101

أخذ العلم من الغرب لا يعني ترك استثمار الطاقات 102

أثر المعنوية و الأخلاق على العالم 103

التقوى خير الزاد

آيات التقوى 105

معنى التقوى 109

أهمية التقوى 110

الوصية بالتقوى 114

وصية أمير المؤمنين عليه السّلام بالتقوى 114

التقوى في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام 117

أقسام التقوى 118

فوائد التقوى 120

ترك فوائد التقوى يؤدي للسقوط 121

من فوائد التقوى النجاح بالامتحان الإلهي 122

نموذج في قصة نوح عليه السّلام 122

عود على بدء 126

الطريق الوحيد للنجاة هو التزوّد بالتقوي 127

ص: 376

أسباب الحاجة للتقوى

الغفلة أسوأ أمراض المجتمع 128

يجب المحافظة على نظام الإسلام بالتقوى 130

التوفيق مشروط بالتقوى 132

التقوى ضمان تطبيق الإسلام 133

آثار التقوى

1 - الفرقان و الوضوح: 135

2 - الرزق: 135

3 - إستشعار حلاوة الحياة: 139

4 - التقوى تمنع الفساد: 140

كيف نكافح الفساد 142

5 - معرفة المساوىء: 143

6 - العزّة: 145

7 - العدالة: 146

متى تنعم الدنيا بالعدالة و التقوى؟ 147

8 - إصلاح الأعمال: 148

9 - التقوى ضمانة من الإنحراف و الزلل: 149

10 - المغفرة و الهداية: 149

التقوى مصدر الهداية 150

11 - إزالة الشدائد و النواقص: 151

12 - التكامل الإنساني: 153

الإسلام يجمع بين التكامل المادي و المعنوي 156

تأثير التقوى على جميع شؤون الحياة 159

ص: 377

التقوى في الإدارة 161

أثر التقوى على الأمور الإدارية 162

حاجة المسؤول للموعظة 163

كل منا يخطىء 164

وسائل الإجتناب من الإنحراف و المعاصي 165

قصد القربى و هدفية العمل 168

أثر الكماليات على التقوى في الإدارة 171

التقوى وسيلة و أسلوب للعلاج 172

التساهل نقيض التقوى 173

أثر التخلي عن التقوى 174

سبب الإنحرافات ترك التقوى 174

مشاكل العالم ناجمة عن ضعف التقوى 177

أثر مجالسة أهل التقوى 179

شعارنا سيادة التقوى و القيم المعنوية 180

تجسيد صورة التقوى 181

التقوى طريق اللّه تعالى 183

التقوى غاية الصوم 184

شهر رمضان يقربنا من التقوى 185

ثمرة شهر رمضان هي التقوى 186

أثر شهر رمضان على القلوب 186

بعض الأعمال المؤدية للتقوى 188

الصيام 188

قراءة القرآن 189

تجسد اللذة الظاهرية عذابا 189

ص: 378

تهذيب النفس

النفس العدو الأكبر 191

أهمية تهذيب النفس 192

تنقية النفس 197

أثر الإتصال باللّه تعالى على تهذيب النفس 200

أثر الإبتلاءات على تهذيب النفس 203

الإبتلاء سلّم لتقدم الإنسان 204

إن جميع مصائب الدنيا سلّم لتقدم الإنسان و الأمة 205

أثر الجوع و مقاومة الأهواء على تهذيب النفس 207

أثر المسجد على تهذيب النفس 208

أثر الصلاة في تهذيب النفس 211

أثر الصلاة على العلاقة المعنوية مع الرب 214

مقامات و مراتب الصلاة 217

الصلاة المقبولة 218

محاسبة النفس

أهمية محاسبة النفس 221

المراقبة و المحاسبة 225

أثر محاسبة النفس 228

يجب على المرء مراقبة ذاته 228

أثر مراقبة النفس 231

أهمية مجاهدة النفس 233

الجهاد الأكبر هو جهاد النفس 234

ص: 379

السير و السلوك و أثرهما

الكل يسير نحو اللّه تعالى 235

الإنسان الكامل و السير نحو اللّه تعالى 237

ضرورة إرساء العدالة و السلوك الأخلاقي 241

الإخلاص في السلوك الديني 242

كيف نبلغ درجة الكمال و السلوك المعنوي 245

التربية و التزكية و أثرهما

أهمية التربية 247

التربية في مرحلة الشباب 248

التربية و العروج المعنوي 252

التربية الروحية و التربية الفكرية 254

التربية أمر مستمر 259

التزكية و الطهارة 260

التزكية و التربية 263

التزكية و العلم 263

الدعاء

تعريف الدعاء 265

أهمية الدعاء 266

الحاجة للدعاء 269

الدعاء تحدّث الى اللّه تعالى 269

ص: 380

أبعاد الدعاء

الدعاء علة ضمن قانون العلية 271

الدعاء بحر من المعارف 274

الدعاء هدف لا وسيلة 275

أثر الإرتباط بالله تعالى 275

الدعاء ارتباط بمركز القدرة 277

معطيات و فوائد الدعاء

1 - الطلب و التضرع من اللّه تعالى لا إلى غيره 279

دور الدعاء الإعجازي 281

2 - الدعاء هو لتوفير الأسباب المادية 282

3 - إحياء ذكر اللّه تعالى في القلوب: 284

4 - تقوية و ترسيخ الإيمان في قلب الإنسان 285

5 - نفث روح الإخلاص في النفس 285

6 - ترسيخ و تنمية الفضائل الأخلاقية في النفس 286

7 - إيجاد المحبّة لله تعالى 286

8 - بثّ روح الأمل في وجود الإنسان 286

9 - قضاء الحوائج 287

10 - تعميق العلاقة مع اللّه تعالى 288

أهداف الدعاء

الهدف من الدعاء 289

لماذا نسأل الحاجات الصغيرة 291

ص: 381

نموذج قرآني لحب الأنا 291

المعارف الإلهية في الدعاء 294

هدف الدعاء إظهار الخشوع و التذلّل أمام اللّه 297

شروط إستجابة الدعاء

1 - طهارة القلب 299

2 - الدعاء مع المعرفة 300

3 - الإجتناب عن المعاصي و التوبة منها 300

4 - حضور القلب و عدم الغفلة 301

5 - عدم طلب المستحيل 303

إستجابة الدعاء مقيدة بالقوانين الطبيعية 304

الوعد الإلهي باستجابة الدعاء 305

نموذج قرآني للوعد الإلهي 306

شروط الوعد الإلهي 307

و عود إلهية أخرى 308

إقتران الوعد الإلهي بالعمل 308

الوعد مشروط بالثبات و الصبر 309

النصر يستتبع كيد الأعداء 311

قصة و عبرة من الوعد الإلهي 312

أدعية الأئمة عليهم السّلام أفضل الأدعية 314

أوقات الدعاء 315

الدعاء في ليلة القدر 316

ص: 382

الذنوب و آثارها

أنواع الذنوب 317

الإصلاح و التوبة من الذنوب 318

أشد الذنوب 321

وقت الإعتراف بالذنب 322

نموذج للإعتراف بالذنب 323

أثر الذنوب 324

الإستغفار

أهمية الإستغفار 325

الإستغفار عن ندم 326

فوائد الإستغفار 326

أثر الذنب على الإنسان 327

الأثر المعنوي و المادي للذنوب 329

نعمة المغفرة من الذنب 330

موانع الإستغفار

1 - الغفلة: 331

أثر الغفلة 332

2 - الغرور يمنع الإستغفار 333

غفران الذنب لا يعني سهولته 335

خطر إستصغار الذنوب 336

الإستغفار عن الذنب الأخلاقي 337

ص: 383

معنى استغفار أهل البيت عليهم السّلام 338

سبب إستغفار النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله 340

فرص الإستغفار 341

الاستغفار و التوبة 343

أنواع الإستغفارات

الإستغفار من الخلافات 345

الإستغفار من حب الأنا 347

خطر حبّ الذات 348

الإستغفار من الغفلة 349

الإستغفار من المذلة 349

الهداية الإلهية

هداية الإنسان و سعادته 351

سير العالم نحو الهداية 353

الإسلام مشعل هداية 355

هداية الأمة باتجاه الفضائل الأخلاقية 357

طريق القرآن هو طريق التقوى 359

كل ما لدينا بفضل الإسلام و القرآن 359

القرآن الهادي الحقيقي لسعادة الإنسان 361

الخطوات اللازم اتباعها للعمل الكامل بالقرآن 363

الهداية و الضلال 367

فهرس الموضوعات 373

ص: 384

المجلد 2

هویة الکتاب

مکارم الأخلاق و رذائلها

نويسنده: خامنه ای، علی، رهبر جمهوری اسلامی ایران

سایر نویسندگان

گردآورنده: عاشور، علی

تعداد جلد: 2

زبان: عربی

ناشر: مؤسسة التاريخ العربي - بیروت - لبنان

سال نشر: 1428 هجری قمری|2008 میلادی

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

مکارم الأخلاق و رذائلها

نويسنده: خامنه ای، علی، رهبر جمهوری اسلامی ایران

سایر نویسندگان

گردآورنده: عاشور، علی

ص: 3

ص: 4

تتمة باب مكارم الأخلاق

القناعة

أهمية القناعة

عن جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام: «مطلوبات الناس في الدنيا الفانية أربعة:

الغنى و الدعة و قلة الإهتمام و العز.

فأما الغنى فموجود في القناعة فمن يجده في كثرة المال لم يجده.

و أما الدعة فموجودة في خفّة المحمل فمن طلبها في ثقله لم يجدها.

و أما قلّة الإهتمام فموجودة في قلّة الشغل، فمن طلبها مع كثرته لم يجدها.

و أما العزّ فموجود في خدمة الخالق فمن طلبه في خدمة المخلوق لم يجده»(1).

متطلبات الناس في الدنيا الفانية عبارة عن أربعة أمور:

1 - الغنى و عدم الحاجة.

2 - الأطمئنان و الراحة.

3 - قلة الاهتمام و الانشغال.

ص: 5


1- الخصال/باب الأربعة/ح 7.

4 - العزّ.

أما الغنى فقد جعله اللّه في القناعة، فإذا اقتنع الإنسان في حياته و رضي بالمقدار القليل منها فإنّه سوف يشعر بعدم احتياجه للآخرين، و أما إذا أراد أن يتحصن بالمال لرفع حاجته فلن يصل الى ذلك، لأن طبيعة مال الدنيا أنّ الإنسان كلما أكثر منه كلما ازداد عطشا للأزيد.

و أما الراحة و الدعة فقد جعلها اللّه تعالى في خفة المحمل أي يكون خفيف الحمل في الدنيا فكلما كان متاعه من الدنيا قليلا و خفيفا كلما ازداد راحة و طمأنينة. و لذلك فإن أصحاب الأملاك الكثيرة و الرساميل الزائدة من الضياع و السلع و العقارات لا يرتاح بالهم و لا يكونون مطمئنين.

و أما قلّة الاهتمام فهي موجودة في قلة الإنشغالات، فإن الإنسان إذا كان بصدد تحصيل المشاغل و المناصب المختلفة سيزداد اضطرابه و تشويش ذهنه و انشغال قلبه و اضطرابه.

و أما العز فقد جعل في خدمة الإنسان للّه تعالى و إن أدّى ذلك الى عدم رضا الناس عنه.

و أما لو كان العزّ في كسب و تحصيل رضا الناس و السعي و العمل لأجل تحصيل رضا الأحزاب و الأجنحة المختلفة فسوف لن يحصل عليه أبدا.(1)

و قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله و لمّا نزلت عليه قوله تعالى: وَ لاٰ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلىٰ مٰا مَتَّعْنٰا بِهِ أَزْوٰاجاً مِنْهُمْ... (2) إلى آخر الآية، قال صلّى اللّه عليه و آله: «من لم يتعزّ بعزاء اللّه انقطعت نفسه حسرات على الدنيا، و من مدّ عينيه إلى ما في أيدي الناس من دنياهم طال حزنه،

ص: 6


1- كلمات مضيئة: 35-36.
2- سورة طه: 131.

و سخط ما قسّم اللّه له من رزقه، و تنغّص عليه عيشه»(1).

ذكر النّبي صلّى اللّه عليه و آله في مقام البيان و التوضيح لقوله تعالى: وَ لاٰ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلىٰ مٰا مَتَّعْنٰا بِهِ أَزْوٰاجاً مِنْهُمْ... ما يلي:

إنّ المؤمن يجب عليه أن يعزّي نفسه بالعزاء الإلهي و يرضى نفسه و يقنّعها بما أعدّه اللّه تعالى للمؤمنين من النعمة الدائمة الأبدية و العطايا المعدّة للمؤمنين يوم القيامة.

و إلا فإن مدّ عينيه و تطلّع إلى المال و المنصب و القدرات و الإمكانيات الموجودة عند الآخر فسوف تذهب نفسه على ذلك حسرات و يعيش في الغصص و الأحزان و يسخط على ما قسّمه اللّه تعالى و قدّره له من ذلك، أو سيدخل ميدان السعي و المنازعة المرّة و التعدّي على حدود الحلال و الحرام و تجاوزها ليحصل على ما يريد و لو من طرق و أسباب غير مشروعة.

إذن فلأجل أن لا يحترق الإنسان في نار حسرة حياة الآخرين و لا يبتلى بالدخول في ميدان السعي و المنازعة الذي لا حدود له يجب عليه أن يعزّي نفسه بالعزاء الإلهي و يسلّي نفسه بذلك(2).

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لحمران بن أعين: «و اعلم أنه لا ورع أنفع من تجنّب محارم اللّه و الكفّ عن أذى المؤمنين و اغتيابهم. و لا عيش أهنأ من حسن الخلق. و لا مال أنفع من القناعة باليسير المجزي.

و لا جهل أضرّ من العجب»(3).

معنى الورع على ما ورد في كثير من رواياتنا الإجتناب. و يحتمل فيه و جهان:

ص: 7


1- تحف العقول، صفحة: 411.
2- كلمات مضيئة: 63.
3- تحف العقول، صفحة: 359.

أحدهما: الإجتناب عن المحرمات الإلهية.

و الآخر: الورع عن الأمور المحلّلة (الزهد).

و هذا النوع و إن كان مطلوبا إلاّ أن الورع الأهم هو الأوّل.

و الحياة و العيش في ظل الخلق الحسن ألذّ و أهنأ من كل شيء، و ذلك لأن الحسد و الضغينة و الكره و التشاؤم و البخل و الإمساك تجعل الحياة مريرة، حتى و إن كان الإنسان لديه من النعم و الهبات المادية الشيء الكثير(1).

ص: 8


1- كلمات مضيئة: 122.

الإنصاف و المواساة

أهمية الإنصاف و المواساة

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام: «يا على: سيّد الأعمال ثلاث خصال:

إنصافك الناس من نفسك.

و مواساة الأخ في اللّه عز و جل.

و ذكر اللّه تعالى على كل حال»(1).

ثلاث خصال هي سيّدة و رأس كل الأعمال الصالحة التي يفعلها الإنسان. خصلتان منها مرتبطتان بالعلاقات الإجتماعية، و خصلة مرتبطة بعلاقة الإنسان مع اللّه تعالى.

و هي:

1 - التعامل مع الناس بالعدل و الإنصاف.

و هذه المسألة سهلة جدّا في القول و الكلام و لكنّها صعبة جدّا في العمل. لأن الغالب في الإنسان أنه حينما تطرح مصالح الإنسان و شخصيته للبحث يقوم بإعطاء الحق لنفسه و يقيس الآخرين على وفق مصالحه و منافعه هو، مع أنّ الواجب يفرض عليه أن ينظر إلى نفسه كالآخرين من هذه الجهة.

ص: 9


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 121.

2 - مواساة الأخوة في الدين و التي تعني مساعدتهم و إعانتهم.

3 - ذكر اللّه تعالى في كل الأحوال. لأنّ روح كل أعمال الإنسان هي أن يكون الإنسان في كل أحواله ذاكرا لله تعالى، و يستمد من اللّه تعالى الألطاف و النّعم و الرحمة، و يضع نصب عينيه القوّة و العظمة الإلهيّة اللامتناهية(1).

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «ما ابتلي المؤمن بشيء أشد عليه من خصال ثلاثة يحرمها.

قيل: و ما هنّ؟

قال عليه السّلام: المواساة في ذات يده باللّه، و الإنصاف من نفسه، و ذكر اللّه كثيرا.

أما إني لا أقول لكم «سبحان و الحمد و لا إله إلاّ اللّه و اللّه أكبر» و لكن ذكر اللّه عند ما أحل له و ذكر اللّه على ما حرم عليه»(2)

المستفاد من هذه الرواية أن الإبتلاء العظيم بحسب قانون و نظام القيم هو أن لا يكون في الإنسان المؤمن واحدة من هذه الصفات الثلاثة، و هي:

1 - المواساة في ذات يده بالله، فالمواساة تعني أنّ ما هو مملوك له ليس منحصرا به بل يرى لغيره نصيبا أيضا بخلاف الشخص الذي يرى أنّ ما يملكه متعلق به فقط و لا حقّ لأحد عنده أبدا.

2 - الإنصاف من نفسه أي أن يتعامل مع الآخرين على أساس العدل و الإنصاف حتى لو كان على نفسه، و أما إذا كانت علاقته مع الآخرين مبنيّة على محورية نفسه و كان ملاك حكمه على الآخرين هو نفسه و منافعها فقط فهذا لا يملك من الإنصاف شيئا.

ص: 10


1- كلمات مضيئة: 17.
2- الخصال/باب الثلاثة/ح 130

3 - ذكر اللّه كثيرا، كما قال اللّه تعالى يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا اَللّٰهَ ذِكْراً كَثِيراً (1).

و لكن الذكر ليس المقصود به الذكر باللسان فقط بل المراد منه تذكّر اللّه تعالى عند الحلال و الحرام و عدم التجاوز و التعدي على الحدود الإلهيّة.

فذكر اللّه في الحلال هو الصبر و أحيانا يكون هو الشكر و أما ذكر اللّه عند الحرام فهو الإجتناب و التورّع عنه(2).

ص: 11


1- سورة الأحزاب: 41.
2- كلمات مضيئة: 88.

البصيرة و التعقل و التثبت

أهمية البصيرة

و من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «العامل على غير بصيرة كالسائر على غير طريق، فلا تزيده سرعة السير إلاّ بعدا»(1).

الإنسان الذي يريد الذهاب إلى مقصد معيّن، إذا تحرّك على خلاف جهة مقصده إشتباها أو جهلا، فإنّه كلّما جدّ في السير و أسرع فيه كلما ازداد بعدا عن مسيره الأصلي.

و هكذا حال الإنسان الذي يعمل من غير بصيرة و إطّلاع و معرفة بالأمور و المسائل و المعارف الدينية، فإنه لن يصل إلى هدفه الحقيقي أبدا أي التكامل و القرب إلى اللّه تعالى(2).

أهمية التثبت و عدم التهاون

من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «و من فرّط تورّط، و من خاف العاقبة تثبّت فيما لا يعلم،

ص: 12


1- تحف العقول، صفحة: 362.
2- كلمات مضيئة: 122.

و من هجم على أمر بغير علم جدع أنف نفسه»(1).

التفريط يقابل الإفراط، و معناه التقصير و التهاون في العمل، و منشاؤه في الغالب يكون الكسل و الخلود إلى الراحة.

فالإنسان الذي يسعى للرّاحة من خلال اتّباعه للملذّات و الطيّبات و المسرّات الزائلة يقع في ورطة المصاعب و المتاعب و المشاكل.

و الإنسان الذي تكون عاقبة الأمور واضحة و مبيّنة له و لا يريد أن يبتلى بالوقوع في النهاية المرّة فإنّه يتّبع الحقيقة و المعرفة، و لا يقدم أبدا على عمل من دون تفكّر و تدبّر و علم، لأن كل إنسان يقدم على عمل من دون تقييم و موازنة لجوانب القضايا و من دون فحص و تحقّق فيه سوف يبتلى في الوقوع بالخسارة و الذلّة(2).

الإسلام مطابق للعقل و المنطق

بإمكان المعارف القرآنية ملء الفراغ المعنوي في الحياة البشرية في كل الأحوال، فهناك قوة خاصة تكمن في المعارف الإسلامية و بوسعها أن تملأ - تحت أية ظروف - الفراغ المعنوي و الروحي و تتيح للبشرية الحياة في مناخ روحي و معنوي.

إن من شروط انتشار دعوة بين الشعوب و الملل هو أن تكون الدعوة منطقية و معقولة، إن أي حديث يفصل الإسلام عن المنطق و العقل فهو مانع لانتشار الإسلام.

فعلى المفكرين و المنظّرين في القضايا و الشؤون الإسلامية أن يتوجهوا لهذه النقطة و هي أنّ الإسلام هو دين المنطق و العقل و إنّ العقل السليم و الفطري يستوعبه و يفهمه و يتقبله بسرعة، طبعا ليس بمعنى أنه لا بدّ من برهان عقلي لكل حكم من احكام الإسلام، مثلا لماذا تكون صلاة الصبح ركعتين، فيلزم دليل عقلي عليه، كلا

ص: 13


1- تحف العقول، صفحة: 356.
2- كلمات مضيئة: 29.

ليس بهذا المعني، و لا بمعنى لزوم وجود أي شيء يفهمه و يدركه العقل في الإسلام، بل بمعنى إمكانية الدفاع عن المعارف الإسلامية الثابتة و المقبولة من قبل أهل الخبرة و الفن في الإسلام في أي محيط عقلي و علمي، فيمكن إثبات و تعليل و توضيح ضرورة الصلاة لأكثر الناس مادية، و على حدّ تعبير أحد المفكرين الغربيين المشهورين في القرن التاسع عشر - قرن اللادينية في الغرب - إنّ في الصلاة سرّا عظيما، نعم لو لم تكن كذلك لما حملت مفكرا غربيا يعيش في عالم الغرب المادي على الاعتراف بذلك.

المنصفون و أهل العلم و العقل و المنطق و الإستدلال يمكنهم استيعاب و قبول جميع المعارف الإسلامية، و هذه من خصائص الإسلام؛ إنه مطابق للعقل و المنطق.

فإن سعى اناس لإفراغ الإسلام من هذه الخصيصة سواء إعلاميا بأن يقولوا: إن هذه المعارف مخالفة للعلم و العقل، أو عمليا بأن ينسبوا ما ليس في الإسلام و ما ليس موافقا للعقل السليم الى الإسلام فإنهم لم يدعموا الإسلام بل عرقلوا انتشاره(1).

الحكمة و التعقل

و من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «يا بنيّ، من يصحب صاحب السؤ لا يسلم، و من لا يقيّد ألفاظه يندم، و من يدخل مداخل السؤيتّهم.

قلت: يا ابن بنت رسول اللّه، فما الثلاث اللّواتي نهاك عنهنّ؟

قال عليه السّلام: نهاني أن أصاحب حاسد نعمة و شامتا بمصيبة أو حامل نميمة»(2).

صاحب السوء أي الصديق السيّ ء في جميع مراحل الحياة من الصغر إلى الشباب و موجب لإنحراف من يصحبه عن الطريق القويم.

ص: 14


1- من كلمة ألقاها في: 27 رجب 1414 ه
2- تحف العقول، صفحة: 377.

و كل إنسان لا يكون في كلامه متعقّلا و متدبّرا و يقول كل ما يجري على لسانه سوف يندم في النهاية.

و كل إنسان يدخل إلى مراكز السؤيتّهم.

و لا ينبغي للإنسان أن يصاحب الحسود و النمّام و الذي يشمت بالآخرين إذا حلّت بهم المصائب.

و هذه التعليمات و الإرشادات هي التي أطلق عليها في القرآن الكريم إسم الحكمة.

و هي و إن كانت بالنظرة الأولى أمورا عادية إلاّ أنّها تشكّل أساس بناء الحياة العقلانية.

و إذا أدرك الإنسان هذه المعارف بعمق و عمل بها فسوف لن يرى في حياته أي ضرر(1).

علينا تشخيص الحق من الباطل لخلاص الإنسان

يجب أن لا تضطرب و لا تتداخل جبهات الحق و جبهات الباطل، و يجب تشخيص الحق أين يكون و مع من، و ما هو هدفه و اسلوبه و تكتيكه و عمله؟ و من هو الباطل و ما هي أساليبه و غاياته؟ هذه الأمور يجب عدم إغفالها، و إهمال هذه الحدود ليس من صالح جبهة الحق. و ما من أحد يمتدح غفلة و إهمال جبهة الحق و جهلها بعلل أحقّيتها، و ما العمل الذي يجب عليها أداؤه، و من هي الجبهة المقابلة لها، و حتى الأعداء أنفسهم لا يمتدحون هذا العمل منها.

كان الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله يبيّن تلك الحدود؛ فكان أولا يشخّص جبهة الكفار؛ و هي تلك الجبهة المقابلة التي جاءت بعثة الرسول الأعظم و نظامه و جهاده لأجل التغلغل بين صفوفها و دحرها و توسيع دائرة حقّانيته. فجبهة الكفر لا ينبغي إهمالها، و إنّما يجب تشخيصها بصفتها الجبهة المتصدية لدعوة الحق. و يجب تشخيص

ص: 15


1- كلمات مضيئة: 12.

طبيعة العلاقة بين جبهة الحق و جبهة الكفر، بل و لماذا يظهر الحق إلى الوجود أساسا؟ و لماذا يلهم اللّه تعالى دعوة الحق للأنبياء عليهم السّلام و يبلغهم إيّاهم؟ و لماذا يطرحونها؟ و إذا كانت هناك حكمة من وراء ظهور رسالة الحق التي تعني رسالة خلاص الإنسان و توجب مسؤولية على حملة تلك الرسالة - و هو الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، و امتداد نهجه الباقي إلى الأبد - فيجب أن يفهم إذا هدف جبهة الحق و كيف ينبغي أن تصل إلى ذلك الهدف.

بأي شيء يحصل خلاص الإنسان؟ من الطبيعي أنه لا يحصل بالنصح و الموعظة فقط، و لهذا فإن جبهة الحق - أي جميع الأنبياء عليهم السّلام - متى ما واتتهم الفرصة و أتيح لهم إبراز أنفسهم و التقدّم خطوة إلى الأمام سعوا إلى أن يغرسوا في أذهان الناس و يحققوا في واقع حياتهم الحقائق التي يجب أن يكونوا على معرفة بها؛ و هي تلك الحقائق الكفيلة بتقريبهم إلى النجاة و الفلاح. هذه هي مهمة جبهة الحق، و هذا هو ما يستوجب المجاهدة؛ و سبب ذلك هو وجود معارض لحقّانية الحق؛ فإذا كانت غاية الحق خلاص الناس، فهناك في العالم من يستهدف استعباد الناس؛ و إذا كان الحق يرمي إلى تطبيق العدالة، فهناك من يناهض العدالة و يناصر الظلم؛ و إذا كان الحق يدعو إلى عبادة اللّه، فهناك من يدعي الألوهية و ينكر التسليم لله. و من الطبيعي أن هؤلاء جميعهم يعارضون دعوة الحق، و لا يمكن لتلك الرسالة أن تحرز أي تقدّم و لا يتسنى لها أن تغرس في الأذهان أو تتحقق في الواقع الخارجي دون مجاهدة.

كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله يشخّص حالة الكفار، و يشخّص حالة المؤمنين الضعفاء، سواء المنافقين منهم أو الذين أقل منهم نفاقا و يعيشون حالة من التذبذب؛ و حتّى هؤلاء يحرص الإسلام على تحويلهم إلى مؤمنين أشداء(1).

ص: 16


1- من كلمة ألقاها في: 16 رمضان 1420 ه - طهران.

الإستقامة و الثبات

أهمية الإستقامة

إن المحافظة على النعمة أكثر صعوبة من اكتسابها، قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ قٰالُوا رَبُّنَا اَللّٰهُ ثُمَّ اِسْتَقٰامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ (1) فلا يكفي مجرد قول: (رَبُّنَا اَللّٰهُ) بل لا بدّ مع ذلك من الاستقامة، و عندها تتنزّل عليهم الملائكة، فالإستقامة هي الأساس، و إلا فقد يكون بإمكان الشخص الضعيف مثلي أن يرفع حملا ثقيلا للحظات، إلاّ أنه لا يمكنه أن يستمر في حمله و سرعان ما سيطرحه أرضا، فالقوي الذي ينجز العمل هو الذي يتمكن من مواصلة رفع هذا الحمل الثقيل في تمام المدة المرصودة لحمله.

إنّ نية الكثير منا صالحة، و نباشر العمل بنوايا صالحة، إلاّ أننا لا نستطيع الإبقاء على هذه النوايا، حيث تصطدم هذه النوايا ببعض الموانع أثناء الطريق و تبدأ بالتآكل و الاضمحلال، و أحيانا تقوم جاذبة قوية بمعارضة الفؤاد - الذي هو مكمن النوايا - و جرّه إليها، و سرعان ما تدركون اختفاء النية و تبدّلها، و حينها ينحرف الشخص عن مساره، و إذا رأيتم أن أشخاصا كانوا يقولون: رَبُّنَا اَللّٰهُ في حين أنهم حاليا يعبدون الأصنام، و انقلبوا على شعاراتهم الخلاّبة 180 درجة، إنما هو بسبب عدم تمكنهم من الحفاظ على مبادئهم، و ذلك لظهور بعض المزالق التي تنحرف بالإنسان عن مساره.

ص: 17


1- سورة فصّلت: 30.

ربما سمعتم بذلك الشخص الذي نوى أن يمارس الإرتياض أربعين يوما، فما بلغ اليوم العشرين حتى دبّت إليه الوساوس الشيطانية، فعرضت له إمرأة بالغة الجمال، و وضع أمامه طعام شهي، و عرضت له أموال طائلة، و لذا لم يتمالك نفسه، و استسلم للرغبات و ذهبت الجهود التي بذلها طوال عشرين يوما أدراج الرياح، يمكن لهذه الحكاية أن تكون حقيقة، و حتى إذا لم تكن حقيقة فإن الدرس الذي يراد تقديمه من خلالها واضح(1).

إستقامة النبي صلّى اللّه عليه و آله

لقد كانت استقامة النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله بلا نظير في تاريخ البشرية، و هو ما جعله قادرا على ترسيخ هذا الكيان الإلهي الخالد و العظيم. و هل كان ذلك ممكنا بلا استقامة؟! فباستقامته بات واقعا ملموسا؛ لقد ربّى أصحابه الكبار و أعدّهم باستقامته.

و رفع عماد فسطاط المدينة الإنسانية الخالدة وسط صحراء الحجاز المقفرة فَلِذٰلِكَ فَادْعُ وَ اِسْتَقِمْ كَمٰا أُمِرْتَ (2)-(3).

و يقول اللّه تعالى لرسوله في سورة هود: فَاسْتَقِمْ كَمٰا أُمِرْتَ وَ مَنْ تٰابَ مَعَكَ وَ لاٰ تَطْغَوْا (4).

و جاء في رواية عن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «شيّبتني سورة هود»(5) أي شيّبتني سورة هود نتيجة ثقل الأمر الذي تحمله في آية من آياتها؟ و روي أنّ المراد

ص: 18


1- من كلمة ألقاها في: 1384/6/8 ه ش الموافق 24 /رجب/ 1426 ه الموافق 2005/8/30 م - طهران.
2- سورة الشورى: 15.
3- من كلمة ألقاها في: 7 صفر 1241 ه - طهران.
4- سورة هود: 112.
5- كنز العمال: 573/1 ح 2590.

هو هذه الآية فَاسْتَقِمْ كَمٰا أُمِرْتَ.

لماذا شيّبت هذه الآية الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله؟ لأنّ اللّه تعالى يقول في هذه الآية:

عليك بالإستقامة و الثبات و التحلّي بالصبر في هذا الطريق كما أمرناك.

إنّ هذه الإستقامة عمل شاق، إنّه الصراط؛ أي حبل الصراط، الذي ضرب لنا مثله في يوم القيامة، و هو حقيقة عملنا و سلوكنا في الدنيا، نحن الآن نعبر على حبل الصراط، فعلينا أن نتوخّى الحذر و الدقة، و لو أن إنسانا أراد أن يطبّق هذه الدقة على جميع سلوكه؛ فسوف يشيب بسببها، إلاّ أنّ الأهم من ذلك - كما أظن - هي العبارة التالية: وَ مَنْ تٰابَ مَعَكَ، فليس الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله وحده مأمورا بالإستقامة، بل عليه أن يهدي جمعا كبيرا من المؤمنين الى الإستقامة في هذا الطريق.

إنّ الأفراد الذين يكونون عرضة للهجوم من قبل آفات الحياة و مفاسدها - كالأعداء و المتآمرين و الظلمة و قوى التسلط - من جهة، و من قبل أهوائهم النفسية - الرغبات النفسية و القلوب التي تستميلها زخارف و بهارج الدنيا، و تنجر وراءها - من جهة أخرى، سوف ينحرفون يمينا أو يسارا عن جادة الإستقامة، و إنّ كلا من حبّ الذهب و الفضة و الأموال و الرغبات الجنسية و الرئاسة و غيرها، يمثل حبائل و شباك تلقى في قلب الإنسان لينجر وراءها، و إنّ المقاومة و الثبات للحيولة دون أن تنزلق قدم الإنسان نحو ذلك. هو المراد من عبارة وَ مَنْ تٰابَ مَعَكَ.

إنّ المؤمنين يقعون تحت تأثير هذين المؤثرين القويين - ضغط العدو، و الضغط الداخلي للقلب المصاب بالهوس - و أغلب الظن، أنّ ما شيّب النبي صلّى اللّه عليه و آله هو همّ هداية هؤلاء المؤمنين نحو الصراط المستقيم، و المحافظة عليه مع تأثير هاتين القوتين الجاذبتين.

أ لا تعلمون أنّه برغم كثرة المخاطر و الصعاب إستطاع النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله أن يتجاوز بالمسلمين - سواء في العهد المكي الذي دام ثلاث عشرة سنة، أو في عهد تأسيس الدولة في المدينة المنورة - و أن يوصلهم الى القمم الشامخة؟

ص: 19

إنّ مثل هذه النهضة العظيمة لم تكن بمقدور أي إنسان أن يقوم بها، إلاّ أنّه مع ذلك إستطاع الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله القيام بتغيير أفراد ذلك المجتمع - المجتمع الذي لم يكن يفقه شيئا، و لم يتذوّق طعما للأخلاق الإنسانية - الى أشخاص تتصاغر أمام عظمتهم و نورانيتهم ملائكة السماء، هذه هي الإستقامة التي نحتاجها اليوم.

نحن - أيضا - مبتلون بتعلّق قلوبنا و أهوائنا بجاذبية الحياة ذات الألوان المختلفة، فما أكثر الأشخاص الذين رأيناهم في عهد الثورة و قد كانوا يمتلكون قلوبا صالحة، و عقائد صحيحة، إلاّ أنّهم لم يصمدوا بعد ذلك في مواجهة الخلود للدعة و الشهوات، و حبّ التسلط و الرئاسة، و المدح من قبل هذا و ذاك، و تهديد العدو، فمالوا الى هذه الجهة أو تلك، و أصبحوا معارضين، و أحيانا معاندين للخط الإلهي.

بناء على ذلك فإنّ الثبات أمر لازم، فعلينا أن نثبت أمام العدو؛ لأنّه يهدد و يتوعّد، و يحاول أن يبرز عظمته و يستعرضها أمام المجتمع الإسلامي، و يتكلّم بمنطق القوّة، و أحيانا يمزج منطق القوّة بشيء من عذوبة الوعود الكاذبة، ليوهم القلوب بمكره.

إنّ التصدي لخدع العدو و تهديداته فن عظيم، و لو أن شعبا إستطاع أن يحصل على هذا الفن فسوف يكون مدعاة لبلوغه القمم الشامخة، بحيث يكون في مكانة لا تجدي معها تهديدات العدو؛ فيكون مضطرا لمصانعته أو التسليم قباله(1).

الإستقامة و الإرتقاء الروحي

إن المعنويات الكامنة في وجود الإنسان تمثل مصدرا للهدفية و تضفي معنى على حياته و توجهها، مثلما تقوم المبادئ المعنوية و الأخلاقية بتوجيه حياة المجتمع و البلد و الامة، فتضفي على جهدها و كفاحها معنى و تهب الإنسان هويته، فإذا ما أفرغ

ص: 20


1- من كلمة ألقاها في 1385/1/6 ه. ش الموافق 25 /صفر/ 1427 ه. ق الموافق: 2006/3/26 م - طهران.

شعب أو بلد من مبادئه الأخلاقية و المعنوية ضيع هويته الحقيقية و غدا كالعهن المنفوش، يتأرجح تارة بهذا الإتجاه و أخرى بذاك الإتجاه، و مرة تتلاقفه يد هذا و أخرى يد ذاك، و إن الشهور الشريفة - شهر رجب، شعبان، و شهر رمضان - تعد فرصا لنا لاستكمال ذخيرتنا المعنوية.

إننا نتعرض للصدأ و التلف، فقلوبنا و أرواحنا يعتريها الصدأ بشكل مستمر أثناء مواجهتنا لوقائع الحياة اليومية، و لا بد من وضع هذا الصدأ في الحسبان و تلافيه بالطرق الصحيحة، و إلاّ لتعرض الإنسان للفناء، فلربما يكون الإنسان قويا شديدا من الناحية المادية و الظاهرية لكنه سيفنى معنويا إن لم يضع التعويض عن هذا التلف في الحسبان. يقول تعالى في كتابه العزيز الكريم: إِنَّ اَلَّذِينَ قٰالُوا رَبُّنَا اَللّٰهُ ثُمَّ اِسْتَقٰامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ (1)، فقولهم رَبُّنَا اَللّٰهُ يعني الإقرار بالعبودية لله و التسليم له.

و هذا أمر في غاية العظمة لكنه ليس كافيا، فحينما نقول (ربّنا اللّه) إنما ذلك حسن جدا لذلك الأوان الذي نطلقها فيه، لكننا إذا نسيناها فإن (ربّنا اللّه) الذي أطلقنا اليوم لن تجدينا نفعا في الغد، لذلك فهو يقول ثُمَّ اِسْتَقٰامُوا، أي يستقيمون و يثبتون و يمضون على هذا الطريق.

و هذا مما يؤدي إلى أن تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ و إلاّ لا تتنزل عليهم ملائكة اللّه إن غطّو في سبات لحظة أو آنا واحدا، و لا يدرك الإنسان نور الهداية و لا تمتد نحوه يد العون الإلهي، و لا يبلغ الإنسان مقام العباد الصالحين.

فلا بد من مواصلة هذا الدرب و المضي في ثُمَّ اِسْتَقٰامُوا و إذا ما أردتم أن تتحقق هذه الاستقامة فعليكم الحذر دائما من أن يهبط ميزان المعنوية هذا عن مستواه المطلوب.

إن هذه الأشهر فرصة لإعادة النظر، و لقد كان أولياء اللّه و أئمة الهدى عليه السّلام يدأبون

ص: 21


1- سورة فصّلت: 30.

على المناجاة الشعبانية. و إنني سألت إمامنا العظيم ذات مرة: أيّا من الأدعية ترجح؟ فذكر منها اثنين: أحدهما المناجاة الشعبانية و الآخر دعاء كميل. فهذان الدعاءان يحتويان على مضامين راقية، و هذه الأدعية ليس من شأنها القراءة فقط، أي ليس أن يملأ الإنسان الأجواء بصوته و يتفوه بهذه الكلمات فقط، فهذه حالة قشرية ليس لها شأن يذكر. بل لا بد أن تتناغم هذه المفاهيم مع الفؤاد و يدخل القلب رحابها.

و إن هذه المفاهيم الراقية و المضامين البهية بألفاظها الرائعة إنما الغاية منها أن تستقر في فؤاد الإنسان: «إلهي هب لي كمال الإنقطاع إليك. و أنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك». أي اللهم اجعلني دائم الاتصال و الارتباط بك و أدخلني في حريم عزك و شأنك و أنر بصيرة فؤادي بحيث تقوى على النظر إليك: «حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور»(1).

فيقدر بصري على اختراق كافة الحجب النوارنية و يجتازها حتى يصل إليك ليراك و يدعوك(2).

إن الآمال الكبرى لا تتحقق إلاّ في ظل الصبر و الاستقامة و الجد و التوكل على اللّه و التوجه إليه و التقوى و التزكي و التطهير من الخبائث و الأرجاس. إنكم لو حققتم في شتى مظاهر التقدم أو التخلف في كافة بقاع العالم لو جدتم أن الحقيقة لا تخرج عن هذا؛ فحيثما عقد شعب أو جماعة العزم على تحقيق الآمال الكبرى فلا بد من الجد و المثابرة و الاستقامة و الاصرار و التشمير عن سواعد الهمة و التحلي بالفضائل في الحياة اليومية الخاصة و العامة، بينما إذا تضاءلت الآمال و تقاعست العزائم فإن كل شيء سيؤول إلى الزوال في خضم الحياة المتلاطم(3).

ص: 22


1- بحار الأنوار: 99/91.
2- من كلمة ألقاها في: 3 شعبان 1423 ه - طهران.
3- من كلمة ألقاها في: 2 ذي القعدة 1420 ه - طهران.

برّ الوالدين

أهمية برّ الوالدين

سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «ثلاثة لا عذر لأحد فيها: أداء الأمانة الى البرّ و الفاجر.

و الوفاء بالعهد للبرّ و الفاجر.

و برّ الوالدين بريّن كانا أو فاجرين».(1)

الإنسان يجب عليه الإحسان الى والديه و البرّ بهما سواء كانا صالحين مؤمنين أم كانا فاجرين فاسقين(2).

ثواب الشفقة على الوالدين

عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «أربع من كنّ فيه بنى اللّه له بيتا في الجنة: من آوى اليتيم، و رحم الضعيف، و أشفق على والديه، و رفق بمملوكه»(3)

من كانت فيه هذه الخصال الأربعة بنى اللّه تعالى له بيتا في الجنة و عدّ منها:

ص: 23


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 118.
2- كلمات مضيئة: 15.
3- الخصال/باب الأربعة/ح 53.

من أشفق على والديه، أي كان لطيفا ودودا و شفيقا في تصرفاته معهما.

و الشفقة أعلى مرتبة من الطاعة للوالدين، لأنه من الممكن أن يطيعهما فيما يريدانه و لكنه قد يكون كارها لذلك فيفعله عن كره منه، و أما الشفقة فهي الطاعة لهما مع اللطف و المحبة...(1).

ص: 24


1- كلمات مضيئة: 187.

الإيثار

أهمية الإيثار

أمّا ما يتعلق باللّه و عباده و أوامره و كل ما له صلة بذاته المقدسة فهو يتلخص بالإيثار و التضحية؛ فالشهيد قد آثر و ضحّى للّه. الإيثار معناه إنكار الذات و عدم إدخالها في الحسبان. و هذا أول موقف للشهيد. فلو أنه أقحم ذاته في الحسابات و ضنّ بها و لم يخاطر لما بلغ هذه المنزلة. الشبان الذين قصدوا سوح الوغى و ضحوا بأنفسهم على رمضاء خوزستان التي تصل حرارتها 65 درجة، أو على جبال كردستان و بردها القارص و الثلوج، كانت لهم مساكن و اسر، و كان لكل منهم أبوان عطوفان، و زوجة عزيزة، و البعض منهم كان لهم أطفال يمثلون بالنسبة اليهم فلذات أكبادهم، و كانوا يعيشون حياة دعة و استقرار، إلاّ أنهم تخلوا عن كل هذا و قصدوا سوح القتال.

ما هي الرسالة التي كان يحملها هؤلاء الشهداء و يفترض بنا استلهامها منهم؟ رسالتهم هي أنّ من يبتغي مرضاة اللّه، و يطمح لأن يكون وجوده نافعا في سبيل اللّه على طريق تحقيق الغايات الإلهية السامية في عالم الوجود، فعليه أن ينكر ذاته في مقابل الأهداف ذات الطابع الإلهي. و ليس هذا من نوع التكليف الذي لا يطاق. حيثما تمسكت فئة مؤمنة بهذه السمة انتصرت كلمة اللّه، و حيثما ارتعدت فرائص المؤمنين، كانت الغلبة - بلا جدال - لكلمة الباطل.

هذه الثورة انتصرت بفعل عوامل الإيثار و التضحية التي تمسك بها عباد اللّه

ص: 25

المؤمنون، و وقع ما لم يكن يخطر بحسبان أي محلل، و ذلك هو إقامة الحكم الإسلامي و في هذه النقطة من العالم بالذات، من كان يتوقع هذا؟ و من كان يصدّق بحدوثه؟ و لكن بفعل مواقف الإيثار و التضحية على يد المؤمنين تحقق هذا الأمر الذي ما كان متوقعا تحققه؛ إذ فئة مصطفاة من المؤمنين - و لا نقول كل المؤمنين - أنكرت ذاتها، و الجميع مطالبون بالسعي لأن يكونوا ضمن هذه الفئة، لنيل هذه المنقبة.

كل موضع انعدم فيه عنصر الإيثار، كما هو الحال في كل بقعة خلت منه، و كما هو الحال على امتداد التأريخ، و كذلك في عهد الإمام الحسين عليه السّلام حين تنصلت الأكثرية العظمى من المؤمنين و الخواص عن واجبها، و نكلت و تراجعت، انتصرت حينها كلمة الباطل، و تسلط يزيد على الرقاب و استمر الحكم الأموي تسعين سنة، و جاء عهد بني العباس و دامت حكومتهم بين خمسة و ستة قرون. و كان السبب الأساسي لكل هذا هو انعدام الإيثار. و كانت النتيجة أنّ المجتمعات الإسلامية كابدت الكثير من العناء، و ذاق المؤمنون أمرّ أنواع الظلم.

أثر التضحية و الإيثار

و عصرنا هذا يا أعزائي شبيه بمعركة احد؛ فإن أحسنّا ستكون الهزيمة من نصيب العدو، و لكن إذا وقعت أبصارنا على الغنائم و لاحظنا بضعة أشخاص يتكالبون على جمع الغنائم، و غلبتنا مشاعر الطمع و تركنا مواضعنا و انهمكنا في الاستحواذ على الغنائم، تنعكس المعادلة حينذاك. انتم تعلمون كيف انعكست القضية في معركة احد، و لقد تكررت معركة احد على مدى تأريخ الإسلام.

القائد الرباني الذي يرى بصفاء قلبه صفحة الحقيقة انتدب لذلك الموضع فئة من المسلمين و أوصاهم بعدم مغادرة أماكنهم، و أن يحرسوا هذه الجبهة.

و لكن ما إن وقعت أبصارهم على الغنائم و شاهدوا أفرادا يحوزون الغنائم، زلزلت

ص: 26

القلوب طمعا. و لو استنطق كل منهم لقالوا: نحن أيضا بشر، و قلوبنا تهوي مستلزمات العيش الرغيد. هذا صحيح، و لكن لاحظتم النتائج التي أدى إليها هذا الخنوع أمام الأهواء البشرية التافهة؛ فقد كسر ضرس الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، و أصيب بجراح، و غلبت جبهة الحق، و انتصر العدو و استشهد الكثير من أكابر المسلمين.

نداء الشهداء يدعو إلى عدم الانصياع لهواجس الغنائم. هذا هو نداؤهم لي و لكم و لجميع من يكرّم هذه الدماء الطاهرة المسفوكة ظلما. لا تنظروا إلى من يعصي و يتجه إلى جمع الغنائم لاٰ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ (1)، عليكم بأنفسكم و لا يشغلنكم من اختار طريق الغواية. هذا ما يأمر به الإسلام و ما تدعو إليه دماء الشهيد.

يوم استشهد هؤلاء الأعزاء في الجبهة، كان بعض المخلّفين منهمكين في الكسب، و بعضهم الآخر غارق بجمع الأموال، و آخرون منكبين على انتهاز الفرص، و بعضهم الآخر كان منغمسا في الخيانة.

أما الشهداء فقد ساروا صوب الجبهات بدون الالتفات إلى هؤلاء. و كانت النتيجة هي أنهم استطاعوا حفظ النظام الإسلامي، و غدا كل واحد منهم اليوم كوكبا منيرا و نجما ساطعا.

و على هذا يكون النداء الأول هو نكران الذات أمام اللّه تعالى، و أمام عباده، و أمام الإرادة الإلهية.

و يجب علينا استيعاب هذا النداء، يا أعزائي، لا يمكن التغافل عن هذه الحقائق و المرور عليها مرّ الكرام؛ إنّها تستدعي من الإنسان العزم و الإرادة(2).

ص: 27


1- سورة المائدة: 105.
2- من كلمة ألقاها في 29 ذي الحجة 1417 ه
الإخلاص نوع من الإيثار

الإخلاص يعد نوعا من الإيثار. و كلّما استطاع الإنسان تجاوز أغراضه الذاتية و بلوغ درجات سامية و رفيعة يكون أقرب للإخلاص. الإخلاص، معناه الصفاء و النقاء، و الإخلاص في العمل يأتي في أعقاب صفاء النوايا. أما الصفة المضادة للإخلاص، فهي أن يكون المرء ذا نزعة مادية، و يعمل لاغراض و دوافع ذاتية و مادية، أو يعمل لأغراض معنوية تافهة. فبعض الدوافع ليست مادية - بالمعنى المصطلح للمادة - صرفة و لا ملموسة، إلاّ أنها تافهة، من قبيل حب الجاه بين الناس. فمثل هذا الدافع ليس دافعا ماديا بالمعنى المعروف للمادة، لكن قيمته تافهة، حيث يقوم البعض و إنطلاقا من هذا الدافع بعمل لا يتطابق مع الدوافع الإلهية، و لا مع الصراط القويم.

و على هذا الأساس، كلّما نأى الإنسان بذاته عن نوازع الانانية و حب الذات، اصبح مظهرا للإخلاص. و لكن كيف يمكن الوصول إلى هذه الحالة؟ و الجواب هو أنّ هذه الحالة يمكن بلوغها بشيء من التضحية، شأنها في ذلك شأن الكثير من الأعمال الاخرى التي تشترط فيها المجاهدة.

و معنى هذا أنّ الإنسان يجب أن يبذل شيئا من التضحية. فهو يرى في بعض المواقف أنه إذا طرح رأيا معينا، يجلب له الوجاهة أمام الناس و لكنه في سريرته لا يعتقد بذلك الرأي. فإذا لم يكن الإنسان مخلصا لا يتورع عن طرح ذلك الرأي، أما إذا كان مخلصا؛ أي أنه يرغب في أن تكون أعماله خالصة للقيم السامية التي يؤمن بها - و تكون في ختام المطاف لوجه اللّه تعالى - فأنه يحجم عن طرح ذلك الرأي. و هذا يعد في واقع الحال نوعا من الإيثار(1).

ص: 28


1- من كلمة ألقاها في: 19 جمادى الثانية 1419 ه - طهران.

الإيمان و خصائصه

أثر الإخلاص في الإيمان

قال الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، إنّ المسيح عليه السّلام قال للحواريّين:

يا عبيد السؤ، نقّوا القمح و طيّبوه و أدقوا طحنه تجدوا طعمه و يهنئكم أكله، كذلك فأخلصوا الإيمان و اكملوه تجدوا حلاوته و ينفعكم غبّه»(1).

يقول النبي عيسى عليه السّلام في موعظته و نصيحته لخواص أصحابه المعروفين بالحواريّين:

كما أنّكم تنظّفون و تنقّون القمح من الشوك و التبن و العشب ثم تطحنونه و تعجنونه و تخبزونه لتحصلوا على طعام طيّب لذيذ.

فكذلك حال إيمانكم إذا أخلصتم الإيمان و طهرتموه من الشوائب و الأهواء النفسانيّة و عبادة الذات و حبّ الدنيا فسوف تجدون لذيذ طعمه و حلاوة عاقبته.

ذلك أنّ الإيمان الخالص يسلك بالإنسان العوالم العليا الملكوتية و يجعله يحلّق في سماء المعنويّات.

نسأل اللّه تعالى أن يوفّقنا لترك الأمور الدنيوية و يعطينا السير و السلوك في عالم

ص: 29


1- تحف العقول، صفحة: 392.

المعنويات.(1)

علامة الإيمان الحقيقي

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إنّ من حقيقة الإيمان أن تؤثر الحقّ و إن ضرّك على الباطل و إن نفعك، و أن لا تجوز منطقك علمك».(2)

قد يدّعي الإنسان أحيانا أو يظن أنّه مؤمن، و لكن حينما يأتي الإمتحان و الإختبار يعلم أن إيمانه ليس إيمانا حقيقيا بل هو وهم و خيال.

فالإيمان الحقيقي الذي يكون به الإنسان مؤمنا بمعناه الواقعي له علامتان ذكرتهما هذه الرواية، و هما:

1 - أن يؤثر الإنسان و يرجّح الحق على الباطل، حتى و إن كان الحق مضرا به و الباطل ينفعه.

علما أنّ الحق و الباطل لهما مصاديق مختلفة، ففي العلاقات الإجتماعية و التجاذبات السياسيّة، و في تقييم الأشخاص و المحاورات الرائجة و المتداولة، يجب في كل هذه الموارد أن يرجّح الحق على الباطل و إن لم يكن لصالحه و نفعه بل كان يضره.

2 - أن لا يتكلم من دون علم، فيجب على الإنسان في مختلف المسائل سواء كانت أمورا دينيّة أم مسائل إجتماعيّة، بل في كل الموارد الأخرى أن لا يتكلّم عن ظنّ أو من دون علم.(3)

و عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم في

ص: 30


1- كلمات مضيئة: 53.
2- الخصال/باب الاثنين/ح 70.
3- كلمات مضيئة: 53.

بعض أسفاره إذ لقيه ركب فقالوا: السّلام عليك يا رسول اللّه.

فقال: ما أنتم؟

قالوا: مؤمنون.

قال: فما حقيقة إيمانكم؟

قالوا: الرضا بقضاء اللّه و التسليم لأمر اللّه و التفويض الى اللّه.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: علماء حكماء، كادوا أن يكونوا من الحكمة أنبياء، فإن كنتم صاديقين فلا تبنوا ما لا تسكنون، و لا تجمعوا ما لا تأكلون، و اتقوا اللّه الذي إليه ترجعون».(1)

عند ما كان الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و آله في أحد أسفاره التقى بركب من الناس، فلّما سلمّوا عليه و أجابهم، سألهم من أي الناس أنتم؟ فأجابوا بأنهم من المؤمنين. و كان هذا السؤال من النبي صلّى اللّه عليه و آله مقدمة و تمهيدا ليعلّمهم بعض الأمور و المعارف، و لذلك سألهم عن حقيقة إيمانهم ما هو؟

فأجابوه بأن محور إيمانهم عبارة عن ثلاثة أمور:

1 - الرضا بقضاء اللّه تعالى، أي أنهم يرضون بما قدّره اللّه لهم و قضاه عليهم.

طبعا ليس المراد من الرضا هنا أنّ الأنسان يكفّ عن السعي و الجدّ بل يجب عليه السعي و الجد و القيام بالنشاطات و الفعاليات و لكنه في نهاية المطاف يكون راضيا بما قضاه اللّه تعالى له.

2 - التسليم لأمر اللّه تعالى، أي أنهم يقبلون و يطيعون كل ما أمر به اللّه و يجتنبون عن كل ما نهى عنه.

3 - التفويض الى اللّه تعالى، و التفويض معناه أنّ الإنسان يجب عليه أن يعتقد أنّ عمله و سعيه ليس هو العلة التامة لحصول النتيجة، بل علة العلل هي إرادة اللّه تعالى،

ص: 31


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 175 /

و حصول النتيجة النهائية بيد اللّه تعالى.

نظير الشخص الذي يدرس و يتعلم و لكن نور الحكمة و المعرفة يقذفه اللّه في قلبه.

ثمّ يبين النبي صلّى اللّه عليه و آله قائلا:

أنتم حكماء علماء و درجتكم قريبة من درجة الأنبياء عليهم السّلام بسبب هذه الحكمة الموجودة عندكم.

و إذا كنتم صادقين في قولكم هذا فيجب أن تتصفوا بالصفات التالية:

لا تبنوا أزيد مما تحتاجون إليه من السكن و نحوه.

و لا تجمعوا أكثر من المقدار الذي يكفيكم.

و اتقوا اللّه الذي إليه مرجعكم.(1)

شروط الإيمان الحقيقي و الكامل

قال الإمام علي بن موسى عليه السّلام: «قال الرضا عليه السّلام: لا يكون المؤمن مؤمنا حتى تكون فيه ثلاث خصال: سنّة من ربّه و سنّة من نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سنّة من وليّه عليه السّلام.

فأمّا السنّة من ربّه فكتمان السرّ.

و أمّا السنّة من نبيّه صلّى اللّه عليه و آله فمداراة الناس.

و أمّا السنّة من وليّه عليه السّلام فالصبر في البأساء و الضرّاء»(2).

كمال إيمان المؤمن مرتبط بأمور ثلاثة، و هذه الأصول و السنن الثلاثة هي من أصول و سنن التربية الإسلامية و هي:

1 - سنّة و قانون من اللّه تعالى.

ص: 32


1- كلمات مضيئة: 56.
2- تحف العقول، صفحة: 442.

2 - سنّة و قانون من النبي صلّى اللّه عليه و آله.

3 - سنّة و قانون من الإمام عليه السّلام.

فالمؤمن هو الذي يحفظ السرّ و يكتمه عن اللّه تعالى، و يداري الناس كما عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و يصبر و يستقيم مقابل الإبتلاءات و المشكلات متّبعا في ذلك وليّه و إمامه عليه السّلام.

و هذه الصفات الحميدة يجب على المؤمن إقامتها و العمل بها في كلّ تصرّفاته في هذه الحياة.

- فأمّا كتمان السرّ و حفظه فهو نوع من الأمانة، فيجب على المؤمن أن يحافظ و يواظب على شأن و حرمة و شرف و عرض المؤمنين سواء كان سرّ نفسه أم سرّ غيره، و سواء كان من أسرار الدولة أم من أسرار المؤسّسات و الإدارات المختلفة. و بالتدقيق في هذا الأمر نجد أنّ كثيرا من المشكلات و الإبتلاءات مبدأوها و منشاؤها هذا الحجاب (أي عدم كتمان السرّ) الرائج و الشائع و المدمّر و المفرّق بين الناس.

- و أمّا المداراة مع الناس فلأنّه يوجد في المجتمع أشخاص منافقون و ضعيفو الإيمان و الواجب علينا أن نتعامل معهم بمداراة، و هذا لا يعني أن نعتمد عليهم و نثق بهم و نسند الأعمال و المهام إليهم. و لكن يجب علينا إعطاؤهم حقوقهم و احترامها و نتعايش معهم.

- و أمّا الصبر و الإستقامة و الثبات و الصمود فهو من أهمّ المسائل التربوية.

فإذا لم نصبر فسوف نتوقّف في طريقنا الذي نسلكه و أولياء اللّه تعالى صبروا و استقاموا مقابل الضائقات المالية و السياسية و قاوموها.

و بمراعاة هذه الخصال الحميدة (كتمان السرّ و المدارة و الصبر) يصل الإنسان إلى المقام الإنساني الشامخ(1).

ص: 33


1- كلمات مضيئة: 54.

و عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال علي بن الحسين عليه السّلام: «أربع من كنّ فيه كمل إسلامه و محّصت عنه ذنوبه و لقي ربّه عزّ و جلّ و هو عنه راض: من وفى اللّه عز و جل بما يجعل على نفسه للناس، و صدّق لسانه مع الناس، و استحي من كل قبيح عند اللّه و عند الناس، و حسّن خلقه مع أهله»(1).

إذا وجدت أربعة خصال في الإنسان كان إسلامه كاملا، و محيت عنه ذنوبه، و رضي اللّه عنه عند ما يلقاه. و هي:

1 - إذا قام بأداء الحقوق التي أوجبها اللّه عليه للآخرين.

طبعا حقوق اللّه تعالى لا تعد و لا تحصى و لكن القدر المسلّم منها هو الواجبات الإلهية.

2 - إذا حدّث الناس و تعامل معهم كان صادقا بلسانه و فعله فلا يكذب عليهم و لا يخدعهم.

3 - إذا أراد أن يقوم بعمل قبيح عند الناس استحى فلم يقدم.

طبعا ليس المراد أنه لا يفعل عملا قبيحا أصلا و إلاّ فلا يكون مذنبا حتّى يمحى عنه، بل المراد أنه لا يرتكب الذنب حينما يرتكبه بوقاحة و بلا حياء و بلا رهبة و خوف.

4 - إذا تعامل مع أهله فإنه يتعامل معهم بخلق حسن.(2)

و قال النّبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «من أصبح من أمّتي و همّته غير اللّه فليس من اللّه تعالى.

و من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم.

و من أقرّ بالذلّ طائعا فليس منّا أهل البيت»(3).

ص: 34


1- الخصال/باب الأربعة/ح 50.
2- كلمات مضيئة: 56.
3- تحف العقول، صفحة: 47.

كل إنسان يصبح و لا يكون لرضا اللّه تعالى دور و تأثير في نواياه و أهدافه فلا يعدّ من جند اللّه و لا من العاملين للّه.

و كل إنسان يصبح و لا تكون مصالح و مفاسد الناس و المجتمع الإسلامي مهمّة عنده و لا يعتني بها فلا يعد من المسلمين الحقيقيّن.

ثمّ إنّ أمور المسلمين لها مصاديق عديدة و مختلفة و المصداق الأبرز و الأعلى منها هو الإهتمام بأمور الأمّة الإسلامية و عزة و قدرة و حكومة المسلمين، و من مصاديقها أيضا قضاء حوائج الضعفاء و الفقراء و المحتاجين.

و كل إنسان يعطي من نفسه الذّل طائعا و مختارا و يقرّ و يرضى به فهو ليس من أهل البيت عليهم السّلام.

و هنا يجب أن يعلم أن التسليم الذليل ليس مختصّا بما إذا كان مقابل القوى السياسية، بل يشمل أيضا ما إذا كان الإنسان ذليلا في مقابل حرصه و طمعه و الحطام الدنيوي.

و قد ورد في بعض الروايات أنّ المؤمن يرضى بكل شيء إلاّ الذلّ (1).

و قال الإمام الصادق جعفر بن محمّد عليه السّلام: «يا ابن جندب، إنّما المؤمنون الذين يخافون اللّه و يشفقون أن يسلبوا ما أعطوا من الهدى، فإذا ذكروا اللّه و نعماءه وجلوا و أشفقوا، و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا»(2).

للمؤمن خصوصيّات و خصائص عديدة:

منها الخوف من اللّه تعالى، فإنّ الخوف أمام العظمة الإلهية و ما أوعد اللّه عليه - في الجملة - شرط في الإيمان الصادق.

و كذلك فإنّ الإنسان المؤمن دائما يخاف من أن يأتي يوم تسلب عنه فيه الهداية

ص: 35


1- كلمات مضيئة: 64.
2- تحف العقول، صفحة: 301.

و الإيمان اللذان أعطاهما اللّه إيّاهما.

و إحدى أهم أسباب سلب الإيمان عن الإنسان هي الذنوب و القذارات المادية، فإنّ الذنب - مضافا إلى آثاره السيئة الشخصية و الإجتماعية - أهم أثر فيه هو ذهاب جوهر الإيمان و الحقيقة المعنوية للإنسان.

و لذلك حذّر القرآن الكريم في عدّة آيات من ذلك كقوله:

ثُمَّ كٰانَ عٰاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَسٰاؤُا اَلسُّواىٰ أَنْ كَذَّبُوا بِآيٰاتِ اَللّٰهِ (1) .

فإذا بقي بريق الإيمان موجودا في القلب فإنّه بتلاوة الآيات الإلهية سوف يتلألأ و يشعّ أكثر، و إلاّ فلن يكون للقرآن أيّ تأثير على قلبه.

اللّهم إبق سراج إيماننا دائما وهّاجا و مضيئا في قلوبنا(2).

سبب رسوخ الإيمان

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: قلت: ما الذي يثبت الإيمان في العبد؟

قال عليه السّلام: الذي يثبته فيه الورع، و الذي يخرجه منه الطمع»(3)

إنّ سبب ثبات و رسوخ الإيمان في الإنسان هو الورع (أي المحافظة و التحصّن أمام الذنوب).

فالورع كالدرع الحصين يمنع من نفوذ سهام الذنوب المسمومة إلى بدن الإنسان، و يوجب حفظ الإيمان للإنسان.

و في مقابله الطمع أي الإرتباط و التعلّق و حبّ الزخارف و المظاهر الدنيوية و اكتساب الثروات و الحصول على المقام و الشهرة من الطرق المحرّمة اللّأخلاقية.

ص: 36


1- سورة الروم: 10.
2- كلمات مضيئة: 65.
3- الخصال، باب الواحد، صفحة: 9.

و يوجب في النهاية سلب الإيمان أو على الأقلّ تنزّله و هبوطه من درجاته و مراتبه العالية الرفيعة(1).

خصال الإيمان

و من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثمان خصال:

وقور عند الهزاهز - صبور عند البلاء - شكور عند الرخاء - قانع بما رزقه اللّه - لا يظلم الأعداء - و لا يتحامل (على) الأصدقاء - بدنه منه في تعب - و الناس منه في راحة»(2).

من المناسب للمؤمن أن يكون فيه ثمان خصال:

1 - أن يكون مقابل الحوادث الإجتماعية و العائلية الصعبة كالصخرة صامدا محكما ثابتا، و لا يكون كالريشة التي تعلو و تسقط مع أدنى نسمة الهواء.

2 - أن يكون في مقابل عاصفة البلاء صابرا متحمّلا.

3 - أن يكون في مقابل نعمة الصحة و العافية و الهدوء و الطمأنينة و الأمن و الأمان غير مبتلى بالغرور و العجب، بل عليه أن يعلم أن كل هذه النعم من اللّه تعالى و عليه أن يشكرها.

4 - أن يكون قانعا بما يحصل عليه بعد جهده و تعبه و سعيه الملزم به.

5 - أن لا يظلم أعداءه سواء كانوا فسّاقا أم كفّارا، و لا يتجاوز و لا يتعدّى الحدود الإلهية بحقّهم.

6 - أن لا يفرض على أصدقائه شيئا لا يطيقونه و لا يحملنّهم ذلك.

7 و 8 - أن يكون - خلافا لما يعتقده بعض الغفلة - الإنسان في حالات الراحة

ص: 37


1- كلمات مضيئة: 55.
2- تحف العقول، صفحة: 362، و الكافي: 230/2 ح 2.

و الهدوء بدنه منه في تعب، بينما يكون الآخرون منه في راحة(1).

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ثلاث خصال من كن فيه استكمل خصال الإيمان: الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم و لا باطل.

و إذا غضب لم يخرجه الغضب من الحق.

و إذا قدر لم يتعاط ما ليس له».(2)

كل إنسان تكون فيه ثلاثة خصال يكون قد استكمل جميع خصال الإيمان و هي:

1 - إذا كانت الأوضاع و الظروف موافية و ملائمة له، كما إذا كان من الناحية المالية مكتفيا و ميسورا و كان من الناحية الأمنية مطمئنا و مستقرا و كان لديه الأنصار و الموالون و الأصدقاء و كان أعداؤه مغلوبين، فإنه لا يقع في الزلاّت و لا يسقط في دوّامة الذنوب و المعاصي و الأعمال الباطلة و الفاسدة.

2 - إذا كان في حالة الغضب و السخط على الآخرين فإن ذلك لا يحرّكه و لا يدفعه للخروج عن طريق الحق، فلا يقول كلاما غير لائق و لا يحيف في قضائه على الآخرين و لا يحكم عليهم بخلاف الواقع.

3 - إذا كان قادرا و ذا سلطة فإنه لا يتعدى و لا يتجاوز عن الحد و لا يظلم الآخرين، و لا يطلب ما ليس له، و ما يكون لغيره و لا يعتبره لنفسه.(3)

و قال صلّى اللّه عليه و آله: «ثلاث من كنّ فيه استكمل خصال الإيمان: الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل.

و إذا غضب لم يخرجه الغضب من الحق.

ص: 38


1- كلمات مضيئة: 59.
2- الخصال/باب الثلاثة/ح 66.
3- كلمات مضيئة: 60.

و إذا قدر لم يتعاط ما ليس له»(1).

ليس معنى الرواية أنّ الإيمان منحصر بهذه الخصال الثلاث، بل المقصود أن كل شخص كانت لديه هذه الخصال كشف ذلك عن أنه استجمع كل خصال الإيمان، و ذلك لأن تحقق كل خصلة من هذه الخصال متوقف على تحقق مجموعة من الصفات الحميدة و كاشف عنها.

فالإنسان الذي يرضى عن شخص أو يحب شخصا لا ينبغي أن يؤدي به ذلك إلى الدخول في الباطل كأن يدافع عنه من غير حق مثلا.

و الإنسان الذي يغضب على شخص لا ينبغي له القيام بأعمال خاطئة و خارجة عن الحق.

و كذلك الإنسان حينما يصبح قادرا و بيده القدرة على الشيء لا ينبغي له أن يرتكب ما ليس له بحق.(2)

دعائم الإيمان

جاء في الحكمة الثلاثين من نهج البلاغة سؤال عليه السّلام عن الإيمان، فقال عليه السّلام:

الإيمان على أربع دعائم: على الصبر، و اليقين، و العدل، و الجهاد:

الصبر منها على أربع شعب على الشوق، و الشفق، و الزهد، و الترقب فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، و من اشفق من النار اجتنب المحرمات، و من زهد في الدنيا استهان بالمصيبات، و من ارتقب الموت سارع إلى الخيرات.

و اليقين منها على أربع شعب: على تبصره الفطنه، و تأول الحكمة، و موعظة العبرة، و سنه الأولين فمن تبصر في الفطنه تبينت له الحكمة، و من تبينت له الحكمة عرف

ص: 39


1- تحف العقول، صفحة: 43.
2- كلمات مضيئة: 63.

العبرة، و من عرف العبرة فكانما كان في الأولين.

و العدل منها على أربع شعب: على غائص الفهم، و غور العلم و زهره الحكم، و رساخة الحلم، فمن فهم علم غور العلم، و من علم غور العلم صدر عن شرائع الحكم، و من حلم لم يفرط في أمره و عاش في الناس حميدا.

و الجهاد منها على أربع شعب: على الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر، و الصدق في المواطن، و شنا الفاسقين...(1)

قوله عليه السّلام: (الإيمان على أربع دعائم...)، أي أن هذه الدعائم إذا كانت متينة و محكمة كان الإيمان مستقرا و ثابتا، و بخلافه لو كانت متداعية أو متزلزلة، و إنّ هذه الدعائم الأربع هي: (الصبر و اليقين و العدل و الجهاد...).

فالدعامة الأولى هي الصبر و الاستقامة في كافة المجالات، فلو كان لديكم برنامج محدد، امضوا عليه و اصبروا عليه حتى النهاية، فلو طرأت عليكم مصيبة في الأثناء، فلا ينبغي لتلك المصيبة أن تفتّ من عزائمكم، و لو واجهتم معصية فعليكم أن تقاوموا و لا تستسلموا لها، فالصمود يختلف باختلاف المواقف و الحالات، إلاّ أن معناه واحد فيها جميعا، إذ يعني قدرة الإنسان على التحمّل، كالصبر على الطاعة و الصبر عن المعصية أو الصيبة(2).

كمال المسلم

و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «ثلاثة بهن يكمل المسلم: التفقه في الدين، و التقدير في المعيشة، و الصبر على النوائب».(3)

ص: 40


1- نهج البلاغة: 7/4 ح 31.
2- من كلمة ألقاها في: 1383/8/20.
3- الخصال/باب الثلاثة/ح 120.

هناك ثلاثة عناصر لها دور مهم في تكميل شخصية الإنسان المؤمن.

و هذه الشخصية المتكاملة الجوانب و الأطراف يمكنها أن تؤثر أثرها في هذه الدنيا المملوءة بالأغراض و البواعث و الجهود المختلفة سواء كانت في المجتمعات الإسلامية أم المجتمعات غير الإسلامية. و هذه العناصر هي:

1 - التفقه في الدين، و التفقه يجب أخذه بمعناه الواسع و ليس فقط المعنى المصطلح في الحقوق الإسلامية، فإن التفقه يشمل معرفة اللّه تعالى التي هي الفقه الأكبر، و يشمل سائر المعارف الإسلامية التي يتعطش الناس و الدنيا كلها في العصر الحاضر لفهم هذه الحقائق.

و رسالتنا في هذه الدنيا ما هي؟ و ما هي التكاليف الملقاة على عاتقنا؟ و ما هي الآثار و العواقب المترتبة على فعل أو ترك هذه التكاليف؟ و كذلك ما هي أسباب سعادة الإنسان؟ و ما هي العوامل المساعدة على هذا الأمر و التي توصل الإنسان الى أهدافه النهائية؟ فكل هذه الأمور و المسائل بيانها و توضيحها لا يمكن أن يتأتى من المذاهب اللادينية، لأن تلك المذاهب مأخوذة من التجارب و العقول البشرية و هي و إن كانت مصيبة في بعض الموارد إلاّ أنها مخطئة في أكثر الموارد الأخرى، و لذلك عاش الناس في مختلف العصور السالفة حالة الضياع و الحيرة و التيه في دنيا مليئة بالظلم و العدوان و الشهوات النفسانية.

و لم تتوفر إلاّ للقليل منهم فرصة إرضاء و إشباع هذه الشهوات. و أما الآخرون فإنهم أفنوا عمرهم في سبيل إشباع شهواتهم و لكنهم لم يصلوا الى ذلك.

هذه المصائب كلها تأتي من عدم التفقه في الدين.

طبعا المسلمون يمتلكون هذا الإمتياز (أي الفقه في الدين) حيث إنهم يؤمنون بالمبدأ الإلهي إلاّ أنهم إذا لم يستفيدوا من هذا الإمتياز كانوا بحكم الناس الجاهلين تماما، نظير أتباع الأديان الحقة في العصور السالفة، فإنهم بسبب عدم إدراكهم و فهمهم و عدم عملهم و إلتزامهم بالمعارف الدينيّة أخفقوا و حرموا من الاستفادة من

ص: 41

هذا الإمتياز.

و عليه فلا ننخدع لمجرد أننا مسلمون، بل يجب أن نسعى و نجدّ في طريق فهم المعارف الإسلامية و حقيقتها و الإحاطة بها. و نحن للأسف مبتلون بهذا النقص في الوقت الحاضر و لكن هناك جهود كثيرة قد أنجزت - و للّه الحمد - سواء في الحوزات العلمية أم غيرها إلاّ أنّ ما تحتاجه الدنيا أكثر من ذلك.

و يجب علينا أن نعرف ما يحتاجه الناس اليوم سواء في المسائل الإعتقادية أم في المسائل الحقوقية من أجل إدارة المجتمع.

و أؤكد مجددا أنه يجب على الحوزات الدينية و المفكرين أن ينظروا الى المسائل الدينية من هاتين الزاويتين. هذا هو معنى التفقه في الدين في يومنا الحاضر.

2 - التقدير في المعيشة، و هذه المسألة مهمة في الحياة الفردية و لكنها تصدق و تنطبق بشكل واسع على المجتمع الإسلامي أيضا، فالتقدير يعني المحاسبة و الموازنة، فيجب أن يحاسب و يوازن بين ما يدخل من موارد و ما يصرف و ينفق منها.

3 - الصبر على النوائب، و هذا العنصر هو المحافظ و المحامي لكل هذه الأمور.

فالصبر يعني عدم التراجع و بذل الأرواح و خوض الصعاب لأجل الوصول الى الهدف.

و لذلك كان شعار القادة العسكريين في ميادين القتال و سوح الجهاد هو «أيها الكرام اصبروا».

فالصبر فيه هدف و غرض و غاية يجب الإلتفات إليها - كما تقدم تفصيله -، و لا نتراجع عن الطريق الصحيح بسبب الصعاب و المتاعب و الموانع الموجودة في الطريق.(1)

ص: 42


1- كلمات مضيئة: 61.
حقيقة الشيعي الموالي

من وصيّة أبي عبد اللّه عليه السّلام لابن جندب: «يا ابن جندب، بلّغ معاشر شيعتنا و قل لهم: لا تذهبنّ بكم المذاهب، فو اللّه لا تنال ولايتنا إلاّ بالورع و الإجتهاد في الدنيا، و مواساة الإخوان في اللّه، و ليس من شيعتنا من يظلم النّاس»(1).

يوصي الإمام عليه السّلام ابن جندب أن يبلّغ عنه شيعته أن الوصول إلى ولايتهم لا يكون من خلال التوهّمات و الأوهام الزائفة و ذلك لأنّ حقيقة الحصول على الولاية مرتبطة بالأمور التالية:

1 - الورع، و هو أن يجتنب الدخول إلى منطقة الذنب و المعصية الممنوعة بشكل كامل و مطلق.

2 - الإجتهاد في الدنيا، أي السعي و الجدّ و الإجتهاد للوصول إلى قمّة الكمال الإنساني و الأهداف المعنوية العالية.

3 - مواساة الإخوان في اللّه، أي المشاركة في أحزان و أفراح إخوانه في الدين تقرّبا للّه تعالى، و الإجتناب عن الظلم و التعدّي على حقوق الآخرين.

و الوصول إلى ولاية الأئمّة عليه السّلام إمّا معناها حفظ الإرتباط بين الشخص و الإمام المعصوم عليه السّلام، و إمّا معناها إقامة و استقرار ولايتهم و حكومتهم في المجتمع. و ذلك لأن التقدير الإلهي و مشيئة اللّه تعالى ليست في أن ينعزل و ينزوي الأئمّة عليه السّلام جانبا بل في أن تعمّ أنوارهم المقدّسة تمام ظلمات البشر و تسود و تحكم المجتمع الحكّام و القادة الحقيقيّون.

ص: 43


1- تحف العقول، صفحة: 302.

و اليوم فإنّ حفظ الولاية كإستقرارها منوط و متوقف على مراعاة هذه التوصيات(1).

و قال الإمام أبي محمّد الحسن بن علي العسكري عليه السّلام: «و قال للشيعة: أوصيكم بتقوى اللّه و الورع في دينكم و الإجتهاد للّه و صدق الحديث و أداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برّ أو فاجر، و طول السجود و حسن الجوار، فبهذا جاء محمد صلّى اللّه عليه و آله.

صلّوا في عشائرهم و اشهدوا جنائزهم و عودوا مرضاهم و أدّوا حقوقهم، فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه و صدق في حديثه و أدّى الأمانة و حسّن خلقه مع الناس قيل هذا شيعيّ فيسرّني ذلك...»(2)

عصر الإمام الحسن العسكري عليه السّلام كان مهمّا جدا، فإنّ الشيعة آنذاك كانوا كثيري العدد و منتشرين في جميع الأقطار الإسلامية. و لذلك أوصاهم عليه السّلام مضافا إلى مراعاة الموازين الدينية بالمحافظة على الخصوصيّات الشيعية و هي كما قال:

التقوى و الورع و الإجتهاد و الجدّ في سبيل اللّه و أداء الأمانة (سواء كانت مالا أم أسرارا أم حرمات و نواميس). من دون فرق بين أصناف الناس سواء كانوا أبرارا أم فجّارا.

و طول السجود (لأنّه من مظاهر التواضع و الخضوع للّه تعالى) و حسن المعاملة مع الجيران.

فإنّ هذه التوصيات كلها جاء بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و كذلك يوصيهم بحضور جماعة أهل السنّة و عيادة مرضاهم و تشييع أمواتهم و أداء حقوقهم إليهم.

و على هذا فإن قام أحدكم بذلك بأن ورع في دينه و صدق في حديثه و أدّى الأمانة لأهلها و كان خلقه حسنا مع الناس، فإنّ الناس سوف تقول عنه هذا هو الشيعي في

ص: 44


1- كلمات مضيئة: 58.
2- تحف العقول، صفحة: 487.

مقام المدح و الإطراء عليه و هذا الأمر يدخل السرور على قلب الإمام عليه السّلام(1).

صفات الشيعة

و من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: و قال عليه السّلام للمفضل: أوصيك بست خصال تبلغهنّ شيعتي.

قلت: و ما هنّ يا سيدي؟

قال عليه السّلام: أداء الآمانة إلى من ائتمنك، و أن ترضى لأخيك ما ترضى لنفسك، و اعلم أنّ للأمور أواخر فاحذر العواقب.

و أنّ للأمور بغتات فكن على حذر، و إياك و مرتقى جبل سهل إذا كان المنحدر و عرا، و لا تعدنّ أخاك و عدا ليس في يدك و فاؤه»(2).

المفضل بن عمر كان كبير الشيعة في الكوفة، و كانت له بينهم منزلة و مقام، و لذلك أوصاه الإمام الصادق عليه السّلام بأن يبلغ الشيعة عنده بهذه الخصال الست، و هي:

1 - إذا ائتمنك شخص على شيء فيجب عليك ردّ الأمانة إليه.

2 - كل ما ترضاه و تحبه لنفسك فارضه و أحبه بحق أخيك.

3 - كل عمل تريد القيام به فالتفت إلى عواقبه و نتائجه و فكّر بها قبل ذلك.

و لا ينبغي أن تقوم بعمل لمجرد أنه عمل حسن و صحيح إذ لعلّ نهايته و نتيجته تكون سيئة.

4 - عند قيامك بالعمل من المحتمل أن تقع حوادث و أمور غير متوقعة و لذلك يجب أن تكون قد مهّدت الأمر بتهيئة المقدّمات اللازمة لها لئلا تقع في المشكلات و المتاعب.

ص: 45


1- كلمات مضيئة: 6.
2- تحف العقول، صفحة: 367.

5 - إجتنب أن تضع قدمك في طريق سهل فيما إذا كان الرجوع منه فيه مشقّة و تعب.

6 - لا تعد أخاك شيئا لا تقدر على الوفاء به بحيث يكون خارجا عن قدرتك و استطاعتك(1).

واجب الشيعي الموالي

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لابن جندب: «و الواجب على من وهب اللّه له الهدى و أكرمه بالإيمان و ألهمه رشده و ركّب فيه عقلا يتعرّف به نعمه و آتاه علما و حكما يدبّر به أمر دينه و دنياه، أن يوجب على نفسه أن يشكر اللّه و لا يكفره، و أن يذكر اللّه و لا ينساه، و أن يطيع اللّه و لا يعصيه»(2).

الإنسان الذي يكون موردا لنظر اللّه و لطفه و عنايته في الأمور التالية:

1 - أنعم عليه بالهداية هبة و هدية منه تعالى و أكرمه بالإيمان و الإعتقاد الرّاسخين.

2 - ألهمه الرشد في القيام بالعمل الصحيح و الصالح.

3 - أعطاه العقل و الحكمة ليتعرف بهما على النعم الإلهية و ليدبّر بهما أمور دينه و دنياه.

فهذا الإنسان يجب عليه أن يقوم بأمور ثلاثة في المقابل:

1 - شكر هذه النعم الإلهية فلا يجحدها و يكفر بها.

2 - تذكّر اللّه تعالى دائما و عدم نسيانه أبدا.

3 - إطاعة اللّه في أوامره و اجتنابه عن معصيته فيما نهى.

و من البديهي و الواضح أن وجوب هذه الأمور ليس وجوبا شرعيّا بل هو وجوب

ص: 46


1- كلمات مضيئة: 21.
2- تحف العقول، صفحة: 306.

عقلي، و لذلك يحكم بها عقل الإنسان حتى و إن لم ترد في الشرع أصلا.

بمعنى أن عقل الإنسان و وجدانه يدعوانه إلى الشكر و الذكر و الإطاعة للّه تعالى على تلك النعم(1).

أكرم الناس و أبغض الناس

و من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «و قيل له: من أكرم الخلق على اللّه؟

فقال عليه السّلام: أكثرهم ذكرا للّه، و أعملهم بطاعة اللّه.

قلت: فمن أبغض الخلق إلى اللّه؟

قال عليه السّلام: من يتهم اللّه.

قلت: أحد يتهم اللّه؟

قال عليه السّلام: نعم، من استخار اللّه فجاءته الخيرة بما يكره فيسخط فذلك يتهم اللّه.

قلت: و من؟

قال عليه السّلام: يشكو اللّه.

قلت: و أحد يشكوه؟

قال عليه السّلام: نعم، من إذا ابتلى شكى بأكثر ممّا أصابه.

قلت: و من؟

قال عليه السّلام: إذا أعطي لم يشكر و إذا ابتلي لم يصبر.

قلت: فمن أكرم الخلق على اللّه؟

قال عليه السّلام: من إذا أعطي شكر و إذا ابتلي صبر»(2).

أكرم الخلق عند اللّه تعالى أكثرهم ذكرا للّه تعالى و أكثرهم عملا بطاعة اللّه.

ص: 47


1- كلمات مضيئة: 58.
2- تحف العقول صفحة: 364.

و إذا أعطي النعم شكرها و إذا ابتلي بالمصيبة صبر عليها و تحمّلها.

و أبغض الخلق إلى اللّه تعالى الذي يطلب من اللّه أن يقدّر له الخير في الوقائع و الحوادث التي تعرض له في حياته فإذا جاءت الأمور و الحوادث على خلاف ميله و رغبته سخط على اللّه تعالى الذي يعلم بما يصلحه و بما يفسده، و اتهمه - و العياذ باللّه - بأنه لم يعطه الخير.

و مثله الشخص الذي يشكو اللّه تعالى، أي أنه عند المصائب و المشاكل التي تعرض عليه يعطيها أكثر من واقعها و يضخّمها كثيرا.

و كذلك الشخص الذي لا يشكر النعم الإلهية و في الصعوبات و المشقات لا يصبر و لا يتحمّل بل يجزع و يفزع(1).

ص: 48


1- كلمات مضيئة: 19-20.

الأجر و الثواب

الهدف من الثواب على العمل

إنّ نشر العلم و توفير فرص العمل عبادة، كما أنّ الصلاة و قراءة القرآن عبادة، و هذا ليس بالأمر الهيّن أبدا. و نتساءل هنا لماذا جعل اللّه للعمل و التعليم الأجر و الثواب؟ و هل يعقل أنّ اللّه سبحانه و تعالى يقوم بفعل ما عبثا و من دون هدف أو غاية؟

و للإجابة على السؤال نقول: إنّ الهدف من وراء جعل الثواب على التعليم و العمل هو أنّ اللّه تعالى جعل كمال البشرية في العلم و العمل، و المجتمع العاطل عن العمل أو الذي يتكاسل في العمل، و كذلك المجتمع الجاهل لا يستطيعان ارتقاء مدارج الكمال البشري. و هذا يعني أن لا فائدة من وراء حياتهم و سوف لا يجنون منها شيئا، و هذا ثابت في علم اللّه الأزلي الشامل، و كلما كان العمل أكثر نفعا كان الثواب أكثر.

و ليس المقصود بالعلم هنا علوم الدين، و أنّ تعليم القرآن فقط هو الذي يستتبع الأجر و الثواب، و أمّا إذا علمّتم الآخرين الجبر و المثلثات و الفيزياء و الهندسة، فلا ثواب لكم، كلا فالمقصود هذا المعنى، فما دمتم تصنعون من أولاد الناس علماء يفيدون المجتمع بعلمهم، فإن تدريسكم هذا فيه ثواب و أجر.

هذا هو منطق الإسلام، إذن النقطة الاولى أو المكسب الأول هو تحصيل الثواب الإلهي.

و من الثمرات الاخرى التي تترتب على العمل و التعليم هي مساهمتكم في بناء

ص: 49

صرح مستقبل مجتمعكم، و هذه مسألة مهمة للغاية(1).

شروط الأجر و الثواب

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلاّ ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته الى يوم القيامة صدقة موقوفة لا توّرث.

أو سنّة هدى سنّها فكان يعمل بها و عمل بها من بعده غيره.

أو ولد صالح يستغفر له»(2)

إنّ ملف و سجل أعمال الإنسان يغلق و يطوى بعد موته، فلا يستفيد و لا يكسب بعد ذلك أي أجر أو ثواب إلاّ من طرق ثلاث:

1 - إذا أسس مؤسّسة خيرية يستفيد منها الناس أو أوقف عينا تصرف منافعها على الفقراء و المستحقّين.

2 - إذا سنّ سنّة أو طريقة حسنة كان يعمل بها في حياته و بعد مماته فكل من عمل بها من الناس كان شريكا لهم في ثوابها و أجرها.

و عليه فإنتاج الأفكار الصحيحة و بناء الشخصية الثقافيّة و تصنيف الكتب المفيدة كلها مصاديق السنّة الحسنة.

و كل الذين ساهموا في إيجاد و إقامة حكومة القرآن و الإسلام في المجتمع فإنهم يشاركون في الثواب و الأجر كل الذين جاءوا من بعدهم و عملوا الخير و الإحسان من خلال هذا الطريق.

3 - الولد الصالح فإنه يستغفر لأبويه بعد موتهما، و في الحقيقة إنّ هكذا ولد يعتبر

ص: 50


1- من كلمة ألقاها في: 3 ذي الحجة 1415 ه
2- الخصال/باب الثلاثة/ح 184.

رأسمال لوالديه لا ينتهي، إذ ما أكثر الأبناء الذين يستغفرون لآبائهم و أجدادهم السالفين فإنّهم يستفيدون منهم على كل حال.(1)

ثواب فقد الأبناء

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من ثكل ثلاثة من صلبه فاحتسبهم على اللّه عزّ و جلّ وجبت له الجنة».(2)

الشخص الذي يفقد ثلاثة أبناء من صلبه و يثكل بهم بالغم و الحزن من أجلهم و لكنه يحتسب هذا المصاب عند اللّه عزّ و جلّ و يرضى بالقضاء الإلهي و يسلم به، و لا يصدر منه شيء يدل على السخط و عدم الرضا لا قولا و لا فعلا فلا يتكلم بكلام الكفر أو بما لا يليق التكلم به، فإنّ اللّه سبحانه و تعالى يعطيه مقابل ذلك الجنة و يوجبها له.

طبعا هذه الرواية ليس مفادها أنّ هذا الشخص الذي وجبت له الجنة بما ذكر يمكنه أن يفعل ما يشاء فيرتكب المعاصي و يترك الفرائض الإلهية عامدا إتكالا على هذا الوعد الإلهي، و إنما مفادها أنّ الشخص الذي فقد هؤلاء الأعزاء الذين هم فلذات كبده هناك مقتض لدخوله الجنة، و لكن بشرط أن لا يزول هذا المقتضي بإيجاد الموانع من تأثيره.

و هذه الرواية تعتبر عزاء و بعثا للأمل في نفوس الذين فجعوا و ابتلوا بالحوادث و الكوارث الرهيبة كالزلازل و الفيضانات و السيول و التي ذهبت بأولادهم و أقاربهم.

نسأل اللّه تعالى المغفرة للأموات و الصبر و الأجر للأحياء.(3)

ص: 51


1- كلمات مضيئة: 186.
2- الخصال/باب الثلاثة/ح 245.
3- كلمات مضيئة: 187.
ثواب الترحم على الناس

عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «أربع من كنّ فيه بنى اللّه له بيتا في الجنة: من آوى اليتيم، و رحم الضعيف، و أشفق على والديه، و رفق بمملوكه»(1)

من كانت فيه هذه الخصال الأربعة بنى اللّه تعالى له بيتا في الجنة. و هي:

1 - من آوى اليتيم أي تكفله و كان ملجأ له.

2 - من رحم الضعيف أي يتعامل معه برحمة و لطف و محبة. و ذلك لأنه عادة عند ما يتعامل الناس و يتصرفون مع الأشخاص الأقوياء و القادرين سواء من الناحية المادية أم من ناحية السلطة و المقام و المنصب، فإنهم يراعون الدقة و الضوابط، أما إذا تعاملوا مع الناس الضعاف فلا يتقيدون بشيء من الحدود الإجتماعية.

3 - من أشفق على والديه، أي كان لطيفا و دودا و شفيقا في تصرفاته معهما.

و الشفقة أعلى مرتبة من الطاعة للوالدين، لأنه من الممكن أن يطيعهما فيما يريدانه و لكنه قد يكون كارها لذلك فيفعله عن كره منه، و أما الشفقة فهي الطاعة لهما مع اللطف و المحبة.

4 - الرفق بالمملوك، أي أن يتعامل معه بلطف و يسر. و اليوم و لله الحمد لا وجود لمسألة العبيد، و لكن هناك الأجراء و المستخدمون الذين يعملون في البيوت و الإدارات و الوظائف فهؤلاء يجب التعامل معهم بلطف و يسر أيضا.

و المستفاد من هذه الرواية التي تدعو الجميع للتحلي بالمسائل الأخلاقية أن الإسلام و هو ذاك الدين المقدّس أهتم كثيرا جدا بالمحبة و المودة بين الناس بحيث من يراعي هذه المسائل الأخلاقية تجب له الجنة(2).

ص: 52


1- الخصال/باب الأربعة/ح 53.
2- كلمات مضيئة: 187.

العفو

معنى العفو

العفو من الصفات التي يجب أن يتحلى بها الإنسان في معاشرته مع الناس فإن أساء إليكم شخص من الممكن أن تسيئوا إليه كما كما أساء إليكم لكن اعفوا عنه و اصفحوا، فالعفو من أحسن الصفات و أسماها في الأوقات التي يتعرض فيها المرء لإساءة أو سوء أدب من قبل أخيه المؤمن، و في لحظات الغضب و الانفعال التي تدعو صاحبها الى رد السوء بالسوء.

في تلك الحالات يكون الإنسان حيوانا حقيقيا أسير غضبه و نفسه التي تستهدف فقط منافعها الشخصية، و عند العجز عن ردّ الإساءة بالمثل يقبل البعض بالذلة و الضعف، و متى سنحت الفرصة للرد يكون وحشيا شديدا.

إن هذه مسألة طبيعية لدى الإنسان و لكن علينا ضبطها و تقييدها هذه الحالة الحيوانية التي تظهر حين غضبنا و حين الرد على من أساء إلينا يجب أن نسيطر عليها.

العفو الإلهي

قال اللّه الحكيم في كتابه العزيز: وَ أَنِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتٰاعاً

ص: 53

حَسَناً إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ... (1) .

العفو الإلهي معناه: إصلاح ما ارتكبناه من أخطاء، و جبران الآلام التي سببناها لأنفسنا و للآخرين.

فلو أنّ الإنسان صمم على إصلاح الأخطاء و المفاسد فإنّ طريق اللّه سيكون ممهّدا أمامه، و عاقبته ستكون عاقبة حسنة.

إنّ الإشكال في عمل الإنسان هو الغفلة عن الذنوب، و عن وجوب الإصلاح و القيام بإصلاح النفس، إلاّ أنه لو زالت هذه الغفلة و تحققت الإرادة و التصميم فسوف تنصلح جميع أمور الإنسان.

علينا في أول الأمر أن نصلح أنفسنا - و هي المرحلة الأولى التي تعتبر من أكبر الوظائف - و هذا هو الأساس؛ أي أن جميع الأعمال لا بد أن تكون مقدمة لإصلاح النفس، و كسب رضى الله عنا، قال تعالى: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاٰ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ (2)؛ لا بد أن تكون أعمالنا و جميع مساعينا من أجل نيل رضى اللّه تعالى و الوصول الى الكمال الذي هو الهدف الأساسي من وجودنا. هذا من جهة(3).

ص: 54


1- سورة هود: 3.
2- سورة المائدة: 105.
3- من كلمة ألقاها في: 1384/8/8 ه. ق الموافق: 26 /رمضان المبارك/ 1426 ه الموافق: 10/30 / 2005 ه - طهران.

الزهد

معنى الزهد

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «كونوا على قبول العمل أشدّ عناية منكم على العمل.

و قال عليه السّلام: الزهد في الدنيا قصر الأمل»(1).

يجب على الإنسان أن يسعى و يجتهد لتكون أعماله التي يقوم بها مقبولة عند اللّه تعالى و ليس المهمّ كثرة العمل و حجمه و إنّما الشيء المهم الذي يجب على الإنسان أن يصرف جهده و سعيه فيه هو كيفيّة و باطن و حقيقة العمل.

حقيقة الزهد في الدنيا أن لا يكون للإنسان آمال و أمانيّ بعيدة و طويلة لأن الآمال و الأماني البعيدة و التعلّق بها تكون سببا موجبا لأن يقوم الإنسان بأي عمل و من طريق الحرام أو الباطل من أجل الحصول عليها.

و نتيجة ذلك أن يعمى القلب و ينحرف الإنسان عن جادة الحق(2).

و قال عليه السّلام: «الزاهد في الدنيا من لم يغلب الحرام صبره، و لم يشغل الحلال شكره»(3).

ص: 55


1- الخصال، باب الواحد، ح: 50.
2- كلمات مضيئة: 116.
3- تحف العقول، صفحة: 200.

الزهد بنظر الإسلام و الذي أوصى به الأئمة المعصومون عليهم السّلام أيضا حقيقته طبقا لهذه الرواية عبارة عن أمرين:

الأول: أن يكون الإنسان صابرا و مستقيما في مقابل الوساوس الشيطانية و الميول الحيوانية و نزاعاتها التي تحرّك الإنسان و تدفعه لارتكاب المحرّمات فيكون غالبا لها لا مغلوبا، و قادرا على الوقوف بوجهها بصبر و استقامة.

الثاني: أن لا تشغله النعم الإلهية و لا تجعله غافلا عن شكر اللّه تعالى. فالإنسان يجب أن لا يغفل عن شكر هذه النعم و أنها من أين أتت؟ و من أعطاه إياها؟ لأن النتائج السيئة لهذه الغفلة تجرّ الإنسان للوقوف في المهالك الخطيرة(1).

الزهد في الدنيا

روى علي بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن محبوب، عن بعض أصحابه، عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: فيما ناجى اللّه عزّ و جلّ به موسى عليه السّلام:

«يا موسى لا تركن إلى الدنيا ركون الظالمين و ركون من اتّخذها أبا و امّا. يا موسى لو وكلتك إلى نفسك لتنظر لها إذا لغلب عليك حب الدنيا و زهرتها. يا موسى نافس في الخير أهله و استبقهم إليه، فإن الخير كإسمه.

و اترك من الدنيا ما بك الغنى عنه و لا تنظر عينك إلى كل مفتون بها و موكل إلى نفسه، و اعلم أنّ كل فتنة بدؤها حب الدنيا، و لا تغبط أحدا بكثرة المال فإن مع كثرة المال تكثر الذنوب لواجب الحقوق. و لا تغبطنّ أحدا برضى الناس عنه، حتى تعلم أنّ اللّه راض عنه، و لا تغبطنّ مخلوقا بطاعة الناس له فإن طاعة الناس له و اتّباعهم إيّاه على غير الحق هلاك له و لمن اتبعه»(2).

ص: 56


1- كلمات مضيئة: 116.
2- الكافي: 136/2 ح 21.

و السبب في اختياري لهذه الرواية بالذات هي أنّ مجتمعنا اليوم يمرّ في ظروف أرى من الضروري فيها أن نقرأ عليه روايات عن الزهد - و في نهج البلاغة هناك الكثير من الروايات و الخطب في خصوص الزهد - و لكن هذا لا يعني بالضرورة أنّ الزهد هو أسمى التكاليف و الواجبات و لا أحسنها، ففي بعض الأحيان يكون الزهد أفضل و أسمى و في بعض الأحيان يكون الجهاد أو العبادة أو طلب العلم هو الأفضل و الأسمى.

الظروف و الأوضاع هي التي تحدد لنا متى يكون الزهد أفضل و أعلى درجة من غيره من الواجبات. و يبدو أنّه يجب علينا في الوقت الراهن أن ندعو الناس و المجتمع إلى الزهد؛ و ذلك لأنّ المجتمع يتجه بإتجاه المال و لأنّ الثروة في ازدياد مضطرد؛ بحيث إنّه لو كان هناك اناس من أهل الدنيا فإن بمقدورهم أن يجمعوا الثروة بطرق متعددة و على غير حقه. و حتى لو أنّهم أنهمكوا في جمع المال و الثروة عن طريق الحلال فسيفتنون بالدنيا و تسوء عاقبتهم بسوء الافتنان؛ خاصة في الحوزات العلمية و المجالات التي يشغلها المعمّمون و علماء الدين و طلبة العلوم الدينية(1).

الزهد من سيرة النبي و علي عليهما السّلام

روي أن فراش و وسادة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان جلدا محشوّا بألياف النخيل. و كان أغلب طعامه خبز الشعير أو التمر. و لقد روي أنه صلّى اللّه عليه و آله لم يشبع بطنه أبدا من خبز القمح - الأطعمة المنوّعة على مختلف ألوانها - و تقول عائشة أم المؤمنين: «إن كان يمرّ على آل محمد الشهر و لم يوقد في بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نار»(2).

و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يركب الدابة بلا سرج و لا ركاب، و في زمن كان القوم يتفاخرون

ص: 57


1- من كلمة ألقاها في: 9 ربيع الثاني 1416 ه - مشهد المقدسة.
2- سبل الهدى و الرشاد: 92/7.

بالخيل المطهمة ذات الأثمان الغالية كان يمتطي الفرس العادي، و كان متواضعا، حيث كان يصلح نعله بيده و يرقعه بنفسه. و هذا ما كان يفعله تلميذه البارز أمير المؤمنين عليه السّلام كما نقل عنه كثيرا في الروايات(1).

يجب علينا - اقتداء بالنبي و أمير المؤمنين عليهما الصلاة و السّلام - الترفع عن امور كثيرة لا عن المحرمات فحسب، بل عن المحللات أيضا. أنا لا أدعي أن نكون مثل النبي صلّى اللّه عليه و آله أو أمير المؤمنين عليه السّلام الذي كان تلميذه، فإنّ الإنسان يرتعد فرقا حين يطالع سيرتهم، فهذا أمير المؤمنين عليه السّلام قد أصبح زهده مضربا للأمثال لدى المسلمين و غيرهم و عند ما يصف النبي صلّى اللّه عليه و آله يقول: «قد حقر الدنيا و صغرها و أهونها و هوّن بها»(2).

و قد جاءوا الى النبي صلّى اللّه عليه و آله ذات مرة بطعامين أحدهما عسل و الآخر شيء خليط بماء (بلبن)، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إني لا أحرمهما لكني لا آكلهما جميعا إما العسل و إما الماء»(3)؟

لكنهم لم يريدوا منا هذا. و لو طلبوه منها لهلكنا فهل نطيق العيش هكذا؟ إذ من الواضح أنّ تلك النفس القدسية الملكوتية أمر آخر، يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام ما مضمونه:

إنّ اللّه سبحانه و تعالى أعلم النبي صلّى اللّه عليه و آله أن سيأخذ منه الدنيا ليبدله بما هو أحلى.

فذلك الأحلى يراه الأولياء لا أنا و أنتم، لكن يجب علينا مواصلة السير في هذا الطريق و التقليل من نفقاتنا و تجنب التبذير و الترفع و عدم الاهتمام بكثير من امورنا الخاصة.

فأنا و أنتم لا زلنا أولئك الطلبة الذين كنا قبل الثورة فالبعض منكم كان معلما أو

ص: 58


1- من كلمة ألقاها في: 7 صفر 1241 ه - طهران.
2- نهج البلاغة: 214/1 خ 107.
3- بتفاوت في كنز العمال: 416/12 ح 35454.

طالبا جامعيا أو من أهل المنبر أو من طلبة العلوم الدينية، هكذا كنا، فما بالنا تجري عندنا الحفلات و الأعراس كما تجري عند الأعيان؟ و ما بال بيوتنا قد صارت كبيوت المترفين و لماذا حين نمشي في الشارع نمشي كمشية المترفين؟ حسنا فمن هم المترفون؟

أو يكفي فارقا بيننا و بينهم أننا أطلقنا لحانا و هم حلقوها؟ لا يا سادة فنحن قد نكون مترفين، و عندئذ نخشى من الآية الكريمة القائلة: وَ إِذٰا أَرَدْنٰا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنٰا مُتْرَفِيهٰا فَفَسَقُوا فِيهٰا فَحَقَّ عَلَيْهَا اَلْقَوْلُ فَدَمَّرْنٰاهٰا تَدْمِيراً (1) فالمترف يأتي معه الموت بالفسق أيضا(2).

لا تتيسر معرفة أمير المؤمنين عليه السّلام بهذه الطريقة، لا يمكن ذلك. نعم للإنسان أن يستشعر شيئا عنه عليه السّلام عن طريق هذه المقارنات؛ فالإمام السجاد (عليه الصلاة و السّلام) أجاب أحد أصحابه حينما سأله، يا ابن رسول اللّه لماذا تحمل نفسك على هذه المشقّة و تكثر من الزهد و العبادة؟ فما الذي يجعلك تحرص على كل هذا الزهد و العبادة؟ فلو رحمت نفسك و جسدك! فبكى الإمام السجاد عليه السّلام و قال ما معناه: قارن بيني و بين أمير المؤمنين عليه السّلام، و انظر أين أنا و أين أمير المؤمنين. انظروا؛ فهذا كلام زين العابدين عليه السّلام.

شخصية الإمام السجاد عليه السّلام من الشخصيات النادرة، لا أنها نادرة في العمل فحسب، و إنما هي نادرة في الفكر أيضا؛ إنّه من الشموس المنيرة التي لا نستطيع أن ننظر شعاعها إلاّ عن بعد؛ و هو حينما ينظر إلى أمير المؤمنين عليه السّلام ينظر إليه بعين التعظيم و الإجلال التي ينظر بها طفل صغير إلى بطل عملاق. هكذا هو أمير المؤمنين عليه السّلام، و بهذه العظمة و هذا هو زهده.

ص: 59


1- سورة الإسراء: 16.
2- من كلمة ألقاها في 3 صفر 1412 ه

لا نقول نكون كأمير المؤمنين عليه السّلام؛ فالإمام السجاد عليه السّلام قد قال إنّه غير قادر على العمل كأمير المؤمنين عليه السّلام، و أمير المؤمنين عليه السّلام نفسه قال: «ألا و إنّكم لا تقدرون على ذلك»(1).

و لمن قال أمير المؤمنين عليه السّلام هذا الكلام؟ قاله لعثمان بن حنيف مع كل ما له من عظمة، إنّك لا تقدر على مثل ما أعمل. و هذا من الواضح. و لكن سيروا على الأقل في ذلك الإتجاه، و على ذلك الطريق، و في ذلك المسار. و هذا واجب.

فإذا ما أردتم أن تكونوا في خندق أمير المؤمنين عليه السّلام فإن أبرز ما تميّز به في عهد حكومته - و الذي يرتبط بحاضري و حاضركم - هو خصلتان: إحداهما العدل الإجتماعي، و الاخرى الزهد في الدنيا.

يا أعزائي: هذان الأمران يجب أن نرفعهما في مجتمعنا كالعلم. العدالة الإجتماعية هي أن تكون نظرة الحكومة إلى جميع أبناء الشعب متساوية، و أن يكونوا سواسية أمام القانون، و في الامتيازات، و في التعامل(2).

القضية الثانية هي زهد أمير المؤمنين عليه السّلام. فمن أبرز المعالم في نهج البلاغة هو الزهد. و الزهد الذي طرحه أمير المؤمنين آنذاك، إنما طرحه كعلاج لمرض أساسي في المجتمع الإسلامي.

و حينما كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: «لا تغركم الدنيا كما غرت من كان قبلكم»(3).

كان الكثير من الناس لا يحصلون على تلك الملذات؛ بل لعل أكثر الناس كانوا على هذه الشاكلة، فخطاب أمير المؤمنين عليه السّلام مع اولئك الذين اغنتهم الفتوحات و أصبحوا خلال سنوات التوسع و تنامي قوة الإسلام الدولية، على درجة من الثراء و الامتيازات. و كلام حضرته تحذير لهؤلاء.

ص: 60


1- نهج البلاغة: 70/3 ح 45.
2- و قد فصّلناه في كتاب حاكمية الإسلام.
3- نهج البلاغة: 224/2 خ 230.

و نحن اليوم إن أشرنا إلى الزهد و ألفتنا النظر إليه، نرى البعض يقول: يا سيدي إنّ أكثر الناس لا يملكون هذه الأشياء التي تتحدثون عنها. و الجواب هو، إنّنا لا نقول هذا، لهم، بل خطابنا مع المقتدرين، مع من فتحت لهم ملذات الدنيا أحضانها، مع من يستطيع بلوغ الملذات الدنيوية بطرق الحرام. ثم بعد ذلك مع من يستطيع بلوغها عن طريق الحلال.

إنّ الورع و النقاء و اجتناب الحرام و التقوى، هي أرفع و أوجب أنواع الزهد البتة، إلاّ أنّ الزهد عن اللذات المحللّة له مرتبة رفيعة أيضا؛ نعم، مخاطبوه أقل أفرادا.

و اليوم هو ذلك اليوم - مع التفاوت في ظروف الزمان و الخصائص التاريخية لكل عصر -، و على من تصل أيديهم إلى الرغد و النعيم و الملذات و الرفاه المتزايد للحياة، أن يضعوا كلمات أمير المؤمنين عليه السّلام في الزهد نصب أعينهم. و لا شكّ في أنّ هذا الخطاب أشد و أبلغ مع أصحاب المسؤوليات، و هو يعم من لا منصب و لا مسؤولية حكومية له - أيضا - و لكن بشكل أضعف؛ فاولئك أولى به.

و لو أنّ مجتمعنا الإسلامي الذي تحدق به كل هذه المخاطر، و كل هؤلاء الأعداء، وضع هذه التوصيات نصب عينيه و أولاها الاهتمام اللازم و اعطاها صيغة ثقافية، و أدرك كل هذا و تحدث فيه و طالب به، فلن يؤدي تطبيق مثل هذه العدالة و مثل هذا الزهد إلى إيجاد أية مخاطر على النظام الإسلامي أبدا، بل إنها تجعله أكثر قوّة، و صلابة.

الناس الذين لا تغريهم اللذات و المطامع و شهوات الحياة، يمكنهم الوقوف بوجه الأعداء و الخصومات، و إنقاذ مجتمعهم و نظامهم في الظروف العصيبة.

لقد أوقد أمير المؤمنين عليه السّلام هذين المشعلين ليضيء كل التاريخ. و الذين يتمردون سيلقون الضرر بأنفسهم، و يبقى اسم علي، و ذكر علي، و زهد علي على

ص: 61

مدى التاريخ لا يطاوله النسيان، و سيبقى على الدوام(1).

إذا فأمير المؤمنين عليه السّلام كان مثلا في زهده و اعراضه عن الدنيا، و لعل أبرز أو أحد أبرز مواضيع نهج البلاغة هو الزهد. و هو في نفس الحال كان طوال فترة الخمس و عشرين سنة - بين وفاة الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و تسلّمه الخلافة - كان ينفق من ماله الخاص في أعمال العمران، فكان يزرع البساتين و المزارع، و يحفر الآبار، و يشق الأنهار، و المدهش أنه كان يتصدق بكل ذلك في سبيل اللّه(2).

الزهد أهم عامل للقدرة

إنّ شأن عباد اللّه الصالحين الذين يغيّرون الدنيا رغم زهدهم بزخارفها، إذ يمثل هذا الزهد أهمّ عامل في قوّتهم.

فهم ينظرون إلى كل شيء و كل شخص من خلال نظرهم إلى اللّه تعالى.

إن عباد اللّه الصالحين وهبوا التاريخ نفحات روحية، و إن التاريخ المعنوي الإنساني الحقيقي هو الذي خطّه عباد اللّه الصالحون.

و كما ترون فإنّ المفاهيم الّتي قدّمها أنبياء اللّه: إبراهيم و موسى و عيسى عليهم السّلام ( هدية للإنسانية، لا تزال رغم مضي آلاف السنين عليها تعتبر من أسمى المفاهيم الإنسانية السائدة(3).

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «الرغبة في الدنيا تكثر الهمّ و الحزن، و الزهد في الدنيا يريح القلب و البدن».(4)

ص: 62


1- من كلمة ألقاها في: 13 رجب 1417 ه.
2- من كلمة ألقاها في: 21 رمضان 1417 ه - جامعة طهران.
3- من كلمة ألقاها في: 1384/3/14 ه ش. - الموافق 26 /ربيع الثاني/ 1426 ه - الموافق 2005/6/4 م. - طهران.
4- الحضال/باب الإثنين/ح 114 /

الإنسان لديه حبّ الدنيا الخادع أي المال و المقام و المنصب، و يحرص أيضا للحصول على المظاهر الدنيوية، و لذلك يجد نفسه في حالة القلق و التشويش و اضطراب البال و الذهن خوفا من عدم الوصول إلى تلك الأمور. على أنّه إذا حصل عليها و وصل إلى متطلباته و رغباته الدنيوية كان محزونا و مهموما أيضا خوفا من ذهابها من يده.

إنّ طبيعة الإنسان تقتضي أنّه لن يحصل على كل مطامعه و أهدافه. و لذلك يقع في الهمّ و الحزن على ما حرم من الوصول إليه.

و في مقابل هذه الرغبة يقف الزهد و عدم الرغبة و الحب لهذه الدنيا و هو موجب للسكون و الهدوء و الطمأنينة و راحة البال و سلامة النفس، بل هو موجب لراحة البدن أيضا لأنّه لن يجدّ و يتعب و يسعى و يجهد نفسه من دون فائدة و لا ثمرة في سبيل الحصول و اكتساب الخيالات و الأوهام و السراب.(1)

ص: 63


1- كلمات مضيئة: 118.
أثر الزهد

من مواعظ الإمام محمّد الجواد عليه السّلام: «أوحى اللّه إلى بعض الأنبياء، أمّا زهدك في الدنيا فتعجّلك الراحة، و أما انقطاعك إليّ فيعززك بي، و لكن هل عاديت لي عدوّا و واليت لي وليّا»(1)

الأشخاص الذين لم تأسرهم الماديّات و لم يخضعوا لتجاذبات الكماليّات و الزوائد المعيشية، فهؤلاء يعيشون براحة و اطمئنان، و هذا هو الربح المعجّل للزاهد.

و أما الإنقطاع و التحرر عمّا سوى اللّه تعالى و الإرتباط باللّه سبحانه فهو وسيلة العزة في المجتمع، و هذا أيضا ربح معجّل.

إذن فهاتان الصفتان في الواقع من الأمور المريحة. و لكن هل قمت بعمل صعب و شاق في سبيل اللّه تعالى؟ فهل عاديت عدو اللّه و واليت وليّ اللّه؟

و في بيان آخر لهذا الحديث:

الزهد في الدنيا يوجب الراحة و الإنقطاع إلى اللّه تعالى يجعلك من عبادنا المطيعين العاملين بتكاليفهم فيوجب لك العزة الحقيقية.

(و هذا كناية عن كون هذه الأمور يعود نفعها إلى الإنسان)

و أما الأمر المهم فهو الموالاة في اللّه و المعاداة في اللّه فهل اتخذت عدو اللّه عدوّا لك و هل اتخذّت وليّ اللّه وليا لك؟ بمعنى أنك هل قمت بالعمل الذي فيه مشقّة و صعوبة و ابتلاء أم لا؟(2)

ص: 64


1- تحف العقول، صفحة: 456.
2- كلمات مضيئة: 116.

و قال رجل للنبي صلّى اللّه عليه و آله: «يا رسول اللّه علّمني شيئا إذا أنا فعلته أحبّني اللّه من السماء و أحبّني الناس من الأرض.

فقال له صلّى اللّه عليه و آله: إرغب فيما عند اللّه عزّ و جلّ يحبّك اللّه، و ازهد فيما عند الناس يحبّك الناس».(1)

سأل رجل النّبي صلّى اللّه عليه و آله أن يعلمه عملا أو شيئا ما يجعله محبوبا لدى اللّه تعالى و في نفس الوقت محبوبا و مرضيا عنه لدى الناس.

فأجابه النبي صلّى اللّه عليه و آله الى ذلك و قال له:

لتكن راغبا فيما عند اللّه من الثّواب و الأجر، فعندئذ تكون محبوبا للّه تعالى، و معنى الرغبة بالثواب الالهي هو أن يقوم بالواجبات و التّكاليف، و يترك المحرّمات و المعاصي.

و لتكن زاهدا فيما عند النّاس من النّعم سواء كانت أموالا أم مقاما أم منصبا أم جاها و غير ذلك، بمعنى أنه لا تمدّ عينيك إلى ما في أيدي الناس و لا تطمع بها و لا تسعى نحوها، فعندئذ يحبّك النّاس(2)

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ صلاح أول هذه الأمّة بالزهد و اليقين، و هلاك آخرها بالشحّ و الأمل»(3).

1 - إنّ عظمة و اقتدار الأمة الإسلامية في أول أمرها كان مرهونا بزهد و يقين الأمّة.

فإنّ أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله كانوا لا يبالون و لا يهتمون بزخارف الدنيا، ليس بمعنى أنهم لم يسعوا و لم يجدّوا في ساحة الحياة بل في نفس الوقت الذي كانوا يسعون و يجدّون كان قصدهم الوصول الى الأهداف العالية، قال اللّه تعالى: وَ اَلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ

ص: 65


1- الخصال/باب الاثنين/ح 84.
2- كلمات مضيئة: 117.
3- الخصال/باب الإثنين/ح 128.

آمَنَ بِاللّٰهِ... (1) .

2 - و أمّا هلاك آخر الأمة الاسلامية فسببه الشّح (الحالة المركبة من البخل و الحرص) و الأمل (أي الإنشغال بالآمال و الأماني الحقيرة التي لا شأن و لا قيمة لها).

طبعا هذا لا يعني أنّ الأمّة سوف تهلك حتما أو أنّ الهلاك مقدّر لها في زمان ما، بل الحديث في مقام بيان سنّة إلهية و هي أنّ الأمّة الإسلامية سواء المسؤولون و العسكريون و طبقات الشعب المختلفة إذا لم يكن هدفهم الخدمة بل كانوا يفكرون في تجميع و تحصيل المال و ازدياد و بسط الثروة أي أنّهم ابتلوا بالشح، و كذلك بدلا من أن يسعوا لأجل الوصول الى أهدافهم العليا توجّهوا نحو المظاهر الدنيوية من قبيل الجاه و المقام و المنصب و نحوها، فابتلوا بالهلاك.

و يجب أن يعلم أنّ هذه السنة الإلهيّة جارية في المجتمع الحالي أيضا. فاليوم يوجد أشخاص من بين المدراء و الرؤساء و سائر طبقات المجتمع يتصفون بالزهد و اليقين، إلاّ أنّه يجب علينا الحذر من أن تتبدّل هاتان الصفتان الحسنتان الى الشّح و الأمل كما حصل بالفعل لبعض الناس، لأنّه في هذه الحالة سوف يقع المجتمع في الهلكة(2).

ص: 66


1- سورة البقرة: 285.
2- كلمات مضيئة: 118-119.
الزهد عند المسؤولين
اشارة

إن الحياة البسيطة جيدة جدا و نحن لا نرى ما يخالفها لدى الناس، و لكنني لا أصر على القول للذين يعملون معنا (الذين تعبرون عنهم بالمنصوبين من قبلنا) يجب أن يعيشوا حياة الزهد، كلا بل الحياة العادية. و لكن إذا عاشوا حياة مرفهة فإنني أنبههم.

الفرق بين الزهد و الحياة المرفهة:

إنّ بين حياة الزهد و الحياة المرفهة فارقا، و ثمة حدّ وسط بينهما هو أن يعيشوا حياة عادية لا هي حياة الأبهة و الرفاهية و لا حياة الزهد، فمن عاش هكذا فلا مؤاربة عليه من قبلنا، فكل من لا زال منصوبا من قبلنا فعليه أن يعيشوا حياة الزهد. و من كان على علم بأن الذين نصبتهم يعيشون حياة مرفهة فلا بأس بأن يخبرنا كي نطلع و نتخذ الإجراء اللازم إن كانت ضرورة(1).

أثر زهد المسؤولين

إن شعار البساطة و الزهد شعار مهم جدا، لا ينبغي التقليل من شأنه، فأحيانا فيما بيننا و بين ربنا تكون لنا حياتنا المترفة و المفعمة بالرخاء، فإن كانت حراما فهي حرام، و إن كانت مكروهة فهي مكروهة، و إن كانت مباحة فهي مباحة.

و لكن أحيانا نقوم بإظهار هذا الترف على مرأى من أعين الناس، و هذا لا يمكن

ص: 67


1- من كلمة ألقاها في: 10 /ربيع الأول/ 1424 - طهران.

تصنيفه ضمن المباح و المكروه، بل هو الحرام بعينه، لأن فيه تثقيفا و إشاعة للترف و البذخ بين من هم دوننا هذا أولا.

و ثانيا: فيه تشجيع لعامة الناس على الترف، و لا يصح لنا تشجيع الناس على الترف.

فقد يكون في المجتمع أثرياء يقومون على تبذير أموالهم - و هو عمل يخصهم و إن كان سيئا - إلاّ أن تبذيرنا كمسؤولين ليس تبذيرا لمالنا الخاص، و إنما هو تبذير لبيت مال المسلمين، و هذا أولا.

و ثانيا: إن تبذيرنا يعد عاملا مشجعا للآخرين على التبذير، فإن الناس على دين ملوكهم.

قرأت في أحد التواريخ أنه عند ما استخلف الوليد بن عبد الملك و كان مولعا بجمع المجوهرات و التحف، أخذ الناس يتحدثون فيما بينهم حول شراء و بيع الثياب و الأقمشة و الأحجار الكريمة و غير ذلك من الأشياء الثمينة، و حينما استخلف بعده سليمان بن عبد الملك كان اهتمامه منصبا على العمارة و بناء القصور، فذكر المؤرخ أن الناس أخذوا يتحدثون حول البناء و العمارة و اقتناء الأراضي و توسيع الدور حتى و هم في المساجد.

و بعدها جاء عمر بن عبد العزيز و كان عابدا، فأخذ الناس يتحدثون فيما بينهم عن فضيلة دعاء رجب أو صلاة ركعتين بخصوصهما، و عليه فإن سلوكياتنا تترك آثارا تلقائية على الناس.

إن الزهد شيء جميل للغاية و له أثر على المجتمع(1).

ص: 68


1- من كلمة ألقاها في: 1384/6/8 ه ش الموافق 24 /رجب/ 1426 ه الموافق 2005/8/30 م - طهران.

العفة

العفة بمعناها الأوسع

يجب أن تتصف أيضا بيئتنا الرياضية بالعفة. و العفة كلمة ذات مفهوم واسع، و تعني عموما سلامة نفس الإنسان حيثما يكون، و هكذا يجب أن تسود العفّة في أجوائنا الرياضية بعيدا عن الاستهتار و التحلل و كل ما هو مناف للعفة، و يجب علينا خلق مثل هذا المناخ في بيئتنا الرياضية. و إذا تحقق ذلك ستتألق ألعابنا الرياضية في العالم كله.

تلاحظون أن أكثر ما ينال إعجاب هيئة التحكيم و المتفرجين، من أفلامنا التي تشارك في المهرجانات العالمية هو ما تتسم به من عفّة.

بعض المخرجين و المنتجين لديهم إتجاه تلقائي نحو هذا النمط من الأفلام، بينما يفرض على البعض الآخر منهم إنتهاج أسلوب عفيف و تصوير العلاقات بين الرجل و المرأة بالصيغة التي تحبّذها الأجواء السائدة في الجمهورية الإسلامية. و هذه الصفة هي التي تجعلها على هذه الدرجة من الإبداع و الروعة.

فالعالم، و خلافا لما يتصور البعض، سئم التحلل و الاستهتار و الخلاعة.

أما حالة العفة و الشرف و النجابة و الحياء فهي صفات محبّذة و يتصف بها المؤمنون بشكل طبيعي، و هي أيضا مما أوصى به الإسلام.

هذه هي القيم الواجب علينا نشرها في الأجواء الرياضية و غيرها و أن يسود الجو

ص: 69

المعنوي على الرياضية، فيتحقق حينئذ ما أشرنا إليه سابقا في مقابل الهجوم الثقافي(1)، التمسك بثقافتنا الأصيلة(2).

أهمية العفة

من مواعظ عليّ بن الحسين عليه السّلام: «ما من شيء أحبّ إلى اللّه بعد معرفته من عفّة بطن و فرج، و ما من شيء أحبّ إلى اللّه من أن يسأل»(3).

السبب الذي من أجله ذكر الإمام علي بن الحسين السجاد عليه السّلام أنّ أحبّ الأمور عند اللّه عزّ و جلّ بعد معرفته هو عفّة البطن و الفرج، و لم يذكر شيئا آخر من سائر الواجبات و العبادات كالصلاة مثلا، هو أنّ العفّة مانعة من وجود السبب المزاحم، و السبب المزاحم أشدّ تأثيرا من السبب المعدّ دائما.

فمثلا الإنسان الذي يتناول الطعام المقوّي و المفيد و لكنه في نفس الوقت يدخل السمّ أو الميكروب إلى بدنه بنحو منتظم، فمن البديهي أن لا يكون للغذاء أي أثر.

و في الأمور المعنوية كذلك، فإنّ الإنسان الذي يأتي بالعبادات كثيرا و لكنّه في نفس الوقت يدخل على قلبه و روحه ميكروب الذنب و المعصية فهنا لن يكون لعباداته أي أثر، بخلاف ما إذا لم يكدّر مرآة القلب شيء من أقذار الذنوب فإنّ فطرته الإلهية سوف تهديه إلى الرشد و الكمال.

إذن فترك الذنب أهم من فعل العبادة، و لذلك فإنّ الشيطان أكثر عمله هو الوسوسة للإنسان بارتكاب الذنب لا ترك العبادة، لأن الذنب حينما يسيطر على الإنسان لا تكون عباداته حينئذ موجبة لتقرّبه للّه تعالى.

ص: 70


1- في كتاب «حاكمية الإسلام».
2- من كلمة ألقاها في: 11 محرم 1419 ه ق - طهران.
3- تحف العقول، صفحة: 282.

و عليه فأحبّ الأعمال و الأمور و الأشياء للّه تعالى هي ترك هذين الذنبين:

أحدهما: عفة البطن و ما يرتبط من طلب الدنيا و جمع المال و الأطماع.

و الآخر الشهوات الجنسية(1).

ص: 71


1- كلمات مضيئة: 218.
أهمية عفّة المرأة
اشارة

الاهتمام بشأن العفاف عند المرأة. و كل حركة تنبري للدفاع عن المرأة يجب أن تجعل ركنها الأساسي التمسك بعفاف المرأة. و كما سبق لي القول بأنّ الغرب و بسبب إهماله لهذا الجانب، آلت الأمور فيه إلى ما آلت إليه من التفسخ و التحلل خاصة لدى النساء.

جانب العفاف عند المرأة - و هو أهم عنصر في شخصيتها - يجب أن لا يكون عرضة للإهمال، عفّة المرأة وسيلة لتكريمها و رفع منزلتها في نظر الآخرين، و حتى في نظر الرجال المتحلّلين و أتباع الشهوات، و هي في الحقيقة جوهر احترامها و تقديرها، و ليست مسائل الحجاب و الأجنبي و غير الأجنبي، و إباحة النظر أو تحريمه إلاّ لأجل صيانة العفاف.

الإسلام يعنى كثيرا بعفاف المرأة، كما أنّ عفاف الرجل - بطبيعة الحال - مهم أيضا.

لأن العفاف لا يختص بالمرأة، فالرجل أيضا يجب أن يكون عفيفا و لكن بما أنّ الرجل يتمتع بقوّة بدنية تفوقها، فهو قادر على الإساءة إليها و معاملتها بما لا ترضاه، و لهذا كان التأكيد على عفّة المرأة أكثر.

و لو أنكم نظرتم اليوم إلى العالم لوجدتم أنّ من جملة المشاكل التي تكابدها المرأة في العالم الغربي و خاصة في الولايات المتحدة هي ركون الرجل إلى قوّته في التجاوز على عفّة المرأة.

و قد اطلعت على الاحصائيات الصادرة من جهات رسمية في نفس أمريكا، كانت إحداها صادرة عن العدلية، و الثانية عن جهة اخرى، كانت الأرقام رهيبة حقّا، ففي كل ست ثوان تقع في أمريكا حادثة تجاوز قسري!

ص: 72

لاحظوا مدى أهمية العفّة، و ما تؤول إليه الأمور إذا قوبلت بالإهمال!

حادثة اعتداء بالعنف كل ستّ ثوان، رغم إرادة المرأة يقوم بها الرجل الظالم المتسلط المتهتك؛ فيعتدي على حريم عفّة المرأة.

الإسلام يلاحظ كل هذه الجوانب، و هذا هو سبب تأكيد الإسلام بشدة على مسألة الحجاب.

إذن الاهتمام بموضوع العفّة و التمسك بالحجاب من الأمور الاخرى التي يؤكد عليها الإسلام.

التصدي لمن يبيح عفة المرأة

الموضوع الآخر هو وجوب التصدي الشديد قانونيا و اخلاقيا لمن يبيح لنفسه التجاوز على المرأة.

و القانون أيضا يجب أن يتضمن عقوبات صارمة لمثل هذه المخالفات.

و أشير ثانية إلى أنّ الدول الغربية و رغم جميع الشعارات التي تنادي بها إلاّ أنّها لم تستطع حتى الآن ضمان عدم وقوع هذه التجاوزات. أي أنّ هناك نساء يتعرضن للضرب من أزواجهن، و فتيات يضربن و قد يصل حد الجرح على يد آبائهن. و هناك إحصايئات رهيبة و مثيرة في هذا الخصوص، ناهيك عن شيوع ظاهرة اخرى هناك و هي القتل؛ إذ أنّ الدماء هناك تراق بكل بساطة، و استقباح القتل في الأجواء الإسلامية، ليس موجودا - و للأسف - في تلك الأجواء التي لا تعرف شيئا عن المعارف الإلهية.

و ظاهرة قتل النساء التي هي من البلايا المستهجنة و القبيحة جدا، أمر شائع في البلدان الغربية - خاصة أمريكا - و من حسن الحظ أنها ليست كذلك في بلادنا و لا تقع إلاّ في حالات نادرة جدا.

و لكن على كل الأحوال لا بدّ من التصدي بشدّة لأي اعتداء بدني على المرأة لكي

ص: 73

يتسنى لمجتمعنا بلوغ المستوى الذي يصبو إليه الإسلام في هذا المجال.

يجب - على العوائل الإسلامية - السماح للفتيات بالتعلم و الدراسة و المطالعة لمعرفة أحكام الدين الأمر الذي يقوي فكر المرأة و ذهنها.

إذا استطاع مجتمعنا تعليم المرأة المعارف التي يريدها الإسلام، فلا شكّ في أنّ البلد سينال نصيبا مضاعفا من الرقيّ و التقدم. و كل ميدان تدخله المرأة و هي شاعرة بالمسؤولية تتصاعد و تيرة التقدّم فيه.

و تتميّز مشاركة النساء في أي ميدان من الميادين أنها إذا دخلته، يدخل معها زوجها و أولادها أيضا. بينما هذا لا يحصل في دخول الرجل إلى أي ميدان.

المرأة حينما تدخل أي ميدان - في حالة كونها متزوجة و لديها أسرة - كل تلك الأسرة تدخل ذلك الميدان، و هذا ما يعطي أهمية بالغة لمشاركة النساء في مختلف القطاعات(1).

ص: 74


1- من كلمة ألقاها في: 19 جمادى الثانية 1418 ه ق/استاد الحرية الرياضي بطهران.

الورع

معنى الورع

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أفضل العبادة الفقه، و أفضل الدين الورع»(1)

ليس المراد من الفقه خصوص العلم بالأحكام الفقهية الفرعية.

و إنّما المراد من الفقه علم الدين سواء كان علم المعارف الإلهية و الفضائل الحقّة أو العلم بالأخلاق و الفقه بالمعنى المصطلح، أي الأحكام الشرعية الفرعية.

و السبب في كون الفقه أفضل العبادة هو أن علم الدين إذا استقرّ في قلب و روح الإنسان فغالبا ما يوجب أن يتحرّك الإنسان و يسعى مصحوبا بهذه العقيدة و يأتي بأعماله في الطريق المستقيم الحقيقي و الواقعي على النحو الصحيح.

و أمّا إذا لم تكن هذه المعرفة موجودة في الإنسان فيحتمل أن يأتي بالأعمال الحميدة الصحيحة أيضا إلاّ أنه مثل هكذا عمل لا يثبت و لا يستقر و لا يمكن الإعتماد و الوثوق به، لأنه قد عمل و تحرّك و هو في معرض الضلال و الإنحراف.

و الورع هو أعلى رتبة و مرحلة في الدين، و الورع معناه الإجتناب عن الذنوب، فالإنسان إذا لم يجتنب الذنوب فعبادته إما أن لا يكون لها أثر أصلا، بمعنى أن روحه و قلبه ليسا نورانيّين، و إما أن يكون لها أثر قليل و ضعيف.

ص: 75


1- الخصال، باب الواحد، ح: 104.

و أما إذا اجتنب عن الذنوب و كان ورعا فسوف يكون لعبادته و أعماله الحميدة الحسنة تأثيرات أكبر في نفسه(1).

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لحمران بن أعين: «و اعلم أنه لا ورع أنفع من تجنّب محارم اللّه و الكفّ عن أذى المؤمنين و اغتيابهم. و لا عيش أهنأ من حسن الخلق. و لا مال أنفع من القناعة باليسير المجزي.

و لا جهل أضرّ من العجب»(2).

الورع بمعنى الإجتناب ورد كثير في رواياتنا. و يحتمل فيه و جهان:

أحدهما: الإجتناب عن المحرمات الإلهية.

و الآخر: الورع عن الأمور المحلّلة (الزهد). و هذا النوع و إن كان مطلوبا إلاّ أن الورع الأهم هو الأوّل.

و الحياة و العيش في ظل الخلق الحسن ألذّ و أهنأ من كل شيء، و ذلك لأن الحسد و الضغينة و الكره و التشاؤم و البخل و الإمساك تجعل الحياة مريرة، حتى و إن كان الإنسان لديه من النعم و الهبات المادية الشيء الكثير(3).

أهمية الورع

كان فيما أوصى به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا عليه السّلام: يا علي ثلاثة من لم تكن فيه لم يقم له عمل: «ورع يحجزه عن معاصي اللّه عزّ و جلّ.

و خلق يداري به الناس.

ص: 76


1- كلمات مضيئة: 133.
2- تحف العقول، صفحة: 359.
3- كلمات مضيئة: 122.

و حلم يردّ به جهل الجاهل.»(1)

ثلاثة أمور لا بدّ من تحققها في الإنسان حتى يقوم عمله.

و المراد من قوله «لم يقم له عمل» أنه لن يتمكّن من القيام بأي عمل من الأعمال على وجهه الصحيح سواء كانت من أعمال الدنيا أم الآخرة. و من هذه الأمور:

1 - ورع يحجزه عن معاصي اللّه: فإنه إذا لم يكن للإنسان حالة الورع التي تبعده و تجنّبه من ارتكاب الذنوب و المعاصي و كان الإنسان تجاهها لا يبالي ولايتهم بها، فحينئذ سوف توجد الذنوب و المعاصي في بناء شخصيّته المعنويّة خللا و تصدعات الضعف و الوهن. نظير بركة الماء التي يملؤها الإنسان بالماء بمشقّة و صعوبة و لكن بسبب وجود التصدّع و الثقوب فيها تفرغ من الماء.

فإذن إذا لم يكن للإنسان حالة الورع هذه فإن الدين و التقوى و بناء روحه معنويّا لن يوصله إلى شيء(2).

الورع عن المحارم

من فوائد الصوم الورع عن المحارم؛ أي أن يحفظ الإنسان اذنه و عينه و لسانه و قلبه و حتّى جلده و شعره - كما جاء في بعض الروايات - عن اقتراف المآثم.

فقد روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال: «الصيام اجتناب المحارم كما يمتنع الرجل من الطعام و الشراب»(3).

و هذه مرتبة أخرى من مراتب الصوم أكثر رفعة من الأولى. إذا، فرصة شهر رمضان ثمينة يجب اغتنامها للتمرين على ترك المآثم... كثيرا ما يطلب مني بعض الشباب

ص: 77


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 121.
2- كلمات مضيئة: 117.
3- مستدرك الوسائل: 367/7 ح 8433.

أثناء مراجعتهم لي أن أدعو لهم لكي يستطيعوا جبّ أنفسهم عن المعاصي، و لا شك في أن الدعاء أمر جيّد و لازم، بيد أن التورّع عن اقتراف الذنوب يستلزم وجود إرادة لدى الإنسان، حيث يجب عليه أن يعزم على ترك الذنب، و حينما يعزم المرء يصبح هذا العمل سهلا جدا؛ فاجتناب المعاصي يبدو أمام نظر الإنسان و كأنّه جبل، و لكنه يبدو بعد العزم و كأنه أرض منبسطة، و شهر رمضان أفضل فرصة للتمرّن على هذا العمل.

و قد وردت في هذا المجال رواية أخرى منقولة عن فاطمة الزهراء (سلام اللّه عليها)، و هي أنها قالت عليها السّلام: «ما يصنع الصائم بصيامه إذا لم يصن لسانه و سمعه و بصره و جوارحه؟!».(1)

و يروى أن امرأة أهانت خادمتها؛ و يبدو أنهما كانتا تجاوران الرسول الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) أو كانتا معه في سفر، و كان بيد الرسول الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) طعام، فقدّمه لها و قال لها: كلي. قالت: أنا صائمة.

فقال صلّى اللّه عليه و آله لها: كيف تكونين صائمة و قد سببت جاريتك؟!(2)

إن الصوم ليس من الطعام و الشراب، و إنّما جعل اللّه ذلك حجابا عن سواهما من الفواحش من الفعل و القول، أي أن اللّه تعالى أراد من الإنسان اجتناب الذنوب و المعاصي و الآثام..

و من جملة الآثام هي التي يقترفها اللسان و إهانة الآخرين و الإساءة إليهم.

و منها أيضا الآثام القلبية، أي شحن القلب بالحقد و الكراهية للآخرين؛ فبعض الآثام يصدق عليها معنى الإصطلاح الشرعي، و البعض الآخر منها أخلاقي، و لها مراتب شتّى.

ص: 78


1- مستدرك الوسائل: 366/7 ح 8431.
2- ميزان الحكمة: 1688/2-2359 باب أدب الصوم.
الورع عن اقتراف الذنوب و الآثام

الورع عن اقتراف الذنوب و الآثام و المعاصي من الأمور التي تقرب الإنسان من اللّه تعالى، و إني أوصي الشباب خاصة باغتنام فرصة الشباب و الحيوية، فالشاب لديه القدرة من جهة، و يتصف بصفاء القلب و نورانيّته من جهة أخرى. اغتنموا هذه الفرصة طوال مدّة شبابكم، و مرّنوا أنفسكم على اجتناب الذنوب.

ينبغي اجتناب كل ما يجعل فكر و وجدان الإنسان غافلا عن ذكر اللّه. و هذه هي تلك المرتبة السامية التي وردت في حديث المعراج عن الصوم؛ حيث يروى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لربّه جلّت عظمته: «يا رب، و ما ميراث الصوم؟

قال: «الصوم يورث الحكمة، و الحكمة تورث المعرفة، و المعرفة تورث اليقين؛ فإذا استيقن العبد لا يبالي كيف أصبح بعسر أم بيسر»(1).

و اليقين هو ما طلبه النبي إبراهيم عليه السّلام من ربّه، و ورد ذكره في مواضع متكررة و عديدة من أدعية هذا الشهر.

و عند ما يكون للإنسان يقين، تهون عليه كل مصاعب الحياة، و يكون في وضع لا تغلبه فيه حوادث الدهر.

لاحظوا مدى أهمية هذا الأمر؛ فالإنسان الذي يروم طيّ سبيل التعالي و التكامل في سنوات حياته، و ليصبح على درجة من الصلابة بحيث لا تقهره عوادي الزمن، يمكنه اكتساب هذا كله من اليقين، و هذا كله ناجم عن الصوم كعبادة تقرب من اللّه تعالى.

فإذا أحيا الصوم ذكر اللّه في قلب المرء و أضاء فيه نور معرفة اللّه، تأتي هذه الأمور كلّها تبعا له؛ و كل ما يؤدي به إلى الغفلة عن ذكر اللّه يضمحل على أثر الصوم. فهنيئا لمن يستطيعون بلوغ هذه المرتبة. و ما علينا إلاّ أن ندعو اللّه و نسأله، و نصمم على

ص: 79


1- مستدرك الوسائل: 500/7 ح 8743.

إيصال أنفسنا إلى هذه المرتبة(1).

الورع و الحكومة

الورع يعني اجتناب كل ما يحتمل فيه الكراهية. و لكن كيف ينسجم هذا مع الحكومة؟ هل يتسنى للإنسان أن يكون ورعا إلى هذا الحد و هو في الحكم. فنحن الآن في الحكم نشعر بأهمية وجود مثل هذه الخصلة - لأنّ الإنسان و هو في الحكم يتعامل مع قضايا عامّة و ينفّذ قوانين، و لكن قد يكون في هذا القانون ظلم لإنسان في مكان ما. و الشخص المكلف بتنفيذ القانون بشر أيضا و قد يسيئ تطبيق القانون.

فكيف يتأتى للمرء إلتزام الورع في كل هذه التفاصيل الجزئية التي تستعصي على الاحاطة بها؟

لهذا يبدو في الظاهر أنّ الحكومة و الورع لا يجتمعان. إلاّ أن أمير المؤمنين عليه السّلام جمع غاية الورع مع أقوى حكومة. و هذا مما يثير العجب(2).

ص: 80


1- من كلمة ألقاها في: 8 رمضان 1420 ه - طهران.
2- من كلمة ألقاها في: 21 رمضان 1417 ه - جامعة طهران.

الإخلاص

معنى الإخلاص

ما معنى الإخلاص؟ إنّ السلاح الذي يعجز عن مواجهته أي عدو مادي، هو سلاح الإيمان الخالص و العمل المخلص.

الإخلاص معناه - باختصار - أن يؤدي المرء العمل للّه و حبّا بأداء الواجب، و أن لا يعمل من أجل أهوائه النفسية و لكسب المال و المنال و الثروة و الجاه و حكم التاريخ، و ما شابه ذلك من الحوافز النفسية المنبعثة من الرغبة في إشباع صفات ذميمة كالحسد و الحرص و الطمع، بل أن يكون دافع العمل للّه تعالى و لأداء الواجب، هذا هو معنى الإخلاص(1).

قال علي بن الحسين عليه السّلام و قد قال له رجل: إني لأحبك في اللّه حبا شديدا، فنكس عليه السّلام ثمّ قال: اللّهم إنّي أعوذ بك أن أحبّ فيك و أنت لي مبغض. ثمّ قال له:

أحبك للذي تحبّني فيه»(2).

توجد في هذا الحديث مسألة مهمّة جدا و تعتبر درسا كبيرا لنا و تتطلّب تنبّها فوريّا لهذا للخطر الذي يهدد الإنسان في مقابل هذه الظاهرة، أي كونه محبوبا للناس لأجل

ص: 81


1- من كلمة ألقاها في: 25 رجب 1418 ه - طهران.
2- تحف العقول، صفحة: 282.

اللّه تعالى.

و لذلك عند ما قال ذاك الرجل للإمام عليه السّلام بأني أحبك للّه تعالى لم يجبه الإمام عليه السّلام بقوله: أشكرك أو أشكر اللّه تعالى على هذه المحبوبيّة، بل أجابه بقوله: أعوذ باللّه تعالى من حبّ الناس لنا فيك و لأجلك إذا كنت لي مبغضا.

و هذا خطر كبير لنا، فلا نجعل الناس تعتقد أننا نعمل مخلصين للّه تعالى و نمشي في طريق الحق تعالى بينما حقيقتنا خلاف ذلك و ظاهرنا على عكس باطننا، أو تكون أعمالنا موجبة للغضب الإلهي علينا.

و لذلك نستعيذ باللّه تعالى من أن يحبّنا الناس لأجل اللّه بينما نكون نحن أعداء و مبغوضين للّه عزّ و جلّ (1).

السعي نحو الإخلاص

يجب البحث عن الإخلاص، و نؤدي أعمالنا للّه و لأجل الواجب و لأجل التكليف، لا لأجل الأهواء و النزوات، أو لنيل الثناء من هذا و ذاك. و إذا تحقق هذا الطموح لن تخلو الساحات الإسلامية حينذاك من الرجال العظام و الأعمدة المتينة القادرة على حفظ هذه الخيمة. فكما كانت القضية في ساحة الحرب - و الحق يقال - هي قضية الإخلاص بالنسبة لأبطالنا المتفانين الحاملين أرواحهم على الأكف، و هكذا كان الحال في أول الثورة، و قبل الحرب و بعدها، علينا أن نتمرّس و نروّض أنفسنا على الإخلاص(2).

ص: 82


1- كلمات مضيئة: 128.
2- من كلمة ألقاها في: 3 شعبان 1417 ه
الاخلاص و أثره في بناء الشخصية

إنّ الإخلاص يا أعزائي على درجة من الأهمية، لا تغفلوا عن عنصر الإخلاص، و ليكن كل عمل تؤدونه مقرونا بالإخلاص.

الإخلاص يعني أن لا يكون في القلب دافع سوى اللّه و مرضاته و أداء التكليف و المسؤولية الإلهية، هذا يسمى بالإخلاص. و الإخلاص له بركة عجيبة و له آثاره الطبيعية، و من جملة آثاره أنه يجعل الأرواح النقية قادرة فجأة على طي الأرض و السماء، و يؤهل الشاب الذي يبلغ من العمر ثماني عشرة أو عشرين سنة للسير و التحدث بكلام عند ما يتأمله المرء يدرك أنه ليس كلام إنسان عادي؛ فلا يمكن لمن لا يرى الشيء أن يتحدث عنه بهذا الوضوح.

طوال هذه السنوات الثمانية أو أكثر تدفقت ينابيع المعرفة و البصيرة و النورانية في قلوب هؤلاء الشبان، فأبصروا، و أدركوا، و طووا المراتب و حلّقوا في الآفاق، و بلغوا منزلة لو قيل لأي سالك من أهل العلم و المعرفة إنك إذا عبدت ربّك مخلصا و جاهدت نفسك و بذلت ما بذلت من الجهد و المشقّة عشرين سنة، ستبلغ تلك المنزلة، لخفّ إليها بكل شوق و حماس. و هذا كله يعود فضله إلى إخلاص البذل في أيام الشباب. اعرفوا قدر أيام الشباب بما تحمله من أمثال هذه الجواهر الثمينة.

إعلموا أنّ النقاء و النورانية و المعرفة و السلوك و العروج و الذوبان في اللّه أسهل في مرحلة الشباب من أية مرحلة أخرى، شأنه في ذلك شأن الأعمال الدنيوية التي يمكن إنجازها في مرحلة الشباب أيسر منه في فترة الكهولة، و هكذا الحال أيضا بالنسبة للمقامات المعنوية، فاعرفوا قدر مرحلة الشباب و وظفوه بصدق و إخلاص في هذا

ص: 83

الطريق السليم الذي أنتم عليه(1).

إخلاص الحسين عليه السّلام و أثره

و هناك خطّ و نهج آخر و مثاله ثورة الإمام الحسين عليه السّلام، و التي لا وجود لل «أنا» و لل «ذات» و المصالح الشخصية و القومية و الحزبية فيها أبدا، إذا هذه أول خصّيصة من خصائص ثورة الحسين بن علي عليه السّلام.

فكلّما ازداد الإخلاص في أعمالنا كلّما ازدادت قيمتها، و كلّما ابتعدنا عن الإخلاص كلّما اقتربنا من الغرور و الرياء و العمل للمصالح الشخصية و القومية، و كلّما ازدادت الشوائب في الشيء كلّما أسرع في الفساد، فلو كان نقيّا و خالصا لما فسد أبدا.

و إن أردنا إعطاء مثال بالامور المحسوسة، نقول: إذا كان الذهب خالصا و نقيا فلا يقبل الفساد و الصدأ أبدا، و إن كان مخلوطا بالنحاس و الحديد و بقية المواد الرخيصة الثمن، احتمل الفساد أكثر، فهذا في المادّيات.

أمّا في المعنويات فإن هذه المعادلة أكثر دقّة، انّما نحن لا نفهمها بسبب نظرتنا المادية، لكن يدركها أهل الفن و البصيرة، و إنّ اللّه تعالى هو الناقد في هذه الواقعة، «فإنّ الناقد بصير»(2) فوجود شائبة بمقدار رأس إبرة في العمل يقلّل من قيمة العمل بالمقدار نفسه، و حركة الإمام الحسين عليه السّلام من الأعمال التي ليست فيها شائبة و لو بمقدار رأس إبرة، لذا هو باق إلى الآن و سيبقى خالدا الى الأبد. فمن توقّع خلود إسم و ذكر أبي عبد اللّه الحسين عليه السّلام و أنصاره في التاريخ؟ أولئك الذين قتلوا غرباء في تلك الصحراء و حيث دفنوا فيها رغم كلّ الإعلام المعادي في ذلك الوقت، و كيف أنّهم أحرقوا المدينة بعد استشهاد هذا العظيم بسنة في واقعة الحرّة، أي أنّهم نتفوا

ص: 84


1- من كلمة ألقاها في: 14 جمادى الأولى 1418 ه
2- أنظر بحار الأنوار: 432/13 ح 23.

الورود بعد أن خرّبوا الروضة، فمن توقّع أن يفوح عطرها؟ و بأيّة قاعدة مادّية يتصور بقاء وردة في هذه الروضة؟ لكن تلاحظون أنّه كلما مرّ الزمان عليها كلّما أصبحت تلك الروضة أكثر عطرا و سبب ذلك هو الإخلاص.

فهناك اناس لا يعتقدون بالنبي صلّى اللّه عليه و آله الذي هو جدّ الحسين عليه السّلام و الحسين سائر على نهجه، و لا يعتقدون بأبيه علي عليه السّلام و لا يؤمنون بحرب الحسين عليه السّلام، لكنهم يقبلون الحسين عليه السّلام و يعظّمونه، فهذا هو الخلوص.

نموذج آخر لأثر الإخلاص

و في ثورتنا العظيمة كان الإخلاص سببا لبقائها، ذلك الجوهر الخالص الذي كان الإمام الخميني مظهره. ارجعوا الى تلك الذكريات و تلك التضحيات في سوح الحرب، ذلك الحر المهلك في الصحاري و البراري، ذلك الشتاء القارس في الجبال، ذلك الرعب و الخوف و الخطر المستمر في سوح القتال، تلك المحاصرة، قلة القوات التي كنّا نتحمّس كثيرا لإعداد عدد قليل منها، عدم امتلاك الأسلحة حيث كنا نركض وراء مسدس أو قذيفة.

تذكّروا كلّ هذا و استشعروا تلك الأيام، لتدركوا لماذا كانت كلّ هذه المؤامرات ضدّ الثورة؟ و لماذا تستمر إلى الآن؟ لكن بقيت هذه الشجرة راسخة.

إنّ هذا الجوهر (الإخلاص) هو الذي حفظها، إنّ إخلاص الإمام (ره) و الشعب خاصة إخلاص اولئك المقاتلين في سوح القتال، هو الذي حفظ الثورة و دعم استمرارها، إذا هذه نكتة يجب الاهتمام بها دائما، و أنا أحوج من غيري الى هذا الاهتمام(1).

ص: 85


1- من كلمة ألقاها في: 3 شعبان 1414 ه
الإخلاص في العمل
اشارة

أوصيكم بتحسين كيفية العمل. أصبحت مقولة (الإخلاص في العمل) متداولة على الألسن، تعتبر أمرا مهما. و لا أدري إلى أي حد يعي الأشخاص الذين يرددون هذه الكلمة أهمية هذا المضمون و ما ينطوي عليه من تأثير. هذا التعبير يماثل في مضمونه الإخلاص السياسي و الإخلاص العلمي.

و معناه أنّ من يمارس عملا ما يجب أن يستشعر نوعا من الإخلاص تجاه عمله و يعتبر ذاته مسؤولا أزاءه. و هذه المسؤولية تختلف عن المسؤولية أمام رب العمل؛ لأن هذه بالإضافة إلى ما تحمله من صفة شرعية و إنسانية تجعل الإنسان يشعر ذاتيا بوجوب إتقان العمل و أدائه على أتم و أقوى و أفضل ما يمكن في حال وجود الرقابة أو إنعدامها على حد سواء. هذا هو معنى الإخلاص في العمل.

الشرع الإسلامي الذي يعتبر العمل عبادة و فضيلة، يلزم من يتعهد بإنجاز عمل ما أن يؤديه على خير وجه. و هذا الكلام ينطبق على قاعة الدرس، و على الحقل و على المصنع، و على ماكنة الخياطة و العمل المنزلي.

أثر الإخلاص في العمل
اشارة

و إذا كان العامل - بأية صورة من صور العمل الذي يعد التعليم و التربية من أنواعه القيّمة أيضا - مخلصا في عمله فمن الطبيعي أن ينجز ذلك العمل على أفضل وجه.

و هذا بمثابة مفتاح المشاكل التي يعانيها أي بلد.

فلو أن أحدكم ابتاع جهازا و أخذه إلى داره و بعد فترة وجيزة عطب الجهاز و كان

ص: 86

السبب يعزى إلى عدم إتقان صنعه، فسيؤدي هذا إلى فقدان الثقة بالعمل، و لكن لو كان هناك إخلاص في العمل لانقشع مثل هذا الشعور، و من يرسل ولده إلى المدرسة و هو يخشى عليه من نمط التربية التي يتلقاها و ما سيؤول إليه أمره، لن يتولد لديه مثل هذا الشعور فيما لو كان هناك إخلاص في العمل.

حينما يؤدي جميع العاملين أعمالهم بإخلاص، و يشعرون و هم يؤدون مهامّهم - حتى و إن لم يكن رب العمل موجودا - أنّ اللّه ناظر إليهم، و الكرام الكاتبين - الموكلين بتسجيل أعمال الإنسان - و الملائكة المقربين شاهدون على أعمالهم، و أنّ أي جهد يبذل في سبيل إتقان العمل موضع ثناء الكرام الكاتبين، و تدوّن لكم في سجل عملكم. إلاّ أن أمثال هذه القيم لا تدخل في حساباتنا البشرية، و كثيرا ما نغفل عنها و لا نلتفت إليها، أمّا في المعايير الإلهية فالأمر يختلف عن ذلك.

فلو أنكم استثمرتم حتى آخر دقيقة من الدرس و لم تدعوها تذهب هدرا، و أنفقتم وقتكم و جهدكم حقّا في تعليم الأطفال، أو في المصنع، أو في المزرعة أو في العمل الذي تزاولونه في الدار، أو في أي موضع آخر، و الدقّة التي تمارسونها حتى أثناء غرس الإبرة في القماش تدوّن كلها في سجل أعمالكم، و هذا السجل لا تنحصر فائدته في يوم القيامة فقط بل إنّ له أثره حتى في دار الدنيا. أي أنّ الدقّة و إتقان العمل تبني مجتمعا عزيزا شامخا، و متطورا لا يعرف الخنوع أمام العدو و لا يحتاج إلى لئام خلق اللّه و أعداء الإنسانية، و يجلب لبلده و لمجتمعه الفخر و حسن الصيت على الصعيد العالمي.

و هذا كله يتعلق بالحياة الدنيا، أما في الآخرة فهناك البرزخ و القيامة و ثواب اللّه الذي يؤتيه جزاء لهذه الأعمال.(1)

ص: 87


1- . من كلمة ألقاها في: 22 ذي الحجة 1417 ه
ثواب الإرهاق في التكليف/الأجر على قدر المشقة

يجب أن يعرف المسلم قيمة عمل العامل، و عليكم أن تعلموا طبعا أن اللّه و رسوله و الكرام الكاتبين يعرفون قيمة العمل فَسَيَرَى اَللّٰهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ (1)؛ اعلموا أنه أمام اللّه و في السجل الإلهي، و اعلموا يا أعزائي أن كل لحظة من لحظات كدكم و عنائكم لا تضيع عند اللّه، و الدقائق الأخيرة التي تواصلون فيها العمل بدافع التكليف القانوني و الديني و أنتم مرهقون، هذه الدقائق لا يعلمها ربّ العمل، و لا المدير؛ لا صاحب المعمل و لا إدارة المدرسة، إلاّ أنّ اللّه تعالى يعلمها و يحفظها لكم.

و هذه في الحقيقة قيم فاضلة، و لا تظنوا أن هذا إرجاء على المستقبل، و لكنها في الحقيقة حتى و إن كانت إرجاء على المستقبل فإن لها يوم القيامة أهمية كبرى، و لها بأول ليلة في القبر أهمية بالغة، بيد أن دورها لا ينحصر في هذا الإطار فحسب، و إنما بها يتم إعمار البلد و انتظام الحكم و بناء الأجيال الشابة(2).

ص: 88


1- سورة التوبة: 105.
2- من كلمة ألقاها في: 18 محرم 1420 ه - طهران.
الإيثار يوصل الى الإخلاص

الإخلاص يعد نوعا من الإيثار، و كلّما استطاع الإنسان تجاوز أغراضه الذاتية و بلوغ درجات سامية و رفيعة يكون أقرب للإخلاص. الإخلاص، معناه الصفاء و النقاء، و الإخلاص في العمل يأتي في أعقاب صفاء النوايا.

أما الصفة المضادة للإخلاص، فهي أن يكون المرء ذا نزعة مادية، و يعمل لأغراض و دوافع ذاتية و مادية، أو يعمل لأغراض معنوية تافهة.

فبعض الدوافع ليست مادية - بالمعنى المصطلح للمادة - صرفة و لا ملموسة، إلاّ أنها تافهة، من قبيل حب الجاه بين الناس، فمثل هذا الدافع ليس دافعا ماديا بالمعنى المعروف للمادة، لكن قيمته تافهة، حيث يقوم البعض و إنطلاقا من هذا الدافع بعمل لا يتطابق مع الدوافع الإلهية، و لا مع الصراط القويم.

و على هذا الأساس، كلّما نأى الإنسان بذاته عن نوازع الأنانية و حب الذات، أصبح مظهرا للإخلاص.

و لكن كيف يمكن الوصول إلى هذه الحالة؟ و الجواب هو أنّ هذه الحالة يمكن بلوغها بشيء من التضحية، شأنها في ذلك شأن الكثير من الأعمال الاخرى التي تشترط فيها المجاهدة.

و معنى هذا أنّ الإنسان يجب أن يبذل شيئا من التضحية، فهو يرى في بعض المواقف أنه إذا طرح رأيا معينا، يجلب له الوجاهة أمام الناس و لكنه في سريرته لا يعتقد بذلك الرأي.

فإذا لم يكن الإنسان مخلصا لا يتورع عن طرح ذلك الرأي، أما إذا كان مخلصا؛ أي أنه يرغب في أن تكون أعماله خالصة للقيم السامية التي يؤمن بها - و تكون في ختام

ص: 89

المطاف لوجه اللّه تعالى - فإنه يحجم عن طرح ذلك الرأي، و هذا يعد في واقع الحال نوعا من الإيثار(1).

ص: 90


1- من كلمة ألقاها في: 19 جمادى الثانية 1419 ه - طهران.

ذكر اللّه تعالى

أهمية ذكر اللّه تعالى

كان فيما أوصى به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا عليه السّلام: «يا على: سيّد الأعمال ثلاث خصال: إنصافك الناس من نفسك.

و مواساة الأخ في اللّه عز و جل.

و ذكر اللّه تعالى على كل حال»(1).

علينا ذكر اللّه تعالى في كل الأحوال. لأنّ روح كل أعمال الإنسان هي أن يكون الإنسان في كل أحواله ذاكرا لله تعالى، و يستمد من اللّه تعالى الألطاف و النّعم و الرحمة، و يضع نصب عينيه القوّة و العظمة الإلهيّة اللامتناهية(2).

ذكر اللّه علاج للآفات

ما هو علاج الآفات؟ لقد قدم علماء الأخلاق دروسا نافعة في هذا المجال، و حقيق بالإنسان السالك العناية بالأمر، فوضعنا أنا و أنتم في غاية الأهمية، و نحن هنا لسنا بصدد إلقاء درس في الأخلاق، فأنا كواحد منكم و مسؤول مثلكم أشعر

ص: 91


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 121.
2- كلمات مضيئة: 17.

بمسؤوليتي، و أنا بالذات المخاطب الأول بهذه الكلمات، و لعل هذا القول يترك بصماته في قلبي المظلم، و أنتم أيها الإخوة و الأخوات مخاطبون أيضا بها في المرتبة اللاحقة، فمسؤوليتنا في الوقت الحاضر جسيمة للغاية، و علينا التصدي لكل ما من شأنه الحيلولة دون بلوغنا هذه المسؤولية الكبرى، و في المقدمة ما تنطوي عليه سرائرنا من الآفات التي مضت الإشارة إلى جانب منها.

ما الذي علينا فعله؟ ما نشاهده في القرآن الكريم هو ما يعاكس تلك الآفات بالضبط، إنه "الذكر"، و هو لا ينحصر في الأوراد و ما شابهها، فهي إحدى وسائل الذكر الذي يعني ذكر اللّه و ذكر التكليف و النعمة الإلهية وَ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدٰاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوٰاناً (1).

و لو أنكم تمعنتم جيدا في القرآن الكريم(2) لوجدتم أن الإشارة وردت في مواطن

ص: 92


1- سورة آل عمران: 103.
2- قال تعالى في محكم كتابه العزيز: بسم اللّه الرحمن الرحيم وَ إِذٰا مَسَّ اَلْإِنْسٰانَ ضُرٌّ دَعٰا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذٰا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مٰا كٰانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَ جَعَلَ لِلّٰهِ أَنْدٰاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحٰابِ اَلنّٰارِ سورة الزمر: 8. يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خٰالِقٍ غَيْرُ اَللّٰهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ فَأَنّٰى تُؤْفَكُونَ سورة فاطر: 3. أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّٰا جَعَلْنٰا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ اَلنّٰاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَ فَبِالْبٰاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اَللّٰهِ يَكْفُرُونَ سورة العنكبوت: 67. فَكُلُوا مِمّٰا رَزَقَكُمُ اَللّٰهُ حَلاٰلاً طَيِّباً وَ اُشْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّٰاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ مٰا أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّٰهِ بِهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لاٰ عٰادٍ فَإِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَ لاٰ تَقُولُوا لِمٰا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ اَلْكَذِبَ هٰذٰا حَلاٰلٌ وَ هٰذٰا حَرٰامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اَللّٰهِ اَلْكَذِبَ إِنَّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّٰهِ اَلْكَذِبَ لاٰ يُفْلِحُونَ * سورة النحل: 116. وَ مٰا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اَللّٰهِ ثُمَّ إِذٰا مَسَّكُمُ اَلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ * ثُمَّ إِذٰا كَشَفَ اَلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذٰا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * سورة النحل: 54. -

متعددة إلى "ذكر نعمة اللّه"، و نعمة اللّه ليست بأجمعها تعني المأكل و المشرب و ما إلى ذلك - و إن بدت في أعيننا صغيرة، و هي ليست كذلك بل هي عظيمة للغاية - بل لله نعم عظمى على بني الإنسان و منهم نحن، علينا تذكرها؛ و منها ذكر التكليف، ذكر النعمة، ذكر العهد و الميثاق، فكلنا ملزم بعهد و ميثاق مع اللّه و مع النفس و مع من يعيش.

فلنتذكر عهدنا و ميثاقنا، و إيانا و نكث العهد؛ و لنتذكر يوم الحساب و القيام إلى اللّه، فالحياة عابرة و مسؤوليتها أقصر منها، و سنقف جميعا بين يدي رب العالمين، و حينها يتعين علينا تقديم ما بجعبتنا من جواب! فلنتذكر ذلك أيضا(1).

ص: 93


1- من كلمة ألقاها في: 26 رمضان 1422 ه - طهران.
أثر ذكر اللّه

من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «ثلاث خصال من أشدّ ما عمل به العبد: إنصاف المؤمن من نفسه، و مواساة المرء لأخيه، و ذكر اللّه على كلّ حال.

قيل له: فما معنى ذكر اللّه على كلّ حال؟

قال عليه السّلام: يذكر اللّه عند كل معصية يهمّ بها فيحول بينه و بين المعصية»(1).

ثلاث خصال و صفات هي من أشدّ الأعمال، و المراد من أشدّ الأعمال إمّا كونها أشقّ و أصعب الأعمال أو كونها أوثق و أمتن و أحكم الأعمال. و هي:

1 - أن يكون الإنسان منصفا دائما و يقف إلى جانب الحقّ في كل القضايا التي تعرض له سواء في المنازعات أو المباحثات العلمية أو المسائل السياسية التي تدور بينه و بين الآخرين.

2 - أن يواسي و يشارك إخوانه في الدين في أحزانهم و همومهم.

3 - أن يكون ذاكرا للّه تعالى في كلّ الأحوال و الحالات بمعنى أنه إذا همّ و أقدم على ارتكاب المعصية تذكرّ و توجّه إلى اللّه تعالى و عظمته و جلالة الذات الإلهية المقدّسة لأن هذا الأمر سوف يحول بينه و بين المعصية قال تعالى: اَلَّذِينَ إِذٰا ذُكِرَ اَللّٰهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ (2).(3).

ص: 94


1- تحف العقول، صفحة: 379.
2- سورة الأنفال: 2.
3- كلمات مضيئة: 12.

خشية اللّه و الخشوع

معنى الخشوع

قال الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، إنّ المسيح عليه السّلام قال للحواريّين:

يا عبيد السؤ، اتخذوا مساجد ربّكم سجونا لأجسادكم و جباهكم، و اجعلوا قلوبكم بيوتا للتقوى و لا تجعلوا قلوبكم مأوى للشهوات»(1).

إنّ الأسباب و العلل و المحرّكات النفسانيّة تجعل الإنسان دائما يتهرّب من القيام بواجباته العبادية و المستحبّات، لذلك فالإنسان يريد أن ينهي صلاته بسرعة فيسجد سجدة قصيرة و هكذا، و تجعله أيضا متعلّقا بالأمور الدنيوية.

و من هنا يوصي النبي عيسى عليه السّلام أصحابه الخواص المعروفين بالحواريّين هذه التوصية:

لتكن صلواتكم و سجودكم طويلة نظير الشخص الأسير في السجن فاجعلوا أبدانكم و جباهكم أسرى مسجونين في سجن الصلاة و السجود.

و ذلك لأنّ أقرب حالة للإنسان من ربّه هي حالة القرب الروحي و المعنوي للسجود.

ثمّ إنّ القلوب يجب أن تكون وعاء و محلاّ للتقوى و ليست مأوى للشهوات. فإنّ

ص: 95


1- تحف العقول، صفحة: 393.

كل أفعال و أقوال الإنسان بعينيه أو لسانه أو يديه و سائر أعضاء بدنه كلها مظاهر لما هو موجود في قلب الإنسان(1).

فإذا كان الحديث عن الحرية و الكرامة الإنسانية، و إذا كانت حقوق الإنسان في المجتمعات مطروحة، و إذا كان العدل و رفع الحيف لا يزال شعارا خلاّبا في الدنيا، و إذا كانت مكافحة الفساد و المفسدين و الظلم و الظالمين، و إذا كان الإيثار و التضحية في سبيل الحق موضع اهتمام الإنسان، فإنّما يعود الفضل في ذلك إلى الأنبياء عليهم السّلام و عباد اللّه الصالحين الذين قدّموا هذه المفاهيم للتاريخ و وضعوها في متناول البشرية.

و عليه فإنّ عباد اللّه الصالحين يغيّرون وجه التاريخ، و يحوّلون المستحيل إلى ممكن، من خلال توكّلهم على اللّه و خشيته.

إذ لا يمكن تغيير الإنسان و الإنسانية عن طريق الرجاء المادّي و الخوف البهيمي.

إنّ خشية عباد اللّه و رجاءهم ليست كخشية عبيد الدنيا و رجائهم، إذ أنّهم يتمسكون بالله و يتوكّلون عليه، و تتلخص خشيتهم من معصيته، و يرون جميع القوانين الطبيعية - الّتي تمسك يد القدرة الإلهية بأطرافها - في خدمة أهدافهم، و يتحرّكون بالتوكّل على اللّه، و لذلك يستطيعون تغيير العالم.

و قد كان إمامنا العظيم في زمرة هؤلاء العظام.

إنّ عباد اللّه الصالحين يهيمنون على القلوب و ذلك عن طريق اتصالهم بالله تعالى.

إنّ ولاية عباد اللّه الصالحين ولاية معنوية و باطنية، و إنّ ولايتهم الظاهرية إذا تحقّقت فهي استمرار طبيعي لولايتهم المعنوية و الباطنية(2).

ص: 96


1- كلمات مضيئة: 41.
2- من كلمة ألقاها في: 1384/3/14 ه ش. - الموافق 26 /ربيع الثاني/ 1426 ه - الموافق 2005/6/4 م. - طهران.
خشية اللّه تعالى

قال الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، إنه لم يخف اللّه من لم يعقل عن اللّه، و من لم يعقل عن اللّه لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يبصرها و يجد حقيقتها في قلبه»(1).

الإنسان الذي ليس عنده أية معرفة و علم باللّه تعالى لا يخاف اللّه.

و كلما كانت معرفة الإنسان بربّه أكثر كانت خشية اللّه و الخوف منه في نفسه و قلبه أكثر.

إنّ الهيبة و العظمة تدفعان بشكل طبيعي نحو الخضوع و الخشوع لمن كان مطّلعا و عارفا بتلك العظمة و الهيبة.

و إنّ عدم التعقل في الأمور الإلهية يسلب عن القلب الشعور و الإحساس بنور البصيرة و نور المعرفة، لأن بصيرة القلب و نورانيّته لا تحصل بالقراءة و الإستماع للعلوم بل تأتي من خلال الجد و الإجتهاد في العبادة و مجاهدة النّفس و تزكيتها.

و هذه البصيرة إذا كانت ثابتة و أحسّ الإنسان بحضورها في قلبه فسوف تنحل و تعالج كل أنواع الجهل و الضلال و الإنحراف(2).

و روى أبو عبد اللّه عن أبيه عليهما السّلام قال: بكى أبو ذر رحمه اللّه من خشية اللّه عزّ و جلّ حتى اشتكى بصره، فقيل له: يا أبا ذر لو دعوت اللّه أن يشفي بصرك.

فقال: إنّي عنه لمشغول، و ما هو من أكبر همّي.

ص: 97


1- تحف العقول، صفحة: 388.
2- كلمات مضيئة: 195.

قالوا: و ما يشغلك عنه؟

فقال: العظيمتان، الجنّة و النّار»(1).

لقد بكى أبو ذر عليه الرّحمة، بكاء طويلا من خشية اللّه تعالى حتّى تضرّرت عيناه من ذلك.

فقيل له في ذلك: أنّه لماذا لا تدعو اللّه تعالى ليشفي لك عينيك؟.

فأجابهم بأن هذه المسألة ليست من المسائل المهمّة في حياتي، و أنا مشغول عنها بما هو أكبر منها، و همّي في شيء غيرها، و لذلك فليس لديّ الوقت الكافي لهذه المسألة.

فسألوه عن تلك المسائل الأهمّ عنده ما هي؟.

فأجابهم بأنّ شغله عن الدّعاء لنفسه شيئان كبيران عظيمان، هما الجنّة و النّار.

و من هذا يعلم أنّ أبا ذر عليه الرّحمة يعتبر أنّ مسألة كمسألة البصر من مسائل الدّرجة الثّانية بالأهميّة، و أنّ المسألة الأساسيّة عنده و الأهم فهي مصيره و النهاية الّتي ينتهي إليها الإنسان و يختم بها حياته.

و نحن و إن كنّا لا نقدر أن نكون مثله بحيث نغض النّظر عن المسائل الشّخصيّة إلاّ أنّ هذا الأمر منه رحمه اللّه تعالى، يعتبر درسا كبيرا يرسم لنا الطّريق و الأسلوب الصحيحين في حياتنا هذه(2).

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «كلّ عين باكية يوم القيامة إلاّ ثلاث:

عين بكت من خشية اللّه.

و عين غضّت عن محارم اللّه.

ص: 98


1- الخصال/باب الاثنين/ح 25.
2- كلمات مضيئة: 195.

و عين باتت ساهرة في سبيل اللّه».(1)

كلّ العيون تبكي يوم القيامة بسبب الخوف و الفزع الموجود على أرض المحشر يوم القيامة أو بسبب الحسرة و الندامة على ما فرّطت و قصّرت في جنب اللّه تعالى، إلاّ ثلاثة عيون فإنها لا تبكي، و عدم بكائها هذا يكشف عن الإطمئنان و السكون القلبي و النفسي لأصحابها و هم:

1 - العين التي بكت في الدنيا من خشية اللّه.

2 - العين التي غضّت بصرها عن النظر الى المحارم الإلهيّة.

3 - العين التي سهرت في سبيل اللّه، كالذين يرابطون في جبهات القتال.

إنّ الدنيا و الآخرة ككفتي الميزان إذا ثقلت إحداهما خفّت الأخرى، و عليه فكلّ ألم و حزن و هم و تعب يتحمّله الإنسان في الدنيا سوف يجد مقابله من الراحة و الهدوء و السكون في الآخرة.

فنسأل اللّه تعالى أن لا تكون أعيننا من الأعين الباكية يوم القيامة(2).

ص: 99


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 46.
2- كلمات مضيئة: 196.
الخشوع في الصلاة

ينبغي على الإنسان أثناء الصلاة الإلتفات الى معاني و مفاهيم كلماتها و جملها مع الخشوع و حضور القلب، و هذه هي روح الصلاة التي تصبح بدونها جسدا بلا روح و التي و إن كانت مجزية في أداء أقل الواجب إلاّ أنّها لا تحقق أهداف و غايات التشريع.

و بالطبع فإن هذه الحالة بحاجة الى التعليم و كذا التمرين اللذين لو تحققا - بعون اللّه - فسوف يحقّقان معهما عمق الروح الدينية و البركات الكثيرة للإيمان و العمل.

و من الأمور التي تعتبر من معالم أداء حق الصلاة هو إعمار المساجد و ازدياد صلوات الجماعة، الأمر الذي يعني بروز بركات الصلاة و معطياتها على مستوى التعاون و التكاتف الإجتماعي.

و لا شك أن هذه الفريضة بالرغم من اعتمادها الكامل على العمل الباطني أي التوجه و الذكر و الحضور القلبي، إلاّ أنها كباقي الواجبات الدينية الاخرى لها إشراف كامل على جميع نواحي حياة الإنسان و ليس جانبا منها، أي أنها لا تختص بالجانب الفردي و الشخصي من حياة الإنسان.

فحينما تطرح مسألة النشاط الجماعي فإن الصلاة باعتبارها أكثر العبادات الجماعية حرارة و هيجانا ستأخذ على عاتقها دورا كبيرا في تلك المسألة، و مظهر هذه الخصوصية هي صلوات الجماعة الخمسة و صلاة الجمعة و صلوات العيد(1).

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إيّاكم و تخشّع النفاق، و هو أن يرى الجسد خاشعا و القلب

ص: 100


1- من كلمة ألقاها في 25 ربيع الأول 1415 ه

ليس بخاشع»(1).

المقصود من الخشوع في هذا الحديث هو الخشوع للّه تعالى.

فالإنسان في حال الصلاة أو الدعاء أو الذكر إذا كان يحسّ و يشعر بالخشوع عند ما ينظر إليه و يتوهّم ذلك أنّ قلبه خاشع و خاضع أيضا و لكنه في الباطن لا أثر لذلك الشيء أبدا، فهذا الخشوع هو خشوع النفاق.

و قد نقل في بعض أدعية الصحيفة السجّادية هذا المضمون بقوله عليه السّلام: «اللّهم ارزقني عقلا كاملا، و عزما ثاقبا، و لبّا راجحا، و قلبا زكيّا، و علما كثيرا، و أدبا بارعا و اجعل ذلك كله لي، و لا تجعله عليّ برحمتك يا أرحم الراحمين»(2).

فإنّ اللبّ الراجح يستفاد منه أن الإنسان لديه قشر أيضا، و القشر هو الظاهر و اللبّ هو الباطن، فإذا كان القشر راجحا و خاشعا و ذاكرا بينما اللّب غافلا و غارقا في المادّيات فهذا الأمر مذموم جدا.

نسأل اللّه تعالى أن يجعلنا من ذوي اللبّ الراجح(3).

ص: 101


1- تحف العقول، صفحة: 60.
2- الصحيفة السجادية: 177.
3- كلمات مضيئة: 197.

ص: 102

الصبر

ما هو الصبر؟

الصبر قد يتخذ تارة طابعا ذاتيا محضا؛ و يشار إليه بصفته خلقا إسلاميا و حكما أخلاقيا و روحيا فرديا صرفا؛ أي أنّ الصبر عند المصائب فضيلة.

و قد يدور الحديث تارة اخرى عن الصبر على مستوى مجتمع يواجه مختلف الضغوط و المصاعب و العراقيل، و حينها ينبغي على الأفراد التمسك بالصبر عند هذه الموانع و الشدائد، و هنا يتخذ الحديث عن الصبر طابعا آخر، إنّ حقيقة الصبر هي واحدة، إلاّ أنّ كيفية طرح الموضوع هي المهمة.

و أساس الفارق هو أنّه في عهد حاكمية الإسلام يمثل الدين مجموعة نظم الحياة، و من بينها السياسة و إدارة الحكومة و العلاقات الخارجية و مواقف المسلمين أزاء التيارات السائدة في العالم، و القضايا الإقتصادية، و علاقات الأفراد في ما بينهم، و التمسك بالأخلاق في مختلف جوانب الحياة(1).

تعريف الصبر

يعرف الصبر عادة أنه تحمل الآلام و المرارات و هذا التعريف و الفهم يمتزج

ص: 103


1- من كلمة ألقاها في: 25 ذي الحجة 1417 ه.

بالإبهام و الغموض الى حدّ كبير بحيث يسمح لكل من يريد أن يوجهه الى معان مختلفة، بل متضادة فإذا طرح الصبر في مفهوم الظلم و القهر و الفساد و الإنحلال يتحول الى عامل يستخدمه الظالمون و المفسدون للاستمرار في السيطرة و القمع، و يصبح عاملا مساعدا للركون و التخلف و بقاء الفساد.

و عند ما يطلب من شعب يعاني الفقر و الحرمان أن عليك الصبر و هو غائض في مستنقع الضياع أو غارق في المظالم التي تسبب بها زمرة الظالمين فإنّ أول ما يفهم من هذه الموعظة تحمل المرارات و الآلام و الظروف القاسية المهلكة التي تمارس و تفرض عليهم. و النتيجة الركون و عدم التحرك نحو الثورة ضد الأوضاع السيئة بل سيتوهم بأنه مأجور و مثاب عند اللّه تعالى على هذا الصبر.

لكن المدقق في الروايات و الآيات و المعارف و التعاليم الإسلامية يدرك أن للصبر معنى آخر:

الصبر هو مقاومة الإنسان المتكامل (السالك طريق الكمال) للدوافع الشريرة المفسدة و المنحطة.

و يشبّه لذلك بشخص يريد تسلق جبل فأثناء تسلقه للوصول الى القمم العالية تعترضه موانع و صعاب تحدّ من حركته.

و هذه الصعاب منها ما يرجع لنفسه كطلب الراحة و الخوف أو اليأس من الوصول الى الهدف، و منها ما يرجع الى عوامل خارجية كالصخور الضخمة و الذئاب و الأشواك و أمثالها.

فهل يتراجع لهذه العوامل أم يقاوم للوصول الى القمم بالاعتماد على عوامل المثابرة و التحمل؟.

فالإنسان في حقيقة حياته في هذا العالم جعل في طريق ليسلكه نحو الوصول الى أعلى منزلة من المنازل الإنسانية، و لأجل تحقق هذا الهدف خلق لأجله كل ما يعينه عليه، و كل هذه الوظائف الملقاة على عاتقه و التكاليف التي كلف بها تعد وسائل

ص: 104

القرب و مراحل السير نحو الهدف المنشود. و لم يكن المجتمع الإسلامي الذي هو أول هدف للدين الإلهي و الأنبياء العظام عليهم السّلام إلاّ لأجل بناء ذلك الإنسان الواصل و صناعته فهم صلوات اللّه عليهم كانوا يريدون إيجاد المناخ المناسب لتمكين الإنسان من سلوك هذا الطريق بيسر للوصول الى تلك الغاية.

و بالطبع يوجد في هذا الطريق الذي هو صعب مليء بالمتاعب موانع و حواجز كثيرة، على الإنسان أن يقطعها و يجتازها، و إن كل مانع منها يكفي لوحده لإيقاف هذا المتسلق نحو قمة الكمال و الرقي و منعه من متابعة سيره.

فمن جانب باطن الإنسان يوجد كل تلك الصفات و الخصال السيئة و الرذيلة، و يوجد الكسل و روحية القيام بما هو سهل فقط و حب النفس و الغرور و الحرص و غير ذلك من الموانع.

فالصبر هنا يعني مواجهة و مقاومة كل هذه الموانع بإرادة صلبة و عزم راسخ يضع كل هذه العقبات جانبا.

بالإضافة للعوامل الخارجية التي تجلب المتاعب و الآلام و تعتبر مجموعة من الاشواك و العقبات في هذا الطريق، كأجواء البيئة و الأنظمة الاجتماعية الحاكمة المانعة من أداء الإنسان للتكاليف الإلهية البناءة الفردية منها كالعبادة أم الإجتماعية كالسعي لإعلاء كلمة الحق تعالى.

و إن ما يبطل تأثير العوامل السلبية و يضمن القيام بكل التكاليف الإلهية و استمرار السير على الطريق الصحيح هو المقاومة الإنسانية أو مواجهة الإنسان للموانع المذكورة هذه المقاومة أو المواجهة هي التي تعني الصبر.

و لك أن تقول: الصبر هو المقاومة و الثبات في مواجهة العوامل الصعبة و الشاقة التي تعترض المجاهد في ساحة الحرب أو القتال لتثنيه عن الاستمرار، قال تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صٰابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا

ص: 105

بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاٰ يَفْقَهُونَ (1) .

و قال رَبَّنٰا أَفْرِغْ عَلَيْنٰا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدٰامَنٰا وَ اُنْصُرْنٰا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكٰافِرِينَ (2).(3).

الصبر على الحرام

من وصيّة الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، إنّ العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره، و لا يغلب الحرام صبره»(4).

الإنسان العاقل هو الذي إذا اكتسب نعمة من طريق حلال لا تشغله هذه النعمة عن شكر اللّه تعالى، و لا الأمر الحرام يغلب صبره و تحمّله.

و من أقسام الصبر و فروعه الصبر على المعصية، بمعنى أنّ الإنسان العاقل عند ما يواجه و يقف أمام المال الحرام لا يغلبه هوى نفسه الأمّارة فلا يمدّ يده إلى هذا المال(5).

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «إصبر على أعداء النعم، فإنّك لم تكافىء من عصى اللّه فيك بأفضل من أن تطيع اللّه فيه»(6)

بعض الناس ليس لديهم المقدرة على تحمّل رؤية النعم الإلهية عند الآخرين بل يحسدونهم عليها، و بتعبير الرواية يكونون أعداء النعم التي يهبها اللّه للآخرين.

و هذا النوع من الناس غالبا ما يقومون بتحطيم و إتهام و غيبة و إهانة أصحاب النعم.

و الرواية هنا مفادها الأمر بالصبر في مقابل أذى و إضرار هؤلاء الناس (أعداء النعم)

ص: 106


1- سورة الأنفال: 65.
2- سورة البقرة: 250.
3- بتصرف عن بحث حول الصبر، نشر مركز بقية اللّه الأعظم/الدار الاسلامية.
4- تحف العقول، صفحة: 386.
5- كلمات مضيئة: 89.
6- الخصال، باب الواحد، ح: 71.

و الأمر بإطاعة اللّه عزّ و جلّ فيما يرتبط بهم.

أي أنه يجب على الأنسان أن لا يتعامل معهم بالمثل فلا يهينهم و لا يعاديهم و لا يقول فيهم سوءا، فإنّ هذا الشيء أفضل عقوبة و مجازاة لهم على صنيعهم.

و السرّ في كون ذلك أفضل العقوبة و المجازاة لهم هو أنّ كلا هذين الصنفين من الناس سوف يقفون في محضر اللّه تعالى يوم القيامة، فإذا لم تكن قد أسأت إليهم فأنت لك حق عليهم و اللّه سبحانه و تعالى سوف يأخذ لك حقّك منهم.

و هناك وجه آخر لهذه المسألة و هو أنّ - و طبقا لما يستفاد من التجارب في هذا المضمار مضافا إلى كلمات الأعاظم أيضا - اللّه سبحانه و تعالى سوف يجازي أهل الحسد في هذه الدنيا بينما المحسودون الذين صبروا و تحمّلوا سوف يثيبهم و يعطيهم الأجر و الثواب اللائق بهم(1).

صبر الإمام الحسين قلّ نظيره

إنّ الحياة الكريمة لا بدّ و أن يكتنفها الكثير من المصائب. و ساحة الطف الحسيني بذاتها كانت مسرحا لمصائب شتى. و إنه لمن العجيب حقا كيف أنّ اللّه عزّ و جلّ جعل أرض عاشوراء الحسين مسرحا لمجموعة من المصائب الكبرى و منح اناسا عظاما و في مقدمتهم أبو عبد اللّه الحسين عليه الصلاة و السّلام القدرة على تحمل هذه المصائب الكبرى بإباء و شموخ و صبر و شكر.

و إن ما جرى يوم عاشوراء فريد في تأريخ الإنسانية في كلا بعديه؛ فلم تشهد الإنسانية على مدى حياتها واقعة تجسدت فيها كل هذه المصائب مجتمعة و بهذا القدر من الشدّة و التنوع خلال برهة زمنية امتدت من الصباح حتى العصر، و كذا في البعد الثاني، فالصبر الذي جوبهت به تلك المصائب كان فريدا من نوعه أيضا.

ص: 107


1- كلمات مضيئة: 90.

لقد تجلّت في تلك الواقعة ألوان من الظلم و التقتيل و مشاعر الغربة و العطش، و كذا الآلام التي يكابدها الإنسان في سبيل عائلته، و القلق الذي يتنابه خوفا من المجهول، و ما تلاه من فقدان أعز الأنفس في عالم الوجود - أي الحسين بن علي و أهل بيته و أبنائه و أصحابه عليهم السّلام - و ما جرى عليهم من السبي على يد اناس أراذل بعيدين عن قيم الشرف؛ و يا ليت سبيهم كان على يد اناس أشراف؛ فالسبي على يد اناس أشراف يهوّن من وقع المصيبة، و لكنهم سبوا على يد اناس عديمي الشرف و هم أقرب إلى صفة الوحوش الكاسرة منهم إلى صفة الإنسانية.

و بعد ذلك العذاب المتواصل من الصباح حتى المساء، ناء أهل بيت الإمام الحسين عليه السّلام بمصيبة السبي التي وقعت أعباؤها على عاتق الإمام السجاد عليه السّلام - إمام زمانه - و على العقيلة زينب عليها السّلام - التي تأتي مكانتها بعد مقام الإمامة - ثم على النساء و الأطفال الذين لا يتصفون على الظاهر بمقامات معنوية عالية من قبيل الولاية و الإمامة، إلاّ أنهم تحملوا مرارته. و هذه هي العظمة التي خلّدت واقعة عاشوراء.

لا ريب أن أية فئة تقاسي المصائب في سبيل أهداف و غايات نبيلة و سامية و مقدسة - لا أن تكون مجرد غايات تافهة و عقيمة - و تتحملها بصبر و صلابة، يكون لها نصيب من تلك الفضائل.

و هذا هو السبب الذي يجعلنا ننظر بإجلال و إكبار لعوائل الشهداء و الأسرى و المفقودين و المعوّقين و لذات المعوقين و الأسرى، فالشعب و التاريخ لا يسجل منقبة لفئة من الناس دونما سبب، فلو لا الصبر لما تحققت هذه الفضائل(1).

ص: 108


1- من كلمة ألقاها في: 14 محرم 1418 ه
الصبر عند أمير المؤمنين عليه السّلام و أثره

غالبا ما تحمل الشخصيات التاريخية العظمى بعض الخصائص منذ شبابها، بل منذ صباها أو أنها تخلق تلك الخصائص في ذاتها. إنّ بروز الناس الكبار و المرموقين تقوم عادة على جهود طويلة المدى، و هذا ما نراه في حياة أمير المؤمنين عليه السّلام. فأنا ألاحظ من خلال استشراف المسار العام لحياته المليئة بالمنعطفات أنه كان يتحلى منذ مطلع شبابه و حتى شهادته بصفتين هما البصيرة و الصبر، فهو لم يقع و لا حتى لحظة واحدة فريسة للغفلة و سوء الفهم و الإنحراف الفكري أو الخطأ في فهم الحقائق. فمنذ أن خفقت راية الإسلام بيد الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله إنطلاقا من غار حراء في جبل النور و جرت على لسانه كلمة «لا إله إلاّ اللّه»، و صدح مبشرا بالنبوّة و الرسالة، استطاع علي بن أبي طالب عليه السّلام تشخيص هذه الحقيقة الوضّاءة و ثبت على موقفه ذاك و ألف كل ما نجم عن ذلك الموقف من مشاكل و صعوبات. فإن تطلّب جهدا، بذل له جهده، و أن تطلّب حربا حارب من أجله، و إن استلزم تضحية، وضع روحه على طبق الإخلاص و نزل إلى الميدان، و إذا استدعى عملا سياسيا و نشاطا إداريا و حكوميا، أدّاه خير أداء. و لم يكن في معزل عن الوحي و البصيرة حتى لحظة واحدة.

لقد تمسك و ثبت على هذا الصراط المستقيم. و لا شك في أن الصبر و الثبات و الجهد الذي لا يعرف الكلل و عدم مطاوعة الأهواء النفسية التي تميل بالمرء إلى التكاسل و ترك العمل، تعد صفات بالغة الأهمية.

ص: 109

إستلهام الصبر من أمير المؤمنين عليه السّلام

أجل، إن عصمة أمير المؤمنين عليه السّلام غير قابلة للتقليد، و شخصيته لا يمكن أن تقارن بها شخصية أخرى. و كل شخصية عرفناها في بيئتنا أو في تاريخنا إذا أريد مقارنتها بشخصية أمير المؤمنين عليه السّلام تكون كمقارنة ذرّة بالشمس - إذ لا وجه للمقارنة بينهما - بيد أنّ هاتين الصفتين - الصبر و البصيرة - اللتين كانتا في أمير المؤمنين عليه السّلام يمكن تقليدهما و الاحتذاء بهما، فلا يمكن لقائل أن يقول إن أمير المؤمنين عليه السّلام كان يحمل صفتي الصبر و البصيرة إنطلاقا من كونه أمير المؤمنين. فعلى الجميع السعي لاكتساب هاتين الصفتين و التقرب بهما - كل حسب همّته و كفاءته - من أمير المؤمنين عليه السّلام.

اعلموا يا أعزائي أن كل مشكلة يقع فيها الأفراد أو الجماعات ناجمة عن واحدة من هاتين الصفتين؛ إما إنعدام البصيرة و إمّا إنعدام الصبر. فإمّا أنهم يغفلون و يعجزون عن تشخيص الحقائق و فهمها، و إما أنهم مع فهمهم لها يعجزون عن الصمود بوجهها.

و لهذا السبب نجد تاريخ البشرية حافلا بالمحن الكبرى للشعوب، و طافحا بغلبة الأقوياء على الشعوب الغافلة و العاجزة عن الصمود و ذلك نتيجة لوجود واحدة من هاتين الصفتين أو كليهما معا.

فقد تمر على بعض الشعوب عشرات أو حتى مئات السنين تبقى خلالها رازحة تحت سيطرة قوّة كبرى، و لكن لماذا توجد هذه الحالة؟ ألم يكن لشعوبها شعور إنساني؟ بلى، كان لهم و لكنهم إما كانوا يفتقدون البصيرة، أو أنهم إذا كانت لهم بصيرة، لم تكن لهم قدرة على الصبر. أي أنهم كانوا يفتقدون إما للوعي أو للقدرة على الثبات و الصمود.

ص: 110

إستفادة إيران من صبر أمير المؤمنين عليه السّلام

و كلما أوغلنا في العهود التي سبقت الثورة ندرك مدى فداحة المحنة و الذل و التعاسة و شتى ألوان الضغوط التي كانت تمارسها الطبقات الحاكمة و السلطات المستبدة، و مدى الغطرسة و الاستخفاف الذي كانت تمارسه القوى الأجنبية في بلدنا.

لقد مرّت على هذا البلد عهود من السيطرة البريطانية تارة، و الروسية تارة أخرى، ثم كلاهما معا تارة ثالثة، ثم أخيرا السيطرة الأمريكية و كان كل ما تقرره تلك القوى يجري على هذا الشعب.

في وقت كان شعبنا هو هذا الشعب نفسه و يتصف بنفس هذه الطاقات و الكفاءات التي ازدهرت اليوم و أشرقت لدى شبابنا كاشراقة الشمس و الكواكب. إلاّ أنّه كان حينذاك على قدر ضئيل من البصيرة و الصبر بسبب وجود الحكومات غير الكفوءة و ما كانت تشيعه من تربية مغلوطة. و حينما ظهرت بين أبنائه شخصيات واعية فاهمة حكيمة، و ظهر شخص كالإمام الخميني نفخوا في هذا الشعب روح البصيرة و حفّزوه على الصبر و أشاعوا بينه مفاهيم ثُمَّ كٰانَ مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ تَوٰاصَوْا بِالصَّبْرِ وَ تَوٰاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (1).

فنجم عن ذلك انبثاق هذا البحر الهادر و وضعت نهاية لحقبة تاريخية مليئة بالذلة و المحن، و قطع دابر التسلط الأجنبي على هذا البلد.

و يعود سبب ذلك إلى أن أبناء هذا الشعب و شبابه و مسؤوليه و قادته استلهموا درس البصيرة و الصبر من أمير المؤمنين عليه السّلام.

ص: 111


1- سورة البلد: 15.
أهمية الصبر في المجتمع

إذن فهاتان الخاصيّتان على هذا القدر من الأهمية. كما أنّ الذين يمسكون بزمام القوى السياسية السلطوية و يترأسون الشركات الإقتصادية و يديرون الأجهزة الدعائية السرطانية و الشبكات الإعلامية النفعية الهائلة، إنما يسيطرون على الشعوب الاخرى بواسطة واحدة من هاتين الخاصيّتين، أو يحاولون سلبها بصيرتها و إبقائها في حالة سبات و غفلة. و إذا لم يتأت لهم سلبها بصيرتها كليا، يحاولون على الأقل سلبها تلك البصيرة في مورد معيّن و في قضية خاصة تحظى لديهم بالأهمية، أو يحاولون أن يجعلوها عاجزة عن الصبر و التحمّل.

و قد تصاب الشعوب و الجماعات أحيانا بفقدان الصبر أثناء سيرها على النهج الصائب، و هي حالة مبعثها التلقين؛ أي أنّ هذه من الأشياء التي يمكن تلقينها للشعوب. و يجب أن تعلموا أن الشبكات الدعائية تنفق اليوم المليارات من أجل تلقين الشعوب هذه المفاهيم و جعلها إما عاجزة عن التشخيص السليم أو مسلوبة القدرة على الصبر و الصمود. و السبب الكامن وراء عداء الإستكبار العالمي و على رأسه أمريكا، للإسلام و حاكميته هو أنها طرحت و مهدت الأجواء لوعي عالمي شامل(1).

ص: 112


1- من كلمة ألقاها في: 13 رجب 1419 ه - طهران.
نماذج من صبر الأولياء و أثره

إن صبر الإمام الخميني "رضوان اللّه عليه" شبيه بصبر الإمام الحسين "عليه الصلاة و السّلام" في الاستقامة و الثبات على مواصلة الدرب و ديمومة المهمة و عدم التراجع.

إن صبر الإمام الحسين عليه السّلام هو الذي صان الإسلام على مر التاريخ حتى يومنا هذا؛ و في الحقيقة لو أن الإمام الحسين عليه السّلام لم يصبر ذلك الصبر التاريخي في كربلاء و قبيلها و أثناء ما سبق واقعة عاشوراء فلا شك في عدم بقاء اسم للإسلام بمرور قرن واحد من الزمان، بيد أن الإمام الحسين عليه السّلام أحيا الدين ببركة صبره الذي لم يكن صبرا هينا.

فالصبر ليس أن يتعرض الإنسان للتعذيب أو يعذبوا أبناءه أو يقتلوهم أمام عينيه و يصمد الإنسان - و هذه بالطبع مرحلة مهمة من الصبر - غير أن الأهم من ذلك الوساوس و التصريحات التي تبدو بظاهرها في نظر البعض منطقية فتصد المرء عن مواصلة الطريق، و ذاك ما فعلوه مع الإمام الحسين عليه السّلام، فقالوا له: إلى أين أنت ذاهب؟ إنك تعرّض نفسك للخطر؛ و تعرض أهلك للخطر، و تدفع العدو لأن يتجرأ و تتطاول أيديهم على دمائك.

و كل من يأتي عند الإمام الحسين عليه السّلام يضع إرادة الإمام في مواجهة هذا المحظور الأخلاقي و هو أنك بخطوتك هذه إنما تخاطر بأرواح فئة من الناس و تجعل العدو أكثر تسلطا و تدفعهم لأن يلطخوا أيديهم بدمائك. و هذه قضية على قدر كبير من الأهمية و يثير التردد.

إنها حرب غير واضحة المعالم أن يقول المرء إنني ذاهب كي أقتل، فثمة محاذير من ورائها، و ربما كانت معلومة بالنسبة للإمام الحسين عليه السّلام أو أثير عنده أن إذا قتلت سيبادرون لإبادة شيعتكم في الكوفة، فيجب أن تبقى حيا لتكون ملاذا لهم، فأنت

ص: 113

سبط النبي صلّى اللّه عليه و آله، و بالمحافظة على حياتك تحافظ على حياة مجموعة من الناس، و قد تكرر هذا بعينه مع الإمام الخميني رضوان اللّه عليه.

لست أنسى اعتقال الإمام بعد واقعة الخامس عشر من خرداد و وقوع ذلك الحدث الدامي، فقال لي أحد مشاهير الأعلام و من الشخصيات البارزة: هل إن هذا عمل صحيح، إذ أن كل هؤلاء الشباب الذين تعج بهم البلاد و هم في غالبيتهم فاسدون و الأفضل بينهم هم المتدينون، و خيرة المتدينين هم الذين نزلوا إلى الشوارع، و إن فلانا بحركته هذه قد وضع الخيرة أمام حراب العدو فأريقت دماؤهم! أ منطق هذا؟

من يتغلب على هذا المنطق و يلتزم الصبر أزاء هذا المنطق الرهيب يكون قد صبر صبرا عظيما، و إنه لصبر الإمام الحسين عليه السّلام الذي تحلّى به الإمام الخميني (ر ض).

و تكرر هذا الصبر و صمد الإمام أثناء الحرب و مختلف الأحداث التي مرّت بها البلاد، و الصبر هو الذي خلق هذه العظمة و أقام هذه الخيمة، إن صبر الإمام "رضوان اللّه عليه" و صبر الشعب و طليعته الذين و اكبوا الإمام هو الذي حقق لنا الظفر.

العدو يحاول تحطيم هذا الصبر، و يطرح القيم أو المصالح الخيالية الموهومة التي عاقبتها التقاعس أمام أمريكا، أي أن نستسلم لأمريكا، و هذا خطر كبير، و لا بد من توخي الحذر لئلا يتسلل الشك إلى إرادة المسؤولين و صفوة البلاد و طليعتها طمعا في المصالح الموهومة. و يقال إن العدو عنجهي و قوي و لديه الأموال و الصواريخ و الذرة و الإعلام، فما الضير في أن نتراجع خطوة واحدة إلى الوراء لعله يسكت عنا؟!

إنه لن يترككم و شأنكم أبدا بتراجعكم خطوة إلى خلف، فهو يعارض أصل وجودكم «وجودك ذنب لا يقاس به ذنب»(1). فأصل الإسلام و حاكميته مما يرفضه العدو، فكيف تتصالحون مع مثل هذا العدو الذي يرفض أصل وجودكم؟!(2)

ص: 114


1- أنظر تفسير الألوسي: 213/17.
2- من كلمة ألقاها في: 29 ذي الحجة 1422 ه/طهران.
آثار الصبر
اشارة

للصبر عدة آثار و نتائج نذكر منها:

1 - الثبات و النصر

يقول أمير المؤمنين عليه السّلام في إحدى كلماته الملهمة للحكمة: «لا يعدم الصبور الظفر و إن طال به الزمن»(1).

و في حديث آخر يبيّن لنا عليه السّلام هذا المعنى بعبارة أخرى قائلا: «من ركب مركب الصبر اهتدى الى ميدان النصر»(2).

و في حرب صفين قال عليه السّلام في خطبة يحث و يعبىء الجند: «و استعينوا بالصدق و الصبر فإن بعد الصبر ينزل عليكم النصر»(3).

فهل حقا أن النصر و الثبات موجب للوصول الى الهدف؟ و إذا كانت هذه قاعدة عامة و قانونا ثابتا لا يقبل التخلف لماذا نشاهد طوال التاريخ أفرادا أو جماعات لم يصلوا الى أهدافهم مع أنهم كانوا في ميادين العزة يبذلون ما ينفع الثبات و المقاومة، و لم يحققوا النصر أو يذوقوا حلاوته؟.

ص: 115


1- نهج البلاغة: 40/4 ح 153.
2- بحار الأنوار: 96/68 ح 61.
3- الكامل في التاريخ: 297/3.

في صدر الإسلام يوجد حوادث ليست بالقليلة شاهد على هذا الأمر مثل ثورة الإمام الحسين عليه السّلام في عاشوراء، و مثل شهادة زيد بن علي عليه السّلام، و ثورة التوابين و غيرهم...

و لكي يتضح الجواب عن هذا السؤال الذي يطرحه بعض الناس نحتاج الى شيء من الدقة، فلعل هؤلاء الناس الذين يطرحون مثل هذا التساؤل و يعتبرون هذه الأحداث التاريخية التي لم تثمر أو تصل الى غايتها بحسب الظاهر هي أمور تنقض هذا القانون العام (قانون الصبر و الظفر).

إنّ هؤلاء لم يدركوا بشكل صحيح هدف و غاية كل واحد من هذه الحوادث و الوقائع، و التي يكون تحقيقها لهذا الهدف أو تلك الغاية هو الإنتصار و الفوز.

لهذا لا بدّ من الإجابة - بإختصار - أولا عن هدف هذه الحوادث التاريخية ليتضح أن أصحابها لم يهزموا أصلا.

و كمقدمة ينبغي أن نلتفت الى أن الأهداف تختلف من حيث قربها و بعدها عن التحقق، فبعضها تكون نتيجتها سريعة و قريبة، و الآخر يحتاج الى أزمنة طويلة كغرس نبتة و تأمين كل ما تحتاجه حتى تنمو و تثمر.

فإذا توفرت هذه المقدمات و لم يحصل أي تقصير في إعدادها من خلال مواجهة العوامل السلبية المفسدة فإنها ستثمر حتما.

و لكن بعض الأشجار مثلا تحتاج الى أكثر من عشر سنوات لتعطي الثمار المطلوبة.

نعم المزارع يعتني بهذه الشجرة سنة بعد سنة و يراها تقترب من بلوغ هدفها الى إثمارها لكن المراقب عن بعد و بعد مرور سنتين مثلا يخطّىء المزارع انطلاقا من اليأس، لأن الشجرة لم تثمر بعد سنتين، و يقول أين الظفر بعد الصبر؟.

و هكذا بالنسبة لثورة عاشوراء و كل الوقائع التي كانت إمتدادا لها، فقد حققت كل أهدافها.

ص: 116

فهذه الوقائع كانت كل واحدة خطوة ناجحة باتجاه القضاء على السلطات الغاصبة و إقامة المجتمع الاسلامي المنشود، و لا شك أنه بعد هذه الخطوات الأولى لو استمر اللاحقون بالمسيرة لتحققت الغاية المطلوبة من وراء مجموع هذه المساعي و التحركات، أما أن نتوقع تحقق مثل هذا الهدف من شخص واحد أو عدة أفراد في مرحلة ما فإنه في غير محلّه.

و في المثال المتقدم يمكن أن نقول لذلك المشاهد القليل الصبر و الخبرة: إن أولئك الذين أدركوا متاعب المزارع و أشرفوا على هذه الأعمال يعلمون جيدا أن كل يوم يمضي و كل ساعة ستكون مفيدة و منتجة، و هم يدركون نتائج الصبر في كل لحظة قبل أن تأتي أختها.

فمرور سنتين من العمل يعني اقتراب الغرسة من النضج، و لو لم يكن هذا السعي في هذه السنتين مثلا لتأخرت الثمار سنة أو أكثر و لعله يضيع الهدف النهائي و لا يصل الى المطلوب، فهل الواقع غير ما ذكرنا؟.

و الى جانب هذه الحقيقة يوجد حقيقة أخرى و هي أنه بعد بروز مانع يمنع المزارع الحريص الصبور من الإستمرار في عمله إذا لم يتابع مزارع آخر عمله و لم يكمل أعمال السنة الثالثة و الرابعة مثلا فإن هذا الغرسة أو الشجرة لن تنضج أبدا.

و لا شك أن نتيجة الصبر في السنة الأولى قد حصل، كما أنّ قلع أو قطع شجرة متجذرة أو إزالة صخرة كبيرة بدون التجهيزات اللازمة و اليد القوية ليس ممكنا، و لن تعطي أية نتيجة بدون وجود الصبر.

و لو أنجزت أول يدّ قوية و صبورة المقدمات الأولى اللازمة و بسبب مانع ما توقفت ثم أكملت الأيدي الأخرى العمل فإنها ستقترب نحو النتيجة المطلوبة.

و قد قام زيد بن علي عليه السّلام بسبب ظهور علامات نصر و لكنه لم ينتصر و إنما حقق ما كان متوقعا من مثل نهضته - بزمانها و مكانها و ظروفها - فإن قيامه و استشهاده كان ضربة على الصخرة الصلبة لحكم بني أمية، هذه الصخرة التي يتطلب تحطيمها عدة

ص: 117

ضربات متتالية، و عند ما توالت الضربات على أثر تلك الضربة انهارت هذه الصخرة السوداء التي كانت تجثم على صدر الأمة الإسلامية.

و لا شك بأنه لو لم تكن الضربة الأولى لما حققت الضربات اللاحقة مطلوبها أو أنها ما كانت لتحدث تلك الضربات.

و كأن الحديث يشير الى ما نتحدث عنه بأن شهادة الحسين بن علي عليه السّلام كانت سببا لسقوط التيار السفياني و شهادة زيد بن علي عليه السّلام سببا لسقوط الحكم المرواني(1).

و من هنا يتضح أن النصر و الثبات أحد آثار الصبر كما أشارت الروايات المتقدمة عن أمير المؤمنين عليه السّلام.

ما أشعر به هو أن الوعد الإلهي لنا ما زال صادقا و عمليا على امتداد تجربتنا الشخصية و القصيرة المدى قال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ (2).

فحيثما تمسكنا بالتقوى و الصبر و الثبات فإن اللّه تعالى لم يضيّع أجرنا، لكننا متى ما أبدينا انهزاما تلقينا صفعة و وقع التزلزل، و هكذا الحال الآن.

و قد خاطب اللّه سبحانه و تعالى نبيه قائلا: فَاسْتَقِمْ كَمٰا أُمِرْتَ (3) و الإستقامة تعني الثبات على الصراط المستقيم و الإصرار و عدم الانعطاف، و على هذا المنوال يأتي علاج المشكلات التي نعاني منها، و علينا أنا و أنتم أن نضع هذا الأمر في الحسبان(4).

ص: 118


1- بتصرف عن بحث حول الصبر، نشر مركز بقية اللّه الأعظم/الدار الاسلامية.
2- سورة يوسف: 90.
3- سورة هود: 112.
4- من كلمة ألقاها في: 1424/6/7 ه - طهران.
2 - الأثار النفسية للصبر

و ما نقصده من الآثار النفسية هو تلك الآثار التي تتجلى في نفس الشخص الصابر، و تعود عليه بنتائج داخلية قبل تحقق النتائج الخارجية.

و أول تأثير إيجابي و بنّاء للصبر هو أن الصابر يزداد قوة و عزما و يشتد رفضه للهزيمة و الإنكسار مثل حال التمارين الصعبة، و هذه الحالة شاملة لكل الأمور و القضايا في الحياة سواء دنيوية أو أخروية...

إننا نجد الناس عند حدوث المصائب في حياتهم كالخسائر المادية و الأمراض و الآلام و الموت... لا يصبرون بل يستسلمون و يجزعون، و هكذا عند ما تواجههم العوائق و الموانع العديدة فإنهم ينسحبون.. و في المقابل من يصبر منهم و يستفيد في كل حادثة من سلاح الصبر القاطع يكتسب قوة إضافية و قدرة أعلى عند مواجهة مشاكل الحياة.

و نستطيع أن نشبه الإنسان العديم الصبر بالجندي الذي ينزل الى ساحة المعركة بدون درع واق، فمثل هذا الجندي سيسقط عند أول ضربة يوجهها له العدو.

بينما الإنسان الصبور يشبه الجندي الذي يحمل درعا يقي كل جسمه و هو يمتلك العدة اللازمة.

و الذي لا ينهزم في معترك الحياة هو الذي استعد لها مسبقا و لبس لها درع الصبر الواقي الذي لا يقبل الهزيمة.

و مثله لن يضعف أو يقبل المهانة، و لن ينزعج من مواجهة المصاعب و الآلام التي ينبغي توقعها أثناء سيره نحو الكمال و السعادة، و قلبه لن يسقط و أقدامه لن تتزلزل، و بهذا البيان الواضح يمكن لنا سبر أغوار هذا الإلهام الاسلامي العميق الصادر عن

ص: 119

الإمام الصادق عليه السّلام حيث يقول: «قد عجز من لم يعد لكل بلاء صبرا»(1).

و هذا ما يمكن أن نشاهده في صلابة الرجال العظام الذين صنعوا التاريخ و على رأسهم الأنبياء و أهل البيت عليهم السّلام الذين تحملوا في البداية كل أنواع العذاب و صنوف الأذى من الطغاة و مع ذلك انتشرت دعوتهم في كل الأرجاء و كان لها أثر كبير و لم يكن ذلك إلاّ بالصبر الذى أعدّوه لمواجهة تلك الموانع و العقبات فأوجدوا في أنفسهم روحا لا تهزم.

و كان أعداؤهم في الكثير من الموارد يتمتعون بالإمكانات الكبرى و لكنهم تعبوا و عجزوا، فقد كان المتوكل العباسي هذا الأمبراطور المتجبر يقول: «لقد أتعبني ابن الرضا».

فكيف استطاع الإمام علي بن محمد الهادي عليه السّلام الذي قضى معظم أيام حياته تحت الضغوط التي مارسها عليه المتوكل أن يتعب هذا الحاكم المتسلط.

حينما يكون أحد المتحاربين ضعيفا بلحاظ الإمكانيات المادية و يقضي معظم أيامه في السجن - كما حصل مع بعض الأئمة عليهم السّلام - و البعد عن الأمن و الراحة لكنه لا يتململ و لا يتعب أمام كل الضغوطات و الشدائد و يستمر رغم كل العوائق و الموانع الموجودة على طريقه الذي يتطلب سعيا طويلا، فمن الطبيعي أن يجعل خصمه تعبا و محبطا حتى و إن كان هذا الخصم يتمتع بكل الامكانات المادية و القدرات كالمتوكل، و ذلك لأنه لا يمتلك روحية الإيمان بالسعي و الهدف.

هذه هي الخاصيّة العجيبة للصبر التي تجعل الإنسان لا يقبل بالهزيمة.(2)

ص: 120


1- مستدرك الوسائل: 423/2 ح 2351.
2- بتصرف عن بحث حول الصبر، نشر مركز بقية اللّه الأعظم/الدار الاسلامية.
3 - بروز و إظهار القوى الكامنة

الإنسان غالبا لا يستطيع أن يقيّم نفسه قبل الامتحان و الاختبار، و هو بذلك لا يعرف الكثير عن القوى الكامنة فيه، و على سبيل المثال إذا كان هناك رجل قوي بطبيعته و لكنه لا يؤدي التمارين و لا يقوم بأي نشاط كأن يرفع حملا ثقيلا يختبر به قوته، فمن الطبيعي أن يجهل هذا الإنسان قواه و مميزاته الجسمانية.

إنه يقدر على اكتشاف قوته حينما يطلب منه القيام بعمل يحتاج الى قوة، و هنا ندرك أثر الصبر لأنه يجعل الإنسان الصابر المقاوم في مختلف مجالات الحياة مطلعا على موازين قوته و القدرات الايجابية الكامنة فيه، التي لا تظهر في الحياة العادية الهادئة.

هذا الأمر يدركه جيدا كل الذين ذاقوا طعم الشدائد و تعرضوا للضغوطات و المحن أثناء سيرهم نحو أهدافهم على أساس معتقداتهم الشريفة، أمثال هؤلاء يشاهدون تلك الفتوحات و الانجازات في ذواتهم أثناء مواجهة المخاطر و الصعاب التي يظن الفرد العادي أنها لا تقاوم. و ينالون من جراء ذلك القوى العظيمة و المدهشة فهم قد اكتشفوا في أنفسهم ذلك الشيء الذين كانوا يجهلونه.

فالصبر إذن يؤدي الى أن يتعرف الإنسان على نفسه أكثر و يكتشف تلك الأمور الإيجابية التي أودعت في داخله(1).

ص: 121


1- بتصرف عن بحث الصبر، نشر مركز بقية اللّه الأعظم.
4 - التوجه و التوكل على اللّه أكثر

هناك خاصيّة بنّاءة للصبر و هي أن الإنسان عند ما يكون في أية مرحلة من المراحل وحيدا يصبح أقرب الى اللّه تعالى و يتوكل عليه أكثر.

البعض يتصور أن الإتكال على اللّه يتعارض و يتنافى مع الإعتماد على النفس، و أنّ الذي يريد أن يعتمد على اللّه لا ينبغي أن يعتمد على نفسه أو يثق بها، و حينما يقال:

اتكلوا على اللّه تعالى، يقولون لماذا تسلبون من الناس روحية الثقة و الاعتماد على النفس، و كأن الذي يدعو الى التوكل على اللّه تعالى يقول لا تعتمدوا على أنفسكم.

أما بالنسبة للمؤمن باللّه فإنه يرى أن هناك تلازما بين التوكل على اللّه تعالى و الاعتماد على النفس، بل و يعتبر أنّ الإعتماد على النفس من أبعاد الصبر، و وسيلة تؤدي الى التوكل و الاعتماد على اللّه عز و جلّ.

أما عديم الصبر فإنه سيتزلزل و يتفاجأ أثناء مواجهة المصائب الإختيارية بسبب عدم ثقته بنفسه و سينسى اللّه و يبتعد عنه أيضا.

فالإنسان عند ما يواجه شدائد و مصائب الدهر و تحيط به الأزمات و تطبق عليه الصعاب فلا يجزع أو ينتحب، فسوف تنفتح عليه نوافذ الارتباط العميق باللّه عزّ و جلّ و يسهل عليه الإتصال بقلبه و روحه بنور حضور اللّه تعالى، أما إظهار العجز و الضعف فإنه سوف يبعده و يقطعه عن اللّه تعالى و عن نفسه.

ربنا أفرغ علينا صبرا و ثبّت أقدامنا و انصرنا على القوم الكافرين(1).

ص: 122


1- بتصرف عن بحث حول الصبر، نشر مركز بقية اللّه الأعظم/الدار الاسلامية.
5 - أهليّة الهداية

يقول عزّ من قائل وَ جَعَلْنٰا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنٰا لَمّٰا صَبَرُوا وَ كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا يُوقِنُونَ (1) حيث تشير هذه الآية المباركة إلى أن اللّه تعالى قد أوكل أمر هداية الطوائف الإنسانية لاولئك الذين يتمتعون بخصوصيتين أساسيتين هما: الصبر، و اليقين

فكافة الأنبياء عليهم السّلام و الهداة و جميع الذين استطاعوا أن يخلّفوا وراءهم أثرا خالدا و مؤثرا على مسيرة التأريخ البشري كان عليهم أن يتمتعوا بهاتين الخصوصيتين، و كان إمامنا الراحل الخميني الذي بعث روح الإسلام من جديد في حياة شعبنا و أمتنا الإسلامية يتصف بهاتين الخصوصيتين. و اليوم - و بعد مرور أربعين عاما على حادثة الخامس عشر من شهر خرداد (الخامس من يونيو - حزيران) - فإنكم تجدون أن نهضة الإمام المظلومة قد عمّت كافة بقاع العالم الإسلامي.

ففي مدينتي طهران و قم، و ذات يوم كغيره من سائر أيام اللّه المجيدة، كان هناك من المظلومين من ضحّوا بأنفسهم و التحقوا بقافلة الشهداء دون جريرة سوى أنهم ساروا على خطى الإمام العظيم و نادوا باسم الإسلام و عارضوا بسط الأجانب لنفوذهم على هذا البلد و استثمار موارده و مقدراته.

إن كل من عاينوا هذا المشهد في ذلك اليوم ربما يكونون قد توهموا بأن كل شيء قد انتهى و أن تلك الصيحة قد أخمدت. فلقد اعتقلوا الإمام بعنف و وحشية، و اختطفوه من منزله، و قمعوا الجماهير بكل بطش و شدة، و لكن هذا الفكر مضى إلى

ص: 123


1- سورة السجدة: 24.

الأمام مستلهما روحه من تلك القاعدة الإلهية العظيمة، أي الصبر الممزوج باليقين.

لقد جاهد الإمام طوال خمسة عشر عاما و استطاع أن يقود الشعب الإيراني المسلم بأكمله إلى ساحة المواجهة ضد الاستبداد الداخلي و الإستكبار العالمي بفضل ما كان يتمتع به من إيمان عميق، فكان النصر أكيدا في كل معركة خاضها الشعب(1).

ص: 124


1- من كلمة ألقاها في 2 ربيع الثاني 1424 ه - طهران.

البلاء

الأجر و الثواب على البلاء

لو أنّ المصاب بالبلاء كالمعاق راعى حدود اللّه و حافظ على تقواه و طهارته في فترة بلائه أو عوقه، فسيحصل على أجر عظيم، كما وصف اللّه تعالى ذلك بقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اِتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (1).

فعند ما يصف اللّه تعالى الأجر ب (العظيم) فهذا دليل على أهميته و علوّه.

إنّ لكل معاناة تلاقيكم بعد الإعاقة حسنة، فإنّ المعاق يؤجر على المعاناة و المشقة و الحرمان و مشاكل الإعاقة التي يواجهها في حياته.

إننا نجزع أحيانا بسبب المشاكل؛ لأننا نجهل المصالح التي تترتب على هذه المشاكل في المستقبل، و بالمقابل فإننا نحصل على مقدار الأجر و الثواب الإلهي من تلك الصعوبات و المشاكل التي نتعرض لها في حياتنا، كما جاء في إحدى الروايات:

«أنّه إذا كان يوم القيامة، يود أهل البلاء و المرضى أن لحومهم قد قرّضت بالمقاريض، لما يرون من جزيل ثواب العليل»(2).

و ما ذلك إلاّ من أجل أن نفهم و نلمس بأيدينا، أنّ لكل معاناة نعانيها مقابلا من

ص: 125


1- سورة آل عمران: 172.
2- مستدرك الوسائل: 65/2 ح 1425.

الأجر عند اللّه تعالى؛ و لهذا عليكم أن تعرفوا قيمة هذا الأمر، و تشكروا اللّه عليه.

إنّ جلب رضى اللّه - كباقي النعم الأخرى - يأتي من خلال السعي و الجد و الإجتهاد، فلا يمكن لأحد أن يصل لهدفه من خلال الراحة و الكسل، و هذا ما يؤمن به جميع أصحاب المقولات المادية و المعنوية.

فلو أنّك أردت الحصول على ثروة أو جاه أو علم، فلا يكون ذلك من خلال طلب الراحة و الترف، بل لا بد من تحمّل الأعباء و المشاق حتى تحصل عليه.

إنّ الأمم لا تنتصر و لا تكون عزيزة إلاّ من خلال تحمّل المعاناة و الصعاب، و كذلك لا يمكن الحصول على نعيم الآخرة، و لا على ثواب اللّه و رضاه و القرب منه إلاّ بتحمّل المعاناة و الصعاب.

إذا فلا بد للإنسان من السعي و الإجتهاد، و إنّ أحد مصاديق هذا السعي و الإجتهاد هو تحمّل زوجات المرضى و المعاقين معاناة أزواجهنّ و آلامهم.

و هكذا الأمر بالنسبة لأبناء المرضى و المعاقين.

فليفتخر أبناء المعاقين بأنّهم أبناء أشخاص ضحّوا بسلامتهم من أجل الأهداف الإلهية السامية، و إنّ هذا مدعاة للفخر.

إنّ بعض الأفراد المترفين الذين يصفهم القرآن الكريم: فَإِذٰا ذَهَبَ اَلْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدٰادٍ أَشِحَّةً عَلَى اَلْخَيْرِ (1) عند ما يحل البلاء، تراهم مثل الفئران يختبئون في الحفر من شدّة الخوف، و عند ما يذهب الخوف عنهم يعرضون صدورهم كالأسود، و يظهرون بمظهر المدافع عن الحقوق التي تخلّوا عنها في ساعة العسر.

إلا أنّ المعاقين و عوائل الشهداء و المضحّين، على العكس من ذلك، فتراهم يواجهون الصعوبات بصدورهم، و لا يبالون لما يتعرضون له من الآلام و المعاناة(2).

ص: 126


1- سورة الأحزاب: 19.
2- من كلمة ألقاها في بتاريخ 1384/8/4 م الموافق 22 /رمضان المبارك/ 1426 ه الموافق: 2005/10/26 م.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ عظيم البلاء يكافيء به عظيم الجزاء، و إذا أحبّ اللّه عبدا ابتلاه بعظيم البلاء، فمن رضي فله الرضا عند اللّه عزّ و جلّ، و من سخط البلاء فله السخط»(1)

إذا تحمّل الإنسان في هذه الدنيا البلاءات و المشقّات - سواء كانت قهرية كالمرض أو فقدان الأعزّاء و غير ذلك أم كانت إرادية و اختياريّة كالزهد و القناعة و كفّ النفس عن الشهوات بل عن المباحات أيضا - فبمقدار حجمها و نسبتها يجازى عليها بالأجر و الثواب في الآخرة التي هي في الحقيقة الحياة الواقعية للإنسان.

و على هذا فإذا شاهدنا شخصا متنعما و آخر مبتلى فلا نتوهّم أنّ نظام العدالة في الخلق غير مراعى و مختلّ، و ذلك لأنّ تحمّل المشكلات و الآلام في هذه الدنيا سوف يجبر في عالم الآخرة. تماما كما أنّ الراحة و النعم في هذه الدنيا، سواء كانت من طريق الحلال أم الحرام، موجبة لتنزل و نقصان الأجر و الثواب في عالم الآخرة، على أنه إذا كانت من طريق الحرام فسوف يلحقه الجزاء و العقوبة القاسية عليها، و أما إذا كانت من طريق الحلال فهي توجب نقصان و قلّة الثواب و تنزّل الدرجات و المراتب الأخروية.

و عليه فاللّه تعالى إذا أحبّ عبدا من عباده ابتلاه بالمصائب و البلاءات و المشقّات الأكثر ليكون أجره و ثوابه في الآخرة أعظم و أكبر، فإذا رضي العبد بما قدّره اللّه تعالى منها كان مرضّيا عند اللّه تعالى.

و أما إذا لم يرض بالقضاء و القدر بل سخط من هذا البلاء و لم يكن شاكرا للّه حبط أجره في الآخرة، و لا يبقى له إلاّ الألم و الغضب و السخط ما دام لم يشكر اللّه على هذا البلاء(2).

ص: 127


1- الخصال، باب الواحد، ح: 64.
2- كلمات مضيئة: 184.
أثر الدنيا في الصبر على البلاء

قال الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، إنّ المسيح عليه السّلام قال للحواريّين:

إنّ أجزعكم عند البلاء لأشدّكم حبّا للدنيا، و إنّ أصبركم على البلاء لأزهدكم في الدنيا»(1).

يقول النبي عيسى عليه السّلام في عظته و نصيحته لخواصّ أصحابه المعروفين بالحواريّين: إنّ الناس في مقابل الإبتلاءات على صنفين:

1 - بعض الناس ليس لديهم القدرة على المقاومة و المواجهة و الصمود أمام الإبتلاءات فيقف عاجزا مضطربا.

2 - و البعض الآخر من الناس يقف صابرا متحمّلا مستقيما في مواجهتها بوعي و يقظة.

و السرّ في وجود هذين الصنفين هو مقدار التعلّق و الإرتباط بالدنيا.

فكل إنسان يكون قلبه متعلّقا باللذات الدنيوية و مظاهرها أكثر يكون مضطربا و متزلزلا حين حلول الإبتلاءات به أكثر.

بينما الإنسان الزاهد في الدنيا و الراغب عنها تكون مقاومته و صموده أمام الإبتلاءات أكثر، و بالتالي يكون الضغط النفسي عليه أقلّ (2).

و قال عليه السّلام: «ينبغي لمن عقل عن اللّه أن لا يستبطئه في رزقه، و لا يتّهمه في

ص: 128


1- تحف العقول، صفحة: 393.
2- كلمات مضيئة: 85.

قضائه»(1).

فالإنسان العارف باللّه معرفة كاملة إذا أصابه ضيق في معيشته و حياته و ابتلي بالنقص في النفس و الأموال و نحوهما لا يعترض على اللّه تعالى و لا يسأله لماذا أبطأ عليه بالإجابة و الغوث. لأنه يعلم أنّ كثيرا من موارد سعة الرزق و العيش ليست في صلاحه.

نظير الطبيب الذي يمنع المريض من تناول بعض المأكولات المحبّبة إليه لأنّها مضرّة به.

فالإنسان العارف باللّه واقعا و حقيقة يبقى ثابتا و صامدا في وجه الأحداث و المشاكل التي تواجهه و لا يشتكي من القضاء الإلهي الحتميّ و القطعي بل يسلّم و يتعبّد به و يطيعه.

طبعا إنّ التقديرات الإلهية قابلة للتغيير و لكنّها إذا قضيت و صارت حكما ثابتا فلا يجوز له أن يعترض عليها أو يتّهم اللّه تعالى في حكمته(2).

في البلاءات نعم إلهية

من مواعظ الإمام أبي محمد الحسن بن علي عليه السّلام: «ما من بليّة إلاّ فيها نعمة تحيط بها»(3)

توجد في باطن الأحداث المؤلمة و المصائب التي يبتلى بها المؤمن، نعمة مخفيّة مغطّاة بداخلها.

إنّ أكثر الناس لديهم قصور نظر فيما يرتبط بهذا الأمر، فهم ينظرون إلى المصائب

ص: 129


1- تحف العقول، صفحة: 408.
2- كلمات مضيئة: 85.
3- تحف العقول، صفحة: 489.

و الإبتلاءات من دون أن يدركوا النعم الموجودة فيها.

و لكن إذا توجّه الإنسان و التفت إلى ما في البلاءات من نعم في باطنها و أدرك هذا المعنى فسوف تهون و تسهل عليه كل المصائب(1).

أثر الصبر على البلاء

قال أبو عبد اللّه الصادق عليه السّلام لابن جندب: «... و قد عجز من لم يعدّ لكلّ بلاء صبرا، و لكلّ نعمة شكرا، و لكلّ عسر يسرا»(2).

إنّ ساحة الحياة و مدّة العمر الذي نمضي فيها مرتبطة بساحة التعارض بين الحق المطلق و الباطل.

و الباطل هو الأهواء النفسانية و الميول الشيطانية.

و الحقّ هو الصراط الإلهي المستقيم.

و نحن يجب علينا العبور بين هذين التجاذبين و الخطين المتعارضين.

فإذا استطعنا تجاوز هذا الطريق بمقدرة فكم هي من نعمة.

و أما إذا ابتلينا بالعجز عن ذلك فتلك خسارة حقيقية، و إن كان في الظاهر قد يكون لنا مقدرة و قوة و سطوة.

و عليه فكيف يمكننا تحصيل هذه القدرة؟

و الجواب أننا إذا صبرنا على البلاء و شكرنا كل نعمة و تصرّفنا بحكمة و تدبير مقابل الصعوبات و المشقات فحينئذ نحصل على هذه القدرة، و إلاّ فالعجز هو ما نحصل عليه.(3)

ص: 130


1- كلمات مضيئة: 86.
2- تحف العقول، صفحة: 304.
3- كلمات مضيئة: 86.

قضية الأسرى قضية كبرى و بلاء عظيم، ما من شعب استطاع أن يصنع من عامة طبقات الشعب مجموعة من الشبّان المقاتلين الذين حافظوا في أقسى ظروف الأسر على شخصيتهم الثورية و الإيمانية و ما يتصفون به من روح قتالية مثلما فعل أحرارنا في فترة الاسر.

في حين أنّ ما يعرفه الشعب الإيراني المسلم عن الأحداث التي عاشها هؤلاء الأعزّة في مرحلة أسرهم لا يكاد يمثّل إلاّ جزءا صغيرا من مجموعة هائلة من الأحداث.

و هل من الممكن تبيان هذه الحادثة؟ و هل تستوعب الكلمات وصف الآلام المريرة التي تمر في كل لحظة من لحظات الأسر؟ أو هل لغة الفن و الأدب قادرة على الافصاح عن ذلك؟ إذ أنّ السماع ليس كالرؤيا و المعايشة. و هم قد صمدوا و ثبتوا.

و لعل بعض أحرارنا الأعزاء حينما كانوا يجابهون جنود العدو الغلاظ الشداد في المعسكرات، كانوا يائسين من الافراج عنهم، و ربما كان بعضهم قد سئم و أخذ يقول:

إلى متى؟ إلاّ أنّ السنّة الإلهية هي فَإِنَّ مَعَ اَلْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ اَلْعُسْرِ يُسْراً (1).

إذا تحملتم الصعاب، يفتح لكم اللّه ابواب الفرج. و إذا وطّنتم أنفسكم للمجاهدة في سبيل اللّه فإنّه تعالى سيريكم أنوار الفرج و يمهّد لكم سبل الخلاص وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَحْتَسِبُ (2). فهو سبحانه و تعالى يفتح أبواب الفرج و يمهد السبل بفضل المجاهدة و بشرط الصبر و رباطة الجأش، خارج دائرة الحسابات العادية للعقول البشرية.

ساحة الحرب تكتنفها آلاف المصاعب التي لا يلمسها إلاّ من يعيش تلك الظروف - من قبيل الشهادة و الإعاقة و المرض و البعد عن الديار و الأهل و الألاد و الأحبة و عن

ص: 131


1- سورة الشرح: 5-6.
2- سورة الطلاق: 3.

الراحة و الرفاه - و تحمّل هذه المصاعب و البلاءات يعد عملا عظيما.

و كذلك الصمود في ميادين الحرب ضد العدو، و في ظروف الأسر، و في فترة التعويق، يعدّ عملا مجيدا. و ليعلم المعوّقون الأعزاء أنّ جهادهم متواصل، و إنهم في حالة مجاهدة على امتداد فترة التعويق، و هذه الفضيلة تختص بهم و بذويهم و بزوجاتهم و أسرهم ريثما يستعيدون بإذن اللّه عافيتهم و سلامتهم.

هذه التضحيات و المآثر هي التي أوصلت بلدنا إلى هذه المرحلة. هل كان أحد يتصور أن يهب أبناء هذا الشعب صغارا و كبارا و بدون أية مساعدة عالمية أو مساندة من قوة دولية، و يتسنّى لهم الثبات في ميدان الجهاد المقدس و الدفاع عن الذات و عن البناء و الاستقلال و مجابهة شتّى ألوان الضغوط من قبل الأعداء، و إثارة دهشتهم يوما بعد آخر؟ و هل كان بإمكاننا بلوغ هذه المرحلة لو لا هذا التفاني و الإيثار و التضحيات و الصبر؟

فكل واحد منكم أنتم؛ سواء الأحرار الأعزاء، أم الذين لا زالوا في الأسر، أم عوائلكم و أبناؤكم و آباؤكم و امهاتكم و زوجاتكم، أم عوائل الشهداء و المعوقون، أم أبناء الشهداء، و كل الذين ذاقوا الآلام بنحو أو آخر جسميا و نفسيا، و قدّموا التضحيات و قاموا بدور الإسناد، قد شارك في صنع هذا الكنز العظيم الذي لا مثيل له و لا ينضب معينه.

و لو لا أنّ كل واحد منكم قد ضحى بما ضحّى و صبر، بما صبر لما تحققت هذه المآثر التي يفتخر بها الشعب الإيراني اليوم، و لما أحرز هذا النجاح. و هذا درس مستخلص من القرآن.

إنّ عمر الشعوب لا يشكّل في تاريخ العالم سوى ساعة، و هو قد يبدو لنا طويل الأمد بيد أننا حين النظر إلى مسار التاريخ نجد هذه الأمم تأتي و تذهب في ساعة، لكن إطالة أمد هذه الساعة و جعلها بشكل حسن يبعث على الفخر إنما هو رهين إرادة أبناء تلك الامة. هذا الدرس علّمنا إياه القرآن.

ص: 132

إلاّ أنّ تطبيق هذا الدرس عسير. و لهذا السبب لا تخوض الشعوب غالبا في تجربته، فتتحمل نتيجة لبعدها عن هذا المسار الآلام و المصائب. في حين أنّ شعبنا قد جرّب هذا الدرس، فاعرفوا قيمة هذه التجربة لأنها على قدر كبير من الأهمية.

هكذا يمكن معالجة المشاكل التي تعاني منها شعوب العالم، و بهذا النحو لا غير تعالج مشكلة الشعب الفلسطيني. و الذين يتصورون إمكانية استنقاذ شعب كالشعب الفلسطيني عبر المحادثات و بلسان الرجاء و التكدّي إنما هم في وهم كبير؛ بالمقاومة و الصمود و الصبر فقط يمكن لأي شعب الوقوف على قدميه و نيل حقوقه، و تحقيق حياته الكريمة في الدنيا و في الآخرة(1).

و قال عليه السّلام: «إنّ اللّه أنعم على قوم بالمواهب فلم يشكروه، فصارت عليهم و بالا.

و ابتلى قوما بالمصائب فصبروا فكانت عليهم نعمة»(2).

إذا وهب اللّه تعالى شخصا أو أمّة نعما فلم يؤدوا شكرها و لم يقدّروها فسوف تكون عليهم و بالا و عذابا.

و المثال الأبرز لهذه المسألة قوم بني إسرائيل، فإنّ اللّه تعالى أعطاهم نعمة الحكومة الصالحة و نعمة إرسال و بعث الأنبياء عليهم السّلام لهم كسليمان و داود على نبيّنا و آله و عليهما السّلام، و كذلك نعمة الغلبة و الإنتصار على فرعون، و لكنهم مع ذلك لم يشكروا هذه النعم بل وقعوا في الغرور و الطغيان و التمرّد فكانت النتيجة كما قال اللّه تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلذِّلَّةُ وَ اَلْمَسْكَنَةُ (3).

و لذلك نحن نسأل اللّه دائما في سورة الحمد المباركة أن يمنّ علينا بالهداية إلى الطريق المستقيم و هو طريق الذين أنعم عليهم و لكن ليس طريق الذين أنعم عليهم

ص: 133


1- من كلمة ألقاها في: 16 ربيع الثاني 1418 ه
2- تحف العقول، صفحة: 359.
3- سورة البقرة: 61.

فصاروا من الضالين أو من المغضوب عليهم.

و على عكس هذه المسألة ما إذا ابتلى اللّه شخصا أو أمّة بالمصائب و البلاءات و لكنهم صبروا عليها و ظلّوا مستقيمين، فإنّها سوف تتبدّل من المصائب إلى النعم(1).

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من ثكل ثلاثة من صلبه فاحتسبهم على اللّه عزّ و جلّ وجبت له الجنة».(2)

الشخص الذي يفقد ثلاثة أبناء من صلبه و يثكل بهم بالغم و الحزن من أجلهم و لكنه يحتسب هذا المصاب عند اللّه عزّ و جلّ و يرضى بالقضاء الإلهي و يسلم به، و لا يصدر منه شيء يدل على السخط و عدم الرضا لا قولا و لا فعلا فلا يتكلم بكلام الكفر أو بما لا يليق التكلم به، فإنّ اللّه سبحانه و تعالى يعطيه مقابل ذلك الجنة و يوجبها له.

طبعا هذه الرواية ليس مفادها أنّ هذا الشخص الذي وجبت له الجنة بما ذكر يمكنه أن يفعل ما يشاء فيرتكب المعاصي و يترك الفرائض الإلهية عامدا إتكالا على هذا الوعد الإلهي، و إنما مفادها أنّ الشخص الذي فقد هؤلاء الأعزاء الذين هم فلذات كبده هناك مقتض لدخوله الجنة، و لكن بشرط أن لا يزول هذا المقتضي بإيجاد الموانع من تأثيره.

و هذه الرواية تعتبر عزاء و بعثا للأمل في نفوس الذين فجعوا و ابتلوا بالحوادث و الكوارث الرهيبة كالزلازل و الفيضانات و السيول و التي ذهبت بأولادهم و أقاربهم.

نسأل اللّه تعالى المغفرة للأموات و الصبر و الأجر للأحياء.(3)

ص: 134


1- كلمات مضيئة: 87.
2- الخصال/باب الثلاثة/ح 245.
3- كلمات مضيئة: 187.
شروط الإبتلاء

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «ما ابتلي المؤمن بشيء أشد عليه من خصال ثلاثة يحرمها. قيل: و ما هنّ؟

قال عليه السّلام: المواساة في ذات يده بالله، و الإنصاف من نفسه، و ذكر اللّه كثيرا.

أما إني لا أقول لكم «سبحان و الحمد و لا إله إلاّ اللّه و اللّه أكبر» و لكن ذكر اللّه عند ما أحل له و ذكر اللّه على ما حرم عليه»(1)

المستفاد من هذه الرواية أن الإبتلاء العظيم بحسب قانون و نظام القيم هو أن لا يكون في الإنسان المؤمن واحدة من هذه الصفات الثلاثة، و هي:

1 - المواساة في ذات يده بالله، فالمواساة تعني أنّ ما هو مملوك له ليس منحصرا به بل يرى لغيره نصيبا أيضا بخلاف الشخص الذي يرى أنّ ما يملكه متعلق به فقط و لا حقّ لأحد عنده أبدا.

2 - الإنصاف من نفسه أي أن يتعامل مع الآخرين على أساس العدل و الإنصاف حتى لو كان على نفسه، و أما إذا كانت علاقته مع الآخرين مبنيّة على محورية نفسه و كان ملاك حكمه على الآخرين هو نفسه و منافعها فقط فهذا لا يملك من الإنصاف شيئا.

3 - ذكر اللّه كثيرا، كما قال اللّه تعالى يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا اَللّٰهَ ذِكْراً كَثِيراً (2).

و لكن الذكر ليس المقصود به الذكر باللسان فقط بل المراد منه تذكّر اللّه تعالى عند

ص: 135


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 130
2- سورة الأحزاب: 41.

الحلال و الحرام و عدم التجاوز و التعدي على الحدود الإلهيّة. فذكر اللّه في الحلال هو الصبر و أحيانا يكون هو الشكر و أما ذكر اللّه عند الحرام فهو الإجتناب و التورّع عنه(1).

كل بلاء من اللّه العلي فهو خير

قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله: «عجبا للمؤمن لا يقضي اللّه عليه قضاء إلاّ كان خيرا له، سرّه أو ساءه، إن ابتلاه كان كفّارة لذنبه، و إن أعطاه و أكرمه كان قد حباه»(2).

كل ما قدره اللّه للمؤمن فهو خير له، سواء كانت أمورا تسيئه كالمرض أم أمورا تسعده و تسرّه.

و السرّ في ذلك هو أن الحوادث و الأمور المحزنة و غير المريحة تعتبر كفارة لذنوب المؤمن، بينما الحوادث و الأمور المفرحة و السعيدة تعتبر عطايا إلهية من اللّه تعالى للمؤمن.

و هذا المضمون ذكره حافظ الشاعر في أشعاره فقال ما مضمونه:

«إنّ أهل الطريقة يرون أنّ كل ما يعرض للسالك من أمور فهي خير له».

و لكن حافظ الشاعر خصّ هذا المعنى بالسالك فقط بينما الرواية المذكورة تذكر هذا المعنى بحق المؤمن مطلقا سواء السالك و غيره(3).

ص: 136


1- كلمات مضيئة: 88.
2- تحف العقول، صفحة: 48.
3- كلمات مضيئة: 88.
البلاء نعمة نؤجر عليها

من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «لا تعدنّ مصيبة أعطيت عليها الصبر و استوجبت عليها من اللّه ثوابا بمصيبة، إنّما المصيبة أن يحرم صاحبها أجرها و ثوابها إذا لم يصبر عند نزولها»(1).

المصيبة الحقيقية هي أنّ الإنسان عند ما تعرض عليه الحوادث الصعبة و المكروهة يفقد القدرة على التحمّل فلا يصبر و يظهر منه الغمّ و عدم الشكر، و في النتيجة يحرم من أجر و ثواب تلك المصيبة.

و أمّا المصيبة التي يصبر الإنسان عليها بتوفيق اللّه تعالى عند نزولها به و يتحمّلها و لا يغتمّ بها، فهو على أثر هذه المجاهدة يستحق الثواب الإلهي. و في الحقيقة هذه المصيبة ليست مصيبة بل نعمة(2).

أعظم البلاء و الفتن

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «الفتن ثلاثة: حبّ النساء و هو سيف الشيطان، و شرب الخمر و هو فخّ الشيطان، و حبّ الدينار و الدرهم و هو سهم الشيطان.

فمن أحب النساء لم ينتفع بعيشه، و من أحب الأشربة حرمت عليه الجنة، و من أحب الدينار و الدرهم فهو عبد الدنيا.

و قال عليه السّلام: قال عيسى ابن مريم عليه السّلام: الدينار داء الدين، و العالم طبيب الدين، فإذا

ص: 137


1- تحف العقول، صفحة: 375.
2- كلمات مضيئة: 89.

رأيتم الطبيب يجر الداء الى نفسه فاتهموه و اعلموا أنه غير ناصح لغيره».(1)

ثلاثة أمور تعتبر فتنة للإنسان. و المراد من الفتنة هنا الإختبار و الإبتلاء، و الأصل اللغوي للكلمة هو تلوث الهواء لأن الإنسان في هذه الحالة لا يمكنه تحديد الطريق و تشخيصه، و لذلك يقع في الحيرة و التيه. و هذه الأمور هي:

1 - حب النساء و هو سيف الشيطان. و لكن هذا لا يعني أن لا يحب الإنسان زوجته فإن حب الزوجة أمر مستحب. بل معناه الإنحلال الجنسي و الإنفلات من القيود و الضوابط المقررة بهذا الصدد فيكون همّه هو النساء.

فإن نتيجة هذا الأمر هو أن الشخص المذكور لن يكتفي بالإستفادة في هذا المورد من الشيء الحلال الطبيعي ضمن دائرة عائلته بل يسعى للأكثر مما يؤدي الى تهدم الأسرة و تفككها.

2 - شرب الخمر الذي هو فخ و مصيدة الشيطان فيقع فيها الإنسان، فإذا وقع في هذا الأمر فإن الجنة محرمة عليه.

3 - حب الدينار و الدرهم، و المراد بهما الثروة و المال، و المراد من الحب هنا هو السعي لتحصيل المال من طريق الغش و التزوير و الخداع و المكر و الإحتيال، و هذا ما يسمّى بعبادة المال، و الإنسان الذي يعبد المال يصبح عبدا للدنيا.

ثم يذكر كلاما للنبي عيسى عليه السّلام و مفاده:

إن المال داء و آفة للدين، و العالم كالطبيب يسعى لإصلاح دين الناس و لكن إذا كان هذه الطبيب (أي العالم) عبدا للمال فحينئذ لن يمكن الإعتماد عليه و الوثوق به بل هو متهم إذ كيف يكون ناصحا لغيره و لا ينصح نفسه؟!.(2)

ص: 138


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 91.
2- كلمات مضيئة: 151.

الأمانة

أهمية الأمانة

من مواعظ الإمام علي بن موسى الرضا عليه السّلام: «قال الرضا عليه السّلام: لا يكون المؤمن مؤمنا حتى تكون فيه ثلاث خصال:

سنّة من ربّه و سنّة من نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سنّة من وليّه عليه السّلام.

فأمّا السنّة من ربّه فكتمان السرّ.

و أمّا السنّة من نبيّه صلّى اللّه عليه و آله فمداراة الناس.

و أمّا السنّة من وليّه عليه السّلام فالصبر في البأساء و الضرّاء»(1).

كمال إيمان المؤمن مرتبط بأمور ثلاثة، و هذه الأصول و السنن الثلاثة هي من أصول و سنن التربية الإسلامية و هي:

1 - سنّة و قانون من اللّه تعالى.

2 - سنّة و قانون من النبي صلّى اللّه عليه و آله.

3 - سنّة و قانون من الإمام عليه السّلام.

فالمؤمن هو الذي يحفظ السرّ و يكتمه كما عن اللّه تعالى، و يداري الناس كما عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و يصبر و يستقيم مقابل الإبتلاءات و المشكلات متّبعا في ذلك وليّه

ص: 139


1- تحف العقول، صفحة: 442.

و إمامه عليه السّلام.

و هذه الصفات الحميدة يجب على المؤمن إقامتها و العمل بها في كلّ تصرّفاته في هذه الحياة.

- فأمّا كتمان السرّ و حفظه فهو نوع من الأمانة، فيجب على المؤمن أن يحافظ و يواظب على شأن و حرمة و شرف و عرض المؤمنين سواء كان سرّ نفسه أم سرّ غيره، و سواء كان من أسرار الدولة أم من أسرار المؤسّسات و الإدارات المختلفة. و بالتدقيق في هذا الأمر نجد أنّ كثيرا من المشكلات و الإبتلاءات مبدأوها و منشاؤها هذا الحجاب (أي عدم كتمان السرّ) الرائج و الشائع و المدمّر و المفرّق بين الناس(1).

ص: 140


1- كلمات مضيئة: 54.
الوفاء و أداء الأمانة

سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «ثلاثة لا عذر لأحد فيها:

أداء الأمانة الى البرّ و الفاجر.

و الوفاء بالعهد للبرّ و الفاجر.

و برّ الوالدين بريّن كانا أو فاجرين».(1)

يجب على الإنسان أن يراعي ثلاثة أمور في جميع الحالات و الظروف. و لا عذر له في عدم العمل بها، هي:

1 - أداء الأمانة، فإنه لا عذر لأحد أن يخون الأمانة، سواء كان صاحب الأمانة شخصا فاجرا و فاسقا أم كان شخصا مؤمنا و صالحا.

و الأمانة لا تختص في حفظ ما يودع لدى الشخص من أشياء بل لها مفهوم واسع فتشمل المناصب و المراكز الحكومية و الإجتماعية و غيرهما أيضا. و عليه فإذا كان الشخص متصدّيا للقضاء بين الناس أو كان مسؤولا عن إدارة ما أو كان إماما للجماعة، فكل هذه الأمور و المسؤوليات أمانة إلهية في أعناقهم.

و لذلك ورد في باب المناصب الحكومية «إن عملك ليس لك بطعمة و لكنّه هو في عنقك أمانة»(2).

2 - الوفاء بالعهد. فإن الإنسان يجب عليه مراعاة عهوده و و عوده للآخرين و الوفاء بها، سواء كانوا مؤمنين صالحين أم كانوا فجّارا فاسقين.

ص: 141


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 118.
2- شرج نهج البلاغة: 33/14.

و العهد أيضا له معنى واسع و عام فإنه مضافا الى العهد و الميثاق الذي يبرمه مع الآخرين يشمل أيضا العهود و المواثيق الدولية و يشمل العهود التي يعقدها مع اللّه تعالى.

3 - برّ الوالدين، فإن الإنسان يجب عليه الإحسان الى والديه و البرّ بهما سواء كانا صالحين مؤمنين أم كانا فاجرين فاسقين(1).

الأمانة و حسن الظن

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «ليس لك أن تأتمن الخائن و قد جرّبته، و ليس لك أن تتّهم من ائتمنت»(2).

إذا فحصت و اختبرت حالات الشخص و بعد الإمتحان و الأختبار و الفحص وجدته خائنا فهكذا شخص لا ينبغي الأعتماد و الوثوق به و لا إئتمانه على شيء.

بينما الشخص الذي تثق و تطمئن به فما دام لم تثبت عندك خيانته فلا ينبغي لك أن تسيء الظن به و تتهمه على أمورك(3).

ص: 142


1- كلمات مضيئة: 15.
2- تحف العقول، صفحة: 364.
3- كلمات مضيئة: 26.
أمانة النبي صلّى اللّه عليه و آله درس لنا

لقد كان النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله شديد الأمانة حتى لقّبه الناس في الجاهلية بلقب «الأمين» فكانوا يودّعون لديه أماناتهم المهمة و هم على ثقة بردّها إليهم دون إصابتها بسوء، لدرجة أنهم كانوا يحفظون أماناتهم عنده حتى بعد بداية الدعوة الإسلامية و تأجج نار العداء و البغضاء مع قريش، و هم أعداؤه! و لهذا فإنكم سمعتم بأن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله ترك أمير المؤمنين عليه السّلام في مكة عند هجرته إلى المدينة لكي يؤدّي للناس أماناتهم، و من المعروف أن بعض الكفار و الذين ناصبوه العداء كانوا قد استأمنوه على أموالهم حينذاك مع أنهم لم يسلموا..!

و في الجاهلية كان النبي صلّى اللّه عليه و آله شريكا في حلف يدعى «حلف الفضول»(1) و هو

ص: 143


1- قال ابن هشام: و أما حلف الفضول فحدثني زياد بن عبد اللّه البكائى عن محمد بن إسحاق قال: تداعت قبائل من قريش إلى حلف، فاجتمعوا له في دار عبد اللّه بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى، لشرفه و سنه، فكان حلفهم عنده: بنو هاشم، و بنو المطلب، و أسد ابن عبد العزى، و زهرة بن كلاب، و تيم بن مرة، فتعاقدوا و تعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها و غيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلاّ قاموا معه، و كانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول. قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن زيد ابن المهاجرين قنفذ التيمى أنه سمع طلحة بن عبد اللّه بن عوف الزهري يقول: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: لقد شهدت في دار عبد اللّه بن جدعان حلفا ما أحب أن لى به حمر النعم و لو أدعى به في الإسلام لاجبت (سيرة النبي صلّى اللّه عليه و آله لابن هشام الحميري: 87/1). و روي أنهم تحالفوا على أن لا يسالموا الكعبة ما أقام حراء و ثبير و ما بل بحر صوفه، و أن ينصر المظلوم، و صنعت عاتكة بنت عبد المطلب طيبا فغمسوا أيديهم فيه فسموا المطيبون، سمي هذا الحلف -

غير ما كان بين أهل مكة من تحالفات أخرى كثيرة؛ إذ جاء رجل غريب و باع تجارته في مكة لرجل من أهلها يسمّى «عاص بن وائل» الذي كان من أشراف مكة المتغطرسين دون أن يعطيه ثمن ما اشتراه.

و كلّما قصد الرجل واحدا من أهل مكة عجز عن مساعدته في أخذ حقّه. فوقف على جبل «أبي قبيس» و صاح قائلا: يا أبناء فهر، لقد ظلمت!.

فلمّا سمع الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله هو و عمّه الزبير بن عبد المطلب استغاثة المظلوم إنضمّا إلى الجمع الذي قرر نصرته و الدفاع عنه كي يستعيد حقّه، فذهبوا إلى عاص بن وائل و طالبوه بمال الرجل، فخشي بطشهم و أعطى للرجل ماله.

و ظلّ هذا الحلف قائما، إذ قرر أعضاؤه نصرة كل غريب يعتدي عليه أهل مكة - الذين كانوا غالبا ما يظلمون الغرباء من غير أهل مكة - و الدفاع عنه حتى أخذ حقّه.

و حتى بعد مجيء الإسلام بسنوات طويلة كان الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله يقول إنني ما زلت أعتبر نفسي ملتزما بذلك الحلف.(1)

ص: 144


1- من كلمة ألقاها في: 7 صفر 1241 ه - طهران.

الخوف و الرجاء

معنى الخوف من اللّه

قال تعالى في محكم كتابه العزيز: اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاٰ تَخْشَوْهُمْ (1). أي لا تخافوا من أي عدو خارجي، بل يجب أن تخافوني أنا (وَ اِخْشَوْنِ) .

و لكن ما معنى الخوف من اللّه؟ معناه أن يحترس الناس الآن من ذواتهم و من قلوبهم و من نفوسهم و عملهم، و أن يواظبوا على التقوى و الثبات و الاستقامة التي يرتجى توفّرها لدى كل إنسان يسير على هذا الطريق(2).

قال الإمام الصادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام: «عجبت لمن فزع من أربع كيف لا يفزع الى أربع:

عجبت لمن خاف كيف لا يفزع الى قوله تعالى حَسْبُنَا اَللّٰهُ وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ (3)، فإني سمعت اللّه جلّ جلاله يقول بعقبها فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اَللّٰهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ.

و عجبت لمن اغتمّ كيف لا يفزع الى قوله عزّ و جلّ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ أَنْتَ سُبْحٰانَكَ إِنِّي

ص: 145


1- سورة المائدة: 3.
2- من كلمة ألقاها في 18 ذي الحجة 1419 ه - طهران.
3- سورة آل عمران: 173.

كُنْتُ مِنَ اَلظّٰالِمِينَ، فإني سمعت اللّه عزّ و جلّ يقول بعقبها فَاسْتَجَبْنٰا لَهُ وَ نَجَّيْنٰاهُ مِنَ اَلْغَمِّ وَ كَذٰلِكَ نُنْجِي اَلْمُؤْمِنِينَ (1).

و عجبت لمن مكر به كيف لا يفزع الى قوله عزّ و جلّ وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ بَصِيرٌ بِالْعِبٰادِ (2)، فإني سمعت اللّه جلّ و تقدّس يقول بعقبها فَوَقٰاهُ اَللّٰهُ سَيِّئٰاتِ مٰا مَكَرُوا (3).

و عجبت لمن أراد الدنيا و زينتها كيف لا يفزع الى قوله تبارك و تعالى مٰا شٰاءَ اَللّٰهُ لاٰ قُوَّةَ إِلاّٰ بِاللّٰهِ فإني سمعت اللّه عزّ اسمه يقول بعقبها إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مٰالاً وَ وَلَداً فَعَسىٰ رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ «و عسى موجبة(4)».(5)

يتعجب الإمام علي عليه السّلام من أربعة أشخاص يفزعون من أربعة أشياء كيف لا يلتجئون الى أربعة حصون يلوذون بها منها. و هي:

1 - العجب من الشخص الذي يخاف كيف لا يلتجىء الى قوله تعالى: حَسْبُنَا اَللّٰهُ وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ.

و الوجه في ذلك هو أنه في معركة أحد عند ما وصل الخبر الى النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله بأنّ العدو قد كمنوا في أطراف المدينة المنورة و أنهم بصدد توجيه ضربتهم النهائية للمسلمين، أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله بملاحقة العدو، و في هذه الحال ارتدى جرحى الحرب لباسهم العسكري و ذهبوا لمواجهة العدو و هم يقولون «حَسْبُنَا اَللّٰهُ وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ» فأجابهم اللّه تعالى فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اَللّٰهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ.

ص: 146


1- سورة الأنبياء: 88.
2- سورة غافر: 44.
3- سورة غافر: 45.
4- سورة الكهف: 39-40.
5- الخصال/باب الأربعة/ح 43.

2 - و العجب من الشخص الذي يصاب بالغمّ كيف لا يلتجىء الى قوله تعالى لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ أَنْتَ سُبْحٰانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظّٰالِمِينَ. لأن اللّه تعالى يقول بعدها فَاسْتَجَبْنٰا لَهُ وَ نَجَّيْنٰاهُ مِنَ اَلْغَمِّ وَ كَذٰلِكَ نُنْجِي اَلْمُؤْمِنِينَ.

إذن فالمسألة ليست مختصّة بالنبي يونس على نبينا و آله و عليه السّلام، بل تشمل كل شخص يصاب الغمّ و يلتجىء الى هذا الذكر.

و المقصود طبعا ليس التلفظ اللساني بهذه الكلمات بل يجب أن تكون صادرة من القلب و الروح و تجري على اللسان بعد ذلك، بمعنى أن القلب و الروح يعترفان بالوحدانية للّه تعالى و يسبّحانه و ينزّهانه عن الشرك ثم يعترف بظلم نفسه و بعد ذلك يجري الذكر على لسانه.

3 - و العجب من الشخص الذي مكر به كيف لا يلتجىء الى قوله تعالى وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ بَصِيرٌ بِالْعِبٰادِ. لأن اللّه تعالى يقول عقب ذلك فَوَقٰاهُ اَللّٰهُ سَيِّئٰاتِ مٰا مَكَرُوا.

4 - و العجب من الشخص الذي يريد زينة الدنيا كالمال و الولد، طبعا لا يريد المال و الولد لأجل الدنيا المذمومة أي التعلق و الحب، كيف لا يلتجىء الى قوله تعالى مٰا شٰاءَ اَللّٰهُ لاٰ قُوَّةَ إِلاّٰ بِاللّٰهِ. لأن اللّه تعالى يقول بعدها إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مٰالاً وَ وَلَداً فَعَسىٰ رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ (1). و كلمة عسى هنا للدلالة على الايجاب لا مجرد الرجاء و التوقع بل إجابة هذا الرجاء و التوقع.(2)

ص: 147


1- سورة الكهف: 39.
2- كلمات مضيئة: 91.
أثر الخوف و الرجاء

قال الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، لا يكون الرجل مؤمنا حتى يكون خائفا راجيا. و لا يكون خائفا راجيا حتى يكون عاملا لما يخاف و يرجو»(1).

أحد شروط الإيمان في الإنسان أن يمتزج داخله بالخوف و الرجاء.

و يجب على الإنسان أن يلاحظ أسباب و علل الخوف يعني القصور و التقصير و الضعف في نفسه دائما، و لا يغفل عنها ليبقى الخوف الإلهي موجودا لديه دائما.

طبعا لا يجوز أن يؤدّي الخوف إلى اليأس من رحمة اللّه لأنّ اليأس يمنع من تحرّك الإنسان نحو الإصلاح.

و كذلك يجب على الإنسان أن يحي بداخله أسباب و علل الرجاء، من قبيل اللّطف و المغفرة الإلهية، و الإستعدادات و سلامة و صفاء النفس و القوى و القدرات التي أعطاها اللّه تعالى له ليسير بها تجاه الكمال.

و الأهم من ذلك التوبة و الندم على الأخطاء و الذنوب السالفة و العمل لأجل تلافيها و جبرانها.

فإذا تحقق هذان الأمران أي الخوف و الرجاء صار إيمانه كاملا.

نعم مجرّد وجود هذين الأمرين وحده لا يكفي بل يجب أن يكون لدى الإنسان البواعث و المحركات ليبحث عمّا يوجب الخوف و يقبل نحو موجبات الرجاء(2).

ص: 148


1- تحف العقول، صفحة: 395.
2- كلمات مضيئة: 91.

و قال أبو عبد اللّه الصادق عليه السّلام: «كفى بخشية اللّه علما، و كفى بالإغترار جهلا»(1).

الخوف و الخشية من اللّه تعالى ناشئان من العلم و المعرفة.

لأن الإنسان يعلم إجمالا بأنّ اللّه تعالى قد أعطاه من النعم الشيء الكثير، و أنّ للّه عليه حقا عظيما، و يدرك جانبا من العظمة الإلهية اللامتناهية، و يعلم أن اللّه عادل بين مخلوقاته.

فحينئذ إذا التفت إلى تقصيره و إهماله و إلى انحرافه و جرائمه و ظلمه و طغيانه فطبعا سوف يستقر الخوف الإلهي في قلبه و يخشاه.

و الشيء المقابل للخشية و الخوف هو الإغترار و الإفتتان و الإنخداع، فالإنسان الذي يطمئن باله بأنه قد أدّى الوظائف و التكاليف الملقاة على عاتقه و أنّ اللّه تعالى لن يحاسبه و يعافيه، فهذا إنسان مغرور و مخدوع، و منشاؤهما الجهل و عدم المعرفة.

يقول الإمام السجاد عليه السّلام في هذا المورد: «فأما أنت يا إلهي فأهل أن لا يغترّ بك الصدّيقون»(2).(3).

و قال عليه السّلام: «المؤمن بين مخافتين: ذنب قد مضى لا يدري ما يصنع اللّه فيه، و عمر قد بقي لا يدري ما يكتسب فيه من المهالك.

فهو لا يصبح إلاّ خائفا و لا يمسي إلاّ خائفا، و لا يصلحه إلاّ الخوف»(4).

مخافتان و رهبتان تحيطان بالمؤمن دائما:

إحداهما: مخافة الذنوب التي ارتكبها و لا يعلم ما ذا سيفعل اللّه بها، فإنّ الإنسان ينسى كثيرا من ذنوبه التي فعلها و لكنّها محفوظة في الديوان و السجلّ الإلهي.

و الأخرى: مخافة المستقبل فإنه قلق و لا يعلم ما ذا سيحدث له فيما بقي من عمره،

ص: 149


1- تحف العقول، صفحة: 346.
2- الصحيفة السجادية: 190-194.
3- كلمات مضيئة: 95.
4- تحف العقول، صفحة: 377.

فهل سيبقى لديه العزم الراسخ و الإرادة القوية لطيّ طريق الصراط المستقيم أو أنّ زلاّت الحياة سوف تزلزله؟

إنّ إحياء هذه الحالة أي حالة القلق و الخوف و الدغدغة من الماضي و المستقبل تسوق المؤمن باتجاه المراقبة و التقوى(1).

خوف أمير المؤمنين عليه السلام درس لنا

قال الإمام زين العابدين عليه السّلام في وصف علاقة أمير المؤمنين عليه السّلام باللّه و ارتباطه تعالى: «و ما أطاق أحد عمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من هذه الأمّة غيره، و إن كان ليعمل عمل رجل كان وجهه بين الجنّة و النار».(2) أي على الرغم من كل هذه الأعمال الإيمانية الكبرى كان سلوكه سلوك إنسان يعيش بين الخوف و الرجاء؛ فهو كان يخشى اللّه و كأنه متأرجح بين الجنّة و النار.

ثم قال: «يرجو ثواب هذه و يخاف عقاب هذه».

و خلاصة هذا الكلام هي أنه على الرغم من كثرة جهاده و بذله و عبادته إلاّ أنه لم يغتر بشيء من ذلك. في حين إذا صلّى أحدنا ركعتي نافلة و قرأ بضعة جمل من الأدعية، و أراق دمعتين، يغتر بعمله الضئيل هذا و يتفاخر و يتصور نفسه و كأنه أصبح (طاووس العلّيين). أما أمير المؤمنين عليه السّلام فلم يغتر بكثرة عمله الصالح.

أما لماذا يخاف أشخاص كالرسول و كأمير المؤمنين و السجّاد عليهما السّلام - و هم الذين خلق اللّه الجنّة من أجلهم - نار جهنم و يستعيذون بالله منها، فهو بحث آخر. نحن أناس صغار و ضعفاء و قصير و النظر و لا ندرك عظمة اللّه، و مثلنا في ذلك كمثل طفل صغير يلعب أمام شخصية علمية كبرى و يجيء و يذهب غير آبه لوجود

ص: 150


1- كلمات مضيئة: 96.
2- وسائل الشيعة: 91/1 ح 215.

هذه الشخصية؛ و ذلك لأنه لا يعرف حقيقة هذه الشخصية. في حين تجد أن والد ذلك الطفل الذي يفوق عقله عقل طفله مائة مرّة يتواضع لتلك الشخصية.

و هكذا حالنا أمام اللّه تعالى؛ فنحن لا ندرك عظمته و كأننا أطفال أو كأننا أشخاص غافلون و أناس و ضيعون. أمّا الذين وصلوا من مرحلة العلم إلى مرحلة الإيمان، و من مرحلة الإيمان إلى مرحلة الشهود، و من مرحلة الشهود إلى مرحلة الفناء في اللّه، اولئك تتجلى عظمة اللّه أمام أبصارهم بشكل تتضاءل أمامه قيمة كل عمل صالح يعملونه، و يشعرون على الدوام و كأنهم لم يعملوا عملا صالحا، و إنهم مدينون لله تعالى خائفون منه(1).

ص: 151


1- من كلمة ألقاها في: 22 رمضان 1420 ه - طهران.
المؤمن بين الخوف و الرجاء

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لابن جندب: «يا ابن جندب، يهلك المتّكل على عمله و لا ينجو المجترىء على الذنوب الواثق برحمة اللّه.

قلت: فمن ينجو؟

قال: الذين هم بين الرجاء و الخوف، كأنّ قلوبهم في مخلب طائر شوقا إلى الثواب و خوفا من العقاب»(1).

هناك طائفتان من الناس ليسوا من أهل النجاة و الخلاص:

الأولى: الذين يتجرأون على ارتكاب الذنوب إتّكالا على الأمل الكاذب الواهي في الرحمة و الفضل الإلهي.

الثانية: الذين يتكلون على الأعمال التي قاموا بها فيطمئنوا بالهم و يرتاح خاطرهم.

و السرّ في هلاك هاتين الطائفتين هو أن الإنسان بكل وجوده و حالاته و شؤونه هو من اللّه تعالى، و حتى عباداته يأتي بها بحول اللّه و قوته.

و كما قال الإمام الحسين عليه السّلام في دعاء عرفة ما مضمونه: «إنّه إذا كان لديك مقدار عمر نوح فلا يمكنك أداء شكر نعمة واحدة من النّعم الإلهية»(2).

و كلّ الثواب و الأجر الذي يعطيه إيّاه اللّه إنّما هو بتفضّل و لطف اللّه المنّان فكيف

ص: 152


1- تحف العقول، صفحة: 302.
2- قال داود: إلهي لو أن لكل شعرة مني لسانين يسبحانك الليل و النهار و الدهر كله ما قضيت حق نعمة واحدة من نعمك عليّ» تفسير الدر المنثور: 229/5.

يمكن أن نتّكل على أعمالنا التي لا تعتبر شيئا و لا قيمة لها في مقابل العظمة الإلهية؟

إذن فالمؤمنون الصادقون هم الذين يعيشون حالة ما بين الخوف و الرجاء، - نظير العصفور الأسير بين مخالب الصقر الضاري - بحيث يكون قلبه يرتجف خوفا و هلعا من العذاب الإلهي من جهة بينما ينظر إلى الرحمة الإلهية اللامتناهية من جهة أخرى.

اللّهم إنّا نقسم عليك و نستحلفك بحقيقة الأئمة الأطهار عليهم السّلام و نور كلماتهم أن تجعلنا من المؤمنين الصادقين(1).

و قال عليه السّلام أيضا لابن جندب: «و ارج اللّه رجاء لا يجرّيك على معصيته، و خفه خوفا لا يؤيسك من رحمته، و لا تغترّ بقول الجاهل و لا بمدحه، فتكبر و تجبر و تعجب بعملك، فإنّ أفضل العمل العبادة و التواضع»(2)

المؤمن يجب أن يكون لديه رجاء بالرحمة الإلهية و خوف من عقاب اللّه تعالى و لكل واحد من هذين الأمرين حدّ و فاصل.

فحدّ الرجاء هو أن لا يتجرأ الإنسان على ارتكاب المعاصي، و لا يظن أنه مشمول للرحمة الإلهية و لا يضرّبه ارتكاب الذنب و المعصية.

و حدّ الخوف هو أن لا ييأس من اللطف الإلهي، لأن اليأس من الرحمة واد خطير جدا في نفسه، و اليأس من رحمة اللّه من المعاصي الكبيرة المساوقة للكفر كما في قوله تعالى لاٰ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكٰافِرُونَ (3).

فالإنسان لا ينبغي أن ينخدع بمدح الجاهل له لأن الإنسان لحسن ظنّه بنفسه قد يعتقد أن مدح هؤلاء الأشخاص له واقع و حقيقة فيدعوه ذلك للتكبر و الغرور و العجب و يقع في ذلك.

ص: 153


1- كلمات مضيئة: 94.
2- تحف العقول، صفحة: 304.
3- سورة يوسف: 87.

و من هنا كان أفضل الأعمال هو العبادة المقترنة بالتواضع(1).

و قال عليه السّلام: «و (قد) قيل له: قوم يعملون بالمعاصي و يقولون: نرجو، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم الموت.

فقال عليه السّلام: هؤلاء قوم يترجّحون في الأماني، كذبوا ليس يرجون، إنّ من رجا شيئا طلبه، و من خاف من شيء هرب منه»(2).

في جوابه على مقالة بعض الناس الذين يرتكبون المعاصي و يقولون بأنّهم يرجون و يأملون رحمة اللّه تعالى، يقول عليه السّلام: إنّ هؤلاء غارقون في التوهّمات و التخيّلات، و هم كاذبون في إدعائهم هذا ليس عندهم أمل و رجاء واقعا و حقيقة.

و ذلك لأن الشخص إذا كان واقعا يرجو شيئا فإنه يسعى نحوه و يطلبه و إذا كان واقعا يخاف أمرا فإنه يتجنّبه و يهرب منه.

إنّ غفران الذنوب من مظاهر الرحمة الإلهية الرحيميّة، و هذه الرحمة لا تأتي إلى الإنسان بل الإنسان هو الذي يطلبها و يسعى نحوها. و هذا الأمر كان يفعله الأنبياء و الأئمة عليهم الصلاة و السّلام و الأولياء الربّانيون أيضا، فإنّهم لأجل خوفهم من الذنوب و المعاصي كانوا يدعون اللّه و يناجونه و يتوسّلون به و يبكون بكاء شديدا من ذلك.

فنسأل اللّه أن يجعلنا من الموالين و التابعين الصادقين لهم(3).

ص: 154


1- كلمات مضيئة: 94.
2- تحف العقول، صفحة: 362.
3- كلمات مضيئة: 95.

التودد و المحبة

أهمية التحبب

عن علي بن أبي طالب عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: رأس العقل بعد الأيمان باللّه عزّ و جلّ التحبّب إلى الناس»(1)

إنّ أشرف و أفضل عضو من أعضاء بدن الإنسان هو الرأس.

و في هذا الحديث يشبّه العقل بجسد الإنسان، و لمّا كان أشرف عضو في الجسد هو الرأس فهذا يعني أنّ أفضل العقل هو رأسه.

و رأس العقل كما في الحديث هو التحبّب إلى الناس بأفعاله و أقوله(2).

أهمية التواصل و عدم التباغض

من وصية أمير المؤمنين عليه السّلام لولديه الحسنين عليهما السّلام: «و صلاح ذات بينكم» يعني لتكن قلوبكم خالية من الضغائن، و لتكن كلمتكم واحدة و لا تتفرّقوا و تختلفوا، و لتكن علاقة بعضكم مع البعض أخوية و حسنة.

ثمّ يأتي عليه السّلام بحديث للنبي (صلّى اللّه عليه و آله) دعما لوصيّته، و هذا يكشف عن

ص: 155


1- الخصال، باب الواحد، ح: 55.
2- كلمات مضيئة: 127.

اهتمامه البالغ بهذا الأمر لا لأنّه أكثر أهمّية من مسألة نظم الأمر؛ بل لأنّ مسألة «إصلاح ذات البين» معرّضة للضرر أكثر من مسألة نظم الأمر؛ لذلك فهو يشفع ذلك بحديث لرسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) تأكيدا على أهمّية هذا الأمر، يقول: «فإنّي سمعت من جدّكما يقول صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة و الصيام»(1).

عند ما يريد البعض أن يقوم بأداء صلاة أو صيام، فهو أمر مطلوب و مهم، و لكن هناك عمل أفضل من هذه الصلاة و هذا الصيام، و هو السعي لإصلاح ذات البين.

فعند ما ترى تشتّتا و اختلافا بين أبناء الامة الإسلامية عليك أن تسعى لرفع هذه الفرقة و الاختلاف، فإن عملك هذا أفضل من عامة الصلاة و الصيام(2).

و يقول أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث أخر: «و عليكم بالتواصل و التباذل و إيّاكم و التدابر و التقاطع، و لا تتركوا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فيولّى عليكم شراركم ثمّ تدعون فلا يستجاب لكم»(3) إذا اعتادت الامة أن لا تقول للشرير إنّك شرير، فإنّها ستفتح الطريق أمام الأشرار و المنحرفين لتولّي زمام أمورها، و عندها لا يستجاب حتى دعاء الأخيار للخلاص من هؤلاء الأشرار الفاسقين(4).

المحبة تورث و لا تعلّم

عند ما تصبح المحبة متجذرة فإنها تورّث، كالخصال الإنسانية و تنتقل من جيل الى جيل آخر كما هي محبة الحسين بن علي عليه الصلاة و السّلام أو محبة أهل البيت عليهم السّلام.

فهذه امور لا تكون لدى جيل من الأجيال، فيأتي جيل آخر و يحاول تعلمها، كلا،

ص: 156


1- نهج البلاغة: 76/3.
2- من كلمة ألقاها في: 12 رمضان 1414 ه - طهران.
3- المصدر السابق.
4- من كلمة ألقاها في: 12 رمضان 1414 ه - طهران.

فهي لا تأتي عن طريق التعليم، بل يورّثها جيل الى جيل آخر، فهي تنتقل عن طريق تربية الآباء، تربية الامهات، و دلال المربين، و في مناغاة المرضعات للأطفال، و بهذا المعنى تتجذر مسألة ما، و قد كان و لا زال الإعتقاد بالعلماء في مجتمعنا متجذرا(1).

ص: 157


1- من كلمة ألقاها في 22 شعبان 1413 ه - طهران.
أثر الرفق و التودد

قال الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، عليك بالرفق فإنّ الرفق يمن و الخرق شؤم.

إن الرفق و البرّ و حسن الخلق يعمر الديار و يزيد في الرزق»(1)

يجب على المؤمن في كل المظاهر و العلاقات الإجتماعية مع الآخرين - سواء في القول أم في العمل - أن يتعامل معهم برفق و مداراة و سلوك حسن، و يجتنب عن الخشونة و القسوة معهم.

و الأثر المترتب على الرفق و المداراة ليس محصورا بالثواب الأخروي فقط و لا محدودا في العلاقات الفردية، بل أثره يشمل وضعيّة المجتمع كلّه فيعطي الرونق و الزهو للحياة الإجتماعية في كل البقاع المعمورة.

و ذلك لأنّ اللّطف و اللّيونة توجب الإلفة و التعاون بين الناس، ممّا يؤدّي في النتيجة النهائية إلى تقدّم و تطوّر أمور المجتمع.

و في الوقت الذي يكثر و يزدهر العمران في المجتمع سوف يزداد رزق و معاش الناس أيضا.(2)

و قال الإمام علي بن موسى الرضا عليه السّلام: «قال الرضا عليه السّلام: لا يكون المؤمن مؤمنا حتى تكون فيه ثلاث خصال: سنّة من ربّه و سنّة من نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سنّة من وليّه عليه السّلام. فأمّا السنّة من ربّه فكتمان السرّ. و أمّا السنّة من نبيّه صلّى اللّه عليه و آله فمداراة الناس. و أمّا السنّة من

ص: 158


1- تحف العقول، صفحة: 395.
2- كلمات مضيئة: 127.

وليّه عليه السّلام فالصبر في البأساء و الضرّاء»(1).

كمال إيمان المؤمن مرتبط بأمور ثلاثة و عدّ منها المداراة...: و أمّا المداراة مع الناس فلأنّه يوجد في المجتمع أشخاص منافقون و ضعيفو الإيمان و الواجب علينا أن نتعامل معهم بمداراة، و هذا لا يعني أن نعتمد عليهم و نثق بهم و نسند الأعمال و المهام إليهم.

و لكن يجب علينا إعطاؤهم حقوقهم و احترامها و نتعايش معهم(2).

ثواب التودد

عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «أربع من كنّ فيه بنى اللّه له بيتا في الجنة: من آوى اليتيم، و رحم الضعيف، و أشفق على والديه، و رفق بمملوكه»(3)

من كانت فيه هذه الخصال الأربعة بنى اللّه تعالى له بيتا في الجنة. و هي:

1 - من آوى اليتيم أي تكفله و كان ملجأ له.

2 - من رحم الضعيف أي يتعامل معه برحمة و لطف و محبة. و ذلك لأنه عادة عند ما يتعامل الناس و يتصرفون مع الأشخاص الأقوياء و القادرين سواء من الناحية المادية أم من ناحية السلطة و المقام و المنصب، فإنهم يراعون الدقة و الضوابط، أما إذا تعاملوا مع الناس الضعاف فلا يتقيدون بشيء من الحدود الإجتماعية.

3 - من أشفق على والديه، أي كان لطيفا و دودا و شفيقا في تصرفاته معهما.

و الشفقة أعلى مرتبة من الطاعة للوالدين، لأنه من الممكن أن يطيعهما فيما يريدانه و لكنه قد يكون كارها لذلك فيفعله عن كره منه، و أما الشفقة فهي الطاعة لهما

ص: 159


1- تحف العقول، صفحة: 442.
2- كلمات مضيئة: 54.
3- الخصال/باب الأربعة/ح 53.

مع اللطف و المحبة.

4 - الرفق بالمملوك، أي أن يتعامل معه بلطف و يسر. و اليوم و لله الحمد لا وجود لمسألة العبيد، و لكن هناك الأجراء و المستخدمون الذين يعملون في البيوت و الإدارات و الوظائف فهؤلاء يجب التعامل معهم بلطف و يسر أيضا.

و المستفاد من هذه الرواية التي تدعو الجميع للتحلي بالمسائل الأخلاقية أن الإسلام و هو ذاك الدين المقدّس أهتم كثيرا جدا بالمحبة و المودة بين الناس بحيث من يراعي هذه المسائل الأخلاقية تجب له الجنة(1).

ص: 160


1- كلمات مضيئة: 187.
أهميّة المداراة و اللين

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام: يا علي ثلاثة من لم تكن فيه لم يقم له عمل: «ورع يحجزه عن معاصي اللّه عزّ و جلّ.

و خلق يداري به الناس.

و حلم يردّ به جهل الجاهل.»(1)

و من هذه الأمور: خلق يداري به الناس، فإنه إذا لم يكن لديه صفة المداراة مع الناس فإنه لن يصل إلى شيء في هذه الدنيا لأنّ الناس مختلفون في الفكر و المصالح، و الحياة ساحة مليئة بالتزاحم و التصادم و التضاد بين مصالح الناس. فإذا لم يتعامل معهم بمداراة و كان يتصادم و يتعارك مع كل شخص لا يتّفق معه بالأفكار و المصالح فإنّ حياته و الآخرين أيضا سوف تتحوّل الى جهنّم.

و من هذه الأمور: حلم يردّ به جهل الجاهل: و المراد من الجاهل هنا ما يقابل العاقل فإن الإنسان حينما يتعامل مع الأشخاص السّفهاء في المعاملات و المبادلات التجاريّة يجب عليه أن يتحلى بالحلم، فإذا تكلم معه شخص كلاما سفهيّا أو تصرّف معه تصرّفا سفهيّا كذلك يجب عليه أن يعفو و يتسامح معهم بحلمه، لأنّه إذا أراد أن يبادلهم بالمثل فإنّه سيواجه المشاكل و المتاعب في حياته(2).

و من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من زين الإيمان الفقه، و من زين الفقه الحلم، و من زين

ص: 161


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 121.
2- كلمات مضيئة: 17.

الحلم الرفق، و من زين الرفق اللين، و من زين اللين السهولة»(1).

المراد من الفقه هنا العلم و المعرفة.

فالعلم و المعرفة زينة الإيمان.

و الحلم و التحمّل و الصبر زينة العلم.

و الحلم معناه أن يكون الإنسان لديه السعة كالبحر العميق الواسع الذي لا يضطرب و لا يثور لأقلّ الأمور، بل يكون عند وقوع الحوادث هادئا غير مضطرب.

و زينة الحلم الرفق و المداراة و المؤالفة مع الناس.

و زينة الرفق و المداراة اللين و التعامل الحسن مع الناس لا الشدّة و الخشونة.

و زينة اللين السهولة، بمعنى تهيئة الأجواء لأجل راحة الناس و إزالة الموانع عن ذلك(2).

و عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أ لا أخبركم بمن تحرم عليه النار غدا؟

قيل: بلى يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

قال: الهّين اللّين القريب السهل».(3)

يقول النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله إن هناك صفات أربعة إذا وجدت في المؤمن فإن اللّه تعالى يحرّم عليه النار. و هي:

1 - الهيّن، أي الشخص الهادىء الذي لا يصرخ و لا يثور بالباطل، و الهيّن إذا كانت صفة للفعل فتأتي بمعنى السهل، قال اللّه تعالى قٰالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ (4) أي سهل.

ص: 162


1- تحف العقول، صفحة: 368.
2- كلمات مضيئة: 19.
3- الخصال/باب الأربعة/ح 83.
4- سورة مريم: 9.

2 - الليّن، أي الشخص اللطيف الناعم الذي لا يكون صعبا و قاسيا في علاقته الإجتماعية.

3 - القريب، أي الشخص الذي يمكن الإتصال و الإرتباط به و الوصول إليه. و ليس المراد من القرب هنا القرب المكاني بل القرب من الناحية الروحية و العملية. فإن بعض الناس يكونون قساة و سيئي الأخلاق الى حد لا يمكن التكلم معهم و لا إقامة العلاقات معهم.

4 - السهل و الأصل فيه الأرض المنبسطة في مقابل الأرض الوعرة غير الصالحة للزراعة.

طبعا ليس المراد أنه يجب التحلي بهذه الصفات في كل الحالات و الموارد و الظروف، لأنه في مثل الجهاد تجب الشدة و القسوة على الكفار، و بالنسبة للقيم و الأصول العقائدية لا يجوز التسامح و التساهل فيها بل يصدق في موردها قوله تعالى:

لاٰ أَعْبُدُ مٰا تَعْبُدُونَ (1) .

و إنما المقصود أنّه في العلاقات الإجتماعية و المعاملات و التصرفات مع الناس و خاصة بالنسبة للمؤمنين الذين يتواجدون في المناصب و المراكز، يجب أن يكونوا مع الناس رحماء و يعاملوهم برفق و بلطف و لين.

فإنهم إذا كانوا في تعاملهم مع الناس واجدين لهذه الصفات كان اللّه راضيا عنهم و حرّم عليهم النار يوم القيامة.(2)

ص: 163


1- سورة الكافرون: 2.
2- كلمات مضيئة: 24.
التعامل بالمودة و اللطف

قال أمير المؤمنين عليه السّلام في وصيته لأبنه محمد بن الحنفية: «و ألزم نفسك التودد، و صبّر على مؤونات الناس نفسك، و ابذل لصديقك نفسك و مالك، و لمعرفتك رفدك و محضرك، و للعامة بشرك و محبتك، و لعدوك عدلك و إنصافك، و اضنن بدينك و عرضك عن كل أحد فإنه أسلم لدينك و دنياك».(1)

هذه التوصية جزء من وصايا أمير المؤمنين عليه السّلام لابنه محمد بن الحنفية، و فيها يقول له: ألزم نفسك التعامل بالمودّة و المحبة و اللطف مع الناس، و اصبر على تحمل النفقات و التكاليف و المصاريف التي تأتيك من قبل مشاكل الناس و متاعبهم، فإنه على الأنسان أن يصبر و يتحمل أمام المرارات و عدم المبالاة و الجفاء الذي يأتيه من قبل الناس.

ثم يبين له أنّ هنالك ثلاثة أصناف من الناس الذين يعاشرهم و لكل قسم منهم تكليف محدّد و عليه الإتيان بوظيفته المشخّصة معهم، و هم:

1 - الأصدقاء الأوفياء الأحباء الصادقون، و كما في تعبير بعض الروايات هم إخوان الصفا.

فهؤلاء يستحقون على الإنسان أن يبذل نفسه و ماله من أجلهم، كما إذا تعرضوا لخطر و كان إنقاذهم منه يستلزم الإقدام على الخطر و الوقوع فيه.

2 - المعارف من الناس الذين يجلس معهم و يحادثهم و يخالطهم و لكن لا بذلك المستوى الموجود في الصنف الأول. و هؤلاء ورد التعبير عنهم في بعض الروايات

ص: 164


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 178.

بإخوان المكاشرة(1).

و حق هؤلاء أنه إذا جلس معهم و حادثهم و كانوا في مجلسه فعليه أن يقوم بضيافتهم و لا يقصّر معهم في شيء من العطاء لهم.

3 - عامة الناس و هؤلاء يجب أن يتعامل معهم بخلق حسن و مودة فلا يقطب وجهه أمامهم و لا يكون حادّ المزاج معهم.

و أما الأعداء فيجب أن يتعامل معهم بالعدل و الإنصاف حتى و إن كانوا أعداء، يقول اللّه تعالى وَ لاٰ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلىٰ أَلاّٰ تَعْدِلُوا (2).

و أما دينه و عرضه و شرفه و مكانته فهذا يجب التمسك به و لا يعرضه لأحد من الناس أبدا، و لكن هذا لا يعني أنه و من أجل الحفاظ على شرفه و كرامته و عرضه يباح له أن لا يراعي و لا يحفظ كرامة و شرف الناس، بل المقصود هو أن لا يقوم بعمل يوجب إراقة ماء وجهه و كرامته(3).

ص: 165


1- عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قام رجل بالبصرة إلى أمير المؤمنين ع فقال يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الإخوان فقال الإخوان صنفان إخوان الثّقة و إخوان المكاشرة فأمّا إخوان الثّقة فهم الكفّ و الجناح و الأهل و المال فإذا كنت من أخيك على حدّ الثّقة فابذل له مالك و بدنك و صاف من صافاه و عاد من عاداه و اكتم سرّه و عيبه و أظهر منه الحسن و اعلم أيّها السّائل أنّهم أقلّ من الكبريت الأحمر و أمّا إخوان المكاشرة فإنّك تصيب لذّتك منهم فلا تقطعنّ ذلك منهم و لا تطلبنّ ما وراء ذلك من ضميرهم و ابذل لهم ما بذلوا لك من طلاقة الوجه و حلاوة اللّسان. الكافي: 249/2 ح 3.
2- سورة المائدة: 8.
3- كلمات مضيئة: 128.
طلاقة الوجه و حسن اللقاء

من مواعظ عليّ عليه السّلام: «إنّ أحسن ما يألف به الناس قلوب أودّائهم، و ينفوا به الضغن عن قلوب أعدائهم حسن البشر عند لقائهم و التفقّد في غيبتهم و البشاشة بهم عند حضورهم»(1)

إنّ حسن الوجه و بشاشتة و حسن التعامل سبب لكسب محبة الناس و تأليف قلوبهم، و قد ورد في الروايات الشريفة عن المعصومين عليهم السّلام «التودد نصف العقل»(2) و هذا الحديث يجب أن ينتبه إليه كثيرا جميع المسؤولين في النظام الإسلامي و خاصة العلماء المتصدّين لبعض المسؤوليات في الإدارات و المؤسسات، لأنه كثيرا ما يراجعهم أشخاص ليسوا على مستوى من الإيمان و التديّن فإذا تعاملوا معهم ببرودة و بلا اهتمام و اعتناء بهم كان ذلك سببا لتضعيف اعتقادهم بالدين و تزلزل إيمانهم.

بينما على العكس من ذلك فيما لو كان التعامل معهم بأخلاق حسنة فإنّه يوجب أن تكون نظرتهم إلى الدين و الإسلام نظرة تفاؤلية فينجذبوا إليه(3).

(و في الحديث الشريف: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فألقوهم بطلاقة الوجه و حسن البشر)(4).

ص: 166


1- تحف العقول، صفحة: 218.
2- انظر البحار: 168/71 ح 35.
3- كلمات مضيئة: 130.
4- أصول الكافي: 103/2 ح 1.

الإحسان

أهمية الإحسان

من وصيّة أبي عبد اللّه عليه السّلام لابن جندب: «يا ابن جندب صل من قطعك و اعط من حرمك و أحسن إلى من أساء إليك و سلّم على من سبّك و انصف من خاصمك و اعف عمّن ظلمك»(1).

هذه هي الأخلاق الإسلامية، فإن الإنتقام من الأخوة و الأصدقاء و الحقد و الضغينة لهم مرفوض مطلقا.

و لو أن شخصا أساء لأحد فقابله بالرد عليه ثم عاد الشخص الأول الإساءة و الآخر يجيبه بمثلها فحينئذ لن يكون للصلح و السلم و الصفاء أي أثر في المجتمع.

و لذلك يؤكد الإمام عليه السّلام في هذه الرواية على أمور:

إن الشخص الذي يقطع العلاقة و الإرتباط و الصلة معك لا تبادله بذلك بل صله و واصل الإرتباط معه.

و الشخص الذي يحرمك شيئا حينما يكون قادرا و مستطيعا عليه لا تقابله بالحرمان عند ما تستطيع و تقدر.

و الشخص الذي يسبّك ليكن ردّك عليه بالسلام.

ص: 167


1- تحف العقول، صفحة: 305.

و الشخص الذي يعاديك و يخاصمك و ينازعك تعامل معه بالعدل و الإنصاف.

و الشخص الذي يسيء إليك عامله بالإحسان.

و الشخص الذي يظلمك اعف عنه.

و بعبارة عامة و شاملة كل من تعامل معك بالسوء ليكن تعاملك معه بالإحسان.

و كل هذه الموارد هي في الحقيقة مصاديق لكلمة «يزكّيهم» في قوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي بَعَثَ فِي اَلْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ (1).

و اليوم فإنّ عمدة إبتلاءات الناس ناشئة من عدم تعلّمهم لهذه المفاهيم الأخلاقية العالية، و جهلهم بأن الإنسان ليس فقط عليه أن لا يعتدي على الآخرين فضلا عن مقابلة إساءته بالإحسان إليه(2).

ص: 168


1- سورة الجمعة: 2.
2- كلمات مضيئة: 25.

العشرة

حسن المعاشرة

و من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: صلاح حال التعايش و التعاشر ملؤ مكيال، ثلثاه فطنة و ثلثه تغافل»(1).

في نظرة الإسلام للمجتمع أن الواجب على أفراد المجتمع أن يعيشوا معا في سلم و صلح و صفاء و محبّة و هدوء و طمأنينة.

و لأجل الوصول إلى هذا الهدف من المناسب و اللائق للناس في معاشرتهم معا، و كذلك بالنسبة لربّ العائلة مع أفراد عائلته و مدير المؤسسة أو الدائرة مع سائر الموظفين لديه أن يراعي هذين الأمرين:

1 - أن يكون فطنا ذكيّا و ملتفتا إلى أعمالهم التي يقومون بها و يراقبها بدقة بحيث لا يخفى عليه شيء منها.

2 - و في نفس الوقت الذي يكون فيه فطنا و واعيا، أن يكون في الموارد التي يشتبهون فيها و يتعثّرون متغافلا عن زلاّتهم هذه و يغض النظر عنها. و ذلك لأنه إذا أراد أن يحاسبهم على كل تعثّر و اشتباه منهم فإنّ هذا سيؤدي إلى مرارة العيش و عدم التحمّل في التعايش معا.

ص: 169


1- . تحف العقول، صفحة: 359.

طبعا هذا كله في المعاشرة بين الناس العاديّين، و أمّا الذين يتحمّلون المسؤوليات الكبيرة و الثقيلة و في عهدتهم التصدّي و القيام بها فهؤلاء لا يجوز لهم التغافل و غضّ النظر أصلا(1).

و قال الإمام أبي جعفر محمّد بن علي الجواد عليه السّلام: «قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم، فإنّ اللّه يبغض اللّعان السبّاب الطعّان على المؤمنين، الفاحش المتفحش، السائل الملحف، و يحبّ الحيىّ العفيف المتعفّف»(2).

إنّ القسم الأساسي من حياتنا هو المعاشرة و الإختلاط مع الناس.

فإذا كانت علاقتنا مع الآخرين منظّمة و مبنيّة على أساس المحبّة و الإحترام فسوف تزول كثير من الخشونات و الصعوبات.

إذن يجب أن نتعامل مع الآخرين بأفضل طريقة ننتظرها في معاملتهم معنا.

و عليه فهناك عدّة طوائف من الناس مبغوضة للّه تعالى و هم:

1 - الذين يلعنون الآخرين أو يسبّونهم أو يهينونهم و يطعنون عليهم.

2 - الذين يتعاملون مع الآخرين بحدّة و أذيّة و انتقام و يذيعون عيوب الآخرين أمام الناس.

3 - الذين يلحّون و يصرّون في سؤالهم و طلبهم من الآخرين (الطلب الشخصي).

و هناك طوائف أخرى يحبّهم اللّه تعالى و هم:

1 - الذين يستحون و يخجلون من القيام بالأفعال القبيحة بل من مشاهدة المناظر القبيحة أيضا.

2 - الذين يحلمون عن الآخرين و يسعونهم بكظم غيظهم تماما كالبحر المحيط البعيد الغور، فيتحمّلون إهانة الآخرين و يكفّون أنفسهم عن ردّة الفعل تجاهها، كما

ص: 170


1- كلمات مضيئة: 26.
2- تحف العقول، صفحة: 300.

أنّهم لا يتأثرون بمدح الآخرين لهم.

3 - الذين يتصفون بالعفّة، و يتصرّفون بنجابة و أصالة و عفّة و طهارة مع الآخرين(1).

ص: 171


1- كلمات مضيئة: 28.
كيفية العشرة

من وصيّة أبي عبد اللّه عليه السّلام لابن جندب: «و لا تكن فظّا غليظا يكره الناس قربك، و لا تكن واهنا يحقّرك من عرفك»(1).

يجب على الإنسان أن يأخذ طريق الإعتدال في مسيرة حياته، و يجتنب عن الإفراط و التفريط في الأمور.

فلا يكون خشنا فظّا و شرس الطبع بحيث يتجنّب الناس عن معاشرته و يكرهون التعامل معه و الإقتراب منه.

و لا يكون عاجزا ضعيفا لا حول له و لا قوّة بحيث يحتقره من يعرفه من الناس.

و في المجتمع يوجد أشخاص من النحو الذي ذكرناه، فبعض الناس لأجل أن لا يظهروا بمظهر الخفة و الحقارة يقع في التكبّر.

و بعضهم على العكس فلأجل أن لا يعرفوا بالخشونة و قسوة القلب يتظاهرون بالخفّة و الضعف و عدم القدرة. و كلا هذين الطريقين مذموم(2).

ص: 172


1- تحف العقول، صفحة: 304.
2- كلمات مضيئة: 28-29.
السكينة
أثر السكينة في النفس

السكينة معناها الطمأنينة و الاستقرار بعيدا عن الاضطراب، و يتجسد أثرها لدى الشخص المسؤول في إتخاذ القرار الصائب بكل هدوء و رويّة عند حدوث أية مشكلة، و عدم الوقوع في ارتباك و اضطراب و ضياع في حالة حصول أي أمر طارئ «وقور عند الهزائز»، و الوقوف أمام الأحداث الصعبة و العسيرة كالصخرة بل كالجبل، و إذا لاقى من الدنيا رخاء و رغدا لا يلفّه الضياع.

و هذا خطر آخر يقع فيه الإنسان و ذلك أنه بمجرد أن تنبسط يده و يرى أمامه المجال مفتوحا و استشعرت نفسه الراحة و السعة يلفّه الضياع و يسارع إلى إتخاذ قرارات عاجلة و لا يتورع عن الاستهانة بالآخرين، و تتسع نوازعه الأنانية فيرخي لها الزمام.

أما إذا اتصف بالسكينة - بما تعنيه من وقار و طمأنينة ربّانية - فهي كفيلة بلجم تلك النوازع، و منع الإنسان من الإتيان بأعمال تنمّ عن ضآلته و تفاهة قدره، أو تظهره و كأنه ريشة في مهب الريح تميل حيث ما مالت.

أمّا ذو السكينة فهو - في هذا التشبيه - كبحر بعيد الغور لا يمكن لأية نسائم أو أية ريح أن تثير أمواجه.

و السكينة تنفع الإنسان عند الفقر و في الغنى، و في حالة الوحدة أو عند الكثرة، فإذا

ص: 173

لم يكن المرء يتحلّى بالسكينة و الطمأنينة و الاتكال على اللّه و الثقة بالمستقبل و الاعتماد على ما لديه من مبادئ الحق فلا يتمالك نفسه في مقابل مثل هذه الحوادث، خاصة إذا توفّرت لديه قرائن دالة على وجود مخطط مرسوم من الأعداء لتلك الحوادث.

السكينة في القرآن

تحدث القرآن في مواضع عن السكينة(1) فقال في كتابه الكريم: إِذْ جَعَلَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ اَلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ اَلْجٰاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اَللّٰهُ سَكِينَتَهُ عَلىٰ رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ اَلتَّقْوىٰ وَ كٰانُوا أَحَقَّ بِهٰا وَ أَهْلَهٰا وَ كٰانَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (2).

في هذه الآية نوع من المقارنة بين جبهة الكفر و جبهة الإيمان؛ فجبهة الكفر تستشعر الحمية و التعصب الجاهلي.

و هذه الأمور تتعلق بصلح الحديبية و ما تلاه من اختبارات مهمة و ذات مغزى

ص: 174


1- قال تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اَللّٰهُ سَكِينَتَهُ عَلىٰ رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهٰا وَ عَذَّبَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ذٰلِكَ جَزٰاءُ اَلْكٰافِرِينَ التوبة: 26. و قال: إِلاّٰ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اَللّٰهُ إِذْ أَخْرَجَهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا ثٰانِيَ اِثْنَيْنِ إِذْ هُمٰا فِي اَلْغٰارِ إِذْ يَقُولُ لِصٰاحِبِهِ لاٰ تَحْزَنْ إِنَّ اَللّٰهَ مَعَنٰا فَأَنْزَلَ اَللّٰهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهٰا وَ جَعَلَ كَلِمَةَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلسُّفْلىٰ وَ كَلِمَةُ اَللّٰهِ هِيَ اَلْعُلْيٰا وَ اَللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ التوبة: 40. و قال: هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ اَلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ اَلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدٰادُوا إِيمٰاناً مَعَ إِيمٰانِهِمْ وَ لِلّٰهِ جُنُودُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلِيماً حَكِيماً الفتح: 4. و قال: لَقَدْ رَضِيَ اَللّٰهُ عَنِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبٰايِعُونَكَ تَحْتَ اَلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مٰا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اَلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثٰابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً الفتح: 18. و قال: وَ قٰالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلتّٰابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمّٰا تَرَكَ آلُ مُوسىٰ وَ آلُ هٰارُونَ تَحْمِلُهُ اَلْمَلاٰئِكَةُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ البقرة: 248.
2- سورة الفتح: 26.

عميق حصلت في عهد الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله؛ فبعد أن سار الرسول الأعظم إلى الحديبية قاصدا مكّة، و عند توقّفه في الحديبية حاول المشركون فرض الحرب عليه، غير أن التدبير الإلهي للنبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله حال دون ذلك، و عاد المسلمون دون أن يدخلوا في الحرب، و تمكن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله من عقد معاهدة مع المشركين، كانت على درجة من الأهمية بحيث أشارت إحدى الروايات إلى أن سورة الفتح نزلت بشأن هذه المعاهدة و عبّرت عنها بالفتح، و ذلك قوله تعالى: إِنّٰا فَتَحْنٰا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1).

و قد استطاع النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله أن يشرح الأوضاع للمسلمين من خلال الآيات الشريفة و يعيّن لهم مواقع الجبهات(2).

إن القرآن و الإسلام يمنحان الإنسان العلم و الرفاه و العزة، و السكينة: هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ اَلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ اَلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدٰادُوا إِيمٰاناً مَعَ إِيمٰانِهِمْ (3)، فَأَنْزَلَ اَللّٰهُ سَكِينَتَهُ عَلىٰ رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ اَلتَّقْوىٰ (4).

فبالإضافة إلى ما فيه من لذّة دنيوية و رفاه مادّي و قدرة علمية، فهو يضفي السكينة و الاطمئنان و الاستقرار، و هذا ما تمّت تجربته على مرّ التاريخ، و هو قابل للتجربة في عصرنا الراهن؛ ففي إيران الإسلام تقدمنا خطوة صغيرة فلمسنا آثارها و شاهدنا بركاتها، و هي تزداد كلما تقدمنا إلى أمام.

هذا هو سبيل الفلاح اليوم للأمة الإسلامية، و القرآن هو المقدمة و بمثابة الصراط المستقيم لها(5).

ص: 175


1- سورة الفتح: 1.
2- من كلمة ألقاها في: 16 رمضان 1420 ه - طهران.
3- سورة الفتح: 4.
4- سورة الفتح: 26.
5- من كلمة ألقاها في 2 شعبان 1421 ه - طهران.

و معنى قوله تعالى: وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ اَلتَّقْوىٰ؛ أي عند ما نتخذ التقوى كلمة ثابتة و كلمة حق و تكليفا دائما.

يجب أن نضع التقوى نصب أعيننا في القول و الفعل؛ في عملنا مع زملائنا، و عند إتخاذ القرارات، و مع العاملين تحت إمرتنا، لأن إلتزامنا التقوى درس لهم، و سلوكهم درس لأبناء الشعب(1).

ص: 176


1- من كلمة ألقاها في: 16 رمضان 1420 ه - طهران.

الحب و البغض في اللّه

معنى الحب و البغض في اللّه

قال الصادق عليه السّلام: «من أوثق عرى الإيمان أن تحبّ في اللّه و تبغض في اللّه، و تعطي في اللّه و تمنع في اللّه»(1).

واحدة من أقوى و أوثق وسائل و أسباب الإيمان هي الحب في سبيل اللّه و البغض في سبيله.

و الحبّ و البغض مفهومان مرتبطان معا و لا انفكاك بينهما.

فالشخص الذي يفتتن بشخصية و الخلق الحسن للآخر و يعقد قلبه على حبّه و عشقه فهو يتنفّر من أعدائه و مخالفيه.

و يستفاد من هذه الرواية دور و أثر العواطف و الأحاسيس في مسألة الإيمان.

و يعلم أيضا أن الإيمان ليس فقط هو الفهم و الإدراك، و ذلك لأنّ الشخص الذي يعتقد بأمر ما من خلال البرهان و الدليل و لا يكون قلبه متعلقا بهذه العقيدة فإنّه لن يفعل شيئا اتّجاهها.

و واحدة أخرى من الحبال القوية و المحكمة للإيمان هي العطاء و المنع في سبيل اللّه.

ص: 177


1- تحف العقول، صفحة: 362.

و العطاء هو كلّ شيء محبوب من المال و المقام و النفس.

نسأل اللّه أن يوفّقنا للتمسّك بمقابض الإيمان(1).

و قال عليه السّلام: «لا يبلغ أحدكم حقيقة الإيمان حتّى يحبّ أبعد الخلق منه في اللّه، و يبغض أقرب الخلق منه في اللّه»(2).

لن يحصل الإنسان على حقيقة الإيمان حتى يكون أبعد الناس إليه - أي الأشخاص الذين ليسوا من أقاربه و لا من أحبّائه و أصدقائه - حبيبا له في اللّه أي لأجل دينه و تقواه و عمله الصالح.

بينما يكون أقرب الناس إليه - أي أقاربه و أصدقاءه و أودّاءه - أبغض الناس إليه في اللّه أي بسبب كفرهم و فسقهم و بعدهم عن اللّه.

و يستفاد بعد البحث و التحقيق في الروايات أنّ الإيمان ليس هو العلم و الإعتقاد فقط، بل إنّ العنصر العاطفي (الحبّ و البغض) معجون به أيضا. و لذا جاء في بعض الروايات: «هل الإيمان إلاّ الحبّ و البغض»(3).

و دور الحبّ و البغض و أثرهما في الإيمان كبير جدا إلى حدّ أنّهما إذا انفصلا عن الإيمان صار كالجسد بلا روح(4).

ص: 178


1- كلمات مضيئة: 147.
2- تحف العقول، صفحة: 369.
3- تفسير نور الثقلين: 83/5 ح 16.
4- كلمات مضيئة: 147.
أهمية الحب و البغض في اللّه

عن أمير المؤمنين علي عليه السّلام قال: قيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ما الذي يباعد الشيطان منّا»، أي ما هي الأمور التي تبعد الشيطان عنّا؟ بالطبع أنتم تعرفون أنّ الشيطان هو أعم من إبليس، الشيطان هو القوى التي تخلق الشر و الفساد و الإنحراف و التي تقوم بحرف الإنسان بصور و قوالب مختلفة، فتارة تظهر بصورة إنسان و تارة بصورة غير إنسان و أحيانا تتمثل في الأهواء النفسية و مرة يكون إبليسا.

و الأبالسة هم طائفة من الشياطين الذين وردت قصتهم في القرآن الكريم كما في قصة آدم، و هؤلاء طائفة كبيرة من الشياطين و لكنهم ليسوا وحدهم، هؤلاء شياطين الجن، و هناك شياطين الإنس الذين يكونون أكثر خطرا في بعض الأحيان.

إذن ما هي الأمور التي تبعد الشيطان عنّا؟

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:(1) «الصوم لله يسوّد وجهه(2).

لأن الصوم يقمع الغرائز الجسدية المضّللة و يمنعها من الطغيان.

«و الصدقة تكسر ظهره» لأن الصدقة هي إيثار من الإنسان فيما يملك «و الحب في اللّه تعالى و المواظبة على العمل الصالح يقطع دابره».

و هاتان الخصلتان هما أهم من تلك التي سبقتهما و إحدى هاتين الخصلتين هي الحب في اللّه و التي تعني توجيه العواطف و لا سيما عاطفة الحب وجهة إلهية.

ص: 179


1- و في حديث آخر عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: أ لا أخبركم بشيء إن فعلتموه تباعد الشيطان عنكم كما تباعد المشرق من المغرب؟ قالوا: بلى. قال:...، و ذكر الحديث سواء إلا أن فيه: «المؤازرة» بدل «المواظبة»، انظر الكافي: 62/4 ح 2.
2- مستدرك الوسائل: 154/7 ح 7894، و البحار: 264/60.

فإذا كنتم تحبون أحدا فليكن ذلك الحب لله لا للدنيا.

و الرويات الواردة في مسألة «الحب و البغض في اللّه» هي روايات كثيرة و مفصلة، و في كتاب الكافي يوجد باب(1) في هذا الموضوع كما توجد روايات كثيرة في كتب

ص: 180


1- باب الحبّ في اللّه و البغض في اللّه: 1 - عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن عيسى و أحمد بن محمّد بن خالد و عليّ بن إبراهيم عن أبيه و سهل بن زياد جميعا عن ابن محبوب عن عليّ بن رئاب عن أبي عبيدة الحذّاء عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال من أحبّ للّه و أبغض للّه و أعطى للّه فهو ممّن كمل إيمانه. 2 - ابن محبوب عن مالك بن عطيّة عن سعيد الأعرج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال من أوثق عرى الإيمان أن تحبّ في اللّه و تبغض في اللّه و تعطي في اللّه و تمنع في اللّه. 3 - ابن محبوب عن أبي جعفر محمّد بن النّعمان الأحول صاحب الطّاق عن سلاّم بن المستنير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ودّ المؤمن للمؤمن في اللّه من أعظم شعب الإيمان ألا و من أحبّ في اللّه و أبغض في اللّه و أعطى في اللّه و منع في اللّه فهو من أصفياء اللّه. 4 - الحسين بن محمّد عن معلّى بن محمّد عن الحسن بن عليّ الوشّاء عن عليّ بن أبي حمزة عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سمعته يقول إنّ المتحابّين في اللّه يوم القيامة على منابر من نور قد أضاء نور وجوههم و نور أجسادهم و نور منابرهم كلّ شيء حتّى يعرفوا به فيقال هؤلاء المتحابّون في اللّه. 5 - عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن حمّاد عن حريز عن فضيل بن يسار قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الحبّ و البغض أ من الإيمان هو فقال و هل الإيمان إلاّ الحبّ و البغض ثمّ تلا هذه ال آية حبّب إليكم الإيمان و زيّنه في قلوبكم و كرّه إليكم الكفر و الفسوق و العصيان أولئك هم الرّاشدون. 6 - عدّة من أصحابنا عن أحمد بن أبي عبد اللّه عن محمّد بن عيسى عن أبي الحسن عليّ بن يحيى فيما أعلم عن عمرو بن مدرك الطّائيّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأصحابه أيّ عرى الإيمان أوثق فقالوا اللّه و رسوله أعلم و قال بعضهم الصّلاة و قال بعضهم الزّكاة و قال بعضهم الصّيام و قال بعضهم الحجّ و العمرة و قال بعضهم الجهاد فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لكلّ ما قلتم فضل و ليس به و لكن أوثق عرى الإيمان الحبّ في اللّه و البغض في اللّه و توالي أولياء اللّه و التّبرّي من أعداء اللّه. 7 - عنه عن محمّد بن عليّ عن عمر بن جبلة الأحمسيّ عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المتحابّون في اللّه يوم القيامة على أرض زبر جدة خضراء في ظلّ عرشه عن يمينه و كلتا يديه يمين وجوههم أشدّ بياضا و أضوأ من الشّمس الطّالعة يغبطهم بمنزلتهم كلّ ملك مقرّب و كلّ نبيّ مرسل يقول النّاس من هؤلاء فيقال هؤلاء المتحابّون في اللّه 8 - عنه عن أبيه عن النّضر بن سويد عن هشام بن سالم عن أبي حمزة الثّماليّ عن عليّ بن الحسين عليه السّلام قال إذا جمع اللّه عزّ و جلّ الأوّلين و ال آخرين قام مناد فنادى يسمع النّاس فيقول أين المتحابّون في اللّه قال فيقوم عنق من النّاس فيقال لهم اذهبوا إلى الجنّة بغير حساب قال فتلقّاهم الملائكة فيقولون إلى أين فيقولون إلى الجنّة بغير حساب قال فيقولون فأيّ ضرب أنتم من النّاس فيقولون نحن المتحابّون في اللّه قال فيقولون و أيّ شيء كانت أعمالكم قالوا كنّا نحبّ في اللّه و نبغض في اللّه قال فيقولون نعم أجر العاملين. 9 - عنه عن عليّ بن حسّان عمّن ذكره عن داود بن فرقد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال ثلاث من علامات المؤمن علمه باللّه و من يحبّ و من يبغض. 10 - عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم و حفص بن البختريّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال إنّ الرّجل ليحبّكم و ما يعرف ما أنتم عليه فيدخله اللّه الجنّة بحبّكم و إنّ الرّجل ليبغضكم و ما يعرف ما أنتم عليه فيدخله اللّه ببغضكم النّار. 11 - عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن خالد عن ابن العرزميّ عن أبيه عن جابر الجعفيّ عن أبي جعفر عليه السّلام قال إذا أردت أن تعلم أنّ فيك خيرا فانظر إلى قلبك فإن كان يحبّ أهل طاعة اللّه و يبغض أهل معصيته ففيك خير و اللّه يحبّك و إن كان يبغض أهل طاعة اللّه و يحبّ أهل معصيته فليس فيك خير و اللّه يبغضك و المرء مع من أحبّ. 12 - عنه عن أبي عليّ الواسطيّ عن الحسين بن أبان عمّن ذكره عن أبي جعفر عليه السّلام قال لو أنّ رجلا أحبّ رجلا للّه لأثابه اللّه على حبّه إيّاه و إن كان المحبوب في علم اللّه من أهل النّار و لو أنّ رجلا أبغض رجلا للّه لأثابه اللّه على بغضه إيّاه و إن كان المبغض في علم اللّه من أهل الجنّة. 13 - محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن الحسين بن سعيد عن النّضر بن سويد عن يحيى الحلبيّ عن بشير الكناسيّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال قد يكون حبّ في اللّه و رسوله و حبّ في الدنيا فما كان في اللّه و رسوله فثوابه على اللّه و ما كان في الدّنيا فليس بشيء. 14 - عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن خالد عن عثمان بن عيسى عن سماعة بن مهران عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال إنّ المسلمين يلتقيان فأفضلهما أشدّهما حبّا لصاحبه. 15 - عنه عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر و ابن فضّال عن صفوان الجمّال عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال ما التقى مؤمنان قطّ إلاّ كان أفضلهما أشدّهما حبّا لأخيه. 16 - الحسين بن محمّد عن محمّد بن عمران السّبيعيّ عن عبد اللّه بن جبلة عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال كلّ من لم يحبّ على الدّين و لم يبغض على الدّين فلا دين له. الكافي: 128/2 ح 1 الى 16.

ص: 181

الحديث الاخرى(1).

و قال الإمام أبي محمد الحسن بن علي عليه السّلام: «حبّ الأبرار للأبرار ثواب للأبرار، و حبّ الفجّار للأبرار فضيلة للأبرار، و بغض الفجّار للأبرار زين للأبرار، و بغض الأبرار للفجّار خزي على الفجّار»(2).

تبيّن هذه الرواية قيمة المحبّة و البغض بين الناس على النحو التالي:

1 - إنّ محبّة الأبرار بعضهم بعضا موجبة للثواب و الأجر لهم.

2 - إنّ محبّة الفجّار للأبرار تعتبر فضيلة و مكرمة للأبرار.

3 - إنّ بغض و عداوة الفجّار للأبرار تعتبر زينا للأبرار.

طبعا بغض الفجّار للأبرار هنا لأجل صفاتهم الحميدة.

4 - إن بغض و عداوة الأبرار للفجّار توجب الخزي و المذلّة للفجّار(3).

و قال الإمام محمّد الجواد عليه السّلام: «أوحى اللّه إلى بعض الأنبياء، أمّا زهدك في الدنيا فتعجّلك الراحة، و أما انقطاعك إليّ فيعززك بي، و لكن هل عاديت لي عدوّا و واليت لي وليّا»(4)

الأشخاص الذين لم تأسرهم الماديّات و لم يخضعوا لتجاذبات الكماليّات و الزوائد المعيشية، فهؤلاء يعيشون براحة و اطمئنان، و هذا هو الربح المعجّل للزاهد.

ص: 182


1- من كلمة ألقاها في 1415/4/4 ه.
2- تحف العقول، صفحة: 487.
3- كلمات مضيئة: 145.
4- تحف العقول، صفحة: 456.

و أما الإنقطاع و التحرر عمّا سوى اللّه تعالى و الإرتباط باللّه تعالى فهو وسيلة العزة في المجتمع، و هذا أيضا ربح معجّل.

إذن فهاتان الصفتان في الواقع من الأمور المريحة. و لكن هل قمت بعمل صعب و شاق في سبيل اللّه تعالى؟ فهل عاديت عدو اللّه و واليت وليّ اللّه؟

و في بيان آخر لهذا الحديث:

الزهد في الدنيا يوجب الراحة و الإنقطاع إلى اللّه تعالى يجعلك من عبادنا المطيعين العاملين بتكاليفهم فيوجب لك العزة الحقيقية.

(و هذا كناية عن كون هذه الأمور يعود نفعها إلى الإنسان)

و أما الأمر المهم فهو الموالاة في اللّه و المعاداة في اللّه فهل اتخذت عدو اللّه عدوّا لك و هل اتخذّت وليّ اللّه وليا لك؟ بمعنى أنك هل قمت بالعمل الذي فيه مشقّة و صعوبة و ابتلاء أم لا؟(1)

ص: 183


1- كلمات مضيئة: 116.
حب اللّه أصل الدين

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «هل الدين إلاّ الحبّ؟ إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّٰهُ (1).(2).

إنّ أصل و أساس الدين هو الحبّ للّه تعالى و رسله.

و إنّ إتّباع الأنبياء العظام و الرسل الكرام عليهم السّلام و كذلك أهل بيت النبوة و الطاهرة صلوات اللّه عليهم متفرّع عن هذا الحبّ، و الواقع هو هكذا، فإنه إذا لم يكن هناك محبّة في هذا الأمر فإنّ أكثر الأعمال الدينية شاقة و ثقيلة و الإنسان بطبيعته يتهرّب من عبء و مشقّة التكليف.

و لذلك تجد أنّ الإنسان الذي يؤدي صلاته و صيامه و سائر التكاليف الدينية عن كره و بلا رغبة، مشكلته تكمن في أنه قليل المحبّة للّه تعالى، و إلاّ فإنّ الإنسان الذي يضع قدمه في وادي المحبة الإلهية فإنه يسعى وراء التكاليف و يؤدّيها بشوق و شغف.

طبعا إنّ السبب في تكوّن و وجود هذه المحبّة هو المعرفة أو الأعمال العبادية.

فإذا قام الإنسان بالإتيان بالعبادات متوجّها بها نحو اللّه تعالى فلا شك في أنّ الحب الإلهي سوف يأخذ مكانه في قلبه، و إذا حلّت المحبة الإلهية في قلبه فهذا سوف يكون سببا باعثا للقيام بالأعمال و التكاليف بشوق و شغف.

إذن فهناك تأثير متبادل من كلا هذين الأمرين (المحبة - و الأعمال العبادية).

ص: 184


1- سورة آل عمران: 31.
2- الخصال، باب الواحد، ح: 74.

و من لوازم اتباع اللّه سبحانه و تعالى هو حبّ اللّه تعالى لعبده و هذا نفسه جنّة المقرّبين الإلهيين.

فنسأل اللّه تعالى أن يجعل نور محبّته مشعّا في قلوبنا(1).

ص: 185


1- كلمات مضيئة: 145.
بين حب اللّه تعالى و الخوف منه

من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «الحبّ أفضل من الخوف، و اللّه ما أحبّ اللّه من أحبّ الدنيا و والى غيرنا، و من عرف حقّنا و أحبّنا فقد أحبّ اللّه»(1)

هناك سببان و علّتان لقيام الإنسان بالأعمال و النشاطات و العبادات هما: المحبّة و الخوف.

إنّ الخوف من اللّه تعالى و إن كان سببا مهمّا جدّا، و قد جاء في القرآن و الروايات ما يحثّ و يشجع عليه، إلاّ أنه في مقام التقييم تعتبر المحبّة أفضل من الخوف.

فإذا كان الإنسان يأتي بعباداته بداعي المحبّة و العشق الإلهي فعباداته أفضل مما إذا أتى بها بداعي الخوف من اللّه.

و عنوان المحبة لا ينبغي أن يخدع الإنسان لأن المحبّة إذا كانت موجودة في القلب فالإنسان يتخطي و لن يتجاوز قيد أنملة عن أوامر محبوبه. و كما قال اللّه تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي (2).

إذن فالمحبّة لا نحصل عليها بالإدّعاء بل تتحقق من خلال سلوك طريق التعبّد و القرب إلى اللّه تعالى، و تكون المحبّة مسيطرة على تمام وجود الإنسان(3).

ص: 186


1- تحف العقول، صفحة: 357..
2- سورة:.
3- كلمات مضيئة: 146.

شكر النعم

عظمة الشكر و أهميته

قال الإمام أبو الحسن الثالث عليه السّلام: «الشاكر أسعد بالشكر منه بالنعمة التي أوجبت الشكر، لأنّ النعم متاع، و الشكر نعم و عقبى»(1).

الإنسان الذي يشكر اللّه تعالى لأجل النعم التي وهبها له تكون سعادته بشكره هذا أكثر و أشدّ من سعادته بالنعمة التي وهبت له.

و السرّ في ذلك هو أنّ النعم التي تعطى له ليست إلاّ منفعة و متاعا دنيويّا و هو قابل للزوال و الذهاب.

بينما الشكر على هذه النعم يوجب بقاء و دوام هذه النعم و عدم زوالها مضافا إلى الثواب و الأجر الأخروي المترتّب على الشكر.(2)

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لابن جندب: «و الواجب على من وهب اللّه له الهدى و أكرمه بالإيمان و ألهمه رشده و ركّب فيه عقلا يتعرّف به نعمه و آتاه علما و حكما يدبّر به أمر دينه و دنياه، أن يوجب على نفسه أن يشكر اللّه و لا يكفره، و أن يذكر اللّه و لا ينساه، و أن

ص: 187


1- تحف العقول، صفحة: 483.
2- كلمات مضيئة: 169.

يطيع اللّه و لا يعصيه»(1).

الإنسان الذي يكون موردا لنظر اللّه و لطفه و عنايته في الأمور التالية:

1 - أنعم عليه بالهداية هبة و هدية منه تعالى و أكرمه بالإيمان و الإعتقاد الرّاسخين.

2 - ألهمه الرشد في القيام بالعمل الصحيح و الصالح.

3 - أعطاه العقل و الحكمة ليتعرف بهما على النعم الإلهية و ليدبّر بهما أمور دينه و دنياه.

فهذا الإنسان يجب عليه أن يقوم بأمور ثلاثة في المقابل:

1 - شكر هذه النعم الإلهية فلا يجحدها و يكفر بها.

2 - تذكّر اللّه تعالى دائما و عدم نسيانه أبدا.

3 - إطاعة اللّه في أوامره و اجتنابه عن معصيته فيما نهى.

و من البديهي و الواضح أن وجوب هذه الأمور ليس وجوبا شرعيّا بل هو وجوب عقلي، و لذلك يحكم بها عقل الإنسان حتى و إن لم ترد في الشرع أصلا.

بمعنى أن عقل الإنسان و وجدانه يدعوانه إلى الشكر و الذكر و الإطاعة للّه تعالى على تلك النعم(2).

و قال الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، إنّ العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره، و لا يغلب الحرام صبره»(3).

الإنسان العاقل هو الذي إذا اكتسب نعمة من طريق حلال لا تشغله هذه النعمة عن شكر اللّه تعالى، و لا الأمر الحرام يغلب صبره و تحمّله.

و من أقسام الصبر و فروعه الصبر على المعصية، بمعنى أنّ الإنسان العاقل عند ما

ص: 188


1- تحف العقول، صفحة: 306.
2- كلمات مضيئة: 58.
3- تحف العقول، صفحة: 386.

يواجه و يقف أمام المال الحرام لا يغلبه هوى نفسه الأمّارة فلا يمدّ يده إلى هذا المال(1).

المحافظة على النعم

قال أبو جعفر الباقر عليه السّلام: «قال سليمان بن داود عليه السّلام: أوتينا ما أوتي الناس و ما لم يؤتوا، و علّمنا ما علّم الناس و ما لم يعلّموا، فلم نجد شيئا أفضل من خشية اللّه في الغيب و المشهد، و القصد في الغنى و الفقر، و كلمة الحق في الرضا و الغضب، و التضرع الى اللّه عزّ و جلّ في كل حال»(2).

يقول النبي سليمان على نبينا و آله و عليه السّلام: إنّ اللّه تبارك و تعالى أعطانا كل النعم التي أعطاها للناس و خصّنا بنعم لم يعطها لهم، و أعطانا كل العلوم التي عند الناس و خصّنا بعلوم لم يعطها لهم، فلم نجد من بينها كلها شيئا أفضل من أربعة أمور:

1 - الخوف و الخشية من اللّه تعالى في السر و العلن و الغيب و المشهد.

2 - القصد و الإعتدال في الغنا و الفقر و الضيق.

3 - قول الحق في حال الرضا و الراحة و الهدوء و في حال الغضب و السخط.

فإن إحدى المخاطر التي تهدد الناس هي هذه المسألة، حيث إنهم في حالتهم العادية حيث الراحة و الطمأنينة يقولون الحق، و لكنّهم في حال الغضب يفلت زمام الأمور من أيديهم و ينطلق لسانهم بالقول الباطل و القبيح.

4 - التضرّع و الإستغاثة و الطلب من اللّه تعالى في كل الحالات سواء كان يواجه المخاطر و الأحداث أم لا.

فإن التضرع و الطلب من اللّه تعالى عمل مرضي و محبوب لله و قد رغّب و حثّ

ص: 189


1- كلمات مضيئة: 89.
2- الخصال/باب الأربعة/ح 246.

عليه اللّه في القرآن الكريم فقال فَلَوْ لاٰ إِذْ جٰاءَهُمْ بَأْسُنٰا تَضَرَّعُوا (1).

و لكن يجب الإلتفات الى أنّ التوفيق الى هذه الأمور لا يحصل للإنسان دائما، و ما أكثر الأسباب المانعة من حصول هذه النعمة. و لذلك قال اللّه تعالى وَ لٰكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ (2)، و ذلك لأن الإنشغال بالمظاهر الدنيوية يوجب قسوة القلب، و قسوة القلب تمنع من حصول التضرّع، و إذا لم يتضرّع الإنسان فإنّ باب الفرج يغلق أمامه(3).

ص: 190


1- سورة الأنعام: 43.
2- سورة الأنعام: 43.
3- كلمات مضيئة: 11.
شروط شكر النعم

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «من أنعم اللّه عليه نعمة فعرفها بقلبه و علم أنّ المنعم عليه اللّه فقد أدّى شكرها و إن لم يحرّك لسانه، و من علم أنّ المعاقب على الذنوب اللّه فقد استغفر و إن لم يحرّك به لسانه، و قرأ: إِنْ تُبْدُوا مٰا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحٰاسِبْكُمْ بِهِ اَللّٰهُ (1).(2).

يبتنى الشكر على قاعدتين أساسيّتين:

إحداهما: أن يعلم الإنسان أن كل ما عنده من مال و مقام و استعداد و غيرها من النعم هي من اللّه تعالى. و لا يتوهّم أنه حصل عليها من خلال سعيه و جهده و عمله.

و الأخرى: أن يعرف هذه النعم الإلهية، فإنّ الإنسان لغفلته كثيرا ما يغفل عن التوجّه و الإلتفات إلى النعم الإلهية التي يواجهها يوميّا في حياته.

فمثلا الطعام الذي يأكله يحتاج إلى مقدار كثير من الأسباب و المعدّات من قبيل الأسنان و اللّسان و القدرة على الإبتلاع و قوّة الجذب و الدفع بحيث إذا فقد أحدها اختلت التغذية لديه.

و حينئذ فإذا اعتقد الإنسان بقلبه بهاتين القاعدتين كان في الحقيقة و الواقع شاكرا للّه تعالى و إن لم يحرّك لسانه بذلك، و كذلك الإنسان الذي يعتقد بأنّ اللّه تعالى سوف يعاقب الإنسان على ذنوبه و معاصيه كان في الحقيقة مستغفرا حتى و إن لم يحرك لسانه بذلك.

ص: 191


1- سورة البقرة: 284.
2- تحف العقول، صفحة: 369.

نعم الشكر و الإستغفار باللسان مطلوبان أيضا لأجل رفع الغفلة عمّا ذكرناه، لأن أسباب الغفلة محيطة بنا من جميع الجوانب(1).

وجوب شكر النعم الإلهية

من الطبيعي أن إحصاء النعم الإلهية لا يتاح لأي كان، قال تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللّٰهِ لاٰ تُحْصُوهٰا (2).

و حتى في دعاء عرفة - الذي آمل أنكم قد وفّقتم لقراءته، و سيحالفكم الحظ في كل سنة إن شاء اللّه في أيام عرفة لقراءته و التدبّر في معانيه - تلاحظون أن الإمام الحسين بن علي عليه السّلام يقول في أوائله: «أنا أشهدك يا إلهي بحقيقة إيماني و عقد عزمات يقيني و خالص صريح توحيدي و باطن مكنون ضميري... أن لو حاولت و اجتهدت.. أن أؤدي شكر واحدة من أنعمك ما استطعت ذلك إلاّ بمنّك...»(3).

فالحسين بن علي عليه السّلام - هذا الجندي المضحّي الذي لا مثيل له في تاريخ الإسلام و القيم المعنوية - يذكر مجموعة من النعم الإلهية مفصّلا جزئياتها في ما يقارب صفحة واحدة، ليقول إنّني غير قادر و بكل ما أوتيت من قوّة على أن أشكر نعمة واحدة من نعمك، و إذا وفقت لشكر نعمة، فهذا التوفيق على الشكر يعد بحد ذاته نعمة من اللّه.

فما كل أحد يكتب له التوفيق و لا كل أحد يرى جمال الحقيقة و المعنوية ليثني عليه، و لا كل أحد يدرك عظمة الفضل الإلهي، و وجود النعمة الإلهية، فالغفلة و الأنانية و الغرور لا تتيح لنا أن ننتبه إلى أننا في محضر زاخر بالألطاف الإلهية، أو أن نلتفت إلى

ص: 192


1- كلمات مضيئة: 170.
2- سورة إبراهيم: 34.
3- بحار الأنوار: 217/95.

ماهية هذه الألطاف و النعم. فإذا ما كتب التوفيق لأحد لكي يتغلب في دوافعه و نواياه الذاتية و المادية على الغرور و الهوى و قصور النظر، و تمكّن من مشاهدة الجمال المعنوي، و وقف أمامه موقف إجلال و تعظيم و خشع له قلبه، فهذا بحد ذاته نعمة إلهية كبرى تستلزم الشكر، و الإنسان غير قادر مطلقا على شكر النعم الإلهية حق قدرها.

من أكبر المفاخر التي يحرزها المرء في مجال عمله هو أن يكون ذلك العمل في خدمة بلده و شعبه و أهدافه، و أن تكون فيه خدمة معنوية لكل الإنسانية. كم من الناس اليوم يكدحون صباح مساء و بكل طاقاتهم و جهودهم إلاّ أنّ جهدهم مكرّس لخدمة الظلم و التمييز و الشر، و ينتج بمجموعه قتل الناس و تقوية عروش الطواغيت، فعملهم لا ينتفع به أحد، و لا تعمر به الدنيا، و لا الإنسانية منه في راحة، و لا الظلم به يزول، فليس في عمل هؤلاء مفخرة لهم.

ينصبّ الاهتمام في العالم المادّي الذي اعتاد على حمل السلاح، و تعارف على التسلّح و اكتساب المهارة الحربية، على وضع تلك المهارة و التجربة تحت إرادة أشخاص استحوذت عليهم الأنانية! لاحظوا بإمرة من تأتمر الجيوش الكبرى في العالم اليوم. الأشخاص الذين تأتمر بإمرتهم و تخضع لقراراتهم ينفقون مليارات الدولارات و يأتون بالجيوش و المعدات من أقصى نقاط العالم إلى بقعة حساسة و غنية بالنفط مثلا لحماية شخص و للهجوم على شيء أو لنهب ثروة! و لكن من هم هؤلاء؟ من هذه الحفنة من أراذل الناس المتمكنة من القدرات المادية و المتسلطة على الجيوش؟

في تلك الجيوش يتحرك مئات الآلاف من الناس، و يأتمرون بالأوامر، و يرسلون هنا و هناك و يقتلون و يجرحون و يتعرضون للمآسي و الحرمان من أطفالهم و نسائهم، و تعيش أسرهم لوعة فراقهم و تتحمل الآلام و العناء، و لكن بأمر من يجري كل هذا؛ و لأي شيء؟ و ما هي الغاية؟ و ما هي النوايا الكامنة وراء هذه التحركات في العالم

ص: 193

كلّه؟

أنتم ترون تلك النوايا الخبيثة و المآرب الفاسدة و النفوس الحقيرة.

هذه الظاهرة ليست وليدة اليوم و إنّما هذا هو وضع الجيوش في عرف العالم على امتداد التاريخ، ففي الماضي كانوا يسوقون ملايين الناس في السفن أو على ظهور الخيل من قارة إلى قارة لاحتلال مضيق أو بحيرة أو نهر أو بلدة، و كان كثيرا ما يحصل أنهم يعودون خائبين مهزومين بعد سنوات من العناء! فمن هم اولئك الذين كانوا يجيّشون تلك الجيوش؟ و بإرادة من كانوا يسيرون؟ فهل كانت هناك ذرّة من معاني القيم الإلهية و الإنسانية و المعنوية حاكمة على تلك الجهود؟

و مع كل هذا، إذا شعر إنسان أنه يعيش في مؤسسة عسكرية بناؤها على أن لا تطلق رصاصة واحدة إلاّ من أجل إقامة حق أو دحض باطل، و في سبيل إزاحة ظلم و إقرار عدل، و من أجل أن يتمكن شعب مؤمن باللّه من صيانة استقلاله و شخصيته و هويّته من عدوان المعتدين، أ فليست هذه مفخرة لذلك الإنسان؟ لا شكّ في أنها تستلزم شكرا كثيرا.

يجب على من يعملون اليوم في جيش الجمهورية الإسلامية لهذه الأهداف النبيلة أن يشعروا أنّ عملهم هذا طاعة للّه و عبودية له.

الإمام السجاد عليه السّلام يسأل اللّه تعالى في الدعاء المبارك المسمى بدعاء مكارم الأخلاق - و هو من أدعية الصحيفة السجادية و أوصيكم بقراءته - كل ما هو لازم لكمال الإنسان قائلا: «اللّهم صلّ على محمّد و آله و اكفني ما يشغلني الاهتمام به و استعملني بما تسألني غدا عنه و استفرغ أيامي في ما خلقتني له»(1) أي أن تكون عامة الحياة لذلك الهدف و في ذلك الطريق الذي من أجله خلق الإنسان(2).

ص: 194


1- الصحيفة السجادية الكاملة: 99 ح 20.
2- من كلمة ألقاها في: 20 ذي الحجة 1418 ه ق - طهران.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «نعمتان مفتون بهما كثير من الناس الفراغ و الصحّة».(1)

هناك نعمتان من النعم الإلهية هما محل ابتلاء و افتتان أكثر الناس، و هما الصحة و الفراغ.

فأحد وجوه الإبتلاء و الإختبار بهاتين النعمتين هو أنّ أكثر الناس يمتلكون هاتين النعمتين و لكنهم لا يعرفون قيمتهما ليشكروا اللّه تعالى عليهما. و الذي يعرف للنعمة قدرها و قيمتها هو الذي كانت بيده ثم فقدها.

فالأشخاص الذين لديهم انشغالات مختلفة و متنوعة يعرفون قيمة و قدر نعمة الفراغ و يدركونها.

فإنّ الإنسان في ذاك الحين يفكّر كثيرا في نفسه و فيما ينفعها و في سعادته و بالأعمال التي يريد إنجازها.

و نعمة الصحة و السلامة من هذا القبيل أيضا، فإنّ الإنسان ما لم يبتل بالمرض لا يعرف قيمة و قدر السلامة و الصحة.

ففي بدن الإنسان أعضاء مختلفة و أجهزة متنوعة، و إذا تعرض أحدها لحادثة ما صارت حياة الإنسان و سعادته صعبة و شاقة.

و وجه آخر للإبتلاء و الإختبار بهاتين النعمتين هو أنّ بعض الناس يسيئون الإستفادة منهما، و بدلا من أن يستفيدوا منهما في طريق الكمال ينتفعون بهما في طريق الفساد. و كما قال الشاعر:

إنّ الشباب و الفراغ و الجدة *** مفسدة للمرء أي مفسدة

إذن فعلى الإنسان أن يكون شاكرا للّه تعالى على هذه النعم بلسانه و فعله(2).

ص: 195


1- الخصال، باب الإثنين، ح: 7.
2- كلمات مضيئة: 170.
ترك الشكر يؤدي لزوال النعمة

قال الإمام علي بن موسى الرضا عليه السّلام: «يا علي، أحسنوا جوار النعم فإنها وحشيّة، ما نأت عن قوم فعادت إليهم»(1)

على الإنسان أن يتعامل مع النعم معاملة حسنة و لائقة بها و هو أن يكون شاكرا لها و يعمل على طبق ما تقتضيه.

فإذا لم يقم بأداء شكرها بالنحو المطلوب و اللائق فسوف يسلبها اللّه عنه، يقول للّه تعالى: وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذٰابِي لَشَدِيدٌ (2).

و إذا سلبت النعم الإلهية من المجتمع الإنساني كان عودها و رجوعها إليه صعبا جدا و كما يقول الإمام علي عليه السّلام: «قلّ ما أدبر شيء فأقبل»(3).

و من النعم الإلهية الكبرى في عصرنا الحاضر هو إقدام الناس و إقبالهم و توجههم على الدين فيجب تقدير ذلك و الإهتمام به، لأنّه إذا لم نهتم بهذا الأمر و لم نشكر هذه النعم فسوف تسلب عنّا و بعد ذلك لن يكون من السهل رجوعها إلينا(4).

ص: 196


1- تحف العقول، صفحة: 448.
2- سورة إبراهيم: 7.
3- الكافي: 38/4 ح 3.
4- كلمات مضيئة: 169.

الحلم و الصمت

تعريف الحلم و أهميته

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ما جمع شيء إلى شيء أفضل من حلم إلى علم»(1).

اجتماع الحلم و العلم في الإنسان أفضل و أكثر قيمة من كلّ الأمور و الأشياء.

و الحلم هو التحمّل وسعة الصدر عند ظهور الحوادث المختلفة.

و الإنسان الحليم هو الذي لا يفلت من يده عنان اختياره عند غضبه، و لا يقدم على الأعمال غير اللاّئقة المنافية لشأنه و لا الأعمال القبيحة السيئة.

و كذلك إذا أتته نعمة فإنه لا يخرجه شوقه و فرحه بها عن جادة الإعتدال و لا يخسر نفسه.

و إذا نال منصبا أو مقاما أو سمة فلا يفتتن به و لا يبتلى بالتكبّر و العجب.

بل حتّى إذا حصل على مقام عال في العلم و المعرفة، و إن كان العلم في نفسه ذا قيمة كبيرة، فإنه لا يصاب بالغرور و العجب بالنفس(2).

و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «ذلّلوا أخلاقكم بالمحاسن، و قودوها إلى المكارم،

ص: 197


1- الخصال: باب الواحد، صفحة: 1.
2- كلمات مضيئة: 172.

و عوّدوا أنفسكم الحلم»(1).

فالحلم ليس معناه عدم الغضب فقط، بل يكون بمعنى السعة و التّحمّل أيضا فالإنسان في مقابل ما يعرض عليه من أسباب الغضب أو أسباب الغرور و العجب أو الفرح و السرور المزيّنين الخاليين من أيّة فائدة، يجب أن يكون كالبحر الذي تهدأ بالوصول إليه الأنهار الصاخبة المتلاطمة لأنّه يضمّها و يبتلعها في نفسه كلها جميعا(2).

و كان فيما أوصى به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا عليه السّلام: يا علي ثلاثة من لم تكن فيه لم يقم له عمل: «ورع يحجزه عن معاصي اللّه عزّ و جلّ.

و خلق يداري به الناس.

و حلم يردّ به جهل الجاهل.»(3)

و من هذه الأمور: خلق يداري به الناس، فإنه إذا لم يكن لديه صفة المداراة مع الناس فإنه لن يصل إلى شيء في هذه الدنيا لأنّ الناس مختلفون في الفكر و المصالح، و الحياة ساحة مليئة بالتزاحم و التصادم و التضاد بين مصالح الناس. فإذا لم يتعامل معهم بمداراة و كان يتصادم و يتعارك مع كل شخص لا يتّفق معه بالأفكار و المصالح فإنّ حياته و الآخرين أيضا سوف تتحوّل الى جهنّم.

و من هذه الأمور: حلم يردّ به جهل الجاهل: و المراد من الجاهل هنا ما يقابل العاقل فإن الإنسان حينما يتعامل مع الأشخاص السّفهاء في المعاملات و المبادلات التجاريّة يجب عليه أن يتحلى بالحلم، فإذا تكلم معه شخص كلاما سفهيّا أو تصرّف معه تصرّفا سفهيّا كذلك يجب عليه أن يعفو و يتسامح معهم بحلمه، لأنّه إذا أراد أن يبادلهم بالمثل فإنّه سيواجه المشاكل و المتاعب في حياته(4).

ص: 198


1- تحف العقول، صفحة: 224.
2- كلمات مضيئة: 46.
3- الخصال/باب الثلاثة/ح 121.
4- كلمات مضيئة: 17.

و قال أبو عبد اللّه الصادق عليه السّلام: «من زين الإيمان الفقه، و من زين الفقه الحلم، و من زين الحلم الرفق، و من زين الرفق اللين، و من زين اللين السهولة»(1).

المراد من الفقه هنا العلم و المعرفة.

فالعلم و المعرفة زينة الإيمان.

و الحلم و التحمّل و الصبر زينة العلم.

و الحلم معناه أن يكون الإنسان لديه السعة كالبحر العميق الواسع الذي لا يضطرب و لا يثور لأقلّ الأمور، بل يكون عند وقوع الحوادث هادئا غير مضطرب.

و زينة الحلم الرفق و المداراة و المؤالفة مع الناس.

و زينة الرفق و المداراة اللين و التعامل الحسن مع الناس لا الشدّة و الخشونة.

و زينة اللين السهولة، بمعنى تهيئة الأجواء لأجل راحة الناس و إزالة الموانع عن ذلك(2).

حلم النبي صلّى اللّه عليه و آله أسوة

و كم كان يعامل أعداءه المقهورين بسلوك لم يكونوا قادرين على فهمه و إدراكه؛ ففي السنة الثامنة للهجرة، و عند ما دخل النبي صلّى اللّه عليه و آله مكة فاتحا بكل عظمة و اقتدار فإنه قال: «اليوم يوم المرحمة»(3) و لم يثأر من أهلها. و هذه هي شهامته و حلمه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.(4)

لقد كان النبي صلّى اللّه عليه و آله شديد التحمل لدرجة أن الآخرين كانوا يغضبون عند سماع ذلك، و هو الذي لا تنال منه الشدائد و لا تستفزّ غضبه. و كان الأعداء يؤذونه في مكة

ص: 199


1- تحف العقول، صفحة: 368.
2- كلمات مضيئة: 19.
3- شرح نهج البلاغة: 272/17.
4- من كلمة ألقاها في: 7 صفر 1241 ه - طهران.

لدرجة أن أبا طالب استشاط غضبا منهم و جرّد سيفه ذات مرة و توجّه إليهم مع أحد مواليه و فعل بهم ما فعلوه مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تهدّد كلّ من يعترض سبيله بضرب عنقه(1)، بينما كان النبي صلّى اللّه عليه و آله قد تحمل كل ذلك بحلم و أناة.

و ذات يوم آخر وجّه إليه أبو جهل إهانة شديدة إثر نقاش حادّ بينهما، فقابلها الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله بالحلم و السكوت، و عند ما أخبر أحدهم حمزة قائلا بأن أبا جهل أساء إلى ابن أخيك فإنه تميّز غيظا و قصد أبا جهل فضربه بالقوس على رأسه حتى شجّ رأسه، ثم أسلم حمزة بعد ذلك جرّاء هذا الحادث.

و أمّا بعد الإسلام فقد كان بعض المسلمين يوجّه إلى الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله أحيانا كلمات تؤذيه غفلة أو جهلا فيما يخص بعض الأمور، لدرجة أن إحدى أزواجه - و هي زينب بنت جحش التي كانت من أمّهات المؤمنين - خاطبته بالقول: إنك لا تعدل و أنت نبي!

فابتسم النبي صلّى اللّه عليه و آله دون أن يعقّب(2)..

فقد كانت تنتظر منه أمرا في الحياة الزوجية دون أن يجيبها إليه.

كما كان البعض يأتون أحيانا إلى المسجد فيمدّون أرجلهم قائلين للرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: قلّم لنا أظفارنا! - حيث جاء الحث على تقليم الأظافر - و لكن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله كان يتحمل كل هذا التجاسر و سوء الأدب بحلم تام(3).

ص: 200


1- في بعض الروايات: بينا النبي صلّى اللّه عليه و آله في المسجد الحرام و عليه ثياب له جدد فألقى المشركون عليه سلى ناقة فملأوا ثيابه بها، فدخله من ذلك ما شاء اللّه فذهب إلى أبي طالب فقال له: يا عمّ كيف ترى حسبي فيكم؟ فقال له: و ما ذاك يا ابن أخي؟ فأخبره الخبر، فدعا أبو طالب حمزة و أخذ السيف و قال لحمزة: خذ السلى، ثمّ توجّه إلى القوم و النبيّ معه فأتى قريشا و هم حول الكعبة، فلمّا رأوه عرفوا الشرّ في وجهه، ثمّ قال لحمزة: أمرّ السلى على سبالهم ففعل ذلك حتّى أتى على آخرهم، ثمّ التفت أبو طالب إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا ابن أخي هذا حسبك فينا - الكافي: 449/1 ح 30.
2- انظر الكافي: 139/6 ح 5، و مناقب أمير المؤمنين للكوفي: 324/2.
3- من كلمة ألقاها في: 7 صفر 1241 ه - طهران.
فضل الصمت

من وصايا الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، قلّة المنطق حكم عظيم، فعليكم بالصمت فإنّه دعة حسنة و قلّة وزر و خفّة من الذنوب، فحصّنوا باب الحلم فإنّ بابه الصبر.

يا هشام، إنّ قلّة الكلام فعل الحكيم فعليك بلزوم الصمت».(1)

(المراد من الصمت هنا السكوت عند ما لا يكون التكلّم لازما)

بعض الناس دائمو الكلام و يدخلون في كلام كلّ متكلّم. و هذا الأمر من الرذائل الأخلاقية. حتى أنه في بعض الأحيان - لأنّ الإنسان حينما يتكلم يكون لديه هدف و غرض - يريد الإنسان من كلامه أن يظهر فضله و لكن مع ذلك فالمستحسن أن يمتنع عن الكلام في هذا المورد أيضا.

و بما أنّ كل ما يتفوه به الإنسان من كلام يسجّل و يضبط في صحيفة أعماله إِذْ يَتَلَقَّى اَلْمُتَلَقِّيٰانِ عَنِ اَلْيَمِينِ وَ عَنِ اَلشِّمٰالِ قَعِيدٌ. مٰا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّٰ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (2).

و حيث إنّ كثرة الكلام توقع الإنسان بالتناقض و الأقوال المتعارضة و المتخالفة، فلذلك تكون قلة الكلام موجبة لتقليل الأوزار و الوبال عنه و تخفيف الذنوب و المعاصي.

ص: 201


1- تحف العقول، صفحة: 394.
2- سورة ق: 17-18.
أثر الحلم على الصمت

و الصمت بنفسه يسقى من نبع الحلم، و الحلم هنا في مقابل الخفّة. فإنّ بعض الناس حينما يعرض لهم الفرح و السرور أو الحوادث المكروهة يخسرون أنفسهم.

و لكن الإنسان الحليم يمسك عنان نفسه سواء في الفرح و السرور أم في الحزن و المكروه.

و أساس الحلم و جذره من الصبر، و الصبر هنا بمعنى المقاومة و اليقظة سواء في مقابل ضغوطات و صعوبات الحياة المعيشية أم في مقابل التكاليف الإلهية.

و يستفاد من هذه الرواية فائدة ظريفة و هي أن الأخلاقيّات الإسلامية دائرة متّصلة معا نظير الدوائر المتداخلة بعضها يكمل البعض و مجموعها يشكّل منظومة جميلة في الإنسان(1).

ص: 202


1- كلمات مضيئة: 4.

التواضع

أهميّة التواضع

لا بد أن يمتلك الإنسان سعة من القدرة سواء صغرت أم كبرت، فلا نسعى وراء العلو و التسلط و حب الإستعلاء على الناس، و هذا هو مضمون الآية الكريمة: تِلْكَ اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لاٰ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فَسٰاداً (1).

و هذا أمر صعب لكنه ممكن و ضروري، فحب التسلط آفة طالما هددت ذوي القدرة في العالم و أزلت الكثيرين، و نحن لسنا بأقوى منهم فعلينا الحذر و التحسب لئلا ننزلق، و قد ورد عن أمير المؤمنين عليه الصلاة و السّلام قوله: «نزلت هذه الآية في أهل العدل و التواضع من الولاة و أهل القدرة من الناس»(2).

فهذه الآية بالأساس لأصحاب القدرة و الولاة و المسؤولين بدءا من كبار المسؤولين و مرورا بالدوائر الوسطى و انتهاءا بأي نقطة فيها مدى من السلطة، فآفة عملنا هي أنّ نستغل دائرة قدرتنا للتسلط و الغطرسة و الأطماع، و في ذلك خطر جسيم، و تقول الآية في النهاية: وَ اَلْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، و قد قال البعض إنّ هذه "العاقبة" هي الآخرة، فيما احتمل آخرون أنها تشمل الدنيا أيضا، و نحن نراها كذلك،

ص: 203


1- سورة القصص: 83.
2- ميزان الحكمة: 36/1 باب صفة أهل الآخرة.

فالعاقبة هي من نصيب المتقين، إذ أنّ العاقبة الحسنة في الدنيا و الآخرة هي من نصيب أهل التقوى و الورع(1).

أثر التواضع

قال الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، إنّ الزرع ينبت في السهل و لا ينبت في الصّفا. فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع و لا تعمر في قلب المتكبّر الجبّار، لأنّ اللّه جعل التواضع آلة العقل و جعل التكبّر من آلة الجهل»(2).

كما أنّ البذرة تنبت و تنمو في الأرض السهلة بينما لا تنمو و لا تنبت في الأرض الصخرية و الحجرية، فكذلك هي الحكمة.

فإنّ الحكمة تعمر و تثمر في القلوب المتواضعة ذات الإستعداد و القابلية، بينما لا تنمو و لا تعمر في القلوب المتكبّرة الجبّارة.

و عليه فإنّ التواضع و الخضوع وسيلة من وسائل العقل و الحكمة بينما التكبّر و التجبّر دليلان على الجهل و عدم العقل و الحكمة(3).

و من مواعظ الإمام أبي محمد الحسن بن علي عليه السّلام: «من رضي بدون الشرف من المجلس لم يزل اللّه و ملائكته يصلّون عليه حتى يقوم»(4).

التكبّر و الخيلاء من الصفات الإنسانية القبيحة و الرذيلة. و أكثر المفاسد و الشرور الدنيوية اليوم نتيجة الغرور و الإحساس بالتكبّر و العجب بالنفس.

فكلّ شخص أو دولة يسعى للوصول إلى المقام الأعلى و المكان الأرفع، سواء من

ص: 204


1- من كلمة ألقاها في: 1424/6/7 ه - طهران.
2- تحف العقول، صفحة: 396.
3- كلمات مضيئة: 182.
4- تحف العقول، صفحة: 486.

الناحية الإجتماعية أو الإقتصادية و المال و الثروة حتى و إن كانت من خلال الربا، و لو كان ثمن ذلك هو ظلم الآخرين و إراقة دمائهم.

و إحدى مصاديق هذه الصفة القبيحة ما إذا دخل شخص إلى المجلس فدعاه الشعور و الإحساس بالإستعلاء و الخيلاء للجلوس في صدر المجلس و المكان اللائق به.

و لذلك يبيّن الإمام عليه السّلام في هذا الحديث أنّ الإنسان الذي يقنع و يرضى دون الشرف و الشأن من المجلس و يجلس في المكان الأدون من مكانته و شأنيّته، فهذا الشخص لا يزال اللّه تبارك و تعالى و ملائكته يصلّون و يسلّمون عليه إلى أن يقوم من مجلسه ذاك.(1)

و قال النّبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «... و جاءه رجل بلبن و عسل ليشربه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: شرابان يكتفى بأحدهما عن صاحبه، لا أشربه و لا أحرّمه، و لكنّي أتواضع للّه، فإنه من تواضع للّه رفعه اللّه و من تكبّر وضعه اللّه و من اقتصد في معيشته رزقه اللّه و من بذّر حرمه اللّه و من أكثر ذكر اللّه آجره اللّه»(2).

قد يتصوّر البعض أن عدم استفادة المعصوم عليه السّلام من بعض النعم معناه تحريمها، و لكنه تصوّر باطل و لذلك قال النبي صلّى اللّه عليه و آله بأنه شخصيا لا يشرب كلا الشرابين المذكورين و لكنه في نفس الوقت لا يحرّم ذلك.

و الوجه في عدم فعله ذلك هو أنه لا يريد أن يستفيد من جميع النعم الإلهية من باب التواضع للّه تعالى لأن من يتواضع للّه يرفعه اللّه.

و المراد من الرفعة هنا الرفعة المعنوية، و إن كان يمكن الشمول للرفعة الظاهرية أيضا إلاّ أنّ القدر المتيقن و المسلّم هو الرفعة الروحية و المعنوية.

ص: 205


1- كلمات مضيئة: 182.
2- تحف العقول، صفحة: 46.

فكل إنسان يتواضع للّه تعالى فاللّه سبحانه يرفعه روحيا و خلقيا و تشمله الكرامات الإلهية. و القدر المتيقن من الوضع هو التنزّل المعنوي و إن كان يمكن شموله للتنزل الإجتماعي و المناصب أيضا(1).

التواضع أرفع نسب و حسب

روي عن علي بن الحسين عليه السّلام: «قال: لا حسب لقرشي و لا عربي إلاّ بتواضع.

و لا كرم إلاّ بتقوى، و لا عمل إلاّ بنيّة.

ألا و إنّ أبغض الناس إلى اللّه عزّ و جلّ من يقتدي بسنّة إمام و لا يقتدي بأعماله»(2).

الحسب معناه الأصل الرفيع و الذات العالية لشخصية عائلة الإنسان.

و النسب معناه النسل و العرق.

في العصر الجاهلي كانت قيمة الإنسان مرتبطة بعرقه و قبيلته و عائلته، ككونه مثلا عربيّا أو قرشيّا. و كانوا يتفاخرون فيما بينهم على هذا الأساس، و في الواقع و الحقيقة كانت القيم عندهم على خلاف القيم الواقعية.

فجاء الإسلام و بيّن القيم الواقعية للإنسانية، و الرواية المذكورة توضّح هذا الأمر بما يلي: إنّ أعلى و أرفع نسب و عرق و أعلى و أرفع حسب و أصل لشخصية الإنسان هو التواضع و التذلّل للآخرين، فمن تواضع و تذلل للآخرين حصل على الحسب الأعلى و الرفيع لشخصيته.

و الكرم أي القيمة الوجوديّة للإنسان تكون بالتقوى و الطهارة. و الإنسان من دون تقوى ليس بذي قيمة حتى و إن كان عالما أو متخصصا أو ثريّا. و قيمة العمل بالنيّة(3).

ص: 206


1- كلمات مضيئة: 183.
2- الخصال، باب الواحد، ح: 62.
3- كلمات مضيئة: 7.

الرضا و السخط

أهمية الرضا و السخط

قال الإمام محمد بن علي الجواد عليه السّلام: «من شهد أمرا فكرهه كان كمن غاب عنه، و من غاب عن أمر فرضيه كان كمن شهده»(1).

ليس الملاك و المناط في إدراك الثواب و الفضيلة هو العمل وحده، بل للنيّة و الرضا مدخليّة أيضا في هذا الباب.

و لذلك فلو أنّ شخصا كان حاضرا في واقعة ما سواء كانت خيرا أم شرّا، و لكنه لم يكن راضيا عنها قلبيا بل كان كارها لها فهذا لا يعتبر حاضرا و شاهدا بل هو نظير الشخص الذي لم يشهد هذه الواقعة أصلا.

و على العكس من ذلك ما إذا كان غائبا عن الواقعة و لكنه راض بها فإنه كالشخص الحاضر و الشاهد للواقعة يعتبر شريكا معهم فيها و في الحديث: «الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم و لكل داخل في باطل إثمان: إثم الرضا به و إثم العمل به»(2).

فمثلا إذا جاهدوا و كان راضيا بفعلهم كان شريكا معهم في ثواب الجهاد و إذا ارتكبوا جريمة ما فرضي بفعلهم كان شريكا معهم في الوزر و المعصية.

ص: 207


1- تحف العقول، صفحة: 456.
2- مستدرك الوسائل: 214/18 ح 22538.

و هذا هو مضمون قول أمير المؤمنين عليه السّلام في إحدى خطبه حيث قال «و إنّما يجمع الناس الرضا و السخط، و إنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم اللّه بالعذاب لمّا عمّوه بالرضا»(1).

فليس المراد مجرد العمل بل الرضا و السخط بعمل مجموعة من الناس يجعل الإنسان شريكا معهم في عملهم أيضا(2).

ص: 208


1- ميزان الحكمة: 1947/3 رقم 2195.
2- كلمات مضيئة: 184.
أثر الرضا و السخط

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ عظيم البلاء يكافيء به عظيم الجزاء، و إذا أحبّ اللّه عبدا ابتلاه بعظيم البلاء، فمن رضي فله الرضا عند اللّه عزّ و جلّ، و من سخط البلاء فله السخط»(1)

إذا تحمّل الإنسان في هذه الدنيا البلاءات و المشقّات - سواء كانت قهرية كالمرض أو فقدان الأعزّاء و غير ذلك أم كانت إرادية و اختياريّة كالزهد و القناعة و كفّ النفس عن الشهوات بل عن المباحات أيضا - فبمقدار حجمها و نسبتها يجازى عليها بالأجر و الثواب في الآخرة التي هي في الحقيقة الحياة الواقعية للإنسان.

و على هذا فإذا شاهدنا شخصا متنعما و آخر مبتلى فلا نتوهّم أنّ نظام العدالة في الخلق غير مراعى و مختلّ، و ذلك لأنّ تحمّل المشكلات و الآلام في هذه الدنيا سوف يجبر في عالم الآخرة. تماما كما أنّ الراحة و النعم في هذه الدنيا، سواء كانت من طريق الحلال أم الحرام، موجبة لتنزل و نقصان الأجر و الثواب في عالم الآخرة، على أنه إذا كانت من طريق الحرام فسوف يلحقه الجزاء و العقوبة القاسية عليها، و أما إذا كانت من طريق الحلال فهي توجب نقصان و قلّة الثواب و تنزّل الدرجات و المراتب الأخروية.

و عليه فاللّه تعالى إذا أحبّ عبدا من عباده ابتلاه بالمصائب و البلاءات و المشقّات الأكثر ليكون أجره و ثوابه في الآخرة أعظم و أكبر، فإذا رضي العبد بما قدّره اللّه تعالى منها كان مرضّيا عند اللّه تعالى.

ص: 209


1- الخصال، باب الواحد، ح: 64.

و أما إذا لم يرض بالقضاء و القدر بل سخط من هذا البلاء و لم يكن شاكرا للّه حبط أجره في الآخرة، و لا يبقى له إلاّ الألم و الغضب و السخط ما دام لم يشكر اللّه على هذا البلاء(1).

و قال صلّى اللّه عليه و آله: «من طلب رضى الناس بسخط اللّه جعل اللّه حامده من الناس ذاما»(2).

يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ الشخص الذي يسعى لإجل إرضاء الناس عنه من خلال ارتكابه للذنوب و المعاصي و الأعمال القبيحة الموجبة لسخط اللّه تعالى عليه، لن يحصل على ذلك، لأنه بالتدريج و شيئا فشيئا سوف يتبدّل مدح الناس له و تمجيدهم به إلى القدح و الذمّ فيه(3).

ص: 210


1- كلمات مضيئة: 184.
2- الخصال: باب الواحد، ح: 6.
3- كلمات مضيئة: 185.

الحياء

وجوه الحياء

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «الحياء على وجهين: فمنه ضعف، و منه قوة و إسلام و إيمان»(1).

الحياء على نوعين: حياء ضعف و حياء قوة.

فأما حياء الضعف: فالإنسان أحيانا يخجل و يستحي و يكون منشأ حياته هو ضعف شخصيّته بمعنى أنّ الإنسان بسبب عدم ثقته بنفسه، أو لأسباب أخرى يخجل و يستحي و هذا النّوع من الحياء غير مطلوب.

و أمّا حياء القوة: فهو أن يكون الحياء كاشفا عن الإسلام بمعنى التسليم للّه تعالى و الإيمان به، من قبيل الحياء الذي يعتري الإنسان عند ما يواجه المحرمات الشرعيّة، و لكنّه لا يرتكب عملا يخالف الشرع و الدين، فإنّ حياءه في هذه الموارد و إن كان الحياء في نفسه حالة انفعاليّة يعتبر دليلا كاشفا عن قوّة النفس الإنسانيّة، و هو أمر مطلوب و مرضي عند اللّه تعالى(2).

و قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله: «الحياء حياءان: حياء عقل و حياء حمق.

ص: 211


1- الخصال/باب الاثنين/ح 76.
2- كلمات مضيئة: 211.

و حياء العقل العلم، و حياء الحمق الجهل»(1).

حياء العقل معناه أن يشعر الإنسان بالحياء الناشيء من العقل، من قبيل الحياء عند ارتكاب المعصية أو الحياء مقابل شخص يجب احترامه. و هذا الحياء علم بمعنى أنه يتصرف تصرّف الشخص العالم.

و أما حياء الحمق فهو الجهل، كما إذا استحى من السؤال أو التعلّم أو القيام بالعبادات و نحو ذلك، فإنّ بعض الأشخاص يستحي من القيام بالصلاة في بعض الأمكنة أو الظروف، فإن هكذا حياء يعتبر تصرفا عن جهل(2).

ص: 212


1- تحف العقول، صفحة: 45.
2- كلمات مضيئة: 211.

اليقين

تعريف اليقين

قال تعالى في محكم كتابه العزيز: وَ جَعَلْنٰا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنٰا لَمّٰا صَبَرُوا، وَ كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا يُوقِنُونَ (1).

اليقين هو ذلك الإيمان الواعي و البصير الذي يحول دون تسرب الوساوس إلى قلب الإنسان و إصابته بالخور و الضعف، و أما الصبر فهو تلك الخصوصية التي تجعل قلب الإنسان العظيم قادرا على تحمل المشاكل و مواجهتها و عدم الضياع و فقدان الذات و العزم، و السير قدما بصلابة و ثبات في سبيل الأهداف الطموحة التي اختارها بوعي و كان على بصيرة من أمره(2).

ص: 213


1- سورة السجدة: 24.
2- من كلمة ألقاها في: 3 ربيع الثاني 1424 ه - طهران.
أهمية اليقين

من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام لحمران بن أعين: «و اعلم أنّ العمل الدائم القليل على اليقين أفضل عند اللّه من العمل الكثير على غير يقين»(1).

العمل المطلوب للشارع المقدّس يجب أن يتضمن خصوصيتين:

1 - أن يكون دائميا، و ذلك لأن العبادة الدائمة حتى و إن كانت قليلة فهي أفضل من العمل الكثير إلاّ أنّه منقطع و جزئي و لا دوام له.

2 - أن يكون عن يقين، فالعبادة المطلوبة للشارع المقدّس إذا كانت مقرونة باليقين فهي بنّاءة و مفيدة، و هذا في نفسه يوجب التوجّه نحو اللّه تعالى حين العبادة، لأن العبادة من دون توجّه كالبدن من دون روح، فالتوجّه كالروح التي تنفخ في البدن، و لذلك ورد في الروايات أن المقدار من الصلاة الذي يكون مصحوبا بحضور القلب و الخضوع و الخشوع هو المقبول عند اللّه تعالى.

و سرّ المسألة هو أن فلسفة و حكمة خلق الإنسان هو التكامل، و التكامل مرتبط و مرهون بالمعرفة و العبادة للّه تعالى، و العبادة النابعة و المتحرّكة من القلب و الروح تساعد الإنسان في وصوله إلى هدفه النهائي.

نعم يجب الإلتفات إلى أنّ الإنسان إذا وضع قدمه في الطريق و كان عمله قليلا و لكنه كان دائميا و مصحوبا باليقين فسوف يوفّق تدريجيّا للعمل الكثير الدائمي أيضا(2).

ص: 214


1- تحف العقول، صفحة: 359.
2- كلمات مضيئة: 190.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ صلاح أول هذه الأمّة بالزهد و اليقين، و هلاك آخرها بالشحّ و الأمل»(1).

1 - إنّ عظمة و اقتدار الأمة الإسلامية في أول أمرها كان مرهونا بزهد و يقين الأمّة.

فإنّ أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله كانوا لا يبالون و لا يهتمون بزخارف الدنيا، ليس بمعنى أنهم لم يسعوا و لم يجدّوا في ساحة الحياة بل في نفس الوقت الذي كانوا يسعون و يجدّون كان قصدهم الوصول الى الأهداف العالية، قال اللّه تعالى: وَ اَلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّٰهِ.. (2).

2 - و أمّا هلاك آخر الأمة الاسلامية فسببه الشّح (الحالة المركبة من البخل و الحرص) و الأمل (أي الإنشغال بالآمال و الأماني الحقيرة التي لا شأن و لا قيمة لها).

طبعا هذا لا يعني أنّ الأمّة سوف تهلك حتما أو أنّ الهلاك مقدّر لها في زمان ما، بل الحديث في مقام بيان سنّة إلهية و هي أنّ الأمّة الإسلامية سواء المسؤولون و العسكريون و طبقات الشعب المختلفة إذا لم يكن هدفهم الخدمة بل كانوا يفكرون في تجميع و تحصيل المال و ازدياد و بسط الثروة أي أنّهم ابتلوا بالشح، و كذلك بدلا من أن يسعوا لأجل الوصول الى أهدافهم العليا توجّهوا نحو المظاهر الدنيوية من قبيل الجاه و المقام و المنصب و نحوها، فابتلوا بالهلاك.

و يجب أن يعلم أنّ هذه السنة الإلهيّة جارية في المجتمع الحالي أيضا. فاليوم يوجد أشخاص من بين المدراء و الرؤساء و سائر طبقات المجتمع يتصفون بالزهد و اليقين، إلاّ أنّه يجب علينا الحذر من أن تتبدّل هاتان الصفتان الحسنتان الى الشّح و الأمل كما حصل بالفعل لبعض الناس، لأنّه في هذه الحالة سوف يقع المجتمع في الهلكة(3).

ص: 215


1- الحضال/باب الإثنين/ح 128.
2- سورة البقرة: 285.
3- كلمات مضيئة: 118-119.

ينبغي اجتناب كل ما يجعل فكر و وجدان الإنسان غافلا عن ذكر اللّه، و هذه هي تلك المرتبة السامية التي وردت في حديث المعراج عن الصوم؛ حيث يروى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لربّه جلّت عظمته: «يا رب، و ما ميراث الصوم؟

قال صلّى اللّه عليه و آله: «الصوم يورث الحكمة، و الحكمة تورث المعرفة، و المعرفة تورث اليقين؛ فإذا استيقن العبد لا يبالي كيف أصبح بعسر أم بيسر»(1).

و اليقين هو ما طلبه النبي إبراهيم عليه السّلام من ربّه، و ورد ذكره في مواضع متكررة و عديدة من أدعية هذا الشهر.

و عند ما يكون للإنسان يقين، تهون عليه كل مصاعب الحياة، و يكون في وضع لا تغلبه فيه حوادث الدهر.

لاحظوا مدى أهمية هذا الأمر؛ فالإنسان الذي يروم طيّ سبيل التعالي و التكامل في سنوات حياته، و ليصبح على درجة من الصلابة بحيث لا تقهره عوادي الزمن، يمكنه اكتساب هذا كله من اليقين، و هذا كله ناجم عن الصوم كعبادة تقرب من اللّه تعالى.

فإذا أحيا الصوم ذكر اللّه في قلب المرء و أضاء فيه نور معرفة اللّه، تأتي هذه الأمور كلّها تبعا له؛ و كل ما يؤدي به إلى الغفلة عن ذكر اللّه يضمحل على أثر الصوم.

فهنيئا لمن يستطيعون بلوغ هذه المرتبة. و ما علينا إلاّ أن ندعو اللّه و نسأله، و نصمم على إيصال أنفسنا إلى هذه المرتبة(2).

ص: 216


1- مستدرك الوسائل: 500/7 ح 8743، و البحار: 27/74 ح 6.
2- من كلمة ألقاها في: 8 رمضان 1420 ه - طهران.
طرق تحصيل اليقين

من خطبة علي عليه السّلام المعروفة بالديباج: «عباد اللّه، سلوا اللّه اليقين فإن اليقين رأس الدين، و ارغبوا إليه في العافية فإن أعظم النعمة العافية، فاغتنموها للدنيا و الآخرة»(1).

لليقين مراتب و لكل مرتبة منه مرتبة أعلى منها، و لذلك كان الأئمة الأطهار عليهم السّلام - مع أنهم واصلون لمراتب اليقين العالية - يطلبون من اللّه تعالى اليقين أيضا.

في هذا الحديث شبّه اليقين بالرأس، و هو كذلك لأن الرأس منشأ هداية الحركات و السكنات للإنسان و اليقين له نفس الدور بالنسبة لدين الإنسان.

ثمّ إنّ تحصيل اليقين له طريقتان:

إحداهما: التأمّل و التفكّر في دلائل و مبادىء الدين و حقّانية الشرع الإسلامي المقدّس.

و الأخرى: التّوجّه نحو الذات الإلهية المقدّسة و التضرع و الخضوع أمام العظمة الربّانية.

و العافية الواردة في هذا الحديث ليست هي ما يعبّر عنه في عرفنا من طلب العافية و الراحة و عدم دخول الإنسان سوح الجهاد و الصعاب و المشقّات و تكاليف الحياة المعيشية و صعوباتها و مواجهتها، بل المراد من العافية هنا العافية في الإعتقاد و العمل و أن يكون محفوظا من الوساوس الشيطانية و النفسانية.

على أنّ الإنسان يجب أن يطلب أيضا العافية في ميادين الجهاد و نحوها و يسأل اللّه تعالى ذلك بمعنى أن يسأله الثبات و الإستقامة و عدم الوقوع في الشك و الخوف

ص: 217


1- تحف العقول، صفحة: 150.

و التزلزل.

و الإمام السجّاد عليه السّلام في الدعاء الثالث و العشرين من الصحيفة السجّادية(1) يشير إلى الأبعاد المتعددة للعافية و يطلبها من اللّه تعالى(2).

ص: 218


1- قال عليه السّلام: اللهم صلي على محمد و آل محمد و ألبسني عافيتك و جللني عافيتك و حصني بعافيتك و أكرمني بعافيتك و أغنني بعافيتك و تصدق عليّ بعافيتك....
2- كلمات مضيئة: 189.

باب رذائل الأخلاق

اشارة

ص: 219

ص: 220

مساوىء الأخلاق

التحذير من مساوىء الأخلاق

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «إياكم و الفحش، فإنّ اللّه عزّ و جلّ لا يحب الفاحش المتفحش.

و إياكم و الظلم، فإن الظلم عند اللّه هو الظلمات يوم القيامة.

و إياكم و الشّح، فإنه دعا الذين من قبلكم حتى سفكوا دماءهم، و دعاهم حتى قطعوا أرحامهم، و دعاهم حتى انتهكوا و استحلوا محارمهم».(1)

يطلق الفحش على الأعمال القبيحة المبتذلة أيضا و إن كان الغالب استعماله في الكلام القبيح البذيء و السباب و الشتم.

و في هذه الرواية يحذّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من أمور ثلاثة هي:

1 - الفحش، فيجب على الإنسان الاجتناب عن الكلام البذيء و السباب و الشتم، لأن اللّه تعالى لا يحب الذين يتعمدون التكلم بالكلام الركيك و القبيح و البذيء.

2 - الظلم، فيجب الحذر من الظلم و العدوان و التجاوز على الآخرين، لأن الظلم موجب للظلمات و الظلام في يوم القيامة على الظالمين.

3 - الشح، فيجب الاجتناب عن الحرص و البخل لأن هذه الصفة المركبة منهما هي

ص: 221


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 235.

التي أدّت بالناس في الأمم السابقة لسفك دمائهم و التقاتل و الحروب.

و اليوم فإن الأمر كذلك لأنه أحيانا تعمد بعض الدول العظمى المستعمرة و أصحاب الشركات الكبرى للحروب و سفك الدماء و الأعمال الوحشية من أجل الحصول على ثروات الدول الضعيفة، و إن أدّت هذه الحروب الى إزهاق أرواح النساء و الأطفال و العجزة و الأبرياء و إتلاف أموالهم و تدمير ممتلكاتهم، و لكنهم لا يتورّعون و لا يتهيبون و لا يهتمون بذلك أبدا.(1)

و قال أمير المؤمنين علي عليه السّلام: «من استطاع أن يمنع نفسه من أربعة أشياء فهو خليق بأن لا ينزل به مكروه أبدا.

قيل: و ما هنّ يا أمير المؤمنين؟

قال: العجلة و اللجاجة و العجب و التواني»(2)

كل شخص يجنّب نفسه هذه الأمور الأربعة سوف لن تنزل به أيّة حادثة سيئة و لا واقعة مكروهة، من دون فرق بين أن يكون شخصا واحدا أو أشخاصا متعدّدين أو عاملين أو مسؤولين في المجتمع و الدولة أو غيرهم.

و هذه الأمور الأربعة هي:

1 - العجلة: و هي اتخاذ القرار من دون تأنّ و تدبر و تدقيق أو القيام بعمل كذلك، و العجلة تختلف عن السرعة في إنجاز العمل.

2 - اللجاجة: فإن إحدى المسائل الخطيرة و الإبتلاءات القاصمة هي الإصرار و الإلحاح بغير حق. فمثلا إذا قال شخص كلاما أو اتخذ موقفا ما ثمّ تبيّن له بطلانه أو انكشف خلافه فإنه ليس مستعدا للتراجع عنه بل يصرّ عليه.

2 - العجب: أي الإغترار بالنفس و الإعجاب بها بحيث لا يدري أي نقص أو عيب

ص: 222


1- كلمات مضيئة: 44.
2- تحف العقول، صفحة: 222.

في نفسه بل أحيانا يقوم بتعظيم و تحسين أوصافه.

3 - التواني: أي التواكل و الفتور في إنجاز العمل و تأجيل عمل اليوم و تأخيره.

و أنا شخصيا - و على إثر التجارب في السنوات المتمادية - وصلت إلى النتيجة التالية و هي:

إنّ كلام الإمام علي عليه السّلام في واقعها حكم تامة و كاملة. فإن كل الأضرار و المساوىء الواردة على المجتمع ناتجة من هذه الأمور الأربعة.

و لذلك أسأل اللّه تعالى أن يجنّبنا هذه الصفات بتوفيقه و بسعينا لمجاهدة أنفسنا(1).

و من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «لا ينبغي لمن لم يكن عالما أن يعدّ سعيدا.

و لا لمن لم يكن ودودا أن يعد حميدا.

و لا لمن لا يتّقي ملامة العلماء و ذمّهم أن يرجى له خير الدنيا و الآخرة.

و ينبغي للعاقل أن يكون صدوقا ليؤمن على حديثه، و شكورا ليستوجب الزيادة»(2).

في نظر الإسلام إنّ قيمة العلم و الفكر عالية و عظيمة إلى الحدّ الذي لا يمكن أن يقال عن الشخص الذي لم يتزيّن بزينة العلم و الفكر أنه سعيد و محظوظ.

طبعا كل العلوم فيها منازل عالية و لكن من البديهي أنه إذا كان ملاك السعادة هو العلم فهذا معناه أن كل العلوم ليست بمرتبة واحدة بل إن كل علم كان موجبا و سببا للسعادة للإنسان و المجتمع أكثر من غيره، فقيمته أزيد و أكثر.

و الشخص الذي لا يمتلك طبيعة المحبّة و المودّة للآخرين بل كان على عداء و منازعة مع كل أحد دوما فهذا ليس حميدا و مرضيّا عنه.

ص: 223


1- كلمات مضيئة: 46.
2- تحف العقول، صفحة: 364.

و الشخص الذي ليس لديه صبر و تحمّل لا ينبغي أن يعدّ إنسانا كاملا ذلك لأن الصبر أول منزل من منازل الكمال، فمن لم يكن لديه الصبر فسوف يسقط في مواجهة مع المصاعب و المشاكل. و في النتيجة النهائية لن يتمكن من الوصول إلى باب منزل الكمال في أي ميدان من ميادين الحياة.

و الشخص الذي يلتفت و يتخوّف عند ملامة و مذمّة أهل العلم و الفكر له فلا يرجى له الخير و السعادة في الدنيا و الآخرة(1).

ص: 224


1- كلمات مضيئة: 49.
خطر سوء الخلق

قال أمير المؤمنين عليه السّلام في وصيته لأبنه محمد بن الحنفية: «إياك و العجب و سؤ الخلق و قلة الصبر، فإنه لا يستقيم لك على هذه الخصال الثلاث صاحب، و لا يزال لك عليها من الناس مجانب»(1).

هذه الرواية قسم من وصايا أمير المؤمنين عليه السّلام الأبوية لابنه العزيز محمد ابن الحنفية، و بما أن الامام علي عليه السّلام أب لكل الأمة فلذلك تكون هذه الوصايا عامة للجميع.

فيقول عليه السّلام، عليك الحذر من ثلاثة خصال فإنه إذا وجدت فيك هذه الخصال الثلاث لن يبق لك صاحب و لا رفيق و سوف يتجنبك الناس و يبتعدون عنك، و هي:

1 - العجب و الفخر و الغرور، و هذه الصفة ليست مخصوصة بالعبادات فقط بل تشمل غيرها أيضا، إذ لعل الإنسان يدخله العجب من خلال علمه أو مقامه و منصبه أو محبوبيته بين الناس، و هذه الصفة من الصفات الخبيثة و السيئة التي تعرض على روح و نفسية الإنسان، و يترتّب عليها آثار و نتائج سيئة أيضا، و ذلك لأن الشخص المعجب بنفسه حيث إنّ الآخرين لا يدركون خصوصياته فسوف يشتكي منهم و يعتب عليهم و بالتالي سوف ينظر إليهم بعين البغض و الضغينة.

و من جهة اخرى حيث إنه يرى أن الآخرين ليسوا في مستواه فسوف ينظر إليهم نظرة احتقار و حيث إنه يرى نفسه أفضل من الناس فهو يعتقد أنه صاحب حق عليهم

ص: 225


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 178.

و لذلك يطلب منهم ما ليس له.

2 - سوء الخلق، و المراد به هنا المعنى الأخص من هذا المفهوم، أي سوء الأخلاق و حدّة المزاج في التعامل مع الآخرين.

3 - قلة الصبر و عدم التحمل، فإنه إذا اعترض عليه شخص أو تكلم بكلام على خلاف رغبته و ميله فإنه لا يتحمل منه ذلك و يفقد طاقته تجاهه(1).

ص: 226


1- كلمات مضيئة: 200.
أكبر الرذائل الأخلاقية

تعرّضنا منذ بداية ثورة الإمام و حتّى يومنا هذا لأكثر أنواع المواجهة و الخصومة و العناد من قبل أرباب الدنيا و المستكبرين، الذين بنوا حياتهم و أقاموا حكوماتهم و صبّوا جهودهم، و وظّفوا أموالهم على فصل الدين و الأخلاق و المعنويات عن المجتمع.

إلا أن للدنيا مفهوما آخر.

فقد جاء في النصوص الإسلامية تفسير الدنيا بالأنانية و حبّ الذات و عبادة الهوى و الشهوات و جرّ الآخرين إلى الوقوع في أسر الهوى.

و قد امتلأ القرآن و السنّة و أقوال علماء الدين، بذمّ هذا النوع من الدنيا و نبذها، و هي الدنيا الّتي يجسّدها فرعون و نمرود و قارون و الشاه و بوش و صدام، و جميع المستكبرين و الظلمة عبر التاريخ و الى يومنا هذا.

و طبعا، إنّ هذه النماذج الّتي ذكرناها تمثل أكبر الرذائل الأخلاقية المذمومة في هذه الدنيا.

و بإمكان الإنسان البسيط أن يربّي فرعونا في نفسه، و يمارس الدور الإمبراطوري الفرعوني و القاروني و القيصري في حدود إمكاناته.

و لو توسّعت إمكاناته أضحى نسخة طبق الأصل لفرعون و قارون و سائر طغاة العالم و مستكبريه، و هذه هي الدنيا الّتي لا يمكن ربط الدين بها، و الّتي جاء في الروايات تسميتها ب (ضرّة الدين) فلا يمكن إعمار الدين بمثل هذه الدنيا، و أنّ استخدام مثل هذه الدنيا خيانة للدين.

و قد كان الإمام الخميني تبعا لمدرسة أهل البيت عليهم السّلام يحذّرنا من الوقوع في

ص: 227

حبائل هذه الدنيا رغم نظرته في جعل الدين عين السياسة و الاقتصاد و الدنيا.

فعلينا أن نفرق بين هذين النوعين من الدنيا، كما أن الإمام نفسه قد زوى الدنيا بمعناها الثاني جانبا فلم يكن من ذوي الهوى و الأنا و حب الذات.

و أما الدنيا بالمعنى الأول و الّتي تمثل رقعة الحياة الواسعة، و التي تعلّمناها من النصوص الإسلامية فقد كان الإمام يراها منسجمة مع الدين و مساوقة له، كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «الدنيا متجر أولياء اللّه»(1).

إذ يمكنهم من خلالها بلوغ التسامي و الرقي المعنوي.

فلا بدّ من إعمار العلم و المعرفة و الاقتصاد و السياسة و الحياة الفردية و العلاقات الاجتماعية و المناهج الاجتماعية العامة مما يعد من القطاعات المتنوعة في الدنيا، و دفعها إلى الأمام، و لا يتحقّق شيء من ذلك إلاّ من خلال الدين.

لقد علّمنا الإمام ذلك، و كان هذا هو السبب وراء عداوة القوى العظمى و خصومتهم العمياء ضد نظام الجمهورية الإسلامية، و لا تزال هذه العداوة قائمة، حيث نواجه على مستوى الإعلام العالمي هجمة شاملة حول هذه المسألة و يقولون:

لماذا تجعلون من الدين منهجا للحياة.

و ذلك لأنهم يشعرون بالخطر على دنياهم الّتي بنوها على أساس من الظلم و الجور و غياب الأخلاق.

هذا هو النظام الذي يريده الاستكبار العالمي للإنسانية قديما و حاضرا.

و قد عمد نظام الجمهورية الإسلامية على دفع هذا النظام الباطل و الدور الخاطئ و جاء بنموذج يبرهن على أنّ بإمكان الدين أن يؤدي دورا عمليا في حياة الناس(2).

ص: 228


1- نسبه لبعض الحكماء في شرح النهج: 202/9.
2- من كلمة ألقاها في: 1384/3/14 ه ش. - الموافق 26 /ربيع الثاني/ 1426 ه - الموافق 2005/6/4 م. - طهران.
خطر حبّ الذات

أبرز غرائز الإنحراف حب الإنسان نفسه، و هذه الغريزة - بطبيعة الحال - ملازمة لوجود الإنسان، فحب الذات هو الذي يدفع الإنسان نحو الحركة التكاملية لتسلق قمم العروج الإنساني، و لكن إن لم يتم ترشيد حب النفس سيخلّف إنحرافات كبرى؛ فاكتناز الثروة و حب السلطة و الشهوات و طمع الإنسان و طغيانه و الإنحرافات الكبرى التي يشهدها التأريخ البشري و ما وقع و يقع من ظلم فظيع إنما تعود بأجمعها إلى غريزة حب النفس التي أطلق البعض عنانها و بسببها ارتكبوا الأخطاء و الممارسات الخيانية و الكوارث المريعة.

إن حب النفس من الغرائز التي إن لم تخضع للرقابة و المحاسبة فإن حالات الطغيان التي تفرزها ستأتي على القيم الإنسانية و السماوية الراقية و تسحقها و تطيح بكافة الحقوق ليسحقها الإنسان الطائش المنحرف بظلمه و طغيانه و تمرده؛ و هنالك عوامل متعددة من شأنها أن تكفل هذه الهداية في أعماقنا بيد أن أهمها جميعا تقوانا، فعلينا أن نراقب أنفسنا و نحوطها و لا نغفل عن عيوبنا، فحب النفس يجعل الإنسان يرى في نفسه الكثير من العيوب التي يراها في غيره و يغضب لها، لكنه يغض الطرف عنها، إذ أن الكثير من الأخطاء التي نستهجنها من الآخرين و نجاهر بالتحامل عليها أحيانا؛ إذا ما حصلت فينا فإننا ننظر إليها بعين التغافل و هذا نتيجة فقدان الرقابة، أي إننا نمر مرورا سطحيا على خطايانا و العيوب و الإشكالات الكامنة فينا، و هذه المعايب إنما تطرأ متى ما فقدت العين الثاقبة للرقيب الذي يتحرّى العيوب و يدفع الإنسان

ص: 229

لمراقبة نفسه مراقبة دائمية، بناء على هذا فإن التقوى على هذا القدر من الأهمية(1).

أثر سوء الأخلاق على الشباب

من دواعي السرور أنّ شعبنا أحرز في السنوات الأخيرة تقدما باهرا على الصعيد المعنوي؛ فشاع الإقبال على المعنويات، و على الدين و العبادة، و الإتجاه إلى الذكر و التبتّل، و الخشوع، و الصلاة و الصوم، و طاعة اللّه و التقرب إليه، و خاصة بين شريحة الشباب، إلاّ أنّ التحول الأخلاقي لا يقتصر على هذا الجانب. و ربما يمكن القول إنّ التحول الأخلاقي أكثر صعوبة، و لهذا يبقى المخاطب الأول و المسؤول الأول في باب التحول الأخلاقي هم الشباب؛ حيث تكون جميع الأعمال أيسر و أسهل بالنسبة لهم.

إنّ الشبّان قلوبهم نيّرة و فطرتهم سليمة لم تتلوث، و تعلقهم بزخارف الدنيا و مغرياتها و تكتفهم بحبال حب المال و الجاه و التسلط التي يرزح تحت قيودها سائر الناس، تكون أضعف و أقل بالنسبة للشباب، و لهذا يكون التحول الأخلاقي بين الشبان أيسر. و طبعا لا ينبغي لمتوسطي الأعمار و الكهول اليأس من إمكانية التغيير الأخلاقي في نفوسهم.

التحول الأخلاقي معناه إزاحة كل رذيلة أخلاقية، و كل خلق قبيح، و كل سلوك مستهجن قد يكون سببا في إيذاء الآخرين، أو يكون عاملا في تخلف الشخص ذاته، و التحلي بدلا منها بالفضائل و محاسن الأخلاق.

في المجتمع الخالي من الحسد و البغض و الحقد، و الذي لا يستخدم فيه الأذكياء ذكاءهم في الكيد للآخرين و خداعهم، و لا يكرّس فيه أصحاب المعرفة و المعلومات معرفتهم و معلوماتهم في الإساءة لأبناء جلدتهم و مساعدة أعداء شعبهم، بل يضمر

ص: 230


1- من كلمة ألقاها في: 5 رمضان 1423 ه - طهران.

جميع أبناء المجتمع الخير لبعضهم الآخر بعيدا عن الحسد و الحقد، و لا يبغون رغد العيش على حساب الحط من الآخرين و فنائهم، و لا يطمعون في نيل كل ما تشتهي أنفسهم، يعتبر هذا تحولا أخلاقيا، إلاّ أنّه الحد الأدنى من القضية.

إذا لم يقترن في مجتمع العمل و النشاط الإقتصادي بتخزين الذهب و الثروة، أو الرغبة في مكاثرة الآخرين، و الإساءة للمحرومين و إهمال شأنهم، و إذا سادت في مجتمع محاسن الأخلاق التي عدّها الإسلام فضيلة - و عبّرت عنها الأحاديث بأنها جنود العقل -(1) و تمسّك الناس بالصبر و الاستقامة، و التوكل، و التواضع و الحلم، من غير سوء ظن أزاء بعضهم الآخر أو عدم المبالاة لأحوال الآخرين، مع الشعور بالمسؤولية حيال مصير المجتمع، و إذا سادت القناعة بين أبنائه بلا إسراف أو تبذير و ما شابه ذلك، بعيدا عن الحرص و الطمع، تحولت حياة ذلك المجتمع إلى جنّة و عيش رغيد.

الرذائل المذكورة هذه هي أسباب البلاء في مجتمعات العالم المعاصر حتى في البلدان الغنية و المتقدمة، و إنّ ما يقلق الإنسانية اليوم هو هذا الخواء الأخلاقي.

لقد ابتعد شعبنا و الحمد للّه ببركة الإسلام و لما يحمله من فضائل أخلاقية و سنن عريقة، ابتعد شيئا عن هذا القلق و تلك المخاوف، و إنّ أغلب الشعوب الإسلامية تتحلى ببركة الإسلام ببعض المزايا الخلقية.

و هذا لا يعني طبعا أننا بلغنا مرحلة الكمال الأخلاقي، بل لدينا نواقص كثيرة يتعيّن علينا رفعها، كالكسل و اليأس، و ضيق الصدر، و التذرع في التعامل مع الآخرين، إضافة إلى الخصال المقيتة التي أشرت إليها آنفا، يجب علينا التخلص منها، و هذا بحد ذاته جهاد.

إنّ الشباب يميل بشكل طبيعي إلى التنافس. حسنا؛ إنّ التنافس الذي نطمح إليه

ص: 231


1- انظر محاسن البرقي: 196/1، و الكافي: 21/1 ح 14.

و نأمل أن يتمرس عليه الشباب هو أن يكون مع النفس الأمارة بالسوء الداعية إلى الانحطاط و الرذيلة و المانعة عن السمو و التكامل، و كبح جماح تلك النفس.

و الشباب مدعوون لمقاومة نوازع الشهوة و النزوات و جميع الحوافز التي تدفعهم إلى مثل هذه الرذائل.

الشباب لهم الصدارة في هذا الميدان، و غير الشباب مطالبون أيضا. و هذا فرض على الجميع، حتى على أمثالي أيضا، بل نحن أولى به من غيرنا، و أعني المسؤولين و المتصدين للمهام الكبرى و من لا يعكس سلوكهم و قرارهم و تحركهم طبيعة شخصه فقط، بل يمثل سلوك شريحة كاملة و مجتمع برمّته، بل و ربما يمثل في أعين البعض أحيانا سلوك بلد كامل. هؤلاء يجب عليهم توخّي أقصى درجات اليقظة، و هم معنيون بالخطاب الإلهي أكثر من غيرهم و مطالبون بتحقيق الدعاء الشريف «حوّل حالنا إلى أحسن الحال»(1) في ذاتهم.

صحيح أنّ التحول في حقيقته بيد اللّه تعالى، و نحن في هذا الدعاء نطلب منه عزّ شأنه أن يحوّل حالنا إلى أحسن الحال - كما هو الحال في سائر الأدعية - إلاّ أنّ السعي و التحرك إنما يكون من الإنسان، و على الجميع أن يشحذوا هممهم في مجال العمل نحو إصلاح الذات(2).

يجب علينا العمل للوصول إلى طريق يقودنا نحو التقدم العلمي السريع. و السبيل الوحيد الذي يؤدي إلى هذه الغاية هو بذل الجهود الشاقّة من قبل طلبة العلم و البحث و الدراسة.

إنّ أي عمل يطمح الإنسان إلى أدائه يمكنه أداؤه و هو في دور الشباب. بمعنى أنّ كل واحد من المجالات الثلاثة: اكتساب العلم، و تهذيب النفس، و الرياضة، يجب بذل

ص: 232


1- انظر إعانة الطالبين: 393/4.
2- من كلمة ألقاها في: 11 ذي القعدة 1417 ه.

الجهود فيه في سن الشباب. و الكل على معرفة بأن الرياضة في مرحلة الشيخوخة ليس لها نفس تأثير الرياضة في مرحلة الشباب، و لكن غالبا ما يجهل الناس هذا المعنى بالنسبة لتهذيب النفس، و يتصورون أنّ الإنسان يجب أن يمكث إلى أن يدخل في سن الشيخوخة ثم ينهمك عند ذاك في العبادة و تهذيب النفس. في حين يصبح تهذيب النفس في غاية الصعوبة، بل و قد يستحيل أحيانا.

تهذيب النفس في طور الشيخوخة مهمة عسيرة، بينما هي في غاية السهولة لمن هم في سنّكم، أي سن الشباب. و على كل الأحوال ينبغي على الشباب حمل هذه الجوانب الثلاثة على محمل الجد(1).

ص: 233


1- من كلمة ألقاها في: 11 محرم 1419 ه ق - طهران.
التغيير بيد الإنسان

لا بدّ من الالتفات طبعا إلى أنّ تغيير أية ظاهرة في العالم رهن بيد الإنسان، و كل تحول إنما يجري بإرادة الإنسان. فلو أراد الإنسان إيجاد أي تغيير في حياته و في وضع مجتمعه و بلده، لا بدّ له أن يبدأ التغيير في ذاته، فالتغيير الأخلاقي و الباطني و التوجه نحو الصفاء و الإنسانية و العبودية للّه و التسليم لإرادة إله الكون و خالق الوجود يتضمن تلقائيا سعادة بني الإنسان، و كل ألم و عناء و مشقة يواجهها الإنسان إنّما يعود سببها إلى الابتعاد عن سبيل اللّه، و على أثر عصيان أحكامه.

نحمد اللّه أنّ شعبنا بدأ بخطوة كبرى على هذا السبيل و قطع شوطا بعيدا فيه، و كلّي أمل في أن تسير الشعوب الإسلامية بمرور الزمن قدما نحو مزيد من التمسك بالأخلاق على مستوى الفرد و الجماعة، و الخصال و السجايا الإنسانية النبيلة، و يتعامل مع الأصدقاء بمزيد من الإخلاص و المحبة و المروءة، و مع الأجنبي بمزيد من اليقظة و الوعي و الحزم، إلى أن يتمكن بإذن اللّه من إيصال سفينة النجاة إلى بر الأمان الإلهي(1).

ص: 234


1- من كلمة ألقاها في: 29 ذي القعدة 1418 ه ق.
نماذج للفساد الإجتماعي الأخلاقي

إن الكفاح ينبغي أن ينصب على: الفقر، و الفساد! فإننا لو كافحنا الفقر و الفساد، لتحققت الإصلاحات الإجتماعية و الأخلاقية بمعناها الصحيح.

إن كل مشاكلنا مردّها إلى هذه العناصر المشؤومة و المخربة الثلاثة. كما أن عدم الاستقرار الأمني مردّه أيضا إليها، إذ إن الكثير من عوامل عدم الاستقرار يعود إلى الفقر، و الكثير منها يعود إلى الفساد.

لا بدّ من مكافحة الفقر، بما في ذلك الفقر الفردي و قلة الدخل و كل ما يحول بين الناس و بين الحصول على مستلزماتهم الضرورية في الحياة، ذلك الفقر الذي قال عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «كاد الفقر أن يكون كفرا»(1).

فالفقر يجرّ الإنسان نحو الفساد و الخيانة و الكثير من الطرق الموبوءة. و بالطبع فإن الإنسان المؤمن عادة ما يقاوم، فلا ينبغي أن يكون الفقر - على خطورته - ذريعة للإنحراف عن المسير الصحيح.

كما أن الفقر العام قد يجعل من مدينة ما تعاني من قلة المراكز الثقافية، و المكتبات، و الأندية الرياضية، و الصالات الثقافية، فيتعرض الشباب جراء ذلك للفقر العام.

إن منشأ كل ذلك هو الفقر. و إن مكافحة الفقر تعني استخراج كل ما يمكن من الثروات و الحصول عليها من المصادر الوطنية بشكل مناسب ثم التصرف فيها أيضا و توزيعها بصورة مناسبة و بلا إسراف.

ص: 235


1- الكافي: 307/2 ح 4.

كما أن الفساد هو الفساد الأخلاقي، و الفساد العملي و الوظيفي، و فقدان الضمير في تقديم الخدمات العامة، و عدم الشعور بالمسؤولية في مواجهة الرأي و الذهن الشعبي العام، فهذه كلها ألوان و أنواع من الفساد.

و إن على أولي الحكمة و الضمائر المتيقظة و كل من يحتك بالرأي العام ألاّ يتركوا فرصة للأيادي الملوثة حتى تندس و تبثّ أوبئة الخلاف في البيئة الفكرية!(1).

مكافحة الفساد الأخلاقي

من أنواع الفساد المفاسد الأخلاقية و تفشي المنكرات، فلا بد من التصدي لها و مكافحتها أيضا؛ و إننا نعلم جيدا أن من تعاليم الإسلام تعريف الناس بفضائل الأخلاق و صيانتهم عن المنكرات باللسان و البيان، و هذا صحيح في محلّه، و لكن لا بد من التصدي لحالة تفشي المنكرات و التظاهر بها، فالإسلام يقدم النصيحة و الإرشاد لمرتكب المنكر، لكنه يضع له الحد أيضا.

إن العمل لا ينجز بالتوجيهات اللفظية، بل لا بد من أن تقف سلطة النظام بوجه تيار الفحشاء و الفساد؛ فلا تسمحوا لأهواء حفنة معدودة و مجموعة صغيرة و قليلة في داخل المجتمع أن تكون سببا في إغواء عقول الشباب من الفتية و الفتيات، و المؤمنين من الرجال و النساء الذين لا دافع لهم يحدوهم نحو الفساد.. قفوا بوجه مثل هؤلاء.

و المسؤولية ملقاة على عاتق جميع المسؤولين في هذا المجال، فلا تسمحوا لحفنة من المتشدقين باسم الحرية - و في الحقيقة جدير بنا البكاء على الحرية لما يجري من سوء استغلال لاسمها - بإشاعة المنكرات و الفحشاء و التحلل في المجتمع، إذ إن عاقبة ذلك زرع روح التشاؤم لدى البعض أزاء النظام كما هو الحال في بداية الحركة الدستورية.

ص: 236


1- من كلمة ألقاها في: 22 ربيع الثاني 1421 ه - مدينة أردبيل.

من العوامل التي أدّت إلى فشل الحركة الدستورية في إيران كان شعور المتدينين بعد حين بأن الأمور تتجه نحو اللادينية، فكان الدافع وراء الضجيج الإعلامي المتصاعد وقت ذاك الهجوم على المقدسات الدينية - و لم يكن عدد المناهضين أثناء الحركة الدستورية لأصل الدين و مظاهره و العقائد الدينية و العلماء و يقومون بالمساس بمثل هذه الأمور بين المحافل بالقلم أو الشعار بالعدد الذي يعتدّ به، لكن ضجيجهم كان عاليا - مما أدّى إلى أن يتسرب الفتور تدريجيا للمتدينين و العلماء الذين كانوا يتقدمون الصفوف الأمامية للجهاد في الحركة الدستورية و من ثم تنحّوا جانبا، و لما آل الأمر إلى ذلك اندحرت النهضة و أخفقت الحركة الدستورية، و بعد خمسة عشر أو ستة عشر عاما من عمرها جاء الدكتاتور رضا خان، و إن في ذلك لعبرة، فأين رضا خان العسكري المتجبر من شعار الحركة الدستورية؟! و أيّ هوة تفصل بينهما! فكيف أصبح الأمر كذلك؟! لأن ثقة المؤمنين و قناعتهم قد سلبت فتنحّوا جانبا و تركوا الساحة. فعلى المسؤولين أن لا يسمحوا ببروز مثل هذه الحالة بين المؤمنين(1).

قصة في أثر الفساد

إنني لا أدري إن كنتم قد قرأتم ذلك الكتاب للسيدة «إيزابيل آلنده» أم لا، فهو كتاب جيد و رائع جدا، و إنها من أفراد عائلة «سلفادور آلنده» الذي نعرفه. إنها تذكر في هذا الكتاب أن أحد المسؤولين الكبار في إحدى دول أمريكا اللاتينية قد التقى بابنه في أحد الأماكن المرذولة أخلاقيا، و التي لا يمكن الآن تفصيل الحديث هنا بشأنها. و كان هذا المسؤول قد توجه إلى ذلك المكان من أجل الإطلاع على الممارسات اللأخلاقية للشباب، فوقع بصره على ابنه هناك من طريق الصدفة! فكان وقع الصدمة

ص: 237


1- من كلمة ألقاها في: 12 جمادى الأولى 1422 ه - طهران.

عليه بحيث أدى به إلى صدمة قلبية و حالة عصبية.

إنه لا يوجد في الإسلام فرق بين أبنائك و أبناء الآخرين، فإذا ما وجدت في ابنك صفة مرذولة و ممجوجة و لا يمكن تحملها، فإن عليك أن تشعر بنفس هذه المسؤولية و هذا الشعور تجاه أبناء الآخرين.

و إذا ما حدث و لم تحس بنفس ذلك الشعور فإن ذلك لا يسقط عنك مسؤولية التصرف على نفس الوتيرة.

و لا شك أن ثمة تفاوتا بين مشاعر الإنسان تجاه أبنائه و مشاعره تجاه الآخرين، إلاّ أن المسؤولية واحدة بلا أدنى فرق؛ فلو رأى أبناء الآخرين على شفا السقوط في هاوية الإنحراف أو الابتذال، فعليه أن يحول دون ذلك كما يفعل مع أبنائه تماما(1).

ص: 238


1- من كلمة ألقاها في: 21 رمضان 1241 ه - طهران.

الحجب و قسوة القلوب

أنواع الحجب

إن بعض الحجب حجب ظلمانية، فالحجب التي نتكبل بها نحن و نقع في أسرها و تتشبث بها - حجاب الشهرة، حجاب البطن، حجاب الحسد، و حجاب التمنيات - إنما هي حجب ظلمانية و حيوانية، بيد أن ثمة حجب أخرى تعترض الذين يتخلصون من هذه الحجب و هي الحجب النورانية، فانظرواكم هو سام وراق العبور من هذه الحجب بالنسبة للإنسان، فأيما شعب انس هذه المفاهيم و أورد فؤاده هذا الرحاب و ساوق مسيرته وفق هذا الميزان سيمضي قدما و تتصاغر أمام عينيه الجبال، و خلال برهة تاريخية تبلورت لدى شعبنا مثل هذه الحالة فولدت الثورة الإسلامية، فلا تتصوروا أن هذه الثورة كانت متوقعة، كلا فهي لم تكن كذلك، و كانت على قدر من العظمة، فلم يكن متصورا أن يستطيع شعب و بأيد عزلاء القضاء على نظام فاسد لكنه مدعوم بشكل كامل من قبل القوى الدولية الكبرى الظالمة و يمارس الحكم بأقصى الأساليب الاستبدادية و ليس بمقدور أحد أن ينبس ببنت شفة، و يبدله بما يعتقد و يؤمن به - أي الإسلام - فلم يكن ليخطر ببال أكثر الناس تفاؤلا إمكانية مثل هذا الأمر، بيد أن شعبنا ببركة الإسلام و المعنويات أنجز هذه المهمة، فلقد شحنت المبادئ المعنوية و الأخلاقية و القيم الكبرى هذا الشعب بقوة لم يستطع معها أي ضغط أو إملاء أو تهديد أو حادث مدبر أن يثنيه وسط طريقه و يوقفه، لذلك فقد سار

ص: 239

حتى النهاية.

و كان النموذج الثاني أيام الحرب المفروضة. فلعل أكثركم أدرك الحرب المفروضة لكنني لا أعلم كم من ذكريات الأيام الأولى للحرب ما زالت حية في أذهانكم، لقد تعرض شعب لغزو و لم يكن في الواقع يمتلك المعدات المتداولة، إذ كنا نبحث عن الدبابات فإما لا نجدها أو أنها قليلة أو معيبة، و كذا الاسلحة و الطائرات، و طالما كان القائمون على بعض الأعمال المهمة يرتلون آيات اليأس، غير أن بارقة الأمل الإلهي و الدافع الأخلاقي و المعنوي و الديني و الإيمان بالله حفز قلوب الشباب - من أبناء الحرس الثوري و القوى الشعبية و التعبويين من كافة الطبقات و العناصر المؤمنة المخلصة في الجيش - بحيث استطاعت الأرواح التعويض عن ضعف الأبدان "لبسوا القلوب على الدروع"، و ذاك ما قيل بحق الأنصار يوم كربلاء، فقد لبسوا قلوبهم فوق دروعهم، و الدروع هي التي تحمي الأجسام، لكن القلوب تحمي الأجسام و الدروع معا.

لقد توثبت القلوب المؤمنة النيرة و تحركت الهمم العالية فاقتحمت الجبهة العظيمة الشاسعة التي كان أحد خيوطها بين دوائر المخابرات و وزارة الدفاع الأمريكية، و آخر بيد الناتو، و خيط في الاتحاد السوفياتي السابق، و خيط في خزائن الحكومات النفطية بالمنطقة، و مدلل الجميع النظام البعثي الذي كانوا يمدونه بدعمهم من كل صوب، فكانت أن تحركت هذه الأيادي العزلاء و القلوب النيرة الصلبة المفعمة بالأمل و اقتحمت هذه الجبهة الهائلة و دحرتها، أو مزاح هذا؟! إنها المعنويات فإذا ما تبلورت المبادئ و مصدر الزخم المعنوي لدى بلد أو شعب تتحقق مثل هذه المعجزات.

و هناك نموذج ثالث حصل في لبنان، فاستطاعت ثلة من المؤمنين من أبناء حزب اللّه بعون اللّه تعالى و هممهم الصلبة أن يهزموا الكيان الإسرائيلي الغاصب و يكبحوا جموحه و أطماعه و يطردوه من أرضهم العزيزة و قد كانت الحادثة الأولى هي

ص: 240

الانسحاب و الهروب من جنوب لبنان عام 2001 م(1).

ثم كسروا هيبة هذا الجيش الذي قيل عنه إنه لا يهزم كل ذلك بفضل اللّه المنان و لطف عنايته في الحادثة الثانية عام 2006 م(2).

فانظروا كيف تمكن عدد قليل من الشباب الذين لم يكن لهم من سلاح سوى الايمان من القيام في لبنان بعمل عجزت عنه جميع الجيوش العربية برغم ما تمتلكه من السلاح المتطور، حيث تغلب هؤلاء الشباب على جيش اسرائيل المدجج بالسلاح و أنواع الجهزة المعقدة، و وصم جبينه بالخزي و العار، و هذا هو السرّ في انتصار المؤمنين عبر التاريخ الاسلامي.

فالايمان وحده ليس كافيا اذا لم يكن مدعوما بالعمل الصالح...(3).

لطالما أوصيت - و أوصي الآن - المسؤولين ذوي العلاقة في كافة الحقول - سواء الحقل الإقتصادي أو حقل الشؤون العلمية - أنهم قادرون على إزاحة المشاكل عن طريقهم إذا ما تحولت هذه الهمم و المعنويات و أزيلت الحجب، و هذه الأفئدة الصلبة المتماسكة إلى محور للعمل و الجد في كل ميادين الإعمار و التقنيات المعقدة و في المجالات العسكرية معتمدين على إيمانهم هذا. و أغلبكم يعرف ما أقول، فهذا الزخم المعنوي بمقدوره أن يصنع المعجزات في كافة المجالات.

ينظر بعض السذج إلى بعض البلدان الغنية في العالم و يقولون: إن هؤلاء أثرياء دون دين و لا أخلاق، فلنقتف أثرهم متصورين أن ثراءهم إنما جاء لافتقادهم الدين و الأخلاق! و هذا خطأ، فأيما بلد إذا ما أصبح غنيا و مقتدرا فإنما ذلك لأسباب خاصة من شأنها خلق القدرة و الثروة، فحيثما توفر التدبير و العمل و الجد سيعطي ثماره، و هذه سنّة إلهية.

ص: 241


1- من كلمة ألقاها في: 1384/5/28 ه ش - 1426/7/13 ه ق - 2005/8/19 م.
2- من كلمة ألقاها مباشرة بعد العدوان الأخير على لبنان.
3- من كلمة ألقاها في 27 شعبان 1425 ه. ق 1383/7/22 ه. ش - طهران.

فحتّى الذين يسعون وراء الماديات المحضة بعيدا عن المعنويات سينالونها إن توفرت لديهم الإدارة و التدبير الصحيح و تحلّوا بالجد و الإجتهاد كُلاًّ نُمِدُّ هٰؤُلاٰءِ وَ هَؤُلاٰءِ مِنْ عَطٰاءِ رَبِّكَ وَ مٰا كٰانَ عَطٰاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (1)، و هذا هو صريح القرآن و لا كلام فيه، و إنما الكلام فيما إذا كان السعي و العمل وراء الماديات، إذ ذاك ستحصل الثروة و القدرة و لكن بلا سعادة. و نحن نصبوا لتحقيق مجتمع يتمتع بالثروة و الإقتدار و السعادة الشاملة المقترنة بالعدالة و المعنويات، و هذه هي الغاية التي تتطلع إليها الشعوب، و إلاّ فالبلدان الغنية و القوية تعج بالإجحاف و الظلم و الفقر و الحرمان و المرارة، مما لسنا كمسلمين ساعين إليه.

إن المجتمع الذي يمكن تصويره طموحا لشعب حي واع و مستيقظ هو ذاك الذي يذخر بالمعنويات و العدالة و العز و الإقتدار و الثروة و الرفاهية، و إذا ما أردنا لمجموعة من المفاهيم هذه أن تأتلف مع بعضها فذلك مما يتعذر دون المعنويات و المبادئ المعنوية و الأخلاقية و التوجه نحو اللّه تعالى و إزالة كافة الحجب عن القلوب، و دون الجهاد في سبيل اللّه و هذا الذي فيه عزة الأمة الإسلامية(2).

قسوة القلوب و أثرها

من مواعظ أبي جعفر عليه السّلام: «إنّ للّه عقوبات في القلوب و الأبدان، ضنك في المعيشة و وهن في العبادة، و ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب»(3).

أحيانا يعاقب اللّه تعالى عباده في الدنيا، و هذه العقوبة تارة تكون في الحياة المعيشية المادية للإنسان من قبيل ضيق و ضنك العيش، و لكن يجب أن يعلم أن

ص: 242


1- سورة الإسراء: 20.
2- من كلمة ألقاها في: 3 شعبان 1423 ه - طهران.
3- تحف العقول، صفحة: 296.

ضيق العيش ليس دائما يكون عذابا بل أحيانا يكون اختبارا أو ابتلاء إلهيّا و أحيانا تكون نتيجة لعدم الشكر و الأعمال القبيحة من الإنسان.

و تارة أخرى تكون العقوبات في الجانب الروحي من قبيل الضعف و الوهن و عدم التحمّل في العبادات، أكثر الناس لا يلتفتون أصلا لمثل هذه العقوبات.

فالإنسان أحيانا لا يكون لديه رغبة في الدعاء، أو لا يحصل عنده توجه و إقبال و حضور قلب في الصلاة، أو لا يوفق للقيام بالنوافل و التعبّد و المناجاة مع اللّه تعالى، و كل ذلك عقوبة و جزاء على الذنوب التي ارتكبها. و كما ورد في الدعاء: «اللّهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء»(1).

فإنّ أحد الإحتمالات في معنى حبس الدعاء هو أن الإنسان نتيجة لقساوة قلبه لا يكون لديه الرغبة و الميل نحو الدعاء و هذه أعظم عقوبة إلهية(2).

و عن جعفر بن محمد عليه السّلام عن أبيه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أربع يمتن القلب: الذنب على الذنب، و كثرة مناقشة النساء - يعني محادثتهنّ - و مماراة الأحمق تقول و يقول و لا يرجع الى خير أبدا، و مجالسة الموتى.

فقيل: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و ما الموتى؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: كلّ غنيّ مترف».(3)

هناك أربعة أمور تميت القلب أي يصبح الإنسان باردا و فاترا عن التوجة نحو اللّه تعالى و عن ذكره و عن اللذة الحاصلة منهما. و هي:

1 - الذنب على الذنب، فإن الإنسان ليس معصوما عن الذنب و لكنه يتوب الى اللّه تعالى عند ارتكابه الذنب و يستغفر اللّه و يندم و يعزم على عدم العودة الى الذنب مجددا، فإذا ارتكب الذنب مجددا يكون ذنبه بعد التوبة.

ص: 243


1- فقرة من دعاء كميل.
2- كلمات مضيئة: 174.
3- الخصال/باب الأربعة/ح 65، و روضة الواعظين: 414.

أما إذا لم يتب الى اللّه تعالى من ذنبه و غفل عن ذلك و ارتكب ذنبا آخر فيكون قد أذنب على الذنب. و هذا الأمر يميت القلب بسبب تراكم الظلمات عليه.

2 - كثرة المحادثة و المناقشة مع النساء. طبعا ليس المراد من النساء هنا زوجته و بناته و أخواته و أمثالهنّ بل المراد المرأة الأجنبية عليه، فإن محادثتها لا تخلو من الزلات و الشهوات.

3 - المجادلة و المباحثة مع الأحمق. فإن بعض الأشخاص الجاهلين لا يحكم على أعمالهم و أقوالهم العقل و المنطق، فليس هناك فائدة من الكلام و المباحثة معهم لأنه لا يترتب عليه أي نتيجة صحيحة.

4 - مجالسة الموتى. و فسّر النبي صلّى اللّه عليه و آله الموتى بالأغنياء الغارقين في الماديات و المفاسد الناشئة منها(1).

ص: 244


1- كلمات مضيئة: 175.
زيغ القلوب

إن ما يقض مضجعي أحيانا هو "الزيغ"، فقد ورد في سورة آل عمران قوله تعالى رَبَّنٰا لاٰ تُزِغْ قُلُوبَنٰا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنٰا وَ هَبْ لَنٰا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ اَلْوَهّٰابُ (1)، أي لا تترك قلوبنا تزيغ و تنحرف عن صراط الحق إلى الباطل. و القرآن هنا ينقل دعاء عباد اللّه، و يقول تعالى في سورة الصف بخصوص بني إسرائيل: وَ إِذْ قٰالَ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ يٰا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اَللّٰهِ إِلَيْكُمْ فَلَمّٰا زٰاغُوا أَزٰاغَ اَللّٰهُ قُلُوبَهُمْ (2)، و كأن في هذه القضية فعلا و إنفعالا و إقداما مزدوجا أحد طرفيه بيد الإنسان نفسه، أما نتائجه و عواقبه فهي بيد اللّه سبحانه؛ فَلَمّٰا زٰاغُوا، أي إنهم خطوا خطوة منحرفة أوقعتهم في منحدر الزيغ، حينها أَزٰاغَ اَللّٰهُ قُلُوبَهُمْ أي أضلهم اللّه و أزاحهم عن جادة الصواب، و ما أدراك ما تعنيه هذه الإزاحة الإلهية! إنها تعني سلب التوفيق الإلهي.

هذا ما ورد بحق بني إسرائيل و هو لا يختص بهم؛ فبنو إسرائيل بالرغم من أنهم عاصروا فرعون و شهدوا حقانية موسى و رأوا بأم أعينهم كيف أن اللّه سبحانه أجرى هذه الحركة العملاقة على يدي عبده موسى بن عمران "ع"، بنو إسرائيل الذين شاهدوا بأعينهم البحر و عساكر فرعون و تلك الأحداث المذهلة المدهشة، فإنهم وقعوا أسرى الأهواء النفسية و الغفلة فانزلقوا "زاغوا" في هذا المنحدر، ففي هذه الآية يخاطبهم موسى لِمَ تُؤْذُونَنِي؟! و في سورة الأحزاب يقول تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ

ص: 245


1- سورة آل عمران: 8.
2- سورة الصف: 5.

آمَنُوا لاٰ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسىٰ فَبَرَّأَهُ اَللّٰهُ مِمّٰا قٰالُوا وَ كٰانَ عِنْدَ اَللّٰهِ وَجِيهاً (1) ، و هذا الخطاب موجه لي و لكم أيضا، فالزيغ من قبلهم عبارة عن الاستسلام للأهواء و الشهوات و النزوع نحو المادية و الثروة و النزوات الجنسية و سائر الأمور التي هي مصدر ويلاتنا، و يقابله من اللّه تعالى سلب رحمته و تسديداته التي كان يغدق بها علينا.

إن أي تحرك خاطئ يصدر منّا و أية خطوة بعيدة عن الصواب و العدالة نقدم عليها و أي فعل نمارسه ناجما عن النوازع و الأهواء النفسية إنما يسير بنا خطوة نحو لهوات الفساد و الابتعاد عن اللّه سبحانه أَزٰاغَ اَللّٰهُ قُلُوبَهُمْ، و هذا الإنزلاق إنما يأتي على دفعات، و هنا تكمن خطورته؛ فعاقبة الانزلاق تضاؤل عمل الإنسان بادئ الأمر ثم تأخذ أخلاقه و سجاياه بالاهتزاز و التأثير و يتحول من كان صادقا وفيّا ذا شعور بالمسؤولية إلى إنسان متذبذب عديم الوفاء و غير مسؤول تدريجيا، و يطال التبدل أخلاقه أيضا.

و في المرحلة اللاحقة يبدأ التبدّل في عقائد الإنسان، و هذا الفساد الذي كنا ننظر إليه يوما بعين الاحتقار يأخذ بتغيير هويتنا و تدمير أخلاقنا شيئا فشيئا. يقول تعالى في إحدى آيات القرآن الكريم: فَأَعْقَبَهُمْ نِفٰاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمٰا أَخْلَفُوا اَللّٰهَ مٰا وَعَدُوهُ (2)، و هذه هي المعادلة التي يعتمدها الباري تعالى في تعامله مع الإنسان، أي أنها - في واقع الأمر - منوطة بأعمالنا، فنحن خلال أعمالنا نحول دون أن تشملنا الرحمة الإلهية، و لئن حرمنا الرحمة الإلهية فإننا ندنو أكثر فأكثر نحو الفساد و الضلال.

إننا نقرأ في الدعاء "اللهم إني أسألك موجبات رحمتك"،(3) فالإنسان يسأل اللّه موجبات رحمته، و من الطبيعي أن لا تنزل علينا الرحمة الإلهية إن فقدت هذه

ص: 246


1- سورة الأحزاب: 69.
2- سورة التوبة: 77.
3- بحار الأنوار: 63/83.

الموجبات من أعمالنا، و هذا هو الزيغ(1).

قال الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، إنّ اللّه جلّ و عزّ حكى عن قوم صالحين أنّهم قالوا:

ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و هب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهّاب، حين علموا أنّ القلوب تزيغ و تعود إلى عماها و رداها»(2).

حكى اللّه تعالى في كتابه الكريم عن قوم صالحين مؤمنين أمضوا عمرهم و حياتهم في طريق الإيمان أنّهم قالوا هذه العبارات، و ذلك لأنّهم علموا أنّ القلوب تزيغ و لا تثبت دائما بل من الممكن أن تعود إلى الضلال و العمى.

فسألوا اللّه تعالى أن لا يرجع قلوبهم إلى الضلال و العمى و الهلكة و أن لا يسلب عنهم نور الهداية، و أن يعطيهم و يهبهم اللّطف و الرحمة.

و إذا كان هذا حال الصالحين حيث هذا الخطر محيط بهم و يترقّبهم فكيف بغيرهم؟!

إذن فالتعلق بالشهوات و حبّ المنصب و المقام و المحبة المفرطة للأبناء و الأقارب و ضعف الأخلاق هي أيضا نقاط أخرى لهذا الخطر، و إذا غفل الإنسان عنها لحظة فمن الممكن أن يعود القلب و يزيغ و يتزلزل.

إنّ مضمون هذا الدعاء يجب أن نطلبه دائما من اللّه تعالى و نسأله أن يوفّقنا لذلك(3).

ص: 247


1- من كلمة ألقاها في: 26 رمضان 1422 ه - طهران.
2- تحف العقول، صفحة: 388.
3- كلمات مضيئة: 174.
تطهير القلوب

من وصايا الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، إنّ المسيح عليه السّلام قال للحواريّين: بحقّ أقول لكم، لا يغني عن الجسد أن يكون ظاهره صحيحا و باطنه فاسدا، كذلك لا تغني أجسادكم التي قد أعجبتكم و قد فسدت قلوبكم، و ما يغني عنكم أن تنقّوا جلودكم و قلوبكم دنسة.

لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيّب و يمسك النخالة، كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم و يبقى الغلّ في صدوركم»(1).

يقول النبي عيسى عليه السّلام في وعظه و نصيحته لخواص أصحابه المعروفين بالحواريّين:

إنه من غير اللائق بالإنسان أن يكون بدنه سليما معافى بينما تكون روحه و قلبه فاسدا و منحرفا، نظير الشخص الذي يكون ظاهره نظيفا مرتّبا بينما ما يكون تحت هذا الظاهر المزيّن المرتّب هو القذارة و الوسخ.

فالإنسان لا ينبغي له أن يتكلّم بالحكمة و بالعلم ليستفيد منه الآخرون و يجدوا طريق سعادتهم به و الحال أنه هو لا يعمل بذلك و لا يستفيد شيئا. فهو نظير السراج الذي يضيء للآخرين الطريق و أما هو فيحترق و يعدم، أو نظير الغربال الذي تعبر منه المواد القيّمة و النفيسة و أمّا النخالة و المواد التي لا فائدة منها تبقى فيه(2).

ص: 248


1- تحف العقول، صفحة: 393.
2- كلمات مضيئة: 41.
ظاهر الإنسان يعكس باطنه

جاء في أحد أدعية الصحيفة السجادية - الدعاء الثالث - عن الإمام السجّاد عليه السّلام:

««اللّهم ارزقني عقلا كاملا، و عزما ثاقبا، و لبّا راجحا، و قلبا زكيّا، و علما كثيرا، و أدبا بارعا و اجعل ذلك كله لي، و لا تجعله عليّ برحمتك يا أرحم الراحمين»(1).

و هنا اريد التأكيد على الفقرة الثالثة من الدعاء و هي: و لبّا راجحا.

فهناك صنفان من الناس: صنف ليس له إلاّ الظاهر؛ فظاهره جذّاب و ملفت للنظر و مثير للخضوع في بعض الأحيان، بينما باطنه فارغ و متهرئ و هذه من أرذل صفات الإنسان الذي يسعى لأن يكون منشأ لخدمات عظيمة في المجتمع، نعوذ باللّه من ذلك.

و الصنف الثاني: باطنه أنصع من ظاهره كيفما كان ذلك الظاهر.

و الإمام السجّاد عليه السّلام يعلّمنا أن نطلب من اللّه سبحانه أن يجعلنا من الصنف الثاني.

و نحن نعلم أنّ الدعاء ليس مجرّد لقلقة لسان و لكنّه دروس تعلّمنا كيف يجب أن تكون أخلاق الإنسان و سلوكه. فالنفاق من صفات الصنف الأوّل، و الزهد الفارغ من صفات الصنف الأوّل؛ و هو صنف ليس له أيّ دور إيجابي في المجتمع الإسلامي لا في الحرب و لا في السلم، لا في الشدّة و لا في الرخاء، و لا يمكنه تحمّل المسؤوليات و المهام الكبيرة؛ لأنّه لا يمتلك إلاّ الظاهر الذي ينهار بسرعة أمام المشاكل و الصعاب التي يتعرّض لها الإنسان في حياته.

بينما التربية الإسلامية تقوم على اسس و مبان مغايرة لذلك تماما؛ فهي تربّي

ص: 249


1- الصحيفة السجادية: 177.

الإنسان بأن يحافظ على ظاهره الإسلامي و لكنّها تعطي في الوقت نفسه الأهميّة القصوى للباطن. إذ يجب أن يكون باطن الإنسان أنزه و أفضل من ظاهره.

و التصوّر بأنّ ظاهر الإنسان ليس له أهمّية لأنّ الأصل هو الباطن فكرة بيّنة البطلان.

صحيح أنّ المهم في الإنسان هو باطنه، و لكن يجب أن يكون ظاهره مرآة تعكس ما في سريرته (الظاهر عنوان الباطن).

فلا بدّ للإنسان من إصلاح ظاهره و لا يجوز له التظاهر بالأعمال القبيحة. و يجب أن تظهر علامات العبودية للّه سبحانه و تعالى على وجه كلّ واحد منّا. و على أيّة حال يجب أن يكون باطن الإنسان المسلم أنصع و أنزه من ظاهره.

اللّهم إنّا نقسم عليك بمحبوب عالم الوجود و قطب رحى جميع الفضائل و الكمالات الإنسانية الإمام الحجّة (عجّل اللّه تعالى فرجه) أن تجعل بواطننا خيرا من ظواهرنا(1)..

ص: 250


1- من كلمة ألقاها في 1414 ه - مصلى طهران.

الدنيا

عدم اتّباع الدنيا

يوصينا أمير المؤمنين عليه السّلام في قوله: «و أن لا تبغيا الدنيا و إن بغتكما» بمستلزمات التقوى و كلّ الأعمال الصالحة هي من مستلزمات التقوى، و من جملة هذه الأعمال هو الأمر الذي ذكره عليه السّلام، فلم يقل اتركوا الدنيا بل أوصى بعدم اتّباع الدنيا و بالتعبير الشائع عدم الركض وراء الدنيا.

فما ذا تعني هذه الدنيا التي لا ينبغي السعي وراءها؟ هل تعني إعمار الأرض و إحياء الثروات الطبيعية؟ و هل هذه هي الدنيا التي ذمّها أمير المؤمنين عليه السّلام و حذّر منها؟ لا، ليس الأمر كذلك. فالدّنيا التي لا ينبغي اللهث وراءها تعني طلب اللّذات و السعي وراء الشهوات.

أمّا إذا كان الهدف من إعمار الأرض خير البشرية و صلاحها، فهو الآخرة بعينها و هو أمر يجب السعي إليه.

الدنيا المذمومة

أمّا الدنيا المذمومة و التي نهي الإنسان من السعي وراءها فهي الأعمال التي تصد عن السير في طريق الخير و الصلاح و تسلب منه إرادته و تستهلك قواه و سعيه و همّته

ص: 251

و هي تعني الأنانية و حبّ الذات و السعي وراء جمع الأموال و السعي وراء اللّذات.

و هذه الدنيا على قسمين فمنها المباح و منها الحرام، فليس كلّ ما يطلبه الإنسان لنفسه من اللذات حراما بل إنّ فيه المباح أيضا.

و لكن أهل البيت عليهم السّلام أوصوا بالابتعاد حتى عن اللذات المباحة عند ما يصبح هدف الإنسان من الدنيا طلب اللذات و الشهوات فقط. فأجهدوا أن تسير مظاهر حياتكم المادية و المعنوية في المسير الإلهي المرسوم لها.

إنّ كلّ الأعمال الدنيوية يمكن وضعها في هذا المسار إذا كان الهدف منها هدفا مقدّسا، فحتّى التجارة «مثلا» يمكن أن تجعل في سبيل اللّه عند ما يكون الهدف منها تحسين الوضع الإقتصادي للمجتمع و ليس ادخار الأموال الطائلة فقط.

و قد كان أمير المؤمنين عليه السّلام هو المصداق الأكمل لتلك الوصايا و قد جسّدها بشكل كامل في حياته و سلوكه. فإذا ألقينا نظرة على حياته عليه السّلام فسنجدها تجسيدا حيّا لكلّ ما أوصى به عليه السّلام.

و مما قال عليه الصلاة و السّلام: «و لا تأسفا على شيء منها زوي عنكما»(1) أي لا تأسفا على ثروة أو لذّة أو منصب لم تحصلوا عليه، لا تتأسّفوا لأنّكم لا تملكون وسائل الراحة و الرخاء و لا تأسفوا على أي شيء فاتكم من هذه الدنيا الدنية أبدا(2).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة»(3).

إنّ أصل و أساس كلّ الخطايا هو حبّ الدنيا.

و لكن لا ينبغي هنا الإشتباه و الخلط بين حبّ الدنيا بمعنى السعي و الجد من أجل إعمار و بناء العالم و السعي و الجد من أجل تهيئة و تأمين وسائل العيش و الحياة، و بين

ص: 252


1- نهج البلاغة: 76/3 ح 47.
2- من كلمة ألقاها في: 12 رمضان 1414 ه - طهران.
3- الخصال، باب الواحد، ح: 87.

حبّ الدنيا المذموم و هو المطامع الشخصية للإنسان أي ما يريده الإنسان في هذه الحياة من أجل نفسه فقط سواء أ كان مالا أم مقاما أو ثروة أو سلطة أم سائر الشهوات النفسانية.

إذن فالجد و السعي في مختلف ميادين الحياة كالزراعة و التجارة و تحصيل العلم ليس مذموما، و إنما المذموم هو حبّ الدنيا بأن يفعل الإنسان أي شيء من أجل تلبية شهواته النفسانية و يضع سائر القيم الأخرى تحت قدميه، فينسى و يترك كل القيم و المفاهيم الإنسانية من قبيل الإنصاف و التحمّل و الرحمة وصلة الرحم و يسعى دائما نحو المال أو السلطة أو الرغبات النفسانية و يسلك الطرق المحرّمة اللاّمشروعة من أجل تأمينها و بسط يده عليها.

أو يسلك الطرق المحللة شرعا و لكن مع الإسراف و التبذير و الإفراط فيها.

إنّ هكذا دنيا هي الأساس و الأصل لكل الخطايا.

إنّ كل الحروب و النزاعات و الإنحرافات الكبيرة مبدأوها و منشأوها حبّ الدنيا.

و أما إذا أخرج العبد المؤمن حبّ الدنيا من قلبه أو استطاع السيطرة عليها و ترويضها و السير بها ضمن دائرة المقررات و الوظائف الشرعيّة و الإنسانية، فهذا لا يكون مسخّرا لحبّ الدنيا.

إذن يجب على الإنسان أن يراقب نفسه دائما لئلاّ يقع في الزلل و السقوط و هذه المراقبة هي المقصودة من التقوى(1).

و عن جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام: «مطلوبات الناس في الدنيا الفانية أربعة: الغنى و الدعة و قلة الإهتمام و العز. فأما الغنى فموجود في القناعة فمن يجده في كثرة المال لم يجده، و أما الدعة فموجودة في خفّة المحمل فمن طلبها في ثقله لم يجدها.

ص: 253


1- كلمات مضيئة: 35.

و أما قلّة الإهتمام فموجودة في قلّة الشغل، فمن طلبها مع كثرته لم يجدها.

و أما العزّ فموجود في خدمة الخالق فمن طلبه في خدمة المخلوق لم يجده»(1).

متطلبات الناس في الدنيا الفانية عبارة عن أربعة أمور:

1 - الغنى و عدم الحاجة.

2 - الأطمئنان و الراحة.

3 - قلة الاهتمام و الانشغال.

4 - العزّ.

أما الغنى فقد جعله اللّه في القناعة، فإذا اقتنع الإنسان في حياته و رضي بالمقدار القليل منها فإنّه سوف يشعر بعدم احتياجه للآخرين، و أما إذا أراد أن يتحصن بالمال لرفع حاجته فلن يصل الى ذلك، لأن طبيعة مال الدنيا أنّ الإنسان كلما أكثر منه كلما ازداد عطشا للأزيد.

و أما الراحة و الدعة فقد جعلها اللّه تعالى في خفة المحمل أي يكون خفيف الحمل في الدنيا فكلما كان متاعه من الدنيا قليلا و خفيفا كلما ازداد راحة و طمأنينة. و لذلك فإن أصحاب الأملاك الكثيرة و الرساميل الزائدة من الضياع و السلع و العقارات لا يرتاح بالهم و لا يكونون مطمئنين.

و أما قلّة الاهتمام فهي موجودة في قلة الإنشغالات، فإن الإنسان إذا كان بصدد تحصيل المشاغل و المناصب المختلفة سيزداد اضطرابه و تشويش ذهنه و انشغال قلبه و اضطرابه.

و أما العز فقد جعل في خدمة الإنسان للّه تعالى و إن أدّى ذلك الى عدم رضا الناس عنه.

و أما لو كان العزّ في كسب و تحصيل رضا الناس و السعي و العمل لأجل تحصيل

ص: 254


1- الخصال/باب الأربعة/ح 7.

رضا الأحزاب و الأجنحة المختلفة فسوف لن يحصل عليه أبدا.(1)

حقيقة الدنيا و أقسامها

عن علي بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن محبوب، عن بعض أصحابه، عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: فيما ناجى اللّه عزّ و جلّ به موسى عليه السّلام:

«يا موسى لا تركن إلى الدنيا ركون الظالمين و ركون من اتّخذها أبا و امّا. يا موسى لو و كلتك إلى نفسك لتنظر لها إذا لغلب عليك حب الدنيا و زهرتها. يا موسى نافس في الخير أهله و استبقهم إليه، فإن الخير كإسمه. و اترك من الدنيا ما بك الغنى عنه و لا تنظر عينك إلى كل مفتون بها و موكل إلى نفسه، و اعلم أنّ كل فتنة بدؤها حب الدنيا، و لا تغبط أحدا بكثرة المال فإن مع كثرة المال تكثر الذنوب لواجب الحقوق. و لا تغبطنّ أحدا برضى الناس عنه، حتى تعلم أنّ اللّه راض عنه، و لا تغبطنّ مخلوقا بطاعة الناس له فإن طاعة الناس له و اتّباعهم إيّاه على غير الحق هلاك له و لمن اتبعه»(2).

الحديث مرسل، لكن ليس معلوما ظاهرا أن يقدح الإرسال بمفاد الأحاديث الأخلاقية التي تعرض حكمة أو تبيّن حقيقة من الحقائق؛ لأنّ مثل هذه الأحاديث لا تنطوي على حكم فقهي حتى يناقش الإنسان في حجيّته و يقول لا يمكن التعبّد بالخبر المرسل، بل إنّ مؤدّى هذه الأحاديث حقائق ما أن ينظر إليها المرء حتى يسلّم بصحتها و اعتبارها و إتقانها.

و واضح أنّها إمّا نصّ كلمات المعصوم عليه السّلام أو هي مقتبسة من كلامه و حديثه عليه السّلام.

إذن كون الحديث مرسلا يجب أن لا يثير أي شبهة أو ريب أو تردد في خصوص

ص: 255


1- كلمات مضيئة: 35-36.
2- الكافي: 135/2 ح 21.

الأخذ بمضمون هذا الحديث.

و إذا ما تجاوزنا مسألة الإرسال في هذا الحديث، فإن رجال السند هم من الثقات الأجلاء. فعلي بن إبراهيم و إبراهيم بن هاشم غنيان عن التعريف. و ابن محبوب (حسن ابن محبوب سراد) من الثقات و من العظماء، و على قول: إنّه من أصحاب الإجماع.

أمّا «ابن أبي يعفور» فهو رجل جليل القدر ينقل عن لسانه هذا القول «و اللّه لو فلقت رمانة نصفين و قلت هذا حرام و هذا حلال لشهدت أنّ الذي قلت حلال حلال و أنّ الذي قلت حرام حرام»(1).

و نفسه الذي أجابه الإمام عليه السّلام مرتين بقوله: «رحمك اللّه» و بعد وفاته كتب الإمام الصادق عليه السّلام كتابا إلى المفضّل في الكوفة يطلب منه إعطاءه الوكالة التي كانت عند «عبد اللّه بن أبي يعفور» و قد كرر الإمام عبارة «صلوات اللّه عليه» بعد كل مرة يذكر فيها اسم «عبد اللّه بن أبي يعفور»(2).

... قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: في ما ناجى اللّه عزّ و جلّ به موسى عليه السّلام، يتضح من هنا أنّ الباري عز شأنّه بصدد بيان أسمى الحقائق و الحكم لنبيّه العظيم؛ و لذلك عبّر في الحديث بلفظ (ناجى) و لم يقل (أوحى). فلعل في التعبير بلفظة (ناجى) قرينة على ما قلناه من أنّ اللّه تعالى شاء أن يبيّن مواضيع هامة جدا لموسى عليه السّلام عن طريق النجوى.

«يا موسى لا تركن إلى الدنيا ركون الظالمين»(3) و يراد بالركون الميل القلبي و التعلّق الروحي: أيّ أنّه لو لم يكن التعلّق بالدنيا لما ظلم الإنسان عباد اللّه و لما عذبهم و آذاهم، فالظلم هو ذروة التعلّق بالدنيا و الركون إليها.

ص: 256


1- انظر اختيار معرفة الرجال: 518/2 ح 462.
2- انظر معجم رجال الحديث: 105/11.
3- الكافي: 135/2 ح 21.

«ركون من اتخذها أبا و امّا» أي كالذي جعل الدنيا همّه الوحيد و شغله الشاغل بحيث أنّه لا يفكر في شيء سواها كالطفل يلجأ إلى أبيه و امه يتعلق بهما و لا يفكر بأحد غيرهما.

«يا موسى لو وكلتك إلى نفسك لتنظر لها إذن لغلب عليك حب الدنيا و زهرتها» و قوله (لتنظر لها) غير (لتنظر إليها) فالنظر إلى الدنيا ليس مذموما، و إنّما المذموم هو (النظر للدنيا) أي التفكير بالدنيا.

ما المراد بالدنيا؟

إنّ المراد بالدنيا في هذا الحديث و الأحاديث المشابهة له ليس الأرض و ما يتعلق بها و لا العمران أو الانشغال بامور الناس أو ما شاكل ذلك، بل المراد من الدنيا هو مظاهرها: كالمال و الجاه و المنصب و التي يجهد الناس أنفسهم للحصول عليها.

إذن كل ما على الأرض من نعم و طيبات و جمال تصبو إليها النفس الإنسانية يعبّر عنه في لسان الروايات و الأحاديث ب (الدنيا) و بالطبع فهي دنيا مذمومة.

و من الواضح أنّ الإنسان كلما ازداد تفكيره بالدنيا و انشغل بها أكثر ازداد رغبة و تعلقا بها، و ازداد شوقه إليها، و إذا أعرض عن الدنيا فسيقل حبه لها بالتدريج.

و ليس المقصود من هذه الرواية و أمثالها أنّ يقعد الإنسان عن العمل و الجد و يقبع في زاوية بيته، كما تصور البعض هذا المعنى المغلوط و لسنوات - و منهم لقرون - متمادية فنهج نهجا خاطئا و اختار العزلة و الإنزواء بعيدا عن صخب الحياة و ميادين العمل و الجد و الإجتهاد، ناسبا هذا اللون الخاطئ من الفهم للإسلام، إذن المراد بالدنيا ليس هذا المعنى المغلوط.

«يا موسى نافس في الخير أهله و استبقهم إليه فإن الخير كإسمه».

أي أنّ معاني الخير و مصاديقه هي كإسمه جميلة و مرضية، و يبدو أنّ المقصود من

ص: 257

الخير الأعمال الصالحة ذات الطابع العام من قبيل الإحسان إلى المؤمنين و مساعدة الاخوان و الاتحاد و عبادة اللّه تعالى و الزهد في الدنيا و غير ذلك من الصفات الحميدة.

و يأتي لفظ الخير بمعنى أفعل التفضيل و يدلّ على الأفضلية؛ و بذلك يكون معنى الحديث: أنّ أفعال الخير كإسمه أفضل من أي شيء آخر. فإذا قام أحدكم بعيادة مريض أو أسدى إحسانا إلى مؤمن، أو تعاون مع الآخرين لإنجاز أمر من الامور، أو طلب علما، أو أعرض عن الدنيا و زخارفها أو جاهد في سبيل اللّه أو عبده عزّ و جلّ، كل هذه الأعمال هي أعمال خير، و هي أفضل من أي شيء آخر يمكن أن يخطر على بال الإنسان، من قبيل المال و الولد و الجاه و المنصب و ما شاكل ذلك من امور مادية و دنيوية.

المرحوم المجلسي في شرحه لهذا الحديث يورد عدة إحتمالات أحدهما المعنى الذي قلناه، و هناك إحتمالات اخرى و لكن الظاهر أنّ هذا الإحتمال هو المتيقن.

«و اترك من الدنيا ما بك الغنى عنه و لا تنظر عينك إلى مفتون بها». إمّا أنّ نعتبر «عين» فاعل أي أمنع عينك من أن تنظر و ترى، أو بمعنى لا تري عينك و لا تعرض عليها، أو أن تكون كلمة «عينك» منصوبة بنزع الخافض ل «لا تنظر بعينك».

«و اعلم أنّ كل فتنة بدؤها حب الدنيا» أي أنّ منشأ الفتن هو حب الدنيا. و هذه الحقيقة تؤيّدها و تسندها الشواهد التأريخية، فأينما تجد فتنة أو ضلالا أو خلطا بين الحق و الباطل فستجد أنّ أساس و منشأ ذلك كله هو حب الدنيا و حب الجاه.

«و لا تغبط أحدا بكثرة المال» و هذه من موارد الابتلاء الموجودة في مجتمعنا عند ذوي النفوس الضعيفة.

«فإنّ مع كثرة المال تكثر الذنوب لواجب الحقوق» أي عند ما تكثر أموال المرء تكثر الحقوق التي عليه مما يؤدي إلى كثرة الذنوب؛ فيتضح من ذلك أنّ الحقوق و الواجبات إذ كثرت فإن الإنسان سيعجز عن تأديتها، و لو لم يكن ليعجز عن تأديتها

ص: 258

لما ترتّب عليه ذنب من الذنوب.

هذا إذا كان المال قد اكتسب من الحلال و لو كان عن طريق الحرام فإن الموضع سيسوء أكثر فأكثر. و يحتمل أن الحديث يشير إلى خصوص كثرة المال عن حرام: أي أنّ الإنسان عند ما يحصل على المال عن طريق الحرام فإنّه لا بدّ و أن يكون قد ضيّع حقوقا كثيرة فإن «في حلالها حساب و في حرامها عقاب»(1).

«و لا تغبطن أحدا برضى الناس عنه حتى تعلم أنّ اللّه راض عنه». فإذا رأيت الناس قد اجتمعوا حول شخص ما و أخذوا يهتفون له و يتوددون إليه فلا تغبطه ما دمت لا تدري هل اللّه راض عنه أو لا، فما يدريك لعل في باطنه - لا سمح اللّه - ما يوجب غضب الباري عزّ و جلّ عليه، و حينئذ لا ينفعه رضا الناس، حتى و لو كان رضى الناس حقيقيا.

«و لا تغبطن مخلوقا بطاعة الناس له فإن طاعة الناس له و اتباعهم إياه على غير الحق هلاك له و لمن اتبعه».

أرجو العلي القدير و أسأله بحرمة المعصومين عليهم السّلام أن لا يجعلنا من التابعين و لا من المتبوعين على غير الحق.

و حتى لو لم يكن لهذه الرواية سند أصلا، فإن مما لا شك فيه أنّها تتضمن حكما متعالية تنير لنا الطريق و تهدينا سبل الرشاد، إذن لا بدّ لنا من التمسك بما في هذه الرواية من تعاليم و نصائح إسلامية(2).

ص: 259


1- انظر بحار الانوار: 23/75 ح 98.
2- من كلمة ألقاها في: 9 ربيع الثاني 1416 ه - مشهد المقدسة.
هذه الدنيا زائلة

هذه الحياة الدنيا - طالت أو قصرت - فهي إلى زوال، و ما هي إلاّ ساعة كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «الدنيا ساعة فاجعلوها طاعة»(1).

غير أنّ الإنسان لا يدرك هذه الحقيقة و هو في سن الشباب، و لكن حينما يتقدم به العمر و يفهم الحياة يدرك أنها ساعة واحدة لا أكثر. و هذا ما يوجب استغلال هذه الفرصة بأقصى ما يمكن؛ لأن حقيقة الذات الإنسانية هي الباقية بعد هذه النشأة و هي التي تعيش الحياة الحقيقية إِنَّ اَلدّٰارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوٰانُ (2)، و هي التي يمكنها لقاء اللّه، و نيل تلك الحقيقة التي عيّنها لها اللّه تعالى، لكي لا تنحرف و لا يعتورها النقصان و الخلل، و لا تقع في العذاب. و هذا الخيار بأيديكم. و لا بدّ أن تنصبّ جهودكم طوال أعماركم في هذا الإتجاه، و كل ما سوى هذا خطأ و إنحراف.

كل من يجعل الدنيا و لذاتها و شؤونها اليومية أكبر همّه فهو مخطئ، و لا بدّ أن يأتي اليوم الذي يعي فيه خطأه و لكن بعد ما يكون الوقت قد فات و لا يمكن عندها فعل شيء. و لكن إذا أردتم السير على هذا الطريق فعليكم السير فيه باندفاع و إخلاص و شوق، و عليكم باستثمار فترة شبابكم من أجل التقرّب إلى اللّه(3).

ص: 260


1- بحار الأنوار: 164/74 ح 2.
2- سورة العنكبوت: 64.
3- من كلمة ألقاها في: 4 رجب 1418 ه ق/حسينية الإمام الخميني (قده) - طهران.
علاقة الدين بالدنيا

إن المحور الأساسي في مذهب إمامنا العظيم، يكمن في علاقة الدين بالدنيا، و هو ما يعبّر عنه أيضا بالدين و السياسة، و الدين و الحياة.

لقد إتّخذ الإمام الخميني الراحل قدس سره رأي الإسلام منطلقا له في بيان علاقة الدين بالدنيا.

يرى الإسلام أنّ الدنيا قنطرة الإنسان لبلوغ الكمال، و أنّها مزرعة الآخرة.

و من هذه الزاوية و هذه الرؤية تكون الدنيا عبارة عن الإنسان و العالم.

و أنّ حياة الإنسانية و جهودها و علمها و حقوقها و واجباتها و تكاليفها و مواطنها السياسية، و أنّ اقتصاد المجتمعات و المشاهد التربوية، و مشاهد العدالة، تشكل بأجمعها ميادين الحياة.

و عليه تكون الدنيا المضمار الأساسي للتكليف و المسؤولية و الرسالة الدينية.

لقد جاء الدين كي ينظّم الجهود الإنسانية و يعمل على هدايتها في هذه الرقعة الواسعة و المساحة المتنوّعة.

و على هذا التفسير لا يمكن الفصل بين الدين و الدنيا، فالدين لا يمكنه العثور على غير الدنيا كمضمار لأداء رسالته.

كما أنّ الدنيا بمعزل عن الهندسة الدينية و برنامجها، حياة خالية من الروح و الحقيقة و المحبّة.

إنّ الدنيا و الوسط الإنساني لو افرغ من الدين فإنّه سيتحوّل إلى غابة و ما يسود الغابة من القوانين و النظم.

إنّ من حق الإنسان في هذا الميدان العظيم أن يستشعر الأمن و الطمأنينة و يمضي

ص: 261

قدما نحو التكامل المعنوي و السمو الروحي، و لا ينبغي في ميدان الحياة أن تجعل القدرة المادية مقياسا للحق.

و لا يمكن لغير الدين حمل أعباء الحاكمية الصحيحة في هذا المضمار(1).

الفصل بين الدين و الدنيا

إن الفصل بين الدين و الدنيا يعني تفريغ الحياة و السياسة و الاقتصاد من المعنوية و العدالة و تسديد ضربة قاضية لهما.

إنّ الدنيا بما تعنيه من إعداد فرص الحياة للإنسان، و النعم المنتشرة في بقاع العالم و ما تحتويه من الجمال و الحلاوة و المصائب و المرارة، وسيلة للنمو الإنساني و تكامله.

و إنّ الدين ينظر إلى هذه الأمور بوصفها وسائل تمكّن الإنسان من مواصلة طريقه نحو التعالي و التكامل و تفجّر الطاقات الّتي أودعها اللّه في وجوده.

إنّ الدنيا التي تحمل هذا المعنى لا يمكن انفكاكها عن الدين، و إنّ السياسة و الاقتصاد و الدولة و الحقوق و الأخلاق و العلاقات الفردية و الاجتماعية الّتي تنطوي على هذا المفهوم لا يمكن فصلها عن الدين.

و من هنا كان الدين و الدنيا في منطق إمامنا العظيم مترابطين و ممتزجين مع بعضهما ارتباطا و امتزاجا وثيقا لا يمكن معه الفصل بينهما(2).

ص: 262


1- من كلمة ألقاها في: 1384/3/14 ه ش. - الموافق 26 /ربيع الثاني/ 1426 ه - الموافق 2005/6/4 م. - طهران.
2- من كلمة ألقاها في: 1384/3/14 ه ش. - الموافق 26 /ربيع الثاني/ 1426 ه - الموافق 2005/6/4 م. - طهران.
الدنيا مزرعة الآخرة

يقول أمير المؤمنين عليه السّلام في إحدى خطبه في نهج البلاغة: «ألا و إن اليوم المضمار و غدا السباق»(1)، فهذه الدنيا دار الاستعداد، فاعملوا على إعداد أنفسكم و أنتم في ميدان الاستعداد و في هذا المعسكر الكبير للوفود من أجل لقاء اللّه يوم القيامة، و أعدوا أنفسكم لمواجهة الحساب الإلهي و المساءلة الإلهية، فاليوم يوم الاستعداد و يوم بناء النفس، و غدا - يوم القيامة - يوم السباق و المنافسة نحو مصير نقرره لنا و نحسم أمره هنا بأنفسنا، «و السبقة الجنة و الغاية النار» فما يعطى للفائزين يوم القيامة هي الجنة، و ما يعطى للخاسرين يوم القيامة هي جهنم و النيران. «أ فلا تائب من خطيئته قبل منيته» فهو عليه السّلام يدعو الناس لإصلاح ما قد بدر عنهم من خطأ و ليبحثوا عن طريق الهداية و ليسلكوا طريق الصلاح و السداد «أ لا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه».

إن ميدان حياتنا هو ميدان الاستزادة، ميدان كسبنا و تحصيلنا، ميدان نشاطنا العلمي و السياسي، و إنّ دارنا و كافة مرافق حياتنا هي ميدان عملنا في سبيل اللّه، ميدان الجد و الاجتهاد لغد(2).

إنّ الإسلام يرى أنّ الدنيا جزء من الآخرة، فحياتكم و تجارتكم و تحصيلكم للعلم و عملكم الإداري و السياسي هي حياة دنيوية لكنها جزء من الآخرة.

فإن تؤدوها بنيّة صالحة فهي حسنة توصلكم الى القرب الإلهي و الى المقامات

ص: 263


1- بحار الأنوار: 43/88.
2- من كلمة ألقاها في: 11 ذي القعدة 1423 ه - طهران.

المعنوية في الآخرة، إن تؤدوها - لا سمح اللّه - بنية سيئة، بنيّة العجب و التكبّر فنتيجتها السقوط في المهالك و الدرك الأسفل، إذ لا انفصام بين الدنيا و الآخرة.

لكن السيئ أن يسعى الإنسان للحياة المادية في هذه النشأة بنيّة سيّئة، و هذه هي الدنيا المذمومة، لكن لا فصل بين هذه النشأة و تلك، بل هذه الدنيا مزرعة الآخرة.

فما معنى المزرعة؟ و هل يمكن قطف الثمار من غير المزرعة؟ إذا في هذه دلالة على نهاية الوحدة بين الدنيا و الآخرة، فبالرغم من اهتمام الإسلام بالامور الدنيوية؛ إلاّ أنّ الإسلام في الوقت نفسه دين المعنويات، في الإسلام يجب أن تتجه القلوب نحو اللّه، يجب أن تكون النيّات خالصة للّه، فهذه من خصائص الإسلام و من وسائل نشر الإسلام.

إنّ ما نشعر به اليوم في الدنيا من نقص - نعتقد أنه من ناحية المعلومات - هو نقص في المعنويات، و الفراغ المعنوي الذي يعيشه العالم الغربي خصوصا -

لقد غرقوا في الماديات و الشهوات و ابتعدوا عن المعنويات، و من خاصية الشهوة أنها شهوة فقط في البداية لكنها جهنم عند الاستمرار عليها، فلا يمكن مشاهدة أحد يعيش في الشهوات و في نفس الوقت يلتذّ و يتمتع بحياته، هذا هو الجحيم الذي يعيشه المتنعمون في العالم الغربي اليوم، و أما غيرهم فيعيش الفقر و البؤس، و الجميع يعيش في الفساد.

طبعا هناك أفراد مستثنون، إنني أقصد الطبقات، و في كل طبقة أفراد مستثنون و جيدّون(1).

و من وصايا الإمام موسى الكاظم عليه السّلام لهشام: «يا هشام، إنّ جميع ما طلعت عليه الشمس في مشارق الأرض و مغاربها بحرها و برّها و سهلها و جبلها عند وليّ من أولياء اللّه و أهل المعرفة بحق اللّه، كفيء الظلال.

ص: 264


1- من كلمة ألقاها في: 27 رجب 1414 ه

ثم قال: أ و لا حرّ يدع (هذه) اللماظة لأهلها - يعني الدنيا -، فليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنّة فلا تبيعوها بغيرها، فإنّه من رضي من اللّه بالدنيا فقد رضي بالخسيس»(1).

كلّ ما على الأرض في مشارقها و مغاربها و بحرها و برّها و سهلها و جبلها و العالم كله على عظمته لا تعدل عند من يعرف اللّه حق المعرفة و يكون من أهل ولاية اللّه إلاّ كفيء الظلال.

و الفيء حاله الزوال و لا أصالة له.

و الإنسان أحيانا يلتجىء إلى الفيء فرارا من حرارة الشمس، و لكنه لا يقوم بإعداد برنامج طويل الأمد له على أساس هذا الفيء، و إنّما ينظر إليه على أساس أنه أمر سريع الزوال، و أما بناء الحياة فيكون على أساس الرضا الإلهي و في طريق اللّه الذي شأنه أنه لا يزال و لا يزول.

ثمّ يتابع بقوله: أ لا يوجد إنسان حرّ فيترك هذه الدنيا الموصوفة باللماظة!؟ و اللماظة هي استرجاع ما بقي في الفم من الطعام أمام الشخص الذي يرغبه(2).

ص: 265


1- تحف العقول، صفحة: 391، و نهج البلاغة: 105/4 ح 456.
2- كلمات مضيئة: 31.
عدم اقتصار الرؤية على الحياة الدّنيا

من خصائص المجتمع الجاهلي أنّه كان يرى أنّ الحياة تقتصر على الدّنيا، فإن استطاع الحصول على شيء في الحياة الدّنيا - أي في المأكل و المشرب و ما يرتبط بشخص الإنسان - اعتبر ذلك إنتصارا، و إن نوى السعي لعمل لا تظهر ثمرته في هذه الدّنيا، اعتبر نفسه مغبونا و خاسرا و متضرّرا. فلا أثر للعمل الخالص لله و للروح و ليوم الجزاء.

أمّا الإسلام فقد جعل إحدى الخصائص هي عدم اقتصار هدف و حياة الإنسان بهذه الحياة الدّنيا.

و اليوم فإن الجمهوريّة الإسلاميّة ترفع راية الإسلام، أي راية هذه القيم الكامنة في بعثة النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله. ليس الإسلام المظهري فحسب، بل يجب الترويج للتوحيد بمعناه الحقيقي، و التسليم لله، و نشر العدالة في المجتمع و بناء نظام أخلاقي للمجتمع يعتمد على الإنسانيّة و العاطفة و الفضائل، و عدم التسليم و العبوديّة لغير اللّه، و عدم التبعية و الانهزام خصوصا أمام أعدى أعداء الإنسان أي «نفسك الّتي بين جنبيك»، و الدعوة لمقارعة الأصنام و منها أقوى و أعتى الأصنام أي صنم النفس.

و ليس المقصود أن يتبدّل النّاس فجأة إلى ملائكة، بل أن يتبدّلوا فجأة إلى اناس يجهدون و يجاهدون في هذا الطريق، و نفس هذه المجاهدة هي التقوى، فأي إنسان و أيّ مجتمع يجهد في هذا الطريق فهو إنسان و مجتمع متّق، و هذا بعد للقضيّة.

و المجتمع الجاهلي هو المجتمع الّذي لا يملك هذه الخصائص.

ما ذا يجب فعله مع هذا المجتمع الجاهلي؟ إنّ من الخطأ التصوّر بأن يكون تعاملنا مع المجتمع الجاهلي تعامل عداء و خصومة، كلاّ، بل يجب أن يكون مبنيّا على

ص: 266

التراحم، و يجب عرض هذه القيم على هذا العالم المحتاج إلى قيمنا الإسلاميّة، و هذه هي الخطوة الاولى.

ثمّ إن كنّا نمتلك هذه القيم، ننقلها إليهم، فعداوة و خصومة الإسلام هي للّذين يعارضون هذا التبادل و هذا الانتقال و هذا التبديل و التحوّل إلى النظام الإسلامي، و موقف الإسلام من هؤلاء هو موقف معارضة، لكن العالم اليوم بحاجة إلى الرسالة الإسلامية.

إنّ رسالة البعثة رسالة بنّاءة، هي درس و ليست اتفاقية إجتماعية، بل هي تحرّك، فيجب على العلماء و المثقفين أن يتحلّوا و يتسابقوا للسير على هذا المنهج أكثر من غيرهم، و إن كان الجميع مسؤولين، لكن امتيازنا هو أنّنا مسؤولون عن جمع كثير من الناس، و هذا حمل ثقيل.

و لا يكفي إن كان المجتمع بالأمس مجتمعا طاغوتيا و اليوم نبني على أنّه مجتمع إسلامي، بل يجب السعي للوصول إلى المجتمع الإسلامي كما كان يفعل إمامنا العظيم (ره) الّذي كان مولعا بالإسلام، و عاش الإسلام بكل وجوده و نهل من معين القرآن و عمل بما أملى عليه القرآن و المعارف القرآنيّة، و كانت ثمرته هذا الجمع الهائل من الشباب المؤمن من المتقين و المجاهدين في سبيل اللّه رجالا و نساءا. و بحمد اللّه فهم ليسوا قلّة في مجتمعنا، بل هم أكثر من أيّ مكان آخر، و علينا الاستمرار على هذا الخط بنفس تلك القوّة و العزم(1).

ص: 267


1- من كلمة ألقاها في 27 رجب 1415 ه
الحذر من الدنيا

من وصايا الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، إنّ لقمان قال لابنه: تواضع للحق تكن أعقل الناس.

يا بنيّ، إنّ الدنيا بحر عميق قد غرق فيه عالم كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى اللّه و حشوها الإيمان و شراعها التوكّل و قيّمها العقل و دليلها العلم و سكّانها الصبر»(1).

يقول لقمان الحكيم في مقام وعظه و نصيحته لابنه:

إنّ أعقل الناس من يتواضع أمام الحقّ و يقبله و لا يواجهه بالعناد و الطغيان.

و يتابع بقوله: يا بنيّ إنّ الدنيا بحر عميق بعيد الغور قد غرق فيه خلق كثير فهلكوا و خسروا، و كلّ من يريد العبور بسلام و أمان من هذا البحر المهلك فعليه أن يركب سفينة التقوى.

و هذه السفينة حمولتها و بضاعتها الإيمان و شراعها التوكّل و الإعتماد على اللّه تعالى، و ربّان السفينة هو العقل و الفكر، و دليلها و مرشدها هو العلم و المعرفة، و مرساتها الصبر و الإستقامة.(2)

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «الدينار و الدرهم أهلكا من كان قبلكم و هما مهلكاكم»(3).

يبيّن الرّسول الأكرم صلّى اللّه عليه و آله أمرا مهما حول الدنيا و هو:

إنّ الدّينار و الدّرهم (أي المال و الثّروة) قد أهلكا من كان قبلكم من البشر و الأمم،

ص: 268


1- تحف العقول، صفحة: 386.
2- كلمات مضيئة: 30.
3- الخصال/باب الاثنين/ح 37.

أي أنّهما سلبا منهم العزّة و السّلطة و بدّلا نصرهم الى هزيمة.

و هذان الأمران - أي المال و الثّروة - سوف يؤديان بكم أيها المسلمون الى الهلاك أيضا.

و ليس المقصود هنا أنّ المال و الثّروة بنفسيهما يهلكان المجتمع و الأمة، بل المراد أن حبّ الثّروة و المال و تقديمهما على الأهداف الكبيرة، يوجبان إنحراف النّاس عن جادّة الحق و الصّراط المستقيم، فإذا انحرف النّاس انحرف المجتمع و الأمة أيضا.

و يجب أن نعلم أنّ كلّ شخص يكون له تأثير و نفوذ في المجتمع و الأمة أكثر من غيره - من قبيل مسؤولي الدولة أو الشّخص البارز في المجتمع - إذا كان محبا للثّروة و المال كان تأثير ذلك على المجتمع أكثر من غيره، لأنّ هذا الشّخص يعتبر مثلا يقتدي به النّاس، و هم يتّخذونه أنموذجا يحتذى به، و حينئذ سوف تنمو هذه الخصلة فيهم.

مضافا الى أنه حينما يقع في الفساد من أجل حبّه للمال سوف يكون تأثيره أكثر على المجتمع.

و في عصرنا الحالي كذلك فإنّ ما يوجب تزلزل بعض الاشخاص المتديّنين الصّالحين هو المال، فإنّ حلاوة المال سبب لإنحراف الإنسان و مخالفته للشرع و القانون، و تدريجيا يعتاد على هذا الأمر، و تتلوّث يداه بالتّعدي و التّجاوز على الأموال العامة.(1)

مثل الدنيا

من وصايا الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، إنّ مثل الدنيا مثل الحيّة مسّها ليّن و في جوفها السمّ القاتل، يحذرها الرجال ذووا العقول و يهوي إليها الصبيان

ص: 269


1- كلمات مضيئة: 30-31.

بأيديهم»(1).

إنّ مثل المظاهر الدنيوية كالثروة و المنصب التي يحصل عليها الإنسان بالطرق المحرّمة شرعا من أجل إرضاء غريزة الشعور و الإحساس بحسّ التسلط و القدرة، مثل الحيّة الناعمة الملمس و الجميلة المظهر الخارجي الذي يخدع الناظر إليه الذي لا يشعر بالخطر منها فينجذب نحوها، فإذا السمّ القاتل المهلك الموجود في باطنها ينتظره ليقتله و يرديه.

و أما الإنسان العاقل العالم فإنّه لا ينخدع بمظاهر الدنيا و زخارفها كما لا ينخدع بلين ملمس الحية و جمال نقش جلدها، و لذلك فهو يتجنّبها و يبتعد عنها.

نعم إذا كان الحصول على مظاهر الدنيا إحساسا منه بالمسؤولية الشرعية و كان بالطرق المحلّلة شرعا فلهذا الأمر بحث آخر(2).

و من وصايا الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، مثل الدنيا مثل ماء البحر، كلّما شرب منه العطشان ازداد عطشا حتى يقتله»(3).

الإنسان بشكل طبيعي و غريزي يميل نحو المظاهر الدنيوية الخادعة و لذّاتها من قبيل الثروة و المقام... و لذلك ورد التحذير عن ذلك في الروايات الدينية بألسنة و خطابات مختلفة.

و في هذه الرواية جاء تشبيه الدنيا بالماء المالح حيث إنّ العطشان كلّما شرب منه ليس فقط لا يرتوي بل يزداد عطشا إلى أن يتلف و يموت.

إنّ الإهتمام بالشهوات الدنيوية و مظاهرها يجعل الإنسان أحرص و أشوق للإكثار منها إلى أن ينتهي به الأمر بسبب الإسراف فيها إلى الهلاك (لأنّ أغناهم فيها أحوجهم

ص: 270


1- تحف العقول، صفحة: 396.
2- كلمات مضيئة: 32.
3- تحف العقول، صفحة: 396.

إليها).

و لذلك فإنّ أكبر رأس مال للإنسان هو القناعة الموجبة للعزّة و غنى النفس. بينما الإنسان الذي يزداد تعلّقه و طلبه بالأمور الدنيوية يكون خاسرا.

على أنّ الأمور الدنيوية المذمومة هي التي يسعى الإنسان من خلالها لأجل اللّذة الشخصية فقط. و أما إذا كان الهدف من الإستفادة من المواهب الطبيعية خدمة الناس و القيام بالتكليف و الوظائف الملقاة على عاتقه فهذا ليس من الدنيا المذمومة(1).

و من مواعظ النّبي صلّى اللّه عليه و آله: «الدنيا دول، فما كان لك أتاك على ضعفك، و ما كان منها عليك لم تدفعه بقوتك، و من انقطع رجاؤه مما فات استراح بدنه، و من رضي بما قسمه اللّه قرّت عينه»(2).

الدول جمع دولة، و المراد منها الشيء الذي ينتقل من يد إلى يد أخرى (أي التداول).

إنّ طبيعة المظاهر الدنيوية كونها في حال التغيّر و التحوّل دائما.

و لا يتوهم أحد أن ما بيده من مال و جاه و إمكانات و قدرات و صحة و عافية سوف تبقى إلى نهاية عمره، فإنها ليست كذلك إذ ما أكثر الأشياء التي تؤخذ منّا و تزول عنّا.

و المراد من الدنيا التي من قطع رجاءه منها استراح بدنه و نفسه هي الدنيا المذمومة. و هي ما يطلبه الإنسان من أجل نفسه و هواه، لا ما يطلبه من معالي الأمور و الخيرات الأخروية، و لا ما يطلبه من الأمور لأجل قيامه بتكليفه و وظيفته و لا ما يطلبه لأجل إعمار و بناء العالم فإن هذه كلها ليست مقصودة من الدنيا(3).

ص: 271


1- كلمات مضيئة: 32.
2- تحف العقول: صفحة: 40.
3- كلمات مضيئة: 39.
الدنيا و الآخرة متضادتان

من وصايا الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، من أحبّ الدنيا ذهب خوف الآخرة من قلبه، و ما أوتي عبد علما فازداد للدنيا حبّا إلاّ ازداد من اللّه بعدا و ازداد اللّه عليه غضبا»(1).

إذا دخل حبّ الدنيا إلى قلب الإنسان و استقرّ فيه و تجذّر شيئا فشيئا سوف يزول منه خوف الآخرة و يذهب من قلبه بالتدريج.

و كلّما أوتي العبد علما - سواء كان علما من العلوم الدنيوية أم كان من العلوم الدينية - فازداد معه حبه للدنيا أكثر كان هذا العلم موجبا لبعده عن اللّه تعالى أكثر.

و إحدى أكبر و أعظم رسالات الأنبياء للناس هي إحياء خوف الآخرة في قلوبهم لأنّ الخوف من العذاب الإلهي يضمن استقامة الإنسان على الصراط القويم. لأنه يدرك أنّ حركته هذه لها تأثير في مصيره و نهايته قطعا، و لذلك يراقبها و يعتني بها(2).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الدنيا سجن المؤمن، و القبر حصنه، و الجنة مأواه.

و الدنيا جنة الكافر، و القبر سجنه، و النار مأواه».(3)

أما كون الدنيا سجن المؤمن فلأن المؤمن الذي هو من أهل المعرفة يشتاق للعمل و السير و السلوك نحو العوالم المعنوية و الروحانية، و لكن ارتباطه بالدنيا و مشاكلها و بالدرجة الأولى ارتباطه بجسده الذي من عالم المادة يمنعه من السير نحو الملأ

ص: 272


1- تحف العقول، صفحة: 399.
2- كلمات مضيئة: 33.
3- الخصال/باب الثلاثة/ح 74.

الأعلى، فلذلك يكون أسيرا له و مسجونا فيه.

أما كون القبر حصنا و قلعة و ملجأ له فلأن القبر يريحه من المشكلات و المصائب التي كانت تعترضه في الدنيا سواء المشكلات النفسية التي منشأوها الرغبات و الميول الشهوانية أم غيرها.

أما كون الجنة مأواه و منزله فلأنها هي المأوى النهائي للمؤمن.

أما الكافر فإن الدنيا جنته.

فالكافر سواء كان متنعما في الدنيا أم لا فإن الدنيا بالقياس الى ما سوف يلاقيه و يواجهه في الآخرة من المشقات و العذاب الذي ينتظره أهون عليه و أسهل كثيرا و لذلك فهي جنة بالنسبة للصعوبات و عذاب الآخرة.

و أما كون القبر سجنا للكافر فلأنه يسأل و يحاسب في القبر و يتعرض للصعوبات و المشقات الكبيرة فيه.

و أما النار فهي مأواه لأنها هي المصير الذي سينتهي إليه في الآخرة.(1)

ص: 273


1- كلمات مضيئة: 38.
التوازن بين الدنيا و الآخرة

من مواعظ الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام: «اجعلو لأنفسكم حظّا من الدنيا بإعطائها ما تشتهي من الحلال، و ما لا يثلم المروّة، و ما لا سرف فيه، و استعينوا بذلك على أمور الدين فإنه روي «ليس منّا من ترك دنياه لدينه أو ترك دينه لدنياه»(1).

يوجّه الإمام عليه السّلام خطابه للذين حرّروا أنفسهم من اللذّات الدنيوية في سبيل الوصول لساحة القرب الإلهي و عبادة اللّه تعالى. فيقول لهم:

عليكم بالإستفادة من اللذّات الدنيوية أيضا و لكن بالشروط التالية:

1 - أن تكون من الحلال.

2 - أن لا تصل إلى حدّ الإسراف و التبذير.

3 - أن لا تخدش المروءة و الفتوّة في الإنسان بمعنى أن لا تكون من طريق الإذلال و الضغط بقوّة على الآخرين.

إذن فإعطاء شهوات النفس حقّها من طريق الحلال و من دون إسراف مع مراعة المروّة مقدمة لتقدم و نمو أموركم الدينية.

و على كل حال فمنطق الإسلام هو أن لا تترك الدين لأجل الدنيا و لا تترك الدنيا لأجل الدين.

لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «ليس منّا من ترك دنياه لدينه أو ترك دينه لدنياه».(2)

و من مواعظ الإمام أبي الحسن الثالث (الهادي) عليه السّلام: «إنّ اللّه جعل الدنيا دار بلوى

ص: 274


1- تحف العقول، صفحة: 410.
2- كلمات مضيئة: 33.

و الآخرة دار عقبى، و جعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سببا و ثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضا»(1).

الدنيا دار امتحان و اختبار، و كل إنسان تعرض عليه في حياته حوادث صعبة و مرّة، و نتيجة هذا الإمتحان و الإختبار هي ظهور و بروز ذات الإنسان و خصوصياته الروحية و الأخلاقية، مضافا إلى تقوية و تقدّم و سمو روحيّته.

إنّ أعمال و تصرّفات كل شخص، في هذه الدنيا تعطي شخصية و هوية الإنسان شكلا ما في عالم الآخرة. نظير الجنين و هو في مراحل نموّه و رشده في رحم أمّه، فإنّ الطعام و أعمال و تصرّفات الأم بل حتى أفكارها يعطي لشخصيته و ماهيّته شكلا ما.

و لذلك يقول الإمام علي عليه السّلام: إنّ اللّه تعالى جعل الآخرة دار عقبى للحياة الدنيا، و المراد من العقبى ما يكون تابعا كالذنب بالنسبة للحيوان.

نسأل اللّه تعالى أن يعطينا الثواب و الأجر في الآخرة على ما نواجهه من صعوبات هذه الدنيا و مشكلاتها.(2)

و من خصائص الإسلام أنه معنوي و إلهي، أي أنه خلافا لما ينسب الى المسيحية من غلبة الجانب المعنوي على الجانب الدنيوي، لكن الإسلام ليس كذلك. إنّ الإسلام يرى أنّ الدنيا جزء من الآخرة، فحياتكم و تجارتكم و تحصيلكم للعلم و عملكم الإداري و السياسي هي حياة دنيوية لكنها جزء من الآخرة.

فإن تؤدوها بنيّة صالحة فهي حسنة توصلكم الى القرب الإلهي و الى المقامات المعنوية في الآخرة، أو تؤدونها - لا سمح اللّه - بنية سيئة، بنيّة العجب و التكبّر فنتيجتها السقوط في المهالك و الدرك الأسفل، إذ لا انفصام بين الدنيا و الآخرة.

لكن السيئ أن يسعى الإنسان للحياة المادية في هذه النشأة بنيّة سيّئة، و هذه هي الدنيا

ص: 275


1- تحف العقول، صفحة: 483.
2- كلمات مضيئة: 34.

المذمومة، لكن لا فصل بين هذه النشأة و تلك، بل هذه الدنيا مزرعة الآخرة كما تقدم.

في الإسلام يجب أن تتجه القلوب نحو اللّه، يجب أن تكون النيّات خالصة للّه، فهذه من خصائص الإسلام و من وسائل نشر الإسلام(1).

ص: 276


1- من كلمة ألقاها في: 27 رجب 1414 ه
فرص الدنيا

و من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: ليس من أحد - و إن ساعدته الأمور - بمستخلص غضارة عيش إلاّ من خلال مكروه. و من انتظر بمعاجلة الفرصة مؤاجلة الإستقصاء سلبته الأيّام فرصته، لأن من شأن الأيّام السلب، و سبيل الزمن الفوت»(1).

الحياة الخالية من المشاكل و المتاعب لا تتهيّأ لأحد أبدا في هذه الدنيا.

قد يتوهّم الإنسان حينما ينظر إلى بعض الأشخاص من بعد أنهم يعيشون في رفاه تام و كامل، و لكنه حينما يقترب من حياتهم و ينظر إليهم يجد أنّ لديهم من المرارات و القلق و الإضطراب الشيء الكثير.

و من هنا فالإمام الصادق عليه السّلام يقول:

إنّ الإنسان الذي يعيش حياة هنيئة سعيدة لا يمكن أن يحصل له ذلك إلاّ بعد أن يعبر من خلال المكاره.

و كل إنسان تهيّأت له الفرصة فلم يغتنمها و أجّل أمره و أمل بانتظار حلول الفرص الأكثر فهذا لن يوفّق للإتيان و القيام بتلك الأعمال، لأن الزمن سريع الذهاب و من طبيعته سلب تلك التوفيقات(2).

ص: 277


1- تحف العقول، صفحة: 381.
2- كلمات مضيئة: 37-38.
أثر حب الدنيا

من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من تعلّق قلبه بحبّ الدنيا تعلّق من ضررها بثلاث خصال: همّ لا يفنى، و أمل لا يدرك، و رجاء لا ينال»(1).

الدنيا المذمومة بنظر الإسلام هي أن يتعلق قلب الإنسان بتحصيل و طلب الزخارف الدنيوية و أن يتوجه نحو جمع المال و كنزه، و أن يكون تمام همّه و غمّه و هدفه من الحياة هو الدنيا، و إلاّ فإنّ عمارة الأرض و إحياءها و بناءها و استخراج المعادن و صرفها في سبيل العيش الرغيد لعباد اللّه و إنقاذ الناس من الفقر و الإستفادة الصحيحة من المال و الثروة ليست فقط غير مذمومة بنظر الإسلام بل هي ممّا اهتمّ الشارع المقدس به.

و عليه فالإنسان الذي يعشق الدنيا و يتعلق همّه بها لن ينجو من ضرر ثلاث خصال:

1 - الهمّ و تشويش الذهن الذي لن يزول عنه أبدا، لأنّ كل شيء يحصل عليه لا يقنع به بل يفكر و يسعى لطلب الحصول على الأزيد منه.

2 - الأمل الذي لن يصل إليه أبدا.

3 - الرجاء الذي لن يحصل عليه.

و أمّا الطريق للخلاص و النجاة من هذه المشاكل و المتاعب فهو أن يجنّب الإنسان نفسه عن ساحة المنافسة و التسابق في حبّ الدنيا هذه، و يبتعد عنها.

فنسأل اللّه تعالى أن يوفّقنا جميعا للمسابقة في طريق المغفرة و الخير كما قال اللّه

ص: 278


1- تحف العقول، صفحة: 367.

تعالى: سٰابِقُوا إِلىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ (1)، فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْرٰاتِ (2).

لأنّ هذا الطريق هو طريق الراحة و الطمأنينة و سكينة القلوب(3).

ص: 279


1- سورة الحديد: 21.
2- سورة البقرة: 148.
3- كلمات مضيئة: 40.
علاج حب الدنيا

من مواعظ النّبي صلّى اللّه عليه و آله: «ما لي أرى حبّ الدنيا قد غلب على كثير من الناس حتى كأنّ الموت في هذه الدنيا على غيرهم كتب، و كأنّ الحق في هذه الدنيا على غيرهم وجب، و حتى كأنّ ما يسمعون من خبر الأموات قبلهم عندهم كسبيل قوم سفر عمّا قليل إليهم راجعون»(1)

إنّ علاج حبّ الدنيا هو ذكر الموت أي أن يعتقد الإنسان أنّه سيموت.

ففي كلّ لحظة يجب أن ينتظر الموت لأن المعيار و الملاك للموت و عدمه ليس الشيخوخة و الشباب و لا المرض و السلامة.

و لحظة الموت حالة عجيبة، و قد أحسست بهذه الحالة في سنة 1360 ه ش، على أثر الإنفجار الذي وضع لي حيث وقعت على الأرض و أغمي عليّ للحظات أحسست فيها كأنّي معلّق بين السّماء و الأرض، و لقد رأيت الموت معاينة و فجأة تراءى إليّ كل الماضي، و يشعر الإنسان حينئذ بأنّه غير قادر على شيء و يده مغلولة.

و في مثل هذه الحالة يجب على الإنسان حينما ينظر إلى ماضيه أن يشعر بالرضا عن ذلك الماضي، و مع ذلك يجب أن يرجو و يأمل بالمغفرة الإلهية، و لكن لا يكون مغرورا بذلك(2).

ص: 280


1- تحف العقول، صفحة: 29.
2- كلمات مضيئة: 39.

الآخرة/يوم القيامة

معنى الحياة الآخرة

من النقاط الأصلية و الأساسية في الرؤية الإسلامية هي مسألة استمرار الحياة و ديمومتها بعد الموت؛ أي إن الحياة لا تنتهي بالموت.

و هذا المعنى يعتبر من الاصول الفكرية في الإسلام - بل و في كافة الأديان الإلهية - و له تأثير كبير.

فإن كافة هذه الاصول الفكرية ذات أثر في تنظيم العلاقات الإجتماعية و ترسيخ قواعد الحكومة الإسلامية و في إدارة المجتمع و الحياة و العالم.

إننا سوف ندخل مرحلة جديدة بعد الموت لا أن الإنسان يفنى و يتعرض للإبادة التامة، ثم ينتقل من هذه المرحلة إلى مرحلة أخرى، حيث تقوم القيامة و يأتي يوم الدين و الحساب و ما إلى ذلك من مشاهد البعث و النشور(1).

ص: 281


1- من كلمة ألقاها في: 5 رمضان 1421 ه - طهران.
الخوف من يوم القيامة

علينا أن لا نغفل عن يوم القيامة، فإنه يوم عظيم يتعين علينا أن نخافه و نخشاه، حيث قال تعالى عنه: يَسْتَعْجِلُ بِهَا اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِهٰا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهٰا وَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا اَلْحَقُّ (1) فقد كان مشركو قريش يقولون للرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: أين هي القيامة التي تخوّفنا منها؟! في حين أنّ الذين يؤمنون بها مشفقون منها، و هذه هي الحقيقة.

فلا بد من الوجل من ذلك اليوم و جعله نصب أعيننا، لأن يوم القيامة هو اليوم الذي نعرض فيه على اللّه تعالى: وَ عُرِضُوا عَلىٰ رَبِّكَ صَفًّا (2)، حيث يمثل الإنسان على حقيقته و سريرته و ملكاته النفسية الراسخة أمام اللّه تعالى؛ و إن اللّه و إن كان مطلعا على سريرتنا في هذه الدنيا، إلاّ أنّ القيامة موضع انعدام جميع الحجب كي نطلع نحن على حقيقتنا و نقوم بإدانة أنفسنا بأنفسنا، حيث لا مجال لاختلاق المعاذير و الأكاذيب، حيث يغدو اللسان المهذار و اللبق في هذه الحياة أبكم أخرس يوم القيامة: هٰذٰا يَوْمُ لاٰ يَنْطِقُونَ وَ لاٰ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (3).

و عندها يأتي دور الباطن و الملكات و سائر الأعضاء و الجوارح فتأخذ بالتكلم و الإقرار بما اقترفه الإنسان و أضمره في أنواع الحقد و الحسد و سوء الظن: اَلْيَوْمَ

ص: 282


1- سورة الشورى: 18.
2- سورة الكهف: 48.
3- سورة المرسلات: 35-36.

نَخْتِمُ عَلىٰ أَفْوٰاهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنٰا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ (1) .

إنّ الآيات التي تتحدث عن يوم القيامة تحدث هزّة عنيفة في كيان الإنسان، و إني أقترح أن يقوم كل واحد منا بدراسة هذه الآيات، لأننا في أمس الحاجة إليها، فمنها ما فيه البشارة و منها ما فيه وعيد و نذير، و كلا النوعين يؤدّي مفعوله في إحداث تلك الهزة، حيث تقوم آيات البشارة بحثّ الإنسان الى السعي و الجد في العمل، و تقوم آيات الوعيد بتأثيرها في بثّ القشعريرة في النفوس و إذابة الجلود: يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ اَلْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذٰابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَ صٰاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ وَ فَصِيلَتِهِ اَلَّتِي تُؤْوِيهِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (2) و لكن هيهات أن تكون له النجاة بعد إعراضه في هذه الدنيا.

و قال تعالى: كَلاّٰ إِنَّهٰا لَظىٰ نَزّٰاعَةً لِلشَّوىٰ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلّٰى وَ جَمَعَ فَأَوْعىٰ (3).

يقول الإمام زين العابدين عليه السّلام في دعاء أبي حمزة الثمالي في التخويف من يوم القيامة: «أبكي لخروجي عن قبري عريانا ذليلا حاملا ثقلي على ظهري، أنظر مرة عن يميني، و أخرى عن شمالي، إذ الخلائق في شأن غير شأني، لكل امرء منهم يؤمئذ شأن يغنيه وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة»(4).

إنّ أصحاب الوجوه الضاحكة المستبشرة هم الذين تمكنوا من اجتياز الصراط الذي هو عبارة عن قنطرة العبودية و التقوى وَ أَنِ اُعْبُدُونِي هٰذٰا صِرٰاطٌ مُسْتَقِيمٌ (5)فإننا لو تمكنّا من اجتياز هذه القنطرة في هذه الحياة الدنيا، سيكون اجتيازنا للصراط الواقع فوق جهنم أيسر بكثير، حيث يجتازه المؤمنون بسرعة البرق إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ

ص: 283


1- سورة يس: 65.
2- سورة المعارج: 11-14.
3- سورة المعارج: 15-18.
4- بحار الأنوار: 89/95.
5- سورة يس: 61.

لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنىٰ أُولٰئِكَ عَنْهٰا مُبْعَدُونَ لاٰ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهٰا وَ هُمْ فِي مَا اِشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خٰالِدُونَ لاٰ يَحْزُنُهُمُ اَلْفَزَعُ اَلْأَكْبَرُ (1) .

إنّ هذا الصراط لشديد الحساسية بالنسبة لي و لكم، لكوننا مسؤولين، و لأننا نختلف عن عامة الناس، فإننا لو أخطأنا أو انحرفنا لم يقتصر الضرر في ذلك علينا، و إنما يعمّ البلاد بأسرها، و إننا لو اتبعنا الهوى في اتخاذ القرارات و اتخذنا سبيل مجاملة الأصدقاء و مداهنة الأصحاب على حساب القيم الحقيقية، سنعرض البلاد بأجمعها للخطر، و من هنا كانت مهمتنا كمسؤولين في غاية الصعوبة و الخطورة.

فعلينا أن نفكر في جهنم و اجتياز هذا الصراط الشاقّ أكثر من غيرنا، و إنّ مدة مسؤوليتنا مهما طالت لا تخرج عن كونها محدودة و لا تعدو أن تكون متاعا قليلا، و لو أنكم اتخذتم سبيل الصبر في هذه المدة و لم تتعجلوا طلب المال من غير حلّه، و لم تتعرضوا لبيت مال المسلمين و الإمكانات التي بأيديكم - و ليس هذا بالأمر الشاق - فعندها تكونون مصداقا لقوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنىٰ أُولٰئِكَ عَنْهٰا مُبْعَدُونَ (2) و قوله تعالى: هٰذٰا يَوْمُكُمُ اَلَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (3).

فعلينا أن نراقب أنفسنا و أن تخشى جهنم أكثر من غيرنا، فإن نار جهنم تهدّد الذين يتحملون مسؤولية أكبر، بشكل أكثر من تهديدها سائر الناس الذين يعيشون في دوائرهم المحدودة و الصغيرة.

الشيء الآخر الذي أودّ إضافته هنا هي مسألة الأبناء، فعليكم أن تهتموا بأهليكم، و أن تسعوا الى حفظ إيمانهم، و حذار أن تنهجوا سياسة و أسلوبا يؤدي الى زعزعة الأسس الاعتقادية لدى ذويكم، فأحيانا يعمل الإنسان على إبعاد ابنه عن الدين

ص: 284


1- سورة الأنبياء: 101-103.
2- سورة الأنبياء: 101.
3- سورة الأنبياء: 103.

و الأسس الدينية بفعل ذرب لسانه و خطل أعماله، فيجعل منه شخصا منحرفا، و لذلك فإني أخالف الشدة في توجيه الشباب، و في الوقت نفسه هناك من يعمل من خلال إهمال الولد و تركه و شأنه و فتح الباب له على مصراعيه، و غض الطرف عن أخطائه على إعداد الأرضية لفساده و انحرافه...

و لذا لا بد من اتخاذ سبيل المنطق و الأسلوب الصحيح و العطوف في التعامل مع الأبناء كما قال سبحانه و تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ نٰاراً وَقُودُهَا اَلنّٰاسُ وَ اَلْحِجٰارَةُ (1)، إذن الحفاظ على ذويكم و أهليكم من جملة وظائفكم و مسؤولياتكم.

و لقد طالما استوقفني قوله تعالى: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اِتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمٰانٍ أَلْحَقْنٰا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ مٰا أَلَتْنٰاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ (2)، و قد جاء في الحديث: عن ابن بكير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عز و جل: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اِتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمٰانٍ أَلْحَقْنٰا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ قال: فقال: قصرت الأبناء عن عمل الآباء فألحقوا الأبناء بالآباء لتقرّ بذلك أعينهم(3).

فإن تمكنت أيها المؤمن من إنشاء طفلك نشأة صالحة، فإن اللّه سبحانه سيقرّ عينك به يوم القيامة و يجبر نواقصه و يلحقه بك(4).

ص: 285


1- سورة التحريم: 6.
2- سورة الطور: 21.
3- الكافي: 249/3 ح 5.
4- من كلمة ألقاها في: 121383/8/6 /رمضان/ 1425 طهران.
الآخرة لمن لا يريد علوا

هناك ميزة أخرى يختص بها المؤمنون و هي أننا و نظرا لما نتمتع به من مسؤوليات فإننا نمتلك سعة من القدرة سواء صغرت أم كبرت فلا نسعى وراء العلو و التسلط و حب الإستعلاء على الناس، و هذا هو مضمون الآية الكريمة: تِلْكَ اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لاٰ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فَسٰاداً (1)، و هذا أمر صعب لكنه ممكن و ضروري، فحب التسلط آفة طالما هددت ذوي القدرة في العالم و أزلت الكثيرين و نحن لسنا بأقوى منهم فعلينا الحذر و التحسب لئلا ننزلق، و قد ورد عن أمير المؤمنين عليه الصلاة و السّلام قوله: «نزلت هذه الآية في أهل العدل و التواضع من الولاة و أهل القدرة من الناس»(2).

فهذه الآية بالأساس لأصحاب القدرة و الولاة و المسؤولين بدءا من كبار المسؤولين و مرورا بالدوائر الوسطى و انتهاءا بأي نقطة فيها مدى من السلطة، فآفة عملنا هي أن نستغل دائرة قدرتنا للتسلط و الغطرسة و الأطماع، و في ذلك خطر جسيم، و تقول الآية في النهاية: وَ اَلْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، و قد قال البعض إنّ هذه «العاقبة» هي الآخرة، فيما احتمل آخرون أنها تشمل الدنيا أيضا، و نحن نراها كذلك، فالعاقبة هي من نصيب المتقين، إذ أنّ العاقبة الحسنة في الدنيا و الآخرة هي من نصيب أهل التقوى و الورع.

ص: 286


1- سورة القصص: 83.
2- ميزان الحكمة: 35/1 باب صفة أهل الإخرة.
للآخرة تأثير على حياتنا

ما أفهمه إجمالا بالنسبة لعملنا - حيث ابتلينا بالمسؤولية - هو أن نجعل للآخرة تأثيرا في كافة ما نتخذه من قرارات و خطوات و نجعل لها دورا؛ فالبعض يجعل دورا لما يقوله الناس و لرقابتهم لكنه لا يرى دورا للرقابة الإلهية و ما سينطوي عليه مستقبلنا.

إننا على شفا الوجود و العدم في أيّ سنّ كنّا، و إن ازداد احتمال ذلك بالنسبة لمن هو طاعن بالسن مثلنا، لكن الشباب على هذا المنوال أيضا، فعلى الطرف الآخر من الموت ثمة محاسبة و مؤاخذة إلهية و حسابات دقيقة فعلينا الحذر، إذ أنّ الحياة و الخلود و المصير الحقيقي هناك، فلنجعل له دورا، و نحن إذ حللنا أياما معدودات علينا أن نعمر ذلك المستقر بأن نجعل للآخرة و رضا اللّه و الحساب الأخروي دورا و تأثيرا في ما ننطق به و ما نمضيه و المشورة التي نبديها و ما نتخذ من قرار، و ما نقوم به من عزل و تنصيب، و هذا مهم في اعتقادي، و إذا ما تحقق ذلك ستكون السلطة خيرا إذ أنّ البعض يتصور أنّ السلطة بذاتها شرّ، في حين أن الأمر ليس كذلك، فالسلطة و الثروة كسائر مواهب الحياة تعتبر زينة الحياة كما جاء في تعبير القرآن الكريم بقوله تعالى: زِينَةَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا (1).

فكيف يجب أن نستخدم هذه السلطة، إذا أحسنا استخدامها فهي خير، و إذا وضعناها لخدمة الناس فهي خير، و إذا ما وظّفناها لإشاعة الأخلاق و المعنويات و صلاح الناس و فلاحهم فهي خير، و لكن إذا ما كرسناها لخدمة الأطماع الشخصية

ص: 287


1- سورة الكهف: 28.

و الأهواء النفسية و استخدمناها ضدّ هذا و ذاك كما تستخدمها الحيوانات المفترسة فإنها تتحول شرا و يشتد شرها كلما ازدادت تفاقما، و هو ما نحاسب عليه يوم القيامة(1).

ص: 288


1- من كلمة ألقاها في: 1424/6/7 ه - طهران.

الزينة

رأي الإسلام في الزينة

إنّ غريزة النزوع نحو الجمال و حب الجمال و الزينة يعتبر أمرا فطريا، إلاّ أنه قد يتفاوت إلى حد ما مع مفهوم نزعة التجديد الذي يتّسم بطابع من الشمولية.

يجب أن لا يكون الجمال و الزينة مدعاة لتفشي الفساد و الرذيلة في المجتمع، و لا يقود إلى إشاعة التحلل الخلقي. و لكن كيف يشيع التحلل الخلقي؟ لا شكّ في أنّ أساليب شيوعه واضحة؛ فإذا كانت علاقات الرجل و المرأة لا تخضع لحدود أو قيود، فهي تؤدي تلقائيا إلى نشر الفساد.

و كذلك الغلو في الاندفاع نحو التجديد (الموضة) في الثياب و الملابس ينتهي بإشاعة الفساد. إذا أصبح الاهتمام بالزينة و الظاهر الجميل و أمثال ذلك هو الهاجس الأساسي و الهم الرئيسي في الحياة فهو عين الانحطاط و الإنحراف، كما كان حال النساء من طبقة الأشراف ممن كنّ يجلسن خلف طاولة التجميل في عهد النظام البائد، هل تتصورون كم ساعة كنّ يجلسن على تلك الهيئة؟ كنّ يجلسن ست ساعات.

و هذه حقيقة كانت لدينا معلومات دقيقة عنها حيث كانت بعض النساء تستهلك مثل هذا الوقت من أجل تجميل وجهها و تصفيف شعرها و إعداد نفسها للذهاب إلى حفلة زواج مثلا.

ص: 289

فإذا بلغت الأمور هذا الحد فهي عين الإنحراف و الانحطاط.

و لكن لا إشكال في ترتيب المظهر و الملبس بالشكل المناسب بعيدا عن مظاهر التبرج و المباهاة.

حرمة التبرّج

لقد حرّم الإسلام التبرّج بما يعنيه من إظهار النساء زينتهن أمام الرجال؛ إنّه من أنواع إثارة الفتنة و عليه مؤاخذات كثيرة لا تقتصر إفرازاتها على وقوع الشاب و الشابة في الإثم - فالإثم أولها - و إنما تسري مخلفاتها إلى كيان الأسرة أيضا. لأن مثل هذه العلاقات المتحللة من كل القيود ذات أثر مدمر على كيان الأسرة؛ فبناء الاسرة قائم أساسا على الحب، و إذا توفّر هذا الحب - حب الجمال و حب الجنس الآخر - في موضع آخر لا تبقى ثمة دعامة قوية يرتكز عليها بناء الأسرة، مما ينتهي إلى ضعضعة كيانها و تصبح على غرار ما هي عليه في البلدان الغربية، و خاصة في دول أوروبا الشمالية و أمريكا.

أخذ الأمريكيون في الآونة الأخيرة يعانون الأمرّين من هذه المشكلة؛ فالعوائل أخذت تتلاشى حتى أصبحت هذه الظاهرة معضلة مستعصية لديهم، و تنعكس أضرارها بالدرجة الأولى على النساء إضافة إلى ما يعانيه الرجال بسببها من متاعب، إلاّ أنّ ضررها يصيب النساء أكثر ثم يصيب الجيل الوليد.

أ لا تلاحظون هذا الجيل الضائع الفاسد الموجود في العالم عامة و في أمريكا خاصّة؟ فهذا كله نابع أساسا من ذاك. أي أن تلك هي المقدمة و المنفذ الذي يأتي من خلاله بقية الشرور.

ص: 290

رأي الإسلام في الجمال

لقد أعار الإسلام قضية الجمال أهميتها و تناهى إلى أسماعنا كثيرا (إن اللّه جميل و يحب الجمال)(1). و لدينا روايات كثيرة في كتبنا الحديثية حول تحسين الظاهر و الهندام.

و في باب النكاح بحث مفصل يؤكد على وجوب اهتمام كل من الرجل و المرأة بوضعهما الظاهري.

و قد يتبادر إلى أذهان البعض أنّ الرجل يجب أن يقصّر شعر الرأس. و لكن ليس كذلك إذ يستحب للشباب إطلاق شعر الرأس، و جاء في حديث شريف: «الشعر الحسن من كسوة (كرامة) اللّه فأكرموه»(2).

و نقل أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان ينظر في إناء فيه ماء - حيث لم تتوفر المرايا آنذاك كما هي عليه الآن، إضافة على فقر مجتمع المدينة آنذاك - و يرتّب ظاهره، عند خروجه من منزله. و لهذا كان ينظر في إناء فيه ماء بدلا عن المرآة، ليرى وجهه و يرتب هندامه. و يستشف من هذا أنّ الإعتناء بالوضع الظاهري و الثياب الحسنة و الميل إلى الجمال محبّذ شرعا، إلاّ أنّ القبيح و المضر فيه هو أن يتحول إلى أداة لإشاعة التبرّج و الفتنة و الفساد، حتى إن أضرارها تنسحب - كما سبقت الإشارة - على الأسرة و الأجيال اللاحقة.

طالعت في إحدى المجلات الأمريكية مؤخّرا خبرا نقلته عنها صحفنا أيضا، جاء

ص: 291


1- ميزان الحكمة: 414/1 ح 534.
2- من لا يحضره الفقيه: 129/1 ح 327.

فيه أن تلميذين في العاشرة و الثانية عشرة من عمريهما أطلقا النار على التلاميذ و المعلمين في مدرستهما، و قتلا عددا منهم.. و كانا أطلقا صفارة الإنذار ليحتشد التلاميذ في مكان واحد ثم أطلقا النار.

و الحقيقة أنّ مثل هذا الوضع مؤلم و مدمّر للمجتمع. فمثل هذه الجريمة التي ترتكب بهذا البرود و اللامبالات جاءت كنتيجة لسوء التربية النابعة من ذلك التحلل(1).

ص: 292


1- من كلمة ألقاها في: 11 محرم 1419 ه ق - طهران.

الطاعة و المعصية

معنى الطاعة و العصيان

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «أوصي امتي بخمس: بالسمع و الطاعة و الهجرة و الجهاد و الجماعة و من دعا بدعاء الجاهلية فله جثوة من جثى جهنم»(1).

فعادة يأتيان ب (السمع و الطاعة) معا في الموارد الاخرى، و لكنهما جاءا هنا منفصلين عن بعضهما. فمن الواضح أنّ (السمع و الطاعة) لم يستعملا هنا بمعنى واحد، ف (السمع) هنا ليس بمعنى (الطاعة).

السمع هنا يعني الاستماع و المبالاة، و أول شيء يمتلكه الوسط العلمي الشيعي هو المبالاة (الاهتمام) بما يدور حوله من قضايا و أحداث، و لعل السمع الوارد في هذا الحديث يشير الى هذا المعنى، فلا يمكن و لا يصح ترك الأمور على حالها و لا يصح أن يقال نحن لا نستطيع عمل شيء أو ليس لنا علاقة بهذه الأمور، فهذا الأساس المبارك أي (الثورة و النظام الإسلامي) قام و تأسس لأن ذلك الرجل الالهي (الإمام الراحل) كان يختلف عن الآخرين اختلافا أساسيا، فهو لم يقل أبدا لا علاقة لي بهذه الأمور في حين أن كثيرا من الناس يرى ما يقع من أحداث في المجتمع - طبعا كان البعض لا يرى حتى تلك الأحداث و لا يفهمها و لا تلفت نظره - و لكنه يقول لا علاقة

ص: 293


1- مستدرك الوسائل: 9/11 ح 12285.

لي بها و إنني مشغول بأعمالي.

إلاّ أن ذلك الرجل العظيم (الإمام الخميني) لم يقل يوما لا علاقة لي بما يحدث و لهذا صارا إماما للناس و للأمة، و الإمامة كانت حقّه المسلّم.

فأول شيء هو (السمع) و بعد ذلك (الطاعة) و لكن هذه الطاعة لمن يجب أن تكون؟ الطاعة ل (من له الطاعة) (و من حقّه الطاعة)، و لا يقبل التمرد و عدم الطاعة من أي شخص و في أي موقع كان، و إنّ الامة الإسلامية لا تكون قد عملت بوصية النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله إلاّ أن تلتزم بالطاعة عند ما تصبح الطاعة واجبا شرعيا ملقى على عاتقها.

و في مقابل الطاعة هناك العصيان، و قد جاء العصيان في آية محذّرة في القرآن الكريم و هي قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا اَلرَّسُولَ لَوْ تُسَوّٰى بِهِمُ اَلْأَرْضُ وَ لاٰ يَكْتُمُونَ اَللّٰهَ حَدِيثاً (1)، فكان هذا العصيان أحد الأسباب التي أدّت الى هزيمة المسلمين في معركة احد، فالمسلمون لم يطيعوا أمرا واحدا من أوامر النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، فوقعت تلك الفاجعة(2).

ص: 294


1- سورة النساء: 42.
2- من كلمة ألقاها في 1415/4/4 ه.
أهمية الطاعة و ترك المعصية

من مواعظ الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام: «قال لبعض ولده: يا بنيّ إيّاك أن يراك اللّه في معصية نهاك عنها.

و إيّاك أن يفقدك اللّه عند طاعة أمرك بها.

و عليك بالجدّ و لا تخرجنّ نفسك عن التقصير في عبادة اللّه و طاعته فإنّ اللّه لا يعبد حقّ عبادته»(1)

يجب أن يكون الإنسان مراقبا دائما فيما يرتبط بالأوامر و النواهي الإلهية، فيكون حاضرا في الموضع الذي أمر اللّه تعالى به و غائبا عن الموضع الذي نهى عنه.

و أن يكون جديّا فيما يرتبط بأمور و مسائل الحياة سواء كانت أمورا دنيوية أم أخروية، و أن يرى نفسه مقصّرا فيما يرتبط بعباداته و طاعته مقابل الساحة المقدّسة و المعظّمة الإلهية.

و لا يقع في العجب و الغرور لأدنى طاعة و عبادة للّه تعالى، لأنّ الإنسان لا يمكنه أبدا أن يؤدّي الحق الإلهي العظيم في العبادة و الطاعة.

و من هنا كان أولياء اللّه تعالى الذين حلّقوا في فضاء القرب الإلهي اللامتناهي يجري لسانهم بعبارات التقصير في العبادة للّه تعالى «ما عبدناك حقّ عبادتك».

و يستغفرون اللّه تعالى من هذا التقصير في عبادته(2).

ص: 295


1- تحف العقول، صفحة: 409.
2- كلمات مضيئة: 42.
تعريف المعصية و منشؤها

لقد كان هدف جميع الأديان الإلهية، و جهود جميع الأنبياء عليهم السّلام، و شهادة كبار رجال الحقّ كلّها لأجل إيصال البشر الى القيام بعمل يجعل البشرية على الصراط المستقيم و لتتحرّك نحو العروج المعنوي و الكمال الإنساني و معرفة اللّه و تأمين مستقبلها الذي هو الهدف الرئيسي للحياة، أي مرحلة ما بعد الموت، ف «الدنيا مزرعة الآخرة».

إننا هنا نعدّ مقدّمات الحياة الأبدية، و كل ما نقوم به من دراسة و تدريس و جهاد و رياضة و بناء و عمران للدنيا و مقارعة للأعداء و سائر الأعمال التي يقوم بها الإنسان - و التي هي ضرورة - يجب أن تتصف بروحيّة السير على الصراط المستقيم، و كل ما يصدّكم عن هذا الطريق فهو معصية.

و المعصية - في الإصطلاح الديني و في أقوال الأنبياء - هي العوائق و الموانع في طريق الكمال الإنساني. و ليس معناه أنّ اللّه - و العياذ بالله - أراد حرمان عباده من السعادة و من اللذائذ، كلاّ، بل اللذّة التي تمنع الإنسان من السير نحو اللّه كالطعام اللذيذ الضارّ الذي يتناوله الإنسان، فيقرّبه من الموت، فالعاقل لا يتناول هذا الطعام و ينبذ هذه اللذّة، لهذا فقد تمّ التأكيد على الاستغفار في القرآن وَ اَلَّذِينَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اَللّٰهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ (1).

عليكم أن تكونوا امثولة للنزاهة، فشباب العالم اليوم يعاني من مختلف ضروب المآسي و يتلقّى نتائج معاصيه، و ما ترون من استمرار الخنفسية (الشذوذ) في

ص: 296


1- سورة آل عمران: 135.

المجتمعات الغربية منذ (30-40) سنة و إلى يومنا هذا، و معاناة الاسر و الآباء و الامهات من ضروب المآسي و أشكال التعاسة؛ فذلك لابتعادهم عن رحاب اللّه و غفلتهم عن الاستغفار و لعدم ارتداعهم عن ارتكاب المعاصي. و لهذه الظاهرة - طبعا - عوامل، منها أنّهم لا يستطيعون إرواء الشباب معنويا، فالشباب يبحث عن الإرتواء من منبع صاف، فإن لم يجدوا ذلك، انحرفوا و ارتكبوا المعاصي(1).

و روح الإستغفار عن المعصية و طلب العفو من اللّه سبحانه و تعالى لما ارتكبه الإنسان من معاصي و أخطاء هي شيء مهم جدا، لأنها تعني عدم غفلة الإنسان عن أخطائه و زلاّته، فمن يبرّئ نفسه من الخطأ و المعصية و يتصور أنه لم يرتكب عملا سيّئا، فسوف لا يفكّر في الاستغفار، فنفس الاهتمام بأمر الاستغفار يعني اعترافنا بالخطأ و النقص و المعصية و القصور و التقصير، إذن فالاستغفار هو أمر ضروري لكل إنسان، لأن من الطبيعي أنه لا يوجد إنسان لم يرتكب ظلما أو ذنبا أو صدر منه تقصير وَ لَوْ يُؤٰاخِذُ اَللّٰهُ اَلنّٰاسَ بِظُلْمِهِمْ مٰا تَرَكَ عَلَيْهٰا مِنْ دَابَّةٍ (2).

إنّ اللّه سبحانه و تعالى يتجاوز عن ذنوب العباد، لأن اللّه لو كان يؤاخذ العباد بظلمهم و ذنوبهم لما بقي منهم أحد على وجه الأرض، ففي قوله تعالى: مٰا تَرَكَ عَلَيْهٰا مِنْ دَابَّةٍ المراد بالدابّة قهرا هي الدابّة الإنسانية لأن البحث في الآية الكريمة يدور حول الإنسان.

و على هذا فإن أخطاء تصدر منّا بصورة مستمرة مردّها الى الأهواء النفسية كما أن بعضها ناشئ من الجهل و قصر النظر.

إذن فالهدف من الاستغفار هو الالتفات الى الذنوب المرتكبة و لازمه تصحيح العمل، فيجب على كل إنسان تصحيح عمله بصورة مستمرة، و إذا ما تواجد ذلك

ص: 297


1- من كلمة ألقاها في: 15 ربيع الثاني 1416 ه - مشهد المقدسة.
2- سورة النحل: 61.

فسوف يتمّ التكامل.

و على هذا فإن الشرط الأساسي لكمال الإنسان هو وجود حالة التصحيح هذه و التي يعد الاستغفار أحد عواملها المهمة. و لهذا اوليت أهمية كبيرة جدا للإستغفار، كما تقدم تفصيله(1).

ص: 298


1- من موعظة ألقاها في بحث الخارج و ذلك بتاريخ 1415/4/4 ه.
أثر الطاعة

من مواعظ الإمام أبي الحسن الثالث عليه السّلام: «من اتّقى اللّه يتّقى، و من أطاع اللّه يطاع، و من أطاع الخالق لم يبال سخط المخلوقين، و من أسخط الخالق فلييقن أن يحلّ به سخط المخلوقين»(1).

كل إنسان يتّصف بالتقوى و يعتقد أنّ اللّه تعالى حاضر و ناظر دائما على أعماله و نواياه فهو عند الناس محترم الرأي و النظر.

و كل إنسان يطيع اللّه تعالى يطيعه الناس و يتّبعونه برغبة و ميل أيضا.

و في الموارد التي يتعارض فيها غضب و سخط اللّه مع غضب و سخط الناس، يقدّم الشخص المطيع للّه تعالى غضب اللّه و سخطه على غضب الناس و سخطهم فيهتم بأن لا يغضب اللّه عليه حتى و إن غضب منه الناس فإنه لا يبالي بغضبهم.

و على عكسه الشخص الذي يسعى وراء تحصيل و كسب رضا الناس فإنه يقدّم مرضاة الناس على مرضاة اللّه تعالى فيفعل ما يرضيهم و يغضب اللّه تعالى غافلا عن أنّ غضب الناس و عدم رضاهم سوف يتبعه أيضا، لأنّ الإنسان لا يمكنه أن يرضي كل الناس: «إنّ رضى الناس لا يملك»(2).(3).

ص: 299


1- تحف العقول، صفحة: 482.
2- روي عن الإمام الصادق عليه السّلام انظر وسائل الشيعة: 396/27 ح 34045، و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «رضى الناس غاية لا تدرك» انظر نهج السعادة: 38/8.
3- كلمات مضيئة: 22.
أثر المعصية

توجد هناك عدّة آيات في القرآن الكريم تتطرق الى هذا الأمر، و من هذه الآيات، و التي تهتز لها مشاعر الإنسان هي الآية التي تناولت الحديث عن معركة أحد بشأن من عصى أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعٰانِ إِنَّمَا اِسْتَزَلَّهُمُ اَلشَّيْطٰانُ بِبَعْضِ مٰا كَسَبُوا (1).

و سبب هذا الانكسار و التقهقر هو (ببعض ما كسبوا) أي بسبب بعض المعاصي التي فعلوها في الماضي؛ فإنّ التعلّق بالشهوات و الأهواء النفسية تبرز آثارها في مثل هذه المواطن؛ أو في آية شريفة أخرى عند ما يقال لهم أنفقوا، فيتخلفون عن الإنفاق تكون نتيجتهم فَأَعْقَبَهُمْ نِفٰاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمٰا أَخْلَفُوا اَللّٰهَ مٰا وَعَدُوهُ (2).

فعند ما يقطع الإنسان على نفسه عهدا بينه و بين اللّه تعالى، ثم يتخلّف عن ما وعد اللّه فيه؛ سوف يستحوذ النفاق على قلبه(3).

أي أنّ عملهم هذا كان ناشئا عن أخطاء سابقة صدرت عنهم، فكل زلّة تتبعها زلاّت أخر، أي أنها تضعف دعامة الإيمان، و إذا ضعف الإيمان أثّر سلبيا على العمل دون علم الإنسان بذلك، كسائر التغييرات التي تطرأ على الإنسان طوال حياته دون أن يشعر بها.

رحم اللّه السيد الخاتمي والد رئيس الجمهورية المحترم، فذات يوم حينما

ص: 300


1- سورة آل عمران: 155.
2- سورة التوبة: 77.
3- من كلمة ألقاها في 1384/7/17 ه ش الموافق 14 رمضان المبارك 1426 ه الموافق 005/10/9 م طهران.

رجعت من المنفى عام 1357 ه ش، ذهبت إليه في (أردكان) و كان له من العمر آنذاك خمس و سبعون سنة، إلاّ أنه قال لي حينها: أقول بلساني أصبحت هرما إلاّ أنني لا أستشعر ذلك و أتصور أنني لا زلت في الثلاثين من عمري، و هذا ما نستشعره نحن حاليا أيضا، إذ لا ندرك هذا التغير الذي يطرأ علينا برغم وضوحه، و هكذا الامر بالنسبة الى الإيمان؛ أي أنّ الإنسان لا يشعر بالنقص الحاصل في إيمانه.

إن التأثير السلبي للإيمان على العمل و بالعكس يؤدي الى ما حصل في احد من الانتكاس و غيره من الانتكاسات من قتل الإمام الحسين عليه السّلام بعد خمسين سنة من ذلك، و قد ذكرت ذلك و قلنا إنه عبر تاريخية، و إنها أبلغ تأثيرا من الدروس(1).

و بناء على ذلك، فإننا إذا لم نلتفت إلى أنفسنا و اتبعنا الشهوات و هوى النفس، نكون بذلك قد غلّبنا هوى نفوسنا على إيماننا و عقلنا، و سوف نقع في الانحراف الذي كنّا نخشى الوقوع فيه؛ و بناء على ذلك لا بد للإنسان أن يكون دائم التصور لإمكانية السقوط في الانحراف، فلا يعتقدنّ أحد أنّه بعيد عن خطر الوقوع في الانحراف؛ هذه المسألة الأولى، و أحد الأمثلة عليها هي قصة (بلعم بن باعورا) المعروفة حيث وصل الى درجة إتيان الآيات كما قال تعالى: وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اَلَّذِي آتَيْنٰاهُ آيٰاتِنٰا فَانْسَلَخَ مِنْهٰا (2).(3)

ص: 301


1- في كتاب ثورة عاشوراء شمس الشهادة.
2- سورة الأعراف: 175.
3- من كلمة ألقاها في 1384/7/17 ه ش الموافق 14 رمضان المبارك 1426 ه الموافق 005/10/9 م طهران.
عمومية المعصية

قد يكون الذنب صادرا عن مجموعة خاصة من الناس، و قد يكون ذنبا شعبيا عاما و شاملا كما قال تعالى: وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لاٰ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً (1).

في بعض الأحيان تكون العقوبة جماعية - رغم أنّ مرتكبي المعصية هم فئة خاصة، و لم يكن الجميع قد شاركوا بارتكاب المعصية بصورة مباشرة، لكون الفعل هو فعل جماعي، و على أثره أصبحت العقوبة عامة و شاملة(2).

و إن التقليد الأعمي، و خصوصا للغرب، هو أيضا إحدى الآفات. و لأن الحضارة الغربية على قدر من التقدم التقني المبهر، فإنهم يقلدونها في كل ما تصدره من فلسفة و أخلاق و نظريات مختلفة.

كما أن التعيّش هو الآخر إحدى الآفات الخطيرة؛ فالتطلع نحو المنصب و المسؤولية و المنزلة الإجتماعية، و حتى نحو العلم بصفته وسيلة للتكسّب و التعيش، هو أيضا إحدى الآفات.

كما أن الانتهازية و حب الراحة و الطباع السيئة و الشريرة هي كلها من الآفات. فهذه المجالات من نفسية و أخلاقية و سلوكية تمثل مظاهر المعارضة و مجالات التحدي أمام النظام الإسلامي؛ و هي نابعة من داخلنا نحن(3).

ص: 302


1- سورة الأنفال: 25.
2- من كلمة ألقاها في 1384/8/8 ه. ق الموافق: 26 /رمضان المبارك/ 1426 ه الموافق: 10/30 / 2005 ه - طهران.
3- من كلمة ألقاها في: 7 رجب 1421 ه - المدرسة الفيضية/قم المقدسة.

الشهوات

النظرة أوّل الشهوات

و قال أبو عبد اللّه الصادق عليه السّلام لابن جندب: «إيّاكم و النظرة فإنها تزرع في القلب الشهوة، و كفى بها لصاحبها فتنة»(1)

المراد من النظرة هنا هو نظرة الهوس و الرغبة، سواء كانت إلى الطرف المخالف التي تحرّك الشهوة الجنسية أم كانت أشمل و أعم من ذلك نظير ما هو رائج في الثقافة الغربية و ما يقومون به من أعمال - و قد انتقل ذلك إلى الدول الأخرى أيضا - كالتسوّق و يقصد به التجوّل في المحلاّت للتفرّج فقط من دون هدف آخر، و هذا يؤدّي بالإنسان إلى الوقوع في الفتنة أي العبث و التحيّر و اللغو و التيه الناشئين من الهوس و الرغبة.

و الفتنة لا تعني الإمتحان و الإختبار دائما في كل الموارد بل في بعض الموارد تأتي بمعنى التيه و الحيرة.

فمثلا الفتنة الإجتماعية معناها تلوّث محيط المجتمع مما يوقع الإنسان في التحيّر و الإضطراب و التيه و الضياع(2).

ص: 303


1- تحف العقول، صفحة: 305.
2- كلمات مضيئة: 168.
آثار حب الشهوات
1 - حب الشهوات يمنع التسديد الإلهي:

قال النّبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «من أكل ما يشتهي و لبس ما يشتهي و ركب ما يشتهي لم ينظر اللّه إليه حتى ينزع أو يترك»(1).

يحتمل أن يكون المراد من قوله «و ركب ما يشتهي» هو المعنى الحقيقي من كلمة «ركب» أي وسيلة الركوب (كالسيارة و الطائرة و نحوها) التي يحبها.

و لكن هناك احتمال آخر و هو أن يكون معناها ركب الأمر، أي أنّه يقوم بكل عمل يريده و يحبه.

و على أي حال فإنّ الإنسان بارتكابه الأمور المذكورة سوف يسلب منه النظر و العناية الإلهية التي هي رأس كل الخيرات و أساس كل الكمالات الإنسانية.

و العلاج هو ترك هذه الأمور من خلال ترويض الإنسان نفسه اختيارا على عدم القيام بالأعمال التي منشاؤها الهوس و الشهوة مع قدرته على فعلها.

إنّ الإنسان الذي لا يقدر على فعل كل ما يشتهيه يجب عليه أن يقدّر هذه النعمة، فإنها لنعمة كبيرة أن لا يكون للإنسان مجال واسع لأهوائه و شهواته، و إن كان هناك ثواب أكبر فيما لو كان قادرا على مجاهدتها(2).

ص: 304


1- تحف العقول، صفحة: 38.
2- كلمات مضيئة: 167.
2 - حب الشهوات يحجب عن اللّه تعالى:

قال الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، أوحى اللّه تعالى إلى داود عليه السّلام:

يا داود حذّر و أنذر أصحابك عن حبّ الشهوات، فإنّ المعلّقة قلوبهم بشهوات الدنيا قلوبهم محجوبة عني»(1).

إنّ اللّه تعالى قد أودع في الإنسان بعض الشهوات بحسب مقتضى الغرائز الإنسانية من قبيل شهوة الطعام و الكلام و الجنس، و لكنه و من أجل إرضائها و تنفيسها جعل لها طرقا محلّلة شرعا.

و عليه فإذا أراد الإنسان أن يسعى وراء الشهوات بنحو مطلق و من دون قيود و شروط فهذا خطر كبير عليه، لأنّ الشهوات مرضها و عيبها هو التجاوز عن دائرة الحدود المشروعة، و لذلك ذكر اللّه تعالى أنّ الذين تعلّقت قلوبهم بشهوات الدنيا صارت قلوبهم محجوبة و مغطاة عنه عزّ و جلّ.

لأنّ هكذا أشخاصا لم يستفيدوا من الأنوار الإلهية و تجلّيات الألطاف الربّانية.

فنسأل اللّه تعالى أن يحي قلوبنا بإشعاعات ألطافه و رحمته(2).

3 - الشهوات تذلّ الإنسان:

قال الإمام أبي محمد الحسن بن علي عليه السّلام: «ما أقبح بالمؤمن أن تكون له رغبة تذلّه»(3).

أشدّ شيء سوءا و قبحا على المؤمن أن تكون لديه ميول و رغبات تؤدّي به إلى

ص: 305


1- تحف العقول، صفحة: 394.
2- كلمات مضيئة: 166.
3- تحف العقول، صفحة: 489.

الذلّة و المهانة.

فإنّ أكثر الأمور الموجبة للذلّة و المهانة تنشأ و ترتبط برغبات و ميول و متطلّبات الإنسان.

و إحدى الأمور التي لم يرخّص فيها الشارع المقدّس للمؤمن هو أن يذلّ نفسه و يهينها. سواء كانت الذلّة و المهانة لأجل المقام و المنصب أم لأجل المال و الثروة أم لأجل الشهوات النفسانية.

و لذلك يقول الإمام عليه السّلام: كم هي سيئة و قبيحة أن تكون متطلبات و رغبات المؤمن سببا لمذلّته و مهانته.

و كما قال الشاعر:

و كم دقّت و رقّت و استرقّت *** فضول العيش أعناق الرجال.

أي أن كثيرا من المتطلّبات و الرغبات و الميول التي تكون زائدة عن الحاجة المعيشية للإنسان تؤدّي به للذلة و المهانة و الضعف و الدمار(1).

ص: 306


1- كلمات مضيئة: 166.
4 - إتباع الشهوات أساس الضلالة و الانحراف:

قال تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضٰاعُوا اَلصَّلاٰةَ وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَوٰاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (1).

هناك عاملان هما أساس للضلالة و الإنحراف العام، أحدهما الإبتعاد عن ذكر اللّه و الذي يتجلى في الصلاة و العبادة، و الذي يعني الغفلة عن اللّه و المعنويات و فصل الحياة عن المعايير المعنوية، و إهمال التوجه الى اللّه تعالى و الذكر و الدعاء و التوسل و طلب التوفيق منه، و التوكل عليه و فصل الحسابات الإلهية عن الحياة.

و العامل الآخر هو إتباع الشهوات و الملذات و بعبارة واحدة السعي وراء الدنيا و الإشتغال بجمع الثروة و المال و الوقوع فريسة للشهوات الدنيوية و إعتبارها أساسا و مبدأ و نسيان الأهداف الحقيقية.

هذا مرض رئيسي و خطير و يمكن أن نبتلى نحن به أيضا. فلو أن الحالة المبدئية تزول أو تضعف عندنا و كل منا يفكر بأن ينتزع حصته من الغنيمة حتى لا نتخلف في دنيانا عن الآخرين، و يقول في نفسه أن الآخرين قد جمعوا لأنفسهم و يجب أن نذهب نحن أيضا لنجمع لأنفسنا و نضع مصالحنا فوق مصالح المجتمع. فمن المعلوم حينئذ أن يصل بنا الحال الى ذلك الوضع.

فسرّ وجود النظام الإسلامي و بقائه و تطوره هو الإيمان و الهمم العالية و الإهتمام بالمبادئ و إحياؤها.

و معلوم أنّ توهين الأهداف و اللامبالاة في اصول الإسلام و الثورة و فهم كل الامور

ص: 307


1- سورة مريم: 59.

و التعامل معها بذهنية مادية سوف يصل بالمجتمع الى تلك الوضعية.

و لهذا السبب إبتلي بها أولئك الناس ففي وقت، كان المسلمون يهتمون بتطوير الإسلام و رضا اللّه و تعليم الدين و المعارف الإسلامية و الإطلاع على القرآن و الانس بمعارفه، و كان الجهاز الحكومي و الإداري للبلاد جهازا زاهدا في الدنيا، نقيا، لا يعير أهمية لزخارف الدنيا و الشهوات الشخصية، فكانت النتيجة حينذاك تلك الحركة العظيمة التي توجه الناس فيها الى ربهم. في تلك الوضعية يبرز مثل علي بن أبي طالب عليه السّلام خليفة للمسلمين و مثل الحسين بن علي عليه السّلام شخصية مرموقة.

و السبب هو أن تلك المعايير تتجسد فيهم أكثر من غيرهم، عند ما يكون المعيار هو اللّه و التقوى و الإعراض عن الدنيا و الجهاد في سبيل اللّه، فإن الذي يتواجد في الساحة حينئذ هم الأفراد الواجدون لهذه المعايير، هؤلاء هم الذين يأخذون مقاليد الامور بأيديهم و يصبح المجتمع مجتمعا إسلاميا.

و لكن عند ما تتبدل المعايير الإلهية فسوف يستلم الامور كل من هو أحرص على الدنيا و أشد في إتباع الشهوة و تحصيل المنافع الشخصية و أبعد عن الصدق و الحقيقة، حينذاك تكون النتيجة صيرورة أمثال عمر بن سعد و الشمر و عبيد اللّه بن زياد امراء، و ذهاب أمثال الحسين بن علي عليه السّلام الى المذبح و إستشهاده في كربلاء و هذه قضية منطقية ف (2 + 2 4).

لا ينبغي أن يسمح الأشخاص الحريصون بتبدل المعايير في المجتمع(1).

لذا يجب علينا الحذر، إنّ الأعداء ينتظرون اليوم تنامي الفساد داخل البلاد الإسلامية و خلق الشكوك في أذهان الشباب و تغلّب اللهو الفاسد و المانع للخير على الأهداف السامية، و إثارة النوازع الدنيويّة و حبّ الجاه و الدعة، و ظهور معالم البهرجة و الترف بين العناصر الثوريّة، و كلّها وليدة تأثير جرثومة الردّة و الارتداد.

ص: 308


1- من كلمة ألقاها في 28 محرم 1413 ه ق.

ليس المقصود أن يحرم النّاس أو الثوريون من زينة الدّنيا، فالنعم و البركات الإلهيّة للجميع، لكن الرغبة في الدّنيا و الشهوات و حبّ المال و اكتنازه و حبّ النفس أكثر من اللّه و الدّين و الهدف و المجتمع و الابتداء بالمفاسد الأخلاقيّة أعمّ من المالية و الجنسيّة و الإدارية، و الصراع الداخلي و هذا من المفاسد الخطيرة للغاية، ثمّ الطموح في الجاه و المقام غير المشروع كالرائج في الغرب، كلّها من شأنها تدمير مباني الإسلام و الثورة و الحقيقة.

طبعا و سوف تقام بدلا منها مباني جديدة لكنّها طاغوتيّة غير إلهيّة و مخالفة للإسلام و للقيم الّتي اريقت دماء شهدائنا من أجلها، و هذه من معالم الارتداد و الردّة.

إنّ كلّ إنسان معرّض للفساد إلاّ المتّقين، فلا يمكن إفساد المتّقين، نعم يمكن إفساد الناس، و يمكن عرض زينة الدّنيا من طريق غير مشروعة عليهم لجعل أفئدتهم بصورة بحيث يرغبون عن جميع القيم و يضحّون بها في سبيل المظاهر المادّية.

كلّ هذه الامور يمكنها أن تتّفق مع غياب التقوى، فللتقوى تأثير في الدّنيا و في الآخرة، و كما أنّ للتقوى تأثيرا في السياسة، كذا لها تأثير في حفظ النظام الإسلامي و في الحرب، و قد أدركنا و لامسنا بأنفسنا هذه الحقيقة(1).

ص: 309


1- من كلمة ألقاها في بتاريخ 3 شعبان 1415 ه

ص: 310

الحسد

خطورة الحسد

كان فيما أوصى به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا عليه السّلام: «يا علي: أنهاك عن ثلاث خصال عظام: الحسد و الحرص و الكذب».(1)

هذا الكلام من جملة الوصايا التي أوصاها النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعلي عليه السّلام: و هو التحذير و النهي عن هذه الخصال الثلاثة السلبيّة و بالتدقيق يعلم أنّ جزءا مهمّا من التصادمات و التناقضات بين الناس منشؤه هذه الخصال الثلاثة، و هي:

1 - الحسد: فإن هذه الخصلة موجبة لاختلال الروابط العاطفيّة للإنسان مع أقربائه أو أصدقائه أو لكل شخص يحسده، و النتيجة من ذلك هي زوال المحبة و الصداقة و الإلفة و التعاون بين الناس. فالحاسد دائما ينظر إلى المحسود نطرة سيئة و يحاول أن يفسد عليه عمله و يخربه، و لذلك تتهدّم الروابط و العلاقات الإجتماعيّة المطلوبة في المجتمع السليم.

2 - الحرص، 3 - الكذب، و سيأتي الكلام عنهما.(2).

ص: 311


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 121.
2- كلمات مضيئة: 51.

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «إصبر على أعداء النعم، فإنّك لم تكافىء من عصى اللّه فيك بأفضل من أن تطيع اللّه فيه»(1)

بعض الناس ليس لديهم المقدرة على تحمّل رؤية النعم الإلهية عند الآخرين بل يحسدونهم عليها، و بتعبير الرواية يكونون أعداء النعم التي يهبها اللّه للآخرين.

و هذا النوع من الناس غالبا ما يقومون بتحطيم و إتهام و غيبة و إهانة أصحاب النعم.

و الرواية هنا مفادها الأمر بالصبر في مقابل أذى و إضرار هؤلاء الناس (أعداء النعم) و الأمر بإطاعة اللّه عزّ و جلّ فيما يرتبط بهم.

أي أنه يجب على الأنسان أن لا يتعامل معهم بالمثل فلا يهينهم و لا يعاديهم و لا يقول فيهم سوءا، فإنّ هذا الشيء أفضل عقوبة و مجازاة لهم على صنيعهم.

و السرّ في كون ذلك أفضل العقوبة و المجازاة لهم هو أنّ كلا هذين الصنفين من الناس سوف يقفون في محضر اللّه تعالى يوم القيامة، فإذا لم تكن قد أسأت إليهم فأنت لك حق عليهم و اللّه سبحانه و تعالى سوف يأخذ لك حقّك منهم.

و هناك وجه آخر لهذه المسألة و هو أنّ - و طبقا لما يستفاد من التجارب في هذا المضمار مضافا إلى كلمات الأعاظم أيضا - اللّه سبحانه و تعالى سوف يجازي أهل الحسد في هذه الدنيا بينما المحسودون الذين صبروا و تحمّلوا سوف يثيبهم و يعطيهم الأجر و الثواب اللائق بهم(2).

ص: 312


1- الخصال، باب الواحد، ح: 71.
2- كلمات مضيئة: 90.

الحسرة و الندامة

عذاب الحسرة و الندامة

من مواعط أبي جعفر عليه السّلام: «إنّ أشدّ الناس حسرة يوم القيامة عبد وصف عدلا ثمّ خالفه إلى غيره»(1)

إحدى خصوصيات يوم القيامة هي الحسرة، و عذاب الحسرة أعظم من العذاب الجسماني. و قد ورد في القرآن الكريم التنبيه على ذلك بقوله وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ اَلْحَسْرَةِ (2).

و الحسرة مسألة عامة و كل الناس يبتلى بها، فالأشخاص الفاسقون يتحسّرون بسبب ذنوبهم و انحرافاتهم التي عملوها في الدنيا.

و الأشخاص الصالحون يتحسّرون بسبب تفويتهم الفرص على أنفسهم و عدم الإستفادة الكافية منها. و ذلك لأن التكامل الإنساني له درجات مختلفة، و كل مرتبة و درجة يصل إليها الإنسان يوجد فوقها درجة أعلى.

فالإنسان الذي يضيّع عمره بالبطالة و لا يستفيد من حياته بالشكل المطلوب و لا يصل إلى المراحل العليا من الكمال، أو الإنسان الذي سعى و كافح و قام بأعمال الخير و البرّ و لكنه أحرقها كلها بصاعقة الذنوب و الأعمال السيئة التي ارتكبها، فهكذا إنسان

ص: 313


1- تحف العقول، صفحة: 298.
2- سورة مريم: 39.

سوف يتعذّب بنار الحسرة يوم القيامة.

و أعلى و أشد مراتب الحسرة هي الحسرة الذي يبتلى بها الشخص الذي أرشد الناس إلى الصلاح و الخير و لكنه لم يعمل بها بل عمل على خلافها(1).

و قال علي بن الحسين السجاد عليه السّلام: «من لم يتعزّ بعزاء اللّه تقطّعت نفسه على الدنيا حسرات، و اللّه ما الدنيا و الآخرة إلاّ ككفّتي الميزان فأيهما رجح ذهب بالآخر».(2)

لكل إنسان آمال و أماني في هذه الدنيا، و لكنه قطعا لن يتمكن من تحقيقها جميعا و لن يستطيع تحصيلها كلّها كذلك.

و هذا الحرمان من الحصول على رغباته و أمانيه، يعود سببه الى الأمرين التاليين:

1 - إما لأن المطالب و الرغبات و الأماني محرّمة شرعا و الإنسان لا يقدر على ارتكابها، بل يصبر و يتحمل حرمانه منها قربة للّه تعالى.

2 - و إمّا لأن القضاء و القدر الإلهيين متعلّقان في كون مصلحة الإنسان بأن لا يصل الى هذه الأهداف، مهما جدّ و سعى و كافح باجتهاد و نشاط في سبيل الوصول إليها.

و على كل حال فالشيء الذي يوجب سكون الإنسان و طمأنينته و راحة باله تجاه هذا الحرمان ليس هو إلاّ الإعتقاد التّام و الإيمان القاطع بأنّ اللّه سبحانه و تعالى سوف يعوّضه عن ذلك و يعطيه الأجر و الثواب في عالم الآخرة.

و إلاّ ففي غير هذه الصورة سوف يبتلي بالحسرة و النّدامة و الهمّ و الحزن التي لا تنتهي أبدا فتذهب نفسه عليها حسرات.

إنّ الدنيا و الآخرة نظير كفّتي الميزان إذا رجحت إحداهما نزلت الأخرى. فكلّما تنعّم الإنسان في هذه الدنيا و كان مرتاحا كان له في عالم الآخرة بنفس هذا المقدار من الحسرة و الخسارة و النقصان(3).

ص: 314


1- كلمات مضيئة: 191.
2- الخصال/باب الاثنين/ح 95.
3- كلمات مضيئة: 191.

حرمات اللّه تعالى

بعض حرمات اللّه تعالى

عن ابن عباس قال: «إن للّه عزّ و جلّ حرمات ثلاث ليس مثلهنّ شيء: كتابه و هو نوره و حكمته.

و بيته الذي جعله للناس قبلة، لا يقبل اللّه من أحد وجها إلى غيره.

و عترة نبيّكم محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم»(1)

لقد جعل اللّه تعالى حدودا ثلاثة محترمة جدا و لم يسمح لأحد بتجاوز هذه الخطوط الحمراء و ليس هناك شيء يشبهها و يضاهيها في الأهمية، و هي

1 - القرآن الكريم الذي هو نور إلهي و معدن الحكمة الإلهية.

2 - الكعبة الشريفة التي تعتبر من الأسرار و الرموز و الشعائر العظيمة في الإسلام.

و الناس تتجه نحوها و تجتمع في ذلك المكان لأداء مراسم الحج و العمرة كنسيج واحد و تتوجه إلى اللّه تعالى و تتضرّع إليه و تتحرك و تتوجه قلوبها نحوها، و كل الناس في موسم الحج تختفي في محورية البيت الإلهي، و اللّه تعالى جعلها قبلة للصلاة و بعض الأعمال العبادية الأخرى و للدعاء و المناجاة و لا يقبل من أحد أن يتوجه الى غيرها.

ص: 315


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 174.

3 - عترة النبي صلّى اللّه عليه و آله، و هم أهل البيت عليهم السّلام.

و هذا التركيب الكلامي من ابن عباس «رحمه اللّه» حيث جعل العترة إلى جانب القرآن و الكعبة يحمل رسالة مهمة جدا(1).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «السراق ثلاثة: مانع الزكاة، و مستحل مهور النساء، و كذلك من استدان دينا و لم ينو قضاءه».(2)

السارق مفهوم واضح و جليّ، و لكن هذه الرواية تذكر ثلاثة مصاديق خفية غير واضحة من مصاديق السارق، و هي بذلك تريد أن تبين أن السارق ليس مختصا بالشخص الذي يسرق اموال الناس فقط. و هم:

1 - الشخص الذي يمنع الزكاة. أي لا يدفع زكاة أمواله، فهو في الحقيقة سارق لأموال الفقراء و المستحقين لأخذ الزكاة لأنها ملكهم في الواقع.

2 - الشخص الذي يستحل مهور النساء أي يمتنع عن دفع المهر للزوجة، فإنّ دفع المهر و إن لم يكن فوريا إلاّ أن هذا الشخص يقصد أن لا يدفع المهر مطلقا، فهذا سارق في الحقيقة لمال زوجته لأن المهر ملك لها.

3 - الشخص الذي يقترض من الآخرين و لا ينوي تسديد القرض، فإنه سارق لأموال الآخرين في هذه الحالة لأنهم يستحقون عليه أن يردّ لهم أموالهم بعد انقضاء مدة القرض(3).

ص: 316


1- كلمات مضيئة: 207.
2- الخصال/باب الثلاثة/ح 190.
3- كلمات مضيئة: 207.

الشحّ و الأمل و الهوى

الشح و الأمل

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ صلاح أول هذه الأمّة بالزهد و اليقين، و هلاك آخرها بالشحّ و الأمل»(1).

1 - إنّ عظمة و اقتدار الأمة الإسلامية في أول أمرها كان مرهونا بزهد و يقين الأمّة.

فإنّ أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله كانوا لا يبالون و لا يهتمون بزخارف الدنيا، ليس بمعنى أنهم لم يسعوا و لم يجدّوا في ساحة الحياة بل في نفس الوقت الذي كانوا يسعون و يجدّون كان قصدهم الوصول الى الأهداف العالية، قال اللّه تعالى: وَ اَلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّٰهِ.. (2).

2 - و أمّا هلاك آخر الأمة الاسلامية فسببه الشّح (الحالة المركبة من البخل و الحرص) و الأمل (أي الإنشغال بالآمال و الأماني الحقيرة التي لا شأن و لا قيمة لها).

طبعا هذا لا يعني أنّ الأمّة سوف تهلك حتما أو أنّ الهلاك مقدّر لها في زمان ما، بل الحديث في مقام بيان سنّة إلهية و هي أنّ الأمّة الإسلامية سواء المسؤولون و العسكريون و طبقات الشعب المختلفة إذا لم يكن هدفهم الخدمة بل كانوا يفكرون

ص: 317


1- الخصال/باب الإثنين/ح 128.
2- سورة البقرة: 285.

في تجميع و تحصيل المال و ازدياد و بسط الثروة أي أنّهم ابتلوا بالشح، و كذلك بدلا من أن يسعوا لأجل الوصول الى أهدافهم العليا توجّهوا نحو المظاهر الدنيوية من قبيل الجاه و المقام و المنصب و نحوها، فابتلوا بالهلاك.

و يجب أن يعلم أنّ هذه السنة الإلهيّة جارية في المجتمع الحالي أيضا. فاليوم يوجد أشخاص من بين المدراء و الرؤساء و سائر طبقات المجتمع يتصفون بالزهد و اليقين، إلاّ أنّه يجب علينا الحذر من أن تتبدّل هاتان الصفتان الحسنتان الى الشّح و الأمل كما حصل بالفعل لبعض الناس، لأنّه في هذه الحالة سوف يقع المجتمع في الهلكة(1).

الهوى و طول الأمل

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ أخوف ما أتخوّف على أمتي الهوى و طول الامل، أما الهوى فيصدّ عن الحق، و أمّا طول الأمل فينسي الآخرة»(چ).

من وجهة نظر النّبيّ الأكرم صلّى اللّه عليه و آله هناك مسألتان تأتيان في الدّرجة الأولى من بين سائر المسائل و الآفّات الإجتماعيّة و النّفسيّة الّتي تهدّد الأمة الإسلامية، و هما:

1 - عبادة الهوى.

2 - طول الأمل و الأماني البعيدة الّتي لا أساس لها حيث يقوم الإنسان برسم المستقبل من خلال ترتيبها و تنظيمها من قبيل ما إذا قام بتجارة فربح منها مالا فاشترى به بيتا ثمّ باعه و اشترى بيتا آخر أكبر و أوسع منه و هكذا...

أمّا خطر عبادة الهوى فهو أنّ الإنسان يتراجع عن طريق الحق، فمع أن طريق الحق واضح و جليّ أمامه، إلاّ أنّه لا يسلكه و لا يتّبعه. و أحيانا يكون إنجذابه نحو الهوى سببا

ص: 318


1- كلمات مضيئة: 118-119. (چ) الخصال/باب الاثنين/ح 63.

لعدم إدراكه الحقيقة بتاتا.

و أمّا خطر الآمال الطويلة فهو أن الإنسان حينما يغرق فيها ينسى الهدف الأساسي و الأهم من حياته و ينشغل عنه، مع أنّ الواجب عليه هو أن يستعد و يهيء نفسه للحياة الحقيقيّة الأصليّة.

من قبيل ما إذا أتى شخص جامعي لتحصيل العلم في الجامعة ليؤمن مستقبله من خلالها، فإنّه إذا انشغل بالتفرّج و مشاهدة الأشجار و الأزهار و الأبنية الموجودة في الجامعة، و نسي تحصيل العلم يكون قد خسر هدفه الأساسي الذي جاء من أجله الى الجامعة.

و الإنسان في هذه الدنيا هكذا شأنه، فإنّه إذا انشغل فكره في تهيئة المسكن و المركب و العمل و غيرها يكون قد غفل عن الهدف الأصلي من حياته.(1)

ما يؤدي إلى الهوى

و من وصايا الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، من سلّط ثلاثا على ثلاث فكأنّما أعان هواه على هدم عقله:

من أظلم نور فكره بطول أمله.

و محا طرائف حكمته بفضول كلامه.

و أطفأ نور عبرته بشهوات نفسه.

فكأنّما أعان هواه على هدم عقله، و من هدم عقله أفسد عليه دينه و دنياه»(2).

ثلاثة أمور إذا عملها الإنسان أفسد على نفسه عقله و حكمته، و نتيجة ذلك أنه يخسر دينه و دنياه. و هي:

ص: 319


1- كلمات مضيئة: 36-37.
2- تحف العقول، صفحة: 386.

1 - أن يتوجّه و يعتني بالآمال و الآماني البعيدة و الطويلة و الموهومة.

طبعا مجرد الأمل و التمنّي في نفسه ليس مذموما، لأنّ كل إنسان لديه في هذه الحياة آمال و أمنيات، و لكن الغرق في التخيّلات و التوهّمات الناشيء من الآمال و الأمانيّ خطر كبير يؤدي بالعقل أن يبتعد عن الواقع و الحقيقة.

2 - أن يذهب و يمحو نور حكمته بفضول الكلام أي الكلام الكثير الذي غالبا لا يكون متناسبا و منسجما.

3 - الذي يطفىء نور العبرة و الإتعاظ من نفسه بسبب تغلّب شهواته و أهوائه النفسانية عليه بحيث لا يهتم و لا يعتني بتلك العبر و المواعظ.(1)

ص: 320


1- كلمات مضيئة: 103.
مخالفة الهوى

قال الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، و إذا مرّ بك أمران لا تدري أيّها خير و أصوب، فانظر أيّهما أقرب إلى هواك فخالفه، فإنّ كثير الصواب في مخالفة هواك»(1)

أحيانا يقف الإنسان على مفترق طريقين، بمعنى أنه يعرض له أمران و فعلان و لا يدري أيّهما صحيح و أصوب أو أيّهما أفضل و أصحّ من الآخر ليختاره و يرجّحه؟

و في هذا الحديث يعطي الإمام عليه السّلام ضابطة عامة و كليّة لاختيار و انتخاب الطريق الأصوب و الأفضل فيقول:

على الإنسان أن يختار و ينتخب الطريق الذي يخالف هوى نفسه و ميوله الشهوانية و يسلكه و يسير فيه.

و السرّ في ذلك هو أنّ أكثر الصواب و الخير في مخالفة الإنسان لهواه، فأصحّ الأعمال و أفضلها هو ما لا يكون موافقا لهوى النفس.(2)

ص: 321


1- تحف العقول، صفحة: 398.
2- كلمات مضيئة: 103.
تعريف الشحّ

عن النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله قال: «إياكم و الشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالكذب فكذبوا، و أمرهم بالظلم فظلموا، و أمرهم بالقطيعة فقطعوا».(1)

الشح معناه الحرص على المال مع البخل به، و الشحيح هو الشخص الذي يجمع المال بحرص و ولع و يمتنع عن إنفاقه و إعطائه للآخرين، و هذا أسوأ أنواع حب المال(2).

ص: 322


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 234.
2- كلمات مضيئة: 104.
أثر الشحّ

عن جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام عن أبيه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما محق الإيمان محق الشحّ شيء، ثم قال: إنّ لهذا الشحّ دبيبا كدبيب النمل، و شعبا كشعب الشرك»(1).

إنّ للإيمان عيوبا و آفات، فهناك أمور تمحق الإيمان، و أشدّ تلك الآفات تأثيرا في محق الإيمان هو الشحّ.

و الشحّ مركبّ من البخل و الحرص، بمعنى أنّ الإنسان يقوم بجمع و ادخار الأموال و الزخارف الدنيوية لنفسه و لا ينفق شيئا منها في سبيل اللّه، كما يحدّث عنه قوله تعالى:

فَلَمّٰا آتٰاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ فَأَعْقَبَهُمْ نِفٰاقاً فِي قُلُوبِهِمْ (2) .

فالشحّ و البخل سببان لوجود النفاق في قلوب الذين يبخلون و يشحّون.

و في سورة الحشر ورد أنّ الفلاح مترتب على اجتناب الشحّ و البخل و تطهير النفس منهما.

قال اللّه تعالى: وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ (3).

و يجب أن يعلم أن هذه الصفة المذمومة تمشي في نفس الإنسان و تتحرّك و تتجذّر بنحو تدريجي و كما في تعبير الرواية تمشي كما يمشي النمل، و هي نظير

ص: 323


1- الخصال، باب الواحد، ح: 93.
2- سورة التوبة: 77.
3- سورة الحشر: 9.

الشرك من حيث المراتب و الدرجات(1).

و قال النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله قال: «إياكم و الشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالكذب فكذبوا، و أمرهم بالظلم فظلموا، و أمرهم بالقطيعة فقطعوا».(2)

و هنا يحذّر النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله من الشح و يحثّ على الاجتناب و الابتعاد عنه.

و ذلك لأن الشح قد أهلك الأمم السابقة فإنهم لمّا صاروا أشحاء اتبعوا الشح في كل ما أمرهم به.

فلمّا أمرهم بالكذب كذبوا لأن الحرص على المال يوجب أحيانا الكذب فيتلوث المحيط الاجتماعي فضلا عن نفسه في مخالفة الواقع و الحقيقة و يذهب و يزول من بينهم الصدق و الصفاء و المودة.

و لمّا أمرهم بالظلم ظلموا، لأنه أحيانا يستدعي الظلم و التعدي و التجاوز على حقوق الآخرين من أجل الحرص و البخل.

و لمّا أمرهم بالقطيعة قطعوا، و القطيعة و إن كان الغالب استعمالها في قطع الرحم إلاّ أن الظاهر هنا أن معناها أعم من ذلك فتشمل قطيعة الرحم و قطيعة ما يلزم مراعاته و المواظبة و المحافظة عليه، كالعلاقة مع اللّه تعالى و الائمة عليهم السّلام و الصالحين من عباده يَقْطَعُونَ مٰا أَمَرَ اَللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ (3).(4)

ص: 324


1- كلمات مضيئة: 104.
2- الخصال/باب الثلاثة/ح 234.
3- سورة البقرة: 27.
4- كلمات مضيئة: 105.
أثر إطاعة هوى النفس

من وصيّة أبي عبد اللّه عليه السّلام لابن جندب: «يا ابن جندب، من حرم نفسه كسبه فإنّما يجمع لغيره، و من أطاع هواه فقد أطاع عدوّه، و من يثق باللّه يكفه ما أهمّه من أمر دنياه و آخرته، و يحفظ له ما غاب عنه»(1).

كل من يسعى و يجدّ و يحصل على الأموال و لكنه لا يستفيد منها، فإنّها سوف تكون في الحقيقة للآخرين فإمّا أن تنتقل إلى ورثته فيستفيدوا منها، و إما أن تتلف بالسرقة و غيرها.

و كل من يطيع هوى نفسه سواء كانت شهوات الشخص النّفسانية أم شهوات الجماعة و الفرقة التي ينتمي إليها، فيكون قد أطاع عدوّه.

و من المعلوم ما هو مقدار الخسارة و الأضرار التي يحصل عليها من ذلك.

و يجب الإلتفات إلى أنه أحيانا قد يختفي هوى النفس الشخصي ضمن الأشكال و القوالب الموجّهة، و هذه المرحلة خطيرة جدا لأن الإنسان في الظاهر يقوم بالعمل بعنوان أنه تكليف و وظيفة أخلاقية أو سياسية بينما هو في الباطن تابع لهوى نفسه.

و كل من يعتقد باللّه و يتوكّل على اللّه فسوف يصلح اللّه له دنياه و آخرته.

و الوثوق و الإعتماد على اللّه ليس بمعنى عدم السعي لتحصيل العلم أو عدم السعي لتحصيل المعيشة و عدم الجدّ و الإجتهاد في ميادين الحياة المختلفة، بل معناه أن يكون حاضرا حيث يريد اللّه تعالى في جميع الأمور و الموارد التي جعلها اللّه تعالى

ص: 325


1- تحف العقول، صفحة: 304.

على عهدته و كلّفه بها(1).

هوى النفس الخطر الأساس

إنّ الخطر الأساس ما في رواية أهل البيت عليهم السّلام ألا و هو هوى النفس، قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان، اتباع الهوى و طول الأمل»(2).

فلا تعجبوا من ذلك حيث إن هوى النفس لمن أشد الآفات خطرا علينا «إن أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك»(3).

و هاهنا يقول أمير المؤمنين (ع): «إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان، اتباع الهوى و طول الأمل؛ فأمّا اتباع الهوى فيضلّكم عن سبيل اللّه».

فأشد و أكثر أنواع الضلال مردّها إلى هوى النفس. و بالطبع فإننا عادة ما نجد لأنفسنا آلاف التبريرات حتى ننحرف عن الصراط الإلهي و يجيء قولنا و فعلنا على خلاف ما أوصى به الدين و الشرع.

إن خطورة هوى النفس هو أنه يضلكم عن سبيل اللّه تعالى.

ثم قال عليه السّلام: «و أمّا طول الأمل فينسي الآخرة».

و طول الأمل يعني الآمال البعيدة و الشخصية؛ كأن تفكّر في تشييد منزل لنفسك على أحدث طراز، أو أن تتسنّم أعلى المناصب، أو أن تمدّنّ عينيك إلى ما متع به اللّه بعضا من الناس، فتخلق لنفسك المصاعب و المشقات لكي تحصل على المبالغ المالية الطائلة أو تمارس ذلك النوع من النشاطات الإقتصادية. فطول الأمل هذا؛ أي تلك الآمال التي لا تقف عند حد، تأخذ بالسيطرة على فكر الإنسان، و تختلق له أهدافا

ص: 326


1- كلمات مضيئة: 106.
2- الخصال/باب الاثنين/ح 63.
3- بحار الأنوار: 36/67.

مزيفة، و تجعل من الآمال التافهة آمالا عظيمة في نظره.

و تكون نتيجة ذلك أنه «ينسي الآخرة»؛ حيث يظل دائما في شغل شاغل من هذه الأهداف التافهة، فيموت قلبه، و لا يبقى عنده وقت أو رغبة في الدعاء أو الإنابة أو التضرع(1).

إن العدو الأساسي هو عبارة عن العدو الكامن في باطن كل مسلم و مؤمن و هو الأخطر من بين جميع الأعداء، و هذا العدو معشعش فينا أيضا، إنه الأهواء النفسية و الأنانية و الجنوح نحو الإنحراف و الضلال و الانزلاق الذي يصطنعه الإنسان نفسه، و قد خاض النبي صلّى اللّه عليه و آله مع هذا العدو صراعا مريرا، غاية الأمر أن آلة الصراع مع هذا العدو لا تتمثل بالسيف، بل التربية و التزكية و التعليم و التحذير، فلما عاد المسلمون من الحرب قال لهم الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر و بقي عليهم الجهاد الأكبر. فتعجب المسلمون من قوله و سألوه: ما الجهاد الأكبر يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟! لقد خضنا غمار هذا الجهاد المرير، فهل من جهاد أكبر منه؟! قال: نعم، إنه جهاد النفس.

فإذا ما صرح القرآن الكريم: اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ (2) فذلك لا يعني أنهم منافقون، بل بعض المنافقين في عداد الذين في قلوبهم مرض، و لكن ليس كل اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ من المنافقين، فربما يكون المرء مؤمنا لكنه في قلبه مرض، فما ذا يعني هذا المرض؟ إنه يعني ضعف الأخلاق و الشخصية، و الشهوانية و الجنوح نحو مختلف الأهواء التي إن لم تبادر للحد منها و مقارعتها فإنها ستأتي على الإيمان من الداخل و ستؤدي بالتالي إلى خوائك داخليا، و إذا ما استلب الإيمان منك و خلا باطنك و ظل الإيمان ملاصقا لظاهرك إذ ذاك ستدخل ضمن الذين يطلق عليهم

ص: 327


1- من كلمة ألقاها في: 5 رمضان 1421 ه - طهران.
2- سورة المائدة: 52.

اسم "المنافق".

فلو خلت قلوبنا أنا و أنتم من الإيمان و بقي ظاهرنا متلبسا بالإيمان، و قطعنا أواصر الإيمان و علائقه، بيد أن ألسنتنا ظلت تلهج بالتعابير الإيمانية، فهذا هو النفاق و هو من الخطورة بمكان؛ و القرآن الكريم يصرح بقوله: ثُمَّ كٰانَ عٰاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَسٰاؤُا اَلسُّواىٰ أَنْ كَذَّبُوا بِآيٰاتِ اَللّٰهِ (1)، و ذاك هو السوء المبين، ألا و هو التكذيب بآيات اللّه. و يقول في موضع آخر: فَأَعْقَبَهُمْ نِفٰاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمٰا أَخْلَفُوا اَللّٰهَ مٰا وَعَدُوهُ (2).

و هذا هو مكمن الخطر الذي يتهدد المجتمع الإسلامي، و حيثما شاهدتم في التاريخ إنحرافا في المجتمع الإسلامي فإنه يمثل منطلق هذا الإنحراف.

ربما يشنّ العدو الخارجي هجومه و يدمر و يخرب لكنه لا قدرة له على الإفناء، و ذلك لبقاء الإيمان الذي قد ينهض و تخضر أغصانه من جديد، غير أن جيوش العدو الداخلي إن هجمت على الإنسان و أفرغت باطنه إذ ذاك سيطال الإنحراف سبيله، و حينما وجد الإنحراف فإن منشأه هو «هوى النفس»، و لقد تصدى النبي صلّى اللّه عليه و آله لهذا العدو أيضا(3).

ص: 328


1- سورة الروم: 10.
2- سورة التوبة: 77.
3- من كلمة ألقاها في:: 24 صفر 1422 ه - طهران.
الشحّ المطاع و الهوى المتبع

من مواعظ النّبي صلّى اللّه عليه و آله: «إنّما أخاف على أمّتي ثلاثا: شحّا مطاعا، و هوى متّبعا، و إماما ضلالا»(1)

الشحّ هو حالة مركّبة من الحرص و البخل، لأنّ مجرد الحرص على زخارف الدنيا حالة موجودة في الإنسان و إذا لم يقم بأي عمل أو تحرك طبقا لها فهي ليست بذات أهمية، و إنما خطرها فيما إذا صار الشحّ مطاعا أي صار الإنسان يسعى و يكافح لأجل تحصيل الأعراض الدنيوية.

و الهوى المتّبع هو الشهوة النفسانية التي يأتمر بأوامرها و ينقاد لها.

و النسبة بين الشحّ المطاع و الهوى المتّبع هي نسبة العموم و الخصوص من وجه.

و إمام الضلال هو الذي يحرّك المجتمع على خلاف الحق و يسير به نحو الإنحراف و الضلال، و هذا الضلال أصله و جذره من الشحّ و هوى النّفس، و بمراجعة التاريخ يعلم بوضوح أن إنحراف خلفاء بني أميّة و بني العبّاس ابتدأ حينما تحرّكوا و ساروا وراء إرضاء و إشباع غرائزهم الشهوانيّة و أهوائهم النفسانيّة.

و لأجل ذلك كان تمام سعي و كفاح الأنبياء و الأولياء «صلوات اللّه عليهم» منصبّا على مجاهدة و محاربة هذين العنصرين أي الهوى و الشحّ (2).

ص: 329


1- تحف العقول، صفحة: 58.
2- كلمات مضيئة: 105.
الأهواء النفسية سبب كل المآسي

كل مآسي الإنسان تعزى إلى انقياده لأهوائه النفسية؛ و كل ألوان الظلم و التعسف و الغدر و الجور، و كل الحروب الظالمة و الحكومات الفاسدة و خضوع الشعوب للظلم يعود سببها إلى اتباع نوازع النفس و أمانيها. أما إذا اكتسب المرء مقدرة التفوّق على تلك النوازع فإنّه يكون قد أحرز لنفسه الفلاح. و شهر رمضان شهر العبادة يغرس هذه المقدرة في النفوس. و قد جعل اللّه للمسلمين عيدا من أجل أن يحسب الإنسان ما له و ما عليه، و لكي يحتفظ لنفسه بما وهب له اللّه في أوقات ضيافته، و لأجل أن يقوّي صلته بالله.

احتفظوا بحالة التضرع و التوجّه إلى اللّه و الارتباط به على مدار السنة بقلوبكم النيّرة؛ فإنما ينال الإنسان الدنيا و الآخرة بواسطة هذا الصفاء الروحي، و الدنيا التي تسعد الإنسان لا تنال إلاّ عن هذا الطريق(1).

ص: 330


1- من كلمة ألقاها في: 1 /شوال/ 1420 ه - طهران.
الأهواء الشيطانية

هذه المعاناة التي يقاسيها عالمنا المعاصر إنما هي ناجمة عن الإجحاف و التمييز الناجمين بدورهما عن استحواذ الأهواء الشيطانية على ذوي الثروة و القوة من البشر، و كذلك عن الإبتعاد عن اللّه سبحانه؛ فالنوازع الشيطانية إنما تتمكن من إتخاذ البشر ألعوبة لها حينما يبتعدون عن اللّه.

و اليوم فإن بلسم الآلام المزمنة التي يقاسيها العالم و الجراح التي تئنّ منها البشرية إنما يكمن في الأوبة إلى اللّه قال اللّه تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اَللّٰهِ (1)؛ فعلى البشرية العودة إلى اللّه و أن تعيش حالة وفاق معه و مع الإيمان و المعنويات، فهذه عاقبة ما اقترفه الذين عمدوا لإبعاد البشر عن المعنويات و الإيمان و عن التوجه إلى اللّه؛ و البشرية إذ تتعرض لأحداث يوم هنا و يوم هناك، فما عليها إلاّ الرجوع إلى اللّه و المعنويات.

فعلاج الآلام التي تئنّ منها هو التوجه إلى اللّه و العودة إلى الإيمان، و هذا فراغ تتحسسه الضمائر الطاهرة على امتداد المعمورة.

و الغرباء عن النظام العالمي المادي هم وحدهم الذين تتكالب عليهم الضغوط، و البشرية في كافة بقاع الدنيا تشعر بحاجتها إلى التوجه إلى اللّه سبحانه، و أينما خفق بيرق التوجه إلى اللّه فإنه سيستقطب الأفئدة نحوه، و على من يؤمنون بالله و يعرفون قدر إيمانهم به أن يضاعفوا اهتمامهم بهذا الأمر يوما بعد يوم(2).

ص: 331


1- سورة الذاريات: 50.
2- من كلمة ألقاها في: 28 جمادى الثانية 1422 ه - طهران.
خطر الأهواء النفسية

إن الأهواء النفسية هي الطريق التي تؤدي بالإنسان الى ارتكاب المعاصي، و لا يذهبنّ بكم التصوّر الى أنّ ما تشتهية الانفس و الذنوب متلازمان و لا يمكن انفكاكهما عن بعضهما، إذ يدخل بعض ما تشتهيه النفس في الحلال، إلاّ أنّ إلقاء حبل النفس على الغارب و تركها أسيرة لمشتهياتها هو الذي عبّر عنه أمير المؤمنين عليه السّلام بقوله في نهج البلاغة: (حمل عليها أهلها)(1)، فكما يحمل الإنسان على الصعبة التي تقتحم به في المهاوي، فإن أهواء النفس تقود الإنسان نحو الذنوب.

و هذا المعنى هو الذي ترمي اليه الآية الشريفة التي تقول: إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ اَلْيَتٰامىٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً (2). فإن اللذة الظاهرية التي تبدو في هذه الحياة الدنيا من أكل مال اليتيم، تتجسد على حقيقتها عذابا في الحياة الحقيقية حيث ترتفع الحجب على الإنسان و تمتثل الحقائق أمامه: هُنٰالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مٰا أَسْلَفَتْ (3).(4).

ص: 332


1- نهج البلاغة: 48/1.
2- سورة النساء: 10.
3- سورة يونس: 30.
4- من كلمة ألقاها في: 121383/8/6 /رمضان/ 1425 طهران.
التخلي عن الأهواء باللجوء الى اللّه

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «السابقون الى ظل العرش طوبى لهم»(1) و ذلك لأن العرش الإلهي هو أمر معنوي و يمثل الحد الأعلى من عظمة الذات الربوبية المقدسة، و معنى السبق الى العرش هو لجوء العبد الى مولاه في أعلى درجة ممكنة، و إنّ أرقى شيء يمكن إفتراضه للعبد هو لجوئه الى ظل عرش اللّه سبحانه و تعالى.

ثم يسأل النبي صلّى اللّه عليه و آله: يا رسول اللّه، و من هم؟ فيقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «الذين يقبلون الحق إذا سمعوه» أي أنّ السابقين الى العرش يتصفون بعدة صفات: الأول: هو قبولهم للحق.

و الثاني: «و يبذلونه إذا سئلوه» أي أنهم إذا سئلوا عن الحق فإنهم يقومون بتبيانه من دون خوف أو تحفظ، و يكفي لو تطبق هاتان الجملتان في عالم اليوم الذي يغرق في الفساد - و الذي توجد فيه من دون شك أذهان و قلوب و ضمائر و عقول حية و واعية - و هؤلاء يستطيعون فهم الحق و الحقيقة و يعرفون ما هو الحق.

الحق هو الشيء الذي يقوم عليه أساس الخلق مٰا خَلَقْنٰاهُمٰا إِلاّٰ بِالْحَقِّ (2) الحق هو ذلك الشيء الذي يجب أن يكون، و هو ذلك الشيء الذي كان جهاد كل المجاهدين العظماء في التاريخ من أجل الوصول إليه. و الحق هو الشيء الذي لو عرف و اتبع و تحقق لما بقي أي إنحراف و لا أي إعوجاج في العالم، إذن فالحق أمر في غاية الأهمية، فبمقدار ما يتحقق الحق تزول الإنحرافات، فهل هذا شيء قليل؟

ص: 333


1- مستدرك الوسائل: 308/11 ح 13118.
2- سورة الدخان: 39.

و لو أنّ أصحاب الفهم الذين يعيشون في عالم اليوم - الغارق في الفساد - يعرفون و يتقبلون الحق بأكمله أو شطرا منه أو حتى كلمة واحدة منه و يبيّنونها للذين هم بحاجة إليها، فسترون أية واقعة ستقع و أي تغيير عظيم سيحدث في العالم و في حياة البشرية.

إن مشاكلنا اليوم ناشئة من أن الأهواء النفسية و القيود البشرية و الأغلال التي في أعناق البشر، هي التي أثقلت كواهلهم وَ اَلْأَغْلاٰلَ اَلَّتِي كٰانَتْ عَلَيْهِمْ (1) و لا تسمح لهم بمعرفة الحق و تقبّله - في حال معرفة الحق - و تبيانه للذين هم بحاجة إليه، و هذا هو موضع الخل. فإذا تحقق هذا الأمر (تقبّل الحق و تبيانه) فسترون أي تغيير سيحدث.

إذن فمن المناسب حقا القول (السابقون الى ظل العرش طوبى لهم). و هذا عمل شاق جدا، طبعا إن للحق في المقياس العالمي عددا ممّن يعرفوه، و ممّن ينشرون، و ممّن يمنعون و ممّن يبخلون به، و ممّن يرفضونه، و ممّن يكفرون به، و ممّن يخفونه(2).

ص: 334


1- سورة الأعراف: 157.
2- من كلمة ألقاها في 1415/4/4 ه.

الغضب و السخط

تعريف الغضب

من جملة الأمور المهمة التي ينبغي طرحها على خاصة على جيل الشباب، هي حثّهم على التفكير و التعقل و التحلّي بالخلق القويم و الحلم و الابتعاد عن الغضب و التسرع في الأمور، و اجتناب الفظاظة و العنف، فانّما يتيسّر في الأجواء الإسلامية غرس الحقائق في النفوس حينما يتوفر اللسان اللين و التفكير العقلاني و الحلم و التأني، بين الناس.

الحلم يعني بالتعبير العام سعة الصدر، و عدم الوقوع في حالة الهيجان و الإنفعال في مختلف المواقف، و عدم الانسياق وراء الغضب إلاّ في المواقف التي تقتضي ذلك فيغضب كل إنسان عاقل في أوقات الحرب و حين مجابهة العدو. أما في الحياة اليومية، فإن الأساس في طبيعة الحياة الإجتماعية يستلزم التأمل و التدبّر و التفكير و الحلم و سعة الصدر، و تمحيص كل أوجه الأمور، و مجابهة القضايا بانصاف و تعقل، و عدم التسرّع في إصدار الأحكام.

علّموا الشباب هذه الأمور و حثّوهم عليها و أنشئوهم نشأة إسلامية. و هذه الأمور كلها واجبة(1).

ص: 335


1- من كلمة ألقاها في: 24 ذي الحجة 1418 ه ق - طهران.

قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله: «و قال له رجل أوصني، فقال صلّى اللّه عليه و آله: لا تغضب، ثم أعاد عليه، فقال:

لا تغضب، ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله: ليس الشديد بالصّرعة إنّما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب»(1).

ليس المراد بالغضب الحالة العصبية القهرية الخارجة عن اختيار الإنسان، و إنما المراد منه الحالة العصبية الإرادية بمعنى أن لا يعمل عصبيّته و لا يفسح المجال لغضبه.

ثم يبيّن المراد من الشخص الشديد و أنّه ليس ذلك الإنسان القوي الذي يقهر الآخرين و يطرحهم أرضا في مقام القتال و النزال معهم، بل المراد من الشديد هو الذي يملك نفسه و يكفّ غضبه عن الآخرين.

كما أنه ليس المراد من الغضب و الحالة العصبيّة خصوص الغضب الذي يزول بسرعة، بل يشمل أيضا ما إذا كان غاضبا من شخص و يقوم بملاحقته في مختلف أنحاء و ميادين حياته لينتقم منه حينما تسنح له الفرصة بذلك.

و الخلاصة أنّ الغضب و الشدة يتركان أثرا كبيرا في مختلف أنحاء الحياة.(2)

بين الغضب و السخط

جاء في وصية الرسول الأعظم لأمير المؤمنين (عليهما السّلام) أنّه قال: «يا علي، إنّ من اليقين أن لا ترضي أحدا بسخط اللّه و لا تحمد أحدا بما آتاك اللّه، و لا تذم أحدا على ما لم يؤتك اللّه، فإن الرزق لا يجرّه حرص حريص، و لا تصرفه كراهة كاره.

إنّ اللّه بحكمه و فضله جعل الروح و الفرح في اليقين و الرضاء، و جعل الهمّ و الحزن

ص: 336


1- تحف العقول، صفحة: 47.
2- كلمات مضيئة: 172.

في الشك و السخط»(1).

السخط هنا بمعنى الغضب من جميع الحوادث، فإذا أعطاه اللّه غضب لأن اللّه لم يعطه أكثر من ذلك، و إذا أصابه أذى غضب و سخط للذي أصابه، فإذا أراد المرء بلوغ الروح و الفرح عليه أن يبحث عن الرضا و اليقين، فإذا كان في هذه الدنيا خير و منفعة فهو من نصيب الزاهد القانع(2).

أثر الغضب

و من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «الغضب ممحقة لقلب الحكيم، و من لم يملك غضبه لم يملك عقله»(3).

الإنسان الحكيم الذي يأتي بأعماله عن حكمة و فكر و تأمّل، إذا غضب انهدم عنه بناء الحكمة.

و كل إنسان لا يكون زمام غضبه بيده فإنّ زمام سفينة عقله لا يكون تحت إرادته و اختياره.

و النتيجة هي أن الغضب بلاء صعب و شاق للإنسان، لأنّه حين اشتعال غضبه تتهدّم و تعدم كل القيم الإنسانية الموجودة فيه كالحكمة و العقل(4).

ص: 337


1- بحار الأنوار: 61/74 ح 4.
2- من كلمة ألقاها في: 8 جمادي الثانية 0241 ه - طهران.
3- تحف العقول، صفحة: 371.
4- كلمات مضيئة: 173.
الغضب الممدوح

من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من غضب عليك من إخوانك ثلاث مرّات فلم يقل فيك مكروها فأعدّه لنفسك»(1).

الإنسان بحسب طبيعته لديه نقاط ضعف، و إحدى نقاط الضعف عنده هي الغضب، و نقطة أخرى أيضا هي السرور و الفرح، و كذلك التعلّق بالمقام و المنصب و المال و الثروة و... إلخ.

و الإنسان أمام نقاط الضعف هذه يقع في الزلاّت و الأخطاء.

إلاّ أن المناط و الملاك لشخصية الإنسان الحقيقية و الواقعية هي أن لا يخسر نفسه عند مواجهته و احتكاكه بهذه المسائل.

ففي الأمور العادية الطبيعية يكون باطن الإنسان مغطى و مستورا، و لكن عند ما يغضب أو يصل إلى المقام و المنصب أو يحصل على المال و الثروة فعندئذ ينكشف باطنه علانية.

و عليه فإذا حدث في بعض الموارد أنّك أغضبت أحد إخوانك المؤمنين مرّات عديدة - على الأقل ثلاث مرّات - و مع ذلك لم يقل بحقك كلاما سيئا أو خشنا، فعليك أن تعرف قدره و تحتفظ به لنفسك(2).

ص: 338


1- تحف العقول، صفحة: 368.
2- كلمات مضيئة: 173.

الشيطان

ماهيّة الشيطان

عن أمير المؤمنين علي عليه السّلام قال: قيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ما الذي يباعد الشيطان منّا»، أي ما هي الأمور التي تبعد الشيطان عنّا؟

بالطبع أنتم تعرفون أنّ الشيطان هو أعم من إبليس، الشيطان هو القوى التي تخلق الشر و الفساد و الإنحراف و التي تقوم بحرف الإنسان بصور و قوالب مختلفة، فتارة تظهر بصورة إنسان، و تارة بصورة غير إنسان و أحيانا تتمثل في الأهواء النفسية و مرة يكون إبليسا.

و الأبالسة هم طائفة من الشياطين الذين وردت قصتهم في القرآن الكريم كما في قصة آدم، و هؤلاء طائفة كبيرة من الشياطين و لكنهم ليسوا وحدهم، هؤلاء شياطين الجن، و هناك شياطين الإنس الذين يكونون أكثر خطرا في بعض الأحيان(1).

إنّ الشيطان - في القرآن - يعبّر عن قوى الشر و الفساد و الانحطاط و هو الذي يقف في الصف المعادي للأنبياء. وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيٰاطِينَ اَلْإِنْسِ وَ اَلْجِنِّ (2).

و في القرآن برمته فإن اسم و صفات الشيطان متكررة و طوال فترة نزول الوحي قد

ص: 339


1- من كلمة ألقاها في 1415/4/4 ه.
2- سورة الأنعام: 112.

تمت الإشارة إليه، و هذا يعني أنّ التطرق للعدو و مواصفاته يجب ألاّ تتغافل عنه المجتمعات الإسلامية إطلاقا.

إنّ اجتناب الشيطان و الطاغوت يستلزم تطهير القلب، فالقرآن الكريم ينقل صورة لنقاش الشيطان و أتباعه، فيقول تعالى حكاية عنه: وَ قٰالَ اَلشَّيْطٰانُ لَمّٰا قُضِيَ اَلْأَمْرُ إِنَّ اَللّٰهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ اَلْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ مٰا كٰانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطٰانٍ إِلاّٰ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاٰ تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ مٰا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ مٰا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمٰا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ اَلظّٰالِمِينَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ (1).

و قد ورد في الصحيفة السجّاديّة: «فتل عنّي عذار غدره و تلقّاني بكلمة كفره»(2).(3).

و هناك أمر عام في باب (القيم و اللاّقيم)، فهناك محرّم ديني و محرّم وطني و محرّم إنساني و بشري. و في الشريعة الإسلاميّة المقدّسة و الثقافة القرآنيّة، فإن مظهر جميع الشرور و القبائح و حسب تعبير القرآن هو الشيطان، فكلّ ما نسب إلى الشيطان في القرآن فهو قبيح و سيّى، فالفساد للشيطان و كذا الكبر و الكسل و الفتنة و الظلم و محاربة العمل الصالح و الصالحين، فالشيطان في منطق الأديان و بالخصوص الدين الإسلامي عنوان عام يشمل جميع الشرور و القبائح و اللاّقيم(4).

ص: 340


1- سورة إبراهيم: 22.
2- المصباح: 56.
3- من كلمة ألقاها في: 3 ذي الحجة 1418 ه
4- من كلمة ألقاها في 21 شوّال 1415 ه
ما يبعد عن الشيطان

إذن ما هي الأمور التي تبعد الشيطان عنّا؟

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «الصوم لله يسوّد وجهه(1).

لأن الصوم يقمع الغرائز الجسدية المضّللة و يمنعها من الطغيان.

«و الصدقة تكسر ظهره» لأن الصدقة هي إيثار من الإنسان فيما يملك «و الحب في اللّه تعالى و المواظبة على العمل الصالح يقطع دابره».

و هاتان الخصلتان هما أهم من تلك التي سبقتهما و إحدى هاتين الخصلتين هي الحب في اللّه تعالى و التي تعني توجيه العواطف و لا سيما عاطفة الحب وجهة إلهية.

فإذا كنتم تحبون أحدا فليكن ذلك الحب لله لا للدنيا.

و الرويات الواردة في مسألة «الحب و البغض في اللّه» هي روايات كثيرة و مفصلة، و في كتاب الكافي يوجد باب في هذا الموضوع كما توجد روايات كثيرة في كتب الحديث الاخرى(2).

الخصلة الثانية هي «المواظبة على العمل الصالح» فليس المهم أن تقوموا بالعمل الصالح مرة واحدة لأن الجميع يفعل ذلك، بل المهم أن يواظب الإنسان على العمل الصالح أي يواصل و يستمر على القيام بذلك العمل، و كما نقرأ في دعاء كميل (و الدوام في الاتصال بخدمتك)، فعلى الإنسان أن يكون متصلا بخدمة الباري على الدوام، و هذا الاستمرار و التداوم هو شيء له أهمية كبيرة جدا.

ص: 341


1- مستدرك الوسائل: 497/7 ح 8736.
2- انظر الكافي: 126/2 باب الحب في اللّه تعالى.

و إذا قام الإنسان بهذين الأمرين - الذين يمثل أحدهما الجانب العاطفي و يمثل الآخر الجانب العملي - فسوف يقطع دابر الشيطان، أي أنه سيتم القضاء على الأهواء النفسية من الجذور.

«و الاستغفار يقطع و تينه». فمن جملة الأمور التي تقضي على الشيطان هو الاستغفار و طلب المغفرة من الباري عزّ و جلّ و الذي تكرر في مواضع عديدة من القرآن الكريم.

و للاستغفار ثمرة و نتيجة أينما كان، و قد ذكرت في الآيات و الروايات آثار الاستغفار أيضا.(1).

تجسد الشيطان

إن أكبر مساعي الشيطان اليوم تتجسد في جبهة الإستكبار السياسية، و تصب هذه المساعي لاحباط عزائم المسلمين و زرع اليأس في نفوسهم حول المستقبل، و العمل كي يتجاهلوا تراثهم و ثقافتهم الأصيلة الغنية.

إن أي ظاهرة تعيد الأمل في نفوس المسلمين في العالم و تجعلهم يفكرون ببناء المستقبل على اسس إسلامية هي منبوذة و مكروهة بشدة في أعين الإستكبار(2).

كيفية غواية الشيطان

قال أبو عبد اللّه الحسين (عليه الصلاة و السّلام): «اللهم إنك تعلم أنّ الذي كان منّا لم يكن منافسة في سلطان و لا التماس شيء من الحطام، و لكن لنري المعالم من

ص: 342


1- من كلمة ألقاها في 1415/4/4 ه.
2- من كلمة ألقاها في: 3 ذي الحجة 1418 ه

دينك»(1).

إنّ للمعالم أهميتها، إذ أنّ الشيطان كثيرا ما يستخدم أساليب التحريف و الدلالة على السبيل الأعوج لإضلال الجماعة المتديّنة، فإذا استطاع هذا الشيطان أن يأمر الناس بالتخلّي عن دينهم، فعل و سلبهم الإيمان عبر أساليب الاغواء و الإعلام المسموم، و إذا لم يتيّسر له ذلك نصب لهم معالم و دلالات مضللة؛ مثلما يسير الإنسان في الطريق و يستدل بالعلامات و الإشارات الموجودة على جانبيه للاهتداء إلى السبيل السالك القويم، و لكن تأتي يد خائنة و تحرف تلك الإشارات و المعالم إلى غير سواء السبيل(2).

إن اجتناب الشيطان و الطاغوت مستلزم لتطهير القلب من الشهوات و الأهواء المذلّة و الاستعانة بقوّة الصبر و الإرادة و الاستمداد ممّا في الامّة الإسلاميّة من قوّة عظيمة، و يتحصّل ذلك من الحركة الجماعيّة، و من انسجام الخطى و القلوب و الألسن في الطواف و السعي و الوقوف في عرفات و المشعر و المبيت في منى، و استهداف الشيطان بالجمرات بشكل جماعي برميه من كل حدب و صوب و إعلان البراءة العامة منه.. و يؤدي في النهاية إلى تشابك أيدي المسلمين و قلوبهم و عزمهم من كل أجزاء الامّة الإسلامية و إلى الاحساس بالقدرة و الأمن.(3)

فإنكم تعرفون ما الذي حصل في معركة أحد، فلقد تحقق النصر، و من ثم تحول هذا النصر الى هزيمة و خسارة، لأن مجموعة لم يستطيعوا ضبط أنفسهم. قال تعالى في كتابه المجيد: إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعٰانِ إِنَّمَا اِسْتَزَلَّهُمُ اَلشَّيْطٰانُ بِبَعْضِ مٰا كَسَبُوا (4).(5).

ص: 343


1- نهج البلاغة: 13/2 ح 131.
2- من كلمة ألقاها في: 25 ذي الحجة 1419 ه - طهران.
3- من كلمة ألقاها في: 6 ذي القعدة 1415 ه
4- سورة آل عمران: 155.
5- من كلمة ألقاها في 1424/6/7 ه - طهران.

و سبب هذا الانكسار و التقهقر هو (بِبَعْضِ مٰا كَسَبُوا) أي بسبب بعض المعاصي التي فعلوها في الماضي؛ فإنّ التعلّق بالشهوات و الأهواء النفسية تبرز آثارها في مثل هذه المواطن؛ أو في آية شريفة أخرى عند ما يقال لهم أنفقوا، فيتخلفون عن الإنفاق تكون نتيجتهم فَأَعْقَبَهُمْ نِفٰاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمٰا أَخْلَفُوا اَللّٰهَ مٰا وَعَدُوهُ (1).

فعند ما يقطع الإنسان على نفسه عهدا بينه و بين اللّه تعالى، ثم يتخلّف عن ما وعد اللّه فيه؛ سوف يستحوذ النفاق على قلبه(2).

فالذين لم يستطيعوا السيطرة على أنفسهم و زلّت أقدامهم في معركة أحد، إنما ورطهم الشيطان بهذا الإبتلاء بسبب الأعمال التي ارتكبوها - أو كما يقال - بسبب ما ملأوا مائدتهم من خبز، فبأنفسهم خلقوا المشاكل لهم، و هذه هي نتيجة عدم السيطرة على النفس، فعلينا بضبط أنفسنا، و نحن في المسؤوليات التي نتبوأها يتعين علينا أن لا نتعلق باللذائذ و الشهوات و جمع الثروة، فمرحلتنا مرحلة عظيمة و إحدى المقاطع الحساسة جدا و البارزة في التاريخ، و اعلموا أننا جميعا سنتعرض لمجهر حكم الأمة على مدى مئات السنين المقبلة، فإنهم سيحكمون على أعمالنا و أفعالنا، فإذا ما أخطأنا و أنزلقنا و تعلقنا باللذة و الدعة و الشهوة الدنيوية - و هذا سينتهي بضريبة باهظة بالنسبة للثورة - سيسجل ذلك في سجلنا على امتداد التاريخ، و معلوم كما قلناكم هو صعب أمام اللّه سبحانه و تعالى(3).

و بناء على ذلك، فإننا إذا لم نلتفت إلى أنفسنا و اتبعنا الشهوات و هوى النفس، نكون بذلك قد غلّبنا هوى نفوسنا على إيماننا و عقلنا، و سوف نقع في الانحراف

ص: 344


1- سورة التوبة: 77.
2- من كلمة ألقاها في: 1384/7/17 ه ش الموافق 14 رمضان المبارك 1426 ه الموافق 005/10/9 م طهران.
3- من كلمة ألقاها في 1424/6/7 ه - طهران.

الذي كنّا نخشى الوقوع فيه؛ و بناء على ذلك لا بد للإنسان أن يكون دائم التصور لإمكانية السقوط في الانحراف، فلا يعتقدنّ أحد أنّه بعيد عن خطر الوقوع في الانحراف؛ هذه المسألة الأولى، و أحد الأمثلة عليها هي قصة (بلعم بن باعورا) المعروفة حيث وصل الى درجة إتيان الآيات قال عزّ من قائل: وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اَلَّذِي آتَيْنٰاهُ آيٰاتِنٰا فَانْسَلَخَ مِنْهٰا (1).(2).

حب الإطراء أفضل فرص الشيطان

لا بدّ للإنسان المؤمن أن يبتعد عن حب الإطراء و يحذر من التعلق بما يمدحك به الآخرون ففي الحديث الشريف: «فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين»(3) أي أن حب الإنسان للإطراء، هو من أفضل فرص الشيطان التي يستفاد منها؛ حيث يسلب الأعمال الحسنة و الجميلة و الفضائل الروحية و المعنوية من حياة الإنسان(4).

تطهير القلب من الشيطان

القلب الغافل هو الذي يقع عرضة لغارات الشيطان، و إنما يعم الشرّ و الفساد الدنيا متى ما استحوذ الشيطان على قلب الإنسان و روحه؛ و الارتباط بالله و تحصين الفؤاد و الروح من تسلّل الشيطان و غلبته هو سبيل العلاج الناجع و الحقيقي لردع كل فساد

ص: 345


1- سورة الأعراف: 175.
2- من كلمة ألقاها في: 1384/7/17 ه ش الموافق 14 رمضان المبارك 1426 ه الموافق 005/10/9 م طهران.
3- نهج البلاغة: 108/3 ح 53.
4- من كلمة ألقاها في: 1384/7/17 ه ش الموافق 14 رمضان المبارك 1426 ه الموافق 005/10/9 م طهران.

و شرّ في العالم، و لو لم يتسلط الشيطان على قلوب من لهم عظيم التأثير على المجتمعات البشرية لتنعمت الدنيا بالطمأنينة و رفلت البشرية بالأمن و السلامة؛ فكل مصائب البشرية إنما هي ناجمة عن الابتعاد عن اللّه.

لذا فقد حدد الإسلام فرصا يتسنى من خلالها إقامة ارتباط متميز بالله سبحانه و تعالى؛ و من هذه الفرص شهر رجب، فاعرفوا قدره، إذ أن ما ورد فيه من أدعية تمثل بمجملها درسا، و هي ليست مجرد ألفاظ ترددها الألسن، فلتجر على ألسنتكم و قلوبكم مع حضور قلب و وعي لمغزاها العميق.

و لو وثّق المرء المسلم - شابا أو شيخا، رجلا أم امرأة - علاقته بالله تعالى في شهر رجب و من ثم في شهر شعبان، فإنه سيكون - في النهاية - مهيّأ للضيافة الإلهية في شهر رمضان؛ فعلى الإنسان أن يستعدّ ثم يحلّ ضيفا.

على الإنسان أن يقوم بعملية تطهير خلال شهري رجب و شعبان كي يسعه الجلوس على المائدة الإلهية في شهر رمضان و التنعم بها و الاستزادة منها، و إذا ما انتهلنا من شهر رمضان إذ ذاك ستغدو أعمالنا و أخلاقنا و نظرتنا و أفكارنا دليلا على أننا قد حققنا تقدما ملحوظا؛ و نكون نحن بأنفسنا محكّا لها و نميز التقدم الذي حققناه؛ لكننا نتقاعس عن القيام بعمليات الإمتحان هذه فنلمس ما ينجم عنها من شقاء و بلاء في داخلنا و في أجواء المجتمع(1).

ص: 346


1- من كلمة ألقاها في: 8 رجب 1422 ه - طهران.

التكبر و الخيلاء

أثر التكبر

إن من بين الخصال المذمومة التي تعرض سلامة النفوس و راحة الحياة إلى الخطر هو التكبر الذي يعتبر من أذمّها.

فالخيلاء و الطغيان النابعان من هذه الخصلة يدفعان الإنسان إلى الإغماض عن الكثير من الحقائق و التخلي عن مدارج الفضيلة، و تقودان إلى زرع الأحقاد و العداوات الباطلة و إفراز الأمراض و الأعمال القبيحة في المجتمع.

نعم، التكبر حجاب أمام الحقيقة و عقبة أمام مدارج الفضيلة و عدو الصفاء و الصدق و الدافع إلى العداوات و الشرور.

و قد عانت المجتمعات البشرية طيلة مسيرتها الكثير من الأضرار الناجمة عن التكبر و الخيلاء و الطغيان و إفرازاتها(1).

خطر التكبر

من الممكن القول إن جوهر روح الدين هو تجاوز و تخلص الإنسان من نفسه و أهوائه و أغراضه، و المقصود من ذلك هو أن لا يجعل لها أي شأن مطلقا أمام إرادة

ص: 347


1- من كلمة ألقاها في: 31 جمادى الثانية 1421 ه - مدينة همدان.

اللّه و عظمته و أمره و نهيه، و الذي يصل لهذه الدرجة هو المتدين الحقيقي.

إن صلاة المرء و صدقاته و سائر عباداته لا قيمة لها إن كان يرى لنفسه شأنا و مقاما أمام اللّه تعالى، و إن كان في الظاهر يعد عابدا و زاهدا ذلك لأن المتقي حقا لا يتصف بذلك.

إن المتكبر لو قرأ القرآن و الأدعية فإن ذلك لن يؤثر فيه تأثيرا كاملا و لن تقربه من اللّه تعالى.

لا تغروا أنفسكم بأن لكم منصبا أو إمكانات أو مستوى علميا أو ميزة أو أفضلية معينة...

عند محاسبة النفس يجب أن لا يرى الإنسان نفسه فوق الآخرين، و إذا صلينا أو بكينا أو تصدقنا و عملنا في طريق الإسلام فإن ذلك لا يعطينا الأفضلية على هذه المجموعة أو تلك.

إنّ حسن الأفضلية مضر للغاية نعم هو لا يمنع من رؤية المرء نفسه أعلى من أعدائه أعداء اللّه تعالى.

إذا كان الدافع من العمل و العبادة هو اللّه و ولايته فيجب أن يتواضع الإنسان أمام أولياء اللّه و أمام المؤمنين و إلاّ فالتكبر سيؤدي به نحو الهاوية، و القصص كثيرة حول المتكبرين في العالم...

أين نحن من عظمة الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام و ما هي قيمتنا مقابل الصالحين و كبار رجال التاريخ.

هؤلاء العظماء قد تنازلوا عن النفس في سبيل اللّه و ذابوا في الأنوار و المحبة الإلهية.

ما هي قيمتنا نحن الذين غرقنا في الدنيا و ملذاتها و إنيتنا و أوهامنا، أئمتنا يستغفرون ربهم و يتألمون من الذنوب فأين نحن؟ و ذنوبهم ليست من قبيل الغيبة و الكذب، فهم معصومون إن أقل غفلة هي ذنب عندهم، عليه يبكون و الى اللّه

ص: 348

يلتجئون و ينيبون.

فما هي قيمتنا أمام هؤلاء يجب أن لا نرى أنفسنا أكثر من تراب تحت أقدامهم.(1)

علاج التكبر

إن العبادات الإسلامية و على رأسها الصلاة تعد العلاج الناجع لقلع هذه الآفة من روح الإنسان.

و الصلاة التي تقام بحضور قلبي و بآدابها ترشد روح الإنسان إلى حاجاته الذاتية و تطهره عن الكبر و التفاخر و الخيلاء الموهوم.

و الخشوع في مقابل البارئ عزّ و جلّ يشعّ على القلوب نور البصيرة و يطهّرها من دنس الكبر و الخيلاء و في الحديث الشريف: «فرض اللّه الإيمان تطهيرا من الشرك و الصلاة تنزيها عن الكبر»(2).

و ما أحلى أن نصغي إلى كلام أمير المؤمنين عليه السّلام، و نسمع منه مدحه و ثناءه للصلاة، فقد ورد عنه عليه السّلام في نهج البلاغة: «و عن ذلك ما حرس اللّه عباده المؤمنين بالصلوات و الزكوات و مجاهدة الصيام في الأيام المفروضات، تسكينا لأطرافهم و تخشيعا لأبصارهم و تذليلا لنفوسهم و تخفيضا لقلوبهم و إذهابا للخيلاء عنهم»(3).

في بلدنا الإسلامي نحتاج نحن جميعا لا سيما الوجهاء على الصعيد العلمي و الإجتماعي و المالي إلى هذه الخصوصيات.

إن الطغيان و الاعتداء و الغطرسة و الجشع و تحقير الآخرين و تجاهل الحقوق تعد

ص: 349


1- بتصرف عن كتيّب «المواعظ الحسنة» نشر مركز بقية اللّه الأعظم.
2- نهج البلاغة: 55/4 ح 252.
3- نهج البلاغة: 149/2.

اليوم من أكبر آفات المجتمعات البشرية و المجتمع الدولي، و إن علاج ذلك جميعا يكمن في هذا البيان العلوي السامي.

إن الاهتمام بهذه الحقائق يكشف لأهل البصيرة و الانصاف الدور البارز للصلاة و الدعاء، و يحمّل الواعين في المجتمع مسؤولية الاهتمام بنشر و تعريف هذه الفريضة المليئة بالرموز و الأسرار.

إنني أدعو الشريحة الشابة الطاهرة - في البلاد الإسلامية - إلى اغتنام فريضة الصلاة التي هي فرصة لتطهير الروح و تفجير المعنويات، و أذكّر المسؤولين الثقافيين و الإعلاميين و جميع مبلّغي الدين بأهمية نشر هذه الفريضة و دورها الفريد في تكريس الفضيلة و إزالة المفاسد.

و أعرب عن شكري الخالص لجميع العاملين في هذا الطريق و الحريصين على شأن الصلاة و الذين يسخّرون أقلامهم و ألسنتهم و حضورهم و يبذلون أموالهم و شرفهم لدعم إقامة الصلاة(1).

ص: 350


1- من كلمة ألقاها في: 31 جمادى الثانية 1421 ه - مدينة همدان.
الفرق بين التكبر و الإستكبار

إنّ لكلمة الإستكبار معنى واسعا.

في القرآن الكريم جاءت مشتقات كلمة الإستكبار، كما و استعمل القرآن نفس كلمة الإستكبار في عدة مواضع، و يبدو أنّ الإستكبار هو غير التكبّر، و ربّما أمكن القول: التكبر أكثر ما يشير إلى صفة قلبية و نفسية، أي أن يعتبر الإنسان نفسه أفضل من الآخرين.

أمّا كلمة الإستكبار فهي أكثر ما تعنى بالجانب العملي للتكبّر، أي أنّ من يتكبّر و يرى نفسه أفضل من الآخرين، ينظّم سلوكه مع الآخرين بشكل يجعل هذا التكبر واضحا و جليا في العمل؛ فيحتقر الآخرين و يهينهم، و يتدخّل في عملهم، و يبرز نفسه أمام الآخرين و كأنّه هو الذي يتّخذ القرارات.

و هذا هو معنى الإستكبار الذي جاء في الآية الشريفة التي تتحدث عن المستكبرين في قوله تعالى: فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ نَذِيرٌ مٰا زٰادَهُمْ إِلاّٰ نُفُوراً * اِسْتِكْبٰاراً فِي اَلْأَرْضِ وَ مَكْرَ اَلسَّيِّئِ (1) أي أنّهم استكبروا أمام النبي صلّى اللّه عليه و آله و كلام الحق، لم يقولوا نحن أفضل، بل أظهروا هذه الأرجحية و الأحقية - التي اعتقدوها أو اعتبروها لأنفسهم - في إطار العمل و في هذا الصراع الطويل و غير المتناهي لجبهة الكفر و العناد و الطغيان ضد رسالة الحق و المعنوية و النور و الهداية. هذا هو معنى الإستكبار.

قد يتخذ الإستكبار في كل زمن و لدى كل شعب معنى خاصا؛ فمعناه عندنا في أحداث الثورة و ما قبلها و بعدها و حتّى هذه الساعة، هو القوى السلطوية في العالم

ص: 351


1- سورة فاطر: 42-43.

التي كان لها دور جائر و متجبّر في قضايا هذا البلد و في مصير و شؤون هذا الشعب، كان هذا هو معنى الإستكبار بالنسبة لنا.

لو أردنا العثور على المستكبر من بين دول العالم، لما واجهنا أية صعوبة؛ إذ أنّ أمريكا - التي أطلق عليها الإمام (ره) اسم الشيطان الأكبر - أبدت تكبّرها أمام النداء الحق للشعب المسلم، فالإستكبار الذي تبلور في زماننا هو الإستكبار الأمريكي(1).

ص: 352


1- من كلمة ألقاها في: 17 جمادى الثانية 1417 ه

الحرص

معنى الحرص

كان فيما أوصى به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا عليه السّلام: «يا علي: أنهاك عن ثلاث خصال عظام: الحسد و الحرص و الكذب».(1)

هذا الكلام من جملة الوصايا التي أوصاها النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعلي عليه السّلام: و هو التحذير و النهي عن هذه الخصال الثلاثة السلبيّة و بالتدقيق يعلم أنّ جزءا مهمّا من التصادمات و التناقضات بين الناس منشؤه هذه الخصال الثلاثة، و هي:

1 - الحرص: و هذه الصفة أيضا موجبة لأن تكون الماديّات هي هدف الإنسان في حياته: فيسعى بلا هوادة و لا تقصير في ارتكاب المخالفات من أجل الوصول إليها، و تكون النتيجة هي إراقة ماء الوجه و الكرامة و ذهاب الفضائل و الميل عن جادّة الحق و الصواب. نظير الطفل الذي إذا انجذب لشيء فإنه يتحرك نحوه و لا يلاحظ و لا يلتفت لما في طريقه من أشياء فيدفع كوب الماء و يريقه و يرمي طبق الطعام و يقلبه(2).

ص: 353


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 121.
2- كلمات مضيئة: 51.

2 - الحسد، 3 - الكذب، و قد تقدم الكلام عنهما.

و قال النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله قال: «إياكم و الشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالكذب فكذبوا، و أمرهم بالظلم فظلموا، و أمرهم بالقطيعة فقطعوا».(1)

و هنا يحذّر النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله من الشح و يحثّ على الاجتناب و الابتعاد عنه.

و ذلك لأن الشح قد أهلك الأمم السابقة فإنهم لمّا صاروا أشحاء اتبعوا الشح في كل ما أمرهم به.

فلمّا أمرهم بالكذب كذبوا لأن الحرص على المال يوجب أحيانا الكذب فيتلوث المحيط الاجتماعي فضلا عن نفسه في مخالفة الواقع و الحقيقة و يذهب و يزول من بينهم الصدق و الصفاء و المودة.

و لمّا أمرهم بالظلم ظلموا، لأنه أحيانا يستدعي الظلم و التعدي و التجاوز على حقوق الآخرين من أجل الحرص و البخل.

و لمّا أمرهم بالقطيعة قطعوا، و القطيعة و إن كان الغالب استعمالها في قطع الرحم إلاّ أن الظاهر هنا أن معناها أعم من ذلك فتشمل قطيعة الرحم و قطيعة ما يلزم مراعاته و المواظبة و المحافظة عليه، كالعلاقة مع اللّه تعالى و الائمة عليهم السّلام و الصالحين من عباده يَقْطَعُونَ مٰا أَمَرَ اَللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ (2).(3)

ص: 354


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 234.
2- سورة البقرة: 27.
3- كلمات مضيئة: 105.

العجب

معنى العجب

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لحمران بن أعين: «و اعلم أنه لا ورع أنفع من تجنّب محارم اللّه و الكفّ عن أذى المؤمنين و اغتيابهم. و لا عيش أهنأ من حسن الخلق. و لا مال أنفع من القناعة باليسير المجزي. و لا جهل أضرّ من العجب»(1).

العجب: هو أن يرضى الإنسان عن نفسه أزيد من المقدار اللاّزم.

إنه أكثر ضررا من كل أنواع الجهل، لأن الإنسان يمكنه أن يدفع بعض أنواع الجهل من خلال الطرق و الوسائل المتعارفة و لكن العجب يمنع من رؤية الإنسان لعيوبه، و الذي لا يرى عيوبه و بالتالي لا يصلحها سوف يكون مصيره الوقوع في الهلاك(2).

أهمية العجب

على كلّ فئة أن تراجع نفسها في أوقات معيّنة و تنظر إليها، شريطة أن تكون النظرة إلى النفس من الخارج لا أن تكون من الداخل و هو ما يسمّى بالعجب، لأنّ النظرة من الخارج تكون باحثة عن مواطن الضعف نظرة ناقدة و ثاقبة.

ص: 355


1- تحف العقول، صفحة: 359.
2- كلمات مضيئة: 122.

لا بدّ من مراجعة النفس باستمرار. و هكذا على الفرد في بعض الأوقات أن يتحرّر من ذاته و يتخلّص من حصار النفس و العجب و الغرور، و أن يلقي نظرة على نفسه - و هذا أصعب من التحرّر من نطاق المجموعة - و كلّنا بحاجة إلى هذا التحرّر، فإن البشر مجبول على النقص.

علاج العجب

فمتى يمكننا التخلّص من النواقص؟ يمكننا ذلك فيما إذا رأيناها و تعرّفنا عليها و أقررنا بوجودها فينا، فإنّنا إذا اعتقدنا العصمة في أنفسنا و استولى علينا الغرور و تصوّرنا عدم النقص فينا، فمتى سنفكّر في علاج أنفسنا؟

و من هنا تشاهدون أنّ معلّمي الإنسانية الروحيين - أي الأنبياء و أئمة الهدى عليهم الصلاة و السّلام - كانوا دوما يمسكون المطرقة لينهالوا بها على رأس هذا الغول الذي ندعوه بالنفس، فالنفس هي ذلك البعد من انحطاط وجودنا الذي يملي علينا الشهوات و يغرينا بها و يسوقنا نحوها، و ينشأ عنه ضعفنا و نواقصنا، فينبغي أن نراقب أنفسنا حتّى نشاهد نقاط الضعف فيها.

تدبّروا كيف يواجه الإمام السجّاد عليه السّلام - و هو قطب النور و معدن المعنويات و الكمال و زين جميع العباد - نفسه في أدعية الصحيفة السجّادية، و كيف يضع نفسه أمام إله العالم و يستغيث، فيقول ذلك الإمام الهمام في حلكة الليل بعد صلاة الليل - و هي ليست صلاة ليل إنسان اعتيادي، و إنّما هي صلاة سيّد الساجدين - مخاطبا اللّه تعالى: «و هذا مقام من استحيى لنفسه منك، و سخط عليها و رضى عنك، فالتقاك بنفس خاشعة و رقبة خاضعة»(1) هذه هي مراقبة النفس.

و هذا ما يجعل الإنسان يجتاز سماء الكمال مرحلة بعد مرحلة، فيتكامل و عندها

ص: 356


1- الصحيفة السجادية: 170.

تبرز الشخصيات الكبيرة إلى الوجود و تتجلّى المعنوية و الجمال، و كلّ ذلك على أثر مراجعة النفس و مشاهدة النواقص و العيوب فيها.

و بعكس ذلك إذا تعاطى الإنسان و تجاهل كلّ هذه النواقص و أصابه الغرور و العجب فاغترّ بنفسه و اغترّ بربّه، و اكتفى ببصيص من النور الكامن على كلّ حال في وجود كلّ شخص، فإن البعض يكتفي بأدنى حيّز من الحيزات في وجوده، و بذلك سوف لا يمكنه بلوغ الكمال(1).

ص: 357


1- من كلمة ألقاها في: 27 ذي القعدة 1416 ه
عبر من موقف أمير المؤمنين عليه السّلام

إنّ واحدة من المحامد التي يتعرض لها بعض الناس تكفي لايقاع الإنسان في العجب و الغرور و فقد الإتزان و الخطأ في اختيار التكليف.

إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام طوى كل الثناء و التمجيد الذي صدر عن مركز الوحي في حقه، و تناسى المؤهلات و كل ما كان يراه لنفسه، و ما سمعه و ما يعرفه آلاف الأشخاص، طواه في ملف النسيان المؤقت و وضعه جانبا و صبر و خرج من ساحة الخلافة بعد وفاة النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله.

و بطبيعة الحال إنّ ذلك لم يكن ينس، و لا ينسى، و هو باق إلى أبد الدهر، إلاّ أنّه عليه السّلام أعرض عنه، أي أنّه و مع كل ما ورد في حقه و مع كل ما في شخصه من المميزات لأمر الخلافة و رئاسة العالم الإسلامي و المسؤولية الكبرى، تنحى - عند شعوره بالخطر - جانبا و قال: ما مضمونه: فلما رأيت خطورة الوضع، و المجازفة بدين النبي صلّى اللّه عليه و آله كتّفت يدي و اعتزلت.

و ليس هناك كبح لجماح النفس أسمى و أفضل و أبلغ و أعجب من هذا بالنسبة للإنسان السياسي المخلص، و للإنسان العظيم الذي لا يبغي الاستجابة لأهوائه النفسية.

و تصوروا هذا الإنسان نفسه في موقع رئاسة العالم الإسلامي، حينما أصبح زعيما للمسلمين، فانهال الناس عليه و انتخبوه، شاء أم أبى. فكان الكل - الصديق و العدو و المنافس و غيرهم - بين مبايع و بين من أعلن عدم معارضته، و هؤلاء الذين امتنعوا عن البيعة كان عددهم ضئيلا جدا، أربعة إلى ستة أشخاص، لكنهم قالوا إننا لا نعارض، و تنحّوا جانبا، و البقية بايعوا بأجمعهم، و أصبح زعيما لكل العالم الإسلامي.

ص: 358

أ تعلمون ما ذا يعني العالم الإسلامي يومذاك؟ إنّه من حدود الهند إلى ضفاف البحر الأبيض المتوسط، هذا هو العالم الإسلامي آنذاك حيث كان يضم العراق و مصر و الشام و فلسطين و إيران و غيرها، أي لعله كان رئيسا لنصف العالم المعمور آنذاك، و بقدرة تامّة.

و كانت معيشة أمير المؤمنين عليه السّلام و زهده الذي سمعتم به، يتعلق بهذه الفترة، فالحياة الجميلة و لذاتها و رغدها و جمالها و غيرها من الأمور - التي يكفي واحد منها لاستمالة شخصيات كبرى و اضطرابها في بوتقة ذلك الاختبار و انزلاقها و خروجها عن الصراط - لم تستطع بأجمعها أن توقع أمير المؤمنين عليه السّلام في العجب أو الغرور أو في مهاوي الشك و الاضطراب حتى لحظة واحدة؛ ناهيك أن تميله عن الصراط.

لقد أثبت هذا الإنسان الكبير إنه أقوى عزما و شكيمة من كل عوامل الإغواء، و هذه هي معاني العظمة، و هذه هي العناصر التي خضعت لها الأجيال و التاريخ و بنو الإنسان و المجتمعات، و لو رام أحد الانصاف لما أمكنه العصيان و التمرد على مثل هذه الشخصية؛ بل إنّ القلوب تخضع له طواعية.

إنّ من تعالته رشحة من سجايا أمير المؤمنين (عليه الصلاة و السّلام)، بإمكانه أن يتفوّق على الكثير من أنماط الزيغ و النوازع الداخلية و الخارجية، فهذا الإمام الكبير الخميني الذي رأيتموه، كانت أكبر الشخصيات في عالمنا المعاصر تشعر أمامه بالضعة.

و حتى مندوبوه، فبما أنهم كانوا يحملون معهم اسم الإمام،، فإنّهم أينما حلّوا كانوا يرغمون الطغاة و الأكابر و أصحاب القوة في العالم على الخضوع و التواضع(1).

ص: 359


1- من كلمة ألقاها في: 13 رجب 1417 ه.
درجات و مراتب العجب

من مواعظ الإمام علي بن موسى الرضا عليه السّلام و قد و سأله أحمد بن نجم عن العجب الذي يفسد العمل؟

فقال عليه السّلام: «العجب درجات: منها: أن يزيّن للعبد سوء عمله فيراه حسنا فيعجبه و يحسب أنه يحسن صنعا.

و منها: أن يؤمن العبد بربّه فيمنّ على اللّه، و للّه المنّة عليه فيه»(1)

العجب و الزهو بالنفس له مراتب و درجات:

منها: أن يرى عمله السيّ ء القبيح حسنا.

و منها: أن يؤمن باللّه تعالى و لكن يمنّ على اللّه تعالى أنه آمن به، و الحال أنّ المنّة للّه عزّ و جلّ في أن وفّقه للإيمان يقول اللّه تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاٰ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاٰمَكُمْ بَلِ اَللّٰهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدٰاكُمْ لِلْإِيمٰانِ (2).

و هذه الرواية تبيّن مرحلتين من مراحل العجب و هناك مراحل أخرى أيضا من قبيل:

أن يقوم الإنسان بعمل حسن و خيّر سواء في العبادات أم في خدمة الناس، و لكنه يمنّ على اللّه تعالى بذلك، و الحال أنّ الأعمال كلها لا تكون إلاّ بتوفيق من اللّه تعالى.

و من قبيل: أن لا يقوم البعض بأعمال البرّ و الخير لئلاّ يقع في الرياء و العجب و هذا غفلة منهم أيضا، لأنّ هذا الأمر منشاؤه الوساوس الشيطانية و تسويلاته.

ص: 360


1- تحف العقول، صفحة: 444.
2- سورة الحجرات: 17.

إذن الواجب على الإنسان أن يأتي بالأعمال الحسنة و المستحبّات و يشكر اللّه تعالى على أن وفّقه لذلك.(1)

ص: 361


1- كلمات مضيئة: 200.
أثر العجب

و قال أمير المؤمنين عليه السّلام في وصيته لأبنه محمد بن الحنفية: «إياك و العجب و سؤ الخلق و قلة الصبر، فإنه لا يستقيم لك على هذه الخصال الثلاث صاحب، و لا يزال لك عليها من الناس مجانب»(1).

هذه الرواية قسم من وصايا أمير المؤمنين عليه السّلام الأبوية لابنه العزيز محمد بن الحنفية، و بما أن الامام علي عليه السّلام أب لكل الأمة فلذلك تكون هذه الوصايا عامة للجميع.

فيقول عليه السّلام، عليك الحذر من ثلاثة خصال فإنه إذا وجدت فيك هذه الخصال الثلاث لن يبقى لك صاحب و لا رفيق و سوف يتجنبك الناس و يبتعدون عنك، و هي:

1 - العجب و الفخر و الغرور، و هذه الصفة ليست مخصوصة بالعبادات فقط بل تشمل غيرها أيضا، إذ لعل الإنسان يدخله العجب من خلال علمه أو مقامه و منصبه أو محبوبيته بين الناس، و هذه الصفة من الصفات الخبيثة و السيئة التي تعرض على روح و نفسية الإنسان، و يترتّب عليها آثار و نتائج سيئة أيضا، و ذلك لأن الشخص المعجب بنفسه حيث إنّ الآخرين لا يدركون خصوصياته فسوف يشتكي منهم و يعتب عليهم و بالتالي سوف ينظر إليهم بعين البغض و الضغينة.

و من جهة اخرى حيث إنه يرى أن الآخرين ليسوا في مستواه فسوف ينظر إليهم نظرة احتقار و حيث إنه يرى نفسه أفضل من الناس فهو يعتقد أنه صاحب حق عليهم

ص: 362


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 178.

و لذلك يطلب منهم ما ليس له.

2 - سوء الخلق، و المراد به هنا المعنى الأخص من هذا المفهوم، أي سوء الأخلاق و حدّة المزاج في التعامل مع الآخرين.

3 - قلة الصبر و عدم التحمل، فإنه إذا اعترض عليه شخص أو تكلم بكلام على خلاف رغبته و ميله فإنه لا يتحمل منه ذلك و يفقد طاقته تجاهه(1).

و من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «لا تكن ضجرا و لا غلقا، و ذلّل نفسك باحتمال من خالفك ممّن هو فوقك و من له الفضل عليك، فإنّما أقررت له بفضله لئلاّ تخالفه.

و من لا يعرف لأحد الفضل فهو المعجب برأيه»(2).

يجب على الإنسان أن يتحمّل سماع كلام من هو فوقه و أفضل منه و لا يضجر و يملّ من نصائحه له، و ذلك لأن مخالفة كلام الشخص الذي يقرّ و يعترف له بالفضل عليه خطأ و غير صحيح.

و الإنسان الذي لا يعترف و لا يقرّ لأحد بالفضل عليه يفتن و يغرّ برأيه و لا يستمع لآراء الآخرين و لا يقبلها منهم.

و ليس المراد من الفضل هنا الأفضليّة الماديّة، لأنّ كل إنسان يرى عيوبه و نواقصه التي لا يطّلع عليها الآخرون، إذن فالآخرون بالنسبة له أفضل منه(3).

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «قال إبليس لعنه اللّه لجنوده: إذا استمكنت من ابن آدم في ثلاث لم أبال ما عمل فإنه غير مقبول منه: إذا استكثر عمله و نسي ذنبه و دخله العجب».(4)

يقول إبليس لعنه اللّه لجنوده:

ص: 363


1- كلمات مضيئة: 200.
2- تحف العقول، صفحة: 366.
3- كلمات مضيئة: 27.
4- الخصال/باب الثلاثة/ح 86.

إذا تسلطت على ابن آدم في ثلاثة مسائل و استمكنت منها فيه فحينئذ يرتاح بالي من ناحيته لأنه مهما عمل من أعمال الخير و الشر بعدها لن يقبل منه شيء منها، و ذلك لأن هذه الأمور الثلاثة تمنع من قبول الحسنات. و هي:

1 - إذا اعتقد أن أعماله الحسنة التي عملها كثيرة أي أنه حدث نفسه بأنه إنسان صالح و محسن و فاعل للخير فرضي عن نفسه و عن أعماله الصالحة من قبيل الفرائض و النوافل و الإنفاقات و الصدقات و الخدمات و نحوها.

فإن هذا الأمر هو الضربة الأولى التي يتلقاها الإنسان و أول ساتر ترابي ينهدم أمام الشيطان ليدخل منه نحو غيره.

2 - إذا نسي ذنوبه، فإنه قد ارتكب في حياته الذنوب الكثيرة و المخالفات الشرعية و لكنه يغفل عنها. و من هنا ندرك السر في اشتمال الأدعية على ذكر الذنوب من قبيل ما ورد في دعاء كميل «اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم.... تمنع الدعاة» فإن الوجه في ذلك هو أن لا تصبح الذنوب في طي النسيان.

3 - العجب بالنفس، أي العجب بالخصوصيات و الصفات الروحية كالعلم و الحلم، الصبر و التقوى، فإنه يراها كبيرة و عظيمة في نفسه فيعجب بها.(1)

ص: 364


1- كلمات مضيئة: 5.

الغرور و الإفتتان

معنى الغرور

إنّ أدعية أهل البيت عليهم السّلام تبيّن لنا مواطن الضعف في الإنسان و الّتي قد تؤدّي به إلى السقوط في الهاوية.

و هذا ما نجده مثلا في دعاء أبي حمزة الثمالي الذي علمه إياه الإمام السجاد عليه السّلام:

«اللهمّ خصّني منك بخاصّة ذكرك و لا تجعل شيئا ممّا أتقرّب إليك في آناء اللّيل و أطراف النهار رياء و لا سمعة و لا أشرا و لا بطرا»، إذا يجب أن لا يكون العمل مصحوبا بالغرور و الرياء و الّتي تشكل مواطن الضعف.

فقد يقوم الإنسان بعمل صالح و رائع لكن بمجرّد أن يخالطه شيء من الغرور و السمعة، يصبح ذلك العمل هباءا منثورا(1).

الإنسان قد يغتر لأدنى عمل يؤدّيه، إيّاكم أن تغترّوا و تقولوا إنّنا لم نذنب. كلا، بل إننا غرقى في القصور و في التقصير «و ما قدر أعمالنا في جنب نعمك»(2). و ما هو قدر عمل الخير الذي نتصوّر أننا قد فعلناه، و ما هي أهميّته و ما نسبته إلى جانب نعم اللّه و في مقابل حق الشكر للّه، فنحن غير قادرين على أداء حق شكره، «لا الذي أحسن

ص: 365


1- من كلمة ألقاها بتاريخ 17 رمضان 1415 ه.
2- البحار: 85/95.

استغنى عن عونك»(1).

و هل بإمكان الإنسان الاستغناء عن فضل اللّه و لطفه في آن من آنائه؟ نحن على الدوام بحاجة للطف اللّه، و لطفه تعالى يأتينا على الدوام «خيرك إلينا نازل»(2) و نحن عاجزون عن شكره، و هذا قصور أو تقصير يستدعي في كل الأحوال طلب المغفرة(3).

وردت في الأدعية و الروايات كلمة «الاغترار باللّه». جاءت في الدعاء السادس و الأربعين من الصحيفة السجادية - الذي يقرأ في أيام الجمعة - عبارة مثيرة و هي:

«و الشقاء الأشقى لمن اغتر بك، ما أكثر تصرفه في عذابك و ما أطول تردده في عقابك و ما أبعد غايته من الفرج و ما أقنطه من سهولة المخرج»(4). فالمغرور كما تصفه هذه الرواية هو من يغتر باللّه تعالى.

فهو يغتر لأدنى عمل يؤديه. فإذا صلّى ركعتين مثلا، أو قدّم خدمة للناس، أو تصدّق بمبلغ من المال، أو قام بعمل في سبيل اللّه، يصاب من فوره بالغرور و يحسب أنه أصلح ذاته بين يدي اللّه تعالى، و حسن حاله عنده و لا حاجة له في شيء آخر! إنه لا يتلفّظ بهذا الكلام، لكنه يفكر هكذا في نفسه(5).

خطر الغرور و الفتنة

قال علي بن الحسين عليه السّلام: «كم من مفتون بحسن القول فيه.

و كم من مغرور بحسن الستر عليه.

ص: 366


1- البحار: 39/95.
2- البحار: 85/95.
3- من كلمة ألقاها في: 17 رمضان 1418 ه - جامعة طهران.
4- الصحيفة السجادية: 241.
5- من كلمة ألقاها في: 7 رمضان 1417 ه - جامعة طهران.

و كم من مستدرج بالإحسان إليه»(1).

ما أكثر الأشخاص الذين ينخدعون بمدح و إطراء الآخرين عليهم، فالإنسان لا ينبغي أن يصبح مخدوعا لأحكام الناس بحقه و لا يقع في الغفلة عن نفسه نتيجة التسويلات النفسانية لأحكامهم الصحيحة بحقه أيضا، و الإلتفات إلى هذه المسألة بالخصوص مهمّ جدا للمسؤولين.

و كذلك الإنسان لا ينبغي له أن يقع في الغرور بسبب ستر اللّه على عيوبه، و يتصوّر أن مساوءه ستبقى مستورة دائما.

إذ كثيرا ما يفضحه اللّه في هذه الدنيا و إذا ستر عليه في هذه الدنيا بلطفه و إحسانه و لم يفضحه فيها إلاّ أنه في يوم القيامة (حيث يصبح باطن الناس ظاهرا) سوف تنكشف و تظهر.

و لذلك كان الأئمة عليهم السّلام يطلبون من اللّه تعالى، كما نقل عنهم في الأدعية الشعبانية:

«إلهي قد سترت علي ذنوبا في الدنيا و أنا أحوج الى سترها علي منك في الأخرى، إلهي قد أحسنت إلي إذا لم تظهرها لأحد من عبادك الصالحين فلا تفضحني يوم القيامة على رؤوس الأشهاد»(2).

و ما أكثر الناس الذين يستدرجون على أثر النعم الإلهية كما قال اللّه تعالى:

سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَعْلَمُونَ (3) .

فلذلك لا ينبغي لنا أن نغفل عن أنفسنا على أثر المدح و الإطراء من الناس أو بسبب الستر الإلهي لعيوبنا أو بإعطائنا النعم أو نتيجة أحكام الناس الصحيحة

ص: 367


1- تحف العقول، صفحة: 281.
2- إقبال الأعمال: 296/3 مناجاة أمير المؤمنين عليه السّلام التي كان أهل البيت عليهم السّلام يدعون بها في شهر شعبان.
3- سورة الأعراف: 182.

بحقنا(1).

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «كم من مغرور بما أنعم اللّه عليه، و كم من مستدرج بستر اللّه عليه، و كم من مفتون بثناء اللّه عليه»(2).

توجد في حياة الإنسان زلاّت و عثرات خطيرة يجب عليه الحذر منها.

منها: الغرور بالنعم التي وهبها اللّه له، و الظن بأنّ هذه النعم هي دليل على لطف اللّه و محبّته له. مع أنه في كثير من الأحوال تكون هذه النعم وسيلة للإختبار و الإبتلاء.

و لذلك لا ينبغي للإنسان أن ينخدع بها و أن لا يغفل عن التوبة و الندم و إصلاح أعماله.

و منها: الإستدراج، و ذلك لأن الإنسان أحيانا قد يتوهم من خلال ستر اللّه عليه و عدم افتضاحه في الدنيا بذنوبه و معاصيه التي ارتكبها، أنّ اللّه لن يرفع عنه هذا الستر و الغطاء و لذلك ينجرف أكثر فأكثر نحو المعاصي و الإنحرافات مع أن هذا الستر الإلهي ليس دائما عليه.

و منها: الإفتتان بمدح و ثناء الآخرين له فيغفل بذلك عن نقاط ضعفه.

نسأل اللّه تعالى أن يمنّ علينا بالمعرفة و اليقظة لئلا نبتلي بالزلاّت الخطيرة، و لا نقع في شرك الشيطان المهلكة(3).

و قال عليه السّلام: «إذا رأيتم العبد يتفقّد الذنوب من الناس ناسيا لذنبه فاعلموا أنه قد مكر به»(4).

إذا كان الشخص يتتبّع دائما كشف عيوب الناس و يبحث و يفتّش عن ذنوبهم و معاصيهم، و لكنه في نفس الوقت ينسى ذنوبه و أخطاءه، فمثل هكذا شخص قد

ص: 368


1- كلمات مضيئة: 149.
2- تحف العقول، صفحة: 357.
3- كلمات مضيئة: 150.
4- تحف العقول، صفحة: 364.

ابتلي بالفتنة و المكر و وقع في واد خطير.

و ذلك لأن أعظم خطر على الإنسان هو أن يغفل عن ذنوبه و معاصيه لأن هذا الأمر موجب لعدم إلتفاته و توجهه لإصلاح نفسه. فمثل هكذا شخص مفتون و مخدوع(1).

و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «الفتن ثلاثة: حبّ النساء و هو سيف الشيطان، و شرب الخمر و هو فخّ الشيطان، و حبّ الدينار و الدرهم و هو سهم الشيطان.

فمن أحب النساء لم ينتفع بعيشه، و من أحب الأشربة حرمت عليه الجنة، و من أحب الدينار و الدرهم فهو عبد الدنيا.

و قال عليه السّلام: قال عيسى ابن مريم عليه السّلام: الدينار داء الدين، و العالم طبيب الدين، فإذا رأيتم الطبيب يجر الداء الى نفسه فاتهموه و اعلموا أنه غير ناصح لغيره».(2)

ثلاثة أمور تعتبر فتنة للإنسان. و المراد من الفتنة هنا الإختبار و الإبتلاء، و الأصل اللغوي للكلمة هو تلوث الهواء لأن الإنسان في هذه الحالة لا يمكنه تحديد الطريق و تشخيصه، و لذلك يقع في الحيرة و التيه. و هذه الأمور هي:

1 - حب النساء و هو سيف الشيطان. و لكن هذا لا يعني أن لا يحب الإنسان زوجته فإن حب الزوجة أمر مستحب. بل معناه الإنحلال الجنسي و الإنفلات من القيود و الضوابط المقررة بهذا الصدد فيكون همّه هو النساء.

فإن نتيجة هذا الأمر هو أن الشخص المذكور لن يكتفي بالإستفادة في هذا المورد من الشيء الحلال الطبيعي ضمن دائرة عائلته بل يسعى للأكثر مما يؤدي الى تهدم الأسرة و تفككها.

2 - شرب الخمر الذي هو فخ و مصيدة الشيطان فيقع فيها الإنسان، فإذا وقع في هذا الأمر فإن الجنة محرمة عليه.

ص: 369


1- كلمات مضيئة: 150.
2- الخصال/باب الثلاثة/ح 91.

3 - حب الدينار و الدرهم، و المراد بهما الثروة و المال، و المراد من الحب هنا هو السعي لتحصيل المال من طريق الغش و التزوير و الخداع و المكر و الإحتيال، و هذا ما يسمّى بعبادة المال، و الإنسان الذي يعبد المال يصبح عبدا للدنيا.

ثم يذكر كلاما للنبي عيسى عليه السّلام و مفاده:

إن المال داء و آفة للدين، و العالم كالطبيب يسعى لإصلاح دين الناس و لكن إذا كان هذه الطبيب (أي العالم) عبدا للمال فحينئذ لن يمكن الإعتماد عليه و الوثوق به بل هو متهم إذ كيف يكون ناصحا لغيره و لا ينصح نفسه؟!.(1)

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أشدّ ما يتخوّف على أمّتي ثلاثة:

زلّة عالم أو جدال منافق بالقرآن أو دنيا تقطع رقابكم فاتّهموها على أنفسكم»(2).

يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هناك ثلاثة أمور أتخوّف منها على أمّتي أكثر من غيرها و هي:

1 - زلّة العالم، و يحتمل أن يكون المراد من العالم عالم الدين كما يحتمل أن يكون الأعمّ منه و من غيره من العلماء و الخبراء في سائر العلوم و الفنون الأخرى.

و على أيّ حال فزلّة أرباب العلم و أصحاب الفنون خطيرة على المجتمع.

و ليس المراد من الزلة هنا الزلّة العلمية بل المراد الزلّة العملية، التي يمكن أن تنشأ من ضعف العقيدة أو ضعف البصيرة أو من الأهواء النفسانية.

2 - جدال المنافق بالقرآن، و المراد منه الشخص الذي لم يدخل الإيمان إلى قلبه و لكنه ظاهرا يدّعي الإيمان و يتمسّك بالقرآن في احتجاجاته ليحرف أفكار الناس عن الطريق الصحيح.

3 - حبّ الدنيا و الميل نحو المظاهر الدنيوية.

ص: 370


1- كلمات مضيئة: 151.
2- الخصال/ج 1 /صفحة: 163.

و مقصود النبي صلّى اللّه عليه و آله من الخوف من هذا الأمور الثلاثة ليس فقط الإخبار عن ذلك أو إظهار وجهة نظره فيها. و إنّما مقصوده من التخوّف هو التحذير و الإنذار منها و العلم بها.

و لذلك فعلينا أولا أن نراقب أنفسنا لئلاّ نقع في الإنحراف و الضلال و التزلزل و الإفتتان بالدنيا.

و علينا ثانيا أن لا نكون سببا لانحراف الآخرين و إضلالهم(1).

ص: 371


1- كلمات مضيئة: 152.
الغرور ينافي الإيمان

من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثمان خصال:

وقور عند الهزاهز - صبور عند البلاء - شكور عند الرخاء - قانع بما رزقه اللّه - لا يظلم الأعداء - و لا يتحمّل الأصدقاء - بدنه منه في تعب - و الناس منه في راحة»(1).

من المناسب للمؤمن أن يكون فيه ثمان خصال:

1 - أن يكون مقابل الحوادث الإجتماعية و العائلية الصعبة كالصخرة صامدا محكما ثابتا، و لا يكون كالريشة التي تعلو و تسقط مع أدنى نسمة الهواء.

2 - أن يكون في مقابل عاصفة البلاء صابرا متحمّلا.

3 - أن يكون في مقابل نعمة الصحة و العافية و الهدوء و الطمأنينة و الأمن و الأمان غير مبتلى بالغرور و العجب، بل عليه أن يعلم أن كل هذه النعم من اللّه تعالى و عليه أن يشكرها.

4 - أن يكون قانعا بما يحصل عليه بعد جهده و تعبه و سعيه الملزم به.

5 - أن لا يظلم أعداءه سواء كانوا فسّاقا أم كفّارا، و لا يتجاوز و لا يتعدّى الحدود الإلهية بحقّهم.

6 - أن لا يفرض على أصدقائه شيئا لا يطيقونه و لا يحملنّهم ذلك.

7 و 8 - أن يكون - خلافا لما يعتقده بعض الغفلة - الإنسان في حالات الراحة و الهدوء بدنه منه في تعب، بينما يكون الآخرون منه في راحة(2).

ص: 372


1- تحف العقول، صفحة: 362.
2- كلمات مضيئة: 59.

الإسراف و التبذير

معنى الإسراف و التبذير

على الجميع أن يسعى إلى نبذ الإسراف جانبا في كل أوقاته، فمما يؤسف له أن ظاهرة التبذير متفشية في حياتنا.

التبذير يعني إهدار النعمة الإلهية و يعني جهل قدرها، و لا ريب في أنّ أكثر المقصودين من هذا الكلام هم الأثرياء، إنّ الفقراء و متوسطي الحال أقل تبذيرا، و إن كان فيهم بعض المبذرين أيضا.

و اجتناب التبذير يجب التمسك به حتى في الأشياء التي تبدو و كأنها ليست ذات قيمة كالتبذير في استعمال الماء؛ حيث إنّ قلة هطول الأمطار في بعض البلاد توجب المزيد من الإقتصاد في استعمال الماء.

نحن ملزمون بتنظيم امورنا طبقا لما يفرضه علينا الدين و يقتضيه العقل السليم.

فالإسراف في استعمال الماء، و الخبز، و الطعام، و مستلزمات الحياة، و التبذير في الشراء و الانفاق، و نبذ الأشياء المفيدة، كله تضييع لنعمة اللّه تعالى.

نقرأ في بعض الإحصائيات أنّ قسما عظيما من هذه الحنطة التي نحصل عليها بكد و مرارة الفلاح، ثم يبذل بإزائها المال ثم تحول إلى دقيق يصنع منه الخبز، الكثير منها - و للأسف - يهدر بعد ذلك.

ذكرت هذا المورد على سبيل المثال فقط، و لكن ينبغي علينا التعود على الإقتصاد

ص: 373

في جميع الامور.

الإقتصاد معناه الانتفاع من كل ما هو نافع، و أن لا نتصرف بالإمكانات المتيسّرة عبثا، فليس من الصحيح تجديد السلع الدائمية باستمرار، و التخلص من الأشياء غير التالفة.

من الضروري على مسؤولي بلادنا الإسلامية أن يرشدوا أبناء الشعب و يعلمّوهم سبل الإقتصاد و مكافحة التبذير. و على مسؤولي الحكومة أنفسهم تجنب الإسراف أيضا، لأنّ إسراف مسؤولي الحكومة أكثر ضررا من إسراف عامة الناس لكون إسرافهم يقع في بيت المال. و هذا يعني وجوب إعداد المسؤولين جداول عن أساليب الإقتصاد و اجتناب الإسراف و عرضها للشعب من أجل تعليمه كيفية الإقتصاد في النفقات(1).

ص: 374


1- من كلمة ألقاها في: 11 ذي القعدة 1417 ه.
ذم الإسراف

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إنّ القصد أمر يحبّه اللّه عزّ و جلّ، و إنّ السرف يبغضه حتى طرحك النواة فإنّها تصلح لشيء، و حتّى صبّك فضل شرابك»(1).

القصد و الإعتدال أمر محبوب للّه تعالى.

و الإعتدال يقابله الإفراط و التفريط.

و الإفراط هو الحدّة في الشيء و التجاوز عن الحدّ فيه.

و التفريط هو التقصير و التهاون و الإهمال في العمل و عدم القيام بالعمل على وجهه الصحيح، بينما الإعتدال على خلافهما.

و أما السرف فهو أمر مبغوض للّه تعالى. حتى و إن كان بمقدار رمي نواة الثمرة فيما إذا كان يمكن الإستفادة منها في مورد ما، و حتى و إن كان بمقدار إهدار و إراقة شربة ماء.

و الإسراف غالبا ما يستعمل في الأمور المالية إلاّ أنه قد استعمل في غيرها أيضا كما في قوله تعالى: فَلاٰ يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ (2).

و يجب الإلتفات إلى أنّ الإسراف في أموال الدولة فيه مبغوضية أشدّ و أكثر من غيره، و ذلك لأنه إذا كان من بيت المال فإنّه مضافا إلى كونه إسرافا يعتبر غصبا أيضا(3).

ص: 375


1- الخصال، باب الواحد، ح: 36.
2- سورة الإسراء: 33.
3- كلمات مضيئة: 228.

قد يكون في المجتمع أثرياء يقومون على تبذير أموالهم - و هو عمل يخصهم و إن كان سيئا - إلاّ أن تبذيرنا كمسؤولين ليس تبذيرا لمالنا الخاص، و إنما هو تبذير لبيت مال المسلمين، و هذا أولا.

و ثانيا: إن تبذيرنا يعد عاملا مشجعا للآخرين على التبذير، فإن الناس على دين ملوكهم(1).

ص: 376


1- من كلمة ألقاها في: 1384/6/8 ه ش الموافق 24 /رجب/ 1426 ه الموافق 2005/8/30 م - طهران.
كيف نعالج الفقر؟

إنّ حصيلة الصيام في شهر رمضان المبارك رصيد من التقوى تعمر به قلوبنا و أرواحنا ينبغي أن يرفدنا على امتداد دروب الحياة الحافلة بالمنعطفات و المنحنيات و يكفل لنا الصراط المستقيم.

لقد تصرّم شهر رمضان بما عليه من عظمة و كرامة و أجواء مفعمة بالرحمة، و خلال هذا الشهر و ببركة صيام أيامه و التوسل و الدعاء و الذكر و تلاوة القرآن، عمل المسلمون في كافة أرجاء العالم على أن تزداد قلوبهم و أرواحهم نورانية و قربا من اللّه سبحانه و تعالى؛ و ببركة شهر رمضان تسنح أمام المسلمين فرصة يتعين عليهم اغتنامها لتعزيز حياتهم المعنوية و نشاطهم المادي، فمن الدروس الكبرى لشهر رمضان التي ينبغي علينا تعلمها و استثمارها لدى الدعاء و الصيام و تلاوة القرآن خلال هذا الشهر، هو أن نتذكر - بتجرعنا الجوع و العطش - الجياع و المحرومين و الفقراء إذ أننا نقرأ في الدعاء خلال أيام شهر رمضان: «اللهم اغن كل فقير، اللهم أشبع كل جائع، اللهم اكس كلّ عريان»(1).

إن هذا الدعاء ليس للقراءة فقط، بل لير الجميع أنفسهم مكلفين بمكافحة الفقر و الجهاد في سبيل إزاحة غبار الحرمان عن وجوه المحرومين و المستضعفين، فهذا الكفاح واجب عام، و نحن نقرأ في القرآن أَ رَأَيْتَ اَلَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذٰلِكَ اَلَّذِي يَدُعُّ اَلْيَتِيمَ وَ لاٰ يَحُضُّ عَلىٰ طَعٰامِ اَلْمِسْكِينِ (2) و من علائم تكذيب الدين أن يتخذ الإنسان

ص: 377


1- مستدرك الوسائل: 477/7 ح 14.
2- سورة الماعون: 1-3.

جانب اللامبالاة و عدم الشعور بالمسؤولية أزاء فقر الفقراء و المحرومين، و خلال شهر رمضان و ببركة الصيام تذوّقنا و أدركنا طعم الجوع و العطش و عدم نيل ما تشتهيه نفس الإنسان و هذا ما يجب أن يقرّبنا من الشعور بالمسؤولية التي أرادها الإسلام لكافة المسلمين و وضعها تكليفا على عواتقهم أزاء قضية الفقر و الفقراء الحسّاسة.

إن معالجة الفقر إنما تتمّ بشكل أصولي في كل مجتمع عن طريق إقرار العدالة الإجتماعية و النظام العادل وسط المجتمع كي لا يعمد المتلصصون على حقوق الآخرين إلى مصادرة الثروة - التي هي حق الجميع - لصالحهم، و هذه مسؤولية الدولة و الحكومة غير أن الشعب بدوره يتحمل مسؤولية ثقيلة أيضا، فتطبيق الخطط الإجتماعية ممكن على المدى البعيد أو المتوسط و بشكل تدريجي، و لكن لا يصح الانتظار و التفرج على حرمان المحرومين و فقر الجياع إلى أن تعطي الخطط الإجتماعية في الدول ثمارها، فهذه مسؤولية الشعب بالذات و كافة من لهم القدرة على العمل في هذا السبيل.

على الجميع اعتبار أنفسهم مكلفين بالمواساة التي تعني عدم ترك أية عائلة مسلمة مواطنة و محرومة تصارع آلامها و حرمانها و مشكلاتها لوحدها، و المبادرة إليها و مدّ يعد العون نحوها، و إن هذا يمثل اليوم مسؤولية عالمية بالنسبة لذوي الوجدان و الأخلاق و العواطف الإنسانية.

أما بالنسبة للمسلمين فهي مسؤولية دينية بالإضافة إلى أنّها مسؤولية أخلاقية و عاطفية.

اهتموا بالجيران و الفقراء، و إنّ من الأمور التي تحول دون أن تمتدّ يد القادرين على المساعدة لتقديم العون للفقراء، تفشّي روح الاستهلاك و البهرجة في المجتمع، فوبال على المجتمع أن يتفاقم فيه الجنوح نحو الاستهلاك يوما بعد يوم بحيث يرغّب الجميع بالإفراط في الاستهلاك و الإكثار و التنويع بالأكل و الشرب و اللباس و السعي وراء الصرعات (الموضات) و كل ما استجد من مستلزمات الحياة و كمالياتها، فكم

ص: 378

هي الثروات و الأموال التي تهدر بهذا الإتجاه و تعطّل عن أن تنفق في المواطن التي تفضي إلى رضى اللّه و علاج مشاكل فئات من الناس.

إن الجنوح نحو الاستهلاك و بال عظيم بالنسبة للمجتمع، فالإسراف يضاعف و يعمّق الفوارق الطبقية بين الفقير و الغني يوما بعد يوم، و إنّ من الأمور التي يتعين على أبناء الشعب اعتباره واجبا بالنسبة لهم هو تجنب الإسراف، و على الأجهزة المسؤولة في مختلف مرافق الدولة لا سيما الأجهزة الإعلامية و الثقافية - و على وجه الخصوص الإذاعة و التلفزيون - أن ترى من واجبها ليس عدم جرّ الجماهير بإتجاه الإسراف و الاستهلاك و البهرجة فحسب، و إنما سوقهم بالإتجاه المعاكس و دعوة الناس و سوقهم نحو القناعة و الاكتفاء و الإنفاق حسب الحاجة و تجنب الإفراط و الإسراف، فروح الاستهلاك تدمّر المجتمع.

إن المجتمع الذي يتفوق استهلاكه على إنتاجه ستحيق به الهزيمة، و علينا أن نتعود على موازنة استهلاكنا و الحدّ منه و التخلّي عن الإسراف، و ليبادر الشباب إلى إقامة التجمعات العائلية و جمع معونات أبناء الأسرة و إنفاقها على الفقراء و المعوزين من أبناء تلك العوائل بالدرجة الأولى، أو إنفاقها على سائر الفقراء إن لم تكن ثمة حاجة.

هنالك فقر في مجتمعاتنا الآن، إنّ واجبنا كنظام إسلامي هو اقتلاع جذور الفقر من المجتمع فيجب أن يمحى الحرمان و هذه هي مسؤوليتنا نحن كدولة و كنظام إسلامي و جماهير شعب «كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته»(1).

إنّه واجب الجميع أن يبادر كلّ منّا إلى تقليص حالة البهرجة و الإسراف و الإفراط بأي نحو كان، و هذا ما يستدعي همة و تضحية و بصيرة و وعيا فلنطلب العون من اللّه سبحانه و تعالى.

هنالك الكثير من العوائل التي ليست هي متكاسلة بطبيعتها أو تأبى ممارسة العمل

ص: 379


1- عوالي اللآلي: 129/1 ح 3.

و إنما هي محرومة و فقيرة بالمعنى الحقيقي للكلمة، فعليكم أن تشخصوها و تبحثوا عنها - و ليس ذلك مستعصيا - و تساعدوها.(1)

ص: 380


1- من كلمة ألقاها في: 1 شوال 1423 ه - طهران.
الكذب
معنى الكذب

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام: «يا علي: أنهاك عن ثلاث خصال عظام: الحسد و الحرص و الكذب».(1)

هذا الكلام من جملة الوصايا التي أوصاها النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعلي عليه السّلام: و هو التحذير و النهي عن هذه الخصال الثلاثة السلبيّة و بالتدقيق يعلم أنّ جزءا مهمّا من التصادمات و التناقضات بين الناس منشؤه هذه الخصال الثلاثة، و هي:

1 - الكذب: و الكذب يكون في القول و الفعل، يقابله الصدق فيهما و الذي ورد في القرآن الكريم التأكيد عليه. فالكذب سبب لأن يتراجع و ينقلب الإنسان عن الحقائق التي يجب أن يسير الإنسان أو المجتمع على طبقها(2).

2 - الحسد، 3 - الحرص، و قد تقدم الكلام عنهما.

و قال النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله قال: «إياكم و الشح، فإنما هلك من كان قبلكم

ص: 381


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 121.
2- كلمات مضيئة: 51.

بالشح، أمرهم بالكذب فكذبوا، و أمرهم بالظلم فظلموا، و أمرهم بالقطيعة فقطعوا».(1)

قوله عليه السّلام: (و أمرهم بالكذب فكذبوا) لأن الحرص على المال يوجب أحيانا الكذب فيتلوث المحيط الاجتماعي فضلا عن نفسه في مخالفة الواقع و الحقيقة و يذهب و يزول من بينهم الصدق و الصفاء و المودة.

و لمّا أمرهم بالظلم ظلموا، لأنه أحيانا يستدعي الظلم و التعدي و التجاوز على حقوق الآخرين من أجل الحرص و البخل...(2).

ص: 382


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 234.
2- كلمات مضيئة: 105.

فهرس الموضوعات

تتمة باب مكارم الأخلاق

القناعة

أهمية القناعة 5

الإنصاف و المواساة

أهمية الإنصاف و المواساة 9

البصيرة و التعقل و التثبت

أهمية البصيرة 12

أهمية التثبت و عدم التهاون 12

الإسلام مطابق للعقل و المنطق 13

الحكمة و التعقل 14

علينا تشخيص الحق من الباطل لخلاص الإنسان 15

ص: 383

الإستقامة و الثبات

أهمية الإستقامة 17

إستقامة النبي 9 18

الإستقامة و الإرتقاء الروحي 20

برّ الوالدين

أهمية برّ الوالدين 23

ثواب الشفقة على الوالدين 23

الإيثار

أهمية الإيثار 25

أثر التضحية و الإيثار 26

الإخلاص نوع من الإيثار 28

الإيمان و خصائصه

أثر الإخلاص في الإيمان 29

علامة الإيمان الحقيقي 30

شروط الإيمان الحقيقي و الكامل 32

سبب رسوخ الإيمان 36

خصال الإيمان 37

دعائم الإيمان 39

كمال المسلم 40

ص: 384

حقيقة الشيعي الموالي 43

صفات الشيعة 45

واجب الشيعي الموالي 46

أكرم الناس و أبغض الناس 47

الأجر و الثواب

الهدف من الثواب على العمل 49

شروط الأجر و الثواب 50

ثواب فقد الأبناء 51

ثواب الترحم على الناس 52

العفو

معنى العفو 53

العفو الإلهي 53

الزهد

معنى الزهد 55

الزهد في الدنيا 56

الزهد من سيرة النبي و علي عليهما السّلام 57

الزهد أهم عامل للقدرة 62

أثر الزهد 64

الزهد عند المسؤولين 67

ص: 385

أثر زهد المسؤولين 67

العفة

العفة بمعناها الأوسع 69

أهمية العفة 70

أهمية عفّة المرأة 72

التصدي لمن يبيح عفة المرأة 73

الورع

معنى الورع 75

أهمية الورع 76

الورع عن المحارم 77

الورع عن اقتراف الذنوب و الآثام 79

الورع و الحكومة 80

الإخلاص

معنى الإخلاص 81

السعي نحو الإخلاص 82

الاخلاص و أثره في بناء الشخصية 83

إخلاص الحسين عليه السّلام و أثره 84

نموذج آخر لأثر الإخلاص 85

الإخلاص في العمل 86

ص: 386

أثر الإخلاص في العمل 86

ثواب الإرهاق في التكليف/الأجر على قدر المشقة 88

الإيثار يوصل الى الإخلاص 89

ذكر اللّه تعالى

أهمية ذكر اللّه تعالى 91

ذكر اللّه علاج للآفات 91

أثر ذكر اللّه 94

خشية اللّه و الخشوع

معنى الخشوع 95

خشية اللّه تعالى 97

الخشوع في الصلاة 100

الصبر

ما هو الصبر؟ 103

تعريف الصبر 103

الصبر على الحرام 106

الصبر الإمام الحسين قلّ نظيره 107

الصبر عند أمير المؤمنين عليه السّلام و أثره 109

إستلهام الصبر من أمير المؤمنين عليه السّلام 110

إستفادة إيران من صبر أمير المؤمنين عليه السّلام 111

ص: 387

أهمية الصبر في المجتمع 112

نماذج من صبر الأولياء و أثره 113

آثار الصبر

1 - الثبات و النصر 115

2 - الأثار النفسية للصبر 119

3 - بروز و إظهار القوى الكامنة 121

4 - التوجه و التوكل على اللّه أكثر 122

5 - أهليّة الهداية 123

البلاء

الأجر و الثواب على البلاء 125

أثر الدنيا في الصبر على البلاء 128

في البلاءات نعم إلهية 129

أثر الصبر على البلاء 130

شروط الإبتلاء 135

كل بلاء من اللّه العلي فهو خير 136

البلاء نعمة نؤجر عليها 137

أعظم البلاء و الفتن 137

الأمانة

أهمية الأمانة 139

ص: 388

الوفاء و أداء الأمانة 141

الأمانة و حسن الظن 142

أمانة النبي صلّى اللّه عليه و آله درس لنا 143

الخوف و الرجاء

معنى الخوف من اللّه 145

أثر الخوف و الرجاء 148

خوف أمير المؤمنين عليه السّلام درس لنا 150

المؤمن بين الخوف و الرجاء 152

التودد و المحبة

أهمية التحبب 155

أهمية التواصل و عدم التباغض 155

المحبة تورث و لا تعلّم 156

أثر الرفق و التودد 158

ثواب التودد 159

أهميّة المداراة و اللين 161

التعامل بالمودة و اللطف 164

طلاقة الوجه و حسن اللقاء 166

الإحسان

أهمية الإحسان 167

ص: 389

العشرة

حسن المعاشرة 169

كيفية العشرة 172

السكينة

أثر السكينة في النفس 173

السكينة في القرآن 174

الحب و البغض في اللّه

معنى الحب و البغض في اللّه 177

أهمية الحب و البغض في اللّه 179

حب اللّه أصل الدين 184

بين حب اللّه تعالى و الخوف منه 186

شكر النعم

عظمة الشكر و أهميته 187

المحافظة على النعم 189

شروط شكر النعم 191

وجوب شكر النعم الإلهية 192

ترك الشكر يؤدي لزوال النعمة 196

الحلم و الصمت 197

ص: 390

تعريف الحلم و أهميته 197

حلم النبي صلّى اللّه عليه و آله أسوة 199

فضل الصمت 201

أثر الحلم على الصمت 202

التواضع

أهميّة التواضع 203

أثر التواضع 204

التواضع أرفع نسب و حسب 206

الرضا و السخط

أهمية الرضا و السخط 207

أثر الرضا و السخط 209

الحياء

وجوه الحياء 211

اليقين

تعريف اليقين 213

أهمية اليقين 214

طرق تحصيل اليقين 217

ص: 391

باب رذائل الأخلاق

مساوىء الأخلاق

التحذير من مساوىء الأخلاق 221

خطر سوء الخلق 225

أكبر الرذائل الأخلاقية 227

خطر حبّ الذات 229

أثر سوء الأخلاق على الشباب 230

التغيير بيد الإنسان 234

نماذج للفساد الإجتماعي الأخلاقي 235

مكافحة الفساد الأخلاقي 236

قصة في أثر الفساد 237

الحجب و قسوة القلوب

أنواع الحجب 239

قسوة القلوب و أثرها 242

زيغ القلوب 245

تطهير القلوب 248

ظاهر الإنسان يعكس باطنه 249

ص: 392

الدنيا

عدم اتّباع الدنيا 251

الدنيا المذمومة 251

حقيقة الدنيا و أقسامها 255

ما المراد بالدنيا؟ 257

هذه الدنيا زائلة 260

علاقة الدين بالدنيا 261

الفصل بين الدين و الدنيا 262

الدنيا مزرعة الآخرة 263

عدم اقتصار الرؤية على الحياة الدّنيا 266

الحذر من الدنيا 268

مثل الدنيا 269

الدنيا و الآخرة متضادتان 272

التوازن بين الدنيا و الآخرة 274

فرص الدنيا 277

أثر حب الدنيا 278

علاج حب الدنيا 280

الآخرة/يوم القيامة

معنى الحياة الآخرة 281

الخوف من يوم القيامة 282

ص: 393

الآخرة لمن لا يريد علوا 286

للآخرة تأثير على حياتنا 287

الزينة

رأي الإسلام في الزينة 289

حرمة التبرّج 290

رأي الإسلام في الجمال 291

الطاعة و المعصية

معنى الطاعة و العصيان 293

أهمية الطاعة و ترك المعصية 295

تعريف المعصية و منشؤها 296

أثر الطاعة 299

أثر المعصية 300

عمومية المعصية 302

الشهوات

النظرة أوّل الشهوات 303

آثار حب الشهوات

1 - حب الشهوات يمنع التسديد الإلهي: 304

2 - حب الشهوات يحجب عن اللّه تعالى 305

ص: 394

3 - الشهوات تذلّ الإنسان: 305

4 - إتباع الشهوات أساس الضلالة و الانحراف: 307

الحسد

خطورة الحسد 311

الحسرة و الندامة

عذاب الحسرة و الندامة 313

حرمات اللّه تعالى

بعض حرمات اللّه تعالى 315

الشحّ و الأمل و الهوى

الشح و الأمل 317

الهوى و طول الأمل 318

ما يؤدي إلى الهوى 319

مخالفة الهوى 321

تعريف الشحّ 322

أثر الشحّ 323

أثر إطاعة هوى النفس 325

هوى النفس الخطر الأساس 326

الشحّ المطاع و الهوى المتبع 329

ص: 395

الأهواء النفسية سبب كل المآسي 330

الأهواء الشيطانية 331

خطر الأهواء النفسية 332

التخلي عن الأهواء باللجوء الى اللّه 333

الغضب و السخط

تعريف الغضب 335

بين الغضب و السخط 336

أثر الغضب 337

الغضب الممدوح 338

الشيطان

ماهيّة الشيطان 339

ما يبعد عن الشيطان 341

تجسد الشيطان 342

كيفية غواية الشيطان 342

حب الإطراء أفضل فرص الشيطان 345

تطهير القلب من الشيطان 345

التكبر و الخيلاء

أثر التكبر 347

خطر التكبر 347

ص: 396

علاج التكبر 349

الفرق بين التكبر و الإستكبار 351

الحرص

معنى الحرص 353

العجب

معنى العجب 355

أهمية العجب 355

علاج العجب 356

عبر من موقف أمير المؤمنين عليه السّلام 358

درجات و مراتب العجب 360

أثر العجب 362

الغرور و الإفتتان

معنى الغرور 365

خطر الغرور و الفتنة 366

الغرور ينافي الإيمان 372

الإسراف و التبذير

معنى الإسراف و التبذير 373

ذم الإسراف 375

ص: 397

كيف نعالج الفقر؟ 377

الكذب

معنى الكذب 381

فهرس الموضوعات 383

ص: 398

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.