أنيس المجتهدين

هوية الكتاب

المؤلف: محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية

الناشر: مكتبة التراث الاسلامي

المطبعة: مكتبة التراث الاسلامي

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1430 ه.ق

ISBN (ردمك): 978-964-09-0281-3

المكتبة الإسلامية

أنيس المجتهدين

ص: 1

المجلد 1

اشارة

سرشناسه : نراقی ، مهدی بن ابی ذر

محل نكهداری نسخه : قم

مركز نگهدارنده نسخه : كتابخانه مرعشی

شماره بازیابی نسخه : 4216/1

عنوان و نام پديدآور : انیس المجتهدین[نسخه خطی]

وضعیت استنساخ : سلطان آباد: جمادی الاخر1034ق قرن طاهر حسيني انجداني

مشخصات ظاهري : 1ر-267ر، مختلف سطر؛ 21×17 س م

يادداشت كلی : آغاز كتاب: الحمدلله الذی جعل علم الاصول وسیلة للصعود الی مدارج حقایق المباحث الشرعیة و صیّره ذریعة للعروج الی معارج دقائق مسائل الفقهیة... اما بعد فیقول ... ان علم الاصول مما لایخفی علو رتبته..

انجام كتاب: و وحدة ترجیح كل من الادلة وتعدده صور غیر متناهیة و لابد للمجتهد عند تعارض الترجیحات من نظر آخر للترجیح بینها و بعد الاحاطة بما ذكرناه لایخفی جلیة الحال فیه

تاریخ تالیف:1186 ق.

تدوین و گردآوری: موسسه فرهنگی پژوهشی الجواد

يادداشت مشخصات ظاهری : نوع و تزیینات جلد: تیماج قهوه ای

خط: نسخ و نستعلیق

منابع اثر، نمايه ها، چكيده ها : منابع كتابشناسی: التراث العربی 338/1

منابع كتابشناسی: الذریعة 464/2 و465/2 رقم 1804

منابع كتابشناسی: مدرسه فیضیه 24/1

منابع كتابشناسی: مرعشی 397/1 و 219/11و 214/26 و 140/37

منابع كتابشناسی: امام صادق قزوین 43/1

منابع كتابشناسی: مفتی الشیعه ص89

منابع كتابشناسی: الهیات تهران ص 750

منابع كتابشناسی: كتابخانه مدرسه آخوند ص 1287

منابع كتابشناسی: دائرة المعارف اسلامی 43/1

منابع كتابشناسی: ذریعه ، 464/2

منابع كتابشناسی: العام 2430/3

منابع كتابشناسی: مهدی نراقی

منابع كتابشناسی: مرعشی 397/1،همانجا 219/11

منابع كتابشناسی: نشریه 512/7 و 591/5

منابع كتابشناسی: مكتبة امیر المومنین 157/1

منابع كتابشناسی: مجلس شورا 123/50

ماخذ: فهرست نسخه های خطی كتابخانه آیة اللّه نجفی مرعشی. ج.11

معرفی نسخه : معرفی كتاب: در مباحث اصولی استدلالی در پنج مبحث و هر مبحث در چند باب و فصل. این اثر توسط مركز مطالعات و تحقیقات اسلامی قم در سال 1388ه چاپ شده است. «محمود نظری»

موضوع های كنترل نشده : اصول فقه

ص: 2

أنيس المجتهدين

(في علم الأُصول)

للمولی محمد مهدي النراقي

الجزء الأوّل

التحقيق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية

مركز إحياء التراث الإسلامي

بوستان كتاب

1388

ص: 3

ص: 4

دليل الجزء الأوّل

مقدّمة التحقيق ... 7

المبحث الأوّل : في المقدّمات ... 27

الباب الأوّل في نبذ من أحواله ... 29

الباب الثاني في المبادئ اللغويّة ... 36

الباب الثالث في المبادئ الأحكاميّة ... 95

المبحث الثاني : في الأدلّة الشرعيّة ... 181

الباب الأوّل في الكتاب ... 183

الباب الثاني في السنّة ... 202

الباب الثالث في الإجماع ... 336

الباب الرابع في الأدلّة العقليّة ... 386

الباب الخامس في القياس ... 434

فهرس الموضوعات ... 575

ص: 5

ص: 6

مقدّمة التحقيق

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمّد ، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

وبعد ؛ بين يديك - أيّها القارئ الكريم - كتاب أنيس المجتهدين أحد مؤلّفات المحقّق الفاضل المولى محمّد مهدي النراقي ، المتوفّى سنة 1209 ه ، التي قام بتحقيقها مركز إحياء التراث الإسلامي في مركز العلوم والثقافة الإسلاميّة. وذلك مع مجموعة من آثار الفاضلين النراقيّين التي أحيل تحقيقها إلى هذا المركز من قبل المؤتمر التكريمي لهذين العلمين ، والذي انعقد في مدينة قم المقدّسة سنة 1382 ش / 1424 ه.

ترجمة المؤلّف

وردت ترجمته بشكل مفصّل - أو مختصر - في كثير من كتب التراجم والتاريخ في القرنين الثاني عشر والثالث عشر من الهجرة النبويّة. وكذا في مقدّمة بعض كتبه أو كتب ولده المولى أحمد النراقي المصحّحة مؤخّرا. وقد كتب سماحة الشيخ رضا الاستادي تأليفا مستقلاّ في ترجمة النراقيّين بالفارسيّة تحت عنوان شرح أحوال وآثار ملاّ مهدى نراقى وملاّ أحمد نراقى وخاندان ايشان ، فإنّ فيما ورد فيه غنى وكفاية.

ولذلك لم نتعرّض هنا لترجمة المولى محمّد مهدي النراقي. وما نقدّمه هنا ما هو إلاّ لمحات عن حياته المباركة ، وقبسات من أنواره الملكوتيّة ، ونشير إلى نقاط عن حياته بقيت مجملة.

ص: 7

اسمه ونسبه

قال قدس سره في مقدّمة كتابه جامعة الاصول : « أمّا بعد ؛ فيقول المحتاج إلى غفران ربّه السرمدي محمّد بن أبي ذرّ النراقي ، المعروف بمهدي ، بصّره اللّه بعيوبه ، ونجّاه من أحزانه وكروبه ... » (1).

وقال في مقدّمة رسالة الإجماع : « أمّا بعد ، فيقول المتمسّك بلطف اللّه الأبديّ والمتشبّث بفضله السرمديّ محمّد بن أبي ذرّ النراقي المعروف بمهدي ، نوّر اللّه قلبه بالأنوار العليّة و ... » (2).

وقد ذكر ولده المولى أحمد في أكثر كتبه ، والإجازة التي كتبها لأخيه الصغير محمّد مهدي الثاني الملقّب ب- « آقا بزرك » ، اسم أبيه ب- « محمّد مهدي » ، وقال في الإجازة : « فمنها ما أخبرني به ... ، والدي واستاذي ، ومن إليه في جميع العلوم استنادي ، مولانا محمّد مهدي بن أبي ذرّ بن الحاجّ محمّد النراقي » (3).

وفي إنهاء الإجازة كتب : « كتبه بيمناه الداثرة ... أحمد بن محمّد مهدي بن أبي ذرّ ابن الحاجّ محمّد القمّي النراقي الكاشاني مسكنا » (4).

كما أنّه ذكر نسبه ب- « أحمد بن محمّد مهدي بن أبي ذرّ النراقي » ، في افتتاح وانتهاء جميع مؤلّفاته.

فالمنتج من هذه الذكريات والعبارات :

أوّلا : أنّ اسمه محمّد بن أبي ذرّ والمعروف بمهدي ، أو محمّد مهدي.

وثانيا : أنّ اسم جدّه أيضا كان محمّد ، المعروف بالحاجّ محمّد القمّي النراقي.

وذلك لأنّ قصبة نراق كانت في سالف الزمان من توابع مدينة قم. وبعد الحقت بمدينة

ص: 8


1- جامعة الأصول : 10.
2- المصدر : 85.
3- راجع عوائد الأيّام : 70 ، مقدّمة التحقيق.
4- عوائد الأيّام : 84 ، مقدّمة التحقيق.

كاشان. كما ذكره أبو الحسن المستوفي في كتابه تاريخ گلشن مراد (1).

واحتمل سماحة الشيخ رضا الاستادي في ابتداء شرح أحوال وآثار ملاّ مهدي نراقي وملاّ أحمد نراقي أن يكون جدّه « الفاضل نصير الدين القمّي » صاحب رسالة الزكويّة. وذكر في الهامش احتمالا آخر بأنّه يمكن أن يكون نصير الدين جدّه لامّه لا جدّه لأبيه (2).

لقبه

يلقّب المولى محمّد مهدي ب- « المحقّق النراقي » و « العلاّمة النراقي ». وقد يعبّر عنه ب- « النراقي الأوّل » ، كما يلقّب ولده المولى أحمد ب- « الفاضل النراقي » وقد يعبّر عنه ب- « النراقي الثاني » ، كما ويعبّر عنهما ب- « النراقيّان » (3) ، وصاحب الجواهر يعبّر عنهما ب- « الفاضل النراقي » (4).

ولادته

لم يرد تاريخ ولادته في أيّ من كتب التراجم والمصادر المتوفّرة لدينا ، ولكن ورد في الكتيبة التي كتبها ولده المولى أحمد النراقي بخطّه ، في آخر إحدى النسخ من كتاب لؤلؤة البحرين ما يلي :

تاريخ وفاة الوالد الماجد ... في أوّل ليلة السبت ثامن شهر شعبان المعظّم من شهور سنة ألف ومائتين وتسع ... وكان عمره الشريف يبلغ ستّين سنة تقريبا (5).

وقد ذكر العلاّمة المحقّق الرجالي المرحوم ميرزا محمّد حسن الزنوزي ( م 1218 ه ) معاصر النراقي في كتاب رياض الجنّة أنّ عمره كان ما يقارب الثلاث وستّين سنة ، وبالنظر إلى أنّ وفاته كانت سنة 1209 ؛ لذا وجب أن تكون ولادته في أواخر النصف الأوّل من القرن الثاني عشر ، أي في سنة 1149. وبناء على ذلك فلا يصحّ ما ذكره

ص: 9


1- راجع شرح أحوال وآثار ملاّ مهدى نراقى وملاّ أحمد نراقى و ... :1. 22.
2- راجع المصدر : 12.
3- راجع أنيس الموحّدين : 14 ، مقدّمة التحقيق ؛ عوائد الأيّام : 30 - 31 ، مقدّمة التحقيق.
4- راجع المصدرين.
5- راجع عوائد الأيّام : 66 ، مقدّمة التحقيق.

المرحوم الشيخ محمّد رضا المظفّر في مقدّمة كتاب جامع السعادات بأنّ ولادته كانت سنة 1128.

مكانته العلميّة

تميّز المحقّق النراقي عن أقرانه بموسوعيّة المعرفة ، وحظي بمكانة علميّة واجتماعيّة ممتازة ، ولم يقتصر على الفقه والاصول ومقدّماتهما ، فقد كان جامعا لأكثر العلوم والفنون. فنراه عالما في الأدب واللغة والفقه والاصول والحديث والرجال والدراية والحكمة والكلام والآداب والأخلاق والرياضيّات والنجوم ، حيث يتجلّى ذلك من خلال تأليفاته الكثيرة المتنوّعة ، فلقد أتاحت له نشأته في الأوساط العلميّة فرص التعلّم المبكّر ، ووفّرت له عقليّته الكبيرة وذكاؤه الوقّاد ، القدرة على استيعاب العلوم والفنون المتعدّدة بسهولة ، وارتقى سلّم العلم فبلغ حدّا يكاد يعدّ من علماء الطراز الأوّل للقرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجري.

ولقد وصفه العلماء المحقّقين من أصحاب التراجم بما لم يصفوا به غيره. وإليك بعض ما قالوا فيه :

1 - قال أبو الحسن المستوفي الغفاري في كتاب تاريخ گلشن مراد :

فريد عصره ووحيد دهره ، مولانا محمّد مهدي بن أبي ذرّ النراقي ، حكيم استندت الشريعة إلى آرائه القويمة ، وعالم تفوّقت آراؤه الصائبة على المستدلّين في كلّ حال ، وفقيه اعترف بفضله وتقدّمه فقهاء عصره ، وعالم يغترف أرباب اليقين من بحر علمه ، نحرير أسرت آراؤه قلوب الأحرار من طلاّبه ، وكان لجامع أفكاره الفضل في إظهار عظمة النقد المحصّل وما احتوى من إفادات العلماء العظام ، فيلسوف تتباهى روحي أفلاطون وأرسطو بوجوده ، ويلهج لسان حال ابن سينا بشكر مساعيه الحميدة.

فيلسوف بحقّ وحكيم مطلق ، جامع المعقول والمنقول ، حاوي الفروع والاصول ، المولى الأعظم والحبر الأعلم ، مظهر الحقائق ، مبدع الدقائق ، أستاذ البشر ، أعلم أهل البدو والحضر ، متمّم علوم الأوائل والأواخر ، كاشف مشكلات المسائل

ص: 10

بالمآثر ، قدوة الحكماء وأفضل العلماء ، سلطان المحقّقين وبرهان المدقّقين ، ينبوع العلم ، مقنّن الرسوم ، مدّ اللّه ظلال إفاداته على رءوس العباد ، متّع اللّه المستفيدين بطول بقائه بمحمّد وآله. كان ماهرا في جميع العلوم ، ومفسّرا لدقائق آراء الأوائل والأواخر ، بل كان له سهم في تكامل العلوم (1).

2 - وقال الزنوزي في كتاب رياض الجنّة :

المولى الجليل محمّد مهدي بن أبي ذرّ الكاشاني النراقي.

كان عالما كاملا فاضلا صالحا جليلا محقّقا مدقّقا ثقة عدلا ثبتا ضبطا متضلّعا نحريرا متبحّرا فقيها حكيما متكلّما مهندسا معاصرا ، ماهرا في أكثر العلوم والفنون والكتب ، إسلاميّة كانت أم غيرها من الملل والأديان. وكان جليل القدر عظيم الشأن ، كريم الأخلاق حسن الآداب ، كثير التأليف ، جيّد التحرير والتعبير ، له مؤلّفات كثيرة لطيفة (2).

3 - وقال الخوانساري في روضات الجنّات :

العالم البارع والفاضل الجامع ، قدوة خيل أهل العلم بفهمه الإشراقي ، مولانا مهدي بن أبي ذرّ الكاشاني النراقي ...

كان من أركان علمائنا المتأخّرين وأعيان فضلائنا المتبحّرين ، مصنّفا في أكثر فنون العلم والكمال ، مسلّما في الفقه والحكمة والاصول والأعداد والأشكال (3).

4 - وكتب العلاّمة الطهراني في أعلام الشيعة :

المولى محمّد مهدي بن أبي ذرّ النراقي الكاشاني المتوفّى سنة 1209 هو جامع السعادات ومصنّفها ، ومعتمد الشيعة ومؤلّفها ، صاحب اللوامع وأنيس المجتهدين والتحفة الرضويّة ، حلاّل مشكلات العلوم في المنثور والمنظوم ، رئيس الأبرار وأنيس التجّار والموحّدين ، في المعاملات والعبادات وأصول الدين ، هذّب بتجريده أصول الأحكام ، وأحرق بمحرقه قلوب الأنام بعد تكميله

ص: 11


1- راجع شرح أحوال وآثار ... :1. 22.
2- المصدر : 24.
3- روضات الجنّات. راجع شرح أحوال وآثار ... : 34.

على الأركان الأعلام مثل صاحب الحدائق ، والمولى الخاجوئي ، والوحيد البهبهاني والمحدّث الفتوني ، وعلاّمة الزمان محمّد بن محمّد زمان ، والمولى مهدي الهرندي والمولى محمّد جعفر القاساني ... إلى أن ركب طائر القدس ولحق بمحلّ الانس وتوسّد التراب خلف مرقد مولاه أبي تراب عليه السلام ، ودفن من ورائه ولده أحمد ، سمي صاحب المستند عليه صلوات اللّه الملك الأحد. وخلّف تصانيفه الرائقة ، وفيها نخبة البيان البديع في بابي الاستعارة والتشبيه من فنّ البيان ، وتوضيح الإشكال ... وشرح لتحرير أقليدس ... وكتاب الرجال الذي رأيت النقل عنه في تأليفات بعض المعاصرين (1).

5 - وجاء في لباب الألقاب :

العارج أعلى المراقي ، الحاجّ الملاّ مهدي بن أبي ذرّ بن الحاجّ محمّد القمّي النراقي كان عالما عيلوما محقّقا مدقّقا ، أستاذ الكلّ في الكلّ ، جامعا لجميع العلوم العقليّة ، ماهرا حاذقا في العلوم الشرعيّة ، كاشفا عن أسرار دقائق لم يطّلع عليها من قبله ، مبيّنا لقواعد حقائق لم يؤسّسها سواه ، فلو قال قائل إنّه بحر العلوم على الحقيقة لما كان في هذا القول متجوّزا بل تكلّم بالحقيقة ، ولو قال قائل : إنّه العلاّمة لما استحقّ الملامة. ولقّبه بعض الأفاضل ب- « خاتم الحكماء والمجتهدين » وهو في محلّه. وقد تلمذ في الرياضيّات والحكمة على الملاّ إسماعيل الخاجوئي في أصفهان ثلاثين سنة ، وفي الشرعيّات على الوحيد البهبهاني مدّة مديدة ...

وحكايات مشقّته في التحصيل ، وتحميله للفقر والفاقة ، وصبره على نوائب الدهر وحوادث الجمّة معروفة ، ورياضاته وعباداته مشهورة حتّى أنّ بعض الصوفيّة ادّعى أنّه من مشايخ السلسلة ، ترويجا لعقيدته الفاسدة ، كلاّ إنّه كان رئيس الحكماء الإلهيّين ، وأعلم الفقهاء والمجتهدين ، وأصل الزهّاد وقدوة العابدين ولعمري إنّه كان ناصرا للملّة والدين ، بل آية من آيات اللّه داعيا إلى الحقّ المبين (2).

ص: 12


1- أعلام الشيعة ، القرن الثالث عشر. راجع شرح أحوال وآثار ... :1. 43.
2- لباب الألقاب : 92. راجع شرح أحوال وآثار ... :2. 44.

6 - وكتب العلاّمة حسن زادة الآملي :

منار شامخ للعلم والتحقيق ، استاذ الكلّ في الكلّ ، العلاّمة المولى مهدي - أو محمّد مهدي - بن أبي ذرّ بن الحاجّ محمّد النراقي رحمه اللّه. أحد نوابغ الدهر ، وجامع أزمّة العلوم والفنون ، السابق في كلّ فنّ ، ودائرة المعارف الناطقة ، والمكتبة العظيمة الحيّة المتحرّكة.

بلا شكّ فإنه يعتبر في الطراز الأوّل من علماء الإسلام الكبار ، في التبحّر والمهارة في جميع العلوم العقليّة والنقليّة بما فيها الأدبيّات والرياضيّات العالية ، ومن نوادر العصر في تحلّيه بالفضائل الأخلاقيّة والملكات الملكوتيّة.

له مصنّفات بارزة ومؤلّفات قيّمة في العلوم المختلفة ، تلقّى العلم في كاشان وأصفهان ، والعتبات المقدّسة في العراق ، على يد عظماء أمثال الملاّ إسماعيل الخاجوئي ، والملاّ محمّد جعفر بيدگلي ، والآغا محمّد باقر الوحيد البهبهاني وغيرهم ، ويعتبر من الأشخاص الذين يشار إليهم حين تذكر الفضائل (1).

7 - وكتب الاستاذ المرحوم السيّد جلال الدين الآشتياني رحمة اللّه عليه :

المجتهد البارع ، والحكيم المحقّق ، الملاّ محمّد مهدي النراقي.

من أكابر علماء الشيعة الذين يمتازون بالشمول والإحاطة والتبحّر والتخصّص في العلوم النقليّة والعقليّة ، والذين يقلّ نظيرهم : الآخوند الملاّ محمّد مهدي النراقي الكاشاني ، المتوفّى سنة 1209 ه ، مجتهد وحكيم عارف ورياضي ، عاش في أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر الهجري القمري ، يعتبر من خرّيجي الحوزة العلميّة في أصفهان ، كما استفاد لفترة من محضر الأساتذة المشهورين العظام في العتبات المقدّسة في كربلاء والنجف. كان النراقي في العلوم العقليّة والنقليّة من تلاميذ الفقيه والحكيم المحقّق الملاّ إسماعيل الخاجوئي والعالم البارع الشيخ محمّد ، والعالم المحقّق الملاّ مهدي الهرندي ، والاستاذ المحقّق الرياضي الآغا ميرزا نصير الأصفهاني (2).

ص: 13


1- مقدّمة خزائن. راجع شرح أحوال وآثار ... : 59.
2- راجع شرح أحوال وآثار ... :2. 70.

8 - وقال تلميذه محمّد بن الحاج طالب طاهرآبادي ، في إنهاء نسخة أنيس المجتهدين :

المولى الأعظم والحبر الأعلم ، سلطان العلماء الإلهيّين وبرهان الحكماء الراسخين ، رئيس المجتهدين ، مشيّد قواعد الاصوليّين ومسدّد أركان المهندسين ، كشّاف حقائق المتقدّمين ، صرّاف نقود المتأخّرين ، أفضل الأوائل المتبحّرين وأكمل الأواخر المسترشدين ، ثالث المعلّمين بل أوّلهم لو كشف الغطاء من البين ، عالم معالم التحقيق ، واقف مواقف التدقيق ، كاشف أستار المسائل ، مجمع إحراز الأواخر والأوائل ، استاذنا بل استاذ البشر والعقل الحادي عشر ، مولانا محمّد مهدي النراقي دام ظلّه العالي (1).

وقال في إنهاء نسخة جامع الأفكار وناقد الأنظار :

قد تمّ تسويد هذا الكتاب ... من مصنّفات استاذي بل استاذ الكلّ في الكلّ ، أفضل أعاظم المدقّقين وأكمل أفاخم المحقّقين ، الفائق على الأوائل والأواخر والأوّلين والآخرين ، الوحيد في عصره والفريد في دهره ، جامع المعقول والمنقول ، حاوي الفروع والأصول ، الجامع بين مرتبتي العلم والعمل ، الحافظ نفسه الشريفة عن الخطأ والزلل ، خاتم الحكماء والمجتهدين في أوانه ، وزبدة الفضلاء والمتبحّرين في زمانه ، محمّد مهدي أيّده اللّه وأبقاه (2).

9 - وقال ولده المولى أحمد النراقي :

والدي واستاذي ومن إليه في جميع العلوم العقليّة والنقليّة استنادي ، كشّاف قواعد الإسلام وحلاّل معاقد الأحكام ، ترجمان الحكماء والمتألّهين ، ولسان الفقهاء والمتكلّمين ، الإمام الهمام ، والبحر القمقام ، اليمّ الزاخر والسحاب الماطر ، الراقي في نفائس الفنون إلى أعلى المراقي (3).

مؤلّفاته في أصول الفقه

1. رسالة في الإجماع ؛ ألّفها في كربلاء ، سنة 1178.

ص: 14


1- راجع شرح أحوال وآثار ... : 93 و 107.
2- راجع شرح أحوال وآثار ... : 93 و 107.
3- المصدر : 37.

2. جامعة الاصول ؛ فرغ من تأليفها سنة 1180.

3. أنيس المجتهدين ؛ تمّ تأليفه سنة 1186.

4. تجريد الاصول ؛ فرغ من تأليفه سنة 1190.

أنيس المجتهدين

لا ريب في نسبة الكتاب إلى مؤلّفه المحقّق المولى محمّد مهدي النراقي.

يقول رحمه اللّه في مقدّمة الكتاب : « أمّا بعد ؛ فيقول الحقير في أنظار أرباب العقول ، مهديّ بن أبي ذرّ النراقي ... وسمّيته أنيس المجتهدين ».

وذكره ولده الفاضل المولى أحمد النراقي في تأليفات والده ، في رسالة كتبه في فهرس مؤلّفات والده ومؤلّفات نفسه (1).

كما وينقل ، أو يستند إلى بعض الآراء والأقوال ، عنه في مؤلّفاته الاصوليّة ، مثل أساس الأحكام وشرح تجريد الاصول ومناهج الأحكام.

ونسبه إليه المترجمون له (2) قاطبة.

تأريخ تأليفه

كتب المؤلّف في إنهاء نسخة الكتاب بخطّه الشريف ما نصّه :

قد تمّ كتاب أنيس المجتهدين ، والحمد لله على إتمامه. وقد فرغت عنه [ كذا ] في يوم الثامن من العشر الاول من الشهر الخامس من السنة السادسة من العشر التاسع من المائة الثانية من الألف الثاني من الهجرة النبويّة ، على مهاجرها ألف صلاة وتحيّة. أسأل اللّه أن يقيل به بعض عثراتي ، ويكتبه في صحائف حسناتي ، ويجعله ممّا ينتفع به الأذكياء ، ويوصل إليّ آخرة في دار الجزاء.

ص: 15


1- راجع عوائد الأيّام : 66 ، مقدّمة التحقيق.
2- راجع : الذريعة إلى تصانيف الشيعة 2 : 464 ، الرقم 1804 ؛ ريحانة الأدب 6 : 165 ؛ تاريخ كاشان : 280 ؛ لباب الألقاب : 92.

فعلى ذلك فرغ المؤلّف من تأليفه يوم الثامن من شهر جمادى الأولى سنة 1186 من الهجرة النبويّة.

ماهيّته

قال رحمه اللّه في مقدّمة الكتاب :

إنّ علم الاصول ممّا لا يخفى علوّ رتبته وسموّ مرتبته ... وتوقّف المباحث الشرعيّة عليه ، وافتقار المسائل الفرعيّة إليه ، وهو عمدة ما يحصل به الاجتهاد ، والوصول إليه دونه خرط القتاد.

وإنّي بعد ما سرّحت النظر في مراتع مسائله ، وأجلت الفكر في ميادين دلائله ظفرت على فوائد جمّة خلت عنها كتب أكثر العلماء ، وعثرت على قواعد مهمّة لم يأت بها أولوا الأيدي الأذكياء ، فجمعتها في هذا الكتاب ؛ تبصرة للأحباب وتذكرة لاولي الألباب ، لعلّ اللّه ينفعني به يوم الحساب ، إنّه هو الكريم الوهّاب.

ودأبي في هذا الكتاب تحقيق ما هو الحقّ من المسائل ، وذكر ما هو الأتمّ من الدلائل ، ولا أتعرّض لذكر ما هو تطويل بلا طائل ... وكذا لا أتعرّض لنقض جميع أدلّة الخصوم. بل لما يستصعب على المفهوم ، واشير في كلّ أصل إلى مسألة فرعيّة تتفرّع عليه ؛ ليحصل بذلك الوقوف على كيفيّة التفريع.

وقد رتّب الكتاب على مباحث ذوات أبواب ، ذوات فصول. وأشار في ذيل كلّ أصل إلى مسألة أو مسائل فرعيّة تتفرّع عليه للوقوف على كيفيّة التفريع للفقيه.

فرتّب الكتاب على مباحث خمسة :

المبحث الأوّل في المقدّمات ، وفيه ثلاثة أبواب ، ومجموع فصولها خمسون.

المبحث الثاني في الأدلّة الشرعيّة : الكتاب ، والسنّة ، والإجماع ، والأدلّة العقليّة. في خمسة أبواب ، ومجموع فصولها ثمانون.

المبحث الثالث في مشتركات الكتاب والسنّة ، وفيه سبعة أبواب. ومجموع فصولها مائة وخمسة عشر.

ص: 16

المبحث الرابع في الاجتهاد والتقليد ، وفيه بابان في سبعة عشر فصلا.

المبحث الخامس في التعادل والتراجيح ، وفيه ثلاثة فصول.

عملنا في الكتاب

أ - نسخ الكتاب

1. نسخة مكتبة الحاج الشيخ محمّد ، سلطان المتكلّمين في طهران.

2. نسخة مكتبة الحاج الشيخ علي أكبر النهاوندي في مشهد الرضا. سنة تحريرها 1205 ه.

3. نسخة مكتبة الشيخ عبد الحسين الحلّي في النجف الأشرف ، التي حرّرت في زمان حياة المؤلّف.

4. نسخة مكتبة الحوزة العلميّة في قزوين.

5. نسخة مكتبة آية اللّه الحكيم رحمة اللّه عليه في النجف الأشرف.

6. نسخة مكتبة شاه چراغ في شيراز.

7. نسخة مكتبة مدرسة الآخوند الهمداني في همدان ، بخطّ محمّد بن الحاج طالب طاهرآبادي ، تلميذ المؤلّف ، سنة 1192 ه.

8. نسخة مكتبة جامعة الإلهيّات في مشهد الرضا ، حرّرت في سنة 1190 ه.

9. نسخة مكتبة المدرسة الفيضيّة في قم المقدّسة ، بخطّ الميرزا مجد الدين بن أبي القاسم النراقي في سنة 1334 ه.

10. نسخة مكتبة المسجد الأعظم في قم المقدّسة.

11. نسخة مكتبة أمير المؤمنين عليه السلام في النجف الأشرف.

12. نسخة مكتبة آية اللّه الشهيد القاضي الطباطبائي في تبريز (1).

ص: 17


1- فهرست نسخه هاى خطى كتابخانه إمام صادق عليه السلام قزوين 1 : 43 ؛ فهرست نسخه هاى خطى كتابخانه غرب - مدرسه آخوند همدان : 63 - 64 ؛ فهرست نسخه هاى خطى كتابخانه مسجد أعظم قم : 37 ؛ شرح أحوال وآثار ملاّ مهدى نراقى وملاّ أحمد نراقى : 93 - 95.

13. نسخة مكتبة المرحوم آية اللّه المرعشي النجفي في قم المقدّسة ، المرقّمة ب 4216 بخطّ طاهر الحسيني الأنجداني ، سنة 1234 ه ( ؟ ) في سلطان آباد.

ووقع اختيارنا على النسختين التاليتين :

14. نسخة مكتبة المرحوم آية اللّه المرعشي النجفي في قم المقدّسة ، المرقّمة ب 379.

حرّرت بيد علي نقي البزّاز ، بأمر المؤلّف ، في خامس شوّال سنة 1186. أشرنا إليها برمز « أ ».

وهذه النسخة من أجود النسخ خطّا ، واعتمدنا عليها ؛ لأنّها مصحّحة وفي آخرها إشارة إلى مقابلتها مع نسخة المؤلّف :

وقد انتسخت من النسخة التي نسخت من نسخة الأصل بخطّ المصنّف ، وقد كنت مأمورا بأمره العالي بانتساخه ، وأنا أقلّ عبيد ربّ المشرقين ، محمّد حسين بن علي نقي البزّاز الكاشاني.

ومن مميّزات هذه النسخة أنّها قوبلت مع نسخة الأصل وأربع نسخ اخرى ، وصحّحت مجدّدا بأمر المؤلّف ، وبواسطة محمّد ابن الحاجّ طالب الطاهرآبادي ، من تلاميذ المؤلّف.

وهذا نصّ عبارته :

وقد أمرني بمقابلة هذه النسخة وأربع نسخ اخرى مع نسخة الأصل التي كتبها بيده الكريمة.

وقد اتّفق الفراغ في سنة (1189) من الهجرة النبويّة المصطفويّة. والمرجوّ من ألطافه أن يدعو لي بصالح الدعاء ، وليتكثّر (1) لي ما عانيت في هذه المقابلة من الكدّ والعناء.

وكتب ذا الفقير إلى اللّه الهادي ، محمّد بن الحاجّ طالب الطاهرآبادي في سنة (1189) هجريّة.

15. أيضا نسخة مكتبة المرحوم آية اللّه المرعشي النجفي في قم المقدّسة ، المرقّمة ب 10256 ، وهذه النسخة فيها أغلاط كثيرة وسقط في العبارة ، وأشرنا إليها برمز « ب » ، واستفدنا منها في بعض الموارد.

ص: 18


1- كذا.
ب - تخريج الأحاديث

حاولنا تخريج الأحاديث التي أوردها المؤلّف - طاب ثراه - نصّا أو مضمونا عن طرق الخاصّة والعامّة من المصادر الأصليّة المشار إليها في المتن ، كالكتب الأربعة وغيرها.

وخرّجنا أحاديث العامّة عن طرقهم التي ورد ذكرها في غير واحد من كتب الصحاح والسنن ، وفي بعض الموارد من كتبهم الفرعيّة.

ج - تخريج الأقوال

1. حاولنا تخريج الأقوال والآراء الواردة في المتن تصريحا أو تلويحا ، وإرجاعها إلى مصادرها ، وبذلنا ما في وسعنا من الجهد لتخريج الأقوال من مصادرها الأصليّة.

وفي الموارد التي أشار رحمه اللّه فيها إلى أقوال الفقهاء ، أو نسب القول إلى الأكثر ، ذكرنا لها أكثر من مصدر.

2. خرّجنا الإجماعات المنقولة ، أو الشهرة المنقولة من كتب المتقدّمين.

3. خرّجنا الأقوال والآراء التي لم يسمّ المؤلّف رحمه اللّه قائلها واكتفى بالتعبير عنها بمثل :

نقل ، قيل ، بعض الأصحاب ، بعض الاصوليّين ، وغيرها.

د - تقويم النصّ وتنظيم الهوامش

1. اعتمدنا في التحقيق على النسختين اللتين مرّ وصفهما ، وأشرنا إلى بعض الاختلافات التي تغيّر المعنى في الهامش.

2. ميّزنا نصّ الآيات الشريفة القرآنيّة ، بوضعها ما بين القوسين المظهّرتين ، هكذا : ( ... ).

وميّزنا نصّ الأحاديث بوضعها ما بين القوسين المتضايفين ، هكذا : « ... » وكذا نصّ الأقوال الواردة ، وإن كان القول أكثر من سطر وضعناه مصفوفا على اليسار.

3. أمّا الإضافات التي أوردناها - لاستقامة العبارة ، أو من المصادر - فقد وضعناها بين معقوفين ، هكذا : [ ... ].

وتعميما للفائدة ختمنا التحقيق باستخراج فهارس علميّة وفنّيّة شاملة ، تتيح للقارئ الكريم الوصول إلى ما يريد بأقصر الطرق وأيسرها ، يجدها القارئ مطبوعة في آخر الجزء الثاني من هذا الكتاب.

ص: 19

كلمة شكر

ويسّرنا هنا أن نتقدّم بجزيل الشكر وجميل الثناء إلى كافّة الإخوة الأعزّاء الذين ساهموا في تحقيق وإخراج هذا الكتاب الجليل ، نخصّ منهم بالذكر :

الإخوة المحقّقين : فضيلة الشيخ نعمت اللّه جليلي ، والشيخ غلام رضا النقي ، والشيخ ولي اللّه القرباني ، فإنّهم تولّوا معا تحقيق الكتاب ، من مراجعة المصادر وتقويم النصّ والتقطيع ، كما أنّ الشيخ جليلي تصدّى للمراجعة العلميّة لكلّ الكتاب ، والشيخ القرباني تصدّى ثانيا لمراجعة المصادر وتنظيم الهوامش.

والأخوان إسماعيل بيك المندلاوي وطه النجفي في تصحيح التجارب المطبعيّة.

والشيخ محسن النوروزي في المراجعة النهائيّة وإصلاح ما زاغ عنه البصر ، ووضع الفهارس.

والأخوان محمّد خازن ورمضان علي القرباني في تنضيد الحروف وتصحيحها ، وتنظيم الصفحات وإخراجها على أحسن صورة.

ولا ننسى أن نتقدّم بالشكر الخالص إلى كلّ من أسدى خدمة في إنجاز هذا الكتاب وإخراجه إلى النور ، خصوصا مسئولي مركز العلوم والثقافة الإسلاميّة حيث أتاحوا لنا فرصة تحقيق هذا السفر القيّم. والإخوة الأعزّاء في قسم النشر حيث بذلوا جهدهم لإخراج الكتاب بهذه الحلّة القشيبة.

نسأل اللّه تعالى لهم التوفيق في أعمالهم ، ومضاعفة الأجر والثواب منه تعالى ، وعليه نتوكّل وبه نثق وإيّاه نستعين.

علي أوسط الناطقي

المشرف على مركز إحياء التراث الإسلامي

15 ربيع الثاني 1429

قم المقدّسة - ايران

ص: 20

الصورة

ص: 21

الصورة

ص: 22

الصورة

ص: 23

الصورة

ص: 24

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي جعل علم الاصول وسيلة للصعود إلى مدارج حقائق المباحث الشرعيّة ، وصيّره ذريعة للعروج إلى معارج دقائق المسائل الفقهيّة.

أحمده على ما ألهمنا من قواعد المعارف والعلوم الأصليّة ، ووفّقنا للإرشاد إلى مسالك مدارك دروس الشرائع والأحكام الفرعيّة.

والصلاة والسلام على نبيّنا الذي مهّد القوانين والضوابط الكلّيّة ، ولم يدع شيئا من المطالب والمقاصد الجزئيّة. فصلوات اللّه عليه وعلى آله الذين قرّروا المعالم الدينيّة ، وبيّنوا النواميس النبويّة.

أمّا بعد ؛ فيقول الحقير في أنظار أرباب العقول ، مهديّ بن أبي ذرّ النراقي - حشرهما اللّه مع آل الرسول - : إنّ علم الأصول ممّا لا يخفى علوّ رتبته ، وسموّ مرتبته ، وجلالة شأنه ، وشرافة مكانه ، وفخامة فائدته ، وجسامة عائدته ، ومتانة دلائله ، ورشاقة مسائله ، ووثاقة مبانيه ، وحلاوة معانيه ، وتوقّف المباحث الشرعيّة عليه ، وافتقار المسائل الفرعيّة إليه ، وهو عمدة ما يحصل به الاجتهاد ، والوصول إليه دونه خرط القتاد (1).

وإنّي بعد ما سرحت النظر في مراتع مسائله ، وأجلت الفكر في ميادين دلائله ، ظفرت على فوائد جمّة خلت عنها كتب أكثر العلماء ، وعثرت على قواعد مهمّة لم يأت بها اولو الأيدي الأذكياء ، فجمعتها في هذا الكتاب ؛ تبصرة للأحباب ، وتذكرة لاولي الألباب ، لعلّ

ص: 25


1- مثل يضرب لبيان كون الأمر مشكلا جدّا ، كما في المعجم الوسيط : 714 ، « ق ت د » : « يضرب للشيء لا ينال إلاّ بمشقّة عظيمة ».

اللّه ينفعني به يوم الحساب ، إنّه هو الكريم الوهّاب.

ودأبي في هذا الكتاب تحقيق ما هو الحقّ من المسائل ، وذكر ما هو الأتمّ من الدلائل ، ولا أتعرّض لذكر ما هو تطويل بلا طائل ، كما هو مذكور في بعض كتب (1) اولي الفضائل ؛ لأنّي لم أر في مثل ذلك مدحا ، ولذلك طويت عنه كشحا.

وكذا لا أتعرّض لنقض جميع أدلّة الخصوم ، بل لما يستصعب على الفهوم ، واشير في كلّ أصل إلى مسألة فرعيّة تتفرّع عليه ؛ ليحصل بذلك الوقوف على كيفيّة التفريع ، وسمّيته أنيس المجتهدين. ورتّبته على مباحث ذوات أبواب ذوات فصول.

ص: 26


1- في « ب » : « كتب بعض ».

المبحث الأوّل : في المقدّمات

اشارة

وفيه أبواب :

ص: 27

ص: 28

الباب الأوّل : في نبذ من أحواله

اشارة

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : في تعريفه
اشارة

اعلم أنّ لفظ « اصول الفقه » لمّا كان مركّبا إضافيّا من « الاصول » و « الفقه » ، ولكلّ واحد من جزءيه معنى لغوي واصطلاحي ، ثمّ صارا علما لعلم خاصّ ؛ فحصل له تعريفان باعتبارين :

أحدهما : باعتبار التركيب. وتعريفه بهذا الاعتبار إنّما يحصل بتعريف كلّ واحد من جزءيه ؛ لأنّ تعريف المركّب إنّما يحصل بتعريف أجزائه.

وثانيهما : باعتبار العلميّة. وبهذا الاعتبار لا يلتفت إلى الأجزاء من حيث دلالتها على معانيها اللغويّة أو العرفيّة ، بل يلتفت إليها من حيث إنّها صارت علما لعلم مخصوص ، ولذا ترى الاصوليّين (1) يعرّفون أوّلا كلّ واحد من لفظي : « الاصول » و « الفقه » ؛ ليحصل التعريف بالاعتبار الأوّل. ثمّ يعرّفون علم الاصول باعتبار العلميّة.

وغير خفيّ أنّ ما هو من المبادئ إنّما تعريفه بالاعتبار الثاني لا الأوّل. نعم ، فيه زيادة بصيرة ، فنحن أيضا نقتدي بهم لذلك ، فنقول في تعريفه بالاعتبار الأوّل :

الاصول لغة : ما يبنى عليه غيره (2). وعرفا : عبارة عن الأدلّة ؛ لابتناء المدلولات عليها.

ص: 29


1- راجع : المحصول 1 : 78 ، ونهاية السؤل 1 : 5 و 6 ، ومعارج الاصول : 47.
2- المصباح المنير : 16 ، « أ ص ل ».

والفقه لغة : الفهم (1) وهو جودة الذهن من حيث استعداده لتحصيل المطالب ، لا العلم على الأصحّ.

واصطلاحا : قد عرّف بتعريفات كثيرة أكثرها لا يخلو من اختلال إمّا في العكس ، أو الطرد.

والصحيح منها هو : أنّه العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة.

وفائدة كلّ واحد من القيود الثلاثة ظاهرة.

وفائدة القيد الرابع إخراج علم اللّه والملائكة والأنبياء. والقيد الخامس لإخراج علم المقلّد ؛ فإنّه ليس مكتسبا من الأدلّة التفصيليّة ، بل من دليل إجمالي مطّرد في جميع ما يعلمه ، وهو أنّ هذا ما أفتى به المفتي ، وكلّ ما أفتى به المفتي فهو حكم اللّه في حقّي ؛ فهذا حكم اللّه في حقّي.

وأمّا خروج ما علم كونه من الدين ضرورة - كوجوب الصلاة والزكاة والصوم ، وحرمة الخمر والميتة - فيمكن بكلّ واحد من القيدين الأخيرين. فتأمّل.

وهذا التعريف للفقه إنّما هو بحسب اصطلاح المتشرّعة ، والفقيه على هذا هو من حصّل الأحكام بالنحو المذكور ، وهو المعبّر عنه بالمجتهد.

وأمّا العرف العامّ ، فقد يطلق الفقه على العلم بجملة من الأحكام ولو كان عن تقليد ، والفقيه - على هذا - من حصّل جملة من الأحكام ولو تقليدا.

فحينئذ لو أوصى أحد بمال للفقهاء فهل يحمل « الفقهاء » على المعنى الأوّل أو الثاني (2)؟ الظاهر الثاني ؛ لأنّ العرف العامّ مقدّم على الاصطلاح ، كذا رجّح الشهيد الثاني (3) وهو كذلك ؛ لأنّ المعنى الاصطلاحي ليس من اصطلاح ( الشرع ، بل من اصطلاح ) (4) المتشرّعة ، وكذا الحكم في الأوقاف ، والأيمان ، والنذور ، والتعليقات.

ص: 30


1- الصحاح 4 : 2243 ، والنهاية في غريب الحديث والأثر 3 : 465 ، « ف ق ه ».
2- في « ب » : « الأوّل فقط ، أو عليه وعلى الثاني ».
3- تمهيد القواعد : 34 ، ذيل القاعدة 1.
4- ما بين القوسين لم يرد في « ب ».

ثمّ إنّه أورد على التعريف المذكور إيرادان (1) :

أحدهما : أنّ « الأحكام » جمع معرّف باللام وهو يفيد العموم ، فيلزم منه أن لا يصدق « المجتهد » إلاّ على من كان عالما بجميع الأحكام ، وهذا لا يتمّ في حقّ أكثر المجتهدين ، بل جميعهم.

وأصحّ الأجوبة عنه أنّ المراد بالعلم بالأحكام هو التهيّؤ القريب له ، وإطلاق العلم عليه شائع ، سيّما في مباحث الفقه.

ولدفع هذا الإيراد زاد بعضهم في التعريف « فعلا أو قوّة قريبة » (2).

والحقّ عدم الاحتياج إليه ؛ لما ذكر (3).

وثانيهما : أنّ الفقه غالبا من باب الظنّ ؛ لابتنائه على أخبار الآحاد ، والإجماعات المنقولة ، والأدلّة الاصوليّة المفيدة للظنّ ، فكيف اطلق عليه العلم؟!

وأصحّ الأجوبة عنه أنّ المراد بالعلم معناه الأعمّ ، وهو ترجيح أحد الطرفين وإن لم يمنع من النقيض ، وهذا الإطلاق في المباحث الفقهيّة شائع.

فائدة

اعلم أنّ الاصوليّين أجمعوا على جواز العمل بظنّ المجتهد في نفس الأحكام وموضوعاتها ، وبعض الأخباريّين على عدم جواز العمل به في الأوّل دون الثاني (4) ، وبعضهم عليه مطلقا (5).

واستدلّ الأخباريّون بالعمومات والإطلاقات الدالّة على المنع من الظنّ (6).

ثمّ إنّهم لمّا قالوا بعدم جواز العمل بالظنّ اضطرّوا إلى القول بوجوب تحصيل اليقين في

ص: 31


1- راجع تمهيد القواعد : 1. القاعدة 1.
2- راجع تمهيد القواعد : 1. القاعدة 1.
3- أي التهيّؤ القريب له.
4- منهم الاسترآبادي في الفوائد المدنيّة : 181.
5- لم نقف عليه من الأخباريّين. ونسبه البهبهاني إلى غير الأخباريّين في الفوائد الحائريّة : 4. الفائدة 6.
6- هي الآيات العامّة أو المطلقة الناهية عن العمل بالظنّ : منها قوله تعالى : ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) ، النجم (53) : 28 ؛ ومنها الآية 36 من الإسراء (17). راجع الفوائد المدنيّة : 185 و 186.

الأحكام الشرعيّة (1) ؛ فأعرضوا عن الأدلّة الاصوليّة لظنّيّتها ، ولم يمكن لهم إنكار حجّيّة أخبار الآحاد ؛ لانسداد باب الفقه حينئذ ؛ فقالوا : إنّها تفيد العلم (2).

وبما ذكرنا ظهر أنّ مناط الفرق بين المجتهد والأخباريّ أنّ الأوّل يجوّز العمل بالظنّ في الأحكام ، بخلاف الثاني ؛ فإنّه يشترط اليقين.

ولا يخفى أنّ حقّيّة مذهب المجتهدين في غاية الظهور ؛ فإنّ الإجماع منعقد على جواز العمل بظنّ المجتهد ، كما ادّعاه جمع كثير (3). وليس هذا الإجماع من الشيعة فقط ، بل من جميع المسلمين ، فخلاف طائفة قليلة من الأخباريّين لا اعتداد به ، سيّما مع كونهم من المتأخّرين ؛ لأنّ هذا الخلاف نشأ منهم.

والجواب عمّا استدلّوا به : أنّ الحكم المستنبط من اجتهاد المجتهد ليس من باب الظنون ، بل الظنّ في طريقه. وأمّا نفس الحكم فهو معلوم ؛ لكونه حكم اللّه يقينا في حقّه ، فإذا غلب على ظنّ المجتهد حكم شرعيّ بطريق شرعي ، يحصل عنده قياس يقينيّ منتج لمطلوبه ، وهو أنّ هذا الحكم مظنون الثبوت عندي بالطريق الشرعيّ ، وكلّ مظنون الثبوت عندي بالطريق الشرعيّ حكم اللّه يقينا في حقّي ، ينتج ، هذا حكم اللّه يقينا في حقّي.

والصغرى يقينيّة وجدانيّة ، والكبرى ثابتة بالإجماع ، فالحكم المستنبط من الاجتهاد وإن لم يكن معلوما يقينا أنّه حكم اللّه الواقعيّ ، إلاّ أنّه يعلم أنّه حكم اللّه في حقّ المجتهد يقينا ، فهو خارج عن باب الظنون الممنوع عنها ؛ لأنّ المراد منها الظنون التي لم يكن العمل بها واجبا في حقّ الظانّ. والمخرج هو الإجماع.

ثمّ إنّك إن تأمّلت في حديث الإجماع ، فاستمع حتّى يثبت لك المطلوب بطريق برهاني قطعيّ لا ينكر عليه.

فنقول : أدلّة الفقه منحصرة بالكتاب ، والأخبار ، والأدلّة العقليّة الاصوليّة.

والأدلّة العقليّة ، كالاستصحاب ، وأصل العدم ، والقياس وغيرها لا تفيد إلاّ الظنّ ، وكذا

ص: 32


1- الفوائد المدنيّة : 104.
2- المصدر : 144 - 145.
3- منهم ابن الحاجب في منتهى الوصول : 220 ، وعضد الدين في مختصر المنتهى : 481 ، والشيخ حسن في معالم الدين : 239.

أكثر الإجماعات. والقطعيّة منها قليلة ، مع أنّ الأخباريّين قالوا بعدم حجّيّة هذه الأدلّة جميعا.

والكتاب وإن كان قطعيّ المتن إلاّ أنّه ظنّي الدلالة.

والأخبار متواترها قليلة جدّا ، حتّى اعترف بعض بعدم وجودها في أخبارنا رأسا (1).

وآحادها لا تفيد إلاّ الظنّ ؛ لأنّها ظنّيّة السند ، بل أكثرها ظنّي الدلالة أيضا ، وقد وقع فيها تحريفات وتصحيفات وتقطيعات ، وخرج كثير منها مخرج التقيّة ، مع أنّه قد كثر عليهم عليهم السلام الكذّابة.

وورد في الاحتجاج أنّ من أسباب اختلاف الأحاديث افتراء أهل الكذب عليهم (2).

وورد النصّ الصحيح بأنّ المغيرة بن سعيد يدسّ (3) في كتب أصحاب الأئمّة عليهم السلام أحاديث لم يرووها (4) ، وكذا أبو الخطّاب (5).

ومع ذلك أخبارنا متعارضة ، ولا بدّ لنا من الجمع أو الترجيح وهما موقوفان على الظنون الاجتهاديّة. والترجيح بالمرجّحات المنصوصة - كما هو دأب الأخباريّين - أيضا ظنّي ؛ لأنّها أخبار آحاد ، مع أنّها أيضا متعارضة ؛ فإنّ بعضها يدلّ على وجوب أخذ الأوفق بالقرآن أوّلا (6) ، وبعضها يدلّ على وجوب أخذ المخالف لمذهب العامّة أوّلا (7) ، وبعضها على وجوب أخذ الأصحّ سندا أوّلا (8) ، وبعضها على وجوب أخذ المجمع عليه أوّلا (9).

وكذا وقع التعارض فيها في وجوب الأخذ ثانيا وثالثا ورابعا ، فهذه المرجّحات المنصوصة أيضا محتاجة في الترجيح إلى الظنون الاجتهاديّة.

فظهر أنّ جميع أدلّة الفقه - إلاّ قليلها - لا يفيد إلاّ الظنّ ، فلو لم يعمل بالظنّ يلزم انسداد باب الفقه مع كون التكليف باقيا ، وهذا محال.

ص: 33


1- قاله كاشف الغطاء في كشف الغطاء 1 : 218.
2- الاحتجاج 1 : 626 ، ح 146 ، والفوائد الحائريّة : 123 ، الفائدة 6.
3- في هامش « أ » : « يقال : دسّه دسّا : إذا أدخله في شيء بقهر وغلبة وعنف ومكر ، والدسيس : إخفاء المكر ». راجع لسان العرب 6 : 3. « د س س ».
4- راجع اختيار معرفة الرجال : 4. ح 401.
5- راجع اختيار معرفة الرجال : 5. ح 401.
6- راجع وسائل الشيعة 27 : 6. أبواب صفات القاضي ، الباب 9 ، ح 29 و 31.
7- راجع وسائل الشيعة 27 : 7. أبواب صفات القاضي ، الباب 9 ، ح 29 و 31.
8- راجع الكافي 1 : 67 و 68 ، باب اختلاف الحديث ، ح 10.
9- راجع عوالي اللآلئ 4 : 133 ، ح 229.

هذا ؛ وأمّا تعريف أصول الفقه بالاعتبار الثاني أي العلميّة : فالعلم بالقواعد التي يتوصّل بها إلى استنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة.

الفصل الثاني : في موضوعه

اعلم أنّ موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة ، أو عن العوارض الذاتيّة لنوعه ، أو لعوارضه الذاتيّة.

وبالترديدين يندفع ما أورد على القوم - حيث سامحوا ، وخصّصوا البحث عن عوارضه الذاتيّة فقط - بأنّه يجب على هذا أن يكون جميع موضوعات المسائل موضوع العلم ، وليس كذلك ؛ فإنّ أكثر موضوعاتها إمّا أنواعه ، أو أعراضه الذاتيّة.

ووجه الاندفاع أنّ هذا مسامحة منهم ، ومقصودهم ما ذكرناه ، ولذا صرّح به بعض القدماء كالشيخ الرئيس (1) وغيره.

والعرض الذاتي : ما يلحق الشيء لذاته ، كالتعجّب للناطق.

أو لجزئه المساوي ، كالتعجّب للإنسان.

أو لجزئه الأعمّ - على رأي المتأخّرين (2) - كالتحرّك بالإرادة للإنسان. وهذا القسم لم يعدّه القدماء من الأعراض الذاتيّة ، بل الغريبة. وتصفّح مسائل العلوم يؤيّد قول المتأخّرين ، مثلا أهل الهيئة يبحثون عن الحركة مع أنّ عروضها للفلك بواسطة الجسم الذي هو جزؤه الأعمّ.

أو لعرض يساوي ذاته ، كالضحك للإنسان.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ موضوع علم الاصول هو الأدلّة الشرعيّة ؛ لأنّه يبحث فيه :

إمّا عن العوارض الذاتيّة لأنفسها ، كما يقال : الكتاب حجّة ، أو السنّة حجّة ، أو الإجماع حجّة.

ص: 34


1- راجع الشفاء ( المنطق ، كتاب البرهان ، المقالة الثانية من الفنّ الخامس ، الفصل الثاني في المحمولات الذاتيّة ) ، 3 : 125 وما بعدها.
2- راجع نهاية الوصول إلى علم الأصول 1 : 67.

أو عن العوارض الذاتيّة لأنواعها ، كما يقال : المحكم من الكتاب كذا ، والناسخ منه كذا ، وأخبار الآحاد حجّة ، والعامّ كذا ، والخاصّ كذا ، والمطلق أو المقيّد أو المجمل أو المبيّن كذا ، والإجماع المنقول كذا.

أو عن العوارض الذاتيّة لعوارضها الذاتيّة ، كما يقال : العموم كذا ، والخصوص كذا ؛ فإنّهما من العوارض الذاتيّة للأدلّة الشرعيّة ، فالبحث عن حالهما بحث عن العوارض الذاتيّة للعوارض الذاتيّة للأدلّة الشرعيّة.

وأمّا البحث عن التراجيح والاجتهاد ، فهو بحث عن العوارض الذاتيّة لذات الموضوع أو أنواعه ؛ لأنّهما لمّا كانا معتبرين بالقياس إلى الأدلّة ، فهما من عوارضها ، أو عوارض أنواعها ، بل بعض مسائلهما يكون البحث فيها عن عوارض العوارض أيضا ، كما لا يخفى.

ثمّ مسائل كلّ علم لمّا كانت هي المطالب المثبتة فيه - أعني المجموع المركّب من الموضوع والمحمول - فقولنا : الإجماع حجّة ، والأمر يقتضي الوجوب ، وأمثالهما من مسائل علم الاصول.

الفصل الثالث : في مرتبته وفائدته ومعرفته

أمّا مرتبته ، فبعد الكلام ، والعربيّة ، والمنطق ، ووجهه معلوم.

وأمّا فائدته ، فاستنباط الأحكام الشرعيّة ، وهي سبب الفوز بالسعادات.

وأمّا معرفته ، فكفائيّة على الأصحّ ، والسرّ معلوم.

ص: 35

الباب الثاني : في المبادئ اللغويّة

اشارة

وفيه فصول :

فصل [1]

اعلم أنّ المبادئ على قسمين : تصوّريّة ، وتصديقيّة.

والاولى : تصوّر أشياء يتوقّف الشروع مع البصيرة عليه ، فالمبادئ التصوّريّة لعلم الاصول حدّه ، وحدّ موضوعه وأجزائه وجزئيّاته وأعراضه الذاتيّة ، وتصوّر غايته ومرتبته. وقد أشرنا إلى بعضها (1) ، وسنشير إلى بواقيها في مواضع تليق بها.

ومن جملة المبادئ التصوّريّة لهذا العلم تصوّر الأحكام الخمسة مع ما يتعلّق بها ؛ لأنّ الناظر فيه ينظر في أدلّتها ، ومقصوده إثباتها ونفيها ، فلا بدّ أن يكون متصوّرا لها. وهذا ما يعبّر عنه ب- « المبادئ الأحكاميّة ». ونذكرها في الباب الآتي (2) إن شاء اللّه.

والثانية : مقدّمات يتوقّف الاستدلال في هذا العلم عليها. وهي قد تكون بديهيّة ، وقد تكون نظريّة مثبتة في علم آخر. فالمبادئ التصديقيّة لهذا العلم طائفة من مسائل : الكلام ، والعربيّة ، والمنطق. ووجه توقّفه عليها ظاهر.

وقد جرت عادة القوم بذكر بعض مسائل اللغة هنا ؛ لشدّة الاحتياج في هذا العلم إليها ،

ص: 36


1- مرّ تعريفه في الفصل الأوّل ص 29 ، وتعريف موضوعه وما يرتبط به في الفصل الثاني ص 34 ، وبيان مرتبته وفائدته ومعرفته في الفصل الثالث ص 35.
2- يأتي في الباب الثالث : 95.

وتفريع بعض الفروع عليها ، وهو الذي يعبّر عنه ب- « المبادئ اللغويّة ». ونذكرها في هذا الباب إن شاء اللّه.

فصل [2]

اللغة : كلّ لفظ وضع لمعنى. والحقّ أنّه ليس بين اللفظ والمعنى مناسبة ذاتيّة - كما ذهب إليه عبّاد بن سليمان الصيمري (1) ، وأهل التكسير (2) ، وبعض المعتزلة (3) - وإلاّ كان كلّ أحد عالما بكلّ لغة ، ولم يوضع لفظ واحد للنقيضين والضدّين ، كالقرء للطهر والحيض ، والجون للأسود والأبيض.

واستدلّ المخالف : بأنّه لو لم يكن بين اللفظ والمعنى مناسبة طبيعيّة لكان تخصيص هذا اللفظ بهذا المعنى ترجيحا بلا مرجّح (4).

والجواب : أنّ المرجّح هو سبق المعنى إلى ذهن الواضع.

وهذا الجواب على ما نختاره - من أنّ اللغات اصطلاحيّة وواضعها البشر - صحيح.

وعلى مذهب التوقيف فالجواب أنّ المرجّح هو إرادة الواضع المختار. وهذا الجواب يتأتّى على ما اخترناه أيضا.

فصل [3]

اختلف العلماء في أنّ اللغات توقيفيّة أو اصطلاحيّة؟

فذهب بعضهم إلى أنّها توقيفيّة (5) ، أي وضعها اللّه تعالى ، ووقّفنا عليه بالوحي إلى الأنبياء ، أو بخلق أصوات تدلّ عليه ، وأسمعها واحدا أو جماعة ، أو بخلق علم ضروريّ بها.

وذهب بعضهم إلى أنّها اصطلاحيّة (6) ، يعني أنّ واضعها البشر واحدا أو جماعة ثمّ حصل

ص: 37


1- حكاه عنه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 109.
2- أي أرباب علم التكسير.
3- راجع الإحكام في أصول الأحكام 1 : 109.
4- راجع الإحكام في أصول الأحكام 1 : 109.
5- منهم : ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 32 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 111.
6- نسبه الفخر الرازي إلى أبي هاشم في المحصول 1 : 182.

التعريف باعتبار الإشارة ، والتكرار ، والترديد بالقرائن ، كما في الأطفال يتعلّمون اللغات.

وذهب بعض إلى أنّ القدر المحتاج إليه في معرفة الاصطلاح توقيفيّ والباقي اصطلاحيّ (1).

وذهب جمع إلى التوقّف (2).

والحقّ المذهب الثاني ؛ لأنّا نعلم بالبداهة أنّ كثيرا من اللغات حدثت من الناس في وقت لم يكن بينهم نبيّ ، ولم يدّع أحد استماع صوت ، ولا علما ضروريّا بأنّ هذا موضوع لذاك.

نعم ، يمكن القول بإلهام بعض الناس بأن يضع (3) هذا اللفظ لهذا المعنى ، لا بأنّ هذا اللفظ وضعه اللّه لهذا المعنى ؛ لأنّه لم يدّع أحد ذلك ، ولو كان الأمر كذلك لسمع أو نقل ادّعاؤه من أحد.

وبالجملة ، هذا خلاف المعتاد ، ونحن نرى أنّ لغة واحدة تتغيّر بحيث تخرج عن الوضع الأوّل ، كما هو ظاهر من لغة العرب والفرس ، وهذا التغيير والتبديل لا شكّ في استناده إلى البشر. وبالجملة ، استناد وضع اللغات إلى البشر أمر يدلّ عليه الوجدان ، ويقتضيه المشاهدة والعيان.

واستدلّ على هذا المذهب أيضا بقوله تعالى : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ ) (4).

ووجه الاستدلال به : أنّه دلّ على أنّ لكلّ قوم لغة سابقة على إرسال الرسول إليهم. والتوقيف يقتضي كون اللغات مسبوقة بإرسال الرسل (5).

وأجيب عنه : بمنع استلزم التوقيف مسبوقيّة اللغات بالإرسال ؛ فإنّ اللّه علّم آدم اللغات - كما تدلّ عليه آية التعليم (6) - وعرّفها آدم لذرّيّته ، ولمّا جاء كلّ رسول إلى قومه ، كان لهم

ص: 38


1- نسبه الآمدي إلى الإسفرايني في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 111.
2- نسبه الفخر الرازي إلى جمهور المحقّقين في المحصول 1 : 182 وهو مختاره أيضا في ص 192.
3- في « أ » : « يوضع ».
4- إبراهيم (14) : 4.
5- نسبه الفخر الرازي إلى أبي هاشم وأتباعه في المحصول 1 : 187 - 188.
6- البقرة (2) : 31.

لغة ، وأمّا آدم فلم يكن له قوم حتّى يدخل في عموم الآية (1).

وأنت ستعلم اندفاع هذا الجواب بعد ما نردّ استدلال أهل التوقيف بآية التعليم.

هذا ؛ واستدلّ أهل التوقيف على مذهبهم بآيتين : آية تعليم الأسماء (2) ، وقوله تعالى : ( وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ ) (3).

ووجه الاستدلال بالآية الاولى ظاهر.

والجواب عنها : أنّ المراد بالأسماء حقائق الأشياء بدليل الضمير (4) ، أو المراد منها أسماء اللّه الحسنى.

ويمكن أن يقال : المراد بالتعليم إلهام آدم وإقداره على وضع الألفاظ بإزاء المعاني.

ووجه الاستدلال بالآية الثانية أنّه لا يمكن أن يراد من « الألسنة » معناها الحقيقي - أعني العضويّ المخصوص - إذ ليس فيه كثير اختلاف ، فلا بدّ أن يراد منها معناها المجازي ، وهو اللغات ، فيكون المعنى : ومن آياته خلق اللغات المختلفة وتوقيف الناس عليها.

والجواب عنه : أنّه إذا تعيّن الحمل على المجاز ، يمكن أن يراد مجاز آخر ، وهو أن يراد بخلق الألسنة إقدار الناس على وضع اللغات ، وليس إرادة أحد المجازين أولى من إرادة الآخر.

وبما ذكرنا ظهر بطلان المذهبين الآخرين.

إذا علمت الحقّ في هذه القاعدة ، فاعلم أنّه يتفرّع عليها فروع.

منها : المسألة المعروفة ب- « مسألة مهر السرّ والعلانية » وهي ما إذا تزوّج رجل امرأة بألف درهم ، واصطلحا على تسمية الألفين بالألف (5).

وكيفيّة التفريع أنّه بناء على التوقيف يلزم الألف ، ولا مدخليّة للاصطلاح.

ص: 39


1- راجع المحصول 1 : 192.
2- وهي قوله تعالى : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ... ) ، البقرة 2. : 31.
3- حكاه عنهم الفخر الرازي في المحصول 1 : 184 و 185. والآية 22 من سورة الروم 3. .
4- والمراد به ضمير الجمع المذكّر في ( عَرَضَهُمْ ) . والأولى الاستدلال بقوله تعالى : ( بِأَسْماءِ هؤُلاءِ ) .
5- كذا في النسختين. ولكن في التمهيد للإسنوي : 5. وتمهيد القواعد : 82 ، القاعدة 18 : « تسمية الألف بألفين » وهو الصحيح.

وعلى المذهب الحقّ تصير المسألة خلافيّة ، بناء على أنّ المناط هل الاصطلاح اللغوي السابق ، أو الاصطلاح الحادث؟

والحقّ : أنّه إن اعتبر اللفظ والقصد معا في العقود يكون العقد باطلا ، وإن لم يعتبر القصد فالمناط الاصطلاح السابق ، ولا يقاومه الاصطلاح الطارئ ، فيلزم الألف.

وكذا الحال في كلّ عقد اصطلاح المتبايعان أو أحدهما على تسمية العوضين أو أحدهما بغير اسمه المعروف ، بل يمكن التأتّي في غير العقود أيضا. وكيفيّة التفريع في الجميع على ما ذكرنا.

فصل [4]
اشارة

اعلم أنّ طريق معرفة اللغات إمّا النقل المحض وهو إمّا متواتر ، أو آحاد ومثالهما ظاهر.

وإمّا المركّب من النقل والعقل ، كما إذا حصل لنا مقدّمتان نقليّتان ، أو إحداهما نقليّة والاخرى عقليّة ، فرتّبهما العقل وحصّل منهما نتيجة دالّة على وضع لفظ لمعنى. مثلا ثبت بالنقل أنّ الجمع المعرّف باللام يصحّ منه الاستثناء ، وثبت أيضا أنّ الاستثناء إخراج أمر لو لا الاستثناء لدخل هذا الأمر في المستثنى منه ، فيعلم منه أنّ الجمع المعرّف شامل له ولغيره ، وهو معنى الاستغراق ؛ فيثبت من هذا أنّ الجمع المعرّف باللام موضوع للاستغراق. وطريق الإثبات من النقل والعقل.

وذهب بعض العامّة إلى جواز إثبات اللغات بالقياس (1) بأن يسمّى شيء باسم إلحاقا له بشيء مسمّى بذلك الاسم لمعنى يدور معه وجودا وعدما بسبب وجود هذا المعنى في الشيء الأوّل ، كما قالوا : تسمية ماء العنب بالخمر دائرة مع التخمير ، فقبله لا يسمّى خمرا ومعه يسمّى خمرا ، فيعلم منه أنّ علّة التسمية بالخمر وجود التخمير ، فكلّ شيء وجد فيه التخمير يسمّى خمرا ، كالنبيذ وغيره من المسكرات. وكذا تسمية النبّاش بالسارق ؛ للأخذ بالخفية ، واللائط بالزاني ؛ للإيلاج المحرّم.

ص: 40


1- قاله الفخر الرازي ونسبه أيضا إلى ابن سريج وغيره في المحصول 5 : 339.

والجواب : أنّ علّة التسمية ليست التخمير فقط ، بل هو مع المحلّ الخاصّ ، أعني ماء العنب ، وفي النبيذ مثلا وجد أحدهما فقط.

وإذا عرفت هذا ، تعلم أنّه يتفرّع عليه عدم إجراء جميع أحكام أشياء معيّنة مسمّاة بأسماء خاصّة على أشياء أخر سمّيت بأسماء الأشياء الاول بسبب الدوران ، كإجراء أحكام الخمر على جميع المسكرات ، اللّهمّ إلاّ في بعض ثبت بدليل من خارج.

فائدة

ذهب بعض النحاة إلى أنّ الألفاظ بأسرها موضوعة للحقائق الخارجيّة (1).

وهذا القول لا خفاء في بطلانه ؛ لأنّ بعض الألفاظ موضوع للمعدومات الممكنة والممتنعة.

وذهب جمع إلى أنّها بأسرها موضوعة للمعاني الذهنيّة (2).

واستدلّوا : بدوران الألفاظ معها وجودا وعدما ؛ فإنّ من رأى شبحا من بعيد وظنّه إنسانا يسمّي به ، ثمّ إذا تغيّر ظنّه الأوّل وظنّه حجرا يسمّي به (3) ، وهكذا.

والحقّ ، أنّ هذا الدليل غير تامّ ؛ لأنّه يجوز أن يكون لفظا : الإنسان والحجر موضوعين للإنسان والحجر الخارجيّين ، إلاّ أنّ الرائي لمّا ظنّ الشبح المرئيّ إنسانا خارجيّا ، أو حجرا خارجيّا سمّاه بأنّه ما وضع له.

ذهب بعض المتأخّرين إلى أنّ الألفاظ موضوعة للماهيّة من حيث هي مع قطع النظر عن كونها موجودة في الخارج أو الذهن (4).

وهذا المذهب عندي أقرب إلى التحقيق ؛ فإنّ من يضع لفظا بإزاء شيء قد يلاحظ الشيء الخارجيّ ويضع لفظا بإزائه ، وقد يلاحظ ما في ذهنه ولا يلتفت إلى الخارج ويضع

ص: 41


1- راجع : المحصول وهامشه 1 : 200 ، ونهاية السؤل 2 : 16.
2- منهم : الفخر الرازي في المحصول 1 : 200 ، والبيضاوي في منهاج الاصول المطبوع مع نهاية السؤل 2 : 11 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 63.
3- راجع المحصول 1 : 200.
4- منهم : الأسنوي في نهاية السؤل 2 : 16 ، وملاّ ميرزا جان كما في هامش شرح تجريد الاصول 1 : 101 ( مخطوط ) ، وهو مذهب سلطان العلماء.

لفظا بإزائه فيعلم منه أنّ منظوره الماهيّة من حيث هي ، ولا دخل للخارج والذهن لذلك.

وعلى أيّ تقدير ، لا كلام في أنّ الألفاظ لم توضع للأشباح المثاليّة ، كالصور المرتسمة على الجدار والماء والمرآة ، بل إطلاقها عليها على المجاز.

ويتفرّع على هذا جواز النظر إلى صور النساء الأجنبيّة المرتسمة في الماء والمرآة والجدار ، وعدم الحنث بالنظر إلى شبح زيد - مثلا - في الماء أو المرآة إذا أقسم أن لا ينظر إليه. وكذا الحكم في النذور والعهود والتعليقات.

فصل [5]
اشارة

الكلام يطلق على ما يتلفّظ به حقيقة ، وعلى النفسي مجازا. وهذا ظاهر من اللغة (1) والعرف.

وكذا الحكم في « الكلمة » و « القول » و « الذكر ».

وإذا كان الأمر هكذا ، فكلّ حكم علّق على أحد المذكورات نفيا أو إثباتا ، فتحقّقه موقوف على تحقّقه كذلك. والأمثلة ظاهرة.

قاعدة

لا يشترط في الكلام أن يكون صادرا من متكلّم واحد ، وهذا لا خلاف فيه ، ودليله ظاهر ، فلو توافق شخصان على أن يقول أحدهما : « زيد » والآخر : « قائم » يكون كلاما.

ويتفرّع عليها أنّه إذا وكّل رجل شخصين في إعتاق عبده ، أو بيع متاعه ، فقال أحدهما : « أعتقت » أو « بعت » ، وقال الآخر : « هذا » كان هذا العتق والبيع صحيحين.

ويلزم من هذه القاعدة أنّه لو قال رجل لآخر : « لي عليك ألف » ، فقال المدّعى عليه : « إلاّ عشرة » ، يثبت الإقرار بباقي الألف.

ورجّح في التمهيد (2) عدم الثبوت ؛ لأنّ المدّعى عليه نفى بعض الألف ، ونفي بعض الشيء لا يستلزم ثبوت الباقي وفيه تأمّل.

ص: 42


1- المعجم الوسيط : 796 ، « ك ل م » : « الكلام في أصل اللغة : الأصوات المفيدة ».
2- تمهيد القواعد : 330 ، ذيل القاعدة 101.

وكذا لا يشترط في الكلام أن يكون المتكلّم قاصدا للكلام ، فاهما له ، وهذا أيضا ظاهر.

ويتفرّع عليه وجوب سجود التلاوة عند قراءة الساهي أو النائم آية السجدة.

ضابطة

يجب حمل الألفاظ على المعاني المتعارفة المتبادرة المعتادة ؛ لأنّ الفهم العرفي حجّة.

ويدلّ عليه - مضافا إلى الإجماع - قوله تعالى : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ ) (1).

ويتفرّع عليها فروع كثيرة ، كعدم نقض الوضوء بالخارج من غير السبيلين إذا لم يصر معتادا ؛ لأنّ الأخبار دلّت على نقض الوضوء بالخارج من السبيلين والطرفين (2) ، والمتعارف منهما الموضعان المعتادان ، فلا ينقض بالخارج من غيرهما ، إلاّ إذا اعتيد وانسدّ الطبيعيّان ؛ فإنّ النقض حينئذ إجماعي.

وكذا يتفرّع عليها جواز استعمال الأشياء المعمولة من الذهب والفضّة إذا لم تكن من الأواني المتعارفة.

فصل [6]

لا شبهة في وقوع المترادف في اللغات ، وإنّما الخلاف في جواز وقوع كلّ من المترادفين مقام الآخر.

فذهب بعضهم إلى الجواز مطلقا (3). وبعضهم إلى المنع مطلقا (4). وبعضهم إلى الجواز في لغة واحدة ، والمنع من لغات مختلفة (5).

والحقّ : أنّ النزاع إن كان في جواز وقوع أحد المترادفين مقام الآخر في جميع الموادّ ، فلا يمكن الحكم بالجواز مطلقا إلاّ فيما ثبت بدليل من خارج ؛ لأنّه يجوز أن يحصل التعبّد

ص: 43


1- إبراهيم (14) : 4.
2- راجع الكافي 3 : 35 ، باب ما ينقض الوضوء وما لا ينقضه.
3- منهم ابن الحاجب في منتهى الوصول : 14.
4- منهم الفخر الرازي في المحصول 1 : 257.
5- منهم البيضاوي في منهاج الاصول المطبوع مع نهاية السؤل 1 : 157.

بأحدهما في بعض العبادات ، أو الإيقاعات ، أو العقود دون الآخر.

وإن كان النزاع فيه في إفادة أصل المعنى فقط ، أو في مادّة منوطة به فقط ، فلا شبهة في الجواز مطلقا ، ولا مانع منه عقلا وشرعا ولغة ؛ لأنّ المقصود إذا كان إفادة المعنى - وهو يحصل بكلّ واحد من اللفظين - فأيّ مانع من وقوع أحدهما مقام الآخر؟

والقول بأنّهما إذا كانا من لغتين فلا يجوز ؛ للزوم اختلاط اللغات ، ولأنّ أحدهما بالقياس إلى لغة الآخر مهمل ، فلا يفيد ما أفاده (1).

يرد عليه أنّ الاختلاط ليس فيه مفسدة ؛ لأنّ المدلول واحد ، وأهل لغة إذا كانوا عارفين بلغة اخرى ، فلا تكون تلك اللغة مهملة عندهم.

ويتفرّع عليه جواز رواية الحديث بالمعنى المتعارف ؛ لأنّ المقصود من ألفاظ الحديث إفادة أصل المعنى فقط ، مع أنّ الجواز عندنا منصوص (2).

ويتفرّع عليه أيضا عدم انعقاد العقود بالصيغ غير العربيّة ؛ لإمكان حصول التعبّد بالعربيّة فقط ، وإن أمكن أن يقال : انعقاد العقود منوط بما يفيد أصل معنى العقد فقط ، وحينئذ يتّجه الانعقاد. فتأمّل.

فصل [7]

المشترك : لفظ وضع لمعان متعدّدة ، ولا شبهة في وقوعه ، كالقرء للطهر والحيض ، والعين لمعانيها المعروفة ، ووقع في القرآن أيضا ك- ( ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (3) و ( عَسْعَسَ ) ك- « أقبل » و « أدبر » (4).

وخلاف جماعة في الموضعين (5) شاذّ ؛ ودليلهم غير ملتفت إليه.

ثمّ إنّ القوم اختلفوا في جواز استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى واحد وعدمه.

ص: 44


1- هذا القول والتعليل للبيضاوي في المصدر.
2- الكافي 1 : 51 ، باب رواية الكتب والحديث ، ح 2 و 3.
3- البقرة (2) : 228.
4- المصباح المنير : 409 ، « ع س س ». والآية في سورة التكوير 4. : 17.
5- نسبه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 42 ، وابن الحاجب إلى المحقّقين في منتهى الوصول : 18.

فجوّزه بعض مطلقا (1). ومنعه بعض آخر كذلك (2). وذهب بعض إلى المنع في المفرد والجواز في التثنية والجمع (3). وبعض آخر إلى الجواز في النفي دون الإثبات (4).

ثمّ المانعون اتّفقوا على أنّه عند عدم القرينة لا يحمل على شيء من معانيه ، بل يجب التوقّف حينئذ ؛ لكونه مجملا.

والمجوّزون بين قائل بأنّه إذا عدم القرينة يجب التوقّف ، وعند وجودها يحمل على ما يدلّ عليه القرينة ، لكن إن دلّت القرينة على واحد يكون الاستعمال فيه حقيقة ، وإن دلّت على متعدّد يكون الاستعمال فيه مجازا.

وقائل بأن المشترك عند عدم القرينة ظاهر في جميع معانيه ، فيجب الحمل عليه.

وقائل بأنّه عند عدم القرينة مجمل يجب فيه التوقّف ، وعند القرينة يحمل على ما يقتضيه القرينة ، ويكون الاستعمال حقيقة وإن كان ما يدلّ عليه القرينة متعدّدا (5).

وهذا هو الحقّ ، وتنقيحه موقوف على بيان امور :

[ الأمر ] الأوّل : إنّما الخلاف في استعمال المشترك في المعاني التي كان الجمع بينها ممكنا ، كالقرء في قولنا : « القرء من صفات النساء ». وأمّا إذا لم يمكن الجمع بينها ، كاستعمال الأمر في الوجوب والتهديد (6) ، فلا خلاف في عدم الجواز.

[ الأمر ] الثاني : لا شبهة في أنّ اللفظ المشترك موضوع لكلّ واحد من معانيه على سبيل لا بشرط شيء ، أي لا بشرط الانفراد ولا الاجتماع. فما وضع له اللفظ واستعمل فيه ، هو كلّ واحد من المعاني بدون الشرطين على ما هو شأن الماهيّة المطلقة التي تتحقّق حالة

ص: 45


1- قاله السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 17 ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : 18 ، ونسبه الأسنوي إلى الشافعي في التمهيد : 176.
2- منهم الفخر الرازي في المحصول 1 : 271.
3- منهم البصري في المعتمد في أصول الفقه 1 : 304.
4- نسبه الأنصاري إلى ابن همام في فواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 1 : 201.
5- راجع التمهيد للإسنوي : 177.
6- في هامش « أ » : « عند من قال باشتراكه بينهما ، وإنّما قيّدنا به ؛ لأنّ المصنّف لا يقول به ».

الانفراد والاجتماع معا. والانفراد والاجتماع ليسا من أجزاء (1) الموضوع له ، بل هما من عوارض الاستعمال ، والاستعمال في كلا الحالين على سبيل الحقيقة. هذا إذا دلّت القرينة على أنّ المراد أحد المعاني ، أو مجموعها وأمكن الجمع بينها (2).

وأمّا مع فقد القرينة فيكون مجملا ، ويجب التوقّف ؛ لأنّ اللفظ لمّا كان موضوعا لما هو بمنزلة الماهيّة المطلقة المتحقّقة في ضمن واحد لا بعينه والمجموع ، ونسبته إليهما على السواء ، فالحمل على أحدهما بدون قرينة ترجيح بلا مرجّح ، كما أنّ الحمل على أحد الأفراد المعيّنة أيضا بدون القرينة كذلك.

نعم ، يمكن أن يقال : إذا وقع المشترك في كلام الشارع ، ولم يقم قرينة على أنّ المراد ما هو ، فيمكن الحمل على المجموع ، أو أحد الأفراد على سبيل التخيير ، وإلاّ يلزم الإغراء بالجهل ، والتكليف بما لا يعلم ، وهو غير لائق بمقنّن القوانين ، فتأمّل.

هذا في صورة كون اللفظ المشترك مفردا.

وأمّا إذا كان جمعا أو تثنية واستعمل في أكثر من معنى ، فيكون حقيقة أيضا ؛ لأنّ الجمع والتثنية في قوّة تكرير المفرد بالعطف ، والاتّفاق في اللفظ دون المعنى ؛ فإنّ قولنا : « زيدون » في قوّة المفردات المتعاطفة المتّفقة في اللفظ ، المختلفة في المعنى ؛ لكون حقائق الآحاد مختلفة ، وحينئذ إذا قلنا : « أعين » يكون في قوّة المفردات المتعاطفة ، فكما يمكن حمل كلّ عين على معناه ، فكذلك ما في قوّته.

فإن قيل : لا نسلّم أنّهما في قوّة تكرير المفرد بالعطف ، بل هما يفيدان تعدّد المعنى المستفاد من المفرد ، ولا يدلاّن على المعاني المختلفة كما تدلّ عليها المفردات المتعاطفة ؛ فإنّ زيدا - مثلا - موضوع للمسمّى به ، وزيدين للمسمّيين به لا للمعاني المختلفة ، وحينئذ إذا لم يمكن استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى ، بل كان استعماله مقصورا على معنى واحد ، فيكون المراد من جمعه معاني متعدّدة من نوع المعنى الذي دلّ عليه المفرد. مثلا يكون المراد من « العيون » طائفة متعدّدة من النابعة أو الدامعة ، لا جملة مختلفة مشتملة

ص: 46


1- في « أ » : « أفراد ».
2- في « ب » : « بينهما ».

على الدامعة والنابعة وعين الذهب والشمس.

وإن أمكن استعماله في أكثر من معنى واستعمل فيه ، فيكون المراد من جمعه جملة مركّبة من الجمل التي كلّ جملة منها مشتملة على معان متعدّدة من نوع المعنى الذي دلّ عليه المفرد. مثل أن يكون المراد من العيون طائفة متعدّدة من النابعة ، وطائفة متعدّدة من الدامعة ، وهكذا.

قلنا : لا بدّ لنا من تمهيد مقدّمة ، ثمّ الإشارة إلى الجواب.

وهي أنّه لا شبهة في أنّ أفراد كلّ جمع مختلفة ، إمّا بالاختلاف الشخصي ، كآحاد جموع أسماء الأعلام ، أو بالصنفي فقط ، أو بهما معا ، كآحاد بعض جموع أسماء الصفات والأجناس ، أو بالنوعي فقط ، أو به مع أحد الأوّلين ، أو كليهما ، كآحاد بعض آخر من جموع أسماء الصفات ، بل الاختلاف الجنسي أيضا في بعضها موجود ، ولا شكّ أنّ استعمال كلّ جمع في جميع أفرادها المختلفة بالاختلافات المذكورة على سبيل الحقيقة.

وبعد تمهيد هذه المقدّمة نقول : إذا استعمل « العيون » في النابعة والدامعة وعين الذهب ، يكون آحادها مختلفة بالنوع ، ولا ضير فيه من هذه الجهة ؛ لتأتّي ذلك في الجموع ، كاستعمال « الموجودات » و « المخلوقات » وغيرهما في الأجناس ، والأنواع المختلفة على سبيل الحقيقة.

نعم ، بين اسم الصفة والمشترك فرق ، بأنّ اسم الصفة ك- « الموجود » موضوع لما ثبت له الوجود ، فكلّ ما ثبت له الوجود من أيّ نوع كان ، معنى حقيقي للموجود ، وهذا معنى واحد موجود في جميع الأجناس والأنواع ، والاختلاف بينها (1) إنّما هو من خارج ، فجمعه إنّما يفيد تكرّر هذا المعنى. وكذا الحال في اسم الجنس.

وأمّا المشترك ، فإنّه موضوع لكلّ واحد من هذه الحقائق المختلفة التي تدلّ عليها صيغة الجمع ، فلا يتحقّق في جمعه تكرّر معنى واحد موجود في المفرد ، ولكنّ اسم العلم كالمشترك ؛ فإنّه أيضا موضوع لكلّ واحد من الأشخاص المختلفة ، فلا يلزم في جمعه

ص: 47


1- في « ب » : « بينهما ».

تكرّر معنى واحد موجود (1) في المفرد ، فلا بدّ من ارتكاب أحد من ثلاثة امور :

أحدها : القول بأنّ المراد من تكرّر ما يستفاد من المفرد تعدّد الموضوع له ، سواء كان معنى واحدا أو مختلفا. وهذا هو الحقّ ، ولا شكّ في تحقّق ذلك في جمع المشترك إذا اريد منه المعاني المختلفة.

وثانيها : تأويل اسم العلم بالمسمّى به ، وهذا مع بعده آت في المشترك أيضا ؛ فإنّه كما يمكن تأويل « زيد » بالمسمّى به ، يمكن تأويل « العين » بالمسمّى به ، فجمعه يفيد تكرّر هذا المعنى.

وثالثها : القول بأنّ جمع اسم العلم وإن دلّ على الآحاد المختلفة ، إلاّ أنّ اختلافها لمّا كان شخصيّا لا مانع فيه ، بخلاف جمع المشترك ، فإنّه يدلّ على الآحاد المختلفة بالنوع ، ولذلك لا يجوز. وهذا مع سخافته لم يقل به أحد.

فظهر أنّه يجوز أن يستعمل المشترك - مفردا كان أو جمعا أو تثنية - في أكثر من معنى على سبيل الحقيقة.

[ الأمر ] الثالث : استدلّ المانع مطلقا بأنّه لا شكّ في وضع اللفظ المشترك لكلّ واحد من معانيه ، فإذا استعمل في مجموعها يجب أن يكون بطريق الحقيقة ؛ إذ لا معنى للمجازيّة بعد وضع اللفظ لكلّ واحد منها ، وحينئذ يلزم التناقض ، أو عدم إرادة الأفراد.

بيان الملازمة : أنّ المشترك إذا استعمل في جميع معانيه واريد المجموع من حيث هو مجموع ، فإمّا أن يراد الأفراد أيضا ، أو لا.

فعلى الأوّل يلزم التناقض ؛ لأنّ إرادة المجموع تستلزم عدم الاكتفاء ببعض الأفراد ، وإرادة الأفراد تقتضي الاكتفاء به ، وهو التناقض.

وعلى الثاني يلزم عدم إرادة الأفراد ، وهو يقتضي عدم استعمال اللفظ فيما وضع له ؛ لأنّ المفروض أنّه موضوع لكلّ واحد من الأفراد (2).

ص: 48


1- في « أ » : « لموجود ».
2- تقدّم تخريجه في ص 44.

والجواب : أنّ إرادة الأفراد تقتضي الاكتفاء ببعضها إذا لم يكن باقيها مرادا ، وليس الأمر كذلك ؛ فإنّ معنى إرادة المجموع أنّه يقصد المجموع من حيث هو أوّلا ، ويقصد كلّ واحد من الأفراد ثانيا ، وإرادة الأفراد إن كان المراد (1) كلّ واحد منها بحيث لم يشذّ منها شيء ، فمعناه أنّه يقصد كلّ واحد منها أوّلا ، ويقصد المجموع من حيث هو ثانيا ، وإن كان المراد بعضها ، فمعناه أنّه يقصد هذا البعض دون بعض آخر.

واستدلّ من قال بالجواز مع كون الاستعمال مجازيّا بأنّ اللفظ المشترك موضوع لكلّ واحد من المعاني مع قيد الوحدة ، فالموضوع له مركّب من شيئين : المعنى ، وقيد الوحدة ، فإذا استعمل في المجموع يلزم إلغاء قيد الوحدة التي هي أحد الجزءين ، وإرادة الجزء الثاني فقط ، وهذا إطلاق للكلّ وإرادة الجزء ، فيكون مجازا (2).

والجواب : منع كون الوحدة جزءا للموضوع له ، بل هي من عوارض الاستعمال ، فإنّ الواضع لم يضع لفظ « زيد » لهذا الشخص مع قيد الوحدة بأن يعتبره في الموضوع له ، بل عرض هذا بعد الوضع.

هذا ، مع أنّ العلاقة التي اعتبرها هذا القائل للمجازيّة ليست من العلاقات المعتبرة ؛ لأنّ علاقة الجزء والكلّ أن يطلق الكلّ على الجزء فقط ، أو بالعكس ، كأن يطلق الإنسان - مثلا - على رقبته فقط ، لا عليها وعلى شيء آخر كابنه مثلا ، وهنا اطلق الكلّ على الجزء وشيء آخر ؛ لأنّ الموضوع له المعنى وقيد الوحدة ، وبعد إلغاء قيد الوحدة يستعمل اللفظ في الكثرة ، فيتحقّق المعنى - الذي هو جزء الموضوع له - مع الكثرة التي هي شيء خارجي ، فكأنّه اطلق اللفظ على جزئه وعلى شيء آخر.

واستدلّ المانع في المفرد دون التثنية والجمع : بأنّهما في حكم تكرير المفرد ، فيتعدّد مدلولهما ، بخلاف المفرد.

وقد عرفت جوابه (3).

ص: 49


1- في « ب » : « والمراد من إرادة الأفراد إن كان » ، بدل : « وإرادة الأفراد إن كان المراد ».
2- تقدّم في ص 45.
3- أي عدم كون الوحدة جزءا للموضوع له. وقد تقدّم آنفا.

واحتجّ المانع في الإثبات دون النفي : بأنّ النفي يفيد العموم ، فيتعدّد ، بخلاف الإثبات (1).

وجوابه : أنّ المثبت أيضا يمكن أن يتعدّد مدلوله كما بيّنّاه (2) ، ولو لا ذلك لم يمكن التعدّد في النفي أيضا.

واحتجّ القائل بأنّه ظاهر في الجميع عند التجرّد عن القرينة : بظواهر بعض الآيات ، كقوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ ) (3) إلى آخره ، وقوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ) (4) إلى آخره.

والجواب : أنّ الصلاة في الجميع بمعنى واحد وهو التعظيم ، وكذا السجود ، وهو غاية الخضوع.

وحقيقة الجواب : أنّ القرينة في الآيتين موجودة ، فليستا ممّا نحن فيه.

إذا عرفت الحقّ في هذه القاعدة تعلم أنّ كلّ لفظ مشترك - مفردا كان أو غيره - إذا وقع في كلام الشارع أو غيره ، فإن دلّت القرينة على المراد ، يحمل عليه وإن كان جميع معانيه ، ومع فقد القرينة يلزم التوقّف.

اللّهمّ (5) إلاّ إذا وقع في كلام الشارع ، فيمكن الحمل على جميع معانيه ، بناء على ما أشرنا إليه (6) ، ولذا حمل « الخير » في قوله تعالى : ( فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ) (7) على معنييه معا ، أعني المال والعمل الصالح ، أي الأمانة والديانة.

وإذا أوصى رجل شيئا لمواليه وكان له موال من أعلى وموال من أسفل ، فمع وجود القرينة يعمل بها ، ومع فقدها يجب التوقّف.

ص: 50


1- تقدّم في ص 45.
2- تقدّم في ص 48.
3- الأحزاب (33) : 56.
4- الحجّ (22) : 18.
5- استثناء من صورة عدم القرينة والتوقّف. ومعنى الاستثناء هو كون وقوع المشترك في كلام الشارع قرينة عامّة على الحمل على جميع المعاني.
6- أي عدم كون الوحدة جزءا للموضوع له. وقد تقدّم في ص 49.
7- النور (24) : 33.

ولا يخفى أنّ تعبير اللفظ بنحو يفيد العموم من القرائن الدالّة على أنّ المراد المجموع.

والفروع لهذه القاعدة كثيرة. وبعد ما ذكرنا يعرف حقيقة الحال في جميع ما يرد عليك.

فصل [8]
اشارة

الحقيقة : اللفظ المستعمل فيما وضع له في اصطلاح التخاطب ، وهي لغوية ، كالأسد للحيوان المفترس ، وشرعيّة ، كالصلاة للأركان المخصوصة ، وعرفيّة ، وهي إمّا أن تختصّ بقوم مخصوص من أهل علم خاصّ ، أو صناعة معيّنة ، فتسمّى بالعرفيّة الخاصّة ، وقد تسمّى بالاصطلاحيّة أيضا ؛ ومثالها ظاهر. أو لا تختصّ بقوم مخصوص من أهل علم خاصّ ، فتسمّى بالعرفيّة العامّة ، وتنصرف العرفيّة عند الإطلاق إليها ، وهي كالدابّة لذوات الأربع بعد أن كانت في اللغة لكلّ ما يدبّ على الأرض.

ثمّ إنّ الحقيقة الشرعيّة تسمّى بالمنقول الشرعي أيضا ، والعرفيّة بالمنقول العرفي أيضا ، والخاصّة منها بالمنقول اللغوي إن اختصّت بطائفة مخصوصة من أهل اللغة كالفاعل.

والمجاز : اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لأجل مناسبة بينهما ، وتسمّى بالعلاقة.

ومن المجاز ما يسمّى بالمجاز الراجح ، وهو أن يغلب استعماله على الاستعمال الحقيقي ، ويسمّى حقيقته بالحقيقة المرجوحة.

والمشهور في الفرق بين المجاز الراجح والحقيقة مطلقا - أي سواء كانت أصليّة ، أو منقولة - عدم اعتبار الوضع فيه ، واعتباره فيها.

والحقّ : أنّ اعتبار الوضع في المنقولات ليس لازما ، بل يمكن أن يستعمل الشرع أو العرف أو اللغة لفظا في معنى غير الموضوع له بحيث يتبادر منه عند الإطلاق ، ويصير الاستعمال فيه غالبا على استعماله فيما وضع له ، وحينئذ يصير حقيقة فيه ؛ لأنّ التبادر علامة الحقيقة وإن لم يتحقّق وضع وتصريح بالنقل. صرّح به بعض المحقّقين (1).

وحينئذ فالفرق بين المجاز الراجح والمنقولات أنّ المعنى المنقول إليه فيها يجب أن

ص: 51


1- قاله السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 12.

يصير غالبا بحيث يهجر المعنى الأوّل بالكلّيّة حتّى لا يكون محتمل الإرادة عند الإطلاق ، والمعنى المجازيّ في المجاز الراجح لا يصير غالبا كذلك ، بل استعماله غالب على الاستعمال الحقيقي ، إلاّ أنّ المعنى الحقيقيّ يكون محتمل الإرادة عند الإطلاق بالاحتمال المرجوح.

وبالجملة ، إرادة المعنى المنقول إليه يقينيّة ، وإرادة المجاز الراجح ظنّيّة.

فائدة

فائدة (1)

يعرف كلّ واحد من الحقيقة والمجاز بامور :

منها : تصريح الواضع باسمه ، أو حدّه ، أو خاصّته ، كأن يقول : إرادة هذا المعنى من هذا اللفظ غير مشروطة بالقرينة ، أو مشروطة بها (2).

ومنها : التقدّم في الذكر والتأخّر فيه ؛ فإنّه إذا ذكر أهل اللغة معاني متعدّدة للّفظ ولم يعلم الاشتراك - سواء علم أنّ بعضها حقيقة وبعضها مجاز من دون التعيين ، أو وقع الشكّ في الاشتراك والحقيقة والمجاز ، وكونها جميعا مجازات - فإنّه يحكم حينئذ بالحقيقة والمجاز ؛ لأنّه خير من الاشتراك ، كما سيجيء (3) ، ومن كون جميعها مجازات ؛ لبعده. ويحكم بأنّ المقدّم في الذكر حقيقة ، والمؤخّر فيه مجاز ؛ لبعد ذكر المجاز مقدّما على الحقيقة.

ومنها : التبادر وعدمه ، فالأوّل علامة الحقيقة ، والثاني علامة المجاز. والتبادر الذي من علامة الحقيقة أعمّ من أن يكون مطلقا ، أو من حيث الإرادة. فعلى الأوّل يكون جميع معاني المشترك متبادرة على الاجتماع ، وعلى الثاني يكون جميعها متبادرة على البدليّة.

وبعض الاصوليّين جعل علامة الحقيقة عدم تبادر الغير ، وعلامة المجاز تبادره (4).

ص: 52


1- في « ب » : « قاعدة ».
2- مثال للأخير أي « خاصّته ».
3- في تعارض أحوال اللفظ ، الفصل 16 ، ص 72 - 77.
4- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 20 ، والوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة : 324 ، الفائدة 34.

واورد عليه المشترك (1) نقضا. أمّا على علامة الحقيقة ، فإذا استعمل في أحد معانيه ؛ فإنّه يتبادر حينئذ غيره ، أعني المعاني الأخر.

وأمّا على علامة المجاز ، فإذا استعمل في معناه المجازي ؛ إذ لا يتبادر غيره ؛ للتردّد بين معانيه.

وغير خفيّ أنّ النقضين نقيضان فلا يجتمعان ؛ لأنّ معاني المشترك جميعا إن كانت متبادرة على الاجتماع أو البدليّة ، فيكون النقض الأوّل واردا والثاني مندفعا ، وإن لم يكن كذلك ، فبالعكس.

والحقّ : أنّ جميع معاني المشترك متبادرة على الاجتماع إن أخذ التبادر في الدلالة ، وعلى البدليّة إن أخذ التبادر في المراد ؛ فإنّا نعلم أنّ المراد منها أحدها بعينه ، إلاّ أنّا لا نعلمه (2). وحينئذ يظهر أنّ النقض الأوّل وارد ، والثاني مندفع.

فالحقّ أن لا يجعل عدم تبادر الغير علامة للحقيقة ؛ لأنّ المشترك حقيقة بالنسبة إلى كلّ واحد بعينه من معانيه ، مع أنّه يتبادر المعاني الأخر أيضا إمّا مطلقا ، أو من حيث الإرادة ، بل اللازم أن يجعل علامتها التبادر فقط. والمجاز يمكن أن يجعل كلّ واحد من عدم التبادر وتبادر الغير من علائمه.

ثمّ اعلم أنّ تبادر كلّ قوم يدلّ (3) على حقيقتهم فقط ، فإذا تبادر معنى من لفظ في عرفنا (4) ، دلّ على أنّ هذا المعنى حقيقة عرفيّة بالنسبة إلى هذا اللفظ ، ولا يدلّ على أنّه حقيقة لغويّة أيضا.

نعم ، إذا لم نجد له في اللغة معنى حقيقيّا سواه ، فيمكن الحكم بكونه حقيقة لغويّة أيضا ؛ لأصالة عدم التعدّد. وكذا الحكم إذا حصل تبادر معنى من لفظ عند أهل اللغة ؛ فإنّه لا يثبت سوى الحقيقة اللغويّة.

ص: 53


1- والمراد هو المشترك اللفظي. وفي الفوائد الحائريّة : 1. الفائدة 34 أورد المشترك المعنوي على علامة الحقيقة.
2- في « ب » : « لا نعلم ».
3- كذا في النسختين. وحقّ العبارة أن تكون هكذا : « أنّ التبادر عند كلّ قوم يدلّ ».
4- في « ب » : « من لفظ عرفا ».

ومنها : صحّة سلب المعنى الحقيقي للّفظ عن المعنى المستعمل فيه ، وعدمها.

فالأوّل علامة المجاز ، والثاني علامة الحقيقة. مثلا إذا قلنا للبليد : إنّه ليس بحمار ، سلب فيه المعنى الحقيقي للحمار عمّا استعمل فيه الحمار أعني البليد ، وهو جائز ، فيعلم منه أنّ استعمال الحمار في البليد مجازيّ.

وإذا قلنا للبليد : إنّه ليس بإنسان ، يكون فيه المعنى الحقيقيّ للإنسان مسلوبا عمّا استعمل فيه لفظ الإنسان أعني البليد ، هذا غير جائز. فيعلم منه أنّ استعمال الإنسان في البليد على سبيل الحقيقة.

واورد عليه : بأنّ صحّة السلب لا يجوز أن يراد بها صحّة سلب بعض المعاني الحقيقيّة ؛ لأنّه غير مفيد ؛ لجواز كون المعنى المستعمل فيه من البعض الذي لا يجوز سلبه ، فيجب أن يراد بها صحّة سلب جميع المعاني الحقيقيّة ، والعلم به موقوف على العلم بأنّ المعنى المستعمل فيه ليس من المعاني الحقيقيّة ، وهو موقوف على العلم بأنّه من المعاني المجازيّة للّفظ ، وهو موقوف على صحّة السلب ، وهو دور مضمر (1).

وفي علامة الحقيقة يلزم دور مصرّح ؛ لأنّ العلم بعدم صحّة سلب المعاني الحقيقيّة عن المعنى المستعمل فيه موقوف على العلم بأنّه بعض المعاني الحقيقيّة للّفظ ، وهو موقوف على عدم صحّة السلب.

والجواب : أنّا نجزم بأنّه يصحّ العلم بأنّ الإنسان ليس شيئا من المعاني الحقيقيّة للأسد وإن لم يحصل العلم بالمجازيّة ، فيمكن العلم بصحّة سلب المعاني الحقيقيّة للإنسان عن الحيوان المفترس مع عدم العلم بالمجازيّة. وكذا نجزم بأنّه يصحّ العلم بعدم صحّة سلب المعاني الحقيقيّة للإنسان عن البليد وإن لم يعلم أنّه حقيقة فيه. نعم ، يستلزمه ، فغاية الأمر الاستلزام لا التوقّف. وهذا العلم إنّما يحصل لنا عرفا ؛ فإنّ الفهم العرفي حاصل بصحّة السلب وعدمها وإن لم يعلم الحقيقة والمجاز ؛ وهو ظاهر.

ثمّ لا يخفى أنّ الشرط المذكور في التبادر آت هنا أيضا ؛ فإنّ صحّة السلب وعدمها عند كلّ قوم أمارتان للمجاز والحقيقة في اصطلاحهم.

ص: 54


1- راجع الفوائد الحائريّة : 325 ، الفائدة 34.

ومنها : الاطّراد وعدمه. فالأوّل علامة الحقيقة ، والثاني علامة المجاز.

والمراد من الاطّراد أن يستعمل اللفظ في محلّ لوجود معنى ، ثمّ جوّز استعماله في كلّ محلّ وجد فيه ذلك المعنى ؛ فإنّ هذا علامة لكون اللفظ المذكور حقيقة في هذه المحالّ ، وهذا كاستعمال المشتقّات فيمن قامت (1) به. والظاهر أنّ الاطّراد لا يدلّ على الحقيقة كلّيا ؛ لأنّ المجاز قد يطّرد ، كالأسد للشجاع.

والمراد بعدم الاطّراد أن يستعمل اللفظ المجازي في محلّ لوجود علاقة ، ثمّ لم يجوّز استعماله في كلّ محلّ مع وجود تلك العلاقة ، كالنخلة تطلق على الإنسان لطوله ، ولا تطلق على طويل آخر.

واورد عليه : بأنّ « السخيّ » و « الفاضل » يطلقان على غير اللّه ؛ للجود والعلم ، ولا يطلقان على اللّه مع وجودهما فيه تعالى ، وكذا القارورة تطلق على الزجاجة ؛ لاستقرار الشيء فيها ، ولا تطلق على الدّنّ والكوز مع كونهما ممّا يستقرّ فيه الشيء ، فيلزم كونها مجازات (2).

والجواب : أنّ عدم إطلاق « السخيّ » و « الفاضل » على اللّه تعالى لكون أسمائه تعالى توقيفيّة ، أو أنّهما موضوعان لمن كان من شأنه البخل والجهل. والقارورة موضوعة لما يستقرّ فيه الشيء بشرط كونه من الزجاج.

إذا عرفت هذا ، تعلم أنّه يمكن إثبات كون اللفظ حقيقة أو مجازا من العلامات المذكورة.

ومنه يستنبط الأحكام الشرعيّة ، كما نذكر في الفصل الآتي.

فصل [9]

لا خلاف في وجود الحقيقة العرفيّة واللغويّة. وأمّا الشرعيّة فقد اختلفوا في إثباتها ونفيها بعد اتّفاقهم على ثبوت الحقيقة المتشرّعة (3) ؛ فإنّه لا خلاف في أنّ الألفاظ المخصوصة

ص: 55


1- في « ب » : « قام ».
2- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 20.
3- كذا في النسختين ولعلّ الأولى : الحقيقة المتشرّعيّة ، أو حقيقة المتشرّعة ، أو الحقيقة عند المتشرّعة.

- كالصلاة والزكاة والحجّ - إذا وقعت مطلقة في كلام المتشرّعة ، تحمل على المعاني الحادثة ، فتكون حقائق عرفيّة خاصّة. إنّما الخلاف في أنّها إذا وقعت مجرّدة عن القرينة في كلام الشارع ، فهل تحمل على المعاني الشرعيّة (1) حتّى تكون حقائق شرعيّة ، أو على المعاني اللغويّة؟ وأدلّة الطرفين مدخولة.

ولكنّ الحقّ وجودها ؛ لما نذكره ، وهو أنّه لا ريب في أنّ ألفاظ الصلاة والزكاة والحجّ - مثلا - كانت في اللغة موضوعة لمعان غير المعاني المتداولة عند أهل الشرع. ولا ريب أيضا في أنّ نقل الشارع هذه الألفاظ من معانيها اللغويّة إلى معانيها الشرعيّة غير معلوم لأحد ؛ لعدم ما يدلّ عليه عقلا أو نقلا ، مع أنّ الأصل عدم النقل.

فالمتيقّن عندنا أنّ الشارع استعمل هذه الألفاظ في المعاني الشرعيّة ، وهي صارت متبادرة عند المتشرّعة بحيث لا يفهمون عند الإطلاق غيرها ، ولكنّهم لم يتصدّوا للنقل ، بل التبادر عندهم ؛ لأجل أنّ الشارع استعملها فيها استعمالا لا ندري أنّه على سبيل النقل أو المجاز ، ولكنّه كان استعمالا شائعا بحيث صار غالبا حتّى صارت المعاني الشرعيّة متبادرة ، وهجر المعاني اللغويّة عند الإطلاق. فثبوت الحقيقة عند المتشرّعة ليس إلاّ لأجل استعمال الشارع وغلبته بحيث حصل التبادر وعدم صحّة السلب عندهم ، فكلّ زمان حصل فيه التبادر وعدم صحّة السلب ، حصل الحقيقة أيضا بالنسبة إلى أهله ، سواء كان شارعا أو غيره ، بل حصوله بالنسبة إلى الشارع أولى ؛ لأنّ أصل الاستعمال منه ، فينبغي التفحّص عن الزمان الذي حصل فيه التبادر وعدم صحّة السلب.

فنقول : غير خفيّ أنّ العلامتين لم تحصلا في ابتداء الزمان الذي أطلق الشارع هذه الألفاظ على المعاني الشرعيّة ؛ لأنّهما موقوفتان على غلبة الاستعمال ولم تحصل فيه ، ففيه لم يحصل حقيقة مطلقا لا الشرعيّة ولا العرفيّة ، فهذه الألفاظ إذا صدرت من الشارع أو من غيره في الزمان المذكور لا يمكن لنا حملها على المعاني الشرعيّة ؛ لعدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة فيه وإن كانت متبادرة عندنا الآن ؛ لأنّه لأجل الغلبة بعد الزمان المذكور.

فظهر أنّ الألفاظ المذكورة إذا صدرت في ابتداء عصر النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم لا يمكن لنا حملها على

ص: 56


1- في « ب » : « الفرعيّة ».

المعاني الشرعيّة ؛ لعدم حصول التبادر فيه ، وأمّا حصوله في عصر الصادقين عليهما السلام فلا شبهة فيه ، بل الحكم كذلك قبل عصرهما ، بل أواخر عصر النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أيضا بالنسبة إلى الألفاظ التي استعملت في المعاني الشرعيّة في أوائل ظهوره صلى اللّه عليه وآله وسلم ، لا سيّما إذا كانت كثيرة الدوران في المحاورات ، كالصلاة والزكاة والحجّ ؛ لأنّ العقل حاكم بأنّه إذا استعمل لفظ في معنى في سنين ، وكان الاستعمال أكثريا غالبا ، يصير بعد ذلك هذا المعنى متبادرا منه بحيث يضمحلّ المعنى الأوّل عند المستعملين وإن كان الاستعمال بمعونة القرائن ، فثبت الحقيقة (1) الشرعيّة وحقيقة المتشرّعة بالنسبة إلى الألفاظ المذكورة من أواخر عصر النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى ما بعده أيّ وقت كان.

ثمّ هذا في الألفاظ التي علم يقينا أنّ الشارع استعملها في معانيها الشرعيّة ، وصار الاستعمال غالبا بحيث حصل التبادر وعدم صحّة السلب. وأمّا الألفاظ التي لم يعلم فيها أصل الاستعمال ، أو علم ولكن لم تصر كثيرة الدوران بحيث يحصل منها التبادر ، فليس حكمها كذلك.

ثمّ إن كان أصل الاستعمال من واحد من أئمّتنا - صلوات اللّه عليهم - فينبغي أن يراعى فيه ما روعي في صورة كون الاستعمال من النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم من ثبوت الحقيقة الشرعيّة وحقيقة المتشرّعة عند حصول التبادر - لا عند أوائل الاستعمال - والعلم بأصل الاستعمال وغلبته يقينا. ولا يثبت التبادر والحقيقة حينئذ بالنسبة إلى زمان قبل زمانه عليه السلام.

فإن قلت : لمّا لم يكن فهم المعاني الشرعيّة من الألفاظ المذكورة بنقل الشارع ، بل بسبب الاستعمال وغلبته والترديد بالقرائن حتّى صارت متبادرة عند الإطلاق ، فلا يلزم منه الحقيقة الشرعيّة ، بل يمكن أن يكون هذا من باب المجاز الراجح.

قلت : قد تقدّم (2) أنّ الحقّ أنّ الاستعمال في المعنى الثاني إذا صار غالبا بحيث ترك المعنى الأوّل ، لا يكون من المجاز مطلقا لا الراجح ولا غيره ، بل يكون من باب الحقيقة ، وذكر أنّ المجاز الراجح ما ذا ، مع أنّه إن قيل : إنّ المراد من المجاز الراجح هذا المعنى يثبت

ص: 57


1- في « ب » : « الحقائق ».
2- تقدّم في ص 51.

منه المطلوب (1) ؛ لأنّه يجب (2) حينئذ حمل الألفاظ المذكورة عند الإطلاق على معانيها المجازيّة الراجحة ، ولا يبقى نزاع في التفريع.

ثمّ لا يخفى أنّ فروع هذه القاعدة كثيرة ظاهرة ، وكيفيّة التفريع ظاهرة عليك بعد ما عرفت الحقّ فيها.

مسألة : النقل خلاف الأصل ؛ عملا باستصحاب الحال ، وهو حجّة ، كما سيجيء (3) ، فلا بدّ في ثبوته من الدليل (4). وقد وقع الخلاف في أنّ صيغ العقود والفسوخ والالتزامات ، كقول القاضي : « حكمت » هل نقلها الشارع من مدلولاتها اللغويّة - أعني الإخبار إلى إحداث حكم ، أعني الإنشاء - أم لا؟ فقيل (5) بالأوّل ، وإلاّ لزم الكذب أو التسلسل. وقيل بالثاني ؛ للأصل (6) واستعمالها في بعض الأحيان في كلام الشارع في الإخبار.

فعلى الأوّل يجب حمل جميع هذه الصيغ عند الإطلاق والشكّ على الإنشاء ، ولا يعتبر القصد أيضا.

وعلى الثاني على الإخبار ، ولا بدّ في حملها على الإنشاء من القرائن الحاليّة أو المقاليّة ، ويعتبر القصد حينئذ ، وإلاّ لم يحصل التميّز.

والحقّ : أنّ ما استدلّ به على القول الأوّل لا يفيد المطلوب ؛ لأنّه يمكن أن يكون استعمال الشارع بمعونة القرائن والقصد ، وكذا الحكم عندنا ، فلا يلزم كذب ولا تسلسل.

نعم ، يمكن أن يقال : قد حصل تبادر الإنشاء منها عند المتشرّعة ، فيجب أن يحمل في كلامهم عليه ، وحينئذ نحن لا نحتاج إلى القصد. ويمكن أن يطّرد حكمها بالنسبة إلى الشارع أيضا حتّى يكون حكمها كحكم الصلاة وأمثالها ، فتأمّل.

ص: 58


1- في « ب » : « يكون من باب الحقيقة » ، بدل : « ما ذا مع ... المطلوب ».
2- في « ب » : « لا يجب ».
3- راجع في باب الأدلّة العقليّة ، ص 401 ، الفصل 6.
4- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 20.
5- قاله الفخر الرازي في المحصول 1 : 317 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 77.
6- حكاه الأسنوي عن الحنفيّة في التمهيد : 204.
فصل [10]

لا خلاف في اشتراط العلاقة في المجاز ، وهي التي اعتبر أهل اللغة نوعها ، وسيجيء (1) ذكر بعضها. وإنّما الخلاف في أنّه يشترط مع ذلك في آحاد المجازات أن ينقلها أهل اللغة بأعيانها ، أم يكفي وجود العلاقة؟

ذهب فخر الدين الرازي إلى الأوّل (2) ، والأكثرون إلى الثاني. وهو الحقّ ؛ لأنّ آحاد المجازات لو كانت نقليّة لما اكتفى أهل العربيّة في التجوّز بمجرّد العلاقات المعتبرة ، بل كان اللازم عليهم أن يتوقّفوا حتّى يظفروا بالنقل ، والتصفّح يعطي خلاف ذلك ؛ فإنّ من تتبّع كلماتهم المنظومة والمنثورة يعرف أنّهم لا يتوقّفون على النقل ، بل كانوا يعدّون اختراع آحاد المجازات من البلاغة ، ولذلك لم يدوّنوا المجازات كما دوّنوا الحقائق.

وأيضا الحقائق الشرعيّة والعرفيّة مجازات لغويّة ، مع أنّ أهل اللغة لم يعرفوا المعاني الشرعيّة والعرفيّة فضلا عن أن ينقلوها ويستعملوها.

واستدلّ المخالف : بأنّه لو كانت العلاقة كافية لجاز إطلاق (3) الأب على الابن وبالعكس ؛ للسببيّة والمسبّبية ، والنخلة على الحبل الطويل ؛ للمشابهة ، والشبكة للصيد وبالعكس ؛ للمجاورة ، وليس كذلك.

والجواب : أنّ عدم الجواز فيها منصوص (4) من أهل اللغة ، فالمقتضي فيها موجود ، والعدم باعتبار وجود المانع ، والكلام فيما لم يوجد فيه مانع.

وبما ذكرنا ظهر أنّ نقل الآحاد ليس شرطا ، ولكن يشترط وجود أحد أنواع العلاقات المعتبرة التي صرّح بها أهل اللغة ، ولا يكتفى بمطلق العلاقة. ويظهر منه أنّ المجاز موضوع بالوضع النوعي دون الشخصي.

ص: 59


1- في ص 64 ، الفصل 12.
2- المحصول 1 : 329.
3- في « ب » : « إطلاقه من ».
4- في المحصول 1 : 330 : « فلم لا يجوز أن يمنع الواضع منه في بعض المواضع دون البعض » فالنصّ أو المانع محتمل لا مقطوع ، كما هو ظاهر كلام المصنّف رحمه اللّه. والصحيح أن يقال : عدم الجواز فيها لعلّه منصوص ... والعدم باعتبار احتمال وجود المانش. وبعبارة اخرى أنّ وجود الاحتمال يكفي في الجواب كما فعله الرازي.

ويتفرّع على هذا الأصل : جواز وجود المجازات المعتبرة في كلام الشارع وإن لم ينقل آحادها من أهل اللغة ، وجواز تكلّمنا بها في الأقارير والنذور والعهود والتعليقات ، وعدم جواز التكلّم بالمجاز الذي لم يوجد فيه أحد أنواع العلاقات المعتبرة ، بل وجد فيه علاقة غيرها ، لا (1) من الشارع ولا منّا.

فصل [11]
اشارة

لمّا عرفت (2) أنّ الحقيقة اللفظ المستعمل فيما وضع له ، والمجاز اللفظ المستعمل في غير ما وضع له ، تعلم أنّ اللفظ قبل الاستعمال فيهما لا يكون حقيقة ولا مجازا.

ثمّ لا شبهة في أنّ الحقيقة لا تستلزم المجاز ، يعني إذا كان اللفظ حقيقة في معنى ، لا يلزم كونه مجازا في معنى آخر ، وهذا ظاهر متّفق عليه ؛ لأنّ استعمال اللفظ في موضوعه لا يستلزم استعماله في غيره بوجه من الوجوه ، والحقائق التي ليست لها مجازات كثيرة.

وأمّا العكس ، أعني استلزام المجاز للحقيقة - بمعنى (3) استعمال اللفظ في غير ما وضع له وعدم استعماله فيما وضع له - ففيه خلاف. والحقّ عدم الاستلزام هنا أيضا ؛ لأنّ المجاز لمّا كان لفظا مستعملا في غير ما وضع له ، فيستلزم تقدّم الوضع. وأمّا تقدّم الاستعمال فيما وضع له ، فلا يستلزمه بوجه ، ولذا استعمل لفظ « الرحمن » في معناه المجازي أعني ذا الرحمة القديمة ، ولا يجوز استعماله فيما وضع له وهو ذو الرحمة مطلقا ، فثبت له المجاز دون الحقيقة.

واستدلّ المخالف : بأنّه لو لم يستلزم المجاز الحقيقة ، لعرى الوضع عن الفائدة ؛ لأنّ المطلوب من الوضع استفادة الموضوع له من اللفظ ، فإذا لم يستعمل فيه يكون عبثا (4).

ص: 60


1- قيد ل- « عدم جواز التكلّم ».
2- تقدّم في ص 51 ، الفصل 8.
3- ظاهر العبارة هو تفسير المجاز فقط دون استلزامه للحقيقة. والحقّ أن تفسّر الجملة بأن يقال : بمعنى استلزام استعمال اللفظ في غير ما وضع له استعماله فيما وضع له. وبحذف « وعدم » تستقيم العبارة.
4- راجع الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 10.

واجيب بوجهين :

أحدهما : أنّ كلّ ما أريد به فائدة لا يوجب ترتّبها عليه.

وثانيهما : أنّ الفائدة لا تنحصر فيما ذكر ، بل قد تكون الفائدة في الوضع صحّة التجوّز ؛ لأنّه موقوف على معنى يناسب الموضوع له (1).

فائدة

المجاز على ثلاثة أقسام :

الأوّل : الوضعي ، وهو أن يقع التجوّز في مفردات الألفاظ ، كإطلاق الأسد على الشجاع.

الثاني : العقلي ، وهو أن يقع التجوّز في الإسناد ، نحو : طلعت الشمس ، وأخرجت الأرض أثقالها ؛ فإنّه لم يقع تجوّز في مفردات الألفاظ ؛ لأنّ المراد من الطلوع والشمس ، والإخراج والأرض والأثقال معانيها الحقيقيّة ، وإنّما وقع التجوّز في الإسناد ؛ لأنّه اسند الطلوع والإخراج إلى الشمس والأرض ، مع أنّهما مسندان حقيقة إلى اللّه ، فوقع التجوّز في التركيب. وإنّما سمّي بالمجاز العقلي ؛ لأنّ إسناد الأثر إلى مؤثّره حكم عقلي لا دخل له بالوضع والاصطلاح ، فإذا اسند الأثر إلى مؤثّره الحقيقي فيكون حكما عقليّا حقيقة ، وإذا اسند إلى غيره فيكون نقلا للحكم العقلي حقيقة إلى غيره ، فيكون مجازا عقليّا.

الثالث : الوضعي والعقلي معا ، وهو أن يقع التجوّز في المفردات والإسناد معا ، نحو : إحيائي اكتحالي بطلعتك ؛ إذ المراد من الإحياء السرور ، ومن الاكتحال الرؤية ، ومن الطلعة الصورة ، واسند الإحياء إلى الرؤية مع أنّه مسند حقيقة إلى اللّه.

أصل

إذا كانت للّفظ حقيقة واحدة يجب حمله عليها عند الإطلاق ، وإن كانت له الحقائق الثلاث قدّمت الشرعيّة ، ومع عدمها أو تعذّر الحمل عليها ، قدّمت العرفيّة ، ومع العدم أو التعذّر ، يحمل على اللغويّة.

ص: 61


1- راجع إرشاد الفحول 1 : 74.

ثمّ إنّ العرفيّة العامّة تقدّم على الخاصّة ، كما أنّ الخاصّة تقدّم على اللغويّة. وهذا التفصيل هو المشهور بين القوم ، بل لم نعثر على مخالف سوى بعض المتأخّرين من الأخباريين ، حيث قال :

إنّ المستفاد من أخبارهم عليهم السلام أنّه مع عدم العلم بما هو المراد من الخطاب الشرعي ، يجب الفحص والتفتيش والسؤال ، ومع العجز عن الظفر بالمراد ، يجب رعاية الاحتياط ، على أنّ العرف العامّ غير منضبط ؛ لاختلاف عرف الناس وعاداتهم ، والعرف الخاصّ مختلف ، فيلزم اختلاف الأحكام الشرعيّة باختلافه (1).

أقول : تحقيق الحقّ في هذا الأصل يتوقّف على بيان امور :

[ الأمر ] الأوّل : لا شبهة في تقدّم العرف العامّ على اللغة بشرط تحقّقه ؛ لأنّه أعرف عند الناس ، وهم عند الإطلاق لا يفهمون غيره ، والحكيم لا يتكلّم الناس إلاّ بما يفهمونه.

ويدلّ عليه قوله تعالى : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ ) (2) ، وما ورد عن بعض الصادقين عليهما السلام : « أنّ اللّه أجلّ من أن يخاطب مع قوم ، ويريد منهم خلاف ما هو بلسانهم وما يفهمونه » (3).

وبما ذكرنا اندفع ما ذكر هذا البعض من أنّ العرف العامّ غير منضبط ؛ لأنّ كلامنا في العرف الذي كان منضبطا وثابتا.

ويتفرّع عليه : حمل الألفاظ التي لها معان عرفيّة ولغويّة على معانيها العرفيّة ، سواء وقعت في كلام الشارع ، أو في كلامنا في الأيمان والنذور والتعليقات وغيرها ، كحمل الدابّة على الفرس لا على ما يدبّ على الأرض ، وحمل الراوية على المزادة (4) لا على الجمل الذي يحمل عليه الماء ، وحمل الغائط على الحدث المخصوص لا على المطمئنّ من الأرض.

ويتفرّع عليه أيضا : أنّه إذا حلف أن لا يشرب ماء زيد عن عطش أن يحنث بشرب الماء

ص: 62


1- راجع الحدائق الناضرة 1 : 121.
2- إبراهيم (14) : 4.
3- لم نجده في المجاميع الروائيّة ، ونقله البهبهاني أيضا في الفوائد الحائريّة : 105.
4- « المزادة » : وعاء يحمل فيه الماء في السفر ، كالقربة ونحوها. المعجم الوسيط : 4. « ز ي د ».

مطلقا وإن لم يكن عطشانا ، وبالأكل من أمواله أيضا ؛ لأنّ المفهوم منه عرفا اجتناب مائه مطلقا ، وأمواله كذلك. وذكر الماء ، والتقييد بالعطش للمبالغة وإن كان معناه لغة الاجتناب عن الماء عند العطش.

[ الأمر ] الثاني : لا شبهة أيضا في تقدّم العرف العامّ على الخاصّ ؛ لأنّه أعرف وأغلب. وهذا في صورة كون اللفظ صادرا عن الشارع ، وكون المخاطب جميع الناس ، أو غير من له العرف الخاصّ ، ظاهر. وأمّا في صورة كون المخاطب من له العرف الخاصّ ، أو صدور اللفظ منه في الأيمان وأمثالها ، فالحقّ وجوب الحمل على العرف العامّ أيضا ؛ لأنّه إن لم يكن أعرف عنده ، فلا شبهة في كونه أغلب وأشهر ، ويجب حمل اللفظ على ما هو أغلب. والظاهر أنّه أعرف عنده أيضا.

[ الأمر ] الثالث : وجه تقدّم العرف الخاصّ على اللغة ظاهر إذا كان المخاطب أهل العرف المذكور ، أو صدر اللفظ منه ؛ لأنّه أعرف عنده من اللغة. وأمّا إذا كان غيره ، أو جميع الناس ، فالحقّ وجوب الحمل حينئذ على اللغة ؛ لكونها أعرف.

[ الأمر ] الرابع : قيل في وجه تقدّم الحقيقة الشرعيّة على سائر الحقائق بأنّها طارئة وناسخة لها ، فيجب حمل اللفظ عليها دونها (1).

أقول : الأمر كذلك ؛ لأنّ ثبوت الحقيقة الشرعيّة موقوف على أن يستعمل الشارع اللفظ في معناه الشرعي استعمالا يغلب على استعماله في معانيه العرفيّة واللغويّة ، فبعد ذلك يلزم تبادر المعنى الشرعي عند الإطلاق ، وقبل ذلك لم يثبت حقيقة شرعيّة.

وإذا عرفت ذلك ، تعلم أنّ كلّ لفظ له الحقائق الثلاث أو الحقيقة الشرعيّة مع إحداهما ، يجب حمله عند الإطلاق على حقيقته (2) الشرعيّة ، سواء وقع في كلام الشارع أو غيره ،

ص: 63


1- قاله الوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة : 99 ، الفائدة 8 ، و 113 ، الفائدة 5.
2- في « ب » : « الحقيقة ».

كحمل الدينار على الدينار من الذهب ؛ لأنّه مقتضاه شرعا ولغة ، دون غيره من الفضّة والفلوس ، كما هو مقتضاه العرفي في بعض البلاد.

نعم ، إن علم بالقرائن والأمارات أنّ المراد معناه العرفي ، يحمل عليه ، وكذا الحكم في الطهارة والصلاة والزكاة وغيرها.

وفروع هذا الأصل كثيرة ؛ وكيفيّة التفريع عليك ظاهرة.

وقد وقع الخلاف في أنّه إذا وقع التغاير بين اصطلاح المعصوم والراوي ، فهل يقدّم الأوّل ، أو الثاني؟ وذلك كالرطل ، فهل يحمل على المدني الذي هو اصطلاح المعصوم ، أو العراقي الذي هو اصطلاح الراوي ، أعني ابن أبي عمير؟ والترجيح لا يخلو عن إشكال ، ولا بدّ من الرجوع إلى القرائن ، إلاّ أنّ الحمل على الأوّل عند فقدها لا يخلو عن رجحان ما ، وغير خفيّ أنّ هذا لا ينافي القطع بتقدّم الحقيقة الشرعيّة على العرفيّة ؛ لأنّ المراد من اصطلاح المعصوم عرف بلده لا ما صار من استعمال الشارع حقيقة ، فتقدّم الثاني قطعا لا ينافي الشكّ في تقدّم الأوّل.

فصل [12]
اشارة

إذا تعذّر حمل الألفاظ على الحقيقة ، فلا بدّ من حملها على المجاز بشرط عدم المانع شرعا ، وكون المجاز ممّا وجد فيه إحدى العلاقات المعتبرة ، كتسمية السبب باسم المسبّب وعكسه ، وتسمية الكلّ باسم الجزء وعكسه ، وتسمية الحالّ باسم المحلّ وعكسه ، والمجاورة والمشارفة والحذف والمشابهة في الشكل والصفة. وقد ذكر بعض آخر ، والعمدة ما ذكرناه.

إذا عرفت هذا ، فكيفيّة التفريع ظاهرة عليك ، مثلا : الاشتراك لمّا كان مرجوحا بالنسبة إلى الحقيقة والمجاز - كما سيجيء (1) - فقيل : النكاح ليس مشتركا بين العقد والوطء ، بل هو حقيقة في الأوّل ، مجاز في الثاني (2). وقيل بالعكس (3).

ص: 64


1- في ص 68 و 73.
2- حكاه الأسنوي عن الشافعي في التمهيد : 190.
3- راجع المصدر : 191.

فعلى الأوّل يكون النكاح في قوله تعالى : ( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) (1) من باب تسمية المسبّب باسم السبب ؛ لأنّ النكاح حقيقة في العقد وهو سبب للوطء ، وهو المراد هاهنا ، فاطلق عليه إطلاقا للسبب (2) على المسبّب.

وعلى الثاني يكون النكاح في قوله تعالى : ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ) (3) بالعكس ؛ لأنّ المراد به العقد.

وعلى أيّ تقدير ، لو حلف أحد على النكاح ونوى المعنى المجازي ، يلزم عليه ما نواه ؛ لأنّ اليمين يقبل المجاز.

ولو حلف أن يصوم نصف يوم ونوى جميعه ، أو قال : على رقبتي أن أفعل كذا ، يكون من باب تسمية الكلّ باسم الجزء ، ومثال العكس ظاهر.

وإذا قال المصلّي على الميّت : اصلّي على هذه الجنازة - بكسر الجيم - ونوى منها الميّت ، يكون من باب تسمية الحالّ باسم المحلّ ؛ لأنّ الجنازة بالكسر اسم للنعش ، وبالفتح اسم للميّت. ولذا قيل : الأعلى للأعلى والأسفل للأسفل (4).

والتفريع في باقي أقسام (5) المجاز ظاهر عليك بعد الإحاطة بما ذكر.

تذنيبان

[ التذنيب ] الأوّل : إذا أطلق الشارع شيئا على شيء آخر بعنوان المجاز ، أو أوقع التشبيه بينهما ، وظهر أنّ المراد المشاركة في حكم شرعي ، فهل المراد المشاركة في جميع الأحكام إلاّ ما أخرجه الدليل ، أو مجمل؟

والحقّ : أنّه إن وجد فرد شائع من الأحكام أو أفراد شائعة منها ، يحمل عليهما (6) ، وإلاّ

ص: 65


1- البقرة (2) : 230.
2- أي إطلاقا للموضوع للسبب على المسبّب.
3- النساء (4) : 22.
4- في هامش « ب » : « أي الجنازة ، بالفتح الذي يكون في فوق الكلمة ، اسم للميّت الذي يكون فوق النعش ، أي القراءة بالفتح للدلالة عليه. وبالكسر الذي يكون في أسفل الكلمة ، وضعت للأسفل ، أي النعش ؛ لأنّه يكون أصل الوضش. فتتبّع ».
5- في « ب » : « أسماء ».
6- في « ب » : « عليها ».

يكون المراد المشاركة في الجميع ؛ لأنّ بناء الاستعارة والتشبيه على ذلك ، كما لا يخفى.

وكيفيّة التفريع أنّ قوله عليه السلام : « الطواف بالبيت صلاة » (1) يدلّ على أنّ الأحكام الجارية في الصلاة جارية في الطواف ، فإن لم يوجد أفراد شائعة ، لكان اللازم الحمل على المشاركة في جميع الأحكام ، لكن لمّا كانت الأفراد الشائعة هنا - كالطهارة والنيّة - موجودة ، يحمل عليها دون الأفراد التي ليست بشائعة.

ثمّ الحقّ أنّ لفظ « المنزلة » يفيد العموم ؛ ( لدلالة العرف على ذلك ) (2) ، ويعبّر عنه بعموم المنزلة ، كأن يقول الشارع : هذا بمنزلة ذاك. نعم ، إن كان هناك فرد شائع ، أو أفراد شائعة تتبادر إلى الذهن ، يكتفى بها.

[ التذنيب ] الثاني : إذا تعيّن حمل اللفظ على المجاز ، يجب حمله على أقرب المجازات إلى الحقيقة ؛ لأنّ الأصل حمل اللفظ على الحقيقة ، والمجاز خلاف الأصل ، وكلّما كان أبعد من الحقيقة ، يلزم ارتكاب خلاف الأصل أكثر ، وكلّما كان أقرب إليها ، يلزم ارتكابه أقلّ ، ولا شبهة في مراعاة الثاني إذا أمكن ؛ فإنّ مراعاة الأصل والاجتناب عن خلافه لازم بقدر ما يمكن.

وكيفيّة التفريع أنّ قوله عليه السلام : « لا قول إلاّ بعمل ، ولا عمل إلاّ بنيّة ، ولا نيّة إلاّ بإصابة السنّة » (3) ، وقوله صلى اللّه عليه وآله : « لا صلاة إلاّ بطهور » (4) ، و « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (5) ، و « لا نكاح إلاّ بوليّ » (6) ، و « لا صيام لمن لم يبيّت الصيام » (7) ، و « لا يمين لولد مع والده » (8) وأمثال ذلك ،

ص: 66


1- عوالي اللآلئ 1 : 214 ، ح 70 ، ومستدرك الوسائل 9 : 410 ، ح 2.
2- ما بين القوسين لم يرد في « ب ».
3- كنز العمّال 1 : 217 ، ح 1083 مع اختلاف يسير.
4- تهذيب الأحكام 1 : 49 ، ح 144 ، ووسائل الشيعة 1 : 256 ، أبواب الوضوء ، الباب 1 ، ح 1.
5- عوالي اللآلئ 2 : 218 ، ح 13 ، ومستدرك الوسائل 4 : 158 ، أبواب القراءة ، الباب 1 ، ح 5 و 8.
6- دعائم الإسلام 2 : 218 ، ح 807 ، وعوالي اللآلئ 1 : 306 ، ح 9.
7- سنن الدارقطني 2 : 172 ، باب تبييت النيّة ، ح 2 بتفاوت يسير ، وعوالي اللآلئ 3 : 132 ، ح 5.
8- الكافي 7 : 439 ، باب ما لا يلزم من الأيمان ، ح 1 و 6 ، ووسائل الشيعة 23 : 216 ، أبواب الأيمان ، الباب 10 ، ح 1 - 3.

لا يمكن حملها على نفي الحقيقة ؛ لجواز وجودها مع عدم ما ذكر ، فلا بدّ من حملها على المجاز ، وهو متعدّد ، كنفي الصحّة ، ونفي الثواب ، ونفي الكمال ، ولا شبهة في أنّ الأوّل أقرب إلى نفي الحقيقة من الآخرين ؛ لأنّه يقتضي انتفاء جميع الأحكام واللوازم التي للحقيقة ، فلا يبقى منها سوى اسم فقط ، بخلافهما ؛ فإنّهما يقتضيان انتفاء لازم واحد فقط ، فهما بعيدان عن نفي الحقيقة ، فيجب الحمل على الأوّل.

فصل [13]

اشتهر أنّ الأصل في الكلام الحقيقة ، وقد اشتبه على كثير منهم حقيقة الأمر ، ولذا يوردونه في غير موضعه ، ونحن نشير إلى الصور الآتية في المسألة ، ونقول : غرض القوم أيّ صورة منها ، فنقول : الصور المتصوّرة أربع :

الأولى : أن يكون اللفظ مع القرينة الدالّة على المعنى الحقيقي ، أو المجازي ، ولا شبهة حينئذ في لزوم العمل بمقتضاها.

الثانية : أن يكون الاستعمال معلوما ، ولم يعلم أنّ هذا الاستعمال على سبيل الحقيقة أو المجاز ، ولم يعلم في الخارج لهذا اللفظ معنى حقيقي أو مجازي ، بل كانت المعلوميّة منحصرة بأنّ هذا اللفظ مستعمل في هذا المعنى الذي لا يعلم أنّه حقيقة له أو مجاز. وحينئذ فالمشهور (1) بين القوم أنّ هذا الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز ، ولا يجزم بأحدهما إلاّ بالقرائن.

والسيّد المرتضى رضى اللّه عنه على أنّ الأصل في الاستعمال في هذه الصورة الحقيقة (2).

وبعض المتأخّرين على أنّ الأصل فيه المجاز (3) ؛ نظرا إلى كثرة وروده في المحاورات الشرعيّة واللغويّة والعرفيّة.

والحقّ مع المشهور ؛ لأنّ الحمل على أحدهما بدون قرينة يستلزم الترجيح بلا مرجّح ؛ لفقد الرجحان من الطرفين.

ص: 67


1- كما في الفوائد الحائريّة : 114 ، الفائدة 5.
2- الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 13 و 28 و 52.
3- نسبه الوحيد البهبهاني إلى بعض المحقّقين واختاره في الفوائد الحائريّة : 114 و 115 ، الفائدة 5.

الثالثة : أن يعلم للّفظ معنى حقيقي واستعمل في معنى آخر ، ولا يعلم أنّ المعنى الثاني حقيقي حتّى يكون اللفظ مشتركا ، أو مجازي ؛ لعدم أماراتهما ، وحينئذ فالمشهور أنّ الاستعمال في المعنى الثاني بعنوان المجاز ؛ لأنّ الأصل عدم تعدّد الحقيقة وعدم الاشتراك.

والسيّد هنا أيضا مخالف للمشهور وقائل بالاشتراك (1).

والحقّ مع المشهور ؛ لما ذكر.

الرابعة : أن يكون للّفظ معنى حقيقي ومجازي ، وكان المعنيان معلومين بعنوان أنّ أحدهما حقيقة والآخر مجاز ، وأطلق الشارع أو غيره هذا اللفظ بدون القرينة ، وحينئذ يجب حمله على معناه الحقيقي بالاتّفاق ؛ لأنّه المتبادر عند الإطلاق. وما قال القوم من أنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة (2) ، فمرادهم منه في هذه الصورة لا الصور الأخر ، ومن لم يحصّل مراد الأقوام زلّ قدمه في هذا المقام.

إذا عرفت ذلك ، فكيفيّة التفريع في الصورة الاولى والرابعة لا تخفى عليك. وكيفيّة التفريع في الصورة الثانية ، أنّه إذا استعمل الشارع ، أو غيره لفظا في معنى ولم نعلم أنّ هذا الاستعمال حقيقي أو مجازي ، ولم نعلم من الخارج أيضا أنّ المعنى الحقيقي له ما ذا ، فحينئذ لا يحكم بكون هذا الاستعمال حقيقيّا حتّى يثبت جميع اللوازم التي للمعنى المستعمل فيه لهذا اللفظ. وإذا ورد في كلام غيره أيضا ، حكمنا بأنّه موضوع للمعنى المذكور ، ولا نحكم بكونه مجازا أيضا ، بل نتوقّف. مثلا : في بعض الأخبار استعملت الصلاة الوسطى في صلاة الظهر (3) ، ونحن لا نعلم أنّ هذا الاستعمال حقيقي أو مجازي ، ولا نعلم من الخارج يقينا حقيقة الصلاة الوسطى ؛ لتعارض الأخبار والأقوال فيها (4) ، فبمجرّد استعمالها في بعض الأخبار في صلاة الظهر ، لا يحكم بأنّ هذا الاستعمال حقيقي بحيث يثبت جميع اللوازم الثابتة لصلاة الظهر لها ، وبالعكس ، وإذا وردت مطلقة في خبر آخر نحكم بأنّ المراد منها

ص: 68


1- الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 52.
2- راجع : المحصول 1 : 339 ، وتهذيب الوصول : 80.
3- الفقيه 1 : 195 - 196 ، ح 600.
4- راجع : التبيان 2 : 275 ، ومجمع البيان 2 : 343.

صلاة الظهر ، بل لا نحكم بذلك ولا بكونه مجازا أيضا ؛ لاحتمال أن يكون حقيقتها صلاة الظهر ، فحينئذ نتوقّف.

والفروع للصورة الثالثة كثيرة جدّا. مثلا : استعمل خطاب المشافهة في المعدومين ، ونعلم له معنى حقيقيّا وهو مخاطبة الموجودين الحاضرين ؛ لأنّ خطاب المشافهة يستعمل حقيقة فيهم ، فيحكم بأنّ استعماله في المعدومين على سبيل المجاز.

وقيل : هذه الخطابات لا تتناول المعدومين لا حقيقة ولا مجازا ، واشتراكهم للموجودين في أحكامها إنّما علم بالإجماع (1). وعلى هذا ، يكون التكليف الذي تعلّق بهم على النحو الذي كان للموجودين الحاضرين ، فينبغي التفحّص عن كيفيّته ، وعلى القول بتناولها لهم حقيقة أو مجازا ، لا يكون تكليفهم على نحو تكليف الحاضرين ، بل على نحو يفهمونه منها.

وكذا استعمل لفظ « المسجد » في مكّة ، ونحن نعلم له حقيقة مخصوصة ، فنحكم بأنّ هذا الاستعمال مجازي ، فلا نثبت جميع اللوازم التي للمسجد لمكّة.

فصل [14]

ذهب المحقّقون إلى أنّه لا يجوز استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي معا (2) ، وذهب بعض (3) إلى الجواز ، وأكثر المجوّزين على أنّ هذا الاستعمال على سبيل المجاز. وربما قيل : إنّه حقيقة ومجاز بالاعتبارين (4).

والظاهر أنّ الخلاف في جواز هذا الاستعمال للمتكلّم مع نصب القرينة ، وجواز إرادة المخاطب كلا المعنيين بعد نصب القرينة أيضا (5) ، لا جواز إرادتهما معا عند عدم القرينة ؛ فإنّ ذلك لا يجوز بالاتّفاق ؛ لأنّ اللفظ عند الإطلاق يجب حمله على الحقيقة ، كما عرفت (6).

ص: 69


1- قاله الشيخ حسن في معالم الدين : 108.
2- منهم الفخر الرازي في المحصول 1 : 343 ، وأبو هاشم وأبو عبد اللّه كما في معارج الاصول : 53.
3- منهم أبو الحسن عبد الجبّار بن أحمد كما في العدّة في أصول الفقه 1 : 54 - 56.
4- راجع معالم الدين : 42 ، وذهب إليه المصنّف في تجريد الاصول.
5- في شرح تجريد الاصول لابن المصنّف ( مخطوط ) : « اختلفوا في أنّه هل يمكن للمخاطب حمل اللفظ عليهما بعد نصب القرينة عليهما معا؟ ».
6- في ص 67 ، الفصل 13.

والحقّ عدم الجواز مطلقا ؛ لأنّ إرادة المجاز موقوفة على القرينة المانعة من إرادة الحقيقة ، وإرادتها موقوفة على عدم القرينة المذكورة ، فالإرادتان لا تجتمعان (1).

وبهذا يندفع ما احتجّ به المجوّزون من أنّه ليس بين إرادة الحقيقة و [ إرادة ] المجاز منافاة ، فلا يمتنع اجتماعهما (2).

ثمّ لا يخفى أنّه لم يقل أحد بجواز استعمال اللفظ فيهما على الحقيقة ؛ لظهور بطلانه ؛ فإنّه لم يوضع لهما معا حتّى يكون استعماله فيهما على الحقيقة.

وقال بعض القائلين بمجازيّة الاستعمال : لمّا لم يكن المعنى المجازي داخلا في الموضوع له واريد في الاستعمال ، فيكون مجازا ؛ لأنّه من باب إطلاق الجزء على الكلّ (3) و (4).

والجواب : أنّ المتنازع فيه استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي على أن يكون كلّ منهما مناطا للحكم ، ومتعلّقا للإثبات والنفي ، لا استعماله في المجموع المركّب الذي أحد المعنيين جزء منه وينتفي المجموع بانتفائه ، كما ينتفي الإنسان بانتفاء الرقبة ، على ما هو شأن الكلّ المعتبر في باب المجاز ، فهما ليسا كلاّ بالنسبة إلى المعنى الحقيقي.

وبعضهم عكس الأمر وقال : العلاقة إطلاق الكلّ على الجزء ؛ لأنّ الموضوع له هو المعنى الحقيقي مع قيد الوحدة ، فبعد تعريته عنه يصير اللفظ مستعملا في جزء الموضوع له (5).

والجواب ما عرفت (6) من أنّ الوحدة والانفراد من عوارض الاستعمال ، مع أنّ العلاقة المعتبرة إطلاق اللفظ الموضوع للكلّ على الجزء فقط ، لا عليه مع شيء آخر ، وهنا اطلق [ على ] الجزء - أعني المعنى الحقيقي - مع شيء آخر أعني المعنى المجازي.

واستدلّ من قال بكونه حقيقة ومجازا : بأنّ اللفظ إذا كان مستعملا في معنيين ، وكان في

ص: 70


1- اختار المصنّف في تجريد الاصول جواز الاستعمال ، وأنّه حقيقة ومجاز بالاعتبارين. راجع شرح تجريد الاصول لابنه أحمد ( مخطوط ).
2- قاله المحقّق الحلّي في معارج الاصول : 53 و 54.
3- أي إطلاق اللفظ الموضوع للجزء على الكلّ.
4- راجع المحصول 1 : 343.
5- المصدر.
6- في ص 49.

أحدهما حقيقة وفي الآخر مجازا ، فيجب أن يكون لكلّ واحد من الاستعمالين حكمه (1).

والجواب : أنّ هذا موقوف على جواز الاستعمال المذكور ، وقد ذكرنا أنّه غير جائز ؛ للزوم التنافي ، فظهر أنّ استعمال اللفظ في معناه الحقيقي والمجازي لا يجوز في إطلاق واحد على جميع التقادير.

ويتفرّع عليه فروع كثيرة :

منها : إذا حلف أن لا ينظر إلى الأسد مثلا ، وأراد منه الحيوان المفترس والرجل الشجاع معا ، لزم الحكم ببطلان هذا الحلف ؛ لعدم جواز ذلك. وكذا الحكم في جميع الألفاظ التي لها المعاني الحقيقيّة والمجازيّة في الأيمان ، والنذور ، والأوقاف ، والوصايا ، والتعليقات.

ومنها : قد ورد أنّ الطفل تابع لأبويه في الإسلام (2) ، والأب حقيقة في معناه المعروف ومجاز في الجدّ ، فهل يباع الطفل المملوك للكافر بإسلام جدّه ، بناء على حمل الأب على معناه الحقيقي والمجازي ، أو لا ، بناء على عدم جواز ذلك؟ وقد عرفت الحقّ. هذا. مع أنّه ليس فيما ورد قرينة ، فتعيّن حمله على معناه الحقيقي وفاقا.

فصل [15]

إذا دار اللفظ بين الحقيقة المرجوحة والمجاز الراجح ، فقيل بترجيحها ؛ مراعاة للأصل (3).

وقيل بترجيحه ؛ مراعاة للغلبة والظهور (4). وقيل بالتوقّف ؛ للتعارض (5).

ومحلّ الخلاف ما إذا لم يهجر الحقيقة بالكلّيّة بحيث كان اللفظ في دلالته عليها مفتقرا إلى القرينة ، وبدونها كانت مماتة لا تراد مطلقا ، بل كانت بحيث تراد في بعض الأوقات ، إلاّ أنّ المجاز أرجح عند العقل ، وقد أشرنا فيما تقدّم (6) أنّ التسمية بالحقيقة المرجوحة والمجاز الراجح في هذه الصورة دون الصورة الأولى ؛ لأنّ المجاز فيها يصير حقيقة شرعيّة أو عرفيّة.

ص: 71


1- راجع المحصول 1 : 343.
2- وسائل الشيعة 15 : 116 ، أبواب جهاد العدوّ وما يناسبه ، الباب 43 ، ح 1.
3- راجع تمهيد القواعد : 104 ، القاعدة 22.
4- راجع تمهيد القواعد : 104 ، القاعدة 22.
5- راجع تمهيد القواعد : 104 ، القاعدة 22.
6- تقدّم في ص 51.

ثمّ خير الأقوال عندي أوسطها ؛ نظرا إلى حصول غلبة الظنّ.

وكيفيّة التفريع أنّ « الشرب من النهر » حقيقة في الشرب منه بالفم ، ومجاز في الاغتراف منه بالكوز ونحوه والشرب منه إلاّ أنّه مجاز راجح ، فيجب أن يحمل في الأيمان والنذور والتعليقات على معناه المجازي على ما اخترناه. و « السبيل » حقيقة في مطلق الطريق ومجاز في الجادّة ولكنّه مجاز راجح ، فيلزم أن يحمل عليها عند الإطلاق.

فصل [16]

إذا دار اللفظ بين الحقيقة وواحد من المجاز أو النقل أو الاشتراك أو التخصيص أو الإضمار ، رجّح الحقيقة وفاقا ، إلاّ أن يثبت أحدها بالقرينة ، أو دليل خارجي. والدليل مع كيفيّة التفريع ظاهر.

وإذا دار اللفظ بين واحد من الخمسة المذكورة مع آخر منها ، فالحكم على ما نذكره ، وهو أنّ معارضات هذه الخمسة تتصاعد إلى عشرة صور :

[ الصورة ] الاولى : معارضة المجاز والنقل. والحقّ حينئذ أولويّة المجاز ؛ لأنّ المجاز لا يتوقّف على أمر سوى العلاقة ، وثبوت العلاقة والعلم بها في غاية السهولة.

وأمّا النقل ، فموقوف على اتّفاق أرباب المحاورات عليه ، والعلم به في غاية الصعوبة. وبعد فرض حصول العلم به لا كلام في وجوب الأخذ به ؛ لأنّ الخلاف في صورة الشكّ.

وأيضا هو موقوف على نسخ الوضع الأوّل ، وهو خلاف الأصل.

وكيفيّة التفريع : أنّ كلّ لفظ ورد في كلام الشارع واحتمل أن يكون مجازا وأن يكون منقولا ، فيجب أن يحمل على معناه المجازي. مثلا : أطلق الشارع « السبيل » على الدين والمذهب ، فيحتمل أن يكون على سبيل النقل ، ويحتمل أن يكون على سبيل المجاز. والحقّ الثاني ؛ لما عرفت (1) ، فعند الإطلاق يحمل على معناه الحقيقي.

ص: 72


1- تقدّم آنفا ، وهو أنّ المجاز لا يتوقّف على أمر سوى العلاقة.

[ الصورة ] الثانية : معارضة المجاز للاشتراك. والحقّ أنّ المجاز أولى ؛ لأغلبيّته في المحاورات ، والمظنون إلحاق الشيء بالشائع الأغلب ؛ ولأنّ الاشتراك مخلّ بالتفاهم ، فيلزم الاحتراز عنه مهما أمكن. وقد ذكر وجوه أخر لترجيح المجاز. والاعتماد على ما ذكرناه. وذكر وجوه لترجيح الاشتراك على المجاز لا يفيد شيئا ، ولا يقاوم وجها واحدا ممّا ذكر.

وكيفيّة التفريع : أنّ النكاح استعمل في العقد والوطء كليهما ، فيمكن أن يكون من باب الاشتراك ، وأن يكون من باب الحقيقة والمجاز ، فالثاني أولى ؛ لما عرفت.

ثمّ قيل : هو حقيقة في العقد ، مجاز في الوطء (1). وقيل بالعكس (2).

والحقّ الأوّل ؛ لحصول التبادر في العقد دون الوطء. فعلى هذا يحمل النكاح في قوله تعالى : ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ) (3) على العقد ، فيحكم بتحريم معقودة الأب على الابن. وعلى الاشتراك يلزم التوقّف ، كما أشرنا إليه (4). وعلى القول بكونه حقيقة في الوطء ، مجازا في العقد ، يلزم الحكم بتحريم موطوءة الأب دون معقودته.

[ الصورة ] الثالثة : معارضة المجاز والتخصيص ، كقوله تعالى : ( وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ) (5) فيمكن أن يكون المراد بالمشركين ما عدا أهل الذمّة ، فيكون مجازا من باب تسمية الجزء باسم الكلّ. ويمكن أن يكون المراد الحقيقة - أعني جميع المشركين - لكن خصّ عنه أهل الذمّة بدليل من خارج.

ثمّ قيل في أولويّة التخصيص : إنّ الحمل عليه يستلزم حصول المقصود عند وجود القرينة وعدمها.

ص: 73


1- نسبه الأسنوي إلى الشافعي وأصحابه في التمهيد : 190 و 191.
2- راجع المصدر : 191.
3- النساء (4) : 22.
4- في ص 46.
5- التوبة (9) : 36.

أمّا الأوّل فظاهر.

وأمّا الثاني ؛ فلأنّه يلزم حينئذ حمل اللفظ على عمومه والعمل به ، ولا شكّ أنّ المقصود - أعني غير المخصّص - في ضمنه. وأمّا الحمل على المجاز ، فلا يستلزم حصول المقصود عند فقد القرينة ؛ لأنّ اللفظ عند فقدها يحمل على الحقيقة ، ويمكن أن يكون المجاز مقصودا مع عدم كونه في ضمنها (1).

أقول : هذا الدليل لا يفيد شيئا ؛ لأنّ غاية ما يدلّ عليه أنّ اللفظ العامّ الذي لم يوجد له مخصّص ولا قرينة على أنّ المراد منه بعض أفراده ، يلزم أن يحمل على عمومه الذي هو حقيقة ، لكن أمكن في نفس الأمر أن لا يكون بعمومه مقصودا ، بل يكون مخصّصا أو مجازا ، فإن كان مخصّصا في الواقع ، فإنّا عملنا بالمقصود - أعني غير المخصّص - وإن عمل بالزائد أيضا ، وإن كان مجازا ، لم نعمل بالمقصود ؛ لأنّا عملنا بالحقيقة التي ليست مقصودة ، دون المجاز الذي هو المقصود.

وغير خفيّ أنّ الحقيقة فيما نحن فيه هو العامّ ، والمجاز بعض أفراده ، فإذا عمل بالحقيقة عمل بالمجاز أيضا ؛ لأنّ الخاصّ في ضمن العامّ ، والمجاز الذي ليس في ضمن حقيقته هو الذي لم يكن جزءا من الحقيقة ، ولا دخل له بما نحن فيه ، فلا فرق بين الحملين.

هذا ، مع أنّ ثبوت الفرق عند عدم المخصّص والقرينة لا يدلّ على ثبوته عند وجودهما ، كما هو الفرض.

والتحقيق أن يقال : إنّه إذا وجد المخصّص والعلاقة المجوّزة دون القرينة المانعة سوى التخصيص ، يتعيّن الحمل على التخصيص ، وهو ظاهر. وإن وجد المخصّص والعلاقة المجوّزة والقرينة المانعة غيره ، فيمكن الحمل على التخصيص والمجاز كليهما ، ولا منافاة بينهما ؛ فإنّ العامّ يكون حينئذ مخصّصا ومجازا بالاعتبارين ، ولا يظهر حينئذ فائدة في هذا الخلاف.

نعم ، يظهر فائدة في أولويّة التخصيص ، أو المجاز من طريق آخر ، وهو أنّه إذا تعارض الأدلّة الشرعيّة في حكم ، وارتكب التخصيص في طرف ، والتجوّز في طرف آخر ، فعلى

ص: 74


1- قاله الفخر الراي في المحصول 1 : 360.

أولويّة التخصيص يلزم وجود مرجّح في طرفه ، وعلى العكس العكس ، ويمكن أن يرجّح التخصيص بأغلبيّته في الأحكام الشرعيّة ، فتأمّل.

[ الصورة ] الرابعة : معارضة المجاز والإضمار ، كقوله تعالى : ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) (1) فإنّه يمكن إضمار لفظ « أهل » ، ويمكن أن يكون المراد من « القرية » أهلها تسمية للحالّ باسم المحلّ.

قيل : الظاهر كون الإضمار أقرب ؛ لأنّه لا يفتقر إلاّ إلى قرينة ، والمجاز مع افتقاره إليها يفتقر إلى الوضع اللاحق أيضا (2). ولا يخفى ما فيه ، ولذا حكم الأكثر بتساويهما (3).

ثمّ إنّ فائدة هذا الخلاف في الأحكام ما أشرنا إليه في الصورة الثالثة (4).

[ الصورة ] الخامسة : معارضة النقل والاشتراك. وقد اختلف في ترجيحهما. والحقّ رجحان النقل ؛ لأنّ الاشتراك يخلّ بالفهم بخلاف النقل.

والقول بأنّ الاشتراك أكثر من النقل لم يثبت. وكيفيّة التفريع ظاهرة (5).

[ الصورة ] السادسة : معارضة النقل والتخصيص ، كما في لفظ البيع ؛ فإنّه موضوع لمطلق المعاوضة والمبادلة ، واستعمل في لسان الشارع والمتشرّعة في المبادلة المخصوصة الجامعة للشرائط المعيّنة ، فيمكن أن يكون هذا على سبيل النقل ، ويمكن أن يكون على سبيل التخصيص. والثاني أولى ؛ لأنّ التخصيص إمّا مساو للمجاز ، أو أولى منه كما عرفت (6). والمجاز أولى من النقل ، فالتخصيص كذلك. والفائدة ما أشرنا إليه في الصورة الثالثة (7).

ص: 75


1- يوسف (12) : 82.
2- ذهب إليه السيّد ضياء الدين الأعرج في منية اللبيب : 74.
3- منهم : الفخر الرازي في المحصول 1 : 359 ، والبيضاوي في منهاج الاصول المطبوع مع نهاية السؤل 2 : 180 ، والأسنوي في نهاية السؤل 2 : 181.
4- في ص 73 - 74.
5- في « ب » زيادة : « بين المعاني ».
6- في ص6. 75.
7- في ص6. 75.

[ الصورة ] السابعة : معارضة النقل والإضمار ، والثاني أولى ؛ لأنّه إمّا مساو للمجاز ، أو أولى منه ، والمجاز أولى من النقل ؛ فالإضمار كذلك.

وكيفيّة التفريع : أنّ الربا في قوله تعالى : ( وَحَرَّمَ الرِّبا ) (1) يمكن أن يراد به المعنى اللغوي - أي الزيادة - بشرط إضمار مضاف ، أي حرّم أخذ الربا ، فيكون دالاّ على حرمة أخذ الزيادة ، لا على حرمة نفس العقد المتضمّن لمعاوضة الجنس الربوي به متفاضلا ؛ لأنّه لم يثبت نقل الربا إلى العقد المذكور. ويمكن أن يراد به نفس العقد المذكور بناء على تحقّق النقل ، فيدلّ الآية على حرمة نفس العقد المذكور. وقد عرفت الحقّ.

[ الصورة ] الثامنة : معارضة الاشتراك والتخصيص. والثاني أولى ؛ والسرّ ظاهر.

وكيفيّة التفريع : أنّ قوله تعالى : ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ) (2) يدلّ على تحريم معقودة الأب على الابن ، سواء كان العقد صحيحا أو فاسدا ؛ بناء على كون النكاح حقيقة في العقد ، وكونه شاملا للصحيح والفاسد ، إلاّ أنّ الفاسد منه مخصّص بالنصّ. وعلى كون النكاح مشتركا بين العقد والوطء لا افتقار إلى التخصيص ؛ لأنّ الآية حينئذ لا تدلّ على تحريم مطلق المعقودة حتّى يحتاج إلى إخراج العقد الفاسد ؛ لاحتمال أن يكون المراد من النكاح الوطء.

[ الصورة ] التاسعة : معارضة الاشتراك والإضمار ، والثاني أولى ؛ لعدم الإجمال فيه ، إلاّ إذا وجد امور متعدّدة يصلح كلّ واحد منها أن يكون مضمرا ، ولم يوجد قرينة دالّة على رجحان أحدها. وهذا الفرض نادر ، بخلاف الاشتراك ؛ فإنّه لا ينفكّ عن الإجمال. والمثال - على ما ذكره بعض (3) - : أنّ لفظة « في » في قوله عليه السلام : « في خمس من الإبل شاة » (4) تحتمل أن تكون مشتركة بين الظرفيّة والسببيّة ، وتحتمل أن تكون للظرفيّة خاصّة.

ص: 76


1- البقرة (2) : 275.
2- النساء (4) : 22.
3- مثّل بها السيّد ضياء الدين الأعرج في منية اللبيب : 73 ، والقمّي في قوانين الاصول 1 : 32.
4- الكافي 3 : 531 ، باب صدقة الإبل ، ح 1.

فعلى الأوّل لا حاجة إلى الإضمار ؛ لاحتمال كونها للسببيّة ، وعلى الثاني لا بدّ من إضمار لفظ « مقدار » حتّى يكون التقدير في خمس من الإبل مقدار شاة.

ثمّ من فوائد الخلاف هنا ما أشرنا إليه في الصورة الثالثة (1).

[ الصورة ] العاشرة : معارضة التخصيص والإضمار. والترجيح للتخصيص ؛ ووجهه ظاهر ممّا سبق.

وكيفيّة التفريع : أنّ قوله عليه السلام : « لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل » (2) يحتمل أن يكون عامّا في الواجب والمستحبّ ، إلاّ أنّ المستحبّ مخصّص بجواز تأخير النيّة إلى الزوال. ويحتمل أن يكون فيه إضمار لفظ « كامل » أو شبهه ، ويكون التقدير « لا صيام كامل » إلى آخره. وحينئذ لا افتقار إلى التخصيص المذكور ؛ لعدم دلالته حينئذ على وجوب التبييت مطلقا.

ثمّ اعلم أنّ القوم صرّحوا بأنّه إذا تعارض النسخ مع واحد من الامور الخمسة ، يلزم الحكم بمرجوحيّة النسخ (3) ؛ لأنّه عبارة عن بطلان الحكم الثابت ، وهو خلاف الأصل. والحكم به مع عدم القطع يؤدّي إلى الفساد. وفي شيء من الامور الخمسة (4) لا يلزم ذلك ، مع أنّ كلّ واحد منها أكثر وجودا من النسخ.

فصل [17]

المشتقّ فرع وافق الأصل في حروفه الاصول ومعناه ، ويعلم من كون المشتقّ فرعا لزوم تحقّق تغيّر ما في اللفظ بينه وبين أصله ؛ إذ الفرعيّة والأصالة لا تتحقّقان بدونه.

والتغيير إمّا بزيادة حرف ، أو حركة ، أو كليهما. وإمّا بنقصان إحدى الثلاث. وإمّا بالزيادة والنقصان معا فيهما معا ، أو في أحدهما فقط ، أو مع كون أحدهما في الآخر. وإمّا بأحدهما

ص: 77


1- في ص 73 - 74.
2- راجع : سنن أبي داود 2 : 329 ، ح 2454 ، وكنز العمّال 8 : 493 ، ح 23789 - 23792.
3- راجع : المحصول 1 : 361 ، والإحكام في أصول الأحكام 2 : 343.
4- أي المجاز ، والنقل ، والاشتراك ، والتخصيص ، والإضمار.

في أحدهما ، والآخر في الآخر أيضا. فيصير أقسام المشتقّ خمسة عشر ، أربعة منها احاديّ ، وستّة منها ثنائيّ ، وأربعة منها ثلاثيّ ، وواحد منها رباعيّ. والأمثلة ظاهرة.

ثمّ المراد من الموافقة المأخوذة في التعريف الموافقة في الحروف الاصول مع الترتيب ، فيخرج عنه المشتقّ بالاشتقاق الصغير ، وهو ما يعتبر فيه الموافقة في الحروف الاصول بدون الترتيب ، نحو : كنى ونكى. وكذا يخرج عنه المشتقّ بالاشتقاق الأكبر ، وهو ما يعتبر فيه المناسبة فيها دون الموافقة ، نحو : ثلب وثلم ، وفي كليهما يعتبر المناسبة في المعنى دون الموافقة فيه (1).

ويبقى التعريف خاصّا بما هو المشهور المعتبر عند القوم ، وهو المشتقّ بالاشتقاق الأصغر ، وهو ما يعتبر فيه الموافقة في الحروف الاصول مع الترتيب والمعنى ، نحو :

ضرب وضارب.

وعلى هذا التعريف يدخل المعدول (2) في تعريف المشتقّ. فإن قلنا باشتقاقه ، فلا إشكال. وإن لم نقل به ، فلا يكون التعريف مانعا ، ولذا زيد في التعريف « بتغيّر ما في المعنى » ، وحينئذ يخرج المعدول ، لكن يخرج المصدر الميمي أيضا.

وقد يوجّه الحدّ بدون الزيادة : بأنّ المراد من الأصل المصدر ، وحينئذ يصير الحدّ مطّردا منعكسا.

واعلم أنّ المشتقّ قد يطّرد ، وهو الذي اعتبر وجود معنى الأصل فيه من حيث إنّه داخل في مفهومه ، ويكون اعتبار ذلك المعنى فيه للتصحيح حتّى يكون المراد من المشتقّ ذاتا مبهمة باعتبار انتساب ذلك المعنى إليها ، كاسم الفاعل والمفعول والصفة المشبّهة وأمثالها.

وقد لا يطّرد ، وهو الذي اعتبر فيه معنى الأصل ، لا من حيث إنّه داخل في مفهومه ، بل من حيث إنّه مرجّح للتسمية بهذا الاسم من بين الأسماء ، فيكون اعتبار ذلك المعنى فيه للتوضيح دون التصحيح ، كالقارورة ، والدبران ، والعيوق ، وأمثالها (3) ؛ فإنّ تسمية الزجاجة

ص: 78


1- كذا في النسختين. وقسّم الشوكاني في إرشاد الفحول 1 : 54 الاشتقاق إلى الصغير والكبير والأكبر ، وسمّى مثل كنى ونكى كبيرا ، ومثل ضرب وضارب صغيرا ؛ فتسمية المصنّف تخالف المشهور.
2- كثلاث ومثلث ؛ فإنّهما معدولان عن ثلاثة ثلاثة ، وهما بمعنى ثلاثة ثلاثة.
3- في « ب » : « أمثال ذلك ».

بالقارورة باعتبار استقرار الشيء فيها ، إلاّ أنّ اعتبار ذلك فيها ليس من حيث إنّه داخل في مفهومها ، بل من حيث إنّه مرجّح لتعيّن هذا الاسم من بين سائر الأسماء.

وإذا عرفت هذا ، تعلم أنّ تسمية كلّ شيء باسم المشتقّ المطّرد (1) باعتبار وجود مبدأ الاشتقاق فيه تكون على سبيل الحقيقة ، وتسمية غير الزجاجة مثلا بالقارورة باعتبار استقرار الشيء فيه - كالدنّ وأمثاله - تكون على سبيل المجاز.

ويظهر الفائدة في الأحكام في الأيمان ، والتعليقات ، والأوقاف ، وأمثالها.

فصل [18]

إطلاق المشتقّ على ذات باعتبار الحال - يعني عند اتّصافها بالمبدإ ، كالضارب لمباشر الضرب - حقيقة وفاقا ، وباعتبار المستقبل - أي قبل اتصافها به ، كالميّت لمن لم يمت وسيموت - مجاز قطعا ، وباعتبار الماضي - أي بعد وجوده وزواله عنه ، كالضارب لمن ضرب وزال عنه الضرب - ففيه خلاف. فأصحابنا (2) ، والمعتزلة (3) ، وابن سينا (4) على أنّه حقيقة. والأشاعرة (5) على أنّه مجاز.

وذهب بعض (6) إلى أنّه إن لم يمكن بقاؤه فحقيقة ، كالكلام ؛ فإنّ كلّ جزء منه أتى لا يمكن أن يبقى في زمان ، ولا يقارن الماضي ولا المستقبل ، وإن أمكن ولم يبق فمجاز ، كالضرب وأمثاله.

وتوقّف جماعة كالآمدي (7) ، وابن الحاجب (8).

وذكر جماعة أنّ محلّ النزاع ما إذا لم يطرأ على المحلّ وصف وجودي ينافي الأوّل ،

ص: 79


1- في « ب » : « بالمشتقّ مطّرد ».
2- راجع تمهيد القواعد : 84 ، القاعدة 19.
3- راجع المحصول 1 : 240.
4- حكاه عنه الفخر الرازي في المصدر.
5- منهم الفخر الرازي في المصدر 1 : 239 و 240.
6- قاله القاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى 1 : 176.
7- الإحكام في أصول الأحكام 1 : 86.
8- حكاه عنه الأسنوي في نهاية السؤل 2 : 82.

كإطلاق الضارب على من انقضى عنه الضرب من دون طريان وصف ينافي الضرب. ومع الطريان - كإطلاق الأبيض على من زال عنه البياض وهو الآن أسود - فمجاز اتّفاقا.

وفي كلام بعض أصحابنا أنّ الخلاف فيما كان المشتقّ محكوما به ، كقولنا : زيد ضارب ، أو متكلّم ونحوه ، وأمّا إذا كان محكوما عليه ، كقوله تعالى : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ) (1) ، و ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ) (2) و ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) (3) فحقيقة بلا كلام (4).

وذكر بعض (5) آخر أنّ النزاع في المشتقّ الذي بمعنى الحدوث ، كالضارب وأمثاله ، دون الذي بمعنى الثبوت ، كالمؤمن والكافر والحلو والحامض.

وقال بعض المتأخّرين : إنّ الإطلاق المذكور حقيقة إذا كان اتّصاف الذات بالمبدإ أكثريّا بحيث يكون عدم الاتّصاف مضمحلاّ في جنب الاتّصاف ، سواء كان المشتقّ محكوما عليه أو به ، وسواء طرأ الضدّ أو لا ، كالكاتب ، والخيّاط ، والقارئ ، والمعلّم ، والمتعلّم وأمثالها (6).

والحقّ المذهب الأوّل ؛ لأنّ الضارب - مثلا - وضع في اللغة (7) لمن ثبت له الضرب ، وهذا المفهوم شامل لمباشر الضرب ، ولمن ضرب وزال عنه الضرب ، فإخراج أحد الفردين منه تحكّم.

واستدلّ عليه أيضا ، بأنّ الإطلاق المذكور لو لم يكن حقيقة ، لما صدق مثل المتكلّم والمخبر على أحد حقيقة ؛ لأنّ الكلام مركّب من حروف متتالية ينقضي السابق منها بطريان اللاحق ، ولا شبهة في أنّ ماهيّة الكلام لا تتحقّق بحرف واحد ، بل بعدّة حروف ، وتحقّقها في آن واحد ممتنع ، فلا يتحقّق كلام أصلا ؛ لأنّه قبل حصولها لم يتحقّق ، وبعده قد انقضى (8).

ص: 80


1- النور (24) : 2.
2- المائدة (5) : 38.
3- التوبة (9) : 5.
4- تمهيد القواعد : 85 ، القاعدة 19.
5- ذهب إليه شارح الشرح كما في شرح تجريد الاصول للنراقي الثاني ( مخطوط ).
6- قاله الفاضل التوني في الوافية : 63.
7- راجع لسان العرب 8 : 35 ، « ض ر ب ».
8- راجع المحصول 1 : 240.

ولا يخفى أنّ هذا يرد (1) على أكثر الأفعال.

والحقّ : أنّ المعتبر في اتّصاف ذات بالمبدإ في الحال هو أن يقال في العرف : إنّها متّصفة به ، وهذا متحقّق ما دام الفاعل مباشرا للفعل بالمباشرة العرفيّة ، أي ما دام لم يحصل فصل بين أجزاء الفعل بحيث يقول العرف : زالت المباشرة.

واستدلّ عليه أيضا : بأنّه لو لم يكن الإطلاق المذكور حقيقة ، لما صدق المؤمن على النائم والغافل حقيقة ؛ لأنّ الإيمان بأيّ معنى اخذ غير موجود لهما (2).

وهذا الدليل أيضا غير تامّ ؛ لأنّه يمكن أن يقال : هذا الإطلاق مجازي ، أو مبدأ الإيمان موجود في خزانة النفس عند النوم والغفلة.

وقد استدلّ عليه بأدلّة أخر أيضا إلاّ أنّها غير تامّة ، كما قالوا : قد يطلق الضارب - مثلا - على من انقضى عنه الضرب ، ويقال : زيد ضارب أمس ، والأصل في الإطلاق الحقيقة (3).

وقد عرفت (4) أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة في أمثال هذه الصور ، فالمعتمد ما قدّمناه (5).

هذا ، واستدلّ على المذهب الثاني بوجوه كلّها مندفعة ، وعمدة أدلّتهم : أنّه لو كان إطلاق الضارب - مثلا - على من انقضى عنه الضرب حقيقة ، لما صدق قولنا : « زيد ليس بضارب الآن » مع أنّه صادق بالاتّفاق.

والجواب : أنّ في (6) « الآن » ليس ظرفا للنفي حتّى يكون المراد أنّه يصدق في (7) الآن أنّه ليس بضارب مطلقا ؛ لأنّه عين النزاع ، بل هو ظرف للمنفيّ ، أعني ضاربا ، كما هو المتبادر من هذا التركيب ، فيكون المراد أنّه يصدق أنّه ليس بضارب بضرب موجود في الحال ، ولا ينافي ذلك قولنا : إنّه يصدق في الحال أنّه ضارب مطلقا.

واورد عليه : بأنّ قولنا : « زيد ليس بضارب الآن » وقتيّة ، وهي مستلزمة للمطلقة العامّة بشرط اتّحاد موضوعهما ، فيصدق قولنا : « زيد ليس بضارب في الجملة » ؛ لأنّ المطلقة أعمّ

ص: 81


1- في « أ » : « لا يرد ».
2- راجع : المحصول 1 : 2. والإحكام في أصول الأحكام 1 : 86 - 88.
3- راجع : المحصول 1 : 2. والإحكام في أصول الأحكام 1 : 86 - 88.
4- راجع ص 67 - 69.
5- في ص 80.
6- كذا في النسختين. ولكنّ كلمة « في » زائدة.
7- كذا في النسختين. ولكنّ كلمة « في » زائدة.

القضايا الفعليّة ، وصدق الخاصّ يستلزم صدق العامّ ، وهو ينافي قولنا : زيد ضارب مطلقا (1).

واجيب : بمنع التنافي بين المطلقتين المختلفتين كيفا. هذا. مع أنّا لا نسلّم كون « زيد ليس بضارب الآن » وقتيّة ، بل هي أيضا مطلقة ؛ لأنّ « الآن » ليس ظرفا لسلب مطلق الضرب ، بل قيد للمحمول ، والمراد أنّه ليس بضارب بضرب موجود في الحال ، فكأنّه قيل : « زيد ليس بضارب بالضرب الفلاني ». ويشترط في الوقتيّة أن يكون الوقت وقتا للنفي ، وإذا كانت مطلقة فيكفي للمورد الإشارة إلى ثبوت التنافي بينها وبين المطلقة الموجبة ، ولم يكن له حاجة إلى تجشّم بيان الاستلزام (2).

وعلى التقديرين فإيراده ساقط ؛ لأنّه - كما اشير إليه - لا تنافي بينها وبين المطلقة الاولى ؛ إذ لا تنافي بين المطلقتين ؛ لأنّ النفي في الجملة لا ينافي الثبوت في الجملة.

وغير خفيّ أنّ هذا الجواب غير صحيح ؛ لتحقّق التكاذب بين المطلقتين المختلفتين كيفا عرفا ، فإنّه يقال في الردّ على من قال « زيد قائم » : « هو ليس بقائم » والتكاذب العرفي مستلزم للتنافي اللغوي ، مع أنّ صحّة النفي من خواصّ المجاز ، فينافي الحقيقة.

والحقّ في الجواب أن يقال : صدق النفي المطلق لغة ممنوع ، بل هو عين النزاع كما عرفت ، فلا يجوز لغة أن يقال : « زيد ليس بضارب ». نعم ، يجوز ذلك عقلا ؛ بناء على أنّ صدق نفي الضرب الحالي مستلزم عقلا لصدق نفي الضرب في الجملة.

مثاله : أنّه لا يجوز لغة أن يقال : « ليس الإنسان بحيوان » ويجوز عقلا أن يقال ذلك ؛ بناء على أنّ حيوانا ما كالحيوان الصاهل منفيّ عنه ، ولكنّ جواز السلب في الجملة عقلا لا ينافي الثبوت حقيقة ، فإنّ الحيوان حقيقة في الإنسان ؛ لكونه من أفراد مفهومه مع جواز سلبه عنه في الجملة عقلا. وسرّ ذلك أنّ بناء الحقيقة على اللغة لا على العقل.

واستدلّوا أيضا بأنّه لا يطلق الكافر على المؤمن الذي أسلم بعد الكفر ، وإلاّ لصدق على أكثر الصحابة في حال إسلامهم أنّهم كفّار ، وكذا لا يصدق على العنب الحلو أنّه حامض ،

ص: 82


1- راجع المحصول 1 : 240 - 250.
2- راجع نهاية السؤل 2 : 73 - 90.

وعلى التمر اليابس الأسود أنّه رطب أخضر (1).

واجيب عن الأوّل : بأنّ المنع فيه شرعي. وعن أخويه : بأنّ المنع فيهما عرفي ، واللغة لا تأبى عن الإطلاق المذكور وإن كان مستبعدا عند العقل (2).

وإن خصّص الدعوى بما إذا لم يطرأ على المحلّ ضدّ أو نقيض - كما ذكره بعض (3) - فيندفع هذا الدليل ؛ لأنّ عدم الإطلاق في الامور المذكورة يكون حينئذ اتّفاقيّا ؛ لأجل طريان الضدّ ، ويكون خارجا عن الدعوى ، إلاّ أنّ الاتّفاق المذكور لم يثبت ، بل خلافه ثابت. فالحقّ في الجواب ما ذكر أوّلا.

إذا عرفت هذا ، تعلم حقيقة الحال في المذاهب الأخر ، والتخصيصات المذكورة ، ووجه فسادها.

ثمّ إنّ فروع هذا الأصل كثيرة :

منها : إذا وقف أحد شيئا على سكّان موضع مخصوص ، فعلى ما اخترناه لا يبطل حقّ بعض السكّان بالخروج ، وإن كان مدّة كثيرة.

ومنها : بقاء كراهية الطهارة بالماء المسخّن بالشمس بعد برده.

ومنها : كراهية الحدث تحت الأشجار التي أثمرت في الماضي ولم تكن مثمرة بالفعل.

وأمثال هذه الفروع كثيرة. وكيفيّة التفريع في جميعها ظاهرة عليك بعد الإحاطة بما ذكرناه.

فصل [19]

كلّ واحد من المشتقّات يدلّ على ذات ما مع صفة معيّنة ، ولا يدلّ على خصوصيّة الذات من كونه جسما أو إنسانا أو حجرا أو غيرها ؛ فإنّ الأبيض لو دلّ على خصوصيّة الذات مثل كونها جسما ، لكان حمل الجسم عليه غير مفيد مع أنّه مفيد قطعا.

ص: 83


1- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 89.
2- قاله العلاّمة في تهذيب الوصول : 68 و 69.
3- تقدّم في ص 79 - 80.

ويظهر الفائدة في الأحكام في التعليقات والأيمان وأمثالهما ، وفيما صدر مشتقّ من كلام الشارع ولم يكن قرينة تدلّ على تعيين الذات.

فصل [20]
اشارة

الحقّ أنّ الواو العاطفة لمطلق الجمع ، ولا تدلّ على ترتيب أو معيّة. صرّح بذلك رؤساء اللغة (1) حتّى أنّ أبا عليّ الفارسي نقل إجماع الادباء على ذلك (2).

وذكره سيبويه في خمسة عشر موضعا من كتابه (3) ؛ واستدلّ أيضا بأمثلة يتعيّن في بعضها الحمل على المعيّة ، وفي بعضها الحمل على تقدّم ما بعد الواو على ما قبلها.

والحقّ أنّ الحمل على المجازيّة فيها ممكن ، فالمناط ما ذكر أوّلا.

والفرّاء ومن تبعه على أنّها للترتيب (4). واحتجّ بأمثلة لا بدّ فيها من حمل الواو على الترتيب ، وهو لا يفيد مطلوبهم ؛ لأنّه مستفاد من القرائن الخارجيّة ، فلا يدلّ على تعيّن كونها حقيقة فيه فقط.

إذا علمت ذلك تعرف أنّه يجب حمل الواو عند الإطلاق على الجمع مطلقا.

وكيفيّة التفريع أنّه إذا قال رجل لزوجته : « إن كلّمت زيدا وعمرا فأنت عليّ كظهر أمّي » فتحرم بمطلق تكلّمهما ، ولا يتوقّف (5) على تقدّم تكلّم الأوّل على الثاني ، وكذا إذا قال رجل لآخر : « وكّلتك في بيع أرضي ومتاعي » يتخيّر الوكيل في بيعهما بأيّ نحو شاء ، ولا يلزم عليه بيع الأرض أوّلا.

ثمّ الحقّ أنّ الواو العاطفة يجوز حذفها مطلقا إذا دلّت عليه قرينة ، كما ذهب إليه الأكثر ، وإن منعه ابن جنيّ في غير الشعر (6). فمن أورد جملا متعاطفة بتقدير العاطف في المعاملات ،

ص: 84


1- منهم : ابن هشام في مغني اللبيب 2 : 354 ، والفارسي كما في المحصول 1 : 363.
2- حكاه عنه الفخر الرازي في المحصول 1 : 363 ، والأسنوي في نهاية السؤل 2 : 185 ، والعلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الأصول 1 : 313.
3- راجع كتاب سيبويه 1 : 177 - 179.
4- راجع : الإحكام في أصول الأحكام 1 : 96 ، ومغني اللبيب 2 : 354.
5- أي الحكم ، وهو هنا الحرمة.
6- حكاه عنه الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 449 ، القاعدة 157.

أو الإيقاعات ، أو التعليقات وادّعى ذلك يقبل قوله.

وذكر بعض النحويّين (1) أنّ هذا الواو مع الاثنين بمنزلة ألف التثنية ، ومع الثلاثة فصاعدا بمنزلة واو الجمع ، فيلزم على ذلك أن لا يكون فرق بين إيراد الكلام في العقود والإيقاعات وغيرهما بلفظ التثنية والجمع ، أو بالواو مع الاثنين والأكثر ، إلاّ أنّ الفقهاء (2) ذكروا أنّه إذا أوصى رجل في مرض موته بعتق سالم وغانم مثلا ، ولم يف الثلث بهما ، يعتق الأوّل خاصّة ، وعلى القاعدة يلزم أن يعتق جزء من كلّ منهما أو يقرع بينهما ؛ لأنّ الحكم فيما إذا قال : « أعتقوا هذين العبدين » كذلك (3).

وهنا فرق آخر ، وهو أنّه إذا قال رجل : « لزيد عليّ ثلاثة دراهم إلاّ درهما » يلزمه درهمان قولا واحدا. وإذا قال : « له عليّ درهم ودرهم ودرهم إلاّ درهما » فعلى القاعدة الحكم كذلك ، إلاّ أنّ بعضهم (4) على أنّ الاستثناء يعود إلى الجملة الأخيرة ، فيبطل الاستثناء ؛ لكونه مستغرقا.

قاعدة

الفاء العاطفة موضوعة لمعان :

منها الترتيب ، وهو إمّا ذكري ، وهو عطف مفصّل على مجمل ، نحو « توضّأ ، فغسل وجهه ويديه ، ومسح رأسه ورجليه ». وإمّا معنوي ، نحو « جاء زيد فعمرو ».

ومنها التعقيب ، وهو في كلّ شيء بحسبه ، نحو « تزوّجت فولدت » و « دخل المدينة فمكّة » ، فهو يشتمل التراخي أيضا.

ومنها السببيّة ، نحو ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ ) (5) ، فتقدّم الأوّل في المعاني الثلاثة معتبر إلاّ في الترتيب الذكري.

ص: 85


1- نسبه الشهيد الثاني إلى ابن مالك في تمهيد القواعد : 447 ، القاعدة 157.
2- منهم العلاّمة في تحرير الأحكام 3 : 343 ، المسألة 4758 ، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد 10 : 120 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 446 ، القاعدة 157.
3- فيما إذا كانت قيمتهما زائدة عن الثلث.
4- ذهب إليه الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 448 ، القاعدة 157.
5- البقرة (2) : 37.

وذهب الفرّاء إلى أنّها لا تفيد الترتيب مطلقا (1) ، واحتجّ بقوله تعالى : ( أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ ) (2).

والجواب أنّ الترتيب فيه ذكري ، أو التقدير : « أردنا إهلاكها » كما في كثير من نظائره.

وكيفيّة التفريع : أنّه إذا حلف رجل إن دخل الدار فتكلّم فعليه كذا ، فيشترط تقدّم الدخول على التكلّم ، وإذا قال : « بعتك بدرهم فدرهم » فعلى القاعدة يلزم بطلان البيع ؛ لأنّ الفاء تقتضي أن يثبت الأوّل قبل الثاني ، والثمن يثبت جميعه دفعة. ويمكن الحمل على التعقيب الذكري ، فينعقد البيع بدرهمين.

ثمّ إنّ بعض النحاة مصرّحون بأنّ الفاء الداخلة على خبر المبتدأ - نحو : الذي يأتيني فله كذا - تدلّ على الاستحقاق ، وحذفها لا يدلّ عليه (3).

ويتفرّع عليه استحقاق الجعل وعدمه في حالتي اشتمال كلام المالك على الفاء وعدمها ، كما صرّح به بعض الأصحاب (4).

وبعضهم قال بالاستحقاق في صورة عدم الفاء أيضا ؛ لدلالة العرف عليه مع قطع النظر عنها ؛ لأنّ الجعالة من العقود الجائزة التي يكتفى في ثبوتها بما دلّ عليها (5). وهو حسن.

ووقع الخلاف بين النحاة في أنّ الفاء الجزائيّة ، نحو « من يأتيني (6) فأكرمه » هل تدلّ على التعقيب ، أم لا؟ (7)

وفرّع عليه العامّة استتابة المرتدّ وعدمه ؛ نظرا إلى قوله صلى اللّه عليه وآله : « من بدّل دينه فاقتلوه » (8) فإنّه لو كانت للتعقيب دلّت على قبول توبته ؛ لأنّه لا يتصوّر هنا فائدة للتعقيب إلاّ الأمر

ص: 86


1- معاني القرآن 1 : 371.
2- الأعراف (7) : 4.
3- منهم ابن مالك في التسهيل : 51 ، وحكاه الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 452 ، القاعدة 157.
4- منهم الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 452 ، القاعدة 157. ولكنّه لم يستقرّ عليه ، بل احتمل الاجتزاء بدون الفاء لاستحقاق الجعل وقال : « هذا متّجه ».
5- هو مختار الشهيد الثاني أخيرا في المصدر.
6- كذا في النسختين. والصحيح : « من يأتني ».
7- راجع تمهيد القواعد : 453 ، القاعدة 158.
8- الفردوس بمأثور الخطاب 3 : 527 ، ح 5647.

بالتوبة ، فإن تاب لم يقتل ، وإلاّ قتل ، ومجرّد تأخير القتل من الارتداد يعلم من الفاء إذا كانت لمجرّد الترتيب ، ففائدة التعقيب منحصرة فيما ذكر ، ولا يصحّ هذا التفريع عندنا ؛ لأنّ المسألة عندنا منصوصة بقبول توبة المرتدّ الملّي دون الفطري (1).

ضابطة

الحقّ أنّ « ثمّ » يفيد ثلاثة امور : التشريك في الحكم ، والترتيب ، والمهلة. وقد يفيد مجرّد الترتيب دون المهلة ، كالفاء.

وخلاف جماعة في كلّ واحد منها لا اعتداد به. والأمثلة التي استدلّوا بها مأوّلة ، فلو قال رجل لوكيله : « بع هذا ثمّ اشتر الشيء الفلاني » يلزم عليه أن يراعي الترتيب مع المهلة المتعارفة هنا ، ولو قال : « عليّ أن أصوم يوما ثمّ يوما » فعليه الفصل بيوم ؛ لأنّ المهلة لا تتحقّق إلاّ بذلك ؛ لعدم مدخليّة الليل في الصوم. واحتمل بعض الاكتفاء به (2) ، ومع تعيين (3) النيّة يلزم العمل بها.

فائدة

لفظة « أو » تقع لمعان :

منها التخيير ، وهي الواقعة بين شيئين يمتنع الجمع بينهما ، نحو « اجعل هذا الثوب أسود أو أحمر ».

ومنها الإباحة ، وهي الواقعة بين شيئين يجوز الجمع بينهما ، نحو « جالس العلماء أو الحكماء ».

ثمّ إن دخلت « لا » الناهية ، أفادت لزوم الاجتناب عن الجميع ، نحو ( وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ) (4) ، فعلى هذا لو قال رجل بعنوان النذر أو الحلف : لا آكل هذا أو هذا ، يلزم

ص: 87


1- الكافي 7 : 256 ، باب المرتدّ ، ح 1 ، ووسائل الشيعة 28 : 545 ، أبواب حدّ المرتدّ ، الباب 1 ، ح 2 ، 3 ، 5.
2- منهم الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 456 ، القاعدة 59.
3- في « ب » : « تعيّن ».
4- الدهر (76) : 24.

عليه الاجتناب عن كليهما ، وإذا قال : آكل هذا أو هذا ، يبرأ (1) بأكل أحدهما. وهكذا الحكم في التعليقات ، والأقارير ، والشهادات.

ومنها التقسيم (2) ، نحو « الموجود إمّا واجب ، أو ممكن ».

ومنها الجمع ، كالواو ، نحو قوله تعالى : ( وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ ) (3).

ثمّ معرفتها في كلّ موضع بأنّها من أيّ قسم تظهر من المقام والقرائن.

قاعدة

« الباء » (4) موضوعة لمعان معروفة ، وقد وقع الخلاف في كونها للتبعيض ، وأنكره سيبويه في سبعة عشر موضعا من كتابه (5).

وقد ورد به النصّ الصحيح (6) عن الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى : ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) (7). وعليه بعض المحقّقين (8) من النحاة ، فلا اعتداد بكلام سيبويه. ويظهر منه جواز المسح ببعض الرأس كما هو مذهبنا.

ثمّ كيفيّة التفريع في الأحكام - بعد تشخيص معناها في كلّ مقام - ظاهرة عليك.

ضابطة

« في » تقع لمعان :

منها الظرفيّة ، إمّا حقيقيّة كزيد في الدار ، أو مجازيّة ، كقولنا : « في العلم حياة ».

ص: 88


1- كذا في النسختين ، ولكنّ الصحيح أن يكون « يبرّ » أي يطيع بالوفاء بالنذر.
2- كذا في النسختين والصحيح أنّ التقسيم لا يرد على الموجود ، بل الوارد عليه هو الترديد دون التقسيم ، إلاّ أن يراد بالموجود مفهوم الموجود لا مصداقه ، فهذا المثال قابل للتقسيم والترديد كليهما.
3- النور (24) : 61.
4- في « ب » : « ومنها الباء ».
5- راجع : مغني اللبيب 1 : 142 ، والمحصول 1 : 379 ، ونهاية الوصول إلى علم الأصول 1 : 326.
6- الكافي 3 : 30 ، باب مسح الرأس والقدمين ، ح 4.
7- المائدة (5) : 6.
8- شرح الرضيّ على الكافية 4 : 281.

ومنها السببيّة ، نحو قوله تعالى : ( فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ) (1).

ومنها المصاحبة ، نحو ( فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ) (2).

وأنكر فخر الدين الرازي كونها للسببيّة ؛ مستدلاّ بعدم النقل من أهل اللغة (3).

وردّ عليه بجواز نقل أهل اللغة وعدم الوصول إلينا (4).

وفيه ما فيه ، مع أنّ أصالة عدم الاشتراك تؤيّد قوله. وعلى هذا يجب حملها في قوله عليه السلام : « في خمسة أوسق زكاة ، وفي خمس من الإبل شاة ، وفي أربعين شاة شاة » (5) ، وأمثالها على الظرفيّة حقيقة أو مجازا. وحينئذ يجب الزكاة من عين النصاب وتكون داخلة فيه ، حتّى لو تلف بعض النصاب بعد الحول وقبل تمكّنه من أداء الزكاة يسقط من الزكاة بحسبه. وإن حملت على السببيّة ، لا يجب الزكاة من عين النصاب ، بل تكون خارجة عنه ، ولا يسقط شيء منها في الفرض المذكور.

ثمّ نظر من (6) حملها على السببيّة إلى أنّ الشاة - مثلا - ليست داخلة في حقيقة الإبل حتّى يتحقّق الظرفيّة ، فالمراد أنّه بسبب خمس من الإبل يجب شاة.

والجواب : أنّ الظرفيّة المجازيّة ممكنة ؛ نظرا إلى القيمة ؛ فيكون المراد في خمس من الإبل مقدار شاة.

وبهذا يظهر ضعف قول من استدلّ على مجيئها لغة للسببيّة (7) بقوله عليه السلام : « في النفس المؤمنة مائة من الإبل » (8) مع أنّه إن تعيّن حملها في مثال على السببيّة لأجل قرينة ، لا يلزم منه الوضع حتّى يكون حقيقة ، بل يكون من باب المجاز.

ثمّ إذا وقعت مطلقة في الكلام ، فالظاهر حملها على الظرفيّة ؛ لأنّها الغالب ، فإذا قال

ص: 89


1- يوسف (12) : 32.
2- القصص (28) : 79.
3- المحصول 1 : 377.
4- راجع معارج الاصول : 58.
5- الكافي 3 : 531 ، باب صدقة الإبل ، ح 1.
6- احتمله الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 430 ، القاعدة 154.
7- قاله الزركشي في البحر المحيط 2 : 41.
8- قد ورد هذا الحديث في كتابه صلى اللّه عليه وآله إلى أهل اليمن. انظر المنتفى من أخبار المصطفى صلى اللّه عليه وآله لابن تيميّة 2 :8. 693.

أحد : « لزيد في هذا العبد مائة درهم » فيحتمل أن تكون للظرفيّة الحقيقيّة ، بأن يكون عند العبد مائة من مال زيد. وأن تكون للظرفيّة المجازيّة ، بأن يكون زيد شريكا في قيمته بهذا القدر ، أو يكون ذلك من القائل بعنوان الوصيّة أو الهبة. وأن تكون للسببيّة ، بأن يكون العبد جانيا على زيد جناية توجب ذلك. وأن تكون للمصاحبة ، والمثال كما ذكر في الظرفيّة الحقيقيّة. وأن تكون بمعنى « من » على ما ذكر بعض من أنّ « في » قد تكون مرادفة « من » أيضا (1) ، والمثال كما ذكر في الظرفيّة المجازيّة. فحينئذ يلزم أن يكلّف البيان ، ومع عدم الإمكان ، فالظاهر الحمل على الظرفيّة المجازيّة ، فتأمّل.

ثمّ إنّ لفظة « في » للظرفيّة المطلقة. ولا يستفاد منها لزوم كون المظروف في أوّل الظرف ، أو وسطه ، أو آخره. فإذا باع شيئا مؤجّلا على أن يؤدّي الثمن في شهر كذا أو يوم كذا ، فيشمل جميع الشهر واليوم ، ولا يختصّ بجزء معيّن منهما. وحينئذ يتوجّه بطلان البيع ؛ للزوم تعيين الأجل بحيث لا يحتمل الزيادة والنقصان. وكذا الحكم في السلم ، والإجارة ، وغيرهما ممّا يلزم فيه تعيين الزمان. وإذا وكّل رجلا في اشتراء دار في بلدة ، لا يلزم على الوكيل أن يشتري دارا في وسط البلد ، أو موضع مخصوص منه ، بل يصحّ اشتراء كلّ دار فيها وإن كان من الدور الخارجة المتّصلة بها.

فصل [21]

اللام موضوعة لمعان. وأكثرها دورانا :

الاستحقاق ، نحو « الحمد لله » ، و « العظمة له ».

والملك ، نحو « المال لزيد ».

والاختصاص ، نحو « الجنّة للمؤمنين ».

والتعليل ، نحو ( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) (2) أي لأجل حبّ المال لبخيل.

والتمليك ، نحو « وهبت هذا المال لزيد ».

ص: 90


1- راجع تمهيد القواعد : 429 ، القاعدة 154.
2- العاديات (100) : 8.

ثمّ لا يخفى أنّ الفرق بين الاستحقاق والملك ظاهر ، وهما لا يستلزمان الاختصاص ، فيمكن تحقّقهما بدونه ، ولكنّ الاختصاص يستلزم الملك ، أو الاستحقاق ، أو كليهما.

والحقّ - كما صرّح به بعض المحقّقين (1) - أنّ اللام عند الإطلاق تفيد الاختصاص عرفا ، وإن لم تفد لغة.

وكيفيّة التفريع : إذا قال رجل : « هذا لزيد » يكون إقرارا بالملك ، فإن قال : أردت أنّه في إجارته أو عارية عنده ، لا يسمع. ولو قال بعنوان اليمين أو التعليق وأمثالهما : « لا أركب الدابّة التي للعبد » لا يتحقّق له الحنث ؛ لأنّ العبد لا يملك شيئا ، ويمكن أن يتحقّق بإرادة المجاز بأن يقصد بها ما عرف (2) به. ولو حلف أن لا يدخل الدار التي لزيد ، يجب أن يراد بها المملوكة.

وفي حكم اللام الإضافة ، كأن يقول : « دابّة العبد » أو « دار زيد ».

ويتفرّع على ما حقّقنا أنّ اللام في قوله عليه السلام في الصحيفة : « اللّهمّ إنّ هذا المقام لخلفائك » (3) إلى آخره تفيد الاختصاص عرفا ، فيدلّ على كون المقام مختصّا بخلفاء اللّه ، ولكن لا يدلّ على نفي وجوب صلاة الجمعة في زمان الغيبة ؛ لعدم لزوم حمل « المقام » على صلاة الجمعة والعيدين ، كما بيّنّا في الرسالة التي ألّفناها في هذه المسألة (4).

فصل [22]

« من » يستعمل لمعان :

منها ابتداء (5) الغاية.

ومنها التبيين.

ومنها التعليل ، كقوله : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » (6).

ص: 91


1- راجع الإحكام في أصول الأحكام 1 : 95.
2- « عرف يعرف عرفا : الفرس : قصّ عرفه أي شعر عنقه ». معجم اللغة العربيّة 6 : 2. « ع ر ف ».
3- الصحيفة السجّاديّة : 474 ، دعاؤه يوم الأضحى ويوم الجمعة ، الدعاء 49.
4- ليست هذه الرسالة في متناول أيدينا.
5- في « ب » : « الابتداء للغاية ».
6- الكافي 5 : 437 ، باب الرضاع ، ح 2 ، ووسائل الشيعة 20 : 371 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، الباب 1 ، ح 1.

ومنها التبعيض.

ويظهر المطلوب منها في كلّ مقام بمعونة القرائن ، فلو قال : « بع من أموالي ما شئت » ، و « أعط منها ما شئت » وأمثالهما ، يجب حملها على التبعيض ، ولا يمكن للوكيل (1) بيع الجميع. ولو قال : « خذ مالي من فلان » ، يجب حملها على الابتداء ، فيكون مبدؤها الفلان ، ولا يتعدّى إلى غيره ، فلو مات ليس له الأخذ من ورثته.

ثمّ إنّ لفظة « من » تزاد في النفي ، والنهي ، والاستفهام وفاقا ، بشرط كون مدخولها نكرة ، نحو ( ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) (2).

وأمّا في الإثبات ، فذهب سيبويه (3) وأكثر البصريّين (4) إلى عدم الجواز. وذهب الأخفش (5) إلى الجواز مطلقا ؛ لقوله تعالى : ( يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) (6) ، وبعض (7) إلى الجواز بالشرط المذكور ، نحو ( يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ ) (8) ، وحملها في الآيتين على التبعيض ممكن ، فالظاهر الأوّل.

ومن فروعه : أنّه إذا قال وليّ الزوجة أو وكيلها : « زوّجت من زينب » أو « من موكّلتي » يكون العقد باطلا ، بناء على الأوّل والثالث ؛ لكونه لحنا ، وعلى الثاني يكون صحيحا. وكذا الحكم إذا قال البائع أو الموجر مخاطبا للمشتري أو المستأجر : « بعت منك » أو « آجرت منك ».

فصل [23]
اشارة

« إلى » موضوعة لانتهاء الغاية. واختلف في دخولها في ذي الغاية. فقيل به مطلقا. وقيل بالعدم كذلك.

ص: 92


1- في « ب » : « الوكيل ».
2- الأعراف (7) : 59.
3- (3 و 4) راجع : مغني اللبيب 1 :3. 426 ، والمحصول 1 : 377 ، ونهاية الوصول إلى علم الأصول 1 : 325.
4- (3 و 4) راجع : مغني اللبيب 1 :4. 426 ، والمحصول 1 : 377 ، ونهاية الوصول إلى علم الأصول 1 : 325.
5- راجع تمهيد القواعد : 424 ، القاعدة 152.
6- الأحقاف (46) : 31.
7- المقتضب للمبرّد 4 : 137.
8- الكهف (18) : 31.

وقيل بالدخول إن كان الغاية من جنس ذي الغاية ، نحو « أكلت السمكة إلى رأسها » ، وبعدمه إن لم تكن من جنسه (1) ، كقوله تعالى : ( أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (2) ؛ فإنّ الليل ليس من جنس النهار الذي يقع فيه الصوم.

وقيل بالدخول إن لم يتميّز الغاية حسّا ، كالمرفق في آية الغسل (3) ، وبعدمه إن تميّزت حسّا ، كالليل في آية الصوم (4).

وقيل في المسألة وجوه أخر (5).

والحقّ عدم الدخول مطلقا ، كما ذهب إليه أكثر المحقّقين ؛ لأنّ غاية الشيء آخره ، وما ينتهي الشيء عنده ، فلا يدخل فيه أصلا ؛ ولدلالة العرف على ذلك. ودخول بعض الغايات في ذويها لأجل القرائن الخارجيّة ، مثلا دخول المرفق في آية الغسل من باب المقدّمة لا لكونه غاية.

وكيفيّة التفريع : أنّه إذا باع شيئا إلى شهر كذا ، أو يوم كذا ، يحلّ الأجل بأوّل جزء منهما.

وهكذا في باقي العقود المؤجّلة إلى وقت كذا.

ثمّ كما أنّ حدّ الانتهاء لا يلزم أن يكون داخلا في المحدود - أعني ذا الغاية - فكذلك حدّ الابتداء ، فكما أنّ ما بعد « إلى » لا يدخل في المحدود ، فكذلك ما بعد « من » ، فإذا قال : « بعتك من السرداب إلى الحجرة » لا يدخل السرداب والحجرة في المبيع ، وإذا قال : « آجرتك من شهر رمضان إلى شهر كذا » يكون مبدأ الإجارة آخر رمضان.

نعم ، إذا دلّت القرينة على أنّ حدّ الابتداء داخل في المحدود ، يعمل بها ، كما إذا قال : « آجرتك من رمضان إلى شوّال » فإنّه إن لم يكن مراده أوّل رمضان ، لكان لغوا.

ص: 93


1- راجع : شرح الرضيّ على الكافية 4 : 271 ، ومغني اللبيب 1 : 74 ، والتمهيد للإسنوي : 221.
2- البقرة (2) : 187.
3- إشارة إلى قوله تعالى : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) ، المائدة (5) : 6.
4- راجع : شرح الرضيّ على الكافية 4 : 4. ومغني اللبيب 1 : 74 ، والتمهيد للإسنوي : 221.
5- راجع : شرح الرضيّ على الكافية 4 : 5. ومغني اللبيب 1 : 74 ، والتمهيد للإسنوي : 221.
تنبيه

الضمير إذا صلح لأن يعود إلى مضاف ومضاف إليه ، فالظاهر إرجاعه إلى المضاف ؛ لأنّه المخبر عنه ، والمضاف إليه إنّما ذكر لأجل تعريفه ، أو تخصيصه ، فإذا قال أحد : « لزيد عليّ ألف درهم ونصفه » ، يلزم عليه ألف وخمسمائة. وقس عليه نظائره.

واعلم أنّ المجاز لا يقع في نفس الحروف مطلقا ، بل في متعلّقات معانيها ، فيقع المجاز فيها أوّلا ثمّ يسري فيها تبعا ، وهو الذي يسمّى في البيان بالاستعارة التبعيّة ، مثلا يقول (1) : « في » للظرفيّة ، و « على » للاستعلاء ، فإذا شبّه أحدهما بالآخر ، ثمّ ذكر الحرف الموضوع للمشبّه به ، فهو الاستعارة التبعيّة ؛ لوقوع المجاز أوّلا في الاستعلاء أو الظرفيّة اللتين (2) من متعلّقات معنى الحرفين لا معناهما ، وإلاّ لكانتا (3) اسمين ، فلو حلف أو نذر أن لا يكون على الظلم مثلا ، يكون مبنى كلامه على المجاز ، ويكون صحيحا ، ويلزم عليه الكفّارة بارتكاب الظلم.

ص: 94


1- في « ب » : « تقول ».
2- تغليب التأنيث غير متعارف.
3- أي كلمتا « على » و « في ».

الباب الثالث : في المبادئ الأحكاميّة

فصل [1]

اعلم أنّ الشائع عند القوم تقسيم الحكم إلى الشرعي والوضعي ، وهو يشعر بعدم دخول الثاني تحت الأوّل ، كما صرّح به جماعة (1).

والحقّ أنّ أحكام الوضع كلّها داخلة في أحكام الشرع ؛ لأنّ كون الشيء سببا - ككون الوقت سببا لوجوب الصلاة - أو شرطا - ككون الطهارة شرطا لصحّة الصلاة - أو مانعا - ككون النجاسة مانعة من صحّتها - إنّما هو بجعل الشارع ووضعه.

ولا نعني بالحكم الشرعي إلاّ ما استفيد منه ، فيجب أن يعرّف الحكم الشرعي بحدّ يدخل فيه الحكم الوضعي ، وقد عرّف بتعريفات كثيرة أكثرها لا يخلو عن شيء ، وأصحّها ما ذكره بعض المحقّقين وهو أنّه خطاب اللّه المتعلّق بأفعال المكلّفين من حيث الاقتضاء ، أو التخيير ، أو الوضع (2).

ويمكن تصحيح الحدّ بدون القيد الأخير ؛ نظرا إلى دخول الحكم الوضعي في الاقتضاء ؛ لأنّه لا معنى لكون الزنى مثلا سببا للجلد إلاّ وجوبه عنده ، ولا معنى لكون الطهارة شرطا للصلاة إلاّ جواز الدخول فيها عندها وحرمته دونها ، وكذا لا معنى لكون نجاسة المبيع مانعة من بيعه إلاّ حرمة الانتفاع عندها. وقس عليه أمثاله.

ص: 95


1- منهم : الفخر الرازي في المحصول 1 : 93 ، والأسنوي في التمهيد : 48 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 34 ، القاعدة 2.
2- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 32.

ثمّ على ما ذكرنا ينقسم الحكم الشرعي إلى الوضعي بأقسامها الآتية ، والخمسة المعروفة ، أعني :

الوجوب ، وهو الحكم الذي يقتضي الفعل اقتضاء مانعا من النقيض ، أو ما يستحقّ تاركه لا إلى بدل ذمّا أو عقابا.

وقولنا : « لا إلى بدل » لإدخال الكفائي وكلّ واحد من أفراد المخيّر ، فلا ينتقض الحدّ بالركعتين الأخيرتين من الصلوات (1) الرباعيّة في المواضع الأربعة (2) ، والزائد على الإصبع الواحدة في المسح ، وأمثالهما ؛ فإنّ المكلّف إن أتى بها (3) اتّصفت بالوجوب مع كون الفعل حينئذ متّصفا بالأفضليّة ، وإن تركها وأتى بالركعتين والإصبع الواحدة مثلا ، يكون الركعتان والإصبع الواحدة متّصفتين بالوجوب مع عدم الأفضليّة ، وتكونان بدلين عن الركعات الأربع والمسح بالثلاث ، فما ترك لم يترك من غير (4) بدل ، بل أتى به.

وقد عرّف الوجوب بتعريفات أخر لا تخلو عن بعض النقوض ، أو المناقشات.

والصحيح ما ذكرناه ، وما في معناه.

والفرض مرادف للوجوب عندنا ، خلافا للحنفيّة ؛ حيث ذهبوا إلى أنّ الفرض ما ثبت بالقطعيّات ، كالآيات القطعيّة ، والسنّة المتواترة. والوجوب ما ثبت بالظنّيات ، كأخبار الآحاد وأمثالها (5).

ويظهر الفائدة عندهم لو نذر أحد أن يؤدّي فريضة ، أو واجبا. وأمّا عندنا فلا يظهر فائدة ، ويرادفهما الحتم ، واللزوم.

والحرمة ، وهو ما يقتضي الترك اقتضاء مانعا من النقيض ، أو ما يستحقّ فاعله ذمّا أو عقابا ، ويرادفها الحظر ، والزجر ، والعصيان ، والقبح.

والندب ، وهو ما يقتضي الفعل اقتضاء غير مانع من النقيض ، أو ما يستحقّ فاعله مدحا

ص: 96


1- في « ب » : « الصلاة ».
2- وهي : المسجد الحرام ، ومسجد الكوفة ، ومسجد النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، والحائر الحسيني عليه السلام.
3- أي الرباعيّة والمسح بالزائد عن الإصبع الواحدة.
4- في « ب » : « بغير ».
5- راجع : المحصول 1 : 97 ، والإحكام في أصول الأحكام 1 : 140 ، والتمهيد للإسنوي : 58 ، 59.

أو ثوابا ، ولا يستحقّ تاركه ذمّا أو عقابا ، ويرادفه التطوّع ، والاستحباب ، والنفل ، والسنّة.

والكراهة ، وتعريفها ظاهر بعد العلم بأنّه (1) مقابل الندب.

والإباحة ، وهو الحكم الذي لا يقتضي شيئا من الفعل والترك ، بل هما متساويان ، أو لا يستحقّ فاعله وتاركه شيئا من المدح أو الثواب (2) ، والذمّ أو العقاب ، ويرادفها الجائز ، والحلال.

اعلم أنّه ظهر من التقسيم انحصار أقسام الحكم (3) في الفعل دون الترك ، وقد صرّح به القوم (4) أيضا.

واستدلّوا عليه : بأنّ الترك أمر عدمي ، والتكليف لا يتعلّق بالمعدوم ؛ لأنّ المكلّف به لا بدّ أن يكون شيئا يمكن إحداثه وتركه ، والمعدوم لا يقدر على إيجاده ؛ لاستلزامه تحصيل الحاصل (5).

واورد عليه بأنّ الفقهاء كثيرا ما يستعملون أقسام الحكم في الترك ، فيقولون : يستحبّ في الصلاة ترك السود وترك الثوب الرقيق ، ويكره ترك الرداء للإمام (6).

واجيب : بأنّ المراد من الترك في كلامهم إيجاد الضدّ ، أو توطين النفس عليه ، أو جعله مستمرّا. فالمراد من استحباب ترك السود استحباب فعل يشتمل على ترك السود ، أعني لبس البيض مثلا ، أو توطين النفس على الترك المذكور والعزم عليه بعد ما كان فارغ القلب عنه ، أو الاستمرار على الترك المذكور والبقاء عليه. وحينئذ يكون متعلّق الحكم الفعل دون الترك (7).

أقول : الحقّ أنّه لا فرق في ورود الإيراد المذكور وجوابه بين أن يكون متعلّق الحكم الفعل أو تركه ؛ لأنّه إن اخذ متعلّق الحكم الترك ، فلا بدّ في فعل الترك - أعني إيجاد نفس الترك - إلى الجواب بأحد الوجوه المذكورة ، وفي تركه لا يحتاج إليه ؛ لأنّ ترك الترك هو الفعل.

ص: 97


1- كذا في النسختين. والأولى : « بأنّها ».
2- في « ب » : « أو الذمّ ».
3- والمراد أقسام متعلّقات الحكم.
4- فإنّهم عرّفوا الحكم الشرعي بأنّه خطاب اللّه تعالى ، المتعلّق بأفعال المكلّفين. راجع التمهيد : 4. وغيره.
5- حكاه الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 35 ، القاعدة 2.
6- المصدر.
7- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : 43.

وإن أخذ متعلّق الحكم الفعل ، فلا بدّ في تركه إلى الجواب بأحد الوجوه ؛ لأنّه أمر عدمي غير مقدور عليه ، وفي إيجاده لا يحتاج إليه ، غاية ما في الباب أنّ إضافة الفعل والإيجاد وأمثالهما إلى الترك ، وإطلاق ترك الترك على الفعل تجوّز ، وأمّا في ورود الإيراد المذكور. فلا فرق في الواقع بين أن يكون متعلّق الحكم الفعل أو الترك.

ثمّ إن اعتبر كون [ متعلّق ](1) الحكم فعلا - على ما فعله القوم - لا يكون نقيض كلّ واجب حراما وبالعكس ، ولا يكون نقيض كلّ مستحبّ مكروها وبالعكس ؛ لأنّ كلّ واحد منها أمر وجوديّ ونقيضه عدميّ ، فلا يدخل في الأحكام ، وإن لم يعتبر ذلك ، بل عمّم [ متعلّق ](2) الحكم بحيث يشمل الفعل والترك ، يلزم أن يكون نقيض كلّ واجب حراما وبالعكس ، ونقيض كلّ مستحبّ مكروها وبالعكس ، كما يظهر من تعريفاتها بعد عدم اعتبار (3) كونها امورا وجوديّة.

وكلام القوم في هذا المقام غير منقّح ؛ فإنّهم ذكروا أنّ كلّ فعل كان مستحبّا لا يكون تركه مكروها ، بل قد يكون وقد لا يكون. مثلا قالوا : الرداء مستحبّ لغير الإمام من المصلّين وتركه ليس مكروها له ، ويستحبّ للإمام وتركه مكروه له ، مع أنّه إن اعتبر كون [ متعلّق ] الحكم فعلا وجوديا يجب أن لا يكون ترك حكم حكما (4) مطلقا ، وإن لم يعتبر ذلك ، بل كان شاملا للترك أيضا - وإن كان بأحد التوجيهات المذكورة - يلزم أن يكون ترك كلّ واجب حراما وبالعكس ، وترك كلّ مستحبّ مكروها وبالعكس ، كما يظهر من حدودها بعد حذف قيد الفعليّة.

هذا ، مع أنّه قيل : المكروه مشترك بين ثلاثة معان : الحرام ، والمنهيّ بنهي تنزيه - وهو ما كان تركه خيرا من فعله وإن لم يكن فيه عقاب - وترك الأولى كترك النافلة. وهذا الترك لا يسمّى مكروها لكونه منهيّا عنه ، بل لكثرة الثواب في فعله (5).

ص: 98


1- أضيفت بمقتضى الضرورة.
2- أضيفت بمقتضى الضرورة.
3- لم يرد في « ب » : « اعتبار ».
4- أي ترك متعلّق حكم متعلّقا لحكم مطلقا.
5- قاله الفخر الرازي في المحصول 1 : 104.

ويظهر من كلام بعض أنّ ترك كلّ مكروه مستحبّ ، كما قال في تمهيد الاصول (1) عند ذكر جواز كون الترك (2) حكما : إنّ الفقهاء يقولون : يستحبّ ترك كذا وكذا ، إذا كان فعله مكروها (3).

وهذا الكلام كما ترى يشعر بأنّ ترك كلّ مكروه مستحبّ ، فتأمّل.

وتلخيص إيرادنا على القوم : أنّهم ذكروا أنّ ترك المستحبّ قد يكون مكروها ، وقد لا يكون ، وبالعكس. وكذا في الواجب والحرام ، مع أنّه إن بني معرفة الأحكام على حدودها يلزم كلّية الحكم إمّا إيجابا ؛ بناء على عدم الاعتبار المذكور ، أو سلبا ؛ بناء على وجوده. وإن لم يبن معرفتها عليها ، بل على الأدلّة والقرائن الخارجيّتين ، يلزم كون الحدود مختلّة.

وإن كان بناء القوم على كلّيّة الحكم في البعض دون البعض ، مثل أن يقولوا : يكون ترك كلّ واجب حراما ، وبالعكس ، ولا يقولوا بكون ترك كلّ مستحبّ مكروها ، وبالعكس ، يكون الأمر أشنع ، والاختلال في كلامهم (4) أظهر ، كما لا يخفى.

فصل [2]
اشارة

اعلم أنّه لمّا كان البحث في المبادئ الأحكاميّة عن نفس الحكم ، والحاكم ، والمحكوم فيه ، والمحكوم عليه. ومعرفة الحاكم كانت موقوفة على تحقيق الحسن والقبح حتّى يظهر أنّهما بأيّ معنى شرعيّان حتّى يكون الحاكم فيهما هو الشارع ، وبأيّ معنى عقليّان حتّى يكون الحاكم فيهما هو العقل. وهل التلازم بين الشرعيّين والعقليّين ، حتّى كان الحاكم الشرع والعقل معا؟ جرت عادة القوم هنا بالبحث عن الحسن والقبح ، وكونهما عقليّين أو شرعيّين.

وتنقيح هذا البحث موقوف على بيان امور :

[ الأمر ] الأوّل : الحسن والقبح يطلقان على أربعة معان :

الأوّل : استحقاق المدح والذمّ.

ص: 99


1- الظاهر مراده منه هو تمهيد القواعد للشهيد الثاني.
2- فيه مسامحة واضحة.
3- نسبه الشهيد الثاني إلى أكثر الفقهاء في تمهيد القواعد : 35 ، القاعدة 2.
4- في « ب » : « كلامه ».

الثاني : صفة الكمال والنقص.

الثالث : ملاءمة الطبع ومنافرته.

الرابع : ما لا حرج في فعله ، وما حرج فيه.

ولا خلاف في كون المعاني الثلاثة الأخيرة عقليّة ، وإنّما وقع الخلاف في المعنى الأوّل.

فذهب الأشاعرة إلى أنّهما بهذا المعنى شرعيّان ، ولا سبيل للعقل إلى إدراكهما ، بل موقوفان على أمر الشارع ونهيه ، ولو أمر بالقبيح ينقلب حسنا ، ولو نهى عن الحسن ينقلب قبيحا (1).

وذهب المعتزلة إلى أنّهما بهذا المعنى عقليّان ، إلاّ أنّ العقل يدرك حسن بعض الأشياء وقبحها بهذا المعنى بالضرورة ، وفي بعضها يدركه بالنظر ، وفي بعضها لا يدركه ؛ لقصوره وإن كان عقليّا ، وهذا كالعبادات وكيفيّاتها وكمّيّاتها (2).

وهذا مذهب أصحابنا ، وهو الحقّ لوجوه :

منها : أنّ استحقاق المدح على بعض الأفعال - كالإحسان وإغاثة المظلومين - والذمّ على بعضها - كالظلم وإعانة الظالمين - بديهي ، وإنكاره سفسطة ، ولذا قال بهما وبأمثالهما منكر والشرائع والنبوّات.

والظاهر أنّ إنكار الأشاعرة في مقام الجدال وهم في حين الغفلة يعترفون به ، سيّما في مقام الموعظة والنصيحة ، كما يظهر من كتاب إحياء العلوم وغيره من كتبهم (3).

وأيضا إنّهم يقولون بالقياس والاستحسان ولا يتمّان بدون القول به.

ومنها : لو لم يكن الحسن والقبح عقليّين ، لم يقبح من اللّه شيء. ويلزم منه ثلاثة محالات :

عدم قبح كذبه تعالى ، فيرتفع الوثوق بوعده ووعيده ، ولا يمكن إثبات صدقه تعالى بالسمع ؛ لأنّ ثبوته موقوف على صدقه تعالى.

وجواز أن يظهر اللّه المعجزة على يد الكاذب ، فلا يعرف النبيّ من المتنبّئ.

وجواز نسبة التثليث ، والكفو ، والولد ، وأمثالها إليه تعالى.

ص: 100


1- راجع المحصول 1 : 123 و 124.
2- راجع المحصول 1 : 123 و 124.
3- راجع : إحياء العلوم 1 : 78 - 82 ، والبحر المحيط 1 : 111 و 112.

والقول بجريان عادة اللّه (1) بعدم إظهار المعجزة على يد الكاذب ، واه بعد ما ذهبوا إليه.

ومنها : أنّه يلزم حينئذ إفحام النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم بعد رؤية معجزته بتجويز تمكين الكاذب ، أو قبل رؤيتها إذا طلب من المكلّفين الرؤية ولم يريدوها ؛ ووجه اللزوم ظاهر.

[ الأمر ] الثاني : استدلّ الأشاعرة على مذهبهم بأنّ أفعال العباد اضطراريّة ، وحينئذ ينتفي الحسن والقبح العقليّان (2).

والجواب : منع كونها اضطراريّة ، كما ثبت في محلّه.

وبقوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (3) ؛ حيث دلّ على أنّ التعذيب لا يكون قبل البعثة مع لزومه قبلها على القول بالحسن والقبح العقليّين.

والجواب : أنّ نفي فعليّة العذاب لا ينافي الاستحقاق ؛ لجواز العفو بدون البعثة. أو المراد نفي التعذيب بالأوامر الشرعيّة بدون البعث دون ما يقتضيه العقل. أو المراد التعذيب الدنيوي. أو المراد من الرسول العقل كما قيل (4). وبعض هذه الوجوه وإن كان مخالفا للظاهر إلاّ أنّه يمكن إجراؤه في النقل الذي كان في الظاهر مخالفا للقطعيّات العقليّة.

ويمكن أن يقال : التعذيب على الوجوب والحرمة الشرعيّين دون العقليّين ، فالحسن والقبح العقليّان يوجبان المدح والذمّ ، لا الثواب والعقاب ، وهما من مقتضيات الحسن والقبح الشرعيّين ، إلاّ أنّ في هذا كلاما ستعرف (5) إن شاء اللّه.

هذا ، مع أنّ الشيعة يقولون : لا يخلو زمان عن حجّة ، فكلّ عصر يكون مسبوقا بالحجّة ، فالتعذيب بسبب إدراك العقول يكون بعد البعثة البتّة ، ويتأتّى هذا القول على مذهب غير الشيعة أيضا ؛ لأنّ آدم عليه السلام رسول وهو سابق الأعصار كلّها (6).

ص: 101


1- كما هو شعار المجبّرة.
2- راجع المحصول 1 : 124 و 125.
3- الإسراء (17) : 15.
4- نسبه السيّد ضياء الدين الأعرج إلى العلاّمة في منية اللبيب : 19.
5- في ص 102 ، الأمر الرابع.
6- قاله الفاضل التوني في الوافية : 171 و 172.

واستدلّوا أيضا بأنّ الحسن والقبح العقليّين ينفيان اختيار اللّه تعالى (1).

وجوابه بديهي.

[ الأمر ] الثالث : اختلف القائلون بالحسن والقبح العقليّين بأنّ الحسن والقبح هل هما ذاتيّان للفعل - أي من مقتضيات ذات الفعل من حيث هي هي - أو يقتضيهما الأوصاف اللازمة للفعل ، أو الوجوه والاعتبارات الإضافيّة العارضة له ، أو المقتضي لهما القدر المشترك بينها وأعمّ من كلّ منها أي يختلف الأفعال في مقتضي حسنها وقبحها ، ففي بعضها الذات ، وفي بعضها الأوصاف اللازمة ، وفي بعضها الاعتبارات الإضافيّة (2)؟

ويدلّ على بطلان القولين الأوّلين : جواز النسخ. وصيرورة القبيح حسنا بالاعتبارات ، كالكذب إذا كان فيه مصلحة ، وقد يجب إذا كان فيه إنقاذ نبيّ من القتل ، وكذا العكس. ولزوم اجتماع النقيضين على القول بهما إذا قال : « لأكذبنّ غدا » ؛ لأنّه لو صدق أحد كلاميه - اليوميّ ، أو الغديّ - كان حسنا ؛ لصدقه ، وقبيحا ؛ لكذبه.

والمذهب الثالث أيضا باطل ؛ لأنّا نعلم جزما أنّ بعض الأفعال حسن لذاته ، كمعرفة اللّه ، ولا يصير قبيحا بوجه من الوجوه. وبعضها قبيح لذاته ، كالشرك والجهل وقتل الأنبياء ، ولا يصير حسنا مطلقا.

فالحقّ : المذهب الأخير.

[ الأمر ] الرابع : قد أشرنا (3) إلى أنّ الحسن والقبح العقليّين غير الحسن والقبح الشرعيّين ، فإنّ الواجب العقلي ما يستحقّ فاعله المدح وتاركه الذمّ ، والحرام العقلي ما يستحقّ فاعله الذمّ. وقس عليهما المستحبّ والمكروه العقليّين.

والواجب الشرعي ما يستحقّ تاركه العقاب وفاعله الثواب ، والحرام الشرعي ما يستحقّ فاعله العذاب.

ص: 102


1- راجع : العدّة في أصول الفقه 1 : 25 و 26 ، والبحر المحيط 1 : 111 - 114.
2- المصدر.
3- في ص 101 ، « ويمكن أن يقال ... ».

والمطلوب هنا بيان أنّ الوجوب والحرمة (1) العقليّين هل يستلزمان الشرعيّين ، أم لا؟

وجه الاستلزام : أنّ الحرام العقلي لا بدّ أن يكون مذموما عند كلّ عاقل وحكيم ، والواجب العقلي لا بدّ أن يكون ممدوحا كذلك ، فالحرام العقلي لا بدّ أن يكون مكروها ممقوتا عند اللّه ، وهذا معنى استحقاق عذابه (2). وقس عليه الواجب العقلي.

وأيضا القطع بعدم العقاب على المحرّمات العقليّة مستلزم لإغراء المكلّفين على القبائح ، وهو قبيح من اللّه تعالى.

ووجه عدم الاستلزام : قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ ) (3) إلى آخره ، والأخبار الدالّة على أنّ التكليف لا يكون إلاّ بعد البعث (4) ، وما ورد من قولهم عليهم السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » (5).

وقد عرفت الجواب عن الآية (6). ومنه يظهر الجواب عن الأخبار. فالحقّ الاستلزام.

ولو لا ذلك لم يكن للعقل مدخليّة في إدراك أحكام اللّه تعالى مطلقا ، مع أنّه يمتنع الإدراك بدونه ، كما لا يخفى.

نعم ، قد يغلط بعض العقول ، والمناط العقل الصحيح ، فجميع الأحكام الشرعيّة موافقة لمقتضيات العقول الصحيحة ، إلاّ أنّ عقول أمثالنا قاصرة عن إدراك جميعها ، وأحدهما مستلزم للآخر وإن خفي في البعض على بعض العقول.

تقسيم

كلّ واحد من الواجب والمستحبّ قد يوصف بكونه أداء ، أو إعادة ، أو قضاء ، أو تقديما.

فالأداء ما فعل في وقته المقدّر له شرعا أوّلا ، ولم يسبق بآخر مشتمل على نوع من الخلل.

ص: 103


1- في « ب » : « الواجب والحرام ».
2- في « ب » : « عقابه ».
3- الإسراء (17) : 15.
4- منها : ما في الكافي 1 : 162 ، باب البيان والتعريف ولزوم الحجّة ، ح 1 ، و 164 ، باب حجج اللّه على خلقه ، ح 2 ، والتوحيد : 414 ، باب التعريف والبيان والحجّة ، ح 11.
5- الفقيه 1 : 317 ، ح 937.
6- تقدّم في ص 101.

والإعادة ما فعل ثانيا لخلل في الأوّل. وقيل (1) : لعذر.

وفائدة هذا الخلاف أنّ من صلّى منفردا ثمّ صلّى ثانية جماعة ، يصدق على صلاته الثانية أنّها إعادة على الثاني ؛ لأنّ طلب الفضيلة عذر ، ولا يصدق عليها الإعادة على الأوّل ؛ إذ لم يكن في صلاته الاولى خلل.

والقضاء ما فعل بعد الوقت المذكور بأمر جديد ؛ استدراكا لما وجب سابقا على المستدرك أو مطلقا ، فعبادة النائم والحائض بعد التيقّظ والطهارة قضاء على الثاني ؛ لسبق الوجوب في الجملة ، وليست بقضاء على الأوّل ؛ لعدم وجوب شيء عليهما في حال النوم والحيض.

والحقّ الشقّ الثاني ؛ لأنّ بعض أفراد القضاء سبق له وجوب على المستدرك ، وبعضها لم يسبق له وجوب عليه ، والمناط ورود الأمر الجديد.

والتقديم ما فعل قبله بإذن.

وفائدة قولنا : « شرعا » في تعريف الأداء ظاهرة. وفائدة قولنا : « أوّلا » إخراج ما فعل في وقته الثاني ، كقضاء رمضان ؛ فإنّ الوقت مقدّر له - أعني ما قبل رمضان الذي بعده - إلاّ أنّه وقت ثان ، فلا يكون أداء بل قضاء ، وقيد الأخير لإخراج الإعادة ، وهذا بناء (2) على أن يكون قولنا : « أوّلا » متعلّقا بالمقدّر ، وإن كان متعلّقا بقولنا : « فعل » لا يحتاج التعريف إلى القيد الأخير ؛ لخروج الإعادة حينئذ من (3) قولنا : « أوّلا ».

ثمّ بناء هذه التعريفات على أنّ الأداء يجب أن يفعل في الوقت ابتداء ، والإعادة يجب أن يفعل في الوقت ثانيا باعتبار وقوع الخلل في الأوّل ، فيتحقّق المباينة الكلّيّة بين المفهومات الأربعة ؛ لعدم التصادق بينها.

وبعضهم اكتفى في الأداء بوقوعه في الوقت مطلقا (4) ، أي سواء فعل ابتداء أو ثانيا لخلل في الأوّل. وعلى هذا يكون الإعادة قسما من الأداء ، ويتحقّق بينهما عموم وخصوص مطلقا.

ص: 104


1- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : 34.
2- مرفوع لأنّه خبر.
3- أي من جهة قولنا.
4- قاله الفخر الرازي في المحصول 1 : 116.

وبعضهم (1) لم يعتبر في الإعادة وقوعها في الوقت ، بل قال : هي ما يفعل ثانيا لخلل في الأوّل ، سواء وقع في الوقت أو خارجه. وعلى هذا يكون بينها وبين كلّ من الأداء والقضاء عموم وخصوص من وجه.

والحقّ أنّ بين المفهومات الأربعة مباينة كلّيّة ، وكلّ واحد منها قسيم للبواقي ، كما ذهب إليه الأكثرون (2).

وما قال بعضهم : إنّ الإعادة قسم من الأداء في مصطلح القوم (3) ، خطأ.

ويتفرّع على هذا التقسيم فروع :

منها : أنّه إذا أحرم رجل بالحجّ في عام ، ثمّ أفسده وحجّ في عام آخر ، يكون حجّه قضاء ويجب عليه أن ينوي القضاء ؛ لأنّه بمجرّد إحرامه في العام الأوّل وجب عليه الحجّ مضيّقا في هذا العام ، فيكون وقته المقدّر له ، فبعده ليس وقته.

واحتمل بعضهم كون حجّه في العام الآخر أداء (4) ؛ لأنّ المضايقة المذكورة ليست توقيتا حقيقيّا.

والحقّ الأوّل ، كما ذهب إليه أصحابنا (5).

ومنها : إذا أحرم بالصلاة في الوقت ثمّ أفسدها وأحرم بها ثانيا في الوقت وأتمّها ؛ فإنّها - على ما ذكر - تكون قضاء ؛ لأنّه إذا أحرم بها ابتداء يتضيّق وقتها ، ولذا لا يجوز قطعها.

والحقّ أنّ الإتيان بها ثانيا ليس قضاء ، كما ذكره بعض المحقّقين (6). وقس عليهما نظائرهما.

فصل [3]
اشارة

الحكم الوضعي ينقسم إلى خمسة أقسام : السبب ، والشرط ، والمانع ، والصحّة ، والبطلان.

ص: 105


1- قاله العلاّمة في مبادئ الوصول إلى علم الأصول : 86.
2- في « ب » : « أكثرون ».
3- نسبه المطيعي إلى العضدي واختاره أيضا في سلّم الوصول ، المطبوع مع نهاية السؤل 1 : 109.
4- قاله الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 43 ، القاعدة 6.
5- راجع المصدر.
6- نقله الأسنوي عن أبي إسحاق الشيرازي في التمهيد : 64 ، وذهب إليه الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 44 ، القاعدة 6.

والعلّة والعلامة مردودتان إلى الأوّل ، والإجزاء وعدمه إلى الأخيرين.

والسبب لغة : ما يتوصّل به إلى أمر ما (1). وعرفا قد عرّف بتعريفات أشهرها : ما يلزم من وجوده الوجود ، ومن عدمه العدم ، لذاته (2). فبالتلازم في الوجود يخرج الشرط ، وبالتلازم في العدم يخرج المانع ، واحترز بالقيد الأخير عن مقارنة السبب لعدم الشرط ، أو وجود المانع ؛ فإنّه لا يلزم حينئذ من وجوده الوجود ، لكن من حيث الذات مستلزم لذلك ، وعن قيام سبب آخر مقامه ؛ فإنّه لا يلزم حينئذ من عدمه العدم ، إلاّ أنّه من حيث الذات أيضا مستلزم لذلك.

وتعريف السبب بأنّه كلّ وصف ظاهر منضبط يكون معرّفا لإثبات حكم شرعي ، أو مناطا لوجوده (3) ، يخصّ السبب الشرعي دون العقلي والعادي.

هذا ، والسببيّة إمّا وقتيّة ، كزوال الشمس لوجوب الصلاة ؛ فإنّ لله عند الزوال حكمين : وجوب الصلاة ، وسببيّة الوقت له.

أو معنوية ، كالزنى لوجوب الجلد ، والإسكار للتحريم ، وجميع أسباب العقوبات والضمان والملك.

ثمّ الحقّ : - على ما هو المشهور - أنّ عدم (4) الشرط إذا قارن السبب لا يمنع السببيّة ، بل يمنع تنجيز حكمه ؛ فإنّ المظاهر إذا علّق الظهار على دخول بلد مثلا ، فلا شكّ في أنّه يصدق على الظهار عند عدم الدخول أنّه سبب للحرمة إلاّ أنّه لم يؤثّر بعد ؛ لعدم تحقّق الشرط.

والشيخ على أنّ المقارنة المذكورة تمنع السبب عن السببيّة (5).

وهو تكلّف ؛ فإنّ تحقّق التأثير ليس معتبرا في مفهوم السبب ، بل هو معتبر في مفهوم الموجب. وبهذا يفرّق بينهما.

ص: 106


1- المصباح المنير : 262 ، « س ب ب ».
2- قاله الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 38 ، القاعدة 3.
3- راجع القواعد والفوائد 1 : 39 ، القاعدة 9.
4- كذا في النسختين. ولكنّ الصحيح أن يقال : « الشرط إذا دخل على السبب » كما في قواعد الأحكام 1 : 184.
5- المبسوط 5 : 154. واستظهره عنه الشهيد في القواعد والفوائد 1 : 5. القاعدة 51.

وفائدة هذا الخلاف أنّ البيع بشرط الخيار يصير سببا لنقل الملك في الحال ، والخيار إنّما أثّر في تأثير (1) حكم السبب ، أعني اللزوم.

وعلى قول الشيخ يلزم أن لا يكون البيع بشرط الخيار سببا للنقل ؛ لأنّ البيع سبب له ، ولكن قارنه عدم الشرط ، فيخرج عن السببيّة.

وقس عليه ما يناسبه.

والشرط ما يلزم من عدمه العدم ، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم ، لذاته ، ولا يشتمل على شيء من المناسبة. فخرج بالأوّل المانع ، وبالثاني السبب ، وبالثالث يدخل الشرط إذا قارن وجوده وجود السبب ، أو المانع ؛ فإنّه يلزم حينئذ الوجود أو العدم لكن لا لذات الشرط ، بل لأجل السبب والمانع ، وبالرابع يخرج جزء العلّة.

والمانع ما يلزم من وجوده العدم ، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته. والقيد الأخير احتراز عن مقارنة عدمه لوجود السبب ، أو عدم الشرط.

وتعريفه ب- « أنّه كلّ وصف منضبط رافع لحكم شرعي » (2) ، يخصّ المانع الشرعي.

ثمّ المانع إمّا مانع للسبب ، كالابوّة بالنسبة إلى اشتراء الأب ، الذي هو سبب للتملّك ودوامه ، أو مانع للحكم ، كالابوّة أيضا بالنسبة إلى قصاص الأب إذا كان قاتلا لابنه.

وأمّا الصحّة والبطلان ، فإمّا أن يستعملا في المعاملات ، أو في العبادات.

ووقع الوفاق على أنّ الصحّة في المعاملات ترتّب الأثر الشرعي ، ( والبطلان ما قابله. وهذا القسم من الصحّة والبطلان ) (3) هو الذي عدّ من أحكام الوضع ؛ فإنّ ترتّب الملكيّة ، وجواز التصرّف على البيع ، واستيفاء المنافع على الإجارة إنّما هو بوضع الشارع وحكمه ، ففي البيع الصحيح مثلا حكمان من أحكام الوضع : أحدهما : سببيّة البيع للملك. وثانيهما : ترتّب الملك على ( البيع. وهما متغايران ؛ فإنّه يصدق على ) (4) البيع أنّه سبب للنقل والملك وإن لم يترتّبا عليه ، فيظهر منه أنّ الصحّة والبطلان خارجان عن حقيقة البيع.

ص: 107


1- كذا في النسختين ، ولعلّ الأصوب : « تأخير ».
2- القواعد والفوائد 1 : 66 و 67 ، القاعدة 36 و 37.
3- ما بين القوسين لم يرد في « ب » وفيه زيادة « و » قبل كلمة « هو ».
4- ما بين القوسين لم يرد في « ب ».

وأمّا الصحّة في العبادات ، فالمتكلّمون (1) على أنّها موافقة أمر الشارع ، والبطلان ما قابله. والفقهاء (2) على أنّها ما أسقط القضاء ، والبطلان ما قابله.

وفائدة الخلاف في الصلاة بظنّ الطهارة إذا ظهر خلافه ؛ فإنّها توصف بالصحّة على الأوّل دون الثاني.

والظاهر أنّ التعريف الأوّل أقرب إلى الصواب ؛ لأنّ المراد ممّا أسقط القضاء في التعريف الثاني إن كان أنّ له قضاء إلاّ أنّه أسقطه ، فينقض بصلاة العيد إذا كانت صحيحة ؛ فإنّه ليس لها قضاء أصلا ، وبالنذر المطلق والقضاء نفسه ؛ وإن كان المراد منه أنّه لا يوجب القضاء - سواء كان له قضاء وأسقطه ، أو لم يكن له في الواقع قضاء - فينتقض بصلاة العيد إذا كانت فاسدة ؛ فإنّه ليس لها قضاء (3) ، مع أنّه على التعريف يلزم أن يكون لها قضاء.

واورد على التعريف الأوّل بأنّ الختان - مثلا - يوصف بكونه موافقا للشريعة مع عدم اتّصافه بالصحّة (4).

وفيه منع عدم الاتّصاف.

والحقّ : أنّ الصحّة والبطلان في العبادات بالمعنيين ليسا من أحكام الوضع ؛ لأنّ كون الفعل موافقا لأمر الشارع ، أو غير موافق له ، أو تمام ما أمر به الشارع حتّى يكون مسقطا للقضاء ، أو غيره ممّا يدركه العقل ، ولا يحتاج إلى وضع الشارع ، فلا يكون من أحكام الوضع ، بل هو عقليّ محض.

نعم ، إن فسّر الصحّة في العبادات أيضا بترتّب الأثر الشرعي ، والبطلان بما قابله - كما احتمله بعض المحقّقين (5) - أمكن القول بكونهما من أحكام الوضع.

ثمّ الحقّ - كما ذهب إليه أصحابنا (6) وأكثر العامّة (7) - أنّ الفاسد يرادف الباطل ، وخالف

ص: 108


1- راجع : المحصول 1 : 1. والإحكام في أصول الأحكام 1 : 175.
2- راجع : المحصول 1 : 1. والإحكام في أصول الأحكام 1 : 175.
3- في هامش « أ » : « فيصدق عليه التعريف. خ ل » ولم يرد في « ب » أيضا.
4- نسبه السيّد ضياء الدين إلى العلاّمة في منية اللبيب : 15.
5- احتمله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 176.
6- قاله الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 39 ، القاعدة 4.
7- حكاه عنهم الشهيد الثاني في المصدر.

الحنفيّة وقالوا : الباطل هو غير المشروع من أصله ، كبيع الملاقيح. والفاسد هو غير المشروع في وصفه دون أصله ، كالربا ، ولذلك قالوا : لو أسقط الزيادة صحّ البيع ، ولا يحتاج إلى تجديد عقد (1).

فائدة

السبب قد يتقدّم المسبّب تقدّما ذاتيّا ، ويقارنه زمانا ، كالزنى والشرب وأمثالهما.

وقد يتأخّر عن المسبّب زمانا ، كيوم الجمعة بالنسبة إلى غسله في يوم الخميس ، والفجر بالنسبة إلى أذانه ليلا ، ويوم الفطر بالنسبة إلى فطرته في شهر رمضان على قول (2) ، والإحرام بالنسبة إلى غسله قبل الميقات إذا ظنّ فقد الماء.

قيل : وبعض الأسباب ما فيه شكّ في المقارنة ووقوع المسبّب عقيبه ، كصيغ العقود والإيقاعات (3) ؛ فإنّه يمكن أن يقال بمقارنة الحكم للجزء الأخير من الصيغة ، أو بوقوعه عقيبه بغير فصل (4).

ويظهر الفائدة في مواضع :

منها : لو زوّج الكافر ابنه الصغير امرأة بالغة ، ثمّ أسلم الأب والمرأة معا ، فعلى مقارنة الحكم للجزء الأخير فالنكاح يكون باقيا ؛ لتقارن إسلام الزوجين ، ومقارنة المسبّب - أعني إسلام الصغير - للجزء الأخير من السبب ، أعني إسلام أبيه. وعلى الوقوع عقيبه ينفسخ ؛ لتقارن إسلام الأب والزوجة ، ووقوع إسلام الصغير عقيب إسلام الأب ، فيتحقّق إسلام الزوجة قبل إسلام الصغير (5).

أقول : المراد بوقوع المسبّب عقيب السبب إن كان التأخّر الذاتيّ ، فيرجع إلى الأوّل ،

ص: 109


1- راجع : فواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 1 : 58 و 122 ، والمحصول 1 : 112 ، والإحكام في أصول الأحكام 1 : 140 و 176.
2- قاله الشهيد في القواعد والفوائد 1 : 41 ، القاعدة 13 وفيه : « قول مشهور ».
3- المصدر.
4- الأوّل مذهب أبي الحسن الأشعري والثاني مذهب جماعة. انظر الفروق للقرافي 3 : 218 و 224.
5- راجع القواعد والفوائد 1 : 43 ، القاعدة 13.

أعني المقارنة. وإن كان المراد منه التأخّر الزماني ، فغير مسلّم ؛ لترتّب الحكم على العقود ، والإيقاعات ، والالتزامات بدون فصل زماني ، فالحقّ أنّ هذا البعض (1) الذي ظنّ (2) من المشكوك فيه ، يرجع إلى القسم الأوّل الذي ذكرناه.

فصل [4]
اشارة

لا كلام في أنّ الأحكام الخمسة لا تتعلّق بأفعال غير المكلّفين. وأمّا غيرها من الأحكام الوضعيّة ، فقد يتعلّق بأفعال غير المكلّفين ، كضمان الصبيّ ما يتلفه وما يجنيه على الحيوانات. فعلى مغايرة الأحكام الوضعيّة للشرعيّة فلا إشكال ، وعلى ما اخترناه (3) من دخول الحكم الوضعي تحت الشرعي ، يجب ارتكاب أحد من الأمرين :

إمّا القول بتعلّق الحكم الشرعي بأفعال غير المكلّفين أيضا ، وإبدال « المكلّفين » في تعريفه ب- « العباد » وأمثاله.

وإمّا القول بأنّ الأحكام الوضعيّة المذكورة التي تعلّقت بأفعال غير المكلّفين خارجة عن القاعدة باعتبار الدليل الخارجي ، ولا يتعدّى إلى غيرها.

وهذا هو الحقّ ؛ لأنّه لا شكّ في أنّ جميع الأحكام - وإن كانت وضعيّة - من باب التكليف ، وشرطه الفهم وفاقا ، فلا يتعلّق بالصبيان والمجانين ، وأمثالهما من الغافل والساهي إلاّ ما أخرجه الدليل ، فالصبيّ والمجنون إذا أتلفا مال غيرهما ، يتعلّق بهما الضمان إلاّ أنّه لا يجب عليهما الأداء ؛ لأنّ الوجوب لا يتعلّق بهما اتّفاقا ، بل الوجوب يتعلّق بوليّهما وبهما بعد الكمال.

ويعرف ممّا ذكر أنّ وطء الشبهة لا يوصف بالحلّ والحرمة ؛ لأنّ فاعله الساهي ، وهو ليس بمكلّف ، وهما يتعلّقان بأفعال المكلّفين.

ص: 110


1- أي بعض الأسباب ما فيه شكّ في المقارنة.
2- يستظهر من القواعد والفوائد 1 : 43 ، القاعدة 13 أنّ الظانّ هو الشهيد الأوّل.
3- راجع ص 95.
تذنيب

قد يتداخل بعض الأسباب ، كأسباب الوضوء أو الغسل. فإن نوى رفع واحد منها يرتفع الجميع ، ولا يحتاج إلى نيّة رفع غيره. نعم ، إن نوى عدم رفع غيره يبطل.

والحقّ أنّ هذا الحكم يعمّ أسباب الأغسال الواجبة والمسنونة.

ومنه موجبات الإفطار في يوم واحد بالنسبة إلى التكفير ، والسرقات المتكرّرة مع عدم الظفر بالسارق ، ومرّات الزنى بالنسبة إلى وجوب الحدّ ، وأسباب سجود السهو على رأي بعض الأصحاب (1) ، ومرّات وطء الشبهة بالنسبة إلى وجوب مهر واحد (2).

ثمّ الأصل عدم تداخل الأسباب ؛ لأنّ العقل حاكم بأنّ كلّ سبب يجب أن يترتّب عليه منفردا مسبّبه ، وكلّ علّة يجب أن يوجد معلوله (3) وحدها (4) إذا كانت مستقلّة في العلّيّة ، وإلاّ يلزم توارد العلل على المعلول الواحد.

والقول بأنّ علل الشرع معرّفات يجوز تواردها على معلول واحد (5) ، كلام خال عن التحقيق ؛ فإنّ الشارع إذا جعل أشياء أسبابا لأمر ، كلّ واحد منها مستقلّ في سببيّته له ، فبعد حصول كلّ واحد منها يجب صدور مسبّبه على حدة وإن حصلت جميعا دفعة ؛ لأنّ ذلك حكم السببيّة والمسبّبيّة ، ولا جهة للاكتفاء بواحد للجميع (6).

نعم ، يجوز التخلّف في العلل الشرعيّة بدليل خارجيّ ، بخلاف العلل العقليّة ، فالأسباب المذكورة التي وقع فيها التداخل لأجل الدليل الخارجي ، مثلا علّة تداخل أسباب الوضوء أو الغسل أنّه لا معنى لارتفاع نفس الأحداث التي هي أسباب ، بل المرتفع القدر المشترك

ص: 111


1- ذهب إليه الشيخ في المبسوط 1 : 123.
2- راجع : الفروق للقرافي 2 : 30 ، والقواعد والفوائد 1 : 44 و 45 ، القاعدة 14.
3- كذا في النسختين ، والصحيح « معلولها ».
4- كذا في النسختين ، والصحيح « وحده ».
5- قال الشهيد في القواعد والفوائد 1 : 39 : « السبب ... اصطلاحا ، كلّ وصف ظاهر منضبط دلّ الدليل على كونه معرّفا لإثبات حكم شرعي ».
6- والاكتفاء وعدم الاكتفاء بواحد للجميع عبارة عن تداخل المسبّبات وعدمه ، دون تداخل الأسباب وعدمه ، والكلام في الثاني دون الأوّل ، وكذا قوله : « ارتفاع القدر المشترك يحصل بواحد ».

بين جميعها ، وهو المنع من العبادة المشروطة بهما ، وارتفاع القدر المشترك يحصل بواحد مع نيّة التقرّب من دون نيّة الرفع ، أو مع نيّة رفع واحد منها ، وقس عليهما غيرهما من الأسباب المذكورة.

ثمّ وجد بالتصفّح أنّ الأسباب بالنسبة إلى المسبّبات من حيث الوحدة والتعدّد على أربعة أقسام :

الأوّل : أن يتّحد كلّ واحد منهما ، كالقذف والحدّ.

الثاني : أن يتعدّد كلّ واحد منهما ، كعمّ هو (1) خال ؛ فإنّه يرث نصيب العمّ والخال معا. ومنه ما إذا قتل واحد جماعة (2).

الثالث : أن يتّحد السبب ويتعدّد المسبّب ، إمّا مع اندراج بعض في بعض كالزنى ؛ فإنّه باعتبار اشتماله على الملامسة ، كان اللازم أن يوجب التعزير والحدّ معا ، إلاّ أنّ الأضعف يندرج تحت الأقوى ؛ وإمّا مع عدم الاندراج ، كالحيض والنفاس والاستحاضة الكثيرة ؛ فإنّها توجب الغسل والوضوء ، وكتعمّد الإفطار في رمضان ؛ فإنّه يوجب القضاء والكفّارة.

الرابع : أن يتعدّد السبب ويتّحد المسبّب باعتبار التداخل ، كالأسباب التي أشرنا إليها أوّلا. ولا يمكن أن يتعدّد السبب ويتّحد المسبّب من دون التداخل ؛ لأنّ السبب ما كان مستقلاّ في التأثير ، وفي الفرض المذكور لا يمكن أن يتحقّق ذلك.

إذا عرفت هذا التفصيل ، يلزم عليك أن تتفحّص في كلّ سبب ومسبّب يردان عليك حتّى تعلم أنّهما من أيّ قسم من الأقسام الأربعة ، ولا إشكال إلاّ في معرفة تداخل الأسباب عند تعدّدها.

وقد عرفت أنّه ينبغي أن يكون الأصل عندك عدم التداخل حتّى يظهر عليك خلافه بدليل خارجي ، مثلا قيل : إذا نوى داخل المسجد صلاة فريضة أو نافلة راتبة ، تجزي عن

ص: 112


1- هو فيما إذا تزوّج زيد بأخت أخيه عمرو من أبيه - وهي من أمّ عمرو - فإذا مات ابن زيد مثلا فعمرو هو عمّ الميّت وخاله معا.
2- والفرق بين المثالين أنّ الأسباب في الأوّل مختلفة من حيث العنوان ، وفي الثاني متّحدة.

صلاة التحيّة (1). وقيل بإجزاء تكبيرة الإحرام عنها وعن تكبيرة الركوع إذا نواهما (2) ، فنحن إذا تتبّعنا ولم نجد دليلا على الإجزاء ، نقول بعدمه في الصورتين ، لكنّ الإجزاء في الثاني مرويّ (3) ، ولذا حكم به الشيخ (4).

فائدة

قد حكم بعض الأصحاب بأنّه إذا اجتمع أسباب الوجوب في مادّة واحدة يجزي نيّة الوجوب ، ولا يجب التعرّض للخصوصيّات (5) ، كما إذا نذر الصلاة اليوميّة ، أو الصوم الواجب عليه ، أو الحجّ كذلك وإن اشتمل نذره على هيئة زائدة ، كما إذا نذر إيقاع الصلاة في أوّل وقتها ، أو في مكان خاصّ له رجحان ، أو قراءة سورة معيّنة في صلاته ؛ لأنّ (6) الوجوب الأصلي صار بسبب النذر متشخّصا بهذا التشخّص الزماني ، أو المكاني ، أو الكيفي.

وهذا القائل قد حكم بأنّه يجب أن نتعرّض في النيّة لمشخّصات الفعل عن غيره كجنسه ، وفصله ، وخواصّه المميّزة. ففي صلاة الظهر - مثلا - يجب التعرّض للصلاة ، والظهر ، والوجوب (7).

وعلى هذا يشكل الاكتفاء في الفرض المذكور بنيّة الوجوب فقط من غير التعرّض للخصوصيّات.

والحقّ : أنّ التعرّض للوجه في النيّة ليس بلازم ، إنّما اللازم أن يتعرّض في النيّة لما يشخّص الفعل ، ويمتاز به عن غيره.

وغير خفيّ أنّ الجنس - أعني كونها صلاة مثلا - والفصل - أعني كونها صلاة نذر أو ظهر

ص: 113


1- ذهب إليه المالكيّة. راجع : الفروق للقرافي 2 : 29 ؛ واحتمله الشهيد في القواعد والفوائد 1 : 1. القاعدة 15.
2- راجع : الخلاف 1 : 97 ، المسألة 63 ، والمبسوط 1 : 158.
3- الفقيه 1 : 407 - 408 ، ح 1216 ، وتهذيب الأحكام 3 : 45 ، ح 157.
4- راجع : الخلاف 1 : 97 ، المسألة 63 ، والمبسوط 1 : 158.
5- قاله الشهيد في القواعد والفوائد 1 : 82 ، الفائدة 5.
6- تعليل لاشتمال النذر على هيئة زائدة.
7- راجع القواعد والفوائد 1 : 80 ، الفائدة 4.

مثلا - من المشخّصات ، فينبغي التعرّض لهما في النيّة. اللّهمّ إلاّ إذا وقعت في وقت لم يشرك (1) فيه غيرها على ما حكم به بعض المتأخّرين (2).

وإذا كان التعرّض للفصل لازما ، فكيف يحكم بالاكتفاء بنيّة الوجوب فقط في الفرض المذكور من دون التعرّض للظهر والنذر؟!

نعم (3) ، الحقّ أنّ التعرّض للظهر كاف فيه ، ولا يحتاج إلى التعرّض لكونه نذرا ؛ لأنّ السبب الثاني - أعني النذر - لم يوجب شيئا لم يجب بالسبب الأوّل ، بل الواجب بالنذر ما كان واجبا أوّلا ، ولم يكن غرض الناذر في نذره إلاّ إيقاعه البتّة.

ويمكن أن يقال : غرض القائل المذكور من نيّة الوجوب نيّة الظهر مع الوجوب ، فتأمّل.

ضابطة

السبب إمّا قولي ، أو فعلي. والثاني إمّا منصوص من الشارع بالسببيّة ، كالزنى وأمثاله. وإمّا غير منصوص منه بالسببيّة ولكن يكون قائما مقام أحد الأوّلين (4) إذا دلّ عليها القرائن الحاليّة ، أو المقاليّة ، كتقديم الطعام إلى الضيف ، فلا يحتاج إلى الإذن الصريح ، وتسليم الصدقة إلى الفقير ، والهديّة إلى المهدى إليه. ومنه جوائز الملوك واولي الخطر ، والتقبيل ، والوطء ، واللمس بالشهوة في عدّة الطلاق الرجعي ، وقس عليها أمثالها.

ومن الأسباب الفعليّة غير المنصوصة الإرادة ، والمشيّة ، والمحبّة ، والكراهة ، والحسد ، وأمثالها من الامور القلبيّة. فلو علّق ظهار زوجته على إضمارها بغضه وأمثاله فادّعته ، صدّقت ؛ لأنّ قولها مقبول في أمثال ذلك. نعم ، إن ادّعى عليها التهمة يحلفها.

وقس عليه أمثاله من التعليقات والأيمان.

ص: 114


1- في « ب » : « لم يشترك ».
2- قاله العاملي في مدارك الأحكام 3 : 310 و 311.
3- في « ب » : « ثمّ ».
4- أي يقوم مقام القول.
فصل [5]
اشارة

لو علّق حكم على سبب أو شرط متوقّعين (1) ، وكان الحكم بحيث يختلف وقت التعليق ووقت وقوعهما ، فالحقّ اعتبار الحكم في وقت الوقوع ؛ لأنّ غرض المعلّق أن يقع الحكم في وقت الوقوع لا قبله ، فيجب كون الحكم ممّا يقتضيه ذلك الوقت لا الوقت الذي قبله.

والفروع لهذه القاعدة كثيرة :

منها : أنّه إذا أوصى بثلث ماله ، فالاعتبار بثلث ماله يوم الوفاة دون وقت الوصيّة.

ومنها : إذا نذر بثلث ماله مثلا ، فإن كان نذره مطلقا ، فالمعتبر وقت النذر ، وإن كان معلّقا على شرط ، فالمعتبر على ما اخترناه وقت وقوع الشرط.

ومنها : لو نذر عتق عبده عند شرط ، فوقع الشرط في وقت المرض ، فيلزم اعتباره من الثلث.

وأمثال هذه الفروع كثيرة. وكيفيّة التفريع في الجميع ظاهرة.

تتميم

قد يترتّب بعض الأحكام على أسباب يمكن اعتبارها في الحال وفي المآل. والحكم المترتّب على أحد الاعتبارين يخالف الحكم المترتّب على الآخر ؛ لأنّ مقتضى السبب الموجود في الحال يخالف مقتضى السبب الموجود في المآل. ولم نعثر على مرجّح لهذا الأصل في كتب الاصول.

وله فروع منتشرة في الكتب الفقهيّة (2) ، وفي بعضها رجّح الاعتبار الحالي ، وفي بعضها المآلي.

ولا يخفى أنّ ما يقتضيه ( النظر اعتبار الحال ؛ لأنّ كلّ ما يفعل في وقت يجب أن يكون ممّا يقتضيه السبب الموجود فيه ، والإعراض عنه والأخذ بما يقتضيه ) (3) السبب الكائن بعد

ص: 115


1- المناسب لكلمة « أو » إفراده أي « متوقّع ».
2- راجع القواعد والفوائد 1 : 361 - 365 ، القاعدة 142.
3- ما بين القوسين لم يرد في « ب ».

ذلك غير معقول ، إلاّ أنّ بعض الأحكام نظر فيها إلى المآل ، إمّا لنصّ ، أو لأدلّة أخر ، أو لكون المآل معتبرا في نظر المرجّح.

وكيفيّة التفريع : أنّ الدهن النجس إذا قلنا بقبوله الطهارة ، لا يجوز بيعه ؛ لكونه من مقتضيات السبب الموجود في الحال ، ومن اعتبر السبب الموجود في المآل يجب أن يقول بجواز بيعه. وكذا الحكم في الماء النجس ، وقد اعتبر فيه المآل بعض الأصحاب (1). وحكم الأصحاب (2) بجواز بيع السباع ؛ نظرا إلى جواز الانتفاع بجلودها ، وهو من اعتبار المآل ، إلاّ أنّ له أدلّة خارجيّة (3). ولا يجوز بيع الآبق والضالّ بدون الضميمة ؛ نظرا إلى الحال.

ولو ظهر فقدان المسلم فيه قبل حلول الأجل ، ففي تنجيز الخيار وتأخيره خلاف ؛ نظرا إلى الاعتبارين.

ولو عيّن المسلم موضعا لقبض المسلم فيه فيه ، فخرب أو خرب موضع العقد عند الإطلاق ، فهل يتعيّن الحمل إليهما ؛ نظرا إلى الحال ، أو لا ؛ نظرا إلى المآل؟ ولو كان دين الغارم مؤجّلا ، فهل يجوز له أخذ الزكاة قبل حلوله؟ ففيه الوجهان. وأنت تعرف الحقّ فيها وفي أمثالها ممّا يرد عليك بعد ما علمت حقيقة الحال.

فصل [6]

زاد بعض (4) الاصوليّين في الحكم الوضعي الرخصة ، ومقابلها العزيمة.

والرخصة لغة (5) : التسهيل. وعرفا : الحكم الثابت مع قيام ما يقتضي المنع ، لعذر المشقّة والحرج.

ص: 116


1- راجع القواعد والفوائد 1 : 364 ، القاعدة 142.
2- منهم : فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد 1 : 403 ، والشهيد في القواعد والفوائد 1 : 364 ، القاعدة 142 ، والشهيد الثاني في مسالك الأفهام 3 : 125.
3- منها عموم أو إطلاق قوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) ، البقرة (2) : 275. ومنها صحيحة عيص المرويّة في الكافي 5 : 3. باب جامع فيما يحلّ الشراء والبيع منه وما لا يحلّ ، ح 4 ، وتهذيب الأحكام 6 : 373 ، ح 1085.
4- انظر الإحكام في أصول الأحكام 1 : 186 و 187.
5- الصحاح 3 : 1041 ، « ر خ ص » ، والمصباح المنير : 223.

والعزيمة لغة (1) : القصد المؤكّد. وعرفا : الحكم الثابت لا لعذر المشقّة والحرج.

فمباح الأصل ليس رخصة ؛ لأنّ جواز فعله ليس لأجل المشقّة والحرج.

وما قيل في تعريف العزيمة : بأنّها الحكم الثابت لا مع قيام المقتضي للمنع (2) ، يرد عليه : أنّ مطلق التكليف عزيمة مع قيام المقتضي للمنع ، وهو (3) الأصل ؛ فإنّ الأصل عدم التكاليف. ويمكن التوجيه بعناية ، فتأمّل.

وقيد الأخير في تعريف الرخصة لإخراج التكاليف كلّها ؛ فإنّها أحكام ثابتة ، وفي بعضها - بل في كلّها - قام ما يقتضي المنع ؛ لأنّ جميع التكاليف على خلاف الأصل ، لكنّ ثبوتها ليس لأجل المشقّة والحرج.

ثمّ إنّ الرخصة إمّا واجبة ، كوجوب أكل الميتة للمضطرّ. أو مندوبة ، كتقديم غسل الجمعة لخائف فقد الماء ، أو مكروهة ، كالتقيّة في المندوبات مع خوف الالتباس على العوامّ ، وعدم ظنّ الضرر. أو مباحة ، كاستعمال الأحجار في الاستنجاء مع وجود الماء بالشروط المعلومة ، وما ورد فيه الرخصة من المعاملات المخالفة للأصل ، كبيع العرايا (4) وأمثاله.

وقد يقع الاشتباه في بعض المواضع. وبعد ما عرفت الفرق لا يلتبس حقيقة الحال عليك.

وممّا وقع فيه الإشكال القصر في السفر ؛ فإنّه عزيمة عند أصحابنا (5) مع أنّ تعريف الرخصة يصدق عليه ، والآية الشريفة (6) أيضا تدلّ على ذلك. وبيّن الأصحاب عذرهم في ذلك في كتبهم الاصوليّة والفروعيّة (7).

وزاد بعض آخر في خطاب الوضع التقدير (8) ، وهو أن يقدّر المعدوم كالموجود أو

ص: 117


1- لسان العرب 12 : 399 ، « ع ز م ».
2- راجع المحصول 1 : 120.
3- أي المقتضي للمنع عبارة عن استصحاب عدم التكليف.
4- العرايا جمع العريّة ، وهي النخلة تكون في دار الإنسان. راجع لسان العرب 9 : 4. « ع. ر. ي ».
5- راجع : الانتصار : 160 ، والنهاية : 122 ، والخلاف 1 : 569 ، وشرائع الإسلام 1 : 103.
6- وهي قوله تعالى : ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) ، النساء (4) : 101.
7- راجع تمهيد القواعد : 47 ، القاعدة 7.
8- انظر الفروق للقرافي 1 : 161.

بالعكس لتصحيح الحكم الشرعي ؛ فإنّه لو لم يرتكب ذلك في بعض الموارد يلزم الإشكال. مثلا : ورثة المقتول يورّثون الدية عنه ، وشرط التوريث دخول ما يورّث في ملك المورّث ، مع أنّ الدية لم تدخل في ملكه في حياته ؛ لعدم جواز تقدّم المسبّب على السبب ، ولا معنى لدخولها في ملكه بعد موته ، فيقدّر دخولها في ملكه قبل موته في آن لتمكّن التوريث ، فقدّر المعدوم موجودا.

ومن هذا القبيل جميع ما يسمّى بالملك الضمني ، كما إذا اشترى رجل أباه ، فإنّه يقدّر دخوله في ملكه في آن ، ثمّ يعتق عليه.

ومنه ما إذا قال لغيره : « أعتق عبدك عنّي » أو « أدّ من مالك ديني ». وليس هذه الامور من باب الكشف بمعنى أنّه يتبيّن بعد تقدّم الملكيّة ؛ إذ ذلك مستلزم لتقدّم سبب الملكيّة ، وهنا لم يتحقّق سبب أصلا.

فصل [7]

لا شبهة في أنّ المندوب ليس بتكليف ؛ لأنّه من الكلفة ، أي المشقّة ، وما ليس فعله لازما ليس فيه مشقّة. واشتماله على المشقّة إذا فعل لتحصيل الثواب ، لا يستلزم كونه شاقّا مطلقا. ويظهر الفائدة إذا قال بعنوان النذر أو اليمين وأمثالهما : « عليّ أن أؤدّي تكليفا ».

قد اختلف في كونه مأمورا به ، والحقّ أنّه ليس بمأمور به حقيقة ؛ لأنّ الأمر حقيقة في الوجوب ، فما ليس واجبا ليس بمأمور به ، ولأنّ خلاف الأمر معصية ، كما يدلّ عليه الآية (1) والأخبار (2) ، ومخالفة الندب ليست كذلك ؛ ولقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : « لو لا أن أشقّ على أمّتي ، لأمرتهم بالسواك » (3). وحمل القول بأنّ المعصية في مخالفة الأمر الإيجابي (4) ؛ وحمل الأمر في قوله عليه السلام عليه أيضا (5) ، تخصيص من غير دليل.

ص: 118


1- وهي قوله تعالى : ( أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ) ، طه (20) : 93.
2- راجع : جامع الاصول 7 : 618 ، ح 5781 ، وتهذيب الوصول : 97 ، فاستدلّ العلاّمة فيه برواية بريرة.
3- كنز العمّال 7 : 398 ، ح 19483.
4- قالهما الغزالي في المستصفى : 4. والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 164 و 165 ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : 36.
5- قالهما الغزالي في المستصفى : 4. والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 164 و 165 ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : 36.

واستدلّ المخالف : بأنّه طاعة ، وهي فعل الأمور به. وبأنّ أهل اللغة مصرّحون بأنّ الأمر ينقسم إلى الإيجاب والندب ، والمقسم مشترك بين الأقسام (1).

والجواب : منع كون كلّ طاعة مأمورا بها حقيقة ، وكذا كون كلّ مقسم حقيقة في أقسامه ، بدليل كون الإباحة والتهديد من أقسامه مع كون الأمر فيهما مجازا بالاتّفاق.

ويظهر فائدة الخلاف فيما إذا نذر أو حلف أن يأتي بصلاة مأمور بها ، فهل يبرأ ذمّته بالنوافل ، أم لا؟ وقد عرفت الحقّ (2).

ثمّ الكلام في كون المكروه تكليفا ومنهيّا عنه كالكلام في كون المندوب تكليفا ومأمورا به ، والأدلّة التي تجري في عدم كون المندوب تكليفا ومأمورا به تجري في عدم كون المكروه تكليفا ومنهيّا عنه.

ثمّ إنّك قد عرفت فيما سبق (3) أنّ المكروه يطلق على ثلاثة معان : من جملتها الحرام ، فهذان الحكمان للمعنيين الأخيرين له ؛ لكون الحرام تكليفا ومنهيّا عنه جزما.

وكيفيّة التفريع كما عرفت في المندوب.

فصل [8]
اشارة

اعلم أنّ المباح يطلق على معان :

منها المأذون فيه شرعا ، مباحا كان ، أو واجبا ، أو مندوبا ، أو مكروها.

ومنها ما لا يمتنع عقلا ، لازما كان ، أو راجحا ، أو متساوي الطرفين.

ومنها ما استوى فيه الطرفان شرعا - وهو الذي عدّ من الأحكام الخمسة ، وقسيما للواجب - أو عقلا ، كأفعال غير العقلاء.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّه نقل عن بعض الاصوليّين القول بكون المباح جنسا للواجب (4) ؛

ص: 119


1- راجع المصادر.
2- وهو عدم كون المندوب مأمورا به حقيقة.
3- مرّ في ص 98.
4- راجع الإحكام في أصول الأحكام 1 : 170.

مستدلاّ بأنّ حقيقة المباح المأذون فيه في الفعل (1) ، وهو حاصل في الواجب.

وأورد عليه ابن الحاجب : بأنّ حقيقته ليس ما ذكر فقط ، بل هو جنسه ، وفصله « مساوي الطرفين » وهو لم يوجد في الواجب (2).

وغير خفيّ أنّ العاقل لا يقول : إنّ المباح الذي هو من أقسام الحكم وقسيم للواجب جنس له ، فالظاهر بل الجزم أنّ غرض القائل من المباح الذي جعله جنسا للواجب ، هو المباح بالمعنى الأوّل الذي ذكرناه ، والمورد حمل المباح في كلامه على المعنى الثالث. وليت شعري ما الداعي له مع أنّه عدّ المعنى الأوّل من جملة معاني المباح؟

إذا عرفت ذلك تعلم أنّه إذا اطلق المباح في كلام الشارع وغيره يكون مشتركا بين المعاني المذكورة ، إلاّ أنّ المتبادر والفرد الأظهر منها المعنى الثالث منها ، فيجب الحمل عليه. وكذا الأمر في الأيمان ، والتعليقات ، وأمثالهما.

ثمّ الحقّ أنّ الإباحة حكم شرعي ، كما ذهب إليه القوم أجمعون (3).

وخالف بعض المعتزلة وقال : الإباحة ما لا منع في فعله وتركه ، وهذا ثابت في الأفعال قبل بعثة الشرع ، فلا معنى لكونه حكما شرعيّا (4).

والجواب : أنّ الإباحة قسمان : أحدهما شرعيّة (5) ، وهو ما تعلّق خطاب الشرع بكونه مباحا. وثانيهما غير شرعيّة (6) ، وهو الذي كان ثابتا للأفعال قبل بعثة الرسل ، والإباحة التي من الأحكام الشرعيّة هو القسم الأوّل دون الثاني ؛ فإنّه ليس إباحة شرعيّة.

تذنيب

أجمع القوم على أنّ المباح أي ما استوى فيه الطرفان موجود وليس بمأمور به ؛ لأنّ الأمر طلب وهو يستلزم الترجيح ، وما استوى فعله وتركه ليس فيه ترجيح.

ص: 120


1- في « ب » : « العمل ».
2- حكاه عنه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 170.
3- راجع الإحكام في أصول الأحكام 1 : 168.
4- حكاه عنهم الآمدي في المصدر.
5- كذا في النسختين ، والصحيح « شرعي ».
6- كذا في النسختين ، والصحيح « شرعي ».

وأنكر الكعبي المباح بالمعنى المذكور وقال : كلّ مباح إمّا واجب بعينه ، أو مقدّمة له ، وهي أيضا واجبة.

واستدلّ على وجوبه : بأنّه إمّا عين ترك الحرام ، كإطباق الفم ، فإنّه ترك القذف. أو مقدّمة لتركه ، كالكلام وإطباق الفم لترك شرب الخمر ؛ فإنّه لا يتمّ إلاّ بهما أو بأمثالهما من الامور المباحة ، وترك الحرام وما لا يتمّ ترك الحرام إلاّ به واجب (1).

وقد ذكر القوم لإبطال استدلاله وجوها :

منها : أنّه يلزم أن يكون واجب - كالصلاة مثلا - حراما ، إذا صار فعلها سببا لترك واجب ؛ لأنّ سبب الحرام حرام ، فيكون الشيء الواحد حراما واجبا (2).

ولا يخفى ما فيه ؛ لإمكان أن يلتزمه بالاعتبارين.

ومنها : أنّ المسلّم وجوب المقدّمة الشرعيّة دون العقليّة والعاديّة (3).

ولا يخفى ما فيه أيضا ؛ لما سيجيء (4).

ومنها : أنّ قوله : « المباح [ ما ] لا يتمّ الواجب (5) إلاّ به » غير مسلّم ؛ لأنّه غير معيّن ؛ لإمكان الحصول (6) بغيره (7).

وفيه : أنّ هذا ينفي الوجوب العيني ، ويثبت التخييري (8) ، وهو كاف.

ويمكن أن يحرّر هذا الجواب بوجه لا يرد على القوم شيء ، بأن يقال : إذا بني الأمر على وجوب المقدّمات الشرعيّة والعقليّة ، فلا بدّ أن يقال : إذا كان شيء حراما وكان واجب الترك ، لا يتحقّق هذا الترك إلاّ في ضمن واحد من الامور المباحة ، وليس واحد منها معيّنا له ، بل كلّ واحد منها يصلح له ، فالمقدّمة للترك أمر كلّي مشتمل على أفراد كثيرة ، وكلّ واحد منها مباح عينا ، وإن كان فردا لمفهوم كلّيّ هو واجب يمكن أن يتحقّق في ضمنه ،

ص: 121


1- (1. 3) حكاهم الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 168 - 169.
2- أي في مقدّمة الواجب راجع ص 134 وما بعدها.
3- والمراد به هو ترك الحرام.
4- أي حصول الواجب وهو ترك الحرام.
5- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 169.
6- في « ب » : « التخيير ».

وبذلك يكون من أفراد الواجب التخييري. وغرض القوم ليس إلاّ إثبات المباح عينا ، ولا يضرّهم اتّصافه بالوجوب من جهة اخرى ، سيّما وقد بلغت كثرة الأفراد لأكثر المقدّمات الواجبة إلى حدّ اضمحلّ الوجوب بالنسبة إلى كلّ فرد منها.

هذا ، وفوق ذلك كلام ، وهو إنّ كلّ واحد من الامور المباحة ليس في كلّ وقت من أفراد الواجب التخييري ، بل إذا حصل به ترك الحرام. فكلّ واحد منها مباح عينا ، وقد يتّصف بالوجوب باعتبار عارض ، وهذا جائز ؛ فإنّ القبيح قد يصير حسنا وبالعكس بسبب خارج ، فالمباح الذي حصل به ترك الحرام يكون واجبا من هذه الجهة ، فإذا تعرّض بعده لمباح آخر - لم يحصل به ترك الحرام ، ولكن كان بحيث لو لم يعمل المباح الأوّل لحصل ترك الحرام به - لا يكون واجبا ، مثلا إذا أطبق الفم لترك شرب الخمر ، يكون واجبا من باب المقدّمة. ثمّ إذا وضع اليد على الفم لا يكون واجبا ؛ لعدم كونه من المقدّمة.

ويعلم من هذا أنّ هذه المباحات لا تتّصف بالوجوب إذا لم يكن فعلها لأجل ترك الحرام ، بل فعلت في وقت لم يسبق بإرادة الحرام ، بل لم يخطر بباله أيضا. كيف؟ وفي هذه الحالة (1) ليست مقدّمات للواجب الحقيقي ؛ لأنّ عدم الحرام - من دون كفّ النفس عنه وقصد استمراره مع خطوره بالبال - لا يتّصف بالوجوب ، وإلاّ لزم أن يثاب كلّ إنسان في كلّ وقت بعدم صدور كلّ محرّم عنه ، وهو باطل ، فجميع المباحات مباحة عينا في كلّ وقت ، ومن شأنها أن تتّصف بالوجوب باعتبار عارض ، وقد تتّصف بالفعل إذا حصل العارض ، كما أنّ من شأن جميع القبائح أن تتّصف بالحسن في بعض الأوقات بسبب عارض ، وقد تصير حسنة بالفعل وبالعكس ، وليس حال أفراد الواجب التخييري كذلك ، بل هي متّصفة بالوجوب مع قطع النظر عن عارض وسبب خارجي ، فتأمّل.

ثمّ فوق هذا أيضا كلام ، وهو أنّ شيئا من المباحات ليس مقدّمة لترك الحرام ، ولا فردا منه ؛ لأنّ الترك هو الكفّ ، ولا دخل له بالامور المباحة. نعم ، هي مقارنة له كباقي الأحكام. مثلا ترك الحرام هو الكفّ عن شرب الخمر ، ولا دخل له بإطباق الفم أو الكلام أو أمثالهما.

ص: 122


1- أي حالة عدم اقتران فعل المباح بإرادة الحرام.

فإذا حصل منع النفس عن الشرب حصل ترك الحرام ، ولا يتوقّف على شيء من حالات الفم. نعم ، يقارن الترك بعض هذه المباحات ، إلاّ أنّه لا يتوقّف عليها ، فأحسن التدبّر.

فصل [9]

قد أشرنا فيما تقدّم (1) أنّ من معاني الحسن والقبح ما لا حرج في فعله ، ومقابله. وعلى هذا يكون كلّ من المباح والمكروه حسنا.

ويتفرّع عليه براءة ذمّة من حلف على فعله بإيقاعهما.

والإحسان لا يشمل فعل المباح والمكروه ، بل يختصّ فعل الواجب والمستحبّ.

والحقّ ، أنّ المحسن فاعل الإحسان ، ولا يشمل فاعل الحسن كما قيل (2). فمن قال : « عليّ أن أفعل فعل المحسنين » لا يبرأ ذمّته بفعل المباح والمكروه. ولا يرتفع الضمان على (3) قاطع يد الجاني قصاصا إذا مات ؛ نظرا إلى أنّه فاعل الحسن ، أي المباح ، وقد قال اللّه : ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (4).

نعم ، يتسلّط المنفق على الحيوان إذا كان ملتقطا أو مستودعا (5) على الرجوع إلى المالك ؛ لكونه محسنا. ويقبل قول الوكيل في الردّ إذا لم يكن وكالته بجعل ؛ لأنّه محسن أيضا.

وقس عليهما أمثالهما.

فصل [10]

الواجب العيني ما طلب من كلّ واحد من المكلّفين بخصوصه ، ولا يسقط عن بعضهم بفعل بعض آخر.

والكفائي ما وجب على الجميع ولكن يسقط عنهم بفعل البعض.

ص: 123


1- تقدّم في ص 99 - 100.
2- قاله الأسنوي في التمهيد : 62.
3- متعلّق « على » الضمان دون لا يرتفع.
4- التوبة (9) : 91.
5- هذا بخلاف ما إذا غصبه ؛ فإنّ المنفق لا يرجع إلى المالك ؛ لأنّ تعليفه مثلا لا يصدق عليه الإحسان.

وأنكره بعض الشافعيّة وقالوا : إنّه لا يجب على الكلّ ، بل على بعض مبهم (1).

ويدفعه الإجماع على تأثيم الجميع بالترك.

واستدلّوا عليه بوجوه ثلاثة :

أوّلها : لو وجب على الجميع ، لم يسقط بفعل البعض.

والجواب : أنّ هذا مجرّد استبعاد.

وثانيها : أنّ آية النفر (2) تدلّ على وجوبه على بعض مبهم.

والجواب : أنّ الآية مأوّلة بأنّ فعل بعض يسقط عن الكلّ ؛ ودليل التأويل الإجماع.

وثالثها : أنّه كما يجوز الأمر ببعض غير معيّن ، يجوز أمر بعض غير معيّن.

والجواب : أنّ الفرق بينهما واضح ؛ فإنّ التأثيم بغير المعيّن معقول ، وتأثيم غير المعيّن غير معقول.

ثمّ السقوط عن الجميع موقوف على العلم بفعل البعض ، أو على الظنّ الشرعي به ، ولو حصل أحدهما لطائفة دون اخرى سقط عن الاولى دون الثانية. فإذا أخبرنا بموت أحد ، فسقوط صلاته عنّا موقوف على القطع بوقوع الصلاة عليه ، أو على شهادة العدلين عليه ، أو على خبر واحد محفوف بالقرائن ، فلو أخبر واحد به لا تسقط عنّا بمجرّده.

ويتفرّع عليه أيضا : عدم السقوط عنّا إذا صلّى فاسق على الميّت بحضرتنا ؛ لأنّه لا بدّ من الظنّ الشرعي بإيقاع أفعال الصلاة صحيحة ، وإخبار الفاسق في ذلك غير مقبول. وقس عليه صلاة ما فوق الواحد مع فقد العدالة.

ومن التفريعات : أنّه إذا شرع بعض في صلاة الميّت ، وفي الأثناء شرع بعض آخر فلا بدّ له من نيّة الوجوب ؛ لعدم السقوط بعد. ولو تمّ صلاة البعض الأوّل ثمّ شرع بعض آخر ، فالظاهر لزوم نيّة الندب ؛ لعدم تعقّل الوجوب مع السقوط.

وقيل : إنّ وظيفته أيضا الوجوب ؛ لأنّه متعلّق بالجميع ، والسقوط بفعل البعض

ص: 124


1- حكاه البصري في المعتمد 1 : 138 ، والفخر الرازي في المحصول 2 : 186 - 187 ( هامش ) ، والمطيعي في سلّم الوصول ، المطبوع مع نهاية السؤل 1 : 185 - 195 ، والأسنوي في نهاية السؤل 1 : 185 - 197.
2- وهي قوله تعالى : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ) ، التوبة (9) : 122.

للتخفيف ، وهو لمن لم يفعل مطلقا (1).

وفيه ما فيه.

ويجري هذا الخلاف في باقي الفروض الكفائيّة ، كجواب السلام ، والأمر بالمعروف ، وغيرهما.

وممّا يتفرّع على الوجوب الكفائي كونه أفضل من فرض العين ، على ما ذكره بعض المحقّقين ؛ لأنّ صيانة جماعة كثيرة أفضل من صيانة نفس واحدة (2).

ولا يخفى أنّ هذا صحيح إذا استند الأفضليّة إلى إسقاط الذمّ ، وأمّا إذا اسند إلى زيادة الثواب فلا يتمّ ؛ لأنّ كلّ من تعلّق به الوجوب الكفائي لا يثاب بفعل البعض ، بل يسقط منه الحرج ؛ والثواب مخصوص بالفاعل. وغير خفيّ أنّ إسقاط الذمّ أيضا من الكثير يكفي ؛ لكونه أفضل وأكثر ثوابا.

ثمّ المستحبّات أيضا قد تكون كفائيّة ، كالأذان والإقامة للجماعة الواحدة ، وابتداء السلام ، وتسميت العاطس لها (3). وبعض التفريعات جارية (4) هنا أيضا.

فصل [11]
اشارة

الواجب المعيّن ما تعلّق الوجوب به بخصوصه ، كالصلاة ، والصوم ، وأمثالهما.

والواجب المخيّر ما عيّن له الشارع بدلا من غير نوعه اختيارا.

وبالقيدين الأخيرين (5) يخرج الموسّع والكفائي ، والغسل والوضوء إذا لم يمكنا.

وتحقيق المقام : أنّ المأمور به في الواجب التخييري أمر كلّي له أفراد متعدّدة ، أيّها حصلت (6) في الخارج ، يكون الكلّي في ضمنها (7) ؛ فالمأمور به في الكفّارة إحدى الخصال

ص: 125


1- المجموع شرح المهذّب 5 : 213 ، 245 ، وفتح العزيز 5 : 192.
2- حكاه النووي عن إمام الحرمين واختاره في المجموع شرح المهذّب 1 : 37 و 45 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 49 ، القاعدة 8.
3- أي للجماعة.
4- كذا في النسختين والصحيح أن يكون « جار باعتبار بعض ».
5- أي « بخصوصه واختيارا ».
6- كذا في النسختين والصحيح « حصل ».
7- كذا في النسختين والصحيح « ضمنه ».

الذي هو قدر مشترك بين جميعها ، وأيّتها وجدت يتحقّق القدر المشترك فيها ، فلا يجب فعل كلّ واحد من الأفراد ؛ لتحقّق المأمور به بدونه ، ولا فعل واحد معيّن منها ؛ لعدم تعلّق الوجوب به بخصوصه ، ولا يجوز الإخلال بكلّ واحد منها لا إلى بدل ؛ لعدم تحقّق المأمور به حينئذ ؛ فالواجب حينئذ واحد منها لا على التعيين. فالتخيير حينئذ بين الأفراد ، بمعنى أنّ المكلّف مخيّر بين كلّ واحد منها وبين الأفراد الأخر ، وأيّها فعل كان واجبا بالأصالة ، ولا يتخيّر بين المأمور به الذي هو القدر المشترك والمفهوم الكلّي ؛ لأنّه أمر واحد لا تعدّد فيه حتّى يعقل التخيير فيه. وهذا هو الذي اختاره أصحابنا (1) ورؤساء المعتزلة (2).

والدليل عليه الإجماع ، والتنصيص عليه في موارد مخصوصة ، وهي لا تحتمل سوى التخيير ؛ لأنّه إذا قال رجل لغيره : « افعل أحد هذين ، واختر أيّهما شئت ، ولا يجوز لك تركهما معا ، ولا يجب عليك فعلهما معا » لا يفهم منه سوى التخيير بالمعنى الذي ذكرناه.

وذهب الأشاعرة إلى أنّ الواجب واحد غير معيّن يتعيّن بفعل المكلّف (3). والظاهر - كما قال الإمام الرازي (4) - إنّ هذا راجع إلى مذهب التخيير ، فلا نزاع معنى. ولو أرادوا غيره ، فلا ريب في بطلانه.

وقال بعض المعتزلة : الواجب هو الجميع ، ولكن يسقط بواحد (5).

ويدلّ على فساده أنّه لو وجب الجميع ، لكان اللازم الإتيان به ، ولم يبق للتخيير حينئذ معنى. ولا أدري من أين يفهم من موارد التخيير وجوب الجميع وإسقاطه بواحد ؛ فإنّه لا دلالة عليه بواحدة من الثلاث.

وقال بعض : إنّ الواجب واحد معيّن ، لكن يسقط به وبكلّ واحد من الأفراد الأخر (6).

ص: 126


1- منهم : السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 88 ، والعلاّمة في مبادئ الوصول : 102 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 51 ، القاعدة 9.
2- منهم البصري في المعتمد 1 : 77 ، ونسبه أيضا إلى أبي علي وأبي هاشم في ص 79 ، والفخر الرازي في المحصول 2 : 159.
3- حكاه الفخر الرازي في المحصول 2 : 159 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 141 ، والشيخ حسن في معالم الدين : 72.
4- المحصول 2 : 159.
5- حكاه الباجي عن محمّد بن خويزمنداد في إحكام الفصول : 97 و 98.
6- راجع منهاج الاصول ، المطبوع مع نهاية السؤل 1 : 142.

وظهر بطلانه ممّا ذكرنا.

وهنا مذهب آخر ينسبه كلّ من الأشاعرة والمعتزلة إلى الآخر ، واتّفقا على بطلانه ، وهو أنّ الواجب واحد معيّن عند اللّه ، مبهم عندنا (1).

ووجه ظهور سخافته : أنّ الواجب إذا كان معيّنا عند اللّه ، فلا معنى لأن يخيّر عباده بينه وبين غيره.

ثمّ اورد (2) على مذهب التخيير بأنّه لا معنى لتعلّق التكليف بالمبهم ؛ لاستحالة إيقاعه.

والجواب - كما أشرنا إليه (3) - : أنّ التكليف إنّما تعلّق بالمعيّن ، وهو الأمر الكلّي الصادق على كلّ واحد من الأفراد ، وكون الواحد المبهم واجبا إنّما هو لأجل اشتماله على هذا الأمر الكلّي.

واورد شبه آخر واهية ، وأجوبتها ظاهرة (4).

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّه يتفرّع عليه أنّ المكلّف إذا أتى بجميع أفراد الواجب المخيّر معا دفعة ، فهل يوصف المجموع بالوجوب ؛ نظرا إلى عدم رجحان بعضها ، فيكون المسقط للفرض جميعها ؛ لأنّه أيضا من أحد الأفراد ، فيثاب المكلّف على الجميع ثواب واجب. أو يكون كلّ واحد منها مسقطا للفرض ، ويوصف كلّ واحد منها بالوجوب ، فيثاب على كلّ واحد ثواب واجب. أو يكون الواجب أحد الأفراد إذا تساوت ، وأدناها أو أعلاها إذا تفاوتت ، فيثاب عليه ثواب الواجب ، وعلى البواقي ثواب التطوّع (5)؟

قيل : الموصوف بالوجوب ليس إلاّ واحدا منها ، وهو الذي يتحقّق به مسمّاه ؛ لأنّ الشارع لم يطلب منّا سواه ، فيثاب عليه ثواب الواجب ، وعلى البواقي ثواب المستحبّ (6).

ص: 127


1- حكاه عنهم الأنصاري في فواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 1 : 66 ، والفخر الرازي في المحصول 2 : 160 ، والأسنوي في التمهيد : 79 ، والشيخ حسن في معالم الدين : 72 و 75.
2- هو ما يسمّى بقول « التراجم » ؛ لأنّ الأشاعرة يرجمون به المعتزلة ويروونه عنهم ، وكذلك المعتزلة يفعلون ، ولا يعلم قائله ، ولكن نسبه الأصفهاني إلى أبي الخطّاب الحنبلي ، راجع : المعتمد 1 : 87 ، والمحصول 2 : 160 ، والإبهاج 1 : 54 ، وسلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 1 : 141.
3- في ص 125.
4- راجع تمهيد القواعد : 4. القاعدة 9.
5- راجع تمهيد القواعد : 4. القاعدة 9.
6- المصدر : 59 ، القاعدة 12.

وفيه تأمّل ؛ لأنّ الشارع وإن لم يطلب منّا سوى ما يتحقّق به مسمّى الوجوب ، إلاّ أنّه تحقّق في الفرض المذكور في جميع الأفراد ، فيجب أن يكون ثوابه ثواب الواجب. وإن أتى بالأفراد على التعاقب ، فلا تأمّل في كون ما أتى به أوّلا واجبا ، فثواب البواقي ليس إلاّ مستحبّا.

ثمّ إنّ بعض الأفراد إذا كان داخلا في بعض آخر ، كمسح الرأس في الوضوء - حيث إنّ بعض أفراده المسح بإصبع واحدة ، وهو داخل في المسح بثلاث مثلا وأتى المكلّف بالفرد الأكمل - فالحقّ هنا أنّه يوصف بالوجوب ؛ لأنّ الواجب هو الماهيّة الكلّيّة التي يمكن أن تتحقّق في الفرد الناقص والكامل ، وهنا تحقّقت في الكامل ، فيتّصف بالوجوب ، ويثاب عليه ثواب الواجب.

ومن قال : إنّ القدر الزائد مستحبّ (1) ، فنظره إلى أنّه ليس بواجب. وجوابه معلوم.

وإذا ترك جميع الأفراد ، فلا شبهة في أنّه لا يعاقب إلاّ على أقلّها ؛ لأنّه لم يطلب سواه.

وممّا يتفرّع عليه : أنّه إذا أوصى رجل بفرد معيّن من أفراد الكفّارة ، وكان أعلى الأفراد ، فهل يحسب من الأصل ؛ نظرا إلى أنّه لو أتى به اتّصف بالوجوب ، أو يحسب الزيادة من الثلث ؛ نظرا إلى أنّ الواجب أقلّ منه؟ والظاهر ، الثاني.

تذنيب

يصحّ التخيير بين الواجب والندب ، وهذا ما يقال : إنّ أحد الفردين أفضل ، كالتخيير بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر على القول به ، والتخيير بين القصر والإتمام في المواطن الأربعة (2) ، وتخيير النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم في قيام الليل بين الثلث والنصف والثلثين (3) ، وتخيير المدين بين الإنظار والصدقة (4) ، وغير ذلك.

ويجوز التخيير بين المندوبين ، كما إذا نذر بأن يفعل أحد الأمرين ، ولم يجر الصيغة ؛ فإنّه يستحبّ الوفاء به ، ويتخيّر بينهما.

ص: 128


1- راجع تمهيد القواعد : 59 و 60 ، القاعدة 12.
2- هي المسجد الحرام ، ومسجد النبيّ ، والحائر الحسيني ، ومسجد الكوفة.
3- كما يستفاد ذلك من الآيات 1 - 4 من المزّمّل (73).
4- كما يدلّ عليه قوله تعالى : ( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) ، البقرة (2) : 280.

ولا يجوز التخيير بين المباح والحرام وفاقا.

وما روي من تخيير النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ليلة الإسراء بين اللبن والخمر فاختار اللبن ، فقال له جبرئيل : اخترت الفطرة ، ولو اخترت الخمر لغوت أمّتك (1) ، ليس تخييرا بين المباح والحرام ؛ لعدم كون الخمر حراما لو اختار. نعم ، كان له سوء عاقبة ، وهذا غير الحرمة.

تتميم

الحقّ أنّه يصحّ النهي تخييرا ، بمعنى أن يحرّم واحد لا بعينه ، وذلك كتحريم إحدى الاختين جمعا ، وتحريم البنت أو الأمّ ، وتحريم وطء إحدى الأمتين. وهذه المسألة كمسألة الوجوب التخييري اختلافا ، وتحقيقا ، ودليلا ، وردّا ، وإيرادا ، وجوابا ، وتفريعا ؛ فلا نطيل الكلام بذكرها.

فصل [12]
اشارة

الواجب المضيّق ما ساواه وقته. والموسّع ما فضل وقته عليه.

ولا يجوز أن ينقص الوقت من الفعل ؛ للزوم التكليف بما لا يطاق. وما ورد من وجوب الصلاة على الصبيّ إذا بلغ وقد بقي من الوقت مقدار ركعة (2) ، وعلى الحائض إذا طهرت كذلك (3) فالمراد منه القضاء.

ثمّ إنّه قد وقع الخلاف في الموسّع في موضعين ، فلا بدّ من ذكره وبيان الحقّ :

[ الموضع ] الأوّل : في ثبوته. فذهب أصحابنا (4) ومحقّقو العامّة إلى أنّه جائز وواقع (5) ، بمعنى أنّه يجوز أن يأمر الشارع بفعل في وقت يفضل عنه ، ويكون جميعه وقتا لأدائه ،

ص: 129


1- انظر صحيح مسلم 1 : 145 ، ح 259 / 162.
2- ذكرى الشيعة 2 : 351.
3- تهذيب الأحكام 1 : 391 ، ح 1207.
4- قال الشيخ حسن في معالم الدين : 73 : « أكثر الأصحاب » لأنّ ظاهر المفيد هو اختصاص الوجوب بأوّل الوقت.
5- راجع : الإحكام في أصول الأحكام 1 : 146 ، ومعارج الأصول : 74 ، ومعالم الدين : 73.

بمعنى أنّه يجوز إيقاعه في أيّ جزء من أجزائه ، وفي أيّ جزء اتّفق يكون أداء وواجبا بالأصالة ، فمرجعه حقيقة إلى الواجب التخييري. والفرق أنّ التخيير في التخييري بين الجزئيّات المتخالفة بالحقيقة ، وهنا في الجزئيّات المتماثلة بالحقيقة ، المتمايزة بالشخصيّة.

وبعبارة اخرى : التخيير هناك بين جزئيّات الفعل ، وهنا بين أجزاء الوقت.

قالوا : وقد وقع ؛ قال اللّه : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (1) ، ولا شكّ في تطبيقه على ما ذكر. وكذا الواجبات التي أوقاتها جميع العمر ، كالنذر المطلق وقضاء الواجبات.

والدليل على الجواز : أنّ السيّد إذا أمر عبده بفعل في وقت يفضل عنه ، وخيّره في إيقاعه بين أوّله ووسطه (2) وآخره ، لم يعدّه العرف محالا (3) ، بل يجوّزه ويحكم بالامتثال إذا أوقعه في أيّ جزء منه.

وعلى الوقوع : ما ورد من الأوامر المطلقة (4) التي تدلّ على إيقاع الفعل في وقت يفضل عنه من غير تقييد بأوّله ، أو وسطه ، أو آخره ، أو بجزء معيّن من أجزائه. وليس المراد منها تطبيق أجزاء الفعل على أجزاء الوقت ، ولا تكريره مرّة بعد اخرى حتّى ينقضي الوقت إجماعا ، فتعيّن القول بكونه واجبا على التخيير في أجزاء الوقت.

ثمّ المانعون بين قائل بأنّ الوجوب مختصّ بأوّل الوقت وبعده قضاء ، وهم ثلّة من الشافعيّة (5). وقائل بأنّه مختصّ بآخره وقبله نفل مسقط للوجوب ، كتقديم الزكاة ، وهم قليل من الحنفيّة (6). وقائل بأنّه مختصّ بآخره ويقع الفعل قبله مراعى ، فإن بقي المكلّف في آخره على صفة التكليف يظهر أنّ ما أتى به كان واجبا ، وإلاّ كان نفلا ، وهو الكرخي (7).

واحتجّوا بأنّه لا يجوز الزيادة في الوقت ؛ لأدائها إلى جواز ترك الواجب ، فلا بدّ من

ص: 130


1- الإسراء (17) : 78.
2- في « ب » : « وأوسطه ».
3- في « ب » : « مجازا ».
4- منها الآية المذكورة آنفا ( الإسراء (17) : 78 ).
5- (5 و 6) راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 5. ومعارج الاصول : 74 ، ومعالم الدين : 73.
6- (5 و 6) راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 6. ومعارج الاصول : 74 ، ومعالم الدين : 73.
7- راجع المصدر.

صرف الأمر إلى جزء معيّن منه ، وهو إمّا أوّله أو آخره ؛ لعدم القول بالواسطة. فمن خصّ الوجوب بأوّله قال : لأنّه لو لم يكن هو لما برئ ذمّته بأدائه فيه. ومن خصّه بالأخير قال : لو لم يكن هو لعصى المكلّف بتأخيره.

ودليل كلّ منهما جواب عن الآخر ، فيفسخ القولان ، ويثبت منه الوجوب التخييري في أجزاء الوقت.

وممّا ذكرنا في إثبات الوجوب الموسّع يظهر الجواب عمّا ذكروا من أدائه إلى جواز ترك الواجب.

[ الموضع ] الثاني : في وجوب البدل - وهو العزم على الفعل في الجزء الثاني من الوقت إذا أخّره عن جزئه الأوّل ، وفي الجزء الثالث إذا أخّره عن الثاني ، وهكذا - وعدمه.

فبعض أصحابنا كالسيّد والشيخ (1) على وجوبه ، أي تخيير (2) المكلّف بين الفعل والعزم عليه إلى الضيق ، ومعه يتعيّن الفعل ، ولا يجوز تركهما معا في وقت.

والأكثر على عدم وجوبه ، أي يجوز تركهما معا قبل الضيق ، ومعه يجب الفعل ، ولا يجب العزم في وقت. وهو الحقّ ؛ لأنّ الأوامر مطلقة (3) ، ولا تدلّ على وجوب بدليّة العزم بإحدى الثلاث ، بل لا يفهم منها سوى وجوب الفعل على التخيير في أجزاء الوقت. ولا يدلّ عليه أيضا غيرها من الأدلّة الخارجيّة.

والاستدلال عليه : بأنّ العزم لو كان بدلا لجاز الاكتفاء به من دون أداء الفعل مطلقا ؛ لأنّ هذا شأن البدل ، غير صحيح ؛ لأنّهم لم يقولوا : إنّه بدل عن الفعل مطلقا ، بل عنه إذا وقع فيه التأخير إلى وقت الضيق ، ومعه يتعيّن الفعل.

احتجّ الخصم : بأنّه لو جاز ترك الفعل قبل ضيق الوقت من غير بدل ، لزم خروجه عن الوجوب ؛ لأنّه يلزم حينئذ عدم تعلّق الإثم بالمكلّف إذا مات فجأة في أثناء الوقت من دون

ص: 131


1- الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 147 ، والعدّة في أصول الفقه 1 : 235.
2- في « ب » : « يتخيّر ».
3- منها الآية 78 من الإسراء (17).

الإتيان به وببدله ، فلا يكون الفعل واجبا ؛ لأنّ الواجب ما يكون تاركه لا إلى بدل آثما. ويلزم منه تساوي الفعل بالنسبة إلى قبل دخول الوقت وبعده ، وعدم انفصاله عن المندوب (1).

والجواب : أنّ هذا الوجوب لمّا كان وجوبا على التخيير في أجزاء الوقت ، فما لم يتحقّق الترك في جميع أجزائه ، لم يتعلّق به الإثم ؛ لأنّه في المخيّر يتعلّق بترك جميع أفراد الفعل ، والمدرك لبعض الوقت إذا مات فجأة ، لم يترك جميع أفراد الفعل ؛ لأنّه موقوف على إدراك جميعها وهو لم يدركه ، بل بعضها وهو لم يكن متعيّنا عليه ؛ لأنّ الواجب عليه أحد الأفراد لا على التعيين من المجموع ، فما تركه لم يكن واجبا عليه ، وما هو الواجب لم يدركه حتّى يتحقّق الترك.

وممّا ذكر يظهر الفرق بينه وبين الإتيان به قبل الوقت ؛ لأنّه لمّا كان من أحد أفراد الواجب المخيّر ، يسقط به الفرض ، بخلاف الإتيان به قبل الوقت.

وكذا يظهر الفرق بينه وبين المندوب وهو ظاهر.

هذا ، وقيل : العزم على فعل كلّ واجب قبل الإتيان به إجمالا وتفصيلا عند تذكّره من أحكام الإيمان ، فلزوم الإثم على تركه لذلك ، لا لكونه من أحد أفراد الواجب المخيّر (2).

واورد عليه : بأنّ معنى العزم على الفعل قصد الإتيان به ، فإن اريد به القصد المقارن له أعني النيّة ، فوجوبه مسلّم ، لكنّه غير محلّ النزاع ، وإن اريد به القصد غير المقارن ، فلا نسلّم وجوبه ، ولا دليل عليه (3).

أقول : ليس محلّ النزاع حالة الغفلة ؛ لعدم تعلّق التكليف حينئذ ، بل عند التذكّر الإجمالي أو التفصيلي ، ولا شكّ في أنّه إذا لم يتحقّق حينئذ قصد الإتيان بالواجب ، يتحقّق قصد تركه ؛ لعدم خلوّ المكلّف عن أحد هذين القصدين عند التذكّر ، فالمراد من العزم عدم إرادة الترك ؛ لتلازمهما. ولا شبهة في ترتّب الإثم عليه ؛ لأنّه من أحكام الإيمان أي من

ص: 132


1- راجع معالم الدين : 75 - 78.
2- قاله العلاّمة في تهذيب الوصول : 109 ، والشيخ حسن في معالم الدين : 75.
3- راجع : المحصول 2 : 177 ، وقوانين الاصول 1 : 119.

توابعه ومكمّلاته ، لا من لوازمه غير المنفكّة ، وإلاّ لزم خروج المكلّف عن الإيمان عند قصد ترك الواجب ، وهو باطل.

والقول بعدم ترتّب الإثم على إرادة ترك الواجب مناف لأخبار النيّة (1) ، وإن دلّ عليه بعض الظواهر (2) ، فتأمّل.

وقال بعضهم : وجوب العزم على الفعل لأجل توقّف تحقّق التصديق الذي هو الإذعان عليه ، وهو من لوازم الإيمان (3).

وهو كما ترى ؛ لأنّ التصديق لا يتوقّف على إرادة الفعل مطلقا ؛ فإنّ فسّاق المسلمين يذعنون بوجوب الواجبات ، ويصدّقون به ، ولا يريدون فعلها. ولو ثبت التوقّف ، لزم خروج من لم يعزم على فعل واجب - إذا كان وجوبه بديهيّا - عن الإيمان ، وهو باطل.

إذا عرفت ذلك تعلم أنّه لا يجب العزم في الواجبات الموسّعة إذا لم يؤدّها في أوائل الأوقات وأواسطها (4) ، على أنّه من أحد أفراد الواجب المخيّر ، بل إن وجب يكون وجوبه لأجل ما ذكر. فلا فرق في وجوبه حينئذ قبل دخول الوقت وبعده ، ولا بين الواجب الموسّع والمضيّق ، فلا يجب بعد دخول وقت الموسّع عزم لم يجب (5) قبله ، كما هو مذهب القائلين بالعزم (6).

ويتفرّع على وجوب عدم إرادة ترك الواجب ترتّب الإثم على من وطئ زوجته ظانّا أنّها أجنبيّة ، وعلى من قتل قاتل أبيه ظانّا أنّه بريء.

تذنيب

من أدرك وقت الواجب الموسّع وظنّ الموت في أثنائه ، يجب أن يؤدّي الفعل قبل الجزء الذي ظنّ موته فيه ، فلو تركه قبله ومات عصى ؛ لأنّه متعبّد بظنّه وخالف.

ص: 133


1- منها ما في الكافي 2 : 85 ، باب النيّة ، ح 5.
2- المصدر : 428 ، باب من يهمّ بالحسنة والسيّئة ، ح 1 و 2 و 4.
3- قاله المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 1 : 164.
4- في « ب » : « أوسطها ».
5- في « ب » : « ولم يجب ».
6- نسبه الفخر الرازي إلى أكثر المتكلّمين في المحصول 2 : 175.

وإن كذب ظنّه ، وبقي وأتى بالفعل بعد الجزء المذكور ، فالحقّ ترتّب العصيان عليه أيضا ؛ لما ذكر.

وهل فعله حينئذ أداء أو قضاء؟ الصواب أنّه أداء ؛ لصدق تعريفه عليه وعدم اعتبار الظنّ بعد ظهور فساده. وقيل : قضاء ؛ لتعيّن وقته باعتبار الظنّ (1).

وجوابه : أنّ هذا مشروط باستمراره ، ومع ظهور فساده لا عبرة به.

ويجري الأحكام المذكورة في الواجب الذي وقته العمر.

ومن ظنّ السلامة ، أو شكّ بينها (2) وبين الموت ، وأخّر الفعل عن أوّل الوقت فمات فجأة ، لم يكن عاصيا ؛ لأنّ التأخير جائز له ، ولم يحدث مناف له ، وكذا ما وقته العمر.

والفرق بينهما بأنّه لو أخّر الأخير مع ظنّ السلامة فمات فجأة عصى وإن لم يتحقّق الوجوب ، تحكّم.

وكيفيّة التفريع : أنّ من عليه نذر مطلق إذا ظنّ موته في زمان يجب أداؤه قبله ، ومع التأخير يأثم ، وإن أتى به بعده يكون أداء ، ويلزم نيّة الأداء. وإن ظنّ السلامة فمات فجأة ، لم يكن آثما. وقس عليه باقي الواجبات التي وقتها مدّة العمر ، والواجبات الموسّعة.

فصل [13]

اختلف القوم في وجوب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به إذا كان مقدورا - ويعبّر عنه بمقدّمة الواجب - على أربعة أقوال :

الأوّل : الوجوب مطلقا ، ذهب إليه الأكثر.

الثاني : عدمه مطلقا.

الثالث : وجوب السبب دون باقي المقدّمات ، ونسبه الأكثر إلى المرتضى رحمه اللّه (3) ، وستعلم ما فيه.

ص: 134


1- نسبه الآمدي إلى القاضي أبي بكر في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 150.
2- في « ب » : « بينهما ».
3- الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 83. وقال الشيخ حسن في معالم الدين : 60 : « وكلامه في الذريعة والشافي غير مطابق للحكاية ».

الرابع : وجوب الشرط الشرعي دون غيره ، ذهب إليه ابن الحاجب (1).

والحقّ الأوّل.

وقبل الخوض في الاستدلال لا بدّ من بيان امور :

[ الأمر ] الأوّل : ما يتوقّف عليه الواجب إمّا سبب ، أو شرط. وكلّ منهما إمّا عقلي ، أو شرعي ، أو عادي.

فالسبب العقلي كالصعود للكون على السطح ، والضرب بالسيف للقتل. والشرعي غير المقدور عليه كالدلوك لوجوب الظهر ، والمقدور عليه كالصيغة الشرعيّة بالنسبة إلى حصول الملك وإباحة الوطء. والعادي كالإطعام للإشباع.

والشرط العقلي كقطع المسافة للحجّ. والشرعي كالوضوء للصلاة والملك للعتق. والعادي كغسل جزء من الرأس لغسل الوجه.

ولم يتعرّض القوم للعلل الناقصة والمعدّ ورفع المانع وباقي أجزاء العلّة التامّة ، وكأنّهم أدرجوها في الشرط.

وينقسم مقدّمة الواجب باعتبار آخر إلى ما يتوقّف وجود الواجب عليه ، كبعض الأمثلة السابقة من السبب والشرط. وإلى ما يتوقّف صحّته عليه ، كالوضوء للصلاة. وإلى ما يتوقّف العلم بصحّته عليه ، كالصلاة إلى أربع جهات ؛ للعلم بإتيان الصلاة إلى القبلة ، وكالصلاة في كلّ واحد من الثوبين ، الطاهر والنجس ؛ للعلم بإتيان الصلاة في الثوب الطاهر.

وهذا القسم من المقدّمة إمّا أن يكون فعلا ، كما ذكر أو تركا ، كما إذا طلّق واحدة من زوجاته على التعيين ثمّ نسيها ؛ فإنّه يحتمل وجوب ترك الجميع عليه من باب المقدّمة. فلو طلّق واحدة منهنّ من غير تعيين ، فقد اختلف في وقوعه ، فإن قلنا به ، احتمل حينئذ أيضا وجوب ترك الجميع من باب المقدّمة.

[ الأمر ] الثاني : قدماء القوم أطلقوا القول بأنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب (2) ، وقيّد

ص: 135


1- منتهى الوصول : 36.
2- كالغزالي في المستصفى : 57 ، والفخر الرازي في المحصول 2 : 192 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 152 و 153. وفي الذريعة إلى أصول الشريعة للسيّد 1 : 83 : « هل الأمر بالشيء أمر بما لا يتمّ إلاّ به؟ ».

المتأخّرون الواجب بالمطلق (1) ؛ لأنّ مطلق الواجب على قسمين :

أحدهما : المقيّد ، وهو ما كان وجوبه مقيّدا بمقدّمة زائدة على الامور المعتبرة في التكليف ، كالزكاة المتوقّف وجوبها على ملك النصاب ، والحجّ المتوقّف وجوبه على الاستطاعة.

ولا خلاف في عدم وجوب هذه المقدّمة ؛ لأنّه قال الشارع : من ملك النصاب يجب عليه الزكاة ، ومن استطاع يجب عليه الحجّ ، وليس هذا أمرا بتحصيل النصاب والاستطاعة ، بل المراد إن اتّفق ذلك يجب الزكاة والحجّ ، وإن لم يتّفق فلا وجوب ، ولذا قيل : ما ارتكبه القدماء - من عدم التقييد - صحيح (2) ؛ لأنّ غرضهم من الواجب ما هو واجب بالفعل والحقيقة ، والواجب المقيّد قبل اتّفاق مقدّمته ليس كذلك (3).

وثانيهما : الواجب المطلق ، وهو ما أمر به الشارع مطلقا من غير تقييد وجوبه بمقدّمة زائدة ، كالصلاة التي أمر بها في حالة الطهارة والحدث ، ولكنّها تتوقّف على الطهارة ، إلاّ أنّ الطهارة ليست قيدا لوجوبها ، بل هي واجبة وإن لم يتّفق الطهارة. وهذه المقدّمة هي التي وقع فيها الخلاف.

وقد يكون واجب بالنسبة إلى مقدّمة مقيّدا ، وبالنسبة إلى اخرى مطلقا ، كالصلاة بالنسبة إلى البلوغ والطهارة ، فلا يجري الخلاف في الاولى ، ويجري في الثانية.

[ الأمر ] الثالث : وجوب الشيء إمّا عقلي ، وهو لا بدّيّة فعله ، أي العقل يحكم بأنّه لا بدّ من فعله ولا مفرّ منه. وإمّا شرعي ، وهو أن يتعلّق خطاب الشارع به أصالة أو تبعا حتّى لو ترك ترتّب عليه العصيان.

ثمّ الظاهر من كلام الأكثر أنّه لا خلاف في ثبوت الوجوب العقلي لجميع مقدّمات

ص: 136


1- راجع معالم الدين : 60 : « أنّ الأمر بالشيء مطلقا ».
2- أي لا نحتاج إلى قيد الإطلاق ؛ لفهم القيد من كلمة « الواجب » ، فليس معنى العبارة حصر الصحّة في عبارة القدماء. ولو كان الحصر مرادا ، لقال : « هو الصحيح ».
3- قاله الملاّ ميرزا في حاشية معالم الدين : 57. وهو حسن في عبارة « مقدّمة الواجب » لا في « مقدّمة الشيء » ، فإنّه يحتاج إلى القيد.

الواجب ، سواء كانت عقليّة ، أو شرعيّة ، أو عاديّة ؛ بمعنى أنّه لا بدّ من فعلها عقلا في تحصيل الواجب وإن قيل : لم يتعلّق بها خطاب الشارع أصلا وتبعا ، بل تعلّق بذي المقدّمة فقط ، وكان تارك الواجب عاصيا من جهة تركه فقط لا من جهة ترك المقدّمة أيضا (1). فالخلاف إنّما هو في الوجوب الشرعي للمقدّمات ، بمعنى أنّه هل تعلّق بها خطاب الشارع تبعا لخطابه بذي المقدّمة حتّى يكون الخطاب بالعتق خطابا لتحصيل الملك والعتق ، ويكون تاركه تاركا للواجبين ، ويترتّب على كلّ منهما إثم على حدة؟ (2)

هذا ، والظاهر من كلام المرتضى - كما نذكره - عدم الوجوب العقلي أيضا للمقدّمات سوى السبب (3).

والحقّ أنّ ثبوت الوجوب العقلي بديهي عقلي ، ويدلّ عليه جميع الأدلّة الآتية ، وما ذكره رحمه اللّه ستعلم ما فيه.

[ الأمر ] الرابع : المشهور عند القوم عدم الخلاف في بقاء الواجب المطلق على إطلاقه في كلّ حال وإن لم يتّفق مقدّمته ، يعني إذا لم يتّفق الطهارة لا يرتفع وجوب الصلاة ، كما يرتفع وجوب الزكاة عند عدم اتّفاق النصاب.

ويظهر من كلام المرتضى رحمه اللّه اختصاص وجوبه بحال وجود مقدّمته ، وأمّا في حال عدمها فلا يبقى على وجوبه ، بل يكون حينئذ بالنسبة إلى مقدّمته واجبا مقيّدا ، فلا يجب تحصيل مقدّمته ؛ لأنّها من مقدّمات الواجب المقيّد (4).

وحاصل كلامه : أنّ جميع مقدّمات الواجب ليست واجبة ؛ لاحتمال كونها من مقدّمات الواجب المقيّد ، لا أنّها ليست بواجبة مع كونها من مقدّمات الواجب المطلق.

ثمّ لمّا ذهب إلى ذلك ، لزمه الفرق بين السبب والشرط ؛ لأنّه يمكن أن يقيّد وجوب الشيء باتّفاق وجود شرطه ، ولا يمكن تقييد وجوب الشيء بوجود سببه ؛ لأنّ السبب

ص: 137


1- نسبه الشيخ حسن إلى قيل في معالم الدين : 61.
2- راجع المصدر : 60 - 61.
3- الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 83 و 84.
4- راجع المصدر.

مستلزم للمسبّب ، فتقييد وجوبه بوجوده يؤدّي إلى تقييد وجوب الشيء بوجوده وهو محال ؛ فلا يجوز أن يقال - مثلا - : « إذا اتّفق الصعود إلى السطح يجب الكون عليه » ، فلذا حكم بأنّ الأمر بشيء أمر بسببه دون شرطه ، وتفريقه بينهما في هذه الصورة ، لا أنّهما إذا كانا من مقدّمات الواجب المطلق يجب السبب دون الشرط ، كما نسب إليه الأكثر.

واحتجّ السيّد على ما ذهب إليه بأنّ الواجب على قسمين : مطلق ومقيّد ، والثابت بالأوامر مطلق الوجوب وهو غير الوجوب المطلق ؛ لأنّ الأوّل أعمّ من الثاني ، ولا دلالة للعامّ على الخاصّ ، فيحتمله والمقيّد ، فالمتيقّن وجوبه عند وجود المقدّمة ، وأمّا عند عدمها فموضع شكّ (1).

وجوابه : أنّ الأمر إذا ورد بشيء مطلقا ، فالظاهر كونه مطلوبا في جميع الحالات ، إلاّ إذا علم التقييد ، فالأوامر المطلقة تدلّ على الوجوب المطلق ، لا مطلق الوجوب ، ولذا إذا أمر السيّد عبده بالصعود إلى السطح ، لا يصحّ منه الاعتذار بأنّه لم يكلّفني نصب السلّم ، ولم يتّفق وجوده لي ، بل إن لم يصعد واعتذر بذلك مع القدرة على نصب السلّم ، يذمّه العقلاء. فكلّ واجب ورد به أمر وله مقدّمات ، فإن علم بالدليل تقييد وجوبه بمقدّمة منها ، يحكم بأنّه واجب مقيّد بالنسبة إليها ، وإن لم يعلم ذلك ، يحكم بكونه مطلقا بالنسبة إليها ، وهذا هو المعيار في ذلك.

إذا عرفت ذلك ظهر عليك أنّه لا خلاف يعتدّ به في ثبوت الوجوب العقلي لجميع مقدّمات الواجب المطلق في جميع الحالات ، إنّما الخلاف في الوجوب الشرعي لها. والحقّ ثبوته بأجمعها ؛ لوجوه :

منها : أنّا قد بيّنّا في بحث الحسن والقبح (2) أنّ الوجوب والحرمة العقليّين يستلزمان الوجوب والحرمة الشرعيّين.

ومنها : أنّ الأحكام الشرعيّة منوطة بالمصالح ، فكلّ واجب يشتمل على مصلحة ،

ص: 138


1- الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 84 و 85.
2- تقدّم في ص 102 - 103.

ومقدّمته لكونها وسيلة إليه تشتمل على تلك المصلحة بعينها ، فتكون واجبة. ولمّا فهم هذا الاشتمال من الأمر بذي المقدّمة ، فيكون الأمر بها تابعا له.

ومنها : أنّه قد ورد في بعض الآيات والأخبار المدح على فعل مقدّمة الواجب (1) ، وفي بعضها الذمّ على تركها ، وهذا مستلزم لوجوبها.

ومنها : أنّ السيّد إذا أمر عبده بفعل ، وكان قادرا على تحصيل مقدّمته ، فتركه واعتذر في ذلك بفقدها أو عدم وجوبها ، يذمّه العرف. ولا يخفى أنّ ذمّ العرف حقيقة على اعتذاره وإن توجّه على ترك أصل الفعل أيضا.

فاندفع ما قيل في الجواب : إنّ الذمّ يتوجّه على ترك الفعل ، لا على ترك مقدّمته (2).

هذا ، واستدلّ عليه أيضا ؛ بأنّه لو لم يجب المقدّمة مع وجوب ذي المقدّمة ، يلزم التكليف بما لا يطاق ، ومع عدمه يلزم خروج الواجب المطلق عن وجوبه ، واللازمان باطلان (3).

واجيب : بتسليم وجوبه ، وعدم لزوم التكليف بما لا يطاق ؛ فإنّ المحال وجوب الفعل عند عدم وجود مقدّمته ، لا عند عدم وجوبها ؛ فإنّ الإتيان بذي المقدّمة مع عدم وجودها محال ، فيلزم اللازم المذكور. وأمّا مع وجودها ، فيمكن الإتيان به وإن لم تكن واجبة. والمطلوب أنّ وجوبها حينئذ عقلي ، أي لا بدّ من فعلها ، وليس لها وجوب شرعي ، أي تعلّق خطاب الشرع بها بحيث لو تركت ترتّب عليها (4) إثم على حدة. فهذا الدليل ممّا يثبت به الوجوب العقلي لا الشرعي (5).

وقيل عليه أيضا : إنّه لو ورد ما ذكر ، يلزم وروده في صورة وجوب المقدّمة أيضا ؛ لأنّ وجوبها شرعا لا يستلزم وجودها عقلا. فإن عدمت ، فإمّا أن يبقى الفعل واجبا ، أو لا ، فعلى

ص: 139


1- كآية 6 من سورة المائدة (5) : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... ) ، والأحاديث الآمرة بالصلاة إلى أربع جهات عند اشتباه القبلة ، فراجع الفقيه 1 : 1. ح 854 ، والصلاة في الثوبين عند اشتباه الطاهر بالنجس. فراجع : الفقيه 1 : 1. ح 756 ، وتهذيب الأحكام 2 : 225 ، ح 887.
2- أجاب به القمّي في قوانين الاصول 1 : 105.
3- راجع معالم الدين : 62.
4- أي على تركها.
5- راجع معالم الدين : 62.

الأوّل يلزم التكليف بما لا يطاق ، وعلى الثاني خروج الواجب عن وجوبه ، والغرض أنّ وجوب المقدّمة شرعا إنّما هو في صورة كونها مقدورة ، ومع عدم كونها مقدورة لا يتعلّق بها وجوب ، فيلزم أحد الأمرين (1).

فإن قيل في الجواب هنا : قد يتحقّق وجوب الفعل عند عدم مقدّمته ، وليس وجوبه بأن يؤدّى في هذه الحال ، بل عند وجود مقدّمته.

نقول هناك : إذا لم يناف وجوب الفعل عدم وجود ما يتوقّف عليه ، فلا ينافي وجوبه عدم وجوب ما يتوقّف عليه أيضا بطريق أولى.

والحقّ أنّ هذا النقض غير لازم ؛ لأنّه في حال عدم المقدّمة يمكن أن يقال : يسقط الوجوب عن الفعل ؛ لأنّ عدم ما يتوقّف عليه الشيء مستلزم لعدم هذا الشيء ، ووجوب الفعل عند عدم مقدّمته غير مسلّم ، بل هو في هذه الحال يصدق عليه أنّه بحيث يصير واجبا عند وجود مقدّمته ، فليس وجوبه حاليّا ، بل استقباليّا.

واحتجّ المانع مطلقا بوجوه ضعيفة :

منها : أنّه لو وجب مقدّمة الواجب لزم صحّة شبهة الكعبي (2).

وقد عرفت جوابها (3) من غير احتياج إلى منع وجوب مقدّمة الواجب.

ومنها : أنّه قد يأمر أحد غيره بفعل مع غفلة الآمر عمّا يتوقّف عليه هذا الفعل ، فالأمر بفعل إذا لم يستلزم تصوّر ما يتوقّف عليه ، فكيف يدلّ على إيجابه؟! (4)

والجواب : أنّ العلم بلوازم الأفعال غير لازم ، فيمكن أن يكون شيء لازما لأفعالنا مع عدم علمنا به ، مع أنّ هذا يجري فيمن يجوز عليه الغفلة ، وفيما نحن فيه ليس كذلك ؛ لأنّ الآمر هو الشارع للأحكام ، ولا يجوز عليه الغفلة (5).

ص: 140


1- راجع معالم الدين : 61 ، والوافية : 221.
2- وهي إنكار المباح ، راجع ص 121.
3- تقدّم في ص 121 - 122.
4- راجع نهاية السؤل 1 : 197 و 198.
5- في « ب » : « غفلة ».

ومنها : لو وجب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به لافتقر إلى نيّة على حدة (1).

والجواب : أنّ نيّة الواجب تكفي عن نيّة لازمه.

ومنها : أنّه لو وجب لزم ترتّب الإثم على تركه وليس كذلك (2).

والجواب : أنّه لا خلاف في وجوب كلّ واحد من أجزاء الواجب المركّب كالصلاة ؛ فإنّ كلّ واحد من أجزائها واجب وفاقا ، فإذا تركت الصلاة يلزم أن يترتّب على كلّ واحد منها إثم على حدة ، فما تقولون هنا نحن نقول هناك ، فإن التزمتم ترتّب الإثم على ترك كلّ واحد منها ، فإنّا أيضا نلتزم ترتّب الإثم على تركه.

ومنها : أنّه لو وجب لاستحال التصريح بعدم وجوبه ؛ للزوم التناقض (3).

والجواب : أنّ هذا في حكم الاستثناء.

ومنها : أنّ الطلب صريحا لم يتعلّق به ، بل تعلّق بالواجب نفسه (4).

والجواب : أنّ الطلب لا ينحصر في الصريح ، بل يكفي الضمني أيضا. والقول بأنّه لم يوجد هنا واحدة من الدلالات الثلاث واه ؛ فإنّ الالتزاميّة موجودة ، كما لا يخفى على من يعرفها.

فإن قيل : لا بدّ في الالتزاميّة من اللزوم العقلي أو العرفي.

قلت : اللزوم العقلي موجود وإن لم يكن مقصودا للمتكلّم ؛ فإنّ الدلالة التي ليست بصريحة إمّا دلالة اقتضاء ، أو إيماء ، أو إشارة. ودلالة الإشارة هي الالتزاميّة مع عدم كون المعنى الالتزامي في قصد المتكلّم ، كدلالة قوله تعالى : ( وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) (5) مع قوله : ( وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ ) (6) على أنّ أقلّ مدّة الحمل ستّة أشهر ، وما نحن فيه من هذا القبيل.

واستدلّ من خصّ الوجوب بالسبب :

أمّا على نفي وجوب ما عداه ، فبما مرّ (7) ، وبأصالة عدم الوجوب ، وأصالة اتّحاد متعلّق الخطاب.

ص: 141


1- راجع نهاية السؤل 1 : 197 و 198.
2- راجع نهاية السؤل 1 : 197 و 198.
3- راجع : المصدر 1 :2. 211 ، وقوانين الأصول 1 : 99 - 106.
4- راجع : المصدر 1 :2. 211 ، وقوانين الأصول 1 : 99 - 106.
5- الأحقاف (46) : 15.
6- لقمان (31) : 14.
7- مرّ آنفا من أدلّة المنع.

وأمّا على وجوبه ، فبأنّ القدرة تتعلّق حقيقة بالسبب دون المسبّب ؛ لأنّ إيجاد السبب مستلزم لإيجاده ، وبدون إيجاده لا يمكن إيجاده ، فالأمر بالمسبّب أمر حقيقة بالسبب وإن تعلّق ظاهرا به (1).

والجواب عن الجزء الأوّل :

أمّا عمّا مرّ من أدلّة المنع ، فلما عرفت جوابها (2).

وأمّا عن الأصل ، فبأنّ حجّيّته عند عدم الدليل.

وعن الجزء الثاني : فنحن نقول به. ويدلّ عليه - مضافا إلى ما ذكره وذكرنا قبل ذلك - نقل الإجماع ؛ فإنّه نقل جماعة الإجماع على وجوب السبب (3).

واحتجّ ابن الحاجب على عدم وجوب غير الشرط الشرعي بما مرّ (4).

وقد عرفت الحال. وعلى وجوبه : بأنّه لو لم يجب لكان الآتي بالمشروط فقط آتيا بجميع ما امر به ، فيلزم خروجه عن كونه شرطا شرعيّا (5).

واجيب (6) بمنع الشرطيّة (7) ، أي ليس الآتي بالمشروط فقط آتيا بجميع ما امر به ، لأنّ الإتيان بالمشروط بدون الشرط غير صحيح. وليس هذا لكونه واجبا شرعيّا ، بل لكونه ممّا لا بدّ منه شرعا ، كما أنّ الشرط العقلي ممّا لا بدّ منه عقلا. فالفرق بينهما أنّ اللابدّيّة في العقلي عقليّة ، وفي الشرعي شرعيّة ، واللابدّيّة الشرعيّة غير الوجوب ، بناء على مغايرة الحكم الوضعي للشرعي.

وقد عرفت (8) أنّ الحقّ عدم المغايرة بينهما ؛ فاللابدّيّة الشرعيّة مستلزمة للوجوب

ص: 142


1- راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 83 ، وتهذيب الاصول : 110.
2- في ص 140 وما بعدها.
3- كابن الحاجب في منتهى الوصول : 36 و 37 ، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى 1 : 90 و 91 ، والتفتازاني في شرح الشرح كما في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 1 : 200.
4- راجع ص 135.
5- راجع : منتهى الوصول لابن الحاجب : 36 ، وشرح مختصر المنتهى 1 : 90 و 91 ، ونهاية السؤل 1 : 206.
6- أجاب به الأسنوي في نهاية السؤل 1 : 200 و 201.
7- والمراد بها الملازمة.
8- راجع ص 95.

الشرعي (1) إذا كانت في شرط الواجب لا في شرط المندوب أيضا ؛ فإنّ مجرّد الشرطيّة لا يستلزم الوجوب الشرعي ، كما أنّ الوضوء شرط للنافلة وليس بواجب شرعي ، بل الشرطيّة - مع كون الشرط من مقدّمات الواجب - تستلزم الوجوب الشرعي. وقد عرفت (2) أيضا أنّ الوجوب العقلي مستلزم للوجوب الشرعي ، فالفرق تحكّم.

هذا ، واعلم أنّ الشرط الشرعي إمّا أن يتعلّق به صريح أمر آخر سوى ما يفهم من الأمر بالمشروط ، وهو الغالب كالوضوء ، أو لا. ولا خلاف في وجوب الأوّل ؛ لأنّه قسم من الواجب الأصلي - وهو ما تعلّق به الأمر أصالة وصريحا - إلاّ أنّه واجب لغيره ، وقسمه الآخر ما هو واجب لنفسه ، كالصلاة وأمثالها. ولا خلاف في أصل الوجوب الشرعي للواجب الأصلي بقسميه ، وإنّما الخلاف في وجوب مقابله وهو الواجب التبعي ، أي ما فهم إيجابه من إيجاب شيء آخر ، سواء كان له وجوب أصلي أيضا ، أو لا.

فالخلاف في مقدّمة الواجب إن كان في أصل وجوبها ، لم يجز وقوعه في الشرط الشرعي الذي دلّ عليه صريح الأمر ؛ لكونه واجبا وفاقا ، وإن كان في وجوبها التبعي - أي كون إيجاب ذي المقدّمة مستلزما لإيجاب المقدّمة - جاز وقوعه فيه أيضا ، إلاّ أنّ هذا الخلاف فيه عديم الفائدة ؛ لأنّه إذا كان له وجوب أصلي بلا خلاف (3) ، فما الفائدة للخلاف في أنّه هل له وجوب تبعي ، أم لا؟ ولذا قيل : الظاهر من كلام القوم أنّ الخلاف فيما لم يتعلّق به أمر آخر غير ما تعلّق بمشروطه - سواء كان شرطا شرعيّا أو غيره - بأنّه هل يجب تبعا ، أم لا؟ (4)

فإن قلت : الشرط الشرعي لا بدّ من أن يتعلّق به أمر الشارع ؛ لأنّه لا معنى لشرطيّته إلاّ حكم الشارع بأنّه يجب الإتيان به عند الإتيان بمشروطه ، فالشرط الذي لم يتعلّق به هذا الحكم لا يكون شرطا شرعيّا ، فلا يتحقّق الشرط الشرعي الذي لم يتعلّق به صريح الأمر.

ص: 143


1- الاستلزام دليل المغايرة ، فلا يخفى ما في الجمع بين نفي المغايرة وإثبات الاستلزام.
2- راجع ص 103.
3- هذا خبر « أنّه » والضمير في « أنّه » راجع إلى الإيجاب وفي « له » راجع إلى الشرط الشرعي.
4- قاله القاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى 1 : 91 ، والقمّي في قوانين الاصول 1 : 108.

قلت : الشرطيّة من خطاب الوضع ، وهو غير الأمر والإيجاب ، فيمكن أن يجعل الشارع أمرا شرطا لغيره من غير أن يأمر به.

فالشرط إمّا أن يأمر به الشارع ويصرّح بالشرطيّة ، وهو الشرط الشرعي الذي تعلّق به صريح الأمر.

أو يصرّح بالشرطيّة من دون الأمر ، وهو الشرط الشرعي الذي لم يتعلّق به صريح الأمر.

وهذا القسم إن وجب ليس وجوبه من الأمر ، بل من الشرطيّة الشرعيّة ، مع كون الشرط من مقدّمات الواجب.

أو لا يأمر به ولا يصرّح بالشرطيّة أيضا ، ولكن يعلم عقلا أنّ الفعل موقوف عليه وهو الشرط العقلي ، ووجوبه من الشرطيّة العقليّة مع كونه من مقدّمات الواجب.

إذا عرفت ذلك ، فكيفيّة التفريع ظاهرة عليك. والفروع لهذا الأصل كثيرة ، وقد سبق جملة منها.

ومنها : أنّه إذا مات رجل وعليه حجّة واجبة ، فعلى القول بوجوب المقدّمة يجب أن يحجّ عنه عن بلده ، وعلى القول الآخر يجوز أن يحجّ عنه من أيّ موضع اتّفق. وهو المشهور عند أصحابنا (1) ؛ لأدلّة خارجيّة (2).

ثمّ إنّ مقدّمة الواجب إمّا أن لا يكون لها معارض من العقل والنقل ، أو يكون لها ذلك.

فالأوّل لا تأمّل في وجوبه على ما اخترناه ، كدخول جزء من الليل في الصوم ، والإتيان بالصلوات الخمس أو ثلاث - على اختلاف القولين - لمن ترك واحدة ولم يدر بعينها (3).

والثاني يجب فيه الفحص والتفتيش حتّى يظهر الترجيح ، وذلك كالشبهة في موضوع (4) الحكم ، مثل أن يسقط تمرة نجسة بين تمر كثير ولم تتميّز ، أو اشتبه لحم الميّت بالمذبوح ، وأمثال ذلك ، فإنّه يجب حينئذ ترك الجميع من باب المقدّمة ، إلاّ أنّ له معارضا ، وهو أصالة

ص: 144


1- راجع تذكرة الفقهاء 7 : 96 و 97 ، المسألة 67.
2- تهذيب الأحكام 5 : 405 ، ح 1411 و: 415 ، ح 1445.
3- ليس ما ذكر مقدّمة للواجب ، بل مقدّمة للعلم بامتثاله ، ويعرف هذا بالمقدّمة العلميّة لا العينيّة ، والكلام في المقدّمة في الثانية.
4- في « ب » : « موضع ».

الحلّيّة والطهارة حتّى يعرف الحرام والنجس بعينه ، كما دلّ عليه بعض الأخبار (1).

والمشهور بين الفقهاء وجوب الاجتناب عن الجميع لو وقع الشبهة (2) في المحصور عادة ، وعدمه لو وقع في غيره (3). وتأمّل بعضهم (4) في الفرق. ولعلّك تعرف حقيقة الحال بعد ذلك.

وقد يكون وجوب مقدّمة الواجب معتضدا بدليل آخر ، وحينئذ لا شبهة في وجوبها.

وقد يستدلّ بعدم وجوب مقدّمة شيء على عدم وجوبه ، كما يقال : الصلاة في الدار المغصوبة ليست بواجبة ؛ لأنّ الكون فيها من مقدّمات الصلاة فيها وهو ليس بواجب ؛ للنهي عنه ؛ فالصلاة فيها ليست بواجبة ، وإذا لم تكن واجبة تكون باطلة ، وقد يعتضد ذلك بأنّها منهيّ عنها ؛ لكونها مضادّة للخروج المأمور به ، والأمر بالشيء نهي عن ضدّه.

وبالجملة ، في أمثال هذه المواضع يجب الفحص حتّى يظهر الترجيح.

وإذا عرفت حقيقة الحال في مقدّمة الواجب مع كيفيّة التفريع ، تعرف ذلك في مقدّمة الحرام والمستحبّ والمكروه ، ولا يحتاج إلى بيان.

فصل [14]

هل يجوز اتّصاف شيء واحد بحكمين من الأحكام الخمسة ، مثل أن يكون واجبا حراما ، أو واجبا مكروها ، وهكذا؟

والحقّ عدم الجواز مطلقا ، إلاّ أنّ له صورا وقع في بعضها الخلاف ، فلا بدّ من ذكرها وبيان ما هو الحقّ :

[ الصورة ] الأولى : لا خلاف في جواز ذلك في الواحد بالجنس ، بأن يكون شيء جائز

ص: 145


1- منها : ما دلّ على أصالة الحلّيّة كما في الكافي 5 : 313 ، باب النوادر ، ح 39 و 40 ، و: 339 ، باب الجبن ، ح 1 و 2. ومنها : ما دلّ على أصالة الطهارة كما في تهذيب الأحكام 1 : 1. ح 832.
2- كذا في النسختين. والأولى : « المشتبه ».
3- منهم : العاملي في مدارك الأحكام 1 : 107 ، والوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة : 248 ، وراجع الحدائق الناضرة 1 : 148 و 149.
4- ذهب القمّي إلى عدم الفرق فيما لا نصّ فيه وقال في المحصور : « والذي يترجّح في النظر هو عدم الوجوب ». راجع : قوانين الاصول 1 : 4. والحدائق الناضرة 1 : 148.

الاتّصاف بوصفين مفارقين ، فيجب بأحد الاعتبارين ، ويحرم بالاعتبار الآخر مع بقاء وحدته الجنسيّة في الحالين ، كضرب اليتيم تأديبا وظلما ، والسجود لله وللشمس ، ويكون حينئذ بين المأمور به والمنهيّ عنه تباين.

والدليل على جواز ذلك أنّ الفردين من الواحد بالجنس في حكم المتباينين ، وجواز تعلّق الأمر بأحدهما ، والنهي بالآخر في غاية البداهة.

[ الصورة ] الثانية : أن يتعلّق الوجوب والحرمة بالواحد الشخصي في زمان واحد من جهة واحدة ، سواء كان هذه الجهة ذات هذا الشيء أو غيرها ، ويكون حينئذ بين المأمور به والمنهيّ عنه مساواة. ولا يجوز ذلك ؛ لامتناع التكليف بالمحال.

[ الصورة ] الثالثة : أن يتعلّقا به من جهتين متلازمتين ، ويكون حينئذ بين المأمور به والمنهيّ عنه مساواة أيضا ؛ لعدم تصوّر انفكاك إحدى الجهتين عن الاخرى. وهذا أيضا غير جائز ؛ للزوم التكليف بالمحال. وفي هاتين الصورتين إن تعارضت الأدلّة بالأمر والنهي يجب الجمع أو الطرح.

[ الصورة ] الرابعة : أن يتعلّقا به من جهتين بينهما عموم وخصوص مطلقا ، فيتصوّر الانفكاك من إحدى الجهتين دون الاخرى ، ويكون حينئذ بين المأمور به والمنهيّ عنه أيضا عموم وخصوص مطلقا. ولا يجوز ذلك أيضا لما ذكر ؛ لأنّ فعل العامّ مثلا يستلزم فعل الخاصّ مع أنّه لازم الترك ، فالأدلّة إذا تعارضت بالعموم والخصوص ، يجب حمل العامّ على الخاصّ.

وقد ادّعي الوفاق على عدم الجواز في هذه الصورة (1) ، إلاّ أنّ الأدلّة التي ذكروا على الجواز في الصورة الخامسة تجري فيها أيضا ، ولكنّها مدفوعة عنهما معا ، كما ستعرف (2).

ص: 146


1- ادّعاه الشيخ حسن في معالم الدين : 93.
2- يأتي في ص 151.

[ الصورة ] الخامسة : أن يتعلّقا به من جهتين بينهما عموم وخصوص من وجه ، ويكون النسبة بين المأمور به والمنهيّ عنه ذلك ، فيتحقّق الانفكاك من كلّ واحد من الجهتين من وجه ، ويجتمعان أيضا في بعض الموادّ. وحينئذ يتحقّق الوجوب والحرمة في مادّة واحدة باعتبار هاتين الجهتين ، كالصلاة في المكان الغصبي ؛ فإنّ الصلاة مأمور بها ، والغصب منهيّ عنه ، والصلاة في المكان الغصبي فرد لكلّ منهما.

وقد وقع الخلاف في صحّة ذلك ، فالأشاعرة على الصحّة ، وقالوا : إذا أتى المكلّف بما فيه التصادق ، يكون مطيعا عاصيا من جهة الأمر والنهي (1).

والقاضي على أنّه لا يصحّ ذلك ، وإن فعل ذلك كان حراما صرفا (2) ، إلاّ أنّه مسقط للفرض ؛ فإنّه يمكن أن يصير معصية مسقطة للفرض ، كما أنّ من شرب مجنّنا حتّى جنّ يسقط عنه الفرض (3).

وأصحابنا وأكثر المتكلّمين على عدم الصحّة ، وعدم سقوط الفرض به. ولم نجد من أصحابنا مخالفا في ذلك سوى الفضل بن شاذان على ما نقل عنه الكليني في كتاب الطلاق من الكافي بأنّه حكم بصحّة الصلاة في الدار المغصوبة (4).

ويظهر من كلام المرتضى في الذريعة أيضا صحّة الصلاة فيها (5). وربما دلّ كلامه فيها على جواز اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد (6). ونقل عنه الشهيد بأنّه حكم بصحّة الصلاة التي وقعت رياء (7) ، بمعنى سقوط الفرض بها وإن لم يترتّب عليها الثواب. وهذا يدلّ

ص: 147


1- راجع الإحكام في أصول الأحكام 1 : 158.
2- معناه تقديم جانب النهي على الأمر.
3- راجع المحصول 2 : 291.
4- الكافي 6 : 94 ، باب الفرق بين من طلّق على غير السنّة وبين المطلّقة.
5- صرّح السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 191 بعدم الإجزاء. نعم نسب القول بالصحّة إليه الشهيد في الدروس الشرعيّة 1 : 5. وفي البيان : 63.
6- لم نعثر على ذلك في الذريعة بعد الفحص في مظانّه. وقال الشيخ حسن في معالم الدين : 93 : « الحقّ امتناع توجّه الأمر والنهي إلى شيء واحد. ولا نعلم في ذلك مخالفا من أصحابنا » وهذا يشعر بعدم صحّة ما نسب إليه المصنّف.
7- قاله السيّد المرتضى في الانتصار : 100 ، ونقله عنه الشهيد في القواعد والفوائد 1 : 79 ، الفائدة 3.

على جواز اجتماع الوجوب والحرمة في شيء باعتبار جهتين.

ثمّ القائلون بعدم الصحّة قالوا : ما تصادق فيه العمومان يتحقّق فيه بينهما التعارض من وجه ، فيجب أن يخصّص الأضعف بالأقوى.

واحتجّوا على ذلك : بأنّه لا يمكن أن يكون شيء مطلوبا ومبغوضا لأحد ، سيّما للعالم بجميع الجزئيّات ، فكيف يأمر بشيء هو فرد لما نهى عنه؟! (1)

والقول بأنّ جهة المطلوبيّة غير جهة المبغوضيّة ، لا ينفع ؛ لأنّ متعلّق الجهتين واحد ، فيكون شيء واحد مطلوبا ومبغوضا.

وبأنّ العرف كما يفهم التخصيص من الأمر بالخاصّ المطلق بعد النهي عن العامّ المطلق أو بالعكس ، كذلك يفهمه من الأمر بالعامّ من وجه بعد النهي عن عامّ من وجه آخر أو بالعكس ، فالشارع إذا أمر بالصلاة مطلقا ، ونهى عن التصرّف في المكان المغصوب كذلك ، يفهم العرف أنّ المأمور به الصلاة التي وقعت في غير المكان الغصبي ، أو (2) المنهيّ عنه التصرّف الذي [ هو ](3) غير الصلاة ، وتعيّن (4) أحدهما من جهة قوّته بالمؤيّدات الخارجيّة من الأدلّة وعمل الفقهاء.

وهنا (5) رجّح طرف النهي ؛ لكونه أقوى ؛ لاعتضاده بعمل الأصحاب (6) إلاّ ما شذّ (7) ؛ ولأنّ العبادة إذا كانت محتملة للوجوب والحرمة ، يرجّح جانب التحريم ؛ لما ورد من التثبّت والكفّ عند تعارض الأمر والنهي (8) ، وللاستقراء ؛ فإنّه يدلّ على أنّ دأب الشارع في أمثال المقام ترجيح الكفّ ، كصلاة الحائض في أيّام الاستظهار وأمثالها.

ص: 148


1- راجع : المحصول 2 : 291 ، والإحكام في أصول الأحكام 1 : 159 ، ومعالم الدين : 94 ، والوافية : 91.
2- في « ب » : « و ».
3- أضفناه بمقتضى لزوم كون الصلة جملة أو شبهها.
4- في « ب » : « تعيين ».
5- أي في مسألة الصلاة والغصب ونحوها ممّا كان أحد العنوانين عبادة.
6- يعلم ذلك بالمراجعة إلى كتب الفقه.
7- كذا في النسختين. والأولى « إلاّ من شذّ » كما في قوانين الاصول 1 : 153.
8- مثل ما دلّ على ترك الحائض الصلاة أيّام الاستظهار. راجع : الكافي 3 : 8. باب المرأة ترى الدم قبل أيّامها أو بعد طهرها ، ح 2 و 3 ، وتهذيب الأحكام 1 : 171 ، ح 488 ، و 248 ، ح 712 ، و 401 ، ح 1253 ، و 5 : 400 ، ح 1390. وما دلّ على الكفّ عن الوضوء من الماءين : أحدهما نجظ. منها : ما في الكافي 3 : 10 ، باب الوضوء من سؤر الدوابّ والسباع والطير ، ح 6 ، ووسائل الشيعة 1 : 151 و 155 ، أبواب الماء المطلق ، الباب 8 ، ح 2 و 14.

وقيل أيضا : لأنّ دفع المفسدة أهمّ من جلب المنفعة (1).

وهذا إنّما يتمّ فيما يحتمل الندب والحرمة لا الوجوب والحرمة ؛ لأنّ ترك الوجوب أيضا يشتمل على المفسدة.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يبقى كلّ واحد من الأمر والنهي على إطلاقه من غير تخصيص أحدهما بالآخر حتّى إذا أتى المكلّف بما اجتمعا فيه ، استحقّ العقوبة بالنهي وإن كان ممتثلا للأمر ؛ فإنّه لا مانع - لغة وعقلا - أن يقول أحد لغيره : « اكتب ، ولا تكتب في الموضع الفلاني ، ولو كتبت فيه لعاقبتك ولكن حصّلت مطلوبي »؟ ولذا قيل : النهي لا يدلّ على الفساد (2).

قلت : هذا جائز عند التصريح (3) ، وأمّا عند التعارض - كما نحن فيه - فلا يفهم منه إلاّ التخصيص كما ذكر.

احتجّ الخصم بوجهين :

أحدهما : أنّ السيّد إذا أمر عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان مخصوص ثمّ خاطه فيه ، فإنّا نجزم بأنّه مطيع عاص معا من جهتي الأمر والنهي (4).

قيل في الجواب : بالفرق في الموضعين بأنّ الكون في المكان المغصوب جزء من الصلاة ؛ لأنّه عبارة عن شغل الحيّز ، وهو جنس للحركة والسكون ، ولا شكّ في أنّهما جزءان للصلاة ؛ لأنّ من أجزائها القيام والركوع وملاصقة الأرض للسجود وغير ذلك ، فالكون هنا جزء من ماهيّة الصلاة في المكان الغصبي ، وهو منهيّ عنه ، فلو كان الصلاة في المكان الغصبي مأمورا بها ، لكان هو أيضا كذلك ؛ لأنّ الأمر بشيء أمر بأجزائه وفاقا كما علمت.

وأمّا الكون في المكان المخصوص فليس جزءا من الخياطة ؛ لأنّها أمر حاصل من الحركة والسكون ، فهما (5) معدّان لها وليسا جزءين من ماهيّتها ، فالكون المذكور ليس جزءا

ص: 149


1- ذهب إلى الاعتناء بدفع المفاسد الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 217 ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : 167.
2- نقله الفخر الرازي عن أكثر الفقهاء في المحصول 2 : 291.
3- في « ب » : « الصريح ».
4- حكاه الشيخ حسن في معالم الدين : 94.
5- في « ب » : « وهما ».

من الخياطة ، فالأمر بها لا ينافي النهي عنه (1).

والحقّ أنّ هذا الفرق غير مفيد ؛ لأنّ الكون في المكان المخصوص من لوازم الخياطة وإن لم يكن من أجزائها ، ولا معنى للأمر بشيء والنهي عن لوازمه ؛ لأنّ الأمر بالشيء أمر بما لا يتمّ الشيء إلاّ به ، كما عرفت (2).

والجواب (3) : بأنّ ما هو من لوازم الخياطة مطلق الكون ، لا الكون في المكان المخصوص ؛ لأنّ أشخاص الخياطة لا تتبدّل بتبدّل الأمكنة ، بخلاف الصلاة في الدار المغصوبة ؛ فإنّ هذا الكون المخصوص من أجزائها ؛ لأنّ أشخاصها تتبدّل بتبدّل الأمكنة. غير صحيح ؛ لعدم تعقّل الفرق بينهما ، مع أنّه يمكن إيراد (4) مثال كان مساويا لما نحن فيه ضرورة ، وهو أن يأمر السيّد عبده بمقدار معيّن من المشي في كلّ يوم ، ونهاه عن الدخول في موضع خاصّ ، فمشى فيه.

فالحقّ في الجواب أن نمنع (5) حصول الإطاعة مع النهي المذكور ؛ فإنّه يدلّ على أنّ الكون المطلوب في الصلاة غير الكون في المكان المغصوب.

وثانيهما : أنّه لو اتّحد متعلّق الأمر والنهي ، لكان القول بالمنع موجّها ، وأمّا إذا لم يكن كذلك ، فلا يتصوّر منع ، وهنا كذلك ؛ فإنّ متعلّق الأمر مطلق الصلاة ، ومتعلّق النهي مطلق الغصب ، وهما مفهومان متغايران يتعقّل انفكاك كلّ منهما من الآخر ، إلاّ أنّ المكلّف جمعهما في مادّة واحدة مع إمكان عدمه ، وذلك لا يخرجهما عن حقيقتهما ، فهما باقيان على اختلافهما الذاتي ، فيكون متعلّق الأمر طبيعة كلّيّة ، ومتعلّق النهي طبيعة اخرى ، إلاّ أنّهما اجتمعتا في ضمن شخص واحد هو الصلاة في الدار المغصوبة (6).

ص: 150


1- أجاب به الشيخ حسن في معالم الدين : 94.
2- أي في مقدّمة الواجب ، راجع ص 134 ، الفصل 13. واعلم أنّ ما قاله المصنّف في تعليل مدّعاه يتوقّف على كون لازم الشيء - وهو معلوله - مقدّمة له - وهي علّته - وفيه ما لا يخفى.
3- أي الجواب عن احتجاج الخصم.
4- في « ب » : « أن يراد ».
5- في « ب » : « يمنع ».
6- حكاه الشيخ حسن في معالم الدين : 95.

والجواب : أنّ التكليف وإن تعلّق ظاهرا بالطبائع ، إلاّ أنّ تعلّقه حقيقة بالجزئيّات ، فمتعلّق التكليف في الصلاة أفراد الصلاة التي يختارها المكلّف ، وكذا في الغصب. ولا شكّ أنّ كلّ واحد من الأفراد التي يختارها المكلّف شخص (1) بسيط ليس فيه تركيب خارجي ، فالصلاة في الدار المغصوبة شخص بسيط متعلّق الأمر والنهي معا ؛ فإنّ الكون الذي هو جزء الصلاة ومأمور به هو بعينه الغصب الذي تعلّق به النهي ، وليست هذه الصلاة مركّبة من طبيعتين تركّبا خارجيّا يكون أحدهما متعلّق الأمر (2) ، والاخرى متعلّق النهي ، بل التركيب بمجرّد تحليل العقل ، وهو غير مفيد في المقام (3).

ثمّ لا يخفى أنّ ما قال الأشعري هنا (4) يمكن أن يقال بعينه في الصورة الرابعة ، بأن يقال : إذا قال : « أكرم العلماء ولا تكرم زيدا » وكان عالما ، فأكرم زيدا ، يكون مطيعا وعاصيا بالدليلين المذكورين (5).

والجواب الجواب ، إلاّ أنّه قيل : عدم الجواز فيها متّفق عليه كما أشرنا إليه (6). ولعلّ بناء الفرق على أنّ هذه الصورة (7) على قسمين :

أحدهما : ما ينفكّ المنهيّ عنه عن المأمور به دون العكس ، كما إذا نهى عن إكرام العلماء ، وأمر بإكرام زيد وكان عالما.

وثانيهما : ما ينفكّ المأمور به عن المنهيّ عنه دون العكس ، كالمثال الذي ذكر أوّلا من الأمر بإكرام العلماء والنهي عن إكرام زيد ، وكمطلق الصوم وصوم يوم النحر. وفي كلّ منهما متعلّق الأمر والنهي فيه واحد ، أي ماهيّة واحدة ، ولا فرق بين المتعلّقين إلاّ بالإطلاق والتقييد. فيعلم أنّ الغرض حمل المطلق على المقيّد ؛ إذ النهي عن فرد خاصّ - مثلا - دليل

ص: 151


1- في « ب » : « مشخّص ».
2- كذا في النسختين ، والصحيح : « إحداهما متعلّقة الأمر ».
3- أي تحليل العقل لا يمنع عن سراية كلّ من الأمر والنهي إلى متعلّق الآخر.
4- راجع المحصول 2 : 285 - 290.
5- من دون حمل للعامّ على الخاصّ.
6- تقدّم في ص 146.
7- أي الصورة الرابعة.

على أنّ المأمور به ليس هو الماهيّة الكلّيّة ، بل بعض الأفراد ، بخلاف الصورة الخامسة ؛ فإنّ المأمور به فيها ماهيّة ، والمنهيّ عنه ماهيّة اخرى.

والحقّ : عدم الفرق في نفس الأمر بين الصورة الرابعة والخامسة ؛ لأنّه كما يمكن أن يقال في الخامسة : لا امتناع في تعلّق الأمر بالطبيعة الكلّيّة وهي مطلوبة ، والغرض من النهي عدم حصول المنهيّ مقارنا لها ، وإن حصل مقارنا لها كان ممتثلا للأمر ، فلا حاجة إلى تقييد الأمر بغير المنهيّ عنه ، يمكن أن يقال ذلك في الرابعة أيضا بعينه.

وكما يمكن أن يقال في الرابعة بأنّ النهي عن الفرد الخاصّ يدلّ على أنّ المراد بالمأمور به بعض أفراد الطبيعة ، يمكن أن يقال ذلك في الخامسة أيضا بعينه ، إلاّ أنّه يبدّل النهي عن الفرد الخاصّ بالنهي عمّا يتحقّق المأمور به في ضمنه بعض الأوقات. وهذا هو الحقّ. فلا فرق بين ما ينفكّ فيه الجهتان ، وبين ما ينفكّ فيه إحدى الجهتين في عدم جواز الاجتماع.

هذا ؛ واعلم ، أنّ قول القاضي فيما وافقنا - من عدم الصحّة (1) - فلا كلام فيه. وأمّا ما تفرّد به من كونه مسقطا للفرض (2) ، ففساده في غاية الظهور ، غير محتاج إلى البيان.

[ الصورة ] السادسة : أن يتعلّق الوجوب والكراهة بالواحد الشخصي ، كالصلاة في الحمّام وغيره من المواضع المعروفة ، وقد ثبت في الشرع كراهة الصلاة فيها (3) ، وكذا كراهة الصوم في بعض الأزمنة (4) ، ولذا استدلّ الأشعري بثبوتهما على ما ذهب إليه من جواز اجتماع الوجوب والحرمة ؛ لأنّ الأحكام متضادّة ، فإذا جاز اجتماع الوجوب والكراهة ، يجوز اجتماع الوجوب والحرمة أيضا.

وقد اضطرب القوم في تصحيح ذلك ، فقال بعضهم (5) : الكراهة لا تتعلّق بنفس الفعل ، بل بوصفه ، فمتعلّق الكراهة في الصلاة في الحمّام التعرّض للنجاسة ، أو لكشف العورة ، وفي

ص: 152


1- تقدّم في ص 147.
2- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 158 ، والفخر الرازي في المحصول 2 : 290.
3- راجع الكافي 3 : 387 ، باب الصلاة ... في البيع والكنائس والمواضع التي تكره الصلاة فيها.
4- كيوم عرفة إذا أضرّ بالدعاء ، ويوم عاشوراء ، ويوم الأضحى وغيرها. راجع الكافي 4 :4. 148 ، باب الحائض والمستحاضة ، ح 1 - 11.
5- راجع : الإحكام في أصول الأحكام 1 : 162 ، وقوانين الاصول 1 : 143.

جوف الوادي التعرّض للسيل ، وفي جادّة الطريق منع المارّة. وقس عليها أمثالها.

والحقّ : أنّ هذا التوجيه غير صحيح ؛ لأنّه على هذا يرجع الكراهة إلى وصف خارج عن الصلاة ، مع أنّ الظواهر تدلّ على كراهية (1) نفس الصلاة ، كقوله عليه السلام : « يكره الصلاة في الحمّام » (2).

وقيل : المراد من الكراهة كون الفعل أقلّ ثوابا (3).

اورد عليه : بأنّه يلزم على ذلك كون جميع الصلوات (4) مكروهة سوى الصلاة في المسجد الحرام ؛ لأنّ الصلاة في أيّ موضع ومسجد اتّفقت تكون أقلّ ثوابا من الصلاة في المسجد الحرام (5).

واجيب : بأنّ كلّ صلاة لا يشتمل على مرجوحيّة ولا راجحيّة سوى الراجحيّة التي يشتمل عليها أصل الصلاة يتّصف بالإباحة ، كما يقال : الصلاة في البيت مباحة ، بمعنى أنّ الصلاة فيه لا تشتمل على مرجوحيّة ، ولا على مزيّة خارجة عن أصل الصلاة ، وكلّ صلاة يشتمل على مزيّة خارجة - كالصلاة في المساجد - يتّصف بالاستحباب ، بل قد يصل حدّ الوجوب إذا نذر أن يصلّي في مسجد ، وحينئذ يجتمع وجوبان. وكلّ صلاة يشتمل على مرجوحيّة - كالصلاة في الحمّام وأمثاله - يتّصف بالكراهة. والمراد أنّ الصلاة فيه مرجوحة بالنسبة إلى الصلوات (6) المباحة أي أقلّ ثوابا منها ، فالاتّصاف بالاستحباب والكراهة بالنسبة إلى الفرد المباح ، فلا يلزم ما ذكر (7).

أقول : هذا توجيه ليس به كثير بأس ، إلاّ أنّ الأصوب أن يقال : إنّ المراد من كراهة الصلاة في الحمّام وأمثاله أنّ الفعل في نفسه راجح ، إلاّ أنّه مرجوح بالنسبة إلى الأفراد الأخر ، وهي أولى منه ، ولا مانع في كون أحد أفراد الواجب المخيّر مرجوحا بالنسبة إلى

ص: 153


1- في « ب » : « كراهة ».
2- راجع الكافي 3 : 390 ، باب الصلاة في ... المواضع التي تكره الصلاة فيها ، ح 12.
3- راجع قوانين الاصول 1 : 143.
4- في « ب » : « الصلاة ».
5- حكاه القمّي في قوانين الاصول 1 : 143 و 144.
6- في « ب » : « الصلاة ».
7- حكاه القمّي في قوانين الاصول 1 : 143 و 144.

الأفراد الأخر ، كالقصر في المواطن الأربعة (1) ، وصلاة الظهر في يوم الجمعة على المشهور. ويمكن أن يصل المرجوحيّة إلى حدّ يستحقّ اسم الكراهة إلاّ أنّ ذلك بالنسبة إلى غيره ، ولا منع في اتّصاف الفرد المرجوح بأصل الرجحان ؛ لأنّ مرجوحيّته بالنسبة إلى الفرد الذي هو أولى منه ، فراجحيّته حقيقيّة ، ومرجوحيّته إضافيّة ، ولذا سمّاه بعض الاصوليّين خلاف الأولى دون المكروه (2) ؛ لأنّ المكروه أن يكون الفعل في نفسه مرجوحا ، وهذا ليس كذلك ، بل مرجوحيّته (3) بالقياس إلى الغير. فظهر أنّ الوجوب والكراهة لم يتعلّقا بشخص واحد ، فلا يقوم حجّة للأشعري.

وإذا عرفت كيفيّة الحال في الصورة المذكورة ، تعلم كيفيّتها في بواقيها من اجتماع الوجوب مع الاستحباب والإباحة ، واجتماعهما مع الحرمة والكراهة. وبالجملة ، اجتماع كلّ واحد من الخمسة مع كلّ واحد منها. و (4) يتكثّر الأقسام ، سيّما مع إمكان كون الوجوب عينيّا وتخييريّا ، وكذا الحرمة.

والضابط : أنّه لا يجوز اجتماع اثنين منها في الواحد الشخصي مطلقا ، وإلاّ لزم توارد الأضداد على محلّ واحد. مثلا : في صورة توارد الوجوب والكراهة على عبادة نقول (5) : فعل العبادة المكروهة راجح ، بل مانع من النقيض مع اتّصافه بالكراهة المقتضية لرجحان الترك ، ورجحان الفعل لا يجتمع مع رجحان الترك. فكلّ واجب أو مستحبّ تعلّق به نهي تحريمي ، أو تنزيهي في وقت خاصّ أو موضع خاصّ (6) وثبت هذا النهي ، يجب الحكم ببطلانه. وإن ثبت صحّته من جانب الشرع - كالصلاة في الحمّام وأمثاله ، والصيام المكروهة (7) - يجب أن يصحّح بمثل ما ذكرنا.

وكلّ واجب تعلّق به الاستحباب ظاهرا يجب أن يحكم بتغاير محلّهما ، مثلا : قد يكون

ص: 154


1- وهي : المسجد الحرام ، ومسجد النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، ومسجد الكوفة ، والحائر الحسيني عليه السلام.
2- كما في قوانين الاصول 1 : 146 : « سمّاه بعضهم بخلاف الأولى ».
3- في « ب » : « مرجوحيّة ».
4- لم يرد في « ب » : « و ».
5- في « ب » : « يقول ».
6- لم يرد في « ب » : « أو موضع خاصّ ».
7- كذا في النسختين. والمراد الصيام في الأزمنة المكروهة.

بعض أفراد الواجب المخيّر مستحبّا ، كالإتمام في المواطن الأربعة (1). ولا شكّ أنّ الاستحباب مقصور على هذا الفرد ، والوجوب شامل له وللقصر تخييرا ، فالوجوب تخييري والاستحباب عيني ، فاختلف محلّهما ؛ لأنّ محلّ الوجوب أمر كلّي ، ومحلّ الاستحباب فرد شخصي.

إذا عرفت ذلك ، فكيفيّة التفريع أنّ الآيات والأخبار إذا تعارضت بالأمر والنهي في شيء واحد حتّى يتحقّق التساوي بين المأمور به والمنهيّ عنه ، يجب الجمع أو الطرح.

وإذا تعارضت بالعموم والخصوص مطلقا يجب حمل العامّ على الخاصّ مع تقاوم الخاصّ للعامّ ، وإن لم يقاومه يعمل بالعامّ وينطرح (2) الخاصّ.

وإذا تعارضت بالعموم والخصوص من وجه يخصّص الأضعف بالأقوى. مثلا : قوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ) (3) الآية يدلّ على عدم قبول خبر الفاسق في الواجبات والمستحبّات والمكروهات ، وقبول خبر غير الفاسق فيها جميعا. وقوله عليه السلام : « من بلغه شيء من الثواب » (4) إلى آخره وأمثاله يدلّ على قبول خبر الفاسق والعادل في المستحبّات والمكروهات دون الواجبات. فيتحقّق بينهما التعارض بالعموم والخصوص من وجه. فنقول : إنّ الخبر معاضد بأخبار أخر (5) ، وبالشهرة (6) ، وبامور أخر (7) ، فيخصّص الآية (8) به.

وممّا يمكن أن يتفرّع عليه الذبح بآلة مغصوبة في الأضحية والهدي ، والطهارة في المكان المغصوب أو من الإناء المغصوب.

وتأمّل بعضهم (9) في ذلك ؛ نظرا إلى أنّ متعلّق النهي فيها ليس عين متعلّق الأمر ولا جزءا

ص: 155


1- هي : المسجد الحرام ، ومسجد النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، ومسجد الكوفة ، والحائر الحسيني عليه السلام.
2- كذا في النسختين ، والأولى : « يطرح ».
3- الحجرات (49) : 6.
4- المحاسن 1 : 93 ، ح 52 و 53 ، والكافي 2 : 87 ، باب من بلغه ثواب من اللّه على عمل ، ح 1 و 2.
5- راجع المصدر.
6- لأنّ المشهور هو التسامح في أدلّة السنن.
7- منها : أنّ إخراج مادّة الاجتماع من تحت أخبار من بلغ يوجب لغويّتها ، هذا بخلاف العكس.
8- فيصير خبر الفاسق في المستحبّات والمكروهات حجّة.
9- ذهب العلاّمة في قواعد الأحكام 1 : 198 ، والمحقّق الثاني في جامع المقاصد 1 : 192 و 193 إلى بطلان الطهارة في المكان المغصوب ، وصحّتها إذا كانت من الإناء المغصوب.

منه ، بخلاف الكون في الصلاة والماء المغصوب للطهارة ؛ لأنّهما من أركان الفعل ، وليس هذا ببعيد.

نعم ، تتفرّع عليه الفروع المذكورة بالواسطة ؛ لأنّها تتفرّع على أصل أنّ النهي هل يدلّ على الفساد ، أو لا؟ وهو يتفرّع على هذا. وهذا بناء (1) على أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ ، فيكون الطهارة التي هي ضدّ للمأمور به - أعني ردّ الإناء إلى مالكه مثلا - منهيّا عنها ، فتتفرّع على الأصل المذكور المتفرّع على ما نحن فيه.

وإذا عثرت على (2) اجتماع حكمين من الأحكام الخمسة في شيء واحد ، فيجب أن تصحّح بما ذكر ، ولا تحكم بأنّه موصوف بهما معا حتّى يرد الإشكال ، مثلا : إذا نهى الشارع عن الصوم في يوم كذا ، فإن (3) لم يكن صحّته ثابتة يحكم بفساده ، وإن كانت ثابتة نقول : الفعل راجح في نفسه ، ويترتّب عليه الثواب ، إلاّ أنّه مرجوح بالنسبة إلى أفراد أخر.

فصل [15]
اشارة

الواجب إمّا أن يكون قدره معيّنا ، كالصلاة وأمثالها. وإمّا أن لا يكون كذلك ، بل يكون معلّقا على اسم يتفاوت بالزيادة والنقصان ، كمسح مقدّم الرأس في الوضوء ، وقراءة التسبيح في الركوع والسجود ، والتسبيحات الأربع في الركعتين الأخيرتين ، والحلق والتقصير والهدي ؛ فإنّ جميع ذلك معلّق على اسم يتفاوت بالقلّة والكثرة ، فالقدر المتيقّن وجوبه ما يحصل به المسمّى.

وإن زيد عليه ، فهل يقع هذه الزيادة واجبة أو مستحبّة؟ فيه ثلاثة أقوال (4). ثالثها : التفصيل بأنّ الفعل لو وقع دفعة يكون المجموع واجبا ، وإلاّ ما يقع أوّلا ممّا يحصل به المسمّى يكون واجبا ، والزائد يكون نفلا.

ص: 156


1- خبر.
2- لم يرد في « ب » : « على ».
3- في « ب » : « فإذا ».
4- راجع المحصول 2 : 196.

وهو الحقّ ؛ لأنّ الواجب - في أمثال ذلك - المفهوم الكلّي الذي يمكن حصوله في ضمن جزئيّات كثيرة ، فأيّ جزئي حصّله يكون هذا المفهوم في ضمنه ، فيكون واجبا ، سواء كان زائدا أو ناقصا ، فإذا أوقع الفرد الزائد عن المسمّى دفعة يكون واجبا ، وإذا أوقع ما يحصل به المسمّى أوّلا ثمّ أوقع الزائد على التعاقب ، يقع الزائد مستحبّا ؛ لأنّ ما يحصل به المسمّى كان من جملة الأفراد التي كان المفهوم الكلّي في ضمنها ، وبمجرّد حصوله حصل الواجب ، فالزائد لا يتّصف بالوجوب ؛ للأصل.

وما احتجّ به النافي مطلقا (1) - بأنّ الزيادة يجوز تركه لا إلى بدل ، فلا يكون واجبا وإن وقع دفعة - فمردود ؛ لأنّه يجوز أن يكون الواجب التخييري ماهيّة كلّيّة في ضمن أفراد متعدّدة بعضها جزء بعضها ، كالتخيير بين القصر والإتمام. وحينئذ يكون المجموع - الذي هو من جملة الأفراد الزائدة - بدلا عن الأفراد الناقصة ، ويتّصف بالوجوب. وهو ظاهر.

وإذا عرفت ذلك ، فكيفيّة التفريع أنّه إذا وقع الزيادة عن المسمّى في الامور المذكورة دفعة ، يكون المجموع واجبا. وإن وقع ذلك على التعاقب ، يقع المسمّى واجبا والباقي نفلا ، ويكون الثواب في الأوّل أكثر منه في الثاني ؛ نظرا إلى أنّ ثواب الواجب أكثر من [ ثواب ] المستحبّ.

ثمّ لا يخفى أنّ المستحبّ أيضا إذا كان معلّقا على اسم تفاوت بالقلّة والكثرة ، يكون حكمه كما ذكر ، فإذا وقع ما يحصل به المسمّى ثمّ وقع الزيادة على التعاقب ، لا يتّصف هذه الزيادة بالاستحباب ؛ لأنّه حصل بالجزء ، والأصل عدم استحباب الزائد.

نعم ، قد ثبت (2) استحباب الزائد بالدليل ، كاستحباب الزائد عن زوجة واحدة مع تعليق الاستحباب على التزوّج (3). وكذا كلّ حكم علّق على اسم تفاوت بالقلّة والكثرة ، فإن حصل الزيادة مع ما يحصل به المسمّى دفعة ، يحصل الحكم بالمجموع. وإن حصلت بعده ، يحصل

ص: 157


1- أي سواء كان الزائد في ضمن المجموع أم لا فهو غير واجب وهو رأي الفخر الرازي في المحصول 2 : 196.
2- في « ب » : « يثبت ».
3- لم نعثر على دليل استحباب الزائد عن زوجة واحدة.

به ، ولا يكون للزيادة مدخليّة في الحكم ، وذلك كتعليق إحراز نصف الدين (1) وأفضليّة الركعتين على سبعين ركعة (2) على التزوّج.

فائدة

كلّ واحد من الواجب والمستحبّ لا يجزئ عن الآخر ؛ لتغايرهما ، والأصل عدم قيام المغاير للشيء مقامه.

نعم ، قد ثبت (3) بالدليل إجزاء كلّ منهما عن صاحبه في مواضع :

أمّا إجزاء الوجوب عن الندب ، فكإجزاء صلاة الاحتياط عن النافلة لو ظهر عدم الاحتياج إليه ، وإجزاء صوم وقع بنيّة القضاء من رمضان عن الصوم المستحبّ لو ظهر بعده عدم وجوب القضاء عليه.

وأمّا إجزاء الندب عن الوجوب ، فكإجزاء صوم يوم الشكّ عن رمضان ، وإجزاء الوضوء المجدّد لو ظهر أنّه كان محدثا على الأقوى. وقد ذكر مواضع كثيرة وقع في بعضها الخلاف. ويجب أن يكون الأصل عندك عدم الإجزاء حتّى يثبت بالدليل القطعي (4).

ضابطة

ثواب الواجب أعظم من ثواب المستحبّ ؛ لما ورد من « أنّ القدر الذي يمتاز به الواجب هو سبعون درجة » (5). وللخبر القدسي « وما تقرّب إليّ المتقرّبون بمثل أداء ما افترضت عليهم » (6) ؛ ولاشتماله على مصلحة زائدة ، وهذا جار في كلّ واجب ومستحبّ ، إلاّ في مواضع :

ص: 158


1- الكافي 5 : 328 ، باب كراهة العزبة ، ح 2.
2- المصدر ، ح 1.
3- في « ب » : « يثبت ».
4- راجع القواعد والفوائد 1 : 83 ، الفائدة 6.
5- راجع تمهيد القواعد : 61 ، القاعدة 12 ، وذهب إليه ابن خزيمة كما في حاشية ردّ المحتار 1 : 126.
6- الكافي 2 : 352 ، باب من آذى المسلمين ، ح 7 ، ووسائل الشيعة 1 : 104 ، أبواب مقدّمة العبادات ، الباب 23 ، ح 17.

منها : إبراء الدين ، المستحبّ بالنسبة إلى إنظار المعسر ، الواجب (1).

ومنها - على ما ذكر - : ابتداء السلام بالنسبة إلى ردّه (2).

ومنها : الصلاة التي يعيدها المنفرد جماعة ، فإنّها مستحبّة ، ولكنّها أفضل من الصلاة الواجبة التي سبقت (3).

وقد ذكر بعض الأصحاب مواضع أخر (4). ويمكن أن يستخرج مواضع كثيرة على ما يستنبط من الأخبار ؛ فإنّ ردّ السلام من الواجبات ، وزيارة النبيّ والأئمّة من المستحبّات ، ولا شبهة في كون الثاني أعظم ثوابا من الأوّل (5). فتأمّل.

فصل [16]

قد عرفت فيما سبق (6) معنى الصحّة في العبادات وهو (7) موافقة الأمر وامتثاله على المشهور ، ويرادفها الإجزاء.

وأكثر الأصحاب على أنّ الإجزاء والقبول متلازمان ، بمعنى أنّ كلّ عبادة تكون مجزئة تكون مقبولة ، أي يترتّب عليها الثواب. وخالف المرتضى رحمه اللّه وقال بعدم تلازمهما (8). فيمكن أن يوجد الإجزاء من دون القبول ، دون العكس ؛ فإنّه يمكن أن يقع العبادة على الوجه المأمور به بحيث تبرأ ذمّة فاعله (9) ، ويكون مطيعا ، ولكن لم يترتّب عليها الثواب.

ص: 159


1- كما في سورة البقرة (2) : 280. وهي قوله تعالى : ( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) .
2- راجع الكافي 2 : 644 ، باب التسليم ، ح 3 و 8.
3- تهذيب الأحكام 3 : 150 ، 175.
4- راجع القواعد والفوائد 2 : 107 ، القاعدة 185.
5- راجع الكافي 4 : 579 ، باب فضل الزيارات وثوابها ، والأبواب التي بعده. واعلم أنّه ليس في الأخبار المذكورة أنّ زيارتهم عليهم السلام أعظم ثوابا من ردّ السلام ولكن يعلم الإنسان أنّ ما ذكر من الثواب والفضيلة لزيارتهم عليهم السلام لا يكون في ردّ السلام ، ولذا قال المصنّف رحمه اللّه : « يستخرج ويستنبط ».
6- مرّ في ص 108.
7- كذا في النسختين ، والأولى « هي ». بدليل « يرادفها ».
8- راجع : الانتصار : 100 ، واستظهره الشهيد من كلامه في القواعد والفوائد 2 : 97 ، القاعدة 180.
9- كذا في النسختين ، والأولى « فاعلها ».

وأيّد (1) ذلك بكثير من الظواهر : كقوله تعالى : ( إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) (2) ، مع أنّ عبادة غيرهم أيضا مجزئة إجماعا. وقوله تعالى : ( لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ) (3) ، مع أنّ الصدقات الواجبة المتبوعة بهما ليست بباطلة.

وما ورد من أنّ صلاة شارب الخمر إذا سكر لا تقبل أربعين صباحا (4) ، مع أنّ صلاته ليست بفاسدة في هذه المدّة.

وما ورد من أنّ الصلاة لا يقبل منها إلاّ ما أقبل عليه ، فربّما قبل نصفها ، وربّما قبل ثلثها (5) ، مع أنّها بدون الإقبال مجزئة.

وسؤال إبراهيم وإسماعيل التقبّل (6) ، مع أنّ فعلهما كان مجزئا صحيحا.

والجواب عن الجميع : أنّ المراد بالقبول القبول الكامل المشتمل على زيادة الثواب الموعود به ، مع أنّه فسّر « المتّقين » في الآية بالمؤمنين (7) ، وفي بعض الأخبار أنّ المراد منهم الشيعة (8).

وسؤال إبراهيم وإسماعيل يمكن أن يكون للواقع ، يدلّ عليه بعده ( رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ) (9) مع أنّهما كانا مسلمين.

ثمّ الظاهر أنّ السيّد لمّا ذهب إلى أنّ الإجزاء في العبادة ما (10) يوجب سقوط القضاء دون موافقة أمر الشارع ، قال بالفرق بينه وبين القبول ؛ لأنّ سقوط القضاء غير مستلزم للقبول ؛ لما سبق ، فيكون مراده من الإجزاء - المنفكّ عن القبول في الآيات والأخبار المذكورة - ما يلزمه سقوط القضاء.

ص: 160


1- أيّد عدم التلازم الشهيد في القواعد والفوائد 2 : 97 - 99 ، القاعدة 180.
2- المائدة (5) : 27.
3- البقرة (2) : 264.
4- الكافي 6 : 400 ، باب آخر منه ، ح 1 - 6 و 8 - 12.
5- المصدر 3 : 362 ، باب ما يقبل من صلاة الساهي ، ح 1 ، والفروق 2 : 53.
6- إشارة إلى الآية 127 من البقرة (2) وهي قوله تعالى : ( رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا ) .
7- نسبه الطبري في جامع البيان 6 : 123 إلى جماعة من أهل التأويل منهم الضحّاك.
8- انظر الصافي 1 : 92 ، والبرهان 1 : 123 ، ح 310 / 1 ، و 2 : 273 ، ح 3028 / 3. قيّد المعصوم عليه السلام فيه المتّقين بالعارفين ، وفسّر المعصوم عليه السلام المتّقين في أوّل البقرة بالشيعة.
9- البقرة (2) : 128.
10- لم يرد في « ب » : « ما ».

وقد عرفت الجواب.

ويظهر من كلام الشهيد أنّ القبول عنده غير الإجزاء وإن فسّر بموافقة الأمر وامتثاله ، حيث قال - بعد ذكر أنّ القبول عنده غير الإجزاء - : لأنّ المجزئ ما وقع على الوجه المأمور به شرعا ، وبه يخرج عن العهدة ، وتبرأ الذمّة ، ويسمّى فاعله مطيعا ، والقبول ما يترتّب عليه الثواب (1).

والإتيان بالفعل على الوجه المأمور به شرعا هو موافقة الأمر وامتثاله.

وغير خفيّ أنّه لا فرق في الاستدلال بالظواهر المذكورة على مغايرة الإجزاء للقبول والجواب عنه بين تفسير الإجزاء بما يوجب سقوط القضاء ، أو موافقة الأمر ، إلاّ أنّ الحكم بالمغايرة في الصورة الثانية أفحش ؛ لأنّ السيّد إذا أمر عبده بشيء ووعد عليه الإحسان ، ففعل العبد ما أمره به على النحو المأمور به ، وكان موافقا لأمره ، فلم يقبله السيّد وردّه ولم يحسن إليه ، يذمّه العقلاء ، وينسبونه إلى خلاف العدل ، بخلاف ما إذا لم يأت بالفعل على النحو المأمور به وإن أسقط عنه القضاء.

ويرد عليهما (2) : أنّ العبادة التي لم يترتّب عليها الثواب كيف يخرج بها المكلّف عن التكليف؟! بل تكون لاغية عبثا ؛ لأنّ كلّ تكليف يترتّب عليه الثواب والعقاب.

وبعض العرفاء وافق السيّد وقال :

لكلّ عبادة قالب وصورة ، وروح وحقيقة ، فروح الصلاة - مثلا - وحقيقتها هو الإقبال والإخلاص والخشوع والحضور ، فإذا أتى بأفعال الصلاة التي هي قالبها من دون الإتيان بما هو روحها ، يكون ممتثلا لأمر اللّه ، خارجا عن عهدة التكليف ؛ لأنّ تكليفه كان هذا ، ولكن لا يثاب ثواب الصلاة ؛ لأنّه موقوف على إيجاد حقيقة الصلاة وروحها دون قالبها ، فهذه الصلاة من حيث الصورة مجزئة ، فيخرج المكلّف بها عن عهدة التكليف ، ومن حيث الحقيقة غير مجزئة ، فلا يثاب عليها ، فتأمّل فيه (3).

ص: 161


1- القواعد والفوائد 2 : 97 ، القاعدة 180.
2- أي يرد على السيّد المرتضى والشهيد.
3- لم أهتد إلى اسم هذا العارف القائل بعدم التلازم بين الإجزاء والقبول.

ثمّ الحقّ أنّ الإجزاء في العبادة هو موافقة الأمر دون ما يوجب سقوط القضاء ؛ لأنّ القضاء فرض مستأنف يحتاج إلى أمر جديد كما تعلم (1) ، ولو كان الإجزاء ما يوجب (2) سقوط القضاء ، لكان مستلزما لترتّب القضاء على الأداء.

ثمّ إنّ السيّد لمّا فرّق بين الإجزاء والقبول بالنحو المذكور فرّع عليه الحكم بأنّ كلّ عبادة حكم عليها الشارع بعدم القبول لا تكون مقبولة ، ولكن تكون مجزئة ولا تحتاج إلى القضاء ؛ ولذا ذهب إلى أنّ العبادة بنيّة الرياء مجزئة وإن لم يترتّب عليها الثواب ؛ لأنّ الأخبار الواردة في النهي عن الرياء (3) إنّما تدلّ على عدم القبول الموجب للثواب (4).

وأنت تعلم كيفيّة الحال بعد الإحاطة بما حقّقناه.

فصل [17]

الحقّ أنّ العبادات - كالصلاة والصوم وأمثالهما - والعقود - كالبيع والصلح ونحوهما - والإيقاعات - كالنكاح والطلاق وشبههما - لا تطلق حقيقة على الفاسد منها ؛ لأنّ هذه ماهيّات جعليّة موضوعة بإزاء ما بيّنه الواضع ، أعني الفعل الخاصّ المشتمل على الأركان والشرائط المخصوصة ، فلو اختلّ أحدها لا يكون من الموضوع له. ويتفرّع عليه عدم الامتثال والخروج عن العهدة إذا فسدت العبادة ، وعدم ترتّب الأثر على العقود الفاسدة.

وتظهر الفائدة في الأيمان ، والنذور ، وأمثالهما أيضا.

فصل [18]

إذا رفع الوجوب بسبب النسخ أو انتفاء الشرط أو وجود المانع ، فهل يبقى الجواز أم لا؟ قولان. وقبل الخوض في الاستدلال لا بدّ من تقديم مقدّمة يعلم بها تحرير محلّ النزاع ، وهي أنّ الجواز على قسمين :

ص: 162


1- يأتي في ص 168.
2- لم يرد في « ب » : « ما يوجب ».
3- منها ما في الكافي 2 : 222 - 224 ، باب الكتمان ، ح 1 و 10 و 14.
4- راجع الانتصار : 100.

أحدهما : الجواز بالمعنى الأعمّ الذي هو بمعنى مطلق الإذن ، وهو قدر مشترك بين الواجب ، والسنّة ، والإباحة ، والكراهة.

وثانيهما : الجواز بالمعنى الأخصّ وهو استواء الطرفين ، وهذا إمّا أن يكون ثبوته بحكم (1) الشارع وبيانه ، فهو الإباحة الشرعيّة التي هي من الأحكام الخمسة ، أو من العقل فهو الإباحة العقليّة الأصليّة التي تكون هي الأصل في الأشياء والأفعال قبل بيان الشارع.

والوجوب ماهيّة مركّبة من الجواز بالمعنى الأعمّ والمنع من الترك ، والأوّل جنسه ، والثاني فصله ، فالأمر الدالّ على الوجوب يدلّ على جنسه تضمّنا ، وليس الجواز بالمعنى الأخصّ جزءا للوجوب ؛ لأنّه قسيمه ، ولا مدخليّة للإباحة العقليّة للوجوب ؛ لأنّها ليست من أحكام الشرع ، فلا كلام في أنّ كلّ فعل رفع وجوبه يجوز الإقدام عليه ؛ نظرا إلى الإباحة الأصليّة إن كان حكمه قبل الوجوب ذلك. فالخلاف في أنّه إذا رفع الوجوب هل يبقى الجواز بالمعنى الأعمّ الذي هو جزؤه ، أم لا؟

والتحقيق عدم بقائه ؛ لأنّه جنسه ، والمنع من الترك فصله ، والجنس متقوّم بفصله ، فإذا رفع الفصل يرفع الجنس أيضا.

فإن قيل : الجنس محتاج إلى فصل ما ، لا إلى فصل معيّن ، فرفع هذا الفصل - أعني المنع من الترك - مستلزم لرفع الجنس إذا لم يخلفه فصل آخر ، مع أنّ رفع المنع من الترك يقتضي ثبوت الإذن فيه ، فيكون هذا فصلا للجنس المذكور ، فكان أوّلا في ضمن الوجوب ، وثانيا في ضمن الجواز بالمعنى الأخصّ.

قلنا : أمّا أوّلا : فحدوث الفصل الآخر إمّا أن يكون قبل ارتفاع الجنس ، أو معه ، أو بعده. والأوّل غير ممكن ؛ لأنّه متأخّر عن ارتفاع الفصل الأوّل الذي يقارنه ارتفاع الجنس. وعلى الأخيرين يتحقّق ارتفاع الجنس. فإن حدث بعد ذلك ، لا يكون الجواز الذي كان في ضمن الواجب ، ولا يصدق حينئذ أنّه رفع الوجوب وبقي الجواز ، مع أنّه بعد ارتفاع الجنس والفصل لا مقتضي لحدوث هذا الجنس وفصل آخر ، فرجع الأمر حينئذ إلى ما كان

ص: 163


1- في « ب » : « لحكم ».

قبل الوجوب من الإباحة العقليّة أو التحريم.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الجواز الذي كان في ضمن الوجوب لا يمكن أن يتحقّق بعينه في ضمن الإباحة ؛ لأنّ حصص الجنس متفاوتة ، والحصّة الموجودة منه في ضمن نوع غير الحصّة التي في ضمن نوع آخر ، وكلّ فصل علّة للحصّة التي معه ، فتزول بزواله ؛ لأنّ المعلول يزول بزوال علّته (1) ، فإذا ارتفع المنع من الترك ، يرتفع الجواز الذي كان معه ، والجواز الذي يتحقّق مع الإذن فيه غير الجواز المرتفع.

فإن قيل : إذا كان الكلّي الطبيعي موجودا في الخارج - كما هو التحقيق - يلزم أن يكون الجنس الموجود في ضمن أنواعه واحدا ، بمعنى أنّ الجنس الموجود في ضمن هذا النوع هو بعينه الجنس الموجود في ضمن نوع آخر.

قلت : يلزم منه أن يكون واحدا بالمعنى لا بالعدد ، وإلاّ لم يمكن أن يكون الفصول المختلفة عللا له ، والوحدة المعنويّة لا تنافي الاختلاف العدديّ ، فيلزم ما ذكر.

واحتجّ بعض من أنكر البقاء (2) : بأنّ زوال الوجوب الذي هو معلول للأمر مستلزم لزوال الأمر ؛ لاستلزام رفع المعلول لرفع علّته (3) ، فإذا زال الأمر يزول الجواز أيضا ؛ لعدم وجود المقتضي له حينئذ.

واجيب : بأنّ الاستلزام ممنوع ، لأنّ ثبوته مسلّم فيما لو كان الأمر علّة للوجوب مطلقا ، أي من دون شرط عدم طريان الرافع ، وأمّا إذا كان مشروطا به ، فيمكن أن يرتفع الوجوب بدون ارتفاع الأمر ؛ لجواز ارتفاعه بارتفاع شرط تحقّقه (4).

ولا يخفى ما فيه. فتأمّل.

واحتجّ القائل بالبقاء : بأنّ الوجوب ماهيّة مركّبة من الجزءين ، ورفع المركّب قد يتحقّق برفع جميع أجزائه ، وقد يتحقّق برفع بعض أجزائه ، فالرفع أعمّ منهما (5) ، ولا دلالة للعامّ على

ص: 164


1- في « ب » : « العلّة ».
2- منهم الغزالي في المستصفى : 59.
3- استلزام عدم المعلول لعدم العلّة هو في مقام الإثبات دون الثبوت.
4- قاله الشيخ حسن في معالم الدين : 87.
5- في « ب » : « منها ».

الخاصّ ، ففي رفع الوجوب يكفي رفع المنع من الترك الذي هو أحد جزءيه ، ولا يلزم رفع الجواز أيضا (1).

وردّ : بأنّ [ بقاء ] الجواز حينئذ لا يكون محقّق الوقوع ، فلا يثبت مطلوبكم (2).

واجيب : بأنّ الظاهر بقاؤه ؛ لأنّه كان ثابتا أوّلا ؛ لوجود مقتضيه ، والأصل استمراره حتّى يثبت خلافه (3).

وأنت بعد ما علمت من عدم إمكان بقاء الجواز ، تعلم سقوط هذا الجواب مع أصل الاحتجاج.

وإذا علمت ذلك تعلم أنّ الحقّ أنّه إذا ارتفع الوجوب ، يرجع الحكم إلى ما كان عليه قبل ورود الأمر من إباحة ، أو تحريم ، أو غيرهما. ورجوعه إلى الإباحة العقليّة إذا كان قبله عليها لا سترة به. ورجوعه إلى التحريم إنّما يكون في العبادة ؛ لأنّها لمّا كانت توقيفيّة فهي موقوفة على بيان الشارع وأمره ، فإذا أمر بها تكون إمّا واجبة أو مستحبّة ، وإذا رفع الأمر لا يجوز فعلها ؛ لأنّ العبادة لا تكون مباحة ، ولذا لمّا نسخ وجوب التوجّه إلى بيت المقدس ، صار التوجّه إليه حراما. فالعبادة إذا رفع وجوبها لا يمكن أن يرجع (4) إلى الإباحة.

وأمّا غير العبادة ، فيرجع إلى ما كان عليه قبل حكم الشرع من حكم العقل من إباحة ، أو حرمة ، أو غيرهما ؛ فإنّ للعقل في كلّ فعل حكما.

وإن كان قبل الوجوب على حكم من أحكام الشرع ، فهل يرجع بعد رفع الوجوب إلى هذا الحكم الشرعي ، أو إلى الحكم العقلي الذي كان قبله؟ الظاهر الثاني ؛ لأنّ الحكم الشرعي الذي كان قبل الوجوب رفع به (5) ، وبعد رفعه لا يعود ؛ لعدم المقتضي ، فيرجع إلى الحكم العقلي.

ومن التفريعات لهذا الأصل : أنّه إذا كان الإمام عليه السلام ، أو نائبه شرطا لوجوب الجمعة ، ففي

ص: 165


1- راجع معالم الدين : 87.
2- فإنّ مطلوبهم وقوع بقاء الجواز ودليلهم يقتضي إمكان البقاء. راجع المصدر : 89.
3- قاله الشيخ حسن في المصدر.
4- أي يرجع الحكم.
5- في « ب » : « رفع به ومنع ».

زمان الغيبة لا يجوز فعلها على ما اخترناه ، فيبطل التخيير. وقس عليه نظائره.

ثمّ اعلم أنّ بعض القائلين ببقاء الجواز ذهب إلى أنّ الباقي هو المعنى الظاهر من الجواز ، أي الإباحة (1). وقال بعضهم : إنّ الباقي هو الاستحباب (2). وقال بعضهم : الباقي ما يعمّهما (3) والمكروه (4).

ولا يخفى أنّه لو تمّ قولهم كان خير أقوالهم أوسطها ؛ لأنّ الوجوب مركّب من الإذن في الفعل ورجحانه والمنع من الترك ، فإذا رفع الأخير بقي الأوّلان.

[ البحث في أفعال المكلّفين والمكلّف ]

واعلم أنّه لمّا كان البحث في المبادئ الأحكاميّة عن الحكم والحاكم والمحكوم فيه - وهو أفعال المكلّفين - والمحكوم عليه - وهو المكلّف - وقد ذكرنا الأبحاث المتعلّقة بالأوّلين ، فلا بدّ من ذكر الأبحاث المتعلّقة بالأخيرين ، فنذكرها في فصول :

فصل [19]

امتناع التكليف بالمحال ظاهر ؛ لقبحه ، فلا يصدر من الحكيم. ولم يخالف أحد سوى الأشاعرة (5) ، ولهم شبه واهية. ولمّا كان ثبوت المطلوب وضعف شبه المخالفين. وكيفيّة التفريع في غاية الوضوح ، فلا نطيل الكلام بذكرها.

مسألة : لا يشترط في التكليف بفعل حصول الشرط الشرعي له ، ولذا يجب الصلاة على

ص: 166


1- جعله المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 1 : 237 مقتضى كلام صاحب المحصول.
2- نسبه الطرطوشي إلى المالكيّة ، كما في المصدر.
3- في « ب » : « يعمّها ».
4- نسبه المطيعي إلى الأكثر في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 1 : 237.
5- قال الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 179 : « اختلف قول أبي الحسن الأشعري في جواز التكليف بما لا يطاق نفيا وإثباتا ... وميله في أكثر أقواله إلى الجواز ».

المحدث والجنب مع عدم تحقّق شرطها فيهما ، وهو الطهارة. ويجب الصلاة على من لم يتلبّس بالنيّة مع أنّها شرطها. والاستقراء يفيد القطع في ذلك. والسرّ في ذلك ما تقدّم من وجوب تحصيل الشرط للواجب المطلق ، فيجب على المحدث أن يتطهّر ويصلّي.

وقد وقع الخلاف في تكليف الكفّار بفروع الشريعة على أقوال (1) : ثالثها : أنّهم مكلّفون بالنواهي دون الأوامر. ورابعها : أنّ المرتدّ مكلّف دون الكافر الأصلي. وخامسها : أنّهم مكلّفون بما عدا الجهاد.

ثمّ بعض المنكرين قال بعدم الجواز (2) ، وبعضهم قال بعدم الوقوع (3).

والحقّ الجواز والوقوع.

والدليل على الأوّل ، ما ذكرنا أوّلا ؛ فإنّ انتفاء الشرط الشرعي للتكليف - وهو الإيمان - لا ينافي وجوبه كما علمت (4). ولا يتصوّر مانع سواه.

احتجّ الخصم : بأنّه لو صحّ تكليف الكافر ، لأمكن له الامتثال مع أنّه لا يمكن ، أمّا في حالة الكفر ، فظاهر. وأمّا بعده ، فلأنّ الإسلام يجبّ (5) ما قبله ، فيسقط عنه التكليف ، والامتثال فرعه.

والجواب : أنّه ممكن في حال الكفر بأن يسلم ، ثمّ يمتثل التكليف كالمحدث والجنب.

وعلى الثاني ، ما ورد من الأوامر العامّة بالعبادات الشاملة لهم ، كقوله تعالى : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ) (6) ، و ( وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) (7) ، و ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) (8) الآية.

ص: 167


1- راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 75 - 81 ، ومنهاج الاصول المطبوع مع نهاية السؤل 1 : 369 وما بعدها ، وتمهيد القواعد : 76 و 77 ، القاعدة 17.
2- هم من أصحاب الرأي وأبي حامد الإسفرايني. ونسب الآمدي عدم الجواز إلى بعض الثنويّة في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 180.
3- هم من أصحاب الرأي وأبي حامد الإسفرايني. ونسب الآمدي عدم الجواز إلى بعض الثنويّة في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 180.
4- ما مرّ هو انتفاء شرط المكلّف به دون شرط التكليف ، راجع مقدّمة الواجب ، ص 134 ، وأوّل هذه المسألة. والتنافي بين انتفاء شرط التكليف ووجوب العمل واضح.
5- تفسير القمّي 1 : 148.
6- البقرة (2) : 21.
7- يس (36) : 61.
8- آل عمران (3) : 97.

وما ورد من ذمّهم على ترك العبادة ، كقوله تعالى : ( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ ) (1).

وما دلّ من أنّ اللّه يعاقبهم على ترك العبادات ، كقوله تعالى : ( ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) (2) الآية.

احتجّ الخصم : بأنّه لو وقع التكليف لوجب عليهم القضاء (3).

والجواب : أنّ الأمر بالأداء ليس أمرا بالقضاء ، بل هو بأمر جديد ، فلا ملازمة بينهما.

وكيفيّة التفريع : أنّه يحرم علينا إعانة الكفّار بالمحرّم عندنا ، كالخمر ، والخنزير ، والأكل والشرب في نهار رمضان. وعلى القول بعدم تكليفهم لا تحرم. وإذا زنى ذمّيّ ، فيجب عليه الحدّ بمقتضى شرعنا ، أو شرعهم ، والحاكم مخيّر في ذلك. ويتأتّى عدم الوجوب على القول بعدم تكليفهم ، كما ذهب إليه بعض العامّة (4).

فصل [20]

قيل : كلّ مكلّف به لا بدّ أن يكون فعلا ، فالمكلّف به في النهي فعل ضدّ المنهيّ [ عنه ] ؛ فإذا قيل : لا تتحرّك ، فمعناه اسكن ، وليس المراد منه التكليف بترك الحركة ؛ لأنّه عدم ، وكلّ عدم غير مقدور عليه (5).

والأكثر على أنّ المكلّف به في النهي الترك ، إلاّ أنّهم اختلفوا في أنّ المراد منه الكفّ وتوطين النفس عليه حتّى يكون فعلا أيضا ، أو نفي الفعل؟ ذهب إلى كلّ منهما طائفة (6) ؛ فالمذاهب ثلاثة.

وحجّة الأوّل ما ذكر.

ص: 168


1- فصّلت (41) : 6 و 7.
2- المدّثّر (74) : 42 و 43.
3- حكاه الأسنوي في نهاية السؤل 1 : 370.
4- راجع تمهيد القواعد : 77 ، القاعدة 17.
5- نسبه القاضي عضد الدين إلى أكثر المتكلّمين في شرح مختصر المنتهى 1 : 202 ، ويفهم ذلك من العلاّمة في تهذيب الوصول : 111.
6- راجع : المستصفى : 72 ، والمحصول 1 : 350 ، وتهذيب الوصول : 111 ، والتمهيد للإسنوي : 294.

وجوابها : منع عدم القدرة على العدم إذا كان مضافا. وتعرف له زيادة بيان.

هذا ، مع أنّ هذه الحجّة إن تمّت لا تدفع القول الثاني.

وحجّة الثاني وجهان :

أوّلهما : أنّ حمل النهي على أنّ المراد منه إيجاد الضدّ خلاف اللغة والعرف ، فاندفع القول الأوّل. وليس المراد منه نفي الفعل ؛ لأنّه غير مقدور عليه ، والمكلّف به يجب أن يكون ممكن الوقوع من المكلّف (1).

وجوابه : أنّ نفي الفعل لو لم يكن مقدورا عليه ، لم يكن الفعل أيضا كذلك ؛ لأنّ نسبة القدرة إلى الطرفين على السواء.

وردّ : بأنّه عدم كان ثابتا قبل واستمرّ ، ولا يمكن أن يكون أثرا للقدرة ؛ لأنّه لا بدّ لها عقلا من أثر حادث متجدّد (2).

ولا يخفى ما فيه ؛ فإنّ إبقاء الاستمرار وعدم رفعه ممّا يصلح أن يكون متعلّقا للقدرة ، بل هو المكلّف به في النهي ليس إلاّ.

وثانيهما : أنّ المكلّف به في النهي لو كان نفي الفعل ، لزم أن يترتّب عليه الثواب وإن لم يتحقّق الكفّ ؛ لأنّ المكلّف به في الحرام ما يترتّب عليه الثواب ، فيلزم أن يكون تارك الزنى - مثلا - مثابا وإن لم يكفّ نفسه عنه ، كما في صورة عدم القدرة ، أو الشوق ، أو الشعور (3).

وجوابه : أنّ الثواب يترتّب على نفي الفعل ، إلاّ أنّه مشروط بأن يكون مقارنا للشعور والقدرة.

وإذا عرفت عدم تماميّة القولين الأوّلين - بل عدم صحّة القول الأوّل ؛ لما ذكر في حجّة الثاني - تعلم أنّه لا بأس بالقول الثالث ، بل هو الحقّ ؛ لأنّه قد يتحقّق ترك الحرام مع إرادة الفعل عند القدرة ، ولا شكّ أنّه لا يمكن تحقّق الكفّ حينئذ ، فثبت القدرة على نفي الفعل من دون الكفّ.

ص: 169


1- تقدّم تخريجهما آنفا في أوّل البحث ، وأيضا راجع شرح مختصر المنتهى 1 : 202 و 203.
2- تقدّم تخريجهما آنفا في أوّل البحث ، وأيضا راجع شرح مختصر المنتهى 1 : 202 و 203.
3- قاله الأسنوي في نهاية السؤل 2 : 307.

وأيضا لو كان المكلّف به في النهي الكفّ (1) ، يلزم أن لا يترتّب الإثم على ترك الواجب (2) بدون الكفّ (3) ، فمن ترك الصلاة مثلا من دون أن يكفّ نفسه (4) ويوطّنه على الترك ، لا يكون معاقبا وهو باطل.

وأيضا إذا كان المطلوب بالنهي هو الكفّ ، فيكون فعلا واجبا ، فتركه إنّما يتحقّق بالكفّ عنه على ما هو الفرض ، فيترتّب الإثم في الحرام على الكفّ عن الكفّ ، مع أنّ فاعل الحرام لا يجد من نفسه الكفّ عن الكفّ.

وأيضا على تفسير القدرة يدخل عدم الفعل في المقدور ، كما لا يخفى (5).

وكيفيّة التفريع على الخلاف الأوّل : أنّه إذا قال : « إن خالفت أمري ، فأنت عليّ كظهر أمّي » فقال لها : « لا تكلّمي زيدا » فكلّمته ، فعلى القول الأوّل يقع الظهار ؛ لأنّ المراد من قوله : « لا تكلّمي » اسكتي ، فوقع مخالفة الأمر. وعلى القول الثاني لا يقع ؛ لأنّه لم يقع مخالفة الأمر ، بل النهي.

وعلى القول الأوّل يلزم أن يكون النهي عن كلّ شيء أمرا بضدّه ، فإذا كان له ضدّ واحد يتعيّن ، وإن كان له أضداد فيكفي واحد منها. ولا يخفى أنّ ثبوت هذا (6) لا ينافي ما ذهبنا إليه (7) ؛ لأنّ هذا إنّما يكون على سبيل الاستلزام لا العينيّة (8).

ويتفرّع على الثاني (9) أنّه لو حصلت نخامة في فم الصائم ، فتركها حتّى نزلت بنفسها إلى جوفه ، فعلى القول الثاني لا يبطل صومه ، بل إنّما هو في صورة ابتلعها قصدا. وعلى القول الثالث يبطل.

ص: 170


1- في هامش « أ » : « لا النفي ؛ لعدم كونه مقدورا ».
2- في هامش « أ » : « لعدم كونه مقدورا ، ووجوب ترتّب الإثم على المقدور الصادر من المكلّف ».
3- في هامش « أ » : « عن الواجب ».
4- في هامش « أ » : « عن الصلاة ».
5- في هامش « أ » : « إذ القدرة بالنسبة إلى طرفي النقيض متساوية ، ولا شكّ أنّ الفعل مقدور ، فنفي الفعل الذي هو نقيضه أيضا مقدور ».
6- في هامش « أ » : « كما سبق في بحث استلزام كلّ من الأمر والنهي ».
7- في هامش « أ » : « من بطلان القول الأوّل ».
8- في هامش « أ » : « كما يلزم من القول الأوّل ».
9- أي على الخلاف الثاني ، وهو أنّ المراد من الترك هل هو الكفّ ، أو نفي الفعل؟

ولو قال : « لو فعلت ما ليس فيه رضى فعليّ كذا » فترك إحدى الواجبات ، ففيه الوجهان ، وقد عرفت الحقّ.

فصل [21]

الفهم شرط التكليف ، وبه قال أصحابنا وكلّ من أحال تكليف المحال (1) ؛ للزومه لولاه ، ولو لم يكن شرطا له لصحّ تكليف البهائم.

وقد ورد أخبار كثيرة بأنّ التكليف يتوقّف على فهم المكلّف وعلمه (2). ويدلّ عليه بعض الآيات (3) أيضا.

واحتجّ المخالف : بأنّه تعلّق بالصبي والمجنون ضمان ما أتلفاه (4) ، ومع اشتراط التكليف بالفهم لا معنى لضمانهما.

واجيب : بأنّه ليس بتكليف ، بل من الأسباب ، والمكلّف بها الوليّ ، وعلى تقدير تعلّق التكليف بهما - نظرا إلى دخول الحكم الوضعي في الشرعي - لا منع أيضا ؛ لأنّه يجوز التخلّف عن الأصل باعتبار النصّ. ومن ذلك صحّة جميع ما تعلّق بغير المكلّفين من الأحكام الوضعيّة على فرض الثبوت ، كضمان النائم والسكران ما أتلفاه. وقد تقدّم أيضا ما ينفع في المقام (5).

واحتجّ أيضا : بأنّه تعالى خاطب السكران بقوله : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) (6) ، ومخاطبة السكران من باب التكليف بمن لا يعلم (7).

ص: 171


1- كذا في النسختين. والأولى : « التكليف بالمحال ».
2- منها : ما في التوحيد : 410 - 413 ، باب التعريف والبيان والحجّة والهداية ، ح 2 - 4 و 7 - 11 ، ومنها : حديث رفع القلم ، كما في بحار الأنوار 40 : 277 ، ح 41 ، ومنها : حديث الرفع ، كما في الخصال 2 : 417 ، باب التسعة ، ح 9 ، ووسائل الشيعة 15 : 369 ، أبواب جهاد النفس ، الباب 56 ، ح 1.
3- منها : قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) ، الطلاق (65) : 7.
4- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 200.
5- أجاب به الآمدي في المصدر.
6- النساء (4) : 43.
7- راجع الإحكام في أصول الأحكام 1 : 201.

واجيب بوجهين (1) :

أحدهما : أنّ المراد من السكران الثمل ، وهو من ظهر منه مبادئ الطرب وعقله ثابت بعد ، وكثيرا ما يسمّى الثمل سكرا من باب المجاز ؛ لأنّه يؤدّي إليه غالبا ، ولفظة « حتّى » على هذا بمعنى الغاية ، ويكون ما بعدها مؤوّلا ، أي يتكامل فيكم العلم والفهم.

وثانيهما : أنّ المراد منه لا تسكروا وقت الصلاة ، نحو « لا تموتنّ وأنتم كافرون » أي لا تكفروا ، فتموتوا وأنتم كافرون. وعلى هذا لفظة « حتّى » بمعنى كي.

وكيفيّة التفريع : أنّه يحكم بنفي تعلّق الحكم بغير المكلّفين ، كالحكم بنفي الحدّ عن المجنون إذا زنى ، ونفي صحّة تزويج السكرى نفسها ، ونفي صحّة طلاق السكران ؛ وتعلّق الحكم بغير المكلّفين في بعض الموادّ لدليل خارجي ، كوجوب قضاء الصلاة على النائم والسكران.

ثمّ الحقّ اشتراط الفهم في ابتداء الفعل وأثنائه ، فلو زال الفهم في وسط الفعل سقط التكليف ؛ لأنّ الأدلّة تشمل بعمومها أثناء الفعل أيضا ، ولذا لم يفرّق القوم بينهما.

وذكر بعض المتأخّرين : أنّه يظهر من الأدلّة اشتراط الفهم في ابتداء الفعل فقط ، حتّى لو نوى الفعل المتوقّف على النيّة مع الفهم ثمّ زال في أثنائه ، صحّ هذا الفعل (2).

وفرّع عليه صحّة صلاة الساهي عن بعض الأفعال ، وصوم النائم وصوم من أكل سهوا إذا وقع النيّة منهم مع التذكّر (3).

ولا يخفى أنّ إخراج هذه الأشياء من القاعدة لدليل خارجي ، وفي غيرها - ممّا لم يثبت التخلّف بدليل خارجي - يكون الحكم كما ذكرناه. ويتفرّع عليه عدم صحّة صوم المغمى عليه في أثناء اليوم ، وعدم وجوب القضاء عليه.

فصل [22]

اتّفق أكثر العقلاء على امتناع تعلّق التكليف بالمعدوم ، وخالف الأشاعرة وصرّحوا بأنّ

ص: 172


1- راجع الإحكام في أصول الأحكام 1 : 201.
2- راجع تمهيد القواعد : 68 و 2. القاعدة 15.
3- راجع تمهيد القواعد : 68 و 2. القاعدة 15.

المعدوم مكلّف (1). ولا بدّ من تحرير محلّ النزاع ، والإشارة إلى ما هو الحقّ.

فنقول : يتصوّر هاهنا صور :

الأولى : أن يكون المراد من تكليف المعدوم تكليفه تنجيزا ، بأن يطلب منه الفعل في حالة العدم ، ولا ريب في بطلانه ؛ فإنّ الفهم لو كان شرطا للتكليف ، فالوجود أولى بذلك.

والظاهر أنّ الأشعري أيضا لم يقل به.

الثانية : أن يكون المراد منه تكليفه في حالة الوجود ، بأن لا يكون التكاليف الشرعيّة متعلّقة بالمعدوم في حالة عدمه ، بل إذا صار موجودا وحصل فيه شرائط التكليف حدث تعلّقها به ، وعلى هذا لم يتوجّه على المعدوم شيء ، لا تنجيز التكليف ، ولا التعلّق العقلي. وإطلاق تكليف المعدوم على ذلك بناء (2) على أنّه لمّا استمرّ الأمر الأزلي إلى زمان وجوده وصار بعد الوجود داخلا تحته ، فكان للأمر المذكور علاقة ما به في حال عدمه أيضا.

وغير خفيّ أنّ هذا لا ضير فيه ؛ لأنّ بناءه على أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أخبر الموجودين الحاضرين بأنّ كلّ معدوم يوجد ، فيكلّفه اللّه بما كلّفكم ، فالأوامر الإلهيّة لم تتعلّق بالمعدومين مطلقا ، ولكن لمّا علم اللّه أنّه يوجد المعدومين ، فأخبر الأنبياء بأن يخبروا الموجودين بأنّ من يوجد يكون مكلّفا بما يتضمّن هذه الأوامر ، فيحدث تعلّق الأمر بكلّ أحد بعد وجوده بخبر النبيّ. وهذا ممّا نقول به ، ولكنّ الإطلاق المذكور على ذلك غير مناسب ، والتعليل المذكور غير صالح لتصحيحه ، ومراد الأشاعرة أيضا ليس هذا.

الثالثة : أن يكون المراد منه التعلّق العقليّ ، وهو أنّ المعدوم الذي علم اللّه في الأزل أنّه يوجد فيما لا يزال قد تعلّق به التكليف الذي يفعله إذا وجد وحصل فيه شرائط التكليف ، وعلى هذا يتعلّق التكليف بالمعدوم ، إلاّ أنّه ليس تعلّقا تنجيزيّا.

واورد عليه : بأنّ مطلق التعلّق يتوقّف على متعلّق موجود ؛ لأنّ الإضافة تتوقّف على المضاف إليه (3).

ص: 173


1- وممّن صرّح به الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 202.
2- خبر لإطلاق.
3- راجع : المحصول 2 : 255 - 259 ، وتهذيب الوصول : 117 ، والإحكام في أصول الأحكام 1 : 202.

واجيب : بأنّ المتعلّق هو الموجود العلمي ؛ فإنّ ما تعلّق به التكليف وإن كان معدوما في الخارج ، إلاّ أنّه موجود في علم اللّه ، فتعلّق به التكليف تعلّقا علميّا ، وإذا وجد في الخارج يتعلّق به تعلّقا تنجيزيّا. وهذا هو مراد الأشاعرة (1).

واحتجّوا أمّا أوّلا : فبأنّ كلامه أزلي ، وإلاّ لزم قيام الحوادث (2) بذاتها ، ومن جملة كلامه الأمر والنهي ، وكلّ منهما تكليف ، فيكون التكليف أزليّا. ومن اللوازم الذاتيّة للتكليف التعلّق ؛ لعدم تحقّقه بدونه ، فيكون التعلّق أيضا أزليّا ، ولا يتصوّر ذلك إلاّ بأن يتعلّق التكليف بالمعدوم (3).

وغير خفيّ أنّ كون الكلام عندهم أزليّا بناء (4) على ما ذهبوا إليه من إثبات الكلام النفسي ، وهو باطل عندنا ، بل الكلام مؤلّف من الحروف وهو حادث ، وليس قائما بذاته حتّى يلزم ما ذكر. وقد حقّق ذلك في محلّه.

وأمّا ثانيا : فبأنّا مكلّفون بأوامر النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم مع كوننا معدومين في حالة أمره (5).

واجيب : بأنّه يحدث تعلّقها بنا (6) بخبر النبيّ إذا وجدنا كما تقدّم. فكلّ موجود وإن دخل تحت الأوامر الصادرة عند عدمه ، إلاّ أنّ تعلّقها به لم يكن عند عدمه ، بل بعد وجوده ؛ فإنّ الآمر إذا علم وجود شخص فيما بعد ، وأراد في وقت عدمه أن يأمره بشيء عند وجوده ، ولم يكن في غرضه تعلّق الأمر به في حالة عدمه ، يجوز أن يأمره به مطلقا من غير تقييد ، كأمر الرجل ولده الذي أيقن من طريق بأنّه سيولد بتعلّم إحدى الصناعات (7).

هذا ، مع أنّ تعلّق التكليف بالمعدوم لا يترتّب عليه فائدة وإن كان له وجود علمي ، وصدور أمر لم يكن فيه فائدة قبيح من الحكيم.

والقول بأنّه يترتّب عليه الفائدة بعد زمان ، أي حالة وجوده ، وهو كاف لخروجه عن

ص: 174


1- راجع : المحصول 2 : 255 - 259 ، وتهذيب الوصول : 117 ، والإحكام في أصول الأحكام 1 : 202.
2- في « ب » : « الحادث ».
3- راجع : المحصول 2 : 255 - 259 ، وتهذيب الوصول : 117 ، والإحكام في أصول الأحكام 1 : 202.
4- خبر.
5- تقدّم تخريجها آنفا.
6- في « ب » : « بها بناء ».
7- تقدّم تخريجهما آنفا.

القبح مع إمكان ترتّب فائدة على التعلّق في حالة العدم أيضا وإن لم نعلمها (1) ، ضعيف جدّا ، كما لا يخفى.

ثمّ لمّا عرفت أنّ كلامه تعالى ليس أزليّا ، فلا يكون فرق بين أوامره تعالى وخطابات النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم في شمولها للمعدومين وعدمه. وكيفيّة التفريع أيضا في الجميع واحدة.

وقد وقع الخلاف في شمول خطاب اللّه ورسوله صلى اللّه عليه وآله للمعدومين. وللمجوّزين حجج يمكن إجراؤها فيما نحن فيه. وسيجيء تحقيقه مع كيفيّة التفريع.

فصل [23]

الإكراه إذا بلغ حدّ الإلجاء لا يصحّ معه التكليف بأحد الطرفين ؛ لأنّ أحدهما حينئذ واجب الوقوع ، والآخر ممتنع الوقوع ، فلا يبقى معه قدرة على أحدهما ، والتكليف مشروط بها.

ولم يخالف فيه سوى المجوّزين للتكليف بما لا يطاق (2).

وإذا لم يبلغ حدّ الإلجاء ، فالمشهور جواز التكليف بأحد الطرفين ؛ لبقاء القدرة.

وقال المعتزلة : لا يجوز ؛ نظرا إلى أنّ المكلّف به يترتّب عليه الثواب ، أو العقاب ، وفعل المكره لا يترتّب عليه شيء منهما (3) ؛ لأنّه أتى به لأجل الإكراه ، لا لأجل أمر الشارع (4).

والجواب : أنّه إذا اختار نقيض ما اكره عليه ، فلا شبهة في كونه أبلغ في إطاعة أمر الشارع إذا كان (5) مأمورا به منه ، وأبلغ في مخالفة أمره إذا كان (6) منهيّا عنه منه.

وإذا اختار ما اكره عليه ، فيقدر أن يأتي به لأجل أمر الشارع أو نهيه ، فيترتّب عليه الثواب أو العقاب. وهذا كاف للمطلوب (7).

ص: 175


1- تقدّم تخريجها آنفا.
2- هم أبو الحسن الأشعري وأصحابه.
3- في « ب » : « منها ».
4- راجع : المعتمد 1 : 165 ، والتمهيد : 120.
5- ضمير « كان » في الموردين راجع إلى « نقيض ».
6- ضمير « كان » في الموردين راجع إلى « نقيض ».
7- في « ب » : « في المطلوب ».

أقول : وممّا يدلّ على قول المعتزلة قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : « رفع عن أمّتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه » (1) ، فيجب حمل الإكراه فيه على الإلجاء ، أو القول بأنّ الموارد التي بقي فيها التكليف مع الإكراه مخصّصة من القاعدة. وهذا أقوى.

وكيفيّة التفريع : أنّه إذا ألجئ الصائم على الإفطار بأن وجر شيء في حلقه ، أو حبس رجل من الصلاة أو غيرها من الطاعات ، يسقط عنه التكليف ؛ نظرا إلى عدم بقاء القدرة.

وكذا الإلجاء على الزنى ، وإمكانه في حقّ المرأة ظاهر. وأمّا في حقّ الرجل ، فالظاهر كذلك أيضا ، كما لا يخفى.

ولا يباح القتل بالإكراه إذا لم يبلغ حدّ الإلجاء. وإن علم أنّه إذا لم يقتل قتل ، فإذا قتل يجب به القصاص إجماعا ، فهذا مخصّص.

وإذا اكره على إتلاف المال ، لم يتعلّق به شيء ، ويتعلّق الضمان بالآمر.

وفروع هذه القاعدة كثيرة. وحقيقة الحال ظاهرة عليك في جميعها بعد تحقيق الأصل.

والضابط : أنّه لا يترتّب على فعل المكره شيء إلاّ في مواضع مخصوصة : منها ما ذكر.

ومنها : الإكراه على الحدث في الصلاة والطواف ، فإنّه يبطلهما (2). ووقع الخلاف في أنّ الإكراه على فعل المنافي غير الحدث هل يبطل الصلاة ، أم لا؟

ومنها : الإكراه على إعطاء الخمس والزكاة ؛ فإنّه (3) يبرئ الذمّة.

ومنها : الإكراه على الإرضاع ؛ فإنّه ينشر الحرمة.

ومنها : إكراه الحربيّ والمرتدّ عن ملّة ، والمرتدّة مطلقا على الإسلام ؛ فإنّ إسلامهم مقبول حينئذ ، بخلاف الذمّيّ.

ومنها : الإكراه على تولّي الحدّ والقصاص.

وقد ذكر بعض مواضع أخر أيضا (4).

ص: 176


1- سنن ابن ماجة 1 : 659 ، ح 2043 ، والخصال 2 : 417 ، باب التسعة ، ح 9 ، ووسائل الشيعة 15 : 369 ، أبواب جهاد النفس ، الباب 56 ، ح 1.
2- في « ب » : « يبطلها ».
3- في « ب » : « فإنّها ».
4- راجع تمهيد القواعد : 75 و 76 ، القاعدة 17.
فصل [24]
اشارة

الفعل المكلّف به إذا كان مشروطا بشرط ، فإن جهل الآمر انتفاء شرطه ، يصحّ التكليف به (1) إجماعا ، كتكليف السيّد عبده بفعل (2) في غد مع جهله بموته قبله.

وإن علم انتفاءه لم يصحّ التكليف به على الأقوى ، وفاقا لمحقّقي أصحابنا والمعتزلة (3) ، وخلافا للأشاعرة (4). فكلّ فعل مكلّف به في زمان لا بدّ أن يدرك المكلّف مقدارا منه يتمكّن فيه من أدائه ، فإن علم عدم الإدراك سقط الوجوب ، كتكليف زيد بصوم غد مع العلم بموته أو جنونه فيه أو قبله. وإن لم يعلم يجب الشروع فيه ، فإن أدرك جميع الوقت استقرّ الوجوب ، وإلاّ تبيّن (5) سقوطه.

لنا : أنّ الإتيان بالفعل مع عدم شرطه غير ممكن ، فالتكليف به تكليف بما لا يطاق.

وأيضا لو صحّ التكليف مع علم الآمر بانتفاء الشرط ، لصحّ مع علم المأمور به أيضا ، واللازم باطل بالإجماع. وبيان الملازمة ظاهر.

واجيب : بأنّ الأمر كما يحسن لمصلحة في المأمور به ، كذلك (6) قد يحسن في نفس الأمر ، كما إذا أمر السيّد عبده ، أو غيره غيره بفعل للامتحان مع علمه بأنّه يمنعه عن الفعل ، وحينئذ لا يلزم التكليف بما لا يطاق ؛ لأنّه يلزم إذا كان المراد من الأمر فعل المأمور به (7) بانتفاء الشرط ؛ لأنّه لا معنى حينئذ للامتحان (8).

ولا يخفى أنّه لو حسن الأمر لنفسه (9) لا للمأمور به ، لما دلّ مطلق الأمر بشيء على حسن المأمور به ، ولا على وجوب مقدّمته ، ولا على النهي عن ضدّه ، بل توقّف ذلك على ثبوت أنّ

ص: 177


1- لم يرد في « ب » : « التكليف به ».
2- لم يرد في « ب » : « بفعل ».
3- راجع معالم الدين : 82.
4- راجع معالم الدين : 82.
5- في « ب » : « يتبيّن ».
6- لم يرد في « ب » : « كذلك ».
7- في « ب » بعد « به » : « ولا صحّة التكليف مع علم المأمور به ».
8- حكاه الشيخ حسن في معالم الدين : 84 و 85.
9- أي لمصلحة في نفس الأمر لا في المأمور به.

المراد من الأمر فعل المأمور به ، فكان الواجب الفحص عن كلّ أمر حتّى يعلم أنّه من الفرد الذي يستلزم الامور المذكورة أم لا ، مع أنّ القوم يحكمون باستلزام مطلق الأمر للامور المذكورة من غير فحص.

هذا ، مع أنّ صحّة التكليف المذكور مستلزمة للإغراء بالجهل ؛ لأنّ المأمور معتقد حينئذ إرادة الآمر منه الفعل مع أنّه ليس كذلك. والمثال الذي ذكر - لو سلّم حسنه - تمّ في حقّ غير اللّه ؛ لأنّ المطلوب منه تحصيل العلم بحال الغير ، واللّه غنيّ عن ذلك.

احتجّ الخصم : بأنّه لو لم يصحّ التكليف بفعل علم عدم شرطه ، لم يكن تارك كلّ مكلّف به عاصيا ؛ لأنّ من شروطه إرادة المكلّف ، واللّه علم عدم الإرادة منه (1).

والجواب : أنّ المراد من الشرط شرط الواجب المقيّد الذي ليس تحصيله واجبا على المكلّف ، أو شرط الواجب المطلق الذي لم يقدر المكلّف على تحصيله ؛ فإنّه لو علم انتفاء هذين الشرطين في الواقع ، لم يصحّ التكليف.

وأمّا شرط الواجب المطلق الذي كان المكلّف قادرا على تحصيله ، فيصحّ التكليف بمشروطه. والإرادة من هذا القبيل ؛ فإنّ المكلّف يقدر على تحصيلها ، فعدمها من سوء اختياره ، فلا يسقط به التكليف.

ولو كان المراد من الشرط شرط الواجب المطلق الذي أمكن تحصيله ، لم يكن فرق بين هذه المسألة وما تقدّم (2) من أنّ التكليف بالواجب المطلق لا يتوقّف على حصول شرطه.

ولهم بعض أدلّة ضعيفة أخر (3). وجوابها في غاية الظهور ، ولذا لم نتعرّض لها.

وفروع هذه القاعدة كثيرة : كعدم وجوب الكفّارة على من أفطر في نهار رمضان عمدا ثمّ مات ، أو جنّ ، أو مرض ، أو سافر ؛ لأنّ كلاّ منها كاشف عن عدم وجوب الصوم ؛ لانتفاء شرطه.

وكعدم وجوب قضاء الحجّ عمّن أيسر ومات في سنة اليسر قبل التمكّن من الحجّ.

ص: 178


1- حكاه الشيخ حسن في معالم الدين : 84.
2- في ص 166 - 167.
3- راجع معالم الدين : 84.

وعدم نقض تيمّم من وجد الماء ولم يتمكّن من الطهارة.

وعدم وجوب قضاء الصلاة على من أدرك الوقت ومات ، أو جنّ ، أو حاضت ، أو نفست قبل مضيّ وقت يسع فعل الصلاة.

فائدة

فائدة (1)

قد تقدّم (2) أنّ الفهم والعلم شرط التكليف ، ولذا لا يتعلّق بالساهي والغافل وغير العاقل وأمثالهم. وربما يتراءى تنافيه لما ذكر القوم من تعلّق التكليف بالجاهل وعدم معذوريّته إلاّ في مواضع مخصوصة ؛ لأنّ العلم إن كان شرطا في التكليف لزم عدم تعلّقه بالجاهل أيضا ، وإن لم يكن شرطا له لزم تعلّقه بالساهي وغير العاقل وأمثالهما أيضا (3).

والحقّ عدم المنافاة ؛ لأنّ سقوط التكليف عنهم بناء (4) على فقدانهم العلم ، وعدم تمكّنهم من تحصيله أيضا. فلو كلّفوا مع ذلك يلزم التكليف بما لا يطاق ، ولذا حكموا بسقوط التكليف فيما لا نصّ فيه ، وصرّحوا فيه بالإباحة ؛ لأنّ التكليف به مع عدم إمكان تحصيل العلم به من الأدلّة تكليف بما لا يطاق.

وأمّا تكليف الجاهل فليس تكليفا بما لا يطاق ؛ لأنّ عدم علمه باعتبار تقصيره ؛ فإنّه كان متمكّنا من تحصيله فقصّر ولم يحصّله ؛ فإنّ كلّ مكلّف يعلم أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله أتى بواجبات ومحرّمات كلّف بها كلّ مكلّف ، ومكّنه اللّه من العلم بها ، فلو سامح ولم يحصّلها يكون عاصيا باعتبار التقصير.

فمثله مثل عبد أعطاه سيّده طومارا مطويّا فيه بعض الأوامر ، وقال له : يلزم عليك أن تفتحه وتقرأه وتعمل بجميع ما فيه ، وكان العبد متمكّنا من قراءته إمّا بنفسه أو بإعانة الغير ، فلو لم يعمل به متعذّرا بعدم العلم به عدّ عاصيا.

ومثل غير العاقل والساهي ومن لم يصل إليه دليل الحكم بعد الفحص التامّ ، مثل عبد

ص: 179


1- في « ب » : « قاعدة ».
2- تقدّم في ص 171 ، الفصل 21.
3- للمزيد راجع معالم الدين : 82.
4- خبر.

أعطاه سيّده الطومار المطويّ في موضع لم يقدر على قراءته بوجه ، أو كتب الطومار ولم يعطه ، فلا يتوجّه عليه ذمّ باعتبار عدم العمل.

وما ذكر إنّما يجري في الجاهل في نفس الحكم الشرعي ، كالجاهل ببطلان الصلاة في المكان المغصوب. وأمّا الجاهل في موضوعه - كالجاهل بأنّ هذا المكان مغصوب - فلا يجري فيه ما ذكر ؛ لأنّ الأوّل علم أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم جاء ببعض الأحكام وعلمها إجمالا ، ويتمكّن من تعلّمها تفصيلا ، وذمّته مشغولة بالعمل بها يقينا ، فيجب عليه تعلّمها والعمل بها ؛ لأنّ شغل الذمّة اليقينيّ محتاج إلى البراءة اليقينيّة.

وأمّا الثاني ، فلا يجب عليه الفحص عن كلّ مكان مثلا بأنّه مغصوب أم لا ، ولا عن كلّ طعام بأنّه نجس أم لا ؛ لأنّ الأصل عدم الغصب والنجاسة. وكذا الحكم في جميع موضوعات الأحكام. ولذا ترى العلماء يفرّقون في الأكثر بين الجهل في نفس الحكم وموضوعه.

وممّا ذكر علم أنّه يجب على كلّ مكلّف تعلّم ما يجب عليه وما يحرم عليه من الأحكام المتعلّقة بالعبادات والمعاملات بشرط التمكّن ، فلو لم يتمكّن - كالمستضعف وأمثاله ممّن يستحيل عادة أن يفهمها ومع ذلك بذل جهده - فهو معذور ، وكذا الحكم فيمن لم يتمكّن من الوصول إلى العلماء بعد بذل جهده ، ولو تمكّن من أخذ بعضها ، يجب عليه أخذه دون البعض الآخر.

ثمّ إنّ كيفيّة أخذ الأحكام تظهر فيما بعد. وكيفيّة التفريع واضحة.

ص: 180

المبحث الثاني : في الأدلّة الشرعيّة - أعني الكتاب ، والسنّة ، والإجماع - والأدلّة العقليّة

اشارة

وأمّا القياس ، فله أقسام ، بعضها ليس حجّة عندنا وفاقا ، وبعضها حجّة عند بعض أصحابنا. فلا بدّ لنا من بيانه ، وإبطال الباطل وإحقاق الحقّ.

فهنا أبواب :

ص: 181

ص: 182

الباب الأوّل : في الكتاب

اشارة

وفيه فصول :

فصل [1]
اشارة

الكتاب لغة (1) يتناول كلّ مكتوب ، وخصّ شرعا بالقرآن. وقد عرّف القرآن بتعريفات لا يتمّ واحد منها :

منها : أنّه كلام منزل للإعجاز بسورة منه (2).

والإيراد عليه بوجوه :

الأوّل : أنّه دوريّ ؛ لأنّ القرآن مأخوذ في تعريف السورة ، كما يجيء (3).

الثاني : أنّه ليس تعريفا بالحدّ ولا بالرسم ؛ لأنّ الأوّل يكون بالأجزاء ، والثاني باللوازم البيّنة ، وكونه للإعجاز ليس كذلك.

الثالث : أنّه لا يتناول البعض ؛ لأنّ لفظة « من » للتبعيض ، والضمير عائد إلى الكلام ، و « منه » في موضع الحال ، وقوله : « بسورة » يفيد العموم ، كما هو شأن كلّ نكرة مقارنة للوحدة وإن كانت في سياق الإثبات ، كقولهم : « تمرة خير من جرادة » فيصير المعنى أنّه كلام (4) منزل للإعجاز بكلّ سورة حال كون كلّ سورة جزءا من هذا الكلام » والكلام الذي كلّ

ص: 183


1- المصباح المنير : 524 ، « ك ت ب ».
2- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 45 ، ومختصر المنتهى : 109.
3- في « ب » : « سيجيء ». وسيجيء في ص 186.
4- في « ب » : « كلامه ».

سورة جزء منه هو مجموع القرآن دون أبعاضه. فعلى هذا لا يكون القرآن صادقا على بعضه ، وهو لا يلائم غرض الاصولي ؛ لأنّه إذا قال : دليل هذا الحكم القرآن ، إنّما يريد منه بعضه.

ويمكن أن يدفع ذلك بتقدير مضاف (1) ، بأن اريد « بسورة من جنسه » في العلوّ والبلاغة ، وحينئذ يصير المعنى أنّ كلّ سورة من جنس هذا الكلام.

ولا يخفى أنّه يصدق على كلّ بعض « أنّ كلّ سورة من جنسه في البلاغة والعلوّ » فيكون القرآن اسما لمفهوم كلّي صادق على المجموع ، وعلى كلّ بعض منه ، إلاّ أنّ هذا خلاف الظاهر ، والاجتناب عن أمثاله في الحدود لازم.

ومنها : أنّه ما نقل بين دفّتي المصحف تواترا (2).

وهو أيضا دوريّ ؛ لأنّ معرفة المصحف تتوقّف على معرفة القرآن ؛ لأنّه ما كتب فيه القرآن ، ولو لم يتميّز المصحف عن سائر الكتب بكتابة القرآن فيه ، لصدق التعريف على سائر الصحف أيضا.

ويرد عليه الإيراد الثاني (3) أيضا ؛ لأنّ النقل المذكور ليس من أجزاء القرآن ، ولا من لوازمه البيّنة.

ومنها : أنّه كلام لا يصحّ الصلاة بدون تلاوة بعضه (4).

ويرد عليه الإيراد الثالث (5) ، وينتقض طردا بمثل التشهّد.

ومنها : أنّه كلام يحرم مسّ خطّه محدثا (6).

ومنها : أنّه كلام بعض نوعه معجز ، أو كلام اللّه المنزل للإعجاز (7).

ويرد على هذه الثلاثة الإيراد الثاني ، مع أنّه يرد على الأوّل ، أنّ حرمة المسّ ممّا وقع فيه الخلاف.

قيل : الحقّ أنّ هذه التعريفات لفظيّة ، والمراد منها تصوير مفهوم اسم القرآن بذكر

ص: 184


1- والمراد المضاف إلى الضمير في « منه » والمضاف هو لفظ « جنس ».
2- قاله الغزالي في المستصفى : 81 ، ونسبه القاضي عضد الدين إلى قوم في شرح مختصر المنتهى 1 : 109.
3- راجع المصدر.
4- راجع المصدر.
5- راجع المصدر.
6- قاله المطيعي في سلّم الوصول ، المطبوع مع نهاية السؤل 2 : 3.
7- قاله الأسنوي في نهاية السؤل 2 : 3.

بعض أحكامه العارضة ، وليس المراد منها التحديد ولا التمييز ، وحينئذ تكون التعريفات بأجمعها صحيحة ؛ لعدم اعتبار الانعكاس والاطّراد ، وكونه بالجزء أو اللازم البيّن في التعريف اللفظي (1).

أقول : يمكن تصحيح التعريف الآخر بأن يقال : الإنزال للإعجاز لا يصدق على غير القرآن ، فلا يصدق على سائر المعجزات حقيقة بأنّها معجزات منزلة ، فالإنزال للإعجاز بيّن الثبوت للقرآن ، بيّن الانتفاء عن غيره ، فلا ينتقض التعريف.

ولو لا وقوع الخلاف في حرمة مسّ القرآن ومسّ غيره من أسماء اللّه وأنبيائه ، لأمكن تصحيح التعريف الرابع أيضا بنحو ما ذكر ، فالصواب هو التعريف الأخير ، ويدخل فيه كلّ بعض من القرآن وإن كان نحو « قل » و « افعل » ؛ فإنّه من حيث الجزئيّة ، واعتباره مع السابق واللاحق يكون منزلا للإعجاز ، ويصدق عليه القرآن ، ولذا يحرم مسّه على القول بحرمة مسّ القرآن.

ويتفرّع عليه أيضا ثبوت جميع الأحكام اللازمة للقرآن لكلّ بعض منه.

ويظهر الفائدة أيضا في الأيمان ، والتعليقات ، وأمثالهما.

ثمّ إنّه قيل لتأييد أنّ هذه التعريفات لفظيّة : إنّ القرآن اسم علم شخصي ، فلا يعرّف ؛ لأنّ التعريف إنّما يكون للحقائق الكلّيّة دون الأعلام الشخصيّة (2).

أقول : بناء هذا القائل على أنّ القرآن اسم لهذا المؤلّف الحادث القائم بأوّل محلّ أوجده اللّه فيه ، والقائم بالمحالّ الآخر ليس عينه ، بل مثله ، فيكون القرآن شخصا واحدا. وهذا مذهب ضعيف.

والتحقيق : أنّه اسم لهذا المؤلّف من دون تعيين المحلّ ، فيكون مفهوما كلّيّا صادقا على ما ثبت في أيّ محلّ كان ، سواء كان ذوات الملائكة ، أو صدور الحفّاظ ، أو متون الصحف ، أو غير ذلك. ولو لا ذلك لم يصدق القرآن حقيقة على ما يقرأه القرّاء وما ثبت في الصحف ،

ص: 185


1- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 45 ، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى 1 : 109 ، وراجع : الإحكام في أصول الأحكام 1 : 211 و 212 ، وذكرى الشيعة 1 : 44 و 45 ، وإرشاد الفحول 1 : 85 و 86.
2- قاله القاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى 1 : 109.

ويلزم منه عدم ترتّب الأحكام الثابتة للقرآن عليه (1) ، وهو واه.

تتمّة

عرّف السورة بأنّها البعض المترجم أوّله وآخره توقيفا (2).

واورد عليه : بأنّه يدخل فيه الآية ؛ إذ لا معنى للمترجم إلاّ المبيّن ، وبيان أوّل الآية وآخرها بالتوقيف (3).

وقيل : هي طائفة من القرآن مصدّرة بالبسملة ، أو البراءة (4).

ونقض طرده بالآية التي بعد البسملة والبراءة. فاضيف إليه « متّصل آخرها بالبسملة ، أو البراءة » فنقض عكسه بالسورة الأخيرة. فاضيف إليه « أو غير متّصل بشيء منهما » (5) فنقض طرده بسورتين (6) وببعض سورة النمل.

وقيل : هي الطائفة المترجمة ، أي المسمّاة باسم خاصّ (7).

ونقض طرده بآية الكرسيّ (8) ، وآية المباهلة (9) ، والمداينة(10).

واجيب : بأنّ المراد من التسمية تسمية الشارع ، ولم يثبت تسمية الآيات المذكورة من الشارع ، بل يجوز أن تكون من النبيّ أو غيره ، بخلاف تسمية السور ؛ فإنّها من اللّه تعالى.

والأولى أن يراد من الترجمة ما يكتب في عنوان السور بالحمرة ؛ فإنّ الترجمة قد تطلق

ص: 186


1- راجع المصدر.
2- قاله القاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى 1 : 109.
3- راجع المصدر.
4- راجع المصدر.
5- في هامش « أ » : الظاهر سقوط لفظة « منهما » إذ معها يبقى نقض الطرد بحاله ؛ لأنّه يصدق على صدور السور أنّه طائفة من القرآن مصدّرة بالبسملة ، وآخره غير متّصل بشيء من البسملة وبراءة. أمّا لو اسقطت لفظة « منهما » ، لم يصدق عليه ؛ فإنّ آخره متّصل بشيء وهو آية اخرى. ولا بدّ من زيادة لفظة « فيه » بعد « متّصل » حتّى لا يخرج السورة الأخيرة لو اتّصل آخره بالتأريخ ؛ إذ التأريخ ليس من القرآن. « نصرآبادي ».
6- والمراد بهما سورتا « والضحى » و « ألم نشرح » وسورتا « الفيل » و « لإيلاف قريش ».
7- نسبه السيوطي إلى غير الجعبريّ في الإتقان 1 : 52.
8- البقرة (2) : 255. وهي قوله تعالى : ( اللّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ .... )
9- آل عمران (3) : 61. وهي قوله تعالى : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ .... )
10- البقرة (2) : 282. وهي قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ .... )

على ما يكتب في عنوان المكاتيب من اسم المرسل إليه وأمثاله.

ولو أريد التخلّص عن هذا التوجيه أيضا ، فيجب أن تعرّف ب- « أنّها طائفة من القرآن يكتب ترجمتها في عنوانها بالحمرة » وحينئذ لا يرد عليه نقض ، ولا يحتاج إلى تكلّف التوجيه.

ووحدة سورة « والضحى » و « ألم نشرح » وكذا « الفيل » و « لإيلاف » - على ما ذهب إليه جماعة من الأصحاب (1) - لم تثبت. والأخبار (2) التي استدلّوا بها عليها غير دالّة على مطلوبهم ، وبعض الأخبار (3) يدلّ صريحا على التعدّد.

فصل [2]
اشارة

القرآن متواتر ؛ لتوفّر الدواعي على نقله ؛ لكونه من اصول الأحكام (4) ، ومتحدّى به للإعجاز ، وما هو شأنه ذلك يجب أن يتكثّر فيه النقل إلى أن يتواتر ، فما لم يتواتر ليس بقرآن.

والبسملة في كلّ سورة جزء منها عندنا ؛ للإجماع ، والأخبار المتظافرة (5) ، وكونها مكتوبة بلون خطّ القرآن ، كسائر الآيات المتكرّرة نحو ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) (6) و ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) (7) و ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) (8) مع مبالغة الصدر الأوّل بتجريد القرآن عمّا سواه.

وخالف أكثر العامّة ، وحكموا بأنّها ليست من القرآن في أوّل سورة ، مع أنّه روي في

ص: 187


1- منهم : الشيخ في التبيان 10 : 371 ، والعلاّمة في قواعد الأحكام 1 : 273 ، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد 2 : 262.
2- منها : صحيحة زيد الشحّام ، المرويّة في تهذيب الأحكام 2 : 72 ، ح 266 ، ورواية مفضّل ، المرويّة في مجمع البيان 10 : 544 ، ورواية أبي العبّاس عن أحدهما عليهما السلام ، المرويّة في مجمع البيان 10 : 544.
3- وهي رواية مفضّل ، المرويّة في مجمع البيان 10 : 544. وجه الدلالة على التعدّد أنّ الاستثناء فيها متّصل ، واستثناء عن سورتين « لا تجمع بين سورتين في ركعة واحدة إلاّ الضحى وأ لم نشرح ، وسورة الفيل ولإيلاف قريش ».
4- في « ب » : « الكلام ».
5- راجع البرهان 1 : 95 و 96 ، ح 222 - 230.
6- الرحمن (55) : 13.
7- القمر (54) : 17.
8- المرسلات (77) : 15.

طرقهم أنّه ذكر عند ابن عبّاس أنّه ترك بعض الناس قراءة البسملة في أوائل السور ، فقال : سرق الشيطان من الناس آية (1).

وروي أيضا أنّه قال : من تركها ، فقد ترك مائة وأربع عشرة آية (2).

والظاهر أنّ تحقّق ترك العدد المذكور مبنيّ على اعتبار البسملة في وسط النمل مع البسملة في أوائل السور ؛ لأنّها مائة وثلاث عشرة. ويمكن أن يقال : بناء ذلك على المبالغة وإن لم يكن للبراءة بسملة.

وقد أجاب العامّة عن الروايتين بأجوبة واهية.

وأقوى احتجاجاتهم على عدم الجزئيّة : أنّ القرآن يجب أن يتواتر ، ولم يتواتر أنّ البسملة من القرآن في أوائل السور ، وإلاّ لم يختلف فيه الطوائف (3).

والجواب : أنّ العلّة في توفّر الدواعي على النقل تعطي تواتر المكرّر في محلّ ما ، وليس تواتره في كلّ محلّ لازما ، ولا كلام في تواتر البسملة في وسط النمل ، مع أنّ تواتر جميع آيات القرآن عند جميع الطوائف محلّ كلام ، خصوصا إذا حدث سبب خارجي.

وقد ذكر بعض علماء العامّة (4) أنّه لمّا تواتر كون البسملة من القرآن في أوائل السور من مذهب عليّ عليه السلام ، فوضع أنس بن مالك بأمر المعاندين أحاديث دالّة على عدم الجزئيّة عنادا.

وكيفيّة التفريع على كون القرآن متواترا : أنّه لا يقع التعارض بينه وبين أخبار الآحاد وما في قوّتها من الأدلّة ؛ لعدم تقاومها مع المتواتر ، فيجب العمل به بشرط عدم مانع آخر من جهته ، كالإجمال ، وأمثاله.

والتفريع على جزئيّة البسملة - على ما ذهب إليه أصحابنا (5) - أنّه يجب تعيين السورة عند قراءة البسملة ، كما قال به الأصحاب (6).

ص: 188


1- الإحكام في أصول الأحكام 1 : 217 ، وأصول السرخسي 1 : 279 - 281 ، وراجع نهاية الوصول إلى علم الأصول 1 : 336 - 339.
2- الإحكام في أصول الأحكام 1 : 217 ، وأصول السرخسي 1 : 279 - 281 ، وراجع نهاية الوصول إلى علم الأصول 1 : 336 - 339.
3- الإحكام في أصول الأحكام 1 : 217 ، وأصول السرخسي 1 : 279 - 281 ، وراجع نهاية الوصول إلى علم الأصول 1 : 336 - 339.
4- لم أعثر عليه.
5- منهم الشهيد في الدروس الشرعيّة 1 : 171.
6- منهم الشهيد في البيان : 157.
تتميم

المشهور أنّ القراءات السبع (1) متواترة ، وبعضهم أضاف إليها الثلاث الباقية (2).

والحقّ أنّ تواترها لم يثبت ؛ لأنّ خلافه كاد أن يكون إجماعا.

ثمّ المشهور بين قول بتواتر السبع مطلقا (3) ، وبين قول بتواتر ما هو من قبيل جوهر اللفظ ك- « ملك » و « مالك » دون ما هو من قبيل الهيئة ، كالمدّ ، والإمالة ، وأمثالهما. وهو الذي ذهب إليه الأكثر (4). وهو لا يخلو عن إشكال ؛ لأنّ القرآن عبارة عن اللفظ ، وهو مركّب من الجزء المادّي الذي هو من قبيل الجوهر ، ومن الجزء الصوري الذي هو الهيئة ، وتواتره إنّما يتمّ بتواتر كلا جزءيه ، اللّهمّ إلاّ أن يلتزم بأنّ القرآن بالإطلاق ليس متواترا في القراءات (5) السبع ، بل المتواتر جوهره فيها.

ثمّ الحجّة على تواتر السبع والعمل بها ، أنّه وصل إلينا من السلف هذه القراءات السبع على نحو يفيد العلم ، وقولهم حجّة ؛ لإدراكهم النبيّ صلى اللّه عليه وآله وأصحابه. وقد أمر أئمّتنا بقراءة القرآن كما يقرأ الناس إلى قيام القائم (6).

ويؤيّده تقريرهم أيضا. وورد بعض الأخبار عنهم بأنّ القرآن نزل على سبعة أحرف (7).

ويرد عليه : أنّه لا شكّ أنّ القرآن النازل من اللّه واحد لا اختلاف فيه ، فكيف يكون السبع حجّة ، ولم يثبت أنّ المراد من سبعة أحرف القراءات السبع؟! بل قال الصادق عليه السلام لحمّاد - حين قال له : قد ورد منكم أنّ القرآن نزل على سبعة أحرف - : « أدنى ما للإمام أن يفتي على سبعة وجوه » (8).

وبعض أهل اللغة فسّر سبعة أحرف بسبعة لغات ، كلغة اليمن ، وهوازن ، وأهل مصر ،

ص: 189


1- في « ب » : « القراءة بالسبع ».
2- كما في قوانين الاصول 1 : 406 ، وفيه : « ومشايخ القراءات الثلاث الباقية هم : أبو جعفر ، ويعقوب ، وخلف ».
3- (3 و 4) كما في المصدر.
4- في « ب » : « القرّاء ».
5- الكافي 2 : 633 ، باب النوادر ، ح 23.
6- راجع جامع البيان 1 : 9 - 15.
7- تفسير العيّاشي 1 : 88 ، ح 42 / 2 ، والخصال 2 : 358 ، باب السبعة ، ح 43.

وأمثالها (1) ، مع أنّه قد ورد بعض النصوص عن أئمّتنا عليهم السلام بأنّ القرآن نزل على حرف واحد ، وكذب من زعم أنّه نزل على سبعة أحرف ، والاختلاف إنّما جاء من قبل الرواة (2).

ويمكن الجواب : بأنّه لمّا ثبت تواتر القرآن ، ووصل إلينا باعتبار اختلاف الرواة القراءات السبع على نهج واحد من حيث الشهرة ، ولا يمكن تخصيص واحدة منها بالتواتر والحجّيّة ، وإلاّ لزم الترجيح بلا مرجّح ، فحكم بتواتر السبع وحجّيّتها وإن لم يكن النازل من عند اللّه إلاّ قراءة واحدة ، وتقرير الأئمّة وأمرهم بها لأجل هذا ، وعدم إظهارهم ما هو الحقّ للتقيّة ، والغرض أنّه ثبت تواتر القرآن وحجّيّته ، ويعلم أنّه نزل بقراءة واحدة ، إلاّ أنّه وقع الاختلاف في نقله لأسباب نذكرها ، فنقلوه لنا على النحو المذكور ، فيمكن أن يكون واحدة منها حجّة ، ويمكن أن يكون بعض من كلّ واحدة منها حجّة ، إلاّ أنّ ذلك ليس بمعلوم لنا. فيلزم إمّا القول بعدم التواتر والحجّيّة مطلقا ، أو بالترجيح بلا مرجّح ، أو حجّيّة القراءات السبع وتواترها. والأوّلان باطلان ضرورة ؛ فالأخير حقّ.

ثمّ المخالف للمشهور صاحب الكشّاف من العامّة (3) ، وابن طاوس (4) ، ونجم الأئمّة (5) من أصحابنا ؛ فإنّهم حكموا بعدم تواتر القراءات السبع وحجّيّتها.

ويمكن أن يحتجّ له بمنع تواترها ؛ لأنّ القوم صرّحوا بأنّ لكلّ قار من القرّاء السبعة راويين ، وقولهما لا يفيد العلم ، مع أنّ شرط ثبوت التواتر استواء الطرفين والوسط في إفادة العلم ، فحصول التواتر - لو سلّم - إنّما هو في الطبقة اللاحقة لا الاولى ، وهو غير كاف.

ولو سلّم تواترها عن القرّاء السبعة ، فلا نسلّم حجّيّتها وجواز العمل بها ؛ لأنّهم كانوا من أهل الخلاف استبدّوا بآرائهم ، وتصرّفوا في القرآن بمجرّد الاستحسان من غير استناد إلى

ص: 190


1- فسّرها بذلك ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر 1 : 369 ، « ح ر ف ».
2- الكافي 2 : 630 ، باب النوادر ، ح 12 و 13.
3- قال في الكشّاف 2 : 69 - 70 في ذيل تفسير قوله تعالى : ( وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) : « والذي حمله ... » حيث يدلّ على أنّ قراءة ابن عامر كانت رأيا منه ، والصواب والصحيح خلافه ، وهذا إنكار تواتر القراءات السبع.
4- انظر سعد السعود : 362 - 363.
5- قال في شرحه على الكافية 2 : 336 : « لا نسلّم تواتر القراءات السبع ».

حجّة وبرهان ، ولذا وقع بينهم اختلافات كثيرة ، وقد نقل (1) أنّ المصاحف التي وقعت إلى القرّاء في عصر القراءة كانت خالية عن الإعراب والنقط ، ولم تكن معربة ممّن كان قبلهم من الذين أدركوا النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ورووا عنه.

نعم ، ذكر بعض الادباء أنّ أبا الأسود الدؤلي أعرب مصحفا واحدا في زمان خلافة معاوية ، فلمّا رأوا المصاحف خالية عن الإعراب والنقط ، تصرّفوا فيها على ما اقتضته آراؤهم ووافقته مذاهبهم في اللغة والعربيّة ، كما تصرّفوا في سائر العلوم من النحو والتصريف ، فحصل اختلاف كثير بينهم في الإعراب والنقط والإدغام والإمالة وأمثالها ، وكان أصحاب الآراء في القراءة كثيرة ، وكان دأب الناس أنّه إذا جاء قار جديد صاحب رأي ، أخذوا بقوله وتركوا قراءة من تقدّمه ، سواء كان من السبعة ، أو لا ؛ نظرا إلى أنّ كلّ قار متأخّر كان منكرا لقول من تقدّم عليه ، ثمّ بعد زمان رجعوا عن هذه الطريقة ، وبعضهم يأخذ قول بعض المتقدّمين ، وبعضهم يأخذ قول بعض آخر منهم ، فحصل بين الناس في ذلك اختلاف ، ثمّ اتّفقوا على الأخذ بقول السبعة من غير بيّنة وحجّة ؛ لأنّ الأرجح منهم في أصحاب الآراء كان كثيرا ، فإذا كان قولهم بمجرّد الرأي من غير استناد إلى قول النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ومن قوله حجّة لنا ، كيف يبقى الوثوق بقولهم؟! بل كثيرا ما ينقل قولهم مقابلا لقول المعصوم ، كما يقال : قراءة عاصم أو حفص كذا ، وقراءة عليّ عليه السلام كذا ، وربما يجعل قولهم قسيما لقول النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ، كما يظهر في الاختلاف الواقع في قراءة ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) (2).

ثمّ لو سلّم أنّ بناء قراءتهم على الرواية من النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فلا نسلّم حجّيّتها لنا كرواية الحديث ، لكونهم مخالفين.

ولا يخفى أنّ ما ذكر لا يخلو عن قوّة ، إلاّ أنّ الأمر فيه سهل ؛ لأنّ أمر الإعراب والنقط والإمالة وأمثالها لمّا كان ظاهرا من اللغة ، صار موكولا إلى أهل اللسان ، ولم يتعرّضه

ص: 191


1- راجع النشر في القراءات العشر 1 : 7 ، ومناهل القرآن في علوم القرآن 1 : 251 ، وآلاء الرحمن في تفسير القرآن - ضمن موسوعة العلاّمة البلاغي - 1 : 44 - 75.
2- الفاتحة (1) : 7.

النبيّ صلى اللّه عليه وآله وأصحابه ، ولذا لم يعرب المصاحف التي في خزانة مولانا الرضا عليه السلام ، وشاع أنّها بخطّه وخطّ آبائه عليهم السلام ، والقرّاء السبعة كانوا من أهل اللسان ، عارفين بكيفيّة الإعراب والنقط ، فقولهم حجّة ، إلاّ فيما ظهر أنّه خلاف القواعد العربيّة.

وجواز كون كلمة واحدة في لغة العرب ذات وجوه من الإعراب ، يدفع استبعاد كون كلام اللّه مختلفا ؛ لأنّ القرآن نزل على لغة العرب باسلوب خاصّ.

وقد ذكر جواب آخر لهذا الاستبعاد ، فلا شبهة في جواز القراءات السبع في الصلاة وغيرها.

نعم ، يشكل الأمر في اختلاف القراءات الذي يختلف به الأحكام ، وهذا قليل. وإذا وقع ، كقوله تعالى : ( يَطْهُرْنَ ) (1) - بالتخفيف والتشديد - يجب الرجوع إلى المرجّحات الخارجيّة ، ومع فقدها فالمشهور التخيير في العمل بأيّها شاء.

وذهب بعض أصحابنا إلى رجحان قراءة عاصم بطريق أبي بكر (2) ، فتأمّل.

ثمّ إنّه لا عمل على القراءة الشاذّة وليست بحجّة (3).

وقيل : إنّها كأخبار آحاد والعمل على المشهور (4) وإن أمكن فيه المناقشة على ما ذكرناه.

ثمّ على المشهور لو لم يثبت من الأخبار وجوب التتابع في صوم كفّارة رمضان ، لكان اللازم أن يحكم بعدم وجوبه ؛ نظرا إلى القراءة المشهورة في كفّارة اليمين ، وهي : ( فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ) (5) من دون « متتابعات ». وعلى القول الآخر (6) يلزم الحكم بوجوبه ، نظرا إلى هذه الضميمة ، إلاّ أنّ وجوب التتابع ثابت عندنا من النصوص (7).

ص: 192


1- البقرة (2) : 222.
2- ذهب إليه العلاّمة في منتهى المطلب 5 : 64 ، والفاضل التوني في الوافية : 149.
3- قال العلاّمة في المصدر : « السادس : لا يجوز أن يقرأ بالشاذّ - وإن اتّصلت روايته - ؛ لعدم تواترها ».
4- في هامش « أ » : « القائل أبو حنيفة » ولكن قال القمّي في قوانين الاصول 1 : 409 : « لا عمل بالشواذّ ... وذهب بعض العامّة إلى أنّها كأخبار الآحاد يجوز العمل بها ». ونسبه السيوطي في الإتقان 1 : 76 إلى أشخاص ، منهم أبو حنيفة ، ونسبه العلاّمة أيضا إلى أبي حنيفة في نهاية الوصول إلى علم الأصول 1 : 333. وحاصل ما ذكر إمّا عدم صحة ما في الهامش وما يوافقه، أو عدم صحة المتن، أو كون «والعمل علی المشهور» من تتمة كلام المصنف.
5- المائدة (5) : 89.
6- وهو قراءة ابن مسعود بضميمة « متتابعات ».
7- منها : ما في الكافي 7 : 452 ، باب كفّارة اليمين ، ح 3 و 8.
فصل [3]
اشارة

أجمع المسلمون على وجوب العمل بالقرآن الموجود الآن واتّباعه. وقد وقع الخلاف بين أصحابنا في تغييره ، وتحريفه. فمعظم الأخباريّين على أنّه وقع فيه التحريف ، والزيادة ، والنقصان (1). والصدوق (2) والسيّد (3) والطبرسي وأكثر المجتهدين على أنّه لم يقع فيه ذلك (4) ، بل القرآن الذي نزل به جبرئيل هو ما بين دفّتي المصحف من غير زيادة ونقصان.

احتجّ الأوّلون بوجوه :

منها : استفاضة الأخبار بالسقوط في بعض المواضع المعيّنة من القرآن ، والتحريف في بعضها ، كآية الغدير (5) ، وآية ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى ) (6) ، وآية ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ) (7) ، وغيرها (8).

ومنها : الأخبار (9) الدالّة على وقوع تحريف وزيادة في القرآن من غير تعيين موضعهما (10).

ومنها : أنّ كتّاب الوحي كانوا أربعة عشر رجلا ، والقرآن نزل منجّما بحسب المصالح ، وكانوا في الأغلب لا يكتبون إلاّ آيات الأحكام وما ينزل في المجامع ، ولم يكونوا متمكّنين من كتابة ما ينزل في خلوات النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ، بل كتابة الجميع كان منحصرا بعليّ عليه السلام ، فكان

ص: 193


1- راجع الوافية : 147.
2- تصحيح الاعتقاد ( ضمن مصنّفات الشيخ المفيد / ج 5 ) : 123.
3- جوابات المسائل الرازية ( ضمن رسائل الشريف المرتضى / ج 1 ) : 102 - 105 ، ونقله الطبرسي في مجمع البيان 1 : 42 ، الفنّ الخامس.
4- مجمع البيان 1 : 42 ، الفنّ الخامس.
5- وهي قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) ، المائدة (5) : 67.
6- النساء (4) : 2.
7- آل عمران (3) : 110.
8- نقل القمّي الأخبار عن منبع الحياة للسيّد نعمة اللّه الجزائري في قوانين الاصول 1 : 403.
9- راجع الكافي 2 : 634 ، باب النوادر ، ح 28.
10- في « ب » : « موضعها ».

قرآنه (1) جامعا ، فلمّا مضى النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ووقع التنازع بين الأمّة ، جمعه كما انزل ، وشدّ بردائه وأتى به إلى المسجد وخاطب الصحابة ، وقال : « هذا كتاب ربّكم على ما انزل » ، فقال له عمر : لا حاجة لنا فيه ، حسبنا كتاب عثمان ، فقال عليه السلام : « لن تروه ولن يراه أحد أبدا (2) حتّى يظهر قائمنا » (3).

ومنها : حكاية إبقاء مصحف عثمان وطبخ غيره من مصاحف كتّاب الوحي ، ولو لم يختلف ، لما ارتكبوا هذا القبيح (4).

ومنها : أنّ عثمان أرسل سبعة مصاحف إلى أهل الأمصار وكلّها بخطّه (5) ، فوجد فيها اختلاف كثير ، فإذا اختلف المصاحف التي بخطّه ، فكيف حال غيرها من مصاحف كتّاب الوحي؟

واحتجّ الآخرون : بقوله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) (6) ، وبقوله عليه السلام : « القرآن واحد ، نزل من عند واحد على نبيّ واحد ، وإنّما الاختلاف من جهة الرواة » (7) ، وبأنّ القول بوقوع التبديل في القرآن الذي بين أيدينا فتح لباب الكلام على إعجاز القرآن وعدم مقدرة البشر على الإتيان بمثله ، وعلى استنباط الأحكام منه (8).

واجيب (9) عن الأوّل : بأنّ المراد من الحفظ حفظ نوعه ، وهو كما نزل محفوظ عند أهل البيت ، فلا يمحى عن العالم.

وعن الثاني : بأنّه يدلّ على خلاف المطلوب.

وعن الثالث : بأنّه لم يقع فيه تغيير يخرج به عن اسلوبه الخاصّ الذي هو مناط الإعجاز ،

ص: 194


1- في « ب » : « قراءته ».
2- لم يرد في « ب » : « أبدا ».
3- الكافي 2 : 633 ، باب النوادر ، ح 23. مع اختلاف.
4- نقله عن منبع الحياة للجزائري في قوانين الاصول 1 : 404.
5- نقله ابن طاوس في سعد السعود : 437 عن مقدّمات علم القرآن لبحر الرهني ، والقمّي عن منبع الحياة للجزائري في قوانين الاصول 1 : 404.
6- الحجر (15) : 9.
7- الكافي 2 : 630 ، باب النوادر ، ح 12.
8- راجع قوانين الاصول 1 : 405.
9- راجع قوانين الاصول 1 : 405.

وكذا لم يقع تحريف في آيات الأحكام ، وإن فرض وقوعه بيّنه الأئمّة عليهم السلام على وجه لا يقدح في استنباط الأحكام منه.

وغير خفيّ أنّ أخبار القائلين بوقوع التغيير وسائر أدلّتهم لا تدلّ على وقوع الزيادة ، وما يقدح في الإعجاز هو وقوع الزيادة. فالقول بوقوع النقصان وعدم وقوع الزيادة لا يخلو عن قوّة. ووقوع بعض التحريفات أيضا لا يخرجه عن الاسلوب الخاصّ ، فلا يقدح في الإعجاز.

تحديد

في القرآن محكم ومتشابه ، ونصّ وظاهر ، ومأوّل ومجمل.

وقد عرّف المحكم بتعريفات كثيرة وأصحّها : أنّه ما اتّضح معناه. والمتشابه خلافه (1).

والنصّ : ما لم يحتمل غير ما يفهم منه لغة.

والظاهر : ما دلّ على أحد محتملاته دلالة راجحة. والمأوّل خلافه.

والمجمل : ما دلّ على أحد محتملاته دلالة مساوية. فالمحكم أعمّ من النصّ مطلقا ، وأخصّ من الظاهر كذلك. والنصّ مباين للظاهر. وقد فسّر بعض أهل اللغة النصّ بالمضبوط المتقن (2). وعلى هذا يكون المحكم مساويا له. ونسبة الثلاثة مع البواقي ونسبة بعضها مع بعض ظاهرة.

فصل [4]

ذهب الأخباريّون إلى أنّه لا يجوز تفسير القرآن بدون نصّ من النبيّ صلى اللّه عليه وآله أو الأئمّة عليهم السلام فكلّ آية منه لم يرد في تفسيرها أثر منهم عليهم السلام لا يجوز العمل بها ، سواء كانت من النصوص ، أو المحكمات ، أو الظواهر ، أو المتشابهات ، وقالوا : كلّ القرآن متشابه بالنسبة إلينا (3).

ويؤول قولهم إلى عدم حجّيّة القرآن مطلقا ؛ لأنّ الآيات التي لم يرد في تفسيرها الآثار

ص: 195


1- نسبه الزركشي إلى بعض المتأخّرين في البحر المحيط 1 : 365.
2- راجع المصدر : 363.
3- نسبه إليهم السيّد المحدّث الجزائري في منبع الحياة على ما في حاشية قوانين الاصول 1 : 393.

المعصوميّة لا يجوز تفسيرها حينئذ ، والعمل بها ، والتي وردت في تفسيرها الآثار يكون الحجّة هي دونها.

وذهب بعض إلى جواز العمل بالمحكمات دون الظواهر (1).

وأجمع أهل الاجتهاد على أنّ كلّ آية كانت واحدة من الثلاث الاول يجوز تفسيرها والعمل بها من دون الافتقار إلى ورود نصّ في تفسيرها ، بل كلّ من كان عارفا بلغة العرب ، وحصل له من العلم ما تمكّن من فهمها ، يجوز أن يفسّرها ويعمل بها ، وتكون حجّة له وعليه. وإن كانت من الأخيرة - أي المتشابهات - فلا يجوز أن يعمل بأحد محتملاتها بمجرّد إخطاره بالبال من دون شاهد من العقل أو النقل ، كما يظهر من كلام المبتدعين ، بل حجّيّته موقوفة على الدليل.

وهذا هو الحقّ ؛ لوجوه :

منها : أنّ اللّه تعالى أنزل قرآنا بلسان عربيّ مبين ، وجعله قطعا لعذر المكلّفين وحجّة على العالمين ، ووصفه بكونه نورا وهدى وبيانا وشفاء ، وأودع فيه دلائل التوحيد ، ومعرفة صفاته الكماليّة ، واصول الأحكام ، وما يتعلّق بالحلال والحرام ، وأمر عباده بالتفكّر فيه ، وندبهم على الاستنباط منه ، وذمّ على ترك تدبّره ، وذكر فيه المواعظ والنصائح ، وأمر الناس بأخذها والعمل بها ، وقصّ فيه قصص الماضين ، وأمر عباده بالعبرة عنها.

وعلى قول الأخباريّين لم يتصوّر منه هذه الفوائد ، بل لم يجز لنا الانتفاع منه مطلقا.

ومنها : أنّه يمتنع أن يخاطب اللّه بما يدلّ ظاهره على غير مراده ؛ لإجماع الأمّة سوى المرجئة ، وللزوم التكليف بما لا يطاق ، أو الإغراء بالجهل. ولا شكّ أنّ ما عدا المتشابهات صريح أو ظاهر فيما فهم القوم منه.

ومنها : استفاضة الأخبار بعرض الحديث - مطلقا ، أو عند التعارض - على القرآن ، وأخذ ما وافقه ، وطرح ما خالفه (2) ، والعرض عليه يتوقّف على كونه مفهوم المعنى.

ص: 196


1- ذهب إلى هذا التفصيل السيّد صدر الدين في شرح الوافية كما في المصدر.
2- راجع : تفسير العيّاشي 1 : 82 - 83 ، ح 18 / 1 - 24 / 7 ، والكافي 1 : 69 ، باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب ، ح 1 - 5 ، والبرهان 1 : 67 - 68.

ومنها : الخبر المتواتر عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم : « إنّي تارك فيكم الثقلين ... » (1).

وعلى مذهب الأخباريّين ما ترك إلاّ الثقل الواحد ؛ لعدم كون الثقل الأكبر حجّة.

ومنها : ما روي عن ابن عبّاس أنّه قسم وجوه التفسير على أربعة أقسام : قسم لا يعذر أحد بجهالته ، وقسم يعرفه العرب بكلامها ، وقسم يعرفه العلماء ، وقسم لا يعلمه إلاّ اللّه (2).

فالأوّل : ما فيه من اصول الشرائع والأحكام وجمل دلائل التوحيد.

والثاني : حقائق اللغة وموضوع كلام العرب.

والثالث : تأويل المتشابه وفروع الأحكام.

والرابع : ما يجري مجرى الغيوب وقيام الساعة.

ومنها : ما روي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله : « أنّ القرآن ذلول ذو وجوه ، فاحملوه على أحسن الوجوه » (3) و « أنّ للقرآن ظهرا وبطنا ... » (4).

ومنها : أمرهم عليهم السلام في عدّة أخبار بالتمسّك بالقرآن عند ظهور الفتن واختلاف الآراء (5).

ومنها : أمرهم عليهم السلام بتدبّر القرآن وفهم آياته ، والنظر في محكماته ، والإضراب عن متشابهاته (6).

ومنها : ما ورد في تفسير قوله تعالى : ( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ ) (7) أنّ الرادّ إلى اللّه الآخذ بمحكم كتابه ، والرادّ إلى الرسول الآخذ بسنّته الجامعة (8).

ومنها : ما ورد منهم عليهم السلام من التوبيخ على ترك العمل به (9).

ص: 197


1- راجع : تفسير العيّاشي 1 : 78 ، ح 8 / 8 ، والبرهان 1 : 20 ، باب في الثقلين.
2- نقله الطبرسي في مجمع البيان 1 : 26 و 27.
3- مجمع البيان 1 : 13 ، الفنّ الثالث.
4- راجع تفسير العيّاشي 1 : 86 - 87 ، ح 33 / 2 ، 35 / 4 ، 36 / 5 ، 39 / 8.
5- منها : ما في تفسير العيّاشي 1 : 74 ، ح 1 / 1 ، وبحار الأنوار 37 : 209 ، ح 16.
6- راجع : الاحتجاج 1 : 136 ، ح 42 ، وبحار الأنوار 37 : 209 ، ح 16.
7- النساء (4) : 59.
8- نهج البلاغة : 600 ، الكتاب 53 ، الفقرة 64 و 65. وفيه : « الردّ والأخذ » مكان « الرادّ والآخذ ». وعنه في الصافي 1 : 8. وفيه كما في المتن.
9- راجع بحار الأنوار 7 : 215 ، ح 116.

ومنها : ما ورد منهم عليهم السلام من تعليم الاستدلال به (1).

ومنها : وقوع الاحتجاج به من أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام وتقريرهم عليه (2).

ومنها : بعض الآيات ، كقوله تعالى : ( لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ ) (3) ؛ حيث أثبت استنباطا للعلماء ، والتخصيص خلاف الأصل ، وقوله تعالى : ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ... ) (4) الآية ؛ حيث دلّ على جواز اتّباع غير المتشابه ، وقوله تعالى : ( هُدىً وَنُورٌ ) (5) و ( نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ ) (6) وغيرها من الآيات.

وهذه الآيات لمّا كانت محكمة ، تقوم حجّة على من قال بجواز العمل بالمحكم دون الظواهر.

وأمّا على الأخباريّين الذين قالوا : إنّ جميع القرآن متشابه بالنسبة إلينا ، فلا تنهض حجّة ؛ لأنّ الاستدلال بها على إبطال مذهبهم يصير دوريّا.

وقد اجيب عن بعض الوجوه المذكورة بأجوبة ظاهرة الاندفاع ، فلا نطيل الكلام بذكرها ودفعها.

احتجّ الأخباريّون بأربعة وجوه :

[ الوجه ] الأوّل : أنّه يجوز أن يكون ما نفهم من الظواهر غير مقصود ، ولا يلزم منه التخاطب بما يدلّ ظاهره على غير المقصود ؛ لجواز ظهور المقصود منها للمخاطبين بمعونة القرائن المنضمّة معها عند النزول (7).

والجواب عنه بالنقض والحلّ :

أمّا النقض : فبأنّه يرد على ظواهر السنّة أيضا.

وأمّا الحلّ : فبأنّ المتكلّم إذا أراد خلاف ظاهر اللفظ ، يلزم عليه نصب قرينة تدلّ عليه ،

ص: 198


1- راجع : الوافية : 136 - 144 ، وقوانين الاصول 1 : 393.
2- المصدر.
3- النساء (4) : 83.
4- آل عمران (3) : 7.
5- المائدة 5. : 44 و 15.
6- المائدة 5. : 44 و 15.
7- حكاهما الفاضل التوني في الوافية : 136 و 137.

فإذا لم ينصب قرينة يعلم أنّه أراد ظاهره ، فإذا حان حين العمل ولم يعثر على قرينة بعد الفحص يجب حمل اللفظ على ظاهره. ولا فرق في ذلك بين المخاطبين والغائبين ؛ لأنّ تكليف الجميع على السواء ، فإن ظهر لنا أنّ تكليف المخاطبين من خطاب كان على خلاف ما يفهم من ظاهره لقرينة كانت ظاهرة لهم ، لزم علينا حمل اللفظ على خلاف ظاهره. وإن لم يظهر يلزم علينا حمله على ظاهره.

[ الوجه ] الثاني : أكثر تفاسير أهل العصمة بل كلّها ممّا يخالف الظواهر ، كما يظهر من الأخبار (1). فالآيات التي فسّرها المعصوم ووصل إلينا تفسيره لا يمكن حملها على الظاهر ؛ لأجل تفسير المعصوم ، وكذا التي لم يفسّرها ؛ لتأتّي هذا الاحتمال فيها (2).

والجواب : أنّ التفاسير التي وردت منهم عليهم السلام بعضها من ظواهر القرآن ، وبعضها من بواطنه ؛ فإنّ للقرآن ظاهرا وباطنا ، كما ورد عنهم عليهم السلام (3) ، ولا منع في جمعهما ، فكلّ ما ورد منهم في تفسير القرآن ممّا يخالف الظاهر فهو من بطونه. ولا يقدح هذا في جواز إرادة ما يفهم من الظاهر.

[ الوجه ] الثالث : استفاضة الأخبار بالمنع عن تفسير القرآن بالرأي ، وفي بعضها وعيد عليه (4)(5).

والجواب عنه أمّا أوّلا : فبأنّ المراد من التفسير بالرأي الممنوع منه هو أن يكون للإنسان ميل إلى شيء فأخذ آية من القرآن وحملها عليه ، ولولاه لم يفعل كذلك ، كما يوجد في كلام المبتدعين.

وأمّا ثانيا : فبأنّ المراد منه ما نشأ عمّن لم يظفر بدقائق القرآن وغرائبها ممّا يتوقّف على النقل والسماع ، أو بعض العلوم ، بل فسّر بمجرّد وقوفه على ظاهر العربيّة.

ص: 199


1- وهي الأخبار التي تكون أخصّ مطلقا ، أو من وجه من الآيات.
2- حكاهما الفاضل التوني في الوافية : 136 و 137.
3- راجع : تفسير العيّاشي 1 : 86 - 87 ، ح 33 / 2 ، 35 / 4 ، 36 / 5 ، 39 / 8 ، والبرهان 1 : 44 ، ح 139 / 1.
4- هذه الروايات مذكورة في مجمع البيان 1 : 39 ، الفنّ الثالث ، والصافي 1 : 32 ، المقدّمة الخامسة ، والبرهان 1 : 39 - 42 ، ح 121 - 133.
5- حكاه الفاضل التوني في الوافية : 139 و 140.

وأمّا ثالثا : فبأنّ المراد منه حمل المجمل والمتشابه ، أو أمثالهما من الألفاظ المشكلة على أحد المحتملات ، والجزم به من غير دليل عقلي أو نقليّ.

ويدلّ عليه أنّ المراد من التفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل أو كشف المغطّى ، فالمراد من التفسير بالرأي القطع بالمراد من اللفظ المشكل من غير دليل.

ويدلّ عليه أيضا أنّ الشيخ الطبرسي قال :

قد صحّ عن النبيّ وعن الأئمّة القائمين مقامه أنّ تفسير القرآن لا يجوز إلاّ بالأثر الصحيح والنصّ الصحيح. وروت العامّة أيضا عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أنّه قال : « من فسّر القرآن برأيه فأصاب الحقّ فقد أخطأ » (1).

مع أنّا نرى أنّه يفسّر القرآن من غير استناد إلى نصّ وأثر.

[ الوجه ] الرابع (2) : استفاضة الأخبار بأنّ علم القرآن منحصر في النبيّ والأئمّة عليهم السلام (3).

والجواب : أنّ المراد أنّ علم الكتاب كلّه - أي ظاهره وباطنه ، ومحكمه ومتشابهه ، وناسخه ومنسوخه ، وبالجملة ، الإحاطة التامّة الواقعيّة لجميع ما أودع اللّه في القرآن - منحصر بهم عليهم السلام ، وقد نطق بذلك أخبار كثيرة ، كقول الصادق عليه السلام : « ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ، ظاهره وباطنه غير الأوصياء » ، وقوله عليه السلام : « ما ادّعى أحد من الناس أنّه جمع القرآن كلّه كما أنزل إلاّ كذّاب ، وما جمعه وما حفظه كما نزّله اللّه تعالى إلاّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام والأئمّة من بعده » (4).

ولا بعد في ادّعاء دلالة جميع الأخبار التي تدلّ على انحصار علم القرآن فيهم على ذلك إمّا تصريحا ، أو تلويحا.

وغير خفيّ أنّه بعد ملاحظة أدلّتنا المتقدّمة يظهر أنّه لو لم يحمل الأخبار المذكورة على ما ذكر ، لزم طرحها.

ص: 200


1- مجمع البيان 1 : 13 ، الفنّ الثالث.
2- حكاه الفاضل التوني في الوافية : 137.
3- منها ما في الكافي 1 : 229 ، باب أنّه لم يجمع القرآن كلّه إلاّ الأئمّة عليهم السلام ، ح 5.
4- الكافي 1 : 228 ، باب أنّه لم يجمع القرآن كلّه إلاّ الأئمّة عليهم السلام ، ح 1 و 2. والروايتان منقولتان عن أبي جعفر الصادق عليه السلام.

فإن قيل : الأصل الثابت عند الشيعة عدم العمل بالظنّ إلاّ بدليل ، كالعمل بأخبار (1) الآحاد ، والعمل بظواهر الكتاب من باب الظنون.

قلنا : هذا الظنّ أيضا خارج بالأدلّة المتقدّمة ؛ فإنّها تفيد القطع بجواز العمل.

ولا يخفى أنّ الكتاب والسنّة مشتركان في اشتمالهما على المحكم والمتشابه ، والنصّ والمجمل وغيرها ، فما يرد على العمل بأحدهما يرد على العمل بالآخر.

والأخباريّون فرّقوا بينهما بمجرّد الأخبار المذكورة (2). وقد عرفت جوابها (3).

فإن قيل : نحن نسلّم أنّ المحكم والظاهر يجوز العمل بهما ولكنّ تمييزهما عن المتشابه غير ممكن لنا ، فكلّ القرآن متشابه بالنسبة إلينا.

قلت : هذا مكابرة صريحة ، وتمييز كلّ واحد من المحكم والنصّ والظاهر والمتشابه عن الآخر واضح لمن له أدنى فطانة في علم القرآن.

ثمّ كيفيّة التفريع على هذا الاختلاف ظاهرة ؛ فإنّه يلزم على مذهب الأخباريّين عدم جواز الاستدلال بالآيات التي لم يرد في تفسيرها نصّ ، بل لا يجوز الاستدلال بها مطلقا (4).

وأمّا على المذهب (5) الحقّ ، فيجوز بغير المتشابه مطلقا ، وبه بمرجّح خارجي.

ص: 201


1- في « ب » : « بالأخبار ».
2- راجع قوانين الاصول 2 : 220 و 221.
3- في ص 195 - 196.
4- هذا ناظر إلى طائفة قائلة بتشابه كلّ القرآن من الأخباريّين.
5- في « ب » : « مذهب ».

الباب الثاني : في السنّة

اشارة

وهي لغة : السيرة والطبيعة (1). وقد عرفت (2) إطلاقها عرفا على المستحبّ. والتي من الأدلّة هي ما ظهر من النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم غير قرآن من قول ، أو فعل ، أو تقرير غير عاديّ ، فدخل الحديث القدسي ؛ لكونه ظاهرا منه ، وخرج الثلاثة العاديّة.

والتحديد ب- « أنّها ما صدر من النبيّ » (3) ، انتهى. يرد عليه : أنّ الحديث القدسي ما صدر عنه ، إلاّ أن يراد بالصدور الظهور.

ومن قال : « هي قول النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ، أو فعله ، أو تقريره ، غير قرآن ولا عاديّ » (4) يرد عليه : أنّ القرآن والحديث القدسيّ كلاهما يخرجان (5) بالأوّل ؛ لعدم كونهما قول النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ، بل قول اللّه ، والنبيّ حكاه. فيكون الحدّ مشتملا على ما لا حاجة إليه - أعني قوله : « غير قرآن » - ومنتقض (6) العكس.

وبعضهم (7) لم يذكر القيد الأخير (8).

والإيراد عليه ظاهر ، فصحيح الحدود ما ذكرناه.

ص: 202


1- لسان العرب 13 : 225 ، « س ن ن ».
2- تقدّم في ص 96 - 97.
3- راجع : منتهى الوصول : 47 ، وشرح مختصر المنتهى 1 : 113 ، وزبدة الاصول : 87 ، الهامش 1.
4- اختاره أوّلا البهائي في زبدة الاصول : 87.
5- كذا في النسختين. والأولى : « يخرج ».
6- عطف على قوله : « مشتملا » أي ينتقض جامعيّة التعريف ؛ لخروج الحديث القدسي عن التعريف وهو وداخل في السنّة.
7- راجع : منتهى الوصول لابن الحاجب : 47 ، وشرح مختصر المنتهى 1 : 113.
8- وهو قوله : « ولا عاديّ ».
فصل [1]
اشارة

الخبر حقيقة في القول المخصوص ، ويطلق مجازا على بعض الدلائل والإشارات ، كما يقال : « النجم الفلاني يخبر أنّ الليل قد انتصف » و « يخبرني عينه ما في قلبه ». وقد يطلق على حكم الذهن بأمر على آخر ، ويقال له : الخبر العقلي ، كما يقال للأوّل : اللفظي. وهذا الإطلاق ليس حقيقيّا (1) ؛ لأنّ الخبر حقيقة في اللفظ المركّب الخاصّ ، بل بعضهم (2) لم يجوّزه مجازا أيضا.

ثمّ من الناس (3) من قال : إنّ الخبر لا يحدّ ؛ لبداهته ؛ لأنّ كلّ أحد يعرف أنّ معنى قوله : « أنا موجود » نسبة الوجود إليه ، وإذا كان هذا الخبر الخاصّ بديهيّا ، فمطلق الخبر أيضا يكون كذلك ؛ لكونه جزءا له.

ولأنّ (4) التمايز بين الخبر والإنشاء يعرفه كلّ أحد بالضرورة ، ولذا يورد كلاّ منهما في موضعه ، ولا يورد أحدهما في موضع الآخر ، وهو يتوقّف على العلم بالمتمايزين.

والجواب عن الأوّل : أنّ المسلّم أنّه علم نسبة الوجود إليه ، أي حصل في نفسه هذه النسبة مع باقي ما يتمّ به الخبر ، وهو (5) غير تصوّر ماهيّة الخبر.

وبيان ذلك : أنّه قد يحصل (6) بعض الأشياء بنفسه في النفس من دون تصوّر ماهيّته ؛ فإنّ أكثر النفوس لم يتصوّر ماهيّات بعض الصفات الحاصلة فيه ، كما يتّفق أنّ العالم بعلم لم يتصوّر حقيقة العلم ، والشجاع لم يتصوّر ماهيّة الشجاعة ، وصاحب المروءة لم يتصوّر ماهيّة المروءة ، وهكذا ؛ فيظهر منه أنّ حصول الشيء بنفسه - أي العلم الحضوريّ - غير

ص: 203


1- في « ب » : « حقيقة ».
2- حكاه العلاّمة عن المعتزلة في نهاية الوصول إلى علم الأصول 1 : 284 - 285 ، والكلباسي في الرسائل الرجاليّة 1 : 417.
3- ذهب الفخر الرازي إلى غناه عن التعريف في المحصول 4 : 221 ، وراجع أيضا : منتهى الوصول لابن الحاجب : 65 ، وشرح مختصر المنتهى 1 : 145 و 146.
4- تعليل ثان للبداهة ، لا لعدم إمكان الحدّ.
5- أي العلم بنسبة الوجود إليه.
6- في « ب » : « حصل ».

تصوّره ، أي العلم الحصولي ، وكلّ منهما ينفكّ عن الآخر ؛ لأنّه كما يمكن حصول الشيء بنفسه في الذهن من غير حصول صورته كما ذكر ، كذلك يمكن حصول صورته فيه من غير حصول نفسه فيه ، كما يرتسم الذهن بصورة زيد من دون حصول نفسه فيه. وكيف لا يفترقان (1) مع أنّ الأوّل جزئي ، والثاني كلّيّ؟! لأنّ (2) نفس الشيء وعينه لا تصدق على غيره.

وأمّا صورته المطابقة له ، فتصدق على كثيرين ، فالذهن ما لم يتصوّر بصورة شيء ، لم يتصوّره بماهيّته ، ولم يحصل له حدّه وإن حصل بنفسه فيه ، وحينئذ نقول فيما نحن فيه : إنّ المسلّم [ هو ](3) حصول ماهيّة الخبر بنفسها في الذهن ، وأمّا تصوّرها ، فلا ، وهو ظاهر.

والجواب عن الثاني : أنّ التمايز بين الشيئين لا يتوقّف على تصوّرهما بالكنه ، غاية الأمر أنّه يتوقّف على تصوّرهما بوجه ما ، وهو يحصل بعد حصولهما بنفسهما في الذهن وإن لم يتصوّرا بالماهيّة.

وإذا عرفت أنّ الخبر يمكن تحديده ، فاعلم أنّه قيل في حدّه : إنّه كلام يحتمل الصدق أو الكذب (4). وقيل : التصديق أو التكذيب (5).

واورد عليهما : بأنّ الصدق : الخبر المطابق ، والكذب : الخبر الذي ليس بمطابق ، والتصديق والتكذيب : الإعلام بالصدق والكذب ؛ فهما مأخوذان في التعريفين مع أنّهما من أنواع الخبر ، ولذا يؤخذ في تعريفهما ؛ فتعريفه بهما يستلزم الدور (6).

ص: 204


1- في « ب » : « لا يفرّقان ».
2- تعليل لجزئيّة المعلوم بالعلم الحضوري.
3- أضفناه لاستقامة العبارة.
4- في « ب » : « والكذب » ، واختار السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 477 المشتمل على « أو » لا الواو. وعدّ الشيخ في العدّة في أصول الفقه 1 : 63 المشتمل على « أو » أولى من المشتمل على الواو بدليل استحالة اجتماع الصدق والكذب في خبر واحد. واختار المشتمل على الواو القاضي أبو بكر والمعتزلة كما في منتهى الوصول لابن الحاجب : 65.
5- ذكر القاضي عضد الدين المشتمل على « أو » بعنوان قيل في شرح مختصر المنتهى 1 : 145 ، والأسنوي في نهاية السؤل 2 : 161. واختار الشهيدان المشتمل على الواو. راجع : القواعد والفوائد 1 : 5. القاعدة 83 ، وتمهيد القواعد : 245 ، القاعدة 90.
6- حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 66 وارتضاه ، وقال : « لا جواب عنه ». وكذا القاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى 1 : 145.

والجواب : أنّ الصدق والكذب من الأعراض الذاتيّة للخبر لا من أنواعه ؛ فإنّ الصدق هو المطابقة ، والكذب اللامطابقة ، أي مطابقة الخبر وعدم مطابقته ؛ لأنّهما لمّا كانا من الأعراض الذاتيّة له فلا يعرضان لغيره ، وتعريف الشيء بالعوارض الذاتيّة صحيح غير مستلزم للدور ؛ لأنّ معرفة العرض الذاتي لا تتوقّف على معروضه ، ومجرّد ذكر المعروض في تعريف العرض الذاتي لما ذكر - بعد القطع بخروجه عن حقيقته وذاتيّاته - لا يصحّح التوقّف. وهذا كما يقال : الأبيض جسم له الكيفيّة الخاصّة ، مع أنّ الجسم ليس من ذاتيّات الأبيض ، فذكره لأجل أنّ البياض من عوارضه اللازمة.

هذا ، وربما قيل : إنّ الصدق المأخوذ في تعريف الخبر هو المعنى المصدري ، وما عرّف بالخبر هو المشتقّ - أي الصادق - فلا دور (1).

وفيه تأمّل ؛ لأنّ تعريف الصادق بالخبر المطابق مستلزم لتعريف الصدق بموافقة الخبر للمخبر به ، أو بالإخبار عن الشيء على ما هو عليه.

ثمّ المراد من كونه محتملا للصدق والكذب أن يكون محتملا لهما من حيث هو ، أي نظرا إلى مفهومه الظاهر مع قطع النظر عن الامور الخارجة ، فلا يرد النقض بكلام يكون صادقا أو كاذبا قطعا. وبمثل قولنا : « الإنسان حيوان ناطق » إذا قصد به التحديد ؛ لأنّ المطلوب منه التصوّر لا التصديق بثبوت الحدّ للمحدود ، فلا يجري فيه الصدق والكذب.

ومن هذا القبيل ما لو قيل : كلامي كاذب في هذه الساعة ، وأراد منه هذا الكلام ؛ فإنّه لا يحتمل الصدق أو الكذب ؛ لأنّ صدقه مستلزم لكذبه ، وبالعكس ، فلا يكون خبرا ، بل إنشاء. والسرّ أنّ الصدق والكذب إنّما يعرضان لما كان له خارج يتصوّر بينهما المطابقة وعدمها ، وهنا لم يتحقّق ذلك.

نعم ، لو ابقي هذا الكلام على ظاهره واريد غيره كان خبرا.

واورد عليهما (2) أيضا : بأنّه إن عطف بين الصدق والكذب بالواو ، لزم أن يكون كلّ

ص: 205


1- قاله التفتازاني في المطوّل : 36 في أحوال الإسناد الخبري.
2- أي على التعريفين للخبر.

خبر صادقا وكاذبا وهو محال ، وإن عطف بينهما ب- « أو » لزم الترديد في الحدّ ، وهو غير جائز (1).

والجواب : اختيار الشقّ الثاني كما ذكرناه (2) ، والترديد إنّما هو في أفراد المحدود لا في الحدّ ، والمراد أنّ الخبر قابل لأحدهما.

وقيل : الخبر كلام لنسبته خارج (3).

وقيل : كلام يفيد بنفسه نسبة أمر إلى آخر (4).

وأضاف بعضهم « إثباتا أو نفيا » (5).

قيل : يرد عليهما نحو « اضرب » وغيره ممّا يدلّ على الطلب بناء على تحقّق النسبة فيه (6) ، إمّا لأجل أنّ الحدث المطلوب منه منسوب إلى المخاطب ، فيكون المطلوب من « اضرب » الضرب المنسوب إلى زيد مثلا. وإمّا لأجل أنّ الطلب فيه منسوب إلى المتكلّم عقلا ، فقولنا : « اضرب » يدلّ التزاما على قولنا : « أطلب منك الضرب ».

واجيب : بأنّا سلّمنا تحقّق النسبة - على ما ذكر - فيه إلاّ أنّه لا يرد نقضا على التعريفين.

أمّا على الأوّل ، فظاهر ؛ لأنّه ليس لهذه النسبة متعلّق خارجي ، بخلاف « ضرب زيد » ؛ فإنّ لنسبته العقليّة متعلّقا خارجيّا هو الضرب الخارجي المنسوب إلى زيد.

وأمّا على الثاني ، فلأنّ المراد من إفادته النسبة أن يعلم منه وقوعها. هذا على تقدير عدم الإضافة المذكورة (7) ، ومعها لا يحتاج إلى هذا ، بل نقول : المراد من الإثبات إيقاع النسبة ، أي

ص: 206


1- قال ابن الحاجب في منتهى الوصول : 65 : « ولو سلّم فلم يدخل كلّ واحد الصدق والكذب » وقال في ص 66 : « ويختصّ بأنّ حرف « أو » للترديد وهو مناف للتعريف » ، واختاره القاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى 1 : 145 و 146.
2- أي في تعريف الخبر ص 204. وفي « ب » : « ذكرنا ».
3- جعله ابن الحاجب أولى في منتهى الوصول : 66 ، وكذا في مختصر المنتهى : 145 ، واختاره التفتازاني في المطوّل : 37 ، والبهائي في زبدة الاصول : 88.
4- اختاره ابن الحاجب وجعله أقرب معنى في منتهى الوصول : 66 ، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى 1 : 145 ، وكذا شارح المختصر : 147.
5- أضافهما البصري في المعتمد 2 : 75. وفيه : « نفيا أو إثباتا ».
6- أورده ابن الحاجب في منتهى الوصول : 66 ، وفي مختصر المنتهى : 145.
7- أي إثباتا أو نفيا.

التصديق بها. ومن السلب انتزاعها. وعلى التقديرين لا يرد نحو « اضرب » باعتبار نسبة الحدث إلى المخاطب ؛ إذ لم يعلم وقوعها ، ولم يحصل التصديق بها.

وأيضا المراد من قوله : « بنفسه » أن يكون الإفادة المذكورة منه باعتبار الوضع ، ودلالة « اضرب » على إثبات الطلب للمتكلّم باعتبار العقل لا الوضع (1).

ولا يخفى أنّه يخرج حينئذ الخبر الذي تركّب من الألفاظ المستعملة في معانيها المجازيّة ؛ لأنّ دلالتها ليست باعتبار الوضع ، وتعميم الوضع بحيث يتناول المجاز يستلزم دخول « اضرب » ونحوه باعتبار الدلالة على نسبة الطلب إلى المتكلّم ؛ لأنّ الأمر بالضرب سبب لها.

وما قيل : إنّه لو اريد [ من ](2) « بنفسه » كونه مستعملا بذاته ، خرج نحو « اضرب » ودخل الخبر المركّب من الألفاظ المجازيّة ، لا يخفى ضعفه ؛ لعدم تحقّق الاستعمال باعتبار الذات في كليهما. وإن أمكن أن يقال بتحقّقه في الألفاظ المجازيّة ، يمكن (3) أن يقال في نحو « اضرب » ؛ لعدم التفاوت بينهما ، ولأجل ذلك لا يخلو هذا التعريف عن فساد.

ويرد عليه (4) أيضا : أنّ تحقّق العلم بوقوع النسبة والتصديق بها إنّما هو في صورة صدق الخبر دون كذبه ، فيخرج الخبر الكاذب عن هذا التعريف.

ومثل هذا الإيراد يرد على سابقه أيضا ؛ لأنّ الخبر الذي لنسبته خارج هو الصادق دون الكاذب.

وأجاب بعضهم عنه : بأنّ مدلول كلّ خبر هو الصدق فقط (5) ، أي وقوع النسبة ، والكذب احتمال عقلي يجوّزه العقل ؛ نظرا إلى أنّ مدلول اللفظ لا يجب أن يكون ثابتا في

ص: 207


1- أجاب به القاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى 1 : 147. وقال : « صرّح البصري بالثاني في المعتمد 1 : 75 ». ومراده بقوله : « بالثاني » هو تفسير « بنفسه ».
2- أضفناه لاستقامة العبارة.
3- في « ب » : « أمكن ».
4- أي على التعريف الثاني وهو رابع التعريفات للخبر.
5- ذهب إليه القرافي في الفروق 1 : 24 ، ونقله التفتازاني عن بعض المحقّقين واختاره في المطوّل : 41. وذكر الكلباسي رحمه اللّه في الرسائل الرجاليّة 1 : 425 : أنّ مراد التفتازاني من قوله : « بعض المحقّقين » هو الرضيّ نجم الأئمّة.

الخارج ، فيصحّ تخصيص التعريف بالخبر الصادق ؛ نظرا إلى أنّ كلّ خبر من حيث الوضع يجب أن يكون صادقا ، ويصحّ تعميمه أيضا ؛ نظرا إلى الاحتمال العقلي ، كما في التعريفين الأوّلين (1).

وفي هذا الجواب تأمّل لا يخفى.

ثمّ الحقّ ، أنّه لا ينتقض بالمركّبات الناقصة المشتملة على نسبة ثبوتيّة ، أو سلبيّة ، كالمركّب الإضافي ، أو (2) التوصيفي ؛ لأنّك عرفت (3) أنّ المراد من إفادة النسبة العلم بوقوعها ، ومن الإثبات التصديق بها ، فمع الزيادة المذكورة في التعريف وبدونها لا ترد (4) نقضا عليه ؛ لأنّها لا تفيد العلم بوقوع النسبة والتصديق بها ، بل تفيد تصوّرها.

وإنّما أطنبنا الكلام في تعريف الخبر ، مع عدم كونه من الامور المهمّة ؛ لوقوع الاختلاف الشديد فيه بين القوم ، ولا بدّيّة بيان ما هو الحقّ وقد عرفته.

على أنّه يختلف بعض الأحكام باختلافه ، مثلا إذا قال رجل : « من أخبرني بمجيء زيد فله ألف درهم » فقال رجل : « جاء زيد » وكان كاذبا ، يمكن أن يقال بلزوم الألف عليه ؛ لصدق الخبر عليه على ما هو الحقّ. وعلى القول بأنّ الخبر يختصّ بالصادق ، فلا يلزمه شيء.

والحقّ (5) أنّه لا يلزم عليه شيء ، لا لذلك ، بل لأنّ العرف يحكم بأنّ المراد من الإخبار في قوله هو الإخبار الصادق.

ويتفرّع عليه (6) أيضا لزوم الألف عليه بالإخبار ثانيا وثالثا ؛ لصدق الخبر عليه ، بخلاف ما لو قال : « من بشّرني بمجيء زيد » فإنّه لا يلزم عليه شيء بالإخبار ثانيا وثالثا ؛ لأنّ البشارة هو الخبر السارّ ، وهو يختصّ بالخبر الأوّل.

ص: 208


1- والمراد بهما ما تقدّما في ص 204.
2- في « ب » : « و ».
3- في ص 206 : « وأمّا على الثاني ... ».
4- الضمير المستتر راجع إلى المركّبات.
5- هذا يشبه إنكار الثمرة بعد إثباتها وهو أمر غير معتاد.
6- أي على الاختلاف في تعريف الخبر ، ولكن في تفرّع ما ذكر على الاختلاف المذكور خفاء.
تتمّة

الخبر يطلق تارة على ما يقابل الإنشاء ، وهو الذي ذكرناه (1). واخرى على ما يرادف الحديث وهو قول المعصوم ، أو حكاية قوله ، أو فعله ، أو تقريره.

وتحديده بأنّه « ما يحكي قوله » (2) إلخ. منتقض العكس بما سمع منه من غير أن يحكيه عن معصوم آخر ، والطرد بعبارات غيره المتضمّنة لنقل الحديث بالمعنى.

وتحديده ب- « ما جاء عن المعصوم » (3) لا يخفى فساده ؛ فالأصحّ ما ذكر أوّلا (4).

وقد يجعل الحديث أعمّ مطلقا من الخبر (5).

وقد يخصّ الحديث بما جاء عن المعصوم ، فيقال للعالم بما جاء عن النبيّ والأئمّة : المحدّث ، والخبر بما جاء عن غيره ، فيقال للعالم بالتواريخ وأمثالها : الأخباريّ (6).

ولا يخفى أنّ هذه اصطلاحات ، ولا مشاحّة فيها ، لكنّ أشهر استعمالات الحديث عندنا ما ذكر أوّلا (7). وأمّا عند العامّة ، فيطلق على قول الصحابي أو التابعي ، وعلى حكاية قولهما أو فعلهما أو تقريرهما.

فائدة

ذهب المرتضى رحمه اللّه (8) من أصحابنا وبعض العامّة (9) إلى أنّه لا بدّ في كون صيغة الخبر خبرا واستعمالها في فائدتها من قصد المخبر كونها خبرا ، وبدونه لا تكون خبرا.

ص: 209


1- تقدّم في ص 203.
2- ذهب إليه أحمد البصري في فائق المقال : 41 ، والقمّي في قوانين الاصول 1 : 409.
3- أشار الشهيد الثاني إلى هذا التعريف في البداية في علم الدراية : 28 ، وشرح البداية : 54.
4- أي قول المعصوم أو حكاية قوله أو فعله أو تقريره.
5- حكاه قولا في تدريب الراوي 1 : 42 و 43.
6- حكاه قولا في تدريب الراوي 1 : 42 و 43.
7- أي قول المعصوم أو حكاية قوله أو فعله أو تقريره.
8- الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 478 ، وذهب إليه غيره من أصحابنا الشيخ في العدّة في أصول الفقه 1 : 64 ، والمحقّق الحلّي في معارج الاصول : 138.
9- ذهب إليه من العامّة البصري في المعتمد 2 : 73. وفي ذيله ما يوهم المنافاة ولا منافاة عند التأمّل ، والغزالي في المستصفى : 8. والتفتازاني في المطوّل : 48 : « ... فإنّ ضرب مثلا لا يصير خبرا ... ».

واحتجّوا عليه : بأنّ هذه الصيغة قد تصدر عن الساهي والمجنون والنائم وأمثالهم ممّن لا قصد له إلى شيء أصلا ، وقد تصدر عمّن يقصد بها غير الخبر مجازا ، كقوله تعالى : ( وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ ) (1) ، وقوله : ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ ) (2) ، ولا شكّ أنّ الصيغة في الصورتين ليست خبرا ، وليس ذلك إلاّ لعدم القصد إلى الخبريّة ، فصيغة الخبر لا تحمل عليه ما لم يتحقّق مرجّح القصد (3).

وذهب الأكثر إلى عدم الاحتياج إلى القصد ، وهو الحقّ ؛ لأنّ ما وضع للخبر هو الصيغة فقط من دون اعتبار القصد ، فالوضع مرجّح لا يفتقر إلى غيره ، فعند الإطلاق يجب حملها عليه.

وصدورها عن الساهي وأمثاله لا يخرجها عن الخبريّة لغة ، إلاّ أنّه لا يترتّب عليها فائدة الخبر ؛ لأنّها موقوفة على صدورها عن عاقل. وليس هذا خاصّا بالخبر ، بل كلّ كلام حكمه كذلك.

واستعمالها في بعض الأحيان في غير الخبر مجازا لا يدلّ على اعتبار القصد ، بل كون الاستعمال مجازيّا حينئذ دليل على عدم اعتباره.

وبالجملة ، صيغة الخبر وحدها حقيقة فيه ، وصيغة الإنشاء حقيقة فيه. وعند الإطلاق يجب حمل كلّ واحد منهما على معناه الحقيقي.

ولمّا كان بين الخبر والإنشاء مناسبة ، يصحّ أن يطلق ما وضع لأحدهما على الآخر مجازا.

ومن هذا القبيل استعمال صيغ العقود ، ك- « بعت » و « أنكحت » و « طلّقت » وأمثالها في الإنشاء ؛ فإنّها في اللغة أخبار ، إلاّ أنّ الشرع استعملها إنشاء ؛ لأنّه يقصد منها حدوث الحكم وهي موجدة له عند التّلفظ ، وهذا معنى الإنشاء.

والحقّ : أنّ هذا الاستعمال من الشرع في أوّل الأمر إنّما كان مجازا لأجل المناسبة ؛ لعدم ثبوت النقل ، وهل صار هذا الاستعمال غالبا بحيث يتبادر عنها معنى الإنشاء حتّى تكون حقيقة فيه؟

ص: 210


1- المائدة (5) : 45.
2- البقرة (2) : 197.
3- راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 478 ، والعدّة في أصول الفقه 1 : 64 ، والمحصول 4 : 223.

الحقّ : عدم ثبوت ذلك ، فكلّ موضع وجد فيه قرينة الإنشاء - أعني القصد إلى حدوث الحكم - يحمل عليه ، وإن لم توجد يحمل على الخبر.

ويتفرّع عليه : لزوم القصد التفصيلي أو الإجمالي في صيغ العقود ، فلا عبرة بصيغة الغافل والساهي ، ومن لم يتصوّر معنى الإنشاء فأجرى الصيغة غير قاصد إلى معنى الإنشاء والخبر ، أو قاصدا للخبر ، ولكن يكفي مجرّد العلم بأنّ المراد منها حدوث الحكم.

والقول بأنّ هذه الصيغ مفيدة لحدوث الحكم من الشرع وإن لم يتحقّق قصد ، مشكل ؛ لأنّ هذا موقوف على كونها حقائق شرعيّة في الإنشاء ولم يثبت.

ثمّ لا بدّ لنا هنا من الإشارة إلى امور :

الأوّل : إن قيل : المراد بالإنشاء إن كان إحداث الحكم عند التلفّظ بالصيغة ، يلزم في التعليقات تعليق الواقع على ما لم يقع ؛ فإنّ الجملة الجزائيّة في قول الرجل لزوجته : « إن دخلت الدار فأنت طالق ، أو كظهر أمّي » إنشاء ، فعند التكلّم يجب حدوث الطلاق أو الظهار ، مع تعليقهما على دخول الدار الذي لم يقع بعد ، وهو محال.

قلنا : حدوث الحكم عند التلفّظ بالصيغة إنّما هو عند عدم التعليق ، وأمّا عنده ، فحدوثه عند تحقّق ما علّق عليه ، وانعدام الصيغة عند تحقّقه - بناء على كونها غير قارّة الذات - لا يمنع تحقّق الحكم ؛ لأنّها ليست سببا حقيقيّا له ، بل من الأسباب المعرّفة ، فيجوز حدوث مسبّبها بعد انعدامها.

الثاني : إن قيل : إنّ صيغ العقود إن اوقعت بعنوان الاستقبال ، كأن يقول : « أبيعك » أو « انكحك » ، فلا تخلو من أن تكون خبرا - على ما يشعر به بعض تعريفاته - أو إنشاء - على ما يشعر به بعض آخر منها - وعلى التقديرين يلزم أن يقع العقد بها.

أمّا على التقدير الأوّل ، فلأنّه كما يصحّ أن يراد الإنشاء من الجملة الخبريّة إذا كانت ماضية ، فكذا يصحّ إذا كانت مستقبلة ؛ لعدم الفرق.

وأمّا على [ التقدير ] الثاني ، فظاهر.

ص: 211

قلت : أمّا على التقدير الأوّل ، فإنّا لا نسلّم أنّ كلّ خبر يصحّ أن يراد منه الإنشاء. سلّمناه ولكن لا نسلّم جوازه في صيغ العقود ؛ لأنّها متلقّاة من الشرع.

وأمّا على [ التقدير ] الثاني ، فإنّ المراد من الإنشاء غير الخبر - أي ما ليس لنسبته خارج - ، وهذا مفهوم كلّي له أفراد مختلفة بعضها إحداث الفعل في الحال ، وبعضها إحداثه في الاستقبال ، وبعضها طلب الفعل ، وبعضها معان أخر ، ووقوع العقد بواحد منها للمناسبة لا يستلزم وقوعه بغيره ممّا ينافيه.

الثالث : الحقّ - كما أشرنا إليه (1) - أنّ صيغ العقود إذا قصد بها حدوث الحكم تكون إنشاء ؛ لصدق حدّ الإنشاء عليها ، وعدم صدق الخبر عليها ؛ ولأنّها لمّا كانت صيغ الماضي ، فلو كانت أخبارا (2) لبقيت على ما كانت عليه من كونها ماضية ؛ لعدم ورود مغيّر حينئذ ، بخلاف ما لو كانت إنشاء. وحينئذ لم تقبل التعليق ؛ لأنّه يتصوّر فيما لم يقع بعد ، مع أنّها قابلة له إجماعا.

وخالف بعض الناس وقال : إنّها أخبار (3) ؛ محتجّا بأنّ الخبر إمّا أن يخبر عمّا في الخارج ، أو عمّا في الذهن ، والصيغ المذكورة من الثاني. وحينئذ يصدق عليها حدّ الخبر دون الإنشاء ، وتبقى على ما كانت عليه من كونها ماضية ، ولم تقبل التعليق ، بل القابل له حقيقة ما في الذهن ، واللفظ إخبار عنه ، فكأنّه قال : ثبت في ذهني تعليق الطلاق (4).

ولا يخفى أنّه لو بني الأمر على تعميم الخبر واكتفي فيه بالإخبار عمّا في الذهن ، فات المطابقة وعدمها ، ولم يتحقّق فيه صدق وكذب ؛ لأنّ المطابقة هي موافقة النسبة العقليّة للخارجيّة ، وما في الذهن ليس إلاّ النسبة العقليّة ، فإذا لم يكن له خارج ، لا معنى للمطابقة حينئذ.

ص: 212


1- في ص 211.
2- يجوز بكسر الهمزة أيضا.
3- يجوز بكسر الهمزة أيضا.
4- حكاه القرافي عن الحنفيّة في الفروق 1 : 28 و 29 ، والشهيد في القواعد والفوائد 1 : 254 ، ذيل قاعدة 83 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 245 ، الباب الثامن في الأخبار.

ثمّ لو سلّم تعميمه واندفاع الوجهين الأوّلين (1) به ، فلا نسلّم اندفاع الوجه الثالث به. وما ذكره في بيانه (2) واه ؛ لأنّ التعليق إنّما وقع حقيقة في الماضي الذي يتلفّظ به وهو غير جائز ، ولو سلّم عدم وقوع التعليق فيه حقيقة ، فنقول : إنّ الثابت في الذهن ليس تعليق الطلاق الواقع فيه ، بل تعليق الماضي الواقع فيه ، ومطلق الماضي - سواء كان في اللفظ ، أو في الذهن - لا يقبل التعليق ، فلا مفرّ إلاّ القول بكونها إنشاء.

فصل [2]
اشارة

المشهور أنّ الصدق مطابقة الخبر للواقع ، والكذب عدم مطابقته له.

والنظّام على أنّ الصدق مطابقة الخبر لاعتقاد المتكلّم ، والكذب عدمها ، ولا عبرة فيهما بمطابقته للواقع وعدمها (3).

والجاحظ على أنّ الصدق مطابقته للواقع ، والاعتقاد بها (4) معا ، والكذب عدم مطابقته له مع الاعتقاد بعدمها ، وما لم يحمل عليه الوصفان لا يكون صدقا ولا كذبا ، بل واسطة بينهما ، وهي أربعة أقسام : مطابقته للواقع مع الاعتقاد بعدمها ، أو بدون اعتقاد أصلا - كخبر من لا شعور له كالمجنون وأمثاله ، أو له شعور بدون اعتقاد كالشاكّ - وعدم مطابقته له مع اعتقادها ، أو بدونه أصلا (5).

والحقّ القول المشهور كما أشرنا إليه سابقا (6). والذي يدلّ على حقّيّته وإبطال القولين الأخيرين أنّ الكافر إذا قال : « الإسلام حقّ » يحكم بصدقه ، وإذا قال خلافه ، يحكم بكذبه إجماعا.

ص: 213


1- والمراد بهما صدق الإنشاء وعدم صدق الخبر. والمراد بالوجه الثالث قوله : « ولأنّها لمّا كانت ... ».
2- وهو قوله : « ولم تقبل التعليق بل القابل له حقيقة ما في الذهن ».
3- راجع : منتهى الوصول لابن الحاجب : 67 ، وشرح مختصر المنتهى 1 : 149. وفسّره التفتازاني في المطوّل : 37 بأنّ قائله النظّام.
4- لم يرد في « ب » : « بها ».
5- راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 479 ، والإحكام في أصول الأحكام 2 : 17 ، ونهاية الوصول إلى علم الأصول 3 : 288 - 291 ، وتمهيد القواعد : 247 ، القاعدة 91.
6- في ص 204.

احتجّ النظّام بقوله تعالى : ( وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ ) (1) حيث كذّبهم في قولهم : ( نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّهِ ) مع أنّ خبرهم كان مطابقا للواقع ، فكذبه لعدم اعتقادهم (2).

والجواب : أنّ التكذيب إنّما هو في شهادتهم ؛ لأنّها تكون عن علم ، ولم تكن شهادتهم هذه عن علم. أو في استمرارها ؛ لأنّهم زعموا أنّها تستمرّ منهم ، فكذّبهم بانقطاعها بعد ذلك. وقد ذكر وجوه أخر (3). وما ذكرنا كاف للمطلوب.

واحتجّ الجاحظ بقوله تعالى : ( أَفْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ) (4) ، حيث حصروا خبر النبيّ بنبوّته في كونه افتراء ، أو كلام مجنون. ولم يقصدوا بالأخير الصدق ؛ لعدم اعتقادهم ذلك ، ولا الكذب ؛ لأنّهم جعلوه قسيمه ، فأثبتوا واسطة بينهما وهم أهل اللسان (5).

والظاهر أنّ قصد الجاحظ أنّه يثبت واسطتان من الأربع من الآية ؛ لأنّهم جعلوا خبره صلى اللّه عليه وآله وسلم - بزعمهم الفاسد - إمّا الكذب ، وعبّر عنه بالافتراء ، الذي هو عدم المطابقة مع اعتقاد عدمها. ويظهر منه أنّ عدم المطابقة مع اعتقادها أو بدونه أصلا من الوسائط ، فثبت هنا واسطتان. وإمّا كلام مجنون ، وكونه واسطة بناء (6) على عدم كونه عن اعتقاد عدم المطابقة ، وإلاّ فهو بزعمهم لم يكن مطابقا للواقع ، فهذا القسم يثبت من كلا شقّي الترديد ، ويبقى الصدق وكونه مطابقتهما معا. والواسطتان (7) الاخريان غير معلومة من الآية ، ويعلم حالها بالمقايسة وعدم القائل بالفصل.

والجواب : أنّ الكذب أعمّ من الافتراء ؛ لكون القصد معتبرا في الثاني دون الأوّل ، فترديدهم خبره إنّما كان بين الافتراء وعدمه ، فكأنّهم قالوا : أكذب من قصد ، فيكون مفتريا ، أو من غير قصد ، فيكون مجنونا؟ فإنّ الكاذب من غير قصد يكون مجنونا. ففي الشقّ الثاني تحقّق الكذب الذي ليس بافتراء.

ص: 214


1- المنافقون (63) : 1.
2- راجع : منتهى الوصول لابن الحاجب : 67 ، وشرح مختصر المنتهى 1 : 149 ، والمطوّل : 37.
3- للمزيد راجع المطوّل : 37 و 38.
4- سبأ (34) : 8.
5- راجع : منتهى الوصول لابن الحاجب : 66 ، وشرح مختصر المنتهى 1 : 148 و 149 ، والمطوّل : 39.
6- خبر مرفوع.
7- عطف على « الصدق » أي يبقى ثلاثة امور غير معلومة من الآية. والضمير في « حالها » راجع إلى الثلاثة.

ويتفرّع على هذا الخلاف أنّه إذا قال المنكر : « إن شهد لك زيد فهو صادق » يكون إقرارا على المذهب المختار ومذهب الجاحظ ؛ لامتناع الصدق مع البراءة.

وفيه : أنّه يمكن أن يكون اعتقاد المخبر (1) استحالة شهادة زيد ، والمحال قد يستلزم محالا آخر.

ولا كلام في عدم كونه إقرارا على مذهب النظّام.

ولو قال المدّعي بعد إقامة البيّنة : « كذب شهودي » يسقط دعواه على المذهبين الأوّلين دون الآخر. ولو قال : « لم يصدق شهودي » يسقط على المذهب الحقّ دون الآخرين. وفي حكم السقوط ثبوت الإقرار لو قال له المنكر : « صدق شهودك » أو « لم يكذبوا ».

تقسيم

الخبر باعتبار ينقسم إلى ما يعلم صدقه إمّا بالضرورة ، كالمتواتر ، أو بالنظر ، كخبر اللّه ، وخبر النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم والمحتفّ بالقرائن. ووقوع المتشابهات التي اريد خلاف ظاهرها ، والعمومات المخصّصة ، والمطلقات المقيّدة في كلامهما لا ينافي الصدق ؛ لأنّه من لوازم المحاورات ، وقد نصب القرينة الدالّة على المراد للمخاطبين.

وإلى ما يعلم كذبه بالضرورة ، أو النظر (2). والمثال ظاهر.

وإلى ما لا يعلم صدقه ولا كذبه ، وهو على ثلاثة أقسام : ما يظنّ صدقه ، كخبر العدل ، وما يظنّ كذبه ، كخبر الكاذب ، وما يشكّ فيهما ، كخبر مجهول الحال.

وقال بعض الناس (3) : كلّ خبر لا يعلم صدقه فهو كذب.

وهذا فاسد ؛ لبداهة كون الجهل واسطة بين العلم بشيء والعلم بنقيضه ؛ وللزوم ارتفاع النقيضين لو أخبر رجل بقيام زيد مثلا في وقت ، وأخبر آخر بعدم قيامه فيه.

ويظهر فائدة هذا الخلاف في الأيمان ، والتعليقات ، وأمثالهما.

ص: 215


1- كذا في النسختين. والأنسب : « المنكر ».
2- في « ب » : « بالنظر ».
3- نسبه القاضي عضد الدين إلى بعض الظاهريّة في شرح مختصر المنتهى 1 : 150.
فصل [3]

ينقسم الخبر باعتبار آخر إلى متواتر وآحاد.

والمتواتر : خبر جماعة يفيد بنفسه العلم بصدقه. وقيل : أخبار جماعة يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب (1).

والحقّ - كما ذهب إليه أكثر العقلاء - : أنّه يجوز تحقّق خبر يفيد بنفسه العلم ؛ لكثرة المخبرين ، وقد وقع ، كالخبر بوجود البلاد النائية والامم الماضية ، كمكّة وسائر المدن المعروفة ، والأنبياء وباقي الأقوام المشهورة. فإنّا نجد من أنفسنا العلم بها كما نجد منها العلم بالمحسوسات ، ولا ريب في استناد علمنا إلى الخبر.

وخالف السمنيّة (2) والبراهمة (3) في ذلك ، فقال قوم منهم : لا يمكن تحقّق خبر يفيد العلم ، بل الممكن تحقّق ما يفيد الظنّ (4). وقال آخرون بإمكانه فيما يوجد في زمان الخبر ، لا فيما سلف.

واحتجّوا بوجوه ضعيفة :

منها : أنّه كما يجوز الكذب على كلّ واحد منهم حالة الانفراد ، فكذا يجوز عليه في حالة الاجتماع ؛ فإنّ الجملة هي الأفراد بشرط الاجتماع (5).

والجواب : أنّ حكم الجملة قد يخالف حكم الآحاد ، وهذا بديهيّ.

ومنها : لو حصل القطع من الخبر المتواتر لما فرّقنا بين ما مثّل ، وبين علمنا بأنّه لا واسطة بين النفي والإثبات ، وبأنّ الأربعة زوج ، مع أنّ الفرق ظاهر (6).

وجوابه : أمّا على القول بكون العلم الحاصل من المتواتر نظريّا (7) : فظاهر ؛ لأنّ الفرق باعتبار النظريّة والضرورة.

ص: 216


1- ذهب إليه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 69 ، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى : 153.
2- في القاموس المحيط 4 : 238 ، « سمن » : « السّمنيّة - كعرنيّة - قوم بالهند دهريّون قائلون بالتناسخ ».
3- المصدر : 81 ، « برهمة » : « البراهمة قوم لا يجوّزون على اللّه تعالى بعثة الرسل ».
4- راجع الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 481.
5- راجع معالم الدين : 184.
6- راجع معالم الدين : 184.
7- نسبه السيّد المرتضى إلى أبي القاسم البلخي ومن وافقه في الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 485 ، ونسبه ابن الحاجب إلى الكعبي والبصري في منتهى الوصول : 68 ، ومختصر المنتهى : 152.

وأمّا على القول بكونه ضروريّا (1) ، فبأنّ الضروريّات قد تختلف لا في حصول القطع وعدمه ؛ فإنّه متحقّق في جميعها ، بل في سرعة الانتقال وأمثاله (2) ، والفرق هنا لذلك.

ومنها : أنّه يجوز أن يجتمع جمع كثير يتحقّق به التواتر على خبر كاذب ؛ لاعتيادهم الكذب ، كما نشاهد من كثير الناس ، أو لخوف من سلطان وأمثاله ، أو لدفع فساد عن أنفسهم ، أو لطمع دنيويّ أو دينيّ ، كما وضع كثير من الزهّاد أحاديث دالّة على فضائل الأوقات ؛ لحمل الناس على العبادة. أو للالتباس عليه إمّا لغلط البصر ، أو لعروض بعض الحالات ، كالفكر والخوف الشديدين ؛ فإنّ الإنسان قد يرى في مثل هذين الحالين صورا لا تحقّق لها في الخارج. أو لاشتباه حالة باخرى ، كالسكتة بالموت ، أو ذات باخرى. وهذا جائز عقلا ؛ لأنّ اللّه يقدر على خلق مثل زيد في جميع مشخّصاته ، ونقلا ؛ لأنّ المسيح شبّه بغيره (3) ، وجبرئيل تصوّر بصورة دحية الكلبي (4) ، وتشكّلت الملائكة يوم بدر بأشكال بني آدم (5) ، وأمثال ما ذكر كثيرة.

والجواب : أنّ هذه احتمالات نادرة لا يلتفت إليها العقول السليمة ، مع أنّ موضع النزاع اجتماع عدد التواتر على إحداها (6) ، وهذا أمر لا يكون.

على أنّا نقول : حصول العلم عقيب الخبر المتواتر ضروري ، فهذا تشكيك في مقابله ، فإن كانت (7) صالحة للإيراد ، فإنّما ترد على من رام إثبات حصول العلم عن المتواتر بالدليل.

ومنها : أنّه لو حصل العلم من الخبر المتواتر لزم حصوله ممّا ادّعى اليهود والنصارى من تواتر النقل من موسى وعيسى بأنّه لا نبيّ بعده (8).

ص: 217


1- نسبه السيّد المرتضى إلى أبي علي وأبي هاشم ومن تبعهما في الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 485 ، ولكنّ ابن الحاجب نسبه إلى الجمهور في المصدرين.
2- كذا في النسختين. والأولى : « عدمها » أو « أمثالها ».
3- حكاه الفخر الرازي في المحصول 4 : 246.
4- المصدر : 247.
5- المصدر : 248.
6- أي الاحتمالات. والمراد أنّ اجتماع عدد التواتر على اعتياد الكذب ، أو الخوف من السلطان ، أو الدفع أمر لا يكون.
7- الضمير المستتر راجع إلى الاحتمالات.
8- حكاه الشيخ حسن في معالم الدين : 184.

وجوابه : أنّ نقل اليهود والنصارى لم يحصل بشرائط المتواتر (1) ؛ لانقراض اليهود في قضيّة بخت نصّر بحيث لم يبق منهم عدد يفيد قولهم العلم (2) ، وقلّة النصارى في المبدأ.

لا يقال : يلزم حينئذ عدم تواتر ما يدلّ على نبوّة نبيّنا صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وإلاّ حصل العلم لجميع الطوائف ، ولو حصل لم يخالف أحد نبوّته ؛ لأنّ العاقل لا يخالف مقتضى علمه.

والجواب : أنّ ما يدلّ على نبوّته صلى اللّه عليه وآله وسلم إمّا عقلي ولا تواتر فيه ؛ لاشتراط كون المتواتر محسوسا ، وإمّا حسّي متواتر بالتواتر اللفظي أو (3) المعنوي. وعدم حصول العلم منه لبعض الطوائف باعتبار الالتباس عليهم ، وجمودهم على الشّبه الواهية ، كما هو حال السوفسطائيّة ، مع أنّه يمكن حصول التواتر لطائفة دون اخرى إذا لم يقع عنها البحث والفحص.

لا يقال : يمكن أن يكون نقل اليهود والنصارى من هذا القبيل.

لأنّا نقول : قد وقع منّا الفحص عن نقلهم ، وعثرنا على ما يكذب تواتره كما ذكرنا. وأيضا لنا براهين قاطعة منافية له ، كما لا يخفى.

وقد أوردوا بعضا آخر من الشكوك (4). والحقّ : أنّ جميعها تشكيك في الضروري (5) ، فلا يستحقّ الجواب.

ويتفرّع عليه : عدم معارضة شيء من الأدلّة للمتواتر ؛ لأنّ تواتر المتعارضين غير واقع ، بل غير جائز ، وغيره ممّا لا يفيد العلم لا يقاوم ما يفيده.

ثمّ الحقّ - كما ذهب إليه الأكثر - : أنّ العلم الحاصل منه ضروريّ ؛ إذ لو كان نظريّا لتوقّف على ترتيب المقدّمتين ، واللازم منتف ؛ فإنّه حاصل لمن ليس من أهل البحث والنظر ، كالبله والصبيان ، وكلّ أحد يحصل له العلم بوجود بلد تواتر الإخبار عليه من غير سابقة فكر ونظر ، فكذا الملزوم. والملازمة ظاهرة.

ص: 218


1- في « ب » : « التواتر ».
2- راجع المحصول 4 : 256.
3- في « ب » : « و ».
4- راجع : منتهى الوصول لابن الحاجب : 68 ، وشرح مختصر المنتهى 1 : 151.
5- في « ب » : « الضرورة ».

وقيل : لو كان نظريّا لساغ الخلاف فيه ، وليس كذلك (1).

وفيه ما فيه ؛ فإنّ كثيرا من النظريّات القطعيّة موضع وفاق.

وذهب بعض الناس إلى أنّه نظريّ (2). واحتجّ : بأنّه متوقّف على أنّ المخبر عنه محسوس ، وأنّ المخبرين جماعة لا يجوز تواطؤهم على الكذب ، فيكون نظريّا ؛ لتوقّفه على الوسط.

والجواب : أنّ العلم لا يتوقّف عليه ، بل هو حاصل ضرورة. ومثل هذا الوسط يمكن فرضه لكلّ ضروريّ (3) ، كالانقسام إلى المتساويين لزوجيّة الأربعة ، واشتمال الكلّ على جزء آخر لأعظميّة الكلّ من الجزء.

نعم ، كثيرا ما يشتبه بالنظريّ ؛ لخفاء الشروط الآتية المعتبرة فيه ، فيحتاج إلى التأمّل ليظهر تحقّقها أو عدمه. ونظيره بعض التصديقات الضروريّة حيث يتوقّف العقل فيه ؛ لعدم تصوّر الطرفين ؛ فإنّه يجوز كون التصديق ضروريّا ، وتصوّر طرفيه نظريّا.

وتوقّف المرتضى (4) ؛ لعدم دليل صالح على أحد الطرفين ، وقد عرفته (5).

وذهب الغزالي إلى أنّه (6) ليس ضروريّا لا يحتاج إلى ملاحظة الوسط مطلقا ، ولا نظريّا يحتاج إلى الحركة الفكريّة والشعور بتوسّط الوسط ، بل الواسطة حاضرة في الذهن ، إلاّ أنّها لا تحتاج إلى الحركة والشعور بتوسّطها (7).

ومراده من الواسطة ما ذكر في حجّة القول بكونه نظريّا.

ولا يخفى أنّ قوله راجع إلى ثبوت الواسطة بين الضروريّ والنظريّ ، وفساده ظاهر.

ص: 219


1- نسبه ابن الحاجب إلى الجمهور في منتهى الوصول : 68 ، ومختصر المنتهى : 152.
2- منهم : أبو القاسم البلخي ، كما في الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 485 ، ونسبه ابن الحاجب إلى الكعبي والبصري في منتهى الوصول : 68 ، ومختصر المنتهى : 152.
3- غير القضيّة الاولى ، وهي استحالة ارتفاع النقيضين ، أو عدم الواسطة بين النفي والإثبات. وأمّا استحالة اجتماع النقيضين ، فهي أيضا معلّلة باستلزام اجتماعهما ثبوت الواسطة.
4- الذريعة إلى اصول الشريعة 2 : 485.
5- آنفا.
6- أي العلم الحاصل من التواتر.
7- المستصفى : 106 و 107.
فصل [4]
اشارة

يشترط في صحّة التواتر شروط ، بعضها في المخبرين ، وبعضها في السامعين :

والأوّل أربعة :

الأوّل : أن يبلغ عددهم في الكثرة حدّا يمتنع معه عادة تواطؤهم على الكذب. ووجه اشتراطه ظاهر.

والحقّ أنّه لا يشترط فيه عدد خاصّ ، بل الضابط فيه ما يفيد العلم ، وهو يختلف باختلاف القرائن والوقائع ، وأحوال المخبرين والسامعين. وتفاوت كلّ منها يوجب اختلاف العدد بحيث لا يمكن حصره ، فكيف إذا تركّب بعضها مع بعض. ولو كان العدد المخصوص معتبرا لما وقع الاختلاف؟

وأيضا يحصل لنا العلم من الأخبار المتواترة من غير تنبّه (1) لعدد مخصوص ، ولو كان شرطا ، لتوقّف حصوله على حصوله.

واجيب عنه : بأنّ التوقّف على حصوله في الواقع ، لا على العلم به (2).

وفيه : أنّ حصول العلم لو كان مسبّبا عن عدد خاصّ ، لعلم حصوله عند حصوله ، مع أنّه يحصل لنا العلم من الأخبار المتواترة ولا ننتقل منه إليه.

ثمّ لمّا كان حصول العلم من الخبر المتواتر تدريجيّا - لأنّه إذا سمع من واحد أفاد ظنّا ، وكلّما تكرّر قوي ، وهكذا يتقوّى بتدريج إلى أن يصير علما - فحصول العلم بعدد التواتر يتوقّف على ضبطه تدريجا ، وهذا مع صعوبته موجب لاختلافه للأسباب المذكورة.

هذا ، ولكن يجب في المتواتر أن يكون للتعدّد والكثرة دخل في إفادة العلم وإن اختلف بالامور المذكورة ، فيخرج الخبر المحفوف بالقرينة.

ثمّ القائلون باشتراط العدد الخاصّ اختلفوا فيه على أقوال شتّى (3). ولكلّ قول شبهة

ص: 220


1- في « ب » : « تنبيه ».
2- أجاب به الباجي في إحكام الفصول : 246.
3- راجع : الإحكام في أصول الأحكام 2 : 37 و 38 ، والمحصول 4 : 265 و 266 ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : 70 ، وشرح مختصر المنتهى 1 : 154.

واهية. ولا فائدة في ذكرها بعد العلم ببطلانها.

الثاني : أن يخبروا عن محسوس ، فلا تواتر في المعقول ، كحدوث العالم وأمثاله ؛ لتأتّي الاشتباه في العقليّات ، ومعارضة الوهم للعقل فيها ، فلا يفيد قولهم العلم.

الثالث : أن يكون إخبارهم عن علم لا عن ظنّ.

وقيل : إنّ هذا الشرط لا يعمّ جميع المخبرين ، بل يكفي ثبوته لبعضهم (1).

الرابع : استواء الطرفين والواسطة في إفادة العلم بأن يبلغ كلّ واحدة من الطبقة الاولى المشاهدين لمدلول الخبر ، والطبقة الواسطة الناقلين عن الاولى - متّحدة كانت أو متعدّدة - والأخيرة الناقلين عن الواسطة ، عدد التواتر ، ويكون خبر كلّ منها عن علم.

فلو ذكر واحد خبرا لجماعة وكلّ منهم لجماعة اخرى ، وهكذا إلى أن يبلغ في طبقة إلى عدد كثير يفيد قولهم العلم لو لا المانع ، لم يكن متواترا. ومن هذا الطريق يحصل الأراجيف بين الناس وتشتهر إذا لم يسند كلّ مخبر خبره إلى القائل الأوّل ، ولذا إذا اشتهر الأراجيف يذكرها كلّ أحد ولا يعرف القائل الأوّل.

وغير خفيّ أنّ هذا الشرط في كلّ تواتر تحقّق فيه الطبقات الثلاث ، وإذا تحقّق فيه طبقتان من دون تحقّق واسطة ، فيشترط استواؤهما في إفادة العلم ولا حاجة إلى ذكر الواسطة ، وإن كان المخبرون هم المشاهدين ، فينتفي هذا الشرط رأسا.

الثاني اثنان :
اشارة

الأوّل : أن لا يسبق الخبر المتواتر تقليد ، أو شبهة للسامع. وهذا الشرط قد تفرّد بذكره المرتضى رحمه اللّه (2) ، وتبعه أعيان المتأخّرين عنه (3). وهو حقّ.

ويدلّ على اعتباره نقلا : قوله تعالى : ( إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) (4). وعقلا : كون كلّ واحد من الشبهة والتقليد في القلب بمنزلة معارض قويّ لما

ص: 221


1- ذهب إليه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 69 وفي مختصر المنتهى : 153 ، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى 1 : 153.
2- الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 491.
3- كالعلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الأصول 3 : 319 - 320 ، والشيخ حسن في معالم الدين : 186.
4- الزخرف (43) : 23.

يفيده العلم ، فيمنعه من أن يؤثّر أثره فيه.

وبه يندفع ما يحتجّ به مخالفونا من أنّه لو تواتر معجزات النبيّ أو (1) النصوص على خلافة عليّ عليه السلام لحصل لنا العلم (2).

الثاني : أن لا يكون السامع عالما بمدلول الخبر ضرورة ، بأن يكون مشاهدا له ؛ لاستلزامه تحصيل الحاصل.

وفيه نظر ، أمّا على التعريف الأخير (3) المذكور للمتواتر ، فظاهر ؛ لعدم اعتبار إفادة العلم فيه. وأمّا على التعريف الأوّل (4) له ؛ فلأنّ العلم الحاصل من الخبر مخالف بالنوع للعلم الحاصل من المشاهدة ، فلا يلزم تحصيل الحاصل.

وهنا شروط فاسدة اعتبرها بعض الناس (5) أعرضنا عن ذكرها لعدم الفائدة فيه.

تتمّة

قيل : كلّ عدد أفاد خبرهم علما بقضيّة لشخص فمثله يفيد العلم بها (6) لشخص آخر ، وبغيرها لكلّ منهما (7).

وغير خفيّ أنّ هذا يتوقّف على تساوي المخبرين والقضيّة والسامع من كلّ وجه ؛ لما عرفت (8) من أنّ الخبر يختلف في إفادة العلم باختلافها ؛ وتساويها من كلّ وجه نادر. نعم ، مع فرض تحقّقه (9) يفيد العلم.

ويتفرّع عليه : جواز عمل الحاكم - بناء على القول بجواز العمل بعلمه كما هو الحقّ -

ص: 222


1- في « ب » : « و ».
2- راجع المحصول 4 : 259.
3- وهو أخبار جماعة يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب. راجع ص 216.
4- وهو تعريف المتواتر بإفادته العلم. راجع ص 216.
5- راجع : منتهى الوصول لابن الحاجب : 70 ، وشرح مختصر المنتهى 1 : 155.
6- لم يرد في « ب » : « بها ».
7- نسبه الآمدي إلى القاضي أبي بكر وأبي الحسين البصري في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 42 ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : 71 ، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى 1 : 155.
8- راجع ص 221.
9- أي تحقّق التساوي.

بإخبار (1) جماعة في واقعة ، وعدم العمل بإخبارهم (2) في واقعة اخرى ، وبإخبار (3) مثلهم في الاولى والاخرى. وكذا يجوز حصول العلم من إخبار (4) جماعة لحاكم دون آخر.

فصل [5]

المتواتر إمّا لفظي ، وقد عرفته (5). وإمّا معنوي ، وهو المعنى الكلّي الذي كان قدرا مشتركا بين أخبار جماعة كثيرة يمتنع تواطؤهم على الكذب في وقائع مختلفة. فكلّ واحد من هذه الأخبار وإن لم يبلغ حدّ التواتر إلاّ أنّ هذا المعنى الكلّي المشترك بين جميعها متواتر ؛ لأنّ كلّ واحد منها يدلّ عليه بجهة التضمّن ، أو الالتزام. وذلك كشجاعة عليّ عليه السلام ؛ فإنّه قد نقل منه عليه السلام وقائع مختلفة من الغزوات يدلّ كلّ واحدة منها على شجاعته ، كغزوة خيبر ، واحد ، وبدر ، وغيرها ، فكلّ واحدة منها إن لم يكن متواترا ، فلا شكّ في تواتر القدر المشترك بينها وهو الشجاعة. وكذا الحكم في سخاوته عليه السلام ، وسخاوة حاتم. ويمكن فتح هذا الباب في معجزات النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم مماشاة للخصم ؛ لأنّه كاف للمطلوب.

فصل [6]
اشارة

خبر الواحد : ما لم يبلغ حدّ التواتر ، قلّت رواته (6) أو كثرت.

وقيل : ما أفاد الظنّ (7).

والصواب الأوّل ؛ لجواز وجود خبر واحد لا يفيد الظنّ. وهو بنفسه لا يفيد القطع ، كما سيجيء (8). نعم ، قد يفيده بانضمام القرائن إليه.

والحقّ : أنّ هذا جائز بل واقع ، والمنكر مكابر ؛ فإنّا إذا علمنا أنّ زيدا مريض ، واتّفق حذّاق (9) الأطبّاء على عدم برئه ، ثمّ أخبرنا عدل ورع بموته ، وسمعنا من داره صراخا

ص: 223


1- يجوز فتح الهمزة أيضا.
2- يجوز فتح الهمزة أيضا.
3- يجوز فتح الهمزة أيضا.
4- يجوز فتح الهمزة أيضا.
5- تقدّم في ص 216.
6- في « ب » : « رواية ».
7- ذهب إليه السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 517.
8- في ص 225.
9- في « ب » : « صدق ».

وواعية ، وخرجت المخدّرات كاشفات الرءوس ولاطمات الخدود ومازقات الجيوب ، وانضمّ إليه بعض آخر من القرائن ، فإنّا نقطع بموته ويحصل لنا العلم به.

لا يقال : حصول العلم هنا من القرائن ، ولا دخل للخبر فيه ، كما يحصل العلم بخجل الخجل ووجل الوجل من القرائن من دون خبر.

لأنّا نقول : للخبر دخل في إفادة العلم ؛ إذ لولاه لجوّزنا موت شخص آخر.

احتجّ الخصم بوجوه ضعيفة (1) :

منها : أنّه لو أفاد القطع لوجب الحكم بتخطئة المخالف له بالاجتهاد ، وهو خلاف الإجماع.

وجوابه : التزام التخطئة على فرض المخالفة مع اعتقاده (2) بأنّه مفيد للعلم ، إلاّ أنّ هذا غير واقع ؛ لأنّ أحدا لا يخالف مقتضى علمه ، بل من خالف فمخالفته لأجل عدم تحقّق شرائط العلم عنده ، وحينئذ يجوز له المخالفة بشرط كون المقام قابلا للاشتباه ، وإن لم يكن كذلك ، فيكون مخالفته بمجرّد المكابرة ، أو (3) العناد ، وحينئذ يجوز تخطئته.

ومنها : أنّ حصول القطع منه يؤدّي إلى حصول القطعين المتناقضين إذا اخبرنا بخبرين متناقضين محفوفين بالقرائن ، وهو مستلزم لاجتماع النقيضين ؛ لأنّ المقطوع به واقع في الخارج ، وهو محال.

وجوابه : أنّ الفرض المذكور محال عادة.

ومنها : أنّ الخبر المحفوف بالقرائن كثيرا ما يظهر كذبه للاشتباه وأمثاله ، كما إذا أخبر عدل بموت زيد ، وقارن خبره بالصراخ (4) وإحضار الجنازة ، ثمّ ظهر أنّه لحقت به سكتة.

وقد ظهر جوابه ممّا ذكرنا في جواب بعض شبه من قال : التواتر لا يفيد العلم (5).

ومنها : أنّه لو حصل العلم منه ، لاطّرد في كلّ خبر واحد ، واللازم باطل.

ص: 224


1- راجع الإحكام في أصول الأحكام 2 : 48 - 51.
2- الضمير راجع إلى المخالف لا إلى من قام عنده الخبر المفيد للعلم.
3- في « ب » : « و ».
4- في « ب » : « الصراخ ».
5- راجع ص 216 وما بعدها.

وجوابه : أنّه إن اريد الاطّراد في كلّ خبر انضمّ إليه القرائن المعتبرة في حصول العلم ، فنمنع بطلان اللازم. وإن اريد الأعمّ ، فالملازمة ممنوعة. والفرق ظاهر.

وقد احتجّوا بوجوه ضعيفة أخر (1) لا فائدة في نقلها ؛ لظهور فسادها.

ثمّ الحقّ : أنّ التصفّح يعطي وجود الأخبار المحفوفة بالقرائن في ضمن الأخبار المرويّة عن أئمّتنا عليهم السلام ، وهي الأخبار التي انضمّت بالقرائن المفيدة للعلم ، وهي عندنا آية محكمة - خصوصها ، أو عمومها ، أو فحواها - أو سنّة قطعيّة كذلك ، أو دلالة العقل ، أو الإجماع. فإن عثرت على خبر واحد وافق إحدى الأربع ، فاحكم بكونه محتفّا بالقرينة ، مفيدا للعلم لا يعارضه شيء من الأدلّة الظنّيّة ، ولا يجوز تعارضه لما يفيد العلم ، كما عرفت (2).

وقد وقع الخلاف في أنّ إفادة العلم من القرائن فقط ، أو منها ومن الخبر؟ (3)

ويظهر الفائدة فيما دلّ عليه القرائن من دون خبر ، كالشهادة بالإعسار عند صبره على الجوع وأمثاله في الخلوة ، والتصرّف في الهديّة من غير لفظ ، وقبول بعض الامور من الصبيّ المميّز ، وأكل طعام الأصدقاء ، وبعض التصرّفات في امورهم ، وأمثالها.

والتحقيق أنّ كثيرا من المواضع لا يحصل العلم [ فيها ] من القرائن فقط ، بل يحصل بانضمام الخبر إليها.

نعم ، يمكن أن يتظاهر القرائن في بعض الموارد بحيث تفيد العلم ، وحينئذ يجب العمل بها.

تذنيب

ذهب بعض الناس إلى أنّ كلّ خبر يفيد العلم ، سواء اقترن بالقرينة أم لا (4).

والحقّ : أنّه ظاهر البطلان ؛ لأنّ كلّ أحد يجد من نفسه تزايد اعتقاده الحاصل من خبر الواحد عند ازدياد الأخبار حتّى يصير يقينا ، ولو حصل العلم من الخبر الأوّل

ص: 225


1- راجع : منتهى الوصول : 71 ، وشرح مختصر المنتهى 1 : 156.
2- آنفا ؛ لأنّ تعارض العلمين محال عادة.
3- راجع الإحكام في أصول الأحكام 2 : 48.
4- راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 517 ، ومعارج الاصول : 140.

امتنعت الزيادة. والتفاوت في العلم وإن كان ممكنا إلاّ أنّ الجميع مشترك في كونه مانعا من النقيض ، وهنا ليس الأمر كذلك ؛ لأنّ كلّ واحد من الأخبار لا يمنع النقيض حتّى ينتهي إلى حدّ التواتر.

وأيضا لو كان الخبر الواحد مفيدا للعلم ، وجب تخطئة المخالف له في الاجتهاد ، وهو باطل.

واحتجّ من قال بإفادته العلم : بأنّ العمل به واجب إجماعا ، ولو لم يفد العلم لم يجز العمل به ؛ لظواهر الآيات الدالّة على ذمّ اتّباع الظنّ ، كقوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (1) ، وقوله تعالى : ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَ ) (2) في معرض الذمّ (3).

وقد عرفت جوابه فيما تقدّم (4) ، وأشرنا هناك أنّ هذا مذهب الأخباريين من أصحابنا في الأخبار المرويّة عن أئمّتنا عليهم السلام ، وأجبنا عن شبههم ، وبيّنّا فساد رأيهم بطرق (5) قطعيّة.

فصل [7]

الحقّ أنّه إذا أخبر واحد بحضرة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ولم ينكر عليه لم يدلّ على صدقه ، إلاّ أن يستشهده به وادّعى عليه علمه.

أمّا الثاني ، فظاهر.

وأمّا الأوّل (6) ، فلإمكان عدم سماعه ، أو فهمه ، أو تأخيره إلى وقت بيان الحاجة ، أو عدم علمه (7) به ؛ لكونه دنيويّا.

ويظهر منه عدم حجّيّة مثل هذا الخبر ؛ وهو أظهر لو أخبر بحضرة واحد من الأئمّة عليهم السلام ؛ لإمكان التقيّة وغيرها من المصالح.

ص: 226


1- الإسراء (17) : 36.
2- النجم (53) : 23.
3- نسبه الآمدي إلى أحمد بن حنبل وبعض أصحاب الحديث في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 48.
4- ص 198 - 199.
5- في « ب » : « بطريق ».
6- مراده من الثاني صورة ما بعد الاستثناء ، ومن الأوّل ما قبله.
7- فيه إنكار عموم علمه عليه السلام.
فصل [8]

قيل : التواتر السكوتي - وهو إخبار واحد بحضرة جماعة بلغوا عدد التواتر مع سكوتهم - يفيد صدق الخبر (1).

وقيل : يلزم تقييده بما إذا استشهدوا به ، وعلم كونهم عالمين به ؛ لكون الخبر ممّا امتنع عادة (2) عدم علمهم به ، أو لأمر آخر ، ولم يعلم داع لهم على السكوت من رغبة ، أو رهبة (3).

وغير خفيّ أنّ الخبر مع الشروط الثلاثة يفيد العلم بصدقه عادة ؛ لأنّ سكوتهم وعدم تكذيبهم مع علمهم بكذبه يستحيل عادة.

والوجه في اعتبار الشرط الثاني (4) ظاهر ؛ لأنّ الخبر إذا كان غريبا لا يمكن أن يطّلع عليه إلاّ الأفراد ، فيمكن عدم اطّلاع واحد منهم ، فسكوتهم (5) لهذا.

وأمّا اعتبار الشرط الأوّل (6) ، فالظاهر عدم لزومه ؛ لأنّه يبعد سكوت هذا الجمع الكثير عن التكذيب مع علمهم بكذبه وإن لم يستشهدوا. نعم ، هو يفيد التقوية والتأكيد.

وكذا الشرط الثالث (7) أيضا ؛ لأنّ اجتماع الجمّ الغفير على كتمان ما علموه بحيث لم يشذّ منهم واحد ، يستحيل عادة وإن فرض وجود داع لهم ، ولذا لم يسمع اتّفاق أهل بلد على كتمان الرخص ، أو الغلاء مع وجود داع لهم.

فصل [9]

العامّة على أنّ ما توفّر الدواعي على نقله - كاصول الأديان ، وفروعها الضروريّة ، والمعجزات العظيمة ، والحوادث الغريبة ، كقتل السلطان وأمثاله - إذا تفرّد بالخبر عنه

ص: 227


1- راجع المحصول في علم أصول الفقه 4 : 286.
2- لم يرد في « ب » : « عادة ».
3- ذهب إليه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 72 ، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى 1 : 158.
4- وهو قوله : « علم كونهم عالمين به ».
5- في « ب » : « وسكوتهم ».
6- هو قوله : « إذا استشهدوا به ».
7- وهو قوله : « ولم يعلم داع لهم على السكوت ».

واحد - مع مشاركة غيره له فيما صار سبب علمه (1) به كالمشاهدة ، أو السماع ، أو غيرهما - يكون كاذبا (2). ونسبوا خلافه على الإطلاق إلى الشيعة (3) ، وهو فرية ؛ لأنّهم قالوا : إنّ الكذب مشروط بعدم حامل لهم على الكتمان ، فمع وجوده - كالتقيّة والرغبة وأمثالهما - لا يحكم به. فإذا أخبر واحد بأنّ فيما بين الحرمين بلدة أوسع منهما ، يحكم بكذبه ؛ لعدم تصوّر حامل على الكتمان لمن شاركه في سبب العلم. وإذا أخبر واحد بأنّ زيدا قتل عمرا ، وكان المشاركون له في سبب العلم أقرباءه (4) ، فلا يحكم بكذبه باعتبار كتمانهم (5) ؛ لوجود الداعي.

ومن هذا القبيل عدم تواتر النصوص الجليّة والخفيّة على خلافة عليّ عليه السلام عند المخالفين لو كانوا صادقين ؛ لفتور الدواعي عن نقلها رهبة ، أو رغبة.

ومن هذا القبيل عدم اشتهار بعض الأحكام عن أئمّتنا عليهم السلام مع كونها ممّا يعمّ به البلوى.

واعلم أنّه ربما يتوهّم (6) أنّ كثيرا من معجزات الأنبياء لم يتواتر ، مع كونه ممّا يتوفّر الدواعي على نقله ، كانشقاق القمر ، وحنين الجذع ، وتسبيح الحصى ، وتكلّم عيسى في المهد ؛ فإنّ النصارى لم ينقلوا كلامه فضلا عن أن يتواتر بينهم ، وكذا لم يتواتر كثير من الأحكام الضروريّة مع مسّ الحاجة إليه ؛ والمثال ظاهر.

وتحقيق المقام على وجه يندفع عنه أمثال هذه التوهّمات : أنّ توفّر الدواعي على النقل ممّا يقع فيه الاختلاف والتشكيك بالنسبة إلى الامور ، فهو في بعضها فوق التمام ، وفي بعضها أقلّ ، وهكذا نتنزّل بالتدريج إلى العدم.

وكذا عدد المطّلعين على مدلول الخبر ممّا يقع فيه التفاوت ؛ ففي مدلول بعض الأخبار يبلغ عددهم حدّ التواتر ، وفي بعض آخر يكون أقلّ ، وهكذا يتنزّل إلى أن يصل إلى الواحد.

ص: 228


1- في « ب » : « لعلمه ».
2- ذهب إليه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 73 ، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى 1 : 158 و 159.
3- نسبه ابن الحاجب ، والقاضي عضد الدين إلى الشيعة في المصدرين المذكورين.
4- أي أقرباء زيد.
5- في « ب » : « كتمانه ».
6- المتوهّم هو الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 58 و 59.

وكذا أهواء كلّ واحد منهم في النقل وعدمه ممّا يقع فيه التفاوت ؛ فبعضهم يعتني بالإظهار ، وبعض آخر بالكتمان ، وآخر لا يبالي بشيء منهما ؛ فتفاوت النقل في كلّ قضيّة اشتهارا وخفاء بقدر تفاوت الامور الثلاثة زيادة ونقصانا ، فاشتهار كلّ معجزة بقدر ما يقتضيه توفّر الدواعي على نقله ، وعدد المطّلعين عليه ، وسعيهم في إظهاره. فإن فرض شيء توفّر الدواعي على نقله ، ولو وجد لكان المطّلعون عليه كثيرا ، ومع ذلك لم يشتهر ، فإن تفرّد بنقله واحد يحكم بكذبه ؛ لأنّ مقتضى توفّر الدواعي وكثرة المطّلعين أكثر من ادّعاء واحد ، فلو ادّعى واحد بأنّ القرآن عورض بمثله ولكن لم ينقل ، يكون كاذبا.

فصل [10]
اشارة

التعبّد بخبر الواحد عقلا جائز وفاقا ، وخلاف ابن قبة من أصحابنا (1) وجماعة من أهل الخلاف (2) لا اعتداد به ؛ لأنّه لا يلزم منه محال في العقل ، ولا نعني منه (3) سواه. وحجّتهم (4) واهية ، فالأولى عدم الالتفات إليها.

والحقّ وقوعه بالشروط الآتية (5) - أي حجّيّته ووجوب العمل (6) به - وفاقا لأعلام المتأخّرين (7) ، وخلافا لأعيان القدماء (8).

لنا وجوه من الأدلّة :

منها : أنّ باب العلم القطعي في أمثال زماننا مسدود إلاّ فيما علم ضرورة وهو قليل ، لما

ص: 229


1- حكاه عنه السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 517 ، والمحقّق الحلّي في معارج الاصول : 140 ، والشيخ حسن في معالم الدين : 189.
2- منهم أبو علي الجبائي ، وابن الحاجب كما في منتهى الوصول : 73 ، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى 1 : 159.
3- أي من الجواز العقلي سوى عدم لزوم المحال.
4- ذكرها ابن الحاجب في منتهى الوصول : 73 و 74 ، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى 1 : 159.
5- في ص 241 ، الفصل 11.
6- تفسير للضمير المجرور في « وقوعه ».
7- كالمحقّق الحلّي في معارج الاصول : 140 ، والشيخ حسن في معالم الدين : 189 ، وكلّ من قال بانفتاح باب العلم بالأحكام.
8- كالسيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 528 و 554 ، وحكاه الشيخ حسن عن ابن زهرة وابن البرّاج وابن إدريس في معالم الدين : 189 ، وكلّ من قال بانسداد باب العلم بالأحكام.

ذكرنا فيما تقدّم (1) ، فيجب العمل بالظنّ ، وإلاّ يلزم تعطيل الأحكام ، وسدّ أبواب الحلال والحرام. ولا شكّ أنّ الظنّ الحاصل من أكثر أخبار الآحاد أقوى من الظنّ الحاصل من سائر الأدلّة ، مع أنّ أكثر الأحكام ممّا لا يمكن استنباطه إلاّ من الأخبار دون غيرها من الأدلّة ، فالعمل بها متعيّن.

ومنها : اشتهار العمل به بين أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم والتابعين من غير نكير ، وقد عملوا به في الوقائع الكثيرة ، كما ذكر في كتب السير والاصول ، ولم ينكر عليهم أحد ، وإلاّ لنقل (2).

ومنها : ما تواتر أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم كان (3) يرسل الآحاد إلى القبائل لتبليغ الأحكام ، وكان العمل بقولهم لازما عليهم ، ولا يتمّ هذا بدون حجّيّة أخبار الآحاد (4).

ومنها : اشتهار العمل به بين أصحاب الأئمّة عليهم السلام ؛ فإنّه شاع وذاع منهم وممّن يليهم غاية الاهتمام بروايته والعمل به ، والاعتناء في تدوينه وضبطه ، والسعي في ترويجه ونشره ، والبحث عن حال رواته ، والفحص عن الثقة وغيره ، وقد كانت هذه طريقة مستمرّة بين أصحاب جميع الأئمّة عليهم السلام ومقاربيهم ، والتتبّع الصادق يشهد بأنّ إنكار الحجّيّة إنّما نشأ (5) من المرتضى رضى اللّه عنه وأتباعه ، ولذا قال العلاّمة :

أمّا الإماميّة ، فالأخباريّون منهم ... لم يعوّلوا في اصول الدين وفروعه إلاّ على أخبار الآحاد المرويّة عن الأئمّة عليهم السلام. والاصوليّون منهم - كأبي جعفر الطوسي وغيره - وافقوا على قبول خبر الواحد ، ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه ؛ لشبهة (6) حصلت لهم (7). انتهى.

ويدلّ عليه وجود الاختلاف بين الأصحاب بحسب اختلاف الأخبار ، ولو لم تكن حجّة

ص: 230


1- في ص 31.
2- راجع : معارج الاصول : 144 ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : 74.
3- لم يرد في « ب ».
4- راجع : معارج الاصول : 144 ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : 74.
5- في « ب » : « ينشأ ».
6- والشبهة هي أنّ الإماميّة حين بحثهم مع العامّة لمّا لم يتمكّنوا من التصريح بكذبهم وردّ أخبارهم ، احتالوا في ذلك بالقول بأنّ خبر الواحد ليس بحجّة ، فزعم السيّد وأتباعه أنّ ذلك مذهب لهم.
7- نهاية الوصول إلى علم الأصول 3 : 403.

عندهم لكان اللازم عدم الاختلاف لو كان مستندهم قاطعا ، أو الاختلاف بنحو آخر لو كان مستندهم غير قاطع دون الأخبار.

وقد بالغ الشيخ في حجّيّة أخبار الآحاد ، وادّعى إجماع الأصحاب على العمل بالأخبار المرويّة عن الأئمّة عليهم السلام حتّى قال :

لو رواها غير الإمامي وكان الخبر سليما عن المعارض ، واشتهر نقله في هذه الكتب الدائرة بين الأصحاب ، عمل به.

- وذكر - أنّ قديم الأصحاب وحديثهم إذا طولبوا بصحّة ما أفتى به المفتي منهم ، عوّل (1) على المنقول في أصولهم المعتمدة ، وكتبهم المدوّنة ، فيسلّم له خصمه (2) منهم الدعوى في ذلك ، وهذه سجيّتهم من زمن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى زمن الأئمّة عليهم السلام (3).

وغير خفيّ أنّ اللازم من الطرق الثلاث (4) تواتر العمل بأخبار الآحاد من عصر النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى عصر المرتضى رضى اللّه عنه ، وكونه طريقة مستمرّة من غير نكير ، فيظهر منه أنّه كان إجماعيّا ، لا سكوتيّا مفيدا للظنّ ، بل قطعيّا ، كما لا يخفى. وهذا يفيد القطع بحجّيّتها ووجوب العمل بها ؛ لأنّ عملهم حجّة لنا ، ولو وقع الخلاف بينهم لنقل ؛ لأنّه ممّا يتوفّر الدواعي عليه.

لا يقال : ثبوت كلّ واحد من الطرق المذكورة لنا (5) بأخبار الآحاد ، فيلزم الدور.

لأنّا نقول : كلّ واحد منها وإن ثبت بأخبار كلّ واحد منها من الآحاد إلاّ أنّ القدر المشترك بينها متواتر ، فيثبت عندنا كلّ واحد من الطرق الثلاث بالتواتر المعنوي ، ولها قدر مشترك هو المطلوب ، وهو أجلى من كلّ متواتر ؛ لكونه قدرا مشتركا بين المتواترات الثلاثة.

وقد اعترض عليها بوجوه (6) كلّها بالإعراض عنه حقيق.

ثمّ هنا أخبار خاصّة تدلّ على الحجّيّة كالأخبار التي وردت في حكم اختلاف الأحاديث (7) ؛ فإنّها تدلّ على الحجّيّة بأحد الشروط المثبتة فيها. والأخبار الواردة بالأمر

ص: 231


1- (1 و 2) المناسب لقوله : « طولبوا » أن يقال : « عوّلوا » و « لهم خصمهم ».
2- (1 و 2) المناسب لقوله : « طولبوا » أن يقال : « عوّلوا » و « لهم خصمهم ».
3- العدّة في أصول الفقه 1 : 126.
4- هي : اشتهار العمل بالآحاد بين أصحاب النبيّ ، واشتهاره بين أصحاب الأئمّة ، وإرسال النبيّ الآحاد للتبليغ.
5- متعلّق بقوله : « ثبوت » لا « المذكورة ».
6- راجع : منتهى الوصول لابن الحاجب : 74 و 75 ، وشرح مختصر المنتهى 1 : 161.
7- منها ما في الكافي 1 : 67 و 68 ، باب اختلاف الحديث ، ح 10.

بإبلاغ الأحاديث إلى الناس (1). والأخبار الواردة بضبط كتب الأحاديث (2). فهذه الأخبار وإن لم تكن مستقلّة في إفادة الحجّيّة ؛ نظرا إلى أنّها لم تبلغ حدّ التواتر ، فلا شكّ في كونها مقوّية لها.

ومنها : قوله تعالى : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (3).

وجه الاستدلال به : أنّه يدلّ على وجوب الحذر عند إنذار الطائفة من كلّ فرقة ، وهو (4) بعمومه يشمل الكثير والقليل ، فيصدق على الثلاثة قطعا إن لم يصدق على الاثنين ، فإذا لم يعتبر فيه عدد التواتر ، فبعضه (5) أولى بذلك ، وهذا يدلّ على وجوب العمل بخبر الواحد.

ثمّ الضمير في الأفعال الثلاثة وإن رجع إلى مجموع الطوائف ، والمراد من القوم وإن كان جميع من يصل إليه الإنذار منهم ، إلاّ أنّ المراد التوزّع - بأن يختصّ بإنذار كلّ بعض من القوم بعض من الطوائف ، قلّ أو كثر - لا الاجتماع ، وإلاّ بطل الفائدة. وهذا كما يقال : أمر السلطان بإرسال واحد من كلّ مائة ليقاتلوا أعداءه ؛ فإنّ الضمير في الفعل المذكور فيه وإن رجع إلى جميع الذاهبين ، إلاّ أنّ المقاتلة تحصل بكلّ واحد منهم. ولو كان عدد التواتر شرطا ، لوجب أن يقال : ولينذر كلّ واحد من الطوائف ، أو ما يحصل به التواتر كلّ واحد من القوم.

وغير خفيّ أنّ فهم وجوب الحذر من الآية لدلالتها على ذمّ عدم النفر والإنذار ، وهو موجب لوجوب الحذر ؛ ولامتناع (6) الترجّي على اللّه ، فحمل على الطلب ؛ لكونه لازما للترجّي ؛ فإنّ المترجّى طالب ، وعدم وجود مجاز أرجح منه.

والإيراد عليه (7) : بأنّه إذا امتنع يجب الحمل على أقرب المجازات وهو مطلق الطلب

ص: 232


1- منها ما في الكافي 1 : 403 ، باب ما أمر النبيّ صلى اللّه عليه وآله بالنصيحة ... ، ح 1 و 2.
2- منها ما في المصدر : 52 ، باب رواية الكتب ، ح 9 و 10.
3- التوبة (9) : 122.
4- أي كلّ فرقة ، أو لفظ فرقة.
5- أي إذا لم يعتبر في صدق لفظ « فرقة » عدد التواتر ، ففي صدق لفظ « الطائفة » التي هي بعض من الفرقة غير معتبر بطريق أولى.
6- هذا دليل آخر لفهم وجوب الحذر من الآية.
7- أي على الدليل الثاني. وضمير « امتنع » راجع إلى الترجّي.

دون الوجوب ، فاسد ؛ لأنّه لا معنى لجواز الحذر وندبه ، بل إن حصل موجبه وجب ، وإلاّ انتفى رأسا.

فإن قيل : الإنذار إن كان المراد منه الإخبار فلا يثبت منه وجوب الحذر مطلقا ؛ لأنّ الإخبار عن المباح والندب والمكروه لا يوجب وجوب الحذر ، وإن كان المراد منه التخويف - كما هو الظاهر منه - فلا يثبت منه إلاّ حجّيّة الخبر عن الواجب والحرام دون غيرهما من الأحكام ، فالمدّعى - وهو حجّيّة مطلق الخبر - أعمّ ممّا ثبت.

قلنا : نختار الثاني ، ونثبت حجّيّة الخبر عن غيرهما بالأولويّة ، وعدم القول بالفصل.

نعم ، قيل بالعكس في بعض الأخبار (1) كما يجيء (2).

والقول (3) بأنّه يمكن أن يكون المراد من الإنذار التخويف على ترك أو فعل ثبتا (4) بطريق القطع ، فإنّه يحصل للنفس منه خوف وإن كان من خبر واحد ، لا يلائم التفقّه ، كما لا يخفى.

فإن قيل : المراد من التفقّه معرفة الاصول ، أو الاجتهاد في الفروع ، فيكون المراد من الإنذار الفتوى ، ومن الحذر التقليد.

قلت : الأوّل خلاف المتبادر ؛ لأنّ العرف ما يفهم من التفقّه إلاّ معرفة الفروع ، وإن حمل على معناه اللغوي - أعني مطلق التفهّم - يثبت منه المطلوب.

والثاني غير صحيح ؛ لأنّ الاجتهاد والتقليد بالمعنى المصطلح إنّما حدثا بعد النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم والأئمّة ؛ لسدّ أبواب الفقه وعدم الظفر بمطلوبهم كما ينبغي. وأمّا في زمانهم وأمثاله ، فكان التمكّن حاصلا ، فلم يكن الاحتياج إليهما ، فيجب أن يكون المراد من التفقّه إمّا المعنى اللغويّ ، أو ما كان متعارف أصحاب النبيّ والأئمّة عليهم السلام ومن يليهم ، فيكون المراد من الإنذار إلقاء كلامهم ، ومن الحذر وجوب الاستماع له.

ص: 233


1- والمراد بها أخبار من بلغ التي تأتي في ص 261 ؛ فإنّ مضمون تلك الأخبار هو حجّيّة الخبر القائم على الاستحباب والمكروه ، وإثبات حجّيّة القائم على الوجوب والحرام بالأولويّة. والقائل به كلّ من قال بدلالة أخبار من بلغ على حجّيّة الخبر الضعيف في مورد الاستحباب والمكروه.
2- في ص 261.
3- قاله العلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الأصول 3 : 384 ، والفاضل التوني في الوافية : 163.
4- والمناسب لكلمة « أو » هو إفراد الفعل.

وما قيل - بعد تسليم ما ذكر - : تكون الآية ظاهرة في حجّيّة خبر الواحد ، وهو لا يكفي ؛ لأنّ الظاهر لا يجري في الاصول (1) ، مدفوع بأنّ الظاهر يجب العمل به ، وإرادة خلافه قبيحة ، كما عرفت سابقا (2).

ثمّ ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الضمير في الفعلين يعود إلى المتخلّفين من المؤمنين بعد نفور الطوائف منهم إلى الجهاد ، والضمير في « رجعوا » يعود إلى الطوائف (3). فالمراد أنّه يجب نفر طائفة من كلّ فرقة إلى الجهاد ، وتخلّف الباقي لأجل التفقّه في الدين بسماعهم ما يتجدّد من النصوص ، واستنباط الأحكام منها حتّى إذا رجع النافرون إليهم من السفر ، أو في الأحكام والحوادث ، أنذروهم.

واحتجّ : بأنّ صدر الآية دالّ على هذا ، وهو قوله تعالى : ( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ) (4) أي إلى الجهاد (5).

وهذا خلاف الظاهر ، فيجب الحمل على ما ذهب إليه الأكثر. ولا ينافيه صدر الآية ، كما لا يخفى.

ومنها : قوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ ) (6) أمر بالتبيّن عند مجيء الفاسق ، فيدلّ على أنّ العدل بخلافه ؛ عملا بمفهوم الشرط وهو منحصر في القبول - وهو المطلوب - والردّ ، فيلزم كونه أسوأ حالا من الفاسق وهو باطل. والمفهوم وإن كان أعمّ من مجيء العدل ؛ لكونه عدم مجيء الفاسق ، لكنّه فرد منه وهو كاف للمطلوب.

والإيراد عليه بمنع حجّيّة مفهوم الشرط (7) ، ضعيف كما ستعلم (8).

واورد عليه : بأنّه نزل في وليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى

ص: 234


1- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 75 ، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى 1 : 162.
2- في ص 195 - 196 ، الفصل 4.
3- نسبه الشيخ إلى قتادة والضحّاك وابن عبّاس في التبيان 5 : 321 ، ذيل الآية 122 من التوبة (9).
4- التوبة (9) : 122.
5- راجع التبيان 5 : 321.
6- الحجرات (49) : 6.
7- راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 399 ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : 75 ، ومعارج الاصول : 145.
8- راجع ج 2 ، ص 857 في مفهوم الشرط.

بني المصطلق ، فلمّا دنا ديارهم ، ركبوا مستقبلين له ، فظنّ أنّ ركوبهم لمقاتلته ، فرجع وأخبر النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم بأنّهم ارتدّوا ، فالأمر بالتبيّن إنّما هو في هذا الخبر لا في مطلقه. وأيّده بأنّ التعليل الواقع فيه يجري فيه وفي أمثاله (1).

وجوابه : أنّ تخصّص السبب لا يدلّ على تخصّص الحكم ؛ فإنّ مدار الاستدلال على اللفظ ، واللفظ هنا للعموم ؛ لأنّ التنكير في « فاسق » و « نبأ » للعموم ، وحمله على التعظيم - مع بعده - يرد عليه ما سنذكره (2). وليس المراد من التعليل الوقوع في الفساد المذكور ، بل عرضته. فالمطلوب أنّ قبول خبر الفاسق في عرضة هذا الفساد وشرفه ، كما يقال : لا تسافر وحدك ؛ فيضلّ عنك الطريق.

وأيضا إن حمل الآية على المورد بأن يكون المراد منه إن جاءكم مثل الوليد بمثل هذا النبأ الذي يستلزم قبوله قتل النفوس وأمثاله ، فتبيّنوا خوف أن تصيبوا ... ، فيدلّ بالمفهوم على عدم التثبّت في نبأ لا يكون الجائي به مثل الوليد ، أولا (3) يشتمل على مثل هذا الفساد ، فإمّا يجب ردّه وهو ظاهر البطلان ؛ للزوم ردّ خبر عادل يستلزم ردّه قتل النفوس وأمثاله ، فيلزم كون العدل أسوأ حالا من مثل الوليد ، أو قبوله. فمع عدم القول به يندرج فيه المطلوب (4).

واعترض عليه أيضا : بأنّ العمل بالمفهوم لا يصحّ في المورد ؛ لعدم قبول خبر العدل في الردّة (5) ، فغيره أولى بذلك ، فيلزم أن يكون المراد ب- « فاسق » أحدا أو رجلا حتّى ينتظم معنى الآية. والتعبير عنه بالفاسق للإشعار بكون المخبر فاسقا (6).

والجواب : أنّه مخصّص من عموم المفهوم بدليل من خارج ، والقول به أولى من صرف

ص: 235


1- أورده الشيخ في العدّة في أصول الفقه 1 : 112. والقصّة مذكورة في أسباب النزول للواحدي :1. 269.
2- في هامش « أ » : « لقوله : وأيضا إن حمل الآية على المورد إلى آخره ».
3- في « ب » : « ولا ».
4- توضيحه : أنّ المأخوذ في المنطوق أمران : فسق المخبر ، وكون النبأ مهمّا. فللمفهوم عند وجود النبأ ثلاث صور : كون المخبر عادلا والنبأ مهمّا أو غير مهمّ ، وكون المخبر فاسقا والخبر غير مهمّ ، فيدلّ المفهوم على حجّيّة الخبر في الصور الثلاث ، والمطلوب هو القسمان الأوّلان ، والثالث خارج ؛ ولذا قال المصنّف رحمه اللّه : « فمع عدم القول به - أي بعموم المفهوم - يندرج فيه المطلوب ».
5- في « ب » : « الردّ ».
6- قاله العلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الأصول 3 : 391 - 392 ، باب في السنّة.

الكلام عن حقيقته (1) ، فاللازم إبقاء اللفظ على الوصفيّة وإرادة العموم منه ، ومن نبأ ، ومن المفهوم ، إلاّ فيما ثبت المخصّص. والتأمّل في جواز التخصيص في المورد دون غيره مجرّد استبعاد ؛ فإنّه كما يجوز تخصيص العامّ ببعض أفراد المورد أو كلّها ، وإخراج ما عداه عنه (2) ، فكذا يجوز تخصيصه ببعض أفراد غيره أو كلّها ، وإخراج ما عداه عنه ، ولا بدّ لنفيه من دليل.

ثمّ الاستدلال على المطلوب بهذه الآية من مفهوم الشرط لا الصفة - كما توهّم (3) - لأنّه علّق وجوب التبيّن على مجيء الفاسق بالخبر. فهذا المجيء الخاصّ هو الشرط والعلّة ، فبانتفاء كلّ جزء منه ينتفي الجزاء. وليس الشرط هو مطلق المجيء ، أو مطلق المجيء بالخبر حتّى يقال : فهم انتفاء الجزاء عند انتفائهما من باب مفهوم الشرط ، وفهم انتفائه عند انتفاء مجيء الفاسق بالخبر ، ومجيء العدل به من باب مفهوم الصفة ، ولذا لو قيل : « إن جاءك العلماء (4) فأكرمهم » يعلم انتفاء إكرام غيرهم من مفهوم الشرط ، ولو قيل : « أكرم العلماء » يعلم انتفاء إكرام غيرهم من مفهوم الصفة.

هذا ، مع أنّا نعلم أنّ الصالح للعلّيّة فيما نحن فيه ليس إلاّ إخبار الفاسق ؛ لمناسبته للتثبّت ، واقترانه معه.

ومنها : قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى ) (5) الآية. أوعد على كتمان ما أنزل من البيّنات والهدى ؛ فيجب الإظهار ، والمسموع من النبيّ والأئمّة عليهم السلام من الهدى ؛ فيجب إظهاره (6) ؛ فيجب العمل به ، وإلاّ لم يكن للإظهار فائدة (7).

والإيراد (8) عليه : بأنّ المتبادر من « ما أنزل » القرآن ، ومع التسليم أين وجوب العمل؟ لا يخلو عن تأمّل.

ص: 236


1- وهو إرادة أحد أو رجل من الفاسق.
2- في « ب » : « منه ».
3- توهّمه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 71.
4- في « ب » : « فاسق العلماء ».
5- البقرة (2) : 159.
6- لم يرد في « ب » : « فيجب إظهاره ».
7- ذكره العلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الأصول 3 : 393.
8- أورده السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 535.

وهنا وجوه أخر من الأدلّة (1) تركناها ؛ لعدم تماميّتها.

واحتجّ الخصم : بوجوه ضعيفة عمدتها وجهان :

أوّلهما : قوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (2) و ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (3) ، ونحو ذلك من الآيات (4) الدالّة على ذمّ اتّباع الظنّ. ولا ريب أنّ خبر الواحد لا يفيد إلاّ الظنّ ، فلا يجوز اتّباعه (5).

وجوابه : أنّ ظنّ المجتهد من أخبار الآحاد وسائر الأدلّة مخصّص بالإجماع ، كما عرفت (6) مرارا. على أنّ الظاهر من الظنّ في آيات الذمّ اختصاصه بالظنّ في الاصول ؛ لأنّها وردت ذمّا للكفّار ، وهذا يتأتّى في آية النهي (7) أيضا.

وأجاب بعضهم (8) : بالانتقاض بوجوب العمل بالظنّ في تفاصيل المجملات (9) التي علم وجوبها عقلا من الامور الدنيويّة ، كخبر العدل في كون أسد على الطريق ، أو مضرّة شيء معيّن ، أو انكسار جدار مشرف على الانهدام ؛ فإنّه لمّا وجب عقلا اجتناب المضارّ إجمالا ، وجب عقلا اجتناب تفاصيله كالامور المذكورة ، ويجب العمل بالظنّ فيها ، ولذا لو لم يحترز عنها بخبر واحد يذمّه العقلاء.

أقول : بعض من قال بوجوب العمل بخبر الواحد عقلا احتجّ به عليه ، وقال : قد بعث النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم لجلب المنافع ودفع المضارّ ، ومضامين أخبار الآحاد تفاصيل لهما ، وهي تفيد الظنّ ؛ فيجب العمل بها ، كما يجب به في الامور المذكورة (10).

ص: 237


1- راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 531 - 534 ، والإحكام في أصول الأحكام 2 : 71.
2- الإسراء (17) : 36.
3- النجم (53) : 28.
4- منها : قوله تعالى : ( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) ، البقرة (2) : 169.
5- حكاه العلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الأصول 3 : 411 - 413.
6- في ص 32.
7- وهي قوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) ، الإسراء (17) : 36.
8- لعلّ المراد بهذا البعض هم : البصري في المعتمد 2 : 106 و 107 ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : 76 ، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى 1 : 163.
9- أي مصاديق القواعد العقليّة.
10- قاله البصري في المعتمد 2 : 107.

والمدّعى وإن كان حقّا عندنا - فإنّه يجب العمل بخبر الواحد عقلا ، كما ثبت من الدليل الأوّل (1) ، ونقلا كما ثبت من باقي الأدلّة - إلاّ أنّ هذا الدليل (2) لا يخلو عن تأمّل ؛ لإمكان منع وجوب العمل بالظنّ في تفاصيل ما يجب قطعا ، بل العمل به فيها (3) أولى ؛ للاحتياط. على أنّه ربما يكون الاحتياط ترك العمل به ، كما إذا احتمل العمل به مضرّة. فهذا النقض غير وارد ، كما أنّ النقض بالشهادة والفتوى (4) أيضا كذلك ؛ لإمكان أن يقال : إنّهما مخصّصان بدليل من خارج.

وثانيهما : إصرار المرتضى رحمه اللّه في نفي حجّيّته ، وادّعاؤه الإجماع عليه. وذكر أنّ شيوخ الطائفة ورؤساءهم قد ملئوا الطوامير ، وسطّروا الأساطير في الاحتجاج عليه والنقض على من خالفهم ، وصرّح بأنّهم يعلمونه بديهة ، كما يعلمون بطلان القياس (5). وقد كرّر أمثال هذه العبارات في كتبه ، ولو لم يتّضح له لما أصرّ بهذه المثابة.

وجوابه : أنّ كلامه معارض بما ذكره الشيخ من المبالغة ، ودعوى الإجماع على خلافه (6). وكيف يسمع دعوى الضرورة في أنّ الإماميّة ينكرون العمل بخبر الواحد ، مع أنّا نعلم قطعا أنّ معظمهم يعملون به؟!

وأيضا لا شبهة في بقاء التكليف ، فإن اكتفي فيه بالظنّ ، فهو حاصل من خبر الواحد ، وإلاّ يلزم التكليف بالمحال ؛ لعدم إمكان تحصيل القطع في شيء من مضامين أخبار الآحاد.

والقول بأنّ معظم الفقه يعلم بالضرورة ، والتواتر ، و (7) الإجماع - كما قال المرتضى رضى اللّه عنه (8) - ضعيف ؛ لضرورة العلم بخلافه.

ص: 238


1- تقدّم في ص 229 ومرّ الباقي فيما بعدها.
2- والمراد به هو النقض.
3- في « ب » : « فيهما ».
4- راجع معارج الاصول : 142.
5- راجع جوابات المسائل التبّانيّات ( ضمن رسائل الشريف المرتضى / ج 1 ) : 24.
6- راجع العدّة في أصول الفقه 1 : 126.
7- في « ب » : « أو ».
8- حكاه عنه الشيخ حسن في معالم الدين : 196 ، ولم أجده في كتبه.

هذا ، مع أنّ دعوى الإجماع من السيّد خبر واحد ، والعمل به مناف لغرضه (1).

وإذا عرفت ذلك تعلم أنّ الحقّ وجوب العمل بخبر الواحد بالشروط الآتية ، وإن لم ينضمّ إليه القرائن المفيدة للعلم.

وكيفيّة التفريع ظاهرة.

فائدة

الحقّ أنّ الشيخ ما اعتبر في حجّيّة خبر الواحد انضمام القرينة ، بل يعمل بالخبر العاري عنها أيضا ، كما قال في العدّة :

فأمّا ما اخترته من المذهب - يعني العمل بخبر الواحد - : فهو أنّ خبر الواحد إذا كان واردا من طريق أصحابنا ، وكان مرويّا عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أو (2) عن الأئمّة عليهم السلام ، وكان ممّن لا يطعن في روايته ، ويكون سديدا في نقله ، ولم يكن هناك قرينة تدلّ على صحّة ما تضمّنه الخبر - لأنّه إذا كان هناك قرينة تدلّ على صحّة ذلك ، كان ذلك باعتبار القرينة ، وكان موجبا للعلم كما يذكر فيما بعد - جاز العمل به.

والذي يدلّ على ذلك إجماع الفرقة المحقّة ؛ فإنّي وجدتها مجتمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم ، ودوّنوها في اصولهم ، لا يتناكرون ذلك ، ولا يتدافعونه (3). انتهى.

ولكلامه هذا ذيل ، في مواضع (4) منه أيضا دلالة على المطلوب ، وكذا في كلماته الأخر أيضا في العدّة (5) ، وفي ديباجة الاستبصار ؛ حيث قال - بعد ذكر القرائن الأربع

ص: 239


1- الضمير راجع إلى الخصم أي منكر حجّيّة خبر الواحد ، لا السيّد ؛ فإنّ السيّد محصّل للإجماع ، وعدم حجّيّة خبر الواحد عنده مقطوع به ، وأمّا بالنسبة إلى غيره فهو غير مفيد ؛ لأنّه الإجماع المنقول بخبر الواحد ، بل يلزم من قبوله نقض غرضه.
2- في « ب » : « و ».
3- العدّة في أصول الفقه 1 : 126.
4- من تلك المواضع قوله في العدّة في أصول الفقه 1 : 136 : « فعلم أنّ ادّعاء القرائن في جميع هذه المسائل دعوى محالة » ، وقوله : « ومن ادّعى القرائن ... ». وقوله : « ومن قال عند ذلك ... ».
5- منها قوله في العدّة في أصول الفقه 1 : 116 : « والثاني : أنّا سلّمنا أنّهم عملوا ... » يعلم من هنا أنّ محلّ النزاع بين القائل بحجّيّة الخبر ، والقائل بعدمها هو الخبر المجرّد عن القرينة ، وهو المطلوب هنا. ومنها قوله في العدة في أصول الفقه 145:1: «فمتی تجرد الخبر...».

المفيدة للعلم على ما ذكرنا - :

كلّ خبر لا يكون متواترا ويتعرّى من واحد من هذه القرائن ، فإنّ ذلك خبر واحد ، ويجوز العمل به على شروط ، فإذا كان خبر لا يعارضه خبر آخر ، فإنّ ذلك يجب العمل به ؛ لأنّه من الباب الذي عليه الإجماع في النقل ، إلاّ أن يعرف فتاويهم بخلافه ، فيترك لأجلها العمل به (1). انتهى.

ولا ينافيه ما في ديباجة التهذيب حيث اشترط فيها انضمام القرائن إليه في صحّة العمل (2) ؛ لأنّ مراده بها فيها صحّة الأسانيد ، أو وجود الخبر في اصول الأصحاب ، لا القرائن المفيدة للعلم ، وإلاّ لزم التناقض في كلامه.

ومنه يعلم أنّه لا ينافي ما ذكرنا ما يقول الشيخ كثيرا في التهذيب والاستبصار في مقام ردّ الأخبار : أنّها أخبار آحاد لا توجب علما وعملا (3) ؛ لأنّ المراد أنّها لم يوجد معها الشروط التي يجب مراعاتها ، كصحّة الأسانيد ، أو وجودها في الاصول ، أو عدم مخالفتها لعمل الطائفة وأمثالها.

وإذا عرفت أنّ الشيخ لم يعتبر في حجّيّة خبر الواحد اقترانه بالقرائن المفيدة للعلم ، تعلم أنّ المخالفة بينه وبين المرتضى رحمه اللّه معنويّة ؛ لأنّه اعتبره فيها.

وبهذا يظهر ضعف ما ذكره بعض المتأخّرين من أنّ الإنصاف أنّه لم يتّضح عن حال الشيخ وأمثاله المخالفة للمرتضى ؛ إذ كانت أخبار الأصحاب يومئذ قريبة العهد بزمان لقاء المعصومين ، واستفادة الأحكام منهم ، وكانت القرائن العاضدة لها ميسّرة ، كما أشار إليه السيّد (4) ، ولم يعلم أنّهم اعتمدوا على الخبر المجرّد لتظهر مخالفتهم له (5).

ثمّ أيّد كلامه بما ذكره المحقّق (6) من أنّ الشيخ وإن قال بوجوب العمل بخبر العدل ، إلاّ أنّه يتبيّن عند التحقيق أنّه لا يعمل بالخبر مطلقا ، بل بهذه الأخبار التي رويت عن الأئمّة عليهم السلام

ص: 240


1- الاستبصار 1 : 4.
2- تهذيب الأحكام 1 : 3.
3- تهذيب الأحكام 1 : 242 ، ذيل الحديث 697 و 698 ، والاستبصار 1 : 92 ، ذيل الحديث 295.
4- تقدّم في ص 238.
5- قاله الشيخ حسن في معالم الدين : 197 و 198. وفيه : « لتظهر مخالفتهم لرأيه فيه ».
6- معارج الاصول : 147.

ودوّنها الأصحاب ، لا أنّ كلّ خبر يرويه الإمامي يجب العمل به (1) ، وذلك لما عرفت من تصريح الشيخ بعدم اعتبار القرائن المفيدة للعلم.

والتأييد الذي ذكره لا يدلّ على مطلوبه أصلا ؛ لأنّ وجوده في اصول الأصحاب لا يوجب إفادة العلم ، وإلاّ لم يحصل هذا الاختلاف بينهم حتّى أنّ كثيرا ما يناقض واحد منهم نفسه في كتابين ، بل في كتاب واحد. فالحقّ أنّهم أيضا كانوا مثلنا في عدم تمكّنهم لتحصيل القرائن المفيدة للعلم إلاّ في قليل.

نعم ، هذا التمكّن كان حاصلا لأصحاب الأئمّة عليهم السلام.

فصل [11]

للعمل بخبر الواحد شرائط أكثرها يتعلّق بالراوي ، وبعضها يتعلّق بغيره.

والثاني ثلاثة أمور :

الأوّل : وجوده في أحد الكتب المعتبرة للشيعة ، كالكتب الأربعة ، أو غيرها ممّا ثبت حجّيّته عندنا.

والثاني : عدم وجود معارض أقوى منه من الآيات ، أو الأخبار ، أو الأدلّة العقليّة ، أو الإجماعات المنقولة. ولعلّك تعرف تفصيل ذلك في موضعه (2).

والثالث : عدم مخالفته لعمل الأصحاب ، فلو لم يعمل به أحد من الأصحاب لا يجوز العمل به ، كما ورد أنّ المستحاضة إذا أخلّت بالأغسال تقضي صومها دون صلاتها (3).

ولو كان مخالفا للشهرة يجوز العمل به بشرط أن يكون الظنّ الحاصل منه أقوى من الظنّ الحاصل منها ، ولو عكس لا يجوز (4) ؛ لعدم جواز ترجيح المرجوح ، وهو يختلف باختلاف المرجّحين ، وملاحظة القرائن الخارجيّة.

ص: 241


1- قاله الشيخ حسن في معالم الدين : 197 و 198. وفيه : « لتظهر مخالفتهم لرأيه فيه ».
2- راجع ج 2 ، ص 973 ، في التعادل والتراجيح.
3- الفقيه 2 : 144 ، ح 1991.
4- في « ب » : « لم يجز ».

وأمّا الأوّل ، فامور :

منها : العقل ، فلا يقبل رواية المجنون إجماعا ؛ ووجهه ظاهر.

ومنها : البلوغ ، فلا يقبل رواية الصبيّ وإن كان مميّزا ؛ لأنّه عرف عدم حرمة الكذب عليه ؛ لعلمه بأنّه غير مكلّف ؛ فلا يبالي به مطلقا ، فلا يحصل ظنّ بصدقه. ولو قبل روايته لزم قبول رواية الفاسق بطريق أولى ؛ لأنّه يعلم أنّه لو كذب أثم فربّما منعه ذلك ، بخلاف الصبيّ ؛ فلا داعي له إلى الصدق ، وربّما وجد له المانع عنه.

والقول بقبول رواية المميّز (1) - على ما ذهب إليه بعض العامّة (2) قياسا على جواز الاقتداء به - لا يخفى ضعفه.

هذا إذا كان السماع والرواية قبل البلوغ. أمّا لو وقعت بعده وإن كان قبله ، فيقبل قطعا ؛ لأنّ المقتضي له موجود - وهو كونه عدلا ضابطا لما يرويه - والمانع الذي اشير إليه (3) مفقود ، ولذا قبل الصحابة رواية ابن عبّاس وغيره (4) ممّن وقع له التحمّل قبل البلوغ والرواية بعده ، ولم يسأل أحد منهم في رواية منه بأنّ التحمّل بها كان قبل البلوغ ، أو بعده؟

وقد ورد به الأخبار من طريق الشيعة ، كصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام (5) ، ورواية السكوني عن الصادق عليه السلام (6) ، وغيرهما (7).

وكيفيّة التفريع : أنّه لا يقبل رواية الصبيّ مطلقا (8). والقول بقبول شهادته في الجراح والقتل بالشروط المعروفة - كما ذهب إليه أكثر أصحابنا ، وأجمع عليه أهل المدينة (9) -

ص: 242


1- معالم الدين : 199.
2- راجع إرشاد الفحول 1 : 139 وفيه : « نقل القاضي الإجماع على ردّ رواية الصبيّ. واعترض عليه العنبري وقال : بل هما قولان للشافعي في إخباره عن القبلة ، كما حكاه القاضي حسين في تعليقه ... قال الفوراني : الأصحّ قبول روايته ... ».
3- وهو عدم البلوغ.
4- راجع : منتهى الوصول لابن الحاجب : 76 ، وشرح مختصر المنتهى 1 : 164 ، وشرح البداية : 127.
5- وسائل الشيعة 27 : 108 ، أبواب صفات القاضي ، الباب 9 ، ح 4.
6- راجع العدّة في أصول الفقه 1 : 149.
7- راجع العدّة في أصول الفقه 1 : 149.
8- أي ولو كان مميّزا.
9- ادّعى ابن الحاجب الإجماع المذكور في منتهى الوصول : 76 ، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى 1 : 164.

خارج ؛ للنصوص (1). ولعلّ السرّ فيه الاحتياط في الدم ، على أنّ منصب الرواية أعظم ؛ إذ الثابت منها شرع عامّ في بني آدم ، ومضمونها يستمرّ إلى انقراض العالم.

ويقبل قول من روى أو شهد حين البلوغ وإن كان وقت التحمّل غير بالغ.

فعلى هذا ما ذكره الصدوق من عدم الاعتماد على رواية محمّد بن عيسى اليقطيني عن يونس بن عبد الرحمن (2) - لو كان السرّ فيه أنّه أخذ الروايات عنه قبل البلوغ كما فهمه بعض المتأخّرين (3) - لا يكون له وجه ؛ لأنّه كان حين الأداء بالغا.

ومنها : الرشد ، فلا يقبل رواية السفيه ؛ ووجه اعتباره ظاهر.

وهل الأصل الرشد حتّى يقبل رواية من جهل رشده ، أو السفاهة حتّى تردّ؟ ويمكن ترجيح الأوّل ؛ نظرا إلى أنّ الرشد أكثر ؛ فإنّ أكثر الناس إذا بلغ يكون رشيدا. وربما رجّح الثاني (4) ؛ نظرا إلى أنّه طار ، فلا بدّ من العلم به ، وهذا الحكم جار في كلّ حكم يشترط فيه الرشد ، فتأمّل.

ومنها : الإسلام ، فلا يقبل رواية الكافر وإن كان من أهل القبلة ، كالغلاة ، والمجسّمة ، والخوارج.

ويدلّ عليه - مضافا إلى الإجماع - كون (5) قبول الرواية تنفيذ حكم على المسلمين ، فيمنع آية التثبّت (6) ؛ فإنّ الكافر فاسق بالعرف المتقدّم (7). يدلّ عليه الاستقراء ، وقوله تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (8) ، مع أنّه لو حمل على ما يراد في

ص: 243


1- وسائل الشيعة 27 : 342 ، أبواب الشهادات ، الباب 21 و 22.
2- ذكر النجاشي في رجاله : 333 ، الرقم 896 في ترجمة محمّد بن عيسى بن عبيد بن يقطين بن موسى عن الصدوق عدم اعتماد ابن الوليد على رواية محمّد بن عيسى ، عن يونس إذا تفرّد بالحديث. وقال الصدوق في الفقيه 2 : 90 ذيل الحديث 1819 : « كلّ ما لم يصحّحه ذلك الشيخ - قدّس اللّه روحه - ولم يحكم بصحّته من الأخبار ، فهو عندنا متروك غير صحيح ».
3- لعلّه جدّ البهبهاني. قال المحقّق السيّد عليّ القزويني في حاشية قوانين الاصول 1 : 457 : « نقله - أي وجه ردّ روايات محمّد بن عيسى - الوحيد البهبهاني على ما حكى عنه في تعليقة رجاله عن جدّه ». وقال بعد أسطر : « وقوله - أي قول صاحب قوانين الاصول - : وما ذكره بعض الأصحاب انتهى تعريض على جدّ البهبهاني ».
4- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 78.
5- في النسختين : « وكون » ، والصحيح ما أثبتناه.
6- وهي آية النبأ من سورة الحجرات (49) : 6.
7- أي عند القدماء.
8- المائدة (5) : 47.

العرف المتأخّر - وهو المسلم المرتكب لإحدى الكبائر ، أو المصرّ على الصغائر - يثبت المطلوب بمفهوم الآية.

ويدلّ عليه أيضا أنّ قبول الرواية يوجب التعظيم ، والكافر يستحقّ الإهانة ، والرواية من المناصب الجليلة ، فلا يليق الكافر بها.

وفيهما تأمّل لا يخفى.

ويتفرّع عليه : عدم قبول رواية من كان من إحدى الفرق المذكورة ، كسهل بن زياد (1) ، وأبي الخطّاب (2) ، وابن أبي العزاقر (3) ؛ لكونهم من الغلاة ، وغيرهم كما هو مذكور في كتب الرجال.

ومنها : الإيمان ، وقد اعتبره أكثر المتأخّرين ؛ لآية التثبّت (4). وهو ينافي عمل الطائفة بما رواه الطاطريّون ، وبنو فضّال ، وابن بكير ، وسماعة ، وعثمان بن عيسى ، وأضرابهم ، كما قال الشيخ (5).

والقول بأنّه لم يعلم عمل الطائفة بأخبار هؤلاء (6) ، ممّا ينادي كتبهم بخلافه. والظاهر أنّ المنكر له إنّما ينكر باللسان وقلبه مطمئنّ بالإيمان.

يرشدك إلى هذا أنّ العلاّمة اعتبر الإيمان في التهذيب (7). ونقل عنه أنّه ردّ رواية أبان بن عثمان ؛ لكونه ناووسيّا محتجّا بآية التثبّت (8) ، وقال : لا فسق أعظم من عدم الإيمان (9) ، مع أنّه رجّح في الخلاصة قبول روايات جماعة كثيرة من أرباب المذاهب الفاسدة (10).

ص: 244


1- رجال النجاشي : 185 ، الرقم 490.
2- هو محمّد بن مقلاص ( مقلاس ). رجال الشيخ : 2. الرقم 345.
3- هو محمّد بن علي الشلمغاني. رجال الشيخ : 3. الرقم 114.
4- وهي آية النبأ من سورة الحجرات (49) : 6.
5- العدّة في أصول الفقه 1 : 150.
6- والقائل هو المحقّق الحلّي في معارج الاصول : 149.
7- تهذيب الوصول : 232.
8- وهي آية النبأ من سورة الحجرات (49) : 6.
9- نسبه الشيخ حسن إلى العلاّمة ( نقلا عن فوائد والده على خلاصة الأقوال حكاية عن فخر المحقّقين ) في معالم الدين : 200.
10- خلاصة الأقوال : 74 و 177 و 195 ، ومن الجماعة : أبان بن عثمان الأحمر ، وعليّ بن الحسن بن عليّ بن فضّال ، وعبد اللّه بن بكير.

وبالجملة ، الحقّ عدم اشتراط الإيمان ، والآية لنا لا علينا ؛ لأنّه تعالى أمر بالتثبّت عند خبر الفاسق ، وهو الفحص والتفتيش حتّى يظهر الصدق أو الكذب ، وهو كما يكون عن حال الخبر - بأن يستعلم كيفيّته عن مخبر آخر ، أو القرائن الخارجيّة - فكذا يكون عن حال المخبر بأن يستعلم حاله في الصدق والكذب ، فإن ظهر أنّه ثقة ، متحرّز عن الكذب ، يظنّ صدق الخبر بدلالة التبيّن ، وهو المطلوب.

وتخصيص التبيّن بالأوّل لا دليل عليه.

فإن قلت : على هذا يلزم قبول رواية الكافر إذا كان متحرّزا عن الكذب بعين ما ذكرت.

قلت : نعم ، إلاّ أنّه مخصّص بالإجماع ، وعمل الطائفة.

فإن قلت : على ما ذكرت يلزم جواز جمع التوثيق والتفسيق ، وهو يوجب عدم الوثوق بعدالة أكثر الموثّقين من أصحابنا.

قلت : توثيق أرباب الرجال مساوق للتعديل ، مع أنّ الفائدة في معرفتهم ليست إلاّ العلم بصدقهم أو كذبهم ، فإذا علم صدقهم من الإيمان والتوثيق ، فلا يهمّنا معرفة حالهم في باقي صفاتهم ، ولا يثمر لنا فائدة أصلا.

ويمكن الجواب عن الآية بمنع صدق الفاسق على المخطئ في بعض الاصول بعد بذل جهده ؛ نظرا إلى العرف المتأخّر (1) ، وحينئذ يثبت من المفهوم قبول رواية المخطئ في بعض الاصول إذا كان مسلما ، وردّ روايته إذا كان كافرا ، والفارق هو الإجماع.

ومنها : العدالة ، وهي في الأصل تعديل القوى النفسانيّة وتقويم أفعالها بحيث لا يغلب بعضها (2) ؛ فإنّها لمّا كانت كالمتناقضة كانت الفضيلة في تعديلها ، فيحصل من تعديل القوّة العاقلة فضيلة الحكمة ، ومن تعديل القوّة الشهويّة فضيلة العفّة ، ومن تعديل القوّة الغضبيّة فضيلة الحلم (3) والشجاعة ، وإذا حصلت هذه الفضائل ، تحصل منها ملكة هي تمام

ص: 245


1- أي في معنى الفسق.
2- في « ب » : « بعضها على بعض ».
3- لم يرد في « ب » : « الحلم ».

الفضائل الخلقيّة ، وهي العدالة في عرف العقلاء ، أي الملكة المقتضية لاستواء الأفعال واستقامتها.

وعرّفت شرعا في المشهور بأنّها ملكة في النفس تمنعها عن الكبائر ، والإصرار على الصغائر ومنافيات المروءة (1).

وقيل : كيفيّة راسخة تبعث على ملازمة التقوى والمروءة (2).

والظاهر أنّ المراد من التقوى الاجتناب عن الكبائر ، والإصرار على الصغائر ، فلا فرق بين التعريفين. وإن كان المراد منه ما هو فوق ذلك ، فغير مسلّم ، وليس عليه دلالة شرعيّة ، ولا عرفيّة ، ولا لغويّة.

والغرض أنّ للتقوى مراتب ، واحدة منها الاجتناب المذكور. والعدالة ليست إلاّ الهيئة النفسانيّة الملازمة له ، صرّح به الأكثر (3) ، ودلّ عليه خبر ابن أبي يعفور عن الصادق عليه السلام ، حيث قال : « ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد اللّه عليها النار » (4) ، ولا ينافيه صدره ، وهو قوله : « أن يعرفوه بالستر والعفاف ، والكفّ عن الفرج ، والبطن واليد ، واللسان » ؛ لثبوت التلازم بين الاجتناب المذكور والعفاف ، والكفّ.

وقيل : محافظة دينيّة تحمل على ملازمة التقوى والمروءة ، ليس معها بدعة. وتتحقّق باجتناب الكبائر ، وترك الإصرار على الصغائر ، وبعض الصغائر (5) ، وبعض المباح (6).

وقوله : « دينيّة » لإخراج الكافر.

وقوله : « ليس معها بدعة » لإخراج المبتدع.

والحقّ عدم الاحتياج إليهما ؛ لخروجهما من (7) « ملازمة التقوى ».

ص: 246


1- كما في معالم الدين : 201.
2- قاله الفخر الرازي في المحصول 4 : 398 ، والعلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الأصول 3 : 420 ، والمحقّق الثاني في جامع المقاصد 2 : 372.
3- منهم الفخر الرازي في المحصول 4 : 398.
4- تهذيب الأحكام 6 : 241 ، ح 596.
5- لم يرد في « ب » : « وبعض الصغائر ». ولكنّه موجود في المصدر.
6- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 77 ، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى 1 : 167.
7- أي من جهة ملازمة التقوى ، أو يكون « من » بمعنى الباء.

ويعلم من هذا أنّ ذكر العدالة يغني عن ذكر الإسلام والإيمان ، إلاّ أنّه لمّا كان لكلّ واحد منها دلائل خاصّة وفوائد مختصّة ، ذكر بعنوان على حدة. فالصحيح من الحدود ما ذكر أوّلا وثانيا بالعناية (1) المذكورة.

ثمّ لا يخفى أنّ معرفة (2) نفس الملكة غير ممكنة لأحد غير صاحبها ؛ لكونها نفسيّة خفيّة ، فمعرفتها لا تتحقّق إلاّ بمعرفة ما يدلّ عليها ، وهو الاجتناب المذكور. ومعرفته إنّما تتحقّق بالمعاشرة الباطنيّة ، أو التواتر ، أو شهادة عدلين. والاكتفاء في معرفتها بظاهر الإسلام - كما قيل (3) - ضعيف ؛ لأمر الشارع (4) بمعرفة العدالة ، كما دلّ عليه الخبر المذكور (5) ؛ ولأنّ المقصود من اعتبارها معرفتها ، وإلاّ لم تكن له فائدة. وظاهر الإسلام ليس نفس العدالة ، ولا لازما (6) لها حتّى يكتفى بمعرفته عن معرفتها ، ومع التغاير لا يدلّ عليها.

والاكتفاء بحسن الظاهر - أي كون الظاهر مأمونا بستر العيوب ، كما قال به جماعة (7) ، ودلّ عليه بعض الأخبار (8) - إن أمكن إرجاعه إلى ما اخترناه (9) ، فلا كلام ، وإلاّ فالقول به مشكل ؛ لما ذكرناه (10).

ص: 247


1- قيد لقوله : « ثانيا » والمراد من العناية المذكورة هو تفسير التقوى الواقع في التعريف الثاني بالاجتناب عن الكبائر والإصرار على الصغائر ، كما قال في هامش « أ » : « أي كون المراد من التقوى الاجتناب عن الكبائر والإصرار على الصغائر ».
2- والمراد معرفة تحقّق الملكة ووجودها ، لا معرفة مفهومها.
3- قاله الشيخ في الخلاف 3 : 312 ، المسألة 10. ونسبه العاملي في مفتاح الكرامة 8 : 260 إلى ظاهر مسالك الأفهام أو صريحها.
4- في « ب » : « الشرع ».
5- تقدّم تخريجه في ص 246.
6- في هامش « أ » بدل « لازما » : « مستلزما. ل ظ » وهو الصحيح.
7- منهم : السبزواري في كفاية الأحكام 1 : 143 ، والبحراني في الحدائق الناضرة 1 : 23 ، والعاملي في مفتاح الكرامة 8 : 266 ، ونسبه أيضا إلى صاحب مصابيح الظلام في حاشيته على المعالم.
8- منها ما في تهذيب الأحكام 6 : 241 ، ح 596 ، الفقيه 3 : 24 ، ح 65. ومنها مرسلة يونس في تهذيب الأحكام 6 : 8. ح 781.
9- في هامش « أ » : « أي كون المراد منه المعاشرة وأخويها المذكورة ».
10- في هامش « أ » : « من كونه ليس نفس العدالة ولا مستلزما لها ».

ثمّ إنّه قد اضطرب عبارات القوم في تعريف الكبيرة. والصحيح أنّها ما توعّد عليه الشرع بخصوصه ، وقد دلّ عليه الخبر المذكور (1). ولها تعريفات أخر أيضا صحيحة (2) ، إلاّ أنّها ترجع إلى ما ذكر.

وهي (3) كثيرة كلّها يتعلّق بالضروريّات الخمس ، أعني : مصلحة الأديان ، والنفوس ، والعقول ، والأنساب ، والأموال.

والإصرار على الصغائر إمّا فعليّ ، وهو المواظبة على نوع أو أنواع من الصغائر. وإمّا حكميّ ، وهو العزم على فعله ثانيا وإن لم يفعل. ومعرفة الإصرار موكولة إلى العرف.

ثمّ صاحب المروءة هو الذي يسير سيرة أمثاله في زمانه ومكانه.

وقيل : الذي يتحرّز عمّا يسخر عنه (4).

وقيل : الذي يصون نفسه عن الأدناس ، ولا يشينها عند الناس (5).

ووجه اعتبارها ظاهر ؛ لأنّ تركها إمّا لأجل خبل ونقصان ، أو لقلّة مبالاة وحياء ، وعلى التقديرين يرفع عنه الاعتماد والثقة.

وإذا علم العدالة بإحدى الطرق ، تستمرّ إلى أن يعلم المزيل. ولا شبهة في زوالها بمجرّد ارتكاب إحدى الكبائر ، أو الإصرار على الصغائر ، أو ترك المروءة ، وتعود بالتوبة ، وتثبت (6) بإحدى الطرق (7).

ص: 248


1- تقدّم في ص 246.
2- قيل : هي كلّ ذنب توعّد اللّه عليه بالعقاب في الكتاب العزيز. وقيل : هي كلّ ذنب رتّب عليه الشارع حدّا ، أو صرّح فيه بالوعيد. وقيل : هي كلّ معصية تؤذن بتهاون فاعلها بالدين. وقيل : كلّ ذنب علم حرمته بدليل قاطز. وقيل : كلّ ما عليه توعّدا شديدا في الكتاب أو السنّة. راجع : الأربعون للبهائي :2. 178 ، الحديث الثلاثون ، وذخيرة المعاد : 304 ، ومجمع البحرين 3 : 466 و 467.
3- ضمير « هي » راجع إلى الكبائر لا تعريفات. عن ابن عبّاس : هي إلى السبعمائة أقرب إلى السبعة : تفسير الطبري 5 : 3. وعنه صلى اللّه عليه وآله : « الكبائر أحد عشر ... » مجمع البحرين 3 : 3. وحكي في مفتاح الكرامة 8 : 285 عن الشهيد الثاني : « وفي الروض والروضة أنّها إلى السبعمائة أقرب ». ولم نعثر عليه في روض الجنان ولكن موجود في الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 3 : 129.
4- حكاهما الشهيد الثاني في مسالك الأفهام 14 : 169.
5- حكاهما الشهيد الثاني في مسالك الأفهام 14 : 169.
6- أي التوبة.
7- في هامش « أ » : « أعني المعاشرة ، أو التواتر ، أو شهادة عدلين ».

ثمّ اشتراطها في قبول الرواية هو المشهور بين الأصحاب (1). ويدلّ عليه آية التثبّت (2).

واكتفى الشيخ بكون الراوي ثقة متحرّزا عن الكذب وإن كان فاسقا بجوارحه ، وادّعى عمل الطائفة بأخبار جماعة هذه صفتهم (3).

وهو حقّ ؛ نظرا إلى حصول التبيّن وظهور الصدق كما تقدّم (4) ، إلاّ أنّ ثبوت الصدق مع ظهور الفسق بعيد ؛ لأنّ المجاهر بالفسوق لا يوثق بما يظهر (5) من تحرّجه عن الكذب. فإن فرض الثبوت ، يكون قول الشيخ صحيحا ، ويكون تخصيصا لعموم اشتراط العدالة لا نفيا له. فالنافي له من ذهب إلى قبول خبر مجهول الحال (6) ، كما هو ظاهر جماعة من أصحابنا (7) وطائفة من العامّة (8). وفساده ظاهر ؛ لأنّ القبول مشروط بمعرفة العدالة (9) وهو ينافيه ؛ ولأنّ الفسق مانع ، فيلزم العلم بعدمه ، كالكفر والصبا.

وليس الأصل العدالة ، بل الفسق ؛ لكونها طارئة ، وكونه أكثر ؛ ولأنّ العمل بالظنّ ممنوع ؛ للظواهر ، خرج ما خرج وبقي (10) الباقي ، على أنّه لا يفيد الظنّ ؛ لاستواء صدقه وكذبه ما لم يعلم عدالته.

وبهذا يظهر ضعف الاحتجاج (11) بقوله عليه السلام : « نحن نحكم بالظاهر » (12) ، وهذا ظاهر ؛ إذ يوجب ظنّا.

ص: 249


1- كما في معالم الدين : 201.
2- هي آية النبأ من سورة الحجرات (49) : 6.
3- العدّة في أصول الفقه 1 : 134.
4- في ص 245 وفي هامش « أ » : « من أنّ التثبّت تحقيق من حال المخبر ».
5- في « ب » : « ظهر ».
6- أي من حيث التحرّز عن الكذب أيضا ؛ فإنّه إن احرز التحرّز عنه مع الفسق ، فهو قول الشيخ فضلا مع الجهل بالفسق.
7- راجع : منتهى الوصول لابن الحاجب : 78 ، ومعالم الدين : 200.
8- نقله ابن الحاجب عن أبي حنيفة في منتهى الوصول : 78 ، والشيخ حسن في معالم الدين : 200.
9- هذا يشبه بالمصادرة.
10- في « أ » : « يبقى ».
11- حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 78.
12- نقله الفخر الرازي في المحصول 4 : 407 ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : 78 ، والعلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الاصول 3 : 426 ، قال الشوكاني في إرشاد الفحول 1 : 148 و 149 : « أمّا الاستدلال من قال بالقبول بما يروونه من قوله صلى اللّه عليه وآله : « نحن نحكم بالظاهر » ... لا أصل له ». وذكره في إيضاح الفوائد 3 : 486.

احتجّ الخصم (1) : بآية التثبّت (2) ؛ حيث جعل وجوبه مشروطا بالفسق ، فإذا انتفى الشرط انتفى المشروط (3).

وجوابه : منع انتفاء الشرط ، بل انتفى العلم به. وانتفاء العلم بالشيء لا يستلزم انتفاءه في الواقع ، وهو الشرط.

فإن قيل : الظاهر أنّ الشرط هو معلوميّة الفسق وظهوره ، ومجهول الحال ليس فسقه معلوما.

قلت : الحقّ أنّ المراد بالفاسق هو الفاسق (4) بحسب الواقع ونفس الأمر ، لا من سبق علم المخاطب بفسقه ؛ فإنّ الشروط والصفات التي تعتبر في مواضع الحاجة هي الواقعيّة والنفس الأمريّة ، لا المعلومة عند المخاطب. مثلا إذا قال أحد : « فلان عالم فاضل » ، يكون مراده أنّه كذلك في الواقع لا بحسب اعتقاد المخاطب. وإذا قال : « أكرم كلّ عالم » يكون أمرا بالمخاطب (5) بإكرام من كان كذلك في الواقع ، لا من تعلّق علمه السابق بأنّه كذلك ، فيجب على المخاطب الفحص في مجهول الحال حتّى يظهر حاله. ولا يقدح عدم تطابق ما علم بالفحص مع الواقع في بعض الأحيان ؛ لأنّ المراد بواقعيّة كلّ شيء ما اقتضاه الدليل الذي بإزائه.

وأيضا لو لم يكن كذلك ، لما صحّ أن يطلب المخاطب الدليل على شيء ممّا يخبره المتكلّم ؛ لأنّ ما يخبره على وفق اعتقاده ، ولا يجوز لأحد طلب الدليل (6) على شيء يلقى إليه على أنّه معتقده. فالشرط في الآية هو الفسق الواقعي ، وانتفاء العدالة الواقعيّة ، ولا يتحقّق واسطة بينهما ؛ فإنّ كلّ فرد من الإنسان في الواقع إمّا عادل أو فاسق ، وتوسّط مجهول الحال بين من يعلم فسقه و [ من يعلم ](7) عدالته.

ص: 250


1- في هامش « أ » : « الذاهب إلى قبول خبر المجهول ».
2- هي آية النبأ من سورة الحجرات (49) : 6.
3- ذكره ابن الحاجب في منتهى الوصول : 78.
4- لم يرد في « ب » : « هو الفاسق ».
5- كذا في النسختين. والأولى : أمرا للمخاطب.
6- هذا بالنسبة إلى وجود الاعتقاد كذلك. وأمّا طلب الدليل على حدوث الاعتقاد ، فهو جائز.
7- أضيف بمقتضى السياق. والمراد بين من يعلم فسقه ومن يعلم عدالته ، لا بين العادل والفاسق.

فعلى هذا يلزم الفحص في مجهول الحال حتّى يظهر فسقه ، أو عدالته (1).

هذا ، مع أنّ التعليل في الآية يدلّ على ما ذكر (2) ؛ لأنّ الوقوع في الندم بظهور كذب المخبر إنّما يحصل من قبول خبر من لا يبالي بالكذب (3) ، ويكون له هذه الصفة في الواقع ، ولا مدخليّة لسبق العلم في ذلك.

لا يقال : ما ذكرت من عدم الواسطة إنّما هو فيمن بعد عهده عن ابتداء زمان التكليف ، وأمّا قريب العهد به فيمكن أن لا يكون في الواقع فاسقا ؛ لعدم صدور معصية عنه ، ولا عادلا ؛ لعدم حصول الملكة له بعد ، فلا يجب التثبّت عند خبره ، فلا تدلّ الآية بالإطلاق على اشتراط العدالة.

لأنّا نمنع وجود مثله في الواقع ، ومع التسليم لا يمكن العلم به ؛ لأنّه موقوف على العلم بانتفاء جميع المعاصي ، ومنها الصفات الباطنة (4) ، والعلم بانتفائها لا يمكن إلاّ من علامات الملكة ، والفرض أنّها لم توجد ، على أنّ التعليل المذكور (5) يدلّ على عدم قبول خبر مثله ، كما لا يخفى.

وقبول شهادة الأعرابي - لمّا أسلم وشهد بالهلال (6) من دون فصل مع عدم الملكة له - لم يثبت عندنا ، وإن صحّ ، كان خاصّا بموضعه ؛ لدليل من خارج.

واحتجّ الخصم أيضا : بقبول شهادة المجهول في تذكية الحيوان ، وطهارة المحلّ والماء وإباحة المال ، ورقّ جاريته وأمثالها (7).

وجوابه : أنّ هذا لموافقتها (8) للأصل. فلو قطع النظر عنها (9) لكان الحكم فيها أيضا التذكية ، والطهارة ، والإباحة بالشروط التي اعتبرها الفقهاء. ولذا لا يسمع شهادته في نجاسة الماء ،

ص: 251


1- لم يرد في « ب » : « أو عدالته ».
2- وهو إمّا اعتبار العدالة أو التحرّز عن الكذب.
3- في « ب » : « الكذب ».
4- في كون الصفات الباطنة متعلّقة للحكم الإلزامي تأمّل.
5- وهو احتمال الوقوع في الندم.
6- راجع منتهى الوصول : 78.
7- راجع منتهى الوصول : 78.
8- الضميران راجعان إلى الشهادة. والمراد بالأصل بالنسبة إلى غير الطهارة هو حمل فعل المسلم وقوله على الصحّة وفيها استصحاب الطهارة أو قاعدتها.
9- الضميران راجعان إلى الشهادة. والمراد بالأصل بالنسبة إلى غير الطهارة هو حمل فعل المسلم وقوله على الصحّة وفيها استصحاب الطهارة أو قاعدتها.

وحرمة المال ، وأمثالهما. ولو سمع في بعضها ، يكون خارجا بالنصّ.

وكيفيّة التفريع : أنّه يجب ردّ خبر كلّ فاسق ومجهول ، وشهادتهما إلاّ إذا انضمّ إليهما قرائن خارجة (1) تدلّ على الصدق ، فيقبل لذلك. أو بلغ عدد المخبرين حدّا يحصل معه العلم.

ويتفرّع على أنّ الأصل الفسق : إلحاق مجهول الحال بالفسّاق في الوصايا ، والأوقاف ، والنذور ، والأيمان ،

والتعليقات ، وغيرها. فإذا قال : « لعدول المسلمين » أو « للمسلمين غير الفسّاق كذا » بعنوان الوصيّة أو غيرها ، لا يكون شيء لمن لم يظهر حاله بعد الفحص.

والقول بأنّ الأصل أنّ الصبيّ إذا بلغ ، بلغ عدلا حتّى يظهر خلافه (2) ، واه ؛ لما عرفت (3) من توقّف العدالة على وجود الملكة الراسخة ، وهو موقوف على مضيّ زمان حتّى يصير ملابسة التقوى والمروءة ملكة ، مع أنّ وجودها يتوقّف على امور كثيرة من فعل واجبات (4) وترك (5) المحرّمات. فوجود (6) الفسق لا يتوقّف إلاّ على أمر واحد ، فعلا كان أو تركا (7). ولا شبهة حينئذ في كونه أصلا وراجحا ؛ لكونه أسهل وجودا ، وأقرب وقوعا.

وأيضا : الفسق يتحقّق بأمر عدمي ، والعدالة تتوقّف على الوجودي ، فكما أنّ الأصل في الحادث العدم ، فكذا فيما كان ثبوته متوقّفا على العدم بالنسبة إلى ما يتوقّف ثبوته على الوجود.

وأيضا : مقتضي الفسق القوّة الشهويّة والغضبيّة ، وهما طبيعيّتان (8) ، ومقتضي (9) العدالة

ص: 252


1- في « ب » : « خارجيّة ».
2- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : 78.
3- في ص 246.
4- كذا في النسختين. والأولى : « الواجبات ».
5- في « أ » : « بترك ».
6- في « ب » : « ووجود ».
7- أي فعل حرام واحد ، أو ترك واجب واحد.
8- في « ب » : « طبعيّتان ».
9- ظاهر العبارة هنا يدلّ على أنّ العدالة تنشأ من التزام التكاليف ، وذلك بقرينة المقابلة مع الفسق ، وقوله : « والعدالة تتوقّف على الوجودي » ، مع أنّ العدالة قد مرّ أنّها ملكة تبعث على ملازمة التقوى.

التزام التكاليف الشرعيّة ، وهي ليست بطبيعيّة ، والأصل ما يقتضيه الطبع. ولا يعارضه ما روي أنّ كلّ مولود يولد على الفطرة (1) ؛ لأنّ المراد منه معرفة التوحيد.

ومنها : الضبط ، وليس المراد منه عدم السهو أصلا ؛ لأنّه لا يوجد في غير المعصوم ، بل رجحان الذكر على السهو ، ولا خلاف في اشتراطه ؛ إذ مع التساوي أو المرجوحيّة لا يحصل الظنّ بصحّة ما رواه ؛ إذ ربما يسهو فيزيد ، أو ينقص بحيث يضطرب به معنى الحديث ، أو يبدّل لفظا بآخر إلى غير ذلك ممّا يختلف به الحكم.

ويعرف ضبطه بأن يذكر أشياء كثيرة مرّة بعد اخرى من غير تغيّر يختلف به المعنى ، وأن يعتبر رواياته بروايات الثقات المشهورين بالضبط والإتقان ، فإن وافقهم (2) غالبا ولو في المعنى ، عرف أنّه ضابط ، وإلاّ علم اختلاله.

والحكم بصحّة الحديث بمجرّد توثيق علماء الرجال رواية (3) من غير نصّ على ضبطهم لاندراجه (4) في لفظ « ثقة » فإنّهم يريدون به العدل الضابط ؛ لأنّه من الوثوق ولا وثوق بمن لا ضبط له. وهذا هو السرّ في اختيار هذا اللفظ من سائر ألفاظ التعديل.

ولقائل أن يمنع ذلك ؛ فإنّ التصفّح يعطي عدم ضبط طائفة صرّحوا بتوثيقهم ؛ فإنّهم ذكروا أنّ حبيب بن معلّى الخثعمي ثقة ثقة (5) ، مع أنّه روي في الفقيه أنّه سأل حبيب بن المعلّى أبا عبد اللّه عليه السلام ، فقال : « إنّي رجل كثير السهو ، فما أحفظ عليّ صلاتي » (6). انتهى. والظاهر أنّه الخثعمي لا السجستاني ؛ لعدم رواية الصدوق عنه كما يظهر عن مشيخته ، فعلى هذا لا منافاة بين الاعتماد بقول رجل يكون سهوه أكثر من ذكره ، أو مساويا له. والسرّ فيه : أنّ من هذا شأنه يكون كثير المراجعة والمذاكرة ، وشأنه الإثبات في أصل جامع عند السماع ، فلا يفوت منه شيء.

ص: 253


1- الكافي 2 : 12 ، باب فطرة الخلق على التوحيد ، ح 4.
2- كذا في النسختين. والأولى : « فإن وافقتها » - بقرينة « ولو في المعنى » - كما في قوانين الاصول 1 : 463.
3- كذا في النسختين. والصحيح : « رواته » بقرينة « ضبطهم ».
4- متعلّق بمقدّر خبر لقوله : « الحكم ».
5- رجال النجاشي : 141 ، الرقم 368.
6- الفقيه 1 : 255 ، ح 781. ليس فيه : « عليّ ».

ولا يخفى أنّ هذا الكلام لا يخلو عن قوّة ، إلاّ أنّه لا ينفي اشتراط الضبط ، بل المراد منه أنّ معنى الضبط أعمّ ممّا ذكر (1).

وربّما قيل (2) : إنّ المراد من كثرة السهو في الصلاة لا ينافي كثرة الذكر في الرواية ، فتأمّل.

ثمّ الحرّيّة ، والذكورة ، والعدد ، والبصر ، والإكثار من رواية الحديث ، والعلم بالفقه ، أو العربية ، أو معنى الحديث ، وكون الراوي معروف النسب ، وعدم القرابة والعداوة ليست من الشروط. فيقبل رواية العبد ، والانثى ، ورجل واحد ، والأعمى ، ومن روى حديثا واحدا فقط ، وغير العالم ، ومجهول النسب ، ويقبل من الوالد ما للولد ، ومن العدوّ ما على العدوّ. كلّ ذلك للأصل ، وعمل الصحابة ومن بعدهم.

وربما دلّ على بعضها نصّ بخصوصه ، كما دلّ على قبول رواية غير العالم قوله عليه السلام : « نضّر اللّه امرأ سمع مقالتي فوعاها ، فأدّاها كما سمعها ، فربّ حامل فقه ليس بفقيه » (3).

وبعضهم اشترط [معرفة] العربيّة (4) ؛ نظرا إلى أنّ غير العالم بها يلحن ويصحّف كثيرا ، فيدخل في جملة قول النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم : «من كذب [عليّ] معتمّدا فليتبوّأ مقعده من النار» (5) فإنّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يكن يلحن قطّ ، وكذا الأئمّة عليهم السلام وقد قالوا : «أعربوا كلامنا؛ فنحن قوم فصحاء» (6).

وقد اعتبر بعض الشروط المذكورة في الشهادة (7) مختلفة في الخلاف ، والوفاق ،

ص: 254


1- ما ذكر هو رجحان الذكر وعلى هذا يشمل معنى الضبط كثرة المراجعة والمذاكرة أيضاً وإن كان مرجوح الذكر.
2- ذكره القمّي في قوانين الاصول 1 : 463 وفيه : « يمكن أن يقال في وجهه : إنّ كثرة السهو في الصلاة لا تنافي الضبط في الرواية ».
3- الكافي 1 : 403 ، باب ما أمر النبيّ صلى اللّه عليه وآله بالنصيحة لأئمّة المسلمين ... ح 3. وكنز العمّال 10 : 228 و 258 ، ح 29200 و 29375.
4- منهم أحمد البصري في فائق المقال : 32.
5- سنن ابن ماجة 1 : 3 ، والكافي 1 : 62 ، باب اختلاف الحديث ، ح 1.
6- الكافي 1 : 52 ، باب رواية الكتب والحديث ، ح 13.
7- مثل العدد ، والذكورة ، والحرّيّة ، وعدم القرابة ، وعدم العداوة في الجملة. ومما دلّ على اعتبار العدد في الجملة ما في تهذيب الأحكام ٦: ٢٦٩، ح ٧٢٤ . ومما دلّ على اعتبار الذكورة في الجملة ما هو مذكور في تهذيب الأحكام ٦ 2٦٩ ، ح 724. ومما دلّ على اعتبار الحرية في الجملة ما في تهذيب الأحكام ٦: ٢٤٩، ح ٦٣٧ و ٦٣٨، والاستبصار ٣: ١٦، ح ٤٥ و ٤٦ . و مما دل على اعتبار عدم القرابة في الجملة ما دلّ على عدم قبول شهادة الولد على الوالد الفقيه: ٣: ٤٢، ح٣٢٨٦. ومما دلّ على اعتبار عدم العداوة ما في الفقيه ٣: ٤٠ ، ح ٣٢٨١.

والتقييد ، والإطلاق ، كما ذكرت في كتب الفروع (1) ، والفارق النصّ.

تنبيه

بحث الاصولي في الخبر إمّا في متنه ، أو في سنده.

والمتن : ألفاظه التي يتقوّم بها المعاني. وبهذا الاعتبار ينقسم إلى نصّ ، وظاهر ، ومجمل وغيرها ، كما تعلم (2).

والسند : طريق المتن ، أي مجموع الرجال الذين رووه واحدا بعد واحد حتّى يصل إلى صاحبه ، وسمّي طريقه سندا ؛ لاعتماد العلماء عليه في معرفة صحّته وضعفه. مأخوذ من قولهم : « فلان سند » ، أي معتمد عليه.

والإسناد : هو ذكر طريقه حتّى يصل إلى صاحبه ، وكثيرا ما يطلق الإسناد على السند ، والسرّ أنّ الطريق باعتبار كونه معتمدا للعلماء يسمّى سندا ، وباعتبار تضمّنه رفع الخبر إلى قائله يسمّى إسنادا.

ويختلف اسم الخبر باعتبار سنده في القوّة والضعف ، والاتّصال والقطع ، ونحوها كما يأتي (3). ويترتّب عليها جواز العمل وعدمه ، والتراجيح المقرّرة.

فصل [12]
اشارة

الخبر إن كان رواته إماميّين ممدوحين بالتوثيق فصحيح. وبدونه كلاّ أو بعضا مع توثيق الباقي فحسن. وإن لم يكونوا إماميّين كلاّ أو بعضا مع توثيق الكلّ فموثّق. وما سوى الثلاثة ، فضعيف.

فيشمل (4) ما في طريقه غير إماميّ مجروح بالكذب أو فسق آخر ، أو ممدوح بغير التوثيق ، أو مسكوت عنه ؛ وإماميّ مجروح بالكذب أو فسق آخر ، أو مسكوت عنه ؛

ص: 255


1- راجع الدروس الشرعيّة 2 : 123 - 132.
2- تأتي في ج 2 ، المبحث الثالث ، الباب الرابع إلى الباب السادس.
3- يأتي في الفصل 12.
4- الضمير المستتر راجع إلى الضعيف.

والمسكوت عنه مذهبا مع كونه مذموما بالكذب أو فسق آخر ، أو ممدوحا بغير التوثيق ؛ و (1) المسكوت عنه مطلقا.

وربّما خصّ الأخير باسم المجهول. والأمر فيه هيّن ؛ لكونه قسما من الضعيف ، مخصوصا بهذا الاسم لمناسبة له ، بل لا نمنع إطلاق المجهول على بعض آخر من أقسام الضعيف ، وهو ما في طريقه المجهول من جهة واحدة.

وقد يسمّى الموثّق ، ومرويّ الإماميّ غير الممدوح ولا المذموم - كنوح بن درّاج ، وأحمد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري ، وأمثالهما - قويّا.

وقد يطلق الصحيح على جملة من الأسناد جامعة للشرائط وإن اعتراه بعد ذلك إرسال أو قطع ، فيضاف إلى راو معيّن جمع السند إليه الشرائط ، سواء كان هو بصفة رجال الصحيح - وهو الأكثر - كما يقال : صحيحة ابن أبي عمير عن رجل ، أم لا ، كما يقال : صحيحة أبان بن عثمان.

ومن هذا القبيل ما في كتب الرجال أنّ طريق الفقيه إلى خالد بن نجيح ، ومعاوية بن ميسرة ، وعائذ الأحمسي وغيرهم ممّن لم يوثّق ، صحيح.

وقد لا يضاف ، بل هكذا يقال : روى الشيخ في الصحيح عن ابن أبي عمير ، عن رجل. والمقصود أنّ لفظ « الصحيح » كما يطلق على جميع السند الجامع للشرائط - كما يقال : صحيحة زرارة عن الباقر عليه السلام ، وروى زرارة في الصحيح عنه (2) - يطلق على بعض منه يكون جامعا لشرائط الصحّة وإن حدث بعده ما ينافيها ، كما ذكر (3). وهذا الحكم آت في كلّ من الموثّق والحسن.

واعلم أنّ لكلّ واحد من الأنواع الأربعة درجات مختلفة :

فالصحيح الذي رواه الفقيه الورع الضابط - كابن أبي عمير وزرارة ومحمّد بن مسلم وأضرابهم - أصحّ ممّا رواه غيرهم.

ص: 256


1- في « ب » : « أو ».
2- في « ب » : « عنه عليه السلام ثمّ ».
3- تقدّم آنفا : « وإن اعتراه بعد ذلك إرسال ».

والحسن الذي رواه الممدوح كثيرا - كإبراهيم بن هاشم - أحسن من غيره.

والموثّق الذي رواه من له توثيق متين (1) - كعليّ بن فضّال وأبان بن عثمان - أقوى من غيره.

والضعيف إذا كان جميع رواته فاسدي المذهب ، مجروحين بالكذب أيضا ، أضعف ممّا بعض رواته كذلك ، وهو أضعف ممّا كان بعض رواته فاسد العقيدة وإن لم يكن مجروحا بالكذب ، وهو أضعف ممّا كان بعض من في طريقه مجهولا مطلقا. وقس عليها أمثالها.

ويظهر الفائدة في مقام التعارض والترجيح.

تتمّة

لا كلام في حجّيّة الخبر الصحيح وكونه مؤسّسا للحكم الشرعي بالشروط المتقدّمة (2) ، وقد ظهر حجّيّة الموثّق أيضا.

وأمّا الحسن ، فالتحقيق فيه أنّ سبب الحسن إن كان ممّا يظهر منه التثبّت وحصول الظنّ المعتبر بالعدالة أو الوثاقة ، فمقبول ، وإلاّ فلا. مثلا : إذا كان أسباب الحسن قولهم : « صدوق » أو « حجّة » أو « حديثه ممّا يحتجّ به » أو « صالح الحديث » أو « المسكون إلى روايته » يفيد التثبّت وظنّ الوثاقة. وكذا « مشكور » و « خيّر » أو (3) « ديّن » أو (4) « متقن » أو « ثبت » أو « ضابط » أو « حافظ » أو « صالح » أو (5) « زاهد » ظاهرا. وللمنع فيها مجال خصوصا في الأخيرين.

وأمّا « شيخ » أو « عالم » أو « فاضل » أو « جليل » ، فلا يفيد المطلوب ، وإن أمكن القول به (6) في الأخيرين.

قيل : وفي الأوّل أيضا إن اريد به المتقدّم في رئاسة الحديث (7).

وفيه تأمّل.

ص: 257


1- في « ب » : « مبين ».
2- تقدّم آنفا.
3- في « ب » : « و ».
4- في « ب » : « و ».
5- في « ب » : « و ».
6- أي إفادة المطلوب. والأولى : « بها ».
7- ذكر أحمد البصري في فائق المقال : 34 لفظ « شيخ » في ذيل عنوان « ألفاظ التعديل » ثمّ قال : « فيفيد المدح المطلق ».

وقولهم : « عين » و « وجه » ، قيل : يفيد الوثاقة في عرفهم (1). وأقوى منهما قولهم : « وجه من وجوه أصحابنا ».

وأمّا « شيخ الإجازة » فالمشهور عدم إفادته الوثاقة. وقال بعضهم : إنّ مشايخ الإجازة - لظهور وثاقتهم - لا يحتاجون إلى النصّ على توثيقهم (2).

وهو محلّ نظر.

وقولهم : « لا بأس به » إن أريد به نفي البأس عن جميع الوجوه - كما هو الظاهر - أو عن رواياته ، فيفيد المطلوب ؛ ولذا نقل عن بعض المحدّثين أنّه قال : إذا قلت : « ليس به بأس » فهو ثقة (3). وإن اريد نفي البأس عن مذهبه ، فلا. وربما قيل : نفي البأس يوهم البأس (4).

وقولهم : « اسند عنه » - أي سمع منه الحديث على وجه الاستناد - مدح لا يفيد الوثاقة.

وكذا قولهم : « خاصّيّ » و « قريب الأمر ». وربما يفيد الثاني عدم دخوله في المذهب بعد. وكذا قولهم : « يكتب حديثه » و « ينظر فيه » أي لا يطرح حتّى ينظر فيه ليعرف حاله.

وقولهم : « سليم الجنبة » إن اريد به سليم الأحاديث ، فيفيد المطلوب. وإن اريد به سليم الطريقة ، فلا.

وقولهم : « مضطلع بالرواية » - أي قويّ عليها - ربما أفاد وثاقة ما. وأقوى منه قولهم : « بصير بالرواية ». وكذا قولهم : « فقيه من فقهائنا ». وقول النجاشي في ترجمة إسماعيل بن عبد الخالق (5) ربما دلّ على ذلك.

ولا يخفى أنّ هذا اللفظ لغة لا يفيد المطلوب ، إلاّ أن يقال بإفادته في عرفهم. وأدون منه قولهم : « فقيه ».

ص: 258


1- نسبه البهبهاني إلى مصنّف الرجال الكبير والوسيط في ترجمة الحسن بن زياد وجدّه المجلسي الأوّل في فوائده ( ضمن رجال الخاقاني ) : 64 ، آخر الفائدة 4. واستظهره من المحقّق الداماد في الحسين بن أبي العلاء واختاره أخيرا أيضا.
2- منهم : الشهيد الثاني في شرح البداية : 122 ، والشيخ سليمان البحراني في معراج أهل الكمال : 88 ، والوحيد البهبهاني في فوائده ( ضمن رجال الخاقاني ) : 44 و 45 ، الفائدة 3.
3- نقله الشهيد الثاني في هامش شرح البداية : 122 عن ابن معين.
4- نسبه الشهيد الثاني إلى المشهور في شرح البداية : 122.
5- رجال النجاشي : 27 ، الرقم 50.

وقولهم : « أوجه من فلان » أو « أصدق منه » يفيد الوثاقة إذا كان المفضّل عليه وجيها ، أو صادقا. وأقوى منهما : « أوثق منه ».

وقولهم : « معتمد الكتاب » أو « الأصل » يفيد الوثاقة ظاهرا.

وأمّا قولهم : « له كتاب » أو « أصل » لا يفيد سوى المدح. والفرق بين الكتاب والأصل :

أنّ الثاني مجمع عبارات الحجج عليهم السلام فقط من غير استنباط واستدلال من صاحبه ، والأوّل جامع للأمرين ، فالمدح بأنّ له كتابا أزيد منه بأنّ له أصلا ؛ لاستلزامه علوّ رتبته في الفهم.

وهنا امور أخر جعلها بعض الأصحاب أسباب الوثاقة (1) :

منها : كون الراوي وكيلا لواحد من الأئمّة عليهم السلام ؛ لما قيل إنّهم لا يجعلون الفاسق وكيلا (2).

ومنها : كونه كثير الرواية ؛ للخبر المشهور (3).

ومنها : كونه ممّن ترك مشاهير (4) القدماء رواية ثقة محتجّين بروايته و (5) مرجّحين لها عليها ، أو أكثروا الرواية عنه وأفتوا بمضمونها.

ومنها : روايته عن المعتبر ، ورواية المعتبر عنه ، سيّما إذا كان ممّن يطعن في رواية الضعفاء والمجاهيل ، كأحمد بن محمّد بن عيسى ، أو كان ممّن ذكر الشيخ أنّه لا يروي إلاّ عن ثقة ، كابن أبي عمير ، وصفوان بن يحيى ، وأحمد بن محمّد بن أبي نصر ، أو كان ممّن ذكر في ترجمته أنّه لا يروي إلاّ عن الثقات ، أو قلّ ما يروي عن الضعفاء ، كجعفر بن بشير ، وعليّ بن الحسن بن فضّال ، ومحمّد بن إسماعيل بن ميمون ، ونظرائهم.

ومنها : اعتماد القمّيين عليه ؛ فإنّهم يخرجون من قم من يروي عن الضعفاء ، ويعتمد المراسيل.

ومنها : رواية محمّد بن أحمد بن يحيى عنه ، ولم يكن ممّا استثناه القمّيون ، وروايته عن

ص: 259


1- راجع فائق المقال : 34.
2- قاله السيّد الأعرجي في عدّة الرجال 1 : 134.
3- وهو قوله عليه السلام : « اعرفوا منازل الرجال منّا على قدر رواياتهم عنّا ». أو قوله عليه السلام : « اعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يحسنون من رواياتهم عنّا ». أو قوله عليه السلام : « اعرفوا منازل الناس منّا على قدر رواياتهم عنّا » ، اختيار معرفة الرجال : 3. ح 1 - 3.
4- في « ب » : « مشاهر ».
5- في « ب » : « أو ».

يونس بن عبد الرحمن ، وكان غير العبيدي ؛ فإنّ تنصيصهم على اختلال فيما يرويه عنه يشعر باعتمادهم على رواية غيره عنه ، كإسماعيل بن مرّار ، وصالح بن السندي.

والضابط أنّ الحكم باختلال (1) في بعض من يروي عنه معيّن ، والسكوت عمّن سواه ، أو في بعض من يروي عن معيّن (2) ، والسكوت عمّن عداه يشعر بوثاقة من سكت عنه.

وفيه نظر ظاهر.

ومنها : أن يروي عنه ثقة مترحّما ، أو مترضّيا عليه.

ومنها : كونه في طريق خبر حكم بعض المشايخ بصحّته ، ولذا وثّق بعضهم ابن الغضائري (3) ؛ نظرا إلى أنّ العلاّمة رحمه اللّه صحّح خبرا هو في طريقه (4).

ومنها : أن يجعله المشايخ معرّفا للثقة.

ومنها : أن يكون أكثر رواياته سديدة.

ومنها : اعتماد بعض المشايخ عليه ، كعليّ بن محمّد بن قتيبة ، فإنّ الكشّي اعتمد عليه (5).

ومنها : وقوعه في طريق خبر وقع الطعن على سنده من غير جهته.

ولا يخفى أنّ بعض هذه الوجوه ربما أفاد وثاقة ما ، وبعضها يفيد مدحا فقط ، وربما أفاد بعضها قوّة. ولا يخفى كيفيّة الحال على الماهر.

وإذا عرفت أنّ أسباب الحسن مختلفة في إفادة الوثاقة وعدمها ، فالحكم بحجّيّة الحسن مطلقا - كما ذهب إليه جماعة (6) - أو بعدم حجّيّته كذلك - كما ذهب إليه آخرون (7) - لا وجه له.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ السبب إذا كان مدحا لم يفد الوثاقة ، لا يثبت منه العدالة ولا التثبّت الظنّي ، فلا وجه لكونه مقبولا.

ص: 260


1- في هامش « أ » : « هو اختلال من واحد من الاصول ».
2- في هامش « أ » : « هو اختلال من واحد من الفروع ».
3- نسبه الكلباسي إلى البهائي في الرسائل الرجاليّة 2 : 416.
4- لم نعثر على كلامه.
5- ولذا نقل عنه في اختيار معرفة الرجال كثيرا يبلغ عدد المواضع ثمانية وأربعين موضعا.
6- منهم : النواوي في التقريب ، المطبوع ضمن شرحه : بشرح تدريب الراوي 1 : 160 ، ونسبه الشهيد الثاني إلى الشيخ في شرح البداية : 73.
7- نسبه الصدر إلى العاملي صاحب المدارك في نهاية الدراية : 285.

وأمّا الثاني ؛ فلأنّ السبب إذا كان مدحا أفاد الوثاقة ، يوجب التثبّت وحصول الظنّ بالصدق ، فيجب قبوله وإن لم يثبت منه العدالة. والبصير يعلم أنّ المعتبر في قبول الخبر صدق مخبره ، ولا مدخليّة لسائر أفعال الجوارح والاعتقاد ، كما صرّح به الشيخ في العدّة (1). فإذا عرف صدقه ، كان خبره مقبولا وإن كان فاسد العقيدة ، ومذموما في بعض الأفعال. وإن لم يعرف صدقه ، لم يكن خبره مقبولا وإن كان صحيح الاعتقاد وممدوحا في بعض الأفعال. والسرّ في اشتراط العدالة هو استلزامها الصدق ، واستبعاد اجتماع الفسق بالجوارح مع الصدق.

ثمّ الحجّيّة والقبول إذا لم يكن شاذّا ولا معارضا بغيره ، ومع الشذوذ والمعارضة يجب الطرح وطلب المرجّح.

وعمل طائفة من الأخباريين بالأخبار الشاذّة (2) ؛ بناء على عدم حجّيّة الإجماع عندهم ، وستعلم الحال (3).

هذا ، وأمّا الضعيف بأقسامه ، فلا ريب في عدم كونه مقبولا وإن كان قويّا ؛ والسرّ ظاهر.

نعم ، الحقّ أنّه إذا انجبر بعمل الأصحاب سيّما القدماء منهم ، يكون مقبولا ؛ لحصول التثبّت والعثور على كونه معتمدا عليه ، وليس الحجّة حينئذ هو عمل القوم ؛ لأنّه ليس حجّة إذا لم يكن إجماعا ، بل الخبر المنجبر ؛ لما ذكر (4). ولا استبعاد بعد الدليل في عدم حجّيّة أمر ، وصيرورته حجّة بعد اقترانه بأمر آخر وإن لم يكن هو حجّة مستقلّة.

فائدة

المشهور بين العامّة والخاصّة التسامح في أدلّة السنن ، فيقبلون الخبر الضعيف في المستحبّ والمكروه ، ونحو المواعظ والقصص إذا لم يبلغ الضعف حدّ الوضع. وهو حقّ.

لنا : ما رواه الفريقان عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أنّه قال : « من بلغه عن اللّه فضيلة فأخذها وعمل بما

ص: 261


1- العدّة في أصول الفقه 1 : 134.
2- حكاه الوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة : 395.
3- راجع بحث الإجماع ص 367.
4- أي لحصول التثبّت.

فيها إيمانا باللّه ورجاء ثوابه ، أعطاه اللّه تعالى ذلك وإن لم يكن كذلك » (1).

وما روي في الكافي بسند حسن ، وفي المحاسن بسند صحيح عن الصادق عليه السلام أنّه قال : « من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه ، كان له أجره وإن لم يكن على ما بلغه » (2). وفي معناهما أخبار أخر (3) ، فالعمل بالأدلّة الضعيفة في السنن ليس حقيقة بها ، بل بما ذكر مع اعتضاده بالشهرة القويّة.

والإيراد عليه بوجوه :

منها : أنّه إثبات أصل بظاهر.

وقد عرفت جوازه (4) ، سيّما إذا كان الظاهر معتضدا بعمل المعظم.

ومنها : أنّ المفهوم من الأخبار أنّه إذا روي ثواب لعمل ففعل رجاء له ، يثاب وإن كان ما روي خلاف الواقع ، لا إذا روي أصل العمل من دون رواية ثوابه ، فلا يلزم منها جواز العمل بالسنن التي لم يرو ثوابها ، كما هو شأن أكثرها.

وجوابه : أنّها لا تنفكّ عن أمر الشارع بها ، وهو يستلزم الثواب ، فمن امتثل الأمر رجاء للثواب يؤتى به.

ومنها : أنّ الثواب كما يترتّب على المستحبّ يترتّب على الواجب أيضا ، فلا وجه لتخصيصها بالأوّل.

وجوابه : أنّ الثواب إنّما يستلزم رجحان الفعل فقط ، ولا دلالة له بإحدى الثلاث على فساد في تركه ، فإن عمّم الثواب بحيث يشمل الواجب يلزم اعتبار هذا القيد في بعض الأفراد مع أنّ الأصل عدمه. فالمفهوم من الأخبار حينئذ جواز العمل في المستحبّ برواية العدل ، والفاسق ، والمجهول ؛ نظرا إلى تعميم البلوغ والسماع ، والأوّل روايته مسموعة في الوجوب والتحريم أيضا ، فبقي روايتهما مقصورة في المستحبّ. فإذا ورد أمر بطريق

ص: 262


1- عدّة الداعي : 20 ، وكنز العمّال 15 : 791 ، ح 43132 و 43133.
2- راجع : المحاسن 1 : 93 ، ح 52 و 53 ، والكافي 2 : 87 ، باب من بلغه ثواب على عمل ، ح 1.
3- المحاسن 1 : 93 ، ح 2 ، والكافي 2 : 87 ، باب من بلغه ثواب على عمل ، ح 2 ، وثواب الأعمال : 162 ، وعدّة الداعي : 20.
4- في ص 195 - 196 ، فصل 4.

ضعيف كان فعله مستحبّا لنا ، بمعنى أنّ الحكم بالنسبة إلينا الاستحباب ؛ للأخبار المذكورة لا أنّ الأمر يقتضيه. وهذا هو السرّ في حمل الفقهاء الأوامر الواردة بطرق (1) ضعيفة على الاستحباب.

وربما يقال : إنّ الأوامر الواردة بطرق (2) ضعيفة والمعارضة بغيرها ، لمّا احتملت الوجوب - وإن لم يكن ثابتا - ينبغي فيها الاحتياط ، وهو مستحبّ عند الأكثر ، فلذا يحملها الفقهاء على الاستحباب. وهذا في الحقيقة دليل على حدة على جواز التسامح في أدلّة السنن.

ثمّ فهم العمل بالمكروه من الأخبار المذكورة ؛ بناء على أنّ سماع شيء من الثواب يشمل الفعل والترك.

هذا ، واحتجّ الخصم بآية التثبّت (3).

والجواب : أنّ بينها وبين الأخبار المذكورة عموما وخصوصا من وجه ، فيجب تخصيص أضعفهما بالأقوى ، ولا ريب في أنّ القوّة للأخبار ؛ ولاستفاضتها واعتضادها بالشهرة القويّة ، وبما ذكرنا (4) أخيرا (5) ، مع أنّ المفهوم من الآية عدم العمل بقول الفاسق بدون التثبّت ، والعمل به فيما نحن فيه ليس عملا بلا تثبّت ، بل به للأخبار المعاضدة بعمل المعظم ، فلا تعارض.

ثمّ بعض الأصحاب (6) جوّز الرجوع إلى أخبار العامّة في السنن ؛ نظرا إلى ما ذكر.

وهو مشكل ؛ لما ورد من المنع عن الرجوع إليهم ، والعمل بأخبارهم (7).

وكيفيّة التفريع ظاهرة ؛ فإنّه يحكم باستحباب الوضوء لتلاوة القرآن ؛ لبعض الأخبار الضعيفة (8) ، وحمل المصحف (9) ؛ للشهرة والتعظيم ، وزيارة القبور ؛ للشهرة.

ص: 263


1- في « ب » : « بطريق ».
2- في « ب » : « بطريق ».
3- هي آية النبأ في سورة الحجرات (49) : 6.
4- في « ب » : « ذكر ».
5- وهو موافقة التسامح في أدلّة السنن للاحتياط المستحبّ. راجع ص 261.
6- قاله المحقّق الحلّي في معارج الاصول : 153.
7- وسائل الشيعة 27 : 106 ، أبواب صفات القاضي ، الباب 9 ، ح 1 وما بعده.
8- مثل ما في قرب الإسناد : 395 ، ح 1386 ، والخصال 2 : 627 ، حديث الأربعمائة ، ح 10 ، وعدّة الداعي : 329 ، باب تلاوة القرآن ، ووسائل الشيعة 6 : 196 ، أبواب قراءة القرآن ، الباب 13 ، ح 1 - 3.
9- لم أجد ما دلّ على استحباب الوضوء للحمل. نعم ورد استحبابه في التعليق. راجع : تهذيب الأحكام 1 : 9. ح 344 ، ووسائل الشيعة 1 : 384 ، أبواب الوضوء ، الباب 12 ، ح 3.

وقيل : ورد به رواية أيضا (1). وقس عليها أمثالها.

تذنيب

قيل : تنويع الخبر إلى الأنواع المذكورة (2) لم يكن في عرف القدماء ، بل كان دأبهم العمل بالصحيح فقط. وهو في اصطلاحهم ما اقترن بما يوجب الوثوق به والركون إليه ، واعتضد بما يقتضي الاعتماد عليه. إمّا بوجوده في كثير من الاصول المعروفة ، أو بتكرّره في أصل أو أصلين بطرق مختلفة.

وإمّا باندراجه في أحد الكتب التي عرضت على الأئمّة عليهم السلام ، وأثنوا على مؤلّفها (3) ، ككتاب عبيد اللّه بن علي الحلبي المعروض على الصادق عليه السلام (4) ، وكتابي (5) يونس بن عبد الرحمن (6) والفضل بن شاذان المعروضين على العسكريّ عليه السلام (7).

أو بوروده عن أحد الجماعة التي (8) أجمعوا على تصديقهم ، أو تصحيح ما يصحّ عنهم ، أو العمل بروايتهم ، كزرارة ، وصفوان بن يحيى ، وعمّار الساباطي وأضرابهم.

أو بأخذه من الكتب التي اعتمد السلف عليها سواء كان مؤلّفها (9) من الإماميّة - ككتاب الصلاة لحريز ، وكتب ابني سعيد وعليّ بن مهزيار - أو غير الإماميّة ، ككتاب حفص بن غياث القاضي وأمثاله.

وعلى هذا جرى المحمّدون الثلاثة ، حتّى أنّ الشيخ في العدّة جعل من علامة صحّة الأخبار موافقتها لأدلّة العقل ، أو لنصّ الكتاب - إمّا خصوصه ، أو عمومه ، أو دليله ، أو معناه ، أو صريحه ، أو فحواه - أو للسنّة المقطوع بها ، أو لما أجمعت الفرقة

ص: 264


1- يظهر من ذكرى الشيعة 1 : 193 ، ومدارك الأحكام 1 : 12 ، أنّ فيه رواية. ولم أظفر على الرواية.
2- الصحيح ، والحسن ، والموثّق ، والضعيف. والقائل هو البهائي في مشرق الشمسين :2. 32.
3- كذا في النسختين. والأولى : « مؤلّفيها ».
4- رجال النجاشي : 231 ، الرقم 612.
5- في « ب » : « كتاب ».
6- رجال النجاشي : 447 ، الرقم 1208.
7- اختيار معرفة الرجال : 537 ، ح 1023.
8- كذا في النسختين. والأولى : « الذين » ، كما في فائق المقال للبصري : 29.
9- كذا في النسختين. والأولى : « مؤلّفوها ».

عليه. إلى أن قال : فهذه القرائن تدلّ على صحّة متضمّن أخبار الآحاد لا على صحّتها في نفسها (1).

والتنويع المذكور إنّما حدث من المتأخّرين ؛ لما خفي عليهم أكثر الامور المذكورة ، ولم يمكنهم تحصيل القرائن الميسّرة للقدماء. وأوّل من قرّره العلاّمة ، أو ابن طاوس على اختلاف النقلين (2).

ثمّ ربما طعن بعض الناس على هذا الاصطلاح (3).

ولا ريب أنّه نشأ عن قلّة التدبّر ؛ فإنّ الفرق بين الأقسام الأربعة والحكم بحجّيّة بعضها دون بعض ممّا يدلّ عليه الكتاب (4) ، كما عرفت (5). وفي أخبارنا أيضا ما يدلّ عليه (6). ولا مجال للكلام على التسمية ، سيّما مع المناسبة.

والحقّ : أنّه كان متعارفا عند القدماء أيضا ؛ فإنّ الكشّي ، وابن الغضائري ، والنجاشي ، والشيخ منهم ، مع أنّهم يقولون في كتبهم : فلان « ثقة » أو « عدل » أو « صالح » أو « صحيح الحديث » أو « ضعيفة » وأمثالها. وهذا بعينه مراد المتأخّرين من الأنواع الأربعة.

والامور المذكورة المتعارفة عند القدماء إنّما هي من القرائن المفيدة للعلم أو الظنّ ، وهي أيضا ممّا يصحّ الاعتماد عليه لمن تمكّن من تحصيله (7). فالقدماء لمّا تمكّنوا من تحصيلها ، يعتمدون عليها في تمييز الحديث وعلى التنويع المذكور أيضا ؛ لعدم المنافاة. والمتأخّرون لمّا لم يتمكّنوا من تحصيلها ، قصروا تميّزه على الثاني.

ص: 265


1- العدّة في أصول الفقه 1 : 144 و 145.
2- راجع : خاتمة وسائل الشيعة 30 : 262 ، السادس عشر. والمراد بابن طاوس هو شيخ العلاّمة أحمد بن طاوز. وفي توضيح المقال : 51 : « وشيخه محمّد بن أحمد بن طاوس » وهو خطأ.
3- منهم الحرّ العاملي في خاتمة وسائل الشيعة 30 : 262.
4- كآية النبأ في سورة الحجرات (49) : 6. ووجه دلالة الكتاب على التنويع هو تقسيم الراوي إلى الفاسق والعادل.
5- تقدّم في ص 234.
6- والمراد بهذه الأخبار ما دلّ على جرح بعض الرواة من حيث الاعتقاد والجوارح ، وتعديل بعضهم ، وهي مبثوثة في رجال الكشّي. راجع اختيار معرفة الرجال : 6. ح 950 ، و 537 ، ح 1023.
7- تذكير الضمير باعتبار الموصول في « ممّا ».
فصل [13]
اشارة

الأقسام الأربعة تسمّى اصول الحديث ، وله أقسام أخر باعتبارات مختلفة ، وكلّها يرجع إليها ، وهي كثيرة ، ونذكر منها ما هو أكثرها دورانا وفائدة.

المسند : وهو ما اتّصل سنده بالمعصوم ، بأن يكون كلّ واحد من الرواة أخذه ممّن هو فوقه حتّى يصل إلى المعصوم من غير سقوط واحد منهم. فخرج باتّصال السند المنقطع بأقسامه ، كما يأتي (1). وباتّصاله إلى المعصوم الموقوف على غيره إذا جاء بسند متّصل ؛ فإنّه لا يسمّى مسندا في العرف.

وبعضهم (2) يطلق المسند على المتّصل مطلقا.

وهذا القسم ممّا تشترك فيه الأنواع الأربعة ، فهو بالإطلاق ليس حجّة.

والمتّصل - ويقال له الموصول أيضا - : وهو ما اتّصل سنده بالمعصوم أو غيره ، فهو أعمّ من الأوّل مطلقا ؛ لصدقه على الموقوف على غيره ، بخلافه.

وربما خصّ عند الإطلاق بما اتّصل (3) سنده إلى المعصوم أو الصحابي دون غيرهما. وأمّا عند التقييد ، فلا كلام في جواز إطلاقه على ما اتّصل بغيرهما ، كقولهم : هذا متّصل الإسناد بفلان.

وهذا القسم إذا كان متّصلا بالمعصوم ، فكالأوّل (4) ، وإذا كان موقوفا على غيره ، فليس حجّة مطلقا.

والمرفوع : وهو ما اضيف إلى المعصوم بالإسناد المتّصل أو المنقطع ، سواء كان قولا صريحا ، كقول الراوي : سمعت النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ، أو الصادق عليه السلام أنّه قال كذا.

أو فعلا صريحا ، نحو : رأيته عليه السلام يفعل كذا.

ص: 266


1- في ص 268 وما بعدها.
2- نسبه الصدر إلى البهائي في نهاية الدراية : 186.
3- في « ب » : « بالمتّصل ».
4- أي في حجّيّته تفصيل. ويأتي فيه الأنواع الأربعة الأصليّة.

أو تقريرا صريحا ، نحو : فعلت بحضرته عليه السلام كذا ، ولم يذكر إنكارا منه مع عدم تصوّر تقيّة.

أو قولا في حكم الصريح ، كأقوال أصحاب المعصومين فيما لا مدخليّة للاجتهاد فيه ، كإخبارهم عن الثواب والعقاب على فعل مخصوص ، وعن كيفيّة الجنّة والنار وأمثالها ؛ فإنّ هذا في حكم قولهم : قال المعصوم كذا ، وكذا قولهم : أمرنا بكذا ، أو نهانا عن كذا ، أو السنّة كذا.

أو فعلا كذلك ، كأفعالهم التي لا مدخليّة للاجتهاد فيها ، كالصلاة بالهيئة الخاصّة ؛ فإنّ هذا كإخبارهم بأنّ المعصوم فعل كذا.

أو تقريرا كذلك ، نحو إخبارهم بأنّهم كانوا يفعلون في زمن المعصوم كذا ممّا يبعد خفاؤه عنه ، فإنّه في حكم أن يقولوا : فعلنا بحضرته كذا ؛ لأنّه يبعد مداومتهم على فعل من عند أنفسهم من غير علم المعصوم به ؛ فإنّ توفّر دواعيهم على السؤال ينافيه.

ومن المرفوع قول الراوي : فلان رفعه إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ، أو إلى واحد من الأئمّة عليهم السلام ؛ فإنّه لاتّصاله بالمعصوم يسمّى مرفوعا وإن كان منقطعا بالنسبة إلينا.

ثمّ المرفوع أعمّ من المسند مطلقا ؛ لأنّ كلّ مسند مرفوع ولا عكس كلّيا ؛ لافتراقه عنه في حالة انقطاعه.

وبينه وبين المتّصل عموم وخصوص من وجه ؛ لاجتماعهما في المسند ، وافتراق المتّصل عن المرفوع فيما اتّصل إسناده بغير المعصوم ، وعكسه فيما اضيف إلى المعصوم بإسناد منقطع.

ويظهر منه حال المرفوع في الحجّيّة وعدمها ؛ لأنّه إذا كان إسناده منقطعا لا يكون حجّة كما يأتي (1). والمادّتان الأخيرتان (2) قد عرفت حالهما.

والموقوف : وهو ما روي عن أصحاب المعصومين عليهم السلام قولا أو فعلا ، متّصلا أو منقطعا ،

ص: 267


1- في ص 269.
2- إحداهما : المرفوع المتّصل سنده إلى المعصوم عليه السلام ، ففي حجّيّته تفصيل فهو كالمسند. والاخرى : المرفوع الموقوف وهو غير حجّة مطلقا. راجع ص 266.

صحيحا أو غيره. هذا إذا أخذ مطلقا. وأمّا عند التقييد : فيطلق على غيرهم أيضا ، فيقال : وقفه على فلان ، إذا لم يكن من أصحابهم. ومنه قول الراوي : كنّا نفعل كذا ، أو : لا يرون بذلك بأسا ، إذا لم يضف ذلك إلى زمان المعصوم ، وإذا علم وقوعه فيه ، فهو من المرفوع الحكمي ، كما عرفت (1). وهو مباين للأوّل والثالث (2).

وبينه وبين الثاني (3) عموم وخصوص من وجه ؛ ووجهه ظاهر. وهو ليس بحجّة. نعم ، يصلح للتأييد.

والمنقطع : ويقال له المقطوع أيضا. وله في عرفهم إطلاقان :

أحدهما : أنّه ما روي عن التابعي - أي مصاحب أصحاب المعصومين - من أفعالهم وأقوالهم ، موقوفا

عليهم ، متّصلا كان أو منقطعا. فهو مغاير (4) للأقسام المتقدّمة سوى المتّصل والموقوف المقيّد ؛ فإنّ (5) بينه وبين المتّصل عموما وخصوصا من وجه ؛ ووجهه ظاهر. وأخصّ من الموقوف المقيّد ؛ لأنّه يشمل غير التابعي أيضا ، والمقطوع يختصّ به.

هذا ، والظاهر من طريقة أصحابنا أنّهم لم يفرّقوا بينه وبين الموقوف.

وثانيهما : ما لم يتّصل إسناده إلى المعصوم على أيّ وجه كان ، ويقال له : المنقطع بالمعنى الأعمّ.

فإن حذف واحد أو أكثر من أوّل إسناده ، سمّي معلّقا ، كقول الشيخ : روى محمّد بن يعقوب ... ، أو روى زرارة عن الباقر عليه السلام. ومنه ما حذف كلّ أسناده ، كقولهم : قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ، أو قال الصادق عليه السلام ونحو ذلك.

أو من وسطه ، سمّي منقطعا بالمعنى الأخصّ.

أو من آخره ، سمّي مرسلا. ومنه ما روى عن المعصوم من لم يدركه بواسطة نسيها ، أو تركها عمدا ، أو سهوا ، كقولهم : عن رجل ، أو عن بعض أصحابنا.

ص: 268


1- راجع ص 266 - 267.
2- أي المسند والمرفوع.
3- أي المتّصل.
4- أي مباين.
5- تعليل للاستثناء.

وما حذف من أسناده أكثر من واحد اختصّ باسم المعضل - بالضاد المفتوحة المعجمة - فهو أخصّ من المنقطع بالمعنى الأعمّ مطلقا.

وبينه وبين كلّ واحد من الأقسام الثلاثة عموم وخصوص من وجه.

وكلّ واحد من الثلاثة مباين للأخيرين والمنقطع العامّ.

وكلّ واحد من أقسامه مباين للمسند ، والمتّصل ، والموقوف ، والمنقطع بالإطلاق الأوّل. وأخصّ من المرفوع مطلقا.

والنسبة بهذا الوجه إذا اعتبر إضافته إلى المعصوم ، كما هو الظاهر من عرفهم ، وإن لم تعتبر ، فتختلف في بعض الموادّ. وكيفيّته ظاهرة.

ثمّ القطع في الإسناد إن كان معلوما بسهولة ، سمّي واضحا. وإن كان خفيّا لا يدركه إلاّ الماهر ، سمّي مدلّسا.

واعلم أنّ المنقطع بأقسامه لا يخرج عن الصحّة والقبول إذا عرف المحذوف وكونه ثقة ، كقول الشيخ والصدوق : محمّد بن يعقوب ، أو أحمد بن محمّد وغيرهما ممّن لم يدركاه ، ولكنّهما ذكرا في آخر كتبهما طريقهما إليه ؛ فإنّه في قوّة المذكور. وإن لم يعرف فليس مقبولا ، معلّقا كان ، أو منقطعا بالمعنى الأخصّ ، أو مرسلا.

وقد وقع الخلاف في الأخير على أقوال (1) : ثالثها : القبول إذا كان معاضدا بدليل آخر وإن كان عمل الأكثر ، أو علم أنّ المرسل لا يروي إلاّ عن ثقة.

وبعد ما علم اشتراط عدالة الراوي في قبول روايته ، يظهر فساد القول بالقبول مطلقا ، وهو ظاهر.

ويرد على أوّل جزءي القول الثالث : أنّ العمل حينئذ بالمعاضد الذي هو الحجّة دون المرسل ؛ لأنّ الشرط المذكور يدلّ على عدم حجّيّته مطلقا.

نعم ، يمكن أن يقال بحجّيّته حينئذ ؛ نظرا إلى حصول التبيّن والعثور على ما يدلّ على كونه مقبولا ، كما تقدّم في الخبر الضعيف (2).

ص: 269


1- تأتي في ص 270.
2- راجع ص 261.

ويظهر الفائدة (1) في صيرورتهما دليلين عند المعارضة لدليل واحد ، فيرجّح بهما.

وهذا الإيراد والتوجيه والفائدة آتية (2) فيما إذا قيل بحجّيّة المرسل إذا وجد مسندا من وجه آخر.

وعلى ثاني جزءيه : أنّ حصول العلم المذكور إن كان من الاستقراء لمراسيله ، والاطّلاع من خارج على أنّ المحذوف فيها ثقة ، فهو في معنى الإسناد. وإن كان من إخبار الراوي بأنّه لا يرسل إلاّ عن الثقة ، فمرجعه إلى الشهادة بعدالة المجهول. وسيجيء (3) ما فيه (4). وإن كان من وجدانها مسانيد من وجوه أخر ، فقد عرفت (5) ما فيه.

هذا ، مع أنّ القطع بتحقّق أحد الامور الثلاثة في جميع مراسيل راو واحد مشكل ، فالحكم بحجّيّة مراسيل ابن أبي عمير ، وأحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي ، وصفوان بن يحيى من أصحابنا ؛ نظرا إلى الأمر الأوّل غير ثابت ؛ لأنّا لم نتفحّص عن جميع الوسائط المحذوفة عن مراسيلهم حتّى نعلم أنّها ثقات ، بل لسنا متمكّنين من هذا الفحص ، وكذا حال المتقدّمين علينا.

وحجّة من قال بحجّيّة مراسيلهم قول الشيخ في العدّة :

وإذا كان أحد الراويين مسندا والآخر مرسلا ، نظر في حال المرسل ، فإن كان ممّن يعلم أنّه لا يرسل إلاّ عن ثقة موثوق به ، فلا ترجيح لخبر غيره على خبره ، ولأجل ذلك سوّت الطائفة بين ما يرويه محمّد بن أبي عمير ، وصفوان بن يحيى ، وأحمد بن محمّد بن أبي نصر ، وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنّهم لا يروون ولا يرسلون إلاّ عمّن يوثق به وبين ما أسنده غيرهم ، ولذلك عملوا بمراسيلهم (6).

ص: 270


1- أي بين مقتضى الإيراد ومقتضى التوجيه ؛ فإنّ مقتضى الإيراد هو عدم حجّيّة المرسل وانحصار الحجّيّة في المعاضد. وأمّا مقتضى التوجيه : فهو حجّيّة المرسل أيضا كالمعاضد ، فعند وجود المعارض الواحد يقع التعارض بين حجّة وحجّتين بناء على التوجيه ، وبين حجّة واحدة وحجّة واحدة بناء على الإيراد. واعلم أنّ هذا يفيد فيما إذا قلنا بمرجّحيّة الأكثر عددا ، وإلاّ فلا تظهر الفائدة.
2- في النسختين « آت » والصحيح ما أثبتناه.
3- في ص 284.
4- كذا في النسختين. والأولى : « فيها ».
5- في ص 266 من أنّ المسند ممّا يشترك فيه الأنواع الأربعة فليس مجرّد كون الخبر مسندا مساويا للحجّيّة.
6- العدّة في أصول الفقه 1 : 154.

واستدلالهم من هذا الكلام في موضعين :

أحدهما : أنّه شهد بأنّ هؤلاء لا يروون إلاّ عن ثقة.

وفيه : أنّ مرجعه إلى شهادة عدل على عدالة المجهول ، وفيه (1) ما سيجيء (2) ، مع أنّا نرى أنّهم كثيرا ما يروون عن الضعفاء.

وثانيهما : أنّه ظهر منه أنّ الطائفة عملت بمراسيلهم.

وفيه : أنّ عملهم لم يبلغ حدّا يكون حجّة. كيف؟ وليس حال من تقدّم على الشيخ في هذا معلومة لنا ، ومن تأخّر عنه بين تابع له كالعلاّمة (3) في بعض كتبه ، ومتوقّف فيه كالمحقّق (4) ، ومخالف له كصاحب البشرى (5) وجلّ من تأخّر عنه.

هذا ، مع أنّا نرى أنّ بعض مراسيلهم ممّا لم يعمل به ، أو عمل به الأقلّ.

نعم ، يمكن القول بحجّيّة مراسيلهم التي عمل به المعظم ؛ نظرا إلى ما قلنا في الخبر الضعيف (6) ، وحينئذ لا فرق بين مراسيلهم ومراسيل غيرهم.

وذهب الشافعي إلى قبول رواية سعيد بن المسيّب ؛ نظرا إلى الأمر الثالث ، وقال : إنّي اعتبرتها ، فوجدتها مسانيد من وجوه أخر (7).

وقد عرفت (8) ما فيه ، مع أنّ اعتباره لا ينتهض حجّة لأحد.

فظهر ممّا ذكر أنّ الحقّ عدم القبول مطلقا.

واحتجّ القائلون بالقبول مطلقا - وهم الحنفيّة (9) ، والمالكيّة (10) ، ورؤساء المعتزلة (11) ، ومحمّد بن خالد البرقي (12) من قدماء أصحابنا - بوجوه :

ص: 271


1- كذا في النسختين. والأولى : « فيها ».
2- في ص 285.
3- ذهب إليه في نهاية الوصول إلى علم الأصول 3 : 459.
4- معارج الاصول : 156.
5- كما في شرح البداية : 95. وصاحب البشرى هو السيّد أحمد بن طاوص. ولم نعثر على كتابه.
6- تقدّم في ص 255.
7- راجع : الخلاصة في اصول الحديث : 66 ، وتدريب الراوي 1 : 199.
8- في ص 266 من أنّ كون الخبر مسندا ليس مساويا لحجّيّته ؛ لأنّه يجري فيه الأنواع الأربعة.
9- نسبه إليهم الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 136 ، والعلاّمة في مبادئ الوصول : 209 ، وتهذيب الوصول : 240.
10- نسبه إليهم الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 136 ، والعلاّمة في مبادئ الوصول : 209 ، وتهذيب الوصول : 240.
11- نسبه إليهم الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 136 ، والعلاّمة في مبادئ الوصول : 209 ، وتهذيب الوصول : 240.
12- نسبه إليه العلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الأصول 3 : 459.

منها : إجماع الصحابة والتابعين على قبول المراسيل. واحتجّوا على ثبوته بقول بعض الصحابة : كلّ ما نسنده إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ما سمعنا منه ، ولكنّا لا نكذب عليه (1).

وبأنّ كثيرا ما يسند صحابي خبرا إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ثمّ يصرّح بأنّه لم يسمعه من النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ، بل من صحابي (2) آخر.

وبأنّ روايات ابن عبّاس عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم مقبولة مع أنّه لم يرو عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلاّ أربعة أحاديث ؛ لصغر سنّه (3).

وبأنّ بعض التابعين أسند خبرا إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فلمّا سئل عنه قال : أخبرني به سبعون بدريّا (4).

والجواب : أنّ هذه القضايا - على فرض ثبوتها - لا تدلّ على تحقّق الإجماع.

ومنها : أنّ رواية العدل عمّن سكت عنه تعديل له ؛ لأنّه لو روى عن غير عدل ولم يبيّن حاله ، لكان ملبّسا وهو ينافي العدالة (5).

وجوابه : منع التلبيس ؛ لأنّه يعلم أنّ حكم المرسل عند السامعين حكم الضعيف ، مع أنّه يمكن أن ينساه ولم يعلمه بعينه فأرسل عنه ؛ لعدم خلوّه عن فائدة ، فإنّه يعلم أنّ المرسل يصلح للتأييد ، غاية الأمر أنّ روايته عنه تعديل له ، ومرجعه إلى شهادة العدل على عدالة مجهول العين.

ويعلم (6) ما فيه.

ومنها : أنّ إسناد الحديث إلى المعصوم يستلزم اعتقاد صدقه ؛ لأنّ إسناد ما هو الكذب عنده إليه ينافي العدالة ، ولا ريب أنّ حديث غير العدل كاذب عند العدل ، فيجب أن يكون المحذوف عدلا حتّى يعتقد صدقه ، وحينئذ يجب قبوله (7).

وقد ظهر جوابه ممّا ذكر.

ولهم وجوه ضعيفة أخر (8) تركناها لظهور فسادها.

ص: 272


1- هو البراء بن عازب كما في نهاية الوصول إلى علم الأصول 3 : 465.
2- هو أبو هريرة والفضل بن عبّاس وابن عمر ، كما في المصدر.
3- راجع نهاية الوصول إلى علم الأصول 3 : 466.
4- راجع نهاية الوصول إلى علم الأصول 3 : 466 و 467.
5- راجع نهاية الوصول إلى علم الأصول 3 : 466 و 467.
6- راجع ص 285.
7- راجع نهاية الوصول إلى علم الأصول 3 :6. 468.
8- راجع نهاية الوصول إلى علم الأصول 3 :6. 468.
تتميمات

الأوّل : ليس من المرسل عندنا ما يقال فيه : عن الصادق عليه السلام قال : قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم كذا ؛ ووجهه ظاهر.

الثاني : قطع الحديث بالإرسال ونحوه عمدا حرام أو مكروه ؛ لقول النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم : « إذا حدّثتم بحديث فأسندوه إلى الذي حدّثكم » (1). وقول الصادق عليه السلام : « إيّاكم والكذب المفترع » ، قيل له : وما الكذب المفترع؟ قال : « أن يحدّثك الرجل بالحديث فتتركه وترويه عن الذي حدّثك » (2).

وعلى هذا فالظاهر أنّ استعمال القطع في كلام قدمائنا المحدّثين وقع سهوا أو نسيانا.

الثالث : قيل : لو أسند راو حديثا إلى النبيّ مرّة وأوقفه غيره على الصحابي ، فهو متّصل (3) ؛ لجواز أن يكون الصحابي رواه عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم تارة وذكره عن نفسه على سبيل الفتوى اخرى ، فرواه كلّ منهما بحسب سماعه أو سمعه ، يرويه عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم فنسي وظنّ أنّه ذكره عن نفسه.

وكذا لو أسنده إلى النبيّ تارة وأوقفه هو على الصحابي اخرى ؛ لما ذكر (4).

نعم ، لو أرسله أو أوقفه مدّة طويلة ثمّ أسنده إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم بعد تلك المدّة ، فهو يقدح في اتّصاله (5) ؛ لأنّ نسيانه في تلك المدّة بعيد. اللّهمّ إلاّ أن يكون له كتاب يرجع إليه فيذكر ما نسيه (6).

ولا يخفى أنّ الوقف على الصحابي في الصورتين وإن احتمل ما ذكر ، إلاّ أنّه ليس على سبيل القطع ، فالحكم بكونه متّصلا مشكل.

ص: 273


1- ما وجدته عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم نعم ورد عن عليّ عليه السلام كما في الكافي 1 : 52 ، باب رواية الكتب والحديث ، ح 7.
2- معاني الأخبار : 157.
3- في هامش « أ » : « أي بالمعصوم ».
4- في هامش « أ » : « يكون سنده متّصلا بالمعصوم ».
5- في هامش « أ » : « أي اتّصال سنده بالمعصوم ».
6- قاله البصري في المعتمد 2 : 151 ، والعلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الأصول 3 : 469.
ومن أقسام الحديث : المعنعن

وهو ما يقال في سنده : فلان عن فلان إلى آخره من غير بيان للتحديث والإخبار والسماع.

قيل : وقد كثر استعمال « عن » في الإجازة (1).

والصحيح أنّها تستعمل في الأعمّ منها ومن القراءة والسماع.

والمعنعن متّصل إذا أمكن اللقاء وأمن التدليس بأن لا يكون معروفا به.

وقد وقع الخلاف في اشتراط ثبوت اللقاء وطول الصحبة ، وكونه معروفا بالرواية عنه. والحقّ عدمه ؛ نظرا إلى حمل فعل المسلم العدل على الصحّة.

ويشترط في قبوله أن لا يكون ضعيفا ؛ فإنّه يعمّ الأنواع الأربعة.

والمقبول : وهو ما تلقّوه بالقبول والعمل بمضمونه من أيّ أقسام كان (2) ، كحديث عمر بن حنظلة في حال المتخاصمين (3). وربما جعل من أقسام الضعيف ؛ لكون الصحيح مقبولا مطلقا.

والمستفيض : وهو ما زاد نقلته على ثلاثة ، أو اثنين عند بعض (4). ويسمّى المشهور أيضا. وقد يطلق المشهور على ما شاع العمل به عند أهل الحديث. وهو يعمّ الأنواع الأربعة ، فيشترط في قبوله أن لا يكون ضعيفا.

وعالي السند : وهو ما قلّت واسطته مع اتّصاله. سمّي عاليا لبعده عن الخلل بقلّة الوسائط ، ولذا عدّ من المرجّحات. والمراتب متفاوتة في ذلك ، فما قرب إلى المعصوم أعلى ممّا بعد عنه. والغالب أنّ ما يروى عن معصوم متأخّر أعلى من متقدّم.

وأشرف العلوّ قرب الإسناد من المعصوم ، ثمّ من أئمّة الحديث كالكليني وأمثاله. ويسمّى الأوّل علوّا مطلقا ، والثاني علوّا نسبيّا. وقد كان طلب العلوّ سنّة عند السلف ، ولذلك يسافرون إلى البلاد البعيدة عند المشايخ لطلبه.

والمسلسل : وهو ما تتابع رجال إسناده كلاّ أو بعضا على أمر كالاسم ، نحو المسلسل

ص: 274


1- قاله ابن الصلاح في مقدّمته : 62.
2- أي سواء كان صحيحا ، أو حسنا ، أو موثّقا ، أو ضعيفا.
3- تهذيب الأحكام 6 : 218 ، ح 514.
4- نسبه الشهيد الثاني إلى البعض في البداية في علم الدراية : 29 ، وشرح البداية : 63.

بالمحمّدين ، أو الأحمدين ، والمسلسل بالآباء بأن يروي كلّ واحد من الرواة عن أبيه.

وكالصفة ، نحو المسلسل بالتشبيك بالأصابع والمصافحة.

وقد يكون التسلسل بقول كلّ واحد منهم : « سمعت » أو « سمعت واللّه ». وأسبابه كثيرة ، ولا فائدة يعتدّ بها في ذكرها.

والشاذّ والنادر : وهو ما رواه الثقة وكان مخالفا لما رواه الأكثر ، وربما عمل به بعضهم.

والراوي للشاذّ ربما كان أعدل أو أضبط من راوي المشهور ، وحينئذ لا يلزم ردّه ؛ لأنّ في كلّ منهما رجحانا من وجه فيتعارضان ، فيلزم الفحص لاستنباط الترجيح ، وربما حصل للشاذّ عند مرجّح ، وإن انعكس (1) ، فمردود ؛ ووجهه ظاهر.

وإن رواه غير الثقة فيسمّى منكرا ، ويجب ردّه. وقد يطلق (2) الشاذّ عندنا على ما لم يعمل به أصلا.

والغريب : وهو إمّا غريب إسنادا ومتنا معا ، وهو ما تفرّد برواية متنه واحد.

أو إسنادا فقط ، وهو ما عرف متنه من جماعة من الصحابة ومن في حكمهم ، وانفرد واحد بروايته عن غيرهم.

أو متنا فقط ، كالحديث المفرد إذا اشتهر ، فرواه عمّن تفرّد به جماعة كثيرة ، ويصير حينئذ غريبا مشهورا.

قيل : ومنه حديث : « إنّما الأعمال بالنيّات » (3) ، فإنّه غريب في طرفه الأوّل ؛ لما قيل : إنّه رواه عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم واحد من الصحابة. ومشهور في طرفه الآخر ؛ لتكثّر الرواة فيه (4).

وقيل : ليس منه ؛ لأنّه رواه عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم جماعة من الصحابة (5).

ويدخل في الغريب ما اشتمل على لفظ غامض مشتبه بعيد عن الفهم ؛ لقلّة استعماله في

ص: 275


1- أي إن كان راوي المشهور أعدل.
2- في « أ » : « يطلق ».
3- كنز العمّال 3 : 792 - 794 ، ح 8779 - 8781.
4- ذهب إليه الشهيد الثاني في البداية في علم الدراية : 32 ، وشرح البداية : 80. ونسبه الصدر إلى محمّد بن عبد الحيّ في نهاية الدراية : 160.
5- ذهب إليه الداماد في الرواشح السماويّة : 204 ، ونسبه فيه إلى رهط من العلماء ، ونسبه الصدر إلى الفاضل الدربندي في نهاية الدراية : 161.

الشائع من اللغة ، ويسمّى بالغريب لفظا. وهو يعمّ الأنواع الأربعة. فلا يخفى القسم المقبول منه عن غيره.

والمضطرب : وهو ما اختلف راويه فيه إسنادا ، كأن يروي تارة عن رجل ، وتارة عن آخر.

أو متنا بأن يروي مرّة هكذا واخرى بخلافه ، كما جاء في حديث الدم المشتبه بالقرحة (1).

وقد يكون الاضطراب من راو واحد ، كهذا الحديث ، فإنّه مرفوع إلى أبان في الجهتين. وقد يكون من متعدّد فيروي كلّ واحد بخلاف ما رواه الآخر.

وتحقّق الاضطراب إنّما إذا تساوى الروايتان من حيث ضبط راويهما وحفظهما وعدالتهما ، أمّا لو رجّحت (2) إحداهما على الاخرى بوجه من الوجوه ، فلا اضطراب. فعلى الأوّل لا يمكن العمل بإحداهما ، فيجب الرجوع إلى الأدلّة الخارجيّة ، وعلى الثاني يلزم العمل بالأرجح.

والمقلوب : وهو حديث ورد عن راو فيروى عن غيره ليرغب فيه ، كما إذا رواه محمّد بن قيس ، أو محمّد بن عيسى ، فيروى عن محمّد بن مسلم ، أو أحمد بن محمّد بن عيسى. وقد يتّفق ذلك في أسانيد التهذيب (3).

وقد يقع القلب في كلّ الطريق وهو حرام ، ومن عرف به سقطت عدالته. وقد يقع القلب من بعض العلماء لامتحان بعض آخر ، كما اتّفق من بعض العلماء في بغداد لامتحان البخاري ، وكيفيّته معروفة (4). وقد يقع القلب في المتن ، والماهر يعرفه.

والمدرج : وهو الذي ادرج فيه كلام بعض الرواة ، فيظنّ أنّه منه. ويقال للزائد : المدرج ، وللحديث : المدرج فيه ، وحكمه ظاهر.

والمزيد : وهو ما زاد على غيره من الأحاديث المرويّة في معناه.

والزيادة إمّا تقع في المتن ، فهو مقبول إذا وقعت من الثقة ولم يكن لها معارض ؛ لجواز

ص: 276


1- الكافي 3 : 94 و 95 ، باب معرفة دم الحيض والعذرة والقرحة ، ح 3.
2- في « ب » : « ترجّحت ».
3- قال الشهيد الثاني في شرح البداية : 101 : « وكثيرا ما يتّفق ذلك في إسناد التهذيب ».
4- راجع تاريخ بغداد 2 : 4.

أن يطّلع على شيء لم يطّلع عليه الآخرون ، وعدالته تمنعه من الكذب ، فهو في حكم الحديث المستقلّ.

أو في الإسناد ، مثل أن يسنده وأرسلوه ، أو يوصله وأوقفوه. وهو أيضا مقبول بالشرط المذكور ؛ لما ذكروا.

والمصحّف ، ويقال له المحرّف أيضا : والتصحيف إمّا يقع في الإسناد ، كتصحيف بريد بالباء الموحّدة المضمومة ، بيزيد بالياء المثنّاة ، أو في المتن ، وهو ظاهر. أو في المعنى ومثّل له بما روي أنّه صلّى إلى عنزة - وهي حربة نصبها بين يديه سترة - فتوهّم رجل من بني عنزة (1) أنّ المراد منها قبيلته ، وأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم صلّى إليهم ، وهو تصحيف معنوي. والتنبّه للتصحيف فعل الحذّاق المهرة ؛ وبعد التفطّن به يلزم تصحيحه.

والمعلّل : وهو ما فيه سبب خفيّ قادح فيه ، ولا يستخرجه إلاّ اولو الأفهام الثاقبة ؛ وبعد التفطّن به يلزم ردّه.

والناسخ والمنسوخ : وهذا فنّ يصعب معرفته ، ولذلك ربما ادخل فيه ما ليس منه ، وجعلوا من طرق معرفته النصّ ، أو الإجماع ، أو التأريخ. والظاهر عدم وجوده في أخبار أئمّتنا عليهم السلام ، كما نبّه عليه بعض المحقّقين (2).

والموضوع والمختلق : وهو شرّ أقسام الضعيف ، ولا يحلّ روايته إلاّ لتبيّن حاله ، ويعرف الوضع بإقرار واضعه ، أو بشهادة من يوثق به ، أو بركاكة لفظه أو معناه ، أو بغير ذلك من أسباب يعرفها المؤيّدون.

وقد كثر الوضع للأخبار حتّى أنّ قوما جوّزوه (3) للترغيب والترهيب ، وكم من فساد واختلال حدث في الإسلام لأجل ذلك ، ومن وفّق بمعرفته لا يزلّ ، ولكنّها ليست شريعة لكلّ وارد ، بل لا يطّلع عليها إلاّ واحد بعد واحد.

ص: 277


1- الحديث في صحيح البخاري 1 : 80 و 81 ، ح 185 ، وصحيح مسلم 1 : 360 ، باب سترة المصلّي ، ح 250 / 503. والرجل على ما في فائق المقال : 22 أبو موسى [ محمّد ] بن المثنّى العنزي ، كما في مقدّمة ابن الصلاح : 1. وشرح البداية : 82.
2- نسبه الصدر إلى فخر الدين محمّد بن الحسن ابن العلاّمة الحلّي في نهاية الدراية : 307.
3- نسبه الشهيد الثاني إلى الكراميّة في شرح البداية : 102 و 105.

والمضمر : وهو ما طوي فيه ذكر المعصوم ، كأن يقول الراوي عن المعصوم : « سألته » ولم يسمّه. وهذا القسم غير معروف عند العامّة ، وإنّما يفعله أصحابنا للتقيّة. وهو يعمّ الأنواع الأربعة إلاّ أنّه قيل : هو مضعّف للحديث مطلقا (1) ؛ لاحتمال أن يكون المسئول عنه غير الإمام.

والحقّ : أنّ مضمرات كلّ واحد من الأجلاّء المخصوصين بواحد من الأئمّة عليهم السلام - كزرارة ، وفضيل بن يسار ، ومحمّد بن مسلم ، وعليّ بن مهزيار وأضرابهم - في قوّة المصرّحات ؛ لأنّا نعلم من حالهم أنّهم لا يعتمدون في الأحكام إلاّ على الحجّة القائم في عصرهم ، ولا يسألون غيره ، فيتعيّن المسئول عنه.

وربما قيل : مطلق الإضمار غير قادح ؛ لأنّ القرينة قائمة بأنّ المراد الإمام ؛ لأنّ جميع الرواة لا يعتمدون على أحد سوى المعصوم (2).

والوجه في الإضمار إمّا التقيّة ، أو قطع الأحاديث بعضها من بعض ؛ فإنّ الراوي كان يصرّح باسم المعصوم في أوّل الرواية ثمّ يقول في أثنائها : وسألته ، فلمّا حصل القطع توهّم الإضمار.

وهنا اصطلاحات أخر ذكرها بعض (3) :

كرواية الأقران : وهي رواية راو يساوي المرويّ عنه في السنّ. أو اللقاء وهو الأخذ عن المشايخ ، كرواية الشيخ عن المرتضى مع أنّهما أخذا عن المفيد.

والمدبّج : وهي رواية راو عمّن يروي هو عنه أيضا ، كرواية الصحابة بعضهم عن بعض ، وهي أخصّ من الاولى.

ورواية الأكابر عن الأصاغر ، كرواية الصحابي عن التابعي.

ومنها : رواية الآباء عن الأبناء ، كرواية العبّاس عن الفضل أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم جمع بين الصلاتين بالمزدلفة (4).

ص: 278


1- استظهر أخيرا كون المسئول بقرينة المقام هو الإمام كما قاله أبو سعيد جمال الدين في منتقى الجمان 1 : 39 ، راجع : وصول الأخيار : 102 ، ونسبه الصدر إلى والد البهائي في نهاية الدراية : 206.
2- قاله أبو سعيد جمال الدين في منتقى الجمان 1 : 39.
3- ذكرها الملاّ عليّ كني في توضيح المقال : 276.
4- انظر مقدّمة ابن الصلاح : 184 ، وتدريب الراوي 2 : 356.

وإنّما تعرّضنا لذكر هذه الأقسام مع عدم جريان العادة بذكرها في كتب الاصول ؛ لكثرة فائدتها للباحث عن الأخبار.

فصل [14]
اشارة

يعرف عدالة الراوي إمّا بالاختبار بالصحبة المتأكّدة والمعاشرة الباطنيّة ، أو باشتهارها بين أهل العلم والحديث ، وبشهادة القرائن المتكثّرة المتظاهرة ، أو بالتزكية.

ومعرفة عدالة الرواة لنا منحصرة بالأخير وإن أمكن في بعضها بالثاني أيضا ، كأكثر مشايخنا وفقهائنا المشهورين.

ولا خلاف في ثبوت العدالة بالعدلين ، وقد وقع الخلاف في ثبوتها بالواحد. والحقّ عدم ثبوتها به وفاقا لجماعة من المحقّقين (1) ، وخلافا للأكثر.

لنا وجوه :

منها : أنّه شهادة ، فيجب التعدّد كسائر الشهادات.

والمعارضة بأنّه خبر فيكفي الواحد كسائر الأخبار ، مندفعة بمعرفة الفرق بين الخبر والشهادة ؛ فإنّهما يشتركان في أمر وهو الإخبار عن العلم. وينفردان في أنّ المخبر عنه إن كان عامّا غير مختصّ بمعيّن ، فهو الرواية ، كقوله عليه السلام : « لا صلاة إلاّ بطهور » (2) ، فإنّه شامل لجميع الخلق في كلّ زمان. وإن كان لمعيّن فهو الشهادة ، كقوله : أشهد بكذا لفلان. ولا ريب أنّ ما نحن فيه من قبيل الثاني ، وستعلم (3) لهذا الفرق مزيد توضيح.

ومنع كلّيّة الكبرى - نظرا إلى الاكتفاء بالواحد في بعض الشهادات - مدفوع بأنّه للنصّ (4) ، مع أنّه في غاية القلّة ، مع وقوع الخلاف فيه.

ومنها : أنّ مقتضى اعتبار العدالة حصول العلم بها ، وهو إمّا بالصحبة المتأكّدة ، أو بالاشتهار ،

ص: 279


1- نسبه ابن الحاجب إلى القاضي في منتهى الوصول : 169 ، وقاله المحقّق الحلّي في معارج الاصول : 150 ، وأبو سعيد جمال الدين في منتقى الجمان 1 : 16.
2- تهذيب الأحكام 1 : 49 ، ح 144.
3- يأتي في ص 287 - 288.
4- كعمل علي عليه السلام بخبر المقداد ، وعمل الصحابة بخبر عائشة في التقاء الختانين. راجع نهاية الوصول إلى علم الأصول 3 : 438.

وإنّما اكتفي بالبيّنة ؛ لأنّها تقوم مقامه شرعا ، فغير ذلك ساقط عن الاعتبار إلاّ بدليل.

ومنها : أنّ التعديل من شروط ثبوت الأحكام الشرعيّة ، والتصفّح يعطي بأنّ العلم بحصول أكثر شروطها يتوقّف على شهادة العدلين وإن اكتفي في المشروط بالواحد.

احتجّ الخصم بوجهين :

أحدهما : أنّه لو لم يكتف به في التعديل يلزم مزيّة الفرع على الأصل ؛ لأنّه فرع الرواية ويكتفى فيها بالواحد (1).

واجيب بالتزامه ، ولا منع فيه ، ولا بدّ لنفيه من دليل ، مع أنّ مزيّة الفرع على الأصل ثابتة في تعديل الشاهد ، فإنّ بعض الحقوق يثبت بشهادة الواحد ، بل بالمرأة الواحدة في بعض الموادّ ، كربع ميراث المستهلّ ، وربع الوصيّة ، مع أنّ تعديل كلّ منهما يتوقّف على عدلين (2).

واورد عليه بأنّ البديهة حاكمة بأنّ الاحتياط في الشرط لا يزيد على مشروطه ، ومواضع التخلّف في الشهادة للنصّ (3).

والجواب عن هذا الإيراد وأصل الحجّة يظهر من الدليل الأوّل والثالث.

ومنه يظهر أنّ مرجع حجّتهم إلى القياس الذي يكون الحكم في الأصل أقوى منه في الفرع دون العكس حتّى يثبت الحكم من باب الأولويّة ، ومثل هذا القياس لم يقل بحجّيّته أحد من العامّة فضلا عن الخاصّة ؛ لأنّهم يشترطون في حجّيّته المساواة بين الفرع والأصل في الحكم ، وهنا ليس كذلك.

ثمّ الأكثر على أنّ الفرع كما لا يزيد على أصله ، فكذلك لا ينقص عنه أيضا ، بل يلزم المساواة بينهما ، فيثبت (4) كلّ واحد من الجرح والتعديل بقول العدل الواحد في الرواية ؛ للاكتفاء به فيها ، وبقول العدلين في الشهادة ؛ للزومهما فيها ، فتعديل كلّ واحد كأصله من غير نقصان ، ولا الافتقار (5) إلى زيادة.

ص: 280


1- حكاه العلاّمة في المصدر.
2- التزم به أبو سعيد جمال الدين في منتفى الجمان 1 : 16.
3- تقدّم في ص 279.
4- في « أ » : « فثبت ».
5- كذا في النسختين. والأولى : « ولا افتقار ».

ووجهه عندهم : أنّ المتيقّن ثبوت الفرع بما يثبت به الأصل ؛ نظرا إلى ما ذكروه ، وبأنقص منه مشكوك فيه فلا يصار إليه إلاّ بدليل ، والاكتفاء بتعديل شهود الزنى بالعدلين للنصّ (1) ، وعلى ما اخترناه لا يخفى حقيقة الحال.

وثانيهما : أنّ مفهوم آية التثبّت (2) يدلّ على عموم قبول خبر الواحد العدل إلاّ ما خرج بدليل كالشهادة.

وجوابه : أنّ المراد بالفاسق في الآية من له صفة الفسق في الواقع ، فيتوقّف قبول الخبر على العلم بانتفائها ، وهو يتوقّف على العلم بالعدالة ، كما تقدّم (3) مفصّلا. فمنطوق الآية يدلّ على توقّف قبول الخبر على العلم بالعدالة ، وحصوله موقوف على أحد الامور الثلاثة ، وواحد منها - أعني البيّنة - وإن لم يفد العلم إلاّ أنّه قائم مقامه شرعا ، وخبر الواحد لا يفيد العلم لا عقلا ولا شرعا. فلو دلّ مفهوم الآية على عموم قبول خبر الواحد وإن كان في معرفة العدالة ، يلزم التناقض بين المفهوم والمنطوق ؛ لأنّ مقتضى المفهوم - وهو قبول خبر الواحد في معرفة العدالة - عدم اشتراط العلم بالعدالة ؛ لأنّه لا شبهة في أنّ خبر الواحد لا يفيد العلم ، ومقتضى المنطوق خلافه ، كما عرفت (4) ، فلا بدّ من حمل المفهوم على إرادة الإخبار بما سوى العدالة حتّى يندفع التناقض.

فإن قيل : المفهوم يدلّ على عموم قبول خبر الواحد ، والمنطوق يدلّ على عموم عدم قبوله ، فكما يمكن أن يخصّص المفهوم بالمنطوق ويقال : المراد من المفهوم الإخبار بما سوى العدالة ، فيمكن العكس أيضا بأن يقال : المراد من عدم قبوله فيما سوى البيّنة وخبر الواحد عن العدالة ، وليس تخصيص أحد العمومين بالآخر أولى من العكس.

قلت : تخصيص المفهوم بالمنطوق أولى ؛ لكونه أقوى وأرجح ، وتخصيص المنطوق بالمفهوم في باب البيّنة للدليل الخارجي لا بالنظر إلى خصوص العمومين ، وخبر الواحد في التعديل لمّا لم يثبت بدليل من خارج ، ووقع فيه التعارض بين العمومين ، يلزم أن يخصّص

ص: 281


1- راجع وسائل الشيعة 27 : 403 ، أبواب الشهادات ، الباب 44 ، ح 2.
2- هي آية النبأ في سورة الحجرات (49) : 6.
3- تقدّم في ص 234 وما بعدها.
4- آنفا.

فيه الأضعف بالأقوى ، فيثبت المطلوب.

وإذا عرفت كيفيّة معرفة التعديل ، والخلاف الواقع فيه ، والمذهب المختار ، فاعلم أنّ الجرح أيضا مثله من غير تفاوت.

وإذا عرفت الحقّ فكيفيّة التفريع ظاهرة عليك.

فصل [15]

قيل : يكفي الإطلاق في التعديل والجرح من غير حاجة إلى ذكر السبب فيهما (1).

وقيل باحتياجهما إلى ذكره ، وبدونه لا يسمعان (2).

وقيل باحتياجه في الجرح دون التعديل (3).

وقيل بالعكس (4).

وقيل : إن صدرا عن العالم بأسبابهما ، كفى الإطلاق فيهما من غير حاجة إلى السبب. وإن صدرا عن غير العالم بها ، فلا بدّ من ذكر السبب (5).

وقيل : لو علم اتّفاق مذهب المعدّل أو الجارح والمعتبر (6) فيما يتحقّق به العدالة والجرح ، كفى الإطلاق ، وإلاّ فلا بدّ من ذكر السبب (7).

وتحقيق الحقّ في هذه المسألة يتوقّف على بيان أمرين :

[ الأمر ] الأوّل : أنّه لا ريب في اختلاف العلماء فيما يوجب الجرح والتعديل ؛ لاختلافهم في العدالة - كما تقدّم (8) - فربّ رجل كان عدلا عند بعضهم وفاسقا عند آخر. وكذا اختلفوا في الكبائر ، فربّ فعل كان كبيرة موجبة للجرح عند بعضهم ولم يكن كبيرة

ص: 282


1- نسبه ابن الحاجب إلى القاضي أبي بكر في منتهى الوصول : 79.
2- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 79 ، ونسبه القاضي عضد الدين إلى قوم في شرح مختصر المنتهى 1 : 170.
3- نسبه ابن الحاجب إلى الشافعي في منتهى الوصول : 79.
4- نسبه ابن الحاجب إلى الشافعي أيضا في مختصر المنتهى : 170.
5- نسبه ابن الحاجب إلى الشافعي في منتهى الوصول : 79.
6- والمعتبر هو طالب الجرح والتعديل ليعمل بالحديث أو يتركه.
7- قاله الشهيد الثاني في شرح البداية : 116.
8- في ص 245 - 246.

عند آخر. فقول كلّ واحد من المعدّل والجارح في حقّ من ارتكب هذا الفعل ليس حجّة لمن يريد العمل حتّى يعلم أنّه ما هو؟ ليظهر له هل هو موجب للجرح عنده ، أم لا؟

والحقّ : عدم الفرق في ذلك بين التعديل والجرح ؛ لأنّه كما لا يكفي الإطلاق في الجرح باعتبار الاختلاف في أسبابه ، فكذا الحكم في التعديل ؛ لأنّه يتبعه في ذلك ؛ لأنّ العدالة تتوقّف على اجتناب الكبائر مثلا ، فربما لم يكن بعض الذنوب كبائر عند المعدّل ولم يقدح فعلها عنده في العدالة ، فيعدّل مرتكبها وهو فاسق عند الآخر ؛ لكونها كبائر عنده.

والفرق بأنّ التعديل بذكر السبب يتوقّف على ذكر جميع أسبابه وهي كثيرة يصعب ذكرها بخلاف الجرح ؛ فإنّه يثبت بسبب واحد ، لا يدفع ما ذكر.

[ الأمر ] الثاني : الثقة العالم الورع المطّلع على سرّ اشتراط العدالة واختلاف الناس فيها وفي أسبابها وأسباب الجرح إذا صنّف كتابا في تعديل الرجال وجرحهم لأن يكون مرجعا للعلماء وهداية لهم ، وعرف التعديل ، أو الجرح من سبب لم يكن سببا عند كثير ممّن يرجع إلى كتابه ، وكان عالما بذلك ، ومع ذلك اكتفى فيهما بالإطلاق ، كان مدلّسا ، وهو قادح في عدالته.

والجواب : بأنّه قد يبنى الجرح والتعديل على اعتقاده فيما يراه جرحا وتعديلا ، أو بأنّه ربما لم يعرف الخلاف ولم يخطر بباله أصلا ، فلا تدليس ، لا يجري فيما نحن فيه.

لأنّ الأوّل إنّما يجوز في مقام الاجتهاد والفتوى لمن يستفتيه ويقلّده ، أو في مقام الشهادة لمن يريد العمل بقوله مع علمه باتّفاقهما فيما يتحقّق به العدالة والجرح ، لا في مقام الشهادة لجمّ غفير من الناس مختلفين فيما يتحقّق به العدالة والجرح ، كما هو شأن علماء الرجال ؛ فإنّ تعديلهم وجرحهم من باب الشهادة ، ويعتقدون أنّ ما ذكروه حجّة لمن يأتي بعدهم من العلماء والمحدّثين ، ويعلمون أنّهم يلتزمون العمل بقولهم مع اختلاف آرائهم في أسباب الجرح والتعديل ، وعدم جواز التقليد لهم ؛ لكونهم من أهل الاجتهاد مكلّفين بما اقتضت آراؤهم في باب التعديل والجرح. فلو زكّوا رجلا أو جرحوه بسبب وقع الخلاف في سببيّته ولم يذكروه ، بل اكتفوا فيهما بالإطلاق ، لزم التدليس إن اعتقدوا حجّيّة قولهم لأهل العلم بالإطلاق ، أو عدم الفائدة في أقوالهم وتصانيفهم إن اعتقدوا عدم حجّيّته ، ولزوم الفحص

ص: 283

لهم عن أسباب الجرح والتعديل ؛ لأنّ قولهم - لإطلاقه - لا يعلم منه أسبابهما.

والثاني أيضا لا يجري في أمثال فحول علماء الرجال ؛ لأنّهم عالمون بالخلاف في الأسباب ، وعارفون بحقيقة الحال ، بل هو يجري في حقّ العامّي ، فيجب أن يكون مرادهم من العدالة في مقام الإطلاق ما يثبت الوثاقة ، ولزوم العمل بقول صاحبها باعتقادهم على جميع التقادير والمذاهب ، ويتوقّاه عمّا يوجب الاختلال في المقال البتّة ، ومن الجرح ما يقابلها.

وإذا عرفت هذين الأمرين ، تعرف فساد المذاهب المذكورة جميعا ؛ ووجهه ظاهر ، وتعلم أنّ الحقّ في هذه المسألة أنّه يكفي الإطلاق من الثقة العالم إذا علم اتّفاقه مع من يريد العمل بقوله فيما يتحقّق به العدالة و

الجرح ، أو كان في مقام الشهادة لجماعة كثيرة مكلّفين بعقولهم في معرفة أسباب الجرح والتعديل ، وعلم اختلاف أسبابهما ومع ذلك اعتقد حجّيّة قوله لهم ، كما هو شأن علماء الرجال ، وبدون ذلك لا يكفي الإطلاق ، بل لا بدّ من بيان السبب.

ومن الأمر الثاني يندفع إشكال مشهور ، وهو أنّ اعتماد الناس في أمثال زماننا في الجرح والتعديل إنّما هو على أقوال علماء الرجال كالشيخ ، والنجاشي ، والكشّي ، وابن الغضائري ، ولا نعلم مذهبهم في العدالة ، وقلّما يتعرّضون في كتبهم لبيان السبب ومع ذلك يقبل قولهم في الجرح والتعديل.

ووجه الاندفاع ممّا ذكر ظاهر. والتفريع غير خفيّ عليك بعد ما عرفت الحقّ.

فصل [16]

إذا تعارض الجارح والمعدّل وأطلقا ، فالوجه تقديم قول الجارح ؛ لأنّ المعدّل يخبر عمّا ظهر من حاله ، أي يشهد بأنّه لم يعلم منه فسقا ، والجارح يخبر عن باطن خفيّ عنه ، فتقديم قوله جمع للجرح والتعديل ؛ لأنّه يوجب صدقهما ، وتقديم قول المعدّل يوجب كذب الجارح. والجمع أولى مهما أمكن ؛ لأنّ تكذيب العدل خلاف الظاهر.

ويظهر ممّا ذكر أنّه لم يقع بينهما حينئذ تعارض. هذا إذا لم يزد عدد المعدّل على عدد

ص: 284

الجارح ، وإن زاد فالحكم أيضا كذلك ، إلاّ إذا صار بحيث حصل الظنّ الأقوى بالعدالة. وحينئذ يجب تقديم التعديل ، ووجهه ظاهر.

وإن لم يطلقا ، بل عيّن الجارح السبب وأنكره المعدّل بعنوان القطع ، بأن يقول الجارح : قذف فلانا في وقت كذا ، وقال المعدّل : إنّه كان فيه نائما أو ساكتا ، فيجب أن يصار حينئذ إلى الترجيح بالأكثريّة ، والأورعيّة ، والأضبطيّة.

والقول بتقديم قول الجارح (1) حينئذ أيضا ضعيف ؛ ووجهه ظاهر. وكيفيّة التفريع في الجميع ظاهرة.

فصل [17]

حكم الحاكم العدل بمقتضى شهادة رجل تعديل له إذا رأى العدالة شرطا في قبول الشهادة ؛ ووجهه ظاهر.

وأمّا رواية العدل عنه ، فالأقوى أنّها ليست تعديلا له ؛ ووجهه أيضا ظاهر.

وترك عمل العدل بشهادته وروايته ليس جرحا له وفاقا ؛ لجواز الترك لوجود المعارض ، أو فقد شرط غير العدالة.

وإذا قال العدل : « حدّثني عدل » قيل : لا يكفي ذلك في تعديله - وإن قبل تعديل الواحد - من غير ذكر السبب (2) ، بل لا بدّ من تسميته وتعيينه حتّى ينظر هل له جارح ، أم لا؟ فإنّه يجوز أن يكون ثقة عنده ، وغيره قد اطّلع على جرحه بما لم يطّلع هو عليه.

ولا بدّ للمجتهد من الفحص عن جميع ما يحتمل أن يكون له معارض حتّى يغلب على ظنّه عدمه ، وعلى هذا لم يكف ذلك في العمل بروايته على القول بالاكتفاء بتعديل الواحد. وعلى اعتبار العدلين لا يكتفى به وبأحدهما.

وقيل : يكتفى به في تعديله ، نظرا إلى أنّ الأصل عدم الجارح (3).

ص: 285


1- ذهب إليه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 80 ، وفي مختصر المنتهى : 171.
2- نسبه الشيخ حسن إلى والده في معالم الدين : 207.
3- نسبه الشيخ حسن إلى المحقّق في المصدر.

وهو ضعيف ؛ لما ذكر. فالحقّ الأوّل.

لا يقال : لو قال العدل : « حدّثني عدل » ولم يكن عدلا في الواقع لما ذكر ، يلزم تدليس العدل.

قلت : مثل هذه العبارة لا يكون في مقام الشهادة لعموم الناس ، كما هو شأن تعديل علماء الرجال ، بل هو في مقام الاجتهاد أو الرواية ، ويعتقد أنّ قوله ليس حجّة لأهل العلم والحديث ، ويعلم أنّهم لا يعتقدون حجّيّة قوله ، فيبني التعديل على اعتقاده ، فلا تدليس.

وكيفيّة التفريع : أنّه إذا وصف بعض الفقهاء رواية بالصحّة ، لم يكف ذلك في العمل بها ؛ لأنّه في الحقيقة تعديل لرواتها ، بل لا بدّ من المراجعة إلى سندها حتّى يظهر حقيقة الحال ، وقد رجعنا مرارا بأسانيد بعض الروايات التي وصفها بعض الأصحاب بالصحّة فوجدناها مخالفة لما ذكروه.

فصل [18]
اشارة

الاعتبار بحال الراوي وقت أداء الرواية ، لا وقت تحمّلها ، ووجهه ظاهر. فلو تحمّلها متّصفا بالشرائط المعتبرة - من الإسلام ، والإيمان ، والعدالة ، وغيرها - وأدّاها وقت عدم اتّصافه بها كلاّ أو بعضا ، لم تقبل منه ، ولو عكس قبلت منه.

فمن روى عن أئمّتنا عليهم السلام أو رواتهم ؛ إذا زال اتّصافه بالشروط المعتبرة بعد اتّصافه بها - كمحمّد بن عليّ بن رباح (1) ، وعليّ بن أبي حمزة (2) ، وإسحاق بن جرير (3) وأمثالهم من الواقفة ؛ حيث خلطوا في زمن الكاظم عليه السلام بعد استقامتهم ، والفطحيّة ، حيث خلطوا في زمن الصادق عليه السلام ، وكمحمّد بن عبد اللّه أبي المفضّل (4) ، ومحمّد بن عليّ الشلمغاني (5) وغيرهم ممّن اتّصف بعد الاستقامة بإحدى القوادح - يقبل منه ما روى قبل الاختلاط ، ويردّ ما روى بعده.

ص: 286


1- لم نعثر عليه في كتب الرجال مع فحص ليس بقليل. الظاهر أنّه اشتباه والصحيح : عليّ بن محمّد بن رباح. راجع : رجال النجاشي : 1. الرقم 679 ، وقوانين الاصول 1 : 463.
2- رجال النجاشي : 249 ، الرقم 656.
3- رجال الشيخ : 343 ، الرقم 24 من أصحاب الكاظم عليه السلام.
4- رجال النجاشي : 396 ، الرقم 1059.
5- المصدر : 378 ، الرقم 1029.

ويعكس الأمر فيمن عكس حاله ، كعليّ بن أسباط (1) ، والحسين بن يسار (2) ، ونظرائهما ممّن تاب ورجع بعد الإنكار ، أو اتّصف بالعدالة بعد كونه فاسقا.

ثمّ ما رواه أحد هؤلاء إن عرف أنّه في أيّ الوقتين رواه ، فيتّصف بما يقتضيه هذا الوقت. ومعرفة ذلك إمّا بالتأريخ ، أو بقول الراوي : « حدّثني قبل اختلاطه » أو « بعده » أو ببعض القرائن. ومع الإطلاق والجهل بالتأريخ وعدم مائز آخر ، يقع الشكّ فيلزم ردّه.

وهنا إشكال مشهور ، وهو أنّ كثيرا من الرجال كانوا على الحقّ ثمّ رجعوا إلى خلافه ، أو بالعكس ، والقوم يعتمدون على رواياتهم ويقبلونها مع الشكّ في وقت أداء الرواية.

والجواب : أنّ الاعتماد والقبول إن كان من الأقلّين ، فلا إشكال ؛ لعدم حجّيّة في قولهم ، فلا يعبأ به ، وإن كان من الأكثرين أو الجميع وكان مرادهم من الاعتماد الوثاقة ، بمعنى كونها موثّقات دون الصحاح ، فلا إشكال أيضا ؛ لأنّ أكثر هؤلاء رواياتهم من الموثّقات ؛ لكونهم موثّقين في القول وإن لم يكونوا إماميّين.

وإن كان مرادهم منه عدّ رواياتهم من الصحاح ، فنقول : إنّ قدماء القوم لمّا كانوا مطّلعين على حقيقة الأمر لقرب عهدهم إلى هؤلاء ، فيمكن أن يقال : إنّهم اطّلعوا على أنّ السماع من هؤلاء ، أو النقل من اصولهم كان قبل اختلاطهم ، أو بعد استقامتهم ، أو أخذ هؤلاء كان من شيوخ أصحابنا الموثوق بهم ، كما قيل في عليّ بن الحسين (3) الطاطري : إنّه روى كتبه عن رجال موثوق بهم من أصحابنا (4).

فائدة

قد أشرنا فيما تقدّم (5) أنّ الشهادة والرواية تشتركان في كونهما إخبارا عن الجزم ، وتفترقان في أنّ المخبر عنه إن كان خاصّا بمعيّن فهو الشهادة ، وإن كان عامّا فهو الرواية.

ص: 287


1- المصدر : 252 ، الرقم 663.
2- اختيار معرفة الرجال : 449 ، ح 847. وفيه : « بشّار » مكان « يسار ».
3- كذا في النسختين. والصحيح عليّ بن الحسن ؛ لعدم وجود عليّ بن الحسين الطاطري في الكتب الرجاليّة.
4- قاله الشيخ في الفهرست : 216 ، الرقم 470.
5- في ص 279 ، الفصل 14.

وهذا هو المعيار في تمييزهما ، إلاّ أنّه في كثير من الموارد يكون للمخبر عنه متعلّقات متعدّدة ، ومن حيث تعلّقه ببعضها يكون عامّا ، ومن حيث تعلّقه ببعض آخر يكون خاصّا ، ولذلك وقع فيها الاشتباه والخلاف في اشتراط التعدّد وعدمه ، وحينئذ لا بدّ من التأمّل في متعلّقاته حتّى يظهر أيّ الحيثيّتين أقوى ، ومع تكافئهما يرجع إلى الأدلّة الخارجيّة.

ونحن نشير إلى جملة من هذه الموارد حتّى تعلم كيفيّة الحال :

منها : الإخبار عن رؤية الهلال. فقيل : رواية ؛ لأنّ الصوم أو الإفطار لا يشخّص (1) بمعيّن (2).

وقيل : شهادة ؛ لاختصاصه بشهر معيّن (3).

والمطلوب أنّ المخبر عنه هنا - وهو رؤية الهلال - يتعلّق بأمرين :

أحدهما : فاعل الصوم أو الإفطار ، وهو جماعة غير محصورين ، فمن حيث تعلّقه بهم يكون عامّا.

وثانيهما : زمان الصوم أو الإفطار ، وهو شهر خاصّ في عام خاصّ ، فمن حيث تعلّقه به يكون خاصّا. والأوّل يفيد كونه رواية ، والثاني يعطي كونه شهادة. ولتعارضهما وقع فيه الخلاف ؛ ورجّح الثاني بالأمارات الخارجيّة (4).

والقول بأنّ الإخبار عن رؤية الهلال في موضع خاصّ لا يشمل جميع الناس ، بل لطائفة خاصّة ؛ لأنّ رؤية الهلال في بلد لا تثبت الحكم لجميع البلاد ، بل لبلاد مخصوصة ، كما ذكر في كتب الفروع ، ضعيف ؛ لأنّ الظاهر أنّ المراد من العموم في أمثال المقام هو العموم العرفي ، ولا يخفى صدق العامّ العرفي على المتناول لأهل بلاد كثيرة وإن لم يتناول لجميع الناس. ولو كان المراد منه الحقيقيّ الصادق على جميع الناس من غير أن يشذّ منهم فرد في زمان ، لما وجد رواية.

ونظير ذلك في كلام الفقهاء « المحصور » و « غير المحصور » ، فإنّ مرادهم من غير المحصور ما هو كذلك عرفا ، لا غير المتناهي.

ص: 288


1- في « ب » : « لا يتشخّص ». والصحيح : « لا يختصّ بشخص معيّن ».
2- قالهما الشهيد في القواعد والفوائد 1 :2. 249 ، الفائدة 1.
3- قالهما الشهيد في القواعد والفوائد 1 :2. 249 ، الفائدة 1.
4- ذكرهما الشهيد في المصدر.

ومنها : الترجمة عند الحاكم ، وتقويم المقوّم ، وقسمة القاسم. وعلى القاعدة يلزم كونها شهادة ؛ لأنّها إخبار عن معيّن لمعيّن ، فيلزم فيها التعدّد.

والقول : بكونها عامّة من حيث إنّ كلّ واحد من المترجم ، والمقوّم ، والقاسم منصوب لكلّ ترجمة وتقويم وقسمة (1) ، ضعيف ؛ لأنّ ذلك لا يصير سببا لعمومها في كلّ قضيّة معيّنة ، وهو ظاهر. فإن لم يعتبر في واحد منها التعدّد واعتبر فيه حكم الرواية ، فذلك لدليل خارجي ، وهو كلام آخر.

ومنها : الإخبار عن دخول الوقت ، والقبلة ، والطهارة ، والنجاسة ، وأمثالها. ولا يخفى كونه خاصّا بمعيّن ، فيكون شهادة ، فيشترط فيه التعدّد ، سيّما في الأوّل والأخير ؛ لكونهما خلاف الأصل (2).

نعم ، يكتفى بالواحد في الإخبار عن الطهارة ؛ لاستناده إلى الأصل (3).

وقيل : إنّه عامّ بالنسبة إلى كلّ المكلّفين ، فيكون رواية (4).

وأيضا هو إخبار عن التزام حكم اللّه وهو من لوازم الرواية (5).

ولا يخفى ضعف الوجهين.

إلاّ (6) أنّ أكثر الأصحاب رجّح عدم اشتراط التعدّد في بعضها ، كالإخبار عن القبلة والوقت. والظاهر أنّه لأجل الأمارات الخارجيّة كالإخبار عن الطهارة.

ومنها : الإخبار عن عدد الركعات والأشواط ، وكونه من الشهادة أظهر ممّا تقدّم ؛ لأنّه إخبار خاصّ لبعض خاصّ.

والقول : بأنّه (7) إخبار عن التزام حكم لله فيكون رواية ، غير جيّد ؛ لأنّ الفرق بين الشهادة والرواية بما ذكر أوّلا ، لا بكون المخبر عنه حقّ المخلوق أو الخالق.

ص: 289


1- ذكرهما الشهيد في المصدر.
2- لأنّ دخول الوقت مسبوق بعدم الدخول فيستصحب العدم. وكذا النجاسة أمر عرضي مسبوق بالطهارة ؛ لأنّ الأشياء طاهرة فالنجاسة مسبوقة بعدمها ؛ فيستصحب العدم ؛ فالمراد من الأصل هو الاستصحاب.
3- المراد استصحاب الطهارة أو قاعدتها.
4- ذكرهما الشهيد في القواعد والفوائد 1 : 4. الفائدة 1.
5- ذكرهما الشهيد في القواعد والفوائد 1 : 4. الفائدة 1.
6- استثناء عن قوله : « فيشترط فيه التعدّد ».
7- في « ب » : « بأنّها ».

ومنها : الإخبار بأنّ هذا هديّة ، والإخبار عن الإذن في دخول دار الغير. ولا تأمّل في كونهما شهادة ، لكن اكتفي فيهما وفي أمثالهما بالواحد ؛ للقرائن المفيدة للقطع. وربما قيل : إنّ أمثالهما قسم ثالث خارج عن الشهادة والرواية ، كإخبار ذي عمل أمين عن عمله بأن يقول : هذا ميتة ، أو مذكّى ، أو طاهر ، أو نجس ، أو بأنّه طهّر الثوب الذي امر بتطهيره. ومثله إخبار المسلم بوكالته في بيع وأمثاله ، وغير ذلك ؛ فإنّه لا يسمّى شهادة ولا رواية (1).

ومنها : الإخبار عن توقيت الصلوات بأوقاتها المخصوصة ، فإنّه رواية وفاقا (2) ، وإن تضمّن حكما خاصّا ؛ لأنّ التوقيت المذكور شرع عامّ لجميع الناس.

ومنها : الإخبار عن الوقف العامّ ، والنسب ، وكون الأرض عنوة (3) أو صلحا ، وهو شهادة وفاقا (4) ، وإن تضمّن العموم من جهة إلاّ أنّه طار. والمقصود بالذات فيه التعيين ؛ فإنّ الإخبار عن الوقف شهادة على معيّن بفعل معيّن ، وعن النسب شهادة بإلحاق معيّن بمعيّن ، ثمّ يعرض العموم.

فائدة

لا بدّ لكلّ واحد من البيّنة والأمين في فعله من ذكر السبب إذا أخبرا بحكم اختلف أسبابه ، كالإخبار عن نجاسة الماء ، واستحقاق الشفعة ، أو بأنّ بينهما رضاعا محرّما ، أو بارتداد زيد ، أو بكونه وارث عمرو ، وغير ذلك ؛ فإنّه يمكن أن يتوهّم فيها ما ليس بسبب سببا.

وربما قيل بالقبول إذا كان المخبر فقيها وعلم توافق اعتقاده مع اعتقاد المخبر (5) و (6).

ص: 290


1- قاله الشهيد في القواعد والفوائد 1 : 249 ، الفائدة 1.
2- ادّعاء الوفاق في الموضعين يخالف قوله في ص 288 : « ولذلك وقع فيها الاشتباه والخلاف في اشتراط التعدّد ». ولعلّ وجه التعرّض لموارد الوفاق هو الجواب عمّا أورده القرافي في الفروق 1 : 15 و 16 على معيار الفرق بين الرواية والشهادة. راجع القواعد والفوائد 1 : 2. الفائدة 1.
3- أي مفتوحة عنوة.
4- ادّعاء الوفاق في الموضعين يخالف قوله في ص 288 : « ولذلك وقع فيها الاشتباه والخلاف في اشتراط التعدّد ». ولعلّ وجه التعرّض لموارد الوفاق هو الجواب عمّا أورده القرافي في الفروق 1 : 15 و 16 على معيار الفرق بين الرواية والشهادة. راجع القواعد والفوائد 1 : 2. الفائدة 1.
5- كذا في النسختين. ولعلّ الصحيح : « المستخبر » أو « المعتبر ».
6- راجع : الفروق 1 : 15 و 16 ، والقواعد والفوائد 1 : 249 ، الفائدة 1.
تذنيب

لا خلاف في أنّ الفتوى والحكم ليسا من الشهادة ، بل هما كالرواية ؛ لأنّ المفتي والحاكم ناقلان عن اللّه إلى الخلق ؛ لأنّهما وارثا المعصوم ، فلا يشترط فيهما التعدّد.

والفرق بينهما - كما قيل - : أنّ الفتوى مجرّد إخبار عن حكم اللّه في القضيّة ، والحكم إنشاء إطلاق ، أو إلزام في المسائل الاجتهاديّة وغيرها مع تقارب المدارك فيها ممّا ينازع فيه الخصمان لمصالح المعايش. والإطلاق والإلزام نوعا الحكم. فالأوّل كالحكم بإطلاق المسجون ونحوه. والثاني كإلزام أحد الخصمين بإعطاء ما يدّعي عليه الآخر (1).

ويخرج من قوله : « مع تقارب المدارك » ما ضعف مدركه كالعول والتعصيب ، فلو حكم به حاكم وجب نقضه.

ومن قوله : « لمصالح المعايش » العبادة ؛ فإنّه لا مدخل للحكم فيها ، فلو حكم حاكم ببطلان عبادة زيد لم يلزم منه بطلانها ، بل إن كانت باطلة في نفس الأمر فذاك ، وإلاّ فهي صحيحة.

ثمّ الحكم لمّا كان إلزاما لقطع النزاع ، فلا يجوز نقضه لحاكم آخر وإن كان مخالف رأيه ، بخلاف الفتوى ؛ فإنّه مجرّد إخبار بحسب اعتقاد المفتي ، فلو كان مخالفا لاعتقاد مفت آخر يجوز نقضه. فمسائل العبادة يجوز نقضها مطلقا إذا علم المخالفة ؛ لأنّ الإخبار عنها لا يكون إلاّ بعنوان الفتوى دون الحكم. وغيرها إن كان بعنوان الفتوى يجوز لمفت آخر نقضها ، وإن كان بعنوان الحكم فلا يجوز.

ولو اشتمل قضيّة على أمرين : أحدهما من مصالح العبادة ، وثانيهما من مصالح المعاش ، فيلحق كلاّ منهما حكمه ، كما لو حكم بصحّة حجّ من أدرك اضطراريّ المشعر وكان نائبا ؛ فإنّه لا يؤثّر في براءة ذمّة النائب في نفس الأمر ، ولكنّه يؤثّر في عدم رجوعهم عليه بالاجرة. وقس عليه أمثالها.

ص: 291


1- قاله الشهيد في القواعد والفوائد 1 : 248 ، الفائدة 1.
فصل [19]

أجمع الأصحاب على جواز نقل الحديث بالمعنى مطلقا للعارف بمواقع الألفاظ مع عدم قصور الترجمة عن إفادة ما يفيده الأصل ، وتساويهما في الجلاء والخفاء ؛ لأنّ الخطاب قد يقع بالمحكم أو المتشابه لحكمة خفيّة ، فلا يجوز تغييره. وأمّا لغيره ، فلا يجوز وفاقا.

والدليل عليه - بعد الإجماع - كون المقصود من التخاطب إفادة أصل المعنى من غير اعتبار باللفظ ؛ والأخبار المستفيضة من طرقنا (1) ؛ والقطع بنقل الأحاديث عن النبيّ والأئمّة - صلوات اللّه عليهم - في وقائع متّحدة بألفاظ مختلفة ، ولا ريب في أنّ قولهم واحد ، والباقية نقل بالمعنى ؛ وما روي عن جمع من الرواة أنّهم قالوا : « قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم » أو « واحد من الأئمّة عليهم السلام كذا (2) ، أو نحوه » ؛ والقطع بتفسير الحديث بالعجميّة ، فبالعربيّة أولى ؛ وما ورد في القرآن من القصّة الواحدة بألفاظ مختلفة (3) مع أنّها إمّا وقعت بغير العربيّة ، أو بعبارة واحدة منها ، بل نعلم أنّ جميع القصص القرآنيّة لم تقع بهذه الألفاظ والنظم ، فإن وقعت بالعربيّة ، وقعت بعبارة اخرى ؛ للقطع بكون القرآن معجزة ، فلا يقدر البشر أن يأتي بهذه الألفاظ بهذا النظم والتأليف.

هذا ، وذهب بعض العامّة إلى عدم جوازه مطلقا (4). وذهب بعض آخر إلى جوازه بلفظ مترادف - أي تبديل ألفاظ الحديث بألفاظ ترادفها - وعدم جوازه بغيره (5).

والأدلّة المذكورة تدفع القولين.

ص: 292


1- منها ما في الكافي 1 : 51 ، باب رواية الكتب والحديث ... ، ح 2 و 3 و 5.
2- للاستدلال بقوله : « أو نحوه » راجع مقباس الهداية 3 : 253.
3- كقصّة موسى على نبيّنا وآله وعليه السلام.
4- نقلها ابن الحاجب عن ابن سيرين وأبي بكر الرازي وجماعة في منتهى الوصول : 83 ، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى 1 : 178.
5- راجع المصدرين.

وممّا يدفع الأوّل ما تقدّم (1) من جواز وقوع أحد المترادفين مقام الآخر في إفادة أصل المعنى بلا شبهة.

واحتجّ القائل بعدم الجواز مطلقا بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : « نضّر اللّه من سمع مقالتي » (2) إلى آخره ، وبأنّ فتح هذا الباب يؤدّي إلى الإخلال بمقصود الحديث ؛ لاختلاف العلماء في معاني الألفاظ ، والتنبيه في الاستنباط ، فالنقل في كلّ مرّة يوجب تغييرا ما حتّى يحصل تغيير كثير ، فيتغيّر المقصود بالكلّيّة (3).

والجواب عن الأوّل : أنّ النقل بالمعنى بشرطه تأدية على نحو السماع.

و [ الجواب ] عن الثاني : أنّه خروج عن المتنازع فيه ؛ لأنّ النقل المجوّز ما لا يستلزم تغييرا ، وإلاّ لم يجز وفاقا.

واحتجّ المفصّل على الجزء الإثباتي بما أشرنا إليه أخيرا ، وعلى الجزء السلبي بمثل ما احتجّ به المانع مطلقا.

وقد عرفت جوابه.

فصل [20]

إذا روى ثقة خبرا مجملا عن المعصوم وحمله على أحد محامله ، فالأكثر على لزوم حمله عليه ؛ لأنّ الظاهر أنّه لم يحمله عليه إلاّ لقرينة.

وإن كان ظاهرا في معنى وحمله على غيره ، فالأكثر على لزوم العمل بالظاهر ؛ لأنّه لازم العمل ، كما تقدّم (4). وقول الراوي ليس حجّة حتّى يعارض ما هو حجّة ، بل هو كقول غيره ، ولذا قال الشافعي : كيف أترك الحديث بقول من لو عاصرته لحاجته؟! (5)

ولا يخفى أنّ ما ذكر في الصورة الاولى يتأتّى هاهنا أيضا (6) ، فإن قبل قوله هناك لما ذكر ،

ص: 293


1- تقدّم في ص 43.
2- تقدّم تخريجه في ص 254.
3- تقدّم في ص 292.
4- في ص 220.
5- حكاه عنه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 86 ، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى 1 : 182.
6- في « ب » : « أيضا بقول ».

يلزم قبوله هنا أيضا. وإن لم يقبل هنا لعدم حجّيّته فيه ، يلزم عدم قبوله هناك أيضا ، والتوقّف فيه كما في سائر المجملات.

والظاهر عدم حجّيّة قوله في الصورتين ؛ لإمكان أن يكون حمله عن رأيه ، إلاّ أنّه يصلح تأييدا ، ففي الصورة الاولى لمّا لم يكن له معارض ، يكون لحمله رجحان ، بخلاف الصورة الثانية ؛ لوجود معارض أقوى.

فصل [21]

إذا كذّب الأصل الفرع فلا ريب في سقوط روايته ؛ لأنّ أحدهما كاذب قطعا ، ولكن لا يقدح هذا في عدالتهما ؛ لأنّ الكاذب لم يعرف بعينه ، واليقين لا يرتفع بالشكّ ، فإذا انفرد كلّ منهما برواية حديث آخر ، يلزم قبوله ، وكذا إذا انفرد كلّ منهما بشهادة في واقعة يلزم على الحاكم قبوله.

نعم ، لو اجتمعا في سند رواية واحدة ، فلا ريب في سقوطها ؛ للقطع بكون واحد منهما فاسقا وإن لم يعرف بعينه. وكذا لو شهدا معا في قضيّة واحدة ، فلا شكّ في عدم جواز قبول شهادتهما معا ؛ لما ذكر ، بل على الحاكم أن يقبل شهادة واحد منهما لا على التعيين ، ويردّ الآخر.

فإن قيل : كما يلزم القطع بكذب أحدهما في صورة الاجتماع - ولذا يترك روايتهما وشهادة واحد منهما - فكذا في صورة الانفراد إذا انفرد كلّ منهما بنقل رواية معيّنة ، أو أداء شهادة في واقعة خاصّة ؛ فإنّ المجتهد علم أنّ أحدهما كاذب ، فإذا عمل بالروايتين معا لزم عمله برواية الكاذب قطعا ، وهو باطل. وكذا الحاكم إذا اعتبر شهادتهما في الواقعتين.

قلنا : لا نسلّم بطلان اللازم فيما نحن فيه ؛ لأنّه إذا (1) تعبّدنا في الاجتهاد ، والحكم بتحصيل العلم بعدالة رواة جميع الأخبار التي يعمل بها معا ، وشهود جميع الوقائع كذلك. وليس كذلك - ومن ادّعى ذلك فعليه البيان - بل لا نتعبّد فيهما إلاّ أن نعمل في كلّ رواية معيّنة ، وواقعة خاصّة بقول من علم عدالته ولم يزل عنه ذلك ، ولا ريب في صدق ذلك على

ص: 294


1- زمانيّة وخبر أنّ أي بطلان اللازم مخصوص بهذا الزمان.

كلّ واحد من الروايتين والواقعتين ؛ نظرا إلى أنّ الشكّ لا يزيل اليقين.

نعم ، لو اعتبر العلم بصدق رواتهما ، أو بيّنتهما معا - أي من حيث الاجتماع - فلا يجوز العمل ؛ ولا دليل عليه.

هذا ، وأمّا إذا لم يكذّب الأصل الفرع ، بل كان شاكّا - بأن يقول : لا أدري رويته أم لا - فالأكثر على قبولها ؛ لأنّ العدل روى رواية ولم يكذّبه الأصل ؛ فيجب قبولها. وسكوت الأصل لا ينافيه ، كما إذا مات أو جنّ.

احتجّ الخصم بأنّه لو جاز ذلك في الرواية لجاز في الشهادة أيضا ، واللازم منتف قطعا (1).

والجواب : أنّ باب الشهادة أضيق ، كما أشرنا إليه فيما تقدّم (2).

وبأنّه لو جاز ذلك لجاز للحاكم العمل بحكمه إذا نسيه وشهد به شاهدان.

واجيب بالتزامه.

هذا ، والظاهر أنّ الأصل لو قال : ظنّي أنّه ما رويته ، لكان حكمه كذلك إذا جزم الفرع بروايته عنه ؛ لتأتّي ما ذكر فيه أيضا.

نعم ، إن كان الفرع أيضا ظانّا في روايته عنه ، أو شاكّا ، أو كان كلاهما شاكّين ، سقطت روايته ؛ لتعارض كلّ واحد من الظنّ (3) والشكّ بمثله ، ويبقى أصل العدم سالما.

والضابط : أنّه إن تعادل قولهما أو ترجّح قول الأصل ، وجب الردّ ، وإلاّ القبول. ووجهه ظهر ممّا ذكر سابقا ولا حقا.

فصل [22]

قد يوجد في الرواة من لم يذكر في كتب الرجال بجرح ولا تعديل ، ولكنّ مشايخنا المتقدّمين قد أكثروا الرواية عنهم ، واعتنوا بشأنهم ، وفقهاؤنا المتأخّرون حكموا بصحّة أخبارهم في أسانيدها ، نحو أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار ، والحسين بن الحسن بن (4)

ص: 295


1- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 84.
2- تقدّم في الفصل 14 ص 279.
3- أي الظنّ بعدم الرواية كما ادّعاه الأصل ، والظنّ بالرواية كما ادّعاه الفرع ، وكذلك الشكّ.
4- لم يرد في « ب » : « الحسن بن ».

أبان ، وأحمد بن محمّد بن الحسن بن الوليد وأمثالهم.

ومن هذا شأنه تعدّ أخباره من الصحاح ويعمل بها ؛ لأنّ الظاهر أنّ عدم تعرّضهم لتعديلهم ؛ لعدم افتقارهم إليه ؛ لاشتهار حالهم بينهم في العدالة والجلالة. وهذا إنّما هو فيمن كثر الرواية عنه والاعتناء بشأنه بحيث صار معروفا مشهورا كالجماعة المذكورين.

وأمّا من لم يتحقّق فيه ذلك ولكنّه روى عنه بعض مشايخنا الثقات في بعض الأحيان ، كجعفر بن محمّد بن إبراهيم بن عبد اللّه الموسوي - الذي يروي عنه ابن قولويه وبعض مشايخ الكليني والصدوق - ، فليس بهذه المثابة ، بل يدلّ ذلك على مجرّد كونه من مشايخ الإجازة ، وهو لا يفيد سوى الحسن ، كما تقدّم (1).

وقد يوجد فيهم من لم ينصّ عليه بالتوثيق ، ولكنّه كثر عليه الثناء والمدح ، كاويس القرني ، وثعلبة بن ميمون ، ومعلّى بن خنيس ، وعبد اللّه بن يحيى الكاهلي ونظرائهم ، والظاهر حصول الظنّ بصحّة أخبارهم.

وفيهم جماعة أجمع الأصحاب على تصحيح ما يصحّ عنهم وهم معروفون (2). وهذه العبارة تحتمل معنيين :

أحدهما : أنّ كلّ خبر اتّصل سنده بأحد هؤلاء وكان السند إليه صحيحا ، فهو صحيح يجوز (3) إسناده إلى المعصوم وإن لم يعلم عدالة من يروي هو عنه ، حتّى لو كان فاسقا أو مجهولا ، كان ما نقله صحيحا منسوبا إلى المعصوم. وعلى هذا تكون مراسيلهم مقبولة.

وثانيهما : أنّ كلّ خبر اتّصل سنده إلى أحدهم وهو أسنده إلى غيره ، فهو صحيح إن لم يعرض بعد ذلك مانع. والمطلوب أنّه في إسناده الحديث إلى الغير صادق ، فإن قال : « عن فلان » أو « سمعت عنه » أو « رويته عنه (4) » فهو في ذلك صادق ، فهي كناية عن تحقّق الإجماع على عدالة هؤلاء ووثاقتهم ، بمعنى أنّه لو كان أحد هؤلاء في طريق رواية

ص: 296


1- في ص 257 - 258.
2- وهم ستّة عشر نفرا على المشهور.
3- لم يرد في « ب » : « يجوز ».
4- لم يرد في « ب » : « أو رويته عنه ».

ولم يوجد مانع من غير جهته - قبل وبعد - كانت الرواية صحيحة. وهذا لا يوجب تصحيح الحديث مع الإرسال.

ولا يخفى أنّ المعنى الأوّل أظهر من هذه العبارة ، إلاّ أنّ الثاني لمّا كان محتملا ، لا يمكن الحكم بصحّة مراسيلهم وما في معناها.

فصل [23]
اشارة

راوي الحديث لا بدّ له من مستند يصحّ لأجله الرواية. فإن روى عن المعصوم نفسه ، فمستنده السماع بأن يقول : « سمعته » أو « حدّثني » أو « أخبرني » ، ونحوه ، وحينئذ يجب قبوله وفاقا.

وإن قال : « سمعته أمر بكذا » أو « نهى عن كذا » فيجب قبوله أيضا عند الأكثر ؛ لأنّه ظاهر في سماع ما هو الأمر في نفس الأمر.

والقول : بأنّه يحتمل أن يكون استمع (1) صيغة فاعتقد أنّها أمر أو نهي مع عدم اعتقاد غيره ذلك ، كما إذا كان معتقدا بأنّ الأمر يدلّ على النهي عن ضدّه مطلقا ، أو بالعكس ، فربما سمع من المعصوم صيغة فأخبر بأنّه أمر أو نهى مع أنّ الأكثر لا يراه أمرا ونهيا ، فهو بالإطلاق ليس بحجّة (2) ، ضعيف ؛ لأنّه خلاف الظاهر لا يصار إليه إلاّ بدليل.

وإن قال : « قال المعصوم كذا » ، فالحقّ أن يحمل على أنّه سمعه منه بلا واسطة ، فيكون حجّة ، وإمكان حمله على أنّه سمعه منه بواسطة - كما قيل (3) - خلاف الظاهر.

وإذا قال : « امرنا بكذا » أو « نهينا عن كذا » أو « اوجب كذا » أو « حرّم كذا » أو « ابيح كذا » - وبالجملة ، بيّن الأحكام بصيغة ما لم يسمّ فاعله - فالحقّ كونه حجّة ؛ لأنّ الظاهر أنّ المعصوم هو الآمر ، والناهي ، والموجب ، والمحرّم ، والمبيح. واحتمال كونه غيره بعيد.

ص: 297


1- في « ب » : « مستمع ».
2- حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 82.
3- نسبه ابن الحاجب إلى القاضي في المصدر.

وإذا قال : « من السنّة كذا » أو « كنّا نفعل كذا » أو « كانوا يفعلون كذا » فقد ظهر حكمه فيما تقدّم (1).

[ طرق تحمّل الحديث ]

وإن روى عن غير المعصوم ، فلمستنده وجوه ثمانية ، وهي طرق التحمّل للحديث في أمثال هذا الزمان :

أوّلها : السماع من الشيخ ، سواء كان بإملائه من حفظه ، أو بقراءته في كتابه. وهو أعلى الطرق على الأقوى ؛ لأنّ الشيخ أعرف بوجوه تأدية الحديث وضبطه ، ولأنّه خليفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وسفيره ، والآخذ منه كالآخذ منه صلى اللّه عليه وآله وسلم ؛ ولأنّ السامع أوعى قلبا وأجمع فكرا ، وتوزّعه (2) للقارئ.

والدالّ عليه قول الراوي : « سمعته » أو « حدّثنا » أو « أخبرنا » إن قصد سماعه (3) ، ولو لم يقصد ذلك يقول : « حدّث » أو « أخبر » ، ولا يضيفه إلى نفسه ؛ لأنّه يدلّ على القصد.

وقد شاع بين المتأخّرين تخصيص الأخير (4) بالقراءة على الشيخ ، كما شاع بينهم تخصيص « أنبأنا » و « نبّأنا » بالإجازة (5).

ويدلّ عليه أيضا « قال » مطلقا ، أو بزيادة لفظة « لي » أو « لنا ». واحتمال دلالته على السماع بالواسطة قد عرفت ضعفه (6).

وثانيها : القراءة على الشيخ ، بشرط أن لا ينكر عليه ، وعلم منه الاعتراف بمضمونه إمّا بتصريحه والإقرار به ، أو من سكوته وانضمام القرائن المفيدة ، ولم يوجد أمر يوجب السكوت ، كالغفلة ، والإكراه ، أو غيرهما ، وتسمّى عرضا.

ص: 298


1- آنفا.
2- أي تفرّق الفكر ، مجرور باللام الجارّة عطفا على « أنّ السامع » ، وفي شرح البداية : 128 : « وشغل القلب وتوزّع الفكر إلى القارئ أسرع ». وهذه العبارة موجودة في قوانين الاصول 1 : 488.
3- في « ب » : « إسماعه ».
4- أي أخبرنا. راجع مقدّمة ابن الصلاح : 99.
5- راجع شرح البداية : 130 - 131.
6- في ص 297.

والحقّ أنّه حجّة معمول به ؛ لأنّه يفهم منه اعتراف العدل به ، فهو في حكم قراءته (1) ، إلاّ أنّ نفسه (2) أرجح لما ذكر ، ولصحيحة (3) عبد اللّه بن سنان عن الصادق عليه السلام (4).

ويقول الراوي حينئذ : « قرأت على فلان وقد أقرّ به » ، أو « أخبرنا » أو « حدّثنا قراءة عليه » (5) وبدون القيد أيضا على رأي جماعة (6) ، سيّما الأوّل. ومنعه آخرون (7) ؛ لأنّ المتبادر منهما عند الإطلاق تحديث الشيخ بلفظه ، وسماعه منه (8).

والحقّ جوازه ؛ لأنّا سلّمنا أنّ المعنى الحقيقيّ لهذين اللفظين ما ذكر ، إلاّ أنّه يمكن إرادة المعنى المجازي أيضا وهو الاعتراف بما قرأه عليه ، فإنّه يشابه الحقيقي في المعنى.

ونظيره جواز الشهادة بالبيع في صورة سماع لفظة « بعت » من البائع ، وفي صورة قراءة كتاب البيع عليه والاعتراف بمضمونه ، وإن لم يسمع منه هذه اللفظة.

ثمّ جواز استعمالهما (9) فيه مقيّدين بقوله : « قراءة عليه » ممّا اتّفق عليه أهل الحديث ، إلاّ المرتضى ، فإنّه منعه في الذريعة ؛ حيث قال فيها :

وأمّا قول بعضهم : يجب أن يقول : حدّثني قراءة عليه حتّى يزول الإبهام ، ويعلم أنّ لفظة « حدّثني » ليست على ظاهرها ، فمناقضة ؛ لأنّ قوله : « حدّثني » يقتضي أنّه سمعه من لفظه وأدرك نطقه به ، وقوله « قراءة عليه » يقتضي نقيض ذلك ، فكأنّه نفى ما أثبت (10).

ولا يخفى ما فيه ؛ فإنّ انضمام لفظ إلى آخر يعيّن إرادة المعنى المجازي أمر شائع ، ولو

ص: 299


1- أي قراءة العدل ، والمراد من العدل هنا هو الشيخ.
2- أي نفس اعتراف العدل. والمراد أنّ السماع من الشيخ أرجح من القراءة على الشيخ. والمراد من « ما ذكر » هو كون الشيخ أعرف بوجوه تأدية الحديث.
3- تعليل ثان لقوله : « حجّة معمول به » لا لقوله : « أرجح ».
4- الكافي 1 : 51 ، باب رواية الكتب والحديث ، ح 5.
5- قيد لقوله : « أخبرنا » و « حدّثنا » كليهما.
6- نسب إلى المشهور في مقدّمة ابن الصلاح : 100 ، ونسب إلى عدّة في فائق المقال : 34.
7- راجع نهاية الوصول إلى علم الأصول 3 : 435.
8- في مقدّمة ابن الصلاح : 100 نسب إلى أهل الحديث وقال : « قيل : إنّه قول ابن المبارك ويحيى بن يحيى التميمي وأحمد بن حنبل والنسائي ».
9- أي « أخبرنا » و « حدّثنا ».
10- الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 560.

لم يجز ذلك لزم سدّ أبواب المجاز. فالحقّ ما ذهب إليه الأكثر.

وإن قرأه غيره على الشيخ بحضوره ، فهو كقراءته ، والعبارة عنه « قرئ عليه وأنا أسمع فأقرّ به ».

وكلّ واحد من السماع والقراءة على الشيخ إمّا أن يكون مجرّدا عن الإجازة ، أو مقرونا بها ، وإذا صار مقرونا بها يصير أقوى في الحجّيّة. وكما يجوز التعبير عنه بما ذكر ، يجوز بما يفيد الإجازة أيضا ، كقوله : « أجازني » أو « أخبرني » أو « حدّثني إجازة ».

وثالثها : الإجازة ، وحقيقتها عرفا إخبار إجمالي بامور معلومة ، مضبوطة ، مأمون عليها من الغلط والتصحيف ، ولها صور :

الاولى : أن يقول الشيخ لمعيّن : « أجزت لك أن تروي ما قرأت عليك » ، وهذه إجازة اقترنت السماع.

الثانية : أن يقول له : « أجزت لك أن تروي عنّي ما قرأت عليّ » أو « ما قرأ غيرك عليّ بحضورك » ، وقد عرفت حالهما ، وهي إجازة اقترنت للقراءة على الشيخ.

الثالثة : أن يقول له : « أجزت لك أن تروي عنّي الكتاب الفلاني » ، وهذه إجازة معيّن لمعيّن.

الرابعة : أن يقول له : « أجزت لك أن تروي عنّي ما صحّ عندك أنّه من مسموعاتي » ، وهذه إجازة غير معيّن لمعيّن.

وهاتان الصورتان من الإجازة المجرّدة ؛ لعدم اقترانهما للمراتب الأخر.

وقد تقترن المناولة والكتابة ، وستعرفها بصورها وحكمها عند ذكرهما (1).

ولا يختلف الحكم إذا ضمّ الشيخ إلى المجاز له المخاطب في الصورة (2) المذكورة واحدا أو متعدّدا متعيّنين ، كأن يقول : « أجزت لك ولغيرك فلان وفلان وفلان » من الموجودين المعيّنين (3).

ص: 300


1- يأتي مبحث المناولة والكتابة في ص 302.
2- كذا في النسختين. والأولى : « الصور ».
3- في « ب » : « المتعيّنين ».

ثمّ الظاهر عدم الخلاف بيننا في جواز الرواية بالإجازة إذا تحقّقت في إحدى الصور المذكورة ، ووجوب قبولها والعمل بها إذا نقل المجاز له إلى غيره.

والقول بنفيه مطلقا ممّا نسب إلى بعض العامّة (1) ، وهو ضعيف ؛ لأنّك عرفت أنّ الإجازة إخبار إجماليّ (2) - إلى آخره - وما هذا شأنه لا مجال للتوقّف في قبوله.

وربما نسب القول بالنفي إلى المرتضى أيضا ؛ لما يوهمه كلامه في الذريعة (3).

وهو لا يدلّ على ذلك ، كما لا يخفى على المتأمّل فيه.

الخامسة : أن يقول : « أجزت الكتاب الفلاني » أو « مسموعاتي لجميع الامّة الموجودين » ، وهذه إجازة معيّن أو غير معيّن لغير معيّن ، وقد وقع فيها الخلاف.

والحقّ - كما ذهب إليه أعاظم علمائنا - قبولها (4) وكونها كالصور المتقدّمة ؛ لأنّها مثل الإجازة للموجودين المعيّنين ؛ إذ (5) العامّ في حكم الأفراد ، ولا فرق بينهما إلاّ بالاختصار والتطويل. فلو أجازه لغير العامّ المبهم كأن يقول : « أجزت لرجل » أو « رجلين » أو « لزيد » وكان مشتركا بين جماعة لم يصحّ. ولو كان المجاز له واحدا يعرفه المجيز باسم أو وجه ، أو جماعة كذلك ، صحّ وإن لم يعرفهم بأعيانهم.

والتعليق في الإجازة مبطل ؛ لاستلزام الإبهام ، كأن يقول : « أجزت لمن يشاء فلان ».

ولو كانت الإجازة في قوّة المطلقة ، فالظاهر صحّتها ، نحو : « أجزت لفلان إن شاء الإجازة » أو « لمن شاء الإجازة » ؛ لأنّ ذلك ليس تعليقا حقيقيّا ، بل حكاية حال.

وتصحّ لغير المميّز من المجانين والأطفال. وقد أجاز بعض مشايخنا لأولاده الصغار (6) ،

ص: 301


1- نسب ابن الصلاح في مقدّمته : 106 بطلان الإجازة والرواية بها إلى إبراهيم بن إسحاق الحربي وأبي محمّد عبد اللّه بن محمّد الأصبهاني ، الملقّب بأبي الشيخ ، والحافظ أبي نصر الوائلي السنجري.
2- تقدّم في ص 300.
3- الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 561.
4- منهم : الشهيد حيث طلب من شيخه السيّد تاج الدين ابن معيّة الإجازة له ، ولأولاده ، ولجميع المسلمين. راجع شرح البداية : 139.
5- في « أ » : « إذا ».
6- منهم السيّد ابن طاوس لولده غياث الدين. راجع شرح البداية : 6. وعنه في مقباس الهداية 3 : 128. ومنهم المحقّق الخوانساري لولده جمال الدين ، كما في الرسائل الرجاليّة للكلباسي 2 : 542.

وبعضهم استجاز من مشايخه لأطفاله (1).

والظاهر صحّتها للحمل أيضا وإن لم ينفصل ، وإن وقع فيه الخلاف. وكذا للفاسق والكافر.

والدليل على الجميع : أنّ الغرض من الإجازة ترتّب فائدة عليها ، وهي صحّة الرواية. وهو مشروط (2) بالشرائط المعيّنة من الإيمان ، والبلوغ ، والتكليف ، فالإجازة لهؤلاء (3) ليست مطلقة - أي بلا اشتراط - بل بشرط اتّصافهم في وقت الرواية بالشرائط ؛ لعلم المجيز بأنّه لا يقبل الرواية من الراوي بدونه ، فكلّ واحد من هؤلاء إذا اتّصف في وقت الرواية بالشرائط ، لا يروي إلاّ إذا علم الإذن له في الرواية ، وبعد علمه بأنّ الشيخ الفلاني قد أذن له ، فيصحّ روايته كغيره.

ومن هذا يعلم أنّه يصحّ الإجازة للمعدومين أيضا ، كأن يقول : « أجزت لنسل فلان » أو « لمن يولد من فلان » إلاّ أنّ المعظم لم يجوّزوها (4) ؛ نظرا إلى أنّ الإجازة لا تخرج عن الإخبار في الجملة ، وهو لا يعقل للمعدوم ابتداء. وبعضهم (5) أجازها في صورة العطف على الموجود ، كأن يقول : « أجزت لفلان ولمن يولد له » كالوقف.

وممّا ذكر يظهر كيفيّة الحال إذا قال : « أجزت لمن أدرك جزءا من حياتي ».

ثمّ إنّه لا خلاف في جواز التعبير عن الإجازة بقوله : « أنبأني » و « نبّأني » وأمّا التعبير عنها بقوله : « حدّثني » و « أخبرني » مطلقين أو مقيّدين بقوله : « إجازة » ، فحكمه كما ذكر في القراءة على الشيخ من غير فرق.

ورابعها : المناولة ، وهي إمّا مجرّدة عن الإجازة ، وهي أن يناوله كتابا ، وقال : « هذا سماعي » واقتصر عليه.

والمعظم على عدم جواز الرواية بها ؛ لعدم إذنه فيها (6).

ص: 302


1- كما استجاز الشهيد عن شيخه السيّد تاج الدين بن معيّة. راجع شرح البداية : 1. نقله عنه في توضيح المقال : 257.
2- كذا في النسختين. والصحيح : « وهي مشروطة ».
3- أي للصغار ، والحمل ، والفاسق ، والكافر.
4- راجع مقدّمة ابن الصلاح : 108 و 109.
5- نسبه ابن الصلاح في مقدّمته : 109 إلى أصحاب الشافعي وإلى أبي بكر بن أبي داود السجستاني.
6- راجع المصدر : 113.

وقيل بجوازها بها ؛ لحصول العلم بكونه مرويّا له ، والإشعار بالإذن (1).

ولا يخفى أنّه لو علم منه الإذن جزما في الرواية ، فلا تأمّل في جواز الرواية ؛ لأنّها في حكم السماع حينئذ ، ويجوز التعبير عنها بما يعبّر به عنه لا حقيقة ، بل مجازا ؛ ووجهه ظاهر ممّا تقدّم.

وإن لم يعلم منه الإذن جزما ، فالظاهر عدم اختلاف حكمها فيما ذكر ؛ لأنّا نمنع اشتراط العلم القطعي بإذنه في صحّة الرواية ، كما في القراءة عليه ؛ لأنّ المناط حصول العلم بكونه مرويّا له.

وإن لم يكتف (2) بذلك (3) وقيل هناك : القراءة عليه ، والسكوت في معرض النقل عنه يدلّ على إذنه فيه.

قلنا : يتأتّى هذا هنا أيضا ؛ لأنّ رفع الكتاب ، والتصريح بأنّه سماعي في معرض النقل عنه يدلّ هنا على إذنه فيه.

هذا ، ويدلّ على جواز الرواية بمطلق المناولة رواية أحمد بن عمر الحلاّل عن الرضا عليه السلام (4).

وإمّا (5) مقرونة بها ولها صور :

منها : أن يناوله كتابا وقال : « هذا سماعي » أو « روايتي عن فلان فاروه عنّي » أو « أجزت لك روايته ».

ومنها : أن يقرأ الشيخ على الطالب حديثا من أوّل المناول وحديثا من وسطه وحديثا من آخره ، ثمّ يجيزه المجموع ، وهذه أعلى من الاولى. وقد ورد بها الرخصة عن الصادق عليه السلام في صحيحة عبد اللّه بن سنان (6).

ومنها : أن يدفع الطالب إليه سماعه ، فتأمّله وأعاده إليه ، وقال : « هذا سماعي » أو

ص: 303


1- حكاه الخطيب عن طائفة من أهل العلم كما في المصدر.
2- في « أ » : « إن يكتف ».
3- أي بالعلم بكونه مرويّا له.
4- الكافي 1 : 52 ، باب رواية الكتب والحديث ، ح 6.
5- عطف على « إمّا مجرّدة عن الإجازة » في ص 302.
6- تقدّم في ص 299.

« روايتي فاروه عنّي » ، وبعضهم سمّى ذلك عرضا (1) ، وقد تقدّم (2) أنّ القراءة عليه تسمّى عرضا. فالأولى أن يسمّى ذلك عرض المناولة.

والحقّ حجّيّة جميعها وجواز الرواية بها ، وكلّ واحد منها أعلى وأقوى من الإجازة المجرّدة ؛ ووجهه ظاهر. ويجوز التعبير عنها بما يعبّر به عن الإجازة.

وخامسها : الكتابة ، وهي أن يكتب مسموعه لغائب أو حاضر بخطّه. أو يأذن لثقة أن يكتبه ، أو كتب : « أنّ الكتاب الفلانيّ سماعي ». فإن اقتصر على ذلك ، كان كتابة مجرّدة عن الإجازة. وإن زاد عليه « اروه عنّي » أو « أجزت لك روايته » أو كتب : « أجزت لك أن تروي ما صحّ عندك أنّه من مسموعاتي » كان كتابة مقرونة بها.

والثانية كالمناولة المقرونة بها قوّة وصحّة ، بشرط معرفة الخطّ والأمن من التزوير ، وإن اقيم البيّنة عليه صارت أقوى.

والاولى قد اختلف في جواز الرواية بها. والحقّ الجواز بشرط معرفة الخطّ ، وأمن التزوير ؛ لما تقدّم (3) ، ولفعل النبيّ (4) والأئمّة عليهم السلام (5) وأصحابهم (6). والتعبير عنها بقوله : « كتب إليّ فلان » أو « أخبرنا » أو « حدّثنا مكاتبة (7) ».

فائدة : الكتابة - وإن صحّت - لا تساوي السماع ، بل هو أرجح منها ، ووجهه ظاهر ، فيرجّح ما روي به على ما روي بها مع تساويهما في الصحّة وغيرها من المرجّحات.

وسادسها : الإعلام ، وهو أن يعلم الشيخ الطالب أنّ هذا الكتاب أو الحديث سماعه مقتصرا عليه. وجليّة الحال فيه ظاهرة عليك بعد الإحاطة بما تقدّم.

وسابعها : الوصيّة ، وهي أن يوصي لرجل عند موته ، أو سفره بكتاب يرويه. والظاهر

ص: 304


1- نسبه ابن الصلاح في مقدّمته : 112 إلى غير واحد من أئمّة الحديث.
2- في ص 298.
3- وهو عدم اشتراط العلم القطعي بإذنه في صحّة الرواية. راجع ص 303.
4- ككتابه إلى كسرى وقيصر. راجع شرح البداية : 148.
5- راجع مقباس الهداية 3 : 170 و5. 185.
6- راجع مقباس الهداية 3 : 170 و5. 185.
7- قيد لكلّ واحد من « أخبرنا » و « حدّثنا ».

عدم حجّيّتها ، وعدم جواز الرواية بها ؛ لبعدها عن الإذن.

وثامنها : الوجادة ، وهي أن يجد شخص روايات بخطّ راويها ، سواء كان معاصرا له أو لا. فله حينئذ أن يقول : « وجدت » أو « قرأت بخطّ فلان » أو « في كتابه عن فلان » ويسوق باقي الأسناد والمتن بشرط أن يثق بأنّه خطّه. وإن لم يثق يقول : « وجدت في كتاب ظننت » أو « ذكر كاتبه أنّه بخطّ فلان » وأمثال ذلك.

ولا يجوز التعبير عنها بقوله : « عن فلان » أو « قال فلان » أو « حدّثني » أو « أخبرني فلان » مطلقا - أي في صورة الوثوق وعدمه - لأنّ ذلك تدليس محرّم.

ثمّ إن اقترنت بالإجازة وعلم كونه من خطّه ومرويّا له ، فلا إشكال في صحّة الرواية والعمل بها ، ويجوز التعبير عنها بما يعبّر به عن مطلق الإجازة.

وإن لم تقترن بها ولم يثق بكونه من خطّه ، فلا خلاف في منع الرواية بها ، وعدم جواز العمل بها. وإن وثق بذلك ، ففيه خلاف. ولعلّك تعرف حقيقة الحال فيها ممّا تقدّم. وقد دلّ على الجواز رواية شينولة عن الجواد عليه السلام (1).

اعلم أنّ جميع الطرق المذكورة مشتركة في إفادة بقاء اتّصال الإسناد إلى المعصوم عليه السلام - وهو أمر مطلوب للتيمّن - وصحّة العمل فيما لم يكن متعلّقها متواترا ، كبعض الكتب غير المتواترة عن مصنّفيها. وأمّا إذا كان متعلّقها متواترا ، نحو كتبنا الأربعة ، فلا يظهر لها فائدة بالنسبة إلى العمل.

نعم ، يترتّب على السماع والقراءة فائدة التصحيح ، والأمن من الغلط والتصحيف ، ومعرفة بعض اصطلاحاتهم عليهم السلام ، وغيرها ، فهي تزيد وجه الحاجة إليهما.

فصل [24]
اشارة

قد تقدّم (2) أنّ فعل المعصوم عليه السلام من السنّة ، فهو حجّة تشترك الامّة معه فيه ، وهو معنى التأسّي به. ثمّ كلّ فعله ليس ممّا يشترك فيه الامّة معه ، وما اشتركت فيه معه ليس كلّه ممّا يجب

ص: 305


1- الكافي 1 : 53 ، باب رواية الكتب والحديث ، ح 15.
2- في ص 266 - 267.

عليهم التأسّي به فيه ، بل التأسّي في بعضه يكون واجبا ، وفي بعضه ندبا ، وفي بعضه مباحا ، كما سيجيء تفصيله (1).

وقبل الخوض فيه لا بدّ من بيان مقدّمة. وهي أنّ التأسّي في الفعل هو أن يفعل صورة ما فعل الغير على الوجه الذي فعله لأجل أنّه فعل. وفي الترك هو أن يترك مثل الذي ترك لأجل أنّه ترك.

والاتّباع قد يكون في الفعل والترك وهو مثل التأسّي. وقد يكون في القول وهو امتثال ما يقتضيه من الفعل والترك.

وقد وقع الخلاف في أنّ الحكم بثبوت التأسّي به هل هو شرعي فقط ، أو شرعي وعقلي معا؟ والظاهر الأوّل ، وفاقا للشيخ (2) وجماعة (3) ؛ لأنّه يجوز اختلاف مصالح العباد في الشرعيّات ، كاختلاف حكم الفقير والغنيّ ، والحائض والطاهر ، والحاضر والمسافر ، والصحيح والعليل ، وغير ذلك ممّا لا يحصى. وإذا جاز ذلك ، فلا يمتنع أن يكون مصالح النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وأوصيائه عليهم السلام مخالفة لمصالح الرعيّة ، فلا يحكم العقل بثبوت التأسّي.

واحتجاج الخصم بأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم بعث ليبيّن الشرائع للامّة قولا أو فعلا ، فكلّ ما صدر منه يشترك فيه جميع الناس (4) ، يظهر فساده ممّا ذكر. فظهر أنّ إثبات كون الامّة مثله فيما يجري فيه التأسّي موكول إلى السمع.

وإذا عرفت ذلك ، فلا بدّ من بيان الصور المتصوّرة في أفعاله ، والإشارة إلى أنّ أيّ (5) صورة يجري فيها التأسّي سمعا وجوبا أو ندبا ، وأيّها (6) لا يجري فيها.

فنقول : أفعاله عليه السلام لا تخلو عن ثمانية (7) صور :

[ الصورة ] الاولى : ما ظهر كونه من الأفعال الطبيعيّة ، كالأكل والشرب ، والنوم

ص: 306


1- في ص 307.
2- العدّة في أصول الفقه 2 : 570 و 571 و 576.
3- منهم : السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 570 ، والبصري في المعتمد 1 : 346 ، والعلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الأصول 2 : 556.
4- راجع نهاية الوصول إلى علم الأصول 2 : 556 - 557.
5- كذا في النسختين. والأولى : « أيّة ، أيّتها ، ثماني ».
6- كذا في النسختين. والأولى : « أيّة ، أيّتها ، ثماني ».
7- كذا في النسختين. والأولى : « أيّة ، أيّتها ، ثماني ».

واليقظة ، والحركة والسكون ، والقيام والقعود وأمثالها ، ولا ريب في إباحته له عليه السلام ولجميع الامّة ولا خلاف فيه.

[ الصورة ] الثانية : ما علم اختصاص النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم به ، سواء كان عبادة ، كوجوب التهجّد ، والوتر ، وجواز الوصال في الصوم ، أو غيرها ، كالمشاورة ، والزيادة على الأربع ، وتخيير نسائه فيه ، وغير ذلك من خواصّه صلى اللّه عليه وآله وسلم. ولا خلاف فيه أيضا بأنّه لا يشاركه غيره.

[ الصورة ] الثالثة : ما علم جهته من الوجوب ، والندب ، والإباحة. والحقّ ثبوت التأسّي فيه. فإن علم وجوبه عليه ، يكون التأسّي به واجبا. وإن علم استحبابه عليه ، يكون ندبا. وإن علم إباحته له ، يكون مباحا.

وبالجملة ، تكون الأمّة مثله فيه ، وفاقا لأكثر المحقّقين ، وخلافا لمن ذهب إلى أنّه (1) مطلقا ، أو إذا كان غير عبادة ، كما لم يعلم جهته (2). وقد جنح المحقّق (3) إلى الشقّ الأوّل (4) وتوقّف فيه ؛ لتوقّفه فيما لم يعلم جهته.

لنا : قوله تعالى : ( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ) (5) أي يؤمن باللّه واليوم الآخر ، فيعلم من أصله (6) أنّ التأسّي لازم للإيمان باللّه ، ولازم الواجب واجب ، كما يعلم من عكس نقيضه (7) أنّ عدم الإيمان به لازم لعدم التأسّي ، وملزوم الحرام حرام.

وأيضا إيقاع الخبر في مقام الإنشاء للمبالغة في التهديد على ترك التأسّي ، فيكون واجبا.

وقد عرفت (8) أنّه الإتيان بالفعل أو الترك على الوجه الذي فعل أو ترك. فإذا علم وجه

ص: 307


1- أي ما علم جهته.
2- نسب البصري التفصيل بين العبادة وغيرها إلى أبي عليّ بن خلاّد في المعتمد 1 : 354.
3- معارج الاصول : 118.
4- أي مطلقا.
5- الأحزاب (33) : 21.
6- أي المؤمن باللّه متأسّ برسول اللّه. والموضوع ملزوم والمحمول لازم.
7- أي غير المؤمن باللّه غير متأسّ برسول اللّه. والمراد بالحرام في المتن هو عدم الإيمان ، والمراد بالملزوم عدم التأسّي.
8- تقدّم في ص 305 - 306.

الفعل أو الترك يجب الإتيان بمثله.

فإن قيل : على ما ذكرت تدلّ الآية على عموم وجوب التأسّي ، بمعنى وجوب كلّ ما فعله وعلم وجهه علينا ، ومنه المندوب والمباح ، فيلزم وجوبهما علينا (1).

قلت : مقتضى الآية ذلك ، ولكن دلّ الدليل الخارجي على عدم وجوب التأسّي فيهما ، فيخرجان عن عمومها ، ويكون التأسّي في الندب ندبا ، وفي المباح مباحا.

أو نقول : المفهوم من الآية مطلق طلب الاسوة الشامل للواجب والمستحبّ ، والذمّ والتهديد باعتبار أحد جزءيه (2) ، ولا يشمل الاسوة فيها الاسوة في المباح ؛ لأنّ المراد من الاسوة فيها الاسوة فيما قصد فيه القربة ، كما يدلّ عليه سياقها.

والإيراد المذكور يرد ظاهرا على جميع ما نذكر ممّا يدلّ على عموم وجوب الاتّباع والتأسّي. وينبغي الجواب عنه بأحد الوجهين.

وقد أجاب المحقّق (3) عن أصل الاحتجاج بأنّ « الاسوة » ليست من ألفاظ العموم ، فتصدق بالمرّة الواحدة ، وقد توافقنا على وجوب التأسّي به في بعض الأشياء ، فلعلّ ذلك هو المراد.

ولا يخفى أنّ العرف يفهم منه وجوب التأسّي به في جميع الامور ؛ فإنّه لا يقال عرفا :

« لفلان اسوة في فلان » إذا كان تابعا له في أمر واحد.

ولنا أيضا : قوله تعالى : ( فَاتَّبِعُوهُ ) (4) ، وقوله تعالى : ( فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) (5) ، والأمر للوجوب ، والاتّباع يشمل الاتّباع في القول والفعل. والثاني الإتيان بالفعل بالوجه الذي فعله ، وهو ما نحن بصدد إثباته ، فثبت منه (6) المطلوب.

والإيراد عليه بمثل ما اورد على آية الاسوة قد عرفت جوابه (7) بأحد الوجهين.

ص: 308


1- مع كونهما غير واجبين عليه صلى اللّه عليه وآله.
2- كذا في النسختين. والأولى : أحد فرديه.
3- معارج الاصول : 119.
4- الأنعام (6) : 153.
5- آل عمران (3) : 31.
6- في « ب » : « فيثبت عنه ».
7- آنفا.

والجواب عن الاستدلال بمثل ما أجاب به المحقّق عن آية الاسوة قد عرفت فساده.

ولنا أيضا : القطع برجوع الصحابة إلى أفعاله المعلومة جهتها ؛ فإنّهم خلعوا في الصلاة لمّا خلع فيها ، وحلقوا لمّا حلق ، وذبحوا لمّا ذبح ، ولم يتمتّعوا بالعمرة إلى الحجّ لمّا لم يتمتّع ، مع أنّه أمرهم بذلك ، فأقرّهم عليها ، ولم ينكر عليهم. ومتابعتهم له فيها لم تكن لمطلق فعله صلى اللّه عليه وآله وسلم ، بل إمّا لأنّها كانت من هيئات الصلاة والحجّ ، واستفادوا وجوبها من قوله : « صلّوا كما رأيتموني » (1) وقوله : « خذوا عنّي مناسككم » (2). أو لأنّهم فهموا القربة فيها فرأوها مندوبة لا واجبة. وسيجيء (3) أنّ الفعل إذا كان بيانا للمجمل الواجب واجب ، وكلّ فعل ظهر فيه قصد القربة يكون ندبا على الأصحّ.

وقبّل عمر الحجر ، وقال : أعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع ، ولو لا أنّي رأيت رسول اللّه قبّلك ما قبّلتك (4).

ورجعوا في وجوب الغسل وعدمه بالتقاء الختانين إلى عائشة ، فقالت : فعلت أنا ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فاغتسلنا (5) ، فأوجبوا الغسل بمجرّد فعله. وفهم الوجوب لم يكن من مجرّد الفعل ، بل إمّا لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : « إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل » (6).

أو لأنّه كان بيانا لقوله تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) (7) ، والأمر للوجوب ، فيكون بيانا للواجب.

أو لأنّه من شروط الصلاة ، فيكون بيانا لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : « صلّوا كما رأيتموني » (8).

وسألت أمّ سلمة عن جواز قبلة الصائم ، فقالت : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يفعل. فقال السائل :

ص: 309


1- صحيح البخاري 1 : 226 ، ح 605.
2- صحيح مسلم 2 : 943 ، ح 310 / 1297 مع اختلاف يسير.
3- في ص 312.
4- ذكره أصحاب المجاميع الحديثيّة كالبخاري ومسلم في فضل تقبيل الحجر الأسود من كتاب الحجّ والمناسك ، وحكاه العلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الأصول 2 : 538.
5- مسند أحمد 2 : 595 ، ح 6682.
6- كنز العمّال 9 : 376 ، ح 26544.
7- المائدة (5) : 6.
8- تقدّم آنفا.

إنّ اللّه غفر لنبيّه ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ، وليس سبيله سبيل غيره؟ فأخبرت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فأنكر ذلك ، وقال : « إنّي أرجو أن أكون أخشاكم » (1).

ولا ريب أنّ جهة الفعل هنا كانت ظاهرة ؛ لأنّه لا يتحمّل سوى الإباحة.

ولنا أيضا : قوله تعالى : ( فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ ) (2) ، ولو لا تشريك الامّة معه ، لما أدّى تزويجه إلى ذلك.

لا يقال : الاحتجاج به يتوقّف على العلم بوجه تزويجه صلى اللّه عليه وآله وسلم من الوجوب والندب والإباحة ، ولا يعلم ذلك منه ؛ لأنّ (3) نفي الحرج عن فعل يحتمل الأحكام الثلاثة - مع عدم التعرّض لإثبات الوجوب والندب - يقتضي إباحته ، فوجه تزويجه يكون معلوما ، وهو الإباحة.

وأيضا لا ريب أنّه يفهم منه التشريك ، وهو يقتضي أن يفعل الامّة مثل فعله ؛ إذ لا معنى لتشريك اللّه العباد لنبيّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في فعل إلاّ أن يطلب منهم الفعل على الوجه الذي طلب منه ، وبه يثبت المطلوب.

وقد احتجّ بعض من وافقنا (4) بقوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) (5) ، والأمر يطلق بالاشتراك على الفعل والقول.

وبقوله : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) (6) ، والإطاعة كما تتحقّق بامتثال القول ، فكذا تتحقّق بالتأسّي في فعله ، والأمر للوجوب.

وبقوله : ( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) (7) ، وما فعله فقد آتانا ، والأمر للوجوب.

والحقّ : أنّ الاحتجاج بها لا يتمّ ؛ لأنّه يمكن الجواب عن الأوّل بعدم تسليم الاشتراك ،

ص: 310


1- صحيح البخاري ، 2 : 680 ، ح 826 بتفاوت ، وصحيح مسلم 2 : 779 ، ح 74 / 1108.
2- الأحزاب (33) : 37.
3- هذا بمنزلة قوله : « لأنّا نقول » أي هو تعليل للنفي لا المنفيّ.
4- كابن سريج وأبي سعيد الاصطخري وابن أبي هريرة وأبي عليّ بن خيران والحنابلة وجماعة من المعتزلة كما في نهاية الوصول إلى علم الأصول ، للعلاّمة الحلّي 2 : 534.
5- النور (24) : 63.
6- النساء (4) : 59.
7- الحشر (59) : 7.

بل هو حقيقة في القول ، مجاز في الفعل ، كما ثبت في محلّه.

والقول بأنّه وإن سلّم الاشتراك لكنّ المشترك لا يحمل على كلا معنييه (1) ، ضعيف عندنا ؛ لما تقدّم في موضعه (2).

وعن الثاني : بأنّ الإطاعة لا تكون إلاّ بفعل ما أمر به ، وليس للفعل مدخليّة في ذلك إلاّ أن يقترن به قول يقتضي التأسّي به.

و [ الجواب ] عن الثالث : بأنّ المتبادر من ( ما آتاكُمُ ) ما أمركم به بقرينة قوله : ( وَما نَهاكُمْ ) .

هذا ، واحتجّ الخصم (3) ، بأنّه لمّا جاز اختلاف تكليف النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم والامّة ، وعلم اختصاصه صلى اللّه عليه وآله وسلم بخصائص لا يشترك فيها غيره ، فكلّ ما فعله يحتمل أن يكون منها وإن علم جهته بالنسبة إليه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فيكون حكمه بالنسبة إلينا كما لم يعلم جهته.

وجوابه : أنّ هذا الجواز بالنظر إلى العقل. وأمّا السمع ، فقد دلّ على عموم ثبوت التأسّي به ، واشتراك الامّة معه فيما يفعله إذا علم وجهه - كما ذكر - خرج ما صرّح باختصاصه صلى اللّه عليه وآله وسلم به ، ويبقى الباقي داخلا فيه ، ولو لا ذلك لزم طرح جميع النصوص المذكورة ، وهو باطل.

ثمّ إنّ النصوص المذكورة كما تدلّ على ثبوت التأسّي واشتراك الامّة معه في الفعل المعلوم جهته من الوجوب والاستحباب ، تدلّ عليه في ترك الفعل [ المعلوم ](4) صفته من الحرمة والكراهة ، فكلّ ترك صدر منه وعلم أنّ فعله حرام أو مكروه ، فالامّة مثله في ذلك.

وإذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الفروع لهذه الصورة كثيرة ، كالحكم باستحباب التباعد عن الناس بحيث لا يرى عند التخلّي ؛ تأسّيا بالنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فإنّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم ير قطّ على بول ولا غائط (5) ، وقد علم بالقرائن أنّ التباعد بهذا النحو لم يكن واجبا عليه صلى اللّه عليه وآله.

وبكراهة استصحاب ما عليه اسم اللّه ، كخاتم ومصحف عنده ؛ لوضع النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم خاتمه

ص: 311


1- نسبه البصري إلى القيل في المعتمد 1 : 349.
2- في ص 45.
3- أي من لم يقل بثبوت التأسّي فيما علم جهته.
4- اضيف بمقتضى السياق.
5- الآيات المتقدّمة آنفا.

عند التخلّي (1) ، وقد علم بالقرائن أنّ الاستصحاب المذكور لم يكن حراما عليه. وقس عليهما أمثالهما.

[ الصورة ] الرابعة : ما كان بيانا لمجمل ، وعلم جهته من الوجوب والندب ، وحكمه في الجهة حكم المبيّن. فإنّه إذا علم وجوب شيء بالإجمال ، أو استحبابه ، ولم يعلم الكيفيّة ، يلزم التوقّف حتّى يعلم بيانها من الشارع. وبعد بيانها منه قولا أو فعلا يلزم أن يكون حكمه حكم المبيّن ، إن عامّا فعامّا وإن خاصّا فخاصّا ، وإلاّ خرج المجمل عن جهته.

[ الصورة ] الخامسة : أن يكون بيانا لمجمل مركّب علم أنّ بعض أجزائه واجب وبعضها مستحبّ. وحينئذ فكلّ جزء علم وجوبه أو استحبابه ، فيحكم به. وإن تردّد فيهما ، فيكون حكمه حكم ما لم يعلم جهته ، كما يأتي (2).

ثمّ الأفعال التي تقع في مقام البيان ، فما كان منها مستحدثا لم يكن المعصوم عليه قبل ذلك يحكم بأنّه من هيئات المبيّن ، وربما حكم على بعضه بأنّه خارج عنها ، كسرعة ما ، أو بطء ما في بعض الأفعال ؛ فإنّ العرف يحكم بأنّ السرعة والبطء بهذا النحو الخاصّ ليسا من الكيفيّة. وربما تردّد في بعضها بأنّه منها أم لا ، كالموالاة في الوضوء. والظاهر عدّه منها إن لم يحكم العرف صريحا بخروجه ؛ لما عرفت (3). ثمّ معرفة كونه واجبا أو مستحبّا تظهر ممّا يأتي (4).

وما لم يكن مستحدثا ، بل كان المعصوم عليه قبل ذلك ، فلا يحكم بدخوله في الكيفيّة إلاّ بدليل ، كالستر في الصلاة.

والفروع لها كثيرة في أفعال الطهارة ، والصلاة ، والصوم ، والحجّ وغيرها من الواجبات المجملة. وقد تقدّمت (5) الإشارة إلى بعضها.

ص: 312


1- قاله القاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى 1 : 114.
2- في ص 315.
3- تعليل لظهور عدّ المردّد من هيئات المبيّن. والمراد بما عرفت ما جاء في ذيل قوله في ص 309 : « ولنا أيضا القطس. .. ».
4- في ص 316.
5- تقدّم آنفا.

وكيفيّة التفريع في الجميع ظاهرة عليك.

[ الصورة ] السادسة : أن يكون بيانا لمجمل لم يعلم كونه عادة أو عبادة. أو علم كونه عبادة ولم يعلم جهته من الوجوب وغيره ، فيكون داخلا تحت ما لم يعلم كونه عبادة أو عادة. أو ما علم كونه عبادة ولم يعلم جهته ، كما يأتي (1).

ثمّ معرفة كونه بيانا إمّا بالقول ، كقوله عليه السلام : « صلّوا كما رأيتموني » (2) و « خذوا عنّي مناسككم » (3). أو بالقرينة ، كغسل الوجه واليد على النحو الخاصّ بعد ما نزل قوله تعالى :

( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) (4) ، وقطع يد السارق من الكوع (5) دون المرفق والعضد بعد ما نزل قوله تعالى : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ) (6).

[ الصورة ] السابعة : ما تردّد فيه بين كونه من الجبلّة والعادة ، أو من الشرع والعبادة. فقيل بالأوّل (7) ؛ لأصالة عدم التشريع. وقيل بالثاني (8) ؛ لأنّه بعث لبيان الشرعيّات ؛ ولعموم أدلّة التأسّي.

والحقّ : أنّه لمّا كان مردّدا بين العبادة وغيرها ، فيجري فيه الاحتياط ، وهو مستحبّ على الأقوى في موضع يمكن فيه إجراء أصل البراءة ، كما نحن فيه ، فيلزم أن يكون عبادة مستحبّة. وما دلّ على عموم ثبوت الاتّباع قد عرفت (9) أنّه يجري في فعل علم فيه وجهه ، وإن كان الوجوب يكون واجبا ، وإن كان الندب يكون ندبا. وإن سلّم دلالته على ما نحن فيه ، فلا يفيد أزيد من الاستحباب ، وهو ظاهر. ويتفرّع عليها امور ذكرها الشهيد (10) :

منها : جلسة الاستراحة ، وهي ثابتة من فعله صلى اللّه عليه وآله وسلم (11). وعلى ما اخترناه يلزم كونها عبادة

ص: 313


1- في ص 314 - 315.
2- تقدّما في ص 309.
3- تقدّما في ص 309.
4- المائدة (5) : 6.
5- الكوع : طرف الزند. المصباح المنير : 4. « ك و ع ».
6- المائدة (5) : 38.
7- قاله القاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى 1 : 115.
8- ذهب إليه الشهيد في القواعد والفوائد 1 : 211 و 212 ، القاعدة 61.
9- أي ما دلّ على عموم ثبوت الاتّباع هو قول الخصم بأنّ « النبيّ صلى اللّه عليه وآله بعث ليبيّن الشرائع ... » راجع ص 306.
10- القواعد والفوائد 1 : 211 ، القاعدة 61.
11- صحيح البخاري 1 : 283 ، ح 790.

مستحبّة ، مع أنّه ثبت عندنا بدليل آخر (1) أنّها عبادة. وزعم بعض العامّة (2) أنّها للجبلّة ؛ لأنّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إنّما فعلها بعد ما بدن وحمل اللحم ، ورووا عنه أنّه قال : « لا تبادروني بالركوع والسجود ... إنّي قد بدّنت » (3) وهذا ينافي ما روي أنّه صلى اللّه عليه وآله لم يكن سمينا (4).

ومنها : دخوله مكّة من ثنيّة كداء - بفتح أوّله مع المدّ - وهي الثنيّة العليا ممّا يلي المقابر ، وخروجه من ثنيّة كدى (5) - بالضمّ والقصر - وهي السفلى ممّا يلي باب العمرة ، فهل ذلك لأنّه صادف طريقه ، أو لأنّه سنّة؟ وتظهر الفائدة في استحبابه لكلّ داخل. وعلى ما اخترناه لا يخفى حقيقة الحال.

ومنها : نزوله بالمحصب (6) لمّا نفر في الأخير (7) ، وتعريسه لمّا بلغ ذا الحليفة (8) ، وذهابه بطريق في العيد ، ورجوعه بآخر (9).

وبعد ما أحطت بما ذكر تعرف الحقّ فيها وفي أمثالها.

[ الصورة ] الثامنة : أن يعلم كونه عبادة - أي ظهر فيه قصد القربة - ولم يعلم جهته ، ففي وجوبه واستحبابه والتوقّف فيه أقوال ، أوسطها وسطها ؛ لأنّه لمّا ظهر قصد القربة يثبت الرجحان. والمنع من الترك زيادة لا يثبت إلاّ بدليل ، والأصل عدمها ، والرجحان بدون المنع من الترك هو الندب ؛ وما ذكر من حكاية الاحتياط (10) يدلّ على ذلك أيضا.

احتجّ الموجب بالأدلّة الدالّة على عموم وجوب التأسّي ، كما تقدّم (11).

وقد عرفت (12) أنّ معنى التأسّي إيقاع الفعل على الوجه الذي فعله ، وغاية ما دلّت عليه

ص: 314


1- تهذيب الأحكام 2 : 83 ، ح 305.
2- المغني لابن قدامة 1 : 567.
3- كنز العمّال 7 : 603 ، ح 20467.
4- لم نظفر عليه.
5- صحيح البخاري 2 : 571 ، ح 1500.
6- المحصب : هو الشعب الذي مخرجه إلى الأبطح بين مكّة ومنى. راجع النهاية في غريب الحديث والأثر 1 : 6. « ح ص ب ».
7- راجع سنن ابن ماجة 2 : 1019 - 1026 ، ح 3067 - 3074.
8- راجع سنن ابن ماجة 2 : 1019 - 1026 ، ح 3067 - 3074.
9- راجع سنن ابن ماجة 2 : 1019 - 1026 ، ح 3067 - 3074.
10- في ص 313.
11- في ص 306.
12- في ص 305 - 306.

ثبوته وكون الامّة مثله ، ومجرّد ذلك لا يدلّ على أنّ كلّ فعله واجب علينا ، بل إثبات الوجوب علينا يتوقّف على العلم بوجوبه عليه ، والمفروض هاهنا خلافه.

واحتجّ أيضا بأنّ الاحتياط يقتضي حمله على الوجوب ؛ ليأمن الإثم قطعا ، كما في صلاة نسيها ولم يعلمها بعينها.

وجوابه : أنّ كلّ احتياط ليس واجبا ، بل موارده مختلفة ، والواجب منه إنّما هو فيما ثبت وجوبه ، وعلم اشتغال الذمّة به يقينا ، كالصلاة المنسيّة ، أو كان ثبوته هو الأصل ، كصوم الثلاثين من رمضان إذا شكّ فيه ؛ إذ الأصل بقاؤه حتّى يعلم المزيل. وأمّا فيما لم يثبت وجوبه ولم يكن ثبوته هو الأصل ، فليس الاحتياط فيه واجبا ، سيّما إذا كان ثبوت خلافه هو الأصل كما نحن فيه ، بل الاحتياط حينئذ مستحبّ على الأقوى ، كما يجيء تحقيقه مفصّلا (1).

هذا ، ويرد عليه : أنّه إذا كان اتّباعه في جميع ما فعله ولم يعلم جهته واجبا علينا ، يلزم كون فعل واحد واجبا وندبا أو مباحا علينا ؛ للقطع بأنّ بعض ما فعله ولم يعلم جهته ندب ، أو مباح.

والتزام أنّ جميع ما فعله ممّا لم يعلم جهته فعلى وجه الوجوب ، بعيد عن الحقّ.

واحتجّ المتوقّف بأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يفعل العبادة الواجبة والمستحبّة ، والمفروض عدم الإشعار للفعل بوجهه الذي وقع عليه ، فيتساوى فيه الاحتمالان ، ومعه يلزم التوقّف (2).

وقد ظهر جوابه ممّا ذكر (3).

وكيفيّة التفريع : أنّه كان اللازم - على ما اخترناه - الحكم باستحباب الموالاة في الطهارات الثلاث ، وفي الطواف والسعي ، وخطبة الجمعة والعيد ، والقيام في الخطبة ، والمبيت بمزدلفة ، إلاّ أنّ كلّ ذلك ثبت وجوبه عندنا بدليل من خارج ، سوى الموالاة في الغسل ؛ فإنّ الحكم فيها موافق القاعدة. وقس عليها أمثالها.

ص: 315


1- في باب الاشتغال.
2- حكاه العلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الأصول 2 : 551.
3- آنفا.
فائدة

طريق معرفة فعله صلى اللّه عليه وآله وسلم أنّه واجب أو ندب أو مباح إمّا نصّه عليه السلام ، أو أمارة دالّة ، أو كونه بيانا ، أو بدلا لواحد منها.

ويعرف الندب خاصّة بوجود صفة حسنة فيه مع عدم ما يدلّ على وجوبه.

والمباح خاصّة بعدم ما يدلّ على مرجوحيّته مع عدم الدلالة على وجوبه وندبه.

والواجب خاصّة بكون الفعل قبيحا وممنوعا لو لم يكن واجبا ، كالركوع والقيام الزائدين في ركعة واحدة ؛ فإنّ الزيادة عمدا في الصلاة مبطلة ، فحيث شرعت - كما في الكسوف - تكون واجبة.

ويتفرّع عليه وجوب الختان ؛ لأنّ قطع العضو قبيح ، فمشروعيّته دليل على وجوبه ، وهذا بإطلاقه في الذكر دون الانثى والخنثى ؛ لأنّه فيها (1) سنّة ، فهو مخالف للقاعدة بدليل من خارج ، وفيه (2) إن كان واضحا فالحكم واضح ، وإن كان مشكلا فهو (3) مشكل ؛ لتعارض احتمال وجوب ختانه حملا على غيره مع مراعاة القاعدة ، وحرمة قطع العضو بدون الدلالة الناقلة ، وهي هنا مفقودة.

وممّا يتفرّع عليه وجوب سجود السهو في الصلاة على قول من أثبته فيها في بعض المواضع (4).

فصل [25]
اشارة

لا تعارض بين فعليه صلى اللّه عليه وآله وإن تناقض حكمهما ، كالصوم في يوم ، والإفطار في آخر ؛ لإمكان الوجوب في وقت ، والجواز في آخر.

نعم ، إن دلّ دليل على وجوب تكرير حكم فعل واستمراره ثمّ فعل ما يناقض حكمه

ص: 316


1- أي في الانثى.
2- أي الخنثى.
3- أي في الانثى.
4- راجع مختلف الشيعة 2 : 418 ، المسألة 297. والأقوال بين أربعة وخمسة وستّة مواضع.

حكمه ، كان نسخا لحكم الدليل إن كان دلالته بالنصوصيّة ، أو تخصيصا له إن كان دلالته بالعموم ، لا لحكم الفعل ، أمّا بالنظر إلى الماضي ، فلأنّ رفع ما وجد محال ، وأمّا بالنظر إلى الاستقبال ؛ فلأنّه لا يقتضي التكرير.

ثمّ وجوب التكرير إن كان له صلى اللّه عليه وآله وللامّة معا أو للامّة فقط ، فتحقّق النسخ أو التخصيص يتوقّف على وجود الدلالة على وجوب التأسّي به في الفعل الثاني ، وإلاّ لم يتحقّق التعارض في حقّ الامّة. وإن كان له فقط ، فيكون الفعل الثاني ناسخا ، أو مخصّصا مطلقا (1).

ولو وقع التعارض بين فعله وقوله ، فله ستّ وثلاثون صورة - لم يقع في بعضها التعارض حقيقة كما تعلم (2) - لأنّه إمّا يتقدّم الفعل ، أو يتأخّر ، أو يجهل الحال ، وهذه ثلاثة أنواع ، وفي كلّ منها إمّا أن يدلّ دليل على تكرير الفعل واستمراره ، وعلى وجوب تأسّي الأمّة به ، أو لا يدلّ عليهما ، أو يدلّ على أحدهما فقط ، فيشتمل كلّ منها (3) على أربعة أصناف ؛ فيحصل اثنا عشر صنفا ، وفي كلّ منها إمّا يختصّ القول به ، أو بالامّة ، أو يعمّهما ، فيشتمل كلّ منها (4) على ثلاث صور شخصيّة ؛ فيحصل ستّ وثلاثون صورة شخصيّة ، هو مضروب الاثني عشر في الثلاث. وبملاحظة كلّ نوع مع أصنافه الأربعة - الملحوظ كلّ واحد منها مع صوره الثلاث الشخصيّة - يحصل اثنتا عشرة صورة شخصيّة ، وها هي كما نذكره :

النوع الأوّل : أن يتقدّم الفعل ، وأصنافه أربعة :

[ الصنف ] الأوّل : أن لا يوجد دليل على التكرير ، ولا على وجوب التأسّي ، وصوره الشخصيّة ثلاث :

أن يكون القول مختصّا به صلى اللّه عليه وآله ، كأن يفعل فعلا ثمّ يقول : « لا يجوز لي هذا الفعل ». وحينئذ لا تعارض ؛ لأنّ القول في هذا الوقت لا تعلّق له بالفعل في الزمان الماضي ؛ إذ حكمه يختصّ بما بعده ، ولا في المستقبل ؛ إذ لا حكم للفعل بالنظر إليه ؛ لأنّ المفروض عدم التكرير.

ص: 317


1- أي سواء كان الدليل على وجوب التأسّي في الفعل الثاني موجودا ، أم لا.
2- في ص 318 وما بعدها.
3- أي من ثلاثة أنواع.
4- أي من اثني عشر صنفا.

وأن يكون مختصّا بالامّة ، ولا تعارض أيضا ؛ لأنّ القول يختصّ بالامّة ، والفعل به عليه السلام بفرض عدم وجوب التأسّي ، فلم يتواردا على محلّ واحد.

وأن يعمّهما ، وحكمه كما تقدّم (1) من عدم التعارض في حقّه وفي حقّهم.

[ الصنف ] الثاني : أن يدلّ دليل على تكرار الفعل ووجوب التأسّي به فيه ، وصوره الشخصيّة أيضا ثلاث :

أن يكون القول خاصّا به ، فلا يتحقّق تعارض في حقّ الامّة أصلا ، وفي حقّه فالقول ناسخ لحكم الدليل حقيقة - لا لحكم الفعل كما عرفت (2) - إن كان دلالته بالنصوصيّة ، ومخصّص له إن كان دلالته بالعموم.

وأن يكون خاصّا بالامّة ، فلا تعارض في حقّه أصلا ، وفي حقّهم يكون ناسخا أو مخصّصا ، كما ذكر.

وأن يكون عامّا لهما ، فيكون ناسخا أو مخصّصا في حقّهما. ووجهه ظاهر.

[ الصنف ] الثالث : أن يدلّ الدليل على التكرار دون وجوب التأسّي ، وصوره الشخصيّة أيضا ثلاث :

أن يكون القول خاصّا به ، ويكون ناسخا أو مخصّصا في حقّه ، ولا مدخليّة للامّة فيه ؛ لعدم ثبوت حكم الفعل في حقّهم.

وأن يكون خاصّا بالامّة ، فلا تعارض حينئذ أصلا. ووجهه ظاهر.

وأن يكون عامّا لهما ، ولا تعارض في حقّ الامّة ، ويكون ناسخا أو مخصّصا في حقّه.

[ الصنف ] الرابع : أن يدلّ الدليل على وجوب التأسّي دون التكرار ، وصوره الشخصيّة أيضا ثلاث :

أن يكون القول خاصّا به ؛ وأن يكون خاصّا بالامّة ؛ وأن يتناولهما.

ولا تعارض في هذه الصور أصلا ، لا في حقّه ولا في حقّ الامّة ؛ لما تقدّم في الصورة الاولى من الصنف الأوّل. هذا إذا تقدّم التأسّي على القول ، وإن تأخّر عنه فيتحقّق في حقّ

ص: 318


1- آنفا.
2- في ص 316 - 317.

الامّة التعارض عند تناول القول لهم خصوصا أو عموما ، فيكون القول ناسخا.

النوع الثاني : أن يتأخّر الفعل ، وأصنافه أيضا أربعة :

[ الصنف ] الأوّل : أن لا يدلّ دليل على التكرار والدوام والفعل (1) ، ولا على وجوب التأسّي به فيه ، وصوره الشخصيّة ثلاث :

[ الاولى : ] أن يكون القول مختصّا به ، مثل أن يقول : « يجب عليّ الكفّ عن هذا الفعل في وقت كذا » ثمّ يفعله فيه ، كان فعله ناسخا لحكم القول. وهو مبنيّ على جواز النسخ قبل التمكّن من الفعل. ويمكن أن يفرض (2) لهذه الصورة فيما لا يكون جواز النسخ مبنيّا على هذا القول (3) ، وذلك فيما دلّ القول المتقدّم على وجوب الدوام والتكرار بالنصوصيّة ، مثل أن يقول : « صوم يوم كذا واجب عليّ دائما » ثمّ يفطر فيه بعد مضيّ سنين ، فيكون نسخا بعد التمكّن من الفعل. وبعد التنصيص على الدوام والتكرار لا مجال لتوهّم كونه تخصيصا لا نسخا.

نعم ، إن دلّ القول المتقدّم على التكرير والدوام بالعموم ثمّ فعل ما ينافي حكمه ، كان تخصيصا ، ولو لم يدلّ القول على الدوام أصلا ، لا بالنصوصيّة ولا بالعموم ، ولا على الوجوب في وقت معيّن بأن يقول : « يجب عليّ فعل كذا » وفعله في وقت ما ، ثمّ تركه بعد ذلك ، لم يكن ذلك من باب التعارض أصلا. وكذا لو دلّ على الوجوب في وقت معيّن وفعله فيه ثمّ ترك بعد ذلك.

[ الثانية : ] وأن يكون مختصّا بالامّة ، ولا تعارض حينئذ ؛ لما تقدّم (4) في الصورة الثانية من الصنف الأوّل من النوع الأوّل.

[ الثالثة : ] وأن يعمّهما ، ولا تعارض حينئذ في حقّ الامّة ، وفي حقّه يكون الفعل ناسخا ، كما ذكر في الصورة الاولى من هذا الصنف. وتحقّق النسخ في حقّه إنّما إذا كان تناول القول

ص: 319


1- كذا في النسختين. والظاهر : « في الفعل ».
2- أي يفرض مثال.
3- أي جواز النسخ قبل التمكّن.
4- في ص 318.

له على سبيل النصوصيّة بأن يقول : « لا يجب عليّ ولا عليكم » ، وأمّا إذا تناوله بالعموم بأن يقول : « لا يجب على أحد » ، فلا يكون الفعل ناسخا ، بل مخصّصا.

[ الصنف ] الثاني : أن يدلّ الدليل على التكرار في الفعل ووجوب التأسّي به فيه ، وصوره الشخصيّة أيضا ثلاث :

أن يكون القول خاصّا به ، ولا معارضة حينئذ في حقّ الامّة بوجه ، وفي حقّه يكون الفعل ناسخا أو مخصّصا ، كما تقدّم (1) مثله في الصورة الاولى من الصنف الثاني من النوع الأوّل.

وأن يكون خاصّا بالامّة ، فلا تعارض في حقّه أصلا ، وفي حقّهم يكون الفعل ناسخا أو مخصّصا.

وأن يكون عامّا لهما ، فيكون الفعل ناسخا في حقّهما. ووجهه ظاهر.

[ الصنف ] الثالث : أن يدلّ الدليل على التكرار دون وجوب التأسّي ، وصوره الشخصيّة أيضا ثلاث ، وهي الاحتمالات الثلاثة للقول ، وحكم كلّ واحد من هذه الثلاثة حكم نظيره من الصور الثلاث الشخصيّة من الصنف الثالث من النوع الأوّل. ولا فرق إلاّ في أنّ الناسخ هناك فيما يثبت فيه النسخ كان قولا ، وهنا يكون فعلا.

[ الصنف ] الرابع : أن يدلّ الدليل على وجوب التأسّي دون التكرار ، وصوره الشخصيّة أيضا ثلاث :

أن يكون القول خاصّا به ، ولا تعارض حينئذ في حقّ الامّة. وفي حقّه يكون الفعل ناسخا على نحو ما تقدّم (2) في الصورة الاولى من الصنف الأوّل من هذا النوع.

وأن يكون خاصّا بالامّة ، ولا تعارض حينئذ في حقّه وهو ظاهر. وفي حقّهم يتحقّق التعارض ، ويكون الفعل ناسخا.

وأن يكون عامّا لهما ، ففي حقّه يكون الفعل ناسخا ، كما تقدّم (3). وكذا في حقّهم.

ص: 320


1- في ص 318.
2- في ص 319.
3- تقدّم آنفا.

النوع الثالث : أن يجهل الحال في تقدّم الفعل وتأخّره ، وأصنافه أيضا أربعة :

[ الصنف ] الأوّل : أن لا يدلّ دليل على التكرار ولا على وجوب التأسّي ، وصوره الشخصيّة أيضا ثلاث :

أن يكون القول خاصّا به صلى اللّه عليه وآله ، كما إذا علم أنّه صام يوم الخميس - مثلا - ولم يعلم بالدليل التكرار ولا وجوب التأسّي به ، وعلم أنّه قال : « لا يجوز لي صوم يوم الخميس » ولم يعلم أنّ الفعل متقدّم أو القول ، ولا ريب أنّه لا يلزم على الأمّة العمل بشيء منهما ؛ لفرض عدم وجوب التأسّي عليهم وعدم تعلّق القول بهم.

وأمّا الحكم في حقّه بكون الفعل ناسخا للقول أو بالعكس ، فتحكّم ؛ لاستواء الاحتمالين عندنا ؛ فالحقّ التوقّف ، مع أنّه لا يتصوّر لهذا البحث فائدة لنا.

وأن يكون خاصّا بالامّة ، ولا تعارض حينئذ أصلا ، لا في حقّه ولا في حقّهم ؛ لاختصاص الفعل به والقول بهم.

وأن يعمّهما ، ولا تعارض في حقّ الامّة. وفي حقّه الحقّ التوقّف ، كما ذكر.

[ الصنف ] الثاني : أن يدلّ الدليل على التكرار ووجوب التأسّي ، وصوره الشخصيّة أيضا ثلاث (1) :

أن يكون خاصّا به ، والمثال كما ذكر ، إلاّ أنّه علم بالدليل التكرار ووجوب التأسّي ، ولا تعارض في حقّ الامّة ؛ لوجوب العمل بالفعل عليهم ، وعدم تعلّق القول بهم. وفي حقّه الحقّ التوقّف ، كما تقدّم (2).

وأن يكون خاصّا بالامّة ، والمثال ظاهر ، ولا تعارض حينئذ في حقّه. وأمّا في حقّ الامّة ، ففي العمل بالفعل - أي وجوب الصوم مثلا - أو القول - أي تركه - أو التوقّف ، وعدم القطع بأحد الطرفين أقوال.

احتجّ العامل بالفعل بأنّه أقوى في الدلالة على مدلوله من القول ؛ لأنّه يصير بيانا له ، كما

ص: 321


1- تأتي الصورة الثالثة في ص 323.
2- آنفا.

صار صلاته بيانا لآية الصلاة (1) ، وحجّه بيانا لآية الحجّ (2). وكخطوط الهندسة وغيرها من الإشارة تصير بيانا للقول في مقام التعليم إذا لم يف القول به ، فيستعان بالتخطيط والتشكيل والإشارات والحركات (3).

ولا يخفى أنّ القول أيضا يصير بيانا ، بل البيان بالقول أكثر ، مع أنّ رجحان دلالة الفعل لا يدلّ على تأخّره عن القول.

والقول : بأنّ دلالته إذا كانت أقوى ينبغي الحكم بكونه متأخّرا ناسخا للقول حتّى يكون الأقوى رافعا للأضعف دون العكس على ما هو شأن الحكيم (4) ، لا يخفى ضعفه ؛ لأنّ المفروض أنّ كلاّ منهما إن كان متأخّرا يصلح لكونه ناسخا وإن كان أضعف ، واحتمال التقدّم والتأخّر على السواء ، وكون أحدهما أقوى لا مدخليّة له بالتأخّر.

واحتجّ العامل بالقول بأنّ دلالته على مدلوله أقوى بوجوه (5) :

منها : أنّ القول وضع لمدلوله ، فلا يتخلّف عنه. وأمّا الفعل ، فله محامل ، وإنّما يفهم منه في بعض الأحوال ذلك بقرينة ، فيقع فيه الخطأ كثيرا.

وردّ بأنّ الأفعال التي هي آثار السخاوة تدلّ عليها دلالة قطعيّة لا يتصوّر فيها تخلّف ، بخلاف الأقوال ؛ فإنّ دلالتها وضعيّة قد يتخلّف عنها مدلولها.

ومنها : أنّ القول يدلّ على الموجود والمعدوم ، والمعقول والمحسوس ، بخلاف الفعل ؛ فإنّه يختصّ بالموجود المحسوس.

وفيه : أنّ السخاوة ليست من المحسوسات مع دلالة الأفعال عليها ، بل لا يبعد القول بأنّها تدلّ على المعدوم أيضا ، كدلالة آثار السخاوة على عدم البخل.

ومنها : أنّ دلالة القول متّفق عليها ، ودلالة الفعل مختلف فيها ، والمتّفق عليه أولى بالاعتبار.

وضعفه ظاهر.

ص: 322


1- والمراد بآية الصلاة قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) في مواضع من القرآن منها في البقرة (2) : 43.
2- المراد بآية الحجّ قوله تعالى : ( لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) ، آل عمران (3) : 97.
3- راجع : شرح مختصر المنتهى 1 : 3. ونهاية الوصول إلى علم الأصول 2 : 575.
4- راجع : شرح مختصر المنتهى 1 : 3. ونهاية الوصول إلى علم الأصول 2 : 575.
5- للمزيد راجع شرح مختصر المنتهى 1 : 121.

والتحقيق : أنّه لا ريب في تخلّف المدلول عن الدالّ الوضعي في كلام النبيّ وغيره ، كتخلّفه عن الدالّ الفعلي أيضا. والحكم برجحان دلالة أحدهما بالوجوه المذكورة قد عرفت حاله (1).

والقول بأنّ فهم المقصود من دلالة اللفظ أظهر ، وإن جاز فيها تخلّف المدلول عن الدالّ في الخارج فيكون أقوى ، غير مسلّم ، ومع التسليم لا يصلح مرجّحا للعمل به دون الفعل ، فثبت أنّ الحكم برجحان دلالة أحدهما لا يخلو عن تعسّف ، مع أنّ ذلك لا يكفي للعمل به دون الآخر ، كما عرفت (2).

فالحقّ حينئذ أن يتوقّف في كلّ موضع جهل التأريخ وحصل فيه التعارض بين الفعل والقول ، سواء كان في حقّه أو حقّ الامّة ، وكلّ موضع لم يحصل فيه التعارض في حقّ أحدهما أو كليهما ، فلا اشتباه ؛ لتعيّن العمل بأحدهما دون الآخر ، أو عدم لزوم العمل بشيء منهما. وهذا هو المعيار في معرفة أحكام الصور المندرجة تحت هذا النوع.

والفرق بين ما وقع فيه التعارض في حقّه وفي حقّ الامّة - بالحكم بالتوقّف في الأوّل ، والعمل بالقول في الثاني ؛ نظرا إلى أنّا متعبّدون بالعمل ، والتوقّف فيه إبطال للعمل ، ونفي للتعبّد به بخلاف الأوّل ؛ لعدم تعبّدنا بالعمل فيما هو حقّه عليه السلام (3) - لا يخفى ضعفه.

وبما ذكر يعرف حكم الصورة الثالثة من هذا الصنف ، وهي أن يكون القول عامّا لهما ؛ فإنّه يتحقّق في حقّهما التعارض ، ويكون الحكم التوقّف.

[ الصنف ] الثالث : أن يدلّ الدليل على التكرار دون وجوب التأسّي. وصوره الثلاث الشخصيّة مع أحكامها ظاهرة.

[ الصنف ] الرابع : عكس الثالث. وحكم صورة الثلاث أيضا ظاهر ممّا تقدّم ، فلا نطيل الكلام بذكرها.

إذا عرفت ذلك ، فكيفيّة التفريع لا تخفى عليك. مثلا : نقل أنّه عليه السلام قام للجنازة وأمر به

ص: 323


1- تقدّم آنفا.
2- تقدّم آنفا.
3- الفارق هو القاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى 1 : 121.

ثمّ قعد (1). فنقول : هذا من الصورة الثالثة من الصنف الأوّل من النوع الثاني ، فيلزمه حكمها كما تقدّم (2).

وروي أنّه عليه السلام نهى عن استقبال القبلة واستدبارها للبول والغائط ، وجلس لقضاء الحاجة في البيوت مستقبل بيت المقدس (3).

وهذا يحتمل أن يكون كسابقه ؛ نظرا إلى كون النهي متناولا له ولامّته ، وعدم دليل على ثبوت التأسّي في فعله هذا.

ويحتمل اختصاص النهي بالامّة ؛ فيتغيّر الصورة ، وفهم ثبوت التأسّي من فعله ؛ فيتغيّر الصنف.

ثمّ الظاهر أنّ فعله هذا مخصّص لا ناسخ ؛ لأنّ دلالة قوله على حرمة الاستدبار له ولامّته في البيوت والصحاري ، أو لامّته فقط فيهما بالعموم ، وفعله يدلّ على إباحته في البيوت لكلّ أحد ، أو له خاصّة فيكون تخصيصا. وإن فرض أنّ فعله يدلّ على إباحته في البيوت والصحاري معا ، يكون تخصيصا أيضا ؛ نظرا إلى أنّ قوله يدلّ على الدوام بالعموم لا بالنصوصيّة.

ثمّ اللبيب يتفطّن ممّا ذكرنا أنّه في كلّ واحد من الصور المذكورة التي يتحقّق فيها التعارض بين القول والفعل ، يمكن أن يتحقّق التعارض من كلّ وجه بينهما حتّى يكون المتأخّر ناسخا ، ويمكن أن يتحقّق التعارض من وجه بالعموم والخصوص مطلقا ، أو من وجه حتّى يكون أحدهما مخصّصا للآخر ، فتصير الصور أكثر. وفي كلّ صورة من صور النوعين الأوّلين يمكن أن يتعقّب المتأخّر المتقدّم ، كما إذا قال : « الفعل الفلاني واجب عليّ في وقت كذا » وتلبّس بضدّه في ذلك الوقت ، وأن يتراخى عنه ، كما إذا قال : « الفعل الفلاني واجب عليّ أبدا » وبعد مضيّ زمان تركه ، ففي الأوّل لا يتحقّق النسخ على مذهب من لم يجوّزه قبل الفعل ، وفي الثاني يتحقّق مطلقا. وحينئذ تتضاعف صور النوعين الأوّلين.

ص: 324


1- صحيح البخاري 1 : 441 ، ح 1249.
2- في ص 319.
3- حكاه العلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الأصول 2 : 576.
فائدة

تصرّف المعصوم تارة بالإمامة ، كالجهاد والتصرّف في بيت المال.

وتارة بالقضاء ، كفصل الخصومة بين المتخاصمين بالبيّنة ، أو اليمين ، أو الإقرار.

وتارة بالتبليغ ، وهو الفتوى.

والإمامة رئاسة عامّة في امور الدين والدنيا.

والقضاء ولاية في الحكم شرعا لمن له أهليّة الفتوى بجزئيّات القوانين الشرعيّة على أشخاص معيّنة من البريّة ، بإثبات الحقوق واستيفائها للمستحقّ. فالإمامة مبدأ القضاء وأعمّ منه ؛ لأنّه بعض أفرادها ، ولها أفراد أخر ، كما اشير إلى بعضها (1).

والحكم إلزام أحد المتداعيين فيما ينازعان بما يقتضيه المسائل الاجتهاديّة وغيرها. وعلى هذا فالقضاء مبدأ الحكم وهو مسبوق بالقضاء ، ولا يمكن تحقّقه بدونه ؛ لاستلزامه الولاية المذكورة ، ويمكن تحقّقها بدونه ؛ فإنّ من حصل له شرائط الاجتهاد حصل له الولاية المذكورة ، مع أنّه يمكن أن لا يصدر منه الإلزام المذكور أصلا.

وبالجملة ، القضاء هو الصفة النفسيّة. والحكم الفعل الخارجي المترتّب عليه. فالصادر من القاضي والواقع منه في الخارج ليس إلاّ الحكم.

وقد يطلق الحكم على الولاية المذكورة ، كما يقال : « فلان صاحب الحكم ».

وقد يطلق القضاء على نفس الإلزام ، وهذا هو المراد في جميع ما ينسب إليه من القضاء بعنوان الصدور.

هذا ، والفتوى - كما عرفت (2) سابقا - مجرّد إخبار عن حكم اللّه في قضيّة خاصّة ، ومنه جميع تصرّفات المعصوم ، أو نائبه في العبادة.

والفرق بين الحكم والفتوى إمّا بالحقيقة ، أو بالخواصّ.

أمّا الأوّل فظاهر ؛ لأنّ الحكم إنشاء خاصّ ، والفتوى إخبار.

ص: 325


1- يأتي في ص 328.
2- في ص 291.

وأمّا الثاني فبوجهين :

أحدهما : أنّ الحكم لمّا كان غايته قطع المنازعة لا يجوز نقضه لحاكم آخر ، بل يصير أصلا يجب أن ينفّذه غيره من الحكّام ما لم يخالف دليلا قطعيّا ، والفتوى يجوز نقضه لمفت آخر إذا خالف ما أدّى إليه اجتهاده ، وللمستفتين إذا لم يقلّدوه.

وثانيهما : أنّ حجّيّة كلّ حكم إنّما هي لمورده ، فلا تتعدّى إلى مثله وإن لم يتبدّل المتداعيان فيه ، بل لا بدّ فيه من حكم جديد من هذا الحاكم ، أو غيره.

والفتوى في مورد يعمّ حجّيّته لمثله وإن تبدّل المستفتي ، فكلّ فتوى يجوز أن يعمل به كلّ من بلغه إذا كان معتقدا للمفتي وإن لم يكن مستفتيا ، بل سمعه بواسطة أو بدونها ، ولا يتوقّف على فتوى جديد من هذا المفتي ، أو غيره.

والفرق الأخير يعمّ مطلق الحكم والفتوى ، سواء كانا من الإمام أو المجتهد. وأمّا الفرق الثاني (1) ، فيختصّ بالحكم والفتوى الصادرين عن المجتهد ؛ لأنّ فتوى الإمام لا يجوز نقضه كحكمه.

ويلخّص ممّا ذكر أنّ الحكم لا يجوز نقضه مطلقا (2). ويشترط وجود حاكم لكلّ متداعيين في كلّ مورد ، ولا يكفي حكمه في مورد لمثله. والفتوى من الإمام في مورد لا يجوز نقضه ويجب العمل به على كلّ أحد في مثله ، ومن غيره في مورد يجوز نقضه والعمل به لمن سمعه في مثله بالشرط المذكور.

ثمّ إنّك قد عرفت (3) أنّهما من مناصب الإمام ، إلاّ أنّ المجتهد لمّا كان نائبا عامّا من قبله فيتمكّن من التصرّف فيهما وفي كثير آخر من مناصبه ، كالتصرّف في أموال الأيتام والغائبين ، وغيره ممّا ضبط في كتب الفروع. وقد بقي بعض مناصبه مختصّا به لم يدخل تحت الإذن العامّ ، كالجهاد وغيره ، ويشترط فيه وجود الإمام ، أو إذنه الخاصّ ، ولا يجوز لنائبه العامّ التصرّف فيه.

ص: 326


1- وهو أوّل الوجهين في الفرق بالخواصّ.
2- أي سواء كان من المعصوم أو غيره.
3- في ص 325.

وإذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ كلّ مورد علم كونه فتوى أو حكما أو منصبا خاصّا بالإمام فيلحقه خواصّه. وقد وقع الاشتباه في موارد ، فلا بدّ من الإشارة إلى بعضها ؛ ليقاس عليه أمثاله :

منها : قوله صلى اللّه عليه وآله لامرأة أبي سفيان حين قالت له : إنّ أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وولدي ما يكفيني : « خذي لك ولولدك ما يكفيك بالمعروف » (1).

فقيل : هو فتوى وتبليغ ، فيجوز التقاصّ لكلّ مسلّط بإذن الحاكم وبدون إذنه (2).

وقيل : حكم ، فلا يجوز له إلاّ بإذن الحاكم وحكمه (3).

وقد رجّح الأوّل بأغلبيّة تصرّفه بالتبليغ ، والمظنون إلحاق المشكوك فيه بالغالب (4).

ومنها : قوله صلى اللّه عليه وآله : « من قتل قتيلا فله سلبه » (5).

فقيل : تبليغ فيعمّ (6).

وقيل : تصرّف بالإمامة ، فيتوقّف (7) على إذن الإمام (8).

وهو الأقوى ؛ لظاهر قوله تعالى : ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ) (9) الآية ؛ فإنّه ظاهر في أنّ كلّ ما يصدق عليه الغنيمة [ فهو ](10) للغانمين ؛ ولأنّ كون السلب للقاتل ربما أدّى إلى اهتمامهم على قتل ذي السلب دون غيره ، فيختلّ نظام المجاهدة ؛ ولأنّه ربما أفسد القربة المقصودة من الجهاد. وكونه له باشتراط الإمام لا ينافيه ؛ لأنّه لأجل مصلحة. ولما ذكر ذهب الأكثر (11)

ص: 327


1- صحيح مسلم 3 : 549 ، كتاب الأقضية ، ح 7 ، وعوالي اللآلئ 1 : 403 ، ح 59.
2- المغني لابن قدامة 9 : 240 ؛ إرشاد الساري 7 : 263 ، الهامش.
3- جعله أحد وجهي أصحابه في إرشاد الساري 7 : 263 ، الهامش.
4- ذهب إلى هذا الترجيح الشهيد في القواعد والفوائد 1 : 216 ، القاعدة 62 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 242 ، القاعدة 89.
5- جامع الأصول 2 : 687 ، ح 1185.
6- حكاه العلاّمة عن ابن الجنيد في تحرير الأحكام 1 : 144.
7- في « ب » : « فتوقّف ».
8- قاله المحقّق الحلّي في شرائع الإسلام 1 : 294 ، وابن قدامة في الشرح الكبير - ضمن المغني - 10 : 452 و 453.
9- الأنفال (8) : 41.
10- أضيف بمقتضى السياق. والمراد أنّ الغنيمة للغانمين لا للقاتل.
11- منهم الشهيد في القواعد والفوائد 1 : 217 ، القاعدة 62 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 242 ، القاعدة 89.

إلى أنّ ما ذكر من قوله صلى اللّه عليه وآله قضيّة خاصّة ببعض الحروب ، فيكون تصرّفا خاصّا بالإمام.

ومنها : قوله عليه السلام : « من أحيا أرضا ميتة فهي له » (1).

فقيل : تبليغ وإفتاء ، فيجوز لكلّ أحد الإحياء ، ومن أحياه بقصد التملّك يتملّكه ، ولا يتوقّف على إذن الإمام (2).

وقيل : تصرّف بالإمامة ، فلا يجوز الإحياء إلاّ بإذنه (3).

والأوّل أقوى ؛ لما ذكر من أغلبيّة تصرّفه بالتبليغ ، فيجوز لكلّ أحد الإحياء في زمان الغيبة ، ولا يتوقّف على إذن الإمام ، ولا على إذن نائبه العامّ. واشتراط إذنه عليه السلام في زمان حضوره - كما ذهب إليه الأكثر - لدليل من خارج.

ومنها : لو زوّج مجتهد امرأة بالمخالف المسلم مثلا ، أو بدون إذن الوليّ ، أو أذن لغيره في تزويجها كذلك ، فهو حكم ولا يجوز لمجتهد آخر نقضه.

وأمّا إذا قال بالإطلاق : « يجوز عندي التزويج بالمخالف المسلم » أو « بغير إذن الوليّ » من غير إلزام ، فهو فتوى يجوز نقضه ، وإذا سمعه مقلّده ففعله فهل يصير لازما ؛ نظرا إلى أنّه يجوز للمقلّد العمل بفتوى مجتهده ، أو لا ؛ لعدم صدور حكم ، وبدونه يجوز النقض لمجتهد آخر؟ والظاهر الثاني. وجواز عمل المقلّد بمجرّد التبليغ إنّما هو في أمر لا يكون للحكم مدخل فيه كالعبادات ، وما نحن فيه ليس كذلك.

ونظيره ما لو قال مجتهد : « في مال التجارة زكاة » أو « في الميراث خمس » ومجرّد قوله هذا لا يرفع الخلاف ، بل لغيره من المجتهدين أن يخالفه ؛ ولو سمعه مقلّده فأخذه عنفا ، لا يصير لازما.

نعم ، لو اتّصل به أخذ الحاكم ممّن حكم عليه بالوجوب ، يصير لازما ولا يجوز نقضه ؛ لأنّ أخذه للفقراء حكم باستحقاقهم فلا ينقض.

ص: 328


1- جامع الاصول 1 : 348 ، ح 131.
2- القول للشافعي وأبي يوسف ، راجع الشرح الكبير - ضمن المغني - 6 : 168.
3- راجع : المبسوط 3 : 270 و 295 ، وشرائع الإسلام 3 : 216 ، وقواعد الأحكام 1 : 219 ، وتحرير الأحكام 1 : 129.
فصل [26]

الحقّ أنّه قبل البعثة لم يكن متعبّدا بشرع أحد ممّن تقدّمه من الأنبياء ، بل كلّ ما تعبّد به حينئذ كان شرعا له ؛ لأنّه كان يوحى إليه حينئذ بأشياء تخصّه. وكذا بعد البعثة لم يكن متعبّدا بما لم ينسخ من شرع من تقدّمه.

ولم نعثر على مخالف من أصحابنا في المقامين إلاّ المرتضى (1) والعلاّمة في النهاية (2) في المقام الأوّل ، فإنّهما توقّفا فيه.

وقد وقع الخلاف في المقامين بين الجمهور ، فبعضهم وافقنا فيهما (3) ، وبعضهم خالفنا فيهما (4) ، وبعضهم وافقنا في أحدهما دون الآخر (5) ، وبعضهم توقّف (6).

لنا : قوله تعالى : ( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ) (7).

وأنّه لو كان متعبّدا بشرع غيره للزم أفضليّته عليه صلى اللّه عليه وآله ؛ لأنّ المتبوع أفضل من التابع ، وهو باطل إجماعا. ولقضت العادة بوقوع مخالطته لأهله ولو وقع لنقل. ولزم وجوب الفحص عليه عن ذلك الشرع ؛ ولو وجب عليه لفعله ، ولو فعله لاشتهر ؛ ولزم وجوب الفحص على الصحابة والتابعين والمجتهدين ، ووجب علينا تعلّم أحكام ذلك الشرع ، وكلّ ذلك باطل. ولافتخر أهله بذلك ، ولو افتخر وصل إلينا ولم يصل.

والقول بأنّ هذا يتمّ لو كان متعبّدا بشرع معيّن ، أمّا إذا كان متعبّدا بما ثبت أنّه شرع فلا يرد (8) ، ضعيف جدّا ؛ لأنّ هذا لا يلائم طريقة أحد من الطوائف.

ولنا أيضا : ما روي أنّ عمر طالع ورقة من التوراة فغضب عليه السلام وقال : « لو كان أخي

ص: 329


1- الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 595.
2- نهاية الوصول إلى علم الأصول 2 : 525.
3- حكاه البصري عن أكثر المتكلّمين من أهل العدل وأبي علي وأبي هاشم في المعتمد 2 : 336 ، والشيخ في العدّة في أصول الفقه 2 : 590.
4- نسبهما البصري إلى قوم في المعتمد 2 : 337.
5- نسبهما البصري إلى قوم في المعتمد 2 : 337.
6- نسبه البصري إلى أبي هشام في المصدر.
7- النجم (53) : 3.
8- حكاه العلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الأصول 2 : 526.

موسى حيّا لما وسعه إلاّ اتّباعي » (1).

وما روى الجمهور أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله لمّا بعث معاذا قال له : « بم تحكم؟ » قال : بكتاب اللّه ، قال : « فإن لم تجد؟ » قال : بسنّة رسوله ، قال : « فإن لم تجد؟ » ، قال : أجتهد رأيي (2). ولم يذكر رجوعه إلى كتب الأنبياء ، فأقرّه النبيّ صلى اللّه عليه وآله على ذلك ودعا له.

وأيضا لو كان متعبّدا بشريعة غيره لما توقّف في قضيّة ظهار (3) ، والميراث (4) ، والإفك (5) وغيرها على نزول الوحي ؛ لأنّ لها أحكاما ظاهرة في الشرائع المتقدّمة.

وأكثر هذه الوجوه يجري في المقامين ، وبعضها يجري في المقام الثاني فقط.

هذا ، وقد أجاب بعض من خالفنا عن هذه الأدلّة بوجوه ضعيفة فسادها ظاهر لمن له أدنى تأمّل ، ولذلك لم نذكرها.

واحتجّوا على صحّة ما ذهبوا إليه بوجوه فاسدة هي بالإعراض عنها حقيق (6). وما يمكن منها أن يدوّن في الكتاب ما احتجّوا به من رجوعه صلى اللّه عليه وآله في معرفة الرجم في الزنى إلى التوراة (7).

والجواب : أنّ رجوعه إليه لإقامة الحجّة على من أنكر وجوده فيه.

وقوله تعالى : ( فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) (8) ، وشرعهم من هداهم ، فوجب عليه اتّباعه.

وجوابه : أنّه يتضمّن الأمر بالهدى (9) المضاف إلى كلّهم ، فيجب أن يكون المراد منه ما اتّفقوا عليه من اصول العقائد دون شرعهم ؛ لأنّه مختلف ووقع فيه النسخ.

وقوله تعالى : ( ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ) (10).

ص: 330


1- نقله ابن كثير في تفسير القرآن العظيم 1 : 386.
2- سنن الدارمي 1 : 70 ، وعون المعبود 3 : 330.
3- كذا في النسختين. والأولى : الظهار. انظر تفسير الطبري 28 : 4.
4- انظر ملخّص إبطال القياس : 7.
5- انظر تفسير الطبري 18 : 71.
6- كذا.
7- انظر المعتمد 2 : 341.
8- الأنعام (6) : 90.
9- أي الأمر بالاقتداء بالهدى.
10- النحل (16) : 123.

وجوابه : أنّ « الملّة » محمولة على اصول العقائد دون الشرعيّات. ويدلّ عليه قوله تعالى : ( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ) (1) ، فلو أراد الشرعيّات ، لما جاز نسخ شيء منها.

وقوله : ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ) (2).

وجوابه : أنّ المراد من الدين العقائد الحقّة ، ولو كان المراد منه الشرعيّات ، لبحث عن شريعة نوح ، ولا خلاف في أنّه لم يبحث عنها أصلا. ويحتمل أن يكون وصايته به أمرا منه يقوله عند انتهاء أعقابهم إلى زمانه عليه السلام ، أو يكون معنى وصّى به اطّلعه (3) عليه وأمره بحفظه.

وقوله : ( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ ) (4).

وجوابه : أنّ التشبيه في الوحي لا يستلزم التشبيه في الشرع.

وقوله : ( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ ) (5).

وجوابه : كما ذكر.

وقوله : ( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ) (6).

وجوابه : أنّ ظاهره غير مراد ؛ لأنّ جميع النبيّين لم يحكموا بها ؛ لتقدّم أكثرهم عليها ، فالمراد أنّهم يحكمون بصحّة ورودها عن اللّه ، وأنّ فيها نورا وهدى ، ولا يلزم منه أن يكونوا متعبّدين بالعمل بها.

وأنّه قبل البعثة كان يعتزل للعبادة - أي الصلاة ، والحجّ ، والعمرة ، والطواف بالبيت - وكان يذكّي اللحم ، ويجتنب الميتة.

وجوابه : أنّه يوحى إليه قبل البعثة أو يلهم بأشياء تخصّه ، وكان متعبّدا بما يوحى إليه ويلهم. وبعد البعثة أيضا يوحى إليه ببعض الأحكام الثابتة في الشرائع المتقدّمة. ولم يكن

ص: 331


1- البقرة (2) : 130.
2- الشورى (42) : 13.
3- كذا في النسختين. والأولى : « أطلعه ».
4- النساء (4) : 163.
5- تكرار الآية باعتبار إضافة « والنبيّين ».
6- المائدة (5) : 44.

ذلك لأجل تعبّده بشرع غيره ، بل كان أصلا في شرعه ؛ فإنّه يمكن أن يتّفق الشرعان في بعض الأحكام بطريق الوحي ، ولا يكون المتأخّر حينئذ (1) تابعا للمتقدّم.

واتّفاق العلماء على الاستدلال بقوله تعالى : ( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) (2) على وجوب القصاص في ديننا ، ولو لا أنّه متعبّد بشرع من تقدّمه ، لما صحّ هذا الاستدلال.

وجوابه : أنّه لما علموا بدليل من خارج ؛ إذ (3) ما تضمّنه ممّا اوحي إلى نبيّنا صلى اللّه عليه وآله وصار من شرعه وإن كان شرع غيره أيضا ، ولا يدلّ على تبعيّته أصلا ، كما عرفت (4).

وقوله صلى اللّه عليه وآله : « من نام عن صلاة أو نسيها ، فليصلّها إذا ذكرها » (5) ثمّ تلاوته قوله تعالى :

( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) (6) ، وهو مقول لموسى ، وسياق كلامه يدلّ على الاستدلال ، وإلاّ لم يكن لتلاوته فائدة ، ولو لم يكن متعبّدا بشريعة موسى لما صحّ الاستدلال.

وجوابه كما علمت في سابقه. وأكثر الوجوه المذكورة يعمّ المقامين ، وبعضها يخصّ المقام الأوّل ، وبعضها الثاني.

وإذا عرفت ذلك فتعلم أنّ شرع من قبلنا ليس شرعا لنا - وإن لم يرد عليه ناسخ - ما لم يعلم ثبوته في ديننا ، وعلى قول من خالفنا يكون ما ثبت من شرعهم شرعا لنا وإن لم يعلم ثبوته من خارج في ديننا. ويتفرّع عليه فروع كثيرة :

منها : الاستدلال على أرجحيّة العبادة على التزويج إذا لم تتق النفس إليه ؛ نظرا إلى مدح اللّه يحيى بكونه ( سَيِّداً وَحَصُوراً ) (7).

وعلى ما اخترناه لا يخفى حقيقة الحال.

ومنها : الاحتجاج على صحّة كون عوض الجعالة مجهولا ، وعلى مشروعيّة أصل

ص: 332


1- لم يرد في « ب » : « حينئذ ».
2- المائدة (5) : 45.
3- في « أ » : « أنّ ».
4- آنفا.
5- عوالي اللآلئ 1 : 201 ، ح 17.
6- طه (20) : 14.
7- آل عمران (3) : 39.

الجعالة ؛ استنادا إلى قوله تعالى : ( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ) (1) مع أنّ حمل البعير مجهول ؛ لاختلافه بالزيادة والنقصان.

والاحتجاج على صحّة ضمان مال الجعالة قبل العمل بقوله تعالى : ( وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) (2) أي ضامن للحمل. وقد وقع هذا الضمان قبل العمل.

وعلى ما اخترناه لا يصحّ هذا الاحتجاج.

ومنها : ما لو حلف ليضربنّ زيدا - مثلا - مائة خشبة ، يبرأ ذمّته بضربه العثكال - وهو الشماريخ القائمة على الساق الواحد - استنادا إلى قوله تعالى لأيّوب لمّا حلف ليضربنّ زوجته : ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ) (3) ، والضغث هو العثكال.

وعندنا لا يصحّ هذا (4) الاحتجاج ؛ لما عرفت (5).

نعم ، ما علم ثبوته في ديننا بدليل من خارج فهو طريق آخر ، ولا مدخليّة له بهذا الطريق ، كثبوت الحكم المذكور في بعض الموارد بشروط خاصّة ؛ فإنّه مرويّ عندنا (6) ، وقس عليها أمثالها.

فصل [27]
اشارة

تقرير المعصوم حجّة ، فإذا فعل فعل بحضرته أو في عصره وعلم به فأقرّه عليه ولم ينكره ، دلّ على الجواز لفاعله ولغيره ؛ لأنّ حكمه على الواحد حكمه على الجماعة.

وكذا إذا ظهر له من مكلّف اعتقاده بوجوب شيء أو حرمته أو غيرهما من الأحكام الشرعيّة ، فأقرّه عليه ولم يمنعه منه ، دلّ على ثبوته في حقّه وفي حقّ غيره.

والدليل في الموضعين : أنّ التقرير على المحرّم محرّم عليه ، فالظاهر رضاه فيهما ، وإن

ص: 333


1- يوسف 1. : 72.
2- يوسف 1. : 72.
3- ص (38) : 44.
4- في « أ » : « لهذا ».
5- في ص 329.
6- مثل ما ورد في اليمين المرويّ في نوادر أحمد بن محمّد بن عيسى : 172 ، ح 449. وما ورد في الحدود المرويّ في تهذيب الأحكام 10 : 5. ح 107 - 109.

ضمّ بالتقرير الاستبشار ، صار حجّيّته أوضح.

ثمّ إنّ حجّيّته مشروطة بعدم تقيّة ، أو مصلحة اخرى ، وبعدم تقدّم الإنكار وبيان ثبوت نقيضه ، أو يتقدّمه لكن علم من شأن الفاعل أنّ إنكاره عليه السلام (1) ينفعه ، فمع ذلك إذا لم ينكر دلّ على صحّة ما فعل ، وكان ناسخا لما سبق.

وأمّا إذا تقدّم الإنكار وبيان ثبوت نقيضه ، وعلم أنّ الفاعل يعلمه وينكره وإنكاره عليه السلام (2) لفعله لا ينفعه ، بل هو مصرّ عليه ، لم يكن تقريره وعدم إنكاره حجّة ، كما إذا مضى كافر إلى كنيسة فرآه فلم ينكر عليه.

هذا ، والأصل عدم المانع من حجّيّته حتّى يعلم خلافه.

وإذا عرفت ذلك ، فكيفيّة التفريع ظاهرة عليك.

وقد فرّع عليه الشافعي اعتبار القيافة في إثبات النسب ؛ لما نقل عنه صلى اللّه عليه وآله من الاستبشار وترك الإنكار بعد حكم مجزّز المدلجيّ بالقيافة في قضيّة زيد واسامة ؛ حيث قال - حين نظر إلى أقدامهما - : هذه الأقدام بعضها من بعض. وإنّما كان ذلك بعد ما طعن المنافقون في نسب زيد بسواد أحدهما وبياض الآخر ، وحكم الشرع بثبوته (3).

واجيب عنه بأنّ ترك الإنكار إنّما هو لأجل أنّ المطلوب كان حقّا في الواقع ، موافقا لقول الشارع ، والطريق كان حقّا عندهم ؛ لأنّهم يعتقدون القيافة ، فكان ذلك إلزاما عليهم ، والإلزام لا يلزم أن يكون بمقدّمة حقّة (4).

وفيه : أنّ موافقة الحقّ لا تمنع الإنكار إذا كان الطريق منكرا.

والحقّ أن يقال : إنّ عدم الإنكار لما سبق منه مكرّرا ولم يقبلوا منه ، وكانوا مصرّين على حقّيّة القيافة ، تعرف أنّهم لا يقبلون منه.

فائدة

ربما ظهر من بعض الأصحاب حجّيّة حكم المعصوم عليه السلام في الرؤيا قولا كان أو فعلا ؛ لما

ص: 334


1- أي إنكاره ثانيا.
2- أي إنكاره ثانيا.
3- حكاه القاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى 1 : 118.
4- المجيب هو القاضي عضد الدين في المصدر.

روي أنّ الشيطان لا يتمثّل به ، وأنّ من رآه في الرؤيا فقد رآه (1).

وفيه : أنّ تحقّق تالي الشرطيّة يتوقّف على تحقّق مقدّمتها ، وهو يتوقّف على أن يعرف صورته في اليقظة حتّى تعرف في المنام أنّه هو.

وأيضا كثيرا ما يرى واحد منهم عليهم السلام في المنام بصورة عالم ، أو صالح ، ومعلوم أنّه ليس هو.

وربما قيل (2) : الأخبار دلّت على أنّ من رآه في المنام ، فقد رآه وإن لم يعرف بصورته ، أو ظهر بصورة غيره ، كما ورد أنّ رجلا قال للرضا عليه السلام : رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في المنام ، فقال : « هو رسول اللّه ، من رآه فقد رآه » (3) ولا ريب في أنّه لم يدرك زمانه صلى اللّه عليه وآله حتّى يعرفه بصورته ، وظهوره بصورة غيره من أهل العلم والورع لاشتماله على فائدة هي إظهار جلالته مع عدم فساد فيه.

والحقّ : أنّ أمثال هذه الأخبار المتشابهة لا تنتهض حجّة لإثبات أصل ، مع أنّ ما يرى في المنام قد يكون مخالفا للأحكام الثابتة ؛ فالحقّ عدم الحجّيّة.

ص: 335


1- نسبه المجلسي إلى العلاّمة في بحار الأنوار 61 : 238.
2- نسبه المجلسي إلى المفيد في المصدر : 209.
3- لم نعثر عليه ولكن في بحار الأنوار 26 : 256 أحاديث تبثّ بأنّ رؤيتهم حقّ.

الباب الثالث : في الإجماع

اشارة

وتنقيح الكلام هنا يتوقّف على تحديده ، والكلام فيه من حيث إنّه إجماع ، وهو المعتبر عند العامّة ، وبيان أحكامه ، ووقوعه ، وإمكان العلم به ، ومدرك حجّيّته عندنا ، وسائر ما يتعلّق به. وها هي نذكرها في فصول :

فصل [1]

الإجماع لغة : العزم والاتّفاق (1) ، واصطلاحا : هو اتّفاق خاصّ. والصحيح على قواعد العامّة أن يقال : هو اتّفاق المجتهدين ، أو أهل الحلّ والعقد من هذه الأمّة في عصر على أمر ديني.

فبالإضافة يخرج العامّي موافقته ومخالفته ؛ فإنّه لا يعتبر وفاقا.

والتقييد « بهذه الامّة » لإخراج إجماع سائر الامم ؛ فإنّه ليس حجّة على قواعد العامّة ؛ لتجويزهم خلوّ الزمان عن المعصوم عليه السلام ، فالعصمة عن الخطأ تختصّ عندهم بجميع هذه الامّة ؛ للأدلّة السمعيّة (2) ، ويجوّزون طروّ الخطأ على جميع كلّ من سائر الامم ؛ لفقد الدلالة على عصمتهم من الخطأ.

وأمّا على قواعد الإماميّة فليس كذلك ، كما ستعلم (3).

والمراد بقولنا : « في عصر » في زمان قلّ أو كثر. والافتقار إليه ظاهر ؛ فإنّه لو لم يكن ،

ص: 336


1- المصباح المنير : 109 ، « ج م ع ».
2- منها : ما في تحف العقول : 338 ، والاحتجاج 2 : 487 ، ح 328 ، وكنز العمّال 1 : 180 ، ح 909 ، و 206 ، ح 1029 - 1032.
3- يأتي في ص 339.

أفاد (1) اشتراط الاتّفاق من لدن بعثته إلى يوم القيامة ، فيلزم أن لا يوجد إجماع أصلا.

وتقييد الأمر بالديني ؛ لإخراج الإجماع على ما ليس بديني ، كالإجماع على جوهريّة الجسم مثلا ، أو عرضيّة الألوان والطعوم ؛ فإنّه ليس من الإجماع المعرّف في كتب الاصول ؛ لأنّه من الأدلّة الشرعيّة ، وممّا يكفّر منكره ، ولا يخرج منه الإجماع على أمر عقلي يجب أن يعتقد ، كالإجماع على حدوث العالم ؛ لأنّ الديني يتناول الاعتقادي ، فتدخل الإجماعات الثابتة في علم الكلام المتعلّقة بالاعتقاد.

والمراد من المجتهد ما يتناول المجتهد في الاصول الكلاميّة أيضا.

وهذا على قواعد العامّة ظاهر ؛ لأنّ ما تمسّكوا به في إثبات حجّيّة الإجماع لا مدخل له بإثبات حجّيّة (2) غير الأمر الديني. وأمّا على قواعد الإماميّة ، فتعرف (3) كيفيّة الحال.

ثمّ إنّي لم أجد من علماء العامّة من يحدّه بمثل ما حدّ حتّى يتمّ ، بل كلّ منهم حدّه بما لا يخلو عن فساد.

فحدّه الغزالي بأنّه اتّفاق أمّة محمّد صلى اللّه عليه وآله على أمر من الامور الدينية (4).

ويلزم منه أن لا يوجد إجماع أصلا ، كما أشير (5) إليه. وينتقض عكسه بالإجماع الذي خالف فيه العوامّ ، وبما انعقد بعد زمان النبيّ صلى اللّه عليه وآله. وطرده بتقدير اتّفاق الامّة مع عدم المجتهدين فيهم (6).

وأورد عليه الحاجبي (7) ، بأنّه لا ينعكس بتقدير اتّفاقهم على أمر عقلي أو عرفي.

وفيه : أنّ العقلي أو العرفي إن كان اعتقاديّا فيدخل في الديني ، وإن لم يكن اعتقاديّا فلا بدّ من إخراجه ؛ لما عرفت (8).

ص: 337


1- أي أفاد التعريف.
2- كذا في النسختين. والظاهر كلمة « حجّيّة » غير محتاج إليها.
3- يأتي في ص 339 ، ذيل قوله : « ثمّ إنّ تقييد الأمر بالدينيّ ».
4- المستصفى : 137.
5- لعدم تقييده بقوله في عصر وزمان. راجع ص 336.
6- ليس المراد مخالفة المجتهدين ؛ فإنّه لا يتحقّق حينئذ اتّفاق الامّة ، بل المراد عدم وجود المجتهد في الامّة وكون الامّة كلّهم عوامّ.
7- منتهى الوصول : 52.
8- تقدّم آنفا.

وحدّه بعضهم بزيادة أهل الحلّ والعقد عليه (1).

ويرد عليه الإيراد الأوّل (2).

وحدّه الحاجبي بأنّه اتّفاق المجتهدين من هذه الامّة في عصر على أمر (3).

وبعضهم بأنّه اتّفاق أهل الحلّ والعقد على أمر (4).

وآخرون بأنّه اتّفاق المجتهدين على أمر (5).

وينتقض الأوّل طردا بالإجماع على أمر ليس من الأحكام الشرعيّة ولا ممّا يجب أن يعتقد ، كالإجماعات الثابتة في علم الصرف ، والنحو ، والعروض ، والحكمة وغيرها. وقد علمت (6) وجوب إخراجه من الحدّ.

والأخيران به ، وبإجماع غير هذه الامّة. وقد عرفت (7) وجوب إخراجه على قواعدهم.

ثمّ إضافة ما يتمّ كلّ واحد من الحدود المذكورة ويصحّحه (8) إليه - كما ارتكبه بعض (9) - تخرجه عنه وتجعله حدّا آخر ؛ فإنّ تفاوت الحدود بزيادة شيء ونقصانه ، فلم يصحّح هذا الحدّ ، مع أنّ إضافة « ديني » على حدّ الحاجبي لا تلائم إيراده على الغزالي (10).

وحدّه النظّام بأنّه كلّ قول قامت حجّيّته (11).

وينتقض طردا بكلام اللّه وكلام رسوله.

وأيضا التحديد إنّما يكون للماهيّة ، ولفظ « كلّ » موضوع للأفراد.

وأيضا الإجماع ليس بقول ، كما لا يخفى.

ص: 338


1- عرّفه به الفخر الرازي في المحصول 4 : 20.
2- وهو عدم تحقّق الإجماع.
3- منتهى الوصول : 52.
4- عرّفه به الفخر الرازي في المحصول 4 : 20.
5- راجع : تمهيد القواعد : 251 ، ونسبه الشوكاني في إرشاد الفحول 1 : 193 إلى أبي عليّ الفارسي.
6- في ص 337.
7- في ص 337.
8- والمضاف هو كلمة « ديني » في تعريف الحاجبي ، وكلمتا « ديني » و « هذه الامّة » في التعريفين الأخيرين كليهما.
9- ارتكبه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 52.
10- توضيحه : أنّ الحاجبي يرى الإجماع على أمر عقلي أو عرفي داخلا في المعرّف ، يعلم ذلك من قوله على الغزالي : « لا ينعكس بتقدير اتّفاقهم على أمر عقلي أو عرفي ». فإضافة كلمة « ديني » غير محتاج إليها.
11- حكاه عنه الغزالي في المستصفى : 137.

فثبت أنّ الصحيح من الحدود على قواعد العامّة ما ذكر أوّلا (1).

وأمّا على قواعد الإماميّة ، فلمّا كان الإجماع المعتبر عندهم ما دخل فيه المعصوم ، فيلزم أن يحدّ عندهم بما يدلّ على ذلك ، ولا يفتقر إلى قيد « هذه الامّة » وما يساوقه ؛ لأنّ كلّ زمان لا يخلو عندهم عن معصوم عليه السلام ، وكلّ إجماع دخل فيه المعصوم فهو حجّة عندهم ، سواء كان من هذه الامّة أو غيرها.

فالصحيح من حدوده عندهم أن يقال :

إنّه اتّفاق رؤساء الدين ، أو أهل الحلّ والعقد في عصر على أمر ديني. وهذا إن اريد بأهل الحلّ والعقد من له دخل في الحكم إماما كان أو مجتهدا ، ولو اريد منهم المجتهدون أو ما هو أعمّ منهم ومن أهل الحلّ والعقد الدنيوي كأكابر العسكر ، لم يصحّ.

أو اتّفاق من يعتبر قوله في الأحكام الشرعيّة على أمر ديني.

أو اتّفاق جمع يعلم به أنّ المتّفق عليه صدر عن رئيس الامّة. وقس عليها ما شابهها.

والأخير وما شابهه أصحّ الحدود ؛ لأنّ حجّيّة الإجماع عندنا لكشفه عن قول المعصوم. فحقيقته اتّفاق يكشف عن دخول قول المعصوم ، لا اتّفاق المعصوم وغيره حتّى يكون موافقة المعصوم جزءا من الإجماع ، كما يلزم ذلك من غير الأخير ، إلاّ أنّه يمكن تصحيحه (2) بأدنى عناية.

ثمّ إنّ تقييد الأمر بالدينيّ في بعض الحدود المذكورة بناء (3) على أنّ بحث الاصوليّين عن الإجماع المتعلّق بالحكم الشرعي ، أو ما يجب أن يعتقد في نفسه ، وعدم تقييده به في بعضها لأجل أنّ كلّ ما صار مجمعا عليه فهو حقّ ، سواء كان من العقائد الدينيّة ، أو الفروع الشرعيّة ، أو غير ذلك ؛ لأنّه ممّا قال به المعصوم ، وكلّ ما قال به المعصوم يجب أن يعتقد ، ويصحّ الاحتجاج به على كلّ شيء إلاّ على ما يتوقّف العلم بوجوب وجود المعصوم عليه ؛ لاستلزامه الدور وهو الأصوب.

ص: 339


1- راجع ص 337.
2- أي غير الأخير.
3- مرفوع خبر لا مفعول له.
فصل [2]

لا خلاف بين الخاصّة والعامّة في حجّيّة أصل الإجماع إلاّ ممّن شذّ (1). وإنّما اختلف الفريقان في مدرك حجّيّته ، فالخاصّة على أنّه دخول المعصوم ، والعامّة على أنّه الأدلّة السمعيّة والعقليّة (2). ومن العامّة من لم يتنبّه لموضع الخلاف ، ونسب إلينا القول بعدم الحجّيّة (3) ، وهو فرية.

ثمّ صدق حجّيّة الإجماع عندنا - مع أنّ العبرة بقول المعصوم - وفائدة الخلاف في الحيثيّة يعلم بعد ذلك (4). وكلامنا هنا مقصور على أنّ ما احتجّ به العامّة على حجّيّة الإجماع من حيث هو هل يثبت مطلوبهم أم لا؟

فنقول : إنّهم ذكروا لذلك وجوها :

منها : قوله تعالى : ( وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ ) (5) الآية. أوعد على اتّباع غير سبيل المؤمنين ، فيكون حراما ؛ فيجب اتّباع سبيلهم ؛ إذ لا واسطة بينهما ، والإجماع سبيلهم (6).

واعترض عليه بوجوه كثيرة محرّرة في الاصول ، أكثرها ممّا يمكن دفعه بسهولة (7) ، وذكره لا يجدي طائلا.

وما يصعب دفعه بل لا يمكن : أنّ المتبادر من « سبيل المؤمنين » ما صاروا به مؤمنين وهو الإيمان ، وغيره هو الكفر ؛ فإنّ المفهوم من قول القائل : « لا تتّبع غير سبيل الصالحين » هو المنع من متابعة غير سبيلهم فيما صاروا به صالحين ، لا في كلّ شيء حتّى الأكل

ص: 340


1- نسبه البصري إلى النظّام في المعتمد 2 : 4 ، والغزالي في المستصفى : 137.
2- والمراد بها ما يأتي بعد هذا من الآيات والروايات والوجوه العقليّة. وذكر المحقّق الحلّي في معارج الاصول : 127 من الأدلّة العقليّة دليلين. معارج الاصول : 127.
3- منهم : الأنصاري في فواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 2 : 213 ، والفخر الرازي في المحصول 4 : 35.
4- راجع ص 343.
5- النساء (4) : 115.
6- راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 607 - 625 ، والمستصفى : 138 ، والإحكام في أصول الأحكام 1 : 286 ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : 53 و 54 ، ونهاية السؤل 3 : 248.
7- راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 607 - 625 ، والمستصفى : 138 ، والإحكام في أصول الأحكام 1 : 286 ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : 53 و 54 ، ونهاية السؤل 3 : 248.

والشرب وأمثالهما ، وإذا قال السلطان : « ومن يشاقق وزيري ويتّبع غير سبيل المطيعين له لعاقبته » لفهم سبيلهم في طاعة الوزير لا سائر السبل.

ويدلّ على ذلك (1) ، أنّ الآية نزلت في رجل ارتدّ (2).

ومنها : قوله تعالى : ( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) (3) الآية. والوسط : العدول (4) والخيار. والاجتماع على الخطأ ينافي الوصفين.

واعترض (5) عليه بوجوه ، وأظهرها ورودا : أنّ ظاهره (6) يقتضي اتّصاف كلّ واحد من الامّة بالعدالة في الأشياء كلّها ، وهو ظاهر الفساد ؛ لأنّه خلاف الواقع ، مع اقتضائه حجّيّة اتّفاق كلّ بعض وإن كان اثنين ، بل حجّيّة قول واحد منهم. فيجب إمّا تخصيص العدالة بالشهادة على الناس في الآخرة خاصّة كما نقله المفسّرون (7) ، أو تخصيص الخطاب بمن ثبت عصمته ، كما روي عن أئمّتنا عليهم السلام (8). وإن لم يحمل على ظاهره واريد منه اتّصاف مجموع الامّة من حيث المجموع بها ، لم يتحقّق إجماع إلاّ بعد اتّفاق كلّ من كان ويكون منهم ، فلا يفيد.

ومنها : قوله : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) (9) ، أخبر أنّهم ينهون عن كلّ منكر ؛ لأنّ لام الجنس يفيد الاستغراق وهو ينافي الإجماع عليه (10).

وجوابه يعلم ممّا سبق.

ومنها : قوله : ( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ ) (11) إلى آخره ، شرط في [ وجوب ](12) الردّ

ص: 341


1- أي على أنّ المراد من سبيل المؤمنين هو الإيمان.
2- وهو ابن أبي أبيرق سارق الدرع. كما في مجمع البيان 3 : 110.
3- البقرة (2) : 143.
4- كذا. وفي هامش « أ » : « العدل. خ ل » وهو الصحيح.
5- ومن المعترضين الطبرسي في مجمع البيان 1 : 226.
6- فإنّ ظاهره عموم استغراقي إفرادي لا مجموعي.
7- راجع : التفسير الكبير 2 ( الجزء الرابع ) : 112 ، ومجمع البيان 1 : 225.
8- الكافي 1 : 190 ، باب في أنّ الأئمّة شهداء اللّه ، ح 2 و 4.
9- البقرة (2) : 110.
10- راجع : الإحكام في أصول الأحكام 1 : 286 ، ونهاية السؤل 3 : 248.
11- النساء (4) : 59.
12- أضيف بمقتضى السياق.

إلى الكتاب والسنّة وجود التنازع ، فإذا عدم وحصل الاتّفاق لم يجب الردّ إليهما ؛ قضيّة للشرط ، وكفى الاتّفاق وهو معنى كونه حجّة (1).

واجيب (2) عنه بأنّ سقوط وجوب الردّ إليهما إمّا عند حصول الاتّفاق باعتبار الردّ إليهما ، أو عند حصوله لا باعتبار الردّ إليهما. فعلى الثاني يلزم تجويز وقوع الإجماع من غير دليل ، وعلى الأوّل يلزم أن يكفينا (3) من غير حاجة إلى الإجماع (4).

وفيه : أنّا نختار الثاني أوّلا ، ولا يلزم ما ذكر ؛ لأنّ حصوله من دلالة العقل ممكن (5).

ونختار الأوّل ثانيا ، ونقول : لزوم الكفاية لا يستلزم عدم حجّيّة الإجماع ، ولا عدم فائدة فيه ، كما يعلم بعد ذلك.

وقيل : على الثاني يلزم ما ذكر ، وعلى الأوّل يلزم الحكم بسقوط طلب المحال ، وهو باطل.

وجه الملازمة : أنّ طلب الحكم من الكتاب والسنّة بعد ما وجد فيهما محال ، فالحكم بسقوطه يستلزم ما ذكر.

ووجه بطلان اللازم : أنّه عبث ، فلا يصدر عن الحكيم ، فالمراد من الآية الحثّ على طاعة اولي الأمر ، وهو كما ترى.

وقد احتجّوا ببعض آيات أخر (6) تركناها ؛ لبداهة عدم دلالتها على مطلوبهم.

ومنها : قوله عليه السلام : « لا تجتمع امّتي على الخطأ » (7) وهو متواتر معنى ؛ لورود هذا المعنى في أخبار لا تحصى كثرة من طرق الفريقين. ودلالته على المطلب ظاهرة.

واعترض عليه (8) بأنّ التواتر المعنوي شرطه استواء الطرفين والوسط ، ووجوده هنا ممنوع.

ص: 342


1- راجع : الإحكام في أصول الأحكام 1 : 286 ، ونهاية السؤل 3 : 248.
2- ذكره البصري بعنوان « لقائل أن يقول » في المعتمد 2 : 16.
3- أي يكون الحجّة هو الدليل والردّ إلى اللّه والرسول لا الإجماع الحاصل من الردّ إليهما.
4- راجع نهاية الوصول إلى علم الأصول 3 : 179.
5- أي يلزم حصول الإجماع من غير دليل شرعي لا من غير دليل أصلا.
6- منها قوله تعالى : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) ، آل عمران (3) : 103.
7- تقدّم تخريجه في ص 336.
8- ذكره البصري بعنوان « لقائل أن يقول » في المعتمد 2 : 16.

ولو سلّم ذلك ، فلا نسلّم لزوم تواتر القدر المشترك ؛ لأنّه إنّما يلزم ذلك لو كان دلالة تلك الروايات على القدر المشترك بطريق القطع ، وهو ممنوع ؛ لأنّ القدر المسلّم ظهور دلالتها عليه ، فلا يلزم القطع بمعناها ، وذلك كالتواتر اللفظي الظاهر المعنى ؛ فإنّه وإن كان قطعيّ السند لكن لظنّيّة دلالته لا يقطع بمدلوله.

والجواب عن الأوّل : أنّ بعض هذه الأخبار وردت من طريق العامّة ، وبعضها من طريق الخاصّة ، ولا يمكن اتّحاد رواتهما حينئذ في طبقة من الطبقات. وما ورد في كلّ من الطريقين رواته مختلفة في جميع الطبقات إلاّ فيما شذّ ، كما لا يخفى على المتتبّع.

و [ الجواب ] عن الثاني : لا نسلّم ظنّيّة دلالة كلّ واحد منها ، ومع التسليم نقول : يحصل القطع بالقدر المشترك من المجموع ، وهو كاف للمطلوب.

ثمّ لو قطع النظر عن ذلك كلّه ، وقلنا : إنّها أخبار آحاد ، فما يخرجها عن الحجّيّة وإثبات أصل بها ، سيّما مع تلقّي الامّة لها بالقبول؟

واورد على دلالتها بأنّه إن اريد بالامّة جميع امّته ممّن كان ويكون إلى يوم القيامة ، لم يوجد إجماع ، وإن اريد به البعض ، دخل في حيّز المجمل فلا يفيد.

وجوابه : أنّ المراد من الامّة أهل كلّ عصر ، كما هو المتبادر. ويدلّ عليه أخبار أخر ، كقوله عليه السلام : « لا تزال طائفة من امّتي متظاهرين على الحقّ » (1). وقوله عليه السلام : « ما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللّه حسن » (2). وقوله عليه السلام : « من فارق الجماعة قدر شبر فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه » (3).

ثمّ تسليم دلالة هذه الأخبار على حجّيّة الإجماع لا ينافي ما قلنا به ؛ لأنّا موافقون للعامّة في حجّيّته ، إلاّ أنّهم يقولون : حجّيّته لأجل نفس اتّفاق جميع المجتهدين ، فلو خالف واحد منهم خرج عن الحجّيّة على ما يقتضيه قواعدهم ، إلاّ أنّهم اتّفقوا على أنّه يقدح فيه

ص: 343


1- كنز العمّال 12 : 165 ، ح 34501 ، و 284 ، ح 35055 ، و 14 : 46 ، ح 37893. وفيها : « ظاهرين » بدل « متظاهرين ».
2- الدرر المنتثرة : 240 ، ح 379.
3- كنز العمّال 1 : 175 ، ح 886 ، و 278 ، ح 1371.

مخالفة غير النادر واختلفوا فيه كما يأتي (1) ، ونحن نقول : حجّيّته لاشتماله على قول الحجّة ، فلو لم يعلم دخوله فيه ، لم يكن حجّة وإن حصل الوفاق من جميع من سواه ، ولو علم دخوله فيه كان حجّة وإن خالف جماعة. وهذا هو فائدة الخلاف بين الفريقين. وصدق الحجّيّة حينئذ في الإجماع - مع أنّ المناط قول الحجّة - يعلم بعد ذلك. ومن تأمّل في الآيات (2) والأخبار (3) المذكورة ، يجد أنّ دلالتها على حجّيّة الإجماع باعتبار اشتماله على قول بعض خاصّ.

وقد عرفت ذلك في أكثر الآيات المذكورة ، وهو الظاهر من قوله عليه السلام : « لا تزال طائفة » (4) إلى آخره. وأمثاله ، ويدلّ عليه قوله عليه السلام : « لا تجتمع امّتي » (5) إلى آخره ، نظرا إلى أنّ اللام في « الخطأ » للجنسيّة كما اعترف به أكثر العامّة ، فالمفهوم منه أنّ الامّة لا يجتمعون على جنس الخطأ ، ولا ريب في أنّه إذا أخطأ كلّ منهم في مسألة غير ما أخطأ فيه الآخر ، صدق اجتماعهم على جنس الخطأ. وهذا جائز وفاقا لو قطع النظر عن المعصوم ، فلا بدّ من القول بعدم جواز خلوّ العصر عن معصوم مصيب في كلّ أحكامه ؛ لئلاّ يمكن اجتماع الامّة على جنس الخطأ.

ومنها : أنّه يمتنع اجتماع الخلق العظيم على حكم بدون قاطع (6).

واعترض عليه بأنّه يمكن أن يكون ذلك لشبهة ، كما اتّفق لليهود والنصارى والفلاسفة في قدم العالم ، وغيرهم من الفرق المجتمعين على كثير من الأباطيل مع انتشارهم في شرق الأرض وغربها (7).

ومنها : أنّهم أجمعوا على القطع بتخطئة المخالف للإجماع ، ولا ريب في أنّهم - مع كثرتهم العظيمة وتحقيقهم - لا يجتمعون على شيء بدون قاطع ، ومعه يكون خطأ المخالف

ص: 344


1- في ص 351.
2- في ص 340 - 341.
3- في ص 342.
4- في ص 343.
5- في ص 342.
6- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 53.
7- راجع المعتمد 2 : 21.

له حقّا ، ومنه يثبت حجّيّة الإجماع (1).

واعترض عليه (2) بمثل ما اعترض على سابقه.

وربما يدفع عنهما بعدم صدق الإجماع على اتّفاقهم ، كما عرفت (3) من تحديده.

وفيه : أنّ ما احتجّوا به على حجّيّته يجري في اتّفاقهم أيضا من دون تفاوت ، وإن لم يصدق الإجماع المعرّف عليه.

وقد اجيب (4) عن النقض باتّفاق اليهود والنصارى : بأنّهم تبعوا الآحاد من متقدّميهم ؛ لعدم تحقيقهم ، ولذا لم يصل إجماع منهم حدّ الضرورة ، كما اتّفق ذلك في إجماعات المسلمين. فالإجماعات القطعيّة لا يمكن أن تحصل عن شبهة ، وما لم يبلغ حدّ القطع يمكن حصوله منها ، كإجماع اليهود والنصارى وبعض إجماعاتنا.

وعن النقض باتّفاق الفلاسفة بإمكان الاتّفاق على الغلط في العقلي دون الشرعي ؛ فإنّ اشتباه الصحيح بالفاسد في الأوّل كثير والتمييز صعب ، بخلاف الثاني ؛ فإنّ الغلط فيه من جهة اشتباه القاطع بالظنّي ، والتمييز بينهما سهل.

ويرد عليه : أنّ الشرعي قد يكون عقليّا ، كأكثر المقاصد الكلاميّة ، فيلزم عدم حجّيّة الإجماع فيه.

والصحيح أن يجاب عنه بأنّ اتّفاق الفلاسفة إنّما يحصل في المسائل الغامضة بسبب الأدلّة العقليّة ، وامتياز الصحيح عن الفاسد فيها بها صعب جدّا ، بخلاف اتّفاق المجتهدين في الشرعيّات ، فإنّه يحصل فيها بمجرّد قول الشارع وإن كان مفيدا للظنّ ؛ وفهمه سهل.

ثمّ إنّه اورد عليهما (5) بأنّا لا نسلّم لزوم كون إجماعهم عن قاطع ؛ لأنّه كما ينعقد عن القطعي ، يحصل عن الظنّي أيضا. ووجهه ظاهر. وحينئذ لا يفيد القطع.

والقول بأنّ مستنده وإن كان ظنّيّا لكن بعد انعقاده يفيد القطع ، ضعيف ، كما لا يخفى.

ص: 345


1- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 53.
2- حكاه ابن الحاجب في المصدر.
3- ص 336.
4- أجاب به ابن الحاجب في منتهى الوصول : 53.
5- أي على الوجهين العقليّين لحجّيّة الإجماع أورده القاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى 1 : 53.

نعم ، هو حجّة لحجّيّة الظنّ في الشرعيّات. ويمكن أن يقال : حصوله عن الظنّ ينافي قطعهم به مع كونهم من أهل التحقيق.

واورد عليهما (1) بأنّكم أثبتّم الإجماع بنصّ يتوقّف عليه (2) ، فيلزم الدور (3).

وجوابه : أنّا أثبتنا حجّيّة مطلق الإجماع بنصّ دلّ عليه وجود كلّ واحد من الإجماعات أو صورة منها ، وثبوت هذا النصّ ووجود ما دلّ عليه لا يتوقّف على حجّيّة الإجماع ؛ لأنّ وجود الدالّ ودلالته على النصّ - نظرا إلى امتناع انفكاكه عنه عادة - ممّا لا ريب فيه وإن لم نقل بحجّيّة إجماع أصلا ، فما اخذ دليلا للحجّيّة لا يتوقّف عليها بوجه ؛ فاندفع الدور.

ثمّ إنّ إيراد الدور على الدليل الأخير بنحو ما ذكر مبنيّ على ما هو الظاهر منه من إثبات حجّيّة الإجماع بقاطع دلّ عليه صورة الإجماع. ولو حمل على أنّ المراد منه إثبات حجّيّة الإجماع بإجماع معيّن لا ينفكّ عن دليل ، فبيان الدور حينئذ أنّكم أثبتّم الإجماع بالإجماع.

ووجه دفعه : أنّا أثبتنا حجّيّة مطلق الإجماع بوجود إجماع معيّن لا ينفكّ عن دليل عادة ، وهو لا يتوقّف على حجّيّة إجماع أصلا.

ومنها : أنّهم أجمعوا على أنّ الإجماع يقدّم على القاطع ، وأجمعوا أيضا على أنّ غير القاطع لا يقدّم على القاطع ، فلو لم يكن الإجماع قاطعا ، لزم تعارض الإجماعين وهو باطل (4).

واورد عليه : بإمكان كون غير قاطع في نفس الأمر قاطعا باعتقادهم ، فلا يلزم ما ذكر (5).

وفيه : أنّ ذلك يقتضي حصوله عن شبهة ؛ إذ لو كان عن قاطع كان قاطعا في نفس الأمر أيضا. والحاصل عن شبهة لا يقطع الجمّ الغفير من المحقّقين بتقدّمه على القاطع ، فيلزم أن يكون عن قاطع ، فيكون قاطعا في نفس الأمر.

ص: 346


1- أي على الوجهين العقليّين لحجّيّة الإجماع. أورده القاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى 1 : 53.
2- أي يتوقّف النصّ على الإجماع.
3- ذكره ابن الحاجب في منتهى الوصول : 53.
4- راجع شرح مختصر المنتهى 1 : 53.
5- راجع شرح مختصر المنتهى 1 : 53.

والإيراد عليه بإمكان حصوله عن الظنّ ، وجوابه كما سبق (1).

ثمّ إنّه يرد عليه وعلى الدليلين السابقين عليه : أنّ غاية ما لزم منها حجّيّة الإجماع إذا بلغ عدد المجمعين حدّ التواتر وأفاد القطع ؛ لأنّ غيره ( لا يمتنع اجتماع جماعة على مدلوله بدون ) (2) قاطع ، ولا يقطع بتخطئة مخالفه ، ولا تقدّم على قاطع ، فالمقصود منها إثبات حجّيّة الإجماع في الجملة (3).

وما قيل : إنّ الدليل ناهض في إجماع المسلمين من غير تقييد ولا اشتراط ؛ فإنّهم خطّئوا المخالف ، وقدّموه على القاطع مطلقا من غير تعرّض لعدد التواتر (4) ، ضعيف ؛ لأنّه لا ريب في اختلاف الإجماعات بإفادة بعضها القطع ، وبعضها الظنّ ، وتفاوت درجات العلم والظنّ كما يجيء مفصّلا (5) ، والمفيد للظنّ كيف يقدّم على القاطع ويقطع بتخطئة مخالفه؟! بل هذه الأحكام خاصّة بما يفيد القطع.

ثمّ لا يخفى أنّه يحصل من تعاضد هذه الأدلّة وتراكمها العلم بحجّيّة الإجماع في الجملة. وهو إمّا الإجماع القطعي ، أو ما يشتمل على قول الحجّة ؛ لأنّك عرفت (6) أنّ بعضها يدلّ على الأوّل وبعضها على الثاني ، وهما متلازمان ؛ لأنّ كلّ ما يفيد القطع يعلم اشتماله على قول الحجّة عندنا وعند العامّة أيضا ؛ لأنّ ما خالف فيه واحد من المجتهدين لا يكون قاطعا عندهم ، فكيف بالمعصوم؟ وكلّ ما علم اشتماله عليه يفيد القطع عندنا وإن لم يفد عند العامّة ، فهذه الأدلّة تشيّد أركان ما ذهب إليه أصحابنا (7).

وممّا يثبت ما ذهبنا إليه أنّ معظم العامّة ذهبوا إلى أنّه لا يمكن أن ينعقد إجماع من غير مستند (8).

ص: 347


1- ص 346.
2- في « ب » بدل ما بين القوسين : « لم يتحقّق فيه اجتماع الخلق العظيم ، ولا يفيد القطع حتّى يستحال وقوعه من دون ».
3- راجع شرح مختصر المنتهى 1 : 53.
4- راجع منتهى الوصول : 53.
5- في ص 366.
6- في ص 344.
7- راجع نهاية الوصول إلى علم الأصول 3 : 189.
8- راجع : منتهى الوصول : 60 ، وشرح مختصر المنتهى 1 : 137.

ولا ريب في أنّه في الشرعيّات ليس إلاّ قول الشارع ؛ ودليل العقل إن أمكن أن يكون مستندا له فإنّما هو إذا علم أنّه ممّا لا يتخلّف الشارع عن مدلوله.

هذا ، وقد أورد بعض الشكوك على حجّيّة الإجماع ترد عليك مع جوابها في موضعها (1).

فصل [3]

لا ريب في إمكان وقوعه ؛ لإمكان اطّلاع كلّ مجتهد على دليل حكم فيعتقده ، ويتّفق الآراء على ذلك فينعقد الإجماع ؛ وأيضا يأتي بيان إمكان العلم به (2) ، بل وقوعه (3) ، والوقوع العقلي (4) يستلزم الوقوع الإمكاني.

واحتجّ المنكر بأنّ الاتّفاق لا بدّ له من مستند ، والظنّي لا يصلح مستندا له ؛ لأنّ العادة تحيل اتّفاق الأنظار المتباينة على أمر لأجله ، فتعيّن القاطع ، والعادة تحيل عدم نقله واشتهاره ، فإن لم ينقل علم عدمه ، وإن نقل استغني به عن الإجماع (5).

وجوابه : أنّ الاتّفاق عن كليهما (6) جائز.

أمّا عن الظنّي ، فلأنّ العمل به لازم على كلّ مجتهد إذا لم يوجد معارض أقوى منه ، سيّما إذا كان جليّا ، وإلاّ لزم ترجيح المرجوح. وبعد لزومه عليه لا بدّ من اتّفاق الآراء عليه ، وإنّما يمتنع اتّفاق القرائح المختلفة فيما لم يوجد له دليل يتعيّن العمل به.

وأمّا عن القطعي فظاهر. وعدم نقله لا يدلّ على عدمه ؛ لأنّه لمّا وجد ما هو أقوى منه استغني به عن نقله. ونقله لا يغني عن الإجماع ، ولا يجعله غير مفيد ؛ لأنّ تكثير الأدلّة فائدة يعتنى بها ، مع أنّ للعلم مراتب ، فربّما كان العلم الحاصل من الإجماع أقوى من الحاصل من دليله.

ص: 348


1- في ص 363 وما بعدها.
2- في ص 349.
3- عطف على « إمكان » والضمير راجع إلى العلم دون الإجماع.
4- أي العلمي وفي « أ » : « الفعلي ».
5- نسبه الشيخ حسن إلى قوم في معالم الدين : 172 ، والقمّي إلى العامّة في قوانين الاصول 1 : 349.
6- أي الظنّي والقطعي.
فصل [4]

الحقّ إمكان العلم بالإجماع ، بل وقوعه (1) وثبوته في الجملة (2) ؛ فإنّا نعلم قطعا اتّفاق الامّة على بعض الأحكام ، كوجوب الصلاة ومثلها ، واتّفاق الإماميّة على بعضها كحلّيّة المتعتين وشبهها (3) ، واتّفاق الحنفيّة على انعقاد البيع الفاسد (4) ، والشافعيّة على عدمه (5). وما ذلك إلاّ لحصوله وثبوته عنهم.

وحصول هذا العلم إمّا بالتسامع وتطابق الأخبار عليه ، سواء كان الطريق متواترا أو آحادا. أو تتبّع أقوال خواصّ الامّة أو المذهب ، وربّما حصل من مشاهدة أعيان المجمعين وسماع أقوالهم إن اكتفي بالقول ، ومع القرائن الدالّة على مطابقة آرائهم لأقوالهم إن اشترط الرأي (6) ، وهذا يمكن في أزمنة أصحاب الحجج فقط ، ولا يتناول غيرها.

ثمّ كلّ إجماع ليس ممّا يعلم ثبوته ، بل له مراتب مختلفة ؛ لأنّه إمّا قطعي أو ظنّي.

والأوّل إمّا بديهيّ للخواصّ والعوامّ من الامّة أو المذهب ، أو لخواصّ أحدهما ، كالاتّفاق على مسح الرّجلين (7) ؛ فإنّ ثبوته بديهيّ عند خواصّ الإماميّة (8) وإن لم يكن كذلك عند عوامّهم.

أو نظريّ ، وهو أن يحصل للمجتهد العلم به (9) بعد بذل جهده واستفراغ وسعه : إمّا بأن لا يظفر على مخالف وادّعاه عدد التواتر أيضا ، وله اتّصال بالبديهيّ.

والقول بأنّه لا يثبت بالتواتر إلاّ ما كان محسوسا ، والإجماع تطابق آراء المجتهدين

ص: 349


1- عطف على « إمكان » والضمير راجع إلى العلم دون الإجماع.
2- معناه إيجاب جزئي من حيث المعلوم والعالم.
3- راجع : المعتبر 2 : 785 ، والمهذّب البارع 3 : 313.
4- بداية المجتهد 1 : 193.
5- المصدر.
6- أي القسم الثاني من الإجماع المحصّل.
7- راجع : المعتبر 1 : 148 ، وتمهيد القواعد : 55 ، المسألة 11.
8- قاله السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 127 - 130 ، والمحقّق الحلّي في معارج الاصول : 132 ، والفاضل التوني في الوافية : 153.
9- أي بالوقوع.

وهو غير محسوس (1) ، ضعيف ؛ لأنّ المتواتر قول كلّ واحد منهم ، وهو محسوس ودالّ على الرأي ، فالقطع بأقوالهم يستلزم القطع بآرائهم ؛ ومنع الاستلزام - لاحتمال وجود مانع كتقيّة ونحوها - مشترك الورود بينه وبين الخبر ، مع أنّ الأصل (2) عدمه.

وإمّا بأن لا يظفر على مخالف وادّعاه أيضا جماعة لم يبلغوا عدد التواتر ، وكانوا من أهل التدقيق والفحص الشديد.

وإمّا بمجرّد أن لا يظفر بالمخالف وإن لم يضمّ إليه الادّعاء. فإنّ الحقّ - كما يأتي (3) - أنّ حصول العلم حينئذ ممكن له إذا بالغ في الفحص وبذل الجهد ولم يعثر على مخالف ، وحصل له بعض القرائن والأحوال أيضا. وليسمّ هذا بالإجماع الاستنباطي ، أو التتبّعي.

والثاني إمّا أن يحصل به الظنّ القويّ ، بأن لا يعثر على مخالف بعد فحص لم يبلغ حدّا يفيد العلم ، سواء نقله أيضا جماعة لم يبلغوا حدّ التواتر ولم يكونوا من أهل الدقّة والفحص ، أم لا. ويختلف درجات هذا الظنّ في الموارد باختلاف القرائن والخصوصيّات.

وإمّا أن يحصل به الظنّ المتوسّط أو الضعيف. وموارد كلّ منهما ظاهرة.

وكلّ واحد من هذه الإجماعات إذا لم يكن له معارض من الأدلّة الأخر ، يتعيّن العمل به للمجتهد ، كما يأتي (4) ؛ لأنّ الظنّ الحاصل منه ليس أضعف من الظنّ الحاصل من أخبار الآحاد. وإن ضمّت إليه أدلّة أخر صار وجوب العمل به أوضح.

نعم ، العمل في بعض موارد الأخير (5) إذا لم يضمّ إليه دلالة اخرى محلّ تأمّل. وما يصحّ أن يوجد له معارض إذا وجد له ، ينبغي الترجيح على ما يقتضيه نظر المجتهد. هذا إذا لم يوجد لكلّ منها مخالف (6).

ص: 350


1- راجع معالم الدين : 175.
2- والمراد به استصحاب عدم المانع المحتمل.
3- في ص 352.
4- في ص 352.
5- أي الإجماع المظنون بالظنّ المتوسّط أو الضعيف.
6- أي وإن كان له معارض. توضيحه : أنّ المراد بالمعارض هو الدليل من العقل والكتاب والسنّة ، والمراد بالمخالف هو قول أو إجماع آخر مخالف لهذا الإجماض. فيمكن الجمع بين عدم المخالف للإجماع ووجود المعارض له كما هو ظاهر عبارة المصنّف.

وأمّا إذا وجد مخالف ، فربّما حصل القطع بعدم وجود مخالف سوى مخالف نادر ، كالقطع بأنّه لم يخالف في حرمة القياس سوى ابن الجنيد (1) ، وفي استحباب دعاء رؤية هلال رمضان سوى ابن أبي عقيل (2). وحينئذ لا يضرّ هذا المخالف ، ولا يخرجه عن الحجّيّة ، كما يأتي (3).

وربّما حصل الظنّ القويّ أو الضعيف بعدم مخالف غيره.

و (4) ربّما لا يحصل به ظنّ أصلا ، كما إذا ادّعى بعضهم الإجماع على حكم مع ظهور مخالف غير نادر ، بل قد يكون الشهرة على خلافه.

وربّما ادّعى هذا البعض أو بعض آخر الإجماع على خلافه ، كما اتّفق ذلك في كثير من المسائل ، وقد ضبطنا كثيرا من الإجماعات المتناقضة (5) في بعض رسائلنا (6).

ثمّ لكلّ من هذه الأقسام أيضا إمّا أن يوجد معارض أو لا. وعلى التقديرين إمّا أن يكون له معاضد أو لا. وعلى جميع الأقسام والتقادير يلزم الترجيح والعمل بحسب ما يقتضيه نظر المجتهد.

ثمّ الإجماع المنقول إمّا يفيد القطع أو الظنّ بعدم مخالف بحيث يتعيّن العمل بمضمونه - كما تقدّم (7) - فحكمه ظاهر. وإن لم يكن كذلك فيجيء حكمه (8).

وبما ذكرنا ظهر أنّه لا بدّ للمجتهد من التتبّع والتفحّص في كلّ إجماع ليعلم أنّه من أيّ قسم ، ثمّ يحكم بما يقتضيه ، وليس له أن يقلّد غيره من المدّعين للإجماع ، بل لا بدّ له من التتبّع ؛ لأنّ الظاهر أنّ كلّ من يدّعي إجماعا على حكم حصل له العلم ، أو الظنّ به من تتبّع الأقوال والقرائن. ومثل هذا ربّما أفاد لبعض علما ولآخر ظنّا ، وربّما لم يفد لآخر شيئا.

ص: 351


1- حكاه عنه الفاضل التوني في الوافية : 236 ، والوحيد البهبهاني في الرسائل الاصوليّة : 267 و 268.
2- حكاه عنه العلاّمة في مختلف الشيعة 3 : 366 ، المسألة 94.
3- في ص 352.
4- هذا من أقسام قوله : « والثاني » والضمير في « به » راجع إلى الإجماع لا المخالف.
5- والمراد به هو المتخالفة وليس معناه الاصطلاحي ؛ فإنّ الإجماعين من المدّعيين ليسا متناقضين.
6- لم نعثر على رسالته.
7- في ص 350.
8- في ص 365.

هذا ، والحقّ أنّ العلم بالإجماع بكلّ من النقل والتتبّع وكليهما ممكن في الجملة في كلّ عصر ؛ لأنّ فتاوى أعيان القدماء والمتأخّرين محفوظة في الكتب المصنّفة ، فإذا ظهر في حكم من الأحكام المهمّة اتّفاقهم ولم نظفر بالتتبّع التامّ على مخالف له ، علم أنّه مذهب كلّ الإماميّة ؛ إذ العادة لم تجر بأنّ ما لا يكون كذلك لم يقع فيه خلاف ، مع مخالفة أذهانهم ومباينة سلقهم.

واحتمال أن يكون مخالف من المتقدّمين لم يصل خلافه إلى المتتبّع ؛ لخروج قوله عن الكتب المصنّفة ، ينافي اهتمامهم في تتبّع الأقوال وضبطها حتّى الأقوال الشاذّة في المسائل النادرة.

فيتمكّن المجتهد بتتبّع أقوالهم - وإن كان بوجدان بعضها في كتب غير قائله - أن يظفر باتّفاقهم على حكم وإن لم يعثر على نقل إجماع منهم.

ومن الأصحاب من قصر إمكان الاطّلاع عليه بكلّ من النقل والتتبّع على العصر المقارب لظهور الأئمّة ؛ نظرا إلى إمكان حصول العلم حينئذ بأقوالهم بالتتبّع ؛ لقلّتهم ووجود فتاويهم فيه ؛ لأنّ كتب أصحاب الأئمّة كانت حينئذ موجودة ، وخصّص أمثال زماننا بإمكان الاطّلاع عليه من جهة النقل فقط ؛ لعدم إمكان حصول العلم بأقوالهم حينئذ بالتتبّع ؛ لكثرتهم وانتشار أقوالهم ، وعدم وجود مصنّف من كلّ منهم ، واضمحلال كتب أصحاب الأئمّة ، ولم يضبط أصحاب التصانيف أقوال جميعهم في كلّ حكم ، وإلاّ صارت بحيث لا تعدّ كثرة ، فلا يمكن الاطّلاع على جميعها بالتتبّع ولو باستعانة نقل الخلف عن السلف ؛ لأنّ غاية ما يمكن حينئذ الاطّلاع على مذاهب أرباب التصنيف ومعظمهم من المتأخّرين ، ويبقى مذاهب القدماء وأصحاب الأئمّة في حيّز الجهل.

فكلّ إجماع يدّعى من زمان انتشار الأقوال ، كزمان المفيد وما قاربه إلى زماننا هذا ، إمّا أن يكون مستندا إلى نقل متواتر أو آحاد ، أي يكون حدوث ادّعائه من الزمان السابق عليه ، أو لا ، أي يكون حدوث ادّعائه من عصر المفيد وما تأخّر عنه. والثاني ليس حجّة ؛ لما ذكر (1) ، والأوّل حجّة ؛ لاستناده إلى ادّعاء العصر السابق ؛ فإنّ نقلهم حجّة ؛ لتمكّنهم من

ص: 352


1- أي لانتشار الأقوال وعدم الحصول على جميع الأقوال.

الاطّلاع على الاتّفاق ؛ لقلّة المجمعين ووجود فتاويهم. فإذا اطّلع بعض من في عصر المعصوم - مثلا - بالتتبّع على اتّفاق الأصحاب على حكم ، فنقله يكون حجّة لمن تعقّبهم ، ونقلهم - إذا اطّلعوا عليه أيضا بالتتبّع ، أو من نقل من تقدّم - حجّة لمن بعدهم ، وهلمّ جرّا إلى زمان انتشار الأقوال ؛ فإنّ نقل أهله حينئذ حجّة لمن تعقّبهم إذا كان مستندا إلى نقل السابقين. وإذا كان مستندا إلى تتبّعهم ، لم يكن حجّة لمن بعدهم ؛ لعدم تمكّنهم من العلم بأقوال السابقين ، بل المعاصرين أيضا ؛ لكثرتهم وانتشار أقوالهم (1).

وفيه : ما عرفت من أنّ أرباب التصانيف بذلوا جهدهم في ضبط الأقوال ، ونقل كلّ متأخّر قول من تقدّمه ، فلم يخرج قول من ضبطهم ، فيتمكّن أهل كلّ عصر عن العلم بها ، وأصحاب الأئمّة لم يكن من عادتهم أن يصنّفوا كتبا يذكرون فيها فتاويهم ، بل دأبهم أنّ كلّ ما يسمعونه من المعصوم يسندونه إليه ، ولا يقتصرون على مجرّد الفتوى ، كما لا يخفى على المتتبّع لأقوالهم. وأكثر ما أسندوه نقله حفّاظ الأخبار ، كالمحمّدين الثلاثة ، فإن أمكن استنباط مذاهبهم من كتبهم يمكن استنباطها من كتب نقلة الحديث ، مع أنّهم - لشدّة اهتمامهم في ضبط الأقاويل - نقلوا ما اشتهر من فتاويهم ، ولذا نقل فتاوى جعفر والحسن ابني سماعة ، وعليّ بن أسباط ، وعليّ بن الحسين ، وابن حذيفة في باب الخلع من التهذيب (2) ، وفتاوى الحسين بن سماعة ، وعليّ بن إبراهيم بن هاشم ، ومعاوية بن حكيم وغيرهم في باب عدّة النساء منه (3) ، وفتوى جميل بن درّاج في باب المرتدّ والمرتدّة منه (4) ، وفتاوى فضل بن شاذان (5) ، ويونس بن عبد الرحمن في كتاب الميراث من الفقيه (6). وقس عليها غيرها ممّا تطّلع عليه بعد التتبّع. وقد أكثر عنهم النقل في الكافي (7).

ص: 353


1- أشار إليه الشيخ حسن في معالم الدين : 175.
2- تهذيب الأحكام 8 : 97 ، ذيل الحديث 328.
3- المصدر : 124 ، ذيل الحديث 431.
4- المصدر 10 : 137 ، ذيل الحديث 544.
5- الفقيه 4 : 259 ، ذيل الحديث 5603 ، و 286 ، ذيل الحديث 5650.
6- لم نعثر على فتاوى يونس بن عبد الرحمن في الفقيه ولكن روى أحاديث عن الأئمّة عليهم السلام وهي في الحقيقة فتاواه كما في الفقيه 4 : 230 ، ح 5544 و 280 ، ح 5625.
7- الكافي 6 : 92 - 96 ، باب الفرق بين من طلّق على غير السنّة وبين المطلّقة إذا خرجت وهي في عدّتها أو أخرجها زوجها.

ولو سلّم أنّه لم يقع التصريح بخصوص قول كلّ واحد من السابقين ، نقول - كما قال بعض أهل التحقيق (1) - : إنّ أقوالهم لا تخرج عن أقوال اللاحقين ؛ لأنّ نقلة الأخبار وحفظة الآثار - على كثرتهم وانتشارهم في أقطار الأرض - لطول مساعيهم وتوفّر دواعيهم ، أخذوا العلم والرواية عن أصحاب الأئمّة ، ولحقهم آخرون وأخذوا عنهم ، وكذلك تعقّب الخلف السلف ، والآتي الماضي ، وهلمّ جرّا إلى زمن المشايخ المتأخّرين الذين دوّنوا الفقه ، وضبطوا الأقوال ، وميّزوا بين الخلاف والوفاق ، فلا يكون قول من أقوال المتقدّمين خارجا من قولهم وإن لم يقع التصريح به بخصوصه ، فالأقوال في كلّ حكم منحصرة بالأقوال المضبوطة في الكتب الموجودة عندنا الآن ، فإذا تفحّصنا فيها ووجدنا اتّفاق ما فيها من الأقوال على حكم ، علمنا اتّفاق جميع الأصحاب عليه وعدم مخالف له.

ومع قطع النظر عن ذلك كلّه نقول : هنا مقدّمة مسلّمة عند المحقّقين من أهل الكلام والاصول والميزان تسمّى بالقطعيّات العاديّة (2) يستعملونها في المطالب العظيمة يثبت بها مطلوبنا ، وهي أنّه قد يمكن بنحو من التتبّع حصول الاطّلاع على اتّفاق جميع خواصّ طائفة على حكم وهو أن يتتبّع أحد أقوال بعض مشاهيرهم ، فوجدها متطابقة على حكم ، ولم يجد منهم مخالفا ، وانضمّ إليه بعض القرائن الدالّة على الاتّفاق ، فإنّه يجد من نفسه حينئذ العلم به وإن لم يحط بأقوال الكلّ خبرا ؛ لأنّ العادة تحكم بأنّه لو كان فيه مخالف ، لظهر منه أثر فيما بينهم ، فلو وجدنا بالتتبّع تطابق أقوال جماعة من مشاهير القدماء والمتأخّرين على حكم ، فيمكن أن يحصل لنا العلم بالاتّفاق عليه بالمقدّمة المذكورة وإن لم يتتبّع أقوال جميعهم.

ثمّ إنّه ليس المراد أنّه يمكن لكلّ مجتهد تحصيل العلم بالتتبّع بالوفاق في جميع الأحكام الوفاقيّة ؛ فإنّه محال عادة ، بل المراد إمكان ذلك في الجملة.

هذا ، مع أنّه لمّا كان العبرة عندنا في ثبوت الإجماع بدخول قول المعصوم ، فكلّ

ص: 354


1- راجع معالم الدين : 175.
2- راجع : العدّة في أصول الفقه 1 : 13 ، والقواعد الجليّة : 394 ، وشرح المواقف 1 : 62.

اتّفاق حصل منه العلم به يكون حجّة وإن لم يكن اتّفاق الكلّ ، بل وإن علم مخالفة البعض ، كما يأتي (1).

ولا يخفى أنّه على اعتبار النقل في زمان انتشر فيه الأقوال ، يلزم عدم العلم بشيء من الإجماعات.

بيان ذلك : أنّه لا ريب في انتشار الأقوال في عصر المفيد وما قاربه ، وفي أنّ ابتداء حدوث نقل الإجماع إنّما كان فيه ؛ لعدم نقل الإجماع على حكم ممّن تقدّمه إلاّ ممّن شذّ فيما شذّ ، وفي هذا العصر وبعده لا يمكن العلم بالإجماع ، لا بالتتبّع على ما هو الفرض ، ولا بالنقل ؛ لعدم ثبوته ممّن تقدّمهم ، مع أنّه إن وصل نقل إجماع ممّن تقدّمهم إلى طبقة منهم ، لا يمكن أن يفيد العلم أو الظنّ لهم وإن كان متواترا ؛ لأنّه يتوقّف على تتبّع أقوال المعاصرين ومن تقدّمهم من طبقاتهم ، وهو غير ممكن.

هذا ، واحتجّ من أنكر إمكان العلم به مطلقا (2) بأنّه يتوقّف على المشافهة ، أو التواتر (3) ، وهما متعذّران ؛ لانتشارهم شرقا وغربا ، مع احتمال خفاء بعضهم عمدا لئلاّ يتّفق أو يخالف ، أو كذبه في قوله : رأيي كذا ، أو رجوعه قبل قول الآخر به ، أو كونه في مطمورة (4) لا يعرف له أثر إمّا لخموله ، أو أسره ، أو طول غيبته (5).

والجواب : أنّه تشكيك في مقابلة الضرورة ؛ فإنّ اتّفاق كلّ أمّة على ضروريّات دينهم ، واجتماع كلّ فرقة على بديهيّات مذهبهم ممّا يعرفه خواصّهم وعوامّهم بالضرورة ، ولا ريب في أنّه لم يحصل (6) من تفحّص أعيانهم وسماع أقوالهم منهم مشافهة ، بل حصوله من التسامع وتواتر الأخبار عليه كما سبق (7). وكما يجوز ذلك في الضروريّات للخواصّ والعوامّ ، يجوز

ص: 355


1- في ص 357.
2- أي سواء كان المعلوم إجماعا محصّلا أو منقولا.
3- التواتر في المنقول والمشافهة في المحصّل.
4- المطمورة : حفرة يطمر فيها الطعام أي يخبأ. الصحاح 2 : 4. « ط م ر ».
5- حكاه الفخر الرازي في المحصول 4 : 22 ، والآمدي عن أحمد بن حنبل في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 256.
6- أي العلم بالاتّفاق.
7- تقدّم في ص 349.

في القطعيّات النظريّة للخواصّ فقط ، وأيّ استبعاد في حصول القطع في بعض الموارد للخواصّ ، أو بعضهم فقط بعد تجويز حصوله في بعضها لهم وللعوامّ أيضا؟. ولو صحّ المنع في الثاني ، لصحّ في الأوّل أيضا من دون فرق ، مع أنّ منكره كافر. ثمّ طريق حصول العلم للعوامّ منحصر بما ذكر ، وللخواصّ به وبالتتبّع ، كما تقدّم (1).

والإيراد عليه بأنّ العلم بالإجماع على الضروريّات والقطعيّات النظريّة - كتقديم القاطع على المظنون - وإن كان ممكن الحصول ؛ لأنّ حصوله ليس من جهة النقل والفحص ، بل من طريق العقل ؛ لأنّ حقيقة الحكم لمّا كانت ظاهرة للعقل يحكم بعدم مخالفة أحد من العقلاء ، والإجماع فيها لا يفيد شيئا ؛ لظهور الحكم عند العقل مع قطع النظر عنه ، ولذا يحكم به على ثبوت الإجماع دون العكس ، فهي لا تنتهض نقضا على الدليل المذكور ، ومحلّ البحث ما ليس للعقل سبيل إليه ، كأكثر المطالب الفقهيّة التي يستدلّ عليها بالإجماع ويحصل العلم بها منه ، ولا يمكن الاطّلاع على الإجماع عليها ؛ لما ذكر في الدليل (2).

فساده ظاهر (3) ؛ لأنّ أكثر الضروريّات ، كوجوب الصلاة والصوم وغيرهما لا سبيل للعقل إليها ، فلا يحكم بثبوتها فضلا عن الحكم بثبوت الإجماع عليها. وفيما له إليه سبيل لا يمكن له أيضا الحكم بالإجماع عليه ؛ لأنّ أكثر القطعيّات النظريّة التي يجزم بها العقل ممّا وقع فيه الخلاف ؛ فإنّ أجلى القطعيّات عندهم ثبوت الصور الذهنيّة ، وعدم جواز الترجيح بلا مرجّح ، وتخلّف (4) المعلول عن العلّة التامّة ، مع أنّه خالف في كلّ منها جماعة كثيرة (5). والعلم بالإجماع لا يتوقّف على تفحّص أشخاص المجمعين وسماع أقوالهم منهم مشافهة حتّى يرد ما ذكر في دليل الخصم ، بل الطريق إليه أحد الوجوه التي أشرنا إليها ، وهي تجري في القطعيّات (6) وغيرها.

ص: 356


1- تقدّم آنفا.
2- راجع شرح مختصر المنتهى 1 : 24 و 25.
3- جواب للإيراد.
4- عطف على « الترجيح ».
5- راجع : المعتمد 2 : 315 ، وتهذيب الوصول : 254 ، ونهاية السؤل 4 : 446.
6- في « ب » : « العقليّات ».
فصل [5]

مدرك حجّيّة الإجماع عندنا اشتماله على قول المعصوم عليه السلام ، فمجرّد العلم به لا يكفي عندنا في حجّيّته ، بل لا بدّ فيها من العلم بدخول قوله عليه السلام ، إلاّ أنّ أصحابنا ذكروا أنّ الأوّل ملزوم للثاني (1).

ولهم في بيان ذلك ثلاث طرق :

[ الطريق ] الأوّل (2) : ما ذهب إليه جماعة منهم المرتضى رحمه اللّه (3) ، وهو أنّه إذا علم اتّفاق جميع فقهاء الإسلام أو الشيعة على حكم ، علم دخول رئيسهم فيه وإن لم يتميّز شخصه ولا قوله. ويثبت ذلك من قياس واضح المقدّمات ، هو أنّ هذا الحكم ممّا أجمع عليه - مثلا - جميع خواصّ الدين أو المذهب ، وكلّ ما أجمع عليه جميع هؤلاء يكون رئيسهم من جملة المجمعين عليه ، فينتج المطلوب ؛ والصغرى ظاهرة بعد ما دريت من إمكان حصول القطع باتّفاق جميع خواصّ الدين أو المذهب على حكم ، والكبرى ضروريّة ؛ لبداهة اندراج المعصوم في جميع من يصدق عليهم لفظ « الخواصّ » وأمثاله.

وهذا الطريق يجري في كلّ إجماع كان في جملة المجمعين من يجهل أصله ونسبه ، وعلم عدم مخالف له أصلا ، أو عدم مخالف مجهول النسب ، ولا يضرّ مخالفة معلوم النسب ما لم تبلغ حدّا يقدح في العلم بعدم مخالفة مجهول النسب ؛ فإنّه إذا صار من خالف ممّن يعرف نسبه كثيرا ، شكّ في مخالفة مجهول النسب ، بل قد يظنّ أو يعلم ذلك ، فلا يقطع حينئذ بدخول المعصوم. ومنه يثبت استلزام مثل هذا الإجماع للاطّلاع على دخوله عليه السلام فيه كلّيا ، ويكون حجّة لكشفه عنه.

والقول بأنّه لا يكاد يتحقّق إجماع علم دخوله في جملة المجمعين ولم يتميّز شخصه ؛ لامتناع حصول مثله في زمان الغيبة وهو ظاهر ، وفي زمان الحضور أيضا ؛ لأنّ المعصوم فيه

ص: 357


1- أي العلم بالإجماع علّة للعلم بدخول قوله عليه السلام.
2- هذا هو المعروف بالإجماع الدخولي.
3- الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 128 و 129 ، والمحقّق الحلّي في معارج الاصول : 132 ، والشيخ حسن في معالم الدين : 173.

كان ظاهرا يعرفه كلّ أحد ، وكان شخصه وقوله متميّزين ، فإذا صدر منه حكم فيه يكون الحجّة فيه ، ويكون الإجماع لغوا ؛ لأنّ حجّيّته وفائدته لكشفه عنه وهو حينئذ لظهوره في نفسه لا يحتاج إلى كاشف (1).

ضعيف ؛ لأنّه ليس المراد من دخول المعصوم في جملة المجمعين أن يكون شخصه داخلا في جملة أشخاصهم ، بل المراد منه أنّه يكون قوله موافقا لأقوالهم ، وحينئذ يمكن انعقاد مثل هذا الإجماع في زمان الغيبة والحضور مع وجود شاهد له من النصوص وبدونه.

أمّا في زمان الغيبة ، فبأن يظفروا فيه على نصّ فيجمعوا على مدلوله ، ويكون إجماعا مفيدا لمن بعدهم ، سواء فقد عنهم ما كان شاهدا له من النصّ ولم يصل إليهم ، أو عثروا عليه.

أمّا الأوّل : فظاهر ؛ لكشفه عن رأي المعصوم وانحصار الكاشف به.

وأمّا الثاني : فلكشفه عنه أيضا. ووجود النصّ لا يجعله لغوا ؛ لأنّ النصّ من حيث هو ليس حجّة ، بل حجّيّته أيضا لكشفه عن رأي المعصوم ، فهما متساويان في الدلالة على رأيه ، فاعتبار أحدهما وإلغاء الآخر تحكّم (2). وكون النصّ كاشفا عنه بلا واسطة دون الإجماع لكشفه عنه بواسطته ، ممّا لا يصلح حجّة لتعيّن اعتبار الأوّل وإلغاء الثاني.

نعم ، يمكن العكس ؛ لتساويهما في الفائدة المذكورة مع زيادة فائدة في الإجماع ، وهو كونه قاطعا كما هو المفروض ، وجواز كون الإجماع قاطعا مع ظنّيّة مستنده ممّا لا ريب فيه ، بل هو واقع ؛ فإنّ كثيرا من الأحكام البديهيّة ممّا يحكم بكفر منكره وقتله مع أنّ مستنده إمّا الآية ، أو خبر الواحد ، وكلّ منهما ظنّي ، فالتكفير والقتل إنّما ترتّبا على الإجماع لا على مستنده. وربّما يكون الحكم قطعيّا مع أنّه لم يرد به شيء من آية ولا خبر ، كانفعال المياه المضافة والمائعات ، ونجاسة أبوال ما لا يؤكل لحمه. وربما دلّ العمومات مع ذلك على خلافه ، كمحرميّة أمّ الزوجة.

والحقّ أنّ ذلك (3) لا يخرج النصّ عن كونه مفيدا ، بل له فائدة أيضا وإن كان الإجماع أولى

ص: 358


1- راجع نهاية الوصول إلى علم الأصول 3 : 251 - 252.
2- يفهم من هذا أنّ الإجماع المحتمل المدرك أو مقطوعه عنده قدس سره حجّة.
3- أي تقديم الإجماع على حكم على النصّ الموافق.

بالاعتبار منه وكافيا في الحجّيّة ؛ لأنّ تكثير الأدلّة من الفوائد المهمّة وإن كان واحد منها قاطعا ؛ فإنّ للقطع مراتب كما سبق.

ثمّ النصّ الذي ينعقد الإجماع على مدلوله في زمان الغيبة لا يلزم أن يكون من إمام عصرهم ؛ لأنّ انعقاد الإجماع في زمان الغيبة غير موقوف على دخول خصوص قول إمام العصر في أقوالهم ، بل يصحّ انعقاده على طبق قول غيره من الأئمّة ؛ لأنّ قول كلّ منهم حجّة حيّا وميّتا.

وأمّا في زمان الحضور ، فبأن يسمعوا منه حكما مشافهة أو بواسطة النقل فيجمعوا عليه ، ويكون حجّة مفيدة لمن يعقبهم على التقديرين ، كما سبق (1). ويزيد هنا (2) على سابقه بإمكان اطّلاعهم على رأيه في حكم شرعي من غير أن يصرّح به وينقل لهم خبر خاصّ عنه ؛ لأنّه يمكن حصول العلم لخواصّ رئيس برأيه وإن لم يصرّح به ، ولم ينقل عنه نصّ بخصوصه ، ويمكن حصوله لغيرهم أيضا من تتبّع أفعالهم وأقوالهم ، فإنّ الضرورة قاضية بأنّ كثيرا ما يقع في الوجود أن يعلم أو يظنّ أنّ رجلا معتقده وطريقته كذا من غير أن ينقل عنه خبر خاصّ فيه. ومنه علمنا بوجوب المسح على الرجلين ؛ فإذا أجمعوا حينئذ على ما اطّلعوا عليه من رأيه ، فلا ريب في كون إجماعهم هذا مفيدا ؛ لانحصار الكاشف عن رأيه به.

واعلم أنّه - على ما ذكر (3) - لا كلام في استلزام كلّ إجماع قطعي علم عدم مخالف له أصلا ، أو عدم مخالف مجهول النسب له ؛ للعلم بدخول قوله عليه السلام ، ولا يتخلّف ذلك عن صورة منه ، فثبت الاستلزام الكلّي.

نعم ، يختلف الملزوم بالنسبة إلى الأشخاص ، فربّ إجماع قطع بعضهم بعدم مخالف له ولم يقطع به آخر ، فعند الأوّل يحصل العلم بدخول قوله ، وعند الثاني لا يحصل به. وهذا لا ينافي الاستلزام الكلّي ؛ لأنّه على (4) تقدير تحقّق الملزوم ، وهو أن يعلم اتّفاق جميع العلماء بحيث لم يخالف منهم أحد ، أو خالف معروف النسب مع وجود مجهول النسب فيهم ،

ص: 359


1- أي تقديري عثور من بعدهم عليه وعدمه ، كما سبق في ص 358.
2- أي زمان الحضور.
3- في ص 357.
4- الظرف خبر « أنّ » والضمير راجع إلى الاستلزام.

سواء تعارضت فيما اتّفقوا عليه أدلّة أخر أو لا ، وسواء وجد له شاهد أو معارض منها أو لا.

ثمّ إنّك قد عرفت فيما سبق (1) اختلاف مراتب الإجماعات في العلم بها ، فمنها : قطعيّ بديهيّ ، ومنها : قطعيّ نظريّ ، ومنها : ظنّيّ ؛ فيتبعها العلم بدخول قوله أيضا في ذلك ، ويختلف مراتبها فيه أيضا. ففي الأوّل يكون العلم بدخول قوله بديهيّا ، وفي الثاني قطعيّا نظريّا ، وهكذا.

[ الطريق ] الثاني : ما ذهب إليه معظم المحقّقين (2) ، وهو أنّه إذا علم اتّفاق جمع من الفقهاء على حكم علم أنّهم أخذوه من قدوتهم ؛ لأنّه يمتنع عادة اتّفاق طائفة من خواصّ رئيس على حكم من غير أن يصدر عنه ، سواء كانوا جميع خواصّه أو بعضهم ، بعد أن علم أنّهم لا يرون الحجّة إلاّ في قوله ، ولا يقولون إلاّ عن رأيه.

وهذا يجري فيما يجري فيه الطريق الأوّل ، وفي غيره ممّا شكّ فيه في وجود مخالف مجهول النسب له ، بل فيما ظنّ أو علم له ذلك أيضا ، إلاّ أنّ هذا ليس كلّيّا بحيث كلّما علم اتّفاق جمع حصل منه العلم بدخول قوله عليه السلام ، بل يختلف ذلك باختلافهم في الفتوى والورع ، فربّما حصل من اتّفاق ثلاثة أو اثنين ، وربّما لم يحصل من اتّفاق خمسين ، ويختلف ذلك بالنسبة إلى العاملين أيضا.

فالمناط على هذا الطريق اتّفاق يعلم أنّ المتّفقين لا يجزمون بحكم من غير أخذه عن قدوتهم ، ولذا لا يقدح فيه مخالفة معروف النسب ومجهوله ، ولا يشترط وجود مجهول النسب فيهم.

ويمكن انعقاد مثله في زمان الحضور ؛ لأنّه إذا اتّفق فضلاء أصحاب الصادق عليه السلام - مثلا - على حكم يمكن حصول العلم لبعض بأنّهم أخذوه منه عليه السلام وإن خالفهم بعض ، وفي زمان الغيبة أيضا ؛ لأنّه إذا أجمع جماعة من متقدّمي أصحابنا ومتأخّريهم على حكم مع تطابق أقوالهم على أنّ الإجماع من حيث هو ليس حجّة ، بل حجّيّته لكشفه عن الحجّة - كما

ص: 360


1- في ص 349.
2- منهم : الشيخ في العدّة في أصول الفقه 2 : 602 ، والمحقّق الحلّي في معارج الاصول : 126 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 211.

لا يخفى على الناظر في كتبهم الاصوليّة (1) والفروعيّة (2) - يمكن حصول القطع حينئذ باشتماله على دخول قول المعصوم.

فظهر ممّا ذكر صحّة كلّ من الطريقين ، وأنّ كلّ ما يصحّ إثبات حجّيّته بالطريق الأوّل يصحّ بالثاني أيضا ، إلاّ أنّه لا بدّ لكلّ مجتهد من الفحص عن كلّ إجماع ليعلم أنّه ممّا يمكن إثبات حجّيّته بكلّ منهما ، أو بالثاني فقط.

فعلى الأوّل : إن حصل له العلم بنفس الإجماع يحصل له العلم بدخول قوله عليه السلام أيضا كما سبق (3) ، ولا ريب حينئذ في حجّيّته وتعيّن العمل به. وإن حصل له الظنّ به يحصل له الظنّ به أيضا ، ويتعيّن العمل به إن لم يكن له معارض ، سواء كان له معاضد أو لا. وإن كان له معارض ، وجب عليه النظر في كلّ منهما وما يعاضدهما ، واعتبار القواعد المقرّرة في الترجيح ، فيأخذ بأقوى الظنّين الحاصلين منهما.

وعلى الثاني : يلزم عليه أن ينظر بأنّه هل هو ممّا يحصل به القطع على اشتماله على قول المعصوم فيجب عليه العمل به ، أو يحصل به الظنّ على اشتماله عليه ، أو لا يحصل به شيء منهما؟ وعلى الأخيرين : هل يوجد له مخالف أو لا؟ وعلى التقادير : هل يوجد له معاضد أو معارض من الأدلّة الأخر أو لا؟ وعلى جميع الصور : هل يدّعى إجماع على خلافه أو لا؟ فتصير الصور كثيرة. ولا بدّ له في كلّ منها من النظر ، واعتبار الضوابط الممهّدة للترجيح ، والأخذ بما يقتضيه.

[ الطريق ] الثالث (4) : ما ذهب إليه الشيخ ، وهو أنّه تواتر الأخبار بأنّه إذا وقع إجماع على باطل يجب على الإمام أن يظهر القول بخلافه ، فإذا لم يظهر ظهر أنّه حقّ (5) ، وايّد ذلك بحجّيّة تقريره عليه السلام.

قيل : هذا يجري في إجماع لم يكن له مخالف أصلا ، ولم يوجد خبر على خلافه ؛ لأنّ

ص: 361


1- المصادر.
2- المعتبر 1 : 31 ، وتمهيد القواعد : 251.
3- في ص 359.
4- هذا هو المعروف بالإجماع اللطفي.
5- العدّة في أصول الفقه 2 : 641 و 642.

القائل به لم يقل بأنّه يجب على الإمام أن يعرّفهم نفسه ويردّهم ، بل اكتفى بمجرّد ظهور قول منه بخلاف ما أجمعوا عليه ، وهو يتحقّق بنصّ منه ، وبمخالفة فقيه جهل أو عرف (1).

لا يقال : الأخبار الواردة في هذا الباب تدلّ على أنّ الأرض لا تخلو في كلّ زمان عن حجّة لئلاّ يقع الناس في باطل وضلالة (2) ، فيلزم منه حقّيّة ما استمرّ بينهم ، ونحن نرى أحكاما إجماعيّة خالف فيها فقيه ، أو ورد خبر على خلافها ، ومع ذلك استمرّت من الصدر الأوّل إلى زماننا هذا ، ولو لم تكن صحيحة وكان مخالفة الفقيه ، أو ورود الخبر إلقاء الخلاف منه عليه السلام ، لكان اللازم رجوعهم منها.

لأنّا نقول : وإن دلّ بعضها في بادئ النظر على ذلك ، إلاّ أنّه يخالف ما هو الظاهر من عدم وجوب الردّ القهريّ عليه ؛ لأنّ شأنه إراءة الطريق ، فيجب حملها على أنّ المراد منها أنّ الأرض لا تخلو عنه ليعرف الناس الحقّ والباطل ، كما يدلّ عليه بعض آخر منها.

نعم ، يمكن أن يقال حينئذ : إنّ إلقاء الخلاف على النحو المذكور (3) لا يكفي في إراءة الطريق ؛ لأنّ دأب الفقهاء عدم الاعتناء بمخالفة واحد سيّما إذا كان معروف النسب ، والحكم بشذوذ خبر خالف الإجماع ولزوم طرحه. وعلى هذا لا يضرّ شيء منهما (4) بهذا الطريق.

ولكنّ أصل الطريق لا يخلو عن مناقشة ؛ لأنّه يفهم من هذه الأخبار وجوب وجود الإمام في كلّ عصر لهداية الناس إلى جميع الأحكام على ما هي عليه في الواقع ، بحيث لا يزاد شيء فيها ولا ينقص شيء عنها ، ولا يهمل شيء عنها ، وهذا كما يدلّ على أنّه لا يتركهم أن يجتمعوا على الخطأ ، يدلّ على أنّه يدفع عنهم الخلاف بحيث لا يرتابوا في شيء منها ، ويقيم كلّ واحد من حدود اللّه وأحكامه بحيث لا يعطّل شيء منها ، مع أنّا نرى أنّ جلّ الأحكام الإلهيّة معطّلة ، كالحدود ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والمسائل الخلافيّة المشكلة كثيرة ، والإشكال في بعضها بلغ حدّا حارت فيه الأنظار ، ولا يكاد يهتدي

ص: 362


1- حكاه الشيخ في العدّة في أصول الفقه 2 : 603.
2- راجع الكافي 1 : 178 - 180 ، باب أنّ الأرض لا تخلو عن حجّة.
3- أي مخالفة فقيه أو ورود نصّ.
4- أي مخالفة فقيه أو ورود خبر.

إليه الأفكار ، ولا ريب أنّ المصيب فيها واحد وغيره على الخطأ ، فكان اللازم على الإمام أن يبيّن لهم وجه التفصّي ، ويقيم الأحكام كما هي بمقتضى هذه الأخبار.

وبيان وجه التفصّي على النحو المتعارف بين القوم لا يكفي لبيان إراءة الطريق ، ولو كفى لم يحتج إلى إمام في كلّ عصر ، وهو خلاف ما دلّ عليه الأخبار. فالصحيح أنّ المراد من الأخبار أنّه يجب وجود إمام في كلّ عصر ؛ ليفعل ما ذكر إلاّ أنّ فعله ذلك مشروط بعدم تقيّة (1) ، أو مصلحة اخرى في عدم إظهاره ، وبدونه - كما في زمان الغيبة - لا يجب عليه ذلك ، وحينئذ كما لا يجب عليه إقامة الحدود وبيان المسائل الخلافيّة ، لا يجب عليه ردّ الناس إلى الحقّ لو اجتمعوا على الخطأ.

هذا ، والمنكر لحجّيّته إمّا منكر لحجّيّة الإجماع المعتبر عند الخاصّة ، أو عند العامّة.

واحتجّ الأوّل بوجوه ضعيفة عمدتها : أنّ كلّ إجماع يدّعى أو يستنبط إمّا يعلم اشتماله على قول المعصوم ، فيكون الحجّة قوله والإجماع لغوا ؛ أو لا ، فلا يكون حجّة (2).

وقد عرفت جوابه (3).

والثاني بقوله تعالى : ( وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) (4) ، وقوله : ( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ ) (5) ونحوهما ، دالاّ على أنّ مرجع الأحكام الكتاب والسنّة لا غير.

وبما ورد نهيا عامّا لكلّ الامّة عن خطأ ما نحو : ( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) (6) وأمثاله ، ومنه قوله عليه السلام : « لا ترجعوا بعدي كفّارا » (7) ولو لا جواز اجتماعهم عليه ما أفاد.

وبخبر معاذ ، حيث سأله النبيّ صلى اللّه عليه وآله عن أدلّة الأحكام فعدّ ما عدّ - كما سبق (8) - ولم يعدّ

ص: 363


1- في النسختين « نفيه » ، والصحيح ما أثبتناه.
2- راجع الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 129.
3- في ص 358.
4- النحل (16) : 89.
5- النساء (4) : 59.
6- البقرة (2) : 196.
7- وسائل الشيعة 29 : أبواب القصاص في النفس ، الباب 1 ، ح 3.
8- في ص 330.

منها الإجماع ، وأقرّه النبيّ صلى اللّه عليه وآله (1).

وبقوله صلى اللّه عليه وآله : « بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ » (2) وكذا « تعلّموا الفرائض وعلّموها ، فإنّها أوّل ما تنسى » (3).

وقوله عليه السلام : « خير القرون القرن الذي أنا فيه ، ثمّ الذي يليه ، ثمّ الذي يليه حتّى يبقى حثالة (4) كحثالة التمر لا يعبأ اللّه بهم » (5). دلّت هذه الأخبار على خلوّ الزمان من جمع تقوم الحجّة بقولهم (6).

والجواب عن الأوّل : أنّ كون الكتاب تبيانا لكلّ شيء لا ينافي كون غيره أيضا تبيانا.

وعن الثاني : أنّه يختصّ بالمنازع فيه ، والمجمع عليه لا يفتقر إلى الردّ ، ولذا عدّ (7) من أدلّة حجّيّة الإجماع ، كما سبق (8).

وعن الثالث : أنّه منع لكلّ واحد لا للكلّ. وعلى فرض التسليم نقول : النهي لا يستلزم الوقوع.

وعن الرابع : أنّه لم يذكر الإجماع لعدم تقرّر مأخذ حجّيّته بعد.

وعن الأخبار الأخيرة : أنّها تدلّ على انقراض علماء الإسلام ، وحينئذ لا يتحقّق إجماع حتّى يكون حجّة.

والخبر الأوّل منها (9) يدلّ ظاهرا على أنّ أهل الإسلام هم الأقلّون في ابتدائه وانتهائه ، وحينئذ لا يدلّ على المطلوب أصلا.

وإذا عرفت ذلك فلا يخفى عليك ما يتفرّع عليه من المسائل الوفاقيّة والخلافيّة ، وموارد

ص: 364


1- كنز العمّال 10 : 594 ، ح 30291 ، ووسائل الشيعة 27 : 52 ، أبواب صفات القاضي ، الباب 6 ، ذيل الحديث 38.
2- كنز العمّال 1 : 240 ، ح 1201.
3- المصدر 10 : 166 ، ح 28862 باختلاف يسير.
4- الحثالة : كلّ ما يسقط من قشر الشعير والأرزّ والتمر وكلّ ذي قشارة إذا نقّي. الصحاح 3 : 4. « ح ث ل ».
5- جامع الاصول 8 : 547 - 551 ، ح 6355 - 6360 ، وكنز العمّال 11 : 526 - 527 ، ح 32449 - 32457 باختلاف في العبارات.
6- حكاها جميعا الفخر الرازي في المحصول 4 : 51 - 53.
7- والضمير المستتر راجع إلى قوله : ( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ .... )
8- تقدّم في ص 363.
9- وهو قوله : « بدأ الإسلام غريبا ... ».

التفريع فيه متعدّدة ، وكيفيّته في الجميع ظاهرة عليك بعد الإحاطة بما ذكر. مثلا : لو عثرت على إجماع وعلمت أنّه لم يخالف فيه سوى معروف النسب ، تعلم أنّه لا عبرة به ، سواء كان واحدا أو ألفا. وكذا لو خالف مجهول النسب إن حصل (1) لك العلم بدخوله عليه السلام. وهذا ما يقتضيه اصولنا ، كما عرفت مفصّلا (2).

وأمّا العامّة ، فاتّفقوا على عدم انعقاد الإجماع بمخالفة غير نادر ، واختلفوا في انعقاده بمخالفة النادر وعدمه على أقوال : ثالثها : عدم انعقاده وكونه إجماعا قطعيّا ، إلاّ أنّه يكون حجّة (3).

أمّا الأوّل : فلأنّ الأدلّة لم تنهض إلاّ في اتّفاق كلّ الامّة.

وأمّا الثاني : فلأنّه يدلّ ظاهرا على وجود راجح ، وإلاّ لم يذهب إليه الأكثر.

والحقّ أنّه لا يقدح مخالفة النادر في تحقّق إجماع كلّ الامّة ؛ لاضمحلاله كاضمحلال شعرات بيض في حيوان أسود ، ولذا لا يمنع (4) صدق الأسود عليه. فالحقّ أنّ النادر يلحق بجنسه لا بنفسه (5).

ويتفرّع عليه فروع كثيرة ، كبقاء الخيار لو طال مجلس المتعاقدين بحيث يخرج عن العادة ؛ إلحاقا له بجنسه ، وإلحاق الولد به (6) لو أتت به لستّة أشهر أو سنة ؛ لما ذكر. وقس عليها أمثالها.

فصل [6]
اشارة

الإجماع المنقول قد يفيد القطع ، وهو المنقول بالتواتر.

واستبعاد تحقّق التواتر في النقل - لتوقّفه على وجود عدد التواتر في جميع طبقات

ص: 365


1- هذا القيد راجع إلى الفرض الثاني كما يأتي في ص 369 ، فيقال : كيف لا يضرّ مخالفة ألف معروف النسب في تحقّق الإجماع؟!
2- تقدّم في ص 357.
3- قاله الغزالي في المستصفى : 146 و 155 ، والفخر الرازي في المحصول 4 : 181 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 294 ، ونسبه أيضا إلى الأكثر.
4- أي وجود شعرات بيض.
5- أي الأقلّ محكوم بحكم الأكثر.
6- أي بالوالد.

الناقلين ، وسماع الطبقة الاولى مشافهة عن جميع أهل الإجماع المنتشرين في المشارق والمغارب ، ونقلهم للثانية وهم للثالثة وهكذا إلى الأخيرة وهو بعيد - تشكيك في مقابلة الضرورة ، كما تقدّم (1).

وقد يفيد الظنّ ، وهو المنقول بخبر الواحد. وهو مثله في الحجّيّة ؛ لكون كلّ منهما إخبارا عن رأي المعصوم فيشتركان في الدليل. ويجري فيه ما يجري في الخبر صحّة وضعفا ، وإسنادا وإرسالا إذا نقله من لم يكن من أهل الإجماع ، ولم يدركهم وأسنده إلى واحد منهم ، ووقفا إذا لم يسنده. وإذا لو نقله ثقة ولم يكن له معارض ، يجب العمل به ، وإن كان له معارض ، يجب أن يفرض خبرا إن نقله واحد فقط ، وخبرين إن نقله اثنان وهكذا. وينظر في معارضه وفي القواعد المصحّحة للترجيح ، ويحكم بما يقتضيه.

وربّما قيل بأولويّته لقطعيّة دلالته دون الخبر (2).

وفيه : أنّ الخبر إن كان مجملا فليس بحجّة ، وإن كان نصّا فدلالته قطعيّة. واحتمال كونه ظاهرا وكون خلافه مرادا يأتي فيه أيضا ؛ لأنّ ناقل الإجماع إمّا أن يطّلع عليه بالسماع من المجمعين ، أو بما نظر من عباراتهم الدالّة على آرائهم. واحتمال خلاف الظاهر - كالتجوّز والتخصيص وغيرهما - في كلّ منهما قائم.

وقيل بأولويّته باعتبار احتياج الخبر الآن إلى تعدّد الوسائط في النقل ، وانتفاء ذلك في الإجماع ، وقلّة الوسائط من وجوه الترجيح (3) ، كما يأتي (4).

واورد عليه بأنّه معارض في الغالب بقلّة الضبط في نقل الإجماع من المتصدّين له بالنسبة إلى نقل الخبر ، والنظر في باب التراجيح إلى وجه من وجوهها مشروط بانتفاء ما يساويه. أو يزيد عليه في الجانب الآخر (5).

واحتجّ بعضهم على حجّيّته بقوله صلى اللّه عليه وآله : « نحن نحكم بالظاهر » (6) أي بما يفيد الظنّ.

ص: 366


1- في ص 355.
2- قاله الشيخ حسن في معالم الدين : 181.
3- المصدر.
4- في ص 367.
5- حكاه الشيخ حسن في معالم الدين : 181.
6- ذكره ابن الحاجب في منتهى الوصول : 78.

وهو خلاف الظاهر ؛ لأنّ الظاهر منه هنا ظاهر (1).

هذا ، واحتجّ المنكر لحجّيّته بأنّه إثبات أصل بظاهر (2).

وفيه : أنّ المختار جوازه - كما اشير إليه - ولذا اثبتت السنّة به ، وهي أعظم الاصول.

واعلم أنّه كما يفيد خبر الواحد العلم بانضمام القرائن المفيدة إليه ، فكذا الإجماع المنقول به ؛ لاشتراك الدليل بينهما. وكيفيّة التفريع بعد ما ذكر ظاهرة.

تتمّة

قد ظهر ممّا ذكر أنّ حكم الإجماع حكم الخبر بعينه ، فيشترط في قبوله ما يشترط هناك ، ويثبت له الأحكام الثابتة له من التعادل والترجيح وغيرهما ، فمن نقله لا بدّ له من بيان الطريق التي وصل بها إليه حتّى ينظر إليها في مقام الترجيح ، فربّما علمه بإحدى الطرق المفيدة للعلم ، كالتواتر والخبر المحفوف بالقرائن ، وربما اطّلع عليه بإخبار واحد ولا يكون مفيدا للعلم ولا بدّ له من بيانه ؛ لأنّ النقل بالإطلاق يشعر الاستناد إلى العلم ، فلو لم يكن مستندا إليه يلزم التدليس.

فصل [7]
اشارة

خرق الإجماع المركّب باطل عندنا ، وله صورتان (3) :

إحداهما : أن يختلف أهل العصر على قولين لا يتجاوزونهما ، كأن يطأ المشتري البكر ثمّ يجد بها عيبا ، فقيل : الوطء يمنع الردّ (4) ، وقيل بجوازه مع الأرش (5). وخرقه بأن يحدث قول ثالث ويقال بجوازه مجّانا. وكذا لو اختلفوا على ثلاثة أقوال أو أكثر ، وخرقه بأن يحدث قول رابع أو خامس.

وثانيتهما : أن لا يفصل الامّة بين مسألتين ، كما في زوج وأبوين ، وزوجة وأبوين ، فمن

ص: 367


1- حكاهما الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 343.
2- حكاهما الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 343.
3- يعبّر عن الاولى بعدم القول بالفصل ، وعن الثانية بالقول بعدم الفصل بين المسألتين. وخرق الاولى بإحداث قول ثالث في المسألة ، وخرق الثانية هو التفريق بين المسألتين.
4- حكاهما الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 3. وابن الحاجب في منتهى الوصول : 61.
5- حكاهما الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 3. وابن الحاجب في منتهى الوصول : 61.

قال : للامّ ثلث التركة قال في الموضعين ، ومن قال : [ لها ] ثلث الباقي قال فيهما. وخرقه بأن يفصل بينهما ويقال : لها ثلث الأصل في أحدهما (1) وثلث الباقي في الأخر ، كما قال به ابن سيرين (2).

ومنه وجوب الغسل وعدمه بالوطء في دبر المرأة والغلام عند الشيعة (3) ، فمن قال منهم بالوجوب قال في الموضعين ، ومن قال بعدمه قال فيهما ، وخرقه أن يفصل بينهما ، ويقال بوجوبه في أحدهما دون الآخر.

والدليل على بطلانه في الصورتين : أنّ المعصوم مع إحدى الطائفتين قطعا ، فخرقه يستلزم مخالفته جزما.

وقال بعض أصحابنا وطائفة من العامّة : إن نصّت الامّة في الصورة الأخيرة على المنع من الفصل ، فلا يجوز ؛ وإن عدم النصّ ، فإن علم اتّحاد طريق الحكم فيهما فكذلك ، كالمثال الأوّل ، واتّحاد الطريق بين المسألتين فيه ظاهر ، وكتوريث العمّة والخالة ؛ فإنّ من ورّث العمّة ورّث الخالة ، ومن لم يورّثها لم يورّثها ، واتّحاد الطريق هنا مساواة حكم ذوي الأرحام في التوريث في الجملة وإن لم يعلم اتّحاد الطريق بينهما ، فالحقّ جواز الفرق عملا بالأصل السالم عن مخالفة الإجماع (4).

ولا يخفى أنّه بعد العلم بعدم الفصل فلا وجه لهذا التفصيل ، أمّا عندنا ، فلما ذكر (5). وأمّا عند العامّة ؛ فلأنّ العلم بعدم قائل منهم بالفصل يدلّ التزاما على حكمهم بالمنع عن القول بالفصل ؛ فإنّه إذا علم أنّ الامّة اختلفت في مسألة على قولين لا يتجاوزونهما (6) ، فلا ريب أنّ كلّ طائفة أوجب القول بقولها أو بقول الاخرى ، ومنعت من غيرهما ، فاتّفقوا على أنّه لا فصل بينهما ، فالقول به خرق لاتّفاقهم. فالمناط حصول العلم بعدم القول بالفصل ، ومعه

ص: 368


1- أي الموضعين.
2- حكاه عنه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 333 ، والشيخ حسن في معالم الدين : 178.
3- راجع مختلف الشيعة 1 : 167 ، المسألة 111.
4- قاله الرازي في المحصول 4 : 128 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 331 ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : 61 ، والأسنوي في نهاية السؤل 3 : 269 ، والعلاّمة في مبادئ الوصول : 191 و 192.
5- تقدّم آنفا.
6- هذا تعرّض للصورة الاولى ، وكلام بعض الأصحاب وطائفة من العامّة في الصورة الثانية.

لا يجوز القول بالفصل ، سواء نصّوا على عدم جوازه أو لا ، وإن لم يحصل يجوز ، كما يأتي (1). ويمكن حمل كلام هذا القائل على ما ذكرنا بتكلّف.

هذا ، ولهذه الصورة ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يحكم بعض الامّة في المسألتين بحكم والبعض الآخر فيهما بحكم آخر ، كما سبق مثاله (2). وصدق الحكمين حينئذ فيهما على سبيل الانفصال الحقيقي.

وثانيها : أن يحكم جميع الامّة فيهما بحكم واحد. وصدقه فيهما حينئذ على سبيل منع الخلوّ ، فباعتبار يتحقّق إجماعان بسيطان ، وباعتبار آخر يتحقّق إجماع مركّب.

وثالثها : أن لا ينقل منهم إلينا حكم فيهما ، وحينئذ إذا ثبت حكم لإحداهما ثبت للاخرى ، وإلاّ لزم رفع ما علم اجتماعهم عليه من عدم الفصل.

[ الإجماعات المركّبة ]

ثمّ الإجماعات المركّبة كالبسيطة تختلف مراتبها في الاطّلاع على تحقّقها.

فمنها يقينيّ الحصول ، إمّا للنصّ من جماعة يفيد قولهم العلم بتحقّقه ، أو لفحص تامّ انضمّ إليه القرائن المفيدة.

ومنها ظنّيّ الحصول ، إمّا بتصريح بعض لا يفيد قولهم إلاّ الظنّ ، أو بتتبّع ناقص لا يحصل منه سواه.

ولكلّ من العلم والظنّ مراتب ، ويختلف ذلك بالنسبة إلى الأشخاص ، فربّ إجماع مركّب كان قطعيّا عند شخص ، ظنّيّا عند آخر.

وما تقدّم (3) من عدم العبرة بمخالفة المعروف مطلقا (4) ، والمجهول إذا علم دخول قول المعصوم ، يأتي هنا أيضا. وعلى هذا يمكن القول بتحقّق الإجماع المركّب في مسألة القصر والإتمام ، وعدم الاعتبار بمخالفة ابن أبي عقيل (5).

ص: 369


1- في ص 371.
2- في ص 367.
3- في ص 365.
4- أي ولو كان المخالف ألفا.
5- حكاه العلاّمة عنه في مختلف الشيعة 2 : 539 ، المسألة 395.

ثمّ الإجماع المركّب إن كان قطعيّا لا يجوز مخالفته ، وكذلك إن كان ظنّيّا ولم يوجد له معارض ، وإلاّ فيجب الرجوع إليهما وإلى القواعد الترجيحيّة والعمل بما تقتضيه ، فربّما وجب العمل بالمعارض إذا كان الظنّ الحاصل منه أقوى من الظنّ الحاصل منه ، بل ربّما حصل من المعارض ظنّ ولم يحصل منه شيء أصلا ؛ إذ لا يبعد أن يكون على حكم أدلّة متنافية واحد منها قويّ والبواقي ضعيفة فاطّلع أهل عصر - كلاّ أو بعضا - على الضعيفة منها دون القويّ ، فعمل بعضهم ببعضها والآخرون بالآخر ، فإذا جاء المتأخّر عنهم ووجد القويّ منها ، يجوز له العمل به وترك الضعيفة ، والأقوال المحدثة من الفقهاء من هذا القبيل. هذا كلّه ما يقتضيه اصولنا (1).

وأمّا العامّة فأكثرهم على عدم جواز الفصل مطلقا (2) ، وبعضهم على جوازه (3) كذلك. [ و ] (4) فصّل الحاجبي بأنّه إن رفع مجمعا عليه فممنوع ، وإلاّ فلا (5). والأوّل كمسألة البكر ؛ للإجماع على أنّها لا تردّ مجّانا. والثاني كمسألة الامّ ، ومسألة فسخ النكاح بالعيوب الخمسة ، قيل : يفسخ بها كلّها (6) ، وقيل : لا يفسخ بشيء منها (7). فالقول بالفسخ في البعض دون البعض إحداث قول ثالث ، إلاّ أنّه يجوز ؛ لأنّ القائل به وافق في كلّ مسألة مذهبا فلم يخالف الإجماع.

وما يوضحه : أنّه لو قال بعضهم : لا يقتل مسلم بذمّيّ ، ولا يصحّ بيع الغائب ، وقال الآخرون : يقتل ، ويصحّ ، فجاء ثالث وقال : يقتل ، ولا يصحّ ، أو لا يقتل ، ويصحّ لم يخالف الإجماع ؛ لأنّهما مسألتان خالف في إحداهما بعضا ، وفي الاخرى بعضا ، والممنوع مخالفة الجميع فيما أجمعوا عليه.

والضابط في معرفة ذلك : أنّ كلّ مسألة اشتملت على موضوع كلّي ، فالحكم فيها إمّا

ص: 370


1- راجع الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 154.
2- للمزيد راجع : المحصول 4 : 127 ، ونهاية السؤل 3 : 269.
3- المصدر ، ونهاية السؤل 3 : 269.
4- اضيف للضرورة.
5- منتهى الوصول لابن الحاجب : 61.
6- راجع المغني لابن قدامة 7 :6. 581 ، المسألة 5498 و 5499.
7- راجع المغني لابن قدامة 7 :6. 581 ، المسألة 5498 و 5499.

بالإيجاب الكلّي أو السلب الكلّي ، أو الإيجاب والسلب الجزئيّين. فإن اختلف أهل العصر على الاحتمالين الأوّلين بأن يقول بعضهم بالإيجاب الكلّي والباقون بالسلب الكلّي يجوز إحداث القول بالتفصيل ، لأنّ القائل به وافق في كلّ قسم منه مذهبا. وإن اختلفوا على غيرهما بأن يقول بعضهم بالإيجاب الكلّي أو السلب الكلّي ، والباقون بالتفصيل ؛ أو يقول بعضهم بتفصيل خاصّ والباقون بتفصيل آخر ، فلا يجوز إحداث قول ثالث ؛ لأنّه يرفع حكما مجمعا عليه.

وغير خفيّ أنّ القول بالتفصيل (1) في صورة اختلاف الامّة على الاحتمالين الأوّلين يرفع المجمع عليه ؛ لأنّ كلاّ من الإيجاب والسلب الكلّيين في قوّة المنع عن نقيضه ، أي السلب والإيجاب الجزئيّين ؛ ضرورة أنّ من يقطع بثبوت شيء يقطع ببطلان نقيضه ، فالموجب للفسخ بالعيوب الخمسة يمنع عدم الفسخ ببعضها ، والقائل بعدم الفسخ بها يمنع الفسخ ببعضها ، فاتّفق الكلّ على بطلان القول بالتفصيل ، أي الإيجاب في البعض والسلب في البعض.

وبهذا ظهر ضعف ما قيل : إنّ المفصّل خالف الموجب في قوله بالإيجاب الكلّي ، والنافي في قوله له بالسلب الكلّي ، وكلّ منهما خالف الآخر في قوله ، فهو لم يخالف المجمع عليه (2). وإنّ القول بالتفصيل ليس حكما واحدا مخالفا لما اتّفق عليه الكلّ ، بل في الحقيقة حكمان مختلفان خالف القائل به في كلّ منهما جماعة. وإنّ عدم القول بالتفصيل ليس قولا بعدمه ، وإنّما يمتنع القول بما قالوا بنفيه لا بما لم يقولوا بثبوته.

لما عرفت أنّ نفي التفصيل حكم واحد مجمع عليه بين الكلّ ، كيف لا؟ وكلّيّة الحكم - سواء كان إيجابا أو سلبا - كانت ممّا اتّفق عليه الكلّ وهي مسألة واحدة ، والقول بالتفصيل يخالفها ؛ والقياس على مسألتي الذمّيّ والغائب باطل ؛ لأنّ عدم جواز إحداث القول الثالث مخصوص بقولين تعلّقا بمسألة واحدة حقيقة ، كمسألة البكر ، أو حكما كمسألة الفسخ بالعيوب الخمسة ؛ لتحقّق قدر مشترك بينهما حينئذ ، وكونه مسألة واحدة ،

ص: 371


1- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 61.
2- فصّله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 332.

وكون الثالث تفصيلا لها (1) ، ومسألتا الذمّيّ والغائب متغايرتان حقيقة وحكما ، ولا يخطر بالبال قدر مشترك بينهما ، واعتباره تفصيلا (2) ، وجعله مسألة واحدة تعسّف.

هذا ، ولقائل أن يقول : ما ذهب إليه الحاجبي إحداث المذهب الثالث ؛ لأنّ الامّة اختلفوا على قولين : جواز إحداث المذهب الثالث مطلقا ، ومنعه مطلقا ، فالقول بجوازه في البعض والمنع في البعض إحداث مذهب ثالث ، فتأمّل.

هذا ، واحتجّ المجوّز مطلقا بوجوه ضعيفة (3) أعرضنا عن ذكرها ؛ لظهور فسادها ، فثبت أنّ الحقّ على اصول العامّة أيضا عدم القول بالفصل ، كما ذهب إليه أكثرهم.

والفروع له كثيرة وقد تقدّم بعضها (4).

ومنها : اجتماع الجدّ مع الأخ. قيل : يرث المال كلّه ويحجب الأخ (5). وقيل : يقاسم الأخ (6). فالقول بحرمانه (7) قول ثالث (8).

ومنها : اشتراط النيّة في الطهارات ، قيل به في كلّها (9). وقيل به في بعضها (10). والقول بعدمه في الكلّ قول ثالث (11).

وهذان الفرعان ممّا فرّعهما عليه العامّة (12).

ومنها : انفعال الماء القليل بالنجاسة ، فقيل بانفعاله من جميع النجاسات (13). وقيل بعدم انفعاله من شيء منها (14). فالقول بانفعاله من البعض دون البعض قول ثالث. وهذا ممّا فرّع عليه أصحابنا.

ص: 372


1- في « أ » : « نقيضا » والصحيح ما أثبتناه.
2- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 61.
3- راجع الإحكام في أصول الأحكام 1 : 333 و 334.
4- تقدّم في ص 368 و 369.
5- راجع : بداية المجتهد 2 : 5. والمغني لابن قدامة 7 : 64.
6- راجع : بداية المجتهد 2 : 5. والمغني لابن قدامة 7 : 64.
7- أي الجدّ.
8- راجع : بداية المجتهد 2 : 377 ، والمغني لابن قدامة 7 : 64.
9- راجع : الخلاف 1 : 71 و 72 ، المسألة 18 ، وبداية المجتهد 1 : 8 و 9.
10- راجع : الخلاف 1 : 71 و 72 ، المسألة 18 ، وبداية المجتهد 1 : 8 و 9.
11- راجع : الخلاف 1 : 71 و 72 ، المسألة 18 ، وبداية المجتهد 1 : 8 و 9.
12- راجع : المحصول 4 : 128 ، والإحكام في أصول الأحكام 1 : 333 ، ونهاية السؤل 3 : 270.
13- مختلف الشيعة 1 : 13 ، المسألة 1 ، والخلاف 1 : 194 ، المسألة 149.
14- حكاه العلاّمة عن ابن أبي عقيل في مختلف الشيعة 1 : 13 ، المسألة 1.
تتمّة

إذا افترقت الإماميّة في مسألة فرقتين ، فإن كان كلّ منهما - كلاّ أو بعضا - مجهول النسب ، فإن كان مع إحداهما دلالة قطعيّة تعيّن العمل بقولها ؛ لأنّ الإمام معها قطعا ، وإلاّ فالذي يقتضيه النظر الاحتياط بالجمع إن أمكن ، وإلاّ فالتوقّف. والظاهر إمكان القول بالتخيير في العمل حينئذ ، كما ذهب إليه الشيخ (1).

والإيراد عليه (2) : بأنّه يقتضي استباحة ما حظّره الإمام ، يبطل التخيير عند تعارض الأخبار وانسداد باب الترجيح وهو باطل ، فما يجاب به هناك يجاب به هنا.

والقول باطّراح القولين حينئذ والرجوع إلى دليل آخر - كما ذهب إليه بعض (3) - يقتضي اطّراح قول الإمام ؛ لأنّ الإمام مع إحداهما قطعا.

وإن كان إحداهما معلومة النسب ولم يكن الإمام أحدهم ، قيل : كان الحقّ حينئذ في الطائفة الاخرى (4).

وهذا صحيح على الطريق الأوّل ، إلاّ أنّه لا يكون إجماعا مركّبا ؛ لتوقّفه على صلاحية كلّ من القولين لدخول قول المعصوم فيه ، والمفروض حينئذ تعيّن دخوله في إحداهما ، فهو إجماع بسيط. وعلى هذا الطريق لو كان كلّ منهما معلوم النسب ، لم يتحقّق إجماع مركّب ولا بسيط. وعلى الطريق الثاني يكون حكمهما ما ذكر في الشقّ الأوّل (5).

تذنيبات

[ التذنيب ] الأوّل : موت إحدى الطائفتين المختلفتين أو تكفيرها كاشف عن خطئها وإصابة الاخرى ، أمّا عندنا ، فظاهر. وأمّا عندهم ؛ فلصيرورة الباقين كلّ الامّة ، فيتناولهم أدلّة الإجماع (6).

ص: 373


1- العدّة في أصول الفقه 2 : 636.
2- المورد هو المحقّق الحلّي في معارج الأصول : 133.
3- قاله الاسترآبادي في الفوائد المدنيّة : 104 - 105.
4- حكاه المحقّق الحلّي في معارج الاصول : 133 ، والشيخ حسن في معالم الدين : 179.
5- تقدّم آنفا وهو : « فإن كان كلاّ أو بعضا مجهول النسب ... ».
6- راجع : المحصول 4 : 144 ، والإحكام في أصول الأحكام 1 : 317 ، ونهاية السؤل 3 : 294.

وما يناسب فروعه : ما إذا مات رجل وخلّف وارثين ، فأقرّ أحدهما بثالث ، وأنكره الآخر ، ثمّ مات المنكر ولم يكن له وارث سوى المقرّ ، فيشاركه المقرّ به ؛ لانحصار الإرث فيه.

[ التذنيب ] الثاني : لا يجوز عندنا تعاكسهما (1) في القولين. ووجهه ظاهر. ووافقنا بعض العامّة (2) ، وأكثرهم على جوازه (3). ومبنيّ على خلافهم في أنّه هل يجوز خطأ كلّ الامّة في مسألة واحدة على البدل ، أم لا؟

[ التذنيب ] الثالث : الحقّ جواز تحقّق الإجماع بعد الخلاف ، وله صور كلّها جائزة :

الاولى : أن يتّفق أهل عصر في مسألة على قول بعد اختلافهم فيها على قولين من غير أن يستقرّ خلافهم. والظاهر الوفاق على جوازه ، وكونه إجماعا وحجّة ، ووجهه ظاهر.

الثانية : أن يتّفقوا عليه بعد استقرار خلافهم. وجوازه عندنا ظاهر ؛ لأنّه يمكن أن يطّلعوا بعد الخلاف على أنّ المعصوم قائل بأحد القولين فيجب اتّفاقهم عليه ، ويكون حجّة. وأمّا العامّة ، فأنكره بعضهم (4) ، وجوّزه آخرون (5).

ثمّ اختلف المجوّزون ، فقال بعضهم : حجّة (6). وقال آخرون : ليس بحجّة (7). وكلّ من اعتبر منهم انقراض العصر في الإجماع قطع بجوازه وحجّيّته. وما يقتضيه قواعدهم جوازه وحجّيّته مطلقا.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّه لا إجماع عندهم إلاّ عن مستند ، كما يأتي فيمكن أن يظفروا على ما يصلح مستندا لأحد القولين بعد خلافهم ؛ لعدم عثورهم عليه ، وحينئذ يجب اتّفاقهم عليه.

وأمّا الثاني ؛ فلأنّه اتّفاق كلّ الأمّة ؛ لأنّه لا قول حينئذ لغيرهم ، وقول بعضهم بعد ظهور خطئه والرجوع عنه لم يبق معتبرا ، فيتناوله أدلّة الإجماع.

ص: 374


1- راجع معارج الاصول : 130. والمراد بالتعاكس هو أن يرجع كلّ طائفة إلى قول الطائفة الاخرى.
2- راجع المحصول 4 : 146.
3- راجع نهاية السؤل 3 : 315.
4- نسبه الفخر الرازي إلى الصيرفي في المحصول 4 : 135 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 340.
5- قاله الفخر الرازي في المحصول 4 : 135 ، والمطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 3 : 283 ، والأسنوي في نهاية السؤل 3 : 281.
6- قاله المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 3 : 283 ، والأسنوي في التمهيد : 458.
7- قاله الفخر الرازي في المحصول 4 : 135 ، وحكاه الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 256.

هذا ، مع أنّه ورد في طرقهم وقوعه ، كما رووا أنّ الصحابة اختلفوا في موضع دفن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ثمّ اتّفقوا على قول عليّ عليه السلام (1). وفي وجوب الغسل بالتقاء الختانين ، ثمّ اتّفقوا على وجوبه به (2).

الثالثة : أن يتّفق أهل العصر الثاني على إحدى القولين اللذين اختلف أهل العصر الأوّل عليهما ، وهي كالتي قبلها جوازا وحجّة واستدلالا من دون تفاوت.

ويدلّ على وقوعه أيضا ما روي أنّ الصحابة اختلفوا في بيع امّهات الأولاد ، وأجمع من بعدهم على المنع منه (3) ، ومنع عمر عن متعة العمرة إلى الحجّ ، ثمّ صار جوازه مجمعا عليه (4) ، كما قال البغوي (5).

واحتجّ المنكرون بوجوه (6) لا يخفى فسادها على أحد ، ولذلك أعرضنا عنها.

وكيفيّة التفريع : أنّ المسائل التي كان أهل عصر فيها على قولين أو أكثر ، كمسألة القياس ، ومسألة القصر والإتمام ، وأمثالهما ، ثمّ اتّفق أهل العصر الثاني على أحد القولين أو الاثنين يكون اتّفاقهم حجّة لأهل العصر الثالث ، ولا يجوز لهم مخالفته.

فصل [8]

الحقّ أنّ انقراض عصر المجمعين غير مشترط لانعقاد إجماعهم.

أمّا عندنا ؛ فلأنّ الحجّة قول المعصوم ، وهو في جملة أقوالهم انقرضوا أم لا.

وأمّا عند العامّة ؛ فلعموم الأدلّة.

ولعدم الخلاف في حجّيّة الإجماع بعد انقراض العصر ، فهي إمّا للاتّفاق ، أو للانقراض ، أو كليهما. والأخيران باطلان ، وإلاّ كان الموت مؤثّرا في حجّيّة القول ، فالحقّ الأوّل.

ولعدم تحقّق إجماع عادة لو كان الانقراض شرطا ؛ لتلاحق المجتهدين بعضهم بعضا ؛

ص: 375


1- رواه ابن هشام في السيرة النبويّة 1 : 314.
2- راجع : المحصول 4 : 135 و 136 ، ونهاية السؤل 3 : 281.
3- المصدر.
4- المصدر.
5- معالم التنزيل 1 : 170 ، ذيل الآية 196 من البقرة (2).
6- راجع : المستصفى : 156 ، والإحكام في أصول الأحكام 1 : 340 و 341 ، وسلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 3 : 280.

فإنّ الصحابة لم ينقرضوا حتّى حدث في عصرهم من التابعين مجتهدون ، وهم لم ينقرضوا حتّى لحقهم من تابعيهم آخرون ، وهلمّ جرّا ، فيجوز مخالفة كلّ طبقة من اللاحقين لطبقة سابقة عليه ؛ لعدم انقراضها ، وحينئذ لا ينعقد إجماع ؛ لأنّه يتوقّف على انقراض عصر كلّ من يجوز له المخالفة ، وهو محال عادة.

والقول بأنّه لا مدخليّة للاّحقين ؛ لأنّ المجمعين هم الأوّلون الموجودون عند حدوث الواقعة ، فالشرط انقراض عصرهم فقط (1) ، فاسد ؛ إذ لا شبهة في جواز مخالفة اللاحقين ؛ لأنّه لم يسبقهم إجماع يكون حجّة عليهم ؛ لعدم انعقاده بعد ، وهو (2) لإمكان أن يكون قول المجمعين على الخطأ بوجود معارض ، وهو لا يرتفع بموتهم.

هذا ، واحتجّ المشترط - وهو أحمد بن حنبل وابن فورك - : بأنّه يمكن أن يوجد معارض ذهل عنه المجمعون ، وهم - ما داموا أحياء - لمّا كانوا مشتغلين بالبحث والنظر في أدلّة الأحكام ، فربّما عثروا عليه وتغيّر اجتهادهم الأوّل ، فلا يستقرّ الإجماع إلاّ بعد وفاتهم (3).

وفيه : أنّ هذا بعيد ، ولو قدّر لا يعمل به ؛ لأنّ الإجماع قاطع ، ولا يرجع عنه بالاجتهاد. وهذا كما لو اطّلع عليه بعد الانقراض.

والقول بأنّه ربّما كان إجماعهم عن ظنّ (4) ، ثمّ اطّلعوا على القاطع ، أو ظنّ (5) أقوى منه ، ينتقض بإمكان الاطّلاع عليه بعد الانقراض أيضا.

والحلّ : أنّ تحقّق اتّفاق عن ظنّيّ مع وجود قاطع على خلافه محال عادة ، ومع وجود ظنّيّ أقوى منه بعيد جدّا ، مع أنّ الإجماع عند العامّة قاطع وإن حصل عن اجتهاد ودليل ظنّيّ ، فالحكم المجمع عليه يصير بعد الاتّفاق عليه قطعيّا وإن كان مستنده ظنّيّا ، فلا يجوز الرجوع عنه بالاجتهاد.

ص: 376


1- حكاه الآمدي عن أحمد بن حنبل في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 318.
2- كذا في النسختين. والظاهر زيادة « هو ».
3- حكاه عنهما الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 318.
4- كذا في النسختين. والأولى : « ظنّيّ » كما فيما يأتي بعد سطرين.
5- كذا في النسختين. والأولى : « ظنّيّ » كما فيما يأتي بعد سطرين.
فصل [9]

اتّفق الناس - إلاّ من شذّ (1) - على أنّه لا إجماع إلاّ عن مستند ، وهو بديهيّ الصحّة عند الفريقين.

أمّا عندنا ، فظاهر. وأمّا عندهم ؛ فلأنّه يمتنع عادة اجتماع الجمّ الغفير على أمر من دون داع ، كالاجتماع على أكل طعام واحد ؛ ولأنّ بيان الحكم الشرعي من دون مستند خطأ ، فلو اجمع عليه من دونه لزم الإجماع على الخطأ.

وفيه نظر لا يخفى.

ثمّ الحقّ ، أنّ كلّ ما علم حجّيّته وصلاحيّته لتأسيس الحكم الشرعي ، يصحّ أن يكون مستندا له ، سواء كان قطعيّا أو ظنّيّا.

وما قيل : إنّه لمّا كان دخول قول المعصوم شرطا في الإجماع عند الإماميّة وهو لا يقول إلاّ عن دليل قطعيّ ، فإجماعهم لا يصدر عن مستند ظنّيّ وإن كان أقوال من عداه عليه السلام من المجمعين مستندة إلى الحجّة الظنّيّة ، كخبر الواحد ومثله (2) ، منظور فيه ؛ لأنّ قوله وإن لم يكن إلاّ عن قاطع ، إلاّ أنّه لا يصحّح كون إجماعهم مطلقا عن مستند قطعي ؛ لأنّ هذا يتوقّف على قطعيّة الطريق إلى قوله ، وإن كان الطريق إليه ظنّيّا لا يصدق عليه أنّه وقع عن قاطع.

هذا ، واحتجّ من لم يشترط المستند فيه بأنّه لو كان عنه ، لاستغني به عنه ، فلم يكن للإجماع فائدة (3).

والجواب : فائدته سقوط البحث ، وحرمة المخالفة ، والتقوية والتأييد ، كما سبق (4).

ثمّ العامّة على أنّ كلّ إجماع قطعيّ ؛ نظرا إلى الأدلّة وإن كان مستنده ظنّيّا (5). وأصحابنا على أنّ ما علم دخول قوله عليه السلام فيه يكون قطعيّا ، وإن ظنّ دخوله فيه يكون ظنّيّا (6) ، كما تقدّم (7).

ص: 377


1- هو أبو عبد اللّه البصري كما في المحصول 4 : 193 ، وتهذيب الوصول : 212.
2- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 326.
3- حكاه الفخر الرازي في المحصول 4 : 188.
4- تقدّم في ص 358.
5- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 325 و 329.
6- قاله السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 146 ، والمحقّق الحلّي في معارج الاصول : 130 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 211.
7- ص 360.
فصل [10]

إذا استدلّ أهل العصر بدليل أو أوّلوا تأويلا ، فالأكثر على أنّه يجوز لمن بعدهم إحداث دليل أو تأويل آخر. وهو حقّ ؛ لأنّه لم يزل العلماء في الأعصار يستخرجون الأدلّة والتأويلات من غير نكير (1).

نعم ، إن كان التأويل الثاني مبطلا للأوّل ، فالظاهر عدم جوازه ؛ للزوم مخالفة الإجماع ، فلو أوّل (2) الأوّلون المشترك بأحد معنييه لم يجز لمن بعدهم حمله على المعنى الآخر إن تنافيا ، وإن لم يتنافيا ، فإن جوّز استعمال المشترك في إطلاق واحد في معنييه حقيقة - بأن يكون من عموم الاشتراك - أو حقيقة ومجازا - بأن يكون من عموم المجاز - فجاز ، وإلاّ لم يجز.

فصل [11]

اتّفق أصحابنا (3) - إلاّ من شذّ (4) - على أنّ الإجماع السكوتيّ - وهو قول البعض وسكوت الباقين مع معرفتهم به - ليس إجماعا ولا حجّة ؛ لأنّ السكوت أعمّ من الرضاء ، ويمكن أن يكون للتوقّف ، أو التعظيم ، أو للتقيّة ، أو التصويب ، أو غيرها.

ولذا قيل : لا ينسب إلى ساكت قول (5). وربّما أفاد (6) ظنّا لا يصلح مثله لتأسيس الحكم الشرعي. وقد يعلم بالقرائن موافقة الساكتين للمصرّحين ، وحينئذ كان (7) حجّة وإجماعا ؛ لأنّ العبرة بالرأي دون القول ، وهو نادر.

وعلى الطريق الثاني (8) في الإجماع : ربّما علم بقول البعض - وإن سكت الباقون - دخول

ص: 378


1- للمزيد راجع : العدّة في أصول الفقه 2 : 639 ، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1 : 334.
2- في « ب » : « تأوّل ».
3- راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 167 ، وتهذيب الوصول : 208 ، وتمهيد القواعد : 252 ، القاعدة 93.
4- هو مذهب أبي على الجبائي ، كما حكاه السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 167.
5- قاله الغزالي في المستصفى : 151. وحكاه الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 5. القاعدة 93.
6- أي السكوت.
7- أي السكوت.
8- الذي مرّ في ص 360.

قول المعصوم في أقوالهم إذا كانوا جماعة علم من حالهم أنّهم لا يقتحمون على الإفتاء بغير علم ، وهو أيضا نادر.

هذا ، وذهب بعضهم إلى أنّه حجّة وإجماع ، محتجّا بأنّ سكوتهم دليل ظاهر في موافقتهم. وقد عرفت جوابه (1).

وقيل : إنّه حجّة لا إجماع (2) ؛ لأنّ سكوتهم ظاهر في موافقتهم ؛ لما علم من عادة الصحابة والتابعين ومن تأخّر عنهم من المجتهدين أنّهم مع المخالفة يظهرون الإنكار ، كما لا يخفى على من تتبّع آثارهم ، فيحصل منه ظنّ بالوفاق وهو كاف للحجّيّة.

وفيه : أنّه مع قيام الاحتمالات المذكورة لا يحصل ظنّ ينتهض حجّة لتأسيس الأحكام ، ونفيه رأسا تعسّف ؛ لما نقل عن عادتهم ، كما نقل عن ابن عبّاس أنّه سكت في مسألة العول أوّلا ، ثمّ أظهر الإنكار ، فقيل له في ذلك ، فقال : « إنّ عمر كان رجلا مهيبا » (3).

نعم ، إن علم موافقتهم بالقرائن ، فلا كلام في حجّيّته ، كما ذكرناه.

وقال بعضهم : إنّه إجماع بشرط انقراض العصر (4) ؛ لأنّ استمرارهم على السكوت إلى الموت يضعف قيام الاحتمالات المذكورة ، فيكون ظاهرا في الموافقة.

وظهر ممّا ذكر جوابه.

وقيل : إن كان القول فتوى فإجماع ، وإلاّ فلا (5) ؛ لأنّ الحاكم يهاب دون المفتي ؛ ولأنّ الفتيا ممّا يخالف ويبحث عنه دون الحكم.

وفساده ظاهر.

وقيل : إنّه إجماع إن كان في عصر الصحابة ، وكان فيما يفوت استدراكه ، كإراقة

ص: 379


1- آنفا وهو عدم صلاحيّة مثله لتأسيس الحكم الشرعي.
2- هو قول أبي هاشم ، كما حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 312 ، والأسنوي في نهاية السؤل 3 : 295.
3- حكاه الغزالي في المستصفى : 151 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 312 ، والأسنوي في نهاية السؤل 3 : 298.
4- حكاه الغزالي في المستصفى : 151. ونسبه الفخر الرازي إلى الجبائي في المحصول 4 : 153.
5- قاله أبو عليّ بن أبي هريرة من أصحاب الشافعي ، كما حكاه عنه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 312 ، والفخر الرازي في المحصول 4 : 153.

الدم واستباحة الفرج. وإن كان فيما لا يفوت - كأخذ الأعيان - كان حجّة. وفي كونه إجماعا وجهان (1).

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الفروع له كثيرة ، وهي نوعان :

أحدهما : الأحكام التي صرّح بها بعض المجتهدين وسكت عنها الباقون ، كوجوب الخروج من الماء للمرتمس.

وثانيهما : ما يحدث من الأقوال والأفعال ، كالعقود ، والدعاوي ، وغيرهما من بعض الناس ، ويكون القطع فيها على طرف مشروطا بتصريح بعض آخر وسكت ، كما إذا عقد رجل فضولا وحضر المالك وسكت ، فإنّه لا يكون إجازة على ما اخترناه. وإذا قال : « هذا ولدي » فسكت ، فإنّه يلحقه ، خلافا للشيخ (2). وإذا أتلف شيئا ومالكه ساكت ، يلزمه الضمان. وإذا ادّعى رقّ شخص في يده وباعه وكان الشخص ساكتا ، لم يلزم منه الاعتراف بالرقّيّة. وقس عليها أمثالها وهي كثيرة.

ومخالفة بعض الموارد للقاعدة - كالاكتفاء بسكوت البكر عن إذنها إذا استؤذنت - للأدلّة الخارجيّة.

فصل [12]

الحقّ أنّ الشهرة ليست حجّة بأن تصلح بمجرّدها دليلا للحكم ، ولكنّها تكون مؤيّدة ومرجّحة.

أمّا الأوّل ؛ فلعدم الدلالة على حجّيّتها ، ولاستلزامها عدمها (3) ؛ لأنّ المشهور أنّ الشهرة ليست بحجّة.

وقرّب بعض أصحابنا حجّيّتها ، محتجّا بأنّه يمتنع عادة إفتاء كثير من العدول بغير علم (4).

ص: 380


1- حكاه الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 253 ، القاعدة 93. واعلم أنّه حكى الشوكاني جميع الأقوال المذكورة وأقوالا أخر في إرشاد الفحول 1 :1. 227. وإن كان الكتاب متأخّرا عن هذا الأثر أو مقارنا له ولكنّه مفيد للطالب المحقّق.
2- النهاية : 684 ، باب الإقرار.
3- الفرق بين الوجهين أنّ الأوّل من قبيل عدم الدليل على حجّيّة الشهرة. والثاني من قبيل الدليل على عدمها.
4- حكاه الشيخ حسن عن بعض الأصحاب في معالم الدين : 175 - 176.

ولا يخفى أنّه لا يجري في كلّ شهرة ؛ لأنّ مراتبها مختلفة ، فربّ شهرة ضعيفة لا يحصل منها ظنّ أصلا ، ولا تصلح للتأييد فضلا عن أن يحصل منها العلم ، أو ظنّ يكون حجّة.

نعم ، قد تكون الشهرة قويّة ، بحيث يحصل معها قوّة الظنّ وتصلح للترجيح ، بل ربّما بلغت حدّا يكون حجّة.

نعم ، إذا كان المخالف قليلا ، فإنّه يمكن أن يحصل الظنّ القويّ بدخول قول المعصوم في مثل هذه الشهرة ، إلاّ أنّها تكون عندنا إجماعا ؛ لعدم مخالفة النادر فيه ، كما عرفت (1).

وأمّا الثاني ؛ فلتبادر الظنّ إلى أنّ الخطأ من القليل أظهر منه من الكثير ؛ ولما ورد من قولهم عليهم السلام : « خذ المجمع عليه بين أصحابك » ؛ فإنّ الظاهر منه المشهور بقرينة قوله عليه السلام : « واترك الشاذّ النادر » (2).

ثمّ الحقّ ، أنّ الشهرة مطلقا تصلح للتأييد والترجيح ، سواء كانت من المتقدّمين أو المتأخّرين ، وشهرة المتقدّمين وإن كانت أقوى نظرا إلى قرب عهدهم بالحجج عليهم السلام وتمكّنهم من تحصيل القرائن ، ولكنّ الشهرة بين المتأخّرين أقوى ؛ نظرا إلى أنّ دقّتهم أكثر.

وما قيل : إنّ كلّ شهرة حصلت بعد زمن الشيخ لا عبرة بها ولا يحصل منها ظنّ ؛ لأنّ المتأخّرين عنه قلّدوه في الأحكام التي عمل بها (3) ، في غاية الضعف ؛ لأنّ مخالفتهم له أكثر من مخالفة القدماء بعضهم لبعض ، كما لا يخفى على المتتبّع.

وإذا عرفت الحقّ ، فكيفيّة التفريع ظاهرة.

فصل [13]

لا يشترط في حجّيّة الإجماع أن يبلغ عدد المجمعين عدد التواتر.

أمّا عندنا ؛ فلأنّ المعتبر كلّ عدد حصل منه العلم بدخول قول الإمام عليه السلام كائنا ما كان.

ص: 381


1- في 367.
2- الفقيه 3 : 10 ، ح 3236 ، وتهذيب الأحكام 6 : 301 ، ح 845 ، ووسائل الشيعة 27 : 106 ، أبواب صفات القاضي ، الباب 9 ، ح 1.
3- حكاه الشيخ حسن عن والده في معالم الدين : 176.

وأمّا عندهم ؛ فلأنّ المعتبر عدد (1) كلّ الامّة ، وإن كان أقلّ من عدد التواتر (2) ، كما دلّ عليه الأدلّة السمعيّة (3).

فصل [14]

الإجماع إمّا ظنّي - وإنكار حكمه ليس بكفر وفاقا - أو قطعيّ ، وهو على ثلاثة أقسام :

[ الأوّل : ] ما كان لحكمه مدخل في الدين ، وقد علم بالضرورة ، كاعتقاد التوحيد والرسالة والعبادات الخمس (4).

و [ الثاني : ] ما كان لحكمه مدخل فيه وقد علم بالنظر.

و [ الثالث : ] ما ليس لحكمه مدخل فيه.

ولا خلاف في أنّ إنكار حكم الأوّل كفر. وأمّا الأخيران ، فقد اختلف فيهما (5).

والحقّ : أنّ حكم الثاني كحكم الأوّل ؛ لأنّ إنكاره إنكار لما علم حقيقة من الدين.

والإيراد عليه : بأنّ أصل أدلّة الإجماع لا يفيد العلم ، فما يتفرّع عليه أولى بذلك (6) ، قد ظهر جوابه ممّا سبق (7).

وأمّا الثالث : فالقطع بأحد الطرفين لا يخلو عن إشكال ؛ لأنّ إنكاره إنكار لما علم حقيقة من الشرع ؛ ولعدم تحقّق الكفر ما لم يتحقّق إنكار ما كان له مدخل في الدين.

فصل [15]

لا يجوز عندنا أن ينقسم الامّة إلى قسمين أو أكثر ، ويخطئ كلّ قسم في مسألة ؛ لأنّ المعصوم عليه السلام من جملتهم ، وهو لا يخطئ.

ص: 382


1- لم يرد في « ب » : « عدد ».
2- راجع : المستصفى : 148 ، والمحصول 4 : 199 ، والإحكام في أصول الأحكام 1 : 310 ، ونهاية السؤل 3 : 318.
3- راجع الإحكام في أصول الأحكام 1 : 310 و 311.
4- الصلاة ، والصوم ، والزكاة ، والحجّ ، والجهاد.
5- راجع : تهذيب الوصول : 215 ، والمحصول 4 : 209 ، والإحكام في أصول الأحكام 1 : 344.
6- أشار المحقّق الحلّي إلى هذا في معارج الاصول : 130.
7- سبق في ص 355.

وأمّا العامّة ، فأكثرهم على ذلك أيضا. وجوّزه بعضهم (1).

واحتجّ الأكثر بأنّ خطأهم في مسائل لا يخرجهم عن الاجتماع على الخطأ ، وهو منفيّ عنهم. وهذا بناء (2) على أخذهم اللام في « الخطأ » للجنسيّة. وهذا اعتراف منهم بعدم خلوّ عصر من مصيب في كلّ الأحكام من حيث لا يشعرون ؛ لضرورة جواز أن يكون كلّ واحد منهم مخطئا في مسألة ، والآخر في اخرى (3) لولاه.

وحجّة المجوّزين : أنّ المتبادر من الخبر المشهور نفي اجتماعهم على خطأ واحد ، وهو مبنيّ على أخذهم اللام في « الخطأ » للعهد.

فصل [16]

لا يجوز الاحتجاج بالإجماع فيما يتوقّف صحّته عليه ؛ لأنّه دور ، ويجوز في غيره إذا كان دينيّا وفاقا ، سواء كان من الأحكام الشرعيّة ، أو العقليّة كالوحدة وحدوث الأجسام. وإن كان دنيويّا ، كتدبير الجيوش وترتيب امور الرعيّة وأمثالهما ، فالظاهر جواز التمسّك به فيه ، وحرمة المخالفة ، وفاقا للمرتضى (4) وبعض العامّة (5). أمّا عندنا ، فظاهر. وأمّا عندهم ، فلعموم الأدلّة.

وذهب الإماميّة إلى حجّيّة إجماع الأديان السابقة وجواز التمسّك به لأهلها (6) ، ووافقهم من العامّة (7) من أثبت حجّيّته بالعقل ، وخالفهم من أثبتها بالسمع ؛ للتخصيص المفهوم من قوله : « امّتي » ومن ظواهر أخر. وهو على ما اخترناه يحتاج إلى نكتة ، فتأمّل.

ص: 383


1- قاله الفخر الرازي في المحصول 1 : 206 ، والأسنوي في نهاية السؤل 3 : 329 و 335.
2- خبر « هذا » أي هذا مبنيّ.
3- في « ب » : « الاخرى ».
4- الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 143.
5- منهم : الفخر الرازي في المحصول 4 : 206 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 346 ، ونسبه إلى قاضي عبد الجبّار في أحد قوليه أيضا.
6- راجع نهاية الوصول إلى علم الأصول 3 : 273.
7- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 346 وفصّله وقال : « لا فائدة في بيانه ». فتركه بلا رأي فيه.

وقد يطلق الإجماع على الاتّفاق الذي ليس اتّفاق الكلّ ، ولا كاشفا عن قول المعصوم (1) ، كاتّفاق أهل اللغة ، أو الصرف ، أو العروض على أمر. ومنه اتّفاق العصابة على تصحيح ما يصحّ عن فلان ، أو العمل برواية فلان. ومثله وإن لم يكن قاطعا ولا حجّة ، ولكنّه يكون مؤيّدا ومرجّحا ؛ لإفادته الظنّ بصحّة ما اتّفقوا عليه. وربما أفاد ظنّا قويّا جاز التمسّك به.

فصل [17]

قد صحّ لديك من حدّ الإجماع أنّه لا عبرة فيه بالكفّار ومن لم يوجد ، وقد اتّفق عليه الفريقان ، ووجهه عندنا ظاهر ، وعندهم الأدلّة المتقدّمة (2) ، وعدم تحقّق إجماع قطّ لولاه.

ومنه يظهر عدم العبرة بالعامّيّ موافقته ومخالفته عندهم ، وبه يقيّدون إطلاقات الأدلّة. وأمّا عندنا : فالحكم فيه ظاهر.

ولا عبرة عندنا بالمخطئ من أهل القبلة ، سواء تضمّن خطؤه كفرا كالمجسّمة ، أو فسقا فاحشا ، ووجهه ظاهر.

ووافقنا أكثر العامّة في الأوّل (3) ؛ لأنّه كالكافر.

واختلفوا في الثاني على أقوال : ثالثها : أنّه يعتبر في حقّ نفسه دون غيره ، ويكون الإجماع الذي خالفه فيه حجّة على غيره لا عليه (4).

والحقّ على اصولهم اعتباره مطلقا ؛ لأنّه بالفسق لم يخرج عن الامّة ، فاتّفاق من سواه ليس اتّفاق كلّ الامّة ، فلا تدلّ الأدلّة المتقدّمة على حجّيّته.

قيل : ولا عبرة بقول المجتهد في فنّ في إجماع ثبت في فنّ آخر (5) ، فلا يعتبر قول الفقيه في الكلام ، وبالعكس ، ويعتبر قول الاصوليّ المتمكّن من الاجتهاد في الفقه. والضابط : أنّ

ص: 384


1- في « ب » : « الإمام ».
2- راجع : المحصول 4 : 196 ، والإحكام في أصول الأحكام 1 : 284.
3- راجع المحصول 4 : 180 و 181.
4- حكاه العلاّمة في تهذيب الوصول : 211 ، والفخر الرازي في المحصول 4 : 180 و 181.
5- قاله الفخر الرازي في المحصول 4 : 198 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 213.

المجتهد في فنّ إن لم يتمكّن من الاجتهاد في فنّ آخر ، يكون حكمه فيه حكم العامّيّ ، فلا يعتبر موافقته ولا مخالفته ، كما سبق ، وإن تمكّن منه ، يعتبر قوله عند العامّة (1) ، وعندنا لا يخفى جليّة الحال.

هذا ، وبقيت مسائل ذكرها العامّة في اصولهم بعضها متّفق عليه بينهم ، وهو عدم حجّيّة إجماع أهل البيت عليهم السلام. وبعضها مختلف فيه بينهم ، وهو عدم حجّيّة إجماع أهل المدينة ، وإجماع الخلفاء الأربعة ، والشيخين ، وعدم اختصاص الإجماع المحتجّ به بالصحابة (2). تركناها ؛ لظهور الحال فيها على اصول الفريقين ، والتعرّض لها لا يثمر إلاّ تكثير السواد.

ص: 385


1- قاله الغزالي في المستصفى : 144 ، والفخر الرازي في المحصول 4 : 185.
2- حكاه الفخر الرازي في المحصول 4 : 162 - 181 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 284 - 309.

الباب الرابع : في الأدلّة العقليّة

اشارة

وهي ثلاثة أنواع :

[ الأوّل : ] ما يعتمد عليه وينتهض دليلا لنفي الحكم الشرعي لا لإثباته.

و [ الثاني : ] ما يعتمد عليه وينتهض دليلا لإثباته.

و [ الثالث : ] ما لا يعتمد عليه.

وها هي نذكرها في فصول :

فصل [1]

ممّا عدّ من النوع الأوّل : أصل البراءة عن الشواغل الشرعيّة حتّى يدلّ دليل على خلافه ، وهو على صنفين :

[ الصنف ] الأوّل : أصالة براءة الذمّة عن حقوق اللّه حتّى يثبت خلافه ، وهو على قسمين :

أوّلهما : أصالة نفي فعل وجوديّ هو الحرمة أو الكراهة ، حتّى يثبت خلافه. وبه يثبت الحلّ في الأعيان ، والإباحة في الأفعال قبل بعثة الرسل وبعد بعثتهم فيما لا نصّ فيه.

وثانيهما : أصالة نفي فعل وجوديّ هو الوجوب أو الاستحباب ، حتّى يثبت خلافه.

و [ الصنف ] الثاني : أصالة براءتها عن حقوق الناس حتّى يثبت شغلها (1).

ص: 386


1- في « ب » : « خلافه ».

فهنا ثلاث مقامات (1) :

[ المقام ] الأوّل : في أنّ الأصل في الأشياء الإباحة قبل ورود الشرع. وإليه ذهب المعظم (2). وقيل بالتوقّف مطلقا (3). وقيل به فيما احتمل الحرمة ولم يكن من الشبهة في طريق الحكم ، وفي غيره الحكم فيه الإباحة (4). وقيل بوجوب الاحتياط (5).

والأكثر على أنّ القائل بالاحتياط هو القائل بالتوقّف ؛ فإنّه يتوقّف في الفتوى والحكم ، ويحتاط في العمل. وليس القول به مذهبا على حدة ، ويأتي (6) حقيقة الحال فيه.

وقيل بالحرمة ظاهرا (7). وقيل به واقعا (8). ومحلّ الخلاف الأفعال الاختياريّة. وأمّا الاضطراريّة : فالأصل فيها الإباحة وفاقا.

لنا : استفاضة الأخبار بإطلاق كلّ شيء حتّى يرد فيه نهي (9) ، وبعدم المؤاخذة قبل البيان (10) ، وبأنّه لن يكلّف اللّه نفسا إلاّ ما آتاها (11) ، وبعدم قيام الحجّة قبل المعرفة (12) ، وبعدم تعلّق التكليف بمن لا يعقل ، كالمجانين والصبيان وأمثالهما (13) ، وتعلّقه بهم يوم القيامة.

ولنا : قوله تعالى : ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) (14) دلّ على إباحة جميع أفراد

ص: 387


1- في « ب » : « مقالات ».
2- راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 325 ، والعدّة في أصول الفقه 2 : 742 ، والمستصفى : 51.
3- حكاه السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 324 ، والفخر الرازي إلى أبي الحسن الأشعري وأبي بكر الصيرفي وطائفة من الفقهاء في المحصول 1 : 159.
4- حكاه الآمدي عن المعتزلة في الإحكام في أصول الأحكام 1 : 130.
5- راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 325 و 326 ، والعدّة في أصول الفقه 2 : 741 و 742 ، والمحصول 1 : 158 و 159 ، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 1 : 52 ، والإحكام في أصول الأحكام 1 : 130 - 133.
6- يأتي في ص 391.
7- راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 325 و 7. والعدّة في أصول الفقه 2 : 741 و 742 ، والمحصول 1 : 158 و 159 ، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 1 : 52.
8- راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 325 و 8. والعدّة في أصول الفقه 2 : 741 و 742 ، والمحصول 1 : 158 و 159 ، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 1 : 52.
9- الفقيه 1 : 317 ، ح 937 ، ووسائل الشيعة 6 : 289 ، أبواب القنوت ، الباب 19 ، ح 3.
10- الكافي 1 : 164 ، باب حجج اللّه على خلقه ، ح 4.
11- المصدر : 163 ، باب البيان والتعريف ولزوم الحجّة ، ح 5.
12- المصدر : 164 ، باب حجج اللّه على خلقه ، ح 4.
13- بحار الأنوار 5 : 303 ، ح 13.
14- البقرة (2) : 29.

الانتفاع في جميع ما في الأرض إلاّ ما ثبت من خارج ؛ لأنّ المقام مقام امتنان (1) ، واللام يقتضي الاختصاص بجهة الانتفاع ، ولفظة « ما » ظاهرة في العموم.

وقوله : ( إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ ) (2) إلخ دلّ بمفهوم الحصر على إباحة غير ما ذكر.

وقوله : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً ) (3). وحمل « من » على التبعيضيّة ، وإرادة بعض معيّن أو مبهم لا يناسب مقام الامتنان ، وإرادة بعض لم يثبت حرمته يثبت المطلوب.

وقوله تعالى : ( أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) (4). والمراد ب- « الطيّب » ما يستطاب طبعا لا الحلال ، وإلاّ لزم التكرار ، وهو يقتضي حلّ المنافع بأسرها.

وقوله : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) (5) إنكار على من حرّم الزينة والرزق الطيّب ، فيثبت الإباحة في كلّ ما يصدق عليه الزينة والطيّب.

وقوله : ( لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ) (6) إلخ. وجه الاستدلال به ظاهر. وفيه إشعار بأنّ إباحة الأشياء مركوزة في العقل قبل الشرع ؛ لأنّه في صورة (7) الاحتجاج على الحلّ بعدم وجدان التحريم إلاّ للأشياء الخاصّة.

وقوله : ( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ ) (8) الآية دلّ باعتبار إفادة « ما » للعموم على إباحة ما سوى المتلوّ عليهم.

وقوله تعالى : ( إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ) (9). ووجه الاحتجاج به ظاهر.

وقوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (10).

ص: 388


1- كذا في النسختين. والأولى : « الامتنان ».
2- البقرة (2) : 173.
3- البقرة (2) : 168.
4- المائدة (5) : 4.
5- الأعراف (7) : 32.
6- الأنعام (6) : 145.
7- كذا في النسختين. ولعلّه : « صدد ».
8- الأنعام (6) : 151.
9- الأعراف (7) : 33.
10- الإسراء (17) : 15.

وقوله : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) (1).

وقوله : ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ) (2).

وقوله : ( وَما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ) (3) ، ووجه الاحتجاج بها ظاهر.

ولنا : حكم العقل بقبح التكليف من غير بيان ؛ لاستلزامه تكليف ما لا يطاق ، والإجماع المعلوم بالتتبّع ، ونقل غير واحد من أجلّة الأصحاب (4). قال المحقّق :

إنّ أهل الشرائع كافّة لا يخطّئون من بادر إلى تناول شيء من المشتهيات ، سواء علم الإذن فيها من الشرع أو لم يعلم ، ولا يوجبون عليه عند تناول شيء من المآكل أن يعلم التنصيص على إباحته ، ويعذرونه في كثير من المحرّمات إذا تناولها من غير علم ، ولو كانت محظورة لأسرعوا إلى تخطئته حتّى يعلم الإذن (5).

فإن قلت : مقتضى هذه الأدلّة أنّه لا سبيل للعقل إلى إدراك الأحكام الشرعيّة ، وهذا ينافي ما اخترت فيما سبق (6) من استقلال العقل في إدراك الوجوب والحرمة العقليّين ، واستلزامهما للوجوب والحرمة الشرعيّين.

قلت : قد سبق (7) منّا أنّ أمثال هذه الأدلّة لا تفيد أكثر من أنّه لا حكم للعقل فيما لا يقتضي فيه بحسن وقبح ، وهو محلّ الخلاف.

احتجّ المتوقّف بالأخبار الحاصرة بين أقسام ثلاثة :

[ الاولى : ] الدالّة على التثليث (8) ولزوم الكفّ والتثبّت عند الشبهة (9).

و [ الثانية : ] الدالّة على المنع عن القول بغير علم (10).

ص: 389


1- الطلاق (65) : 7.
2- الأنفال (8) : 42.
3- التوبة (9) : 115.
4- راجع : العدّة في أصول الفقه 2 : 742 ، وتهذيب الوصول : 55 ، ومعارج الاصول : 204.
5- معارج الاصول : 205 و 206.
6- تقدّم في ص6. 103.
7- تقدّم في ص7. 103.
8- الكافي 1 : 66 ، باب اختلاف الحديث ، ح 7.
9- المصدر ، ح 10 ، وتهذيب الأحكام 5 : 466 ، ح 1631.
10- الكافي 1 : 42 ، باب النهي عن القول بغير علم ، ح 1 و 2.

ويدلّ عليه بعض الآيات أيضا كقوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ ) (1) إلخ. وقوله : ( وَلا تَقُولُوا عَلَى اللّهِ ) (2) إلخ. وما لم يرد به الشرع شبهة ، والحكم فيه بالإباحة قول بغير علم.

و [ الثالثة : ] الدالّة على أنّ لله في كلّ واقعة حكما مخزونا عند أهله (3) ، والقول بالإباحة فيما لا نعلمه ينافيه (4).

والجواب عن الأوّل : منع كون ما لا نصّ فيه شبهة ؛ لأنّ المراد من الشبهة في أخبار التثليث ما تعارض [ فيه ] النصّان ؛ لأنّها وردت فيه ، ولو كانت الأخبار الدالّة على الوقف فيما تعارض فيه النصّان دالّة على الوقف فيما لا نصّ فيه ، لكانت الأخبار الدالّة على التوسعة في الأوّل دالّة على الإباحة في الثاني ؛ لأنّ التوسعة في معنى الإباحة.

ومع التسليم نقول : إنّ هذه الأخبار كالصريحة في أنّ الشبهة ليست من المحرّمات ، فلا يكون اجتنابها واجبا ، بل المفهوم منها أنّها لمّا كانت ممّا يفضي إلى ارتكاب المحرّم يكون اجتنابها مستحبّا وارتكابها مكروها.

وما ورد في بعضها من أنّه من ارتكبها ارتكب الحرام أو هلك (5) ومثله ، فالمراد منه الإشراف على الارتكاب والهلاك ، ومثله متعارف في المحاورات ، كما يقال : من سافر وحده ضلّ عن الطريق ، أو أكله السبع.

والجواب عن الثاني : أنّ القول بالإباحة ليس قولا بغير علم بعد دلالة الأدلّة المتقدّمة (6).

و [ الجواب ] عن الثالث : أنّ ثبوت حكم لكلّ واقعة في الواقع لا ينافي براءة ذمّتنا ، وعدم تكليفنا به إذا لم يبلغنا ؛ لأنّ التكليف لا يكون إلاّ بعد البيان.

ولو قطع النظر عن ذلك كلّه وقلنا بدلالتها على مطلوبهم ، نقول : الترجيح لأخبار

ص: 390


1- الإسراء (17) : 36.
2- النساء (4) : 171.
3- راجع وسائل الشيعة 27 : 24 و 25 أبواب صفات القاضي ، الباب 4 ، ح 12 : « العلم مخزون عند أهله ... ».
4- قال الفاضل التوني في الوافية : 187.
5- تقدّم في ص 389.
6- تقدّمت في ص 387 - 388.

الإباحة ؛ لأكثريّتها ، واعتضادها بالكتاب والعقل والإجماع.

واحتجّ القائل بالاحتياط باستفاضة الأخبار بالأخذ به ، وبأنّ شغل الذمّة اليقينيّ يحتاج إلى البراءة اليقينيّة (1).

والجواب عن الأخبار : أنّها محمولة على الاستحباب ؛ جمعا بين الأدلّة ، وبعضها صريح فيه.

و [ الجواب ] عن الثاني : منع ثبوت شغل الذمّة اليقيني فيما نحن فيه. وسيأتي تحقيق القول في الاحتياط (2).

ثمّ الحقّ - على ما يستفاد من موارد الاحتياط والتوقّف - : أنّ الاحتياط يختلف في الموارد كما يأتي (3) ، فربّ مورد يكون الاحتياط فيه الترك ، وربّ مورد يكون الاحتياط فيه ارتكاب فعل واحد أو أفعال متعدّدة ، وليس هو مجرّد ارتكاب أمر محتمل للوجوب (4) وحكم آخر ما عدا التحريم ، كما فهمه بعض المتأخّرين (5).

والتوقّف إمّا في القول ، وهو الكفّ عن الفتوى والحكم. وإمّا في العمل ، وهو ترك الأمر المحتمل للحرمة وحكم آخر من الأحكام الخمسة ، فهو أخصّ مطلقا من الاحتياط. والظاهر أنّ المتوقّف يرتكب الفعل فيما يحتمل الوجوب وغيره من الأحكام سوى الحرمة وإن لم يكن هو معنى التوقّف. والمحتاط يكفّ عن الفتوى والحكم ، فيتّحد القول بالتوقّف والاحتياط عند التحقيق. وحينئذ يصير أدلّة كلّ من الاحتياط والتوقّف معاضدة لأدلّة الآخر ، إلاّ أنّ الجميع لا يقاوم أدلّة القول بالإباحة ، كما عرفت وجهه.

واحتجّ المحرّم بأنّه تصرّف في ملك الغير بغير إذنه ، وهو قبيح (6).

وجوابه : أنّ الإذن معلوم ، أمّا عقلا ؛ فلأنّه لا ضرر على المالك ، كالاستظلال بحائط الغير ، وأخذ أحبّ مملوك قطرة من بحر لا ينزف لمولاه المتّصف بغاية الجود. والتقريب واضح.

ص: 391


1- حكاه الفاضل التوني في الوافية : 191 - 192.
2- يأتيان في ص 426.
3- يأتيان في ص 426.
4- في « ب » : « الوجوب ».
5- قاله الفاضل التوني في الوافية : 192.
6- حكاه السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 337 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 56.

وأمّا شرعا ؛ فلما عرفت. ولو كانت الأشياء على الحصر وفرض ضدّان لا ثالث لهما ، لزم التكليف بالمحال.

إذا تقرّر ذلك فالفروع له كثيرة :

منها : إباحة شرب التتن.

ومنها : إذا وقعت واقعة ولم يوجد من يفتي فيها ، فعلى القاعدة يلزم الرجوع إلى ما يقتضيه أصل الإباحة ، والحكم بعدم التكليف ، وقس عليهما أمثالهما.

تتمّة

الشبهة على قسمين :

أحدهما : الشبهة في نفس الحكم الشرعي ، وهو ما اشتبه حكمه الشرعي ، أعني الإباحة والتحريم ، وعدّ منها ما لا نصّ فيه.

وثانيهما : الشبهة في طريقه ، وهو ما اشتبه فيه موضوع الحكم الشرعي ، كما في اشتباه اللحم بأنّه مذكّى أو ميتة مع العلم بأنّ المذكّى حلال والميتة حرام ، والاشتباه في صوت خاصّ بأنّه غناء أم لا مع القطع بأنّ الغناء حرام.

وتوقّف الأخباريّون في الأوّل ؛ محتجّين بأخبار التثليث (1) ، كما تقدّم (2). ووافقوا الاصوليين في الثاني في أنّ الأصل فيه الإباحة ، محتجّين بعموم بعض الأدلّة المتقدّمة ، وباستفاضة الأخبار بحلّيّة كلّ شيء فيه الحلال والحرام حتّى يعرف الحرام بعينه (3).

وغير خفيّ أنّ أخبار التثليث تدلّ على وجوب التوقّف في كلّ ما يصدق عليه الشبهة. ولا ريب في أنّها كما تصدق على ما اشتبه فيه نفس الحكم الشرعي تصدق على ما اشتبه فيه موضوعه أيضا ؛ لأنّه ليس لها حقيقة شرعيّة ، فيجب الرجوع إلى العرف واللغة وهما

ص: 392


1- حكاه عنهم السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 325 ، والبصري في المعتمد 2 : 321 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 55 ، والفاضل التوني في الوافية : 188. راجع الفوائد المدنيّة : 192 و 193.
2- تقدّم في ص 389.
3- حكاهما عنهم السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 325 ، والبصري في المعتمد 2 : 321 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 55 ، والفاضل التوني في الوافية : 188. راجع الفوائد المدنيّة : 192 و 193.

يطلقان عليه ، وقد اطلقت عليه في كثير من الأخبار (1) أيضا ، فإدراج الأوّل فيها والحكم فيه بالوقف وإخراج الثاني منها والحكم فيه بالإباحة تحكّم ، مع أنّ صدقها عليه أظهر من صدقها على ما لا نصّ فيه ، كما لا يخفى على العارف بالعرف واللغة.

وتسليم صدق الشبهة عليه وتخصيص الشبهة في أخبار التثليث بالشبهة في نفس الحكم الشرعي لا دليل عليه. ومجرّد دلالة بعض الأخبار على الإباحة في أحدهما دون الآخر لا يصحّح الفرق ؛ لانعكاس دلالة بعض آخر من الأخبار والأدلّة ، مع أنّه لا يلائم ما ذهبوا إليه من القول بالتثليث (2) ؛ لبداهة أنّ الشبهة في موضوع الحكم الشرعي ليس حلالا بيّنا.

فالحقّ ، ما ذهب إليه الاصوليّون من اتّحاد حكم الشبهتين ، وهو الإباحة فيهما ، واستحباب الاجتناب عنهما (3).

وكيفيّة التفريع : الحكم بإباحة ماء النهر الذي وقع فيه الشكّ بأنّه مباح أو مملوك. وجواز النظر إلى من شكّ فيه بأنّه ذكر أو أنثى ، أو محرم أو أجنبيّة ، أو حرّة أو أمة. وجواز لبس الثوب المخلوط من الحرير وغيره إذا شكّ في استهلاك الحرير.

وبعضهم رجّح هنا المنع ؛ لوجود الحرير المانع ، والشكّ في المبيح وهو الاستهلاك (4) ، والأصل عدمه.

ولا يخفى أنّ ما اشتبه فيه موضوع الحكم إمّا أن يكون الأصل فيه الإباحة ويشكّ في سبب الحرمة ، فاللازم فيه العمل بالأصل بلا كلام ، كالمثال الأوّل ، والطائر المقصوص ، وكتعليق أحد رجلين ظهار زوجته بكون الطائر غرابا والآخر بكونه غير غراب ، ولم يمكن استعلام حاله ، فيحكم بعدم وقوع الظهارين ؛ عملا بالأصل (5). ولو غلب على الظنّ تأثير السبب ، ربّما حكم بالتحريم ، كما لو بال كلب في الماء فوجده متغيّرا.

ص: 393


1- راجع الكافي 1 : 68 ، باب اختلاف الحديث.
2- حكاهما عنهم السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 325 ، والبصري في المعتمد 2 : 321 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 55 ، والفاضل التوني في الوافية : 188. راجع الفوائد المدنيّة : 192 و 193.
3- تقدّم في ص 387.
4- قاله الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 270.
5- للاطّلاع على المسألة وأمثلتها راجع : القواعد والفوائد 1 : 182 و 183 ، وإيضاح الفوائد 3 : 119 ، ونضد القواعد الفقهيّة : 442 ، والأقطاب الفقهيّة : 148.

وإمّا أن يكون الأصل فيه الحرمة ويشكّ في سبب الإباحة ، كمثال الثوب المخلوط من الحرير وغيره ، والجلد المطروح مع عدم قيام قرينة معيّنة ، فالظاهر من كلام جماعة البناء على التحريم (1). هذا ، إلاّ أن يغلب على الظنّ تأثير السبب.

وإمّا أن يتساوى فيه الاحتمالان ، كطين الطريق ، وثياب مدمن الخمر ، والحكم فيه أيضا الإباحة كالأوّل ، ووجهه ظاهر ممّا تقدّم (2).

ثمّ أكثر الاصوليّين قسّموا الشبهة في الموضوع إلى الشبهة في المحصور والشبهة في غيره ، وأوجبوا الاجتناب في الاولى دون الثانية (3). ومرادهم من غير المحصور ما كان كذلك عادة - بمعنى - تعسّر حصره - لا ما امتنع حصره ؛ لأنّ كلّ ما يوجد من الأعداد قابل للعدّ.

واحتجّوا عليه بأنّ القطع حاصل بوجود الحرام أو النجس بين الامور المحصورة ، فالحكم بحلّيّة الجميع مستلزم للحكم بحلّيّة الحرام القطعيّ ، والحكم بحلّيّة واحد منها دون غيره ترجيح بلا مرجّح. وهذا وإن كان جاريا في غير المحصور أيضا إلاّ أنّ التنزّه فيه عن الجميع يوجب الحرج المنفيّ بخلاف المحصور (4).

وفيه : أنّ هذا ممنوع ؛ لأنّه كما يمكن الاجتناب عن الإناءين ، يمكن الاجتناب عن الأواني الكثيرة والرجوع إلى ماء آخر ، أو التيمّم من غير حرج. والاحتجاج على وجوب الاجتناب في المحصور بأنّه من باب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به (5) ، يجري في غيره أيضا.

والجواب بأنّ الواجب مقدّمة واجب قطعيّ متعيّن وهنا ليس كذلك. ولو سلّم نقول : التخصيص جائز ؛ للأدلّة.

والحقّ - كما ذهب إليه بعض المحقّقين (6) - : أنّ الحكم فيهما واحد وهو الإباحة ؛ لعموم

ص: 394


1- قاله العلاّمة في تحرير الأحكام 2 : 151 ، والشهيد في ذكرى الشيعة 3 : 28 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 311 ، القاعدة 99.
2- تقدّم في ص 390.
3- قاله الشهيد الثاني في روض الجنان 2 : 599 ، والكركي في جامع المقاصد 2 : 166 ، والبحراني في الحدائق الناضرة 1 : 503 ، والوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة : 247.
4- قاله الشهيد الثاني في روض الجنان 2 : 599 ، والكركي في جامع المقاصد 2 : 166 ، والبحراني في الحدائق الناضرة 1 : 503 ، والوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة : 247.
5- راجع الحدائق الناضرة 1 : 503.
6- منهم : المحقّق الحلّي في معارج الاصول : 208 ، والوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة : 241 ، الفائدة 24.

الأدلّة المتقدّمة ما لم يحصل القطع باستعمال الحرام أو النجس ، وهو إنّما يتحقّق باستعمال جميع الامور التي حصل فيها الاشتباه ، وحينئذ لا يحكم بحلّيّة الجميع ، ولا يجوز استعماله محصورا كان أو غيره ، ويحكم بحلّيّة كلّ واحد وكلّ جملة منها إذا خرج منها واحد ، ويجوز استعماله.

وإذا علمت ذلك ، فاعلم أنّ الفروع له كثيرة وفي بعضها حكم معظم الأصحاب بالفرق :

منها : ما قالوا : إنّ النجاسة إذا كانت في موضع وجهل موضعها ، لم يسجد على شيء منه إن كان محصورا ، كالبيت وشبهه ، وإلاّ جاز على كلّ جزء منه ما لم يتحقّق السجود على مجموع ما وقع فيه الاشتباه.

ومنها : حكمهم بوجوب الاجتناب عن الإناءين المشتبهين والثوبين كذلك. ومن هذا القبيل ما قال بعضهم : إنّه لو علّق رجل ظهار إحدى زوجتيه على كون الطائر غرابا ، والاخرى منهما على كونه غير غراب ، وامتنع استعلام حاله يلزم عليه الاجتناب عنهما.

وغير خفي أنّه إذا ثبت الفرق بنصّ أو إجماع فلا كلام ، وإلاّ فالحكم ما قدّمناه (1).

المقام الثاني (2) : في أصالة نفي الوجوب والاستحباب حتّى يثبت خلافه. وقد اتّفق عليه الجميع إلاّ بعض الأخباريّين ؛ حيث قالوا بوجوب الاحتياط بالفعل (3).

لنا : أكثر الأدلّة المذكورة في المقام الأوّل.

احتجّ الخصم بما دلّ على الأخذ بالاحتياط (4). وقد عرفت جوابه (5).

وكيفيّة التفريع هنا ظاهرة. وممّا يتفرّع عليه طهارة كلّ شيء حتّى يعلم أنّه قذر ؛ لأنّ النجاسة ممّا يجب الاجتناب عنه ، فثبوتها يستلزم التكليف والأصل عدمه. ويمكن إثباته

ص: 395


1- تقدّم في ص 394.
2- تقدّم المقام الأوّل في ص 387.
3- المراد من البعض هو الأسترآبادي في الفوائد المدنيّة : 192 ، كما حكاه عنه وعن بعض آخر الوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة : 240 ، الفائدة 24.
4- راجع الفوائد الحائريّة : 242 ، الفائدة 24.
5- تقدّم آنفا.

بأصل الإباحة أيضا ، ووجهه ظاهر. وقد ورد به بعض الأخبار من طرقنا (1) أيضا.

المقام الثالث : في أصالة براءة الذمّة عن حقوق الناس حتّى يثبت شغلها. وقد أجمع عليه المسلمون ، ودلّ عليه أكثر الأدلّة المتقدّمة (2).

ثمّ إجراء أصل البراءة في نفي الحكم الشرعي مشروط بأمرين :

أحدهما : أن يكون بعد ضبط طرق الاستدلالات الشرعيّة وعدم الظفر بما يدلّ على ثبوته.

قيل : ويتفرّع على هذا اشتراط حجّيّة أصل البراءة عن حقوق الناس بعدم عروض ما يناسب شغل الذمّة ، وأمّا إذا عرض ذلك ، فلا يقطع بحجّيّته ، كما إذا حبس شاة فمات ولدها ، أو أمسك رجلا فهربت دابّته وهلكت ، أو فتح قفصا لطائر فطار. ولا يمكن في هذه الصور إجراء الأصل في نفي شغل الذمّة عن ولد الشاة والدابّة والطائر ، بل لا بدّ للمفتي التوقّف عن الإفتاء ، ولصاحب الواقعة الصلح (3).

أقول : ما يناسب شغل الذمّة إن انتهض حجّة له ، فلا يجوز التمسّك حينئذ بالأصل ، وإلاّ جاز ، فلا وجه للتوقّف ، فمن يدرج الصور المذكورة في قوله عليه السلام : « لا ضرر ولا ضرار » (4) لا يتمسّك فيها بالأصل ، ومن لا يدرجها فيه يتمسّك به فيها.

وثانيهما : أن لا يكون مستلزما لإثبات حكم شرعي من جهة اخرى ؛ لما عرفت من أنّه ينتهض دليلا لنفي الحكم الشرعي لا لإثباته ، فإذا علم نجاسة أحد الإناءين واشتبه بالآخر ، فلا يصحّ التمسّك في جواز الطهارة من أحدهما بالأصل ؛ لأنّه مستلزم لوجوب الاجتناب من الآخر ، وكذا الحكم في الزوجة المشتبهة بالأجنبيّة ، والثوب الطاهر المشتبه بالنجس ، والحلال المشتبه بالحرام المحصور وغير ذلك.

وقال بعض المتأخّرين : ويشترط أن لا يكون الأمر المتمسّك فيه بالأصل جزء عبادة

ص: 396


1- راجع الفقيه 1 : 317 ، ح 937.
2- تقدّمت في ص 386 - 388.
3- قاله الفاضل التوني في الوافية : 193 و 194.
4- دعائم الإسلام 2 : 499 ، ح 1781 ، والفقيه 4 : 334 ، ح 5718 ، ومستدرك الوسائل 13 : 307 ، باب ثبوت خيار الغبن للمغبون ، ح 3.

مركّبة ؛ لأنّها توقيفيّة ، ويعلم نفي ما شكّ في جزئيّته من النصّ الذي بيّن فيه أجزاؤها إذا لم يذكر فيه ، لا من الأصل (1).

وهو ظاهر الفساد ؛ لأنّ النصّ الذي لم يذكر فيه جزء نفيا ولا إثباتا ، كيف يدلّ على نفيه إذا شكّ في جزئيّته لإجمال دلالته عليه ، أو لأمر آخر بدون ضميمة الأصل؟!

ولو صحّ ذلك ، لتأتّى في غير العبادات أيضا إذا ورد في بيانه نصّ ، وكون العبادة توقيفيّة دون غيرها لا مدخليّة له في هذا الفرق ، مع أنّه غير ممكن ؛ فإنّ شروط العبادات والمعاملات وغيرهما تتوقّف على بيان الشارع ، فالحقّ عدم الفرق ، كما ذهب إليه المعظم (2) ؛ لعموم الأدلّة ، وعدم نهوض ما ذكره فارقا.

فصل [2]

ومن النوع الأوّل أيضا : استصحاب حال العقل ، وهو إبقاء الحالة السابقة - أي العدم الأزلي لكلّ شيء ، سواء كان تكليفا أو غيره - إلى أن يثبت المزيل.

والفرق بينه وبين أصل البراءة أنّه يلاحظ فيه العدم السابق ويجري إلى اللاحق ، وفي أصل البراءة يحكم بانتفاء الحكم في الحال ، سواء وجد في السابق أم لا ، ولا يلتفت فيه إلى السابق أصلا. وعدم الفرق بينهما - كما قيل (3) - ضعيف.

ووجه حجّيّته استفاضة الأخبار بأنّ اليقين لا يزول بالشكّ (4) ، وأنّ التكليف بالشيء من غير الإعلام به محال. وهذا إنّما ينتهض دليلا لأصالة نفي الحكم الشرعي وموضوعه ومتعلّقه كالنقل ، دون غيرها ممّا لا مدخليّة له بالحكم الشرعي أصلا ، كحدوث واقعة كذا في بلدة كذا ، فلا يمكن نفيها بالاستصحاب ؛ لعدم دليل على أصالة مثله. وعدم مقاومة الشكّ لليقين إنّما يثبت شرعا في الأحكام الشرعيّة ، ولا يدلّ عليه العقل في غيرها ؛ لأنّه إذا شكّ في وجود الشيء في زمان يقع الشكّ في عدمه فيه أيضا ، فلا يصحّ الحكم بتحقّقه.

ص: 397


1- قاله الفاضل التوني في الوافية : 195.
2- حكاه الوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة : 475 و 476 ، الفائدة 29.
3- قاله المحقّق الحلّي في معارج الاصول : 208.
4- تهذيب الأحكام 1 : 421 ، ح 1335 ، والاستبصار 1 : 183 ، ح 641.

نعم ، يمكن ادّعاء الظنّ على بقاء ما كان على ما كان - وجودا كان أو عدما - إلى أن يعلم المزيل ، كما يأتي في استصحاب حال الشرع (1).

وربّما استدلّ عليه بأنّ اللّه تعالى صوّب الكفّار في مطالبتهم البرهان من الرسل على نبوّتهم حتّى قال : ( تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) (2) ، والتصويب لأجل تمسّكهم بالنفي الأصلي وهو عدم النبوّة.

ثمّ أصل العدم أعمّ من كلّ من أصل البراءة والاستصحاب المذكور ، وهو ظاهر. ووجه حجّيّته يعلم ممّا ذكر فيهما.

وما ذكر في أصل البراءة (3) من أنّه لا يجوز التمسّك به فيما يلزم منه ثبوت شغل الذمّة من جهة اخرى يأتي في أصل العدم أيضا ، فلا يصحّ أن يقال في الماء الملاقي للنجاسة المشكوك كرّيّته : الأصل عدم بلوغه كرّا ؛ للزوم الاجتناب عنه حينئذ.

وكيفيّة التفريع ظاهرة. مثلا إذا شكّ في كون المذي ناقضا للوضوء نقول : عدم نقضه كان ثابتا في السابق ، فكذا الآن. ومنه عدم وجوب الزكاة لو شكّ في بلوغ النصاب ، وعدم قتل الصبيّ الذي شكّ في بلوغه.

واعلم أنّ كلّ واحد من الاصول التي تنتهض حجّة لنفي الحكم إنّما يدلّ على سقوط التكليف به عنها ، لا على نفيه في الواقع ؛ لما عرفت من عدم دلالتها عليه (4) ، ولاستفاضة الأخبار بأنّ لله في كلّ واقعة حكما مودعا عند الأئمّة عليهم السلام إلاّ أنّهم لم يتمكّنوا من إظهار الجميع (5).

نعم ، إن كان الحكم ممّا يعمّ به البلوى ولم يوجد دليل على ثبوته ، يمكن ادّعاء نفيه في الواقع ؛ لما يأتي (6).

ص: 398


1- يأتي في ص 401.
2- إبراهيم (14) : 10.
3- تقدّم في ص 396.
4- تقدّم في ص 389.
5- راجع : نهج البلاغة : 686 - 687 ، قصار الحكم : 147 ، والوافية : 179.
6- يأتي في ص 401.
فصل [3]

ومن النوع الأوّل أيضا : أصالة عدم تقدّم الحادث ، كأن يقال في الماء الذي وجد فيه نجاسة بعد الاستعمال ولم يعلم أنّ وقوعها فيه بعده أو قبله : الأصل عدم تقدّم النجاسة ، فلا يكون ما لاقاه هذا الماء قبل رؤية النجاسة نجسا ، وهو من أقسام أصل العدم ، فيترتّب حجّيّته على حجّيّتها (1).

ويشترط في جواز التمسّك به أن لا يستلزم شغل الذمّة من جهة اخرى ، فإذا استعمل ماء ثمّ ظهر أنّه كان قبل ذلك في وقت نجسا ، ثمّ طهر بما يقع به التطهير وشكّ في تقدّم الاستعمال على التطهير وتأخّره عنه ، فلا يجوز أن يقال : الأصل عدم تقدّم التطهير ؛ للزوم نجاسة ما لاقاه حينئذ.

وممّا يتفرّع عليه قبول قول البائع دون المشتري لو تنازعا في تقدّم العيب على العقد وتأخّره عنه.

فصل [4]

ومن النوع الأوّل أيضا : الأخذ بالأقلّ عند فقد الدليل على الأكثر ، وهو إنّما يكون فيما اختلف العلماء فيه على أقوال ، وكان يدخل بعضها في بعض ، وكان الأقلّ ثابتا بنصّ أو إجماع وشكّ في الزائد ، ولم يكن ثبوته راجحا ، فيلزم أن يؤخذ بالأقلّ (2) ، وينفى الزائد بالأصل. مثاله : قيل في عين الدابّة ربع قيمتها (3). وقيل نصف قيمتها (4). وليس للقول الثاني دليل يرجّحه على الأوّل ، فنقول : الربع ثبت إجماعا ، فينفى الزائد للأصل ، فهو من أقسام أصل البراءة ، فوجه حجّيّته ظاهر.

لا يقال : الذمّة مشغولة بشيء يقينا ، وقد اختلف فيما تبرأ (5) ، واشتغال الذمّة اليقينيّ

ص: 399


1- في « ب » : « حجّيّته ».
2- في « ب » : « الأقلّ ».
3- قاله المحقّق الحلّي في المعتبر 1 : 32.
4- حكاه المحقّق الحلّي في المصدر. وأيضا حكاهما الفاضل التوني في الوافية : 198.
5- في « ب » : « يبرئه ». والصحيح : « يبرئها ».

يحتاج إلى البراءة اليقينيّة وهي إنّما تتحقّق بالأخذ بالأكثر.

لأنّا نقول : المحتاج إلى البراءة القدر المتيقّن من اشتغال الذمّة وهو الأقلّ ، والقدر المشكوك فيه لا يحتاج إلى البراءة ؛ للأصل.

وقد ظهرت كيفيّة التفريع.

وممّا يتفرّع عليه : قول الفقهاء : الأصل عدم بلوغ الماء كرّا. وهذا إذا شكّ في كرّيته ابتداء من غير سبق العلم بالقلّة اليقينيّة ، ومع سبقه والشكّ في كرّيته في أثناء دخول ماء آخر فيه ، يكون من الاستصحاب.

فصل [5]
اشارة

وممّا عدّ منه أيضا : عدم الدليل على حكم ؛ فإنّه يدلّ على عدمه ، وهذا ما يعبّر عنه (1) العامّة بأنّ عدم المدرك مدرك العدم (2).

واستدلّ عليه بأنّ الحكم الشرعي لا بدّ له من دليل ، وإلاّ لزم التكليف بالمحال ، فإذا شكّ في حكم ولم يظفر بدليل عليه ، غلب على الظنّ عدمه (3).

وغير خفيّ أنّ هذا الدليل يفيد عدم تعلّق التكليف بمثل هذا الحكم (4) لا عدمه في الواقع ، فيرجع إلى أصل البراءة ولا يكون مسلكا على حدة ، مع أنّ الظاهر من كلام القوم أنّه غير أصل البراءة ، بل غرضهم أنّ عدم الدليل دليل عدم الحكم في الواقع ، وحينئذ لا يكاد أن يصحّ هذا بإطلاقه.

أمّا أوّلا ؛ فلما دريت من أنّه لا يوجد واقعة إلاّ ولها مدرك شرعي وحكم واقعي عند أهله وإن لم يصل إلينا.

وأمّا ثانيا ؛ فلأنّ عدم الدليل لو كان دليل العدم ، لكان عدم دليل العدم دليلا على عدم

ص: 400


1- في « ب » : عند.
2- حكاه الفخر الرازي في المحصول 6 : 168.
3- قاله الغزالي في المستصفى : 159 ، والمحقّق الحلّي في معارج الاصول : 212 ، وحكاه وفصّله الفاضل التوني في الوافية : 198.
4- تعلّق التكليف بالحكم ممّا لا وجه له إلاّ أن يراد من التكليف الفعليّة.

العدم ، فيجتمع النقيضان في الحكم المشكوك فيه وهو باطل.

فالحقّ ، كما قال بعض المحقّقين : إنّ هذا يجري فيما علم أنّه لو كان هناك دليل ، لظفر به فيما يعمّ به البلوى (1) ؛ لأنّه يمتنع عادة ثبوت حكم لقضيّة (2) ترد على الناس في أكثر الأوقات ولم ينقل إليهم مع توفّر الدواعي على نقل مثله. مثاله : عدم الدليل على نقض الوضوء بالمذي دليل على عدمه ؛ لأنّه ممّا يعمّ به البلوى ؛ لحصوله لأكثر الناس في أكثر الأوقات ، فلو ثبت لعلم من الشرع كما علم نقض الوضوء بالبول ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

تذنيب

النافي للحكم إذا قال : لا أدري ، فلا دليل عليه وفاقا ؛ لأنّ قوله لا يعدّ مذهبا. وإن نفاه على البتّ ، فقيل : لا دليل عليه أيضا ؛ لأنّ النفي عدم وهو لا يفتقر إلى الدلالة (3).

وضعفه ظاهر ؛ لأنّ الجازم بالنفي يدّعي العلم به ، وهو إمّا أن يستند إلى الضرورة أو النظر. والأوّل باطل ؛ فتعيّن الثاني ، فالمحتاج إلى الدليل هو الجزم بالنفي ، ولو لم يفتقر إليه ، لزم التفصّي عنه في كلّ دعوى ؛ لإمكان إرجاعه إلى النفي وهو باطل.

ويمكن أن يقال : إنّ مراد القائل أنّه لمّا كان المتيقّن هو العدم للاستصحاب أو لأصل البراءة حتّى يعلم خلافه ، فالمدّعي له لا يخلو قوله عن دليل ، ولا يفتقر إلى دليل آخر. وهو لا يلائم حكمه بعدم افتقاره إلى الدليل أصلا.

فصل [6]
اشارة

ومن النوع الثاني : استصحاب حال الشرع ، وهو إبقاء حكم ثبت على ما كان. وتنقيحه يتوقّف على بيان امور :

[ الأمر ] الأوّل : الاستصحاب إمّا أن يكون في نفس الحكم الشرعي ، بأن يحكم بعدم

ص: 401


1- قاله الفاضل التوني في الوافية : 182.
2- في « ب » : « القضيّة ».
3- قاله المحقّق الحلّي في معارج الاصول : 211.

كون شيء مزيلا إذا شكّ في كونه كذلك مع القطع بوجوده ، أو في موضوعه بأن يحكم بعدم وجود المزيل القطعيّ مع الشكّ في وجوده ، أو في متعلّقه ، كالحكم ببقاء المعنى اللغوي على حاله إذا شكّ في النقل ، أو فيما لا علاقة له بالأمر الشرعي أصلا ، كالحكم ببقاء رطوبة ثوب إذا شكّ فيها مع سبق العلم بها.

[ الأمر ] الثاني : الأكثر على حجّيّة الاستصحاب مطلقا. والمرتضى (1) والبصري (2) وأكثر الحنفيّة على نفي حجّيّته كذلك (3). وبعض المتأخّرين من أصحابنا على حجّيّته إذا كان في موضوع الحكم الشرعي دون نفسه (4). وبعض آخر منهم على حجّيّته في الحكم الذي كان مغيّا بغاية مخصوصة من زمان أو حالة وشكّ في حصولها ، فيحكم باستمراره إلى أن يقطع بحصولها ، ولا يحكم بنفيه بمجرّد الشكّ في حدوثها (5). وبعض آخر منهم على حجّيّته في الأحكام الوضعيّة دون الشرعيّة ؛ لجريانه أصالة في الأوّل دون الثاني (6).

نعم ، يجري فيه بتبعيّة الأوّل ، فالجريان والحجّيّة في الأوّل بالذات ، وفي الثاني بالعرض.

والحقّ عندي الحجّيّة مطلقا ، إلاّ أنّ حجّيّة في بعض المواضع قطعيّة ينتهض فيها مؤسّسا للحكم ودليلا ، وفي بعضها ظنّيّة يصلح فيها تأييدا وترجيحا. وسيظهر لك بعد ذكر هذه المواضع وأدلّته.

[ الأمر ] الثالث : الموارد بالنسبة إلى جواز جريان الاستصحاب فيها وعدمه ثلاثة أصناف :

الصنف الأوّل : ما لا شكّ في إمكان جريانه فيه ، وهو أقسام :

منها : أن يعلم ثبوت حكم شرعي أو وضعي إلى غاية أو حالة معيّنتين وشكّ في حصول ما جعل مزيلا له.

ص: 402


1- الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 345 و 346.
2- حكاه عنه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 132.
3- حكاه الشيخ في العدّة في أصول الفقه 2 : 756.
4- قاله السبزواري في ذخيرة المعاد : 115 و 116.
5- قاله المحقّق الحلّي في معارج الاصول : 206 و 209 و 210.
6- قاله الفاضل التوني في الوافية : 202 و 203.

ومنها : أن يعلم وجوب أمر معيّن في الواقع مردّد عندنا بين امور ، أو ثبوت حكم إلى غاية معيّنة في الواقع مردّدة عندنا بين أشياء ، وعلم عدم اشتراطهما بالعلم ، فإذا اتي بواحد من الامور أو الأشياء يمكن إجراء الاستصحاب في عدم كفايته لارتفاع التكليف ، ووجوب الحكم ببقائه إلى أن يؤتى بجميع الامور ، ويحصل جميع الأشياء المردّدة فيها في نظرنا.

ومنها : أن يعلم ثبوت حكم في جميع الأزمنة بالإجماع أو النصّ أو العموم أو الإطلاق ، وشكّ في ثبوته في جزء منها غير ابتدائها لأجل معارض ، فيمكن دفعه بالاستصحاب. وإمكان دفعه بالإجماع أو النصّ أو عمومه أو إطلاقه لا ينافي إمكان جريانه فيه ودفعه به أيضا ؛ فإذا شكّ في وقوع الطلاق ببعض الألفاظ كقوله : « أنت خليّة وبريّة » فيصحّ للمستدلّ أن يقول : حلّ الوطء كان ثابتا قبل النطق بهذه ، فكذا بعده للاستصحاب ، كما يصحّ له أن يقول : إنّ الدليل المقتضي له - وهو العقد - اقتضاه مطلقا من دون التقييد بوقت ، فيلزم دوامه.

وإلى ما ذكرنا أشار جماعة من المحقّقين حيث صرّحوا بأنّ الاستصحاب على أربعة أقسام (1) :

أحدها : استصحاب حكم العموم إلى ورود مخصّص ، وحكم النصّ إلى ورود ناسخ ، وهو إنّما يتمّ بعد استقصاء البحث عن المخصّص والناسخ.

وثانيها : استصحاب حكم الإجماع في موضع النزاع ، كما يقال : الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء ؛ للإجماع على أنّه متطهّر قبله ، فيستصحب ؛ إذ الأصل في كلّ متحقّق دوامه حتّى يثبت معارض ، والأصل عدمه. وكما يقال في التيمّم : إذا وجد الماء في أثناء الصلاة لا ينقض تيمّمه ؛ للإجماع على صحّة صلاته قبل وجوده ، فتستصحب حتّى يثبت دليل.

وثالثها : استصحاب حكم ثبت شرعا ، كالملك عند وجود سببه ، وشغل الذمّة عند إتلاف مال ، أو التزام إلى أن يثبت رافع.

ص: 403


1- منهم : الشهيد في القواعد والفوائد 1 : 132 و 133 ، القاعدة 3 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 271 ، القاعدة 96 ، والفاضل التوني في الوافية : 216 و 217.

ورابعها : استصحاب النفي في الحكم الشرعي إلى أن يرد دليل ، وهو المعبّر عنه بالبراءة الأصليّة.

والحقّ أنّه لا ريب في إمكان جريان الاستصحاب وحجّيّته في كلّ من الأقسام الأربعة ، كما يأتي (1) ، فما ذكره بعض المتأخّرين من أنّه لا استصحاب في القسمين الأوّلين ، ولا يمكن إثبات الحكم فيهما به ، بل بالعموم والنصّ والإجماع (2) ، غير صحيح. ووجهه ما ذكرناه.

وكذا (3) الحال في حكم علم ثبوته في قطعة مستمرّة من الزمان بإحدى الطرق المذكورة ، وشكّ في ثبوته في جزء منها غير جزئها الأوّل.

الصنف الثاني : ما شكّ في جريانه فيه ، ووقع فيه الخلاف ، وهو على قسمين :

أوّلهما : أن يعلم ثبوت حكم في الجملة من غير العلم بثبوت استمرار ما له وعدمه.

وثانيهما : أن يعلم استمراره في الجملة ، ثمّ حصل الشكّ فيهما بعد مضيّ ما يصلح ظرفا لهما.

والمشهور بين القوم إمكان جريان الاستصحاب وحجّيّته فيهما ، ونفاه جماعة (4) ؛ لأنّه في موضع لو لم يعرض الشكّ في ثبوت الحكم ، لحصل اليقين بالبقاء ، وهنا ليس كذلك ، ويأتي تحقيق الحال فيهما (5).

ثمّ ثبوت الحكم في المواضع المذكورة إمّا باعتبار يعلم من خارج أنّ زواله لا يستلزم زواله ، كثبوت نجاسة ثوب باعتبار ملاقاته للبول مثلا ، ولا ريب أنّ زوال الملاقاة لا يستلزم زوال النجاسة.

أو باعتبار لا يعلم ذلك فيه ، كوجوب الاجتناب عن إناء مخصوص باعتبار وقوع النجاسة فيه بعينه ، فإذا اشتبه بغيره وزالت المعلوميّة بعينه ، يقع الشكّ في زوال الحكم ،

ص: 404


1- يأتي في ص 408.
2- قاله الفاضل التوني في الوافية : 217.
3- عطف على « ومنها أن يعلم ثبوت حكم في جميع الأزمنة » في ص 403.
4- منهم : السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 352 ، ونسبه الشيخ إلى أكثر المتكلّمين وكثير من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة في العدّة في أصول الفقه 2 : 756.
5- يأتي في ص 408.

ولا يعلم أنّ زوال هذا الاعتبار يستلزم زواله أم لا؟

والحقّ : أنّ الاستصحاب يجري في كليهما (1) ، فما لم يعلم طهارة الثوب على الوجه المعتبر شرعا يستصحب حكم النجاسة فيه ، وكذا يستصحب وجوب الاجتناب عن الإناءين.

هذا ، ولا فرق بين المواضع التي يجري فيها الاستصحاب بين أن يكون الحكم الثابت فيها أوّلا حكما شرعيّا أو وضعيّا ، وأن يكون المشكوك فيه وجود المزيل القطعي ، أو كون الحاصل قطعا مزيلا ، أم لا.

الصنف الثالث : ما لا شكّ في عدم إمكان جريان الاستصحاب فيه ، وهو أيضا على قسمين :

أوّلهما : أن يعلم ثبوت حكم شرعي أو وضعي في وقت خاصّ ، أو حالة خاصّة ، بحيث يكون للزمان والحالة مدخل فيه ، فلا يجري الاستصحاب فيما بعدهما.

وهذا القسم إمّا أن يتجدّد الحكم فيه بتجدّدهما ، كالصلاة ومثلها ، فيمكن إجراؤه فيه من جهة دون اخرى ، أو لا ، كوجوب الحجّ عند الاستطاعة.

وثانيهما : أن يعلم ثبوت حكم في وقت لم يسبقه وقت آخر يثبت فيه هذا الحكم.

[ الأمر ] الرابع : احتجّ الأكثر (2) بوجوه أربعة :

[ الوجه ] الأوّل : استفاضة الأخبار بأنّ اليقين لا ينقض بالشكّ (3). وأكثرها يدلّ على عدم نقض مطلق اليقين بالشكّ ، فيثبت منها حجّيّة الاستصحاب في الصنف الأوّل من الموارد ، سواء كان في الحكم الشرعي أو الوضعي ، وفي نفسه ، أو موضوعه ، أو متعلّقه.

[ الوجه ] الثاني : أنّ شغل الذمّة اليقينيّ يحتاج إلى البراءة اليقينيّة وفاقا ، وهو أيضا يدلّ على حجّيّته فيما ذكر.

والحقّ ، أنّهما لا يدلاّن على حجّيّته في الصنف الثاني.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ المراد من عدم نقض اليقين بالشكّ أنّه عند التعارض لا ينقض به.

ص: 405


1- أي القسمين من الصنف الثاني.
2- أي القائلين بحجّيّة الاستصحاب.
3- راجع : الكافي 3 : 351 ، باب السهو في الثلاث والأربع ، ح 3 ، وتهذيب الأحكام 1 : 8 ، ح 11.

والمراد بالتعارض أن يكون شيء يوجب اليقين لو لا الشكّ ، وما ذكروه ليس كذلك ؛ لأنّ اليقين في زمان لا يوجب حصوله في زمان آخر لو لا عروض الشكّ.

وأمّا الثاني ؛ فلأنّ شغل الذمّة في الزمان الذي وقع فيه الشكّ ليس يقينيّا ؛ لعدم دليل يتناوله بنصّه ، أو عمومه ، أو إطلاقه.

وما يوضحه : أنّه لو امرنا بفعل وقلنا : إنّ الأمر لا يفيد التكرار بل الماهيّة المطلقة ، وفعلنا ما يتحقّق [ به ](1) الماهيّة في ضمنه وشككنا بعده في وجوب المأمور [ به ](2) ، لا يمكن إثباته فيه بهذين الدليلين ؛ لعدم ثبوت يقين بوجوب الفعل علينا فيه حتّى يدفع الشكّ به.

وما قيل : إنّه بعد ملاحظة الوجود المتقدّم يحصل رجحان البقاء في الزمان الثاني ؛ لأنّه لو فرض ارتفاع هذا الشكّ يحصل اليقين بالبقاء ؛ لأنّ عدم عروض الشكّ إنّما يتحقّق عند تحقّق جميع أجزاء علّة الوجود ، ومعه يحصل الجزم ببقاء المعلول ؛ لأنّ بقاءه ببقاء العلّة التامّة ، وزواله بزوالها (3).

يرد عليه : أنّ معنى قولنا : « إنّ اليقين لا ينقض بالشكّ » وقولنا : « شغل الذمّة اليقينيّ لا يدفع بالبراءة المشكوك فيها » أنّه إذا ثبت بالدلالة أنّ هنا يقينا ، ثمّ ورد عليه الشكّ ، لا يترك اليقين به ؛ لأنّه في قوّة قولنا : « اليقين باق مع الشكّ » وهو قضيّة موجبة تقتضي وجود الموضوع ، ولم يتحقّق ذلك في زمان ثان حصل فيه الشكّ ؛ إذ لم يحصل فيه يقين أوّلا وإن حصل في زمان سابق عليه.

واستلزام ثبوت حكم في زمان لثبوته في زمان آخر من غير دلالة ممنوع ، واستلزام فرض ارتفاع الشكّ لوجود اليقين كلّيا مسلّم ، إلاّ أنّ فرض ارتفاعه في بعض المواضع يكشف عن بقاء اليقين ، وهذا إذا ثبت يقين أوّلا بدليل ثمّ ورد عليه الشكّ.

والدليلان يدلاّن على عدم مقاومة مثل هذا الشكّ لمثل هذا اليقين. وفي بعضها يتوقّف على تجدّد يقين باعتبار دليل ، وهذا إذا لم يحصل يقين أوّلا ، وهما لا يجريان فيه ؛ لعدم

ص: 406


1- أضفناهما بمقتضى الضرورة.
2- أضفناهما بمقتضى الضرورة.
3- حكاه الفخر الرازي في المحصول 6 : 120 ، وقاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 134 ، والمحقّق الحلّي في معارج الأصول : 208.

ثبوت يقين فيه حتّى يقع التعارض بينه وبين الشكّ ، ولا معنى لتحقّق الاستصحاب فيه.

نعم ، إن بني الدليل الثاني على وجوب حصول اليقين بالامتثال مطلقا ، سواء علم شغل الذمّة أم لا - كما يستفاد من كلام جماعة (1) - دلّ على جريان الاستصحاب وحجّيّته فيما ذكره القوم أيضا ، إلاّ أنّه حينئذ يكون ممنوعا ، ووجهه ظاهر.

[ الوجه ] الثالث : أنّ ما يثبت أوّلا ولم يتحقّق ما يزيله يظنّ بقاؤه ، ولولاه لعدّ إرسال الودائع والهدايا والمكاتيب من البعيد سفها ، وسفّه من اشتغل بما يقتضي زمانا من حراثة وتجارة وغيرهما ، ولزم أن يكون نسبة الوجود والعدم إلى قرية سبق العلم بوجودها ، وقرية سبق العلم بعدمها على السواء ، وهو ظاهر البطلان. والسرّ فيه أغلبيّة استمرار تحقّق مطلق الجواهر والأعراض القارّة المتحقّقة والانتزاعيّة بعد تحقّق ما ينزع منه. وما ينقض سريعا هو غير القارّ من الأعراض ، ولا يقطع بكون الأحكام الشرعيّة منها ، فإمّا أن يجزم أو يظنّ بكونها من الانتزاعيّة على ما هو الظاهر ، فثبت المطلوب ، أو يشكّ ولا يعلم أنّه من أيّ الأقسام؟ ولا ريب أنّ ما فيه أغلبيّة الاستمرار أغلب من غيره ، والمشكوك يلحق بالأعمّ الأغلب. وهذا الدليل يدلّ على حجّيّته في الصنف الأوّل والثاني ، سواء كان في الحكم الشرعي أو الوضعي ، وفي نفسه ، أو موضوعه ، أو متعلّقه ، أو فيما لا تعلّق به أيضا (2).

[ الوجه ] الرابع : الاستقراء ؛ فإنّ تصفّح جزئيات الأحكام الصادرة من الشارع يعطي الظنّ بأنّ الأصل عنده في كلّ متحقّق دوامه ، كحكمه بعدم جواز قسمة مال الغائب ، وبقاء أنكحته ، وعزل نصيبه في المواريث وإن طال غيبته وبقاء الملك ، وجواز الشهادة عليه ما لم يعلم الرافع ، وبقاء الليل والنهار حتّى يجزم بانقضائهما ، وجواز إعتاق الآبق في الكفّارة ، وعمل الشاكّ في الطهارة ، والمتيقّن في الحدث ، وعكسه على (3) يقينه ، وجواز الاستمتاع لو شكّ في الزوجيّة إذا تقدّم عليه العلم بثبوتها ، وحرمته لو شكّ فيها ابتداء ، ولا فارق بين

ص: 407


1- راجع : تهذيب الوصول : 293 ، وتمهيد القواعد : 271 ، القاعدة 96 ، والوافية : 191.
2- حكاه الفخر الرازي في المحصول 6 : 121 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 139 ، والفاضل التوني في الوافية : 208.
3- متعلّق على « عمل ».

الصورتين إلاّ استصحاب الزوجية في الاولى وعدمها في الثانية.

وهذا الدليل أيضا يدلّ على جريانه وحجّيّته في كلّ ما دلّ سابقه على جريانه وحجّيّته فيه ، سوى ما لا تعلّق له بالحكم الشرعي (1) ؛ وربّما منع دلالته على جريانه في الصنف الثاني أيضا ؛ لأنّ الجزئيّات الصادرة من الشارع ليست منه ، كما يفصح عنه التتبّع.

وقد استدلّ للأكثر بوجوه أخر (2) ، أعرضنا عنها ؛ لظهور ضعفها.

وبما ذكر ظهر أنّ الوجوه الأربعة تدلّ على حجّيّة الاستصحاب في الصنف الأوّل مطلقا ، سواء كان في نفس الحكم الشرعي ، أو موضوعه ، أو متعلّقه ، أو في الحكم الوضعي ، فيكون حجّيّته فيه قطعيّة ؛ لتعاضدها ، وإفادة بعضها القطع كالثاني ، بل الأوّل أيضا عند التحقيق. والثالث يدلّ على حجّيّته في الصنف الثاني أيضا.

ولعدم إفادته أكثر من ظنّ لا ينتهض مؤسّسا لحكم شرعي يكون حجّيّته فيه ظنّيّة تصلح للتأييد لا غير ، فثبت ما اخترناه وانفسخ باقي المذاهب.

ثمّ بعض من قال بحجّيّته في الصنف الأوّل استثنى منه استصحاب حكم الإجماع في موضع النزاع وقال بعدم حجّيّته ؛ محتجّا بأنّ كلّ دليل يضادّه نفس الخلاف فلا يمكن استصحابه معه ، والإجماع يضادّه نفس الخلاف ؛ إذ لا إجماع مع الخلاف ؛ إذ المخالف لا يسلّم شمول الإجماع محلّ الخلاف ، بخلاف النصّ والعموم ودليل العقل ؛ لأنّ الخلاف لا يضادّه (3) ؛ فإنّ المخالف قائل بأنّ العموم مثلا يتناول موضع الخلاف لكن يقول : أخصّه بدليل ، فإن لم يأت بالدليل يستصحب العموم (4).

والجواب : أنّ هذا يدلّ على عدم بقاء نفس الإجماع ، ونحن لا نستدلّ به ، بل باستصحاب حكمه ، وقد ثبت حجّيّته من عموم الأدلّة.

وهو الجواب عمّا قيل إنّ استصحاب حكمه إن كان بنصّ أو عموم فهو الدليل لا

ص: 408


1- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 134 ، والمحقّق الحلّي في معارج الاصول : 207 ، والفاضل التوني في الوافية : 208.
2- راجع : نهاية السؤل 4 : 358 ، والفوائد الحائريّة : 277 ، الفائدة 27.
3- أي كلّ واحد.
4- قاله الغزالي في المستصفى : 160.

الاستصحاب ، أو بالإجماع ، فلم يجز المخالفة ، وهو خلاف الإجماع (1).

وعمّا يستدلّ في بعض المسائل بأنّ هذا الحكم ثابت بالإجماع ، والإجماع إنّما هو إلى هذا الوقت الخاصّ ، ولا (2) دليل عليه فيما بعده ، فلا يكون الحكم فيما بعده ثابتا.

ثمّ إنّ هذا الدليل إنّما يتمّ إذا كان ثبوت الحكم المجمع عليه محدودا إلى وقت خاصّ ، وإذا كان مطلقا غير محدود ، فكيف يجدي تحقّق الخلاف لنفيه؟! بل للخصم أن يقول : الإجماع حينئذ يحرّم الخلاف ، فكيف يرتفع بالخلاف؟!

والحقّ : أنّ ثبوته إن كان مطلقا ولم يطرأ ما يوقع الشكّ في شموله لموضع النزاع ، حرم الخلاف ، وإن طرأ ذلك لم يحرم الخلاف للوفاق ، ولكن لا ريب حينئذ في جواز التمسّك بالاستصحاب وحجّيّته ؛ لما أشرنا إليه.

هذا ، وما لا تعلّق له بالحكم الشرعي كرطوبة الثوب ونحوها إن أمكن أن يصير منشأ لحكم شرعي بالعرض ، فلا ريب في جريان الاستصحاب وحجّيّته فيه ؛ لدلالة الأدلّة المذكورة عليه ، وإلاّ فلا يجري فيه ؛ لعدم دلالة غير الثالث حينئذ على جريانه فيه.

أمّا الثاني والرابع ، فظاهر. وأمّا الأوّل ؛ فلأنّه يبعد أن يكون مرادهم بيان ما لا مدخليّة له بالحكم الشرعي أصلا. والثالث وإن دلّ على ذلك إلاّ أنّك قد عرفت حاله ، مع أنّه لا فائدة في بيان حجّيّة مثله ؛ لعدم تعلّق غرض علميّ به. وهذا ما يقال إنّ الاستصحاب في الامور الخارجيّة لا عبرة به ، ولا فائدة فيه.

احتجّ من أنكر حجّيّته مطلقا بأنّ دليل الحكم إمّا أن يدلّ على ثبوته في الوقتين ، فلا استصحاب. أو على ثبوته في الوقت الأوّل فقط ، فالتسوية بينهما فيه تؤدّي إلى إثبات الحكم (3) بغير دليل ؛ لأنّ ثبوت الحكم في وقت أو حال لا يتناول ما عداه ، وهو باطل.

وبأنّ حجّيّته تقتضي أولويّة بيّنة النفي على بيّنة الإثبات ؛ لاعتضادها به ، مع أنّها لا تسمع.

ص: 409


1- المصدر : 161.
2- في « ب » : « فلا ».
3- في « ب » : « حكم ».

وبتسفيه من حكم ببقاء زيد في الدار إذا غاب عنه.

وبأنّ أدلّة الأحكام معروفة وليس الاستصحاب واحدا منها (1).

والجواب عن الأوّل : اختيار الشقّ الأوّل أوّلا ، ولا يلزم انتفاء الاستصحاب حينئذ ؛ لما تقدّم. ثمّ الثاني ثانيا ، ولا يلزم إثبات الحكم بغير دليل ؛ لدلالة بعض الأدلّة المتقدّمة على أنّ الثابت في زمان لا يرتفع إلاّ بدليل.

وعن الثاني : أنّا لا نمنع اعتضاد بيّنة النفي بالاستصحاب ، لكن لبيّنة الإثبات وجوه أخر من الأولويّة تترجّح عليه وتغلبه :

منها : إمكان اطّلاع المثبت على ما يخالف الأصل ، وعدم اطّلاع النافي عليه ؛ لجواز حدوثه عند غيبته.

ومنها : أنّ غلط المثبت - بأن يظنّ المعدوم موجودا - أبعد من غلط النافي ، بأن يعكس ؛ بناء على عدم علمه.

ومنها : أنّ المثبت لمّا كان مدّعيا للعلم بالوجود ، يكون له طريق قطعيّ بخلاف النافي ؛ فإنّ طريقه - وهو عدم العلم - ظنّي.

ومنها : أنّ إنكار الحقّ أكثر من دعوى الباطل ؛ لأنّ دفع غير الملائم أهمّ من جلب الملائم عند المحقّ والمبطل ، ولذا يدفع كلّ منهما عن نفسه كلّ الأوّل ، ولا يجلب كلّ منهما إلى نفسه كلّ الثاني ، وغير خفيّ أنّه إذا عارض الأصل واحد منها وتساقط (2) ، بقي الباقي سالما.

و [ الجواب ] عن الثالث : أنّ التسفيه هنا لوجود ما يدفع الأصل ، وهو قضاء العادة بالخروج ، ولولاه لكان الحكم بالبقاء صحيحا.

و [ الجواب ] عن الرابع : أنّ الأدلّة العقليّة من أدلّة الأحكام ، والاستصحاب منها ؛ لثبوت حجّيّته من العقل. وعلى ما ذكرنا من دلالة الأخبار على حجّيّته ، يمكن عدّه من السنّة ، إلاّ

ص: 410


1- قاله السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 345 و 346 و 348 ، والغزالي في المستصفى : 159.
2- في « ب » : « تساقطا ».

أنّ القوم لمّا أثبتوا حجّيّته بالعقل ، عدّوه من الأدلّة العقليّة (1).

واحتجّ من قال بحجّيّته في موضوع الحكم دون نفسه : بأنّ الاعتماد في حجّيّته إنّما هو على الأخبار ؛ لضعف سائر الأدلّة. وهي تدلّ على حجّيّة ما في موضوعه دون نفسه ؛ لأنّها وردت في قضايا خاصّة من أفعال الإنسان وأحواله ، ويشترك كلّها في الدلالة على بنائه في هذه القضايا على يقينه السابق ، وعدم التفاته إلى شكّ في حدوث ما يعلم أنّه مزيل ، لا إلى العلم في حدوث ما يشكّ أنّه مزيل أيضا ، كما ورد : « أنّ اليقين بالطهارة لا ينقض بالشكّ في الحدث ، واليقين بطهارة البدن والثوب لا ينتقض بالشكّ في إصابة البول أو المنيّ إليهما » (2).

وجوابه : أنّ أكثر أخبار الباب يدلّ على عدم انتقاض مطلق اليقين بمطلق الشكّ ، كما ورد في صحيحة زرارة : « ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ ، ولكن ينقضه يقين آخر » (3).

وفي صحيحته الاخرى : « فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا » (4).

وفي صحيحته الاخرى : « ولا ينقض اليقين بالشكّ ولا يدخل الشكّ في اليقين ، ولا يختلط أحدهما بالآخر ، ولكنّه ينتقض الشكّ باليقين » (5).

وفي مكاتبة القاساني : « اليقين لا يدخل فيه الشكّ » (6).

وفي موثّقة ابن صدقة : « والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البيّنة » (7). وقس عليها أمثالها. وإطلاق اليقين والشكّ يعمّ عدم نقض مطلق اليقين بمطلق الشكّ ، سواء كان في موضوع الحكم أو نفسه.

ص: 411


1- منهم : السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 343 ، والشيخ في العدّة في أصول الفقه 2 : 752 ، وابن حمزة في غنية النزوع 2 : 420 ، والمحقّق الحلّي في معارج الاصول : 206 ، والعلاّمة في مبادئ الاصول : 250 ، والشهيد في القواعد والفوائد 1 : 132 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 271 ، القاعدة 96 ، والشيخ حسن في معالم الدين : 233 - 234.
2- راجع : تهذيب الأحكام 1 : 421 ، ح 1335 ، والاستبصار 1 : 183 ، ح 641 ، ومستدرك الوسائل 1 : 277 ، أبواب نواقض الوضوء ، الباب 1 ، ح 1 - 3.
3- تهذيب الأحكام 1 : 8 ، ح 11.
4- المصدر : 421 ، ح 1335.
5- الكافي 3 : 351 ، باب السهو في الثلاث والأربع ، ح 3.
6- تهذيب الأحكام 4 : 159 ، ح 445.
7- الكافي 5 : 313 ، باب النوادر ، ح 40.

وفي موثّقة عمّار عن الصادق عليه السلام : « كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر » (1). وهي بإطلاقها تدلّ على عدم الالتفات إلى الشكّ في حدوث ما يعلم أنّه قذر ، وفي قذارة ما علم حدوثه (2).

هذا ، مع أنّ الشكّ في موضوع الحكم يستلزم الشكّ في نفسه ؛ فإنّه إذا شكّ في نجاسة ثوب باعتبار ما ، يقع الشكّ في وجوب التنزّه عنه في الصلاة ، فإذا اقتضى الجهل بالموضوع الجهل بنفس الحكم ، اقتضى جريان الاستصحاب وحجّيّته في الأوّل جريانه وحجّيّته في الثاني. وقد بسطنا الكلام في هذا المقام في جامعة الاصول (3).

واحتجّ من قال بحجّيّته في الحكم الذي كان مغيّا بغاية مخصوصة وشكّ في وجودها دون غيره بأنّ الاعتماد في حجّيّته إنما هو على الأخبار والدليل الثاني ، وهما يدلاّن على حجّيّة هذا القسم دون غيره (4).

وجوابه : ما عرفت من دلالتهما على حجّيّة أقسام أخر منه.

والإيراد : بأنّه لا فائدة في إجراء الاستصحاب فيها ؛ لثبوت حجّيّتها من النصّ أو الإجماع أو العموم أو الإطلاق ، مشترك ؛ لأنّ القسم الذي ذكره أيضا ممّا يلزم فيه أن يدلّ أحد الأدلّة المذكورة على ثبوت الحكم إلى غاية معيّنة ، كما اعترف به هذا القائل ، فإذا شكّ في زمان في وجودها ، يمكن دفعه بالدليل الذي دلّ على ثبوت الحكم إلى الغاية المعيّنة.

نعم ، يمكن أن يقال : لا يثبت من الدليل استمرار الحكم إلى العلم بوجود الغاية ، بل الثابت منه استمراره إلى وجودها ، وهو أعمّ من العلم بوجودها أو الشكّ فيه ، فربّما قيل : يكفي الشكّ فيه في زوال الحكم ، فلا بدّ لدفعه من ضميمة الاستصحاب ، وهذا لا يأتي في الأقسام التي أجرينا فيها الاستصحاب ، إلاّ أنّك قد عرفت (5) أنّ عدم الفائدة لا ينافي الوجود والحجّيّة.

ص: 412


1- تهذيب الأحكام 1 : 284 ، ح 832.
2- الأوّل في الشكّ في حدوث الرافع ، والثاني في الشكّ في رافعيّة الموجود.
3- جامعة الأصول : 166 وما بعد.
4- قاله السبزواري في ذخيرة المعاد : 115 و 116.
5- في ص 409.

واحتجّ من قال بحجّيّته بالذات في الأحكام الوضعيّة لا غير :

بأنّ الأحكام الشرعيّة لا يجري فيها الاستصحاب مطلقا ؛ لأنّه إذا ورد أمر بطلب شيء فلا يخلو : إمّا أن يكون موقّتا أم لا ، فعلى الأوّل ، يكون وجوب هذا الشيء وندبه في كلّ جزء من (1) هذا الوقت ثابتا بالأمر ، ففي الزمان الثاني يثبت الحكم بالأمر ، فلا حاجة فيه إلى الاستصحاب. وعلى الثاني أيضا كذلك إن قلنا بإفادة الأمر التكرار ، وإلاّ فيكفي الإتيان بفرد يتحقّق في ضمنه الماهيّة وليس فيه استصحاب. وكذا الحكم في النهي.

وأمّا الأحكام الوضعيّة كالأسباب وغيرها : فإمّا أن يكون سببيّتها - مثلا - على الإطلاق ، كسببيّة الإيجاب والقبول لإباحة التصرّفات والاستمتاعات ، فإنّ سببيّتهما على الدوام إلاّ أن يتحقّق مزيل ، أو في وقت معيّن ، كالدلوك والكسوف والحيض ، سواء كان السبب وقتا للحكم أو لا ؛ فإنّها أسباب للحكم في أوقات معيّنة لا دائما. وجميع ذلك ليس من الاستصحاب في شيء ؛ لأنّ ثبوت الحكم في شيء من أجزاء الزمان الثابت فيه الحكم ، ليس تابعا للثبوت في جزء آخر ، بل نسبة السبب في اقتضاء الحكم في كلّ جزء نسبة واحدة ، فلا معنى لجريان الاستصحاب في الحكم الذي يقتضيه السبب من حيث إنّه حكم.

نعم ، إذا شكّ في تحقّق السبب في جزء من الزمان يمكن إجراء الاستصحاب فيه.

وكذا الكلام في الشرط والمانع وغيرهما ، فالاستصحاب المختلف فيه لا يكون إلاّ في الأحكام الوضعيّة من حيث هي ، ووقوعها في الشرعيّة بتبعيّتها ، كما يقال في الماء الكرّ المتغيّر بالنجاسة : إذا زال تغيّره من قبل نفسه يجب الاجتناب عنه ؛ لوجوبه قبل الزوال. فإنّ مرجعه إلى أنّ النجاسة كانت ثابتة قبل زوال تغيّره ، فكذا بعده. وقس عليه مثال المتيمّم إذا وجد الماء في أثناء الصلاة وغيره.

ثمّ لو لم تكن الأخبار لم يكن الاستصحاب في مطلق الأحكام الوضعيّة أيضا حجّة ، وإن أمكن جريانه فيها ؛ لأنّ العلم بوجود السبب أو الشرط أو المانع في وقت لا يقتضي العلم بوجوده في غير ذلك الوقت ، فإذا زال العلم بوجوده في

ص: 413


1- في « ب » : « في ».

زمان بطروّ شكّ لا يمكن الحكم بثبوت الحكم الثابت أوّلا فيه ، إلاّ أنّ الظاهر من الأخبار أنّه إذا علم وجود شيء ، يحكم به حتّى يعلم زواله (1).

وأنت بعد الإحاطة بما تقدّم تعلم أنّ هذا التطويل لا طائل تحته ؛ فإنّك عرفت إمكان جريان الاستصحاب وحجّيّته فيما ذكره أوّلا من الحكم الذي ورد بطلبه أمر من الشارع ، وفي غيره أيضا. وإرجاعه الاستصحاب في الحكم الشرعي إلى الوضعي ، وجعله تابعا له مقلوب عليه.

وما ذكره من عدم تابعيّة ثبوت حكم في جزء من الزمان لثبوته في جزء آخر مع كون نسبة السبب في اقتضاء الحكم في كلّ جزء نسبة واحدة ، يتأتّى في نفس السبب أيضا ؛ فإنّ ثبوت السبب في جزء من الزمان ليس تابعا لثبوته في جزء آخر بعد ما جعله الشارع سببا في كلّ جزء.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ هذا الأصل أهمّ الاصول التي تبتني عليها الأحكام. والفروع له لا تحصى كثرة : كطهارة الكرّ إذا وجد متغيّرا وشكّ في تغيّره بالنجاسة ، أو بالأجون (2) ، وإعادة الصلاة بالشكّ في الركعتين الاوليين أو في الثنائيّة أو الثلاثيّة ، والتحريم بالشكّ في انقضاء العدّة ، ووجوب أداء الزكاة والخمس بالشكّ في أدائهما ، وصحّة الصوم لو شكّ في عروض المفطر ، وصحّة الاعتكاف لو شكّ في عروض المبطل ، وكذا الشكّ في أفعال الوضوء والصلاة والحجّ بعد الفراغ عنها ، وجواز تصرّف الولي في مال الطفل إذا شكّ في بلوغه ، وحرمة الأكل بالشكّ في الغروب ، وجوازه بالشكّ في طلوع الفجر. وقس عليها أمثالها.

وقد أشرنا إلى شطر آخر منها أيضا فيما سبق (3). ومن أحاط بها يجد أنّ جلّها من الصنف الأوّل ، فيجزم بحجّيّة الاستصحاب فيها ، والصنف الثاني منها نادر ، وإن عثر عليه لا يخفى عليه حقيقة الحال فيه بعد الإحاطة بما ذكرناه.

ص: 414


1- قاله الفاضل التوني في الوافية : 200 - 203.
2- « الأجون » مذكّر الجوناء ، أي الأسود. راجع القاموس المحيط 4 : 2. « ج ون » أو من « أ ج ن » ومصدره يكون « أجون » بمعنى تغيّر الماء من غير اختلاطه بشيء. راجع لسان العرب 13 : 2. « أ ج ن ».
3- سبق في 407 و 408.
تذنيب

للعمل بالاستصحاب شروط محرّرة في كتب الاصول (1) ، ويجمعها أربعة أصناف :

[ الصنف ] الأوّل : أن لا يتغيّر الموضوع بحيث يصير حقيقة اخرى في الواقع أو عند العرف ، فلا يستصحب الأحكام الثابتة لبعض الأعيان بعد طروّ الاستحالة ، أو الانقلاب ، أو الانتقال له. وغير خفيّ أنّ هذا شرط تحقّقه لا شرط العمل به.

[ الصنف ] الثاني : أن يكون الحكم المستصحب ثابتا في الوقت الأوّل ، فلا يمكن الحكم بوجود زيد في الدار لوجود ضاحك فيه ؛ لإمكان أن يكون الضاحك عمرا.

ولا يخفى أنّ هذا أيضا شرط وجوده لا العمل به ؛ لعدمه لولاه ؛ فإنّ وجوده يتوقّف على العلم ببقاء الموضوع ، وهنا لا يعلم بقاؤه ، أو يعلم انتفاؤه. ومنه يعلم عدم جواز الحكم بثبوت حكم في الزمن الثاني لوجود لازمه الأعمّ ، أو لازم مقتضيه الأعمّ في الزمن الأوّل. والأوّل قد علم مثاله. والثاني على أربعة أقسام :

الأوّل : أن يمكن ثبوت مقتضى الحكم وغيره ممّا هو ملزوم للازم المذكور في الزمن الثاني ، ولأجله أمكن ثبوت لازم كلّ منهما. ومثاله وعدم جواز جريان الاستصحاب فيه ظاهر (2).

الثاني : أن يتعيّن ثبوت مقتضى الحكم فيه ، فيتعيّن ثبوت لازمه أيضا فيه دون غيره من ملزومات اللازم المذكور ، فلا يوجد لازمه فيه. وهنا يجوز القول بثبوت الحكم فيه ، ووجهه ظاهر ، فيأتي (3) فيه الاستصحاب وجواز العمل به.

الثالث : عكس الثاني. وعدم تأتّي الاستصحاب فيه أظهر من الأوّل.

الرابع : أن يمتنع وجود غير المقتضي للحكم ممّا (4) هو ملزوم للازم المذكور فيه ، إلاّ أنّ

ص: 415


1- راجع : الوافية : 208 - 210 ، والفوائد الحائريّة : 281.
2- كذا في النسختين. والأولى : « ظاهران ».
3- « ب » : « فيتأتّى ».
4- في « ب » : « فيما ».

وجود المقتضي أيضا لم يكن معلوما ؛ لإمكان ثبوت ما لا يجتمع معه من غير (1) الملزومات. وهذا أيضا لا يجري فيه الاستصحاب ، كما إذا قيل بنجاسة الجلد المطروح لاستصحاب عدم المذبوحيّة ، فيردّ بأنّ عدم المذبوحيّة لازم للحياة والموت حتف نفسه ، والمقتضي للنجاسة هو الثاني دون الأوّل ، مع أنّه غير باق في الزمن الثاني ، فلازمه معلوم الانتفاء فيه ، ولازم الثاني غير معلوم الثبوت في الزمن الأوّل حتّى يستصحب ؛ لما يأتي من تعارض الاستصحابين فيه (2).

[ الصنف ] الثالث : أن لا يحدث في الزمن الثاني ما يوجب زوال الحكم الأوّل ، فالمرأة المطلّقة المرضعة إذا تزوّجت بعد العدّة بزوج آخر وحملت منه ولم ينقطع لبنها ، فيمكن منع الحكم بكون اللبن من زوجها الأوّل ؛ لحدوث التزوّج والحمل من غيره.

[ الصنف ] الرابع : أن لا يوجد معارض له ، فلو وجد لا يجوز العمل به على الإطلاق ، وهو على أقسام :

منها : أن يعارضه استصحاب آخر ، سواء كان استصحاب حال الشرع ، كسقوط ذبابة على نجاسة رطبة ثمّ على الثوب أو البدن وشكّ في جفافها ، وكدخول المأموم في صلاة فشكّ كون الإمام راكعا أو رافعا.

أو استصحاب حال العقل ، كمسألة الجلد المطروح ؛ فإنّ استصحاب الطهارة أو عدم الموت معارض باستصحاب عدم الذبح. وقد يعارضه أصل البراءة ، كالشكّ في بقاء العبد الآبق فيجب فطرته أوّلا.

ويعبّر عن كلّ من المواضع الثلاثة بما تعارض فيه الأصلان ، ويجب الرجوع في الترجيح إلى المؤيّدات الخارجيّة. وربما تعارض أصل واحد أصلين أو أكثر. وفي الجميع يصار إلى ما ينجرّ إليه النظر في الشواهد الترجيحيّة.

ومنها : أن يعارضه الظاهر. ويعبّر عن كلّ موضع تعارض فيه أحد الاستصحابين ، أو أصل البراءة الظاهر بما تعارض فيه الأصل والظاهر.

ص: 416


1- لم يرد في « ب » : « غير ».
2- يأتي آنفا.

ولمّا كان مستند الظاهر العرف أو العرف أو العادة أو القرائن أو الأغلبيّة والأكثريّة ، وبالجملة ما يفيد ظنّا معتبرا في الشرع ، وهو يختلف في الموارد قلّة وكثرة وضعفا وشدّة ، فاختلف (1) الموارد في ترجيح أحدهما ، فإن بلغ الظنّ الحاصل من الظاهر بحيث يقاوم الأصل ويغلبه فيؤخذ به ويترك الأصل ، وإلاّ فيعكس ، وإن تكافئا في النظر يتوقّف حتّى يعثر على مرجّح من خارج.

ولمّا كان دخول بعض الموارد في الأوّل ودخول بعض آخر منها في الثاني ظاهرا ، بحيث لا يشتبه على أحد ، أجمع الأصحاب في الأوّل على تقديم الظاهر على الأصل ، وفي الثاني على العكس (2).

وفي بعض آخر منها لمّا لم يكن الدخول في أحدهما معلوما ، إمّا لكونه من الثالث ، أو لعدم بلوغ الظهور حدّا لا يشتبه على أحد ، فاختلف فيه. فهنا ثلاثة موارد :

الأوّل : كالشكّ في فعل من أفعال إحدى العبادات بعد الفراغ عنها ، أو في أداء الصلاة بعد خروج وقتها ، ونجاسة البلل الخارج بعد البول إذا لم يستبرأ ، والمسلم الذي غاب بعد نجاسة بقدر مضيّ زمان يمكنه فيه الطهارة ، وغير ذلك ممّا حرّر في تصانيف الفقه (3).

وقد يعلم تقديم الظاهر على الأصل شرعا ، بحيث يصير حجّة شرعيّة ، كتقديم البيّنة على أصل براءة الذمّة ، ومنه الرواية والأخبار فيما يقبل فيه.

الثاني : كدعوى من هو في غاية العدالة على من يعرف بالظلم والتقلّب ، ومنه ثياب من لا يتوقّى النجاسة من مدمني الخمر والكفّار والقصّابين والأطفال. وقس عليهما أمثالهما.

الثالث : كغسالة الحمّام وطين الطريق. ورجّح الأكثر الظاهر في الأوّل (4) ، والأصل في الثاني (5).

ص: 417


1- جواب لقوله : « ولمّا كان ».
2- راجع : تهذيب الوصول : 278 ، ومبادئ الوصول : 232 ، والقواعد والفوائد 1 : 137 - 138 ، القاعدة 3 ، وتمهيد القواعد : 300 - 304 ، القاعدة 99.
3- راجع : القواعد والفوائد 1 : 137 ، القاعدة 3 ، وتمهيد القواعد : 303 ، القاعدة 99.
4- راجع : القواعد والفوائد 1 : 137 ، القاعدة 3 ، وتمهيد القواعد : 303 ، القاعدة 99.
5- منهم : الشهيد في القواعد والفوائد 1 : 138 ، القاعدة 3 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 303 ، القاعدة 99.

وغير خفيّ أنّ ما وقع فيه التعارض إن كان أحد الموردين الأوّلين ، فلا إشكال فيه. فإن كان من الثالث فإمّا أن يرجّح أحدهما في نظر المجتهد - إمّا لقوّته في نفسه ، أو لاعتضاده بدليل من خارج - فيجب عليه أن يأخذ به ويترك الآخر ، أو لا ، ويقوى في نفسي حينئذ لزوم الأخذ بالأصل ؛ لأنّ الغالب فيما تعارض فيه الأصل والظاهر تقديم الأصل ، كما لا يخفى على من تصفّح أمثلة الموارد الثلاثة ، فيكون الأصل معتضدا بظاهر آخر ، والظاهر الواحد لا يقاومهما.

نعم ، لو كان له قوّة بحيث يعادلهما معا من غير ترجيح لأحدهما ، فيكون من باب تعادل الأمارتين ، ويأتي حكمه إن شاء اللّه.

ومنها : أن يعارضه دليل شرعي آخر ، كالإجماع ، أو الكتاب ، أو السنّة. فإذا قاومه وغلبه يؤخذ به ويترك الأصل ، ولذا غلب الشكّ على اليقين في مسائل : كوجوب غسل جميع الثوب والبدن لو علم إصابة موضع وجهل تعيينها مع أصالة الطهارة في غير ذلك الموضع ، ووجوب ثلاث صلوات على من فاته واحدة مع أصالة البراءة ، وغير ذلك (1).

فائدة

إذا دلّ دليل على الانتقال عن مقتضى أصل عدم ، أو استصحاب ، أو قاعدة ، أو غيرها إلى غيره كائنا ما كان.

فإن دلّ على لزومه ، فلا يجوز العدول عن الأصل المنتقل إليه إلى الأصل المهجور ، وإن دلّ على مجرّد الرخصة والجواز ، فيجوز. وإن وقع الاشتباه في الدلالة على اللزوم والرخصة ، وقع الاشتباه في الجواز وعدمه أيضا.

وربّما عدّ منه بناء كثير السهو على عدم الفعل ، مع أنّ حكمه عدم الالتفات ؛ فإنّه لو شكّ في سجدة أو تسبيحة أو قراءة وهو في محلّها ، فإنّه لا يلتفت ؛ لأنّ كثرة السهو جوّزت البناء على الفعل ، مع أنّ الأصل عدمه. فلو فعل ذلك ، فهل يبطل صلاته؟

ثالثها الفرق بين الترك وغيره. والظاهر البطلان مطلقا. ومنه المسح على موضعه بعد ما علم صحّة غسله في موضع التقيّة.

ص: 418


1- للمزيد راجع : الوافية : 208 - 218 ، الفوائد الحائريّة : 281 - 282 ، الفائدة 27.
فصل [7]

وممّا عدّ من النوع الثاني التلازم. ويقال له : الملازمة ، واللزوم ، والاستلزام أيضا.

وتنقيح البحث عنه يتوقّف على بيان امور :

[ الأمر ] الأوّل : التلازم نسبة بين شيئين مصحّحة للحكم باستصحاب أحدهما الآخر في الصدق الواقعي أو التقديري ، فصدقها لا يستلزم صدقهما ، بل قد تصدق بين كاذبين نحو « إن كان زيد حمارا ، كان ناهقا » ، أو بين كاذب وصادق على أن يكون الملزوم كاذبا نحو « إن كان زيد حمارا ، كان حيوانا » دون العكس ، وإلاّ لزم صدق الكاذب وكذب الصادق ؛ لاستلزام كذب اللازم كذب الملزوم ، وصدق الملزوم صدق اللازم. وهذا في الملازمة الكلّيّة الدائمة ، وهي أن يكون تقدير صدق الملزوم فيه مستلزما لصدق اللازم في جميع الأزمان على جميع الأوضاع. دون الجزئيّة ، وهي أن يكون ذلك في بعض الأزمان ، أو بعض الأوضاع ؛ فإنّه يجوز صدقها بين صادق وكاذب ؛ لجواز أن يكون صدق الملزوم على بعض الأوضاع ، وصدق الملازمة الجزئيّة على بعض الأوضاع الأخر ، فلا يلزم المحذوران.

فإنّا إذا قلنا : « إذا كان الشيء حيوانا كان ناطقا » ، يصدق الملزوم ، وهو كون الشيء حيوانا على بعض الأوضاع وهو وضع الفرسيّة مثلا ، ويكذب اللازم وهو كونه ناطقا ، وحينئذ يكذب الملازمة ، إلاّ أنّها صادقة على بعض الأوضاع الأخر ، وهو وضع الإنسانيّة ، وإن لم يكن الملزوم حينئذ صادقا ، ولذا لا ينتج الجزئيّة في القياس الاستثنائي ، وليس فيها كثير فائدة في المقاصد العلميّة.

[ الأمر ] الثاني : التلازم إمّا شرعي ، كتلازم القصر والإفطار في الصلاة والصوم المستفاد من قوله عليه السلام : « إذا أفطرت قصّرت ، وإذا قصّرت أفطرت » (1). وإمّا عقلي ، كتلازم الأمر بشيء والنهي عن ضدّه ، والأمر بالشيء والأمر بمقدّمته ، وغير ذلك من الملازمات العقليّة الثابتة

ص: 419


1- الفقيه 1 : 437 ، ح 1271 ، بتقديم قصّرت وأفطرت في الفقرتين.

في الاصول ، وربّما كان بعضها منصوصا من الشرع أيضا.

[ الأمر ] الثالث : التلازم إمّا أن يكون طردا وعكسا ، أي من الطرفين. أو طردا فقط ، أي من طرف واحد. فهذا شقّان.

وأيضا إمّا أن يكون نسبة بين حكمين ، أو مفردين. والغالب أنّ التلازم بين الأخيرين لا ينفكّ عن التلازم بين الأوّلين.

والحكمان إمّا وجوديّان - أي مثبتان - وإن كان مفرداته (1) عدميّة ، أو عدميّان ، أو وجودي وعدميّ ، أو بالعكس. فهذه أربعة أصناف.

وأيضا لمّا لم يمكن أن يوجد (2) بين الخاصّ والعامّ من وجه ، فهو إمّا أن يكون بين المتساويين ، أو بين الخاصّ والعامّ مطلقا ، أو بين المتنافيين طردا وعكسا ، أي إثباتا ونفيا ، أو المتنافيين طردا فقط ، أي إثباتا ، أو عكسا فقط ، أي نفيا. فهذه خمسة أنواع ، فلينظر أيّ الشقّين والأصناف في أيّ الأنواع يجري.

النوع الأوّل : المتساويان ، كالإنسان والناطق. ويجري فيه الصنفان الأوّلان بالشقّ الأوّل ، أي التلازم بين الوجوديّين والعدميّين كليهما طردا وعكسا ، فيصدق : كلّ ما كان إنسانا كان ناطقا ، وبالعكس ، و: كلّ ما لم يكن إنسانا لم يكن ناطقا ، وبالعكس. ففيه (3) يلزم من استثناء عين الملزوم عين اللازم وبالعكس ، واستثناء نقيض الملزوم نقيض اللازم وبالعكس ، فيلزم أربع نتائج ، فيثبت التلازم في أحد الصنفين بطرده ، ويتقوّى بعكسه ، وبالصنف الآخر طردا وعكسا ، وإنّما يحصل التقوّي بما ذكر إذا تناوله أيضا دليل التلازم ، وإلاّ فلا. وكذا الحال في باقي الأصناف الآتية. ولا يجري في هذا النوع الصنفان الآخران مطلقا ؛ بمنافاتهما (4) للتساوي.

ص: 420


1- كذا في النسختين. والصحيح : « مفرداتهما » ، أو رجوع الضمير إلى التلازم.
2- أي التلازم.
3- في « ب » : « وفيه ».
4- كذا في النسختين. والتعليل باللام أولى.

النوع الثاني : الخاصّ والعامّ مطلقا ، كالإنسان والحيوان. ويجري فيه الصنف الأوّل بالشقّ الثاني ، أي التلازم بين الوجوديّين طردا فقط ، فيصدق : كلّ ما كان إنسانا كان حيوانا ، دون العكس. ويجري فيه الصنف الثاني عكسا ، فيصدق : كلّ ما لم يكن حيوانا لم يكن إنسانا ، ففيه يلزم من استثناء عين الملزوم عين اللازم ، ونقيض اللازم نقيض الملزوم ، فيلزمه نتيجتان ، فالتلازم في الصنف الأوّل يثبت بطرده ، ويتقوّى بعكس الصنف الثاني. ولا يجري فيه الصنفان الآخران ؛ لمنافاتهما للعموم والخصوص.

النوع الثالث : المتنافيان طردا وعكسا ، أي إثباتا ونفيا ، كالزوجيّة والفرديّة ؛ فإنّهما لا تجتمعان ولا ترتفعان. ويجري فيه الصنفان الآخران بالشقّ الأوّل - أي تلازم الوجوديّ والعدميّ وبالعكس - طردا وعكسا ، فيصدق : لو كان زوجا لم يكن فردا ، ولو كان فردا لم يكن زوجا ، ولو لم يكن زوجا كان فردا ، ولو لم يكن فردا كان زوجا ، وفيه تنافيان ، وفي كلّ منهما لازمان (1) ، فيلزم باعتبار التنافي إثباتا أن يكون وجود كلّ منهما مستلزما لعدم الآخر ، فيلزم من استثناء كلّ واحد منهما نقيض الآخر. وباعتبار التنافي نفيا أن يكون عدم كلّ منهما مستلزما لوجود الآخر ، فيلزم من استثناء نقيض كلّ منهما عين الآخر ، فيلزمه أربع نتائج ، فالتلازم في أحد الصنفين فيه يثبت بطرده ، ويتقوّى بعكسه ، وبالصنف الآخر طردا وعكسا. ولا يجري فيه الصنفان الأوّلان ، ووجهه ظاهر.

النوع الرابع : المتنافيان طردا فقط ، أي إثباتا ، كالحيوان والجماد ؛ فإنّهما لا يجتمعان وقد يرتفعان ، كما في الشجر. ويجري فيه الصنف الثاني بالشقّ الأوّل - أي تلازم الوجوديّ والعدميّ - طردا وعكسا ، فيصدق : كلّما كان حيوانا لم يكن جمادا ، وكلّما كان جمادا لم يكن حيوانا. ولا يجري فيه الصنف الرابع ، فلا يصدق : كلّ ما لم يكن حيوانا كان جمادا ، وكلّ ما لم يكن جمادا كان حيوانا ، فيلزم من استثناء كلّ واحد منهما نقيض الآخر لا غير ، فيلزم نتيجتان ، فيثبت التلازم (2) فيه بالطرد ، ويتقوّى بالعكس. وعدم جريان الصنفين الأوّلين فيه مطلقا ظاهر.

ص: 421


1- في « ب » : « تلازمان ».
2- في « ب » : « اللازم ».

النوع الخامس : المتنافيان عكسا فقط ، أي نفيا ، كاللارجل واللاامرأة ؛ فإنّهما لا يرتفعان وقد يجتمعان ، كما في الشجر مثلا. ويجري فيه الصنف الرابع بالشقّ الأوّل - أي تلازم العدميّ والوجوديّ - طردا وعكسا ، فيصدق : كلّما لم يكن بلا رجل فهو لا امرأة ، وكلّما لم يكن بلا امرأة فهو لا رجل. ولا يجري فيه الصنف الثالث ، فلا يصدق : كلّ ما كان بلا رجل لم يكن بلا امرأة ، وكلّ ما كان بلا امرأة لم يكن بلا رجل ، فيلزم من استثناء نقيض كلّ منهما عين الآخر لا غير ، فيلزمه أيضا نتيجتان ، ويثبت التلازم فيه بالطرد ، ويتقوّى بالعكس. وعدم جريان الصنفين الأوّلين فيه أيضا ظاهر.

[ الأمر ] الرابع : لا يخفى في حجّيّة التلازم إذا علم ثبوته شرعا أو عقلا ، وعلم تحقّق الملزوم من نفي أو إثبات أيضا ، فمن ادّعى التلازم في حكمين ، وأثبت تحقّقه وتحقّق الملزوم بالشرع أو العقل ، فلا كلام معه ، وإلاّ فللمانع منعهما.

وفي التلازم شبهة مشهورة ، وهي أنّه إمّا معدوم في الخارج ، أو موجود فيه. والأوّل باطل ؛ لأنّه لا فرق بين التلازم العدميّ وعدم التلازم ؛ لعدم التمايز بين المعدومات. والثاني أيضا باطل ؛ لأنّه مغاير للطرفين ؛ لإمكان تعقّلهما بدونه ، ولكونه نسبة ، والنسبة مغايرة للطرفين ، وحينئذ لا يخلو إمّا أن يلزم ذلك التلازم لأحدهما ، أو كليهما ، أم لا.

فعلى الأوّل ينقل الكلام إلى التلازم الثاني ، ويلزم التسلسل في الملازمات الموجودة في الخارج.

وعلى الثاني يمكن ارتفاعه عن المتلازمين ، فيلزم جواز الانفكاك بينهما ، فيلزم انهدام اللزوم على فرض وجوده ، هذا خلف.

والجواب : اختيار كونه معدوما ، ومنع كون التمايز من خواصّ الموجودات الخارجيّة ؛ لأنّه يوجد في غيرها أيضا ، كما بين عدمي العلّة ومعلولها ، وبين عدمي الشرط والمشروط به.

فإن قيل من رأس : لو لم يكن التلازم موجودا في الخارج ، فإمّا أن يمتنع الانفكاك بين المتلازمين فيه ، أم لا ، فعلى الأوّل يلزم تحقّق وجود التلازم في الخارج على تقدير انتفائه فيه. وعلى الثاني ينهدم التلازم.

ص: 422

قلنا : نختار امتناع الانفكاك بينهما في الخارج ، بمعنى كون الخارج ظرفا لنفسه لا لوجوده ، وحينئذ لا يلزم وجود التلازم في الخارج ، بمعنى كون الخارج ظرفا لوجوده ، ولا (1) نفيه فيه بالكلّية ؛ إذ لا يلزم من انتفاء مبدأ المحمول انتفاء الحمل الخارجي ؛ فإنّ العمى معدوم في الخارج ، مع أنّ الأعمى يحمل على موضوعه حملا خارجيّا.

ولا يخفى أنّ هذه الشبهة إمّا أن تستلزم رفع التلازم ، أو لا. فعلى الأوّل يثبت التلازم ، وعلى الثاني لا يعتدّ بها.

إذا عرفت ذلك ، فلنذكر من كلّ صنف مثالا من الأحكام الشرعيّة ليظهر كيفيّة التفريع :

فالأوّل كما يقال : من سافر أربعة فراسخ ناويا للرجوع في يومه يجب عليه الإفطار ؛ لوجوب القصر عليه. وثبوت الملازمة بينهما بالنصّ والاستقراء.

والنصّ قوله عليه السلام : « إذا قصّرت أفطرت ، وإذا أفطرت قصّرت » (2). فبالنصّ يثبت الملازمة بالطرد ، ويتقوّى بالعكس ، ويعكس إذا عكست. ولا يتقوّى بالتلازم بين عدميهما طردا وعكسا ؛ لعدم تناول النصّ له.

والاستقراء هو أنّا تتبّعنا فوجدنا [ أنّ ](3) كلّ موضع يجب فيه القصر يجب فيه الإفطار وبالعكس ، ووجدنا [ أنّ ](4) كلّ موضع لا يجب فيه القصر ، لا يجب فيه الإفطار وبالعكس ، فبالاستقراء يثبت التلازم بالطرد ، ويتقوّى بالعكس وبالتلازم بين عدميهما طردا وعكسا.

وحاصله ثبوت الحكم بدوران وجوب القصر مع وجوب الإفطار وجودا وعدما.

وقد تقرّر بوجه آخر : وهو أنّه يثبت أحد الأثرين فيثبت المؤثّر ، وبثبوته يثبت الأثر الآخر. أو يقال : قد ثبت أحد الأمرين ، فيلزم ثبوت الآخر ؛ للزوم ثبوت المؤثّر للثابت واستلزامه للآخر ، ولمّا لم يغيّر (5) المؤثّر لا ينتقل إلى قياس العلّة.

[ المثال ] الثاني : كما يقال : لا يصحّ هذا التيمّم لعدم اشتماله على النيّة ؛ لعدم صحّة الوضوء بدونها ، وثبوت الملازمة بينهما في الأحكام. أمّا الأوّل فظاهر. وأمّا الثاني

ص: 423


1- عطف على وجود التلازم.
2- تقدّم تخريجه في ص 419.
3- اضيف للضرورة.
4- اضيف للضرورة.
5- في « ب » : « لم يعيّن ».

فبالاستقراء ، وهو أنّا تتبّعنا فوجدنا [ أنّ ] كلّ ما لا يصحّ الوضوء بدونه ، لا يصحّ التيمّم بدونه وبالعكس. وكذا وجدنا التلازم بين صحّة الوضوء وصحّة التيمّم طردا وعكسا ، فيثبت المطلوب بالطرد ، ويتقوّى بعكسه وبالتلازم بين الصحّتين طردا وعكسا. ويرجع أيضا إلى الدوران. وقد تقرّر بأنّ انتفاء أحد الأثرين يوجب انتفاء المؤثّر فينتفي الأثر الآخر. أو يقال : قد انتفى أحد الأثرين ، فيلزم انتفاء الأثر الآخر ؛ للزوم انتفاء المؤثّر. وربّما يمنع التلازم هنا ؛ لعدم حجّيّة الاستقراء ، أو لعدم تماميّته هنا.

[ المثال ] الثالث : كالمباح وعدم الحرمة.

[ المثال ] الرابع : بالعكس. ويقرّر (1) التلازم فيهما بثبوت التنافي بين المباح والحرمة.

وقد ظهر ممّا تقدّم أنّ ثبوته فيهما بما ذا ، وتقوّيه بما ذا.

تذنيب

الدوران هو ترتّب الشيء على الشيء الذي له صلوح العلّيّة وجودا ، كترتّب الملك على الهبة (2) ، أو عدما ، كجواز الصلاة بالنسبة إلى الطهارة (3) ، أو معا ، كوجوب الرجم على الزنا. ويسمّى الأوّل دائرا ، والثاني مدارا.

وهو أخصّ مطلقا من الملازمة المطلقة ، أي الشاملة للكلّية والجزئيّة ، والواقعة بين الحكمين والمفردين ؛ لعدم انفكاك الدوران عن مطلق اللزوم ؛ لأنّ بين كلّ شيئين حتّى النقيضين ملازمة جزئيّة ، فضلا عن المتداورين ، وصدقها بدونه في استلزام وجود المعلول وجود علّته (4).

وقد حكم جماعة بأنّ بينهما عموما وخصوصا من وجه ، وهم بين من خصّ الملازمة بالكلّيّة الحكميّة (5) ، ومن خصّها بالكلّيّة حكميّة كانت أو لا (6) ، ومن خصّها بالحكميّة كلّيّة

ص: 424


1- في « ب » : « تقرّر التلازم ».
2- لأنّه عند انتفاء الهبة لا ينتفي الملك ؛ فلعلّه حصل لسبب آخر.
3- لأنّ عدم الصلاة وبطلانها يترتّب على عدم الطهارة ، وأمّا وجودها لا يترتّب على وجودها.
4- استلزام وجود المعلول لوجود العلّة يختصّ بمقام الإثبات والاستدلال الإنّي دون الثبوت.
5- قاله الأسنوي في نهاية السؤل 4 : 123. ونسبه أيضا إلى أصحاب الرأي.
6- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 330. ونسبه أيضا إلى المحقّقين وبعض الاصوليّين.

كانت أو جزئيّة (1) ، فافتراقه عنها عند الأوّل في صورتين :

الاولى : أن يكون الدائر والمدار فيها مفردين.

والثانية : أن يكون ترتّب الدائر على المدار فيها أكثريّا لا كلّيّا دائميّا ، كالإسهال بالنسبة إلى شرب السقمونيا. وعند الثاني في الثانية. وعند الثالث في الاولى.

ومواضع اجتماعهما وافتراقها عنه على كلّ من التقادير الثلاثة ظاهرة.

وقد يأتي للدوران زيادة بيان في بحث القياس (2).

فصل [8]

وممّا عدّه بعضهم من النوع الثاني (3) الاستقراء ، وهو الحكم على الطبيعة الكلّيّة بما وجد في جزئيّاتها (4). وحاصله الاحتجاج بالجزئي على الكلّي.

وهو إمّا تامّ إن كان ما ثبت للكلّي حاصلا لجميع الجزئيّات ، وهو القياس المقسّم ، كقولنا : كلّ جسم إمّا حيوان أو نبات أو جماد ، وكلّ منها متحيّز ، فكلّ جسم متحيّز ، وهو يفيد اليقين.

أو غير تامّ إن لم يكن حاصلا لجميعها ، وهو لا يفيد اليقين ، بل إمّا يفيد الظنّ إن كان حاصلا لأكثرها ، كالحكم على كلّ زنجيّ بأنّه أسود ، وهذا الظنّ يتفاوت بتفاوت الأكثريّة ، فيتّصل أحد طرفيه باليقين والآخر بالشكّ ، أو لا يفيد الظنّ أيضا إن لم يكن حاصلا لأكثرها.

وإذا عرفت ذلك تعلم أنّ القسم الأوّل ينتهض حجّة ودليلا في الشرعيّات وغيرها ، إلاّ أنّ وجود مثله فيها نادر. والثالث لا يصلح للتأييد فضلا عن الحجّيّة فيهما ، وهو ظاهر. والثاني لا ينتهض دليلا قاطعا ؛ لجواز أن يخالف حال ما لم يوجد حال ما وجد ؛ إذ لا تعلّق بينهما ؛ ولاختلاف موارد الأحكام ، فلا يلزم من ثبوتها لبعض الأعيان ثبوتها في الباقي ، ولكن بعض موارده الذي يفيد غلبة الظنّ يصلح للحجّيّة ، وغيره يصلح للتأييد والتقوية.

ص: 425


1- قاله العلاّمة في تهذيب الوصول : 257.
2- يأتي في ص 445.
3- أي ما يعتمد عليه وينتهض دليلا لإثباته وقد تقدّم في ص 386.
4- قاله الأسنوي في نهاية السؤل 4 : 377.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ غلبة الظنّ في ذهن المجتهد ترجّح إرادة الشارع لتعميم الحكم ، فالمخالفة تؤدّي إلى ترجيح المرجوح ؛ على أنّ الإجماع منعقد على جواز عمل المجتهد بظنّه ، وقد سبق (1) أنّه لو لم يعمل به لزم تعطيل الأحكام ، وسدّ أبواب الحلال والحرام ، فالعمل به من باب الرخصة الناشئة عن الضرورة في زمن الغيبة ، وإلاّ فدين اللّه أجلّ من أن لا ينصب عليه قاطع يعرفه إمام عادل.

لا يقال : الظنّ الذي يجوز العمل به إنّما هو الحاصل عن أمارة شرعيّة دون غيره.

لأنّا نقول : لو سلّم هذا ، فما نحن فيه أيضا منه ، وهو ظاهر.

وأمّا الثاني فواضح بعد ما ذكر.

وكيفيّة التفريع : أنّه لو اختلف في الوتر فنقول : إنّه مندوب ؛ لأنّ ما وجدنا من أفراد الصلوات الواجبة لا يجوز أن يؤدّى على الراحلة ، فثبت منه أنّ كلّ صلاة واجبة كذلك ، والوتر يجوز أن يصلّى على الراحلة بالإجماع ، فلا يكون واجبا.

فصل [9]

ومن النوع الثالث (2) الاحتياط. وقد عرفت معناه والفرق بينه وبين التوقّف.

وقد اختلفوا في وجوب العمل به ، فالأخباريّون على وجوبه فيما لا نصّ فيه ، وفيما تعارض فيه النصّان بعد عدم الظفر بمرجّح (3). والمجتهدون - لمّا قالوا بحجّيّة البراءة الأصليّة مع عدم الدلالة الناقلة ، وبالتخيير فيما تعارض فيه النصّان مع عدم المرجّح - ذهبوا إلى استحبابه فيهما (4) ، وهو الحقّ.

وقيل بعدم مشروعيّته أصلا (5).

وقيل بالوجوب مع العلم باشتغال الذمّة (6) ، أي فيما يثبت وجوبه ، كالصلاة المنسيّة

ص: 426


1- تقدّم في ص 350.
2- أي ما لا يعتمد عليه وقد تقدّم في ص 386.
3- قاله الاسترآبادي ، ونسبه أيضا إلى قدماء الأخباريّين في الفوائد المدنيّة : 104.
4- قاله الوحيد البهبهاني ، ونسبه أيضا إلى المجتهدين في الفوائد الحائريّة : 446 ، الفائدة 21.
5- قاله المحقّق الحلّي في معارج الاصول : 216 ، وقال : « العمل بالاحتياط غير لازم ».
6- نسبه المحقّق الحلّي إلى جماعة في معارج الاصول : 216 ، وقاله أيضا الفاضل التوني في الوافية : 178.

فيجب الخمس احتياطا ، أو كان ثبوته هو الأصل ، كصوم ثلاثين إذا غمّ الهلال ؛ إذ الأصل بقاء رمضان.

وغير خفيّ أنّه راجع إلى الاستصحاب الذي لا ريب في حجّيّته. والمجتهدون أيضا قالوا بالوجوب فيه ، لكنّهم لا يطلقون عليه اسم الاحتياط (1).

لنا : أمّا على عدم الوجوب ، فجميع الأدلّة المتقدّمة (2) الدالّة على البراءة الأصليّة ، وقوله تعالى : ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ) (3) ، وقوله : ( يُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُخَفِّفَ ) (4) ، و ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (5). وفتح باب الاحتياط ينافي اليسر والتخفيف ويؤدّي إلى الحرج.

وأمّا على استحبابه ، فاستفاضة الأخبار الواردة في موارد مختلفة بالأخذ به ، وهي دائرة بين دالّة على الأخذ بمطلقه (6) ، ودالّة على الأخذ به فيما لا نصّ فيه (7) ، ودالّة على الأخذ به فيما تعارض فيه النصّان (8) ، ودالّة على الأخذ به عند الشبهة في الموضوع (9) ، وقوله تعالى :

( فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) (10) ، و ( اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) (11) ، و ( جاهِدُوا فِي اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ ) (12) ، و ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) (13).

وقد تقدّم (14) أنّ أخبار الاحتياط لم تبلغ حدّا يقاوم أدلّة البراءة وتغلبها - وإن كانت

ص: 427


1- قاله الوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة : 445 ، الفائدة 21.
2- تقدّمت في ص 387 - 388.
3- البقرة (2) : 185.
4- النساء (4) : 28.
5- الحجّ (22) : 78.
6- الكافي 1 : 66 ، باب اختلاف الحديث ، ح 7.
7- تهذيب الأحكام 5 : 466 ، ح 1631.
8- الكافي 1 : 68 ، باب اختلاف الحديث ، ح 10.
9- تهذيب الأحكام 2 : 259 ، ح 1031.
10- التغابن (64) : 16.
11- آل عمران (3) : 102.
12- الحجّ (22) : 78.
13- المؤمنون (23) : 60.
14- تقدّم في ص 391.

معاضدة بأخبار التوقّف - فيجب حملها على الاستحباب ؛ لئلاّ يلزم طرحها. وفي بعضها دلالة عليه (1). ومنه يظهر فساد القول الثالث.

ثمّ الاحتياط إمّا أن يكون فيما لا نصّ فيه ، أو فيما تعارض فيه النصّان. وكلّ منهما إمّا في نفس الحكم أو موضوعه. والحاصل أربعة. وكلّ منها إمّا أن يتحقّق بفعل واحد ، أو أفعال متعدّدة ، أو بالترك. فالأقسام اثنا عشر. وتعيين مواقع كلّ من الثلاثة الأخيرة مع أمثلة الكلّ واضح.

وممّا ينبغي أن ينبّه عليه أنّ الحكم إذا كان دائرا بين الحرمة وغيرها من الأحكام وإن كان وجوبا فالاحتياط فيه بالترك ؛ لدلالة بعض الأخبار عليه ، كرواية ابن حنظلة (2) ، وموثّقة سماعة (3).

والاستدلال عليه بأنّ دفع الضرّ أهمّ من جلب النفع (4) ، يرد عليه أنّ الضرر يترتّب على ترك الواجب أيضا ، فالمناط ما ذكرناه.

هذا ، والذي يقوى في نفسي أنّ الاحتياط يستحبّ في مطلق ما لم يقطع به وإن صار راجحا بحسب الظنون الاجتهاديّة ، سواء كان في نفس الحكم ، أو موضوعه. وفيما تعارض فيه النصّان أو غيره ؛ لدلالة بعض العمومات والإطلاقات عليه ؛ ولأنّ وضع الأحكام الإلهيّة لأجل ترتّب المصالح والتأثيرات الواقعيّة عليها ، كما ذهب إليه العدليّة (5) ، وهي إنّما تترتّب على الحكم الواقعي ، ولا ريب في حسن السعي في تحصيلها بتحصيل ما ترتّب عليه ، والقطع بتحصيله فيما لا طريق للعلم إليه إنّما هو بالاحتياط.

وإذا أحطت بما قصصنا عليك خبرا ، سهل عليك التفريع.

ص: 428


1- تقدّم في ص 389 - 390.
2- الكافي 1 : 67 ، باب اختلاف الحديث ، ح 10.
3- المصدر : 66 ، باب اختلاف الحديث ، ح 7.
4- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 259.
5- راجع : معارج الاصول : 222 ، وكشف المراد : 33 ، الباب الحادي عشر : 26 ، مفتاح الباب 152 في مبحث العدل. والمراد من العدليّة : المعتزلة والإماميّة.
فصل [10]

ومن النوع الثالث (1) الاستحسان. وقد اختلف الباحثون عنه في حقيقته.

فقيل : دليل ينقدح في نفس المجتهد ويعسر عليه التعبير عنه (2).

وقيل : العدول من حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس (3).

وقيل : تخصيص قياس بدليل أقوى منه (4).

وقيل : العدول عن قياس إلى قياس أقوى منه (5).

وقيل : العدول إلى خلاف حكم النظير بدليل أقوى منه (6).

قيل : على هذه التفاسير لا يتحقّق استحسان مختلف فيه ، لأنّ بعضها مقبولة وفاقا ، وبعضها مردّدة بين ما هو مقبول وفاقا وبين ما هو مردود كذلك.

والأوّلان من الثاني (7).

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ الدليل المنقدح إن كان من الأدلّة المعتبرة في الشرع وكان المجتهد متحقّقا بثبوته ، فيجب عليه العمل به وفاقا ، وإلاّ فيجب عليه ردّه وفاقا.

وأمّا الثاني ؛ فلأنّ العادة إن كانت من العادات الجارية في عصر النبيّ صلى اللّه عليه وآله أو عصر الصحابة مع عدم إنكارهم ، فهي من السنّة ويجب قبولها وفاقا ، ومنها العدول عن مقتضى الإجارات في دخول الحمّام من غير تعيين مدّة المكث ومقدار الماء المسكوب والاجرة ، وشرب الماء من السقاء من غير تعيين الماء وعوضه.

وإن كانت من غيرها ، فإن دلّ على قبولها دليل ثبت حجّيّته ، فثبتت به ولا ريب حينئذ في قبولها ، وإلاّ فيجب ردّها اتّفاقا.

والبواقي من الأوّل.

ص: 429


1- أي ما لا يعتمد عليه. وقد تقدّم في ص 386.
2- نسبه الآمدي إلى أصحاب أبي حنيفة في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 163 - 164.
3- نسبه الآمدي إلى أصحاب أبي حنيفة في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 163 - 164.
4- نسبه الآمدي إلى أصحاب أبي حنيفة في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 163 - 164.
5- نسبه الآمدي إلى أصحاب أبي حنيفة في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 163 - 164.
6- حكاه الآمدي عن الكرخي في المصدر : 164.
7- للمزيد راجع : المعتمد 2 : 296 ، وفواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 2 : 321 ، والإحكام في أصول الأحكام 4 : 162 - 166 ، ومنتهى الوصول : 208 ، ونهاية السؤل 4 : 385 ، والإحكام في أصول الأحكام 4 : 162 و 163.

أمّا الثاني (1) ، فظاهر. وكذا الثالث عند من يعمل بالقياس.

وأمّا الرابع ؛ فلأنّ العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه لدليل أقوى ممّا لا ريب فيه ، ولذا اتّفق عليه الكلّ ، ومنه العدول عن حكم العموم والإطلاق للمخصّص والمقيّد.

فظهر أنّ الاستحسان بكلّ من هذه المعاني لا يقبل النزاع ، فإن أظهر الخصم استحسانا يصلح أن يكون محلاّ للنزاع ، يردّ بأنّه لا دليل عليه ، فليس بحجّة.

أقول : الاستحسان : استفعال من الحسن ، أي عدّ الشيء حسنا. ويطلق على ما يميل إليه الإنسان ويهواه من الصور والمعاني والأفعال.

والظاهر أنّ من قال بحجّيّته - وهم الحنفيّة (2) والحنابلة (3) - أرادوا منه إثبات الحكم بمجرّد كونه مستحسنا عند المجتهدين من غير دليل من قبل الشارع ، ولذا أنكره غيرهم من الخاصّة والعامّة ، حتّى قال الشافعي : « من استحسن فقد شرّع » (4). وحينئذ يكون تعريفه الصحيح عندهم أحد الأوّلين ، ويكون مرادهم من الدليل المنقدح ما يختلج ببال المجتهد ويستحسنه وإن لم يكن من الأدلّة المعتبرة المعروفة ، ومن العادة ما لم يثبت من سنّة ، ولا من دليل آخر واستحسنه المجتهد بوجه آخر.

والتعريف الأوّل ناظر إلى ثاني المعنيين اللذين ذكرناهما ، ويعمّ جميع أفراد الاستحسان.

والثاني ناظر إلى أوّلهما ويخصّ بعض أفراده. والتعريفات الباقية صدرت هفوة ممّن لم يحصّل مرامهم.

وحمل النزاع على اللفظي ينافي طول التشاجر بينهم وبين سائر المسلمين في إثباته وتزييفه ، وإفراد الفريقين مبحثا خاصّا له في كتبهم ؛ مع أنّ إطلاق الاستحسان على ما هو مقبول شرعا لا يقبل النزاع ؛ لإطلاقه عليه في قوله تعالى : ( فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (5) ، وقوله

ص: 430


1- كذا في النسختين ، والظاهر تبديل « الثاني » و « الثالث » و « الرابع » بالثالث والرابع والخامس ؛ لأنّها المراد من البواقي.
2- راجع : المعتمد 2 : 2. وفواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 2 : 321 ، ونهاية السؤل 4 : 398.
3- راجع : المعتمد 2 : 2. وفواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 2 : 321 ، ونهاية السؤل 4 : 398.
4- حكاه عنه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 162.
5- الزمر (39) : 18.

تعالى : ( وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها ) (1) ؛ فالنزاع معنوي ، وتحريره ما حرّرناه. ولا استبعاد في صدور مثله عن مثلهم ؛ لأنّه ليس أوّل قارورة كسرت في الإسلام.

وما أوقعهم في ذلك الآيات الدالّة على لزوم الأخذ بالأحسن ، كالآيتين المذكورتين ، وقوله تعالى : ( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) (2) ، حيث دلّت على ترك بعض واتّباع بعض بمجرّد كونه أحسن ، وهو معنى الاستحسان.

والجواب : أنّ المراد من الأحسن الأظهر والأولى ، أو الراجح عند التعارض.

وبقوله (3) عليه السلام : « ما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللّه حسن » (4) دلّ على أنّ ما يراه الناس بعقولهم وعاداتهم مستحسنا ، فهو حسن في الواقع.

والجواب : المسلمون صفة عموم ، فيدلّ على حسن ما يراه جميع المسلمين حسنا.

فصل [11]

ومن النوع الثالث (5) المصالح المرسلة.

اعلم أنّ المصلحة هي ما يوافق (6) الإنسان لدنياه أو لآخرته أو لهما ، وحاصله جلب نفع أو دفع ضرّ.

ولها تقسيمات باعتبارات ربّما تأتي في بحث القياس ، وباعتبار شهادة الشرع لها بالاعتبار وعدمه ثلاثة أقسام : معتبرة ، وملغاة ، ومرسلة.

فالاولى : ما شهد الشرع باعتباره ، كحفظ الخمسة الضروريّة ، أي الدين ، والنفس ، والعقل ، والنسل ، والمال ، وهو من المصالح المعتبرة في كلّ الشرائع والأديان ، ولذا حرّم في جميعها ما يؤدّي إلى فسادها ، واوجب ما يفضي إلى بقائها.

والثانية : ما شهد الشرع بإلغائه ، كما إذا قيل : الغنيّ يكفّر عن الوطء في نهار رمضان

ص: 431


1- الأعراف (7) : 145.
2- الزمر (39) : 55.
3- عطف على قوله : « بالأحسن » أي لزوم الأخذ بالأحسن وبقوله عليه السلام.
4- مسند أحمد 1 : 626 ، ح 3589.
5- أي ما لا يعتمد عليه ، وقد تقدّم في ص 386.
6- أي يوافقه الإنسان. وفي « ب » : « توافق ».

عمدا بصوم شهرين تحتّما ؛ لأنّ ذلك أزجر له عن المعاودة.

الثالثة : ما لم يشهد له الشرع بالاعتبار ولا الإلغاء. وهذه إن كانت لها مفسدة راجحة أو مساوية ، كانت ملغاة. وإن خلت عنها أو كانت راجحة ، فقد اختلف في حجّيّتها وصلاحيتها لإثبات حكم شرعي بها ، فذهب أصحابنا (1) والحنفيّة والشافعيّة إلى عدم حجّيّتها (2) ، ونقل عن مالك القول بحجّيّتها حتّى قال : يضرب المتّهم بالسرقة محافظة على المال (3). وأنكر أصحابه ذلك عنه (4).

لنا : أنّا نرى أنّ الشرع ألغى بعض المصالح واعتبر بعضها ، والمرسلة متردّدة بينهما ، وإلحاقها بأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فيجب الوقف عنها ، ولا يصحّ الاحتجاج بها.

احتجّ الخصم بأنّ الشرعيّات مبنيّة على المصالح ؛ لأنّ الحكمة باعثة على رعايتها ، فإذا وجد في شيء مصلحة صافية أو راجحة ، يجب أن يكون مشروعا ؛ لتعلّق داعي الحكمة به.

وبأنّ عدم اعتبارها يؤدّي إلى خلق قضايا كثيرة عن الحكم ؛ لعدم مساعدة الأدلّة المعروفة في الكلّ (5).

والجواب عن الأوّل : أنّ الحكمة باعثة على رعاية المصالح إذا قطع بخلوّها عن جميع المفاسد ، والمقدّر عدم القطع ؛ لما مرّ (6). وظنّ الخلوّ لا يكفي ؛ لأنّه ليس من الظنّ المعتبر في الأحكام ، وهو الحاصل عن أمارة شرعيّة.

وعن الثاني ظاهر.

ثمّ اعلم أنّ الفعل إمّا أن يشتمل على مصلحة صافية ، أو مفسدة صافية ، أو عليهما (7) معا ، وهذه إمّا أن تكون مصلحة راجحة على مفسدته ، أو بالعكس ، أو مساوية لها. أو لا يشتمل

ص: 432


1- راجع معارج الاصول : 221 و 222.
2- حكاه الآمدي عن فقهاء الحنفيّة والشافعيّة في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 167 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 286.
3- حكاه عنه المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 4 : 387.
4- حكاه الآمدي عن أصحاب مالك في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 167.
5- حكاه المحقّق الحلّي عن مالك في معارج الاصول : 222.
6- مرّ آنفا.
7- أي على مجرّد المصلحة والمفسدة بدون قيد « صافية » وإلاّ يلزم التناقض.

على شيء منهما. فالأقسام ستّة ، وكلّ منها يمكن أن يشتمل تركه بالترديد على الأقسام المذكورة ، فيصير الحاصل ستّة وثلاثين.

ثمّ المتحقّق في كلّ واحد منها - من المصلحة والمفسدة وجودا وعدما - إمّا قطعيّ أو ظنّيّ ، وعلى التقديرين إمّا كلّيّ أو جزئيّ ، وعلى التقادير إمّا أن يكون المصلحة ضروريّة - أي ليس لها بدل - أو لا ، فيرتقي الأقسام إلى حدّ لا يحصى كثرة. ولا ريب في حجّيّة مصلحة صافية قطعيّة ضروريّة ، كلّيّة كانت أو جزئيّة إذا لم يشتمل تركها قطعا على مصلحة مطلقا ، سواء اشتمل على مفسدة أو لا ؛ لأنّها تكون معتبرة ؛ لأنّ كلّ مصلحة صافية قطعيّة معتبرة عند الشرع والعقل. والمرسلة ما كانت متردّدة بين المعتبرة والملغاة إمّا لعدم القطع بكونها مصلحة في نفسها ، أو لأدائها إلى مفسدة. وغيرها من الأقسام ليس بحجّة. ووجهه ما تقدّم (1).

ولنذكر مسألة فرعيّة ليعرف كيفيّة التفريع ، مثلا إذا مرضت حامل وقطع بكون إخراج الدم - لا غير - شفاء لها ، وعلم عدم أدائه إلى فساد الحمل يجب فعله. وإن لم يقطع به أو قطع به وعلم بدله أو فساد الحمل ، لم يجب.

وقال بعضهم بحجّيّتها إذا كانت ضروريّة قطعيّة كلّيّة وإن أدّت إلى مفسدة اخرى ، قالوا : إذا تترّس الكفّار من أهل الحرب بالاسارى من المسلمين ، يجوز رميهم وإن أدّى إلى تلف الاسارى ؛ إذا علم أنّه إن (2) لم يرموا ظهروا على الإسلام ، وهذه ضروريّة ؛ لأنّ دفعهم لا يمكن بدون الرمي ، وقطعيّة ؛ لأنّ الرمي بدفعهم قطعيّ ، وكلّية ؛ لأنّ الضرر يعمّ المسلمين (3).

وهذا القول ظاهر الفساد ؛ لأنّ الشارع قد نهى عن المفسدة المترتّبة مطلقا ، فكيف يكلّف بما يؤدّي إليها؟! وجواز الرمي عند التترّس لو صحّ - كما قال به أصحابنا (4) - فإنّما هو بدليل من خارج ، ولذا لم يجوّزوا قتل من قطع بأنّه لو لم يقتل صار سببا لقتل جماعة بالسعاية عند ظالم ، وعلى القول المذكور يلزم وجوب قتله.

ص: 433


1- تقدّم في ص 428.
2- في « ب » : « إذا ».
3- نسبه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 167 ، إلى مالك في مبحث « المصالح الضروريّة الكلّيّة الحاصلة قطعا » وحكاه المحقّق الحلّي في معارج الاصول : 223 ، وذهب إليه البيضاوي في منهاج الاصول المطبوع مع نهاية السؤل 4 : 387 ، واختاره الأسنوي ونسبه أيضا إلى إمام الحرمين في نهاية السؤل 4 : 387.
4- راجع رياض المسائل 8 : 73.

الباب الخامس : في القياس

اشارة

وفيه فصول :

فصل [1]

القياس لمّا كان عند من يعمل به من الأدلّة العقليّة ، فكان الأليق أن يذكر فيها ، إلاّ أنّ الاصوليّين يطلقون الاستدلال تارة على إقامة الدليل مطلقا ، سواء كان نصّا ، أو إجماعا ، أو قياسا أو غيرها ؛ وتارة يخصّونه بإقامة نوع خاصّ من الأدلّة ، وهي الأدلّة العقليّة المتقدّمة. وبهذا الاصطلاح وضعوا بابا خاصّا للاستدلال وذكروها فيه ، ووضعوا لكلّ واحد من الأدلّة الأخر عقليّا كان أو غيره بابا خاصّا آخر ، فنحن (1) أيضا تأسّينا بهم.

فصل [2]

القياس لغة : التقدير والمساواة (2). يقال : « قست الثوب بالذراع » أي قدّرته. و « زيد لا يقاس بعمرو » أي لا يساوى به.

وفي عرف أهل النظر : الاحتجاج بالكلّي على الجزئي وهو يفيد القطع (3). وفي عرف الفقهاء : الاحتجاج بالجزئي على الجزئي (4) ، وهو التمثيل عند أهل النظر (5).

ص: 434


1- « ب » : « ونحن ».
2- الصحاح 3 : 968 ، « ق ي س ».
3- قاله السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 185 ، والشيخ في أصول الفقه 2 : 647 ، والبصري في المعتمد 2 : 443 ، والسرخسي في اصوله 2 : 118.
4- قالهما الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 257.
5- قالهما الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 257.

وقيل : هو في الحقيقة مركّب من القياس المنطقي والاستقراء ؛ لأنّا إذا أثبتنا علّيّة وصف معيّن لحكم ، كالإسكار للتحريم باعتبار وجوده في الأصل ، كالخمر ، لزم منه صدق قولنا : « كلّ مسكر حرام » فيتألّف قياس اقتراني ، هكذا : « النبيذ مسكر » ، و « كلّ مسكر حرام » فينتج : « النبيذ حرام ». والصغرى يقينيّة ، والكبرى معلومة بالاستقراء (1).

وفيه : أنّه يجب أن يكون الأوسط في الكبرى علّة لوجود الأكبر ، ولا يكفي مجرّد كونه معه في كونه علّة له ما لم ينضمّ إليه ما يدلّ على العلّيّة ، كنصّ ، أو مناسبة ، أو غير ذلك. والمعلوم من الاستقراء ليس إلاّ مجرّد اقتران الوصف بالحكم من غير دلالته على العلّيّة ، فلا يستفاد الكبرى من الاستقراء.

وحاصل القياس الفقهي مساواة فرع لأصل لعلّة حكمه ، أو إجراء الأصل في الفرع بجامع ، أو تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لعلّة متّحدة فيهما ، أو حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما ، أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما.

فعلى الأوّل يكون القياس شيئا ثابتا في نفسه. وعلى البواقي يكون فعلا من أفعال المجتهد. فإذا قلنا : الأرز ربوي ؛ لاشتراكه مع البرّ في علّة ربوبيّته وهو الكيل والوزن ، يكون القياس على الأوّل نفس الاشتراك في الواقع ، أو في نظر المجتهد ، وعلى البواقي الفعل المذكور.

والحقّ ، صحّة كلّ واحد من هذه الحدود من غير اختلال فيه طردا وعكسا.

وما اورد عليه (2) ظاهر الاندفاع ، ولذا أعرضنا عنه. وله حدود أخر (3) مزيّفة تركناها ؛ لعدم فائدة في ذكرها.

فصل [3]

قد علمت من حدّ القياس أنّ أركانه أربعة : الأصل ، والفرع ، والعلّة ، والحكم. ولا كلام في أنّ العلّة هو الوصف الجامع ، والحكم هو حكم الأصل.

ص: 435


1- نسبه الغزالي إلى الفلاسفة في المستصفى : 280 - 281 ، ولكنّ القول للشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 257 كما يفهم من تمثيله.
2- راجع : المستصفى : 280 و 2. والإحكام في أصول الأحكام 3 : 206 - 209 ، ونهاية السؤل 4 : 2 - 4.
3- راجع : المستصفى : 280 و 2. والإحكام في أصول الأحكام 3 : 206 - 209 ، ونهاية السؤل 4 : 2 - 4.

وأمّا الأصل ، فهو عند الفقهاء المحلّ المشبّه به الذي ثبت به الحكم ، كالخمر (1). وعند جماعة حكمه ، كحرمته (2). وعند المتكلّمين دليل الحكم ، كقوله صلى اللّه عليه وآله : « حرّمت الخمر » (3).

وضعّف الأوّل : بأنّه لو انتفى الحكم من المحلّ ، لم يتأتّ القياس عليه ، فلا يكون أصلا.

و [ ضعّف ] الثالث : بأنّه لو علم الحكم بالضرورة ، أمكن القياس عليه وإن لم يكن عليه دليل ، فبقي الأصل إمّا حكم (4) محلّ الوفاق ، أو علّته (5).

وفيه : أنّ الكلام على فرض ثبوت الحكم في المحلّ ووجود دليل عليه ، وحينئذ لا مانع في تسمية كلّ واحد منهما أصلا ؛ لأنّ الأصل ما يبتنى عليه الشيء ، والحكم في الفرع وإن ابتنى ابتداء على الحكم في الأصل إلاّ أنّه يبتنى على دليله ومحلّه وعلّته أيضا بالواسطة ؛ لابتنائه عليهما.

فالحقّ أنّه لا بأس بتسمية كلّ من الأربعة أصلا.

وأمّا الفرع ، فهو عند الفقهاء المحلّ المشبّه الذي يراد إثبات الحكم فيه (6) ، وعند الاصوليّين حكمه (7).

وربّما قيل بأولويّة الثاني ؛ لأنّ الأوّل ليس متفرّعا على الأصل ، بل هو أصل الحكم الذي هو فرع القياس ، فهو أصل فرع. ويقابل بأنّ الثاني ثمرة القياس وفائدته ، فيتأخّر عنه ، فلا يكون من أركانه (8).

فالحقّ أنّ لكلّ واحد من الأقوال في الأصل والفرع وجها صحيحا.

وقيل : الحكم والعلّة يتعاكسان أصالة وفرعيّة في محلّ الوفاق والخلاف ، فالحكم أصل للعلّة وهي فرع له في الأوّل ؛ إذ تستنبط بعد ثبوته ، والعلّة أصل للحكم وهو فرع لها في الثاني ؛ إذ يعلم ثبوته بثبوتها (9). وله أيضا وجه صحيح.

ص: 436


1- حكاهما عن الفقهاء البصري في المعتمد 2 : 1. والفخر الرازي في المحصول 5 : 16.
2- حكاهما عن الفقهاء البصري في المعتمد 2 : 1. والفخر الرازي في المحصول 5 : 16.
3- كنز العمّال 5 : 498 ، ح 13735.
4- منصوب ب- « كائنا » المقدّر قبل « إمّا ».
5- قاله الفخر الرازي في المحصول 5 : 17.
6- حكاهما البصري عن الفقهاء والمتكلّمين في المعتمد 2 : 199. ولم يذكرا أقوال الاصوليّين ؛ لأنّ اصطلاحهم يبتني على اصطلاح الفقهاء ، كما أشار إليه المؤلّف ، والفخر الرازي في المحصول 5 : 18 و 19.
7- حكاهما البصري عن الفقهاء والمتكلّمين في المعتمد 2 : 199. ولم يذكرا أقوال الاصوليّين ؛ لأنّ اصطلاحهم يبتني على اصطلاح الفقهاء ، كما أشار إليه المؤلّف ، والفخر الرازي في المحصول 5 : 18 و 19.
8- حكاهما البصري عن الفقهاء والمتكلّمين في المعتمد 2 : 199. ولم يذكرا أقوال الاصوليّين ؛ لأنّ اصطلاحهم يبتني على اصطلاح الفقهاء ، كما أشار إليه المؤلّف ، والفخر الرازي في المحصول 5 : 18 و 19.
9- حكاهما البصري عن الفقهاء والمتكلّمين في المعتمد 2 : 199. ولم يذكرا أقوال الاصوليّين ؛ لأنّ اصطلاحهم يبتني على اصطلاح الفقهاء ، كما أشار إليه المؤلّف ، والفخر الرازي في المحصول 5 : 18 و 19.

ثمّ لا يخفى أنّ تحديد القياس على ما تقدّم (1) ، وعدّ أركانه أربعة بناء (2) على ما استقرّ عليه آراء الاصوليّين من ابتناء بحثهم في كتبهم على اصطلاح الفقهاء في الأصل والفرع ، ولو بنينا على اصطلاح غيرهم ، تغيّرت الحدود وتناقضت الأركان ، فعلى اصطلاحهم أيضا يدور رحى البحث في كتابنا هذا.

فصل [4]

اعلم أنّ للقياس تقسيمات باعتبارات في كتب القوم ، وبعضها يرد على أقسام بعض آخر ، فيدخل بعض الأقسام تحت بعض الأقسام الأخر. وربّما بقي تقسيم لم يرد على أقسام باقي التقسيمات ، فيبقى بعض الأقسام غير داخل تحت بعض الأقسام الأخر ، ولا مدخول عليه. وربّما اشتبه بعض الأقسام بغيره ولم يكن هو. وربّما كان بعضها عين بعض آخر عند التأمّل. وقد يرى المخالفة بينهم في تفسير بعضها ولا يعلم الصواب.

وربما سمّوا بعض الأقسام المختلفة باسم واحد ولم يتعرّضوا للتبيين والتمييز (3). وقد يصرّحون بأنّ هذا القسم ممّا أثبت حجّيّته العامّة والخاصّة كلاّ أو بعضا ، وذاك القسم ممّا تفرّد بإثبات حجّيّته العامّة ، فربّما اشتبه حينئذ على غير الماهر أنّ غيرهما من الأقسام - كلاّ أو بعضا - هل يدخل في هذا أو ذاك ، أو لا يدخل في شيء منهما؟

وربّما كان ترتيب بحثهم على ما لا ينبغي ، واستدلالهم غير معلوم المحلّ ، فجاء بحث القياس في مصنّفاتهم مختلّ النظام ، غير مضبوطة الأقسام (4).

فلتفصيل ما أجملوه وتبيين ما أهملوه لا بدّ لنا أوّلا من ضبط التقاسيم ، وحصر الأقسام وتعريفها ، والإشارة الإجماليّة إلى أنّ أيّا من الأقسام يدخل تحت أيّ منها ، وأيّا منها يبقى غير داخل ، ولا مدخول عليه.

ص: 437


1- تقدّم في ص 435.
2- خبر ومرفوع.
3- في « ب » : « للتبيّن والتميّز ».
4- راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 191 - 196 ، والمعتمد 2 : 195 - 200 ، والمحصول 5 : 5 - 20 ، والإحكام في أصول الأحكام 4 : 108 - 110 ، ومعارج الاصول : 182 ، ونهاية السؤل 4 : 53 - 59 ، والوافية : 236 - 239.

ثمّ تفصيل البحث عن كلّ واحد وما يتبعه. ثمّ الإشارة إلى أنّ الأقسام المعتبرة منها عند الفريقين في الجملة ما هي؟ وما تفرّد باعتباره المخالفون ما ذا؟ وتحقيق الحقّ فيه.

ثمّ التذييل بما ينبغي من الشروط والافتراضات ، وغيرها على ما يقتضيه النظم الطبيعيّ في البحث.

فنقول : ينقسم القياس أوّلا إلى قياس طرد ، وهو ما يثبت فيه للفرع مثل حكم الأصل.

وإلى قياس عكس ، وهو ما يثبت فيه للفرع نقيض حكم الأصل. وهذا شقّان :

والشقّ الأوّل ينقسم إلى قياس علّة ، وقياس دلالة ، وقياس في معنى الأصل. وهذه ثلاثة أجناس :

[ الجنس ] الأوّل : ما صرّح فيه بجامع يكون هو العلّة للحكم ، كقياس النبيذ على الخمر بجامع الإسكار.

و [ الجنس ] الثاني : ما صرّح فيه بجامع لم يكن هو العلّة ، بل كان دليلها ، كقياس المكره على القتل على المكره عليه في وجوب القصاص بجامع الإثم ، وهو ليس علّة لوجوب القصاص ، بل يدلّ على أنّ قصد الشارع حفظ النفس الذي هو العلّة.

وكقياس النبيذ على الخمر في التحريم بجامع الرائحة الفائحة اللازمة للإسكار الذي هو العلّة.

وكقياس المسروق على المغصوب في وجوب الضمان بالتلف بجامع وجوب ردّه إذا كان باقيا ؛ فإنّ وجوب الردّ ليس علّة للضمان في صورة الغصب ، ولكنّه يدلّ على أنّ قصد الشارع حفظ المال الذي هو العلّة للضمان.

وكالجمع بين قطع أيدي جماعة بيد الواحد ، وقتل نفوس بالنفس الواحدة قصاصا بجامع الاشتراك في وجوب الدية عليهم على تقدير إيجابها. ووجوب الدية ليس علّة لوجوب القصاص ، بل هو أحد موجبي العلّة التي هي الجناية ، إلاّ أنّ وجوده يدلّ على وجود الموجب الآخر ، وهو وجوب القصاص ؛ لأنّهما متلازمان ؛ نظرا إلى اتّحاد علّتهما - وهي الجناية - وحكمتهما وهو الزجر.

وغير خفيّ أنّ حاصل جميع أمثلة قياس الدلالة يرجع إلى إثبات حكم في الفرع ، وهو

ص: 438

وحكم آخر يوجبهما علّة واحدة ، والآخر متحقّق الوقوع في الفرع. فيقال : يثبت هذا الحكم في الفرع لثبوت الآخر فيه ، وهو ملازم له ، فيجمع بين الأصل والفرع في أحد موجبي العلّة ؛ لاجتماعهما في الموجب الآخر الملازم له ، ويؤول إلى الاستدلال بأحد الموجبين على العلّة ، وبها على الموجب الآخر ، ولكن يكتفى بذكر موجب العلّة عن التصريح بها.

و [ الجنس ] الثالث : ما لم يصرّح فيه بجامع أصلا ، وعلم الجمع بين الأصل والفرع في الحكم بنفي الفارق.

ثمّ الشقّ الثاني - وهو قياس العكس - : ينقسم أيضا إلى هذه الأجناس الثلاثة ؛ فإنّ إثبات نقيض حكم الأصل في الفرع قد يكون لوجود نقيض علّته فيه ، كما يقول الحنفيّة : لمّا وجب الصوم في الاعتكاف بالنذر ، وجب بغير نذر ، كالصلاة ، فإنّها لمّا لم تجب بالنذر ، لم تجب بغير النذر (1) ، فالحكم في الأصل عدم الوجوب بغير نذر ، وفي الفرع الوجوب بغير نذر ، والعلّة في الأصل عدم الوجوب بالنذر ، وفي الفرع الوجوب بالنذر ، فلمّا كانت العلّتان متناقضتين ، فالحكمان أيضا كذلك (2).

وقد يكون لوجود لازم نقيضها فيه.

وقد يكون لتناقضهما المستلزم لتناقض حكمهما وإن لم يصرّح بعلّة للحكم أصلا. ومثالهما ظاهر.

هذا ، والظاهر أنّ المراد من التصريح بالعلّة في الجنس الأوّل أن يعلّل ثبوت الحكم بعلّة مطلقا ، أي سواء عرفت بنصّ ، أو إيماء ، أو استنباط ، أو غيرها ؛ وليس المراد منه أن تكون العلّة مصرّحة في الأصل حتّى يختصّ (3) بمنصوص العلّة.

وعلى هذا ، يكون المراد من الجنس الثالث ما لم يعلّل الحكم فيه بعلّة أصلا ، بل لتساوي الأصل والفرع في جميع ما يصلح أن يكون سببا لاختلاف الحكم يحكم بثبوت الحكم في

ص: 439


1- وحاصله أنّ الصوم في الاعتكاف واجب ، سواء وجب الاعتكاف بالنذر أم لا والصلاة فيه غير واجبة فيه ولو كان الاعتكاف واجبا بالنذر.
2- قاله البصري في المعتمد 2 : 196. وحكاه الفخر الرازي في المحصول 5 : 14 بعنوان : « إن قيل ».
3- أي القياس.

الفرع وإن لم يستند إلى علّة أصلا ، مثلا قوله صلى اللّه عليه وآله : « لا يبولنّ أحدكم في الماء الراكد » (1) إذا قيس عليه البول في الكوز وصبّه في الراكد ، لم يكن الجمع بينهما بعلّة أصلا ؛ لعدم وجودها نصّا وإيماء ، بل للعلم بعدم الفرق بينهما بشيء يصلح لاختلاف الأحكام. وعلى هذا يلحق قياس العلّة قسمة باعتبار (2) معرفة العلّة ، وذلك لأنّ معرفة كون الوصف الجامع علّة ليست ضروريّة ، فلا بدّ لها من طرق ، وتنحصر أوّلا (3) في طريقين : الدلالة ، والاستنباط. ونحن نسمّي - لسهولة التفهّم (4) - كلّ قياس مدلول العلّة براجح التأثير ، وكلّ قياس مستنبط العلّة بمرجوح التأثير.

ثمّ الطريق الأوّل إمّا النصّ ، ويسمّى القياس حينئذ منصوص العلّة ومثاله ظاهر.

وإمّا الإجماع ، ككون الصغر علّة لولاية المال ؛ فإنّه علّة لها بالإجماع ، ويقاس عليها النكاح.

وإمّا التنبيه والإيماء ، مثاله : ما قال الأعرابي : هلكت وأهلكت ، فقال صلى اللّه عليه وآله : « ما ذا صنعت؟ » فقال : واقعت أهلي في نهار رمضان ، فقال : « أعتق رقبة » (5). وهذا يدلّ على أنّ الوقاع علّة للإعتاق. ويأتي تفصيل مراتب التنبيه والإيماء (6).

وهذه ثلاثة أنواع ، كلّ واحد منها : إمّا أن يكون اقتضاء الجامع فيه للحكم في الأصل أولى منه في الفرع ، كاقتضاء الإسكار للتحريم في النبيذ ؛ لاقتضائه له في الخمر ، ولا خلاف في كونه قياسا. أو بالعكس ، ويسمّى القياس بالطريق الأولى ، كاقتضاء وجوب كفّ الأذى لتحريم الضرب ؛ لاقتضائه لتحريم التأفيف.

أو مساويا ، كاقتضاء عتق الشقص في الأمة لتقويم نصب الشريك على المعتق ؛ لاقتضائه له في العبد.

ص: 440


1- كنز العمّال 9 : 354 ، ح 26421.
2- متعلّق ب- « يلحق » وقوله : « قسمة » منصوب على التمييز ومفهوم الجملة : أنّ قياس العلّة على هذا يصير من أقسام تقسيم آخر غير التقسيم المذكور والتقسيم الآخر هو تقسيم القياس إلى كون العلّة معلومة أو مستنبطة.
3- يكون قوله : « ثمّ الطريق الأوّل » بمنزلة قوله : « وثانيا ».
4- في « ب » : « التفهيم ».
5- الفقيه 2 : 115 - 116 ، ح 1885 ، وكنز العمّال 8 : 598 ، ح 24322 باختلاف يسير في المصدرين.
6- يأتي في ص 447.

وقد وقع الخلاف في كون الأخيرين قياسا (1). والحقّ أنّهما هو كما يأتي.

والحاصل تسعة أصناف. وكلّ واحد منها إمّا جليّ ، وهو ما يعلم فيه نفي الفارق بين الأصل والفرع ، كقياس الأمة على العبد في تقويم النصب ، فإنّا نعلم أنّ الفارق بينهما - وهو الذكورة والانوثة (2) - لا يصلح للتأثير في اختلاف أحكام العتق وإن صلح للاختلاف في أحكام غيره.

أو خفيّ ، وهو ما كان نفي الفارق فيه مظنونا ، كقياس القتل بالمثقل على القتل بالمحدّد. والحاصل ثمانية عشر قسما.

وربما ظهر من كلام جماعة أنّ الجليّ اسم للقياس بالطريق الأولى لا غير (3) ، فيتّحد القياس بالطريق الأولى معه ولا ينقسم إليه وإلى غيره.

ولا يخفى أنّ كلّ قياس بطريق أولى ليس جليّا بالمعنى الذي ذكرناه ؛ فإنّ كون اقتضاء الجامع للحكم في الفرع أولى منه في الأصل ، لا يستلزم العلم بنفي الفارق بينهما ؛ لجواز أن يكون الاقتضاء المذكور ظنّيّا ؛ فإنّه لا يشترط في القياس بالطريق الأولى أن يكون الاقتضاء قطعيّا ، وحينئذ يكون تعليل الحكم بالجامع ظنّيّا ، فربما كان لخصوص مادّة الأصل مدخليّة في الحكم ، فلا يقطع بنفي الفارق بينهما فيه ، فيصحّ انقسام القياس بالطريق الأولى إلى الجليّ والخفيّ ، كما يصحّ انقسام عكسه إليهما.

ولا يرد أنّ اقتضاء الجامع للحكم في الأصل إذا كان أقوى (4) منه في الفرع ، لا يمكن القطع بنفي الفارق ، فينحصر في الخفيّ ؛ لجواز أن يقطع باقتضائه له فيهما وإن كان في الأصل أشدّ.

نعم ، إن اريد بالجليّ معنى يرادف القياس بالطريق الأولى وبالخفيّ ما يقابله ، فلا كلام ، إلاّ أنّ العرف المشهور بين القوم ما ذكرناه (5) ؛ لأنّ الظاهر أنّ الجليّ عندهم ما يعلم فيه نفي

ص: 441


1- قال الفخر الرازي في المحصول 5 : 15 : إنّهما ليسا بقياس ، وأشار إليه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 6 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 251 و 252 ، كما قاله الأسنوي في نهاية السؤل 4 : 4.
2- في « ب » : « الذكوريّة والانوثيّة ». والصحيح ما أثبتناه كما في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 6.
3- راجع : المحصول 5 : 121 - 124 ، وتهذيب الوصول : 271 و 272 ، ونهاية السؤل 4 : 26 - 28.
4- في « ب » : « أولى ».
5- ذكره آنفا.

الفارق مطلقا ، أي سواء وجد معه علّة للحكم أم لا.

والذي ينقسم إليه الأصناف التسعة هو الأوّل. والثاني هو القياس في معنى الأصل بالمعنى المذكور ، فإن اريد بالجليّ الثاني وبالقياس بالطريق الأولى ما يرادف القياس في معنى الأصل ، فيتّحدان.

ثمّ كلّ واحد من الأقسام الثمانية عشر إمّا قطعيّ ، وهو ما يقطع فيه بكون الحكم في الأصل معلّلا بالجامع وبثبوته في الفرع. أو ظنّيّ ، وهو ما يظنّ فيه بهما أو بأحدهما. والحاصل ستّ وثلاثون صورة.

وانقسام كلّ من الأقسام المذكورة إليهما مبنيّ على أنّ العلم بنفي الفارق لا يستلزم قطعيّة القياس بالمعنى المذكور.

وربّما ايّد ذلك بأنّا نعلم نفي الفارق بين الهندي والأعرابي في تعلّق الكفّارة بهما إذا وجد مقتضيها ، مع أنّا لا نقطع بكون الوقاع علّة للكفّارة في قضيّة الأعرابي ، بل هو مظنون لنا.

وغير خفيّ أنّه إذا جوّز أن يكون لخصوص الواقعة مدخليّة ، فلا يقطع بنفي الفارق ، وإن لم يجوّز ، يكون حكم الفرع في ثبوت الحكم له حكم الأصل بعينه ، وثبوت الحكم في الأصل إذا كان قطعيّا ومستندا إلى العلّة لا غير - كما هو الفرض - يستلزم قطعيّة العلّيّة.

نعم ، إذا لم يكن الحكم في الأصل قطعيّا بأن ينحصر ثبوته بعلّة عقليّة تكون علّيّتها له ظنّية ، أو بعلّة شرعيّة ظنّية الطريق وعلم ثبوتها في الفرع ، يمكن حصول العلم بنفي الفارق بينهما من غير قطعيّة القياس بالمعنى المذكور ، وحينئذ يرد القسمة الأخيرة على الأقسام المتقدّمة. وعلى أيّ تقدير ، لا شبهة في استلزام القطعيّة بالمعنى المذكور للعلم بنفي الفارق ، وهو ظاهر.

ثمّ لا يخفى أنّ الجنس الثاني - وهو قياس الدلالة - وإن لم ينقسم إلى الأنواع المذكورة إلاّ أنّه يمكن انقسامه إلى الأصناف والأقسام والصور المذكورة ، ووجهه ظاهر.

وأمّا الجنس الثالث - وهو القياس في معنى الأصل - فعلى التفسير الذي ذكرناه (1)

ص: 442


1- في ص 439.

لا ينقسم إليها. ولو اريد منه ما لم ينصّ على علّة في أصله - وإن اثبت الحكم في الفرع بعلّة إيمائيّة أو استنباطيّة أو معلومة بالإجماع - واريد من الجنس الأوّل - وهو قياس العلّة - ما كانت العلّة في الأصل منصوصة ، لا يشمل (1) النوع الأوّل ، وينقسم إلى باقي الأنواع وجميع الأصناف والأقسام والصور المذكورة.

ولا يشمل الجنس الأوّل ما سوى النوع الأوّل ، أي منصوص العلّة ، بل يتّحد معه ، ولكنّه ينقسم إلى الأصناف والأقسام والصور المذكورة.

واعلم أنّ الظاهر من كلام جماعة أنّ تنقيح المناط - وهو الاستدلال في عرف الحنفيّة (2) - هو الجمع بين الأصل والفرع بمجرّد إلغاء الفارق ، أي القياس في معنى الأصل (3).

وقال بعضهم : هو الجمع بينهما بنفي الفارق مع كون العلّة مستخرجة في الأصل بالإيماء ، ففي قضيّة الأعرابي إذا قيل : كونه أعرابيّا لا مدخل له في العلّيّة ، فالهندي مثله ، كان تنقيح المناط (4).

والظاهر أنّه مطلق الجمع بينهما بنفي الفارق ، سواء وجد معه علّة إيمائيّة أو استنباطيّة ، أو لا.

بل يظهر من كلام جماعة أنّ كلّ ما جاز أن يحذف عنه بعض الأوصاف ويعلّل بالباقي ، يسمّى تنقيح المناط (5) ؛ لأنّهم عدّوا منه قوله عليه السلام وقد سألوا عن جواز بيع الرطب بالتمر : « أينقص إذا جفّ » قالوا : نعم ، فقال : « فلا إذن » (6) ، إذا قيل : لا اعتبار بما عدا تلك العلّة من أوصاف الأصل ، ولا ريب في أنّ « إذن » نصّ في علّيّة النقصان عند الجفاف للتحريم. فإذا

ص: 443


1- أي الجنس الثالث وهو جواب « لو ».
2- حكاه عنهم الفخر الرازي في المحصول 5 : 230 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 258.
3- قاله الفخر الرازي في المحصول 5 : 230 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 258 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 128 و 129.
4- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 280 ، والمحقّق الحلّي في معارج الاصول : 185 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 258 ، والفاضل التوني في الوافية : 238.
5- حكاه الفخر الرازي في المحصول 5 : 151 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 73 ، والفاضل التوني في الوافية : 239.
6- سنن ابن ماجة 2 : 761 ، ح 2264 ، والجامع الصحيح 3 : 528 ، ح 1225 ، وسنن أبي داود 3 : 251 ، ح 3359.

قيل : كلّ ما نقص بعد الجفاف من الربويّات لا يجوز بيعه بيابسه ، يكون تنقيح المناط ، مع أنّ التعليل فهم نصّا.

هذه هي الأقسام والصور المندرجة تحت قياس راجح التأثير.

وأمّا مرجوح التأثير ، فله أيضا أقسام ؛ لأنّك عرفت (1) أنّه ما عرف الجامع فيه بالاستنباط ، وله طرق :

منها : المناسبة ، ويسمّى إخالة ؛ لأنّه بالنظر إليه يخال أنّه علّة ، وتخريج المناط ؛ لأنّه إبداء مناط الحكم. وحاصله تعيين العلّة في الأصل بمجرّد إبداء المناسبة بينها وبين الحكم من ذات الأصل ، لا بنصّ ولا بغيره.

والظاهر أنّ تعيين العلّة في الأصل بمطلق الاستنباط - سواء كان بالمناسبة أو غيرها - وإثبات الحكم فيه لأجلها يسمّى تخريج المناط. وإثبات العلّة في الفرع ، يسمّى تحقيق المناط. والقياس بهذا الاعتبار يسمّى « قياس إخالة » ، مثاله ما يقال : علّة تحريم الخمر الإسكار ؛ لأنّه مناسب له ، فالنبيذ حرام ؛ لوجود العلّة المناسبة فيه أيضا.

ومنها : الشبه. وله تفسيرات ، أشهرها أنّه ما يوهم المناسبة وليس بمناسب ، ويسمّى القياس بهذا الاعتبار « قياس الشبه » ، وما لا يوهم المناسبة أصلا يسمّى بالطرد ، ويسمّى القياس بهذا الاعتبار « قياس طرد ». ويمتاز الوصف الطرديّ عن الوصف الشبهيّ بأنّ الطرديّ وجوده كالعدم عند الكلّ.

مثال الشبه : كما يقال في إزالة الخبث : هي طهارة تراد للعبادة ، فتعيّن الماء كالحدث ؛ فإنّ المناسبة بين الجامع وهو (2) طهارة تراد للعبادة ، وبين الحكم وهو تعيّن الماء غير ظاهرة ، إلاّ أنّ اعتبار الشارع للطهارة المائيّة في بعض الأحكام - كمسّ المصحف والصلاة والطواف - يوهم المناسبة ، فيكون الجامع وصفا شبهيّا.

ومثال الطرد : الخلّ لا يبنى عليه القنطرة ، ولا يصاد منه السمك ، فلا يزيل الخبث كالمرق ؛ فإنّه لا يتوهّم أحد وجود المناسبة بين الوصف الجامع والحكم هنا ؛ لأنّه ممّا ألغاه الشارع قطعا.

ص: 444


1- راجع ص 440.
2- أي الجامع.

ومنها : السبر والتقسيم وهو حصر الأوصاف الموجودة في الأصل - الصالحة في بادئ الرأي للعلّيّة - في عدد ، ثمّ إبطال ما عدا الذي يدّعى أنّه العلّة واحدة كانت أو أكثر ، ويسمّى القياس حينئذ قياس السبر.

مثاله : كما يقال في قياس الأرز على البرّ في الربويّة : بحثنا عن أوصاف البرّ فما وجدنا ما يصلح أن يكون علّة للربويّة إلاّ الطعم والقوت والوزن ، لكنّ الطعم والقوت لا يصلحان لذلك عند دقيق النظر ، فتعيّن الوزن ، وهو موجود في الأرز ، فيكون ربويّا.

ومنها : الدوران ، وقد عرفت (1) أنّه الاستلزام في الوجود والعدم ، ويسمّى الأوّل الطرد ، والثاني العكس ، ولذا سمّي الدوران بالطرد والعكس ، ويسمّى القياس حينئذ « قياس الطرد ».

مثاله : كما يقال في قياس النبيذ على الخمر في الحرمة : العصير أوّلا لمّا لم يتّصف بالإسكار ، لم يكن حراما ، ولمّا حدث فيه وصف الإسكار حدثت فيه الحرمة ، وإذا صار خلاّ وزال عنه الإسكار ثانيا ، يزول عنه الحرمة أيضا. فيظهر أنّ الإسكار علّة للتحريم ، فيكون النبيذ حراما لوجوده فيه.

هذا ، وقد ظهر ممّا ذكرنا من أقسام القياس أنّ ثلاثة أقسام منه يسمّى قياس الطرد ، ونحن - للتمييز - نسمّي المقابل لقياس العكس قياس الطرد الأعمّ ، وقياس الدوران قياس الطرد المركّب ، والمقابل لقياس الشبيه قياس الطرد البسيط. ولمّا كان الصور المتقدّمة مندرجة تحت الأوّل ، وبعضها حجّة عندنا ، والباقي ليس بحجّة ، كما يأتي ، فبعض أقسامه مقبول والباقي ليس بمقبول ، ومن أقسامه التي ليست مقبولة قياس الطرد المركّب والبسيط.

واعلم أنّ كثيرا ما يستدلّ أصحابنا في كتبهم الفروعيّة على حكم بأنّه من باب اتّحاد طريق المسألتين لا القياس ، كما قالوا : يجب اليمين استظهارا مع البيّنة في الدعوى على الغائب والطفل والمجنون ؛ لمشاركتهم للميّت في العلّة المومى

ص: 445


1- راجع ص 424.

إليها في النصّ (1) ، وهو أنّه لا لسان له للجواب.

والمراد منه (2) كلّ قياس علم أو ظنّ فيه ظنّا شرعيّا تعليل الحكم في الأصل بعلّة واشتراك الفرع له في علّة حكمه ، فيرادف قياس (3) راجح التأثير ويشمل جميع أقسامه ، ويحتمل أن يكون أعمّ منه وممّا علم ، أو ظنّ فيه كذلك (4) نفي الفارق بين الأصل والفرع ، فيشمل تنقيح المناط أيضا.

فصل [5]

يتحقّق النصّ على التعليل بذكر ما يدلّ عليه صريحا بوضعه ، وهو قسمان ، يتقدّم السابق على اللاحق في قوّة الدلالة عليه.

الأوّل : ما صرّح فيه بالعلّيّة ، نحو لعلّة كذا ، أو لسبب كذا ، أو لموجب كذا ، أو مؤثّر كذا ، أو من أجل كذا ، أو كي يكون كذا ، أو إذن كذا.

الثاني : ما ورد فيه أحد الحروف الظاهرة فيها (5) ، ك- « اللام » و « الباء » و « من » ، و « إنّ » ، و « إن » (6) مثل إن كان كذا ، وليست صريحة فيه ؛ لأنّها قد تجيء لغيره. ويظهر دلالتها على التعليل عند اقترانها بوصف صالح له ، ويزداد قوّة التعليل بالإجماع.

فصل [6]

الأقسام المتقدّمة في مطلق الإجماع تتأتّى في الإجماع على كون الوصف الجامع علّة ، فيكون قطعيّا وظنّيّا ، كالسكوتي والثابت بالآحاد (7) ، ولأجله يختلف معرفة التعليل الثابت منه بالقطعيّة والظنّيّة.

ص: 446


1- منهم : الشيخ في المبسوط 8 : 162 ، والحلبي في الكافي في الفقه : 447 ، والمحقّق الحلّي في شرائع الإسلام 4 : 85 ، والعلاّمة في مختلف الشيعة 8 : 462 ، المسألة 63.
2- أي اتّحاد طريق المسألتين.
3- هذا من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة.
4- أي ظنّا شرعيّا.
5- في « ب » : « فيه ». أي التعليل.
6- والمراد بها المخفّفة من الثقيلة.
7- أي يكون تحقّق الإجماع بالإجماع السكوتي والمنقول بالآحاد ظنّيّا.
فصل [7]
اشارة

التنبيه والإيماء ما لزم مدلول اللفظ. فكلّ لفظ كان التعليل لازما من مدلوله ، كان دالاّ على العلّيّة بالتنبيه والإيماء. وله مراتب :

منها : ما دخل فيه « الفاء » في لفظ الشارع أو الراوي.

وفي الأوّل إمّا أن يدخل على الحكم وتكون العلّة متقدّمة ، كقوله تعالى : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا ) (1) ، و ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ) (2) ، وقوله عليه السلام : « من أحيا أرضا ميتة فهي له » (3) ، و « ملكت نفسك فاختاري » (4).

أو على العلّة ويكون الحكم متقدّما ، كقوله عليه السلام : « زمّلوهم بكلومهم ودمائهم ، فإنّهم يحشرون وأوداجهم تشخب دما » (5).

والثاني مثل : « سها فسجد » (6) و « زنا ماعز فرجم » (7). وهو يختلف في الدلالة على التعليل بحسب اختلاف حال الراوي فقها وورعا. وهو دون الأوّل ؛ لاحتمال الغلط.

وقيل : الشقّ الأوّل من الأوّل أقوى من الثاني منه ؛ لأنّ إشعار العلّة بالمعلول أقوى من العكس ؛ للزومه دونه (8).

وفيه نظر يطلب من محلّه ، مع أنّه ما قيل في بيانه لا يجري في العلل الشرعيّة.

ثمّ دلالة « الفاء » على التعليل لمّا لم تكن وضعيّة بل استدلاليّة ؛ لأنّها لمّا كانت للتعقيب فيلزم منه العلّيّة ؛ إذ معنى كون الوصف علّة أن يثبت الحكم عقيبه ، فيكون التعليل لازم مدلوله ، فدلالتها عليه إيمائيّة. وبذلك يظهر غفلة من عدّها من مراتب النصّ على التعليل (9).

ص: 447


1- المائدة 1. : 38 و 6.
2- المائدة 1. : 38 و 6.
3- الكافي 5 : 280 ، باب في إحياء أرض الموات ، ح 6 ، والفقيه 3 : 240 ، ح 3880.
4- الكافي 6 : 188 ، باب المكاتب ، ح 13. باختلاف.
5- كنز العمّال 4 : 429 ، ح 11254 ، وبحار الأنوار 79 : 7 ، ح 6 باختلاف.
6- صحيح البخاري 1 : 412 ، ح 1170 و 1171 ، وسنن أبي داود 1 : 264 ، ح 1008 ، وصحيح مسلم 1 : 403 ، ح 97 / 573.
7- صحيح البخاري 6 : 2502 ، ح 6438 ، وصحيح مسلم 3 : 1319 ، ح 17 / 1692 ، والإصابة 3 : 337.
8- قاله الفخر الرازي في المحصول 5 : 147.
9- قاله العلاّمة في تهذيب الوصول : 252.

ومنها : الاقتران بوصف لو لم يكن للتعليل ، لكان بعيدا ، كواقعة الأعرابي المتقدّمة (1) ؛ فإنّه عرض واقعته على النبيّ صلى اللّه عليه وآله لبيان حكمها ، والحكم الذي ذكره صلى اللّه عليه وآله جواب له ؛ إذ لو كان مبتدئا ، لزم إخلاء السؤال عن الجواب ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ، فيكون السؤال حينئذ مقدّرا في الجواب ، فكأنّه قال : « واقعت فكفّر » فيرجع إلى سابقه ، إلاّ أنّه دونه ؛ لأنّ « الفاء » هنا مقدّرة وثمّة محقّقة ؛ ولاحتمال عدم قصد الجواب ، كما لو قال العبد : « طلعت الشمس » فقال السيّد : « اسقني الماء ». ولا يلزم تأخير البيان حينئذ عن وقت الحاجة في كلام الشارع ؛ لاحتمال معرفته بانتفاء حاجة المكلّف. وهذا وإن كان بعيدا إلاّ أنّه لإمكانه يصلح وجها للمرجوحيّة.

ويتفرّع عليه : أنّه لو قالت لرجل زوجته - واسمها فاطمة - : « طلّقني » ، فقال : « فاطمة طالق » ، ثمّ قال : نويت فاطمة اخرى ، طلّقت ، ولم يسمع ادّعاؤه ؛ لأنّ قوله جواب عن سؤالها ؛ فلا يطابق ادّعاءه ، بخلاف ما لو قال ابتداء : « طلّقت فاطمة » ، ثمّ قال : نويت فاطمة اخرى.

ويتفرّع عليه أيضا : أنّه إذا قالت له زوجته : إذا قلت لك طلّقني ما تقول؟ فقال : أقول : « أنت طالق » لا يقع عليه الطلاق ؛ لأنّه إخبار عن فعله في المستقبل ؛ عملا بالجواب المطابق للسؤال. نعم ، لو قصد التنجيز يطلّق. وقس عليهما أمثالهما.

ومنها : الاقتران بوصف لو لم يكن نظيره للتعليل ، لم يكن في ذكره فائدة ، كقوله عليه السلام وقد سألته الخثعميّة : إنّ أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحجّ ، فإن حججت عنه أينفعه؟ فقال صلى اللّه عليه وآله : « أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته ، كان ينفعه ذلك؟ » قالت : نعم ، فقال : « فدين اللّه أحقّ بأن يقضى » (2).

نبّه صلى اللّه عليه وآله بذكر نظير ما سألته السائلة على التعليل به ، أي كونه علّة للنفع ، وإلاّ كان ذكره عبثا. ويحصل منه التنبيه على أنّ نظيره - وهو دين اللّه المسئول عنه - كذلك ، ففي مثل هذا تنبيه على أصل القياس ، وعلى علّة حكمه ، وعلى صحّة إلحاق الفرع به. والاصوليّون يسمّونه تنبيها على أصل القياس (3).

ص: 448


1- تقدّم تخريجه في ص 440.
2- جامع الاصول 3 : 419 - 420 ، ح 1747 - 1748 ، ودعائم الإسلام 1 : 336.
3- منهم : البصري في المعتمد 2 : 214 ، والفخر الرازي في المحصول 5 : 127 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 283.

ومنها : ذكر وصف عقيب سؤال لو لم يحمل على التعليل كان عبثا ، كما روي أنّه صلى اللّه عليه وآله امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب ، فقيل له صلى اللّه عليه وآله : إنّك تدخل على بيت فلان وعندهم هرّة؟ فقال : « إنّها ليست بنجسة ، إنّها من الطوّافين عليكم » (1) أو « الطوّافات » ، فلو لم يكن للطواف أثر في التطهير ، كان ذكره بعد الحكم بطهارتها عبثا. وكون التعليل هنا منصوصا من « إنّ » لا ينافي ذلك ؛ إذ لو قدّر انتفاؤها ، لبقي فهم التعليل من الوصف.

ومنها : ذكر وصف ابتداء كذلك (2) ، كقوله عليه السلام - وقد توضّأ بماء نبذت فيه تمرات - : « تمرة طيّبة وماء طهور » (3). فلو لم يقدّر كون بقاء اسم الماء عليه علّة لجواز الوضوء به ، كان ذكره لغوا.

ومنها : التقرير على وصف الشيء المسئول عنه ، كقوله عليه السلام - وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر - : « أينقص الرطب إذا جفّ؟ » فقيل : نعم ، فقال : « فلا إذن » (4).

نبّه بمنع البيع إذا نقص على التعليل به. وكونه منصوصا من « إذن » ، ومفهوما من « الفاء » (5) لا ينافي ذلك ؛ لأنّه لو قدّر انتفاؤهما ، لبقي فهم التعليل.

ومنها : الفرق بين شيئين في الحكم بوصف صالح للتعليل. إمّا بصيغة صفة مع ذكر الشيئين بوصفهما وحكمهما ، مثل « للراجل سهم ، وللفارس سهمان » (6).

أو مع ذكر أحدهما ، مثل : « القاتل لا يرث » (7) ؛ فإنّه لم يتعرّض لغير القاتل وإرثه ، إلاّ أنّه يعلم منه - بعد تقدّم بيان إرث الورثة - أنّ القتل علّة لنفي الإرث.

أو بغاية ، مثل : ( وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ) (8). نبّه بالغاية ، على التفرّق بين الحائض وغيرها ، وعلى أنّ الحيض علّة عدم جواز القرب.

ص: 449


1- جامع الاصول 7 : 102 ، ح 5075 ، وكنز العمّال 9 : 399 ، ح 26677.
2- أي لو لم يحمل على التعليل كان عبثا.
3- سنن أبي داود 1 : 21 ، ح 84 ، والسنن الكبرى 1 : 9.
4- سنن أبي داود 3 : 251 ، ح 3359 ، والسنن الكبرى 6 : 294.
5- كذا في النسختين ، والصحيح ما أثبتناه.
6- الكافي 5 : 44 ، باب قسمة الغنيمة ، ح 2 ، والسنن الكبرى 6 : 325.
7- جامع الاصول 9 : 601 ، ح 7377.
8- البقرة (2) : 222.

أو بالاستثناء ، مثل : ( فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ ) (1). نبّه بالاستثناء على أنّ العفو علّة لسقوط المهر.

أو بالشرط ، مثل : « إذا اختلف الجنسان ، فبيعوا كيف شئتم » (2). يعلم منه - بعد النهي عن بيع الجنس بالجنس متفاضلا - أنّ الاختلاف علّة جواز البيع.

أو بالاستدراك ، نحو : ( لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) (3). نبّه بالاستدراك على أنّ العقد علّة المؤاخذة.

ومنها : النهي عن فعل يمنع ما أمر به قبله ، كقوله تعالى : ( فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ) (4). نبّه به على أنّ علّة النهي منعه عن الواجب.

ومنها : ذكر وصف مناسب مع الحكم ، مثل : « لا يقضي القاضي وهو غضبان » (5) ؛ فإنّ فيه تنبيها على أنّ الغضب علّة عدم جواز الحكم ؛ لأنّه (6) مشوّش الفكر. ومنه « أكرم العلماء وأهن الجهّال » فإنّه يتبادر منه أنّ العلم علّة الإكرام ، والجهل علّة الإهانة ؛ لما عرف أنّ عادة الشرع اعتبار المناسبات.

تذنيبات :

[ التذنيب ] الأوّل : إذا ذكر كلّ من الوصف والحكم صريحا - كالأمثلة المتقدّمة - فلا خلاف في كونه إيماء ، ووجوب تقديمه على المستنبطة - عند من يعمل بها - عند تعارضهما. وأمّا إذا ذكر الوصف صريحا والحكم مستنبط ، مثل : ( وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (7) ؛ فإنّ حلّ البيع وصف له وقد ذكر ، واستنبط منه حكمه وهو الصحّة ؛ نظرا إلى أنّه لو لم يصحّ انتفت فائدته ، وحينئذ كان عبثا ، والعبث لكونه مكروها لا يحلّ.

ص: 450


1- البقرة (2) : 237.
2- سنن أبي داود 3 : 250 ، ح 3350.
3- المائدة (5) : 89.
4- الجمعة (62) : 9.
5- كنز العمّال 6 : 101 ، ح 15030 باختلاف.
6- أي القاضي الغضبان لا الغضب.
7- البقرة (2) : 275.

أو بالعكس ، مثل : « حرّمت الخمر » ؛ فإنّ حرمة الخمر حكم له قد ذكر ، واستنبط وصفه ، وهو الشدّة المطربة (1). فقد اختلف في كونه إيماء على أقوال ، ثالثها التفصيل بأنّ الأوّل إيماء دون الثاني (2).

قيل : إن اكتفي في تفسير الإيماء بأنّه مجرّد الدلالة على الشيء بالالتزام ، يكون أجود الأقوال أوّلها ؛ لأنّها تتحقّق من مطلق اقتران الحكم بالوصف ، سواء كانا مذكورين ، أو أحدهما مذكورا والآخر مقدّرا ؛ فإنّ حلّ البيع لمّا ذكر صريحا وعلم بالاستنباط أنّ الصحّة لازمة له ، تحقّقت الدلالة الالتزاميّة على علّيّته لها ، وكذا لمّا ذكر حرمة الخمر صريحا وعلم بالاستنباط أنّ الإسكار ملزوم لها ، تحقّقت الدلالة الالتزاميّة على علّيّته لها.

وإن لم يكتف به وقيل : هو الدلالة المذكورة الحاصلة من اقتران الحكم بالوصف بشرط كونهما مذكورين (3) ، فخير الأقوال أوسطها. ووجهه ظاهر.

أقول : لا ريب في تحقّق الدلالة الالتزاميّة على التعليل من مطلق الاقتران ، إلاّ أنّ الوصف والحكم إن كانا مذكورين في كلام الشارع ، يحصل الدلالة المذكورة من كلامه ، ويتحقّق الإيماء منه. وإن كان أحدهما في كلامه مذكورا والآخر مقدّرا ، فهي ليست حاصلة من كلامه ؛ لأنّ المذكور إن كان هو الحكم فقط ، فمن أين يعلم أنّ علّته عنده هو الوصف الذي استنبط؟! وإن كان الوصف فقط ، فمن أين يعلم أنّه علّة عنده للحكم المستنبط؟! فلا يحصل الإيماء منه على التعليل ، مع أنّ الإيماء المعتبر هو الذي حصل منه ، فإنّ مجرّد الدلالة الالتزاميّة يتحقّق من وصف وحكم لم يكن واحد منهما مذكورا في كلام الشارع ، واستخرجهما المجتهد ابتداء من عند نفسه ، مع أنّها ليست من الإيماء المعتبر وفاقا.

فالحقّ أنّ الإيماء هو الدلالة الحاصلة من اقتران الحكم بالوصف بشرط كونهما مذكورين ، ولولاه لم يتميّز طريق الاستنباط من الإيماء ؛ لأنّه يدخل حينئذ جميع العلل والأحكام المستنبطة في الإيماء ، ولا يتحقّق استنباط ليس بإيماء.

ص: 451


1- في « ب » : « المطلوبة ».
2- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 288.
3- المصدر : 285.

هذا ، ودليل التفصيل بعد تسليم اشتراط ذكرهما - أنّ إثبات ملزوم الشيء يقتضي إثباته ؛ إذ العلّة تستلزم المعلول فيكون بمثابة المذكور ، فيتحقّق الاقتران الخاصّ ، وإثبات اللازم لا يقتضي إثبات ملزومه ؛ إذ المعلول لا يستلزم العلّة - لا يخفى ضعفه من وجوه.

[ التذنيب ] الثاني : الوصف المومى إليه قد لا يكون بنفسه علّة بل بلازمه ، مثلا قوله عليه السلام : « لا يقضي القاضي وهو غضبان » (1) وإن دلّ بظاهره على أنّ العلّة هي الغضب ، إلاّ أنّ التأمّل يعطي أنّ المانع عن القضاء حقيقة هو تشويش الفكر اللازم للغضب ، ولذا جعل الجوع والألم المفرطان المشوّشان للفكر مثله. وعلى هذا ، فالغضب اليسير الذي لا يوجب الاضطراب لا يكون مانعا من القضاء. ولو جعل العلّة نفسه ، لكان اليسير أيضا مانعا منه.

[ التذنيب ] الثالث : لا ريب في اشتراط نفس مناسبة الوصف المومى إليه للحكم في صحّة علل الإيماء. وأمّا ظهورها ، فقد اختلف فيه على أقوال ، ثالثها الاشتراط فيما فهم التعليل فيه من المناسبة ، كقوله : « لا يقضي القاضي وهو غضبان » (2) وعدمه في غيره (3).

والحقّ أنّ ترتّب الحكم على الوصف يفيد العلّيّة ، وتكون علل الإيماء صحيحة وإن لم يكن مناسبتها للحكم ظاهرة عندنا ؛ فإنّ القدر المسلّم أنّ بين الوصف والحكم مناسبة.

وأمّا كونها بحيث كانت ظاهرة عندنا ، فلا دليل عليه ، وما يؤكّده أنّ قول القائل « أهن العالم وأكرم الجاهل » مستقبح ، مع أنّ ذلك قد يحسن لمعنى آخر ، فدلّ على أنّه لفهم التعليل.

وممّا يتفرّع عليه أنّه إذا سمع مؤذّنا بعد مؤذّن ، يستحبّ له حكاية الجميع ؛ لقوله : « إذا سمعتم المؤذّن » (4) وهو متحقّق فيهما. نعم ، ربّما كان الاستحباب في الأوّل آكد (5).

ص: 452


1- تقدّما في ص 450.
2- تقدّما في ص 450.
3- ذكره الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 288 ، والفخر الرازي في المحصول 5 : 143 - 155.
4- سنن ابن ماجة 1 : 238 ، ح 720 ، وصحيح البخاري 1 : 221 و 222 ، ح 586 / 588 ، وسنن النسائي 2 : 25 و 26 ، ح 669 ، وصحيح مسلم 1 : 288 ، ح 11 / 384.
5- لمزيد الاطّلاع على المسألة وما يتفرّع عليها راجع تمهيد القواعد : 261.
فصل [8]

أجمع أصحابنا إلاّ من شذّ منهم على المنع عن العمل بقياس مرجوح التأثير ، ويأتي دليلهم عليه (1).

وأمّا راجح التأثير ، فبعض أقسامه ممّا اتّفقوا على حجّيّته ، وبعضها ممّا اختلفوا في حجّيّته ، وبعضها ممّا قالوا بحجّيّته باعتبار ، ومنعوا عن العمل به باعتبار آخر ، فهنا ثلاث مقامات :

المقام الأوّل : فيما لا خلاف في حجّيّته.

وهو على ثلاثة أقسام :

[ القسم ] الأوّل : القطعي ، وهو - كما عرفته (2) - ما علم فيه قطعا أنّ الحكم في الأصل معلّل بالوصف ، والوصف موجود في الفرع. ويدخل فيه ما علم فيه كون الوصف حجّة بالإجماع القطعي.

وحجّيّة مثله لا يحتاج إلى تأمّل ؛ فإنّا إذا قطعنا أنّ الثوب النجس لا يجوز فيه الصلاة لنجاسته ، لا لشيء آخر ممّا يختصّ به من لوازمه وأوصافه ، فإجراء حكمه في البدن إذا قطع بنجاسته في حيّز البداهة.

[ القسم ] الثاني : الجليّ ، وهو - كما عرفته (3) - ما تعلم فيه نفي الفارق بين الأصل والفرع.

ووجه حجّيّته أيضا ظاهر ؛ فإنّ الحكم إذا كان ثابتا في الأصل وعلم عدم الفرق بينه وبين الفرع في ثبوت هذا الحكم لهما ، صحّ إجراؤه في الفرع قطعا.

وكيفيّة التفريع قد ظهرت ممّا تقدّم.

[ القسم ] الثالث : القياس بالطريق الأولى ، وهو إن كان عين الجليّ - كما تقدّم أنّه

ص: 453


1- يأتي في ص 461.
2- تقدّم في ص 441.
3- تقدّم في ص 441.

الظاهر من كلام جماعة (1) - فوجه حجّيّته قد ظهر ، وإن كان أعمّ منه من وجه ؛ نظرا إلى أنّه ما كان اقتضاء الجامع فيه للحكم في الفرع أقوى منه في الأصل. وهذا قد يعلم فيه نفي الفارق إذا كان الاقتضاء المذكور في الأصل قطعيّا ، وقد لا يعلم فيه ذلك إذا كان ظنّيّا ، وحينئذ يمكن أن يكون في الفرع أيضا ظنّيّا ، وإن كان الظنّ الحاصل منه أقوى من الظنّ الحاصل من الاقتضاء المذكور في الأصل ؛ فإنّ مجرّد ذلك لا يخرجه إلى القطع. وما يعلم فيه نفي الفارق أيضا قد يكون اقتضاء الجامع فيه للحكم في الفرع أقوى منه في الأصل ، وقد لا يكون.

فالمتّفق على حجّيّته هو المادّة التي يكون اقتضاء الجامع فيها للحكم قطعيّا ، وإن أمكن أن يقال بحجّيّة المادّة الظنّية أيضا ؛ نظرا إلى أنّ اقتضاء الجامع للحكم في الأصل وإن كان ظنّيّا ، إلاّ أنّ الظنّ لمّا كان بحيث صار سببا لاستناد الحكم إلى الجامع ، وحصل ظنّ أقوى منه باقتضائه للحكم في الفرع ، فيعلم ثبوت الحكم فيه. إلاّ أنّ ما فهمت من قواعد الإماميّة - كما يأتي (2) - أنّ كلّ ما يصدق عليه القياس ليس حجّة إلاّ ما يقطع فيه بثبوت الحكم في الفرع (3) ، كالقطعي والجليّ وأمثالهما ، فإنّ ذلك لقطعيّته يستثنى من مطلق القياس الذي ثبت عندهم بالتواتر عن أئمّتهم عليهم السلام منع العمل به (4) ، واستثناء الظنّي لا يكاد يصحّ من العمومات القطعيّة ، إلاّ أن يثبت بظنّ كان حجّة شرعا.

ثمّ القياس بالطريق الأولى إذا علم في أصله تعليل الحكم بالوصف وكان أقوى في الفرع ، فلا خلاف في صحّة تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع ، وإنّما وقع الخلاف في كونه قياسا.

والحقّ أنّه هو ؛ لصدق القياس عليه لغة واصطلاحا ؛ ولأنّه لو قطع النظر عن المعنى المناسب المشترك المقصود من الحكم كالإكرام في منع التأفيف ، وعن كونه أقوى في الفرع لما حكم به ، ولا معنى للقياس إلاّ ذلك.

ص: 454


1- منهم : الفخر الرازي في المحصول 5 : 124 ، والمحقّق الحلّي في معارج الاصول : 185 ، والفاضل التوني في الوافية : 238.
2- يأتي في ص 461.
3- راجع : معارج الاصول : 185 ، ومبادئ الوصول : 218 ، ومعالم الدين : 229 ، والوافية : 237.
4- راجع وسائل الشيعة 27 : 44 - 62 ، أبواب صفات القاضي ، الباب 6 ، ح 20 - 52.

وقيل : إنّه ليس بقياس. ووجه التعدية فيه إمّا دلالة مفهومه وفحواه عليه ، ولذلك سمّي مفهوم الموافقة ؛ لكون الحكم غير المذكور موافقا للحكم المذكور ، وفحوى الخطاب ولحن الخطاب أيضا ، ويقابله مفهوم المخالفة ، كمفهوم الشرط وأمثاله ، ويسمّى دليل الخطاب.

وإمّا الفهم العرفي ، فإنّ العرف نقل ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ ) (1) - مثلا - عن موضوعه اللغوي وهو المنع عن التأفيف ، إلى المنع عن أنواع الأذى (2).

واستدلّ عليه بأنّه لو كان قياسا لما قال به النافي له ، وبأنّه يقطع بإفادة الصيغة في مثله للمعنى المذكور من غير توقّف على استحضار القياس (3).

والجواب عن الأوّل : أنّ النافي للقياس استثنى عنه ما يعرف الحكم فيه بالطريق الأولى.

وعن الثاني : أنّ التوقّف على استحضاره إنّما هو في الأقيسة الخفيّة ، لا في مثله ؛ فإنّه ممّا يعرفه كلّ من يعرف اللغة من غير افتقار إلى نظر واجتهاد.

وكيفيّة التفريع : أنّ آية التأفيف حجّة على تحريم ضرب الأبوين ؛ إذ يعلم من فحواها أنّ علّة النهي عن التأفيف حصول الأذى ، وهو أقوى في الضرب. وآية الذرّتين (4) حجّة على الجزاء بما فوق المثقال ؛ لفهم العلّة - أعني عدم تضييع الإحسان والإساءة - من الفحوى ، وكونها أقوى في الفرع. وآية تأدية القنطار ، وعدم تأدية الدينار حجّة على تأدية ما دون القنطار ، وعدم تأدية ما فوق الدينار ؛ لفهم العلّة - أعني الأمانة في أداء القنطار وعدمها في عدم أداء الدينار - من الفحوى ، وأشدّيّتها في الفرع.

المقام الثاني : فيما اختلف في حجّيّته ، وهو المنصوص العلّة.

وقد اختلف في حجّيّته على أقوال ، ثالثها : الحجّيّة في علّة التحريم دون غيرها (5).

ص: 455


1- الإسراء (17) : 23.
2- قالهما البصري في المعتمد 2 : 235 ، والفخر الرازي في المحصول 5 : 121.
3- المصدرين.
4- إشارة إلى الآيتين 7 - 8 من سورة الزلزلة (99) : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ).
5- حكاه الفخر الرازي عن أبي عبد اللّه البصري في المحصول 5 : 117 ، وحكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 59.

ورابعها : الحجّيّة إذا كان هناك شاهد حال يدلّ على سقوط اعتبار ما عدا تلك العلّة (1).

احتجّ المثبت مطلقا بوجوه :

منها : أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح الخفيّة والشرع كاشف عنها ، فإذا نصّ على العلّة عرف أنّها الباعثة والموجبة لذلك الحكم ، فأينما وجدت وجب وجود المعلول (2).

وجوابه : أنّ العلّة المنصوصة إنّما تكون موجبة ، إذا علم من نصّ أو تبادر أو غيرهما عدم مدخليّة خصوصيّة المحلّ ؛ فإنّ العلّة في قول الشارع : « حرّمت الخمر لإسكارها » (3) يحتمل أن يكون (4) الإسكار ، وأن يكون (5) إسكار الخمر بحيث يكون قيد الإضافة إلى الخمر معتبرا في العلّة.

والإيراد عليه بأنّ تجويز ذلك يقتضي تجويز مثله في العلل العقليّة - بأن يقال : الحركة إنّما اقتضت المتحرّكيّة ؛ لقيامها بمحلّ خاصّ ، فالحركة القائمة بغيره لا تقتضي المتحرّكيّة - باطل ؛ لأنّ العلل العقليّة يترتّب عليها معلولاتها بالذات ، ولا يختلف اقتضاؤها لها بالوجوه والاعتبارات ، وأمّا العلل الشرعيّة ، فلكونها مبنيّة على الدواعي ، ووجوه المصالح يختلف بها اقتضاؤها لها ، فيمكن أن تكون موجبة لحكم في محلّ دون غيره. ومع قطع النظر عنه نقول : لا يجوز التعدّي عنه عندنا ؛ لصدق القياس عليه ، وثبوت الإنكار عن العمل به عن أئمّتنا عليهم السلام (6) بحيث لا يقبل المنع.

ومنها : أنّ قول الأب لابنه : « لا تأكل هذا الطعام ؛ لأنّه مسموم » يقتضي منعه عن أكل كلّ مسموم ، والسرّ فيه أنّ العلّة تفيد التعميم عرفا.

وجوابه : أنّ ذلك قد عرف بالقرينة ، وهي شفقة الأب المانعة عن تناول كلّ مضرّ ؛ فإنّها تقتضي عادة النهي عن كلّ ما يضرّ ؛ بخلاف أحكام اللّه ؛ فإنّها قد تختصّ ببعض

ص: 456


1- قاله المحقّق الحلّي في معارج الاصول : 185 ، والفاضل التوني في الوافية : 237.
2- قاله العلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الأصول 3 : 510 ، وحكاه عنه الشيخ حسن في معالم الدين : 227.
3- قول الشارع هنا مفروض ؛ لأنّه ليس بحديث ولكن ذكره الفخر الرازي في المحصول 5 : 117 - 120 ، والزركشي في البحر المحيط في أصول الفقه 4 : 28 - 29.
4- التذكير باعتبار الخبر.
5- التذكير باعتبار الخبر.
6- تقدّم تخريجه في ص 454.

المحالّ دون بعض لأمر لا ندركه.

نعم ، إن علم بشاهد الحال أو القرائن أو النصّ أو العموم أو الإطلاق ، إلغاء قيد الإضافة إلى المحلّ ، فلا ريب في التعدّي.

وبهذا يظهر الجواب عمّا قالوا : إنّ هذا الاحتمال إنّما يتأتّى فيما إذا قال الشارع : « حرّمت الخمر لإسكارها » ، أمّا لو قال : « علّة الخمر هي الإسكار » انتفى ذلك الاحتمال (1) ؛ لأنّ التعميم هنا لمّا كان مستفادا من اللام في الإسكار ، فنحن نقول به ، مع أنّه يمكن أن يقال : اللام فيه للعهد ، فيكون المراد من الإسكار ، الإسكار المعهود.

نعم ، مع التصريح بالإطلاق ينتفي هذا الاحتمال بأن يقول : « حرّمت كلّ مسكر ».

ومنها : أنّ العلّة لو لم تفد تعميم الحكم - أي ثبوته أينما ثبت - لعري ذكرها عن الفائدة ؛ إذ ثبوته في الأصل قد علم بنيانه مع قطع النظر عن ذكر العلّة (2).

والجواب : أنّ فائدة ذكرها لا تنحصر في التعميم ؛ إذ بيان المقصود من شرع الحكم من الفوائد.

واحتجّ النافي مطلقا بأنّ من قال : « أعتقت غانما ، لحسن خلقه » لا يقتضي عتق غيره من حسني (3) الخلق (4).

وقد اجيب عنه بوجوه (5) ظاهرة الضعف ، ولذا أعرضنا عنها.

واحتجّ المفصّل الأوّل (6) بأنّ من ترك أكل شيء لأذاه ، دلّ على تركه كلّ ما يؤذي ، بخلاف من تصدّق على فقير لفقره ، أو للمثوبة ؛ فإنّه لا يدلّ على تصدّقه على كلّ فقير ، أو تحصيله لكلّ مثوبة (7).

ص: 457


1- قاله الفخر الرازي في المحصول 5 : 118.
2- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 60.
3- جمع الحسن في حال الجرّ والإضافة.
4- قاله الآمدي ونسبه أيضا إلى أبي إسحاق الإسفرائيني وأكثر أصحاب الشافعي وجعفر بن مبشّر وجعفر بن حرب وبعض أهل الظاهر في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 58.
5- راجع المصدر : 59 - 64.
6- راجع ص 455.
7- حكاه الآمدي عن أبي عبد اللّه البصري في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 58.

وجوابه : أنّ ذلك معلوم من القرينة وشاهد الحال ؛ فإنّ ترك ما يؤذي ممّا هو مركوز في الطباع ، والعقل حاكم بإلغاء خصوصيّة ذلك المؤذي دون غيره ، بخلاف الأحكام ؛ فإنّها قد تختصّ بمحالّ لامور خفيّة.

واحتجّ المفصّل الثاني (1) : أمّا على عدم حجّيّته عند عدم وجود شاهد حال يدلّ على سقوط اعتبار ما عدا تلك العلّة في ثبوت الحكم : فبما مرّ (2) في جواب الحجّة الاولى للمثبت مطلقا.

وأمّا على حجّيّته عند وجوده ، فبأنّ تعدية الحكم حينئذ يصير برهانيّا (3) ؛ إذ يحصل قضيّة كلّيّة يجعل كبرى القياس ، كقوله : « كلّ مسكر حرام » ويضمّ إليه صغرى سهلة الحصول ، كقولنا : « هذا مسكر » ويتمّ الدليل (4).

أقول : الحقّ عندي هو المذهب الأخير ، إلاّ أنّه يجب تقييده بكون الدالّ على سقوط اعتبار ما عدا تلك العلّة مفيدا للقطع ، أو ما ثبت حجّيّته شرعا ، كنصّ ، أو عموم ، وأمثالهما. والسرّ فيه دلالة الطرق القطعيّة على بطلان مطلق القياس ، فإخراج بعض أفراده يفتقر إلى دلالة صالحة لنقل مثله ، ولا ينتهض مجرّد النصّ على العلّة حجّة للخروج عن القياس. ولذا صرّح محقّقو الفريقين بأنّ النصّ على العلّة لا يكفي في التعدّي دون التعبّد بالقياس (5).

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الفروع له كثيرة ، وقد تقدّم (6) بعضها. وقس عليه أمثاله.

وعلى ما اخترناه لا يخفى جليّة الحال في الجميع.

فائدة : النصّ على علّة الحكم وتعليقه عليها مطلقا ، يوجب ثبوت الحكم أينما ثبتت

ص: 458


1- راجع ص 456.
2- تقدّم في ص 456.
3- عدم التأنيث باعتبار كون التعدية مصدرا.
4- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 58 و 59. وهو المفصّل الثاني كما أنّ المفصّل الأوّل هو أبو عبد اللّه البصري. فإنّهما فصّلا المسألة على قسمين.
5- راجع : المحصول 5 : 117 ، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 4 : 58 ، وتهذيب الوصول : 251 ، ونهاية السؤل 4 : 23 ، ومعارج الاصول : 185.
6- آنفا.

العلّة ، كقوله : « الزنى يوجب الحدّ » و « السرقة توجب القطع » (1) وهو ليس من القياس أصلا ، بل العمل به عمل بإطلاق النصّ.

المقام الثالث : فيما أثبتوا حجّيّته باعتبار ، ونفوا حجّيّته باعتبار آخر (2).

وهو ما فهم فيه التعليل بالإيماء ، أو كان الجمع بين الأصل والفرع بعدم الفارق ، فإنّ مجرّد ذلك لا يصحّح التعدّي ، بل إن علمت المساواة بين الأصل والفرع من كلّ وجه ، جاز التعدية ، وإن علم الامتياز ، أو جوّز لم يجز إلاّ مع النصّ على ذلك. ولا ريب أنّ مجرّد الجمع لا يفيد العلم بالمساواة من كلّ وجه ، وكذا مجرّد الإيماء على العلّيّة لا يفيد القطع بكون الوصف علّة وعدم مدخليّة ما عدا تلك العلّة ، فالجمع بين الأصل والفرع بعدم الفارق إن كان مع العلم بالمساواة جاز التعدّي ، كما روي أنّ عليّا عليه السلام قضى في دابّة تنازعها اثنان وأقاما البيّنة « أنّها لمن شهد له بالنتاج » (3) ، فإنّا نعلم عدم قصر الحكم على الدابّة ، بل تعدّى إلى كلّ ما حصل فيه هذا المعنى. وإن لم يكن معه لم يجز ، كالجمع بين القتل بالمثقل ، والقتل بالمحدّد.

وكذا ما فهم فيه التعليل بالإيماء إن علم فيه عدم مدخليّة ما عدا العلّة الإيمائيّة في الحكم ، ووجدت في الفرع جاز التعدّي ، كما إذا قال السائل : ملكت عشرين دينارا وحال عليها الحول ، فقال : عليك الزكاة ؛ فإنّا نقطع بأنّ الحكم متعلّق بملك الدنانير ، ولا اعتبار بأوصاف السائل ، فيحكم بأنّ كلّما اتّفق له ذلك ، يثبت له ذلك الحكم ، ومنه قوله عليه السلام لتمييز دم الحيض عن العذرة « تستدخل القطنة ثمّ تخرجها ، فإن كان مطوّقا في القطنة فهو من العذرة ، وإن كان مستنقعا في القطنة فهو من الحيض » (4) ؛ فإنّا نقطع بأنّ الحكم يترتّب على التطوّق والاستنقاع ، ولا مدخليّة لأوصاف السائل.

ص: 459


1- حكاهما المحقّق الحلّي في معارج الاصول : 183 ولم نعثر عليهما في كتب الأحاديث.
2- قاله الغزالي في المستصفى : 339 ، والفخر الرازي في المحصول 5 : 230 ، والمحقّق الحلّي في معارج الاصول : 185.
3- راجع : تهذيب الأحكام 6 : 236 ، ح 582 ، والاستبصار 3 : 41 ، ح 141.
4- تهذيب الأحكام 1 : 152 ، ح 432.

وإن لم يعلم فيه ذلك لم يجز ، مثاله : قوله تعالى : ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ) (1) رتّب النهي على النجاسة ، فإن لم يكن لخصوصيّة نجاسة المشرك مدخليّة يكون تقريب مطلق النجاسة حراما ، وإلاّ كان الحكم مقصورا على مورده ، ولمّا لم يكن عدم مدخليّة الخصوصيّة معلوما لم يكن التعدية معلومة.

وبما ذكرنا ظهر أنّ تنقيح المناط إمّا قطعيّ أو ظنّيّ ، والحجّة هو الأوّل دون الثاني.

وظهر أيضا أنّ الحجّة على قواعد الأصحاب من أقسام قياس راجح التأثير بأيّ عنوان اطلق - كتنقيح المناط ، أو اتّحاد الطريق ، أو القياس بالطريق الأولى ، أو المنصوص العلّة ، أو القياس في معنى الأصل ، أو الجليّ ، أو القطعي - ما علم فيه العلّيّة وعدم مدخليّة خصوص الواقعة ، أو المساواة من كلّ وجه إذا كان الجمع بمجرّد نفي الفارق ، إمّا (2) بالقطع ، أو بما ثبت حجّيّته شرعا ، كالنصّ ومثله.

والسرّ فيه ما يأتي من قطعيّة بطلان مطلق القياس على قواعدهم (3).

فإن قلت : كيف يتصوّر حصول القطع بالعلّيّة؟

قلت : العلّة إن كانت عقليّة - أي كان للعقل مدخليّة في فهم العلّيّة - فلا ريب في إمكان حصول القطع بها ، إلاّ أنّ وجود مثله في الأحكام الشرعيّة نادر ، وإن كانت غير شرعيّة فقط ، فإنّ النصّ أو الإيماء على العلّيّة يمكن أن يبلغ حدّا يحصل معه القطع بالتعليل الشرعي ، وكما أنّ العلّة الواقعيّة يمتنع تخلّف معلولها عنها ، كذا يمتنع تخلّف الأحكام الشرعيّة المعلولة للعلل الشرعيّة عنها ، فالقطع بالعلّة الشرعيّة يستلزم القطع بالحكم الشرعيّ المعلّل بها ، فإن ورد التعليل من الشرع بطريق قطعي كالتواتر ، كانت العلّيّة وطريقها كلتاهما قطعيّة ، فيحصل القطع بالحكم. وإن ورد بطريق ظنّيّ ، كالآحاد ، أمكن القطع حينئذ بالعلّيّة إلاّ أنّ طريقها يكون ظنّيّة ، ولذا يحصل الظنّ بالحكم لا القطع به إلاّ أنّ الحجّيّة ثابتة ؛ لأنّ الفرض أنّ الطريق حجّة شرعا.

ص: 460


1- التوبة (9) : 28.
2- هذا تقسيم للعلم المفروض في قوله : « ما علم فيه العلّيّة ».
3- يأتي في ص 461.
فصل [9]

لمّا لم يكن مطلق القياس المستنبط العلّة - وهو الذي سمّيناه مرجوح التأثير - حجّة عندنا ، وكان لاستنباط العلّة عند القائسين طرق - كما عرفت (1) - فلا بدّ لنا أوّلا من إبطاله بقول مطلق ، ثمّ تفصيل القول في كلّ واحد منها وتضعيفه.

فنقول : لنا على بطلانه وجوه :

منها : إجماع العترة عليهم السلام على ردّه ؛ فقد تواتر عند الفريقين إنكارهم له ، ومنع شيعتهم عن العمل به حتّى قال بعض العامّة : قد اشتهر عن أهل البيت إنكار القياس ، كما اشتهر عن أبي حنيفة والشافعي العمل به (2).

ومنها : الآيات (3) والأخبار الناهية عن اتّباع مطلق الظنّ (4) ، خرج ما خرج بدليل فيبقى الباقي.

ومنها : اشتهار إنكاره عن أكثر الصحابة ، منهم : الشيخان وابن عباس. وإنكار عليّ عليه السلام وذمّه له أشهر من أن يخفى (5).

ومنها : شيوع ذمّ العمل بالرأي عن الصحابة ، سيّما عن الخلفاء الأربعة وابن عمر وابن مسعود ، والعمل بالقياس منه (6).

ومنها : قوله صلى اللّه عليه وآله : « ستفترق امّتي على بضع وسبعين فرقة أعظمهم فتنة قوم يقيسون الامور برأيهم » (7) ، وقوله صلى اللّه عليه وآله : « تعمل هذه برهة بالكتاب ، وبرهة بالسنّة ، وبرهة بالقياس ،

ص: 461


1- راجع ص 444 وما بعدها.
2- حكاه الرازي في المحصول 5 : 106 ، والعلاّمة في مبادئ الوصول : 216.
3- البقرة (2) : 169 ، والأعراف (7) : 33 ، ويونس (10) : 36 ، والإسراء (17) : 36 ، والحجرات (49) : 1.
4- راجع : الكافي 1 : 54 - 59 ، باب البدع والرأي والمقاييس ، ووسائل الشيعة 27 : 35 - 62 ، أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به ، الباب 6 ، ح 1 - 52.
5- راجع مبادئ الوصول : 216.
6- حكاه الفخر الرازي عن النظّام في المحصول 5 : 80 ، وابن حزم في ملخّص إبطال القياس : 68 - 73 ؛ وقاله العلاّمة في مبادئ الاصول : 215 و 216.
7- المستدرك على الصحيحين 3 : 547 ، وكنز العمّال 1 : 210 و 211 ، ح 1056 و 1058.

وإذا فعلوا ذلك فقد ضلّوا وأضلّوا » (1).

ومنها : أنّ بناء شرعنا على الفرق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات ، فلا يحكم من تشابه المحالّ بتشابه الأحكام (2).

ومنها : أنّه لو كان حجّة ، لورد التعبّد به ؛ لأنّ الاستدلال به ممّا يعمّ ، والوقائع التي يستدرك به كثيرة ، وما يتفرّع عليه أكثر ممّا يتفرّع على سائر الأدلّة ، ويستحيل عادة أن لا يرد التعبّد بمثله من الشرع لو كان حجّة ، ولو ورد التعبّد به ، لاشتهر بين أهل الشرع ؛ لتوفّر الدواعي على ضبط مثله.

وقد اجيب عن هذه الوجوه بأجوبة (3) لا يخفى ضعفها على من له أدنى فطانة ، ولذا أعرضنا عن إيرادها والتعرّض لردّها.

ثمّ إنّها بإطلاقها كما تدلّ على بطلان مطلق قياس مرجوح التأثير تدلّ على بطلان مطلق القياس وإن كان راجح التأثير ، إلاّ أنّ ما استثنيناه يخرج بقاطع ، كما أشرنا إليه (4) فيبقى الباقي.

احتجّ الخصم بوجوه :

منها : أنّه ظهر عن كثير من الصحابة - شائعا ذائعا - ما يدلّ على حجّيّته ، ولم ينكرهم أحد ، فيكون إجماعا (5).

أمّا ثبوت الملزوم فبطرق :

الاولى (6) : أنّهم عملوا به صريحا في وقائع من غير نكير ، كما روي أنّ عمر شكّ في قتل الجماعة بالواحد ، فقال عليّ عليه السلام : « أرأيت لو اشترك نفر في سرقة البيت تقطعهم؟ » فقال : نعم ، قال : « هكذا فيها » فرجع إلى قوله (7).

ص: 462


1- حكاه الهيثمي في مجمع الزوائد 1 : 179 ، باب في التقليد والقياس.
2- قاله العلاّمة في مبادئ الوصول : 220.
3- راجع المحصول 5 : 87 - 93.
4- في ص 461.
5- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 43.
6- تأنيث « الاولى » إمّا باعتبار أنّ « الطريق » يذكّر ويؤنّث ، أو يكون « الطرقة » بمعنى الطريق والطريقة وجمعها « الطرق ».
7- ذكره ابن الباجي في إحكام الفصول : 522 باختلاف يسير.

الثانية : أنّهم اختلفوا في مسائل كثيرة ، وأحدثوا فيها أقوالا مختلفة ، ثمّ أخذوا بقول واحد ، ولم يكن تمسّكهم فيها بالنصّ ، فتعيّن أن يكون تعويلهم على القياس ، كما روي أنّ عمر قضى في زوج وأمّ وإخوة لامّ وإخوة لأب وأمّ ، أنّ للامّ السدس ، وللزوج النصف ، وللإخوة من الامّ الثلث ، فقال الباقون : هب أنّ أبانا كان حمارا ، ألسنا من أمّ واحدة؟ فشرّك بينهم (1).

وما روي أنّ أبا بكر ورّث أمّ الامّ دون أمّ الأب ، فقال له بعض الأنصار : تركت التي لو كانت هي الميّتة ورث جميع ما تركت ؛ لأنّ ابن الابن عصبة ، وابن البنت لا يرث. وحاصله أنّ أمّ الأب أقرب ، فهي أحقّ بالإرث ، فرجع إلى التشريك بينهما. وأشباه ذلك كثيرة (2).

الثالثة : أنّهم صرّحوا بالأخذ به وأشاروا إلى التشبيه في المسائل ، كقول عمر لأبي موسى : اعرف الأشباه والنظائر ، وقس الامور برأيك (3).

وقول ابن عبّاس في إنكار قول زيد : « الجدّ لا يحجب الإخوة : ألا يتّقي اللّه زيد يجعل ابن الابن ابنا ، ولا يجعل أبا الأب أبا (4). وليس غرضه التسمية ، بل أراد أنّ الجدّ بمنزلة الأب في حجب الإخوة ، كما أنّ ابن الابن بمنزلة الابن فيه » (5).

الرابعة : أنّه قد نقل عنهم في وقائع القول بالرأي وهو القياس ، كقول أبي بكر : أقول في الكلالة برأيي (6). وقول عمر : أقضي في الجدّ برأيي (7).

وقول عثمان لعمر : إن اتّبعت رأيك فرأيك سديد (8). وقول عليّ عليه السلام : « اجتمع رأيي ورأي أبي بكر وعمر في أمّ الولد أن لاتباع ، وقد رأيت الآن بيعهنّ » (9).

وأمّا بيان الملازمة ، فلأنّ عدم إنكارهم في مثل هذا الأصل - الذي يبتني عليه أكثر الأحكام والقضايا ، ويدوم أثره إلى الأبد في البرايا - يدلّ على الموافقة ، ولو ظهر منهم

ص: 463


1- حكاه ابن قدامة في المغني 7 : 22 ، وابن الباجي في إحكام الفصول : 519.
2- راجع المغني لابن قدامة 7 : 22.
3- حكاهما ابن الباجي في إحكام الفصول : 521.
4- حكاهما ابن الباجي في إحكام الفصول : 521.
5- راجع : السنن الكبرى 6 : 4. وإحكام الفصول : 525 باختلاف يسير ، والمحصول 5 : 55.
6- راجع : السنن الكبرى 6 : 4. وإحكام الفصول : 525 باختلاف يسير ، والمحصول 5 : 55.
7- راجع : إحكام الفصول : 519 وفيه : « أقول برأيي » وهو كلام أبي بكر ، والمستصفى : 287.
8- راجع إحكام الفصول : 521 وفيه : « إن تتّبع رأيك فرأيك أسدّ ».
9- راجع : السنن الكبرى 10 : 348 ، وإحكام الفصول : 521. كلمة « الآن » لم ترد فيه.

الإنكار لنقل ؛ لتوفّر الدواعي على نقل مثله (1).

والجواب : أمّا أوّلا : فمنع ثبوت الملزوم ؛ لعدم ثبوت الطرق المذكورة ؛ لأنّ الأخبار المذكورة لم يثبت صحّتها ، بل ثبت عندنا وضعها ؛ لمعارضتها بما هو أقوى ، بل قاطع.

وأيضا دلالتها على المطلوب غير مسلّمة ؛ لاحتمال أن يكون الاستناد في الوقائع المذكورة إلى غير القياس ، فإنّ كلّ واحد منها يحتمل محامل غير القياس من وجوه الاجتهادات وإن كان معنى القياس موجودا فيها.

وأيضا نقول - بعد القطع بأنّ طريقة عليّ عليه السلام لم تكن العمل بالقياس ، فما نسب من خبر الشركة في السرقة إمّا فرية ، أو تمثيل للتنوير - : لو سلّم أنّ بعض الصحابة عمل بالقياس ، فلا نسلّم عدم إنكار الباقين ، بل حصل منهم الإنكار في مواضع كثيرة على ما ذكر في المطوّلات وكتب السير ، مع أنّ عدم وصول إنكارهم لا يدلّ على عدمه ؛ لأنّ وجوب استمرار النقل بحيث يتّصل بنا غير ممكن.

وأمّا ثانيا : فمنع الملازمة ؛ لأنّ سكوت الباقين لا يدلّ على الرضى ؛ فإنّه يحتمل الوجوه المتقدّمة في الإجماع السكوتي.

ومنها (2) : ما استفاض من ذكر النبيّ صلى اللّه عليه وآله العلل في الأحكام (3) ؛ ليبتني عليها الحكم في غير تلك المحالّ ، لا كالعلل الإيمائيّة المذكورة في الأخبار السابقة.

والجواب : أنّا نمنع أنّ المقصود من ذكرها أن يقاس عليه ، بل يمكن أن يكون ذلك لبيان حكمة الحكم ، ولذا جاز النصّ على العلل القاصرة ، ولذا قيل : إنّ هذا الدليل بالقياس إلى من يمنع القياس المنصوص العلّة (4) مصادرة على المطلوب ، وبالنسبة إلى غيره نصب الدليل في غير محلّ النزاع. وأيضا يلزم منه جواز الاجتهاد للنبيّ ، وقد ثبت بطلانه عندنا ، كما يأتي (5).

هذا ، مع أنّه يمكن أن يجاب عن كلّ واحد من أمثال الأخبار المذكورة بوجه على حدة ،

ص: 464


1- راجع إحكام الفصول : 525.
2- أي من الوجوه التي قيلت لحجّيّة القياس المستنبط العلّة.
3- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 37.
4- حكاه الآمدي في المصدر : 41.
5- يأتي في ج 2 ، ص 948.

مثل أن يقال في خبر الخثعميّة : إنّ قوله صلى اللّه عليه وآله فيه : « دين اللّه أحقّ بالقضاء » (1) يعطي الأولويّة ، ويمكن أن يكون تمثيلا ذكر للتنوير ، وهو الجواب عن الاحتجاج لقوله صلى اللّه عليه وآله بعد ما سأله عمر عن قبلة الصائم : هل توجب الإفطار؟ : « أرأيت لو تمضمضت بماء ، ثمّ مججته أكنت شاربه؟ » (2) ، على أنّا نطالبهم بصحّة هذه الأخبار.

ومنها : ما روي أنّه صلى اللّه عليه وآله قرّر معاذا على قوله : « أجتهد رأيي » (3).

والجواب : أنّه ضعيف سندا ؛ لإرساله ، ودلالة ؛ لإمكان إرادة استنباط الحكم من الأدلّة المعتبرة غير الكتاب والسنّة ، من الاجتهاد ، مع أنّه روي أنّه صلى اللّه عليه وآله لم يقرّره على قوله ، بل أمره بالمكاتبة (4).

فإن قيل : فيه شيء آخر أيضا ، وهو أنّ استلزام جواز القياس لمعاذ لجوازه لغيره في حيّز المنع إلاّ أن يقاس عليه ، فيدور.

قلت : بعد ثبوت الملزوم يعلم الاستلزام بمثل قوله : « حكمي على الواحد حكمي على الجماعة » (5).

ومنها : إلحاق كلّ زان بما عزّ في وجوب الرجم بجامع الزنى (6).

والجواب : أنّه بالإجماع ، أو بمثل قوله المذكور.

ومنها : أنّ القياس يفيد الظنّ ، والعمل بالظنّ واجب (7). أمّا الصغرى فوجدانيّة ، وأمّا الكبرى فلأنّ بديهة (8) العقل حاكمة بلزوم دفع المضارّ وجلب المنافع المظنونتين.

والجواب : أنّه لمّا كان في العمل به احتمال الضرر أيضا وجب التوقّف.

هذا ، مع أنّ القاطع دلّ على عدم جواز العمل بالظنّ في الأحكام إلاّ ما استثني - كما

ص: 465


1- كنز العمّال 5 : 123 ، ح 12331.
2- سنن أبي داود 2 : 311 ، ح 2385 ، وإحكام الفصول : 494.
3- سنن أبي داود 3 : 303 ، ح 3592 ، وإحكام الفصول : 501.
4- راجع : سنن ابن ماجة 1 : 21 ، باب اجتناب الرأي والقياس ، ح 55. باختلاف يسير ، وإحكام الفصول : 502.
5- كشف الخفاء 1 : 436 ، ح 1161 ، والفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة : 219 ، كتاب القضاء ، ح 1.
6- راجع الإحكام في أصول الأحكام 3 : 279 و 280.
7- قاله الفخر الرازي في المحصول 5 : 98.
8- في « ب » : « بداهة ».

عرفت (1) - فلا يقاومه أمثال هذه الوجوه الضعيفة.

وقد استدلّوا ببعض الآيات (2) تركناها ؛ لعدم دلالتها على مطلوبهم بوجه.

فصل [10]

قد عرفت أنّ إحدى طرق الاستنباط المناسبة ، وأنّها تسمّى إخالة وتخريج المناط. وحاصله إبداء المناسبة من ذات الأصل لا بنصّ ولا بغيره. وقد عرفت أيضا أنّ إثبات الحكم حينئذ في الفرع يسمّى تحقيق المناط (3).

وهنا ينبغي أن يعلم أنّ للمناسب في عرفهم تعريفات :

منها : أنّه وصف ظاهر منضبط يحصل من ترتّب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا للعقلاء (4).

والحكم إمّا وجوديّ أو عدميّ ، والمقصود إمّا حصول مصلحة ، أي لذّة أو وسيلتها ؛ أو دفع مفسدة ، أي ألم أو وسيلته ، وكلّ من اللذّة والألم إمّا معلوم أو مظنون ، نفسيّ أو بدنيّ ، دنيوي أو اخروي ، مثلا : قتل العمد وصف مناسب لشرع القصاص نظرا إلى ذاته ، ومن ترتّبه عليه يحصل حفظ النفوس ، وهو مقصود العقلاء. والإسكار ، فإنّه بالنظر إلى ذاته ووصفه مناسب لشرع التحريم ، ومن ترتّبه عليه يحصل ما هو مقصودهم ، أي حفظ العقول.

وقد علم من التحديد أنّ الوصف لو كان خفيّا أو غير منضبط لم يعتبر ، وهو كذلك ؛ لأنّه لا يعلم في نفسه ، فكيف يترتّب الحكم عليه؟! ولكنّ الطريق حينئذ أن يعتبر الملازمة ويقال له المظنّة ، وهو أن يعتبر وصف ظاهر منضبط يستلزم عقلا أو شرعا ذلك الوصف. مثلا في المثال الأوّل وصف العمديّة خفيّ ؛ لأنّ القصد وعدمه أمر لا يدركه أحد بشيء إلاّ القاتل ، فرتّب الحكم شرعا على ما يلازم العمديّة ، أي الأفعال المخصوصة وهي معرّفة للحكم ، وفي ترتيب الترخّص على المشقّة لمقصود التخفيف لمّا كانت المشقّة

ص: 466


1- راجع ص 461.
2- كالآية 2 من الحشر (59) ، و 66 من النحل (16) ، و 21 من المؤمنون (23) وغيرها.
3- راجع ص 444.
4- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 294 ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : 181.

غير منضبطة ؛ لكونها ذوات مراتب تختلف بالأزمان والأشخاص فانيط الحكم على لازمها المنضبط وهو السفر (1).

ومنها : أنّه ما يفضي إلى موافقة الغرض تحصيلا أو إبقاء. ويعبّر عن التحصيل بجلب النفع ، وعن الإبقاء بدفع الضرر (2).

ومنها : أنّه ما لو عرض على العقول تلقّته بالقبول (3) ، ولا يمكن إثبات مثله في المناظرة ؛ إذ للخصم أن يقول : لا يتلقّاه عقلي بالقبول ، وليس لغيره حينئذ إليه سبيل.

وهذه التعريفات الثلاثة متقاربة ، وهي لمن قال بتعليل الأحكام بالمصالح.

ومنها : أنّه الملائم لأفعال العقلاء في العادات (4) ، كما يقال : الجمع بين هذا الثوب وهذه العمامة ملائم ، وهو لمن ينفي تعليلها بها.

فصل [11]
اشارة

للمناسب تقسيمات باعتبارات عند القائسين ، ونحن نشير إليها أوّلا ثمّ نثبت أنّ مطلق المناسبة لا يقتضي العلّيّة :

فمنها : تقسيمه باعتبار ثبوت المناسبة في الواقع وعدمه. وبهذا الاعتبار إمّا حقيقيّ وهو ما علم مناسبته من غير ظهور خلاف ، ومثاله ظاهر.

أو إقناعيّ وهو ما يظهر مناسبته ، ثمّ يظهر الخلاف عند البحث ، كتعليل الشافعيّة تحريم بيع الخمر والميتة والعذرة بالنجاسة ، وقياس الكلب عليها (5).

ووجه المناسبة أنّ كونها نجسة يناسب إذلالها ، ومقابلتها بالمال في البيع إعزاز لها ، والجمع بينهما باطل. وجليل النظر وإن أثبت هذه المناسبة إلاّ أنّ دقيقه ينفيها ؛ لأنّ معنى

ص: 467


1- ليس السفر لازما للمشقّة بل الأمر بالعكس. وما قاله في ص 477 من أنّ المشقّة اللازمة للمسافر ، هو الصحيح.
2- قاله العلاّمة في تهذيب الوصول : 253.
3- حكاه الفخر الرازي في المحصول 5 : 158 عن أبي زيد الدبوسي ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 294.
4- حكاه الفخر الرازي في المحصول 5 : 158 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 296 ، والعلاّمة في مبادئ الوصول : 219 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 79.
5- راجع : الإفصاح عن معاني الصحاح 1 : 271 ، والمهذّب في فقه الشافعي 1 : 347 ، وبداية المجتهد 2 : 126 و 127.

نجاستها عدم جواز الصلاة معها ، ولا مناسبة بينه وبين المنع من بيعه (1).

ومنها : تقسيمه بحسب المقاصد ، أي المصالح ؛ فإنّ المصالح التي شرع لها الأحكام إمّا في محلّ الضرورة ، أو الحاجة ، أو التكميل ، أو التحسين (2). وهذه أربعة أصناف :

الصنف الأوّل : الضروري ، كحفظ الخمسة الضروريّة بشرع الجهاد ، والقصاص ، والحدّ ، والضمان ، ومنه صون الأحكام ، وحفظ دماء الناس وفروجهم وأموالهم وأوضاعهم بشرع عدالة المفتي ، والقاضي ، والشاهد والراوي ، وأمين الحاكم ، والوصيّ ، وناظر الوقف (3).

الصنف الثاني : الحاجيّ (4) ، كانتقال الأعيان والمنافع من بعض الناس إلى بعض آخر ، وقضاء أوطارهم ، وحفظ أوضاعهم بشرع البيع ، والإجارة ، والقراض ، والرهن وغيرها من العقود والمعاوضات ، ومنه حفظ الصلوات والأوقات باشتراط عدالة الإمام ، والمؤذّن ؛ فإنّ أمثال هذه المقاصد وإن كانت محتاجا إليها إلاّ أنّها ليست ضروريّة ، بحيث أدّى اختلالها إلى فوات واحد من الضروريّات الخمس.

هذا ، ومراتب الحاجة فيها مختلفة بالشدّة والضعف ، وربّما بلغ بعضها حدّ الضرورة ، كشرى المطعوم والملبوس ، والإجارة في تربية الطفل الرضيع ، فإطلاق الحاجيّ على مثله بناء على الغالب (5).

الصنف الثالث : التكميلي وهو على قسمين :

أحدهما : ما هو تكميل للضروريّ ، كتكميل حفظ العقل بشرع الحدّ لقليل المسكر ، وهو لا يزيل العقل. وحفظه قد حصل بشرع حدّ المسكر ، فهو مكمّل له ؛ لأنّ القليل ربّما يؤدّي إلى الكثير (6).

وثانيهما : ما هو تكميل للحاجّ ، كتكميل مقصود النكاح بوجوب رعاية الكفاءة ، ومهر

ص: 468


1- قالهما الفخر الرازي في المحصول 5 : 159 و 161 و 162.
2- قالهما الفخر الرازي في المحصول 5 : 159 و 161 و 162.
3- قاله الفخر الرازي في المحصول 5 : 159 و 160 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 82 و 83.
4- أي المنسوب إلى الحاجة.
5- قاله الفخر الرازي في المحصول 5 : 160 و 161 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 253 و 254.
6- قاله الفخر الرازي في المحصول 5 : 160 باختلاف.

المثل على الوليّ إذا زوّج الصغيرة ؛ فإنّ مصلحة النكاح حاصلة بدونه إلاّ أنّ كونه أفضى إلى دوام النكاح أدرجه في مكمّلاته. ومنه تتميم المحافظة على امور الصغار باشتراط العدالة في الأب ، والجدّ في الولاية على الولد ؛ فإنّ شفقته عليه تبعثه على الاحتياط في أمره ، وتردعه عن الخيانة والتقصير في حقّه ، لكن لمّا كان بعض الفسّاق لا يبالي بتضييع ماله وتزويجه من غير كفء ، جعلت العدالة من مكمّلاته (1).

الصنف الرابع : التحسيني وهو ما لا حاجة إليه ، لكن فيه تحسين ، وهو أيضا على قسمين :

الأوّل : ما عدم فيه ظهور اعتبار الحاجة رأسا ، إلاّ أنّ اعتباره سلوك المنهج الأحسن ، كرعاية عدم الجمع بين النازل والعالي بشرع سلب أهليّة العبد للمناصب الجليلة كالشهادة ومثلها ؛ فإنّه لو جعل للعبد أهليّة الشهادة ، لحصل المصلحة التي تحصل من شهادة الحرّ ، ولم يكن له مفسدة أصلا ، إلاّ أنّه سلب ذلك عنه ؛ لأنّ اعتبار المناسبة في المناصب من مكارم الآداب ومحاسن الشيم (2).

الثاني : ما لا حاجة إليه ؛ لقيام غيره مقامه ، كرعاية حفظ المال في التوكيل والإيداع إذا صدرا من المالك باشتراط العدالة في الوكيل والودعي ؛ فإنّه يجوز له توكيل الفاسق وإيداعه ؛ إذ طبع المالك يردعه عن إتلاف ماله ، فما لم يثق به لا يوكّله ولا يودعه (3).

تتمّة

اعلم أنّ كلّ واحد من أفراد المصالح الضروريّة والحاجيّة والتكميليّة والتحسينية إمّا أن يكون اندراجه تحت ذلك الصنف بيّنا بحيث لا يقع فيه اختلاف ، وإمّا أن يكون خفيّا يقع فيه الخلاف. ويختلف ذلك بحسب اختلاف الظنون ، فربما أدرج بعضها الحاجة العامّة تحت الضرورة ، والأمر في مثله هيّن.

ص: 469


1- قاله الفخر الرازي في المحصول 5 : 160 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 81 - 86.
2- قاله الفخر الرازي في المحصول 5 : 160 و 161 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 264.
3- حكاه الفخر الرازي في المحصول 5 : 161 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 253 و 254 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 84 و 85.

ومنها : تقسيمه باعتبار إفضائه إلى المقصود وعدمه ، وبهذا الاعتبار قسّموه خمسة أقسام (1) :

الأوّل : ما يكون حصول المقصود منه مقطوعا ، كالبيع للحلّ ؛ فإنّ ترتّب الحلّ على كلّ من أفراد البيع يقيني.

الثاني : ما يكون حصوله عنه مظنونا ، كالقصاص للانزجار ؛ فإنّا نقطع بأنّ الانزجار بشرع القصاص لم يحصل لجميع الناس ، بل لأكثرهم ، فلذا يكون ترتّبه عليه ظنّيّا.

الثالث : ما يكون حصوله عنه مشكوكا ، كحدّ الخمر للزجر ؛ فإنّ حصوله ونفيه متساويان تقريبا ؛ ولذا ترى عدد الممتنعين والمقدمين متقاربين.

الرابع : ما يكون حصوله عنه مرجوحا ، كنكاح الآئسة لحصول النسل ؛ فإنّ ترتّبه عليه وإن أمكن عقلا إلاّ أنّه بعيد عادة.

الخامس : ما لا يحصل منه المقصود أصلا ، كنكاح مشرقيّ بمغربيّة قد علم عدم تلاقيهما ، وعدم حصول نطفته في رحمها للحوق ولد تلده وهو في المشرق وهي في المغرب.

وقد اتّفق القائسون على اعتبار الأوّلين وإلغاء الأخير ، واختلفوا في الباقيين (2) ، وستعلم (3) حقيقة الحال في الجميع.

ومنها : تقسيمه بحسب شهادة الشرع له بالاعتبار وعدمها ، وبهذا الاعتبار قالوا (4) : ينقسم أوّلا إلى ثلاثة أنواع : معتبر ، ومرسل ، وملغى.

و [ النوع ] الأوّل : ينقسم إلى ثلاثة أصناف :

مؤثّر ، وهو الذي ثبت اعتباره بنصّ ، أو إجماع.

وملائم يشهد له أصل ، وهو الذي ثبت اعتباره بترتّب الحكم على وفقه ، أي وفق المناسب ، وهو ثبوت الحكم معه في محلّ الوصف ، وثبت مع ذلك بنصّ أو إجماع اعتبار عينه في جنسه ، أو بالعكس ، أو جنسه في جنسه.

ص: 470


1- قالها الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 298 - 299.
2- راجع الإحكام في أصول الأحكام 3 : 299.
3- يأتي في ص 478 وما بعدها.
4- راجع : الإحكام في أصول الأحكام 3 : 311 و 312 ، والمحصول 5 : 163 و 164.

وغريب يشهد له أصل ، وهو الذي ثبت اعتباره بترتّب الحكم على وفقه فقط ، أي ثبت اعتبار خصوصه في خصوص الحكم ، أي شهد نوعه لنوعه فقط لا نوعه ولا جنسه لأحد الثلاثة.

والنوع الثاني ينقسم إلى صنفين : ملائم لم يشهد له أصل ، وهو الذي لم يثبت اعتباره بنصّ ، ولا إجماع ، ولا بترتّب الحكم على وفقه ، ولكنّه ثبت اعتبار جنسه في جنسه ، أو عينه في جنسه ، أو بالعكس.

وغريب لم يشهد له أصل ، وهو الذي لم يثبت اعتباره بوجه.

وهذان الصنفان هما المصالح المرسلة التي تقدّمت (1).

فظهر أنّ النوع الأوّل ينقسم إلى ثلاثة أصناف : مؤثّر ، وملائم يشهد له أصل ، وغريب كذلك.

والنوع الثاني ينقسم إلى صنفين : ملائم لا يشهد له أصل ، وغريب كذلك.

والملائم بالمعنى الأوّل ينقسم إلى ثلاثة أقسام ، وكذا الملائم بالمعنى الثاني.

ولا بدّ من زيادة توضيح في بيان الفرق بين الأصناف المذكورة ، وذكر أمثلة الأقسام ؛ ليتّضح جليّة الحال ، ويظهر ما في كتب القوم من الإجمال والاختلال.

فلنمهّد أوّلا مقدّمة ، وهي أنّ اعتبار الوصف في الحكم لا يخلو عن تسع وأربعين صورة ؛ لأنّ الوصف إمّا أن يكون معتبرا بعينه أو نوعه أو جنسه ، أو اثنين منها ، أو الثلاثة.

وعلى كلّ من التقادير إمّا أن يكون معتبرا في عين الحكم أو نوعه أو جنسه ، أو اثنين منها ، أو الثلاثة. ويحصل من ملاحظة السبعة مع السبعة تسع وأربعون.

والمراد بالعين من الوصف كلّ وصف يحاول إثبات اعتباره وإن كان عريقا في العموم ، وبنوعه ما يشمله وغيره ، وهكذا. فيتحقّق النوعيّة والجنسيّة هنا بالإضافة والاعتبار ، ومن الحكم كلّ حكم كذلك. وعلى هذا ، لو لم يتغيّر حال الوصف في الأصل والفرع وتغيّر حال الحكم فيهما ، يكون عين الوصف في الأصل موجودا في الفرع دون عين الحكم ، وإن عكس عكس ، وإن تغيّر حالهما فيهما لا يكون عينهما في الأصل موجودا في الفرع ، بل

ص: 471


1- تقدّمت في ص 431.

الموجود فيه إمّا نوعهما ، أو جنسهما ، وكلّ ذلك يظهر لك من الأمثلة الآتية.

إذا عرفت ذلك فنقول : المقصود من الصنف الأوّل من النوع الأوّل - وهو المؤثّر - كلّ وصف ثبت اعتبار عينه في عين الحكم بالنصّ أو الإجماع ، كالمسّ بالنسبة إلى الحدث ؛ فإنّ تعليله به منصوص ، والصغر بالنسبة إلى ولاية المال ؛ فإنّ تعليله به إجماعي. فالمؤثّر من الصور المذكورة ما تحقّق فيه تأثير العين في العين ، سواء كان معه تأثير غيره في غيره أيضا من النوع أو الجنس أو كليهما ، أم لا ، وهو ستّة عشر منها (1).

والمقصود من الصنف الثاني منه - وهو الملائم الذي يشهد له أصل - ما ثبت اعتبار عينه في عينه بمجرّد ترتّب الحكم على وفقه ، ولكن ثبت بنصّ أو إجماع اعتبار عينه في جنسه ، أو بالعكس ، أو جنسه في جنسه ، ويترتّب الحكم على وفقه أعمّ ممّا اشتمل على الإيماء على التعليل وما لم يشتمل عليه ، بل كان مجرّد الترتّب فقط من غير فهم العلّيّة بوجه ، فكلّ ما لم يشتمل على النصّ عليه يكون من باب الملاءمة.

والظاهر أنّ ثبوت اعتبار العين في العين بالعموم أو الإطلاق ، كاعتبار النبيذ في الحرمة إذا قال الشارع : « كلّ مسكر حرام لإسكاره » من باب التأثير ؛ لأنّ فهم العلّيّة حينئذ يقيني ، فالنصّ على علّيّة الوصف هنا أعمّ من النصّ على علّيّته بخصوصه ، أو على علّيّة (2) عام أو مطلق يشمله بعمومه أو إطلاقه ، فلنذكر أمثلة الأقسام الثلاثة للملائم ؛ ليظهر حقيقة الحال.

فمثال القسم الأوّل (3) ما يقال : ثبت للأب ولاية النكاح على الصغيرة ، كما ثبت له عليها ولاية المال بجامع الصغر (4). فالوصف - وهو الصغر - أمر واحد ، والحكم الولاية ، وهو جنس يجمع ولاية المال وولاية النكاح ، وهما نوعان من التصرّف ، وقد ثبت اعتبار العين في العين - أي الصغر في ولاية النكاح - بمجرّد ترتّب الحكم على وفقه ، حيث ثبت معه في الجملة وإن وقع الاختلاف في أنّه للصغر ، أو للبكارة ، أو لهما جميعا ، لكن عين الصغر معتبر

ص: 472


1- أي الصور المذكورة والمراد بها تسع وأربعون صورة.
2- في « ب » : « علّيّته ».
3- أي اعتبار العيني في العينيّ.
4- قاله الأسنوي في نهاية السؤل 4 : 84.

في جنس الولاية بالإجماع ؛ لأنّ الإجماع على اعتباره في ولاية المال إجماع على اعتباره في جنس الولاية.

ومثال القسم الثاني - وهو تأثّر جنسه في عينه - ما يقال : يجوز الجمع (1) في الحضر مع المطر ، كما يجوز في السفر بجامع الحرج ، فالحكم جواز الجمع ، وهو أمر واحد ، والوصف الحرج ، وهو جنس يشمل الحاصل بالمطر ، وهو التأذّي به ، والحاصل بالسفر ، وهو خوف الانقطاع عن الرفقة والضلال عن السبيل ، وهما نوعان مختلفان ، وقد ثبت اعتبار جنس الحرج في عين رخصة الجمع بالنصّ (2) والإجماع ؛ لثبوت اعتبار حرج السفر - ولو في الحجّ - فيها (3) ، وأمّا اعتبار عين حرج المطر فيها ، فقد ثبت بمجرّد ترتّب الحكم على وفقه.

ومثال الثالث (4) ما يقال : يجب القصاص بالقتل بالمثقل ، كما يجب بالقتل بالمحدّد بجامع كونهما جناية عدوان ، فالوصف مطلق جناية العدوان ، وهو يجمع الجناية في النفس وفي الأطراف وفي المال (5) ، والحكم مطلق القصاص الشامل للقصاص في النفس وفي الأطراف وغيرها من القوى ، وقد ثبت اعتبار جنس جناية العدوان في جنس القصاص بالنصّ (6) والإجماع ؛ لثبوت اعتبار الجناية في القصاص بهما في الأيدي ، ولكن ثبوت اعتبار قتل العمد بالمثقل في القصاص في النفس بمجرّد ترتّب الحكم على وفقه ، حيث ترتّب القصاص على مطلق قتل العمد الذي هو نوع من جنس الجناية ، ويشرك فيه القتل بالمحدّد والمثقل.

لا يقال : ثبوت القصاص مع قتل العمد ليس بمجرّد الترتّب ، بل ثبت اعتباره فيه بالنصّ والإجماع.

لأنّا نقول : هذا غير معلوم ؛ لتحقّق الاشتباه في أنّ العلّة في القصاص مطلق قتل العمد أو مع قيد كونه بالمحدّد ، فما يقطع بكونه علّة إنّما هو قتل العمد مع القيد ، فمطلقه يبقى في حيّز

ص: 473


1- أي الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
2- راجع تهذيب الوصول : 255.
3- أي في الرخصة.
4- أي تأثير الجنس في الجنس.
5- قاله الأسنوي في نهاية السؤل 4 : 78.
6- أشار إليه الفخر الرازي في المحصول 5 : 164 وقال : « إنّ عليّا أقام الشرب مقام القذف ».

الشكّ ، فيعلم حينئذ بمجرّد ترتّب القصاص عليه.

وقد ظهر ممّا ذكر أنّ ثبوت الاعتبار في الجنس في أقسام الملائم بالنصّ أو الإجماع إنّما هو لأجل سرايته من بعض أنواعه إليه ، سواء كان هو المقيس عليه فقط ، كما في المثال الأوّل ، أو هو وغيره ، كما في المثال الثالث.

والسرّ فيه أنّ النصّ أو الإجماع على تأثير نوع في نوع يستلزم النصّ أو الإجماع على تأثير جنسه في جنسه ؛ لأنّ الدالّ على اتّصاف الخاصّ بصفة يدلّ على اتّصاف العامّ (1) بها. غاية الأمر أنّ الدلالة على الثاني بالتضمّن ، وهو لا يقابل النصّ ، بل المطابقة ؛ فالدلالة على الأوّل نصّ ومطابقة ، وعلى الثاني نصّ وتضمّن.

ثمّ إن ثبت التأثير في جنس أوّلا وبالذات - أي بالنصّ عليه بعنوان يشمل ما تحته عموما أو إطلاقا - يثبت منه التأثير في كلّ واحد من أنواعه بالنصّ. وإن ثبت على طريق السراية من بعض الأنواع - كما ذكر - لا يثبت منه التأثير في باقي الأنواع ؛ لأنّ معنى كونه مؤثّرا حينئذ أنّ بعض أنواعه مؤثّر ، وهو لا يستلزم تأثير غيره من الأنواع.

نعم ، يفيد ظنّا ما بتأثيره. وإذا ترتّب عليه الحكم أيضا يتقوّى الظنّ بتأثيره ، فيكون ملائما.

وقد ظهر من ذلك أنّ ما يراد إثباته في الفرع في الأمثلة الثلاثة - أي اعتبار العين في العين وهو اعتبار عين الصغر في ولاية النكاح ، وحرج المطر في رخصة الجمع ، والقتل بالمثقل في قصاص النفس - من باب (2) الملاءمة.

واعتبار المقيس عليه - أعني الصغر في ولاية المال ، وحرج السفر في رخصة الجمع ، والقتل بالمحدّد في القصاص ، وكذا اعتبار العين في الجنس ، وبالعكس ، والجنس في الجنس - من باب التأثير.

والمقصود من الصنف الثالث منه - وهو الغريب الذي يشهد له أصل - ما ثبت اعتباره بمجرّد ترتّب الحكم على وفقه من دون ثبوت اعتبار عينه في جنسه ، أو بالعكس ، أو جنسه

ص: 474


1- المراد بالخاصّ والعامّ ليس معناهما الاصطلاحي بل المراد من الخاصّ هو الكلّ ومن العامّ هو الأجزاء.
2- قوله : « من باب ... » خبر لقوله : « أنّ ».

في جنسه ، أي لم يثبت تأثير عين الوصف في أحد أنواع جنس الحكم ، ولا تأثير أحد أنواعه في عين الحكم ، ولا في أحد أنواعه بالنصّ أو الإجماع ، كما يقال فيمن يطلّق امرأته طلاقا بائنا في مرض موته لئلاّ ترثه : يعارض بنقيض مقصوده ، ويحكم بإرثها ، كما يعارض القاتل بنقيض مقصوده (1) ، حيث قتل ليرث ، فحكم بعدم إرثه بجامع كونهما فعلا حراما صادرا لغرض فاسد ، وهذا الوصف وإن كان مناسبا للحكم المذكور وفي ترتّبه عليه يحصل مصلحة وهو نهيهما عن الفعل الحرام ، وقد ترتّب عليه الحكم على وفقه في القتل ؛ لثبوت الحكم معه بقوله : « القاتل لا يرث » (2) ، فشهد نوعه لنوعه ، إلاّ أنّه لمّا لم يكن فيه نصّ على تأثير القتل في عدم الإرث ، لم يثبت منه تأثير عينه في جنسه ، ولا بالعكس ، ولا تأثير جنسه في جنسه. ومنه ما يقال : « يحرم النبيذ » قياسا على الخمر بجامع الإسكار ، وهو مناسب لتحريم التناول ؛ صيانة للعقل إذا فرض ترتيب التحريم على الخمر من غير ثبوت تأثيره فيه بالنصّ.

والمقصود من الصنف الأوّل من النوع الثاني - وهو الملائم الذي لم يشهد له أصل - ما لم يثبت اعتباره بترتيب الحكم على وفقه ، أي لم يثبت اعتبار العين في العين بوجه ؛ لعدم شهادة أصل على اعتبار نوعه في نوعه ، لكن ثبت اعتبار جنسه في جنسه ، أو عينه في جنسه ، أو بالعكس ، فهو أيضا على ثلاثة أقسام.

ومثال القسم الأوّل منه ما يقال : « قليل النبيذ وإن لم يسكر حرام » ؛ قياسا على قليل الخمر بجامع كون القليل داعيا إلى الكثير ، وهذا المناسب وإن لم يعتبره الشرع ، ولم يثبت الحكم على وفقه في المحلّ - إذا سلّم أنّ ترتّب الحرمة على قليل الخمر ليس على وفق هذا المناسب - إلاّ أنّ الشرع اعتبر جنسه في جنس ذلك الحكم ؛ لأنّه حرّم الخلوة لكونها داعية إلى الزنى. وقس عليه أمثال القسمين الأخيرين.

والمقصود من الصنف الثاني منه - وهو الغريب الذي لم يشهد له أصل - ما لم يثبت اعتباره بوجه ، ومثاله هو المثالان المذكوران للغريب غير المرسل إذا قدّر عدم شهادة القتل

ص: 475


1- أي يقتل الولد والده ليرث أمواله فيصير محروما من الإرث.
2- تهذيب الأحكام 10 : 237 ، ح 946 باختلاف يسير.

والخمر بالاعتبار ، أي عدم ثبوت الحكم معهما ، بل اعتبر مجرّد المناسبة المستخرجة ، فيكونان من الأمثلة التقديريّة ولا بأس به ؛ لأنّ المثال لا يراد لنفسه بل للتفهيم.

هذا ، وأمّا النوع الثالث - وهو المناسب الملغى - فمثاله ما تقدّم من إيجاب صوم شهرين على الملك في كفّارة الصوم.

تذنيب

إن قلت : قد خرّجت من اعتبار الوصف في الحكم تسعا وأربعين صورة ، وجعلت المؤثّر منها ستّة عشرة (1) ، وهي التي ثبت فيها تأثير العين في العين ، والملاءم منها ثلاثة (2) ، ففي أيّ صنف يدخل البواقي؟

قلت : ما عدا الستّة عشرة - وهو ثلاث وثلاثون صورة - من الملاءم المعتبر إن ثبت معها ترتيب الحكم على وفقه ، ومن الملاءم المرسل إن لم يثبت معها ذلك ، فإنّ الثلاث التي عدّت مع الترتيب المذكور من الملاءم المعتبر ، وبدونه من الملاءم المرسل تتناول أكثرها ، كما لا يخفى تفصيله. والخارج منها لا يخرج عن الصور الثلاث التي عدّها بعضهم أيضا من الملاءم (3) ، وهي اعتبار النوع في النوع ، واعتباره في الجنس ، وبالعكس.

مثال الأوّل : الإسكار المعتبر في التحريم ؛ فإنّ الإسكار نوع واحد يجمع إسكار الخمر وإسكار النبيذ ، وهما صنفان ، والحكم التحريم ، وهو أيضا نوع واحد يجمع تحريم الخمر وتحريم النبيذ ، ونوع الإسكار معتبر في نوع التحريم بالنصّ وإن اعتبره الشارع في تحريم الخمر ؛ لأنّ اختلاف المحلّ لا يوجب اختلاف الحالّ.

ومثال الثاني (4) : ما يقال : « الاخوّة من الأبوين مقتضية لتقدّم الولاية في النكاح » قياسا على اقتضائها للتقدّم في الميراث ، فالوصف - وهو الاخوّة - نوع واحد في الموضعين. والحكم الولاية وهو جنس يجمع ولاية الميراث وولاية النكاح ، وهما نوعان مختلفان ،

ص: 476


1- راجع النحو الوافي 4 : 508 وما بعد : إذا حذف التميّر. لا يجب المخالفة في الجزء الأوّل. فكلمتا « ستّة » و « ثلاثة » ليستا بغلط ؛ إذ حذف عنهما التميّز.
2- راجع النحو الوافي 4 : 508 وما بعد : إذا حذف التميّر. لا يجب المخالفة في الجزء الأوّل. فكلمتا « ستّة » و « ثلاثة » ليستا بغلط ؛ إذ حذف عنهما التميّز.
3- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 312.
4- أي اعتبار النوع في الجنس.

وقد اعتبر الشارع نوع الوصف في ولاية الميراث ، فيكون معتبرا في جنس الولاية (1).

ومثال الثالث (2) : ما يقال : « يسقط قضاء صلاة الحائض » قياسا على سقوط قضاء الركعتين الساقطتين في السفر بجامع المشقّة. فالحكم - وهو قضاء الصلاة - نوع واحد يجمع قضاء صلاة الحائض وقضاء صلاة المسافر ، واختلافهما بالعوارض. والوصف - وهو المشقّة - جنس يجمع المشقّة اللازمة للحائض ، والمشقّة اللازمة للمسافر ، وهما نوعان مختلفان وقد اعتبر الشارع مشقّة المسافر - وهو نوع من الجنس - في سقوط قضاء الصلاة فيكون الجنس معتبرا فيه (3).

وهذه الثلاث إن ثبت فيها الترتيب على وفق المناسب يكون من الملائم المعتبر ، وإن لم يثبت فيها ذلك يكون من الملاءم المرسل ، وكان عدم تعرّض القوم لما لم يتعرّضوا لها من الصور ؛ لعدم وجودها في الأحكام الشرعيّة.

ثمّ لا يخفى أنّ ملاحظة الصور المذكورة مع النظر في أنّ الجنس قريب أو متوسّط أو بعيد ، وأنّ ثبوت ذلك بالنصّ أو الإجماع أو بهما ، وأنّها تثبت مع ترتّب الحكم على وفق المناسب وبدونه ، وأنّ الترتّب يشتمل على الإيماء على العلّيّة أم لا ، وأنّ كلاّ منها يكون من أحد الأقسام المتقدّمة : من الحقيقيّة ، والإقناعيّة ، والضروريّة ، والحاجيّة ، والتكميليّة وغيرها ، تفضي (4) إلى أقسام متكثّرة. ولو لوحظ معها وجود معارض من المفسدة بنحو من الأنحاء المذكورة في المصالح المرسلة ، يؤدّي إلى أقسام لا تحصى كثرة ، ويقع بينها تعارضات وترجيحات لا يمكن ضبط القول فيها.

ثمّ إنّ قوّة أقسام الملاءم وضعفها يختلف باختلاف مراتب خصوص الوصف والحكم وعمومهما ، فكلّما كان الوصف والحكم أخصّ كان الظنّ بعلّيّة الوصف للحكم آكد ؛ لكثرة ما به الاشتراك حينئذ بين وصفي الأصل والفرع وحكميهما ، فاعتبار النوع في النوع أقوى من اعتبار الجنس في الجنس ؛ لكثرة المشتركات بين الوصفين والحكمين في الأوّل ؛

ص: 477


1- قاله الفخر الرازي في المحصول 5 : 164 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 255.
2- أي اعتبار الجنس في النوع.
3- قاله الفخر الرازي في المحصول 5 : 164 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 255.
4- « تفضي » خبر « أنّ ملاحظة ».

لاتّحادهما نوعا ، فيشتركان في الحقيقة وفي مقوّماتهما من الجنس والفصل وفي لوازمهما ، واختلافهما (1) بالامور الخارجة ، كالمحالّ وما يجري مجراها ، وقلّة (2) المشتركات بينهما في الثاني. وهو ظاهر.

تتمّة

الحقّ أن طريق المناسبة لا يفيد العلّيّة ، وليست مقبولة إلاّ المناسبة المعتبرة إجماعا أو نصّا من الشرع ، وهو المؤثّر من الأقسام المذكورة ، فإذا علم بالإجماع أو النصّ كون وصف مناسب لحكم مؤثّرا فيه وعلّة له ، يحكم بثبوت الحكم له وكونه علّة له في الأصل ، وهذا هو العمل بنفس المناسبة ، وإذا وجد هذا الوصف في محلّ آخر ، واريد إثبات حكم الأصل له فيه ، يرجع إلى القياس المنصوص العلّة ، وقد عرفت الحال فيه. فهذا القسم من المناسبة ليس من طرق الاستنباط ، وأمّا غيره من الأقسام ، فلمّا لم يقطع بالعلّيّة فيها بنصّ أو إجماع ، فيجوز أن تكون العلّة فيها غير ذلك الوصف ، وحينئذ يحكم في الملائم والغريب المعتبرين بمجرّد ثبوت الحكم مع المناسب في الأصل ؛ نظرا إلى ترتّبه عليه شرعا ، وهذا هو العمل بنفس المناسب المعتبر ، ولا يحكم بعلّيته له ، فإن ثبت هذا المناسب في محلّ آخر ، لا يقاس على الأوّل حتّى يتحقّق العمل بالقياس عليه.

وأمّا الملائم والغريب المرسلان - وهما المصالح المرسلة - فلا يحكم بثبوت حكم يناسبهما معهما في محلّ أصلا ؛ لعدم ترتّبه عليه في كلام الشارع ، فلا يتأتّى العمل بنفس المصالح المرسلة ، ولا بالقياس عليها.

ثمّ المراد بأصل الملائم هنا هو الفرع في الأمثلة المتقدّمة فلا تغفل ؛ فإنّ الأصل فيها كان من المؤثّر ، وفرعه كان ملائما ، فإذا قيس عليه غيره يصير أصلا ، وما يقاس عليه فرعا. ومن هنا يعلم أنّ فرع المؤثّر أحد الملائمين. هذا.

واتّفق القائسون على قبول المؤثّر والملائم المعتبر ، والقياس عليهما ، وردّ الغريب

ص: 478


1- عطف على « اتّحادهما نوعا ».
2- عطف على « كثرة المشتركات ».

المرسل وما علم إلغاؤه. واختلفوا في الغريب المعتبر والملائم المرسل ، والأكثر على قبول الأوّل وردّ الثاني.

واحتجّوا على كون المناسب علّة للحكم بأنّ الأحكام معلّلة بالمصالح ، وهذا الحكم قد وجد فيه هذه المصلحة ، فحصل الظنّ بأنّها الباعث على شرعه.

أمّا الثاني فظاهر ؛ لأنّ الفرض ذلك ، وأمّا الأوّل فلأنّ تخصّص (1) واقعة معيّنة بحكم معيّن لا بدّ له من مرجّح.

وجوابه ما ذكر من جواز كون العلّة غير ذلك الوصف ، على أنّ هذا الدليل فاسد على اصول الأشاعرة (2) ؛ لأنّهم منعوا من التعليل في أحكام اللّه بالأغراض ، والمعتزلة ؛ لتجويزهم ترجيح أحد الطرفين من المريد لا لمرجّح (3).

وإذا أحطت بما ذكر ، فلا أظنّك أن يشتبه عليك كيفيّة التفريع.

فصل [12]
اشارة

ومن طرق الاستنباط - كما عرفت (4) - الشبه. وهو لغة : الشباهة (5). وعرفا كما يطلق على كلّ قياس الحق الفرع فيه بالأصل بجامع يشبهه ، كذلك يطلق على نفس هذا الجامع الذي هو الوصف الشبهي.

وحقيقته إجمالا : أنّ الوصف كما يكون مناسبا فيظنّ بذلك كونه علّة ، فكذلك قد يكون شبيها فيفيد ظنّا ما بالعلّيّة ، فكما أنّ كلّ قياس يكون الجامع فيه وصفا مناسبا يكون استنباط علّيّة الوصف للحكم فيه بالمناسبة ، فكذلك كلّ قياس يكون الجامع فيه وصفا شبهيّا يكون استنباط علّيّته له فيه بالشبه.

ص: 479


1- في « ب » : « تخصيص ».
2- راجع : المحصول 5 : 172 - 180 ، ونهاية السؤل 4 : 98 ، والتمهيد : 479.
3- راجع : المعتمد 2 : 261 ، والإحكام في أصول الأحكام 3 : 316 - 324 ، والمستصفى : 317 ، والتمهيد : 479 ، ونهاية السؤل 4 : 97 - 104.
4- تقدّم في ص 444.
5- المصباح المنير : 303 ، « ش ب ه ».

وقد اختلف في تفسير الوصف الشبهي حتّى قيل : لا يتحرّر في الشبه عبارة مستمرّة في صناعة الحدود (1).

فقيل : ما يوهم المناسبة من حيث التفات الشرع إليه في بعض المحالّ وليس بمناسب (2) ، والوصف الطردي ما لا يوهمها أيضا فيشبه الشبهيّ الطرديّ من حيث عدم المناسبة ، ويتميّز عنه بأنّ الطردي وجوده كالعدم ، ويشبه المناسب من حيث التفات الشرع ، ويتميّز عنه بأنّ للمناسب مناسبة عقليّة وإن لم يرد الشرع بها ، كالإسكار للتحريم ، فإنّ كونه مزيلا للعقل وكونه مناسبا للمنع منه يحكم به العقل ولا يحتاج إلى ورود الشرع به. وقد أشرنا إلى هذا التفسير ومثاله (3).

وقيل : ما ناسب الحكم بالتبع كالطهارة لاشتراط النيّة ، والطرد ما لم يناسبه أصلا كبناء القنطرة (4) ، وبعبارة اخرى كان مستلزما لمناسب ، كالرائحة الفائحة المستلزمة للإسكار الذي هو المناسب بذاته للتحريم.

ولا يخفى أنّ القياس حينئذ نوع من قياس الدلالة ، وهو الجمع بين الأصل والفرع بما لا يناسب الحكم لكن يستلزم المناسب. والطردي حينئذ ما ليس بمناسب ، ولا بمستلزم له.

وقيل : ما لا يناسب الحكم لكن عرف بالنصّ تأثير جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم ، فمن حيث إنّه لا يناسب يظنّ عدم اعتباره في ذلك الحكم ، ومن حيث علم تأثير جنسه القريب - مع أنّ سائر الأوصاف ليس كذلك - يظنّ استناد الحكم إليه (5).

وقيل : ما لا يثبت مناسبته إلاّ بدليل منفصل (6).

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الشبه لا يدلّ على العلّيّة ، وليس بحجّة على كلّ واحد من التفسيرات.

أمّا على الأوّل والثاني ، فلأنّ المناسبة نفسها لا تفيد العلّيّة ، وليست بحجّة فضلا عمّا يوهمها أو يستلزمها.

ص: 480


1- لعلّ القائل هو إمام الحرمين الجويني كما يستظهر من إرشاد الفحول 2 : 137.
2- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 327 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 106.
3- تقدّم في ص 444.
4- حكاها الفخر الرازي في المحصول 5 : 201 - 205 ، والمطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 4 : 107 - 112 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 327 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 106 - 112.
5- حكاها الفخر الرازي في المحصول 5 : 201 - 205 ، والمطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 4 : 107 - 112 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 327 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 106 - 112.
6- حكاها الفخر الرازي في المحصول 5 : 201 - 205 ، والمطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 4 : 107 - 112 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 327 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 106 - 112.

وأمّا على الثالث ، فلما تقدّم (1).

وأمّا على الرابع ، فلأنّ المناسب بالذات إذا لم يكن حجّة ، فالمناسب بالواسطة أولى بذلك.

ثمّ لمّا أمكن أن يثبت علّيّة الشبه بجميع الطرق من النصّ والإجماع والسير وغيرها سوى المناسبة ، فإن ثبت علّيّته بإحدى الطرق المقبولة أفاد العلّيّة ، إلاّ أنّ ثبوت العلّيّة حينئذ بهذا الطريق لا بالشبه ، فهو ليس طريقا مستقلاّ دالاّ على العلّيّة ، ولا يثبت علّيّته بمجرّد المناسبة ، أي تخريج المناط ؛ إذ يخرجه حينئذ إلى المناسبة مع أنّه غيرها ، ولذا عرّف بما عرّف.

ثمّ إن ترتّب حكم على الشبه في محلّ أوّلا ، فهو العمل بنفس الشبه. وإن اثبت هذا الحكم في محلّ آخر إذا وجد فيه ، فهو العمل بالقياس عليه. وحقيقة الحال في المحلّين لا تخفى عليك بعد ما ذكر.

وقد عرّف بتعريفات أخر (2) لا يعدّ بواحد منها من مسالك العلّة.

منها : أنّه الوصف المجامع لآخر إذا تردّد به الفرع بين أصلين ، أحدهما يشبهه في الصورة ، والآخر يشبهه في المعنى أو الحكم (3). واعتبر الشافعي المشابهة المعنوية (4) ، وابن عليّة الصوريّة (5). وعلى أيّ تقدير فالأشبه منهما هو الشبه ، كالنفسيّة والماليّة في العبد المقتول خطأ إذا زادت قيمته على دية الحرّ ، فإنّه قد اجتمع فيه الوصفان. وبالأوّل يشابه الحرّ ومقتضاه عدم الزيادة على الدية. وبالثاني الدابّة ومقتضاه الزيادة ، إلاّ أنّه بالحرّ أشبه ؛ إذ مشاركته له في الأوصاف والأحكام أكثر. وحاصله تعارض مناسبين رجّح أحدهما.

وهذا ليس من الشبه المقصود في شيء ؛ لأنّ كلاّ من الوصفين مناسب ، وكثرة المشابهة

ص: 481


1- تقدّم آنفا.
2- راجع : المستصفى : 316 و 317 ، وتهذيب الوصول : 257 ، ونهاية السؤل 4 : 105 - 107.
3- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 325.
4- الرسالة للإمام الشافعي : 479 ، الرقم 1334 ، وحكاه عنه الفخر الرازي في المحصول 5 : 202.
5- حكاه عنه الفخر الرازي في المحصول 5 : 203.

إن كانت مؤثّرة فهي من باب الترجيح ، ولا تخرجه عن المناسبة ، ولذا قيل : هذا حجّة ؛ لتردّده بين قياسين متناسبين ، ويسمّى قياس علّيّة الأشباه (1).

وممّا يتفرّع عليه إلحاق السلت (2) بالحنطة حتّى يكمل به نصابها ؛ إذ يشبهها صورة ؛ لأنّه على لونها ونعومتها ، أو بالشعير ؛ إذ يشبهه في برودة الطبع ، هذا هو المعروف عند الفقهاء (3) وأهل اللغة (4) ، وعكسه بعضهم (5). وقيل : جنس مستقلّ لتعارض المعنيين (6).

ومنها : أنّه ما يعرف فيه المناط قطعا إلاّ أنّه يفتقر في آحاد الصور إلى الحقيقة ، كما في طلب المثل في جزاء الصيد بعد العلم بوجوب المثل بالنصّ.

وهو أيضا ليس من الشبه المقصود ؛ لأنّه العلّة الشبهيّة ، والنظر فيما ذكر إنّما هو في تحقيق الأشبه ؛ لأنّه وجب المثل ، والصيد لا يماثله شيء من النعم ، فكان محمولا على الأشبه ، لا في تحقيق المناط الذي هو العلّة ؛ لكونه معلوما من النصّ (7).

ومنها : أنّه ما اجتمع فيه مناطان مختلفان لحكمين لا على سبيل الكمال لكن أحدهما أغلب ، فالحكم به حكم بالأشبه ، كالحكم في اللعان بأنّه يمين لا شهادة وإن وجدا فيه لا على سبيل الكمال ؛ لأنّ الملاعن مدّع ، فلا يقبل شهادته لنفسه ، ولا يمينه (8).

وهذا أيضا ليس من الشبه المقصود وهو ظاهر. وكيفيّة التفريع قد ظهرت لك.

تذنيب

يشترط في تفسير الطرد أن يضاف على ما ذكر قولنا : إذا ثبت معه الحكم فيما عدا المتنازع فيه ؛ لأنّ هذا هو معنى الاطّراد ، وحاصله الاستلزام في الوجود لا في العدم. وبهذا يمتاز عن الدوران ؛ لأنّه الاستلزام في الوجود والعدم.

ص: 482


1- قاله الغزالي في المستصفى : 317 ، والأسنوي في التمهيد : 479.
2- السلت : الشعير أو ضرب منه لا قشر له.
3- راجع : الخلاف 2 : 65 ، المسألة 77 ، وبداية المجتهد 1 : 266 ، والشرح الكبير - ضمن المغني - 9 : 525.
4- المصباح المنير : 284 ، ومجمع البحرين 2 : 205 ، والنهاية في غريب الحديث والأثر 2 : 388 ، « س ل ت ».
5- المعجم الوسيط : 441 ، « س ل ت » ، و 202 ، « ح ن ط ».
6- قاله الأسنوي في التمهيد : 479 و 480.
7- حكاهما الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 7. والغزالي في المستصفى : 322.
8- حكاهما الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 7. والغزالي في المستصفى : 322.

مثاله ما يقال في عدم إزالة النجاسة بالخلّ : مائع لا يبنى القنطرة على جنسه ، فلا يجوز إزالة النجاسة به كالدهن (1).

والحقّ أنّه لا يفيد العلّيّة وليس بحجّة ؛ لأنّ الدوران كذلك ، كما يأتي (2) ، فهو أولى بذلك ، ولأنّ الاطّراد كون الوصف بحيث لا يوجد إلاّ وقد وجد معه الحكم ، وهذا لا يثبت إلاّ إذا ثبت أنّ الحكم حاصل بنفسه في الفرع ، فلو توقّف معرفة ثبوت الحكم في الفرع على كون الوصف علّة ، واستند علّيّته إلى كونه مطّردا ، لزم الدور.

احتجّ الخصم - وهم جماعة من العامّة - بأنّ عادة الشرع إلحاق الفرد النادر بالأعمّ الأغلب ولا دور ؛ لأنّا لا نحتجّ بالمقارنة في جميع الصور على العلّيّة ، بل فيما عدا الفرع (3).

وفيه : أنّ المقارنة لو دلّت على العلّيّة لدلّت في صورة المقارنة ، والفرع لم يثبت فيه المقارنة ، فإلحاقه بما ثبت فيه المقارنة يحتاج إلى دليل. غاية ما في الباب حصول ظنّ بإلحاق الفرد بالأغلب ، ومثله لا يصلح لتأسيس الحكم الشرعي ، سيّما على قواعدنا (4) ؛ لما عرفت (5) من قطعيّة بطلان القياس. والعجب أنّ بعضهم بالغ وقال : يكفي مقارنته في صورة واحدة لإفادة العلّيّة (6).

ولا يخفى أنّ تجويزه يفتح باب الهذيان. فظهر أنّ قياس الطرد البسيط باطل مطلقا.

ثمّ إثبات الحكم في صورة المقارنة - كإثبات عدم إزالة النجاسة بالدهن - عمل بنفس الطرد ، وإثبات الحكم في صورة عدم المقارنة - كإثباته بالخلّ - عمل بقياس الطرد البسيط.

ولمّا ظهر عليك كيفيّة التفريع مرارا ، فلا نطيل الكلام بإعادتها.

ص: 483


1- راجع : الخلاف 1 : 18 ، المسألة 8 ، والمبسوط للسرخسي 1 : 96 ، وبداية المجتهد 1 : 83 و 84 ، والمجموع 1 : 92 و 95 ، والمحصول 5 : 225.
2- يأتي في ص 487 ، الفصل 14.
3- قاله الغزالي في المستصفى : 323 ، والفخر الرازي في المحصول 5 : 221 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 135 و 137.
4- راجع مبادئ الوصول : 226 و 227.
5- تقدّم في ص 461.
6- حكاه الفخر الرازي في المحصول 5 : 221 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 137.
فصل [13]

ومن طرق الاستنباط - كما تقدّم (1) - السبر (2) والتقسيم ، وهو - كما عرفت (3) - حصر الأوصاف الصالحة للعلّيّة في الأصل ، وسلب العلّيّة عن كلّ واحد إلاّ المدّعى ، والحصر (4) راجع إلى التقسيم وهو ظاهر ، والسلب إلى السبر ؛ لأنّه في الأصل اعتبار عمق الجراحة ، والمسبار حديدة معدّة لذلك. والمراد منه هاهنا اعتبار كلّ وصف من الأوصاف المعدودة ، وإبطال علّيّتها حتّى ينتهي إلى المدّعى.

والسبر إمّا يقع على التقسيم الحاصر أو المنتشر.

والأوّل ما يقطع فيه بانحصار الأقسام في المعدودة وإبطال ما عدا المدّعى ، وهو يفيد العلم. وقد عوّل عليه في معرفة العلل العقليّة ، كما يقال : هذا الأمر إمّا معلّل أو لا ، فإن كان معلّلا فإمّا بهذا الشيء أو بغيره ، فإذا ابطل الثاني (5) وأحد شقّي الأوّل يتعيّن شقّه الآخر للعلّيّة. وقد يوجد مثله فى الأحكام الشرعيّة ويعوّل عليه ، كما يقال : ولاية الإجبار إمّا أن لا تعلّل ، أو تعلّل بالبكارة أو الصغر أو غيرهما ، والكلّ باطل سوى الثاني ، فالأوّل والرابع للإجماع ، والثالث لقوله عليه السلام : « الثيّب أحقّ بنفسها » (6).

والثاني ما لا يقطع فيه بالانحصار ، بل يدّعى الانحصار فيه بالاستقراء ، ومثاله ما تقدّم من قياس الأرز على البرّ في الربويّة.

والحقّ ، أنّه ليس بحجّة وفاقا للأكثر (7) ؛ لجواز الاستغناء عن العلّة ؛ فإنّه لو كان كلّ حكم معلّلا لزم التسلسل في علّيّة العلّة. ومنع (8) الحصر ؛ لجواز كون العلّة غير الأوصاف المعدودة ،

ص: 484


1- في ص 445.
2- راجع الصحاح 2 : 675 ، « س ب ر ».
3- في ص 445.
4- غرضه أنّ النشر خلاف اللفّ.
5- والمراد به « أو لا ».
6- سنن أبي داود 2 : 233 ، باب الثيّب.
7- راجع : المحصول 5 : 217 و 218 ، والإحكام في أصول الأحكام 3 : 289 ، وتهذيب الوصول : 258 ، ونهاية السؤل 4 : 128 و 129.
8- عطف على « جواز ».

أو ما تركّب من بعضها أو جميعها ، أو الحكم مشروطا في الأصل بما ليس في الفرع ، أو ممنوعا في الفرع لمانع.

والجواب بأنّ الغالب في الأحكام تعليلها ، والأصل عدم عدّ الأوصاف المحصورة (1) ، ضعيف. هذا.

وعدم جواز الاستدلال بالسبر عندنا ظاهر ؛ لما عرفت (2) من قطعيّة بطلان مطلق القياس ، إلاّ ما ثبت استثناؤه بالقطع أيضا. فغاية الأمر أن يفيد ظنّ العلّيّة ، وهو لا يقاوم القطع. وعلى هذا ، لو ثبت من الشرع حكم في أصل - كالربا في البرّ - يحكم بثبوته فيه ، ولكن لا يستند ثبوته فيه إلى الوصف المدّعى حتّى يثبت منه العمل بنفس السبر والتقسيم ، ويلزم منه بالطريق الأولى عدم جواز إثباته في محلّ آخر إذا كان هذا الوصف موجودا فيه حتّى يلزم العمل بقياس السبر.

إن قلت : قد اعترفت بحجّيّة تنقيح المناط في الجملة وهو راجع إلى السبر والتقسيم.

قلت : تنقيح المناط القطعيّ يرجع إلى التقسيم الحاصر ، والظنّيّ إلى المنتشر ، والأوّلان مقبولان ، والأخيران مردودان ، فلا منافاة.

احتجّ الخصم (3) بأنّ كلّ حكم لا بدّ له من علّة ؛ للإجماع ؛ ولقوله تعالى : ( وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ) (4) ، فإنّه يفيد أنّه ارسل بأحكام شرعت لمصالحهم ؛ إذ لو ارسل بحكم لا مصلحة فيه ، لكان إرسالا لغير الرحمة ، فهو يفيد التعميم ، فثبت منه المطلوب وهو تعليل كلّ حكم بعلّة. ولو سلّم انتفاء العموم فنقول : الغالب في الأحكام التعليل ، والفرد يلحق بالأعمّ الأغلب.

وإذا ثبت ذلك فنقول : القطع بتعيين العلّة غير ممكن ، فيكفي الظنّ به ، وهو يحصل بالسبر والتقسيم وبغيره من الطرق كالمناسبة والشبه والدوران ، فإذا ثبت ظهور علّيّة وصف لحكم شيء من هذه الطرق ، وجب اعتبارها والحكم بها ، إلاّ أنّ ذلك لا يتوقّف في المناسبة على

ص: 485


1- الجواب للإسنوي في نهاية السؤل 4 : 128.
2- في ص 445.
3- قاله الفخر الرازي في المحصول 5 : 217 و 218 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 289 - 291.
4- الأنبياء (21) : 107.

سبق العلم بكون الحكم معلّلا ، ثمّ تعيين العلّة بها ، بل مجرّد المناسبة كاف في ظنّ العلّيّة بخلاف غيرها.

ثمّ إفادة كلّ طريق للعلّيّة لمّا كانت فرع وجوده ، والسبر كان مركّبا من شقّين (1) : الحصر ، وحذف بعض الأوصاف وإبطال كونه علّة ، فوجوده (2) فرع وجودهما ، فقالوا : لثبوت الأوّل (3) يكفي التصفّح التامّ عن أوصاف الأصل وعدم الظفر على غير ما ظفر به ، لحصول الظنّ حينئذ بعدم غيرها ؛ لأنّ الغالب أنّ الأوصاف العقليّة والشرعيّة لا تخفى بعد الاستقراء ، مع أنّ الأصل عدم غيرها ، وإذا قال المجتهد في بيانه : بحثت فلم أجد سوى هذه الأوصاف والأصل عدم غيرها ، يصدّق ، بل يصدّق (4) وإن لم يعلّل بالأصل ؛ لعدالته وتديّنه.

وللثاني ثلاث طرق :

الأوّل : الإلغاء ، وهو بيان أنّ الحكم قد ثبت في الصورة الفلانيّة بدون الوصف المحذوف ، فعلم أنّه لا أثر له ، كما يقال في قياس الأرز على البرّ في الربويّة : القوت ليس بعلّة ؛ لأنّ الملح ربوي وليس بقوت.

الثاني : أن يكون الوصف طرديّا - أي من جنس ما علم من الشرع إلغاؤه في جميع الأحكام - كالطول والقصر ، أو بالنسبة إلى ذلك الحكم ، كالذكورة والانوثة في أحكام العتق.

الثالث : أن لا يظهر له مناسبة ، ولا يلزم على المناظر أن يبيّن عدم المناسبة بدليل ، بل يكفي له أن يقول : بحثت فلم أجد له مناسبة. فإن عارض المعترض وقال : الوصف المتبقّي أيضا كذلك ، فإن أوجبنا على المستدلّ بيان المناسبة ، انتقل من السبر إلى الإخالة ، وهو قبيح عند أهل النظر ، فيلزم التعارض والمصير إلى الترجيح. وحينئذ نقول : إن سبق من المعترض تسليم مناسبة كلّ من الوصفين لم يسمع منه منع مناسبة المستبقى بعد بيان المستدلّ نفي مناسبة المحذوف ؛ لكونه مانعا لما سلّمه. وإن لم يسبق منه ذلك ، فللمستدلّ

ص: 486


1- كذا في النسختين. والأولى : « من الشقّين ».
2- أي وجود الطريق فرع وجود الحصر والحذف.
3- أي الحصر.
4- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 289 و 290.

أن يرجّح سبره بموافقته لتعدية الحكم ، وموافقة سبر المعترض للمقصود ، والتعدية أولى منه ؛ ليعمّ الحكم ويكثر الفائدة. هذا ما ذكروه (1).

وأنت بعد الإحاطة بما تقدّم تعلم فساد أصل دليلهم على السبر وغيره من الطرق ، وما ذكروه أيضا في بيان شقّيه (2).

أمّا [ الشقّ ] الأوّل : فلأنّا نمنع التعليل في جميع الأحكام ، وإلاّ لزم الدور ، كما تقدّم (3) ، والإجماع عليه لم يثبت ، كيف؟! والأشاعرة منعوا منه (4) ، والآية (5) لا تفيد العموم ، والغلبة لا تفيد أزيد من ظنّ لا ينتهض حجّة لتأسيس الأحكام. ومع تسليم ذلك كلّه يجوز أن يكون العلّة غير الأوصاف المحصورة.

وأمّا [ الشقّ ] الثاني : فلأنّ ما ذكر في بيان الشقّ الأوّل - وهو الحصر - لا يثبته ؛ لأنّ الاستقراء على فرض تحقّقه ليس بحجّة ، والتمسّك بالأصل في أمثال المقام ليس بصحيح.

وما ذكر في بيان الشقّ الثاني إن صحّ ، فلا يضرّنا ؛ لأنّا نقول أيضا بعدم علّيّة المحذوف. هذا.

والمناط عندنا في إبطال هذه الطرق ما ذكرناه مرارا.

ثمّ إنّك بعد الإحاطة بالأمثلة المذكورة هنا وفي تنقيح المناط لا يخفى عليك كيفيّة التفريع.

فصل [14]
اشارة

ومن طرق الاستنباط - كما اشير إليه (6) - الطرد والعكس ، أي الدوران. وقد عرفت (7) أنّه الاستلزام في الوجود والعدم - أي كون الوصف بحيث يحدث الحكم بحدوثه وينعدم بعدمه - وهو قد يتحقّق في محلّ واحد ، كما في الإسكار والتحريم في العصير وقد يقع في

ص: 487


1- حكاها الفخر الرازي في المحصول 5 :1. 220 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 289 - 293 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 128 - 137.
2- حكاها الفخر الرازي في المحصول 5 :1. 220 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 289 - 293 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 128 - 137.
3- في ص 484.
4- حكاه عنهم العلاّمة في تهذيب الوصول : 254.
5- تقدّمت في ص 485.
6- في ص 438.
7- في ص 424.

محلّين ، كما في الكيل وتحريم التفاضل ؛ فإنّ أحد جزءيه - وهو الطرد - تحقّق في البرّ مثلا ، والآخر - وهو العكس - يتحقّق في الثياب مثلا.

وقد اختلف في إفادته للعلّيّة على أقوال (1) ثالثها : أنّه يفيدها ظنّا لا قطعا (2). وهو الحقّ ، إلاّ أنّ مثل هذا الظنّ لا يصلح أن يكون مؤسّسا لحكم شرعي. فعلى هذا يحكم بثبوت جميع الأحكام الدائرة مع الأوصاف في الموادّ المخصوصة التي ثبت فيها الترتيب من الشرع ، ولا يقطع بعلّيتها لها حتّى أمكن القياس عليها ، فيبطل قياس الطرد المركّب.

ثمّ لمّا كان العمل في المحالّ التي ثبت فيها الدوران بقول الشارع لما به ، فلا يتحقّق العمل بنفس الدوران ، كما لا يجوز العمل بالقياس على محالّه. هذا.

ولنا على ما اخترناه أنّ الحادث لا بدّ له من علّة ولم يظفر بعلّة غير المدار ، فبضميمة أصالة العدم يحصل الظنّ بعلّيّة المدار. وأيضا إذا وجد الدوران ولا مانع من العلّيّة من معيّة ، كما في المتضايفين ، أو تأخّر كما في المعلول ، أو غيرهما ، كما في الشرط المساوي حصل الظنّ بها ، وذلك ممّا يقضي به العادة ؛ ويؤكّده أنّه إذا دعي الإنسان باسم مغضب فغضب ، ثمّ ترك فلم يغضب وتكرّر ذلك ، علم عادة أنّه سبب الغضب ، ولا يفيد القطع بالعلّيّة ؛ لجواز عدم احتياج الحكم الدائر إلى العلّة ، أو كون العلّة غير المدار ، أو قصر علّيّته على محلّ الدوران.

واحتجّ من قال بإفادته للعلّيّة قطعا (3) بأمثال ما ذكرناه ، وهو لا يفيد أزيد من الظنّ ، كما عرفت (4).

واحتجّ من أنكر إفادته للعلّيّة مطلقا بوجهين :

أحدهما : أنّ الطرد لا يؤثّر ، والعكس لا يعتبر (5).

أمّا الأوّل ، فلأنّ الاطّراد أن لا يوجد الوصف بدون الحكم ، ووجوده بدونه هو النقض. فالاطّراد هو السلامة عن النقض ، وهو أحد مفسدات العلّة. والسلامة عن مفسد واحد

ص: 488


1- حكاها الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 330.
2- نسبه الآمدي إلى القاضي أبي بكر الباقلاني في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 330.
3- حكاه الرازي في المحصول 5 : 207 ، والآمدي عن بعض المعتزلة في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 330.
4- تقدّم آنفا.
5- قاله الغزالي في المستصفى : 315 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 330 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 257.

لا توجب انتفاء كلّ مفسد ، ولو سلّم ، فلا يصحّح علّيّته إلاّ بوجود مقتض للعلّيّة ؛ لأنّ رفع المانع وحده لا ينتهض علّة مقتضية.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الانعكاس ليس شرطا في العلّيّة ، كما يأتي ، فليس شرطا في صحّتها.

واجيب بأنّه قد يكون للمجموع أثر ليس لكلّ واحد من أجزائه ؛ فإنّ كلّ واحد من أجزاء العلّة المركّبة لا يصلح علّة ، ويحصل من اجتماعها مجموع هو العلّة (1).

وعلى ما اخترناه ، فجوابه أنّ كلّ واحد من الاطّراد والانعكاس يفيد ظنّا ما ، ومن اجتماعهما يتقوّى الظنّ.

وثانيهما : أنّ الدوران قد وجد في محالّ متعدّدة لم يثبت فيها العلّيّة ، كما في المتضايفين ، والعلّة والمعلول المتساويين ؛ لامتناع كون المعلول علّة لعلّته والمعلولين المتساويين وأجزاء العلّة المساوية لها ؛ فإنّها دائرة معها مع انتفاء العلّيّة ، وشرائط المعلول المساوية له ؛ فإنّها دائرة معه ومع علّته مع انتفاء العلّيّة ، ولوازم المعلول ؛ فإنّها دائرة معه ، ولوازم العلّة ؛ فإنّها دائرة معها ومع المعلول ، كالرائحة المخصوصة الملازمة للمسكر ؛ فإنّها توجد بوجوده وتعدم بعدمه وليس بعلّة ، والحدّ والمحدود والجسم واللون والحركة والزمان وغير ذلك (2).

واجيب بأنّ ارتفاع العلّيّة فيها لمانع ، والمبحث ما لم يوجد فيها المانع (3). هذا.

واعلم أنّ الدوران بين الوصف والحكم قد يتحقّق في محالّ متعدّدة ، كالدوران في الكيل وتحريم التفاضل ؛ فإنّه قد تحقّق كلّ واحد من جزءيه - أي الطرد والعكس - في محالّ متعدّدة ، فالأوّل قد وجد في البرّ والشعير والسمن والملح وغيرها ، والثاني قد وجد في الثياب والحيوان والأسلحة وغيرها.

وقد يتحقّق في محلّ واحد ، كما في الإسكار والتحريم ؛ فإنّ الدوران بينهما قد وجد في محلّ واحد وهو العصير. والمتحقّق في محلّ واحد إمّا أن يكون بالحدوث والزوال مرّة أو

ص: 489


1- نسبه الفخر الرازي إلى الخصم في المحصول 5 : 218 و 219 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 331.
2- قاله الفخر الرازي في المحصول 5 : 222 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 332 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 257.
3- حكاه الفخر الرازي في المحصول 5 : 210 - 216 ، وقاله الأسنوي في نهاية السؤل 4 : 125.

أكثر ؛ ولذلك يختلف مراتب الظنّ بعلّيّة المدارات ، فإنّه لو وجد في محلّ واحد بالحدوث والزوال مرّة يحصل منه ظنّ ضعيف ، وربّما لم يحصل منه شيء.

استدراك

قد دريت ممّا ذكر أنّ ما يقتضيه قواعد الإماميّة بطلان كلّ قياس طريق إثباته إحدى الطرق المذكورة (1) - وهو : قياس الإخالة ، وقياس الشبه ، وقياس السبر ، وقياس الطرد البسيط ، وقياس الطرد المركّب ، ويجمعها قياس مرجوح التأثير - وعدم صلاحيته للتقوية والتأييد ، ولكن له بعض هذه الطرق التي يمكن الاستدلال بها على حكم أوّلا ، وجعله علّة له من غير أن يجعل طريقا للقياس ، كالمناسبة.

والشبه لا يمتنع أن يجعل مؤيّدا ومرجّحا ؛ لأنّ ما يثبت بطلانه بالقاطع هو العمل بالقياس الذي كان طريق إثباته إحدى الطرق المذكورة ، لا بنفس هذه الطرق ، فإذا حصل من بعضها ظنّ بثبوت حكم أوّلا ، فلا بأس بجعله مرجّحا وإن لم يصلح أن يكون مؤسّسا للحكم.

فصل [15]
اشارة

لمّا عرفت أنّ لطريق معرفة العلّة أقساما (2) ، فيجب أن تعلم أنّ لنفسها أيضا أقساما ؛ لأنّها إمّا متعدّية ، وهي التي تتجاوز عن الأصل ، فتوجد في غيره ، كتعليل حكمه بما يشارك به غيره. أو قاصرة وهي التي لا تتجاوز عنه ، كتعليل حكمه به ، أو بما يختصّ به.

وأيضا علّة الحكم إمّا محلّه ، كتعليل حرمة الخمر بكونه خمرا عند الحنفيّة (3). أو جزؤه ، كتعليل خيار الرؤية في بيع الغائب بكونه عقد معاوضة. أو خارج عنه. والخارج إمّا وصف شرعي ، كتعليل جواز رهن المشاع بجواز بيعه. أو عرفي كتعليل عدم جواز

ص: 490


1- راجع : تهذيب الوصول : 251 ، والوافية : 237 - 239.
2- في ص 446.
3- المبسوط للسرخسي 24 : 3.

بيع الغائب بالجهالة المجتنب عنها عرفا. أو لغويّ كتعليل حرمة النبيذ بكونه مسمّى بالخمر ، كالمعتصر من العنب. أو عقليّ حقيقيّ كتعليل ربويّة البرّ بالطعم.

أو إضافيّ ، كتعليل ولاية الإجبار بالابوّة. أو سلبيّ ، كتعليل عدم وقوع طلاق المكره بعدم الرضى.

وعلى التقادير إمّا بسيطة ، كالأمثلة المذكورة ، أو مركّبة ، ولها أقسام بحسب تركيبها المتصوّر من الثنائي والثلاثي ، مثلا يمكن أن تكون مركّبة من الحقيقيّة والإضافيّة ، كتعليل جواز بيع المفلس ؛ لكونه بيعا صدر من الأهل في المحلّ. ومن الحقيقيّة والسلبيّة ، كتعليل وجوب القصاص على القاتل الذمّيّ بالقتل بغير حقّ. ومن الحقيقيّة والإضافيّة والسلبيّة ، كتعليل وجوب القصاص بالقتل بالمثقل بكونه قتلا عمدا بغير حقّ. وقس عليها غيرها.

وأيضا العلّة إمّا أن تكون وجه الحكمة ، كحفظ أوضاع الناس بشرع عدالة المفتي ، وكون الصلاة ناهية عن الفحشاء ، والخمر مورثة للبغضاء. أو غيره ، ومثاله ظاهر.

وأيضا العلّة والحكم إمّا ثبوتيان ، أو سلبيّان ، أو الحكم ثبوتي والعلّة عدميّة ، أو بالعكس ، ويسمّى التعليل بالمانع.

وأيضا العلّة قد تدفع الحكم ولا ترفعه ، كالعدّة ، فإنّها تدفع النكاح اللاحق ، ولا ترفع السابق. وقد تعكس ، كالطلاق. وقد تدفع وترفع ، كالرضاع.

وأيضا العلّة إمّا أن لا يتوقّف تأثيرها على شرط ، أو يتوقّف ، كالزنى للرجم بشرط الإحصان ، وللجلد بشرط عدمه. فهنا قد علّل بعلّة ضدّان ، لكن بشرطين متضادّين.

ولهما تقسيمات أخر لا يتعلّق بها غرض علمي.

تمهيد : [ في شروط القياس ]

للقياس شروط عند القائسين ، بعضها متّفق عليه عندهم ، وبعضها مختلف فيه بينهم. وكلّ عدّة منها يتعلّق بركن من أركانه. وها هي نذكرها في فصول ، ونشير إلى ما هو الحقّ على قواعد كلّ من الفريقين ، ونبدأ بشروط العلّة.

ص: 491

فصل [16]
اشارة

قد ذكروا للعلّة شروطا كثيرة (1).

فمنها : أن تكون بمعنى الباعث ، أي مشتملة على حكمة مقصودة للشارع من تحصيل مصلحة أو تكميلها ، أو دفع مفسدة أو تقليلها ، فالأمارة المجرّدة - أي الوصف الطرديّ الذي لا يناسب ولا يشابه - لا تصلح للعلّيّة.

واحتجّوا عليه بأنّ العلّة لو كانت أمارة لم يكن لها فائدة سوى تعريف الحكم ، فيلزم أن يكون الحكم متفرّعا عليها ، مع أنّ العلّة متفرّعة عن الحكم ؛ لكونها مستنبطة منه ؛ إذ لو كانت منصوصة أو مجمعا عليها لعرف الحكم بالنصّ أو الإجماع لا بها ، فيلزم الدور (2).

واجيب عنه ، بأنّ العلّة تتفرّع على حكم الأصل ، والمتفرّع على العلّة إنّما هو الحكم في الفرع ، فلا دور (3).

أقول : ما يقتضيه النظر هو أنّ الأمارة - أي الوصف الطرديّ - لعدم ظهور مناسبته للحكم لا يكون علّيّته معلومة لنا ، إلاّ أنّه لا يمتنع أن يكون علّة شرعا ؛ لأنّ ظهور المناسبة لكلّ أحد لا يشترط في علّيّة الوصف ، كما اشير إليه. نعم ، يلزم ظهورها لمن يجعله علّة ، فيمكن أن يكون وصف مشتملا على حكمة يكون ذلك معلوما للشرع غير معلوم لنا ، وحينئذ إذا تحقّق الطرد - أي ثبوت الحكم في أكثر المحالّ التي وجد فيها الوصف - يحصل الظنّ بعلّيّته له ، كما تقدّم (4) ، فعلى ما ذهب إليه العامّة من العمل بالأقيسة الظنّيّة (5) يتأتّى قياس غيرها - ممّا وجد فيه هذا الوصف - عليها وإن لم يثبت فيه ترتّب الحكم على الوصف من الشرع. وأمّا على ما ذهبنا إليه ، فالمناط النصّ على العلّيّة (6) ، سواء كانت المناسبة معلومة أو لا ؛ فالأمارة

ص: 492


1- راجع : المحصول 5 : 127 ، والإحكام في أصول الأحكام 3 : 215 - 221 ، وتهذيب الوصول : 266.
2- قاله المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 4 : 58 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 224.
3- الجواب للإسنوي في نهاية السؤل 4 : 58.
4- في ص 488.
5- راجع : المعتمد في أصول الفقه 2 : 215.
6- راجع : معارج الاصول : 185 ، وتهذيب الوصول : 248 ، والوافية : 237.

لا تصلح للعلّيّة ، لا لعدم ظهور المناسبة ، بل لعدم النصّ من الشرع.

ومنها : أن تكون وصفا ظاهرا منضبطا في نفسه ، ضابطا للحكمة ، أي جلب المصالح ودفع المفاسد. ولا يجوز أن تكون حكمة مجرّدة مطلقا. هذا ما ذهب إليه الأكثر (1). وقيل : يجوز مطلقا (2). وقيل : يجوز إذا كانت ظاهرة منضبطة ، ولا يجوز إذا كانت خفيّة أو مضطربة (3).

احتجّ الأكثر بأنّ الحكمة المجرّدة إمّا خفيّة ، كالرضى في التجارة. أو غير منضبطة ، كالمشقّة ؛ فإنّها ذات مراتب ؛ إذ تختلف بالأشخاص والأحوال ، وليس كلّ مرتبة منها مناطا ، ولا يمكن تعيين ما هو المناط ، والوقوف على المناط في الامور الخفيّة وغير المنضبطة ممّا يتعذّر ، والتكليف به من غير التعيين يؤدّي إلى عسر وحرج ، مع أنّ المألوف من عادة الشرع ردّ الناس إلى المظانّ الجليّة ، ولذا نيط الرضى في التجارة بصيغ العقود ؛ لكونها ظاهرة ضابطة له ، والمشقّة بما يلازمها ويضبطها وهو السفر.

وبأنّه لو جاز التعليل بالحكمة المجرّدة ، لوقع من الشارع ؛ لأنّ ربط الحكم بما هو المقصود الأصلي أحرى من ربطه بمظنّة ، واللازم منتف بالاستقراء.

وبأنّه لو جاز ، لم يعتبر الشرع المظانّ إذا خلت عن الحكمة ، واعتبر الحكمة وإن لم يتحقّق معها مظنّتها ؛ إذ تحقّق المباينة لا يضرّه عدم المظنّة ، واللازم منتف ؛ لأنّه اعتبر السفر وإن خلا عن المشقّة ، كسفر الملك المرفّة ، ولم يعتبر المشقّة إذا لم تحصل من السفر ، كحضر أولي الصنائع الشاقّة من الحمّالين والملاّحين (4).

والجواب عن الأوّل : منع الحصر ؛ فإنّ بعض الحكم ظاهرة منضبطة. ولو سلّم فنقول ، تعيين المناط من الحكمة غير المنضبطة ممكن للشارع ، ولو لم يمكن ، لم يمكن في

ص: 493


1- حكاه الفخر الرازي في المحصول 5 : 287 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 224 و 225 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 267 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 260 - 262.
2- قاله الفخر الرازي في المحصول 5 : 287.
3- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 224.
4- تقدّم آنفا.

الأوصاف أيضا ؛ لأنّها أيضا ذوات مراتب مختلفة ، فكما أنّ المشقّة ذات مراتب ، فكذلك السفر ، وكما يمكن تعيين ما هو المناط منه ، فكذلك يمكن تعيين ما هو المناط منها ، ولو جاز التعليل بمطلق الوصف وإحالة المناط إلى الفهم العرفي ، لجاز ذلك في الحكمة أيضا.

وبالجملة ، لا فرق بين الوصف والحكمة ، فلو لم يجز التعليل بالحكمة ، لم يجز بالوصف المشتمل.

وعن الثاني : منع انتفاء اللازم ؛ لوجود التعليل بالحكمة في صور كثيرة ، كالتوسّط في إقامة الحدّ بين المهلك وغير الزاجر ، وكالفرق بين العمل اليسير والكثير.

وعن الثالث : أنّا لا نمنع اعتبار مظنّة الحكمة ، بل نقول : كما يجوز اعتبار المظنّة يجوز اعتبار الحكمة أيضا. وحينئذ نقول في المحالّ التي اعتبر الشرع فيها مظنّة الحكمة : لا يجب اطّرادها بمعنى إذا وجدت وجدت الحكمة ، ولا انعكاسها ، بمعنى إذا انتفت انتفت الحكمة ، كما يأتي (1).

وبما ذكر ظهر أنّه يجوز تعليل الحكم بالحكمة إذا كانت ظاهرة بنفسها ، منضبطة ؛ وبمرتبة معيّنة منها إذا كانت غير منضبطة ؛ لأنّا نعلم أنّها هي المقصودة واعتبر المظنّة لأجلها لمانع خفائها واضطرابها ، وبعد زوال المانع أو إزالتها يجوز اعتبارها قطعا ، فيجوز التعليل بها بالنصّ على قواعدنا ، وبها وبالاستنباط على قواعد العامّة.

ومنها : أن لا تكون مجرّد محلّ الحكم ولا جزءا منه. هذا ما ذهب إليه بإطلاقه بعضهم (2). وقيل بجواز التعليل بهما مطلقا (3).

والحقّ قول ثالث ، وهو - بعد التذكّر بأنّ العلّة إمّا متعدّية تتعدّى الأصل فتوجد في غيره ، أو قاصرة لا تتعدّاه ، وأنّ الجزء إمّا مختصّ أو محمول أعمّ وهو الذي يسمّيه المتكلّمون صفة نعتيّة - عدم جواز التعليل بالمحلّ ، وبالجزء المختصّ في المتعدّية. وجواز

ص: 494


1- يأتي في ص 506.
2- حكاه الآمدي عن الأكثر في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 223.
3- حكاه الآمدي في المصدر وقال فيه : « ذهب آخرون إلى جوازه ».

التعليل بالمحمول الأعمّ فيها ، سواء كانت منصوصة ، أو مستنبطة إن صحّ التعليل بها. وعكس ذلك في القاصرة بناء على صحّة التعليل بها.

أمّا الأوّل ، فلاستحالة وجود خصوصيّة المحلّ وجزئه المختصّ في الفرع ، فلا يتصوّر تعدّيهما ، بخلاف جزئه الأعمّ ؛ فإنّ تعدية وجوده في الفرع جائزة.

وأمّا الثاني ، فلعدم المانع ؛ فإنّه لا مانع أن يقول الشارع : حرّمت الخمر لكونه خمرا ، ولا أن تعلّل حرمة الربا في النقدين بجوهريهما ، أي بكونهما ذهبا وفضّة ، وهو نفس المحلّ ، أو بجوهريّتهما ، أي كونهما جوهرين متعيّنين لثمنيّة الأشياء ، وهو لاختصاصه بهما وصف قاصر ، والجزء الأعمّ للزوم تعديته ووجوده في الفرع لا يجوز أن يكون علّة قاصرة.

لا يقال : لو كان المحلّ علّة لزم أن يكون الشيء الواحد فاعلا وقابلا.

لأنّا نقول : العلّة هنا ليست بمعنى الفاعل المؤثّر ، بل بمعنى المعرّف والباعث.

ولو سلّم ، فنقول : الحكم ليس حالاّ في المحلّ حقيقة بل متعلّق به.

تتمّة : اختلفوا في جواز التعليل بالقاصرة وعدمه بعد اتّفاقهم على جوازه إن كانت منصوصة أو مجمعا عليها (1).

والحقّ الجواز إذا صحّ التعليل بالمستنبطة ؛ وفاقا للأكثر ، وخلافا للحنفيّة (2).

لنا : عدم المانع - كما اشير إليه (3) - ووجود المقتضي ، وهو حصول الظنّ بأنّ الحكم لأجلها ، لأنّه المفروض ، وهو المعنيّ بالصحّة بدليل صحّة النصوص عليها ؛ لأنّه لا يفيد أزيد من الظنّ.

واستدلّ عليه أيضا بأنّ التعدية توقّفت على العلّيّة ، فلو توقّفت هي عليها لزم الدور (4).

ص: 495


1- راجع الإحكام في أصول الأحكام 3 : 238.
2- حكاه الفخر الرازي في المحصول 5 : 312 ، والآمدي عن أكثر الفقهاء والمتكلّمين في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 238.
3- تقدّم آنفا.
4- حكى الاستدلال والجواب الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 239 ، والفخر الرازي في المحصول 5 : 312 و 313.

واجيب عنه بأنّ التعدية تطلق على وجود الوصف في غير الأصل ، ووجود الحكم به في غيره ، والموقوف على العلّيّة هو الثاني ، وما يتوقّف العلّة عليه هو الأوّل ، فلا دور. ولو سلّم ، فهو دور معيّة كما في المتضايفين ، لا دور تقدّم ؛ لأنّ حاصله أنّ العلّيّة والتعدية متلازمتان ، ولا ينفكّ إحداهما عن الاخرى ، لا أنّ إحداهما تثبت أوّلا ثمّ يترتّب عليها الاخرى.

احتجّ المانع بأنّ العلّة القاصرة لا يترتّب عليها فائدة ؛ لأنّ فائدة التعليل إثبات الحكم ، وهو غير متصوّر في القاصرة ؛ لأنّ ثبوت الحكم في الأصل بالنصّ أو الإجماع ؛ لأنّه الفرض ، ولا فرع بالفرض أيضا ، لتمكّن القياس ، ويتأتّى إثبات الحكم فيه (1).

والجواب بالنقض والحلّ. أمّا النقض ؛ فبالقاصرة إذا ثبت بنصّ أو إجماع ؛ فإنّ هذا الدليل يجري فيها بعينه مع جوازه وفاقا. وأمّا الحلّ ، فهو أنّ الفائدة الاطّلاع على الحكمة والباعث.

فظهر بما ذكر أنّ التعليل بالقاصرة جائز على قواعد الفريقين (2) ، إلاّ أنّه يمتنع القياس حينئذ ، ولا يصحّ التعليل بها إذا كانت مستنبطة عندنا ، لا لكونها قاصرة ، بل لكونها مستنبطة.

ومنها (3) : أن لا تكون عدميّة في الحكم الثبوتي ، كما ذهب إليه بعضهم (4) ، والأكثر على خلافه.

والتفصيل هنا : أنّه لا خلاف في تعليل الحكم الوجودي بالوجودي ، كالتحريم بالإسكار ، والعدمي بالعدمي ، كعدم نفاذ التصرّف بعدم العقل. وأمّا تعليل الوجودي بالعدمي ، ففيه الخلاف ، والأكثر على جوازه (5). وقيل بالمنع (6).

وأمّا عكسه - أي تعليل العدمي بالوجودي - وهو التعليل بالمانع ، كعدم نفاذ التصرّف بالإسراف ، وعدم صحّة البيع بالجهل بالمبيع. ولا خلاف في جوازه أيضا إلاّ أنّه اختلف في

ص: 496


1- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 240 ، والفخر الرازي في المحصول 5 : 313.
2- راجع : المحصول 5 : 312 و 313 ، وتهذيب الوصول : 260 ، ونهاية السؤل 4 : 276.
3- أي شروط العلّة.
4- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 228.
5- راجع المصادر المذكورة آنفا.
6- قاله الفخر الرازي في المحصول 5 : 324.

أنّه هل يتوقّف على وجود المقتضي ، أم لا؟ وقد وقع هذا الخلاف في تعليل العدمي بانتفاء الشرط أيضا ، كتعليل عدم صحّة البيع بعدم رؤية المبيع. فهنا مقامان :

[ المقام ] الأوّل : في تعليل الوجودي بالعدمي.

والحقّ فيه ما ذهب إليه الأكثر (1) ؛ لأنّا نرى أنّ العدميّات تكون مؤثّرة في بعض الأفعال الوجوديّة ؛ فإنّ عدم امتثال العبد أمر سيّده يكون باعثا على مؤاخذته.

والجواب بأنّ الباعث هو الكفّ عن الامتثال وهو أمر ثبوتي محقّق (2) ، ضعيف ؛ فإنّ تأويل جميع الأعدام المقيّدة بالامور الثبوتيّة ممكن ، ففتح هذا الباب يؤدّي إلى رفع العدميّات رأسا.

احتجّ الخصم بأنّ العلّة يجب أن تتميّز ، والأعدام لا تتميّز.

وبأنّه لا يجب على المجتهد سبرها ، مع أنّه يجب عليه سبر كلّ وصف يصلح أن يكون علّة.

وبأنّ العلّيّة وجوديّة ؛ لأنّها نقيض اللاعلّيّة المحمولة على العدم ، فيمتنع اتّصاف المعدوم بها.

وبأنّه لم يسمع أحد يقول : العلّة كذا ، أو عدم كذا.

وبأنّ العدم لو كان علّة لحكم وجودي لكان مناسبا له ، أو مظنّة مناسب ؛ لأنّ العلّة بمعنى الباعث ، فهي إمّا نفس الباعث وهو المناسب ، أو ما يشتمل عليه وهو مظنّة. واللازم باطل ؛ لأنّ العدم المطلق لا يكون مناسبا ولا مظنّة ؛ لاستواء نسبته إلى الجميع ، والعدم المخصّص بأمر يضاف إليه هو كذلك ؛ لأنّ ثبوت الحكم مع وجود ذلك الأمر إن كان منشأ لمصلحة ، فعدمه لا يكون مناسبا له ولا مظنّة ؛ لاستلزامه فوات تلك المصلحة ، وإن كان منشأ لمفسدة ، فيكون هذا الأمر مانعا وعدمه عدم المانع ، وهو لا يصلح لأن يكون علّة بمعنى الباعث أو ما يشتمل عليه ، بل لا بدّ معه من مقتض (3).

ص: 497


1- تقدّم آنفا.
2- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 231.
3- قاله الفخر الرازي في المحصول 5 : 296 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 296.

هذا إذا كان وجود هذا الأمر - إذا ترتّب عليه الحكم - منشأ لمصلحة أو لمفسدة حتّى يكون عدمه في بادئ الرأي مناسبا ، فيحتاج نفيه إلى البيان المذكور.

وإن لم يكن كذلك ، فإمّا أن يكون وجود هذا الأمر نقيضا للمناسب حتّى يلزم أن يكون عدمه مظنّة المناسب ، أي مستلزما لوجوده ، أو لا.

فعلى الأوّل لا يصحّ تسليم تحقّق اللازم المذكور ، أي جعل عدم نقيض المناسب مظنّة المناسب ؛ لأنّ المناسب إن كان ظاهرا تعيّن للعلّيّة بنفسه ، ولا يحتاج إلى مظنّة ، وإن كان خفيّا فنقيضه خفيّ ، فعدم النقيض خفيّ أيضا ، فلا يصلح أن يكون مظنّة ؛ لأنّ الخفيّ لا يعرّف الخفيّ.

وعلى الثاني كان وجود ذلك الأمر كعدمه بالنسبة إلى الحكم ، فالمناسب يحصل عند وجوده ، كما يحصل عند عدمه ، فيكون وجوده وعدمه سواء في تحصيل المصلحة ؛ لأنّ المفروض أنّ وجوده ليس منشأ لمصلحة ولا لمفسدة ، فلا يكون عدمه خاصّة (1) مظنّة للمصلحة ، فلا يصلح أن يكون علّة.

مثاله : إذا قيل في المرتدّ : يقتل لعدم إسلامه ، فذلك إمّا لأنّ قتله مع الإسلام يشتمل على مصلحة ، فعدمه يستلزم فواتها ، فلا يكون مناسبا. أو على مفسدة ، فغايته أنّ الإسلام مانع حينئذ للقتل ، فعدمه ليس باعثا له ، بل لا بدّ من وجود المقتضي له ، وإن لم يشتمل على شيء منهما ، فإمّا أن يكون الإسلام منافيا لمناسب القتل وهو الكفر مثلا ، أو لا.

فعلى الأوّل إن كان الكفر ظاهرا ، فهو العلّة بالحقيقة دون عدم الإسلام. وإن كان خفيّا ، فالإسلام كذلك فعدمه أيضا كذلك ، فلا يصلح أن يكون معرّفا للكفر.

وعلى الثاني لا يكون الكفر مناسبا ، بل المناسب أمر آخر يجتمع مع الإسلام وعدمه ، فهما سواء في تحصيل المصلحة ، فلا يكون عدمه علّة.

ولا يخفى أنّ هذا الدليل مذكور في كتب القوم بتقريرات مختلفة ، وما ذكرناه أبعدها عن الفساد ، ومع ذلك فاسد ؛ لأنّه - مع عدم تماميّة ورود ما يأتي عليه - مختلّ النظام ؛ لأنّه جعل وجود الأمر المذكور فيه منشأ مصلحة أو مفسدة ، أو منافيا لمناسب أو لا ، وهذه أربعة

ص: 498


1- في « ب » : « خاصّيّة ».

تقادير ، وبيّن استحالة كون عدمه مناسبا على الأوّلين ، ومظنّة للمناسب على الأخيرين من غير ظهور علّة للتخصيص ، مع أنّه كان اللازم أن يبيّن استحالة كونه مناسبا ومظنّة على التقادير الأربعة. وأيضا لا تقابل بين منشأ المفسدة والمنافي للمناسب ؛ فإنّه يمكن أن يشتمل القتل مع الإسلام على مفسدة ، مع كون الإسلام منافيا للكفر الذي هو المناسب. فلا يصحّ جعل أحدهما قسيما للآخر ، بل ربّما قيل : لا يظهر فائدة تقييد التقسيم إلى كون وجوده منافيا لمناسب أو لا (1) بما إذا لم يكن وجوده منشأ لمصلحة أو لمفسدة ، وجعله مقابلا له. ويمكن أن يقال : الفائدة في ذلك بيان استواء وجود ذلك الأمر وعدمه في تحصيل المصلحة على التقدير الآخر ، فتأمّل (2). هذا.

والجواب عن الأوّل : أنّ الأعدام المخصّصة متميّزة ؛ فإنّ عدم اللازم متميّز عن عدم الملزوم.

و [ الجواب ] عن الثاني : منع عدم لزوم الفحص عن الأوصاف العدميّة على المجتهد. ولو سلّم ، فنقول : سقط عنه سبرها لتعذّره ؛ نظرا إلى عدم تناهيها.

و [ الجواب ] عن الثالث : النقض بالعدمي إذا علّل به عدميّ آخر ؛ فإنّه جائز وفاقا ، مع أنّه يقتضي عدم جوازه ، والمعارضة بأنّ العلّيّة لو كانت ثبوتيّة لكانت من عوارض العلّة ، فتكون ممكنة مفتقرة في ثبوتها للعلّة إلى علّة ، فعلّيّة العلّة لتلك العلّة أيضا لا بدّ لها من علّة وهكذا ، فيتسلسل.

و [ الجواب ] عن الرابع : أنّ التعبير عن العلل العدميّة بعبارات وجودية ، وعن العلل الوجوديّة بعبارات عدميّة واقع ؛ فإنّه لا فرق بين أن يقال : علّة قتل المرتدّ كفره أو عدم إسلامه ، وعلّة تصرّف الوليّ في مال مولاّه الجنون أو عدم العقل ، وعلّة الإجبار البكارة أو عدم الإصابة ، فعدم السماع من أحد يقول : العلّة كذا ، أو عدم كذا ممنوع.

و [ الجواب ] عن الخامس : أنّا نختار أنّ ذلك الأمر الذي يضاف إليه العدم - كالإسلام في

ص: 499


1- متعلّق ب- « تقييده ».
2- لمزيد الاطّلاع راجع نهاية السؤل 4 : 265 - 270.

المثال - ينافي المناسب ، ولا يلزم ما ذكر من كون عدم نقيض المناسب - كعدم الإسلام - مظنّة المناسب ؛ لجواز كونه نفس المناسب بأن يتعلّق به القتل ، ويحصل بذلك المصلحة المقصودة وهو التزام الإسلام ، ثمّ نختار أنّ ذلك الأمر لا ينافي المناسب الوجودي بل يجامعه ، ولا يلزم ما ذكر من استواء وجوده وعدمه في تحصيل المصلحة ، بل ترتّب الحكم ، كالقتل على عدمه - أي عدم الإسلام - يستلزم المصلحة أي التزام الإسلام ، وعلى وجوده لا يستلزمها ، كما لا ينافيها.

وأيضا يجوز أن يكون الوجود منشأ لمصلحة والعدم منشأ لمصلحة أرجح ، فيكون مناسبا أو مظنّة ، وأن يكون أحد المتقابلين خفيّا دون الآخر. وإنّما يمتنع ذلك في التقابل ، وأن يشتمل عدم المانع على مصلحة فيكون علّة. وأنّ ظهور المناسب لا ينافي أن يكون عدم المنافي مظنّة ، غايته أنّه اجتماع العلّتين. هذا.

وعندنا لمّا كان الحجّة العلّة المنصوصة ، فكلّ ما نصّ عليه يصحّ أن يكون علّة ، سواء كان وصفا عدميّا أو ثبوتيّا.

تتمّة : الإضافات المخصوصة عدميّة ؛ لأنّها مركّبة من مطلق الإضافة ومن قيد الخصوصيّة ، وكلاهما عدميّان.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّه لو كان ثبوتيا ، لزم التسلسل في الإضافات.

وأمّا الثاني ، فلأنّه صفة للإضافة ، فلو كان ثبوتيّا ، لزم قيام الموجود بالمعدوم. وإذا ثبت ذلك فمن منع التعليل بالامور العدميّة ، منع من التعليل بالامور الإضافيّة ، ومن سوّغ هناك ، سوّغ هنا.

المقام الثاني (1) : في أنّ تعليل الحكم العدميّ بوجود المانع أو انتفاء الشرط ، هل يتوقّف على وجود ما يقتضي ثبوت الحكم ، أم لا؟

ص: 500


1- تقدّم المقام الأوّل في ص 497.

الحقّ عدم التوقّف ؛ لأنّهما إذا أثّرا في عدم الحكم مع وجود المقتضي للحكم ، فتأثيرهما فيه بدونه أولى ؛ لعدم المعارض.

احتجّ الخصم بأنّه إذا لم يوجد مقتض ، فعدم الحكم لذلك ، لا لوجود المانع ، أو انتفاء الشرط ، وبأنّ التعليل المذكور يتوقّف على وجود المقتضي عرفا ؛ فإنّ من قال : الطير لا يطير ؛ لأنّه في القفص ، كان تعليله موقوفا على العلم بحياة الطير وقدرته ؛ إذ بدونه لا يصحّ التعليل بالقفص (1).

والجواب عن الأوّل : أنّ إسناده إلى عدم المقتضي لا يمنع من إسناده إلى وجود المانع ، أو انتفاء الشرط ؛ فإنّه يجوز أن يكون لحكم أدلّة متعدّدة.

و [ الجواب ] عن الثاني : منع التوقّف عرفا ؛ فإنّ العرف يمنع الحضور إلى سبع مرئيّ في الطريق وإن لم يخطر ببالهم سلامة أعضائه.

ومنها (2) : أن لا تتأخّر عن حكم الأصل ، كتعليل إثبات الولاية للأب على الصغير الذي عرض له الجنون بالجنون ؛ فإنّ الولاية ثابتة قبل عروض الجنون ، وكتعليل نجاسة عرق الكلب باستقذاره ؛ فإنّ الاستقذار إنّما يحصل بعد الحكم بنجاسته.

واحتجّوا عليه بأنّ العلّة إمّا بمعنى الباعث ، ويلزم من تأخّرها ثبوت الحكم بغير باعث ، أو بباعث غير العلّة المتأخّرة. أو بمعنى الأمارة - أي المعرّف - فيلزم تعريف المعرّف ؛ لأنّ المفروض معرفة الحكم قبل ثبوت العلّة (3).

وفيه نظر ؛ لجواز أن تكون بمعنى الباعث ومتأخّرة في الوجود ، كما هو شأن الغاية ، وبمعنى الباعث ومعرّفة في الفرع ، وما عرّف بالنصّ هو الحكم في الأصل. فالحقّ جواز كون العلّة متأخّرة.

ص: 501


1- حكاه الفخر الرازي في المحصول 5 : 326.
2- أي شروط العلّة.
3- قاله الغزالي في المستصفى : 327 ، والفخر الرازي في المحصول 5 : 361 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 264 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 316 - 318.

ومنها : أن لا تعود على الأصل بالإبطال ، أي لا يلزم منها إبطال الحكم المعلّل بها. وإنّما يتصوّر ذلك في حكم ثبت من الشرع من غير نصّ على علّته ، واستنبطت له علّة يلزم منها إبطال هذا الحكم ، فهذا الشرط يختصّ بالعلّة المستنبطة (1) ، فهو يتأتّى عند العامّة لا عندنا. مثاله قال عليه السلام : « في أربعين شاة شاة » (2). وعلّلوه بدفع حاجة الفقراء ، فجوّزوا قيمتها ، فيرجع هذا التعليل إلى عدم وجوب الشاة وهو إبطال للحكم ، فهو باطل (3).

قيل : فيه نظر ؛ لأنّه يرجع إلى الوجوب التخييري ، فلا يلزم إبطال الوجوب مطلقا (4).

وهو كما ترى.

واحتجّوا عليه بأنّ الحكم أصل التعليل ؛ لأنّه فرع ثبوته ، وبطلان الأصل يوجب بطلان الفرع ، فلا يجتمع صحّته (5) مع بطلانه ، فكلّ علّة استنبطت من حكم ولزم منه بطلان ذلك الحكم فهو باطل (6).

وممّا يتفرّع عليه عدم جواز الحطّ عن المكاتب عندهم بدلا عن الإيتاء (7) بالمأمور به في قوله تعالى : ( وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ ) (8) ، مع أنّهم جعلوا علّة الإيتاء بالاستنباط الرفق ، وهو في الحطّ أكثر من الإعطاء ، ثمّ الردّ (9) ؛ لأنّ هذا التعليل أفضى إلى عدم وجوب إعطاء مال اللّه مع كونه مأمورا [ به ](10) ، وهو عندنا واجب مع حاجة المكاتب ، ووجوب حقّ كالزكاة على المولى ، وإلاّ فمستحبّ.

ص: 502


1- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 267 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 302.
2- سنن أبي داود 2 : 100 ، ح 1572 ، والكافي 3 : 534 ، باب صدقة الغنم ، ح 1.
3- قاله الأسنوي في نهاية السؤل 4 : 302 و 303.
4- حكاه المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 4 : 302 و 303 ، وقاله ابن قدامة في المغني 4 : 51 و 52 ، الرقم 412.
5- أي صحّة التعليل.
6- قاله المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 4 : 302 - 304 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 267 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 302 - 308.
7- في « ب » : « الإتيان ».
8- النور (24) : 33.
9- راجع التفسير الكبير 12 : 219 ، ذيل الآية 33 من النور (24).
10- أضفناه للضرورة.

ومنها (1) : أن لا تخالف نصّا أو إجماعا أو دليلا آخر راجحا عليه (2). وهذا ظاهر.

ومنها : أن لا يعارض المستنبطة في الأصل مستنبطة اخرى تقتضي نقيض حكمها ، وكانت راجحة عليها ، أو مساوية ممتنعة التخصيص. فمع رجحان الاخرى يصحّ التعليل بها دون الاولى ، ومع التساوي لا يصحّ التعليل بشيء منهما (3).

وقيل : يشترط في صحّة القياس أن لا يعارضها علّة اخرى في الفرع أيضا ؛ فإنّه لو استنبطت في الفرع علّة اخرى راجحة أو مساوية تقتضي خلاف حكمها بالقياس إلى أصل آخر ، لأبطلت حكم الاولى.

واجيب بأنّه غير مستقيم ؛ لأنّه لا يبطل شهادتها.

وقيل : المعارضة الراجحة تبطل حكمها دون المساوية ؛ لأنّها لا تبطل حكمها ، وإنّما يحوج إلى الترجيح وهو دليل الصحّة ، فالشرط أن لا يعارضها في الفرع اخرى راجحة عليها.

والتأمّل يعطي عدم الفرق في ذلك بين الأصل والفرع ، ثمّ تخصيص (4) هذا الشرط بالمستنبطة ، لأنّ العلّيّة في المنصوصة لا تنتقل إلى الاخرى ، ولا إلى المجموع وفاقا ، بل المناط ما نصّ عليه.

ومنها : أن لا يكون دليلها متناولا لحكم الفرع بعمومه أو بخصوصه (5).

مثال الأوّل : ما يقال : الذّرة ربويّة ؛ قياسا على البرّ بجامع الطعم ، فيبطل القياس بأنّ قوله عليه السلام : « لا تبيعوا الطعام بالطعام » (6) دلّ على ربويّة كلّ ما له طعم ؛ لأنّ ترتيب الحكم على

ص: 503


1- أي من شروط العلّة.
2- ذكره الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 267.
3- راجع الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 3 : 267 و 268.
4- عطف على « عدم » المنصوب.
5- قاله الفخر الرازي في المحصول 5 : 361 ، والمطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 4 : 314 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 269 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 312 - 314.
6- كنز العمّال 4 : 185 ، ح 10079.

الوصف يفيد علّيّته له ، فهو يتناول بعمومه الذّرة.

ومنه ما يقال : النبّاش يقطع ؛ لأنّه سارق كالسارق من الحيّ ، فيبطل بأنّ اللّه تعالى رتّب القطع على السرقة بفاء التعقيب في قوله : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ) (1) ، فدلّ على أنّه المقتضي للقطع ، وهو يقتضي ثبوت الحكم في الفرع بالنصّ ؛ لأنّ ثبوت العلّة بعد ثبوت الحكم (2).

ومثال الثاني ما يقال : القيء ينقض الوضوء ؛ قياسا على الخارج من السبيلين بجامع الخروج والنجاسة ، فيبطل بأنّ قوله عليه السلام : « من قاء أو رعف أو أمذى فليتوضّأ » (3) دلّ على أنّ خروج القيء بخصوصه علّة لنقض الوضوء (4).

واستدلّوا عليه بأنّه إذا أمكن إثبات الحكم في الفرع بالنصّ ، كما يمكن إثباته به في الأصل ، فالعدول إلى القياس المحوج إلى أعمال متعدّدة تطويل بلا فائدة.

والحقّ أنّ ذلك مغالطة ؛ لأنّ إثبات الحكم في الفرع بالقياس طريق ، كما أنّ إثباته فيه بالنصّ طريق آخر ، ووجود الطرق المتعدّدة غير عزيز ، مع أنّه يمكن أن يكون دلالة النصّ على العلّيّة أظهر في نظر المستدلّ من دلالته على العموم ، وأن يكون العامّ في نظره مخصّصا. وغير ذلك من الوجوه المرجّحة للاستدلال بالقياس. فما يتناوله الدليل الدالّ على العلّيّة بعمومه أو خصوصه ، يصحّ الاستدلال عليه بمطلق القياس أيضا عند القائسين ، وبالذي نراه حجّة عندنا.

اعلم أنّ هذا الشرط يتصوّر في المنصوصة ، والإيمائيّة ، والمستنبطة. أمّا في الاوليين ، فظاهر. وأمّا في الأخيرة ؛ فلأنّه إذا قدّر أنّ قوله عليه السلام : « لا تبيعوا الطعام بالطعام » (5) لا يدلّ على العلّيّة واستنبطت علّيّة الطعم ، يكون حكمه في تناوله للذّرة كما إذا دلّ على العلّيّة. وكون العلّة استنباطيّة لا يدفع مماثلته بالعامّ المتناولة للفرع. وعلى هذا يلزم أن يكون من شروطها عندهم أن لا يتناول حكم الفرع دليل بعمومه أو بخصوصه وإن لم يدلّ على العلّيّة. والتحقيق فيه أيضا ما ذكر.

ص: 504


1- المائدة (5) : 38.
2- قاله القرطبي ونسبه أيضا إلى مالك والشافعي وأحمد وجماعة في بداية المجتهد 2 : 449.
3- كنز العمّال 7 : 492 ، ح 19932.
4- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 269 ، والقرطبي في بداية المجتهد 1 : 34.
5- تقدّم آنفا.

ومنها (1) : القطع بوجودها في الفرع.

والحقّ ، أنّه غير لازم عند العامّة لا في المنصوصة في الأصل ، ولا في المستنبطة ؛ لأنّهم يكتفون بالظنّ (2). وأمّا عندنا ، فلازم في المنصوصة التي نراها حجّة (3). وأمّا المستنبطة فهي باطلة عندنا من أصلها (4) ، فلا معنى لتقييد صحّتها بشرط.

ومنها : أن يكون دليلها شرعيّا (5) ، وإلاّ لم يكن القياس شرعيّا حيث لم يثبت بالشرع. وهذا ظاهر.

ومنها : أن لا يتضمّن المستنبطة زيادة على ما أثبته النصّ (6) أي حكما في الأصل غير ما أثبته النصّ ؛ لأنّها إنّما تعلم من الحكم الذي اثبت في الأصل ، فلو اثبت بها حكم في الأصل لزم الدور ، بخلاف المنصوصة ؛ فإنّها تعلم بالنصّ. مثلا إذا علّل حرمة بيع الطعام بالطعام متفاضلا بأنّه ربا فيما يوزن ، يلزم اشتراط التقابض ، وهو زيادة على النصّ ؛ لعدم تعرّضه له.

وبعضهم اشترط عدم الزيادة المنافية لحكم الأصل دون غيرها (7).

والتحقيق على قواعدهم اشتراط عدمها مطلقا.

ومنها : أن لا تكون وصفا مقدّرا ، كما ذهب إليه جماعة (8). والفقهاء على أنّ التعليل بالأوصاف المقدّرة جائز (9) ، بل واقع ، كتعليل حدوث الملك بالصيغة ، وهي مركّبة من حروف متتالية لا يوجد أحدها مع الآخر ، فليس لها وجود حقيقي ، مع أنّ وجود العلّة بأيّ

ص: 505


1- أي شروط العلّة.
2- راجع : الإحكام في أصول الأحكام 3 : 268 ، ونهاية السؤل 4 : 315.
3- (3 و 4) راجع تهذيب الوصول : 251.
4- (3 و 4) راجع تهذيب الوصول : 251.
5- قاله الأسنوي في نهاية السؤل 4 : 303 و 304.
6- حكاهما الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 268.
7- حكاهما الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 268.
8- قاله الفخر الرازي في المحصول 5 : 318 و 319 ، والشوكاني في إرشاد الفحول 2 : 113 ، الشروط المعتبرة في العلّة.
9- راجع : المحصول 5 : 318 و 319.

معنى كان واجب عند حدوث المعلول ، ولها وجود تقديري ، بمعنى أنّ الشرع قدّر بقاءها إلى وقت حدوث الملك ، وهو عند حدوث الحرف الأخير من الصيغة.

وغير خفيّ أنّ تصفّح جزئيّات المسائل يقوّي مذهب الفقهاء ، وقد تقدّم في بعض المباحث السابقة ما يصلح مثالا له ، ولا ضير فيه ؛ لأنّ أصل الوجود غير لازم للعلل الشرعيّة - كما عرفت (1) - فضلا عن الوجود الحقيقي.

ومنها : عدم عروض بعض مبطلات العلّيّة لها ، وهي سبعة :

[ المبطل ] الأوّل : النقض وهو وجود الوصف بدون الحكم ، ولا ريب في إبطاله لاطّرادها - أي كونها بحيث كلّما وجدت وجد الحكم - فإن كان قادحا في العلّيّة ، فالاطّراد من شروطها ، وإلاّ فلا.

وقد اختلف في قدحه وعدم قدحه لها على أقوال (2) ، ثالثها : أنّه يقدح في المستنبطة دون المنصوصة (3). رابعها : عكسه (4). وخامسها : أنّه لا يقدح حيث التخلّف لمانع أو انتفاء شرط ، ويقدح حيث التخلّف بدونهما (5).

والحقّ أنّه لا يقدح في المنصوصة مطلقا ، ويقدح في المستنبطة إلاّ إذا كان التخلّف لمانع أو انتفاء شرط.

أمّا الأوّل ، فلأنّ المنصوصة ليست بقاطعة لا في محلّ النقض ولا في غيره ، وإلاّ لم يثبت التخلّف ولا التعارض ؛ لتغاير المحلّين ، أو عدم التعارض بين القطعيّين ، والقطعيّ والظنّيّ ، فهي ظاهرة عامّة فيهما (6) ، فيثبت العلّيّة فيهما بظاهر عامّ ، فجاز تخصيصها بغير صورة

ص: 506


1- تقدّم في ص 484.
2- راجع : تهذيب الوصول : 259 ، والمحصول 5 : 237 ، والإحكام في أصول الأحكام 4 : 92.
3- قاله العلاّمة في تهذيب الوصول : 259.
4- حكاه الفخر الرازي في المحصول 5 : 237 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 259 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 145 و 146.
5- نسبه الفخر الرازي إلى الأكثر في المحصول 5 : 237 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 92 و 93 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 259 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 152 و 153 ونسبه أيضا إلى البيضاوي.
6- أي في المقيس والمقيس عليه.

النقض ؛ لأنّ كلّ دليل عامّ يجوز تخصيصه ، سواء كان المخصّص هو العلّة ، أو حكما آخر. وهذا لا يبطل حجّيّته فيما سواه ، وأمثلته كثيرة ، كمسألة العرايا (1) ، وعدم نقض الحجامة للوضوء ؛ مع أنّ كلّ خارج نجس علّة للنقض ، وضرب الدية على العاقلة ؛ مع أنّ مباشرة الجناية علّة للغرامة على المباشر ، وعدم مباشرتها علّة لعدمها ، وإيجاب صاع من التمر في لبن المصرّاة (2) ؛ مع أنّ تماثل الأجزاء علّة لإيجاب المثل ، وعدم إخراب بعض من شاقّ اللّه بيته ؛ مع أنّه تعالى جعل المشاقّة علّة لإخراب البيت في قوله : ( يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللّهَ وَرَسُولَهُ ... ) (3) ، وقس عليها أمثالها.

ويتفرّع على ما ذكر (4) عدم بطلان علّيّة الجميع فيما سوى مادّة النقض ، ولولاه لبطل العامّ المخصوص مطلقا ؛ لعدم تعقّل المفرق (5) بين الحكم المخصّص والعلّة المخصّصة ، وبطلت العلل القاطعة ، كعلّة القصاص وهو القتل العدوان ، وعلّة الجلد وهو الزنى ، وعلّة القطع وهو السرقة ، وعلّة حرمة الأكل وهو الميتة ؛ للتخلّف في الوالد ، والمحصن ، ومال الابن والغريم ، والمضطرّ. ولزم إبطال أحد الدليلين : دليل الاعتبار ، ودليل الإهدار. والجمع بينهما أصوب.

ثمّ إنّا نعلم إجمالا أنّ التخلّف في العامّ مطلقا لمانع ، أو انتفاء شرطه في الواقع إلاّ أنّا لا نعلمه بعينه.

وأمّا الثاني ، فلأنّ التخلّف في المستنبطة - على فرض صحّتها - إذا لم يكن لمانع أو انتفاء شرط ، فهو لعدم المقتضي ؛ لعدم تعقّل التخصيص فيها ، فهي ليست مقتضية ، فلا تكون علّة. بخلاف ما لو كان بهما (6) ؛ فإنّه لا يبطل علّيّتها ؛ لأنّها مقتضية حينئذ إلاّ أنّ عدم تأثيرها

ص: 507


1- العريّة - والجمع العرايا - : النخلة التي يعريها صاحبها غيره ليأكل ثمرها. انظر لسان العرب 15 :1. 50 ، « ع. ر. ا ».
2- المصرّاة من الشاء أو النوق : المحفّلة ، أي التي ترك حلبها أيّاما ليجتمع اللبن في ضرعها. انظر لسان العرب 14 : 2. « ص ر ى ».
3- الحشر (59) : 2 و 4.
4- وهو عدم كون العلّة المنصوصة قاطعة.
5- أي وجه واضح. وفي « ب » : « الفرق ».
6- أي لو كان التخلّف بسبب مانع أو انتفاء شرط.

في صورة النقض لعدم شرطه - أي رفع المانع ووجود الشرط - وهما ليسا جزءي العلّة ، فلا يبطل العلّيّة بارتفاعهما.

ثمّ التخلّف في المستنبطة إنّما يعلم بنصّ أو إجماع ، كما إذا قال الشافعي : الوضوء طهارة حكميّة فيشترط فيه النيّة ، فينتقض بإزالة النجاسة ؛ لأنّها طهارة حكميّة ولا تعتبر فيه النيّة إجماعا (1). هذا.

ولكلّ واحد من أصحاب المذاهب الخمسة حجج (2) ضعيفة تعلم اندفاعها بعد الاضطلاع بما تلوناه عليك من الحقّ الصريح ، من غير حاجة إلى التصريح.

وعلى ما اخترناه فالجواب عن النقض على نوعين :

أحدهما : ما يمنع تحقّقه. وثانيهما : ما يبيّن عدم إفساده للعلّيّة بعد تسليم تحقّقه.

أمّا الأوّل ، فعلى قسمين :

أوّلهما : منع وجود الوصف في صورة النقض ، وهو وارد وفاقا ، كما لو قال : لا زكاة في الحليّ ؛ لأنّه مال غير نام ، كثياب البذلة. فيقول المعترض : ينتقض بالحليّ المحظور ؛ لوجوب الزكاة فيه مع أنّه غير نام أيضا. فيقول المستدلّ : لا نسلّم أنّه غير نام.

ومنه ما لو قال الشافعي في جواب الناقض في مسألة الطهارة : لا نسلّم أنّ إزالة النجاسة طهارة حكمية. وهل للمعترض - حينئذ أو ابتداء - إقامة الدليل على وجوده؟

قيل : نعم ، إذ به يتحقّق انتقاض العلّة ، وهو قد انتصب لذلك ، فيجوز له أن يبيّن ما يتمّ به إبطال دليل الخصم (3).

وقيل : لا ، لأنّه انتقال من الاعتراض إلى الاستدلال ، ومن مسألة إلى اخرى قبل أن يتمّ الاستدلال عليها ؛ فإنّ المستدلّ كان بصدد إثبات الحكم في الفرع ، وحينئذ يكون بصدد إثبات عدم وجود الوصف في صورة النقض (4).

وقيل : إن لم يكن وجود الوصف في صورة النقض حكما شرعيّا ، فنعم ؛ لأنّه يكون

ص: 508


1- راجع : المحصول 5 : 237 - 259 ، وتهذيب الوصول : 259 ، والإحكام في أصول الأحكام 4 : 92 - 96.
2- راجع بداية المجتهد 1 : 8.
3- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 93 و 94.
4- قاله الفخر الرازي في المحصول 5 : 252.

تتميما لدليله لا انتقالا إلى مطلوب آخر ، وإلاّ فلا ؛ لكونه انتقالا (1).

وقيل : إن كان له طريق أولى في القدح ، فلا ، وإلاّ فنعم ؛ لأنّ الانتقال وغصب المنصب إنّما ينفيان الاستحسان ، فإذا وجد الأحسن لا يرتكبهما ، وإلاّ فلا منع (2).

والحقّ الأوّل ؛ لما ذكر. وما ذكر حجّة لباقي الأقوال لا يصلح لإثبات شيء.

وبهذا يظهر أنّ المستدلّ لو كان قد دلّ على وجود العلّة في محلّ التعليل بدليل موجود في محلّ النقض ، ونقض المعترض العلّة ، فمنع المستدلّ وجودها في محلّ النقض ، فقال المعترض : ما دللت به على وجودها ثمّة دلّ عليه هنا ، فينتقض دليلك ؛ لوجوده في محلّ النقض بدون مدلوله وهو وجود العلّة ، يسمع (3) هذا من المعترض ؛ لأنّ النقض في دليل العلّة نقض في العلّة ، وهو مقصوده. وما اشتهر بين الجدليّين من أنّه لا يسمع منه لأنّه انتقال من قدح العلّة إلى قدح دليلها (4) ، غير صحيح ؛ لأنّ الانتقال إذا توقّف المطلوب عليه لا منع فيه.

مثاله : إذا قال : من لم يبيّت صحّ صومه ؛ لأنّه أتى ما يسمّى صوما ، ودلّ على وجود الصوم بأنّه الإمساك مع النيّة وهو موجود. فانتقض المعترض بما لو نوى بعد الزوال. فقال المستدلّ : إنّه ليس بصوم. فقال المعترض : ما دللت به على وجود الصوم في محلّ التعليل - وهو ثبوت الإمساك مع النيّة في جزء من النهار - موجود في مادّة النقض. والخلاف إنّما إذا ادّعى انتقاض دليل العلّة بعينه. أمّا لو قال : يلزم إمّا انتقاض العلّة أو دليلها ، وعلى التقديرين لا يثبت العلّيّة ، لسمع وفاقا ؛ لعدم الانتقال حينئذ.

تذنيب

قد يمكن للمستدلّ أن يذكر في استدلاله قيدا يخرج به محلّ النقض ، وهو قد يكون ظاهرا ، كما إذا قال : الوضوء طهارة عن حدث ، فيفتقر إلى النيّة كالتيمّم ، فلا يرد النقض بإزالة النجاسة.

ص: 509


1- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 93.
2- حكاه الفخر الرازي في المحصول 5 : 237 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 93 و 94.
3- جواب ل- « لو كان قد دلّ ... ».
4- راجع المستصفى : 334.

وقد يكون خفيّا ، كما إذا قال : السلم عقد معاوضة ، فلا يشترط فيه التأجيل كالبيع ، فلا ينتقض بالكتابة ؛ لأنّها ليست معاوضة ، بل عقد إرفاق.

وقد يكون مقولا على معان بالتواطؤ ، أو الاشتراك ، لا يرد النقض ببعضها ويرد ببعضها الآخر. فيمكن للمستدلّ أن يقول : أردت ما لا يرد به النقض.

مثال الأوّل : كما إذا قال : الوضوء عبادة متكرّرة فيفتقر إلى النيّة كالصلاة. فلو قال المعترض : ينتقض بالحجّ ؛ فإنّه متكرّر على زيد وعمر (1). فللمستدلّ أن يقول : أردت بالمتكرّر المتكرّر في الأزمان ، لا في الأشخاص.

ومثال الثاني (2) : كما إذا قال : طلّقها ثلاثا في قرء واحد ، فلا يكون مبتدعا ، كما لو طلّقها ثلاثا برجعتين في قرء واحد. فلو قال المعترض : ينتقض بما لو طلّقها في الحيض. فللمستدلّ أن يقول : أردت بالقرء الطهر.

ثمّ القيد الذي يندفع به النقض إنّما هو الذي كان وصفا مناسبا. وحينئذ يكون علّة مستقلّة للحكم. ولو كان وصفا طرديّا فالحقّ أنّه لا يندفع به النقض ؛ لأنّ غاية ما في الباب أن يكون جزء العلّة ، فإذا انتقض أحد أجزائها وبيّن عدم تأثيره ، فلا يكون المجموع مؤثّرا. هذا.

والحقّ أنّ ذكر القيد المذكور لا يلزم على المستدلّ في متن استدلاله ، خلافا لجماعة (3).

لنا : أنّه وفى بما سئل عنه وهو دليل العلّيّة ، والنقض معارضة في الحقيقة ، ونفي المعارض ليس جزءا للدليل.

وأيضا يمكن إيراده - وإن ذكره - بأن يقول المعترض : هذا وصف طردي والباقي منتقض.

وثانيهما (4) : منع عدم الحكم في صورة النقض ، كما إذا قال في الثيّب الصغيرة : ثيّب فلا يجوز إجبارها ، كالثيّب البالغة ، فقال المعترض : ينتقض بالثيّب المجنونة ؛ فإنّه يجوز

ص: 510


1- وجه النقض أنّ الحجّ عبادة ولا يحتاج إلى النيّة.
2- أي الاشتراك اللفظي.
3- منهم : الفخر الرازي في المحصول 5 : 252 و 253 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 95 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 172 و 173.
4- أي ثاني القسمين وقد تقدّم في ص 508.

إجبارها ، فيمنع المستدلّ جواز إجبارها ، وهو وارد وفاقا. وهل يجوز للمعترض أن يدلّ على عدم الحكم؟ البحث فيه كما تقدّم في القسم الأوّل (1) خلافا ودليلا واختيارا.

وأمّا النوع الثاني ، فعلى ثلاثة أقسام :

الأوّل : إظهار المانع (2) - أي بيان وجود معارض يقتضي خلاف الحكم - كما إذا قيل : الربا يثبت في الحديد لكونه موزونا ، فينتقض بالرصاص ، فقيل : المانع البياض.

الثاني : بيان انتفاء الشرط ، كما قيل في المثال : الشرط السواد ، وهو منتف في محلّ النقض ، وهما في المستنبطة.

الثالث : بيان الاستثناء - أي تخصيصه بغير محلّ النقض - وهو في المنصوصة ، كما في مسألة العرايا وباقي الأمثلة المتقدّمة (3).

وقد أشرنا إلى أنّ التخصيص أيضا معلّل في الواقع بوجود مانع من مصلحة ، كما في العرايا وضرب الدية على العاقلة. أو دفع مفسدة ، كما في حلّ الميتة للمضطرّ. أو بانتفاء شرط ، كما إذا قيل : يحصل الملك في زمان الخيار لحصول سببه وهو البيع ، فينتقض ببيع الموقوف (4) ، فيقال : هو مستثنى ؛ لانتفاء الشرط. ولمّا لم يكن المانع أو الشرط معلوما لنا بعينه ، فيلزم أن يقدّر بأن يقال : المصلحة في العرايا - مثلا - عموم الحاجة إلى الرطب والتمر وقد لا يكون عندهم ثمن آخر ، وفي ضرب الدية على العاقلة كون أوليائه يغنمون بكونه مقتولا ؛ لأنّ شرع الدية لمصلحتهم ، فليغرموا بكونه قاتلا ، ودفع المفسدة في أكل الميتة للمضطرّ هو رفع هلاك النفس ، والشرط المنفيّ في عدم جواز بيع الموقوف كون البائع مالكا للمبيع.

فائدة : كلّ إثبات ونفي عامّين ينتقضان بدعوى النفي عن صورة معيّنة أو مبهمة ، والإثبات فيهما ، وبالعكس.

ص: 511


1- في ص 506.
2- أي إظهار المانع وانتفاء الشرط يجريان في الحكمة المستنبطة.
3- في ص 507.
4- أي الوقف.

والجواب : بيان ثبوت التخصيص (1).

[ المبطل ] الثاني (2) : عدم العكس وهو أن لا يكون العلّة منعكسة - أي (3) كلّما عدمت عدم الحكم - بل يثبت الحكم في صورة أو أكثر بدون هذه العلّة ، مثاله : الصبح لا يقصر ؛ فلا يقدّم أذانه كالمغرب ؛ فإنّ الحكم - وهو منع التقديم - ثابت فيما يقصر.

وقد اختلف في قدحه (4) للعلّيّة وعدمه على أقوال ، ثالثها : أنّه يقدح في العلل العقليّة دون الشرعيّة (5).

والحقّ أنّه إن جاز تعليل الحكم بعلّتين مختلفتين أو أكثر لم يقدح فيها ؛ لأنّ انتفاء العلّة وعدم انتفاء الحكم حينئذ لقيام علّة اخرى مقامها ، وإن لم يجز قدح فيها ؛ لأنّ ثبوت الحكم دون هذه العلّة مع عدم جواز تعليله بعلّتين يدلّ على أنّها ليست علّة له ، بل له علّة واحدة اخرى ؛ إذ لو كانت الاولى علّة له ، انتفى أصله بانتفاء علّته عند المصوّبة ؛ إذ كلّ حكم لم يدلّ عليه الدليل ولم يتعلّق به رأي المجتهد ، فليس له ثبوت في الواقع عندهم ، وانتفى العلم أو الظنّ به عند المخطّئة ؛ إذ لا يلزم عندهم من انتفاء دليل الحكم انتفاء أصله ، كما لا يلزم من انتفاء الدلالة العقليّة على الشيء انتفاؤه ، فيمكن عندهم أن لا يوجد الدلالة على حكم وكان ثابتا في الواقع ، إلاّ أنّه لا يقع به التكليف ؛ لاشتراطه بالعلم أو الظنّ والفرض انتفاؤهما حينئذ.

والتحقيق أنّ العلّة لمّا كانت الدليل الباعث على الحكم ، فتكون ملزومة له وهو لازما لها ، فلو لم يجز تعليله بعلّتين وكانت العلّة واحدة ، يكون الحكم لازما مساويا لها ، فينتفي نفسه بانتفائها وإن لم يلزم انتفاء المدلول بانتفاء العلّة على الإطلاق ، فوجوده بدونها يكشف عن القدح في علّيّتها.

فإن قيل : لا قدح ؛ لجواز التخصيص حينئذ ، فإنّ كلّ واحد من العلّة في العلّيّة والحكم

ص: 512


1- لمزيد الاطّلاع راجع : المحصول 5 : 237 - 259 ، والإحكام في أصول الأحكام 4 : 92 - 96 ، ونهاية السؤل 4 : 145 - 183.
2- أي للعلّيّة ومرّ المبطل الأوّل للعلّيّة وهو النقض في ص 506.
3- تفسير للمنفيّ أي الانعكاس دون النفي أي عدم الانعكاس.
4- أي عدم العكس.
5- راجع : المحصول 5 : 261 ، والإحكام في أصول الأحكام 5 : 89.

في المعلوليّة يكون حينئذ بظاهر عامّ ، فيتأتّى التخصيص من طرف كلّ منهما ، فكما يجوز تخصيص العلّة بغير محلّ النقض ، فكذا يجوز تخصيص الحكم بغير محلّ عدم العكس.

قلت : هذا حقّ ، ولكنّ معنى تخصيص الحكم العامّ أن يجعل العلّة علّة لبعض أفراده دون بعضها الآخر ، وهذا البعض لا بدّ له من علّة اخرى ، فهو يتوقّف على جواز تعليله بعلّتين ، وبدونه لا يجوز ؛ للزوم ثبوت الحكم بدون علّة.

وبما ذكر ظهر أنّ الجواب عن عدم العكس إمّا بيان جواز تعليل الحكم بعلّتين وإسناد ما في محلّ عدم العكس إلى علّة اخرى ، أو بيان التخصيص في الحكم وإن لم ينفكّ هذا عن الأوّل ، كما أنّ تخصيص العلّة لا ينفكّ عن وجود مانع ، أو انتفاء شرط وهو (1) إنّما يتأتّى في المنصوصة ، ووجهه ظاهر ممّا تقدّم (2) في النقض.

وقد بان ممّا ذكر أنّ استناد الحكم هنا إلى علّة اخرى قائم مقام وجود المانع ؛ أو انتفاء الشرط في النقض.

بقي الكلام في جواز تعليل الحكم بعلّتين أو علل عقلا

وقد اختلف فيه على أقوال (3) : ثالثها الجواز في المنصوصة دون المستنبطة (4) ، ورابعها عكسه (5).

ثمّ بعد الجواز قد اختلف في الوقوع ، فالأكثر (6) عليه أيضا. وقيل بعدمه (7).

ومحلّ الخلاف تعليل الحكم الواحد بالشخص - أي متّحد المحلّ (8) - بعلّتين أو علل ، كلّ

ص: 513


1- أي المبطل الثاني وهو عدم العكس.
2- تقدّم في ص 506.
3- راجع : المحصول 5 : 271 ، ونهاية السؤل 4 : 195 ، وتمهيد القواعد : 266 ، القاعدة 95.
4- قاله الفخر الرازي في المحصول 5 : 271 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 195 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 266 ، القاعدة 95.
5- حكاه الغزالي عن القاضي الباقلاني في المستصفى : 336 ، ونسبه الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 266 إلى الفخر الرازي ، ولكنّ كلامه في المحصول 5 : 271 ، خلاف لما نسب إليه الشهيد.
6- راجع : المحصول 5 : 271 - 278 ، والإحكام في أصول الأحكام 3 : 258 ، وتمهيد القواعد : 266 ، القاعدة 95.
7- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 258.
8- هذا التفسير لإخراج مسألة استحالة صدور الواحد عن الكثير عمّا نحن فيه ؛ فإنّ الوحدة في تلك المسألة حقيقيّة وفيما نحن فيه غير حقيقيّة ، كما في مثال إباحة وطء امرأة بعينها بالعقد والملك ؛ فإنّ امرأة بعينها لا يمكن أن يباح وطؤها بكليهما إلاّ أن تكون زمانا أمة ، فإباحة وطئها بالملك ، وإذا عتقت وصارت حرّة فإباحة وطئها بالعقد ، فصارت ذات إباحتين ، وهذا ليس صدور الواحد عن الاثنين.

واحدة منهما أو منها مستقلّة باقتضاء الحكم ، كإباحة وطء امرأة بعينها بالعقد والملك مع استقلال كلّ منهما بالعلّيّة ، ووجوب قتل شخص بعينه بالردّة والقصاص كذلك.

دون تعليل الواحد بالنوع - أي متغاير المحلّ - بهما كإباحة وطء امرأة بالعقد ، واخرى بالملك ؛ فإنّه جائز وفاقا ، ولا تعليل واحد منهما (1) بعلّتين ، أو علل يتركّب عنهما أو عنها مجموع هو العلّة ، وكلّ واحدة منهما أو منها جزؤها ، فإنّه بحث آخر يأتي ذكره (2).

والمختار عند أكثر أصحابنا الجواز والوقوع في المنصوصة دون المستنبطة (3).

والحقّ عندي أنّه يجوز فيهما ، إلاّ أنّه في المستنبطة على التسليم (4) ، ولم يقع إلاّ في المنصوصة.

فهنا ثلاث مقامات :

[ المقام ] الأوّل : في الجواز فيهما

ويدلّ عليه أنّ العلّة إمّا معرّفة أو باعثة ، وعلى التقديرين لا مانع منه.

أمّا على الأوّل ، فلأنّه يجوز أن ينصب الشرع أمارتين أو أمارات لحكم واحد لا يناسبه شيء منهما أو منها ولا يؤثّره فيه ، ولكن كلّ منهما أو منها يصلح لتعريفه.

وأمّا على الثاني ، فلأنّ الباعث ليس إلاّ المؤثّر في الحكم باشتماله على جهة الحكم المناسبة له ، ويجوز أن يشترك علل مختلفة في جهة واحدة مناسبة لحكم واحد ، فكلّ منها يناسبه ويؤثّر فيه بهذه الجهة.

وبهذا يندفع ما احتجّ به المانعون من أنّه يوجب مناسبة الأشياء المختلفة لشيء واحد ، وهو محال (5).

ص: 514


1- أي الحكم الواحد من الواحد بالشخص والواحد بالنوع.
2- يأتي في ص 515 - 516.
3- أي لا الوقوع ولا الجواز. راجع تهذيب الوصول : 263.
4- والمراد به أنّ الجواز في المستنبطة مبنيّ على تسليم تحقّق العلّة المستنبطة.
5- حكاه الباجي في إحكام الفصول : 557 ، والفخر الرازي في المحصول 5 : 273 و 274 ، والآمدي عن القاضي أبي بكر وإمام الحرمين ( الجويني ) في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 258.

فإن قلت : على ما ذكرت يلزم جواز توارد العلل المستقلّة العقليّة على معلول واحد شخصي ، وقد بيّن في الحكمة بطلانه (1).

قلت : العلل العقليّة علل بالذات ، بمعنى أنّ ذات كلّ واحدة منها من حيث هي - من غير مدخليّة وجوه المصالح والاعتبارات - يستلزم معلولها استلزاما ذاتيّا ، فلا يكون علّيّتها لجهة مصلحة حتّى أمكن أن يشترك فيها عدّة منها ، أو تختصّ بمحالّ دون اخرى لأمر لا يدرك ، وتتغيّر بتغيّر المحالّ ، فيصحّ تعليل شيء واحد بها ، أو يجوز تخلّف المعلول في بعض المحالّ عنها.

والعلل الشرعيّة علل بالوضع ، فيصحّ (2) أن يكون علّيّتها لوجه حكمة ، فيمكن أن يشترك فيه عدّة منها ، ويختصّ بمحالّ دون اخرى ، فيجوز تعليل حكم واحد بها وتخلّف المعلول عنها في بعضها.

نعم ، يمكن أن يشترك عدّة من العلل العقليّة المركّبة في أمر ذاتي أو عرضي ، وهو علّة مستقلّة لشيء ، فيصحّ تعليله بها وكون كلّ واحدة منها علّة له بهذه الجهة ، ولم يبيّن في الحكمة بطلان هذا القسم.

فإن قلت : فالعلّة حينئذ واحدة في الحقيقة ؛ لاستناد الحكم فيها بالحقيقة إلى ما به الاشتراك ، وهو واحد.

قلت : الأمر وإن كان كذلك إلاّ أنّ الشرع والعرف لمّا أطلقا العلّيّة عليها دون ما به الاشتراك ، فجرينا على إطلاقهما ، فلا معنى لتعدّد (3) العلل هنا إلاّ ذلك ، وغيره لا يجوّزه (4) ؛ ومنع التسمية يجعل النزاع لفظيّا.

[ المقام ] الثاني : في وقوعه في المنصوصة

ويدلّ عليه جعل الشارع كلّ واحدة من الردّة والقصاص علّة مستقلّة لقتل شخص

ص: 515


1- حكاه ابن الباجي في إحكام الفصول : 558 ، وكشف المراد : 116.
2- في « ب » : « فيصلح ».
3- في « أ » و « ب » : « بتعدّد ». ولكنّ الصحيح ما أثبتناه.
4- أي العقل ، أو كون الكلمة « لا يجوز ».

واحد ، وكلّ واحد من أسباب الوضوء علّة مستقلّة له ، وكلّ واحد من الإيلاء والظهار علّة مستقلّة لتحريم امرأة واحدة ، وكلّ واحد من الصغر والجنون علّة كذلك لثبوت الولاية لشخص واحد. وغير ذلك ، كتحريم امرأة واحدة بالاعتداد ، والحيض ، وبالإرضاع ، وكونها والدة. ونظائرها كثيرة منتشرة في مصنّفات الفقه (1). ولا ريب أنّ الحكم فيها واحد بالشخص ؛ لاتّحاد محلّه ، وكلّ واحدة من العلل علّة مستقلّة له ؛ لثبوت الحكم به (2) ، وهو معنى الاستقلال.

والإيراد بأنّا لا نسلّم كون الحكم فيها واحدا بالشخص مع أنّه هو المبحث ؛ لأنّ القتل بالردّة - مثلا - غير القتل بالقصاص ؛ فإنّ أحدهما قد يبقى وينتفي الآخر ، وبالعكس (3) ، كما يبقى القتل بالردّة ، وينتفي القتل بالقصاص بالعفو ، وبالعكس بالتوبة ، وتغاير علّة العدم يستلزم تغاير علّة الوجود (4) ، واه (5) ؛ لأنّ أمثال هذه الاعتبارات لا توجب تعدّد الحكم المتّحد المحلّ. كيف؟! ولو تعدّد بها ، لتعدّد بإضافته إلى الأدلّة المختلفة ؛ لأنّ ما به الاختلاف فيما ذكر ليس إلاّ ذلك ، مع أنّ إضافته إلى أحد الدليلين تارة وإلى الآخر اخرى لا توجب التعدّد ، وإلاّ لزم مغايرة حدث البول لحدث الغائط ، وجاز أن ينتفي أحدهما ويبقى الآخر.

وبالجملة ، فتح هذا الباب يؤدّي إلى اختلاف الأحكام بصرير الباب ونعيق الغراب.

[ المقام ] الثالث : في عدم وقوعه في المستنبطة

وهو ظاهر ؛ لأنّ المراد من الوقوع وقوعه من الشرع لا من أهل الاجتهاد ، وإذا وقع منه ، يكون من التعليل في المنصوصة. هذا.

واحتجّ المانعون بأنّ المبحث توارد العلل المستقلّة على محلّ واحد (6) ، وهو لا يتصوّر

ص: 516


1- راجع : بداية المجتهد 1 : 50 ، والتمهيد للإسنوي : 481 ، وتمهيد القواعد : 267 و 268 ، القاعدة 95.
2- التذكير باعتبار الكلّ.
3- ليس لقوله : « وبالعكس » مجال هنا.
4- أورده الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 259 و 260.
5- « واه » خبر لقوله : « والإيراد ».
6- فيه ردّ للمصنّف في تحرير محلّ النزاع ؛ فإنّ الملاك عند المصنّف وحدة محلّ الحكم وإن كان الحكم اثنين أو أكثر ، وعند هذا المانع هو وحدة المعلول ومورد العلّة ، فيرجع النزاع إلى كونه لفظيّا ومبنائيّا. وخلاصة المنع أنّ العلل لا بدّ وأن يكون كلّها مؤثّرا وكان تأثيرها بالاستقلال مع وحدة المعلول ، وفي كلّ فرض ينتفي أحد هذه الامور الثلاثة.

هنا ؛ لأنّها إمّا تقع بالترتيب مع حدوث الثانية بعد حصول الحكم بالاولى وزواله عن المحلّ ، كأن يحدث النوم بعد حدوث الحدث بالبول وزواله عن المحلّ ، فيتعدّد الحكم ؛ لأنّ الحادث غير الزائل ، أو قبل زواله عنه ، فيحصل الحكم بالاولى.

أو تقع دفعة ، فيحصل الحكم بالمجموع ، بأن يكون كلّ منها جزءا ، أو بواحد مبهم أو معيّن على (1) سبيل التحكّم أو الترجيح ، بأن يكون بعض منها أولى بالعلّيّة ، كما يقال : التعليل بالقصاص أولى من التعليل بالردّة عند اجتماعهما ؛ لتقدّم حقّ الآدميّ على حقّ اللّه.

ولا يمكن أن يحصل الحكم بكلّ واحدة منها على الاستقلال على التقديرين الأخيرين (2) و (3).

أمّا أوّلا : فللزوم التناقض من وجهين :

أحدهما : لزوم الاستقلال وعدمه ؛ لأنّ معنى استقلال العلّة ثبوت الحكم بها دون غيرها (4) ، والفرض أنّه يثبت بغيرها دونها ؛ لاستقلاله أيضا.

وثانيهما : لزوم ثبوت الحكم بكلّ منها وعدمه ؛ إذ استقلال كلّ منها يوجب ثبوت الحكم به بدون الآخر ، فيثبت الحكم بكلّ ولا يثبت به.

وأمّا ثانيا : فللزوم اجتماع الأمثال في محلّ واحد ، أو نقض العلّة ، أو اتّحاد الاثنين ؛ لأنّ كلّ واحدة منها إن أوجب مثل ما يوجبه الآخر لزم الأوّل ، وإن أوجب خلافه أو لم يوجب شيئا لزم الثاني ؛ لوجود العلّة دون الحكم ، وإن أوجب ما يوجبه الآخر بعينه لزم الثالث ؛ لبداهة اثنينيّة ما يصدر عن الاثنين مع استقلال كلّ منهما فيما يصدره. وفي صورة الترتيب يلزم تحصيل الحاصل أيضا.

واجيب عنه : بأنّ كلّ واحدة منها علّة مستقلّة للحكم على جميع التقادير ، ولا يلزم ما ذكر ؛ لأنّه إنّما يلزم إذا كانت العلّة المستقلّة عقليّة وهي ما يفيد وجود شيء ، وأمّا إذا كانت شرعيّة - وهي ما يفيد العلم به - فلا ؛ لأنّها بمعنى الدليل ، ويجوز اجتماع الأدلّة على مدلول

ص: 517


1- هذا قيد للمعيّن.
2- هما : وقوعها دفعة ، ووقوعها بالتدريج والترتيب مع عدم زوال الحكم الحادث بالاولى.
3- قاله الغزالي في المستصفى : 336 و 337 ، والفخر الرازي في المحصول 5 : 271 و 272.
4- ما ذكره هو معنى حصر العلّة دون استقلالها.

واحد بأن يكون كلّ منها علّة مستقلّة للعلم به (1).

وفيه نظر ؛ لمنع كون العلل الشرعيّة أدلّة محضة ؛ فإنّ الحقّ - كما عرفت (2) - أنّها بواعث للحكم ، مؤثّرة فيه ، فيلزم ما ذكر (3) ؛ على أنّه يلزم في اجتماع الأدلّة على مدلول واحد أيضا ؛ فإنّه لو أفاد كلّ واحد منها بالاستقلال علما بمعلوم واحد في محلّ واحد دفعة ، أو بالترتيب ، لجرى فيه ما ذكر من دون تفاوت.

فالجواب الحقّ : أنّ معنى استقلالها ليس ثبوت الحكم بها في الواقع على جميع التقادير ، بل إنّها إذا وجدت منفردة يثبت الحكم بها ، ففي حالة الانفراد وما في معناه - أي عند الترتيب مع حصول الثانية بعد زوال معلول الاولى - يثبت الحكم بها بالاستقلال ، وفي الترتيب مع حصول الثانية قبل زواله يثبت الحكم بالاولى ولا تأثير للثانية ، وعند الاجتماع الدفعي يحصل الحكم بالمجموع ، ويكون كلّ منها جزءا ؛ لأنّ حصوله بكلّ منها بالاستقلال يوجب ما ذكر (4) ، وحصوله بواحد مبهم أو معيّن يوجب التحكّم ؛ وترجيح معيّن بأمثال ما ذكر (5) والتعليل به فاسد ؛ لأنّها لم تعتبر حجّة شرعا في أمثال المقام.

فإن قيل : إطلاق القول بأنّ كلّ واحدة منها علّة مستقلّة ينافي ثبوت الحكم به وبغيره (6) إذا وجدت غير منفردة ، وتخصيص ثبوته به بالاستقلال عند الانفراد.

قلت : لمّا كان ثبوت الاستقلال على (7) تقدير الانفراد أمرا ثابتا عند الاجتماع ، بل عند العدم أيضا ، فسمّي (8) بالاستقلال عندهما أيضا مجازا ، ولو منع هذه التسمية ، لصار النزاع لفظيّا.

وممّا ذكر ظهر أنّ خير الأقوال (9) في الخلاف الذي وقع بين القائلين بتعدّد وقوع العلل

ص: 518


1- الجواب للفخر الرازي في المحصول 5 : 274 - 276.
2- في 514 - 515.
3- والمراد بما ذكر هو اجتماع النقيضين ، المذكور آنفا.
4- والمراد بما ذكر هو اجتماع النقيضين ، المذكور آنفا.
5- والمراد هو تقدّم حقّ الآدميّ على حقّ اللّه.
6- وجود المعلول بكلّ واحد منهما لا ينافي الاستقلال بل ينافي الانحصار كما مرّ.
7- متعلّق بالاستقلال دون الثبوت ، بل الظاهر زيادة كلمة « ثبوت » والمراد هو وجود الاستقلال الفرضي عند الاجتماع.
8- أي سمّي التأثير بالاستقلال عند الاجتماع والعدم مجازا.
9- التي تقدّمت في ص 516.

المستقلّة - بأنّها إذا اجتمعت دفعة ، فهل كلّ واحدة منها علّة مستقلّة ، أو كلّ واحدة جزء والعلّة المجموع ، أو العلّة واحدة لا بعينها؟ - أوسطها.

واحتجّ المفصّل الأوّل (1) على الجواز في المنصوصة بما مرّ (2) ، وهو لا ينافي ما ذهبنا إليه.

وعلى عدمه في المستنبطة بأنّه إذا اجتمعت أوصاف صالحة للعلّيّة ، فظنّ ثبوت الحكم لأحدهما (3) أو للمجموع يصرفه عن كلّ واحدة منها ، ولا نصّ يعيّن أحدها ، وإلاّ رجعت منصوصة ؛ فالحكم بعلّيّة كلّ واحدة منها دون واحدة منها ، أو الجزئيّة تحكّم.

وجوابه : إمكان استنباط استقلال علّيّة كلّ واحدة منها بالعقل عند الانفراد (4) ، بأن يحكم بترتّب الحكم عليه وحده ، فلا تحكّم عنده ، وأمّا عند الاجتماع الدفعيّ ، فيحكم بالجزئيّة دون العلّيّة ، كما ذكر (5).

واحتجّ المفصّل الثاني على الجواز في المستنبطة بأنّها وهميّة ، فربّما وجدت أوصاف صالحة للعلّيّة ولم يترجّح بعضها على بعض ؛ فيحصل الظنّ بعلّيّة كلّ منها ، وهو لا ينافي ما ذكرناه.

وعلى عدمه في المنصوصة بأنّها قطعيّة - أي عيّن الشرع ما هو الباعث - فلا يقع فيه التعارض والاحتمال (6).

وجوابه : أنّه يجوز أن يتعدّد البواعث ، فيعيّن الشرع كلاّ منها ، واجتماعها بتعيّنه لا يوجب تعارضا ولا احتمالا.

واحتجّ القائل بالجواز دون الوقوع بأنّه لو وقع لنقل ولم ينقل ، وادّعى تعدّد الأحكام في الصور المذكورة (7).

ولا أدري ما دليله على دعواه؟ والتجويز لا يكفيه ؛ لأنّه مستدلّ ، فهي حجّة عليه.

ص: 519


1- تقدّم في ص 513. والمفصّل هو الغزالي في المستصفى : 336 و 337.
2- تقدّم في ص 513. والمفصّل هو الغزالي في المستصفى : 336 و 337.
3- كذا في النسختين. والظاهر : لأحدها أي الأوصاف.
4- والمراد به عدم الاجتماع الدفعي وهو الوقوع بالترتيب.
5- تقدّم آنفا.
6- تقدّم في ص 513 ، ونسبه المطيعي إلى إمام الحرمين ( الجويني ) في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 4 : 195.
7- قالهما ابن الحاجب في منتهى الوصول : 176.

واعلم أنّ ما صرّح به هذا القائل هو أنّه يجوز التعدّد عقلا ، ولا يجوز شرعا.

واستدلّ على عدم الجواز الشرعيّ بأنّه لو جاز شرعا لوقع ، ولو وقع لنقل ... إلخ (1).

وهذا كما ترى ليس عين ما نسبناه إليه اقتفاء للقوم ، بل ما يلزمه.

وإذا عرفت ذلك ، فيتفرّع عليه أنّ عدم العكس لا يقدح في العلّيّة.

وممّا يتفرّع عليه أنّه إذا صادف نذران زمانا واحدا ، كما لو نذر صوم سنة معيّنة ، ثمّ صادف بعض أيّامها نذر آخر ، أن يجزئ صومه عنهما على ما اخترناه. وعلى القول بعدم اجتماع العلل ، لصومه عن النذر الأوّل ويقضي الثاني.

ومثله ما لو قال : « لو قدم زيد فعليّ صوم يوم قدومه » ثمّ قال : « لو قدم عمرو فكذا » فقدما معا في يوم واحد.

ويتفرّع عليه أيضا حصول الحنث بحدث البول - مثلا - لو حلف أن لا يقع عنه في زمان كذا حدث.

ومن فروعه : ما لو حدث منه أحداث دفعة أو بالترتيب ، ثمّ نوى عند الوضوء رفع بعضها ، وفيه أقوال : ثالثها : يكفي إن نوى الأوّل ، ورابعها : عكسه ، وخامسها : إن نفى غير المنويّ لم يكف ، وإلاّ كفى (2).

وعلى ما اخترناه لا يخفى حقيقة الحال ، إلاّ أنّ الأصحّ هنا أنّه يكفي مطلقا ؛ لأنّ المرتفع حكم الحدث وهو واحد وإن تعدّدت أسبابه.

وممّا فرّع عليه صدق المخبر الواطئ لامرأتين ، المغتسل عن الجنابة بأنّه لم يغتسل عن الوطء الثاني بناء على القول بأنّ المؤثّر هو الأوّل. وقس عليها أمثالها.

تتميم

هل يجوز عكس ما تقدّم (3) ، وهو تعليل حكمين أو أحكام بعلّة واحدة؟

فيه تفصيل ، وهو أنّ الأحكام إمّا متماثلة ، أو متضادّة ، أو مختلفة غير متضادّة.

ص: 520


1- قالهما ابن الحاجب في منتهى الوصول : 176.
2- حكاها الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 267 و 268 ، القاعدة 95.
3- تقدّم في ص 513.

والأوّل : لا يجوز تعليله بها ، إن اعتبر في محلّ واحد ؛ لامتناع اجتماع الأمثال فيه ، ويجوز إن اعتبر في محالّ متعدّدة ، كتعليل قصاص زيد وعمرو بقتل واحد صدر عنهما.

والثاني : يجوز تعليله بها مطلقا ؛ لأنّ إيجاب علّة واحدة للأحكام المتضادّة لا يمكن أن لا يتوقّف على شروط أصلا ، أو يتوقّف على شروط ممكنة الاجتماع ؛ لأنّه يؤدّي إلى اجتماع النقيضين إن اقتضتها حينئذ جميعا ، أو التحكّم إن اقتضت واحدا منها ، أو بطلان العلّيّة إن لم تقتض شيئا منها ، فهو يتوقّف على شروط ممتنعة الاجتماع ، فيجوز أن تقتضي مع كلّ شرط حكما يضادّ حكما آخر نقيضه مع شرط آخر ، كاقتضاء الجسميّة للحركة عند الخروج عن الحيّز ، وللسكون عند الحصول فيه. ومثاله من الأحكام الشرعيّة الكذب ؛ فإنّه يصير بشرط سببا لوجوبه ، وبشرط آخر سببا لحرمته.

والثالث كالثاني ، سواء كانت العلّة بمعنى الأمارة ، كتعليل جواز الإفطار ووجوب المغرب بالغروب. أو بمعنى الباعث ، كتعليل حرمة الصلاة والصوم ومسّ المصحف بالحيض.

لنا : لا بعد في مناسبة وصف واحد لحكمين ، إمّا بتسميتين متماثلتين إذا كانا متماثلين كما في الأوّل ؛ فإنّ القتل فيه منتسب إلى زيد وعمرو من حيث الصدور. أو بجهتين متضادّتين إذا كانا متضادّين ، كما في الثاني (1) ، أو بحيثيّتين مختلفتين إذا كانا مختلفين ، كالسرقة تناسب القطع ؛ تحصيلا لمصلحة الزجر ، والتغريم ؛ تحصيلا لمصلحة جبر بعض المال. أو بجهة واحدة لا تحصل إلاّ بهما ، كالزنى الموجب للجلد والتغريب ؛ تحصيلا للزجر التامّ الذي لا يحصل إلاّ بهما.

احتجّ الخصم بوجهين :

أحدهما : أنّ الوصف الواحد لا يناسب الحكمين بجهة واحدة ؛ لامتناع مناسبة الواحد من حيث هو للمتغايرين ، فيناسبهما بجهتين ، فيتعدّد العلّة (2).

وجوابه ما تقدّم (3).

ص: 521


1- وهو اقتضاء الجسميّة للحركة والسكون ، والحكمان - وهما الحركة والسكون - ضدّان.
2- قاله المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 4 : 299 و 300 ، والأسنوي في المصدر.
3- آنفا في ذيل قوله : « لنا لا بعد ... ».

وثانيهما : أنّ معنى مناسبة الوصف للحكم أنّ مصلحة (1) حاصلة عند الحكم ، والحكم الواحد يحصّل المصلحة المقصودة منه ، فإذا حصل الحكم الثاني فإن حصّلها مرّة اخرى ، لزم تحصيل الحاصل ، وإلاّ لزم كونه عبثا (2).

وجوابه قد ظهر من تقرّر (3) الدليل.

وكيفيّة التفريع : أنّه إذا حلف أن يفعل ما يحرّمه الحيض ، يجب عليه الصوم والصلاة ومسّ المصحف وغيرها ممّا يحرم على الحائض ، وعلى القول بعدم جواز تعليل الأحكام بعلّة واحدة لم يلزم وجوب الجميع.

ثمّ لا فرق فيه بين العلّة المنصوصة والمستنبطة على فرض صحّتها ؛ لجريان دليل الصحّة فيهما ، فلمن يعمل بها أن يعلّل أحكاما بواحدة منها ، كأن يعلّل كراهة استقبال الريح عند البول ، والجلوس جنب من يبول مستقبلا له ، والمرور تحت ميزاب يترشّح منه البول بإمكان إصابته بالثوب أو البدن.

[ المبطل ] الثالث (4) : الكسر وهو نقض يرد على الحكمة ؛ فإنّ العلّة إذا لم تكن حكمة بل مظنّتها (5) ، فشرط قوم أن يكون حكمتها مطّردة - أي كلّما وجدت وجد الحكم - فوجودها بدون العلّة والحكم سمّوه كسرا ، وقالوا : إنّه يبطل العلّيّة.

مثاله : أن يقول الحنفي في المسافر العاصي بسفره : مسافر مترخّص في سفره كغير العاصي ، وبيّن مناسبة السفر للرخصة بما فيه من المشقّة (6) ، فيعترض عليه بأنّ ما ذكرته من الحكمة - وهي المشقّة - منتقضة ؛ لوجودها في الصنائع الشاقّة في الحضر مع عدم الحكم (7) ، أي الترخّص.

ص: 522


1- في « أ » : « مصلحته ».
2- قاله المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 4 : 299 و 300 ، والأسنوي في نهاية السؤل.
3- كذا في النسختين. والأولى « تقرير ».
4- أي للعلّيّة. مرّ الأوّل في 4. والثاني في 512.
5- والمراد بالمظنّة - كما يأتي - هو موضوع الحكمة كالسفر ، فإنّه مظنّة المشقّة ، وهي الحكمة لقصر الصلاة. وقد يراد من علّة الحكمة موضوعها.
6- قالهما الغزالي في المستصفى : 6. والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 252 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 145 و 146.
7- قالهما الغزالي في المستصفى : 6. والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 252 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 145 و 146.

ثمّ الكسر إمّا أن يكون لتخصيص ، أو مانع ، أو انتفاء شرط ، أو بدون شيء منها.

فعلى الأوّل لا يقدح في العلّيّة ، كما في النقض. والتخصيص هنا إنّما يتصوّر في الحكمة المنصوصة ، سواء كانت العلّة أيضا منصوصة أو لا - لو أمكن وجود حكمة منصوصة كانت مظنّتها مستنبطة - بأن ينصّ الشرع على كون ما هو الحكمة للحكم حكمة له ، فثبت كونه حكمة له بظاهر عامّ في محلّ الكسر وغيره ، ويكون دلالتها على وجود الحكم في محالّها ، كدلالة اللفظ العامّ على أفراده ، فيجوز تخصيصه بغير محلّ الكسر.

وأمّا إذا لم يكن الحكمة منصوصة - وإن كانت العلّة منصوصة - فلا معنى لكونها عامّة حتّى يجوز تخصيصها ، بل يجوز تخلّف الحكم عن الحكمة حينئذ لمانع أو انتفاء شرط ، فهما في الحكمة المستنبطة ، كما في النقض.

وعلى هذا يجوز أن يكون الكسر في حكمة لوجود المانع أو انتفاء الشرط ، والنقض في مظنّتها للتخصيص إذا كانت الحكمة مستنبطة والعلّة منصوصة ، وبالعكس إذا جاز العكس ، وأن يكونا (1) معا للتخصيص إذا كانتا (2) منصوصتين ، وللمانع أو انتفاء الشرط إذا كانتا مستنبطتين.

ثمّ ما تقدّم في النقض (3) - من أنّ التخصيص لا ينفكّ في الواقع عن وجود مانع أي معارض وإن لم نعلمه بعينه فيقدّر - يأتي هنا أيضا.

وعلى الثاني (4) فقيل : يقدح مطلقا (5). وقيل : لا يقدح مطلقا (6).

والحقّ أنّه لا يقدح إن كان قدر الحكمة في محلّ النقض أقلّ من قدرها في محلّ التعليل ، كما إذا اعترض على التعليل في المثال المذكور بصنعة الحياكة في الحضر بأنّ ما ذكرته من الحكمة - وهي المشقّة - موجودة فيها مع عدم جواز الحكم وهو

ص: 523


1- أي الكسر والنقض أي المبطل الأوّل والثالث.
2- أي الحكمة والعلّة أو المظنّة فإنّ المراد من العلّة والمظنّة هو معروض الحكمة وموضوعها كالسفر والرمّان.
3- تقدّم في ص 506.
4- أي الكسر وعدم الحكم بدون ما ذكر من التخصيص والمانع وانتفاء الشرط.
5- قاله العلاّمة في تهذيب الوصول : 259.
6- قاله الأسنوي في نهاية السؤل 4 : 152 و 207.

الترخيص للحائك ؛ فإنّ البداهة حاكمة بأنّ قدر المشقّة في الحياكة في الحضر أقلّ من قدر المشقّة في السفر.

وكذا لا يقدح إن ثبت في محلّ النقض حكم آخر أولى وأليق بتحصيل تلك الحكمة ، كما لو قال المعلّل : إنّما قطع اليد باليد للزجر ، فيعترض عليه بأنّ حكمة الزجر منتقضة ؛ لأنّ مقصود الزجر عن القتل العمد العدوان أزيد ، ولم يشرع فيه الحكم ، أي القطع.

فيجيب بأنّ الحكمة المقصودة وإن كانت في محلّ النقض أزيد ، لكن ثبت فيه حكم آخر أولى بالحكمة وأليق بتحصيلها وهو القتل ؛ فإنّه أشدّ زجرا من القطع ؛ لأنّه يحصل به القطع ، وهو إبطال اليد وزيادة ، أي إبطال ما عداها ، فيحصل فيه رعاية أصل الحكمة وزيادة ، فلا يلزم عدم اعتبارها.

ويقدح إن كان قدرها فيه مساويا لقدرها في محلّ التعليل أو أزيد منه ، ولم يثبت فيه حكم هو أولى بالحكمة.

لنا : أنّ المفروض الحكمة الخفيّة ، أو غير المنضبطة التي يعسر ضبطها لاختلاف مراتبها بوجوه شتّى ، ولم يكن كلّ قدر منها موجبا للحكم ، ولم يمكن تعيين القدر المعتبر منها ، فضبطها الشرع ؛ نظرا إلى إعادته من ردّ الناس إلى المظانّ الواضحة بوصف ضابط لها ، وجعله أمارة لها ؛ لاشتماله على القدر المعتبر منها الذي هو مناط الحكم ، فهو ليس باعثا حقيقيّا بشرع الحكم ، بل الباعث له بالذات هو قدر الحكمة الذي هو ضبطه ، فإن وجد هذا القدر أو أزيد منه في محلّ النقض [ و ] (1) لم يثبت فيه حكم أولى به من الحكم الثابت فيما يراد نقضه ، قدح في العلّيّة ؛ لأنّ الحكمة لو لم تعتبر لوجودها بدون الحكم ، فكيف يعتبر ما هو وسيلتها؟ فإنّه لو لم يعتبر المتبوع المقصود بالذات ، فالتابع المقصود بالعرض أولى بذلك.

وأمّا إذا لم يوجد هذا القدر فيه ، بل وجد فيه قدر أقلّ ، فلا يقدح في العلّيّة ؛ لأنّ عدم اعتبار الأضعف لا يوجب عدم اعتبار الأقوى الذي هو مناط الحكم. وكذا لا يقدح لو ثبت

ص: 524


1- أضفناه للضرورة.

في محلّ النقض حكم أولى بالحكمة وإن وجد فيه القدر المناط أو أزيد ؛ لما ذكر.

وبما ذكر ظهر أنّ مساواة الفرع للأصل في الحكم وصحّة قياسه عليه ، تتوقّف على مساواته له في الحكمة ؛ إذ لا يلزم من الأقلّ ؛ لأنّه قد لا يعتبر ، ومن الأكثر ؛ إذ قد لا يحصل بذلك الحكم ، بل يفتقر حصوله إلى حكم آخر فوقه.

فإن قلت : إذا شكّ في المساواة والزيادة والنقصان ولم يعلم واحد منها بعينه ، فهل يقدح في العلّيّة؟

قلنا : الحقّ لا ؛ لأنّ وجود العلّة في الأصل قطعيّ ، ومساواة قدر الحكمة في محلّ النقض لقدرها في محلّ التعليل أو زيادته عليه مشكوكة ، والشكّ لا يعارض القطع. فإن رجّح قول المعترض بمعاضدته لأصالة عدم الحكم ، رجّح قول المعلّل بموافقته لما ظهر من دليل العلّة من المناسبة والاعتبار ، فيتعارضان ، ويبقى ما ذكر أوّلا سالما عن المعارض.

ثمّ نظر من قال إنّه يقدح مطلقا إلى أنّ المناط والباعث هو الحكمة ، فإذا انتقضت بطلت العلّيّة (1). وذهل عن احتمال كون قدرها في محلّ النقض أقلّ ، أو وجود حكم فيه هو أولى بتحصيل تلك الحكمة.

ونظر من قال إنّه لا يقدح مطلقا إلى أنّ الشرع لمّا ضبطها بوصف منضبط في نفسه ، ضابط لها (2) ، فكأنّه أعرض عنها وجعله المناط والعلّة ، فإذا لم يرد عليه نقض ، لم يبطل العلّيّة وإن انتقضت الحكمة ؛ لأنّها ليست بعلّة.

وغفل عمّا ذكرنا من أنّه الوسيلة ، والمقصود بالعرض والباعث الحقيقي هو الحكمة ، فإذا انتقضت ، بطلت العلّيّة. هذا.

وبما ذكرناه ظهر أنّ جواب الكسر إمّا منع وجود القدر المناط من الحكمة ، وهو الموجود في الأصل والفرع في محلّ النقض ، أو بيان إمكان ثبوت حكم فيه هو أولى بالحكمة ، أو أحد الأجوبة المذكورة في النقض. والكلام عليها هنا خلافا ، وسؤالا ، وجوابا ، واختيارا كالكلام عليها هناك من دون فرق.

ص: 525


1- الناظر هو العلاّمة في تهذيب الوصول : 260.
2- هو الأسنوي في نهاية السؤل 4 : 152 - 154.
تنبيه

اعلم أنّه إذا ثبت حكم بحكمة ومظنّتها ، فالمتصوّر من الاطّراد والانعكاس ثلاثة :

الأوّل : اطّراد المظنّة - أي العلّة - وانعكاسها بالنسبة إلى الحكم ، وقد تقدّم (1).

الثاني : اطّراد الحكمة وانعكاسها بالنسبة إليه ، وقد تقدّم بيان اطّرادها (2). وأمّا انعكاسها - أي كونها بحيث كلّما عدمت عدم الحكم - وإن لم يستبق بيانه صريحا ، إلاّ أنّه ظهر ممّا تقدّم (3) تلويحا عدم اشتراطه في صحّة العلّيّة ، وعدم قدح عدمه - وهو ثبوت الحكم في محلّ بدونها - فيها ؛ لأنّ الباعث الحقيقي للحكم إمّا هي ، أو مظنّتها.

وعلى التقديرين لا يقدح.

أمّا على الأوّل ، فلما عرفت من جواز تعليل حكم واحد بعلّتين ، أو أكثر.

وأمّا على الثاني ، فلعدم مدخليّتها في الحكم حينئذ حتّى يعتبر انعكاسها.

الثالث : اطّراد المظنّة وانعكاسها بالنسبة إلى الحكمة ، أي كلّما وجدت المظنّة وجدت الحكمة ، وكلّما عدمت عدمت. فعدم اطّرادها بالنسبة إليها أن يثبت المظنّة في محلّ بدون الحكمة ، كسفر الملك المرفّة ؛ حيث لم يوجد فيه الحكمة وهي المشقّة ووجدت مظنّتها وهو السفر. وعدم انعكاسها بالنسبة إليها أن يثبت الحكمة في محلّ بدونها ، كحضر اولي الصنائع الشاقّة ؛ حيث وجدت فيه المشقّة بدون السفر. وكلّ من هذا الطرد والعكس بتداخل أحد الأقسام المتقدّمة (4).

فالتصريح بأنّ عدمها هل يبطل العلّيّة أم لا؟ وإن لم يسبق ، إلاّ أنّه علم حكمه ضمنا.

بيانه : أنّ المراد من عدم اطّرادها هنا إن كان عدم اطّرادها بالنسبة إلى الحكمة فقط دون الحكم - أي وجودها مع الحكم بدون الحكمة - فهو عدم العكس الثاني ، أي المقابل للكسر ؛ لأنّ المراد منه وجود الحكم بدون الحكمة ، سواء تحقّق معه وجود العلّة أم لا.

ص: 526


1- تقدّما في ص 522.
2- تقدّما في ص 522.
3- تقدّم في ص 523.
4- أي أقسام الكسر المتقدّمة في 525.

وإن كان المراد منه عدم اطّرادها بالنسبة إليهما - أي وجودها بدونهما - فهو النقض ؛ لأنّ المراد منه وجود العلّة بدون الحكم ، سواء وجد معه عدم الحكمة أيضا أم لا.

والمراد من عدم انعكاسها هنا إن كان عدم انعكاسها بالنسبة إلى الحكمة فقط - أي وجود الحكمة مع الحكم بدون العلّة - فهو عدم العكس الأوّل ، أي المقابل للنقض ؛ لأنّ المراد منه وجود الحكم بدون العلّة ، سواء تحقّق معه وجود الحكمة أيضا أم لا.

وإن كان المراد منه عدم انعكاسها بالنسبة إليهما - أي وجود الحكمة بدون العلّة والحكم - فهو الكسر ؛ لأنّ المراد منه وجود الحكمة بدون الحكم ، سواء وجد معه عدم العلّة أيضا أم لا.

تذنيب

قيل : وممّا يبطل العلّيّة النقض المكسور ، وهو نقض بعض الأوصاف (1) ، سمّي به ؛ لأنّه بين النقض والكسر ، فكأنّ المعترض قال : الحكمة تحصل بهذا البعض وقد وجد في المحلّ بدون الحكم ، فهو نقض لما ادّعاه علّة باعتبار الحكمة.

مثاله : إذا قيل : صلاة الخوف صلاة يجب قضاؤها ، فيجب أداؤها كصلاة الأمن ، فيعترض عليه بأنّه منقوض بصوم الحائض ، فإنّ بعض صفات الصلاة - وهو كونها عبادة - موجود فيه ولم يوجد معه الحكم.

مثال آخر : ما يقال في بيع الغائب : مبيع مجهول الصفة عند العاقد حال العقد فلا يصحّ بيعه ، كما لو قال : بعتك عبدا ، فيقول المعترض : ينتقض بما لو تزوّج بامرأة لم يرها.

والحقّ أنّ مجرّد نقض بعض الأوصاف لا يبطل العلّيّة ؛ إذ العلّة هو المجموع ، ولا نقض عليه ؛ إذ عدم علّيّة الجزء لا يوجب عدم علّيّة الكلّ.

نعم ، إن بيّن عدم تأثير أحد الجزءين بكونه وصفا طرديّا ونقض الآخر ، بطلت العلّيّة ؛ لورود النقض حينئذ على ما هو العلّة ، كما إذا قيل : خصوصيّة الصلاة ملغاة ؛ لأنّ الحجّ

ص: 527


1- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 255 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 260 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 204 و 205.

كذلك ، فبقي كونها عبادة ، وهو منقوض بصوم الحائض. هذا.

واعلم أنّ ما ذكرناه - من تفسير الكسر والنقض المكسور - هو ما استقرّ عليه آراء جماعة من المحقّقين (1) ، والأكثرون لم يفرّقوا بينهما ، بل فسّروا الكسر بما فسّرنا به النقض المكسور (2).

واعلم أنّ المناسب لما ذكرناه أن نسمّي نقض بعض الحكم بالكسر المنقوض ؛ لأنّه بين الكسر والنقض ، فكأنّ المعترض قال : إنّ الحكمة الباعثة لعلّيّة العلّة هو هذا البعض ، وقد وجد في المحلّ بدون الحكم ، فهو كسر لما ادّعاه حكمة من حيث كونها باعثة لعلّيّة العلّة.

وحكمه ظاهر ممّا تقدّم (3).

[ المبطل ] الرابع (4) : عدم التأثير ، وهو أن يبقى الحكم بعد الوصف ، أي لا يكون له تأثير في إثبات الحكم. وقد قسّم أربعة أقسام :

[ القسم ] الأوّل : ما يظهر عدم تأثيره مطلقا. ويسمّى عدم التأثير في الوصف ، كما إذا قيل : الصبح لا يقصر ، فلا يقدّم أذانه كالمغرب ، فيقال : عدم القصر لا يؤثّر في عدم تقديم الأذان ، ولذا لا فرق في ذلك بين المغرب وغيره ممّا يقصر ، فهو وصف طرديّ لا مناسبة فيه ولا شبه ، فلا نعتبره. وحاصله مطالبة كون الوصف علّة ، أو إثبات عدم علّيّته.

[ القسم ] الثاني : أن يظهر عدم تأثيره في ذلك الأصل ؛ للاستغناء عنه بوصف آخر. ويسمّى عدم التأثير في الأصل ، كما إذا قيل في بيع الغائب : مبيع غير مرئيّ فلا يصحّ بيعه ، كالسمك في الماء والطير في الهواء ، فيقال : كونه غير مرئيّ وإن ناسب نفي الصحّة إلاّ أنّه لا يؤثّر في نفي صحّة بيع السمك والطير ؛ لأنّ عدم القدرة على التسليم فيهما كاف في منع الصحّة ؛ لعدم الفرق بين المرئيّ وغير المرئيّ فيهما. ومرجعه إلى المعارضة في العلّة بإبداء ما يحتمل أن يكون هي العلّة ، أو إثبات أنّ العلّة ذلك الغير.

[ القسم ] الثالث : أن يظهر عدم تأثير قيد منه ، بأن يتحقّق في الأوصاف وصف لا يكون

ص: 528


1- راجع : الإحكام في أصول الأحكام 3 : 255 و 256 ، وتهذيب الوصول : 260 ، ونهاية السؤل 4 : 206.
2- راجع : إحكام الفصول : 593 ، والإحكام في أصول الأحكام 4 : 96.
3- تقدّم آنفا.
4- المبطل الأوّل هو النقض ، والثاني هو عدم العكس ، والثالث هو الكسر.

مؤثّرا في الحكم المعلّل. ويسمّى عدم التأثير في الحكم ، كما إذا قيل في المرتدّ إذا أتلف مالنا في دار الحرب : مشرك أتلف مالنا في دار الحرب فلا ضمان عليه كالحربيّ ، فيقال : دار الحرب وصف طرديّ لا تأثير له ؛ ضرورة استواء الدارين في إيجاب الإتلاف فيهما للضمان. ومرجعه إلى مطالبة كون القيد مؤثّرا ، أو إثبات عدم تأثيره ، فهو كالأوّل.

[ القسم ] الرابع : أن لا يطّرد في جميع صور النزاع وإن كان مناسبا ، فلا يطّرد في محلّ النزاع ، فيظهر عدم تأثيره فيه. ويسمّى عدم التأثير في الفرع ، كما إذا قيل في تزويج المرأة نفسها : زوّجت نفسها بدون إذن وليّها من غير كفء فلا يصحّ ، كما لو تزوّجت من غير كفء ، فيقال : التزويج من غير كفء وإن كان مناسبا لعدم الصحّة إلاّ أنّه لا يطّرد في جميع صور النزاع ؛ لأنّ النزاع وقع في تزويجها نفسها من كفء وغيره ، وحكمهما سواء ، فلا تأثير له في محلّ النزاع. وحاصله المعارضة في العلّة بإبداء وصف آخر وهو مجرّد التزويج ، فهو كالثاني ، أو مطالبة تأثير القيد وهو عدم الكفاءة فكالثالث.

واعلم أنّه على ما ذكر من رجوع الثالث إلى الأوّل ، والرابع إلى الثاني أو الثالث ، يبقى النظر في الأوّل والثاني في قبولهما وإبطالهما للعلّيّة ، وردّهما وعدم إبطالهما لها.

فنقول : مرجع الأوّل إن كان إلى سؤال المطالبة - أي منع كون العلّة علّة - فهو هو حقيقة وحكما وجوابا وسيجيء (1) ، فليس هو سؤالا برأسه.

وإن كان إلى إثبات عدم علّيّة ما ادّعي علّيّته ، فيقبل لو كان دليله قاطعا أو صالحا له.

وللمعلّل مع عدم كونه قاطعا منعه.

ومرجع الثاني إن كان إلى إبداء ما يوجب احتمال علّيّة الغير ، فهو المعارضة في الأصل بإبداء علّة اخرى ، وسيأتي (2) ، فليس هو سؤالا برأسه.

وإن كان [ إلى ] إبداء ما يوجب الجزم بعلّيّة الغير ، فلا يبطل العلّيّة ؛ لوجود (3) تعليل حكم واحد بعلّتين ، ويبطلها لو لم يجوّز ذلك. وقد عرفت الحقّ فيه (4).

ص: 529


1- يأتي في ص 560 وبعدها.
2- يأتي في ص 560 وبعدها.
3- كذا. والصحيح : « لتجويز ».
4- راجع ص 517 - 518.

[ المبطل ] الخامس : القلب ، وهو تعليق خلاف الحكم المدّعى في الفرع - الذي هو مذهب المستدلّ - على علّته ؛ إلحاقا بأصله. وهذا هو قلب العلّة. وهو إمّا قلب لتصحيح المعترض مذهبه ، فيلزم منه بطلان مذهب المعلّل ؛ لتنافيهما. أو قلب لإبطال مذهب المستدلّ صريحا. أو قلب لإبطال مذهبه إلزاما (1).

مثال الأوّل : كما لو قيل : الاعتكاف يشترط فيه الصوم ؛ لأنّه لبث مخصوص ، فلا يكون بمجرّده قربة كالوقوف بعرفة ، فيقول المعترض : لبث مخصوص ، فلا يشترط فيه الصوم ، كالوقوف بعرفة ، فكلّ من القائس والقالب يعرض في دليله لتصحيح مذهبه ، فالقائس أشار بعلّته - وهي كونه لبثا مخصوصا ليس بمجرّده قربة - إلى اشتراط الصوم في الفرع ، والقالب أشار بتلك العلّة إلى عدم اشتراطه فيه.

فإن قيل : إن كان الحكمان هنا اشتراط الصوم وعدم اشتراطه - وهما متناقضان بالذات - فلا يجتمعان لا في الأصل ولا في الفرع ، مع أنّ اللازم من تعريف القلب لزوم اجتماعهما في الأصل دون الفرع.

قلنا : إنّ الأمر وإن كان كذلك ، إلاّ أنّ القائس أخذ مكان اشتراط الصوم عدم كونه قربة وجعله جزء العلّة ، وأشار به إلى الحكم الذي هو مذهبه إلزاما (2) - أي اشتراط الصوم - نظرا إلى أنّ الاعتكاف لو لم يكن قربة اشترط فيه الصوم ، فكان الحكمان هنا عدم كونه قربة وعدم اشتراط الصوم ، وهما مجتمعان في الأصل - أي الوقوف بعرفة - متنافيان في الفرع ؛ للإجماع على أنّ الاعتكاف لو لم يكن بنفسه قربة ، كان مشروطا بالصوم.

والمثال الذي وقع فيه التصريح من كلّ منهما لتصحيح مذهبه ، والحكمان فيه مجتمعان في الأصل دون الفرع : ما يقال : طهارة الخبث طهارة تراد للصلاة ، فيجب بالماء ، كطهارة الحدث ، فيقول المعترض : فيجب بغير الماء ، كطهارة الحدث ، فإنّ الوجوب بالماء والوجوب بغيره يجتمعان في طهارة الحدث ، ويتنافيان في طهارة الخبث.

ومثال الثاني : ما يقول الحنفي في مسألة أنّ مسح الرأس يقدّر بالربع : ركن من أركان

ص: 530


1- في « ب » : « التزاما ».
2- في « ب » : « التزاما ».

الوضوء ، فلا يكفي أقلّ ما يطلق عليه الاسم ، فيقول الشافعي : إنّه ركن ، فلا يتقدّر بالربع كالوجه (1). والحكمان - أي عدم كفاية أقلّه وعدم التقدّر بالربع - لا يتنافيان لذاتيهما ؛ لاجتماعهما في الأصل ، وهو الوجه ، لكنّهما يتنافيان في الفرع ؛ لاتّفاق المعلّل والقالب على نفي غيرهما من الأقسام ، فكلّ منهما يعرض في دليله لإبطال مذهب الخصم صريحا.

ومثال الثالث ما يقال في بيع الغائب : عقد معاوضة فيصحّ مع الجهل بأحد العوضين ، كالنكاح ، فيقول المعترض : فلا يثبت فيه خيار الرؤية ، كالنكاح ، ويلزم من فساد خيار الرؤية فساد البيع عند المستدلّ. والحكمان - أي الصحّة وعدم خيار الرؤية - اجتمعا في الأصل - أي النكاح - ولا يمكن أن يجتمعا في الفرع ، أي البيع. والمستدلّ لمّا أخذ الأوّل مذهبا وقاس على الأصل ، فالقالب أشار بالثاني وقياسه عليه إلى بطلان مذهبه ضمنا.

ومن الثالث قلب المساواة ، كما يقال : المكره مالك مكلّف فيقع طلاقه ، كالمختار ، فيقول المعترض : فيسوّى بين إقراره وإيقاعه كالمختار ، والحكمان - وهما الإيقاع والإقرار - مجتمعان في الأصل باعتقاد الخصمين ، وكلاهما مرتفع من الفرع باعتقاد القالب ، وأحدهما - وهو الإيقاع - موجود فيه دون الآخر باعتقاد القائس ، ولمّا أثبته فيه قياسا على الأصل ، فقلب عليه القالب لزوم ثبوت الحكمين في الفرع من رأسه ، مع أنّه لم يقل به. هذا.

وقد اختلف في قبول القلب ، فأنكره جماعة (2) ؛ لأنّ الحكمين إن تنافيا امتنع اجتماعهما في الأصل ، مع أنّه لازم لما شرطناه وهو اتّحاد الأصل. وإن لم يتنافيا ، فيجوز استنادهما إلى علّة واحدة ، كما تقدّم (3) ، فلا يبطل العلّيّة.

ويدفعه إمكان تنافيهما في الفرع بعرض الاجتماع بدليل من خارج دون الأصل ، كما عرفت (4).

ص: 531


1- حكاه القرطبي في بداية المجتهد 1 : 12 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 113 و 114.
2- منهم : الفخر الرازي في المحصول 5 : 265 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 116 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 261 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 210.
3- تقدّم في ص 520 - 521.
4- آنفا.

والحقّ - كما قال بعض المحقّقين (1) - أنّه في الحقيقة معارضة ؛ لأنّ المعارضة إقامة الدليل على خلاف قول المستدلّ ، والقلب كذلك ، إلاّ أنّه نوع مخصوص من المعارضة ؛ لأنّ كلاّ من الأصل والفرع والجامع مشترك بين قياسي المستدلّ والقالب ، ففيه لا يمكن الزيادة في العلّة ، ولا منع وجود العلّة في الأصل والفرع ، بخلاف سائر المعارضات. وعلى هذا ، فحكمه حكم المعارضة ، وجوابه جوابها. وللمستدلّ أن يقدح تأثير العلّة فيه بالنقض أو عدم التأثير أو القول بالموجب ، وأن يمنع حكم القالب في الأصل ، وأن يقلب قلبه إذا لم يناقض الحكم.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ القلب المذكور بأقسامه هو قلب العلّة.

وللقلب نوعان آخران :

أحدهما : قلب الدعوى ، بأن يدّعي المعترض دعوى تقابل دعوى المستدلّ ، سواء استند كلّ منهما إلى الضرورة أو إلى دليل مضمر فيه.

فالأوّل ، كما إذا قيل : النظر يفضي إلى العلم بالضرورة ، فيقول المعترض : النظر لا يفضي إلى العلم بالضرورة.

والثاني ، كما إذا قال الأشعري : كلّ موجود مرئيّ وهو في قوّة « لأنّه موجود » ؛ لأنّ الوجود هو المصحّح للرؤية عنده ، فيقول المعتزلي : كلّ ما ليس في جهة لا يكون مرئيّا ، وتقديره : لأنّ انتفاء الجهة مانع من الرؤية.

وثانيهما : قلب الدليل بأن يبيّن أنّ دليل المستدلّ حجّة عليه لا له ، كما لو استدلّ على توريث الخال بقوله عليه السلام : « الخال وارث من لا وارث له » (2) ، فيقول المعترض : المراد نفي توريث الخال بطريق المبالغة ، كما يقال : الجوع زاد من لا زاد له ، والصبر حيلة من لا حيلة له.

[ المبطل ] السادس : القول بالموجب وهو تسليم ما لزم من الدليل مع بقاء الخلاف ، ومرجعه إلى ادّعاء نصب الدليل في غير محلّ النزاع ، وهو لا يختصّ بالقياس ، بل يأتي في كلّ دليل ، وأقسامه ثلاثة :

ص: 532


1- قاله الفخر الرازي في المحصول 5 : 265 ، والبيضاوي في منهاج الاصول المطبوع مع نهاية السؤل 4 : 210.
2- كنز العمّال 11 : 5 ، ح 30377.

[ القسم ] الأوّل : أن يستنتج المستدلّ من الدليل ما يتوهّم أنّه محلّ الخلاف أو ملزومه ولا يكون كذلك ، كما إذا قال في القاتل العامد الملتجئ إلى الحرم : وجد فيه علّة القصاص ، فيجوز قصاصه ، فيردّ القول بالموجب ، ويقال : محلّ الخلاف ليس جواز القصاص ، بل جواز هتك حرمة الحرم ، وهو ليس عينه ، ولا ملزومه.

ومنه : إذا قال الشافعي في القتل بالمثقل : قتل بما يقتل غالبا ، فلا ينافي وجوب القصاص ، كالقتل بالحرق ، فيقول المعترض : أقول بموجب ما ذكرت ، ولكنّه ليس محلّ النزاع ؛ لأنّ محلّ النزاع وجوب القصاص ، وليس عينه ، ولا لازما له.

ولمّا كان مرجع هذا القسم إلى منع كون اللازم من الدليل محلّ الخلاف أو ملزوما له.

فجوابه أن يبيّن المستدلّ أنّ المثبت مدّعاه وإن لم يكن محلّ النزاع في فرض المعترض ، أو (1) محلّ النزاع والمعترض صرفه عنه وحمله على غيره ، فأورد القول بالموجب أو ملزومه.

ومثال الأوّل ظاهر.

و [ مثال ] الثاني ، كما إذا قال : الخيل يسابق عليه فيجب فيه الزكاة ، كالإبل ، فيقول : هذا مسلّم في زكاة التجارة ، ومحلّ النزاع زكاة العين ، فيرجع ويقول : غرضي وجوب زكاة العين.

و [ مثال ] الثالث ، كما إذا قال : لا يجوز قتل المسلم بالذمّي قياسا على الحربي ، فيقول : هذا مسلّم ، ومحلّ النزاع عدم الوجوب ، فيقول : عدم الجواز - وهو الحرمة - يستلزم عدم الوجوب.

[ القسم ] الثاني : أن يستنتج من الدليل إبطال ما يتوهّم أنّه مأخذ الخصم ومبنى مذهبه ، كما إذا قال في مسألة القتل بالمثقل : التفاوت في الوسيلة لا يمنع القصاص كالمتوسّل إليه ، وهو أنواع الجراحات القاتلة ، فيقول المعترض : [ هذا ](2) مسلّم ، ولكن لم لا يمنعه غيره من وجود الموانع ، وانتفاء الشرائط ، وعدم قيام المقتضي؟ فإنّ انتفاء مانع لا يستلزم انتفاء جميع الموانع ووجود جميع الشرائط والمقتضي.

ص: 533


1- عطف على « مدّعاه ».
2- اضيف للضرورة.

وجوابه : بيان أنّ المبطل هو المأخذ ، وإنّما يتأتّى ذلك إذا أثبته باشتهاره بين النظّار ورؤساء المذهب ، وإلاّ فمجرّد قوله بأنّه المأخذ لا يسمع بعد ما قال المعترض : ليس هذا مأخذي ؛ لأنّه مصدّق في ذلك ؛ نظرا إلى أنّه أعرف بمذهبه ومذهب إمامه.

وما قيل : أنّه لا يصدّق إلاّ ببيان مأخذ آخر لكونه معاندا (1) ، فضعيف جدّا.

واعلم أنّ ورود هذا القسم من القول بالموجب - وهو ما يقع لاشتباه المأخذ - أغلب في المناظرات ؛ لخفاء مدارك الأحكام لكثرتها وتشعّبها ، وورود الأوّل - وهو اشتباه محلّ الخلاف - نادر ؛ لشهرته ، أو تقديم تحرير محلّ النزاع غالبا.

[ القسم ] الثالث : أن يسكت عن صغرى غير مشهورة ، ويقتصر على إيراد الكبرى ، فيستعمل قياس الضمير ، كما إذا قال في الوضوء : ما يثبت قربة فشرطه النيّة كالصلاة ، ويسكت عن الصغرى وهي الوضوء يثبت قربة ، فيرد القول بالموجب ، ويقول المعترض :

هذا مسلّم وأمنع من اشتراط النيّة في الوضوء ، فهذا إنّما يرد إذا أهمل الصغرى ، وأمّا إذا ذكرها فلا يرد إلاّ منع الصغرى ، لا القول بالموجب بأن يقول : لا نمنع أنّ الوضوء يثبت قربة.

وجوابه : أنّ حذف إحدى المقدّمتين عند العلم بالمحذوف شائع ، والدليل هو المجموع دون المذكور وحده.

تنبيه

اعلم أنّ الجدليّين قالوا : إنّ القول بالموجب بأقسامه يؤدّي إلى انقطاع أحد المتناظرين ؛ إذ لو بيّن المستدلّ مراده في كلّ قسم بجوابه انقطع المعترض ، وإلاّ انقطع المستدلّ (2).

وقيل : هو بعيد في الثالث ؛ لاختلاف مراد المتناظرين ؛ فإنّ مراد المستدلّ أنّ الصغرى محذوفة ، ومراد المعترض أنّ المذكور وحده لا يفيد ، فإذا بيّن مراده فله منعه فيه ، فيستمرّ البحث (3). نعم ، إن سلّمه فقد انقطع.

ص: 534


1- حكاه الأنصاري في فواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 2 : 356 ، والمطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 4 : 229 ، ونسبه الآمدي إلى بعض الجدليّين في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 118.
2- حكاه الأنصاري عن الجدليّين في فواتح الرحموت 2 : 357 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 117 و 118.
3- حكاه المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 4 : 226.

[ المبطل ] السابع : الفرق. قيل : هو المعارضة في الأصل أو الفرع (1).

وقيل : مجموعهما ، حتّى لو اقتصر على أحدهما لم يكن فرقا (2) ، ولذا ردّه بعضهم بأنّه الجمع بين أسئلة مختلفة ، ومن قبله بين قائل بكونه جمعا بينهما ولا منع فيه ؛ لكونه أدلّ على الفرق (3) ، وقائل بأنّه سؤال واحد ؛ لاتّحاد المقصود منه (4).

وقيل : هو إبداء تعيّن في الأصل أو الفرع هو شرط أو مانع (5).

وربّما قيل : هو إبداء التعيّنين ، وهو كما يتحقّق بالتعرّض لوجود الشرط في الأصل ووجود المانع في الفرع ، يتحقّق بالتعرّض لوجود أحدهما فيما يخصّه ، وعدمه في الآخر ؛ لأنّ كلاّ من انتفاء الشرط وانتفاء المانع تعيّن (6). وهذا القول بقسميه مرجعه إلى منع وجود علّة الأصل في الفرع.

والحقّ ، أنّه أيضا لا يخرج عن المعارضة في الأصل أو الفرع ، فجوابه جوابها ؛ لأنّ المعارضة في الأصل إبداء وصف آخر فيه يصلح أن يكون علّة ، ولا ريب في أنّ المتعيّن غير المبهم والمقيّد غير المطلق ، والمعارضة في الفرع إبداء وصف يقتضي نقيض الحكم ، ولا ريب في أنّ المانع لشيء في قوّة المقتضي لنقيضه ، فهو وصف يقتضي نقيض حكم المستدلّ.

ولو قيل : المعارضة في الفرع إبداء ما يقتضي نقيض حكم المستدلّ من نصّ ، أو إجماع ، أو وجود مانع ، أو فوات شرط ، كما صرّح به جماعة (7) ، فيصير المقصود أوضح. وعلى أيّ

ص: 535


1- نسبه الآمدي إلى أبناء زمانه في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 108.
2- نسبه الآمدي إلى بعض المتقدّمين في المصدر.
3- حكاه الآمدي في المصدر.
4- حكاه الآمدي عن ابن سريج في المصدر.
5- قاله الأسنوي في نهاية السؤل 4 : 232.
6- للاطّلاع على الأقوال وأجوبتها راجع : المحصول 5 : 271 - 279 ، وسلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 4 : 230 - 235 ، والإحكام في أصول الأحكام 4 : 108 و 109 ، وتهذيب الوصول : 263 و 264 ، ونهاية السؤل 4 : 230 - 240.
7- منهم : الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 108 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 237 ، والمطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 4 : 231.

تقدير ، هو إنّما يقدح في العلّيّة إذا لم يجز تعليل الحكم بعلّتين ، وإن جاز - كما هو المختار - فلا يقدح فيها ، وهو ظاهر.

وهنا مسائل لا بدّ من التنبيه عليها :

[ المسألة ] الاولى : الحقّ جواز كون العلّة مركّبة ، كالقتل العمد العدوان.

أمّا عندنا ، فظاهر ؛ لأنّ المناط في إثبات العلّيّة عندنا هو النصّ ، ولا يمتنع النصّ على علّيّة متعدّد ، وقد وقع ، كما ذكر.

وأمّا عندهم ، فلأنّ المسالك التي يثبت بها علّيّة الواحد - من المناسبة والشبه والسبر وغيرها - يجوز أن يثبت بها علّيّة المتعدّد ، بأن يتحقّق في ضمن الهيئة الاجتماعيّة من أوصاف متعدّدة ، ويقرن ظنّ العلّيّة بها (1).

وذهب شرذمة قليلة إلى أنّ العلّة يجب أن تكون وصفا واحدا.

واحتجّوا عليه بأنّ العلّيّة صفة ، والصفة يجب قيامها بالموصوف ، وإلاّ لم تكن صفة له ، فالموصوف إن كان ذا أجزاء ، فإمّا أن يقوم بكلّ جزء ، فكلّ جزء علّة ، وهو خلاف المفروض. أو بواحد منها فهو العلّة. أو بجميع الأفراد ، فيلزم أن يقوم بكلّ جزء جزء منها ، فينتقض الصفة العقليّة وهو باطل. أو بالمجموع من حيث هو مجموع ، بأن يتعلّق بها جهة واحدة يتحقّق بها المجموع من حيث هو ، وهي أيضا صفة ، فينقل الكلام إليها ويتسلسل.

وبأنّ عدم كلّ جزء علّة لعدم العلّيّة ؛ لأنّ تحقّقها يتوقّف على تحقّق جميع الأجزاء ، فإذا انتفى جزء ينتفي العلّيّة ، فإذا انتفى جزء آخر يلزم تحصيل الحاصل ، أو تخلّف معلوله وهو انتفاء العلّيّة عنه (2).

ص: 536


1- منهم : الفخر الرازي في المحصول 5 : 305 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 220 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 288.
2- حكاه الفخر الرازي في المحصول 5 : 305 - 308 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 288 - 290 ، والمطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 4 : 289.

والجواب عن الأوّل : أنّ العلّيّة اعتباريّة ، فيجوز انتزاعها بالعقل ، أو وضع الشارع من عدّة امور.

وعن الثاني : أنّ ما يتوقّف وجوده على وجود امور يعدم لعدم واحد منها ، وليس عدم كلّ واحد منها علّة لعدمه.

وقد احتجّوا بوجوه أخر (1) أضعف ممّا ذكر ، تركناها ؛ لظهور ضعفها.

[ المسألة ] الثانية : لا ريب في جواز تعليل الحكم الشرعي بمثله إذا اخذ العلّة بمعنى الأمارة ؛ لبداهة جواز أن يجعل الشرع حكما معرّفا لآخر ، بأن يقول : إذا حرّمت كذا ، حرّمت كذا. وكذا إذا اخذت بمعنى الباعث ، كتعليل بطلان بيع العذرة بالنجاسة ؛ لأنّ الوجه الذي يثبت به علّيّة الأوصاف - من نصّ أو إيماء أو مناسبة أو غيرها - يثبت به علّيّة الحكم ، والفرق تحكّم.

وما قيل : إنّ العلّة تقارن المعلول ؛ لأنّ تأخّرها عنه باطل - كما تقدّم (2) - وتقدّمها عليه يوجب النقض ، والمقارنة تبطل الحكم بعلّيّة أحدهما دون الآخر ؛ للزوم التحكّم (3) ، ضعيف ؛ لعدم التحكّم بعد وجود مصحّح العلّيّة ، وهو إحداث في أحدهما دون الآخر.

[ المسألة ] الثالثة : يجوز التعليل بالأوصاف العرفيّة ، كالشرف والخسّة والكمال والنقصان بشرط الضبط والاطّراد وعدم اختلافها باختلاف الأزمنة (4) ، ووجهه ظاهر.

[ المسألة ] الرابعة : قيل : يجوز أن يكون الحكم الشرعي معرّفا للحكم الحقيقي ، كإثبات الحياة في الشعر بحرمته بالطلاق ، وحلّه بالنكاح ، كاليد (5). وهو كما ترى.

[ المسألة ] الخامسة : قد اختلف في مدرك حكم أصل القياس المنصوص عليه ، فالحنفيّة على أنّه النصّ ، والشافعيّة على أنّه العلّة (6).

ص: 537


1- راجع : المحصول 5 : 305 - 310 ، والإحكام في أصول الأحكام 3 : 234 - 238.
2- تقدّم في ص 501.
3- حكاه الفخر الرازي في المحصول 5 : 302 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 233.
4- قاله الفخر الرازي في المحصول 5 : 304.
5- المصدر.
6- حكاهما عنهم الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 270.

والحقّ ، أنّه العلّة إن كانت باعثة ؛ لأنّها مؤثّرة في الحكم ، والشرع أثبته لأجلها ، والنصّ إن كانت معرّفة ؛ لأنّ معرّف حكم الأصل ليس إلاّ النصّ.

[ المسألة ] السادسة : يجب أن يستدلّ بوجود العلّة على الحكم ، بأن يقال : وجد القتل العمد العدوان ، فيجب القصاص لا بعلّيّتها بأن يقال : علّيّته لوجوب القصاص ثابتة وقد وجد ، فيجب القصاص ؛ لأنّها نسبة يتوقّف ثبوتها على وجود الحكم والعلّة ، فلو توقّف الحكم عليها ، لزم الدور.

فصل [17]

لحكم الأصل أيضا شرائط :

منها : أن يكون ثابتا فيه ؛ لأنّ تشبيه الفرع به في ثبوته فرع ثبوته ، فالمنسوخ لا يعتبر. والنسخ لمّا دلّ على زوال اعتبار الجامع رأسا ، فلا يجوز أن يثبت به الحكم أصلا وإن لم يكن بالقياس على الحكم المنسوخ.

وفيه نظر ؛ لمنع دلالة النسخ على زوال اعتبار الجامع في غير محلّه ، فلمن جوّز الاستنباط إثبات الحكم فيه بأحد مسالكه ، ثمّ جعله أصلا ، وقياس غيره عليه إن شاء.

ومنها : أن يكون مثبتا بدليل غير القياس على ما ذكره الأكثر (1) ، وخالف فيه الحنابلة (2).

ولا بدّ من تحرير محلّ النزاع ، وهو بعد تمهيد مقدّمة ، وهي أنّه إذا قيس حكم على حكم آخر قيس هو أيضا على آخر ينعقد قياسان : أحدهما لإثبات المطلوب ، وهو القياس الأوّل ، ولنسمّ العلّة الثابتة فيه بالعلّة الاولى. والآخر لإثبات أصله وهو الثاني ، ولنسمّ العلّة الثابتة فيه بالعلّة الثانية ، والأصل في الأوّل فرع في الثاني ، فنسمّيه الأصل القريب ، ونسمّي الأصل في الثاني الأصل البعيد ، والفرع هو المطلوب.

وإذا عرفت ذلك ، فنقول : إن ثبت حكم القريب في القياس الأوّل بالعلّة الثابتة فيه ابتداء

ص: 538


1- منهم : الفخر الرازي في المحصول 5 : 360 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 215 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 303 و 304.
2- حكاه عنهم الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 215.

بالنصّ أو الاستنباط وقطع النظر عن اشتراط عدم شمول دليل علّة حكم الأصل أو علّة اخرى لحكم الفرع ، صحّ القياسان على قواعد العامّة (1) مطلقا ، وعلى قواعدنا (2) إن ثبت الحكم فيهما بعلّة منصوصة ، أو إيمائيّة معتبرة ، سواء اتّحدا في العلّة أم تغايرا فيها ؛ لأنّ حكم الأصل القريب قد ثبت في الأوّل أصلا ، وفي الثاني فرعا بالنصّ ، أو أحد طرق الاستنباط بعلّة واحدة ، أو علّتين. وتعليل الحكم بعلّتين جائز على الأقوى.

غاية الأمر أنّه في صورة اتّحاد العلّة لمّا ثبت بعلّة منصوصة أو مستنبطة وثبت حكم آخر في محلّ آخر بها ، فتارة قيس غيره عليه ملاحظة لكونه ثابتا بالنصّ أو الاستنباط ، وتارة قيس على الآخر إغماضا عنه.

وفي صورة تغايرها لمّا ثبت بعلّة منصوصة أو مستنبطة ، وثبت حكم آخر بعلّة اخرى موجودة فيه ، فتارة قيس غيره عليه لكونه ثابتا بالنصّ أو الاستنباط ، وتارة قيس على الآخر لوجود علّته فيه ، فهو ليس من المتنازع هنا ؛ لأنّ مرجعه إلى أنّه يمكن إثباته بالقياس باعتبار ، وبغيره باعتبار آخر ، وقد صار حكم الأصل في القياس الأوّل بالاعتبار الأخير.

نعم ، إن لوحظ اشتراط عدم شمول دليل علّة حكم الأصل ، أو علّة اخرى لحكم الفرع ، لم يصحّ القياس الثاني. وأمّا الأوّل ، فيصحّ على كلّ حال. فالمتنازع هنا أن يثبت حكم الأصل القريب في القياس الأوّل لا بالعلّة الاولى ، بل بالعلّة الثانية ، بأن يكون مرجعه إلى ما لم يمكن إثباته إلاّ بالقياس ، سواء اتّحدت أم لا. وحينئذ نقول : الحقّ أنّه لا يجوز كما ذهب إليه الأكثر (3).

لنا : أنّه لو اتّحد القياسان في العلّة ، فالقياس على الأصل البعيد وذكر القريب عبث ، كما إذا قال المستدلّ : السفرجل ربويّ كالتفّاح بجامع الطعم ، ثمّ يقيس التفّاح على البرّ بهذا الجامع ؛ فإنّ إمكان قياس السفرجل على البرّ أوّلا جعل توسّط التفّاح لغوا. ومنه قياس الوضوء على التيمّم ، والتيمّم على الصلاة في اشتراط النيّة بجامع العبادة.

وإن تغايرا فيها لم ينعقد القياس الأوّل ؛ لأنّ العلّة الاولى لم يثبت اعتبارها بوجه ؛ لأنّ

ص: 539


1- راجع : المحصول 5 : 360 ، والإحكام في أصول الأحكام 3 : 215.
2- راجع تهذيب الوصول : 264.
3- منهم : الفخر الرازي في المحصول 5 : 360 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 216 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 264 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 303.

الفرض عدم مدخليّتها في إثبات حكم الأصل القريب ؛ لأنّ معنى كونه مثبتا بالقياس لا غير أن لا يثبت في الفرع بعلّة ابتداء من دون التوصّل إلى علّة اخرى ، والتي ثبت اعتبارها فيه - وهي الثانية - لم يثبت في القياس الأوّل ، فلا مساواة في أصله وفرعه في العلّة ، فلا تعدية ؛ لأنّها تتوقّف على أن يثبت حكم الفرع بما يثبت به حكم الأصل. فهذا القياس باطل وإن جاز تعليل حكم واحد بعلّتين ؛ لأنّ الفرض عدم إمكان إثبات حكم الأصل القريب إلاّ بالتوصّل إلى العلّة الثانية ، وبعد التوصّل بها إليه كانت الاولى ملغاة عديمة الأثر ؛ لأنّها تعرف بعد ما عرف تعليله بالثانية.

مثاله : أن يقول المستدلّ : الجذام ينفسخ به النكاح كالقرن والرتق بجامع كونه عيبا يفسخ به البيع ، ثمّ يقيس القرن والرتق على الجبّ بجامع كونه مفوّتا للاستمتاع ، فالحكم في الفرع - وهو الجذام - إنّما يثبت بكونه عيبا يفسخ به البيع ، وفي الأصل القريب - وهو القرن والرتق - قد يثبت بفوات الاستمتاع ، فيمتنع التعدية.

ومنه قياس الوضوء على التيمّم في اشتراط النيّة بجامع الطهارة ، وقياس التيمّم على الصلاة فيه بجامع العبادة. هذا.

واحتجّ الخصم بمنع وجوب المساواة بين الفرع والأصل في العلّة ، وجواز إثبات الحكم في الفرع بعلّة ، وفي الأصل باخرى ، كما يجوز إثباته في الفرع بدليل هو القياس ، وفي الأصل بآخر هو النصّ أو الإجماع ، وعدم مانع سواه (1).

وجوابه : الفرق بين العلّة والدليل بأنّه يلزم من عدم المساواة في العلّة امتناع التعدية وبطلان القياس كما عرفت (2) بخلاف اختلاف الدليلين. هذا.

واعلم أنّ المتنازع هو حكم الأصل الذي قبله المستدلّ ومنعه المعترض ، كما تقدّم. وأمّا إن كان بالعكس ، فلا خلاف في فساد القياس ؛ لأنّه يتضمّن اعتراف المستدلّ بالخطإ في الأصل ، والاعتراف بفساد إحدى مقدّمات الدليل يوجب الاعتراف بفساده ، ولا يسمع من المدّعي ما اعترف بفساده.

ص: 540


1- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 215 و 216 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 297 و 311.
2- تقدّم في ص 539.

مثاله : قول الحنفي في الصوم الواجب بنيّة النفل : أتى بما امر به فيصحّ ، كالحجّ الواجب ، وهو لا يقول بصحّة الحجّ الواجب بنيّة النفل ، بل الشافعي هو القائل به (1) ، فقياسه فاسد ؛ لأنّه بنى فرعه على ما هو معترف ببطلانه ، ولا يصلح ذلك إلزاما للخصم ؛ لجواز أن يقول : العلّة في الأصل عندي غير هذا الوصف ، أو لا بدّ لي من التزام الخطأ في الأصل أو الفرع ، ولا يتعيّن الخطأ في الفرع حتّى يحصل مطلوبك ، وربّما ألتزم الخطأ في الأصل ، ولا يضرّني ذلك في الفرع.

ومنها : أن يكون حكما شرعيّا إذا كان حكم الفرع شرعيّا ؛ لأنّ المطلوب حينئذ إثبات حكم شرعي للمساواة في علّته حتّى يكون القياس شرعيّا ، ولا يتصوّر ذلك إذا كان حكما عقليّا أو لغويّا ، كما لو قال : شراب مشتدّ فيوجب الحدّ ، كما يوجب الإسكار ، أو كما يسمّى خمرا. هذا ما ذكره الأكثر (2).

واعترض عليه بأنّ ثبوت الحكم في الفرع يتوقّف على ثبوته في الأصل وعلى تعليله بوصف معيّن ووجوده في الفرع ، فلو استند الأوّل فقط إلى العقل أو اللغة لم يخرج القياس عن الشرعي ، إذا استند الأخيران إلى الشرع ؛ لأنّ إثبات حكم الفرع حينئذ بالشرع ؛ لأنّ المأخوذ من المقدّمات الشرعيّة شرعي (3).

والتحقيق على قواعد الفريقين أنّه إذا علم الأخيران يجوز أن يثبت به الحكم في الفرع وإن لم يعلم ثبوت حكم الأصل أصلا ؛ فإنّه إذا علم أنّ الشدّة علّة الحدّ ، وأنّها وجدت في هذا الشراب ، فشربه يوجب الحدّ وإن لم يعلم أنّها توجب الإسكار ، إلاّ أنّ إثبات الحكم حينئذ ليس بالقياس ؛ لأنّه يتوقّف على مساواة الفرع للأصل في حكمه ، فلا بدّ من وجود أصل وتشبيه الفرع به في حكمه حتّى يتحقّق القياس ، ويجب أن يكون حكم الفرع مساويا لحكم الأصل إمّا في عينه أو في جنسه - كما يأتي (4) - فحكم الأصل العقليّ إذا لم يكن

ص: 541


1- راجع بداية المجتهد 2 : 293.
2- منهم : الفخر الرازي في المحصول 5 : 339 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 215 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 264.
3- حكاه الفخر الرازي عن أكثر أصحابه وجمهور الحنفيّة في المحصول 5 : 339 ، وهو رأي المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 4 : 44 ، وحكاه الأسنوي في نهاية السؤل 4 : 44.
4- يأتي في ص 547.

مساويا لحكم الفرع الشرعيّ المطلوب إثباته - كما هو الغالب - لم ينعقد منه القياس ، وإن كان مساويا له انعقد ، إلاّ أنّه يبقى النظر في موضعين :

أحدهما : هل هو حينئذ قياس عقلي لكون أحد مقدّماته عقليّا ، أو شرعيّ لكون بواقيها شرعيّة؟ والظاهر فيه الإلحاق بالغالب.

وثانيهما : أنّه إذا كان عقليّا فهل يكون حجّة كما إذا كان شرعيّا ، أم لا؟

وتحقيقه يتوقّف على بيان ما بقي الكلام فيه ، وهو صحّة كون حكم الأصل لغويّا أو عقليّا ، إذا كان المطلوب إثبات حكم لغوي أو عقلي حتّى يكون القياس لغويّا أو عقليّا. فنقول : قد مرّ أنّ القياس لا يجري في اللغة ، وأمّا جريانه في العقليّات من الصفات والأفعال فلم يجوّزه جماعة (1) ؛ لأنّه لا يفيد أزيد من الظنّ ، وهو غير معتبر في المباحث العقليّة. وجوّزه أكثر المتكلّمين ، وعدّوا منه إلحاق الغائب بالشاهد (2) في بعض الصفات ، كقياس الواجب [ تعالى ] على غيره في كونه عالما بعلم. أو بعض الأفعال ، كقياسه عليه في كون فعله بالاختيار ، وقالوا : لا بدّ فيه من جامع عقليّ ، وهو إمّا علّة ، كالوجود في قول الأشعري : الواجب موجود فيكون مرئيّا ، كما في الشاهد ؛ فإنّ الجمع بينهما بالوجود وهو علّة الرؤية عندهم.

أو حدّ كما في قولنا : الواجب من ثبت له العلم ، فيكون عالما كغيره ؛ فإنّ الجمع بينهما بثبوت العلم له وهو حدّ لما يراد إثباته أي العالم.

أو شرط ، كقولنا : الواجب حيّ فيكون مدركا ، كما في الشاهد ؛ فإنّ الجامع هنا هو الحياة التي هي شرط الإدراك.

أو دليل ، كما في قولنا : التخصيص والأحكام يدلاّن على الإرادة والعلم في الشاهد ، فكذا في الغائب ؛ فإنّ الجامع هنا - أي التخصيص والأحكام - دليل على إثبات الحكم المطلوب. هذا.

ص: 542


1- قاله البصري في المعتمد 2 : 327 ، والغزالي في المستصفى : 328 ، ونسبه المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 4 : 22 إلى الجمهور وابن الهمام.
2- قاله الفخر الرازي في المحصول 5 : 333 ونسبه أيضا إلى أكثر المتكلّمين ، والمطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 4 : 42 ونسبه أيضا إلى أكثر المتكلّمين ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 42.

وما يقتضيه النظر أنّ الأقيسة العقليّة تختلف كما تختلف الأقيسة الشرعيّة ، فيفيد بعضها اليقين بالمطلوب ، وبعضها الظنّ به. والتفصيل لا يخفى على من أحاط بمباحث القياس وشرائطه.

ومنها (1) : أن لا يتناول دليله حكم الفرع ، وإلاّ لزم الترجيح بلا مرجّح ، كما إذا قيل : الذّرة ربويّة كالبرّ بجامع الطعم ، فيقال : قوله عليه السلام : « لا تبيعوا الطعام بالطعام إلاّ يدا بيد سواء بسواء » (2) يتناول ربويّة الذرة ، كما يتناول ربويّة البرّ ؛ لصدق الطعام عليها.

واعلم أنّ العلّة إن كانت منصوصة ، فدليل الحكم في الأصل هو دليل العلّة أي النصّ. وقد تقدّم (3) اشتراط عدم تناول دليل العلّة بعمومه أو خصوصه لحكم الفرع ، مع ما فيه.

وإن كانت مستنبطة ، فدليله غير دليلها ؛ لأنّه دليله حينئذ هو عموم النصّ أو خصوصه ، ودليلها أحد مسالك الاستنباط. والمراد من دليله هنا ما يعمّ دليله في المنصوصة والمستنبطة. هذا.

والحقّ ، أنّ هذا الشرط غير لازم ؛ لما تقدّم (4) من جواز إثبات حكم واحد بأدلّة متعدّدة ؛ لتقوية الظنّ من تعاضدها ، وقد كثر ذلك في كتب الفقه (5) ، مع أنّه يجوز أن يكون دلالة الدليل على حكم الأصل الأقوى ، بأن يدلّ عليه بالمطابقة ، وعلى حكم الفرع بالتضمّن أو الالتزام.

ومنها : أن لا يكون معدولا به عن سنن القياس ، أي يكون بحيث يوجد مثل علّته في أصل آخر غير محلّه ، فلو علم انتفاء ذلك لم يصحّ القياس عليه ، ويقال له : إنّه معدول عن سنن القياس ، وهو إمّا أن لا يعقل معناه ، أو يعقل ولكن لا نظير له. والأوّل إمّا أن يكون مستثنى عن قاعدة كلّيّة مقرّرة ، كقبول شهادة خزيمة وحده ؛ فإنّه لا يعقل معناه وقد اخرج عن قاعدة الشهادة ، وعلم قطعا أنّه لم يخرج منها إلاّ هذا الفرد ، بل قطع بثبوت حكم خلافه

ص: 543


1- أي شرائط حكم الأصل.
2- ذكره النووي في المجموع 10 : 22.
3- تقدّم في ص 503.
4- راجع ص 536.
5- كشهادة خزيمة ، تقدير الركعات ، الحدود ، الكفّارات ، اليمين في القسامة وضرب الدية على العاقلة ، راجع جامع الاصول 10 : 195 ، و 1 : 77.

فيما عداه ، فلم يثبت مثل علّته المجهولة في أصل آخر ، ولذلك لا يصحّ القياس عليه وإن كان محلّ الفرع أعلى رتبة في المعنى المناسب من الصدق والتديّن من محلّه. أو لا يكون مستثنى عنها ، كأعداد الركعات ، ومقادير الحدود والكفّارات.

والثاني إمّا أن يكون له معنى ظاهر ، كترخّص المسافر ؛ فإنّ علّته السفر ؛ لما فيه من المشقّة ، ولكنّ هذا الوصف - وهو المعنى المقتضي للرخصة لما فيه من المشقّة - لم يوجد في محلّ آخر ممّا يشتمل على المشقّة وإن كانت فوق مشقّة السفر.

أو لا يكون له معنى ظاهر ، كالقسامة ؛ فإنّ علّتها التغليظ في حفظ الدماء ، لكنّه علم قطعا أنّه لم يوجد مثله في محلّ آخر. هكذا قيل (1).

ولا يخفى عليك أنّه إن كان المراد - على ما هو الظاهر من هذا الشرط - ثبوت مثل علّة حكم الأصل في محلّ آخر هو الأصل ، ففيه أنّ العلم بانتفاء ذلك لا يمنع من صحّة القياس عليه بعد وجود مثل علّته المنصوصة في محلّ الفرع ؛ لجواز انتفاء حكم وعلّته في سائر المحالّ بعنوان الأصالة ، وإمكان إتيانه في بعضها بالقياس.

وإن كان المراد ثبوت مثل علّته في محلّ آخر هو الفرع حتّى لو علم انتفاؤه في جميع ما عداه من الموارد ، لم يصحّ القياس ، ففيه أنّ ذلك مسلّم إلاّ أنّه ظهر من اشتراك كون العلّة وصفا جامعا مشتركا.

ومنها (2) : أن لا يكون ذا قياس مركّب ، وهو أن يتّفق المتناظران على حكم الأصل من دون أن يكون منصوصا أو مجمعا عليه ، مع منع المعترض لعلّة الأصل ، أو لوجودها فيه. والأوّل مركّب الأصل ، والثاني مركّب الوصف.

مثال الأوّل : كما لو قال الشافعي في مسألة قتل الحرّ بالعبد : عبد فلا يقتل به الحرّ ، كالمكاتب ؛ فإنّ حكم الأصل - وهو عدم الاقتصاص من المكاتب - غير متّفق عليه بين الامّة ، وإنّما اتّفق عليه الشافعي والحنفي.

والحنفي يقول : علّة حكم الأصل عندي جهالة المستحقّ للقصاص من السيّد والورثة لا

ص: 544


1- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 218.
2- أي شرائط حكم الأصل.

العبوديّة ، وهذه العلّة لم توجد في العبد ، فإن صحّت بطل إلحاق العبد به في الحكم ؛ لعدم اشتراكه له في العلّة ، وإن بطلت أمنع حكم الأصل وأقول : يقتل الحرّ بالمكاتب ؛ لعدم المانع ، فهو لا ينفكّ عن عدم العلّة في الفرع إن كانت العلّة هي الجهالة ، أو منع حكم الأصل إن كانت العبوديّة ؛ لعدم صحّتها عنده (1).

ومثال الثاني : كما إذا قال الشافعي في تعليق الطلاق قبل النكاح : تعليق للطلاق فلا يصحّ قبل النكاح ، كما لو قال : « هذه التي أتزوّجها طالق » فيمنع الحنفي وجود التعليق في الأصل ويقول : إنّه تنجيز ، فإن صحّ منعه بطل الإلحاق ؛ لعدم الجامع ، وإلاّ منع الحكم في الأصل ، فلا ينفكّ عن منع علّة الأصل ، أو منع حكمه (2). هذا.

وقيل : سمّي مركّبا ؛ لاختلاف الخصمين في تركّب الحكم على العلّة ؛ فإنّ المستدلّ يزعم أنّ العلّة مستنبطة من الحكم وفرع له ، والمعترض يزعم عكسه ، ولذا يمنع ثبوته عند انتفائها (3).

وقيل : سمّي مركّبا ؛ لاختلافهما في علّة الحكم (4).

واعترض عليه بأنّه يلزم حينئذ أن يكون كلّ قياس اختلف في علّة أصله مركّبا وإن كان منصوصا أو مجمعا عليه (5).

واجيب عنه بأنّه لا يلزم اطّراد وجه التسمية (6).

وقيل : سمّي مركّبا ؛ لأنّ كلّ واحد منهما يثبت الحكم بقياس ، فيجتمع قياسهما (7). وهو أصحّ الوجوه ، إلاّ أنّه يرجع إلى سابقه ؛ لأنّ القياسين متّحدان في حكم الأصل ، واختلافهما إنّما هو باختلاف علّته.

بقي النظر في وجه تسمية الأوّل مركّب الأصل ، والثاني مركّب الوصف ، وهو - على ما قيل - كون النظر في الأوّل في علّة حكم الأصل ، وفي الثاني في وجود العلّة في الأصل ،

ص: 545


1- لمزيد الاطّلاع على جميع الأقوال راجع بداية المجتهد 2 : 398 و 399.
2- راجع المصدر 2 : 78.
3- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 219 و 220.
4- حكاه الآمدي عن بعض الاصوليّين في الإحكام في أصول الأحكام : 219.
5- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 219.
6- قاله المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 4 : 308.
7- قاله الأسنوي في نهاية السؤل 4 : 304.

وهو نظر في نفس الوصف. وهو (1) كما ترى.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ عدم صحّة القياس المذكور عندنا ظاهر ؛ لكون علّته مستنبطة ، وكذا عند العامّة (2) ؛ لأنّه لمّا استدلّ فيه باتّفاق الطرفين ، وفي الأوّل أظهر الخصم ما يختصّ بالأصل يدّعي أنّ ذلك هو العلّة عنده ، وهو وارد ولا سبيل للمستدلّ إلى دفعه ؛ لأنّه لا يمكنه إقامة الدليل على أنّ علّته هي العلّة عنده. وفي الثاني منع وجود العلّة ، وهو أيضا وارد ، فإذا طريق ثبوت المطلوب في الأوّل إنّما هو اعتراف الخصم بأنّها العلّة ، وفي الثاني اعترافه بأنّها موجودة ، أو إثبات المستدلّ وجودها في الأصل بدليل ينتهض حجّة.

وبما ذكر يظهر أنّ كلّ موضع يستدلّ فيه باتّفاق الخصمين يتأتّى فيه دعوى أنّه ذو قياس مركّب ؛ لأنّ الخصم لا يعجز عن بيان ما يختصّ بالأصل يدّعي أنّه هو العلّة عنده.

ثمّ ما ذكر كلّه إنّما يتأتّى إذا ثبت حكم الأصل بمجرّد اتّفاق الخصمين ، والعلّة بأحد مسالك الاستنباط ، وأمّا إذا ثبت كلاهما بالإجماع أو النصّ ، فالقياس صحيح عند الفريقين (3) ، إلاّ أنّه ليس قياسا مركّبا. وكذا إن ثبت أحدهما بالإجماع والآخر بالنصّ ، أو الإيماء المعتبر ، أو ثبت أحدهما بأحدهما والآخر باتّفاق الخصمين.

مثال ما ثبت الحكم فيه بالنصّ ، والعلّة بالإيماء : ما يقال في اختلاف المتبايعين عند تلف المبيع : متبايعان تخالفا فيتحالفان ويبرءان ، كما لو كانت باقية ؛ لقوله عليه السلام : « إذا اختلف المتبايعان فليتحالفا وليبرآ » (4) ؛ فإنّ الحكم فيه قد ثبت بالنصّ ، والعلّيّة بالإيماء. ولو ثبت الحكم بالنصّ والعلّة بطريق من طرق الاستنباط ، فالحقّ أنّ القياس يصحّ حينئذ على قواعد العامّة (5) وإن لم يصحّ عندنا ؛ لصحّة إثبات الحكم بالنصّ والعلّيّة بالاستنباط عندهم.

ص: 546


1- قاله المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 4 : 308.
2- راجع : الإحكام في أصول الأحكام 3 : 218 - 221 ، ونهاية السؤل 4 : 304 - 311 ، وسلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 4 : 304 - 311.
3- راجع : الإحكام في أصول الأحكام 3 : 277 ، وتهذيب الوصول : 265.
4- ذكره الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 270 ولم نعثر عليه في كتب الحديث.
5- راجع : المحصول 5 : 139 ، والإحكام في أصول الأحكام 4 : 58.

وقيل : لا بدّ في حكم الأصل من إجماع إمّا مطلقا أو بين الخصمين ، وإلاّ أمكن منعه وهو يوجب انتشار الكلام وتسلسل البحث ، فينتفي مقصود المناظرة (1).

وجوابه لو لم يقبل ، لم يقبل كلّ مقدّمة يقبل المنع وهو باطل.

ومنها (2) : أن يكون معلّلا بجامع معيّن ؛ لأنّ ردّ الفرع إليه إنّما يصحّ بذلك ، وقد علم مرارا أنّ طريق التعليل عند كلّ من الفريقين ما ذا.

ومنها : أن لا يتأخّر عن حكم الفرع ، كقياس الوضوء على التيمّم في وجوب النيّة بجامع العبادة ، والتيمّم متأخّر عن الوضوء ؛ لأنّه ثبت بعد الهجرة ، كذا قيل (3).

واستدلّ عليه بأنّ حكم الفرع إمّا أن يكون ثابتا قبل ثبوت حكم الأصل - إمّا بدليل ، فهو المثبت له دون القياس ؛ أو بدونه ؛ فيلزم ثبوت الحكم بدون دليل ، وهو باطل - أو لا ، فيكون ذلك كالنسخ (4).

وفيه نظر ؛ لأنّ تجدّد ثبوت حكم الفرع بشرع حكم الأصل إنّما يرفع عدم ثبوته ، وهو حكم عقلي ورفعه ليس نسخا ؛ لأنّ النسخ رفع حكم ثابت شرعي بدليل شرعي. فالحقّ أنّ هذا الشرط غير لازم.

فصل [18]

وللفرع أيضا شرائط :

منها : أن يساوي علّته علّة الأصل فيما يقصد فيه المساواة من عينها ، كالشدّة المطربة في الخمر ، الموجودة بعينها في النبيذ. أو جنسها ، كالجناية المشتركة بين القطع والقتل في قياس الأطراف على النفس في القصاص. هذا.

ص: 547


1- حكاه الفخر الرازي عن البشر المريسي في المحصول 5 : 368 ، والأسنوي عن الكرخي والبشر المريسي في نهاية السؤل 4 : 320.
2- أي شرائط حكم الأصل.
3- حكاه الفخر الرازي عن جماعة في المحصول 5 : 361 ، وفيه : « قالوا : يجب ... » ، وقاله العلاّمة في تهذيب الوصول : 265.
4- قاله الفخر الرازي في المحصول 5 : 361.

والمراد بالمساواة فيما يقصد فيه المساواة : المساواة في الحقيقة ، سواء كانت في تمام الحقيقة ، بحيث لا يكون اختلاف إلاّ بالعدد كما في الأوّل ، أو بعضها كما في الثاني ، فلا يلزم المساواة في القوّة والضعف ، والقطعيّة والظنّ ، فيجوز أن يكون الحكم في الفرع أقوى أو أضعف.

ثمّ لزوم اعتبار هذا الشرط على قواعد الفريقين ظاهر ؛ لأنّ المقصود تعدية حكم الأصل إلى الفرع ؛ للاشتراك في العلّة ، ولا يتحقّق الاشتراك بدون وجود حقيقة علّة الأصل بخصوصها أو عمومها في الفرع.

ومنها : أن يساوي حكمه حكم الأصل فيما يقصد فيه المساواة من عين الحكم ، كوجوب القصاص في النفس ، المشترك بعينه بين القتل بالمثقل والمحدّد. أو جنسه كإثبات الولاية على الصغيرة في نكاحها ؛ قياسا على إثبات الولاية عليها في مالها ؛ فإنّ ولاية النكاح ليست عين ولاية المال ، ولكنّها تشاركها في الجنس ؛ لأنّ جنس الولاية يجمعهما ، ووجه اعتبار هذا الشرط ظاهر عندنا وعند العامّة (1).

ومنها : أن لا يكون منصوصا عليه عند جماعة (2) ، والنصّ هنا أعمّ من نصّ حكم الأصل وغيره ، فلا تكرار ؛ لما سبق.

ووجه اعتباره أنّه لولاه لثبت الحكم بالنصّ وضاع القياس.

وفيه نظر ، لما عرفت (3) من جواز توارد أدلّة متعدّدة على مدلول واحد. فالحقّ خلافه. هذا.

وقد شرط قوم القطع بوجود العلّة فيه ، والدليل على حكمه إجمالا (4) ، كما يقال : قد ثبت الحدّ في الخمر من دون تعيّن عدد الجلدات ، فتعيّن بالقياس على القذف.

ص: 548


1- راجع : المحصول 5 : 371 و 372 ، وتهذيب الوصول : 266.
2- قاله الغزالي في المستصفى : 328 ، والفخر الرازي في المحصول 5 : 372 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 276 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 266 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 333.
3- تقدّم في ص 513.
4- حكاه الفخر الرازي عن أبي هاشم في المحصول 5 : 372 ، والآمدي عن قوم في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 276.

وهما مردودان ؛ لأنّ الظنّ يحصل بدونهما ، وهو كاف.

فصل [19]

جوّز الشافعيّة جريان القياس في الحدود ، والكفّارات ، والرخص ، والتقديرات (1).

ومنعه الإماميّة والحنفيّة (2).

مثال الأوّل : كما يقال : يجب قطع النبّاش ، كما يجب قطع السارق بجامع أخذ مال الغير خفية (3).

ومثال الثاني : ما يقال : تجب الكفّارة على قاتل النفس عمدا ، كما يجب على قاتلها خطأ (4) ؛ لأنّه هو المنصوص في الآية (5).

ومثال الثالث : ما يقال : يجوز التداوي بغير بول الإبل من المحرّمات ؛ قياسا عليه بجامع حصول الصحّة (6).

ومثال الرابع : ما يقال : يجزئ نزح دلو واحد تسع عشرين دلوا في الفأرة ؛ قياسا على العشرين (7).

احتجّ الأوّلون بعموم أدلّة القياس. وبأنّ حجّيّة سائر الأقيسة لافادتها الظنّ ، وهو حاصل هاهنا.

وبعمل الصحابة ؛ حيث اتّفقوا على إقامة حدّ القاذف على شارب الخمر ؛ أخذا بقول عليّ عليه السلام : « إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، فاجلدوه حدّ المفتري » (8)

ص: 549


1- قاله البصري في المعتمد 2 : 264 ، وحكاه عنهم الفخر الرازي في المحصول 5 : 349 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 64.
2- راجع : اصول السرخسي 2 : 163 ، وفواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 2 : 317 ، وتهذيب الوصول : 270.
3- راجع مختلف الشيعة 9 : 285 و 286.
4- راجع بداية المجتهد 2 : 449.
5- النساء (4) : 92.
6- راجع مختلف الشيعة 8 : 353 ، المسألة 53.
7- حكاه العلاّمة عن عليّ بن بابويه وابنه في مختلف الشيعة 1 : 40 ، المسألة 18.
8- الكافي 7 : 215 ، باب ما يجب فيه من الحدّ في الشراب ، ح 7 ، وتهذيب الأحكام 10 : 90 ، ح 346.

وهو عمل بالقياس ؛ لأنّه عليه السلام قاس السكر على القذف في وجوب ثمانين جلدة بجامع كونه مظنّة الافتراء (1).

واحتجّ الآخرون بأنّ فيها تقديرات لا يعقل معناها ، ولا يدركها العقل ، كأعداد الركعات ، ونصب الزكوات ، وأعداد الجلدات ، وغير ذلك. وبأنّ في القياس شبهة ؛ لاحتمال الخطأ فيه ، فيجب أن يدرأ به الحدود ، أي لا يثبت به ؛ لقوله عليه السلام : « ادرءوا الحدود بالشبهات (2) » (3).

واجيب عن الأوّل بأنّ المبحث ما يعقل معناه كالأمثلة المذكورة ؛ فإنّ العلّة والحكم فيها معلومتان (4) ، وأمّا ما لا يعقل معناه ، فلا كلام في عدم جريان القياس فيه ، كغير الحدود والكفّارات ، ولا مدخليّة لتخصيص المنع بها.

وعن الثاني بالنقض بخبر الواحد والشهادة ؛ فإنّ احتمال الخطأ يجيء فيهما ، مع أنّ الحدود تثبت بهما (5).

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الحقّ على اصول العامّة ما ذهب إليه الشافعيّة ؛ لقوّة أدلّتهم وضعف أدلّة الحنفيّة ، كما عرفت (6) ، ولأنّ الحنفيّة أثبتوا كثيرا من الحدود والكفّارات والرخص والتقديرات بالقياس ، وكثرت أقيستهم فيها ، ولذا ناقضهم الشافعي بها ، وأجابوا عنه بتأويلات بعيدة (7). وكذا على اصولنا لو لا الإجماع على خلافه ؛ لعدم تعقّل الفرق بينها وبين غيرها من الأقيسة ؛ نظرا إلى عموم الأدلّة وإن كان باقي أدلّة الشافعي غير صحيح عندنا إلاّ أنّ الظاهر وفاق الأصحاب على بطلان العمل به فيها مطلقا.

وممّا يتفرّع على جواز إثبات الرخص به عدم بطلان صلاة الخوف بضربات متوالية ، أو

ص: 550


1- حكاه الآمدي عن الشافعي وأحمد بن حنبل وأكثر الناس في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 64 و 65.
2- الجامع الصحيح 4 : 33 ، ح 1424 ، وكنز العمّال 5 : 305 ، ح 12957.
3- حكاه الفخر الرازي في المحصول 5 : 352 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 65.
4- كذا في النسختين. ولكنّ تغليب المؤنّث على المذكّر غير معتاد.
5- المجيب هو الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 66.
6- آنفا.
7- راجع : الإحكام في أصول الأحكام 4 : 64 ، والمعتمد 2 : 264 ، وتهذيب الوصول : 270.

ركوب في أثنائها يحصل منهما فعل كثير ؛ قياسا على عدم بطلانها بالمشي في أثنائها ؛ لورود النصّ به خاصّة ، وجواز النيابة في الصلاة والاعتكاف عن الميّت مع أنّ الأصل امتناعها في الأفعال البدنيّة ؛ قياسا على جوازها في الصوم والحجّ والدعاء والصدقة.

فصل [20]

الحقّ أنّه لا يصحّ القياس في الأسباب والشروط ، بأن يجعل وصف سببا أو شرطا لحكم قياسا على وصف آخر جعله الشارع سببا أو شرطا له ، خلافا لأكثر الشافعيّة (1). مثاله في الأسباب أن يقال : اللواط سبب للحدّ كالزنى ، والقتل بالمثقل سبب للقصاص كالقتل بالمحدّد.

لنا أنّ معنى قياس وصف الفرع على وصف الأصل في السببيّة أن يجعل سببا للحكم لتحصيل الحكمة المقصودة في الفرع كوصف الأصل ، وهو - أي وصف الفرع - لمّا اثبت بمجرّد قياسه على وصف آخر مغاير له ، اعتبره الشرع لتحصيل الحكمة ؛ إذ المفروض تغاير الوصفين من دون أن يعتبره الشرع سببا في محلّ معلّلا باشتماله على الحكمة ، فلا يشهد له أصل بالاعتبار ، فهو مناسب مرسل لا يعتبر.

ولنا أيضا : أنّه لا بدّ في وصف الأصل من وجود علّة لسببيّة ، وهي الحكمة المقصودة ، وهي إمّا توجد في وصف الفرع أو لا. فعلى الثاني لا يصحّ القياس ؛ لأنّه لا بدّ فيه من علّة جامعة ، والفرض أنّه لا علّة في الفرع.

وعلى الأوّل إمّا أن يكون قدر الحكمة الذي يتضمّنه المقيس مساويا للقدر الذي يتضمّنه المقيس عليه ، أو لا. فعلى الثاني لا يصحّ الجمع بينهما في الحكم ، أي السببيّة ؛ لأنّه يتوقّف على الجمع بينهما في العلّة ، والفرض اختلاف العلّة فيهما.

وعلى الأوّل إمّا أن يكون الحكمة المشتركة ظاهرة منضبطة ، أو لا.

فعلى الثاني إمّا أن يكون لها مظنّة أو وصف ظاهر منضبط يضبطها ، أو لا.

فإن كان ، فهو يستقلّ بإثبات الحكم المرتّب على الوصف ، فيتّحد الحكم والسبب ، ولا

ص: 551


1- حكاه الآمدي عن الشافعيّة في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 67 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 50.

حاجة إلى وصفين آخرين يكون أحدهما سببا في الأصل ، والآخر سببا في الفرع.

وإن لم يكن ، فيكون قياسا خاليا عن الجامع ؛ لأنّ الحكمة المضطربة لا يصحّ أن تكون جامعة ؛ لاحتمال التفاوت فيها بين الأصل والفرع ، واحتمال التساوي إن كان كافيا فيكفي هذه الحكمة المضطربة ، ولا حاجة إلى الوصفين.

وعلى الأوّل إمّا أن يقال بصحّة جعل الحكمة المنضبطة مناطا للحكم وجواز التعليل بها ، أو لا. فعلى الثاني إمّا أن يكون لها مظنّة أو وصف ظاهر يضبطها ، أو لا ، فإن كان ، فهو المناط للحكم ، وإن لم يكن ، لم يصحّ التعليل والجمع بين الأصل والفرع بها.

وعلى الأوّل تكون الحكمة مستقلّة بإثبات الحكم ، وتكون هي الجامعة بينهما ، وصار القياس في الحكم المرتّب على الحكمة ، ولا حاجة إلى الوصفين ، فيتّحد الحكم والسبب أيضا. مثلا : إذا ثبت أنّ إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعا محرّم شرعا يصلح سببا للحكم ، صار القياس في وجوب الجلد في اللواط كما في الزنى بجامع هذا الوصف ، فيكون هناك حكم واحد هو وجوب الجلد ، وسبب واحد هو الإيلاج المحرّم ، وكان المفروض أنّ هناك حكمين : الجلد والسببيّة ، وسببين : الزنى واللواط.

احتجّ الخصم بأنّه يثبت القياس في الأسباب كما في المثالين (1).

وجوابه : أنّ النزاع فيما يختلف السبب والحكمة في الأصل والفرع ، وليس الأمر فيهما (2) وفي أمثالهما كذلك ؛ لأنّ كلاّ من السبب والحكمة فيهما في الأصل والفرع واحد ؛ فإنّ السبب في مثال الزنى واللواط في الأصل والفرع إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعا محرّم شرعا واحد ، لا نفس الزنى واللواط ، والحكمة الزجر لحفظ النسب ، والحكم وجوب الحدّ. وفي مثال المثقل والمحدّد السبب القتل العدوان ، والحكمة الزجر لحفظ النفوس ، والحكم وجوب القصاص. هذا.

ويمكن جعل النزاع لفظيّا بأن يقال : مراد القائل بصحّة القياس في الأسباب ثبوت الحكم بالوصفين ؛ لما بينهما من الجامع ، ويرجع إلى ما ذكر من وحدة السبب والحكمة.

ص: 552


1- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 67 و 68.
2- أي في المثالين.

تذنيب يشتمل على مسائل :

الاولى : قيل : لا يجري القياس في العادات كأقلّ الحيض والنفاس والحمل وأكثرها ؛ لأنّ لها أسبابا خفيّة لا بدّ في معرفتها من الرجوع إلى قول الشارع (1).

الثانية : الأكثر على أنّه لا يجري القياس في اصول العبادات ، كإثبات صحّة الصلاة بإيماء الحاجب بالقياس (2) ؛ لأنّها توقيفيّة لا يصحّ إثباتها إلاّ بنصّ الشارع.

الثالثة : ذهب شاذّ إلى أنّ القياس يجري في جميع الأحكام الشرعيّة ؛ لأنّها متماثلة فيجب تساويهما فيما يجوز عليها (3).

وفساده ظاهر ؛ لأنّها قد تختلف بخصوصيّات نوعيّة أو صنفيّة أو شخصيّة ، فيجوز على بعضها ما يمتنع على الآخر.

وقد عرفت أنّه لا يجري فيما لا يعقل معناه ، كضرب الدية على العاقلة ، وفي الأسباب والشروط.

فصل [21]
اشارة

قد جرت عادة القوم بذكر الاعتراضات الستّة والعشرين الواردة على القياس في آخر مباحثه ، بعضها يخصّه ، وبعضها يعمّه وغيره ، كما نشير إليه. سبعة منها هي مبطلات العلّة المتقدّمة (4) ، فما يبقى منها تسعة عشر ، وكلّها ترجع إلى منع أو معارضة ، والمنع يعمّ التفصيلي والإجمالي وهو النقض ، وقد يقيّد بالإجمالي ، ويقال حينئذ للأوّل : النقض التفصيلي.

مثال الإجمالي : كما يقال : لو صحّت مقدّمات دليلك لثبت ما يقتضيه من الحكم في صورة كذا ؛ لأنّها جارية فيها مع أنّه لم يثبت فيها.

والمنع في مقدّمات دليله على المطلوب ، وفي مقدّمات دليله على إثبات مقدّمة

ص: 553


1- حكاه الفخر الرازي عن أبي إسحاق الشيرازي في المحصول 5 : 353.
2- حكاه الفخر الرازي عن الجبائي والكرخي في المحصول 5 : 348.
3- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 69 ، ولعلّ المقصود من الشاذّ هو البيضاوي والأسنوي في منهاج الاصول وشرحه نهاية السؤل 4 : 35.
4- في ص 506 إلى 535. والصحيح : مبطلات العلّيّة المتقدّمة.

ممنوعة ؛ فإنّ المقدّمة إذا منعت وانتهض المستدلّ بإقامة الدليل فللمعترض منع مقدّمات هذا الدليل ، ومعارضته.

وكذا المعارضة - وهي إقامة الدليل على نقيض المطلوب - تعمّ المعارضة لدليل المدّعى ودليل المقدّمة.

وما لا يرجع إليهما من المناقشات الجدليّة غير مسموعة ؛ لأنّ مطلوب المستدلّ الإلزام بإثبات مدّعاه بدليله ، وهو إنّما يكون بصحّة مقدّماته ليصلح للشهادة ، وسلامته عن المعارض لينفذ شهادته ، فإذا ثبتا (1) تمّ مطلوبه ، ولا يضرّه غير ذلك من المؤاخذات اللفظيّة. ومطلوب المعترض دفعه ، وهو إنّما يكون بهدم صلاحيته للشهادة ، أو نفوذ شهادته. والأوّل يكون بمنع مقدّمة من مقدّماته ، والثاني بالمعارضة ، وغيرهما لا ينفعه ولا يتعلّق بمطلوبه.

ثمّ الستّة والعشرون يضبطها سبعة أجناس ؛ لأنّ المستدلّ يلزمه في كلّ دليل يقيمه على مدّعاه - قياسا كان أو غيره - تفهيمه للخصم. وإذا اندفع إلى القياس ، فلا بدّ أن يتمكّن منه بعدم مانع من جريانه ، ثمّ يثبت مقدّماته - وهو (2) حكم الأصل ، وعلّته ، وثبوتها في الفرع - ويثبت وجود الحكم في الفرع ، ويبيّن أنّ ذلك الحكم هو مطلوبه الذي ادّعاه أوّلا. فهذه سبعة مقامات يتوجّه على كلّ منها جنس من الاعتراض ، فيتحقّق سبعة أجناس يشتمل كلّ منها على أنواع إلاّ الجنس الأوّل والسابع ؛ فإنّ كلّ واحد منهما ينحصر في نوع واحد.

فيتوجّه على مقام التفهيم الجنس الأوّل ، وهو ينحصر في نوع واحد.

وعلى مقام التمكّن الجنس الثاني ، ويشتمل على نوعين.

وعلى مقام إثبات حكم الأصل الجنس الثالث ، ويندرج فيه نوعان.

وعلى مقام إثبات علّيّته الجنس الرابع ، وأنواعه ثلاثة عشر.

وعلى مقام ثبوتها في الفرع الجنس الخامس ، ويتضمّن خمسة أنواع.

وعلى مقام ثبوت الحكم في الفرع الجنس السادس ، ويشتمل على نوعين.

وعلى مقام كون ما ثبت هو المدّعى الجنس السابع ، وينحصر في نوع واحد.

ص: 554


1- أي إثبات المدّعى بالدليل وسلامة الدليل عن المعارض.
2- أي إثبات المقدّمات.

فيرتقي أنواع الاعتراضات على (1) ستّة وعشرين. وسنشير في موضعه إلى أنّ السبعة المتقدّمة تندرج تحت أيّ جنس من السبعة.

الجنس الأوّل - وهو ما يتعلّق بالتفهيم - : الاستفسار

وهو ينحصر في نوع واحد ؛ إذ لا يتصوّر ثمّة إلاّ طلب الإفهام ، وهو يرد على جميع الأدلّة وجميع المقدّمات ، وعلى المدّعى أيضا. وأصله طلب الفسر ، أي الوضوح. والمراد منه هنا السؤال عن معنى اللفظ ، وإنّما يسمع إذا كان في اللفظ إجمال أو غرابة ، ولذا قيل : ما يمكن فيه الاستبهام حسن فيه الاستفهام (2) ، وبدونه لا يلتفت إليه وإلاّ تسلسل. وبيان الإجمال على المعترض بأن يبيّن صحّة إطلاقه على معنيين أو أكثر ، ولا يكلّف بيان التساوي - وإن لم يحصل الإجمال إلاّ به - لعسره.

نعم ، لو بيّنه تبرّعا - بأنّ التفاوت يستدعي ترجيحا بأمر والأصل عدم المرجّح - كان حسنا. وإنّما البيان عليه ؛ لأنّ المستدلّ يكفيه أنّه خلاف الأصل ، فإذا ادّعاه المعترض ، فهو مدّع والتنبيه عليه.

وجوابه (3) بيان ظهوره إمّا باشتهاره عند أهل اللغة ، أو الشرع ، أو بالنقل عنهما ، أو بالعرف العامّ أو الخاصّ ، أو بالقرائن المنضمّة إليه ، أو يفسّره بما يحتمله اللغة أو الشرع ، وإلاّ كان من جنس اللعب. أو بأن يقول على رأي يلزم ظهوره في أحدهما ، وإلاّ لزم الإجمال ، وهو خلاف الأصل ، أو يلزم ظهوره فيما قصدت (4) ؛ لعدم ظهوره في الآخر اتّفاقا ، فلو لم يكن ظاهرا فيما قصدت (5) ، لزم الإجمال ، وهو خلاف الأصل. وأمثلة الجميع ظاهرة.

الجنس الثاني : ما يتعلّق بالتمكّن من القياس

وهو على نوعين :

[ النوع ] الأوّل : فساد الاعتبار ، وهو مخالفة القياس للنصّ ، بأن يدّعى أنّ القياس مطلقا

ص: 555


1- كذا في النسختين. والأولى : « إلى ».
2- حكاه الآمدي عن القاضي أبي بكر في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 73.
3- أي جواب الاستفسار والجنس الأوّل.
4- كذا في النسختين ، والأولى : « قصد ».
5- كذا في النسختين ، والأولى : « قصد ».

لا يعتبر في هذه المسألة ، ولا يصحّ الاحتجاج به فيها ؛ لدلالة النصّ على خلافه ، والقياس فاسد الاعتبار في مقابلة النصّ.

وجوابه : الطعن في سند النصّ إن أمكن. أو منع ظهوره في مقصود المعترض. أو تسليم ظهوره وادّعاء التأويل ، وعدم كون ظاهره مرادا لتخصيص ، أو إضمار ، أو مجاز بدليل يرجّحه ، كما إذا قال الشافعي في ذبح تارك التسمية : ذبح من أهله في محلّه ، فيوجب الحلّ كذبح ناسي التسمية. فإن اعترض عليه بفساد اعتباره لمخالفته لقوله تعالى : ( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ ) (1) فنقول : هذا مأوّل بذبح عبدة الأوثان ؛ لقوله صلى اللّه عليه وآله : « اسم اللّه على قلب المؤمن سمّى أو لم يسمّ » (2).

أو (3) القول بالموجب ، بأن يسلّم النصّ ويدّعي أنّ مدلوله لا ينافي القياس.

أو المعارضة بنصّ آخر حتّى يتساقط النصّان ، فيسلّم القياس.

أو بيان أنّ قياسه ممّا يجب ترجيحه على النصّ ببعض الوجوه المرجّحة ، كما إذا رجّح الشافعي قياسه على النصّ بعد الاعتراض المذكور ، بأنّ فرعه - وهو المتذكّر - مقيس على الناسي المخصّص عن هذا النصّ بالإجماع. فإن أبدأ المعترض فارقا بين الأصل والفرع ، كان سؤالا آخر ؛ لأنّه من قبيل المعارضة.

واعلم أنّ الأقيسة تختلف في القوّة والضعف. والنصوص أيضا تختلف فيهما لوجوه منها كثرة العدد وقلّته. وكذا الأقيسة تختلف في الحجّيّة وعدمها على قواعد الفريقين. فاللازم في صورة ادّعائه فساد الاعتبار ملاحظة القياس والنصّ ، والترجيح على ما يقتضيه مذهب المتناظرين ، مثلا في صورة الجواب بالمعارضة لو عارضه المعترض بنصّ آخر حتّى يعارض أحد نصّيه نصّه ، والآخر القياس ، يسمع منه ؛ لأنّ النصّ الواحد لا يكافئ النصّين إذا لم يكن له ترجيح من وجوه أخر. والقول بعدم سماعه ضعيف. هذا.

وفساد الاعتبار قد يرد في غير القياس أيضا ؛ لأنّه دعوى عدم اعتبار الدليل في مسألة ؛

ص: 556


1- الأنعام (6) : 121.
2- الدرّ المنثور 3 : 349 ، ذيل الآية 121 من الأنعام (6) باختلاف يسير.
3- هذا وما بعده عطف على « الطعن ».

فكلّ دليل لا يتمكّن المستدلّ من الاحتجاج به في مسألة باعتبار ، فيرد فيه هذا السؤال ، فإذا استدلّ على مسألة عقليّة بالإجماع ، فيمكن الاعتراض عليه بأنّه لا يعتبر في العقليّات. وقس عليه غيره.

النوع الثاني : فساد الوضع ، وهو إبطال وضع القياس المخصوص ، وتركيب مقدّماته في إثبات الحكم المخصوص ، بأن يدّعى أنّه وضع في هذه المسألة قياس لا يصحّ وضعه فيها ، فحاصله منع التمكّن من القياس المخصوص. وحاصل فساد الاعتبار منع التمكّن من القياس مطلقا ، فكلّ فاسد الوضع فاسد الاعتبار ، ولا عكس ؛ لأنّ القياس قد يكون صحيح الوضع وإن فسد اعتباره بأمر من خارج وهو أيضا قد يرد في غير القياس من الأدلّة. والتفصيل لا يخفى على المتدرّب.

ثمّ إبطال الوضع في القياس إنّما يكون بأربعة وجوه :

الأوّل : دعوى وقوعه فيما يمتنع فيه التعليل ، كالحدود ، والكفّارات ، وأمثالهما.

وجوابه : بيان صحّة التعليل فيه.

الثاني : دعوى وقوعه في مقابلة النصّ ، فيكون باطلا.

وجوابه : أحد الأجوبة المذكورة في فساد الاعتبار.

الثالث : دعوى كون الجامع مناسبا لنقيض الحكم ، كما لو قيل في مسألة النكاح بلفظ الهبة : ما ينعقد به غير النكاح لا ينعقد به النكاح ، كالإجارة ، فيعترض عليه بأنّ انعقاد غير النكاح به يناسب انعقاد النكاح به لا عدم انعقاده به.

وجوابه : القدح في مناسبة المعترض ، أو ترجيح مناسبة على مناسبة ، وإنّما يعتبر القدح في مناسبة الوصف إذا كان مناسبته للحكم ونقيضه من وجه واحد.

وأمّا إن اختلف الوجهان ، فلا يقدح فيها ؛ إذ قد يكون للوصف جهتان يناسب بإحداهما الحكم ، وبالاخرى نقيضه ، ككون المحلّ مشتهى يناسب إباحة النكاح لا راحة الخاطر ، والتحريم لقطع الطمع.

الرابع : دعوى كون الجامع قد ثبت اعتباره بنصّ ، أو إجماع في نقيض الحكم ، كما إذا قيل في التيمّم : مسح فيسنّ فيه التكرار ، كالاستطابة ، فيورد أنّ المسح قد ثبت اعتباره في

ص: 557

كراهة التكرار على المسح على الخفّ إجماعا.

وجوابه : بيان وجود المانع في أصل المعترض ، فيقول في المثال : مانع التكرار في الخفّ تعرّضه للتلف.

واعلم أنّ فساد الوضع بالوجهين الأوّلين لا يشتبه بشيء من باقي الأسئلة (1). وأمّا بالوجهين الآخرين ، فربما اشتبه بالنقض ؛ من حيث إنّ فيه ثبوت نقيض الحكم مع الوصف ، أو بالقلب ؛ من حيث إنّه إثبات نقيض الحكم بوصف المستدلّ ، أو بالقدح ؛ من حيث إنّه يبقى مناسبة الوصف للحكم.

وينحلّ الاشتباه بأنّ حقيقة فساد الوضع بهذين الوجهين كون الوصف مثبتا للنقيض بأصل غير أصل المستدلّ ، فلا يشتبه بالنقض ؛ لأنّه يقنع فيه بثبوت نقيض الحكم مع الوصف من غير اشتراط كون الوصف هو المثبت للنقيض. ولا بالقلب ؛ لأنّه يثبت فيه النقيض بأصل المستدلّ ، ويثبت في فساد الوضع بأصل آخر. ولا بالقدح بالمناسبة ؛ لأنّه نفي المناسبة بلا أصل ، وفيه ينتفي المناسبة بأصل. هذا.

وما يفترق فيه الخاصّة عن العامّة في الوجوه المذكورة وأجوبتها وكيفيّة ذلك لا يخفى على من أحاط بما قدّمناه.

الجنس الثالث : ما يتعلّق بالمقدّمة الاولى من القياس

وهو حكم الأصل ، ويندرج فيه نوعان :

[ النوع ] الأوّل : منع ثبوت حكم الأصل ، كما إذا قيل : جلد الخنزير لا يقبل الدباغ ؛ للنجاسة الغليظة كالكلب ، فيقال : لا نسلّم أنّ جلد الكلب لا يقبل الدباغ. والحقّ أنّ هذا المنع يسمع ، والقول بعدم سماعه باطل ؛ إذ لا يقوم الحجّة على الخصم مع منع أصله.

وجوابه : إثباته بالدليل.

وما قيل : إنّه قطع للمستدلّ ، فلا يتمكّن من الدلالة على إثباته ؛ لكونه انتقالا (2) ضعيف ؛

ص: 558


1- في « ب » : « الأسولة ».
2- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 79.

لأنّه إثبات مقدّمة ممنوعة من مقدّمات المطلوب ، وليس مثله انتقالا ممنوعا ، وإلاّ كان منع علّيّة العلّة ، أو وجودها في الأصل أو الفرع قطعا ، وليس به قطعا.

نعم ، لو رآه المستدلّ قطعا فهو قطع ؛ إلزاما له بمذهبه. وبه يظهر ضعف ما قيل أيضا : إنّه قطع لو كان ظاهرا ، وإلاّ فلا (1).

وقيل : يتبع في ذلك عرف المكان (2) ؛ لأنّه أمر وضعيّ يختلف عند الطوائف. وهو أيضا كما ترى.

ثمّ المختار أنّ مجرّد الدلالة من المستدلّ على إثبات المقدّمة الممنوعة ليس قطعا للمعترض ، بل له أن يعترض ، ووجهه ظاهر.

النوع الثاني : التقسيم ، وهو كون اللفظ متردّدا بين أمرين : أحدهما ممنوع فيمنعه. والآخر مسلّم فيصرّح بتسليمه ؛ لعدم الضرر ، أو سكت عنه ؛ لعدم الضرورة. وحاصله أنّه منع بعد تقسيم. وهو لا يختصّ بحكم الأصل ، بل يجري في جميع المقدّمات القابلة للمنع. ولقبوله شرطان :

أحدهما : تساويهما بالنسبة إلى اللفظ ، فلو كان ظاهرا في أحدهما دون الآخر لم يكن للتقسيم معنى.

وثانيهما : أن يكون منعا لما يلزم المستدلّ بيانه. مثاله في الصحيح الحاضر إذا فقد الماء : وجد سبب التيمّم - وهو تعذّر الماء - فساغ التيمّم ، فيقول المعترض : السبب تعذّر الماء مطلقا ، أو تعذّر الماء في السفر أو المرض ، والأوّل ممنوع. وله السكوت بعد ذلك ، أو يضيف « وغيره مسلّم » ولكنّه لم يوجد في الفرع ، فلا يتمّ المطلوب.

ولو كان منعا لما لا يلزمه بيانه لم يكن مقبولا ، كما لو قال في القاتل العامد الملتجئ إلى الحرم : وجد سبب استيفاء القصاص ، فيجب استيفاؤه ، فيورد : متى هو سبب؟ مع مانع الالتجاء ، أو عدمه؟ والأوّل ممنوع. وإنّما لم يقتل ؛ لأنّ حاصله طلب عدم كون الالتجاء مانعا. والمستدلّ لا يلزمه بيانه ، بل يلزم على المعترض بيان كونه مانعا.

ص: 559


1- نسبه الآمدي إلى أبي إسحاق الإسفرائيني في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 80.
2- نسبه الآمدي إلى الغزالي في المصدر.

واعلم أنّ أحد الاحتمالين لو كان ممنوعا والآخر مسلّما ، ولم يوجد المسلّم في الفرع ، كما في المثالين ، فوروده ظاهر ، ولو وجد المسلّم فيه فقيل : لا يرد ؛ لأنّ إبطال أحد احتمالي كلام المستدلّ ليس إبطالا له ؛ إذ لعلّ الآخر مراده. وقيل : يرد ؛ إذ به يتعيّن مراده ، وله مدخل في هدم الدليل والتضيّق (1).

والحقّ : أنّه لو لم يكن فرق بينهما بوجه في إثبات الحكم بهما في الفرع ، لم يرد ، ولو ورد كان استفسارا ، ولو وجد بينهما فرق فيه بحيث لو منع أحدهما لم يمكنه تتميم الدليل بالآخر كان واردا ، ولو كانا مشتركين في المنع أو التسليم لم يرد التقسيم ، سواء كان الموجود في الفرع أحدهما ، أو كليهما ؛ لعدم الفائدة فيه.

والقول بوروده في صورة اشتراكهما في التسليم إذا اختلفا فيما يرد عليهما من القوادح ضعيف ؛ لأنّه لو ورد حينئذ لم يكن تقسيما.

واعلم أنّه على ما ذكر من كون التقسيم منعا بعد ترديد فهو مركّب من الاستفسار والمنع ، فيأتي فيه مجموع ما يأتي فيهما من الأبحاث وكيفيّة الجواب.

الجنس الرابع : ما يتعلّق بالمقدّمة الثانية من مقدّمات القياس
اشارة

وهي العلّة. وأنواعه ثلاثة عشر :

[ النوع ] الأوّل : منع وجود العلّة في الأصل ، كما إذا قيل في الكلب : حيوان يغسل من ولوغه سبعا ، فلا يطهر جلده بالدباغ كالخنزير ، فمنع وجوب الغسل سبعا من ولوغ الخنزير.

وجوابه : إثباتها فيه بما هو طريق إثباته (2) من دليل شرعيّ إن كانت شرعيّة ، وعقليّ إن كانت عقليّة ، وحسّيّ إن كانت حسّية. ففي المثال لمّا كانت شرعيّة ، يلزم أن يثبت وجودها بدليل شرعيّ.

النوع الثاني : منع علّيّتها ، وهو سؤال المطالبة ؛ إذ حاصل المنع والمطالبة بالدليل واحد ؛ فإنّه لا فرق بين أن يقال : لا نسلّم أنّ الوصف الفلاني علّة ، أو لم قلت : إنّه علّة؟ وهو

ص: 560


1- حكاهما الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 82 و 83.
2- أي إثبات الأصل.

أعظم الأسئلة والأنظار ؛ لعموم وروده ، وتشعّب مسالكه ، لأنّ العلّيّة في الغالب ظنّيّة ، وطرق إثباتها متّسعة ، ومثاله ظاهر.

وقد اختلف في قبوله. والمختار قبوله ، وإلاّ لزم صحّة التمسّك بكلّ طرد حتّى صرير الباب ، ونعيق الغراب ، فيفتح باب الهذيان ، وينسدّ باب الدلالة والبرهان ، ويضيع القياس رأسا ؛ لعدم إفادته الظنّ حينئذ.

واحتجّ الخصم بوجوه (1) واهية لا يخفى جوابها على أحد.

وإذا ثبت قبول هذا المنع ، فجوابه إثبات العلّيّة بأحد مسالكها المتقدّمة من الإجماع ، أو الكتاب أو السنّة أو تخريج المناط عند من يعمل به.

ثمّ يرد على كلّ منها أسئلة ، فيرد على الإجماع منع وجوده ؛ لإظهار وجود المخالف ، أو منع دلالة السكوت على الموافقة ، والطعن في سنده إذا كان منقولا ، والمعارضة بمثله أو بدليل آخر يقاومه من كتاب أو سنّة متواترة.

ويرد على الكتاب ، الاستفسار ، ومنع ظهوره في الدلالة والإجمال والتأويل والمعارضة والقول بالموجب.

وعلى السنّة السنّة. والطعن بالإرسال ، أو الوقف ، أو القدح في الرواية ؛ لخلل في عدالة الراوي أو ضبطه ، أو لقول الشيخ : إنّه لم يرو عنّي وغير ذلك من الأسئلة الواردة على أخبار الآحاد.

وعلى تخريج المناط ما تقدّم (2) من كون الوصف مناسبا مرسلا ، أو غريبا ، أو شبها. وما يأتي (3) من عدم الإفضاء ، أو المعارضة بإبداء معنى آخر يصلح (4) للعلّيّة ، أو عدم الانضباط ، أو عدم الظهور ، أو إبداء مفسدة راجحة أو مساوية.

النوع الثالث : القدح في مناسبة الوصف المعلّل به ، وهو إبداء مفسدة راجحة أو مساوية.

ص: 561


1- راجع الإحكام في أصول الأحكام 4 : 87 و 88.
2- تقدّم في ص 466.
3- يأتي مجموعها في النوع الثالث إلى السابع بعيد هذا.
4- في « أ » : « يصحّ ».

وجوابه : بيان رجحان المصلحة على المفسدة تفصيلا ، أو إجمالا.

النوع الرابع : كون الوصف غير منضبط ، كالتعليل بالحكم والمصالح ، مثل المشقّة والحرج والزجر والردع وأمثالها.

وجوابه : إمّا بيان انضباطه بنفسه ، كأن يقال في المشقّة : إنّها منضبطة عرفا. أو بوصف ضابط له ، كالمشقّة بالسفر ، والزجر بالحدود.

النوع الخامس : كونه خفيّا ، كالرضى والقصد وأمثالهما.

والجواب : ضبطه بما يدلّ عليه من الصنع والأفعال. وقد تقدّم (1) بيان ذلك مفصّلا.

واعلم أنّ الأنواع الثلاثة الأخيرة من شروط الوصف المناسب الذي هو أحد أنواع العلّة ، فصحّ تعلّقها بالمقدّمة الثانية ، أي علّة حكم الأصل.

النوع السادس : القدح في إفضاء الحكم إلى المقصود ، كما لو علّل حرمة مصاهرة المحارم بالتأبيد بالحاجة إلى ارتفاع الحجاب المفضي إلى الفجور المندفع بتأبيد التحريم ؛ إذ سدّ باب النكاح يقطع الطمع المؤدّي إلى مقدّمات الهمّ والنظر ، المؤدّية إلى الفجور. فيقول المعترض : بل سدّ باب النكاح أفضى إلى الفجور ؛ لأنّ الإنسان حريص على ما منع.

وجوابه : بيان الإفضاء إليه ، كأن يقول في المثال : الحرمة المؤبّدة تمنع المقدّمات المفضية إلى الفجور عادة ، ومرّ الزمان يصير كالطبيعي ، فلا يبقى المحلّ مشتهى كالامّهات.

واعلم أنّ الظاهر من كلام القوم أنّ هذا النوع أيضا من شروط الوصف المناسب ، ولذا أدرجوه في أسئلة العلّة (2). وأنت تعلم أنّ المفضي إلى المصلحة هو شرعيّة الحكم ، كالتحريم مثلا ، لا الوصف المناسب ، فقد تسامحوا فيما فعلوه.

النوع السابع : المعارضة في الأصل ، وهو إبداء وصف آخر فيه يصلح للعلّيّة بالاستقلال ، فيمكن أن يكون علّة مستقلّة وأن يكون جزء علّة ، كما إذا علّل حرمة الربا بالطعم ، فيعارض بالقوت أو الكيل.

أو لا بالاستقلال ، فيكون جزء علّة لا غير ، كما إذا علّل القصاص في القتل بالمحدّد

ص: 562


1- في ص 453 - 454.
2- كما أدرجه الآمدي في أسئلة العلّة في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 91 و 92.

بكونه قتلا عمدا ، فيعارض بكونه بالجارح ، بأن يدّعى أنّ العلّة هي الأوصاف المذكورة ، مع قيد كونه بالجارح.

وقد اختلف الجدليّون في قبول هذه المعارضة. والمختار عند الأكثر قبولها (1).

واحتجّوا عليه بأنّه إذا ظهر ما يصلح للعلّيّة وراء وصف المستدلّ ، فإمّا أن يستند الحكم إليهما معا أو إلى واحد مبهم منهما ، فيبطل تعيّن الإلحاق (2) بوصف المستدلّ ، فيصحّ المعارضة.

وإمّا إلى واحد معيّن ، فيلزم التحكّم. أو إلى كلّ منهما ، فيلزم جواز تعدّد العلل المستقلّة ، وهو باطل (3).

وعلى ما أصّلناه - من صحّة تعدّد العلل - لا يخفى النظر في الشقّ الأخير. ومنه يظهر عدم صحّة هذا الدليل ، و [ صحّة ] دليل الخصم ؛ لأنّه استدلّ بأنّ المفروض استقلال كلّ منهما بالعلّيّة ، فيلزم صحّة تعدّد العلّة ، فيكون وصف التعليل علّة مستقلّة ، ولا يقدح في ذلك علّيّة وصف المعارضة.

والحقّ ، ورود النظر ، إلاّ أنّه لا يستلزم صحّة دليل الخصم وحقّيّة مذهبه ؛ لأنّ اللازم من النظر إليه أنّه يحتمل استقلال كلّ منهما بالعلّيّة ، كما يحتمل جزئيّتهما ، أو كون العلّة أحدهما فقط ، فالحكم بالأوّل تحكّم محض. فعلى هذا يتقابل الدليلان ويندفعان ، فنرجع في إثبات قبول المعارضة إلى ما شاع وذاع من عمل الصحابة والتابعين ومن لحقهم من العلماء والسلف الصالحين. وما يعلمه كلّ أحد أنّ المستدلّ يدّعي خلاف الأصل ؛ لأنّ الأصل انتفاء الأحكام ، فيلزم عليه أن يثبت ما يدّعيه بحيث لا يرد عليه شيء ، ويسدّ عنه أبواب الأنظار الدافعة لدليله قطعا ، والمشكّكة في صحّته ، ولا ريب أنّ إبداء وصف صالح للعلّيّة يوقع الشكّ في علّيّة وصفه (4) ، فيلزم عليه الجواب عنه.

ص: 563


1- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 97.
2- أي إلحاق الفرع بالأصل بوجود وصف المستدلّ في الفرع.
3- قاله الآمدي ونسبه أيضا إلى القاضي عبد الوهّاب ومتقدّمي أصحابهم ، والصيرفي وإمام الحرمين ( الجويني ) في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 258.
4- أي وصف المستدلّ.

وجميع ما ذكر إنّما يتأتّى على أصول العامّة (1). وأمّا عندنا ، فلمّا كان طريق العلّيّة منحصرة بالنصّ أو مثله ، فيتعيّن استقلال الوصفين بالعلّيّة ؛ لأنّ وصف المستدلّ لو كان علّيّة (2) ثابتة بالنصّ ، لا مجال لتوهّم جزئيّته ، وكذا وصف المعترض ، فلا يقبل المعارضة (3).

واعلم أنّه يتفرّع على قبول المعارضة بحثان :

[ البحث ] الأوّل : هل يشترط فيه أن يبيّن المعترض انتفاء وصفه عن الفرع ، كأن يقول في قياس الزعفران على البرّ في الربوية بجامع الطعم : العلّة القوت وهو منتف في الزعفران.

[ البحث ] الثاني : هل يشترط فيه أن يبيّن تأثير وصفه في أصل آخر ، كأن يقول في المثال : العلّة القوت كما في الملح.

والحقّ ، عدم اشتراطهما فيه ؛ لأنّ غرضه هدم استقلال وصف المستدلّ في العلّيّة ، وصدّه عن التعليل به ، وهو يحصل بمجرّد إبداء وصف صالح لأن يكون علّة أو جزءها ؛ لأنّ احتمال كونه جزءا للعلّة يكفي في عدم تماميّة دليله. ولا يدّعي القطع في إبطال دليل المستدلّ ليحتاج إلى بيان عدمه في الفرع ، ولا علّيّة ما أبداه بالاستقلال حتّى يحتاج إلى ردّه إلى أصل ، وشهادته له بالاعتبار.

نعم ، لو صرّح بعدمه في الفرع وعلّيّته بالاستقلال ، لزمه بيان نفيه عنه ، وردّه إلى أصل ؛ لأنّه التزم أمرا فلزمه بالتزامه ، فيجب عليه الوفاء بما التزمه وإن لم يجب عليه ابتداء ، وإذا ثبت أنّ المعارضة مقبولة ، فالجواب (4) عنها من وجوه :

منها : منع وجود الوصف المعارض به في الأصل.

ومنها : المطالبة بتأثيره إذا أثبت المستدلّ علّيّة وصفه بالمناسبة أو الشبه ؛ فإنّ المعارضة حينئذ تتمّ بوصف كان مناسبا ، ولو أثبتها بالسبر ، لم يكن له مطالبة التأثير ؛ لأنّ المعارضة يتمّ بمثله وصفه (5) ، والوصف يدخل في السبر بمجرّد احتمال كونه مناسبا وإن لم يثبت مناسبته.

ص: 564


1- راجع الإحكام في أصول الأحكام 4 : 97.
2- كذا في النسختين. والصحيح : « علّيّته ».
3- راجع تهذيب الوصول : 263.
4- بالتأمّل يظهر أنّه لا منافاة بين كون المعارضة مقبولة وكونها مجابة.
5- كذا في النسختين. والصحيح : وصفها أي وصف المعارضة.

ومنها : بيان خفائه ، أو عدم انضباطه ، أو منع ظهوره ، أو انضباطه.

ومنها : بيان أنّه عدم معارض في الفرع ، كما إذا قيس المكره على المختار في القصاص بجامع القتل ، فيعترض بالطواعية (1) ، بأن يدّعى أنّ العلّة هي القتل مع الطواعية. فيجاب بأنّ الطواعية عدم الإكراه المعارض في الفرع ، وهو يناسب نقيض الحكم ، أي عدم القصاص ، فلا يصلح أن يكون علّة للحكم ؛ لأنّ علّة الحكم يجب أن تكون باعثة ، وعدم المعارض طرد ليس من الباعث في شيء.

ومنها : ترجيح وصفه عليه (2) بوجه من وجوه الترجيح.

ومنها - كما قيل - : كون وصفه متعدّيا ووصف المعترض قاصرا ؛ فإنّ المتعدّي راجح على القاصر ؛ لكونه معتبرا بالوفاق ، وموجبا للاتّساع في الأحكام دونه.

لا يخفى أنّ القاصر راجح عليه باعتبار أنّه موافق للأصل ؛ إذ الأصل عدم الأحكام. وأيضا في اعتباره الجمع بين الدليلين ، وفي إلغائه طرح أحدهما ، والجمع أولى من الطرح (3).

ومنها : بيان كونه ملغى في جنس الأحكام ، كالطول والقصر ونحوهما ، أو في جنس الحكم المعلّل به ، كالذكورة والانوثة في باب العتق.

ومنها : بيان استقلال وصفه بالعلّيّة في صورة بظاهر نصّ أو إجماع ، كما إذا عورض الطعم بالكيل في الربا ، فيجاب بأنّ النصّ دلّ على اعتبار الطعم في صورة ما ، وهو قوله عليه السلام : « لا تبيعوا الطعام بالطعام » (4).

وكما إذا عورض التبديل في قياس يهوديّ صار نصرانيّا على المرتدّ في القتل بجامع تبديل دينه بالكفر بعد الإيمان ، فيجاب بأنّ النصّ دلّ على اعتبار التبديل في صورة وهو قوله عليه السلام : « من بدّل دينه فاقتلوه » (5).

وبعد ثبوت استقلال وصفه بالعلّيّة تبطل المعارضة ؛ لأنّ غاية الأمر أن يكون وصفها

ص: 565


1- الطواعية : الطاعة.
2- أي وصف المستدلّ على وصف المعترض أو وصف التعليل على وصف المعارضة.
3- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 101 و 106.
4- كنز العمّال 4 : 185 ، ح 10079.
5- المصدر 1 : 90 ، ح 387.

أيضا مستقلاّ ، ولا يضرّ ذلك بالمستدلّ ؛ لجواز تعدّد العلل ، بل له في الجواب بيان استقلال كلّ من الوصفين. هذا إذا لم يتمسّك المستدلّ بعموم النصّ ، ولو تمسّك به وقال : دلّ الخبر على ربويّة كلّ مطعوم واعتبار كلّ تبديل ، كان مثبتا للحكم بالنصّ لا متمّما للقياس ، فيضيع قياسه. ولا يضرّه كون النصّ عامّا ما لم يتمسّك به.

واعلم أنّ الصحيح من هذه الأجوبة ما لا يبقى معه احتمال الجزئيّة ، فما بقي (1) معه احتمالها غير نافع للمستدلّ ؛ للزوم التحكّم. وكلّها إنّما يتأتّى على قواعد العامّة (2) ، وأمّا عندنا فقد عرفت (3) حقيقة الحال.

واعلم أنّه لا يكفي في جواب المعارضة إثبات الحكم في صورة دون وصف المعارضة ما لم يبيّن إلغاء وصف المعارضة ، أو استقلال وصفه (4) بالعلّيّة ؛ إذ لا يلزم منه (5) أحد من الأمرين ؛ لصحّة تعدّد العلل وعدم وجوب العكس ؛ ولجواز أن يكون الحكم بعلّة اخرى غير وصف المستدلّ ، سواء كان كلّ من الوصفين أو أحدهما جزءا لها أو لا.

ولعدم لزوم شيء من الأمرين من الصورة المذكورة لو أبدى المعترض فيها وصفا آخر يخلف وصف المعارضة - الذي ألغاه المستدلّ بزعمه بإثبات الحكم دونه - وبضمّه إلى وصف المستدلّ ، بطل الاستقلال ، وفسد الإلغاء ، ويسمّى هذا الإفساد تعدّد الوضع ؛ لتعدّد أصلي العلّة ووضعها ؛ فإنّ التعليل في أحد الأصلين بالباقي على وضع - أي مع قيد - وفي الآخر بالباقي على وضع آخر.

مثاله : أن يقال في أمان العبد للحربي : أمان من مسلم عاقل ، فيصحّ كالحرّ ؛ لأنّ الإسلام والعقل مظنّتان لإظهار مصالح الإيمان ، أي بذل الأمان ، فيعترض بالحرّيّة ، أي يقال : العلّة كونه مسلما ، عاقلا ، حرّا ؛ لأنّ الحرّيّة مظنّة الفراغ للنظر ، فيكون مصلحة الإيمان معه أكمل ، فيلغيها المستدلّ بالعبد المأذون من قبل سيّده في القتال ؛ لاستقلال الإسلام والعقل

ص: 566


1- في « ب » : « يبقى ».
2- راجع : الإحكام في أصول الأحكام 4 : 97 - 105 ، وإرشاد الفحول 2 : 166.
3- ص 563.
4- أي وصف المستدلّ.
5- أي إثبات الحكم في صورة.

فيه بصحّة أمانه ، فيقول المعترض : إذن العبد خلف عن الحرّيّة ، إمّا لأنّه مظنّة لبذل الوسع ، أو لعلم السيّد بصلاحيته. ولا ريب أنّ التعليل في الأصل الأوّل للمستدلّ - وهو المسلم العاقل الحرّ - بالباقي - أي الإسلام والعقل - على وضع (1) - أي مع الحرّيّة - وفي الأصل الآخر له - وهو العبد المأذون من سيّده - به (2) على وضع آخر ، أي مع إذن السيّد. هذا.

وجواب تعدّد الوضع أن يلغي المستدلّ ما أبداه المعترض خلفا للملغى بإبداء صورة لا يوجد فيها الخلف أيضا ، فإن أبدى خلفا آخر ، فجوابه إلغاؤه. وعلى هذا يدور رحى بحثهما إلى أن يقف أحدهما. هذا.

وكما لا يثبت الإلغاء بما ذكر ، فكذا لا يثبت بضعف المعنى - أي الحكمة التي يتضمّنها المظنّة ، أو نفس المظنّة - إذا سلّم وجود هذه المظنّة ، وكونها مظنّة للحكمة. وحاصله أنّه بعد وجود المظنّة وكونها مظنّة لحكمة الحكم لا يستلزم ضعفها في صورة ، أو ضعف حكمتها الإلغاء.

مثاله أن يقال : تقتل المرتدّة كما يقتل المرتدّ بجامع الارتداد ، فيعترض بالرجوليّة ؛ لأنّها مظنّة الإقدام على القتال ، فيجيب المستدلّ بأنّ الرجوليّة وكونها مظنّة الإقدام لا يعتبر ، وإلاّ لم يقتل مقطوع اليدين ؛ لضعفهما فيه ، بل ضعفهما فيه أشدّ من ضعفهما في النساء. وإنّما لم يكف ذلك في الإلغاء ؛ لأنّه لمّا سلّم أنّ الرجوليّة مظنّة ، فلا يقدح ضعفها في صورة ، ولا ضعف حكمتها ؛ إذ المعتبر المظنّة وقد وجدت ، لا مقدار الحكمة ؛ لعدم انضباطها ، ولذا لا يمنع سفر الملك الترخّص في حقّه مع ضعف الحكمة - وهي المشقّة - بالترفّه ؛ لأنّ المناط مظنّتها - أي السفر - وهو موجود.

ولا يخفى أنّ جميع ما ذكر لمّا كان متفرّعا على المعارضة ، فهو يأتي على قواعد العامّة (3) ، لا على قواعدنا.

ص: 567


1- خبر لقوله : « أنّ التعليل ... ».
2- أي بالباقي.
3- راجع الإحكام في أصول الأحكام 4 : 97 - 105.
تذنيب

اختلف في جواز تعدّد أصل المستدلّ ، والصحيح جوازه ؛ لقوّة الظنّ به ، فتعليل المنع بحصول المقصود بواحد فيلغو الباقي عليل. وهذا يتأتّى على قواعد الفريقين (1).

وإذا تعدّد أصله ، اختلف في جواز اقتصار المعترض على معارضة أصل واحد وعدم التعرّض لسائر اصوله. والحقّ عدمه ؛ لأنّه لو سلّم له أصل لم يعارض ، بقي قياسه صحيحا ، وتمّ مقصوده من إثبات الحكم أو نفيه ، فتعليل الجواز بأنّ إبطال جزء من كلامه يبطل مقصوده ضعيف.

وعلى القول بوجوب التعرّض لجميع الاصول اختلف في وجوب اتّحاد المعارضة في الجميع ، بأن يعارض بما يشترك فيه الجميع ، فقيل به ؛ دفعا لانتشار الكلام (2) ، وهو لا يصلح حجّة للمنع.

والحقّ خلافه ؛ لعدم المانع ، فإذا لم يشترك الجميع في العلّة ، يجوز المعارضة في كلّ أصل بغير ما في الأصل الآخر.

وعلى عدم وجوب الاتّحاد اختلف في جواز اقتصار المستدلّ على دفع معارضة أصل واحد. والحقّ جوازه ، ووجهه ظاهر ممّا تقدّم.

وهذه الاختلافات أيضا لمّا كانت متفرّعة على المعارضة ، فلا تتأتّى عندنا ، فالترجيحات المذكورة إنّما هي على اصول العامّة (3).

النوع الثامن ، والتاسع ، والعاشر ، والحادي عشر : القول بالموجب ، والنقض ، والكسر ، وعدم العكس وقد تقدّمت (4) مفصّلة ، مذيّلة بشرائطها وأجوبتها.

النوع الثاني عشر : سؤال التركيب وهو دعوى كون حكم الأصل ذا قياس مركّب. وقد عرفت (5) معناه مع ما يتعلّق به ، وأنّ عدمه من شرائط حكم الأصل ، فليس بالحقيقة سؤالا برأسه.

ص: 568


1- راجع : المحصول 5 : 305 - 311 ، وتهذيب الوصول : 261.
2- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 99. وفيه : « فمنهم من منع ذلك لإفضائه إلى النشر ... ».
3- راجع الإحكام في أصول الأحكام 4 : 97 - 105.
4- تقدّمت في ص 506 - 538.
5- ص 536.

النوع الثالث عشر : سؤال التعدية وهو بيان وصف في الأصل عدّي إلى فرع مختلف فيه. وتوضيحه أن يعيّن المعترض في الأصل معنى ، ويعارض به ، ثمّ يقول للمستدلّ : ما علّلت به (1) وإن تعدّى إلى فرع مختلف فيه إلاّ أنّ ما علّلت به أيضا تعدّى إلى فرع آخر مختلف فيه ، فلا أولويّة لأحدهما.

مثاله : أن يقول الشافعي في إجبار البكر البالغة : بكر يجوز إجبارها كالبكر الصغيرة ، فيعترض الحنفي بالصغر ويقول : ما ذكرته وإن تعدّى به الحكم إلى البكر البالغة ، فما ذكرته قد تعدّى به الحكم إلى الثيّب الصغيرة.

والحقّ أنّه معارضة في الأصل مع زيادة التسوية في التعدية ، فليس سؤالا برأسه (2) ، فجوابه جوابها.

الجنس الخامس : ما يتعلّق بالمقدّمة الثالثة

وهي كون العلّة موجودة في الفرع. وأنواعه خمسة :

[ النوع ] الأوّل : منع وجودها في الفرع. ومثاله مع جوابه ظاهر. وهو يتأتّى على قواعد الفريقين (3) ، ووجهه ظاهر.

[ النوع ] الثاني : المعارضة في الفرع بما يقتضي نقيض الحكم فيه ، بأن يبدي وصفا آخر يقتضي نقيض حكم المستدلّ في الفرع. وإذا اطلقت المعارضة في مباحث القياس ، فالمراد منها هذه دون المعارضة في الأصل ؛ فإنّها تقيّد (4). ولا بدّ للمعترض من بناء وصفه على أصل ، وإثبات علّيّته بطريق من طرقها ، فيصير المعترض مستدلاّ ، وبالعكس ، فينقلب وظيفتاهما.

والحقّ ، قبول هذا السؤال ؛ لأنّه لو لم يقبل ، اختلّ فائدة البحث ، وسدّ باب المناظرة ، ووجهه ظاهر.

ص: 569


1- ما علّل به المستدلّ في المثال الآتي هو البكارة ، وما علّل به المعترض هو الصغر.
2- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 106.
3- راجع : الإحكام في أصول الأحكام 4 : 106 ، وتهذيب الوصول : 265.
4- أي تقيّد بقوله : « في الأصل ».

واحتجاج الخصم بأنّ فيه قلب التناظر وهو لا يصحّ (1) ، ضعيف ؛ لعدم لزومه منه إذا كان قصد المعترض منه هدم دليل المستدلّ ، وإنّما يلزم لو قصد به إثبات مقتضى دليله ، وليس كذلك.

وجوابه : ما يعترض به على المستدلّ ابتداء من الأسئلة ، والجواب الجواب ، أو ترجيح وصفه بوجه من وجوهه على المختار.

والقول بعدم قبوله فاسد ؛ لوجوب العمل بالراجح ؛ لئلاّ يلزم ترجيح المرجوح ، والإجماع على العمل بالتراجيح.

والحقّ ، عدم وجوب الإيماء إلى الترجيح في متن الدليل ؛ لأنّه خارج عن الدليل ، وإنّما احتيج إليه لدفع المعارضة لا لأنّه جزء منه.

ولا يخفى أنّ هذا السؤال ممكن الإيراد على قواعدنا أيضا ؛ فإنّه لا يمتنع عندنا وجود محلّ أمكن إلحاقه بكلّ واحد من أصلين علّل حكماهما بعلّتين منصوصتين كلّ منهما يقتضي نقيض مقتضى الاخرى فيهما.

وجوابه الأسئلة التي أشرنا إلى صحّة إيرادها (2) عندنا ، وصحّة الجواب بالترجيح عندنا ظاهرة.

النوع الثالث : الفرق ، وقد تقدّم (3).

النوع الرابع : اختلاف ضابطة الحكمة في الأصل والفرع ، كأن يقال في شهود الزور على القتل : تسبّبوا بالشهادة للقتل ، فيجب القصاص كالمكره ، فيورد اختلاف الضابط ؛ لأنّه في الأصل الإكراه ، وفي الفرع الشهادة ، ولم يعتبر الشارع تساويهما في المصلحة. وهو ممكن الإيراد على اصولنا (4). مثلا لو نصّ الشارع على علّيّة التسبّب بالإكراه لقصاص المكره ، فقيس عليه شاهد الزور فيه بالتسبّب بالشهادة ، فللمعترض أن يقول : التسبّب بالإكراه يخالف التسبّب بالشهادة.

ص: 570


1- حكاه الآمدي عن قوم في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 107.
2- تقدّمت آنفا.
3- في ص 535.
4- راجع الإحكام في أصول الأحكام 4 : 108 و 109 حتّى تعلم أنّ هذا الأصل على اصول أهل السنّة لا على اصولنا.

وجوابه : بيان أنّ الجامع ما اشتركا فيه من الحكمة وهو التسبّب هنا ، وهو مضبوط عرفا.

أو بيان تساوي الضابطين ، أو رجحان ضابط الفرع في الإفضاء إلى المقصود ، فيثبت التعدية ، كما لو جعل الأصل في المثال هو المغري للحيوان على قتل الآدميّ ، فيورد اختلاف الضابط في الأصل والفرع ، فيجاب بأنّ الشهادة في الإفضاء إلى قتل من شهد عليه بالقتل أقوى من الإغراء ؛ لأنّ انبعاث أولياء المقتول على قتل من شهدوا عليه بالقتل طلبا للتشفّي أغلب من انبعاث الحيوان بالإغراء على قتل من اغري عليه ؛ لنفرته عن الآدمي ، وعدم علمه بالإغراء غالبا.

النوع الخامس : اختلاف جنس المصلحة في الأصل والفرع مع اتّحاد الضابط فيهما ، كقول الشافعيّة في اللواط : إيلاج فرج في فرج محرّم شرعا مشتهى طبعا ، فيجب الحدّ كالزنا (1). فيقال : الضابط وإن اتّحد إلاّ أنّ المصلحة في تحريمهما مختلفة ؛ فإنّ الحكمة في حرمة الزنا دفع محذور اختلاط الأنساب ، وفي حرمة اللواط دفع رذيلة [ اللياطة ] ، وقد يتفاوتان في نظر الشارع ، فينوط الحكم بأحدهما دون الآخر. وحاصله معارضة في الأصل لإبداء خصوصيّة فيه ، كأنّه قيل : العلّة ما ذكرتم ، مع كونه موجبا لاختلاط النسب (2) فجوابه كجوابها.

الجنس السادس : ما يتعلّق بالمقدّمة الرابعة

وهي وجود الحكم في الفرع. ويندرج فيه نوعان :

[ النوع ] الأوّل : مخالفة حكم الفرع لحكم الأصل ، بأن يقال - بعد تسليم وجود علّة الأصل في الفرع - : حكم الفرع يخالف حكم الأصل حقيقة وإن ساواه صورة ، والمطلوب المساواة حقيقة ، كأن يقال في قياس البيع على النكاح أو عكسه في عدم الصحّة : الحكم - وهو عدم الصحّة - مختلف فيهما ؛ فإنّه في النكاح حرمة المباشرة ، وفي البيع حرمة الانتفاع. وإمكان إيراد هذا السؤال على قواعدنا ظاهر.

ص: 571


1- راجع : حلية العلماء 8 : 16 ، والمبسوط للشيخ الطوسي 9 : 77 ، والخلاف 5 : 381 ، المسألة 22 ، والمجموع شرح المهذّب 20 : 27.
2- قاله الآمدي في الإحكام 4 : 109.

والجواب : بيان اتّحاد الحكم إمّا عينا ، كما في المثال ؛ فإنّ البطلان بشيء واحد ، وهو عدم ترتّب المقصود من العقد عليه ، والاختلاف إنّما يعود إلى المحلّ ، وهو لا يقدح في صحّة القياس ؛ لكونه شرطا فيه.

أو جنسا ، كما إذا قيس وجوب قطع الأيدي باليد الواحدة على وجوب قصاص الأنفس بالنفس الواحدة ، فيورد المخالفة ، فيجاب بأنّ الحكم متّحد في الأصل والفرع جنسا وإن اختلف فيهما عينا.

[ النوع ] الثاني : القلب وقد تقدّم (1).

الجنس السابع : ما يتعلّق بالمقدّمة الخامسة
اشارة

وهي كون الحكم المثبت في الفرع مطلوبه الذي ادّعاه أوّلا. وهو ينحصر في نوع واحد هو القول بالموجب ، وقد تقدّم مفصّلا (2).

فائدة

اعلم أنّ الاعتراضات من نوع واحد - كالاستفسارات (3) ، أو منوع ، أو نقوض ، أو معارضات - يجوز تعدّدها (4) وفاقا ؛ لعدم لزوم تناقض وخبط والخروج من سؤال إلى غيره. ومن أنواع متعدّدة - كاستفسار ، ومنع ، ونقض ، ومعارضة - إن كانت غير مرتّبة - كمنع العلّيّة ، ومنع حكم الأصل ؛ إذ الترتّب أن يؤخّر الأوّل عن الثاني ؛ لأنّ تعليل الحكم بعد ثبوته طبعا - لا يجوز جمعها عند أهل سمرقند ، بل يجب عندهم عدم إيراد سؤال آخر بعد سؤال حتّى يجيب عنه ؛ وإن عجز عن جوابه ، فقد انقطعت المناظرة ، وقالوا : هذا أقرب إلى الضبط ، وأبعد عن الخبط. وجوّزه (5) جمهور المناظرين ؛ لعدم صلاحية ما ذكروا للمنع صالحا له (6).

ص: 572


1- في ص 530.
2- في ص 532.
3- كذا في النسختين ، والأولى : كاستفسارات.
4- أي جمعها.
5- أي جوّز الجمع.
6- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 122.

والحقّ ، عدم جوازه لئلاّ يلزم المنع بعد التسليم ؛ فإنّ منع العلّيّة يستلزم ثبوت الحكم ضمنا ، فإذا منع الحكم ثانيا ، كان مانعا لما سلّمه.

وإن كانت مرتّبة طبعا - كمنع حكم الأصل ، ومنع العلّيّة - فمنع جمعها أكثر الجدليّين (1) ؛ لأنّ الأخير فيه الإغماض عن الأوّل ، وتسليم ما منع فيه ؛ لأنّه ما لم يسلّم ثبوت حكم لا يطلب علّة ثبوته ، فيتعيّن الأخير سؤالا ، ويلغو الأوّل ويضيع.

والحقّ ، جوازه لأنّ التسليم على التقدير لا نفس الأمر ، فكأنّه قال : لو سلّم الأوّل فالثاني وارد ، فظهر أنّ جمع المرتّبة جائز ، وجمع غيرها غير جائز ، فيجب مراعاة الترتيب الطبيعي ، وهو تقديم الاستفسار ، ثمّ فساد الاعتبار ، ثمّ فساد الوضع ، ثمّ ما يتعلّق بالأصل ، ويلزم فيه تقديم منع حكم الأصل على منع وجود العلّة فيه. ثمّ ما يتعلّق بالعلّة ؛ لاستنباطها منه ، كالمطالبة ، وعدم التأثير ، والقدح في المناسبة والتقسيم ، وكون الوصف غير ظاهر ولا منضبط ، وكونه غير مفض إلى المقصود والنقض والكسر ومعارضة الأصل ، ويجب تأخّر النقض والكسر على ما قبلهما ، وتقديمهما على معارضة الأصل ؛ لأنّهما يذكران لإبطال العلّة ، والمعارضة لإبطال تأثيرها بالاستقلال. ثمّ ما يتعلّق بالفرع ؛ لابتنائه عليهما ، كمنع وجود العلّة فيه ، ومخالفة حكمه لحكم الأصل ، واختلاف الضابط والحكمة ، والمعارضة في الفرع ، والقول بالموجب.

استدراك

قد يستعمل المتأخّرون نوعا من القياس يسمّونه قياس الأصل على الفرع (2). وهو أن يقال : لو وجد الحكم الفلاني في الفرع يوجد في الأصل ، لكنّه لم يوجد فيه فلا يوجد في الفرع. وبيّن الملازمة بأنّه لو وجد في الفرع لوجد بعلّة كذا ؛ لمناسبتها له ، واقترانه بها ، وهي موجودة في الأصل.

ص: 573


1- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 123.
2- قاله الفخر الرازي في المحصول 5 : 375 ، والآمدي في أصول الأحكام 4 : 79 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 272.

مثاله قول الشافعيّة : لا يجوز إزالة النجاسة بالخلّ ، كما لا يجوز بالدهن ؛ لأنّه لو ثبت جواز إزالتها بالخلّ لكان لأجل أنّه مائع ، وهذا الوصف موجود في الدهن ، مع عدم جواز إزالتها به ، فلا يجوز بالخلّ أيضا (1).

ولا يخفى أنّه ليس من الأقيسة الفقهيّة ، ولذا ما أدرجناه فيها ، بل هو نوع من التلازم ؛ لأنّه مركّب من شرطيّة متّصلة استثني نقيض تاليها ؛ لإنتاج نقيض مقدّمها ، فعلّة التسمية بقياس الأصل على الفرع كونه قياسا منطقيّا يثبت فيه علّة الحكم لما هو بمنزلة الفرع أوّلا ، ولما هو بمنزلة الأصل ثانيا ، فكان الثاني مقيسا على الأوّل.

* * *

[ تمّ الجزء الأوّل من كتاب أنيس المجتهدين ]

ص: 574


1- راجع المبسوط للسرخسي 1 : 95 - 96.

فهرس الموضوعات

مقدّمة التحقيق... 7

ترجمة المؤلّف ... 7

مؤلّفاته في أصول الفقه ... 14

أنيس المجتهدين ... 15

عملنا في الكتاب ... 17

كلمة شكر ... 20

مصوّرات من النسخ الخطّيّة ... 21

مقدّمة المؤلّف ... 25

المبحث الأوّل : في المقدّمات

الباب الأوّل : في نبذ من أحواله

ف 1 : في تعريف علم الاصول ... 29

فائدة : في جواز العمل بظنّ المجتهد في نفس الأحكام وموضوعاتها ... 31

ف 2 : في موضوع علم الاصول ... 34

ف 3 : في مرتبته وفائدته ومعرفته ... 35

الباب الثاني : في المبادئ اللغويّة

ف 1 - في أنّ المبادئ على قسمين ... 36

ص: 575

ف 2 - في اللغة ... 37

ف 3 - في أنّ اللغات هل هي توقيفيّة أو اصطلاحيّة؟ ... 37

ف 4 - في طريق معرفة اللغات ... 40

فائدة : في أنّ الألفاظ موضوعة للماهيّة من حيث هي ... 41

ف 5 - في إطلاق الكلام والكلمة والقول والذكر ... 42

قاعدة : في عدم اشتراط صدور الكلام من متكلّم واحد ... 42

ضابطة : في وجوب حمل الألفاظ على المعاني المتعارفة المتبادرة المعتادة ... 43

ف 6 - في الخلاف في جواز وقوع كلّ من المترادفين مقام الآخر ... 43

ف 7 - في عدم جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ... 44

ف 8 - في الحقيقة والمجاز وأقسامهما ... 51

فائدة : في بيان علامات كلّ من الحقيقة والمجاز ... 52

ف 9 - في الحقيقة الشرعيّة ... 55

مسألة : في أنّ النقل خلاف الأصل ... 58

ف 10 - في أنّ وجود العلاقة كاف في المجاز أم لا؟ ... 59

ف 11 - في أنّ استعمال اللفظ في الحقيقة أو المجاز لا يستلزم الآخر ... 60

فائدة : في أنّ المجاز على ثلاثة أقسام ... 61

أصل : في ملاك تقدّم الحقائق الثلاث للفظ الواحد ... 61

فيما إذا دار الأمر بين الحمل على العرفيّة العامّة أو الخاصّة أو اللغويّة ... 62

ف 12 - في أنّه لا بدّ في الحمل على المجاز من علاقة معتبرة ... 64

التذنيب الأوّل : في أنّ المراد عند الإطلاق هو المشاركة في جميع الأحكام ... 65

التذنيب الثاني : في وجوب حمل اللفظ على أقرب المجازات إلى الحقيقة ... 66

ف 13 - في بيان المراد من أنّ الأصل في الكلام الحقيقة ... 67

ف 14 - في عدم جواز استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي معا ... 69

ف 15 - فيما إذا دار اللفظ بين الحقيقة المرجوحة والمجاز الراجح ... 71

ص: 576

ف 16 - فيما إذا دار اللفظ بين الحقيقة وواحد آخر رجّح الحقيقة وفاقا ... 72

ف 17 - في تعريف المشتقّ ... 77

ف 18 - في أنّ إطلاق المشتقّ على الذات حقيقة أو مجازف ... 79

ف 19 - في أنّ كلّ واحد من المشتقّات يدلّ على ذات ما ... 83

ف 20 - في « الواو » العاطفة ومعانيها ... 84

قاعدة : في معاني « الفاء » العاطفة ... 85

ضابطة : في معاني « ثمّ » ... 87

فائدة : في معاني « أو » ... 87

قاعدة : في معاني « الباء » ... 88

ضابطة : في معاني « في » ... 88

ف 21 - في معاني « اللام » ... 90

ف 22 - في معاني « من » ... 91

ف 23 - في معنى « إلى » ... 92

تنبيه : في الضمير ... 94

الباب الثالث : في المبادئ الأحكاميّة

ف 1 - في أقسام الحكم ... 95

ف 2 - في الحسن والقبح العقليّين ... 99

تقسيم : في أقسام الواجب والمستحبّ ... 103

ف 3 - في أقسام الحكم الوصفي ... 105

فائدة : في السبب والمسبّب ... 109

ف 4 - في بيان متعلّق الأحكام الوضعيّة ... 110

تذنيب : في تداخل بعض الأسباب عند تعدّدها ... 111

فائدة : في إجزاء نيّة الوجوب عند اجتماع أسباب الوجوب في مادّة واحدة ... 113

ضابطة : في تقسيم السبب إلى القولي والفعلي ... 114

ص: 577

ف 5 - فيما لو علّق حكم على سبب أو شرط متوقّعين ... 115

تتميم : في ترتّب حكم على أسباب يمكن اعتبارها في الحال وفي المآل ... 115

ف 6 - في تقسيم الحكم الوضعي إلى الرخصة والعزيمة ... 116

ف 7 - في أنّ المندوب ليس مأمورا به حقيقة ، وكذلك المكروه ... 118

ف 8 - في معاني المباح ... 119

تذنيب : في أنّ المباح ليس بمأمور به ... 120

ف 9 - في أنّ كلّ من المباح والمكروه يكون حسنا ... 123

ف 10 - في الواجب الكفائي ... 123

ف 11 - في الواجب التخييري ... 125

تذنيب : في صحّة التخيير بين الواجب والندب ... 128

تتميم : في صحّة النهي التخييري ... 129

ف 12 - في الواجب الموسّع ... 129

تذنيب : في وجوب أداء الفعل قبل جزء الوقت الذي ظنّ موته فيه ... 133

ف 13 - في مقدّمة الواجب ... 134

ف 14 - هل يجوز اتّصاف شيء واحد بحكمين من الأحكام الخمسة؟ ... 145

ف 15 - في الواجب المعلّق ... 156

فائدة : في عدم إجزاء كلّ واحد من الواجب والمستحبّ عن الآخر ... 158

ضابطة : في أنّ ثواب الواجب أعظم من ثواب المستحبّ إلاّ في مواضع ... 158

ف 16 - في أنّ الإجزاء والقبول متلازمان ... 159

ف 17 - في عدم إطلاق العبادات والعقود والإيقاعات على الفاسد منها ... 162

ف 18 - في أنّ الواجب إذا رفع بسبب النسخ ، فهل يبقى الجواز أم لا؟ ... 162

البحث في أفعال المكلّفين والمكلّف ... 166

ف 19 - في امتناع التكليف بالمحال ... 166

مسألة : في عدم اشتراط حصول الشرط الشرعي في التكليف بفعل ... 166

ص: 578

ف 20 - في بيان المكلّف به في النهي ... 168

ف 21 - في أنّ الفهم شرط في التكليف أم لا؟ ... 171

ف 22 - في امتناع تعلّق التكليف بالمعدوم ... 172

ف 23 - في عدم صحّة التكليف بأحد الطرفين إذا بلغ الإكراه حدّ الإلجاء ... 175

ف 24 - في عدم صحّة التكليف بالفعل المكلّف به إذا كان مشروطا بشرط ... 177

فائدة : في عدم تعلّق التكليف بالساهي والغافل وغير العاقل ... 179

المبحث الثاني : في الأدلّة الشرعيّة

الباب الأوّل : في الكتاب

ف 1 - في معنى الكتاب لغة وشرعا ... 183

تتمّة : في تعريف السورة ... 186

ف 2 - في أنّ البسملة في كلّ سورة جزء منها ... 187

تتميم : في تواتر القراءات السبع ، وأنّها ليست بحجّة ... 189

ف 3 - في عدم تحريف القرآن ... 193

تحديد : تعريف المحكم والمتشابه والنصّ والظاهر والمجمل ... 195

ف 4 - في جواز العمل بالنصوص والمحكمات والظواهر من القرآن ... 195

الباب الثاني : في السنّة

معنى السنّة لغة واصطلاحا ... 202

ف 1 - في بيان حقيقة الخبر وتعريفه ... 203

تتمّة : في أنّ الخبر يطلق على ما يرادف الحديث وهو قول المعصوم ، أو ... 209

فائدة : في أنّ صيغة الخبر لا تحتاج إلى القصد ... 209

ف 2 - في بيان معنى الصدق والكذب في الخبر ... 213

تقسيم : في تقسيم الخبر باعتبار ما يعلم صدقه أو كذبه وما لا يعلم ... 215

ف 3 - في الخبر المتواتر ... 216

ص: 579

ف 4 - في شروط التواتر ... 220

تتمّة : في تساوي المخبرين والقضيّة والسامع ... 222

ف 5 - في المتواتر المعنوي ... 223

ف 6 - في الخبر الواحد ... 223

تذنيب : بطلان القول بأنّ كلّ خبر يفيد العلم ... 225

ف 7 - إذا أخبر واحد بحضرة النبيّ صلى اللّه عليه وآله ولم ينكر عليه ، لم يدلّ على صدقه 226

ف 8 - في التواتر السكوتي ... 227

ف 9 - في ما إذا تفرّد واحد بالخبر رغم توفّر الدواعي على نقله ... 227

ف 10 - في حجّيّة خبر الواحد ... 229

فائدة : في أنّه لا يعتبر في حجّيّة الخبر انضمام القرينة ... 239

ف 11 - في بيان شرائط العمل بالخبر الواحد ... 241

تنبيه : في أنّ بحث الاصولي في الخبر إمّا في متنه أو في سنده ... 255

ف 12 - في أقسام الخبر باعتبار الراوي ... 255

تتمّة : في بيان أسباب الحسن وحجّيّته ... 257

فائدة : في التسامح في أدلّة السنن ... 261

تذنيب : في بيان حجّيّة الخبر في عرف القدماء ... 264

ف 13 - في أقسام الخبر باعتبار الطريق ... 266

تتميمات : في الخبر المرسل والمقطوع والمتّصل ... 273

أقسام الخبر باعتبار السند ... 274

ف 14 - في طرق معرفة عدالة الراوي ... 279

ف 15 - في الإطلاق في التعديل والجرح ، والاحتياج لذكر السبب ... 282

ف 16 - في تعارض قول الجارح والمعدّل ... 284

ف 17 - في بيان بعض ما له دخل في تعديل الراوي ... 285

ف 18 - في أنّ الاعتبار بحال الراوي وقت أداء الرواية ، لا وقت تحمّلها ... 286

ص: 580

فائدة : في بيان وجوه التمييز بين الشهادة والرواية ... 287

فائدة : وجوب ذكر السبب على البيّنة والأمين إذا أخبر بحكم اختلف أسبابه ... 290

تذنيب : في الفرق بين الفتوى والحكم ... 291

ف 19 - في بيان جواز نقل الحديث بالمعنى مطلقا للعارف بمواقع الألفاظ ... 292

ف 20 - في لزوم حمل الخبر المجمل على الظاهر ... 293

ف 21 - في سقوط رواية الفرع إذا كذّبه الأصل ... 294

ف 22 - في رواة لم يذكروا بجرح ولا تعديل ، مع رواية المشايخ عنهم ... 295

ف 23 - في أنّ راوي الحديث لا بدّ له من مستند يصحّ لأجله الرواية ... 297

طرق تحمّل الحديث ... 298

ف 24 - في التأسّي بفعل المعصوم عليه السلام ... 305

فائدة : في طرق معرفة فعل النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ... 316

ف 25 - في عدم التعارض بين فعليه صلى اللّه عليه وآله وإن تناقض حكمهما ... 316

فائدة : في بيان وجوه تصرّفات المعصوم عليه السلام ... 325

ف 26 - في أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله قبل البعثة لم يكن متعبّدا بشرع أحد من الأنبياء... 329

ف 27 - في أنّ تقرير المعصوم حجّة ... 333

فائدة : في عدم حجّيّة حكم المعصوم عليه السلام في الرؤيا قولا كان أو فعلا ... 334

الباب الثالث : في الإجماع

ف 1 - في تعريف الإجماع وبيان حدّه ... 336

ف 2 - في حجّيّة الإجماع ... 340

ف 3 - في إمكان وقوع الإجماع ... 348

ف 4 - في إمكان العلم بالإجماع وأقسامه ... 349

ف 5 - في مدرك حجّيّة الإجماع عند الإماميّة ... 357

ف 6 - في الإجماع المنقول ... 365

تتمّة : في أنّ حكم الإجماع المنقول حكم الخبر الواحد بعينه ... 367

ص: 581

ف 7 - في بطلان خرق الإجماع المركّب ... 367

في مراتب الإجماعات المركّبة ... 369

تتمّة : في ما إذا افترقت الإماميّة في مسألة فرقتين ... 373

تذنيبات ... 373

ف 8 - في عدم اشتراط انقراض عصر المجمعين لانعقاد إجماعهم ... 375

ف 9 - في أنّه لا إجماع إلاّ عن مستند ... 377

ف 10 - في ما إذا استدلّ أهل العصر بدليل ، هل يجوز لمن بعدهم إحداث دليل؟... 378

ف 11 - في عدم حجّيّة الإجماع السكوتي ... 378

ف 12 - في أنّ الشهرة ليست حجّة بأن تصلح بمجرّدها دليلا للحكم ... 380

ف 13 - لا يشترط في حجّيّة الإجماع أن يبلغ عدد المجمعين عدد التواتر ... 381

ف 14 - في أقسام الإجماع ... 382

ف 15 - في عدم جواز تقسيم الامّة إلى أقسام وخطأ كلّ قسم في مسألة ... 382

ف 16 - في عدم جواز الاحتجاج بالإجماع فيما يتوقّف صحّته عليه ... 383

ف 17 - في من لا عبرة به في الإجماع ... 384

الباب الرابع : في الأدلّة العقليّة

ف 1 - في أصل البراءة ... 386

تتمّة : في حكم الشبهة في الحكم والموضوع ... 392

ف 2 - في استصحاب حال العقل ، أي أصل العدم الأزلي ... 397

ف 3 - في أصالة عدم تقدّم الحادث ... 399

ف 4 - في الأخذ بالأقلّ عند فقد الدليل على الأكثر ... 399

ف 5 - في عدم الدليل على حكم ... 400

تذنيب : في النافي للحكم ... 401

ف 6 - في استصحاب حال الشرع ... 401

تذنيب : في شروط العمل بالاستصحاب ... 415

ص: 582

فائدة : في ما إذا دلّ دليل على الانتقال من مقتضى أصل إلى غيره ... 418

ف 7 - في معنى التلازم وأقسامه وأنواعه ... 419

تذنيب : في الدوران ... 424

ف 8 - في الاستقراء ... 425

ف 9 - في الاحتياط ... 426

ف 10 - في الاستحسان ... 429

ف 11 - في المصالح المرسلة ... 431

الباب الخامس : في القياس

ف 1 - في التأسّي بالاصوليّين لذكر القياس في باب خاصّ ... 434

ف 2 - في تعريف القياس ... 434

ف 3 - في أركان القياس ... 435

ف 4 - في تقسيمات القياس ... 437

ف 5 - في تحقّق النصّ على التعليل بذكر ما يدلّ عليه صريحا بوضعه ... 446

ف 6 - في أنّ مطلق الإجماع يتأتّى في الإجماع على كون الوصف الجامع علّة ... 446

ف 7 - في التنبيه والإيماء في التعليل وبيان مراتبه ... 447

ف 8 - في أقسام القياس الراجح التأثير وأحكامها ... 453

ف 9 - في إبطال حجّيّة القياس المرجوح التأثير ... 461

ف 10 - في المناسبة التي تسمّى إخالة وتخريج المناط ... 466

ف 11 - في تقسيمات المناسب عند القائسين ... 467

تذنيب : صور اعتبار الوصف في الحكم ... 476

تتمّة : في أنّ طريق المناسبة لا يفيد العلّيّة ... 478

ف 12 - من طرق الاستنباط « الشبه » ... 479

تذنيب : في معنى الطرد وأنّه لا يفيد العلّيّة وليس بحجّة ... 482

ف 13 - في قياس السبر والتقسيم ... 484

ص: 583

ف 14 - في الطرد والعكس ، أي الدوران ... 487

استدراك : في إمكانيّة الاستدلال ببعض أقسام القياس الباطلة على حكم ... 490

ف 15 - في أقسام العلّة نفسها ... 490

تمهيد : في شروط القياس ... 491

ف 16 - في شروط العلّة ... 492

تذنيب : الفرق بين القيد المذكور والظاهر ... 509

في جواز تعليل الحكم عقلا بعلّتين أو أكثر ... 513

تتميم : في أنّه هل يجوز تعليل حكمين أو أكثر بعلّة واحدة؟ ... 520

تنبيه : في الأقسام المتصوّرة من الاطّراد والانعكاس ... 526

تذنيب : ممّا يبطل العلّية النقض المكسور ... 527

تنبيه : في أنّ القول بالموجب بأقسامه يؤدّي إلى انقطاع أحد المتناظرين ... 534

ف 17 - في شرائط حكم الأصل ... 538

ف 18 - في شرائط الفرع ... 547

ف 19 - في عدم جواز جريان القياس في الحدود والكفّارات والرخص ... 549

ف 20 - في عدم صحّة القياس في الأسباب والشروط ... 551

ف 21 - في الاعتراضات الواردة على القياس ... 553

تذنيب : في صحّة جواز تعدّد أصل المستدلّ ... 568

فائدة : في أنّ الاعتراضات من نوع واحد ... 572

استدراك : في قياس الأصل على الفرع ... 573

فهرس الموضوعات... 575

ص: 584

ص: 585

المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية

الناشر: مؤسسة بوستان كتاب

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1430 ه.ق

ISBN (ردمك): 978-964-09-0282-0

المكتبة الإسلامية

سرشناسه : نراقی ، مهدی بن ابی ذر

محل نكهداری نسخه : قم

مركز نگهدارنده نسخه : كتابخانه مرعشی

شماره بازیابی نسخه : 4216/1

عنوان و نام پديدآور : انیس المجتهدین[نسخه خطی]

وضعیت استنساخ : سلطان آباد: جمادی الاخر1034ق قرن طاهر حسيني انجداني

مشخصات ظاهري : 1ر-267ر، مختلف سطر؛ 21×17 س م

يادداشت كلی : آغاز كتاب: الحمدلله الذی جعل علم الاصول وسیلة للصعود الی مدارج حقایق المباحث الشرعیة و صیّره ذریعة للعروج الی معارج دقائق مسائل الفقهیة... اما بعد فیقول ... ان علم الاصول مما لایخفی علو رتبته..

انجام كتاب: و وحدة ترجیح كل من الادلة وتعدده صور غیر متناهیة و لابد للمجتهد عند تعارض الترجیحات من نظر آخر للترجیح بینها و بعد الاحاطة بما ذكرناه لایخفی جلیة الحال فیه

تاریخ تالیف:1186 ق.

تدوین و گردآوری: موسسه فرهنگی پژوهشی الجواد

يادداشت مشخصات ظاهری : نوع و تزیینات جلد: تیماج قهوه ای

خط: نسخ و نستعلیق

منابع اثر، نمايه ها، چكيده ها : منابع كتابشناسی: التراث العربی 338/1

منابع كتابشناسی: الذریعة 464/2 و465/2 رقم 1804

منابع كتابشناسی: مدرسه فیضیه 24/1

منابع كتابشناسی: مرعشی 397/1 و 219/11و 214/26 و 140/37

منابع كتابشناسی: امام صادق قزوین 43/1

منابع كتابشناسی: مفتی الشیعه ص89

منابع كتابشناسی: الهیات تهران ص 750

منابع كتابشناسی: كتابخانه مدرسه آخوند ص 1287

منابع كتابشناسی: دائرة المعارف اسلامی 43/1

منابع كتابشناسی: ذریعه ، 464/2

منابع كتابشناسی: العام 2430/3

منابع كتابشناسی: مهدی نراقی

منابع كتابشناسی: مرعشی 397/1،همانجا 219/11

منابع كتابشناسی: نشریه 512/7 و 591/5

منابع كتابشناسی: مكتبة امیر المومنین 157/1

منابع كتابشناسی: مجلس شورا 123/50

ماخذ: فهرست نسخه های خطی كتابخانه آیة اللّه نجفی مرعشی. ج.11

معرفی نسخه : معرفی كتاب: در مباحث اصولی استدلالی در پنج مبحث و هر مبحث در چند باب و فصل. این اثر توسط مركز مطالعات و تحقیقات اسلامی قم در سال 1388ه چاپ شده است. «محمود نظری»

موضوع های كنترل نشده : اصول فقه

ص: 586

اشارة

أنيس المجتهدين

(في علم الأُصول)

للمولی محمد مهدي النراقي

الجزء الأوّل

التحقيق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية

مركز إحياء التراث الإسلامي

بوستان كتاب

1388

ص: 587

ص: 588

دليل الجزء الثاني

المبحث الثالث : في مشتركات الكتاب والسنّة... 591

الباب الأوّل في الأمر والنهي... 593

الباب الثاني في العامّ والخاصّ... 699

الباب الثالث في المطلق والمقيّد... 822

الباب الرابع في المجمل والمبيّن... 829

الباب الخامس في الظاهر والمؤوّل... 847

الباب السادس في المنطوق والمفهوم... 851

الباب السابع في النسخ... 872

المبحث الرابع : في الاجتهاد والتقليد... 897

الباب الأوّل في الاجتهاد... 899

الباب الثاني في التقليد... 957

المبحث الخامس : في التعادل والترجيح... 973

الفهارس العامّة... 991

ص: 589

ص: 590

المبحث الثالث : في مشتركات الكتاب والسنّة

اشارة

وفيه أبواب :

ص: 591

ص: 592

الباب الأوّل : في الأمر والنهي

اشارة

لفظ الأمر حقيقة - وفاقا - في القول المخصوص ، أي الدالّ بالوضع على طلب الفعل استعلاء. وما يصرف منه - ك- « أمرته » و « أمرني » و « مر » وغيرها - حقيقة فيه مع النسبة المخصوصة.

والحقّ أنّه حقيقة فيه فقط (1) ، وليس حقيقة في غيره وفاقا للأكثر.

وقيل : مشترك بينه وبين الفعل ، وإليه ذهب المرتضى من أصحابنا (2).

وقيل : متواطئ فيهما ، أي هو القدر المشترك بينهما (3) ، أعني مفهوم أحدهما ، أو مطلق الفعل ، أعمّ من أن يكون باللسان أو بغيره.

وقال البصري : مشترك بينهما وبين الشيء ، والصفة ، والشأن ، والطريقة (4).

لنا : تبادر القول المخصوص فقط منه عند إطلاقه ، ولو كان مشتركا بينه وبين غيره لتبادر الغير أيضا على الاجتماع أو البدليّة ، وليس كذلك ، فيبطل الاشتراك مطلقا.

وأيضا : هو خلاف الأصل ؛ لأنّه يخلّ بالتفاهم ، ولو كان متواطئا بينهما لكان أعمّ منهما ، فلم يفهم القول المخصوص منه عند إطلاقه فضلا عن أن يتبادر منه ؛ لأنّ الأخصّ لا يفهم من الأعمّ عند إطلاقه ، كما لا يفهم الإنسان من الحيوان.

ص: 593


1- أي بدون النسبة المخصوصة.
2- الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 27.
3- قاله الشيخ حسن في معالم الدين : 46 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 154.
4- المعتمد 1 : 39.

وقد استدلّ عليه بوجوه غير تامّة (1) :

منها : عدم اطّراده في الفعل ؛ لأنّه لا يسمّى بعض الأفعال - كالأكل والشرب وأمثالهما - أمرا ، فلا يكون حقيقة فيه ؛ إذ الاطّراد لازمها.

ويرد عليه : منع عدم التسمية.

ومنها : صحّة السلب ؛ لأنّه يقال : ما أمر بل فعل.

ويرد عليه : منعه على الإطلاق.

ومنها : عدم الاشتقاق من الأمر بمعنى الفعل ، فلا يشتقّ منه اسم الفاعل والمفعول ، والأمر والنهي وغيرها ، فلا يسمّى الأكل أمرا والمأكول مأمورا به ، وهكذا ، وهو دليل عدم الحقيقة ؛ للزوم الاشتقاق فيها.

ويرد عليه : منع اللزوم ، كمنع عدمه في المجاز ، ولذا لا يدلّ جمع الأمر الفعلي على امور على كونه حقيقة. وبهذا يظهر فساد الاحتجاج به على كونه حقيقة فيه ؛ لأنّه اشتقاق ، وهو دليل الحقيقة.

ومنها : أنّ الأمر يستلزم متعلّقا هو المأمور ، وهو لم يتحقّق في الفعل ، وانتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم.

ويرد عليه : منع لزومه لمطلق الأمر.

ومنها : انتفاء لوازم الأمر عن الفعل ، ككونه قسما من الكلام ، وضدّا للنهي ، واتّصاف من تعلّق به بالمطيع والعاصي.

ويرد عليه : أنّها من لوازم القولي دون الفعلي.

احتجّ القائل باشتراكه بينه وبين الفعل بصحّة استعماله فيه ، كما في قوله تعالى : ( حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ ) (2) ، والمراد الأفعال العجيبة. وقوله تعالى : ( أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ) (3) أي فعله ، ( وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ ) (4) ، ( وَما أَمْرُ

ص: 594


1- حكاها الفخر الرازي في المحصول 2 : 9 - 10 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 148 - 149.
2- هود (11) : 40.
3- هود (11) : 73.
4- القمر (54) : 50.

فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) (1) ، ( لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ) (2). وكما يقال : « هذا أمر عظيم » ، والأصل في الاستعمال الحقيقة (3).

وقد بالغ المرتضى في مواضع من الذريعة (4) وسائر كتبه في أنّ الأصل في مطلق الاستعمال الحقيقة ، وبنى عليه الحكم في جميع ما يتفرّع عليه من المسائل.

وقد بيّنّا فيما تقدّم (5) أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، فيمكن أن يكون الاستعمال فيما ذكر مجازا ، بل هو متعيّن ؛ لأنّه أولى من الاشتراك. على أنّه لو سلّم دلالة الاستعمال على الحقيقة ؛ فإنّما هو إذا تجرّد عن القرينة ، والقرينة على إرادة الفعل فيما ذكر موجودة. ولو منعت ، منع كون الفعل فيه مرادا ، بل يدّعى إرادة غير الفعل من القول أو غيره.

واحتجّ القائل بالتواطؤ بأنّه يستعمل فيهما ، فيجب جعله للقدر المشترك بينهما ؛ دفعا للاشتراك والمجاز ؛ فإنّ كليهما لإخلالهما بالتفاهم محذوران ، مخالفان (6) للأصل (7).

والجواب : أنّ ذلك لو لم يدلّ دليل على خلافه ، وإلاّ لزم رفع الاشتراك والمجاز رأسا ، وهنا دلّ الدليل على خلافه ، حيث بيّنّا أنّه يفهم القول المخصوص منه عند إطلاقه ، والعامّ لا يدلّ على الخاصّ.

واجيب عنه أيضا بأنّه قول حادث يرفع المجمع عليه ، وهو كونه حقيقة في القول المخصوص بخصوصه ، فيجب ردّه.

والظاهر أنّ المجمع عليه هو كونه حقيقة في القول المخصوص ، أعمّ من أن يكون بخصوصه ، أو في ضمن القدر المشترك بينه وبين غيره (8).

واحتجّ البصري بأنّه كما يطلق على القول والفعل ، يطلق على الشيء والصفة ، والطريقة

ص: 595


1- هود (11) : 97.
2- إبراهيم (14) : 32.
3- حكاه السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 27 ، والفخر الرازي في المحصول 2 : 13.
4- الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 28 و 38 و 39 ، ولم نعثر عليه في سائر كتبه.
5- راجع ص 593.
6- كذا في النسختين. والأولى بل الصحيح : محذور مخالف ؛ فإنّ خبر « كلا » و « كلتا » في جميع الحالات مفرد.
7- تقدّم ذكره في ص 593.
8- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 149.

والشأن ، كما في قولهم : « رأيت أمرا هالني » و « لأمر ما جدع قصير أنفه » و « أمر فلان مستقيم » و « لأمر ما يسود من يسود ». وقد عرفت جوابه (1).

وبأنّه لو قيل : « أمر فلان » تردّدنا بين الأشياء المذكورة والقول والفعل وهو آية الاشتراك (2).

والجواب : منع التردّد بل يتبادر القول. هذا.

ويظهر لك فائدة الخلاف في الأيمان ، والنذور ، والتعليقات. وكيفيّة التفريع ظاهرة.

وعلى ما اخترناه يمكن الاستدلال بالآيات الدالّة على وجوب اتّباع الأمر - كقوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) (3) - على وجوب اتّباع أفعاله صلى اللّه عليه وآله.

فصل [1]

لمّا عرفت أنّ الأمر حقيقة في القول الدالّ وضعا على طلب الفعل استعلاء (4) ، فاعلم أنّه حدّه ، والقول جنس يخرج الإشارة والقرائن ، فالطلب بهما لا يسمّى أمرا (5).

وقولنا : « الدالّ على الطلب » يخرج ما لا يدلّ عليه ، كالخبر ، والتهديد ، وأمثالهما.

واحترز « بالوضع » عن الدالّ على الطلب لا بالوضع ، كقولنا : « أوجبت عليك » أو « أنا أطلب منك كذا » أو « إن تركته عاقبتك » ؛ فإنّه في الأصل خبر عن الطلب وليس به ، وإن دلّ عليه عرفا.

وإضافة « الطلب » إلى « الفعل » تخرج النهي. « والاستعلاء » يخرج ما على جهة التسفّل ، وهو الدعاء ، وما على سبيل التساوي وهو الالتماس.

والحقّ اشتراط الاستعلاء كما هو رأي المحقّقين (6) ، وعدم اشتراط العلوّ ، كما هو رأي

ص: 596


1- تقدّما في ص 593.
2- تقدّما في ص 593.
3- النور (24) : 63.
4- في ص 593.
5- حقّ العبارة أن تكون هكذا : « فالإشارة والقرائن الدالّة على الطلب ليست أمرا ».
6- منهم : البصري في المعتمد 1 : 43 ، والفخر الرازي في المحصول 2 : 17 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 158 ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : 65 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 93 ، والمحقّق الحلّي في معارج الأصول : 62.

المعتزلة (1) ، والأمرين (2) كما هو رأي جماعة (3) ؛ لعدّ (4) العقلاء أمر الأدنى الأعلى سفها ، فلو اشترط العلوّ لما كان هذا أمرا ، ولو لا أنّ فيه الاستعلاء لما عدّ سفها. ويدلّ على عدم اشتراط العلوّ قوله تعالى حكاية عن فرعون : ( فَما ذا تَأْمُرُونَ ) (5).

فإن قيل : هذا يدلّ على عدم اشتراط الاستعلاء أيضا.

قلنا : ممنوع ؛ لأنّا نلتزم تحقّق الاستعلاء فيه ؛ لأنّ افتقار فرعون إليهم في علمهم اضطرّه إلى التخضّع لهم ، وترخّصهم في التكلّم معه على جهة الاستعلاء تعظيما لعلمهم ، وقس عليه أمثاله.

ولو قطع النظر عنه نقول : لمّا علم بالدلالة اعتبار الاستعلاء ، يتعيّن إرادة المعنى المجازي من مثله.

ويدخل في إطلاق الطلب الإيجاب والندب ، ولا يلزم منه كون مطلقه أمرا ؛ لأنّ الأمر هو القول الدالّ بالوضع على الطلب. ولو جعل نفس الطلب - كما هو رأي جماعة (6) ، وإن لم يكن صحيحا عندنا ، كما يأتي (7) - فليس مطلق الطلب ، بل الطلب بالقول الدالّ بالوضع عليه.

وعلى التقدير الأوّل (8) ينحصر بصيغة « افعل » وما بمعناها في لغة العرب كالمضارع المقرون باللام ، واسم الفعل ، مثل « رويد » و « صه » أو غيرهما ؛ لأنّ غيرهما (9) - ممّا يدلّ على الطلب مطلقا ك- « أمرتك » أو مقيّدا في وجوب ك- « أوجبت » و « حتّمت » ، أو ندب مثل « ندبت » و « سننت » - لا يدلّ عليه وضعا.

ص: 597


1- حكاه البصري في المعتمد 1 : 43 ، والفخر الرازي عن المعتزلة في المحصول 2 : 302.
2- عطف على العلوّ ، أي عدم اشتراط الأمرين وهما العلوّ والاستعلاء.
3- حكاه الأسنوي عن القاضي عبد الوهّاب في التمهيد : 265.
4- هذا تعليل لكفاية الاستعلاء في تحقّق الأمر.
5- الأعراف (7) : 110.
6- منهم : المحقّق الحلّي في معارج الاصول : 64 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 94 ، والأسنوي في نهاية السؤل 2 : 226 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 121 ، والفاضل التوني في الوافية : 68.
7- يأتي في ص 599.
8- أي كون الأمر هو القول الدالّ بالوضع على الطلب.
9- أي غير صيغة افعل وما بمعناها.

وعلى التقدير الثاني (1) بالطلب المستفاد منهما ، فلو كانا حقيقتين في الوجوب - كما هو الحقّ - انحصر الأمر في الإيجاب أو ما يفيده ، والمأمور به في الواجب ، فلا يكون المندوب مأمورا به ، كما تقدّم (2) وإن كان مطلوبا ، فبطل ما اورد على الحدّ ، بأنّه يصدق على ما يفيد الندب مع عدم كون المندوب مأمورا به.

وبما ذكر يظهر أنّ التعبير عن الخلاف في أنّ الإيجاب هل له صيغة تخصّه أم لا؟ - أي صيغة « افعل » وما بمعناها حقيقة في الوجوب أم لا - بالخلاف في أنّ الأمر هل له صيغة تخصّه أم لا؟ - كما ارتكبه جماعة (3) - صحيح ، فتخطئة هذه الترجمة - نظرا إلى عدم الخلاف في إمكان التعبير عن مطلق الطلب بمثل « أمرتك » و « أنت مأمور » ومقيّده بمثل « أوجبت » و « ندبت » - خطأ ؛ لأنّ مرادهم أنّ الطلب هل له صيغة تدلّ عليه وضعا بهيئتها ، بحيث لا تدلّ على غيره؟ ومثل « أمرتك » ليس كذلك ؛ لأنّ حقيقته الإخبار.

بقي الكلام في سبب التعبير عن الإيجاب بلفظ الأمر ، والظاهر أنّ سببه كون الإيجاب آكد من الندب في كونه أمرا. والمراد من الدلالة في الحدّ هو المطابقة لا الالتزاميّة ، فلا ينتقض طردا بمثل « لا تستقرّ » و « لا تسكت » ، وعكسا بمثل « اجتنب » و « اسكت ».

اعلم أنّ الأمر لمّا كان من جنس الكلام - وهو على التحقيق ينحصر باللفظي المركّب من الحروف والأصوات ، ولا يصحّ النفسي الذي أثبته الأشاعرة (4) وهو المعنى القائم بالنفس ، المغاير لجنس الحروف والأصوات (5) ، كما ثبت في محلّه - فيجب أن يحدّ الأمر بما حقيقته الحروف والأصوات ، كالقول واللفظ والصيغة بشرائطه (6) ، كما حدّدناه به (7) ، لا بما حقيقته المعنى القائم بالنفس كالطلب ومثله ؛ فإنّ المقصود بالذات إظهاره وإلقاؤه إلى المخاطب

ص: 598


1- أي كون الأمر هو نفس الطلب.
2- تقدّم في ص 597.
3- منهم : الغزالي في المستصفى : 204 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 158 و 159.
4- راجع المحصول 2 : 19.
5- المستصفى : 202 و 203.
6- أي بشرائط الحدّ.
7- تقدّم في ص 596.

وإن كان هو الطلب والصيغة المخصوصة وسيلة إليه ، إلاّ أنّ الأمر هو الوسيلة ؛ لما ذكر ، والمقصود مدلوله.

والحقّ أنّه عين الإرادة ؛ لعدم تعقّل الزائد عليها منه ، ولا يعقل وضع اللفظ الظاهر لمعنى غير معقول (1).

فما ذهب إليه الأشعري من أنّ الطلب مغاير للإرادة (2) باطل.

واحتجاجه عليه بأنّه تعالى أمر الكافر الذي علم منه عدم الطاعة بها ولم يردها منه ؛ نظرا إلى استحالة صدورها عنه ؛ لامتناع انقلاب علمه جهلا ، والطلب إمّا نفس الأمر ، أو لازم له. وبأنّه قد يطلب ما لا يراد امتحانا (3).

مندفع بمنع عدم الإرادة في الأوّل. وتعليله عليل ؛ لأنّ العلم ليس علّة. ومنع الطلب في الثاني ؛ فإنّ الصيغة الشخصيّة إذا تجرّدت عن الإرادة لا تدلّ على الطلب ، ولا تكون حينئذ أمرا حقيقة ، بل تكون مستعملة في غير ما وضعت له ، كما إذا استعملت في الخبر أو غيره ، بل يتوقّف كونها أمرا على إرادة المأمور به منها.

ويظهر من هذا أنّ ما قيل : إنّ إرادة المأمور به مؤثّرة في كون الصيغة أمرا (4) صحيح ، والمراد به ما قلناه.

والتحقيق ، أنّ وضع الصيغة للطلب يكفي في دلالتها عليه ، كسائر الألفاظ الموضوعة لمعانيها ، ولا يفتقر إلى إرادة اخرى كما قيل (5) ، وإلاّ لزم الافتقار إليها فيها أيضا ، وهو باطل.

واحتجّ الخصم بأنّها تدلّ على التهديد كما تدلّ على الطلب ، فلا بدّ من مميّز ، ولا مميّز غير الإرادة (6).

والجواب : أنّه يستقيم لو كانت حقيقة في التهديد وليس كذلك ، بل دلالتها عليه

ص: 599


1- في « ب » : « الظاهر المعنى غير معقول ».
2- قاله الرازي في المحصول 2 : 2.
3- المصدر : 19.
4- حكاه الرازي عن أبي علي وأبي هاشم في المحصول 2 : 29.
5- حكاه الرازي عن الكعبي في المحصول 2 : 28.
6- حكاه الفخر الرازي في المحصول 2 : 29.

مجازيّة ، فتوجد معها القرينة ، فبدونها تحمل على الطلب من غير افتقار إلى مميّز.

هذا. وللأمر حدود أخر في كتب المعتزلة (1) والأشاعرة (2) كلّها رديّة مزيّفة ، والمتمكّن من أخذ حدود الأشياء وحقائقها كما هي يعلم أنّ الصحيح من حدوده ما ذكرناه (3) ، أو ما في معناه ، وغيره ظاهر الفساد ، ولذا أعرضنا عن إيراده وردّه.

فصل [2]

إذ عرفت (4) أنّ حقيقة الأمر صيغة « افعل » وما بمعناها ، فاعلم أنّها ترد لثمانية عشر معنى :

الإيجاب : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (5).

الندب : ( فَكاتِبُوهُمْ ) (6) وهو لتحصيل ثواب الآخرة.

التأديب : « كل ممّا يليك » ، وهو لتحصيل تهذيب الأخلاق ، ولإفادته ملكة يصدر عنها ما يوجب الثواب. عدّه بعضهم من الندب (7).

الإرشاد : ( فَاسْتَشْهِدُوا ) (8) ، وهو لجلب المنفعة الدنيويّة.

الإباحة : ( كُلُوا وَاشْرَبُوا ) (9) ، وهو يفيد جواز ما كان المخاطب توهّم عدم جوازه.

التسوية : ( فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا ) (10) ، وهو يفيد التسوية بين أمرين كان المخاطب توهّم رجحان أحدهما.

التهديد : ( قُلْ تَمَتَّعُوا ) (11) ، ومنه الإنذار.

ص: 600


1- راجع المعتمد 1 : 49 - 75.
2- راجع المحصول 2 : 18 - 36.
3- في ص 593.
4- في ص 597.
5- الأنعام (6) : 72.
6- النور (24) : 33.
7- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 160.
8- النساء (4) : 15.
9- البقرة (2) : 60.
10- الطور (52) : 16.
11- إبراهيم (14) : 30.

الدعاء : « اللّهمّ اغفر لي ».

التمنّي : « ألا أيّها الليل الطويل ، ألا انجلي » (1).

العجز : ( فَأْتُوا بِسُورَةٍ ) (2).

التكوين : ( كُنْ فَيَكُونُ ) (3) ، وفيه يقصد إيجاد المعدوم.

التسخير : ( كُونُوا قِرَدَةً ) (4) ، وفيه يقصد انتقال الموجود من صورة أو صفة إلى اخرى.

الامتنان : ( كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ ) (5).

الإكرام : ( ادْخُلُوها بِسَلامٍ ) (6).

الإذلال : ( ذُقْ ) (7) ، يقصد به ذلّة المخاطب ومسكنته.

الإهانة : ( كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً ) (8) ، ويقصد فيه عدم الاعتناء بشأنه بفعل أو ترك ، عزيزا كان أو ذليلا.

الاحتقار : بل ( أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ ) (9) ، ويقصد فيه عدم الاعتناء به بفعل أو ترك ، أو بمجرّد الاعتقاد ، ومنه عدم مبالاة الآمر بفعله ، واستحقاره في مقابلة فعله.

الإخبار : « إذا لم تستحي فاصنع ما شئت ».

ولا خلاف في ورودها بهذه المعاني ، ولا في أنّها ليست حقيقة في جميعها ، إنّما الخلاف في تعيين ما هي حقيقة فيه.

وقد اختلف فيه على أقوال تبلغ سبعة عشر ، بعضها شاذّ ظاهر الفساد ، غير ملتفت إليه في المصنّفات. وما يصلح للضبط والالتفات إليه عشرة :

الأوّل : أنّها حقيقة في الوجوب فقط ، وإليه ذهب الأكثر.

ص: 601


1- الشعر لامرئ القيس في ديوانه : 48 ، وحكاه الفخر الرازي في المحصول 2 : 41.
2- البقرة (2) : 23.
3- البقرة (2) : 117.
4- البقرة (2) : 65.
5- الأنعام (6) : 142.
6- الحجر (49) : 46.
7- الدخان (44) : 49.
8- الإسراء (17) : 50.
9- يونس (10) : 80.

الثاني : في الندب فقط (1).

الثالث : فيهما بالاشتراك (2).

الرابع : في القدر المشترك بينهما ، وهو الطلب (3).

الخامس : فيهما وفي الإباحة بالاشتراك (4).

السادس : في القدر المشترك بينهما ، وهو الإذن (5).

السابع : فيها وفي التهديد (6).

الثامن : في الطلب لغة ، وفي الوجوب فقط شرعا (7).

التاسع : فيهما بالاشتراك لغة ، وفي الوجوب فقط شرعا ، وإليه ذهب المرتضى رضى اللّه عنه (8).

العاشر : الوقف (9).

والحقّ ، أنّها حقيقة في الوجوب فقط لغة وشرعا وعرفا.

لنا وجوه :

منها : ما شاع وذاع من احتجاج الصحابة والتابعين ومن تأخّر عنهم من العلماء الراشدين بمطلقها (10) على الوجوب من غير نكير ، كالعمل بالأخبار من دون تفاوت (11).

ص: 602


1- حكاه الآمدي عن أبي هاشم وكثير من متكلّمي المعتزلة ، وجماعة من الفقهاء ، وعن الشافعي في الإحكام 2 : 162.
2- القائل هو السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 27 و 51.
3- حكاه الأنصاري عن الماتريدي ونسبه أيضا إلى مشايخ سمرقند في فواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 1 : 373 ، وقاله الفاضل التوني في الوافية : 68.
4- حكاه الأنصاري عن الروافض في المصدر.
5- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 161 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 123 ، القاعدة 31.
6- حكاه الغزالي في المستصفى : 205 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 123 ، القاعدة 31.
7- حكاه الفخر الرازي في المحصول 2 : 41 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 162 و 163 ، والمحقّق الحلّي في معارج الأصول : 64 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 123 و 124 ، القاعدة 31.
8- الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 27 و 51.
9- حكاه الفخر الرازي في المحصول 2 : 41 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 162 و 163 ، والمحقّق الحلّي في معارج الأصول : 64 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 123 و 124 ، القاعدة 31 ، والفاضل التوني في الوافية : 67.
10- أي بمطلق الصيغة.
11- حكاه السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 51 - 55 ، والفخر الرازي في المحصول 2 : 69 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 166.

فما اورد عليه في بحث العمل بالأخبار يمكن أن يورد عليه هنا أيضا. والجواب الجواب ، على أنّ المرتضى نقل إجماع الإماميّة على أنّها للوجوب شرعا (1).

ومنها : ذمّ العقلاء العبد بترك الامتثال بعد قول سيّده : « افعل » مع فقد قرائن الوجوب. والأوّل وإن لم يثبت سوى الحقيقة الشرعيّة ، والثاني سوى العرفيّة ، إلاّ أنّ كلاّ منهما إذا ضمّ إليه أصالة عدم النقل ، ينتهض بإثبات الحقائق الثلاث (2).

وما قيل : إنّها لا تثبت الحقيقة اللغويّة ؛ لجواز أن يكون الصيغة في اللغة حقيقة في الطلب أو الندب ، واستعملت في الوجوب مجازا حتّى اشتهرت فيه عند الشرع والعرف ، فصارت حقيقة شرعيّة وعرفيّة فيه ، فأصالة عدم النقل باقية بحالها مع عدم الوضع (3).

يرد عليه : أنّ هذا (4) أيضا نوع نقل ، فالأصل عدمه ، سواء كان المستعمل هو الواضع أو غيره من الشرع والعرف ؛ لأنّ (5) استعمال لفظ في معنى مجازا مع القرينة أو بدونها إلى أن يصير حقيقة فيه ، يستلزم انتقاله من المعنى الحقيقي إليه وإن لم يصرّح بالنقل ، فأصالة عدم النقل تدفعه أيضا.

ولا يفتقر (6) إلى التمسّك بأصالة عدم التجوّز ، مع أنّه غير صحيح ؛ لأنّه إنّما يصحّ في موضع اطلق لفظ له معنى حقيقي ومجازي ، ولم يعلم أنّ المستعمل أيّهما أراد ، فيحمل على الحقيقي لأصالة عدم التجوّز. وأمّا إذا استعمل لفظ في معنى لم يعلم كونه حقيقة فيه أو مجازا ، بل احتملهما (7) ، فلا يحكم بكونه حقيقة فيه لأصالة (8) الحقيقة وعدم التجوّز ، بل يجب التوقّف حينئذ ، كما تقدّم (9) من أنّه الحقّ المشهور ، والمخالف فيه السيّد (10).

ص: 603


1- الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 55.
2- هي اللغويّة والعرفيّة والشرعيّة.
3- حكاه السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 52 - 55 باختلاف. والمراد بعدم الوضع عدم الوضع الشرعي والعرفي.
4- أي الاستعمال المجازي في الوجوب شرعا وعرفا.
5- في « ب » : « فإنّ ».
6- أي إثبات الحقيقة اللغويّة.
7- أي كلّ واحد منهما وحده.
8- قيد للمنفيّ لا للنفي.
9- في ص 593.
10- الذريعة 1 : 51.

ولا ريب أنّ ما نحن فيه ليس من الأوّل ، بل من الثاني لو كان المستعمل هو اللغويّ ، واستعمل الصيغة في الوجوب مطلقا ، أو مع قرينة احتمل معها كونها حقيقة فيه. ولو استعملها فيه بقرينة المجاز بحيث لم يحتمل معها كونها حقيقة فيه ، لم يكن من الثاني أيضا ، بل لا يكون (1) حينئذ حقيقة فيه قطعا ، واستعماله عندنا مردّد بينهما. وكيف كان ، لا يمكن الحمل على الحقيقة لأصالة عدم التجوّز.

ولو كان المستعمل هو الشرع أو العرف ، فحكمه كاللغوي ، مع أنّه لو سلّم هنا أنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة لا يثبت منه الحقيقة اللغويّة ، بل حقيقتهما ؛ لأنّ استعمال كلّ شخص لو أثبت الحقيقة فإنّما يثبت حقيقته لا حقيقة غيره. فكيف كان ، لا يصحّ التمسّك في إثبات الحقيقة اللغويّة بأصالة الحقيقة ، بل يتوقّف على التمسّك بأصالة عدم النقل. هذا.

وأجاب بعضهم عن الدليل الثاني بمنع الذمّ. ومع التسليم فإنّما هو لترك المندوب ، أو الأمر الدائر بين الواجب والمندوب ؛ فإنّ تارك كلّ منهما يستحقّ الذمّ عقلا (2).

ولا يخفى أنّه مكابرة ؛ فإنّ تعلّق ذمّ العقلاء بعبد ترك امتثال أمر مولاه وحكمهم بعصيانه بديهيّ ، إنكاره سفسطة ، وبديهة العقل حاكمة بأنّ مثل هذا الذمّ لا يتوجّه على ترك المندوب وما يحتمل الوجوب ؛ فإنّ الفرق ظاهر بين « اسقني » و « ندبتك إلى أن تسقيني » أو « طلبت منك السقي » ، أمّا وجوبا أو ندبا من غير التعيين.

ومنها (3) : تبادر الوجوب عنها إذا اطلقت عند أهل الشرع والعرف واللغة ، وإنكاره مكابرة ، وهو آية الحقائق الثلاث (4).

ومنها : أنّ الاشتراك خلاف الأصل ، فيبطل الأقوال المبنيّة عليه ، وتكون حقيقة لأحد المعاني المتقدّمة فقط مجازا في الباقي. وعدم كونها حقيقة لواحد منها فقط غير الوجوب والندب والإباحة ظاهر ؛ لأنّه لم يقل به أحد ، ولو قيل به لكان ظاهر البطلان ، فبقي احتمال كونها حقيقة لأحد الثلاثة فقط.

ص: 604


1- لفظ الأمر.
2- قاله الفخر الرازي في المحصول 2 : 74 و 75.
3- مرّ أوّل الوجوه في ص 602.
4- أي الشرعيّة والعرفيّة واللغويّة.

ثمّ إنّها ليست حقيقة في الإباحة فقط ؛ لبداهة اقتضائها ترجيح الفعل ، وليست للندب فقط أيضا ؛ لضرورة الفرق بينها وبين ما يفيد الندب كما ذكرنا (1) ؛ وللزوم عدم كون الواجب حينئذ مأمورا به ، وهو باطل ضرورة ، مع أنّ القول بأنّها للندب فقط (2) بعيد ؛ لضعف أدلّته ، وندور قائله ، فإذا كانت الصيغة مردّدة بين كونها للوجوب فقط والندب فقط ، فلا يكاد أن يختار الثاني عاقل.

وما قيل : إنّه ينتهض حجّة على القائل بالاشتراك اللفظي دون المعنوي ؛ لأنّه ليس خلاف الأصل (3) ، ضعيف ؛ لأنّ مخالفة الاشتراك للأصل لإخلاله بالتفاهم وهو حاصل هنا (4) ؛ فإنّ الصيغة لو كانت حقيقة في الطلب وأحد أفراده الوجوب ، والآخر الندب وهما متغايران - ولا يعلم المخاطب أنّ المراد الأوّل حتّى لو لم يمتثل كان عاصيا ، أو الثاني حتّى لو لم يمتثل لم يكن عاصيا - فيحصل الإخلال بالتفاهم ، والتكليف بما لا يعلم.

ولا يمكن أن يقال هنا (5) بجواز إرادة القدر المشترك ، وهو مطلق الطلب في ضمن أيّ منهما كان ؛ لأنّ تخيير المكلّف بين كون الشيء واجبا عليه أو مندوبا عليه لا معنى له ، فالاشتراك المعنوي الذي ليس خلاف الأصل هو ما ليس بهذه المثابة ، بل ما كان بحيث أمكن إرادة القدر المشترك منه من غير لزوم فساد. وهذا (6)(7) يتمّ به بالضميمة المذكورة (8).

ومنها : قوله تعالى : ( ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ) (9) ؛ إذ المراد به ( اسْجُدُوا ) في قوله : ( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا ... ) (10) الآية ، دلّ - لكونه في معرض الإنكار والاعتراض _

ص: 605


1- تقدّم في ص 597 - 598.
2- القول لأبي هاشم وكثير من متكلّمي المعتزلة وجماعة من الفقهاء والشافعي كما تقدّم في ص 602 ، الهامش 1.
3- أشار إليه الفخر الرازي في المحصول 2 : 94.
4- أي الاشتراك المعنوي.
5- أي الاشتراك المعنوي.
6- أي هذا الوجه.
7- وإن لم يثبت سوى الحقيقة اللغويّة إلاّ أنّ المطلوب 6. وهو كون الصيغة حقيقة في الوجوب شرعا وعرفا ولغة.
8- وهي عبارة عن أصالة الحقيقة.
9- الأعراف (7) : 12.
10- البقرة (2) : 34.

على الذمّ ، ولو لا أنّ صيغة « ( اسْجُدُوا ) » للوجوب لما كان متوجّها ، وكان له أن يقول : « لم تذمّني على ترك ما لم توجبه عليّ؟ » ، وسوق الآية وأصالة العدم يفيدان ترتّب الذمّ على مجرّد مخالفة الأمر من غير مدخليّة خصوصيّة المادّة والامور الخارجيّة ، فلا يرد جواز إفادة صيغة الأمر للوجوب في هذه المادّة دون غيرها ، أو في تلك اللغة دون لغتنا ، ولا منع دلالته على العموم ؛ نظرا إلى أنّه حكاية حال وهي لا تفيد العموم. على أنّه لو ثبت كون هذه الصيغة حقيقة في الوجوب ، ثبت كون جميع صيغ الأمر كذلك ؛ لعدم القول بالفصل. ولا جواز (1) ترتّب الذمّ على المخالفة مع الاستكبار.

ومنها : قوله : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (2) أمر مخالف الأمر بالحذر ، وهذا الأمر للوجوب قطعا ؛ إذ لا معنى لندب الحذر أو إباحته. على أنّ سوق الآية - لورودها في معرض الوعيد - دلّ على وجوب الحذر ، وإيجاب الحذر عليه تهديد على مخالفة الأمر ، وهو يدلّ على أنّ الأمر للوجوب ؛ إذ لا تهديد على غير الواجب. ومع التنزّل فلا أقلّ من دلالته على حسن الحذر ، وهو دليل قيام المقتضي للعذاب ؛ إذ بدونه لا يحسن الحذر ، ولذا يلام من يحذر عن سقوط جدار محكم لا يريد أن ينقضّ ، ومعه يثبت أنّ الأمر للوجوب ؛ إذ المقتضي للعذاب هو ترك الواجب لا المندوب.

وعلى التقادير يندفع ما يقال : لا نسلّم دلالة الصيغة على وجوب الحذر إلاّ إذا ثبت أنّ الأمر للوجوب ، وهو عين المتنازع فيه (3).

ثمّ المتبادر من مخالفة الأمر هو ترك المأمور به ، سواء اعتبرت متضمّنة معنى الإعراض أو غيره ممّا يناسب التعدية ب- « عن » ، فلا يرد أنّ المراد بها حمله (4) على ما يخالفه - بأن يكون للوجوب أو الندب ، فيحمل على غيره - أو اعتقاد (5) فساده ؛ لأنّها

ص: 606


1- عطف على « جواز إفادة » والمراد أنّه قيل : يجوز أن يكون الذمّ على المخالفة الصادرة عن الاستكبار وكلامنا في المخالفة المحضة. أجاب بأنّه لا يجوز أن يقال هكذا.
2- النور (24) : 63.
3- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 169.
4- أي حمل المكلّف الأمر على معنى يخالف الأمر ، أو اعتقد فساد الأمر وعدم كونه حقّا.
5- عطف على الموصول المجرور.

ضدّ الموافقة وهي اعتقاد حقّيّته ، فلا يتمّ الاحتجاج (1).

فإن قيل : يمكن أن يكون الفاعل ضميرا مرجعه ( الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ ) (2) فلا يثبت به المطلوب.

قلت : هم المخالفون ، فكيف يؤمرون بالحذر عن أنفسهم. ولو سلّم بقي قوله : ( أَنْ تُصِيبَهُمْ ... ) الآية ، ضائعا. هذا ، مع أنّ الإضمار خلاف الأصل.

فإن قيل : قوله : ( عَنْ أَمْرِهِ ) مطلق لا يعمّ ، والمطلوب إفادته الوجوب في جميع الأوامر.

قلنا : المصدر المضاف عامّ عند عدم العهد ؛ لجواز الاستثناء عنه ؛ مع أنّ الإطلاق كاف في المقصود ؛ إذ التهديد على مخالفة مطلق الأمر ينافي كون بعض أفراده حقيقة في غير الوجوب ؛ على أنّ كون صيغة ما منه (3) للوجوب يكفي لإثبات المطلوب ؛ لعدم القائل بالفصل.

ومنها : قوله تعالى : ( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ) (4) ، ذمّهم على مخالفتهم الأمر ، ولو لا أنّه للوجوب لما توجّه.

واعترض عليه بوجهين (5) :

أحدهما : أنّ الذمّ على التكذيب لا على الترك ، بدليل قوله تعالى : ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) (6).

والجواب : الظاهر من السوق أنّه للترك ، والويل للتكذيب ، سواء اتّحد أهل الترك والتكذيب ، أم تغايرا.

وثانيهما : أنّ القرينة هنا دلّت على إفادته الوجوب ، وهي علم المخاطبين من الخارج بوجوب الصلاة على كلّ أحد.

وجوابه : أنّه تعالى رتّب الذمّ على مجرّد ترك الركوع ، فالاعتبار به لا بالقرينة.

ص: 607


1- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 169.
2- النور (24) : 63.
3- أي من المطلق.
4- المرسلات (77) : 48.
5- حكاهما الفخر الرازي في المحصول 2 : 47 باختلاف يسير.
6- المرسلات (77) : 49.

ومنها : قوله تعالى : ( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (1) نفى عنهم التخيير بعد توجّه الأمر عليهم ، فيبقى إمّا الوجوب أو الحظر. والثاني باطل إجماعا ، فتعيّن الأوّل (2).

وأنت خبير بأنّ قضاء الأمر إلزامه ، لا مجرّد توجّهه ، فلا يثبت منه المطلوب.

ومنها : أنّ تارك المأمور به عاص ؛ لقوله تعالى : ( أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ) (3) ، وقوله : ( لا يَعْصُونَ اللّهَ ما أَمَرَهُمْ ) (4) ، وكلّ عاص يستحقّ النار ؛ لقوله تعالى : ( وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ) (5) ، (6).

واعترض عليه بوجهين (7) :

أحدهما : أنّه لو كان العصيان ترك الأمر ، لتكرّر قوله تعالى : ( وَيَفْعَلُونَ ) (8).

وثانيهما : أنّ المراد من ( مَنْ يَعْصِ اللّهَ ) الكفّار دون تارك الأمر بقرينة الخلود.

والجواب عن الأوّل : أنّ الأوّل للنفي في الماضي أو الحال ، والثاني للإثبات في المستقبل.

وعن الثاني : أنّ الخلود ، المكث الطويل. هذا.

وتعليل الصغرى بأنّ امتثال الأمر طاعة ؛ إذ الطاعة الانقياد - كما صرّح به أهل اللغة (9) - وترك الطاعة عصيان ؛ لتصريحهم بأنّ العصيان خلاف الطاعة (10) يرد عليه أنّ كلّ عصيان خلاف الطاعة ، ولا ينعكس كلّيّا ؛ لأنّ امتثال المندوب طاعة وليس تركه عصيانا ، فترك الطاعة الواجبة عصيان دون المندوبة.

ص: 608


1- الأحزاب (33) : 36.
2- حكاه الفخر الرازي في المحصول 2 : 58 و 59.
3- طه (20) : 93.
4- التحريم (66) : 6.
5- الجنّ (72) : 23.
6- حكاه الفخر الرازي في المحصول 2 : 58 و 59.
7- المصدر.
8- أي ويفعلون ما يؤمرون. ووجه التكرار أنّ عدم عصيان الأمر وفعل المأمور به أمر واحد.
9- راجع المصباح المنير : 380 ، « ط وع ».
10- المصدر : 414 ، « ع ص ى ».

ومنها : قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (1) مع ما دلّ على ذمّ ترك الطاعة ، كقوله : ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ) (2) حيث دلّ الأوّل على أنّ امتثال مطلق الأمر طاعة ، والثاني على أنّ ترك الطاعة مذموم ، فثبت منهما وجوب امتثال الأمر ، والتولّي يتناول مجرّد الترك أيضا ، فيدلّ على الذمّ عليه وإن لم يكن استخفافا وجحودا.

فلا يرد أنّ الذمّ لأجل التولّي ، وهو الترك جحودا واستكبارا.

نعم ، يرد عليه أنّ ترك مطلق الطاعة ليس مذموما كما تقدّم (3) ، فالذمّ هنا على ترك الطاعة المفترضة.

ومنها : قوله عليه السلام : « لو لا أن أشقّ على امّتي ، لأمرتهم بالسواك » (4) نفى الأمر ؛ لاقتضائه المشقّة مع ثبوت الندبيّة ، فيدلّ بوجهين (5) على أنّ الأمر للوجوب.

ومنها : قوله عليه السلام لبريرة - وقد عتقت وزوجها عبد ففارقته - : « راجعيه » فقالت : أتأمرني بذلك؟ فقال : « لا ، إنّما أنا شافع » (6) نفى الأمر وأثبت الندب بإثبات الشفاعة ؛ فإنّه لا ريب في استحباب قبول شفاعة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فلا يكون المندوب مأمورا به (7).

ومنها : احتجاجه عليه السلام لذمّ أبي سعيد الخدري على ترك استجابته حين دعاه وهو يصلّي بقوله تعالى : ( اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ ) (8) فلو لم يكن الأمر للوجوب ، لما توجّه الذمّ (9).

وقد اعترض على الروايات بوجوه ظاهرة الدفع ، بيّنة الوهن ، فلم نر جدوى في التعرّض لنقلها وردّها (10).

ص: 609


1- النساء (4) : 59.
2- النساء (4) : 80.
3- تقدّم آنفا.
4- راجع : الكافي 3 : 22 ، باب السواك ، ح 1 ، وفيض القدير 5 : 338 و 339 ، ح 7505 و 7508.
5- وهما نفي الأمر وثبوت الندب.
6- كنز العمّال 16 : 547 ، ح 45838.
7- ينتج أنّ المأمور به هو الواجب أو الواجب هو المأمور به.
8- الأنفال (8) : 24.
9- ذكره الفخر الرازي في المحصول 2 : 63. والحديث في كنز العمّال 2 : 9. ح 2900 ، ونسب الذمّ إلى ابيّ.
10- راجع الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 2 : 164 - 173.

واعلم أنّ ما يثبت من الآيات والأخبار هو الحقيقة الشرعيّة فقط ، فإثبات تمام المطلوب (1) بها يتوقّف على الضميمة المذكورة (2). هذا.

وقد تعلّق بعض من وافقنا بوجوه (3) اعتباريّة غير تامّة ضعيفة ، لم يكن في ذكرها فائدة.

احتجّ القائل بأنّها للندب بقوله صلى اللّه عليه وآله : « إذا أمرتكم بشيء ، فأتوا منه ما استطعتم » (4) حيث ردّ الإتيان بالمأمور به إلى مشيّتنا ، وهو معنى الندب (5).

وجوابه : أنّه ردّه إلى استطاعتنا ، وهو معنى الوجوب.

وبأنّ أهل اللغة صرّحوا بأنّه لا فرق بين الأمر والسؤال (6) إلاّ بالرتبة ، والسؤال إنّما (7) يدلّ على الندب ، فيلزم أن يكون الأمر أيضا كذلك ، وإلاّ لكان بينهما فرق آخر (8).

والجواب : منع وقوع التصريح المذكور عنهم ، بل صرّح بعضهم بخلافه (9). ولا يمكن أن يقال : الفرق بالوجوب والندب متفرّع على الفرق الأوّل ؛ إذ دلالة قول أحد على الإيجاب لا تتوقّف على تفوّقه على المأمور علوّا أو استعلاء ، ولذا أجاب بعضهم بأنّ السؤال للإيجاب من طرف السائل وإن لم يتحقّق من طرف المسئول (10).

واحتجّ القائل بالاشتراك بينهما بأنّ الصيغة اطلقت عليهما ، والأصل في الإطلاق الحقيقة (11).

وجوابه : منع أصالة الحقيقة في الإطلاق ، كما عرفت (12) مرارا ، وأولويّة المجاز على الاشتراك إذا تعارضا.

ص: 610


1- وهو كون الأمر للوجوب في العرف واللغة أيضا.
2- والمراد بها هنا أصالة عدم النقل.
3- راجع الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 2 : 164 - 173.
4- مسند أحمد 2 : 488 ، ح 7320 ، وصحيح مسلم 2 : 975 ، ح 412 / 1337 ، وعوالي اللآلئ 4 : 58 ، ح 208.
5- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 173.
6- والمراد بالسؤال هو الأمر من ناحية الداني.
7- في « ب » : « ممّا ».
8- حكاه الفخر الرازي في المحصول 2 : 95 ، والأسنوي عن أبي هاشم في نهاية السؤل 2 : 262.
9- قاله الرازي في المحصول 2 : 96.
10- قاله الأسنوي في نهاية السؤل 2 : 266 ، والمطيعي في سلّم الوصول ، المطبوع مع نهاية السؤل 2 : 266.
11- قاله السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 52.
12- تقدّم في ص 595.

واحتجّ القائل بأنّها لمطلق الطلب بأربعة وجوه :

[ الوجه ] الأوّل : أنّ المفهوم المتبادر منها (1) لغة عند الإطلاق ليس إلاّ مطلق الطلب من دون أن يخطر بالبال فصل الوجوب أو الندب ، فتكون حقيقة فيه (2).

والجواب : منع التبادر ، بل المتبادر منها الوجوب ، كما تقدّم (3).

[ الوجه ] الثاني : ثبت من اللغة مطلق الرجحان ولم يصرّح أحد من أهل اللغة بأنّها للوجوب أو الندب ، فجعلها لأحدهما تقييد بلا دليل ، فلا يصار إليه (4).

والجواب : أنّ جعلها للوجوب ليس تقييدا بلا دليل ، بل ثبت وجوبه من الأدلّة ، كما عرفتها (5).

وأيضا أنّه إثبات اللغة بلوازم الماهيّات ؛ لأنّ الرجحان لازم للوجوب والندب اللذين كلّ منهما من أفراده (6) ، والصيغة موضوعة له ، وجعلتموها باعتباره لهما ، وهو باطل ؛ لاحتمال أن يكون الصيغة لهما ولغيرهما أيضا ؛ لجواز أن يكون اللازم أعمّ منهما. وأن يكون للمقيّد بأحدهما. وأن يكون مشتركا لفظيّا بينهما. وأصالة عدم التقييد والغير لا تنتهض حجّة لإثبات مدلولات الألفاظ ، ولم يعتبروا الظنّ الحاصل من مثله ، ولذا صرّحوا بأنّ طريق إثبات الوضع إنّما هو النقل بطريق التنصيص ، أو تتبّع موارد الاستعمال (7).

[ الوجه ] الثالث : قد كثر ورود أوامر مطلقة بامور واجبة ، وآخر بالمندوبة من دون نصب قرينة ، وكذا كثر ورود أمر واحد بامور بعضها واجب وبعضها مندوب من دون قرينة ، ولا يجوز ذلك لو كان حقيقة في أحدهما فقط ، فيكون للقدر المشترك (8).

ص: 611


1- في « ب » : « منه ». أي من الأمر.
2- ذهب إليه الجبائي كما في المنخول : 104 ، وهو رأي أبي منصور الماتريدي كما في الإبهاج 2 : 23 ، وحكاه الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 123 ، القاعدة 31 ، والفاضل التوني في الوافية : 68.
3- تقدّم في ص 604.
4- قاله الفاضل التوني في الوافية : 69.
5- راجع ص 605.
6- أي أفراد الطلب.
7- راجع نهاية السؤل 2 : 28 و 29.
8- قاله الفاضل التوني في الوافية : 69.

وجوابه : أنّ هذا يرد عليكم أيضا ؛ لأنّ الصيغة إذا كانت حقيقة للقدر المشترك ، فلا يجوز استعمالها في الوجوب ، أو الندب بدون القرينة.

فإن أجبتم بأنّ الصيغة مستعملة في معناها الحقيقي - وهو مطلق الطلب - ويعلم كونها للوجوب أو الندب من مواضع أخر ، أجبنا بأنّها مستعملة في معناها الحقيقي - وهو الوجوب - ويعلم كونها للندب من مواضع أخر.

وإن أجبتم بأنّ القرائن الخارجيّة دلّت على أنّ المراد منها الطلب الخاصّ ، أجبنا بأنّها دلّت على أنّ المراد منها الندب.

[ الوجه ] الرابع : أنّ الصيغة استعملت في كلّ من الوجوب والندب ، والاشتراك والمجاز خلاف الأصل ، فتكون حقيقة في القدر المشترك ؛ دفعا لهما.

وجوابه : أنّ المجاز قد يصار إليه - وإن كان خلاف الأصل - إذا ثبت الدلالة عليه ، وقد تثبت (1) بأدلّتنا على الوجوب ؛ على أنّا بيّنّا أنّ كونها للقدر المشترك أيضا خلاف الأصل (2).

وأيضا المجاز لازم إذا كانت له (3) أيضا ؛ لأنّ كلاّ من الوجوب والندب يشتمل على خصوصيّة زائدة عليه ، فاستعمالها فيهما استعمال في غير ما وضعت له ، فعدم لزوم المجاز ينحصر بصورة الاشتراك. على أنّ التجوّز اللازم في صورة وضعها له أكثر منه في صورة الحقيقة والمجاز ؛ لأنّه يلزم على الأوّل فيهما ، وعلى الثاني في أحدهما فقط ؛ لعدم وقوع الاستعمال في القدر المشترك ، أو ندوره.

واحتجّ القائل بأنّها مشتركة بين الثلاثة كما احتجّ به القائل باشتراكها بينهما (4).

والجواب الجواب.

والقائل (5) بأنّها للقدر المشترك بينها كالقائل بأنّها للقدر المشترك بينهما (6).

ص: 612


1- أي الدلالة.
2- تقدّم في ص 593.
3- أي كانت الصيغة للقدر المشترك.
4- حكاه الشيخ حسن في معالم الدين : 52.
5- عطف على فاعل « احتجّ ».
6- تقدّم آنفا.

وجوابه كجوابه.

والقائل (1) باشتراكها بين الأربعة ، كالقائل باشتراكها بين الاثنين أو الثلاثة (2).

وجوابه مثل جوابه.

والقائل (3) بأنّها حقيقة في الطلب لغة ، وفي الوجوب شرعا ، على (4) الجزء الأوّل كالقائل بأنّها حقيقة فيه مطلقا ، وعلى الثاني بما دلّ على أنّها حقيقة في الوجوب من الآيات وإجماع السلف ، والمرتضى (5) على الجزء الأوّل كالقائل بأنّها للقدر المشترك مطلقا (6) ، وعلى الثاني بحمل السلف كلّ أمر ورد على الوجوب (7).

ولا يخفى أنّ الجزء الثاني من مذهبهما حقّ ، نحن نقول به ، واحتجاجهما عليه صحيح كما بيّنّاه (8). وأمّا احتجاجهما على الجزء الأوّل ، فقد عرفت جوابه (9).

واحتجّ المتوقّف بأنّ تعرّف مفهومها إمّا بالعقل ولا مدخل له. أو بالنقل ، ومتواتره لم يوجد وإلاّ لم يختلف فيه ، وآحاده لا تفيد القطع (10).

والجواب أمّا أوّلا : فمنع الحصر لوجود قسم آخر وهو تعرّفه بالأدلّة الاستقرائيّة التي تقدّمت (11) ، ومرجعها تتبّع مظانّ استعمال اللفظ ، والأمارات الدالّة على المراد منه عند إطلاقه. أو بتركيب عقلي من مقدّمات نقليّة.

وأمّا ثانيا : فتسليم كفاية الظنّ في المسألة ؛ لأنّها وسيلة إلى العمل بالشرعيّات ويكفيها الظنّ.

ص: 613


1- عطف على فاعل « احتجّ ».
2- تقدّمت في ص 612.
3- عطف على فاعل « احتجّ ».
4- متعلّق ب- « احتجّ ».
5- عطف على فاعل « احتجّ ».
6- راجع الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 51 - 55.
7- تقدّمت في ص 612.
8- تقدّم في ص 602 - 603.
9- تقدّم في ص 603.
10- قاله الغزالي في المستصفى : 230 ، والفخر الرازي في المحصول 1 : 203 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 163.
11- في ص 602 - 608.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ الصيغة في كلام أئمّتنا ليست مستعملة إلاّ فيما استعملت فيه في كلام اللّه ورسوله ، ولا يخالف عرفهم عرف الشرع. وكيف يتصوّر عنهم (1) نقل اللفظ عن معناه الحقيقي لغة وشرعا من دون بيان وإعلام؟!

فما قيل : « المستفاد من تضاعيف أحاديث الأئمّة شيوع استعمالها في عرفهم في الندب بحيث صار من المجازات الراجحة ، المساوية للحقيقة عند فقد المرجّح ؛ فيشكل التعلّق (2) في إثبات وجوب حكم (3) بمجرّد ورود الأمر به منهم عليهم السلام » (4) ، في غاية الضعف. وكيف يسمع منه دعوى هذه الاستفادة من غير بيّنة وبرهان؟! وأنّى له إثبات ذلك بمجرّد استعمالهم الصيغة في الندب في مواضع أكثرها مع القرينة؟!

إذا تقرّر ذلك فاعلم أنّ فروع هذه المسألة أكثر من أن تحصى. وكيفيّة التفريع ظاهرة.

وممّا يتفرّع على كونها حقيقة في الوجوب عرفا أنّه لو قال رجل لمن يجب عليه إطاعته - كالمولى لعبده - : افعل كذا ، يجب عليه الامتثال.

فصل [3]

لمّا كان الأمر ما دلّ على طلب الفعل ، والخبر ما دلّ على وجوده (5) ، فتشابها من وجه (6) ، والمشابهة مصحّحة للتجوّز ، فجاز أن يتجوّز لكلّ منهما عن الآخر ، كقوله عليه السلام : « إذا لم تستحي فاصنع ما شئت » (7) ، وقوله تعالى : ( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ ) (8) ، ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ ) (9).

ص: 614


1- في « ب » : « منهم ».
2- في « ب » : « التعليق ».
3- في « ب » : « حكمه ».
4- قاله الشيخ حسن في معالم الدين : 53.
5- أي وجود الفعل دون الطلب.
6- وهو عبارة عن أخذ مفهوم الفعل في تعريفهما.
7- كنز العمّال 3 : 122 ، ح 5780. فيه : « إذا لم تستح » ، ومستدرك الوسائل 8 : 7. أبواب أحكام العشرة ، الباب 93 ، ح 20.
8- البقرة (2) : 233.
9- البقرة (2) : 228.

وكذا الحال في النهي والنفي ، كما يقال : « من لا جناح له فلا يطير » ، وكقوله تعالى : ( لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) (1).

وإذا ورد الخبر بمعنى الأمر أو النفي بمعنى النهي ، فثبت لهما ما ثبت لهما من دلالتهما على الوجوب والحرمة لو لم يقم قرينة دالّة على خلافهما على ما اخترناه ، وغيرها (2) من أحكامهما ، وإلاّ ضاع فائدة إرادتهما منهما. وكونهما مجازين فيهما لا يقدح في ذلك بعد كونهما مرادين.

وقس عليهما عكسهما. وكيفيّة التفريع ظاهرة.

ويتفرّع عليه حرمة مسّ المصحف للآية المذكورة وعدم الالتفات إلى منع دلالة النفي المراد منه النهي على الحرمة.

فصل [4]

لا خلاف في أنّ صيغة الأمر بعد الحظر أو الكراهة ، أو في مقام مظنّتهما أو تجويزهما - كقول السيّد لعبده : « افعل » بعد أن يقول له : « هل أخرج ، أو أنام؟ » أو نحوهما - تستلزم رفع ذلك المنع المحقّق أو المحتمل ، لزوما عقليّا. إنّما الخلاف فيما هي حقيقة فيه عند فقد القرينة ، فجماعة من المحقّقين على أنّها للوجوب (3). وقيل : للإباحة (4). وقيل : للندب (5).

احتجّ الأوّلون بأنّ المقتضي موجود والمانع معدوم. أمّا الأوّل ، فلأنّها تفيد الوجوب للأدلّة المتقدّمة. وأمّا الثاني ، فلأنّ ورودها بعد الحظر أو الكراهة لا يدفعه (6) ؛ لأنّ رفعه (7) أعمّ من الوجوب ، والعامّ لا ينافي الخاصّ.

ص: 615


1- الواقعة (56) : 79.
2- كذا في النسختين. والصحيح : « غيرهما » أي الوجوب والحرمة.
3- منهم : الفخر الرازي في المحصول 2 : 96 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 97 ، والبيضاوي في منهاج الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 2 : 272 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 124.
4- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 198 ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : 98.
5- حكاه الأسنوي عن القاضي حسين في التمهيد : 271.
6- أي لا يدفع الوجوب ولا ينافيه.
7- أي رفع المنع.

فما قيل : « إنّ إجراء أدلّة الوجوب فيها إذا وردت بعد الحظر غير ممكن ؛ لأنّه فرع فهم الطلب منها وفرديّتها لمفهوم الأمر وليس كذلك » (1) ، فاسد ؛ لعدم ما يخرجها عن الدلالة على الطلب ، والفرديّة لمفهوم الأمر. وأيضا أنّها بعد الحظر العقلي للوجوب فكذا بعد الحظر الشرعي ؛ لعدم الفرق ، بل العقلي آكد.

احتجّ القائل بأنّها للإباحة بغلبتها في الإباحة في عرف الشارع بحيث تتبادر منها عند الإطلاق ، فتكون حقيقة فيها في عرفه ، فتتقدّم على الوجوب الذي هي حقيقة لغويّة فيه ؛ لتقدّم عرفه على اللغة في الشرعيّات ، بل مجازيّتها في عرفه (2).

والجواب : منع الغلبة ؛ فإنّ المسلّم أنّ الشرع استعملها في مواضع في الإباحة ، كقوله تعالى : ( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) (3) و ( فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا ) (4) ، وقوله صلى اللّه عليه وآله : « كنت نهيتكم عن ادّخار لحوم الأضاحيّ ... ألا فادّخروها » (5) ، وهي - مع استفادة الإباحة منها بالقرائن - معارضة بقوله تعالى : ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) (6) ، وقوله : ( وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) (7) ، فإنّ حلق الرأس بعد بلوغ الهدي محلّه واجب ، مع أنّه مأمور به بعد النهي عنه ، وبأمر الحائض والنفساء بالعبادة بعد تحريمها عليهما.

واحتجّ القائل بأنّها للندب باستعمالها فيه في كلام الشارع ، كقوله تعالى : ( فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ ) (8). وجوابه ظاهر.

واعلم أنّه قيل : « إنّها بعد الحظر أو الكراهة لا تدلّ إلاّ على رفع المنع وهو كالإذن في الفعل مشترك بين الوجوب والندب والإباحة للتبادر » (9).

ص: 616


1- قاله الفاضل التوني في الوافية : 75.
2- أي مجازيّة الحقيقة اللغويّة وهي الوجوب في عرف الشرع.
3- المائدة (5) : 2.
4- الجمعة (62) : 10.
5- كنز العمّال 5 : 91 و 92 ، ح 12198 و 12201 و 12202 باختلاف يسير.
6- التوبة (9) : 5.
7- البقرة (2) : 196 و 222.
8- البقرة (2) : 222.
9- القائل هو الفاضل التوني في الوافية : 74 و 75. وقوله : « للتبادر » تعليل للدلالة على رفع المنع.

والظاهر أنّها مجاز فيه ، والتبادر للقرينة ، وهي مسبوقيّتها بالمنع.

وما ذكره أخيرا دلّ على أنّ رفع المنع ليس مدلولها ليكون للقدر المشترك بين الثلاثة ، بل لازمها العقليّ. وقد عرفت (1) أنّه لا كلام فيه ، إنّما الكلام في مدلوله الحقيقي ، وهذا القائل سكت (2) عنه. هذا.

ولا يبعد عندي أن يقال : إنّ صيغة الأمر بعد الحظر تدلّ شرعا وعرفا على ما كان ثابتا قبل ورود النهي ، سواء علّقت بزوال علّة عروض النهي ، كقوله تعالى : ( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) ، أو لا ، كقوله عليه السلام : « كنت نهيتكم ... ». والحكم الثابت قبل النهي إمّا الوجوب ، أو الندب ، أو الإباحة ، فتكون مشتركة بينها ، ولا ينفكّ (3) في كلّ موضع عن القرينة الدالّة على الحكم الذي يدلّ عليه ، وهي سبقه على النهي ، فهي حقيقة شرعيّة وعرفيّة فيه ، وإن لم تكن موضوعة له.

والسرّ فيه أنّ الشرع والعرف استعملاها فيه مع القرينة حتّى حصل التبادر وسبقه منها إلى الفهم عند الإطلاق ، فكأنّهما نقلاها عن معناها الأصلي إليه. أمّا الاستعمال فيه ، فظاهر من الأمثلة الشرعيّة والعرفيّة ؛ فإنّ جميع الأوامر الشرعيّة الواردة بعد الحظر يفهم منها ثبوت الحكم كما كان قبل النهي واستعملت فيه كذلك ، وكذا الحال في الأوامر العرفيّة. والمتتبّع لما ورد في ذلك من الشرعيّات والعرفيّات يجزم بذلك.

وأمّا التبادر وكونه سابقا منها إلى الفهم ، فبيّن بحيث لا يمكن إنكاره.

وعلى هذا ، فيخرج هذا القسم (4) عن مطلق الأمر بدليل من خارج ، فلا يجري فيه أدلّة الوجوب.

ثمّ لمّا كان كلّ ما اتّفق عليه من الأوامر الواردة بعد الحظر بأنّها مستعملة في الوجوب أو الندب أو الإباحة - كالأوامر المتقدّمة - ينطبق على ذلك ، فينبغي أن يكون ما شكّ فيه أيضا

ص: 617


1- في ص 615.
2- في « ب » : « يسكت ».
3- التذكير باعتبار الأمر والتأنيث باعتبار الصيغة.
4- والمراد به ما كان المراد من الصيغة بعد الحظر معلوما.

كذلك ، كما هو التحقيق ، إلاّ فيما ثبت فيه الدلالة الخارجيّة على خلافه ، وهو نادر ، كقوله عليه السلام : « انظر إليهنّ » أي إلى النساء التي تعزم على نكاحهنّ (1) فإنّه وارد بعد الحظر ، ولا ريب أنّ الوجوب منتف ، فيبقى إمّا الإباحة أو الاستحباب ، والمتبادر هو الأوّل ، فينطبق على ما ذكرناه ؛ لأنّ النظر قبل النهي كان مباحا.

وقوله تعالى : ( فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ) (2) ، وهو وارد بعد الحظر - على ما ذكره بعضهم - من حيث إنّ الكتابة بيع مال الشخص بماله ، وهو منهيّ عنه (3). وحمل الأمر على الوجوب باطل قطعا ، فينبغي حمله على الإباحة الثابتة قبل النهي لو لم يقم دليل خارجي على الاستحباب.

وكالأمر بقتل الحيّة والعقرب في الصلاة (4) ، وهو وارد بعد النهي التحريمي عن الأفعال الكثيرة ، والنهي التنزيهي عن القليلة فيها ، وهو - كيف كان (5) - يكون لما كان قبل النهي.

وكالأمر برجوع المأموم إذا سبق الإمام بركن (6) ، وهو محمول عند الأصحاب على الوجوب بدليل من خارج ، وإن انتفى الوجوب قبل النهي (7).

وممّا ذكر ظهر كيفيّة التفريع.

فصل [5]

الأمر المطلق لطلب الماهيّة لا للمرّة والتكرار ؛ وفاقا للمحقّقين (8). وقيل : لها (9). وقيل : له (10).

ص: 618


1- كنز العمّال 16 : 511 ، ح 45676 باختلاف.
2- النور (24) : 33.
3- قاله الزمخشري في الكشّاف 3 : 238 ، ذيل الآية 33 من النور (24).
4- الفقيه 1 : 257 ، ح 790.
5- أي سواء كان الحكم الذي قبل الأمر حراما أو كراهة.
6- تهذيب الأحكام 3 : 47 ، ح 163 ، والاستبصار 1 : 438 ، ح 1688.
7- راجع رياض المسائل 4 : 229 و 230.
8- منهم : العلاّمة في تهذيب الوصول : 98 ، والفاضل التوني في الوافية : 75 ، والفخر الرازي في المحصول 2 : 98.
9- قاله الشيخ في العدّة في أصول الفقه 1 : 200 ، والغزالي في المستصفى : 212 ، والبصري في المعتمد 1 : 98 و 99.
10- حكاه الأسنوي عن الشافعي في نهاية السؤل 2 : 275 ، والآمدي عن أبي إسحاق الأسفرائيني وجماعة من الفقهاء والمتكلّمين في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 173.

وقيل بالتوقّف ؛ لاشتراكه بينهما ، أو عدم العلم بالوضع (1).

لنا : أنّ مدلوله طلب حقيقة الفعل ؛ لتبادره منه ، وهما خارجان عن حقيقته ، كالزمان والمكان وغيرهما من المتعلّقات ، فيكون للقدر المشترك بينهما ، وهو ماهيّة الفعل الحاصلة في ضمن كلّ منهما ، ويحصل الامتثال بحصولها مع أيّهما كان ، ولا يتقيّد (2) بأحدهما دون الآخر.

نعم ، لمّا كان المرّة أقلّ ما يحصل به الحقيقة ويمتثل به الأمر ، دلّ عليها لذلك ، لا من حيث الخصوصيّة والوضع.

ولنا أيضا : أنّه يتقيّد (3) بهما من غير تكرير ونقض ، فهما من صفات الفعل ، كالقليل والكثير ، ولا دلالة للموصوف على خصوصيّة شيء من صفاته المتقابلة ، فيكون المفهوم من « اضرب » - مثلا - طلب ضرب ما من غير أن يفهم منه صفة الضرب من تكرار ، أو مرّة ، أو غيرهما.

وما قيل : إنّ الدليلين يفيدان عدم دلالته عليهما بالمادّة - أي لا يدلّ عليهما المصدر الذي هو من أجزائه المادّيّة - فلم لا يدلّ عليهما بالصيغة (4) ، بأن يكون الظاهر منها أحدهما وإن احتملت الآخر؟ فيقيّد بالظاهر لدفع الاحتمال ، فلا تكرار ، وبالمحتمل للدلالة على صرفها عن الظاهر ، فلا تناقض.

ففيه : أنّ مدلول الصيغة إذا كان بحكم التبادر مطلق الطلب المتحقّق في ضمن أيّهما كان ، فكيف يكون الظاهر منها أحدهما؟! وأيضا التقييد لدفع الاحتمال تأكيد والتأسيس أظهر منه. والتقييد بالمحتمل للدلالة على صرفها عن الظاهر يقتضي حمل اللفظ على خلاف الظاهر ، والأصل عدمه ، فلا يكون علّة التقييدين هذين التعليلين بل خروجهما عن مدلول الصيغة.

ص: 619


1- قاله السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 100 ، وحكاه الآمدي عن إمام الحرمين والواقفيّة في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 174 ، والفخر الرازي في المحصول 2 : 99.
2- أي المدلول أو الامتثال.
3- أي الفعل ، فيقال : اضرب مرّة أو مرّات.
4- حكاه الفخر الرازي في المحصول 2 : 112.

فإن قيل : دلالة الأمر بالمادّة على الطبيعة المطلقة مخالفة لما ذهب إليه بعض الادباء من أنّ اسم الجنس موضوع للطبيعة المقيّدة بالوحدة المطلقة (1).

قلت : الخلاف الذي وقع في كون اسم الجنس موضوعا للطبيعة من حيث هي ، أو من حيث تقيّدها بالوحدة المطلقة ، إنّما هو اسم الجنس الذي كان مصدرا منوّنا ، وأمّا المصدر غير المنوّن في ضمن المشتقّات ، فلا خلاف في كونه للطبيعة من حيث هي ، كما صرّح به بعض المحقّقين منهم (2).

ولنا أيضا : استعماله فيهما شرعا وعرفا ، كالأمر بالحجّ ، والأمر بالصوم والصلاة ، وأمر السيّد عبده باشتراء اللحم ، وأمره بحفظ الدابّة. والاشتراك والمجاز خلاف الأصل ، فيكون للقدر المشترك. وكونه له هاهنا لا يخالف الأصل ، كما يخالفه كونه للقدر المشترك بين الوجوب والندب ، وقد ظهر وجهه ممّا تقدّم (3).

وأيضا لو كان للتكرار لعمّ الأوقات ؛ لعدم الأولويّة ، وهو باطل ؛ للإجماع ، ولزوم التكليف بما لا يطاق ، وكون كلّ تكليف يرد بعده ولا يجتمع معه ناسخا له.

وأيضا نصّ أهل اللغة على عدم الفرق بين « تفعل » و « افعل » إلاّ في كون الأوّل خبرا والثاني طلبا (4) ، ومقتضى الأوّل ليس إلاّ ماهيّة الفعل مع أيّهما حصلت ، فكذا مقتضى الثاني ، وإلاّ كان بينهما فرق آخر.

احتجّ القائل بالمرّة بأنّ المولى إذا أمر عبده بدخول الدار فدخل مرّة عدّ ممتثلا عرفا ، ولو كان للتكرار لما عدّ (5).

والجواب : أمّا أوّلا : فبالمعارضة بأمره إيّاه بحفظ الدابّة ، فإنّه لو حفظها مرّة لا يعدّ ممتثلا.

وأمّا ثانيا : فبأنّ حصول الامتثال لحصول الماهيّة في ضمن المرّة لا لأنّ الأمر ظاهر فيها.

ص: 620


1- حكاه الأسنوي في نهاية السؤل 2 : 47.
2- راجع : التعريفات : 40 ، والنحو الوافي 1 : 23 و 24.
3- آنفا.
4- حكاه الفخر الرازي في المحصول 2 : 100.
5- المصدر : 99 و 100.

واحتجّ القائل بالتكرار بأنّ النهي يقتضيه ، فكذا الأمر قياسا عليه بجامع دلالتهما على الطلب.

وبأنّه لو لم يكن له لما تكرّر الصوم والصلاة وغيرهما وقد تكرّرت.

وبأنّه لو لم يتكرّر لم يرد عليه النسخ ؛ لأنّ وروده على المرّة يوهم الندامة ، وهو محال على الشارع.

وبأنّ الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضدّه ، والنهي يقتضي دوام المنع عن المنهيّ عنه ، فيلزم التكرار في المأمور به ؛ لأنّ تكرار اللازم يوجب تكرار الملزوم. وإن منع لجواز ارتفاع الضدّين يفرض الكلام في ضدّين لا ثالث لهما ، كالحركة والسكون ؛ أو يقال : المراد من ضدّ المأمور ضدّه العامّ الذي هو الكفّ عنه ، كما هو الظاهر ، وترك الكفّ عن شيء إنّما يكون بفعله عند التذكّر ؛ أو يقال : المراد منه جميع أضداده ، وترك الجميع لا يمكن إلاّ بفعل المأمور (1).

والجواب عن الأوّل : أنّه قياس في اللغة وهو باطل ، مع أنّ الفارق قائم من وجهين :

أحدهما : أنّ الأمر يقتضي إيجاد الحقيقة ، وهو يحصل بالمرّة ، والنهي يقتضي انتفاءها ، وهو يحصل بانتفائها في جميع الأوقات ، ولو لا ذلك ، لما صحّ التكاذب عرفا بين المطلقتين مع أنّه صحيح.

وثانيهما : أنّ ترك كلّ فعل أبدا ممكن ؛ إذ التروك تجتمع وتجامع كلّ فعل ، بخلاف امتثاله ؛ إذ هو يمنع من فعل باقي المأمورات.

وعن الثاني : أنّ فهم التكرار من خارج كسنّة أو إجماع ، أو تعليقه على موجب متكرّر ، كالوقت والسنة.

وأيضا : لا يمكن أن يكون التكرار الموجود في الصوم والصلاة مدلول صيغة الأمر بمجرّدها ، وهو ظاهر.

وأيضا : ينتقض بما لا يتكرّر ، كالحجّ وغيره. وقد أشرنا (2) إلى أنّ استعماله تارة في

ص: 621


1- راجع : المحصول 2 : 102 و 103 ، والإحكام في أصول الأحكام 2 : 174 و 175 ، ونهاية السؤل 2 : 278 و 279 ، وسلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 2 : 279.
2- ص 620.

التكرار واخرى في المرّة آية كونه للقدر المشترك ؛ دفعا للاشتراك والمجاز.

وعن الثالث بأنّ ورود النسخ قرينة التكرار.

وعن الرابع بأنّه لو سلّم كون الأمر بالشيء نهيا عن ضدّه ، فالنهي بحسب الأمر في التكرار وعدمه ؛ لترتّبه عليه ، فإن أفاده أفاده ، وإلاّ فلا.

وحجّة القائل بالاشتراك : حسن الاستفسار ، وهو دليل الاشتراك (1).

وجوابه : أنّه قد يستفسر عن أفراد المتواطئ.

وظاهر (2) الاستعمال ، وهو آية الحقيقة.

وقد عرفت (3) أنّه يدلّ على وضعه للقدر المشترك.

وحجّة الجاهل بالوضع وجوابها كما مرّ سابقا.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ كيفيّة اختلاف الفروع باختلاف الأقوال هنا تتوقّف على كشف الحجاب عن حقيقة كلّ من الأقوال الثلاثة الاول ، ومقصود قائله منه.

فنقول : القائل بالتكرار يقول : يتوقّف الامتثال على الإتيان بجميع الأفراد الممكنة عقلا وشرعا ، ويرى الإثم في تركه والاكتفاء بالمرّة ، فمدلول الأمر عنده هو الطلب المتعلّق بجميع هذه الأفراد (4).

والقائل بالمرّة ، قيل : يمنع من الزيادة ويرى الإثم فيها ، فمدلوله الطلب المتعلّق بأوّل فرد يوجد بشرط عدم الزيادة (5).

وقيل : لا يمنع عنها ولا يرى عليها إثما ولا ثوابا ، لأنّ الامتثال عنده بالمرّة الاولى خاصّة ، والزيادة ليست امتثالا ولا مخالفة ، فمدلوله عنده الطلب المذكور بإلغاء شرطه.

والقائل بأنّه لطلب الماهيّة ، قيل : يقول بالسكوت عن الزيادة نفيا وإثباتا ، فالإتيان بها لا يكون امتثالا ولا مخالفة ، فمدلوله عنده الطلب المتعلّق بالماهيّة الحاصلة

ص: 622


1- حكاه الفخر الرازي في المحصول 2 : 103.
2- عطف على « حسن ».
3- في ص 620.
4- حكاه السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 100 ، والفخر الرازي في المحصول 2 : 102 و 103.
5- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 174.

أوّلا ، سواء حصلت في ضمن فرد أو أفراد (1).

وقيل : يقول بتحقّق الامتثال وحصول الثواب بها وإن لم يكن في تركها إثم (2).

وأنت خبير بأنّ هذا التقرير يضعّف القول بأنّه لطلب الماهيّة ؛ لأنّ مدلوله حينئذ إن كان طلب الماهيّة - سواء حصلت في ضمن فرد أو أفراد - على أن يكون التعميم مطلوبا (3) ، فيرجع إلى الوجوب التخييريّ ، أي طلب أحد الأمرين تخييرا ، لا طلب الماهيّة من حيث هي ، كالتخيير بين التسبيحة الواحدة والثلاث ، فإنّ المطلوب ماهيّة التسبيح ، سواء حصلت في ضمن الواحدة أو الثلاث ، وكما يتعلّق الوجوب ويحصل الامتثال بكلّ من الواحدة والثلاث تخييرا - أي لو ذكر الواحدة فقط ، كانت هي متعلّقة الوجوب وما حصل به الامتثال ، ولو زاد عليهما الاثنتين ، كانت الثلاث ما تعلّق به الوجوب ، وحصل به الامتثال ، فإنّ هذا هو معنى التخيير بين الأقلّ والأكثر - فكذلك الحال في تعلّق الوجوب وحصول الامتثال بكلّ من المرّة والتكرار. وهذا (4) وإن كان في نفسه صحيحا ، إلاّ أنّ صيغة الأمر لا تدلّ عليه ، والقائل بالماهيّة يأبى عنه.

وإن كان طلب الماهيّة الحاصلة أوّلا وثانيا وثالثا وهكذا ، بمعنى أنّها مطلوبة في ضمن أيّ فرد كان ، لا من حيث التخيير ، بل من حيث إنّ المطلوب إذا كان طبيعة صادقة على أشياء ، لا يدلّ الدالّ عليه على اختصاص الطلب ببعضها أو جميعها ، بل يتعلّق بكلّ منهما ، ويحصل الامتثال بهما. فيرد عليه أنّه إذا حصل الامتثال بفرد واحد وبرئ الذمّة به ، فلا يترتّب أثر على غيره ، ولا معنى للامتثال بعد الامتثال (5).

ولو قطع النظر عنه نقول : إذا تحقّق الماهيّة بالفرد الأوّل وحصل الامتثال به ، فإمّا أن يبقى الطلب بالنسبة إلى تحقّق ثان للماهيّة - وهو الموجود في ضمن فرد آخر - أو لا ، فعلى الثاني لا يعقل حصول الامتثال بالفرد الثاني. وعلى الأوّل إمّا أن يبقى الطلب بالنسبة إليه

ص: 623


1- أي إذا كانت الأفراد متحقّقة دفعة لا على التعاقب.
2- حكاه السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 100.
3- أي سواء تحقّق الأفراد دفعة أو تدريجا وعلى التعاقب.
4- أي التخيير بين الأقلّ والأكثر. وهذا عند بعضهم مستحيل.
5- هذا الإشكال بعينه وارد على التخيير بين الأقلّ والأكثر وهو رحمه اللّه قال بصحّته.

بالوجوب ، فلا يحصل الامتثال بالفرد الأوّل ، فيكون قولا بالتكرار ، أو بالاستحباب ، فيكون قولا بدلالة صيغة واحدة على الوجوب والاستحباب ، ومذهبا جديدا لم يقل به أحد.

فالصواب على القول بأنّه لطلب الماهيّة هو التقدير الأوّل ، أي السكوت عن الزائد نفيا وإثباتا ؛ لأنّه بعد ما علم بالأدلّة أنّ المطلوب بالأمر هو الماهيّة الكلّيّة يعلم أنّ الواجب الإتيان بما يتحقّق به ويحصل به الامتثال ، ويشهد العقل والعرف بتحقّق الماهيّة وحصول الامتثال بالمرّة ، وعدم مدخليّة الامتثال للزائد (1). ولو حصل به لزم أن يحصل به إذا كانت الصيغة للمرّة ؛ إذ المراد بالمرّة الطبيعة المقيّدة بالوحدة المطلقة ، ولا ريب في كون المرّة الثانية مثلا فردا لها ، كما أنّها فرد للطبيعة من حيث هي ، وفي تساويهما في التحقّق في ضمنها ، وكفاية المرّة الاولى لتحقّقهما ، فلو حصل الامتثال بالمرّة الثانية إذا كانت للطبيعة المطلقة ، حصل بها إذا كانت للمقيّدة ، فالفرق بحصوله على الأوّل دون الثاني تحكّم ، مع أنّه لم يقل به على الثاني أحد ، فالزائد مسكوت عنه ، كسائر ما سكت الشارع عنه ، فلو فعل باعتقاد الشرعيّة ، كان تشريعا وإدخالا لما ليس من الشرع فيه.

وحينئذ فالفرق وفائدة الخلاف بينه وبين القول بالتكرار ظاهر.

وبينه وبين القول بالمرّة - مع ثبوت الإثم على الزائد - أنّ الزائد على هذا القول مسكوت عنه نفيا وإثباتا ، وليس أحد الطرفين مدلول الأمر ليترتّب على خلافه الإثم مطلقا ، بل الترتّب لو كان فإنّما يكون في صورة اعتقاد الشرعيّة ، كما في سائر ما سكت عنه نفيا وإثباتا. وعلى القول بالمرّة منفي بالأمر ؛ لكونه جزء مدلوله ، فيترتّب الإثم على فعله مطلقا ، أي باعتقاد الشرعيّة وغيره.

وبينه وبين القول بالمرّة - مع السكوت عن الزائد - أنّ المطلوب في الأوّل هو الماهيّة من حيث هي ، فكما أنّ المتعدّد على هذا القول مسكوت عنه ، فكذلك الواحد من حيث هو واحد ، فلو فرضنا إمكان إيجادها من حيث هي من غير أن تكون في ضمن الواحد والكثير واوجدت كذلك ، لحصل الامتثال والإتيان بالمأمور به ، وفي الثاني هو الطبيعة المقيّدة بالوحدة.

ص: 624


1- كذا في النسختين. وحقّ العبارة أن تكون هكذا : « وعدم مدخليّة للزائد في الامتثال ».

وعلى هذا ، فلو أتى بأفراد متعدّدة دفعة ، يحصل الامتثال بالجميع من غير تخصيص لفرد منها على الأوّل ؛ لأنّ أوّل تحقّق للماهيّة حصل به ، ولا يحصل بالجميع على الثاني ؛ إذ المطلوب عليه (1) لمّا كان فردا واحدا ، فتحقّق الامتثال به لا بالجميع.

ثمّ لا يخفى أنّه على القول بالمرّة على التقديرين (2) يكون المطلوب في هذه الصورة (3) مشتبها ، فلا بدّ للقائل به إمّا أن يقول بكونه معيّنا في الواقع مشتبها عندنا ، فيستخرج بالقرعة إن جوّز اجتماع الأمر والنهي باعتبارين مختلفين ، أو بالبطلان إن لم يجوّز ذلك.

ولو أتى بفرد واحد أو أفراد على التعاقب ، فلا يكاد أن يتحقّق فائدة الخلاف ؛ إذ على القولين يحصل الامتثال بأوّل فرد يوجد ، ولا معنى للامتثال بعده. والفرق بمجرّد أنّ المطلوب في أحدهما الماهيّة من حيث هي ، وفي الثاني الماهيّة المقيّدة بالوحدة ليس ممّا يختلف به الأحكام ويتفاوت به تفريع الفروع بعد تسليم أنّ امتثال طلب الماهيّة من حيث هي ، والمقيّدة بالوحدة يحصل بالمرّة فقط ، إلاّ أنّ عدم فائدة الخلاف في صورة واحدة - مع ثبوتها في صورة اخرى ، ووجود الفرق بينهما من حيث الذات ، وثبوت الدلالة على حقّيّة أحدهما ، وبطلان الآخر - لا يصير منشأ لاتّحادهما ، أو لبطلان الحقّ وصحّة الباطل.

وإذا ظهر ذلك ، فاعلم أنّ ما يتفرّع عليه كثير. وممّا فرّع عليه أنّه إذا سمع مؤذّنا بعد مؤذّن ، فهل يستحبّ إجابة الثاني لقوله عليه السلام : « إذا سمعتم المؤذّن ، فقولوا كما يقول » (4) ، أم يسقط الاستحباب بالأوّل؟ وعلى ما اخترناه وإن لزم سقوطه به إلاّ أنّ الأقوى بقاء الاستحباب هنا ؛ نظرا إلى تعليق الحكم على الوصف المناسب الدالّ على التعليل ، فيتكرّر بتكرّره ، كما تقدّم (5).

ولا يخفى كيفيّة التفريع وحقيقة الحال لو سمع مؤذّنين دفعة.

وممّا فرّع عليه ما لو قال لوكيله : « بع هذا العبد » فباعه ، فردّ عليه بعيب أو خيار ، أو قال

ص: 625


1- في « ب » : « المقصود فيه ».
2- أي ترتّب الإثم على الزائد وعدمه راجع ص 622 و 624.
3- أي في صورة وقوع الأفراد دفعة.
4- مسند أحمد بن حنبل 3 : 515 ، ح 11450 ، وكنز العمّال 7 : 700 ، ح 20998.
5- تقدّم في ج 1 ، ص 480.

لوصيّه : « استأجر عنّي الحجّ » فاستأجر ، ثمّ فسخ الأجير لأمر مجوّز للفسخ ، فهل يجوز لهما البيع والاستيجار ثانيا؟ ويتأتّى على ما اخترناه عدم الجواز ، ولا ريب فيه في الأوّل.

وأمّا الثاني ، فالظاهر دلالة القرائن على إرادة التكرار ، وقس عليهما غيرهما.

فصل [6]
اشارة

لا خلاف في أنّ الأمر المعلّق على شرط أو صفة يثبت (1) علّيّتهما أو كلّيّتهما - مثل ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) (2) ، و ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا ) (3) ، و « كلّما جاءك زيد فأكرمه » و « كلّ وارد عليه ألزمه » - يتكرّر بتكرّرهما ؛ لوجوب وجود المعلول كلّما وجدت العلّة ، فالعلّيّة تفيد العموم ، والعامّ يتناول جميع أفراده ، والتكرار لذلك ، لا لكونه مستفادا من الأمر.

وأمّا المعلّق عليهما بدون القيدين (4) - مثل « إذا دخل الشهر ، فأعتق عبدا من عبيدي » و « أعتق السخيّ من عبيدي » - فقد اختلف في تكرّره بتكرّرهما على أقوال : أصحّها عدم التكرّر من جهة اللفظ (5) - أي لم يوضع اللفظ له ، وحاصله أنّهما لا يدلاّن عليه لغة - والتكرّر من جهة العقل والقياس ؛ نظرا إلى أنّ ترتّب الحكم على الشرط والوصف يشعر بالعلّيّة ، وإذا ثبت العلّيّة ثبت العموم ؛ لعدم تخلّف المعلول عن العلّة.

وقيل : يفيد التكرّر بلفظه (6).

وقيل : لا يفيد التكرّر مطلقا (7).

لنا على الجزء الأوّل (8) : أنّه مع قطع النظر عن العلّيّة والكلّيّة تصير القضيّة مهملة ، وفي

ص: 626


1- أي يثبت التعليق.
2- المائدة (5) : 6.
3- المائدة (5) : 38.
4- والمراد بهما ثبوت العلّيّة أو الكلّيّة.
5- قاله الفخر الرازي في المحصول 2 : 107 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 131 ، القاعدة 38.
6- حكاه الفخر الرازي في المحصول 2 : 107 ، والأسنوي في نهاية السؤل 2 : 283 ، وهو مختار التفتازاني في شرح التلويح على التوضيح 1 : 301.
7- قاله السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 109 ، والبصري في المعتمد 1 : 106 ، والغزالي في المستصفى : 214 ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : 68.
8- المراد به عدم التكرّر من جهة اللفظ.

الشرطيّة المصاحبة اتّفاقيّة ، والشرط قيد للجزاء ، فيصير المثال الأوّل في قوّة « أعتق عبدا وقت دخول الشهر » ، والثاني في قوّة « أعتق سخيّا من عبيدي » ، فلا يفهم منهما التكرار ، إلاّ إذا جعل الأمر دالاّ عليه.

وأيضا ثبوت الحكم مع الشرط أو الصفة ليس إلاّ التعليق المطلق ، وهو أعمّ من المقيّد بالوحدة أو التكرار ، ولا يدلّ العامّ على الخاصّ.

وأيضا ليس في أدوات الشرط إشعار بالتكرار عرفا ، ولذا لو قال السيّد لعبده : « إن دخلت السوق فاشتر اللحم » عدّ ممتثلا بالمرّة ، ولا يذمّ بترك الشراء في المعاودة. ولو قال الزوج لوكيله : « طلّق زوجتي إن دخلت الدار » لم يتكرّر. وكذا لو قال الناذر : « إن ردّ عليّ مالي ، فله عليّ أن أفعل كذا » ، وإذا لم يدلّ عليه عرفا لم يدلّ عليه لغة ؛ لأصالة عدم النقل.

وللمانع أن يقول : عدم فهم التكرار هنا بالقرينة ، ولا يمكن أن يستدلّ عليه بأنّ الشرط ما يلزم من عدمه عدم المشروط ، ولا يلزم من وجوده وجوده ، فلا يدلّ على التكرار ؛ لأنّ هذا هو الشرط الشرعي دون اللغوي ، وهو ما يدخل عليه أداة الشرط ، وإلاّ لزم عدم دلالته على المرّة أيضا.

و [ لنا ] على الجزء الثاني (1) : أمّا على إفادة التعليق الشرطي للعلّيّة ، فما تقدّم (2) من أنّ بعض الحروف ظاهر في التعليل منها حروف الشرط ك- « إن » ومثلها ، فالشرط يفيد العلّيّة بنفسه وإن لم تعلم من طريق آخر (3). وأمّا على إفادة التعليق الوصفي لها ، فشهادة العرف ، ولزوم كون ذكر الوصف عبثا لو لم يفدها.

فإن قيل : لو كان الشرط والوصف مناسبين للحكم ، لكانا ممّا يثبت علّيّته ، وهو غير المبحث. وإن لم يكونا مناسبين ، لزم أن لا يكون علّة الشيء مناسبة له ، وهو باطل.

قلنا : العلّة إمّا معرّفة أو باعثة ، والاولى لا يشترط مناسبتها للمعلول ، ولا فساد فيه ؛ لأنّها مجرّد أمارة نصبها الشارع لتعريف الحكم ، وتحقّق المناسبة في مثلها غير لازم.

ص: 627


1- أي التكرّر من جهة العقل.
2- تقدّم آنفا.
3- راجع تمهيد القواعد : 482 ، القاعدة 170.

وأمّا الثانية ، فلا ريب في لزوم مناسبتها للمعلول في الواقع. وأمّا ظهورها عندنا ، فليس بلازم. فلمّا علمنا بالدلالة إفادتهما للعلّيّة بنفسهما ، فإن كانا من العلل المعرّفة ، فلا حاجة إلى مناسبة أصلا ، وإن كانا من العلل الباعثة ، فيحكم بمناسبتهما للحكم وإن لم يكن المناسبة معلومة لنا ، وثبوت المناسبة الواقعيّة بدون ظهورها لنا لا يدخلهما فيما يثبت علّيّته ؛ لأنّ العلّة الثابتة ما يثبت علّيّته لنا.

والحاصل : أنّا ندّعي أنّهما يفيدان العلّيّة بنفسهما من غير أن يعلم علّيّتهما من طريق آخر من مناسبة أو نصّ أو عقل أو غيرها ، ولا ينكر اتّصافهما بما يشترط في العلّة ، فلم يخرج عن المبحث. هذا ، مع أنّ ثبوت العلّيّة بمجرّد المناسبة غير مسلّم ، فالمناسبة لا تستلزم العلّيّة وإن كانت العلّيّة تستلزمها ، فلو قطع النظر عن إفادتهما للعلّيّة بالترتّب لم تكن علّيّتهما ثابتة وإن كانا مناسبين.

وممّا يدلّ على علّيّتهما - وإن لم يعلم المناسبة - أنّه لو قيل : « إن كان عالما ، فأهنه ، وإن كان جاهلا ، فأكرمه » أو « أهن العالم » و « أكرم الجاهل » قبح ، وليس ذلك لمنافاة مطلق العلم للإهانة ، ومطلق الجهل للإكرام ؛ لأنّه قد تقدّم المنافاة لأسباب أخر ، فهو لسبق فهم التعليل ، ودلالتهما على العلّيّة في هذه الصورة تستلزم دلالتهما عليها في سائر الصور ؛ دفعا للاشتراك والمجاز ، وإذا ثبت علّيّتهما يثبت (1) دلالتهما على التكرار ؛ لعدم انفكاك المعلول عن العلّة - وإن كانت العلّة أمارة محضة - لأنّها علامة منصوبة من الشرع لتعريف الحكم ، فيجب كلّيّتها ، وإلاّ لزم الإغراء بالجهل ، فلا فرق بين العلل الباعثة والمعرّفة في وجوب وجود الحكم معهما كلّما وجدتا وإن كان بينهما فرق من جهات أخر ، فما لا يدلّ على التكرار كما في الأمثلة المتقدّمة ، فالسبب فيه عدم اعتبار تعليله بالقرينة.

وبما ذكر ظهر أنّه يصحّ أن يقال : إنّهما يفيدان العموم عرفا وشرعا ، أي من حيث إنّ الشرع والعرف يفهمان منهما العلّيّة. وهذا هو السرّ في تكرّر حلّ الأوامر الشرعيّة المعلّقة عليهما بتكرّرهما.

ص: 628


1- في « ب » : « ثبت ».

هذا. ولا يبعد أن يقال : إنّهما يفيدان العموم شرعا وإن قطع النظر عن إفادتهما للعلّيّة ، وإلاّ لزم الإبهام المنافي للحكمة.

احتجّ القائل بالتكرّر بلفظه بوجهين :

أحدهما : أنّه قد ثبت تكرّر الأوامر الشرعيّة المعلّقة بتكرّر ما علّقت عليه ، كقوله تعالى : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا ) (1) ، و ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ) (2) ، وكالآيتين المتقدّمتين (3) ، والاستقراء يدلّ على أنّه فهم التكرار من نفس التعليق دون العلّيّة (4).

والجواب : أنّه لو فهم من مجرّد التعليق ، لفهم من جميع التعليقات مع أنّه لا يفهم من أكثرها ، كما في الأمثلة المذكورة وآية الحجّ (5). والإيراد بأنّ عدم فهم التكرار فيها بالقرينة مشترك ، فما فهم فيه التكرار إنّما فهم من العلّيّة لا من التعليق ، وما لم يفهم فيه التكرار فلقيام القرينة على عدم اعتبار التعليل ، والاستقراء يدلّ عليه.

نعم ، يمكن ادّعاء فهم التكرار في التعاليق الشرعيّة في غير العلّة ؛ لما ذكرناه (6).

وثانيهما : أنّ الحكم لو تكرّر بتكرّر العلّة ، فيتكرّر بتكرّر الشرط بالطريق الأولى ؛ إذ الشرط أقوى من العلّة ، لانتفاء الحكم بانتفائه ، بخلاف العلّة ؛ لجواز أن يخلفها علّة اخرى (7).

والجواب : أنّ تكرّر شيء بتكرّر آخر لا يترتّب على اقتضاء عدمه لعدمه ، كما في الشرط ، بل على اقتضاء وجوده لوجوده ، كما في العلّة.

واحتجّ القائل بعدم التكرّر مطلقا بما لا يفهم منه التكرار من الأمثلة المحقّقة في العرفيّات (8).

ص: 629


1- النور (24) : 2.
2- المائدة (5) : 6.
3- تقدّمنا في ص 626.
4- حكاه المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 2 : 285.
5- آل عمران (3) : 97.
6- تقدّم في ص 627.
7- حكاه الغزالي في المستصفى : 214 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 182 ، والأسنوي في نهاية السؤال 2 : 283 و 284.
8- حكاه الشيخ في العدّة في أصول الفقه 1 : 206 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 181 ، والمؤلّف رحمه اللّه أخذ بمفاهيم الأدلّة.

وقد عرفت (1) أنّ السبب فيه قيام القرينة في بعض التعاليق العرفيّة على عدم اعتبار التعليل.

إذا تقرّر ذلك ، فكيفيّة التفريع أنّه قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم : « بعد من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ » (2) ، وهو في قوّة الأمر بالصلاة عند ذكره صلى اللّه عليه وآله ، فيتأتّى وجوب تكرّر الصلاة عليه صلى اللّه عليه وآله بتكرير ذكره ولو ذكر مرّات متتالية ؛ من جهة استفادة علّيّة ذكره صلى اللّه عليه وآله لوجوب الصلاة عليه منه على ما اخترناه ، ومن جهة دلالة اللفظ على العموم على القول بفهم التكرار من جهة اللفظ ، والاكتفاء بالمرّة الواحدة على القول بعدم التكرّر مطلقا. هذا إذا حملنا الأوامر الدالّة على الصلاة عليه عند ذكره على الوجوب ، كما ذهب إليه الصدوق (3) من أصحابنا والزمخشري (4) من العامّة. ولو حملناها على الاستحباب ، كما ذهب إليه أكثر الفريقين ، يسقط الوجوب بالمرّة. ويظهر فائدة الخلاف في استحباب التكرير كلّما ذكر ، وسقوطه بالمرّة.

فائدة

قد صرّح جماعة بأنّ محلّ الخلاف إنّما هو تعليق الأمر (5) ، فتعليق غيره من الإنشاء - كقول الرجل لزوجته : « إن خرجت من الدار ، فأنت عليّ كظهر امّي » - أو الخبر - كقولنا : « إن جاء زيد ، جاء عمرو » - لا يفيد التكرار وفاقا ، وما (6) إذا وقع الفعل الثاني في محلّ الأوّل.

وأمّا إذا وقع في غير محلّه ، فتكراره يقتضي تكراره اتّفاقا ، كقوله : « إن دخل زيد داري ،

ص: 630


1- آنفا.
2- الكافي 2 : 495 ، باب الصلاة على النبيّ ، ح 19 باختلاف ، وفتح الباري 11 : 144 ، وكنز العمّال 16 : 43 ، ح 43853.
3- قاله في عقاب الأعمال ( ثواب الأعمال وعقاب الأعمال ) : 246 ، باب عقاب من صلّى وترك الصلاة على النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، ومن ذكر عنده النبيّ صلى اللّه عليه وآله ولم يصلّ عليه ، ح 1 ، وكنز العرفان 1 : 133.
4- الكشّاف 3 : 557 ، ذيل الآية 56 من الأحزاب (33).
5- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 181 و 182 ، وحكاه الأسنوي في نهاية السؤل 2 : 284 ، والمطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 2 : 285 و 286.
6- في محلّ الرفع عطفا على « تعليق الأمر ». والمراد تكرار الشرط بجميع خصوصيّاته كما إذا قال : إذا دخل زيد الدار الفلانيّة ، فله كذا فدخل تلك الدار بعينها مرّات.

فله درهم » فدخل دارا له ثمّ دارا اخرى له ، فإنّه يستحقّ درهمين.

ووجه الأوّل (1) : قيام القرينة في الأكثر على عدم اعتبار التعليل والتكرير في الأخبار وغير الأمر من الإنشاءات المعلّقة ، واستمرار ذلك إلى أن صار عدم فهم التكرار منها متبادرا عند العرف.

ووجه الثاني : تعدّد الفعل بحيث لا يحتمل الاتّحاد.

فصل [7]

الحقّ أنّ الأمر لطلب مطلق الفعل من غير دلالة على فور أو تراخ ؛ وفاقا للأكثر.

وقيل : يفيد الفور (2). وإليه ذهب كلّ من قال بالتكرار ، وبعض من لم يقل به.

وقيل : مشترك بينهما (3).

وقيل : إنّه لطلب مطلق الفعل إلاّ أنّه يدلّ على الفور ، لا لأنّه حقيقة فيه شرعا أو عرفا ، بل لقيام الأدلّة الخارجيّة على وجوب التعجيل بعد الأمر المجرّد (4).

وقيل باشتراكه بينهما لغة ، وإفادته الفور شرعا ، وإليه ذهب المرتضى (5).

وقيل بالوقف (6). ونقل فيه مذاهب آخر فاسدة المأخذ ، تركناها لظهور فسادها (7).

لنا : جميع ما تقدّم في التكرار (8) ، ولا فرق إلاّ أنّ الغالب في الأوامر قيام القرائن العرفيّة أو العاديّة على إرادة الفور ، وهو غير قادح في المطلوب ؛ لأنّ الكلام في الأمر المجرّد عن جميع القرائن ، فما يفهم منه الفور لا ينفكّ عن القرائن ، ويكون الدالّ عليه هي القرائن دون

ص: 631


1- المراد به تعليق الخبر وغير الأمر ، والمراد بالثاني وقوع الفعل في غير محلّه.
2- قاله الشيخ ونسبه أيضا إلى أبي الحسن الكرخي في العدّة في أصول الفقه 1 : 225 و 226 ، وحكاه الآمدي عن الحنابلة والحنفيّة في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 184.
3- قاله الفخر الرازي في المحصول 2 : 113.
4- قاله الفاضل التوني في الوافية : 78.
5- الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 131.
6- حكاه الشيخ في العدّة في أصول الفقه 1 : 226 ، والفخر الرازي عن الواقفيّة في المحصول 2 : 113 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 184 ، والأسنوي في نهاية السؤل 2 : 288 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 133 ، القاعدة 31.
7- راجع العدّة في أصول الفقه 1 : 225 و 226.
8- ص 618.

الأمر ، والمجرّد عنها لا يفهم منه الفور. والدليل عليه اختلاف الفوريّة باختلاف الآمر والمأمور والمأمور به وغير ذلك من القرائن ؛ فإنّ الفور الذي يقتضيه الأمر بالسقي غير الفور الذي يقتضيه الأمر بالمسافرة إلى البلاد النائية ، ولو كان الدالّ عليه مجرّد الأمر ، لما اختلف باختلاف القرائن ، بل كان مقتضاه واحدا ؛ لأنّ الموضوع له يجب أن يكون مضبوطا معيّنا.

احتجّ القائل بالفور بوجوه (1) :

منها : أنّ السيّد لو قال لعبده : « اسقني ماء » فأخّر ، عدّ عاصيا.

والجواب : أنّ ذلك إنّما فهم بالقرينة ، وهو ظاهر.

ومنها : [ أنّه ] (2) لو قال له : « قم » ، ثمّ قال له قبل القيام : « اضطجع إلى المساء » سبق إلى الفهم تغيير الأمر الأوّل إلى الثاني دون إرادة الجمع مع التراخي.

والجواب كما تقدّم (3).

ومنها : أنّ النهي يفيد الفور فكذا الأمر ، وأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن تركه ، وهو يفيد الفور ، فكذا الأمر.

وقد تقدّم (4) تقريرهما مع الجواب عنهما ، فلا حاجة إلى الإعادة.

ومنها : أنّ كلّ خبر وإنشاء ، مثل « زيد قائم » و « أنت طالق » يقصد منه الزمان الحاضر ، فكذلك الأمر ؛ إلحاقا له بالأعمّ الأغلب.

والجواب أوّلا : أنّ طريق إثبات اللغة إمّا النقل أو الاستقراء ، والإلحاق بالأعمّ ليس من النقل وهو ظاهر ، ولا من الاستقراء ؛ لأنّه استدلال من حال جميع الجزئيّات على حال الكلّي ، وهنا حال بعضها محلّ النزاع ، فلا يتمّ الاستقراء.

وثانيا : منع دلالة كلّ خبر وإنشاء على الزمان الحاضر وضعا ، فقد صرّح بعض الادباء بأنّ قولنا « زيد منطلق » لا يدلّ على أكثر من ثبوت الانطلاق فعلا له ، وقال : العدول عن

ص: 632


1- راجع : المعتمد 1 : 112 - 123 ، والإحكام في أصول الأحكام 2 : 186.
2- اضيف للضرورة.
3- تقدّم في ص 621 في ردّ من استدلّ بالنهي على دلالة الأمر على التكرار.
4- أي آنفا.

الجملة الفعليّة إلى الاسميّة للدلالة على الدوام ؛ لأنّ الاسميّة لا تدلّ على زمان معيّن ، والفعليّة تدلّ عليه.

وثالثا بالفرق بين الأمر وما قيس عليه ، بأنّ الأمر فيه دلالة على الاستقبال ؛ نظرا إلى دلالته على الطلب ، وهو مردّد بين مطلق الاستقبال وأقرب زمان إلى الحال وهو الأجزاء المتعاقبة من أواخر الماضي وأوائل المستقبل. والزمان الحاضر الذي يدلّ عليه المقيس عليه مردّد بين الآن الحاضر الذي لا ينقسم والأجزاء المذكورة. فإن اريد بالزمان الحاضر المعنى الأوّل ، فلا يمكن توجّه الأمر إليه ؛ لأنّ الحاصل لا يطلب. وإن اريد به المعنى الثاني ، فلا يخلو إمّا أن يراد بالاستقبال مطلقة ، فلا يتعيّن توجّهه إليه ؛ أو مقيّده فنطالب الحجّة على تعيّن إرادته ؛ لأنّ المطلق محتمل أيضا ، ولا يصار إلى أحد المحتملين إلاّ لدليل.

ومنها : أنّ التأخير لو جاز ، لم يكن له غاية مبهمة ؛ للزوم التكليف بالمحال ، ولا معيّنة ؛ لعدم إشعار به في الأمر ، ولو استفيدت من الخارج خرج عن محلّ النزاع ، فيلزم جوازه دائما ، فيخرج الواجب عن كونه واجبا.

والجواب : النقض بالنذر المطلق وقضاء الواجب ، وبما لو صرّح بجواز التأخير.

والحلّ كما قيل - مع تتميم وتنقيح - أنّ جواز التأخير إلى غاية مبهمة وهي آخر أزمنة الإمكان في الواقع على أن ينقطع في أوّل جزء منه ، ويقع الفعل فيه ، لا على أن يكون طرفا للتأخير ويقع الفعل مؤخّرا عنه ؛ للزوم جواز التأخير حينئذ عن جميع أزمنة الإمكان ، وهو يوجب السفه والمنافاة للغرض وخروج الواجب عن كونه واجبا ، والتأخير إليها يقتضي التكليف بالمحال إذا كان متعيّنا ؛ إذ يلزم حينئذ تعريف وقته الذي يؤخّر إليه ؛ لئلاّ يلزم التكليف بما لا يعلم ، وأمّا إذا لم يتعيّن ، بل جاز عن أوّل زمان التكليف والتمكّن إلى ثانيه ، وهكذا بحيث لو أتى به في أيّ جزء من مجموع الأزمنة الواقعة بينهما كان ممتثلا ، فلا يقتضي التكليف بالمحال ؛ لتمكّنه من الامتثال بالمبادرة (1).

وفيه نظر ؛ لأنّه لو قيل حينئذ بوجوب البدار ، كان التزاما ، لإفادة الصيغة الفور ، ولو لم

ص: 633


1- قاله الشيخ في العدّة في أصول الفقه 1 : 227 و 228 ، والأنصاري في فواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 1 : 388 ، والشيخ حسن في معالم الدين : 56.

يقل به فأخّر المكلّف الفعل إلى انقضاء أزمنة الإمكان ، فإمّا أن يكون آثما ، أو لا ، فعلى الأوّل يلزم التكليف بالمحال ؛ إذ يجب عليه حينئذ عدم تأخيره عن آخر أزمنة الإمكان ، مع أنّه لا يعرفه.

وعلى الثاني يلزم خروج الواجب عن كونه واجبا.

فالحلّ الصحيح أنّ جواز التأخير إلى غاية معيّنة ، وهو آخر أزمنة الإمكان بظنّ المكلّف بل بشكّه أيضا على التحقيق ، فكلّ زمان لم يظهر فيه عدم الإمكان بعد ذلك يجوز له التأخير ، وكلّ وقت ظنّ فيه ذلك يتضيّق عليه ، وهذا الوقت غير مجهول ؛ لأنّ المكلّف يتمكّن في كلّ وقت أن يتميّز (1) بأنّه هل حصل له الظنّ بأنّه لا يعيش بعد ذلك أم لا؟ ثمّ الوقت الذي يتضيّق عليه يختلف باختلاف الفعل المأمور به كثرة وقلّة ، وصعوبة وسهولة ، فربّما كان كثيرا يقتضي أمدا بعيدا ، وربّما كان قليلا لا يقتضي إلاّ زمانا قصيرا ، وربّما كان صعبا لم يمكن ، أو أنّه عند الهرم وسقوط القوّة ، وربّما كان سهلا أمكن إيقاعه عندهما ، فكلّ زمان ظنّ المكلّف أنّه لم يبق من عمره أو قوّته إلاّ بقدر ما أدّى فيه ما يجب عليه يتضيّق عليه ، وما لم يظنّ ذلك يجوز له التأخير.

والدليل عليه : قد تقدّم فيما ذكر أنّ من ظنّ الموت في جزء من وقت الواجب الموسّع - سواء كان ممّا وقته العمر أو لا - يعصي بتركه قبله إن مات فجأة ، ومن ظنّ السلامة فيه لا يعصي بتركه قبله لو مات كذلك.

بقي الكلام في الجواب عمّا ذكر في الدليل من أنّه لا إشعار في الأمر بالتأخير إلى غاية معيّنة.

والجواب عنه : أنّ فيه إشعارا بجواز التأخير إلى الغاية المعيّنة التي ذكرناها ، وعدم جواز التأخير عنها ؛ لأنّه لمّا فهم منه وجوب الفعل من غير دلالة على زمان معيّن ، فهم منه عدم لزوم إيقاعه فيما قبل آخر أزمنة الإمكان ، وعدم جواز تأخيره عنه.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ ما قيل : إنّه قلّما يحصل هذا الظنّ ؛ لأنّه لا بدّ له من أمارة ، وليست إلاّ كبر السنّ أو مرضا شديدا وهما لا يفيدان شيئا ؛ إذ كم من شابّ صحيح يموت فجأة ، وكم

ص: 634


1- كذا في النسختين ، والأولى « يميّز ».

من شيخ سقيم يعيش مدّة. وعلى تقدير حصوله لا دليل على اعتباره شرعا حتّى يحكم به بتضيّق عبادة ثبتت من الشرع توسعتها. ولو سلّم ، فحصوله لمّا كان عند الهرم والمرض الشديد ، فبعده لا يمكن إيقاع شيء من التكاليف (1) ، في غاية الفساد.

أمّا الأوّل (2) ، فلأنّ الغالب إفادة الأمارتين ظنّا للمكلّف بآخر أزمنة الإمكان وإن لم تفدا القطع به ، فتدلاّن على آخر أزمنة الإمكان بظنّه وإن لم تدلاّ على آخر أزمنة الإمكان في الواقع. ولو سلّم عدم إفادتهما له كلّيا ، فلا ريب في إفادة بعض أفرادهما أو أمارة ما - وإن كانت غيرهما - له وهو يكفي لإثبات المطلوب ؛ لأنّا نقول : الغاية زمان حصول هذا الظنّ بأيّ أمارة كانت ، وبأيّ نحو اتّفق ، أي اتّفق غالبا أو نادرا.

وأمّا الثاني (3) ، فلما بيّنّا فيما تقدّم اعتباره (4).

وأمّا الثالث (5) ، فلما عرفت (6) من أنّ الوقت المضيّق بظنّ المكلّف يختلف باختلاف ما يجب عليه ، فالظنّ بتضيّق الوقت لو حصل في المرض ، فإنّما يحصل لو كان ما يجب عليه ممّا أمكن إيقاعه فيه ، وإلاّ فيحصل قبله.

وإذا أحطت خبرا بما ذكر ، تعرف أنّه لو عرضناه على قواعد الميزان يصير الدليل هكذا : هذا الواجب لا يتعيّن آخره ، وكلّ ما لا يتعيّن آخره يجوز الإخلال به ، فهذا الواجب يجوز الإخلال به. وإذا جعلت النتيجة صغرى لقياس آخر ، ينتج أنّ هذا الواجب ليس بواجب ، وهو خلف.

والجواب على الحلّ الأوّل : منع الصغرى إن اريد عدم التعيّن عند الشارع ؛ لأنّ آخره - وهو آخر أزمنة التمكّن في الواقع - متعيّن عنده ، ومنع الكبرى إن اريد عدم التعيّن عند المكلّف ؛ لأنّ عدم التعيّن عنده لا يقتضي الترخّص له في الإخلال به في جميع الأزمنة.

ص: 635


1- حكاه الأنصاري في فواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 1 : 389.
2- والمراد به قوله : « قلّما يحصل هذا الظنّ ».
3- والمراد به قوله : « وعلى تقدير حصوله ».
4- في ص 634.
5- والمراد به قوله : « ولو سلّم فحصوله ».
6- في ص 634.

وعلى الحلّ الذي ذكرناه : منع الصغرى ، سواء اريد عدم التعيّن عند الشارع ، أو المكلّف ؛ لأنّ آخره - وهو آخر أزمنة التمكّن بظنّ المكلّف - متعيّن عندهما.

ومنها : قوله تعالى : ( ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ) (1) ذمّ إبليس على ترك البدار ، ولو لم يقتض الفور ، لما استحقّ الذمّ وكان له أن يقول : ما أمرتني بالبدار (2).

والجواب : أنّ هذا الأمر كان مقيّدا بوقت معيّن ، وهو وقت التسوية والنفخ بدليل قوله تعالى : ( فَإِذا سَوَّيْتُهُ ) (3) ، فلمّا لم يأت بالفعل فيه استحقّ الذمّ.

ومنها : قوله تعالى : ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) (4) ، وفعل (5) المأمور به منها ، فيجب الاستباق إليه. وقوله : ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) (6) ، والمراد سببها بالاتّفاق ، وليس المراد منه سببا خاصّا كالتوبة ؛ للزوم الترجيح بلا مرجّح ، فالمراد منه فعل المأمور به مطلقا ، فيجب المسارعة إليه ، ولا يتحقّق الاستباق والمسارعة إلاّ بإيقاعه فورا (7).

واجيب عنه بأنّ الأمر بالاستباق والمسارعة محمول على الأفضليّة دون الوجوب ؛ لأنّهما إنّما يتصوّران في الموسّع دون المضيّق ، ولا يجبان فيه.

أمّا الثاني ؛ فللإجماع. وأمّا الأوّل ؛ فلأنّ الإتيان بالمأمور به في الوقت الذي لا يجوز التأخير عنه لا يسمّى استباقا ومسارعة عرفا ، فلو حمل على الوجوب ، يلزم أن يكون ما يقتضيه الصورة (8) فيهما منافيا لما يقتضيه المادّة ؛ لأنّ الصورة تقتضي المنع عن التأخير ، والمادّة - وهي المصدر - تقتضي جوازه (9).

ص: 636


1- . الأعراف 1. : 12.
2- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 186 ، والفخر الرازي في المحصول 2 : 115 ، والشيخ حسن في معالم الدين : 56.
3- الحجر (15) : 29.
4- البقرة (2) : 148.
5- أي إتيانه.
6- آل عمران (3) : 133.
7- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 188.
8- في النسختين : « الصفة ». وما يأتي يقتضي كون الكلمة : « الصورة » أو « الصيغة ».
9- حكاه الأنصاري عن الشافعي في فواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 1 : 389 ، والشيخ حسن في معالم الدين : 57.

واورد عليه بأنّ الأمر إمّا موقّت مضيّق ، كالأمر بالصوم في يوم معيّن. أو موقّت موسّع ، كالأمر بصلاة الظهر مثلا. أو مطلق ، كالأمر بإزالة النجاسة عن المسجد ، وقضاء الصلوات اليوميّة على المشهور ، والحجّ.

والأوّل يفيد الفور ، بمعنى وجوب الشروع في الفعل في أوّل وقته بحيث لو اخّر حتّى خرج بعض وقته ترتّب عليه الإثم وصار قضاء.

والثاني يفيد جواز التأخير عن أوّل وقته ، ولكن لو أخّره عن مجموع الوقت يترتّب عليه الإثم ويصير قضاء.

والثالث - وهو ما نحن بصدده - يفيد الفور ، بمعنى أنّه لو لم يبادر ترتّب عليه الإثم ، إلاّ أنّه لا يصير قضاء ، بل إذا أتى به في أيّ وقت كان ، يكون أداء وصحيحا. وهذا وإن كان مضيّقا إلاّ أنّه ليس موقّتا ، فيتصوّر فيه الاستباق والمسارعة ؛ لأنّهما إنّما لا يتصوّران في الموقّت المضيّق. فمفاد الآيتين أنّه يجب الاستباق والمسارعة فيما يصحّ فعله في الزمان المتراخي ، ويعصي المكلّف بترك البدار إليه (1).

فما ذكره المجيب مبنيّ على اشتباه الموقّت بغيره ، ولا يلزم حينئذ المنافاة المذكورة ؛ إذ المادّة لا تقتضي إلاّ كون الفعل أداء وصحيحا على تقدير التأخير ، ولا تقتضي مشروعيّة التأخير وعدم ترتّب الإثم ، والصيغة أيضا تقتضي ذلك.

أقول : ما ذكره المورد مبنيّ على أنّ المراد باقتضاء الأمر للفور ترتّب الإثم على التأخير ، لا عدم صحّة الفعل في الزمان المتراخي.

وقد قيل : إنّه المراد لأكثر القائلين بالفور منه (2) ، بل يظهر من كلام جماعة أنّه لا خلاف في كون الفعل أداء وصحيحا في الزمان المتراخي (3) ؛ لأنّ أكثر أدلّتهم المذكورة على فرض تمامها إنّما يدلّ على العصيان بالتأخير لا عدم الصحّة ، وقد يأتي أنّ الظاهر من أكثر الأدلّة ، ومن كلام معظم القائلين بالفور ؛ أنّه مدلول الأمر وهو بنفسه يدلّ عليه ، وحينئذ يتعيّن

ص: 637


1- قاله الفاضل التوني في الوافية : 83.
2- حكاه المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 2 : 286 و 287.
3- المصدر وكذا ذكره ملاّ ميرزا في هامش معالم الدين : 57 و 58.

الحكم بسقوط وجوب المأمور به ، وعدم صحّته حيث يمضي أوّل أوقات الإمكان.

وعلى هذا يندفع هذا الإيراد ؛ لأنّه لو دلّ وضعا أو شرعا على الفور لدلّ على عدم صحّة الفعل بترك الفوريّة ؛ لأنّ مدلوله حينئذ هو الإتيان بالفعل في أوّل أوقات الإمكان ، ولا يتصوّر فرق بينه وبين ما إذا قيل : يجب عليك فعل كذا في هذه الساعة. ولو سلّم التزامهم صحّة الفعل في الزمان المتراخي ، اندفع الجواب المذكور بهذا الإيراد.

فنقول في الجواب : إنّه لا ريب في كون المندوب والواجب الموسّع من الخيرات وأسباب المغفرة ، فتخصيصهما (1) بالأفعال الواجبة ترجيح بلا مرجّح ، فتعيّن إرادة جميع الخيرات وأسباب المغفرة. وحينئذ لا يمكن أن يدلّ الصيغتان (2) على وجوب جميعهما ، فإمّا أن تدلاّ على استحباب الجميع ، أو وجوب البعض واستحباب البعض ، والثاني باطل ؛ إذ هو يوجب استعمال لفظ واحد في معناه الحقيقي والمجازي ، وقد تقدّم (3) فساده.

احتجّ القائل بالاشتراك كما احتجّ به القائل باشتراكه بين الوحدة والتكرار (4). والجواب الجواب.

واحتجّ القائل بأنّه للقدر المشترك - إلاّ أنّه يفهم منه الفور بالدلالة الخارجيّة - على الجزء الأوّل ببعض أدلّة القائلين بأنّه للقدر المشترك من دون تقييد (5). وهو حقّ نحن نقول بمقتضاه. وعلى [ الجزء ] (6) الثاني ببعض حجج أصحاب الفور.

وقد عرفت (7) جوابها. على أنّ الدالّ على الفوريّة إن كان هو النقل لثبت به الحقيقة ؛ لأنّ تحقّق الوضع الشرعي إمّا بتصريح الشارع ، أو بنصبه قرينة متّصلة أو منفصلة على أنّ مراده عند الإطلاق هو المعنى الموضوع له ، والتخصيص بالمتّصلة ترجيح بلا مرجّح ، والنقل إن لم يكن تصريحا بالوضع الشرعي فلا أقلّ من أن يكون قرينة منفصلة دالّة عليه.

ص: 638


1- أي المسارعة والاستباق.
2- أي « سارِعُوا » و « فَاسْتَبِقُوا ».
3- تقدّم في ج 1 ، ص 71.
4- المحتجّ هو السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 132.
5- قاله السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 131 ، والعلاّمة في مبادئ الوصول : 97.
6- اضيف للضرورة.
7- راجع ص 631 وما بعدها.

وإن كان هو العقل ، فإن لم يعلم منه أنّ الفوريّة مقصودة الشارع فلا يفيد ، وإن علم منه ذلك فيثبت منه أيضا الوضع الشرعي ؛ لأنّه أيضا من القرائن المنصوبة ، مع أنّه يبعد من الشارع أن يريد من عامّة المكلّفين شيئا ولا ينصب لهم قرينة على مطلوبه ، بل يكل استنباطه إلى عقولهم الناقصة حتّى يختلفوا فيه هذا الاختلاف.

واحتجّ المرتضى على الجزء الأوّل ، كما احتجّ به القائل بالاشتراك مطلقا. وعلى الجزء الثاني بحمل الصحابة والتابعين كلّ ما ورد في الكتاب أو السنّة على الفور (1).

والجواب : المنع ؛ لتفرّده بنقل الحمل ، بل المسلّم وجوده فيما وجد فيه قرائن الفور.

اعلم أنّ السيّد لم يصرّح بالجزء الثاني في بحث الفور والتراخي من الذريعة ، بل اقتصر فيه على كون الأمر مشتركا بينهما (2) ، وصرّح به في بحث تحقيق الموضوع له ، هل هو الوجوب أو غيره؟ ونقل فيه إجماع الإماميّة على كونه للوجوب والفور شرعا ، محتجّا بما ذكر (3). وقد ذكرنا الإجماع المنقول منه على كون الأمر للوجوب في تضاعيف أدلّته.

وعلى هذا ، فربّما يعترض بأنّ ردّ إجماعه المنقول هنا ، وقبوله هناك لا يجتمعان ؛ لاتّحاد طريق نقله فيهما ، كما في الخبر المشتمل على جزءين : أحدهما : مردود ؛ فإنّه لا ينتهض حجّة لإثبات الجزء الآخر.

ودفعه أنّ ردّ أحد جزءي المنقول - إجماعا كان أو خبرا - لمعارض لا يقتضي ردّ الآخر بعد ثبوت حجّيّته. ولو سلّم وردّ مطلقا ، فلا يقدح في كون الأمر للوجوب ؛ لكفاية سائر الأدلّة لإثباته.

وحجّة المتوقّف وجوابها كما تقدّم (4).

إذا عرفت ذلك فكيفيّة التفريع أنّه إذا قيل لرجل : « بع هذه السلعة » ، فقبضها وأخّر بيعها مع القدرة عليه فتلفت ، فعلى ما اخترناه لا يضمن ، وعلى الفور يضمن ؛ لتقصيره.

وقد علم وجوب الفور في بعض الأوامر للدلالة الخارجيّة ، كالأمر بدفع الزكاة والخمس

ص: 639


1- الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 53 و 54 و 132.
2- المصدر : 131.
3- المصدر : 53.
4- تقدّم في ص 631.

عند المطالبة (1) لأنّ تأخيرهما يوجب الإضرار بأهلهما وجواز تأخير الزكاة شهرا وشهرين ، والخمس إلى تمام حوله للنصّ (2) والاحتياط للمئونة.

وأداء الدين والأمانة مع المطالبة أو كونهما لمن لا يعلم بهما ، فيجب المبادرة إلى الوفاء ؛ أو إعلام مستحقّهما بالحال ؛ لأنّ تأخيرهما يوجب تضييع مال الغير ، والإضرار به.

وإيقاع الحجّ ؛ للنصوص (3).

والجهاد وقتال البغاة ؛ لئلاّ يكثر الفساد.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لأنّ تأخيرهما كالتقرير على المعصية.

وردّ السلام ؛ لفاء التعقيب في قوله تعالى : ( فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها ) (4).

والكفّارات عند جماعة (5) ؛ لأنّها كالتوبة الواجبة على الفور من العاصي.

وإقامة الحدود والتعزيرات ؛ للأخبار (6) ، ولأنّ تأخيرها يوجب تقليل الزجر عن المفاسد المترتّبة عليها (7).

والحكم بين الخصمين ؛ لأنّ المتعدّي منهما ظالم ، فيجب المبادرة إلى كفّه عن ظلمه.

فصل [8]
اشارة

الأمر بالموقّت - موسّعا كان أو مضيّقا - لا يقتضي فعله فيما بعد ذلك الوقت ، لا أداء ولا قضاء ؛ وفاقا للأكثر ؛ لبداهة عدم دلالة « صم يوم الخميس » على صوم غيره بوجه.

واحتمال اختصاص جهة الحكمة به ؛ لاختلاف الأوقات في وجوه المصالح ، كالكيفيّات.

ولأنّ الأمر قد يكون مستتبعا للقضاء ، كالأمر بالفرائض الخمس ، وقد يكون غير مستتبع له ، كالأمر بصلاة العيد والجمعة ، فمطلق الموقّت أعمّ منهما ، فلا يدلّ على أحدهما

ص: 640


1- راجع تهذيب الأحكام 4 :1. 48 ، باب تعجيل الزكاة.
2- راجع تهذيب الأحكام 4 :1. 48 ، باب تعجيل الزكاة.
3- آل عمران (3) : 97.
4- النساء (4) : 86.
5- راجع تمهيد القواعد : 134 ، القاعدة 39.
6- راجع : الفقيه 4 : 32 ، ح 5021 ، وتهذيب الأحكام 10 : 51 ، ح 190.
7- لمزيد الاطّلاع راجع تمهيد القواعد : 133 - 135 ، القاعدة 39.

بخصوصه ؛ لعدم دلالة العامّ على الخاصّ.

ولأنّه لو اقتضاه ، لكان المثال المذكور بمثابة « صوم يوم الخميس أو غيره » ، وهو متخيّر (1) بينهما ، فيكون الصوم في غيره أداء لا قضاء للأوّل ، فيلزم أن يكون التقييد لغوا. وأيضا يلزم أن يكونا سواء ، فلا عصيان بالتأخير.

لا يقال : لو اقتضاه أمر جديد ، لكان أيضا أداء ؛ لأنّه أمر بالفعل بعد هذا الوقت ، فوقته بعده ، فإذا أتى به بعده ، وقع في وقته لا بعده ، وهو الأداء.

لأنّا نقول : يشترط في الأداء أن لا يكون استدراكا لفائت ؛ إذ هو ما فعل في وقته المقدّر له أوّلا ، وهذا استدراك لمصلحة ما فات ، فيكون قضاء.

وما قيل : « إنّه للخصم أن يقول : إنّي أدّعي أنّه أمر بالصوم وبإيقاعه في يوم الخميس ، فلمّا فات إيقاعه فيه ، الذي به كمال المأمور به ، بقي الوجوب مع نقص فيه (2) ، فلا يلزم اقتضاء خصوص غيره ، ولا كونه أداء ، ولا كونهما سواء » (3) ، فاسد ؛ لأنّه لو بقي الوجوب في غيره (4) ، لكان الأمر مقتضيا له وإن لم يقتضه بخصوصه ، وقد ادّعينا البداهة (5) في أنّه لا يقتضيه بوجه. ولو سلّم اقتضاؤه له - ولو بوجه - كان إيقاع الفعل فيه أداء ؛ لأنّ المعتبر فيه كون متعلّقه متناول الأمر الأوّل ولو بالتخيير ، ولا يعتبر فيه كونه متناولا له بخصوصه.

وممّا ذكر يظهر ثبوت التسوية ؛ لأنّ المراد منها كونهما سواء في تعلّق الأمر بهما ، ووجوب الفعل فيهما ، بحيث لا يلزم في تأخيره إلى الثاني عصيان ، وهو كذلك ؛ لأنّ النقص لرفع الكمال لا يوجب العصيان.

احتجّ الخصم بأنّ الوقت للمأمور به كالأجل للدين ، فكما لا يسقط الدين بانقضاء الأجل ، فكذا لا يسقط المأمور به بانقضاء الوقت.

وبأنّ الزمان لكونه ظرفا للمأمور به غير داخل فيه ، فلا يؤثّر اختلاله في سقوطه.

ص: 641


1- في « ب » : « تخيير ».
2- أي في الصوم أو المأمور به.
3- حكاه الفاضل التوني في الوافية : 85 باختلاف.
4- أي في غير يوم الخميس.
5- في بداية الفصل.

وبأنّ هنا مطلوبين : الفعل ، وإيقاعه في وقت معيّن ، فبفوت الثاني لا يفوت الأوّل (1).

والجواب عن الأوّل : أنّه قياس لا نقول به. ومع التسليم نقول : إنّ وجوب أداء الدين بعد الأجل قد علم من خارج ، وهو اشتغال الذمّة وتعلّق الغرض بإحقاق حقوق الناس من غير مدخليّة خصوصيّة الوقت فيه ، ولذا جاز التقديم.

وعن الثاني : أنّ الكلام في مقيّد لو قدّم على وقته لم يعتدّ به ، والوقت في مثله قيد للمأمور به وداخل فيه ، وإلاّ لجاز التقديم.

وعن الثالث : منع تعدّد المطلوب ، بل هو أمر واحد مقيّد.

وتنقيح ذلك : أنّه وقع الخلاف في أنّ المقيّد هل هو شيئان في الخارج ، هما : المطلق والمقيّد ، كما في التعقّل والتلفّظ. أو شيء واحد ، هو ما صدقا عليه ، ويعبّر عنه باللفظ المركّب ، وبالمفهوم المركّب الذي هو مدلوله؟ فمن قال بالأوّل ، جعل القضاء بالأمر الأوّل ؛ لأنّ المأمور به حينئذ شيئان ، فإذا انتفى أحدهما بقي الآخر. ومن قال بالثاني ، جعله بأمر جديد ؛ لأنّه ليس حينئذ في الخارج إلاّ شيء واحد ، فإذا انتفى سقط المأمور به.

ولمّا كان هذا الخلاف مبنيّا على الخلاف في أنّ تركّب الماهيّة من الجنس والفصل ، وتمايزهما هل هو في الخارج ، أو العقل؟ لأنّ المطلق والمقيّد بمنزلة الجنس والفصل. فإن صحّ الأوّل هنا ، صحّ الأوّل هناك. وإنّ صحّ الثاني هنا ، صحّ الثاني هناك. ولمّا كان الحقّ هنا هو الثاني - وإلاّ لم يصحّ الحمل ، كما تقرّر في محلّه - يكون الحقّ هناك أيضا هو الثاني ، فيبطل كون المطلوب متعدّدا ، ويثبت اتّحاده.

وأنت خبير بأنّ حقيقة الثاني مبنيّة على عدم كون التركيب العقلي بحذاء التركيب الخارجي ، كتركيب البياض من « اللون » و « مفرّق البصر » ولو كان بحذائه - بأن يكون الجنس مأخوذا من المادّة ومتّحدا معها ، والفصل مأخوذا من الصورة ومتّحدا معها - كان للجنس وجود (2) ممتاز عن وجود الفصل ؛ لأنّ المادّة ممتازة في الوجود

ص: 642


1- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 201.
2- في النسختين : « وجوده ». ولكنّ الصحيح ما أثبتناه.

عن الصورة ، فالجنس الموجود في ضمنها ممتاز في الوجود عن الفصل الموجود في ضمنها ، فانتفاء أحدهما لا يستلزم انتفاء الآخر.

ثمّ لا يخفى أنّ حكم مطلق طلب الموقّت - سواء كان بعنوان الوجوب أو الاستحباب ، وسواء كان بصيغة الأمر أو غيرها ، من الشارع أو غيره - ما ذكر اختلافا واختيارا ، وسؤالا وجوابا.

إذا عرفت ذلك ، فتعلم أنّ القضاء لا يجب إلاّ بأمر جديد.

ويتفرّع عليه عدم وجوب قضاء الفرائض الموقّتة ، وعدم استحباب النوافل الموقّتة إلاّ بدلالة خارجيّة ، كقوله عليه السلام : « من نام عن صلاة أو نسيها ، فليصلّها إذا ذكرها » (1).

وممّا فرّع عليه عدم وجوب إخراج الفطرة ، وذبح الأضحية بعد خروج وقتهما على وكيله لو أمره بإخراجها ، وذبحها قبله.

ومثله - وإن لم يوصف بالأداء والقضاء - إذا قال « بع هذه السلعة » ، أو « أعتق هذا العبد » ، أو « طلّق زوجتي هذه في هذا الشهر » ولم يتّفق البيع ، والعتق ، والطلاق فيه.

تذنيب

إذا ورد الأمر المطلق ولم يأت بالمأمور به في أوّل أوقات الإمكان ، فعلى ما اخترناه من أنّه لا يقتضي الفور ، لا يسقط التكليف ، بل يجب الإتيان به فيما بعد. وعلى مذهب الفور فما يلوح من كلام معظم القائلين به ، ويقتضيه أكثر أدلّتهم - من أنّه مدلول الصيغة ، وهي بنفسها تدلّ عليه - سقوط الوجوب فيما بعد (2) ؛ لأنّ إرادة الوقت الأوّل حينئذ جزء مدلولها ، فيكون « اضرب » بمنزلة « يجب عليك الفعل في أوّل أوقات الإمكان » ، ويصير من قبيل الموقّت فيقضى الفعل بانقضاء وقته ، كما تقدّم (3).

نعم ، على ما يظهر من كلام بعضهم ، ويقتضيه بعض أدلّتهم - وهو الآيات المأمور فيها

ص: 643


1- عوالي اللآلئ 1 : 201 ، ح 17. وأيضا تقدّم في ص 334.
2- منهم : السيّد المرتضى في الشريعة الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 132 و 133 ، والشيخ في العدّة في أصول الفقه 1 : 227 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 187.
3- تقدّم في ص 640 - 641.

بالمسارعة (1) والاستباق (2) من أنّه يجب البدار إلى امتثال الأمر ، وإن لم يكن مقتضيا له بنفسه - وجوب الإتيان بالمأمور به فيما بعد ؛ لأنّه يدلّ بنفسه حينئذ على وجوب الإتيان به في أيّ وقت كان. والآيات المذكورة لم تجعله موقّتا ، بل اقتضت وجوب المبادرة. والظاهر منه عصيان المكلّف بتركه ، وبقاء مفاد الأمر بحاله (3).

وتوضيحه : أنّه لم يعلم من الآيات تقييد المأمور به في الأمر المطلق ؛ ليكون الفور مرادا منه أيضا وإن لم يكن بالوضع ، ويتحقّق طلب واحد متعلّق بمطلوب مقيّد ، بل القدر المعلوم منها طلب المبادرة من غير أن تكون مقيّدة له ، كما إذا قال بعد الأمر المطلق : « عجّل واستبق » ، فيتحقّق طلبان متعلّقان بمطلوبين مطلقين : أحدهما : طلب إيجاد الماهيّة ، وهو المفهوم من الأمر. وثانيهما : طلب المبادرة ، وهو المفهوم من الآيات. فإذا أخلّ المكلّف بالطلب الثاني ، عصى من حيث مخالفته ، ولم يعص من جهة الطلب الأوّل ؛ لأنّ عصيانه بترك الإتيان بالفعل مطلقا ، فهو يبقى بحاله. كيف؟ وارتفاع أحد الأمرين لا يستلزم ارتفاع الآخر إذا لم يتقيّد به.

ويظهر من هذا أنّ الدالّ على الفور لو كان مقيّدا للأمر المطلق - سواء كان منفصلا عنه ، كأن يرد بعده خطاب آخر يعلم منه إرادة الفور منه ، أو متّصلا به ، كأن يقول : افعل معجّلا ، أو بسرعة - يسقط الوجوب حيث يمضي أوّل أوقات الإمكان ؛ لأنّ الفوريّة لمّا كانت مرادة من الأمر - وإن لم يكن للوضع مدخل فيها ، بل علمت إرادتها منه بدليل من خارج - يتحقّق طلب واحد مقيّد ، والتكليف المقيّد يفوت بفوات القيد ؛ إذ ما علم أنّه مطلوب - وهو المقيّد - لم يحصل ، وما يمكن حصوله - وهو المطلق - لم يعلم كونه مطلوبا ، فلا وجه للإتيان به.

وقد تلخّص ممّا ذكرناه أنّ الموقّت (4) ثلاثة أقسام :

الأوّل : ما صرّح فيه بالتوقيت.

الثاني : ما ورد به أمر مطلق. وقيل بأنّه يفيد الفور وضعا (5).

ص: 644


1- آل عمران (3) : 133 : ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) .
2- المائدة (5) : 48 : ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) .
3- راجع معالم الدين : 60.
4- أراد به المقيّد الأعمّ من الموقّت الاصطلاحي.
5- قاله المفيد في التذكرة بأصول الفقه المطبوع ضمن مصنّفات الشيخ المفيد 9 : 30 ، وحكاه الشيخ في العدّة في الاصول 1 : 234.

الثالث : ما دلّ على تقييده دليل من خارج متّصلا كان أو منفصلا.

ويسقط الوجوب في الجميع بمضيّ أوّل أوقات الإمكان.

والفرق بأنّه (1) يجري في المقيّد إذا كان مدلولا للّفظ بحسب الوضع ، أو دلّ على تقييده دليل متّصل ، ولا يجري فيما دلّ على تقييده دليل منفصل ، تحكّم ؛ إذ المناط حصول التقييد ، وهو حاصل في الصور الثلاث ، ولا دلالة للاوليين على زائد. ويبقى المطلق منحصرا بما ورد به أمر مطلق ، ولم يقل بأنّه يفيد الفور - كما هو المختار - أو مطلق آخر ، ولم يدلّ دليل على وجوب المبادرة أصلا ، أو دلّ عليه ولم يدلّ على التقييد. هذا.

وكيفيّة التفريع في الجميع وحقيقة الحال فيه على ما اخترناه ظاهرة.

فصل [9]
اشارة

لا خلاف في تغاير مفهومي الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه ؛ لاختلاف الإضافة قطعا ، وإنّما الخلاف في أنّ الأمر بالشيء المعيّن نهي عن ضدّه ، أو لا؟

فقيل : هو عينه (2).

وقيل : يستلزمه (3).

وقيل بنفي العينيّة والاستلزام (4).

وقيل : هو عين النهي عن الضدّ العامّ بمعناه المشهور - أي الترك - دون الخاصّ ، ودون المعنى الآخر للعامّ ، وهو أحد الأضداد الوجوديّة لا بعينه ؛ لأنّه راجع إلى الخاصّ (5).

بل قيل : هو عينه حقيقة ؛ لأنّ من قال باستلزام الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ الخاصّ ، لم يقل بأنّه مستلزم للنهي عن ضدّ خاصّ معيّن من حيث هو معيّن ، بل قال : إنّه يستلزم

ص: 645


1- أي سقوط الوجوب.
2- قاله ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 326 ، وحكاه الآمدي عن قاضي أبي بكر الباقلاني في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 191.
3- قاله الشيخ في العدّة في أصول الفقه 1 : 197 ، والفخر الرازي في المحصول 2 : 199.
4- قاله الآمدي ، ونسبه أيضا إلى إمام الحرمين في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 192.
5- قائله الغزالي في المستصفى : 66 ، والشيخ حسن في معالم الدين : 3.

النهي عنه من حيث هو داخل تحت هذا العنوان - أعني ضدّا خاصّا - والعنوان بعينه أحد الأضداد الوجوديّة لا بعينه ، فيسمّى عامّا ؛ لانتشاره وعدم تعيّنه ، كما يسمّى الترك عامّا ؛ لتحقّقه في ضمن جميع الأضداد الوجوديّة (1).

وقيل : هو يستلزمه دون الخاصّ (2).

وقيل : الأمر المضيّق نهي عن ضدّه دون الموسّع (3).

ثمّ اقتصر قوم على الأمر. وزاد جماعة وقالوا : النهي عن الشيء أمر بضدّه (4) ، فقال بعضهم : إنّه نفسه (5). وقال آخرون : إنّه يستلزمه (6).

ثمّ القائلون بالاقتضاء - بأيّ نحو كان - بين من خصّص القول بأمر الإيجاب ، فجعله نفس النهي عن ضدّه المطلق أو العامّ ، أو مستلزما لأحدهما على الخلاف تحريما (7) ، ومن عمّم القول في أمر الإيجاب والندب ، فجعله مقتضيا لأحد الضدّين بأحد الاعتبارين ، تحريما أو تنزيها (8). وكذا الأمر في التخصيص والتعميم في النهي.

والقائلون بالاستلزام بين قائل به بطريق التضمّن (9) ، وقائل به بطريق الالتزام (10).

ص: 646


1- قاله البصري في المعتمد 1 : 97 ، وحكاه الآمدي عن القاضي أبي بكر الباقلاني في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 191.
2- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 191 عن القاضي أبي بكر الباقلاني.
3- قاله الأنصاري في فواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 1 : 100 ، وحكاه الشهيد الثاني عن جماعة في تمهيد القواعد : 136 ، القاعدة 40.
4- قاله الأسنوي في نهاية السؤل 2 : 305.
5- حكاهما الأنصاري في فواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 1 : 97 و 100.
6- حكاهما الأنصاري في فواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 1 : 97 و 100.
7- قاله ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 327.
8- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 192.
9- حكاه السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 85 - 88 ، والشيخ في العدّة في أصول الفقه 1 : 196 - 198 ، والفخر الرازي في المحصول 2 : 199 - 201 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 191 - 195 ، والأنصاري في فواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 1 : 97 و 100 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 135 و 136 ، القاعدة 40 ، والشيخ حسن في معالم الدين : 64.
10- حكاه السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 85 - 88 ، والشيخ في العدّة في أصول الفقه 1 : 196 - 198 ، والفخر الرازي في المحصول 2 : 199 - 201 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 191 - 195 ، والأنصاري في فواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 1 : 97 و 100 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 135 و 136 ، القاعدة 40 ، والشيخ حسن في معالم الدين : 64.

والقائلون بالالتزام بين مطلق له. وبين مصرّح بثبوت الالتزام اللفظي (1) ، بمعنى أنّه لازم بيّن له يلزم من تصوّر الأمر تصوّره. ومصرّح بثبوت الالتزام المعنوي دون اللفظي (2) ، بمعنى أنّ العقل يحكم به ولو بوسائط كثيرة ، وقد تخفى على غير ذوي الأنظار الدقيقة.

وبعضهم جعل القول بالالتزام منحصرا بالمعنوي وقال : التحقيق أنّ من قال : الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضدّه ، لا يقول بأنّه لازم عقلي له ، بمعنى أنّه لا بدّ عند الأمر من تصوّره وتعقّله ، بل المراد باللزوم العقلي مقابل الشرعي ، يعني أنّ العقل يحكم بذلك اللزوم لا الشرع (3).

وأنت تعلم أنّ هذا الكلام لا يلائم ما صرّح به القوم ؛ لأنّ أكثرهم مصرّحون بثبوت الاستلزام اللفظي وإن لم يكن حقّا.

وكما اختلفوا في أصل المسألة ، اختلفوا في تحرير محلّ النزاع فيها.

فمنهم : من قال : إنّ النزاع إنّما هو في الضدّ الخاصّ ، وأمّا العامّ بمعنى الترك ، فلا خلاف في كون الأمر مقتضيا للنهي عنه (4).

ومنهم : من قال : إنّ الخلاف في الضدّين ، وجعل الخلاف في العامّ باعتبار أنّ الأمر هل هو عين النهي عنه أو يستلزمه؟ لا في أصل الاقتضاء ؛ لاستلزام نفيه خروج الواجب عن كونه واجبا (5).

ص: 647


1- حكاه السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 85 - 88 ، والشيخ في العدّة في أصول الفقه 1 : 196 - 198 ، والفخر الرازي في المحصول 2 : 199 - 201 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 191 - 195 ، والأنصاري في فواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 1 : 97 و 100 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 135 و 136 ، القاعدة 40 ، والشيخ حسن في معالم الدين : 64.
2- حكاه السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 85 - 88 ، والشيخ في العدّة في أصول الفقه 1 : 196 - 198 ، والفخر الرازي في المحصول 2 : 199 - 201 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 191 - 195 ، والأنصاري في فواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 1 : 97 و 100 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 135 و 136 ، القاعدة 40 ، والشيخ حسن في معالم الدين : 64.
3- المصادر.
4- حكاه الشيخ حسن في معالم الدين : 64.
5- راجع : العدّة في أصول الفقه 1 : 196 ، والمحصول 2 : 199 - 202 ، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 3 : 326 ، والإحكام في أصول الأحكام 2 : 192 ، ومنتهى الوصول : 69 ، وفواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 1 : 100 ، وتمهيد القواعد : 135 و 136 ، القاعدة 40 ، ومعالم الدين : 63.

ومنهم : من جعل النزاع في العامّ وسكت عن الخاصّ (1).

ومنهم : من أطلق لفظ الضدّ ولم يبيّن المراد منه ، كالقائل بالأقوال الثلاثة الاول (2).

والحقّ عندي ، أنّ شيئا من الأمر ليس عين النهي عن شيء من ضدّه ، [ أو شيئا من النهي ليس عين النهي عن شيء من ضدّه ] (3) أو شيئا من النهي ليس عين الأمر بضدّه. والموسّع من الأمر لا يستلزم النهي عن الضدّ أيضا بوجه.

وأمّا المضيّق منه ، فالدالّ منه على الوجوب من غير تقييد بوقت خلوّ المأمور عن الضدّ ، فيتضمّن (4) النهي التحريمي عن الضدّ العامّ ، ويدلّ بالالتزام المعنوي على النهي عن كلّ واحد من الأضداد الخاصّة الوجوديّة ، سواء كان المأمور مشتغلا بالضدّ أم لا ، بشرط أن لا يكون الضدّ أيضا واجبا مضيّقا ، بل كان مباحا أو ندبا ، أو واجبا موسّعا ، فإن كان للمأمور [ به ] (5) ضدّ واحد وجودي كالحركة استلزم الأمر به النهي عنه فقط ، وإن كان له أضداد كثيرة استلزم النهي عن جميعها ، لا من حيث إنّ خصوصيّة الضدّ الواحد أو الأضداد الجزئيّة ملحوظة للآمر ، بل من حيث دخولهما تحت ما يضادّ المأمور به ، فإنّ ملحوظ الآمر النهي عمّا يضادّه إجمالا ، بل ربّما لم يشعر به أصلا ، ولكنّه يلزم النهي عنه من كلامه.

أمّا لو كان الضدّ الخاصّ للمأمور به واجبا مضيّقا وأمكن ذلك ، فلا يلزم من الأمر به النهي عنه ، ويلزم منه عدم لزوم النهي عن الضدّ العامّ أيضا.

والنهي التحريمي عن الشيء يستلزم معنى الأمر بأحد أضداده من غير تعيين.

وأمر الندب ونهي الكراهة يستلزمان كراهة الضدّ العامّ وندبه.

ونهي الكراهة يقتضي استحباب أحد الأضداد الخاصّة أيضا.

وأمر الندب لا يقتضي كراهة الضدّ الخاصّ أصلا.

ص: 648


1- راجع : العدّة في أصول الفقه 1 : 196. والمحصول 2 : 199 - 202 ، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 3 : 326 ، والإحكام في أصول الأحكام 2 : 192 ، ومنتهى الوصول : 69 ، وفواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 1 : 100 ، وتمهيد القواعد : 135 و 136 ، القاعدة 40 ، ومعالم الدين : 63.
2- راجع : العدّة في أصول الفقه 1 : 196. والمحصول 2 : 199 - 202 ، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 3 : 326 ، والإحكام في أصول الأحكام 2 : 192 ، ومنتهى الوصول : 69 ، وفواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 1 : 100 ، وتمهيد القواعد : 135 و 136 ، القاعدة 40 ، ومعالم الدين : 63.
3- ما بين القوسين لم يرد في « ب » وهو ليس محلّ الكلام ، بل ليس للاقتضاء معنى صحيح ومحصّل.
4- كذا في النسختين. والأولى : « يتضمّن » بدون الفاء ، لأنّه خبر « الدالّ ».
5- اضيف للضرورة.

فهنا مقامات :

[ المقام ] الأوّل : في أنّ الأمر مطلقا ليس نفس النهي عن ضدّه مطلقا ، لا لفظا ولا حقيقة.

أمّا الأوّل ، فلأنّ صيغة الأمر « افعل » وصيغة النهي « لا تفعل ».

وأمّا الثاني ، فلأنّ الأمر هو القول الدالّ على طلب الفعل ، والنهي هو القول الدالّ على طلب الترك ، أو الكفّ ، فأين العينيّة؟ وكيف يقول به عاقل ، فضلا عن الفضلاء؟!

والظاهر - كما قيل - أنّه ليس مراد من قال من الأوائل : إنّ الأمر بالشيء بعينه نهي عن ضدّه (1) أنّ الأمر نفسه هو النهي ، بل مراده أنّهما حصلا بجعل واحد كما في قولهم : الأمر بالشيء أمر بمقدّمته ، أي جعلاهما واحد لم يحصل كلّ منهما بأمر على حدة ، فرجع إلى التضمّن أو الالتزام ؛ إذ القائل بهما يقول باتّحاد جعلهما ؛ إذ الفرض عدم صريح النهي ، واستنباطه من الأمر. وعلى هذا يرجع ضمير « بعينه » إلى الشيء لا إلى الأمر.

وممّا ذكر يعلم أنّ النهي عن الشيء ليس أمرا بشيء من ضدّه.

ثمّ القول بالعينيّة قد نسب إلى بعض القائلين بالكلام النفسي ؛ نظرا إلى أنّ كلّ واحد من الأمر والنهي ليس عندهم هو الصيغة ، بل عندهم أنّ الأمر طلب الفعل القائم بالنفس ، والنهي طلب تركه ، وحكموا باتّحاد الطلبين (2).

واحتجّوا عليه بوجهين :

أحدهما : أنّ الأمر لو لم يكن نفس النهي عن ضدّه ، لكان إمّا مثله ، أو ضدّه ، أو خلافه ؛ لأنّهما إن تساويا في الصفات النفسيّة - وهي (3) ما لا يفتقر الوصف به إلى تعقّل أمر زائد على ذات الموصوف ، أي لا يعتبر فيه إضافة إلى غير الموصوف كالإنسانيّة للإنسان ، والحقيقة والشيئيّة له ، ويقابلها المعنويّة المفتقرة إلى تعقّل أمر زائد ، كالتحيّز الثابت للجسم بالإضافة إلى الحيّز ، والحدوث الثابت لغير اللّه بالإضافة إلى الوجود - فمثلان كبياضين أو سوادين ،

ص: 649


1- قاله ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 326.
2- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : 95 و 96.
3- في « أ » : « هو ».

وإلاّ فإن تنافيا بأنفسهما ، فضدّان ، كالسواد والبياض ، وإلاّ فخلافان ، كالبياض والحلاوة.

فإن كانا ضدّين أو مثلين ، لم يجتمعا في محلّ واحد ، بأن يتحقّقا في شخص واحد ، بأن يكون آمرا وناهيا عن ضدّ ما أمر به إن جعلا (1) مبنيّين للفاعل أو مأمورا ومنهيّا عن ضدّ ما أمر به إن جعلا مبنيّين للمفعول ، أو في فعل (2) واحد بأن يكون مأمورا به ومنهيّا عن ضدّه ، مع أنّهما يجتمعان فيه بأيّ معنى اخذ.

ولو كانا خلافين ، لجاز اجتماع كلّ منهما مع ضدّ الآخر ؛ لأنّ ذلك حكم الخلافين ، كما يجتمع البياض - وهو خلاف الحلاوة - مع الحموضة ، فيلزم جواز اجتماع الأمر مع ضدّ النهي عن ضدّه ، وهو الأمر بضدّه وهو محال ؛ لأنّه اجتماع النقيضين ، والتكليف بما لا يطاق (3).

والجواب : تسليم كونهما خلافين ، ومنع ما زعم أنّه لازم لهما ، وهو اجتماع كلّ مع ضدّ الآخر.

أمّا أوّلا ، فلأنّه لا يشترط فيهما جواز الانفكاك ، فيجوز أن يكونا متلازمين (4) ، فيمتنع فيهما ذلك ؛ إذ اجتماع أحد المتلازمين مع الشيء يوجب اجتماع الآخر معه ، فاجتماع كلّ مع ضدّ الآخر يوجب اجتماع كلّ مع ضدّه ، وهو محال.

وأمّا ثانيا ، فلأنّهما قد يكونان ضدّين لأمر واحد ، كالعلم والقدرة للنوم ، فيكون كلّ منهما ضدّ ضدّ الآخر ، فاجتماع كلّ منهما مع ضدّ الآخر يوجب اجتماعه مع ضدّه ، ولا يستبعدنّ كون الشيء ضدّا لشيء ولخلافه ؛ لأنّه يجوز أن يكون الشيء ضدّ الأمر ولضدّه ، كالعلم للظنّ والشكّ ، والسواد للبياض والحمرة ، مع أنّه أبعد.

ثمّ لو سلّم كونه لازما ، فلا نمنع اجتماع كلّ منهما مع كلّ ما يضادّ الآخر ؛ إذ السواد خلاف الحرارة ، ولا يجامع الجوهريّة التي هي ضدّها ؛ لكونها ضدّا له أيضا ، بل المسلّم

ص: 650


1- أي جعل الفعلان معلومين نحو أمر ونهى.
2- عطف على « شخص واحد ».
3- راجع : منتهى الوصول لابن الحاجب : 95 و 96 ، ومعالم الدين : 65.
4- كان ينبغي للمصنّف أن يذكر مثالا للخلافين المتلازمين. ولا يخفى ما في الجمع بين الخلاف والتلازم.

اجتماعه مع ضدّ الآخر في الجملة ، وحينئذ نقول : الضدّ العامّ للنهي عن الضدّ عدم النهي ، وتحقّقه (1) إمّا في ضمن الأمر به ، أو في السكوت عن كلّ من الأمر به والنهي عنه ، والأمر بالشيء يجوز اجتماعه مع الثاني ، وبه يتمّ المطلوب ، فلا حاجة إلى اجتماعه مع الأوّل.

وعلى الثاني ما يفهم من الذمّ على فعل الضدّ من جهة أنّه متضمّن لترك المأمور به ، لا لأنّه فعل مخصوص.

وثانيهما : أنّ فعل السكون عين ترك الحركة ؛ إذ البقاء في الحيّز الأوّل هو بعينه عدم الانتقال إلى الحيّز الثاني ، وإنّما يختلف التعبير ، فيكون طلب فعل السكون عين طلب ترك الحركة (2).

والجواب : أنّ طلب ترك الحركة هو طلب الكفّ عنها ، والسكون (3) طلب الفعل ، ولا يكون الكفّ عن شيء عين فعل شيء آخر ، وإن لزمه.

نعم ، إن اريد بطلب ترك الضدّ فعل ضدّ ضدّ المأمور به - وهو عين فعل المأمور به بمجرّد الاصطلاح - صار النزاع لفظيّا في تسمية الفعل المأمور به تركا لضدّه ، وفي تسمية طلبه نهيا ، إلاّ أنّه لا بدّ من ثبوته من اللغة ولم يثبت ، ولو ثبت يرجع إلى أنّ الأمر بالشيء له عبارة اخرى كاللاحجيّة ، مثل « أنت وابن اخت خالتك » ولا يلتفت إلى مثله في المباحث الكلّية. هذا.

مع أنّ ما ذكر مثال جزئي لا يصحّ أن يجعل دليلا لأصل كلّي. على أنّ هذا يصحّ على رأي الفلاسفة حيث جعلوا السكون عدم الحركة (4) ، ولا يصحّ على رأي المتكلّمين ؛ لأنّهما عندهم وجوديّان ، وليس أحدهما عدما للآخر (5).

ص: 651


1- أي عدم النهي.
2- راجع نهاية الوصول إلى علم الأصول 1 : 532 ، وحكاه الغزالي عن أبي بكر الباقلاني في المستصفى : 65 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 194 ، ولكن لم ينسبه إلى أحد.
3- عطف على « ترك » أي طلب السكون.
4- راجع شرح المنظومة : 239 - 240.
5- حكاه الغزالي في المستصفى : 65 ، والعلاّمة في مناهج اليقين : 60 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 142 ، القاعدة 43.

المقام الثاني : في أنّ الأمر بالموسّع ليس عين النهي عن ضدّه العامّ والخاصّ ، ولا يستلزم شيئا منهما أيضا بوجه.

بيانه : أنّ الأمر الموسّع - سواء تعلّق بموقّت موسّع ، أو مطلق موسّع ، وسواء قيّد بوقت خلوّ المأمور عن الضدّ أو لا - لا يدلّ بوجه على لزوم إيقاع مدلوله قبل حين التضيّق ، فلا وجه لدلالته بوجه على النهي عمّا يضادّه ، وكيف يحكم بالنهي عن ضدّ ما لا يجب فعله؟! وأدلّة الاستلزام في المضيّق مبنيّة على تسليم تحتّم إيقاع المأمور به؟

وأيضا لو دلّ على النهي ، لزم من إيجاب واجب موسّع تحريم كلّ ما هو ضدّ له من الواجبات والمستحبّات والمباحات في وقته ، وليس كذلك.

ثمّ لمّا كان كلّ من الموسّع والمضيّق على قسمين (1) : الموقّت ، والمطلق. أمّا الموسّع الموقّت ، فكالظهر ، وغير الموقّت ، فكالنذر المطلق وما وقته العمر. والمضيّق الموقّت ، كالصوم ، وغير الموقّت ، كإزالة النجاسة عن المسجد ، وأداء الدين ، والحجّ ، فيحصل من جعل كلّ من الأربعة مأمورا به وكلّ من البواقي ضدّا بحسب التركيب الثنائي عشرة أقسام : كلّ مع مثله ، وهو أربعة. ومع غيره وهو ستّة. فإذا كان المأمور به أحد الموسّعين والضدّ أحد الأربعة ، يحصل من التركيب الثنائي سبعة أقسام. وكذا إذا كان المأمور به أحد المضيّقين والضدّ أحد الأربعة ، وتداخل أربعة أقسام في الصورتين. ولا يلزم من الأمر النهي عن الضدّ في شيء من الأقسام السبعة للصورة الاولى ؛ لما ذكر. كيف؟ ولو لزم ذلك لزم تحريم أداء الدين ، وإغاثة المظلومين بعد زوال الشمس ، وكذا النوافل والأكل والشرب ؛ لأنّ القول يوجب تحريم كلّ ما هو ضدّ للمأمور به ، سواء كان واجبا ، أو مستحبّا ، أو مباحا.

ص: 652


1- ليس هذا التقسيم على ما ينبغي ، فإنّ الموسّع والمضيّق من أقسام الموقّت ، فإنّ الواجب إمّا موقّت أو غير موقّت ، أي مطلق. والموقّت إمّا موسّع أو مضيّق ، والمطلق - أي غير الموقّت - إمّا فوري أو غير فوري. فالفور والتراخي أمر ، والتوقيت والإطلاق أمر آخر خلطهما المصنّف رحمه اللّه ، أو له اصطلاح خاصّ. وعلى ما ذكر المصنّف رحمه اللّه يمكن أن يكون واجب مضيّقا مطلقا ، إلاّ أن يريد من الضيق الفوريّة ، أو كان الواجب مطلقا غير موقّت وغير فوري ولكن ظنّ المأمور بموته قبل فعله.

ويتفرّع عليه صحّة جميع الامور الواجبة والمستحبّة والمباحة من أوّل وقت كلّ من الصلوات اليوميّة إلى أن يبقى منه بقدر ما يفعل فيه ، وقس عليه غيره ممّا يشابهه.

المقام الثالث : في أنّ الأمر الإيجابيّ بالمضيّق - سواء كان موقّتا أو مطلقا - يتضمّن النهي عن الضدّ العامّ ، وذلك لأنّ الأمر يدلّ على الوجوب ، وهو ماهيّة مركّبة من أمرين :

أحدهما : طلب الفعل.

وثانيهما : المنع من الترك ، فالأمر يدلّ على النهي عن الترك بالتضمّن. واحتجّ من أنكر تضمّنه له بأنّه لو كان متضمّنا له لحصل تعقّله وتعقّل الكفّ عنه عنده ، مع أنّه يحصل طلب الفعل مع الذهول عن الترك والكفّ عنه (1).

واجيب بأنّ تعقّل الترك والكفّ عنه حاصل عند الآمر ، وما يذهل عنه هو الأضداد الجزئيّة الخاصّة (2) ؛ لأنّ المأمور لو كان متلبّسا بالفعل ، لم يطلبه الآمر منه ؛ لأنّه تحصيل الحاصل ، بل الطلب عند تلبّسه بضدّه وهو الترك ، وحينئذ يستلزم الأمر تعقّل ضدّه.

وأنت تعلم ممّا ذكر من حقيقة الإيجاب أنّه يستلزم تعقّل الضدّ والكفّ عنه وإن كان طلب الفعل عند تلبّس المأمور به (3) بأن يطلب منه الفعل في المستقبل ، أي يطلب منه أن يوجده في ثاني الحال كما يوجده في الحال.

نعم ، يمكن أن يقال : الإيجاب حاصل للآمر ، ولا يلزم تصوّره أصلا ؛ لثبوت الفرق بين حصول الشيء وتصوّره (4) ، على أنّه يمكن أن يقال : لا يلزم الشعور بالمدلول الضمني ، فمن أمر غيره بفعل معيّن ، يلزم أن يعقل ما هو مطلوبه قصدا وصريحا ، ولا يلزم أن يتعقّل المطلوب الضمني والتبعي ، فيمكن أن لا يتصوّر الآمر حين الأمر ضدّه الخاصّ ، ولا العامّ ،

ص: 653


1- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 193 ، والشيخ حسن عن بعض أهل عصره في معالم الدين : 67.
2- المجيب هو الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 192 و 193.
3- أي بالفعل ، والباء متعلّق بالتلبّس ، أي تلبّس المأمور بضدّ المأمور به وتركه - كما تخيّله المجيب - غير لازم في صحّة الأمر.
4- ليس لهذا الكلام محصّل ، فإنّ حصول الفعل الاختياري كالإيجاب لا يحصل بلا تصوّر. نعم ليس بين حصول مطلق الشيء وتصوّره تلازم وليس الكلام فيه.

ولا الكفّ عنهما ؛ لأنّ النهي عنهما ليس خطابا أصليّا حتّى يلزم تعقّله ، بل هو خطاب تبعي ، كالأمر بمقدّمة الواجب اللازم من الأمر ؛ فإنّ الآمر قد لا يشعر بها أصلا ، مع أنّها واجبة ومطلوبة ، وكثيرا ما يلزم من الكلام معان ليست مقصودة للمتكلّم ، ويسمّى دلالة إشارة ، كما تقدّمت الإشارة إليها (1).

ثمّ هذا في أوامر غيره تعالى ، وأمّا في أوامره ، فكلّ ما يلزمها يعلم به ، فلا حاجة فيها إلى هذه التوجيهات. هذا.

وكيفيّة التفريع هنا ظاهرة.

المقام الرابع : في أنّ الأمر المذكور من غير تقييد بوقت خلوّ المأمور عن الضدّ الخاصّ - سواء كان المأمور مشتغلا به أم لا - يدلّ بالالتزام المعنوي على النهي عنه بشرط أن لا يكون الضدّ أيضا واجبا مضيّقا.

ويدلّ عليه وجوه :

منها : أنّ فعل المأمور به لا يتمّ إلاّ بترك ضدّه ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب.

واجيب عنه بأنّه لا مدخل لترك الضدّ في فعل المأمور به ، بل العلّة فيه ليست إلاّ وجود الداعي إليه ، وانتفاء الصارف عنه. نعم ، ترك الضدّ غير منفكّ عنه في الخارج ، وذلك لا يستلزم توقّفه عليه. وحاصله ، أنّه ليس عينه ، ولا مقدّمة له ، بل هو مقارن له ؛ لأنّ مقدّمة الشيء ما يتوقّف عليه وجود هذا الشيء ، فوجوب مقدّمة الواجب مسلّم ، وكون ترك الضدّ منها ممنوع. وعلى هذا لو كان الضدّ واجبا موسّعا فترك المكلّف المأمور به وأتى بالواجب الموسّع كان مؤدّيا له (2) ، خارجا عن عهدة التكليف ، إلاّ أنّه يأثم بترك المأمور به. ومن هنا يظهر أنّه لا تلازم بين القول بوجوب مقدّمة الواجب واقتضاء الأمر النهي عن الضدّ الخاصّ ، بل يصحّ أن يقال بالأوّل وإن لم يقل بالثاني (3).

ص: 654


1- تقدّمت آنفا.
2- في « أ و ب » : « لها ».
3- حكاه الشيخ حسن في معالم الدين : 68.

وهذا الجواب فاسد ؛ لأنّ توقّف أداء الدين المضيّق على ترك الصلاة في غاية الظهور ، وكيف يمكن أداؤه مع الاشتغال بها؟! فهو من الصوارف عنه ، فيلزم انتفاؤه ، ولو كان الصارف مجرّد عدم إرادة المأمور به ، أو إرادة ضدّه - حتّى يكون الداعي وانتفاء الصارف إرادة المأمور به وكراهة ضدّه ، واختصّ ما يتوقّف عليه المأمور به بهما ، ولم يكن ترك الضدّ واجبا ، بل جائزا - لكانت الإرادة والكراهة واجبتين من حيث يتوقّف عليهما أداء الدين ، وجائزتين من حيث يتوقّف عليهما ترك الواجب الموسّع ؛ لأنّه لا ريب في أنّ تركه يتوقّف عليهما ، ومقدّمة المباح مباحة ، فيلزم اجتماع الوجوب والإباحة في واحد شخصي ، وهو باطل.

ومنها : أنّ ترك المأمور به محرّم ، وهو لا يتمّ إلاّ بفعل ضدّه ، وما لا يتمّ المحرّم إلاّ به فهو محرّم.

وبتقرير آخر : الأمر يتضمّن النهي عن الضدّ العامّ ، كما تقدّم (1) ، وهو إمّا الترك أو الكفّ ، وأيّا ما كان فهو ماهيّة كلّية لا توجد إلاّ في ضمن أفراد هي التروك الخاصّة ، فتحقّقها يتوقّف على تحقّقها ، بل عين تحقّقها ، والتروك الخاصّة لا تتحقّق إلاّ في ضمن الأضداد الخاصّة الجزئيّة ، ولمّا كان مطلق الترك كلّيا بالنسبة إلى التروك الخاصّة ، فيوجد في ضمن كلّ واحد منها ، فالنهي عنه والخروج عن عهدة هذا النهي ، يتوقّف على ترك جميعها المتوقّف على ترك جميع الأضداد الوجوديّة الخاصّة.

واعترض عليه بأنّه لا مدخل لفعل الضدّ في ترك المأمور به ، بل العلّة فيه وجود الصارف عنه وانتفاء الداعي إليه ، ومعهما لا يفتقر الترك إلى شيء من هذه الأفعال ، وإنّما هي من لوازم الوجود الخارجي إن قيل بعدم بقاء الأكوان (2) ، واحتياج الباقي إلى المؤثّر. وإن قيل بالبقاء والاستغناء ، جاز خلوّ المكلّف عن كلّ فعل ، فلا يكون هناك إلاّ الترك.

وعلى الأوّل (3) يستمرّ هذه الأضداد الخاصّة مع وجود الصارف وانتفاء الداعي ، فلو انتفى الصارف ووجد الداعي ، فلا يتصوّر صدورها ممّن جمع شرائط التكليف إلاّ

ص: 655


1- تقدّم في ص 653.
2- وهي أربعة : الحركة ، والسكون ، والاتّصال ، والافتراق.
3- أي بقاء الأكوان واحتياج الباقي إلى المؤثّر.

على سبيل الإلجاء والتكليف معه ساقط (1).

ويرد عليه مثل ما تقدّم (2) ؛ فإنّه لو لم يتوقّف ترك المأمور به على فعل ضدّ من أضداده - بل على مجرّد وجود الصارف عنه ، وانتفاء الداعي إليه ، ولذا لم يكن الضدّ منهيّا عنه ، وصحّ فعله - لزم - إذا كان الضدّ واجبا موسّعا - أن يكون الصارف واجبا من حيث إنّ فعله يتوقّف عليه ، فإنّ فعله بدون الصارف عن المأمور به غير ممكن ، وحراما (3) من حيث إنّ ترك المأمور به يتوقّف عليه ، فيلزم اجتماع الوجوب والتحريم في واحد شخصي. ويظهر من هذا أنّ ترك كلّ شيء يتوقّف على فعل ضدّ من أضداده ، فإن كان الترك حراما - كما نحن بصدده - كان فعل ضدّه أيضا حراما ، وإن كان واجبا كان واجبا ، وهذا يدلّ على صحّة ما يأتي من أنّ النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده (4).

ومنها : أنّ فعل الضدّ الخاصّ ملزوم للحرام - الذي هو ترك المأمور به - وملزوم الحرام حرام ، ففعل الضدّ حرام.

واعترض عليه بأنّ الملزوم إذا كان مقتضيا وعلّة للاّزم (5) ، أو كانا معلولين لعلّة واحدة ، فتحريم اللازم يستلزم تحريم الملزوم.

أمّا الأوّل ، فلأنّه يستبعد تحريم المعلول من دون تحريم علّته.

وأمّا الثاني ، فلأنّه لو انتفى التحريم في أحد المعلولين ، واختصّ بالآخر ، فإمّا أن يكون العلّة محرّمة أو لا ، وكلاهما باطل. وأمّا إذا انتفت العلّيّة بينهما والاشتراك في العلّة ، فلا يلزم أن يستلزم تحريم اللازم تحريم الملزوم ؛ لجواز تحريم أحد المتلازمين من دون تحريم الآخر ؛ فإنّ تضادّ الأحكام يمنع من اجتماع حكمين متضادّين في موضع واحد ، لا في أمرين متلازمين (6). وإذا ثبت ذلك ، فالمراد باللزوم في الدليل إن كان عدم الانفكاك في

ص: 656


1- المعترض هو الشيخ حسن في معالم الدين : 69.
2- تقدّم في ص 654 - 655 : « وهذا الجواب فاسد » وضمير « عليه » راجع إلى الاعتراض.
3- معطوف على « واجبا ».
4- يأتي في ص 665.
5- في « ب » : « اللازم ».
6- قاله الشيخ حسن في معالم الدين : 68.

الخارج ، منعنا الكبرى. وإن كان العلّيّة والتوقّف ، منعنا الصغرى ؛ لأنّ العلّة في الترك إنّما هي وجود الصارف عن فعل المأمور به ، وعدم الداعي إليه ، وذلك يستمرّ مع فعل الأضداد الخاصّة في الخارج من دون أن يكون متوقّفا عليها.

وكذا القول إن اريد باللزوم اشتراكهما في العلّة ، فإنّه أيضا ممنوع ؛ لأنّ الصارف - الذي هو العلّة في الترك - ليس علّة لفعل الضدّ ، بل العلّة فيه ليست إلاّ وجود الداعي إليه وانتفاء الصارف عنه ، ولا مدخل للصارف عن المأمور به في فعله أصلا ، وإن لم ينفكّ عنه في الخارج ؛ نظرا إلى أنّ فعل الضدّ إذا لم يكن مع الصارف عن المأمور به لكان مع الداعي إليه ، والداعي إليه علّة لفعله ، فيلزم الاشتغال بالضدّين في حال واحد ، وهو محال. ويظهر من هذا أنّ امتناع الانفكاك أيضا ليس بالذات ، فكيف يكون لأحدهما مدخل في وجود الآخر؟

وأنت خبير بأنّ هذا الدليل وسابقه متقاربان تقريرا واعتراضا ، فيرد عليه أيضا ما تقدّم (1) ، وهو لزوم اجتماع الوجوب والحرمة في واحد شخصي ؛ فإنّه لا ريب في توقّف فعل الضدّ على وجود الصارف عن المأمور به ، فيكون مقدّمة لفعل الضدّ ، فإذا كان واجبا ، للزم وجوبه من هذه الجهة ، كما يلزم حرمتها من حيث توقّف ترك المأمور به عليه.

فإن قيل : وجوب مقدّمة الواجب ليس على حدّ غيره من الواجبات ؛ لأنّ الوجوب فيها إنّما هو للتوصّل بها إلى الواجب ، فإذا فرض حصول التوصّل بمباح أو محرّم حصل الامتثال ، وكان المكلّف مؤدّيا للواجب ، ولذا إذا وجب الحجّ على النائي فقطع المسافة على وجه منهيّ عنه ، حصل الامتثال وصحّ حجّه ، ولا يجب عليه إعادة السعي بوجه سائغ ، وحينئذ نقول : غاية ما في الباب أن يكون ما يتوقّف عليه الواجب الموسّع - أعني الصارف عن المأمور به ، وانتفاء الداعي إليه ، أي إرادة الواجب الموسّع ، وكراهة المأمور به - واجبا من حيث إنّه وصلة ووسيلة إلى الواجب ، ولو لم يكن هذا الوجوب توصّليا لم يجز أن يتعلّق الكراهة بالمأمور به ؛ لأنّ كراهته محرّمة ، فيجتمع الوجوب والحرمة في واحد شخصي ، إلاّ أنّه لمّا كان الوجوب توصّليا ، فلا ضير أن يتعلّق بواجب ، ويتّصف بالحرمة لذلك ؛ لأنّه إذا

ص: 657


1- تقدّم في ص 654 - 655 ، وضمير « عليه » راجع إلى الاعتراض.

فرض أنّ المكلّف عصى وكره المأمور به ، وأراد الواجب الموسّع ، وحصل له التوصّل إلى المطلوب ، سقط ذلك الوجوب التوصّلي عن المقدّمة ؛ لفوات الغرض منه.

قلت : سقوط الواجب حينئذ لا ينفع لدفع ما ذكر ؛ إذ يلزم اجتماع الوجوب والحرمة قبل فعل المقدّمة وحين فعلها وإن سقط بعد فعلها. وقد ظهر ممّا ذكر أنّه بعد التزام وجوب مقدّمة الواجب ، وحرمة مقدّمة الحرام وملزومه ، لا بدّ من التزام كون الأمر المضيّق بالشيء نهيا عن ضدّه الخاصّ ، وبدون منعهما لا يمكن إبطاله ، وهو بعد ما عرفت من إثباتهما بالأدلّة القاطعة [ دونه ] (1) خرط القتاد (2).

وبعضهم منع استحالة اجتماع الحرمة مع الوجوب التبعي وقال : المحال اجتماعها مع الوجوب الأصلي (3).

ويدفعه عموم الأدلّة.

وبعض آخر منع الاستحالة إذا اختلف الموضوع ، وقال : هنا كذلك (4) ؛ لأنّ وجوب المأمور به في وقت معيّن إنّما يقتضي تحريم الصارف عنه من حيث وقوعه في ذلك الوقت ، أي تحريم إيقاعه فيه ، لا تحريم ذاته وماهيّته من حيث هي ، ووجوب الضدّ موسّعا يقتضي وجوب ماهيّة الصارف الذي [ تركه ] (5) مقدّمة له ، لتوسّع ما يتوقّف عليه ، فمتعلّق الحرمة خصوصيّة إيقاعه في الزمان المخصوص ، ومتعلّق الوجوب ماهيّته من حيث هي ، من دون ملاحظة خصوصيّة الزمان معه ، فلا يتواردان على موضوع واحد.

وعموم الأدلّة أيضا يدفعه ؛ لأنّ تغيير (6) الحيثيّات لا يغيّر الموضوع ، ومعه يصدق أنّ الاجتماع في واحد شخصي (7).

فإن قيل : يلزم من كلّ من أصل المطلوب وأدلّته تحريم الواجب وانتفاء المباح ؛ إذ لو كان

ص: 658


1- اضيف بمقتضى الضرورة.
2- هو مثل يضرب لبيان كون الأمر صعبا جدّا.
3- راجع معالم الدين : 70 - 71.
4- أي الموضوع مختلف.
5- ما بين القوسين اضيف لتكون الصلة جملة.
6- في « ب » : « تغيّر ».
7- راجع معالم الدين : 70 و 71.

الأمر بالشيء نهيا عن ضدّه ، أو وجب مقدّمة الفعل المأمور به ، أو حرم مقدّمة الحرام وملزومه ، لحرمت الصلاة من حيث إنّها ترك الحجّ وأداء الدين ، ومن حيث إنّ تركها يتوقّف عليه فعلهما ، وإنّ فعلها يستلزم تركهما ، وحرم الأكل والشرب والنوم وغيرها من المباحات من حيث إنّ فعلها ترك لضدّها المأمور به ، وإنّ تركها يتوقّف عليه فعله ، وإنّ فعلها يستلزم تركه.

قلت : نحن نلتزم حرمة الواجب الموسّع أو المباح إذا كان ضدّا للواجب المضيّق ، وكان تركه ممّا يتوقّف عليه فعله ، وفعله مستلزما لتركه ، وهل الكلام إلاّ في ذلك؟ وأيّ استبعاد فيه بعد قيام الحجّة عليه؟ ولا يلزم منه حرمة كلّ واجب موسّع في كلّ وقت ، بل حرمة بعض أفراده في وقت كون ضدّه مأمورا به لا في كلّ وقت ، ولا حرمة كلّ مباح ؛ ليلزم مثل شبهة الكعبي (1) ، بل حرمة بعض أفراده في الوقت المذكور.

ومنها : أنّه لو لم يكن الضدّ منهيّا عنه ، لجاز فعله ، فيفرض فعله والاتّصاف به ، ونقول في هذا الوقت : إمّا يجب امتثال ذلك الأمر المضيّق أم لا.

فعلى الأوّل : يلزم الأمر بإيجاد ضدّ في الأمر بإيجاد ضدّ في وقت وجود ضدّه ، وهو تكليف بالجمع بين الضدّين ، وهو محال.

وعلى الثاني : يلزم خروج الواجب المضيّق عن كونه واجبا مضيّقا ، فالأمر بالحركة فورا لو لم يستلزم النهي عن السكون ، لزم إمّا التكليف بإيجاد الحركة والسكون في وقت واحد ، أو عدم كون الحركة مأمورا بها ، وكلاهما باطل.

وعلى هذا لو كان الضدّ عبادة ، لزم بطلانها لو فعلت في الوقت المأمور به ؛ لأنّ النهي يقتضي البطلان ، وإلاّ لزم كون شيء واحد واجبا وحراما ، أو ندبا وحراما ، وهو باطل. هذا.

وممّا يؤيّد المطلوب من السمعيات قوله تعالى : ( إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) (2) وما ورد من الأخبار في موارد جزئيّة من الحكم ببطلان عبادة مضادّة للمأمور به ، كبطلان صلاة من لم يترك في سعة الوقت (3) ، وغير ذلك.

ص: 659


1- حكاه الغزالي في المستصفى : 66 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 193 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 111.
2- المائدة (5) : 27.
3- لم نعثر على حديث في كتب الأحاديث ولكن أفتى به الفقهاء ، منهم الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 142 ، القاعدة 42.

وأنت خبير بأنّ هذه الأدلّة إنّما تنتهض حجّة إذا كان المأمور به واجبا مضيّقا ، والضدّ واجبا موسّعا ، أو مستحبّا ، أو مباحا ، وأمّا إذا كان واجبا مضيّقا ، فلا ؛ لأنّ كليهما حينئذ واجبان مضيّقان (1) قد امر بهما ، فمن أين يقدّم أحدهما؟ فالنهي عن الضدّ بالأمر المضيّق ينحصر بما إذا كان الضدّ مباحا ، أو مستحبّا ، أو واجبا موسّعا دون ما إذا كان مضيّقا.

وقد عرفت (2) سابقا أنّ المأمور به إذا كان أحد المضيّقين يحصل بحسب التركيب الثنائي سبعة أقسام :

أربعة منها ما يكون الضدّ فيه واجبا موسّعا ، فيلزم فيها من الأمر النهي عنه ؛ لأنّ الوقت المضيّق لمّا تعيّن لإيقاع الواجب المضيّق فيه ، خرج عن أن يكون وقتا للواجب الموسّع ، وإلاّ لما كان فائدة في جعل هذا الوقت المضيّق - الذي ليس إلاّ بقدر ما يفعل فيه الواجب المضيّق - وقتا له على التعيين ، فلو فعل الموسّع فيه كان باطلا ، فمنع خروجه عن وقته الموسّع ، وادّعاء وجود الفائدة - نظرا إلى أنّ الفائدة عصيان المكلّف بترك الواجب المضيّق فيه ، وإن كان مؤدّيا للواجب الموسّع لو أتى به - فيه مكابرة.

وثلاثة منها يكون الضدّ فيها واجبا مضيّقا :

الأوّل : أن يكون المأمور به والضدّ واجبين مضيّقين ، موقّتين.

الثاني : أن يكونا مضيّقين مطلقين (3).

الثالث : أن يكون أحدهما مطلقا والآخر موقّتا.

ولا يلزم في شيء منها من الأمر النهي عن الضدّ.

وتوضيح ذلك : أنّه لو كانا مضيّقين موقّتين - كما إذا أخّر المكلّف الواجبين الموسّعين إلى أن يبقى من الوقت مقدار ما يفعل فيه أحدهما ولا يتصوّران في الشرعيّات فيما عدا ذلك ؛ إذ لم يرد في الشرع من هذا القبيل غيره - لم يمكن الاحتجاج على بطلان أحدهما ؛ لتعلّق الأمر بكلّ منهما من غير أن يكون أحدهما أهمّ من الآخر ، بل ما يقتضيه القواعد

ص: 660


1- كذا في النسختين. والأولى : « واجب مضيّق ».
2- في ص 652.
3- مرّ في ص 652 ما في الجمع بين التضييق والإطلاق ، فراجع.

حينئذ وجوب كلّ منهما ، إلاّ أنّ المكلّف يتخيّر في إيقاع أيّهما شاء ؛ لاستحالة إيقاعهما في وقت لا يسعهما ، ويلحقه الإثم إن كان التأخير لتقصيره ، وليس وجوب كلّ منهما فيه تكليفا بالمحال ؛ لأنّه لم يكلّف ابتداء بإيقاعهما فيه ، بل ذلك إنّما لزم من تأخيرهما إليه ؛ لأنّه لمّا كلّف بأن يقدّم واحدا منهما عليه ، ولا يؤخّرهما إليه ، وتركهما معا فيما تقدّم ، فلا بدّ أن يأتي بهما فيه لا للإيجاب الابتدائي ، بل لسوء اختياره ، ولذا لو عوقب حينئذ على ترك واحد منهما ، لما عدّ قبيحا.

والحاصل أنّ نسبة آخر الوقت إلى الواجبين كنسبة أوّله ووسطه إليهما ، فكما أنّهما متّصفان بالوجوب فيهما من غير لزوم محال ؛ لكون الوجوب راجعا إلى التخييري بحسب أجزاء الوقت ، فكذا في آخره ، إلاّ أنّ التخيير في أوّل الوقت إنّما هو بالنظر إلى ما بعده - أي إن شاء المكلّف أتى به فيه ، وإن شاء أتى به فيما بعده ، أي في الوسط ، أو آخره - وفي وسطه بالنسبة إلى ما قبله وما بعده ، وفي آخره بالنظر إلى ما قبله لا إلى ما بعده ، بل يجب أن لا يؤخّر عنه ، فالتخيير بالنظر إلى ما قبله ، والتحتّم بالنظر إلى ما بعده ، فلا منافاة ، ولمّا كان إيجابهما في هذا الوقت بالإيجاب السابق الذي نسبته إلى أوّل الوقت ووسطه وآخره نسبة واحدة بالنحو المذكور ، فلا يرد أنّ وجوب كلّ منهما فيه تكليف بالمحال ، ولا يجدي إمكان إيقاعهما قبله ؛ لأنّ الفرض أنّه قد فات.

وأمّا لو كانا مضيّقين مطلقين - كأداء الدين ، وإزالة النجاسة عن المسجد - فلا يمكن الاحتجاج على النهي عن أحدهما بتعلّق الأمر بالآخر ؛ لتساويهما فيه ، فكلّ منهما من أوّل وقت وجوبهما إلى أن يمضي قدر ما يفعل فيه أحدهما من الزمان يجب تخييرا لا عينا ، ولا يعصي المكلّف باختيار أحدهما ؛ لأنّ وجوبهما فيه ابتدائي لا يمكن أن يكونا معا متحتّمين فيه ، وإلاّ لزم التكليف بالمحال ، وإذا مضى من أوّل وقت وجوبهما ما يفعل فيه أحدهما ، فيصير حكمهما كحكم الموقّتين من دون تفاوت ، إلاّ أنّه لمّا كان هنا مأمورا بامتثال أحدهما في الجزء الأوّل من الوقت ، والآخر في الثاني ، فأخّر الأوّل إلى الثاني ، والثاني إلى الثالث ، فيلحقه إثمان.

وممّا ذكر يعلم حال ما لو كان أحدهما مضيّقا مطلقا ، والآخر مضيّقا مقيّدا. هذا.

ص: 661

واحتجّ من أنكر استلزامه له بما احتجّ به المنكر لتضمّنه للنهي عن الضدّ العامّ من ذهول الآمر عن الأضداد الخاصّة والكفّ عنها ، مع أنّ دلالته على النهي تستلزم تعقّلها وتعقّل الكفّ عنها (1).

وقد عرفت هناك (2) جوابا يصلح أن يكون جوابا هنا. على أنّ هذا الاحتجاج هنا على ما اخترناه - من أنّ دلالته عليه بالالتزام المعنوي - ساقط من أصله ؛ فإنّه يتوجّه على القائل بالالتزام اللفظي وهو عندنا باطل ؛ لأنّ شرطه اللزوم العقلي أو العرفي ، ونحن نقطع بأنّ تصوّر معنى الأمر لا يحصل منه الانتقال إلى تصوّر الضدّ الخاصّ والكفّ عنه.

واحتجّ هذا القائل بأنّ أمر الإيجاب طلب فعل يذمّ على تركه ، فالذمّ بالترك من معقول الإيجاب (3) فلا ينفكّ عنه تعقّلا ، ولا ذمّ إلاّ على فعل ؛ لأنّه المقدور ، وما هو هاهنا إلاّ الكفّ عن الفعل أو فعل ضدّه ، وكلاهما ضدّ للفعل ، والذمّ بأيّهما كان فهو يستلزم النهي عنه ؛ إذ لا ذمّ بما لم ينه عنه ؛ إذ هو معناه (4).

والجواب : أنّ ما لا ينفكّ عن الإيجاب - على فرض تسليمه - هو الذمّ على الترك ، أعني عدم الفعل - أي استمراره وعدم قطعه - فلا يرد أنّه لا ذمّ عليه ؛ لكونه أزليّا غير مقدور عليه. أو الكفّ (5) ، لا الذمّ على فعل الضدّ ، فيلزم منه استلزامه لفظا للنهي عن الضدّ العامّ لا الخاصّ ، بل استلزامه له معنوي ، كما ذكرناه (6).

فإن قلت : لو كان الذمّ على نفي الفعل ، أو الكفّ (7) ، لكان النفي أو الكفّ منهيّا عنه ، والنهي هو طلب النفي أو الكفّ ؛ فالنهي عن النفي طلب النفي عن النفي ، والنهي عن الكفّ طلب الكفّ عن الكفّ ؛ فيلزم وجوب تصوّر النفي عن النفي ، أو الكفّ عن الكفّ لكلّ آمر بشيء ،

ص: 662


1- قاله الشيخ في العدّة في أصول الفقه 1 : 197 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 192 ، وحكاه الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 136 ، القاعدة 40.
2- في ص 654.
3- والمراد أنّ « الذمّ بترك الفعل » داخل في مفهوم الإيجاب.
4- حكاه الشيخ حسن في معالم الدين : 67.
5- عطف على « الترك ».
6- تقدّم في ص 654.
7- عطف على « نفي ».

وهو باطل ؛ لأنّه لا يخطر ذلك بباله أصلا.

قلت : منع الخطور ممنوع ، مع أنّه قد تقدّم (1) أنّ التضمّن هو اللزوم بحسب الواقع ، وتصوّر المدلول التضمّني غير لازم على الآمر. هذا.

وقد عرفت فيما تقدّم (2) أنّ المطلوب من النهي ما ذا على التحقيق.

إذا عرفت ذلك ، فيتفرّع على كون الأمر المضيّق مستلزما للنهي عن ضدّه إذا كان واجبا موسّعا على ما اخترناه بطلان العبادات الواجبة الموسّعة عند الأمر بردّ الوديعة ، وأداء الدين ، وإزالة النجاسة عن المسجد ، وبطلان الصلاة بترك جواب السلام ، وبعدم تحذير الأعمى لو أشرف على السقوط في بئر ، أو نحوه مع انحصار التحذير به.

والقائل بعدم الاستلزام حكم بعدم البطلان في جميع الصور المذكورة.

وبعضهم فرّق في الصورتين الأخيرتين بين ما لو سكت المصلّي عن القراءة وقت الردّ والتحذير ، وما لم يسكت ، فأبطل الصلاة بالثاني دون الأوّل ؛ لأنّه ليس في تلك الحال منهيّا عن جزء الصلاة ، ولا عن شرطها (3).

ولقائل أن يقول : إنّه منهيّ حينئذ عن شرطها ، وهي الاستدامة الحكميّة. وكيف كان ، هذا العرف مبنيّ على القول بالاستلزام.

ثمّ على ما أصّلناه واخترناه يقتضي البطلان في جميع الصور المذكورة ، ولو لم نحكم به في بعضها ، فإنّما هو بدليل من خارج.

ويتفرّع على الاستلزام إذا كان الضدّ مباحا حرمة الأكل والشرب والنوم وغير ذلك من المباحات عند أمر فوري إذا كانت أضدادا له ، وحرمة السفر إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة بمن (4) يجب عليه.

ويتفرّع على الاستلزام إذا كان الضدّ ندبا بطلان صلاة النافلة في وقت الكسوف

ص: 663


1- في ص 653.
2- في ص 653.
3- قاله الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 137 ، القاعدة 40.
4- كذا في النسختين. والأولى : « لمن ».

بشرط أن يفوته الفرض (1) بسبب الاشتغال بها.

وممّا قدّمناه يعلم فساد قول من حكم بصحّتها (2) حينئذ ؛ نظرا إلى أنّه لا تناقض في إيجاب عبادة في وقت خاصّ ، واستحباب اخرى فيه. ولذا يصحّ التصريح بذلك. وكيف يصحّ مع أنّها لا تنفكّ عن الإثم ، ويصحّ من الشارع أن يطلب من العباد ما يوجب العصيان؟!

وما قيل : إنّ موجب العصيان هو إرادة ترك الواجب ، واستحبابها على تقدير هذه الإرادة (3) ، فكأنّه قال : إن أردت الواجب فلا أطلب منك غيره ، وإن لم ترده فقد عصيت ، ولكن حينئذ أطلب منك هذا المندوب ، ظاهر الفساد ؛ لأنّ إرادة الواجب مطلوبة حتما ، فترك ما ينافيها أيضا مطلوب.

ويظهر من هذا عدم صحّة ما يقع في وقت يكون بعض هذا الوقت وقتا لواجب مضيّق.

وممّا يتفرّع على هذا الأصل حنث من حلف أن لا ينهى زيدا عن شيء فأمره بشيء ، ووقوع الظهار لو علّقه على مخالفة نهيه ، ثمّ قال لها : « قومي » فقعدت.

ويتفرّع على ثبوت التخيير مع العصيان إذا كان المأمور به والضدّ واجبين مضيّقين ، أو مطلقين ، أو موقّتين ، أو أحدهما مطلقا والآخر موقّتا تخيير المكلّف بين أداء الصلاة اليوميّة ، والكسوف في وقت لا يسع إلاّ أحدهما ، وتخييره بين أداء الدين عند طلبه ، وإزالة النجاسة من المسجد ، وتخييره بين قضاء الحجّ وأداء المهر إلى الزوجة مع اليسار ومطالبتها إيّاه في وقت لا يسعهما معا ، وتخييره بين أداء الدين وقضاء صلاة يوميّة إذا تعارضا في وقت لا يسع أكثر من أحدهما.

وربما رجّح أحد المضيّقين في بعض الصور بجهات خارجيّة ، وينتفي التخيير حينئذ ، كما إذا وقع التعارض بين الصلاة في وقتها المضيّق ، وحفظ النفس بحيث لو اشتغل بالصلاة خاف على نفسه الهلاك ، فيجب حينئذ محافظة النفس وترك الصلاة ، ولو أتى والحالة هذه لم تكن صحيحة.

ص: 664


1- في « ب » : « الفرائض ».
2- راجع مفتاح الكرامة 9 : 111 - 113.
3- المصدر.

المقام الخامس : في أنّ النهي عن الشيء يستلزم معنى الأمر بأحد أضداده.

والحجّة على ذلك أنّ المطلوب من النهي إن كان فعل ضدّ المنهيّ عنه حتّى يكون معنى « لا تتحرّك » اسكن - كما ذهب إليه جماعة (1) على ما تقدّم (2) - فيكون النهي عن الشيء عين الأمر بضدّه ، فضلا عن أن يكون مستلزما له ؛ وإن كان المراد منه الكفّ ، وتوطين النفس عليه ، أو نفي الفعل - على ما اخترناه - فلا ريب في أنّ تحقّقه في الخارج يتوقّف على فعل أحد أضداده ، فيكون واجبا من باب المقدّمة.

وأيضا فعل المنهيّ عنه حرام ، وهو يتوقّف على ترك جميع أضداده ، فيكون حراما ؛ لأنّ مقدّمة الحرام حرام.

وأيضا ترك جميع أضداده ملزوم لفعله ، فيكون حراما ؛ لأنّ مستلزم الحرام حرام.

وممّا يؤيّد ذلك أنّ ترك كلّ شيء حراما كان أو واجبا يحصل بترك أيّ مقدّمة من مقدّمات وجود هذا الشيء - أي تركها علّة لترك هذا الشيء ، وإن كان فعلها شرطا لوجوده - لأنّ عدم كلّ جزء من أجزاء العلّة التامّة علّة تامّة لعدم المعلول ، وعلى ما تقدّم في المقام السابق ترك ضدّ المنهيّ عنه شرط لفعله ، ففعل ضدّه علّة وسبب لتركه ، ووجوب المعلول يستلزم (3) وجوب علّته.

ثمّ الأدلّة المذكورة هنا لمّا كانت كالأدلّة المتقدّمة في المقام السابق تقريرا ، فهي مثلها اعتراضا وجوابا ، وكما اورد عليها هناك لزوم حرمة الواجب والمباح ، يورد عليها هنا لزوم وجوب المحرّم ، وقول الكعبي ، وهو وجوب كلّ مباح (4) ؛ لأنّه يلزم حينئذ وجوب اللواط من حيث إنّه ترك للزنا ، وبالعكس ، ووجوب الأكل والشرب ، أو غيرهما من المباحات من حيث إنّ ترك الحرام لا بدّ وأن يتحقّق في ضمن فعل من الأفعال ؛ ولا ريب في وجوب ذلك

ص: 665


1- منهم : الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 194 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 142.
2- تقدّم في ص 651.
3- الاستلزام من ناحية المعلول للعلّة وجودا ووجوبا في مقام الإثبات دون الثبوت.
4- تقدّم في ص 659.

الترك ، فلا يجوز أن يكون الفعل المتحقّق في ضمنه مباحا ؛ لأنّه لازم للترك ، ويمتنع اختلاف المتلازمين في الحكم. وقد علمت الجواب هناك (1).

والجواب هنا أمّا عن الأوّل : فبأنّ الواجب هنا [ من ] (2) أضداد المنهيّ عنه ، أحدها الذي لم يكن حراما ، كما أنّ المحرّم من أضداد المأمور به ، هو الذي لم يكن واجبا مضيّقا.

و [ الجواب ] أمّا عن الثاني : فقد يظهر ممّا تقدّم في دفع شبهة الكعبي (3).

وقد ظهر ممّا ذكرناه أنّ استلزام الأمر للنهي عن جميع أضداده يتقوّى بوجوب مقدّمة الواجب ، وحرمة مقدّمة الحرام وملزومه. ويضعّف بلزوم تحريم الواجب والمباح ، كما يضعّف ما يقوّيه أيضا به ، وإن كان الضعيف ضعيفا ، واستلزام النهي عن الشيء أمرا بأحد أضداده يتقوّى بهما أيضا ، ويضعّف بلزوم وجوب المحرّم والمباح ، كما يضعّفان أيضا به ، وإن كان مندفعا. هذا.

والحجّة على عدم كون النهي عن الشيء عين الأمر بأحد أضداده ما تقدّم (4) في نفي العينيّة في الأمر.

واحتجّ القائل به بما احتجّ به القائل بالعينيّة في الأمر (5) ، والجواب الجواب.

وبأنّ النهي طلب ترك الفعل ولا يتعلّق الطلب بغير الفعل ؛ لأنّه المقدور دون غيره ، فيكون الترك فعلا ، وليس فعل غير الضدّ ، فهو فعل أحد الأضداد ، فيكون مطلوبا ، وهو معنى كونه مأمورا به (6).

والجواب : أنّ المطلوب في النهي عدم الفعل وهو مقدور ، كما عرفت (7) ، أو الكفّ. ولا يلزم كونه نفس الأمر بأحد الأضداد الجزئيّة ، نعم ، هو يستلزمه عقلا ، كما ذكرناه (8).

ص: 666


1- تقدّم في ص 650.
2- اضيف للضرورة.
3- تقدّم في ص 659.
4- تقدّم في ص 649.
5- تقدّم في ص 649.
6- حكاه الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 135 ، القاعدة 40.
7- في ص 651.
8- تقدّم في ص 653.

واحتجّ من أنكر العينيّة والاستلزام أيضا بلزوم وجوب المحرّم والمباح (1) ، وقد عرفت جوابه (2).

وبأنّ النهي طلب كفّ عن فعل يذمّ فاعله ، والأمر طلب فعل غير كفّ ، وطلب فعل هو كفّ لا يستلزم طلب فعل غير كفّ (3).

والجواب : ما عرفته (4) من استلزام الكفّ لفعل أحد الأضداد الوجوديّة.

فإن قيل : لو كان الأمر بالشيء نهيا عن جميع أضداده ، والنهي عن الشيء أمرا بأحد أضداده ، كما اخترت ، فإذا فرض أضداده ثلاثة وما فوقها ، فالأمر بأحدها يستلزم النهي عن كلّ واحد من الباقين ، والنهي عن كلّ واحد منها يستلزم الأمر بالآخر ، والأمر به يستلزم النهي عن جميع ما يضادّه ، ومن جملته الضدّ الأوّل الذي كان مأمورا به ، فمن استلزام النهي عن أحدهما للأمر بالآخر ، يلزم أن يكون الآخر منهيّا عنه ومأمورا به ، ومن استلزام الأمر بالآخر النهي عن جميع ما يضادّه يلزم كون الضدّ الأوّل مأمورا به ومنهيّا عنه ، وهو باطل.

والجواب : أنّ استلزام النهي عن كلّ واحد منهما للأمر بالآخر غير مسلّم ؛ لأنّ النهي عن الشيء يقتضي الأمر بأحد أضداده على سبيل التخيير ، فإذا انحصر أضداده بفردين واحد منهما منهيّ عنه مثله ، يتعلّق الأمر بضدّه الآخر ، وهو الذي كان مأمورا به صريحا أيضا.

وإذا عرفت ذلك ، فكيفيّة التفريع أنّه إذا ورد النهي عن فعل خاصّ ، كالزنا ، أو شرب الخمر يجب تخييرا أن يرتكب المنهي لتحقّق الترك فعلا ينافي المنهيّ عنه.

المقام السادس : في أنّ أمر الندب يستلزم كراهة الضدّ العامّ ، ونهي الكراهة يستلزم استحباب الضدّ العامّ ، وأحد الأضداد الخاصّة.

والحجّة على الأوّل : توقّف فعل المندوب على الكفّ عن تركه ، فيكون الكفّ عن تركه راجحا ؛ لأنّ ما يتوقّف عليه الراجح راجح ، فيكون نقيضه أعني تركه مرجوحا ، وهو المكروه.

ص: 667


1- قاله الغزالي في المستصفى : 66 ، ونسبه الآمدي إلى الكعبي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 193.
2- في ص 651.
3- حكاه الشيخ حسن في معالم الدين : 66.
4- في ص 662.

والحجّة على الثاني : أنّ فعل المكروه يتوقّف على الكفّ عن تركه وترك الأضداد الخاصّة وما يتوقّف عليه المرجوح مرجوح ، فيكون نقيضاهما - أعني تركه ، وفعل أحد أضداده الخاصّة - راجحين ؛ نظرا إلى تعريف المكروه ، وهو الاستحباب.

وأيضا فعل ضدّه الخاصّ ملزوم لتركه ، وهو راجح ؛ نظرا إلى تعريفه ، وملزوم الراجح راجح.

وأيضا يلزم من تعريفه ندبيّة ضدّه العامّ ، وهو يتوقّف على فعل أحد أضداده الوجوديّة الخاصّة ؛ فيكون مندوبا ؛ لأنّ ما يتوقّف عليه المندوب مندوب.

وهذه الأدلّة وإن أمكن أن يورد عليها مثل المناقشات المتقدّمة (1) إلاّ أنّها مندفعة بمثل ما ذكر من الجواب.

هذا ما يقتضيه النظر ، والظاهر من كلام القوم أنّ ترك كلّ مندوب ليس مكروها ، وكذا العكس (2) ، بل اتّصاف ترك كلّ منهما بالآخر في بعض الموادّ دون بعضها الآخر.

وربّما ظهر من كلام بعض ثبوت الاتّصاف في جميع الموادّ (3).

وقال جماعة : إنّ الترك لا يكون حكما (4) من الأحكام الخمسة ؛ لكونه عدميّا (5) ، وردّوه فيما جعل حكما إلى الوجودي ، كالاستمرار ، أو الكفّ ، أو فعل الضدّ (6). وقد تقدّم (7) سابقا بيان ذلك مفصّلا ، وذكرنا هناك أنّ كلام القوم هنا غير منقّح.

وممّا ذكر تعلم أنّ كلّ ما يجري في أمر الإيجاب ونهي التحريم - من الحجج والاعتراضات والأجوبة - يجري في أمر الندب ، ونهي الكراهة ، فتخصيص الحكم بالأوّلين تحكّم إلاّ فيما نذكره من عدم اقتضاء أمر الندب للنهي عن ضدّه الخاصّ ؛ لدليل من خارج.

واحتجّ من خصّ النهي عن الضدّ الخاصّ والعامّ أيضا بأمر الإيجاب دون الندب بأنّ أمر

ص: 668


1- أي في دلالة الأمر على النهي عن ضدّه بأقسامه وأجوبتها.
2- راجع تمهيد القواعد : 34 - 36 ، القاعدة 2.
3- راجع تمهيد القواعد : 35 و 36 ، القاعدة 2.
4- في إطلاق الحكم على الترك وسلبه عنه مسامحة واضحة والمراد كونه ذا حكم.
5- قاله الشهيد الثاني ونسبه أيضا إلى متأخّري الاصوليّين في تمهيد القواعد : 34 و 36 ، القاعدة 2.
6- ردّه المطيعي ونسبه أيضا إلى القاضي البيضاوي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 2 : 292.
7- في ص 653.

الوجوب لمّا كان مستلزما للذمّ على الترك ، فاستلزم النهي التحريميّ عن الضدّ ، وأمّا أمر الندب ، فلا يقتضي إلاّ رجحان الفعل ، ولا يستلزم ما يصير سببا للنهي التنزيهي (1).

والجواب عنه : ما عرفته (2) من وجود ما يستلزم كراهة الضدّ.

إذا عرفت ذلك ، فكيفيّة التفريع أنّه يكون ترك كلّ مستحبّ مكروها ، وترك كلّ مكروه مستحبّا ، وما يفعل من الأضداد الخاصّة للمكروه يكون مستحبّا.

المقام السابع : في أنّ أمر الندب لا يستلزم كراهة الضدّ الخاصّ ، وذلك لأنّ مثل الأدلّة التي تدلّ على أنّ أمر الإيجاب يستلزم حرمة الضدّ الخاصّ ، ونهي الكراهة يستلزم استحباب أحد أضداده ، وإن دلّت على أنّه أيضا يستلزم كراهة الضدّ - بأن يقال : فعل ضدّه الخاصّ ملزوم لتركه ، وهو مرجوح بالنسبة إلى فعله ، وملزوم المرجوح مرجوح. أو يقال : تركه مرجوح ، وهو يتوقّف على فعل الأضداد الخاصّة ، فيكون مرجوحا ؛ لأنّ ما يتوقّف عليه المرجوح مرجوح. أو يقال : فعل المندوب يتوقّف على ترك كلّ من الأضداد الخاصّة ، فيكون تركها راجحا ؛ لأنّ ما يتوقّف عليه الراجح راجح ، فيكون نقيضه أعني فعلها مرجوحا ، فيثبت كراهته - إلاّ أنّ هنا قاطعا يدلّ على خلافه ، وهو لزوم انتفاء المباح رأسا ، إذ ما من وقت إلاّ ويندب فيه فعل ؛ فإنّ استغراق الأوقات بالمندوبات مندوب ، بخلاف الواجب ، فإنّه لا يستغرق الأوقات ، فيكون الفعل في غير وقت لزوم أداء الواجب مباحا ، فلا يلزم انتفاء المباح رأسا.

فإن قيل : ترك الحرام واجب ، وترك المكروه مستحبّ ، وهما يستغرقان الأوقات ، فيرد عليهما ما يرد عليه.

قلت : الترك لمّا كان أمرا عدميّا ممكن التحقّق في ضمن ضدّ واحد ، فغير متّصف بحقيقة الوجوب ، أو الكراهة في جميع الأوقات ، بل إذا كان (3) مسبوقا بإرادة الفعل ، أو مقارنا

ص: 669


1- قاله ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 327 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 192.
2- تقدّم في ص 667.
3- أي الترك.

للشعور والقدرة ، لا في كلّ وقت ثبوته وإن لم يخطر بالبال ، فلا يرد عليهما لزوم انتفاء المباح ؛ لإمكان دفعه بأحد الجوابين اللذين ذكرناهما لدفع شبهة الكعبي (1) ، ولا يمكن دفعه عن اقتضاء المندوب كراهة الضدّ ؛ لأنّ القول به يقتضي كراهة جميع الأضداد في جميع الأوقات من غير اختصاص بوقت دون وقت ، أو ضدّ دون ضدّ ، ووجهه ظاهر ، فيلزم انتفاء المباح رأسا.

إذا عرفت ذلك ، فكيفيّة التفريع ظاهرة عليك.

تتمّة

اعلم أنّ بعضهم عدل عن قولهم : الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضدّ ، إلى قوله : الأمر بالشيء يقتضي عدم الأمر بالضدّ ، معتذرا بأنّ إثبات الأوّل مشكل بخلاف إثبات الثاني (2) ، ولا يختلف به (3) التفريع في العبادات ؛ لأنّ ما ليس منها بمأمور به يكون محرّما باطلا ، والمنهيّ منها كذلك. وأمّا في غيرها ، فيختلف به التفريع ؛ لأنّه إذا كان منهيّا عنه يكون محرّما ، وأمّا إذا لم يكن منهيّا عنه ولا مأمورا به ، فيبقى على إباحته الأصليّة.

وأنت خبير بعدم الفرق بين الترجمتين من حيث الإثبات بالأدلّة وعدمه ؛ فإنّ التفصيل الذي ذكرناه في الترجمة الاولى جار في الثانية من غير فرق ؛ لأنّ المأمور به لو كان واجبا موسّعا ، فكما لا يستلزم الأمر به النهي عن ضدّه ، فكذا لا يستلزم عدم الأمر به ، وإن كان واجبا مضيّقا ، فكما يستلزم الأمر به النهي عن ضدّه إذا لم يكن واجبا مضيّقا ، فكذا يستلزم عدم الأمر به ، غاية الأمر أنّه (4) بطريق أولى. وإن كان الضدّ أيضا واجبا مضيّقا - كما إذا أخّر واجبين موسّعين إلى آخر وقتهما - فكما لا يستلزم الأمر بأحدهما النهي عن الآخر ، فكذا لا يستلزم عدم الأمر به ؛ لما ذكر. ولا يجوز فيما عدا ذلك اجتماع واجبين مضيّقين ؛ لأنّ

ص: 670


1- تقدّمت في ص 659.
2- قاله المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 2 : 309.
3- أي بالعدول والمراد أنّ لازم كلا الاقتضاءين هو فساد العبادة ؛ لأنّها تفسد بعدم الأمر فضلا عن كونها منهيّا عنها.
4- أي استلزام عدم الأمر بطريق أولى ، لأنّ عدم الأمر لازم لكون الفعل حراما وإلاّ يلزم اجتماع الضدّين.

التكليف الابتدائي بهما تكليف بالمحال. وإنّما أطنبنا في المقام ليكون تفصيلا لما أجملوه ، وتوضيحا لما أهملوه.

فصل [10]

الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرا بذلك الشيء ، فقول السيّد لعبده غانم : « مر سالما ببيع هذه السلعة » ليس أمرا منه لسالم ببيعها ؛ لأنّه لو كان لكان ، قولك للغير : « مر عبدك بكذا » تعدّيا ؛ لأنّه أمر لعبد الغير ، وقول المولى لأحد عبديه : « مر الآخر بكذا » مناقضا لقوله للآخر : « لا تطعه » وليس كذلك ، ولزم كون الرجل آمرا لنفسه إذا أمر غيره أن يأمره بفعل ، ويؤيّده قوله عليه السلام لأولياء الأطفال : « مروهم بالصلاة لسبع » (1) للقطع بأنّ الطفل ليس مأمورا بالصلاة من قبل الشارع.

احتجّ الخصم بأنّ ذلك مفهوم من أمر اللّه رسوله أن يأمرنا ، وأمر الملك وزيره أن يأمر فلانا بكذا (2).

والجواب : أنّ محلّ النزاع أمر الآمر غيره بالأمر من قبل نفسه ، لا من قبل الآمر بأن يكون مبلّغا ، والرسول والوزير مبلّغان لأمر اللّه وأمر الملك. ويعلم من ذلك أنّه لو قامت القرينة على أنّ المراد من الأمر بالأمر التبليغ ، أو علم أنّ الآمر الأوّل أوجب إطاعة الأمر (3) الثاني ، كان الأمر بالأمر بالشيء أمرا بذلك الشيء ، وإلاّ فلا ؛ لعدم ما يقتضيه ، بل القدر اليقيني حينئذ كونه أمرا من قبل الثاني ؛ إذ كونه تبليغا شيء زائد يحتاج إلى دليل.

وكيفيّة التفريع أنّه لو قال الموكّل لوكيله زيد : « وكلّ عمرا عنّي » فيكون عمرو وكيلا عن الموكّل ، وينفذ تصرّفه قبل إذن زيد له.

ولو قال له : « وكّله عنك » يكون وكيل زيد ، ولا ينفذ تصرّفه إلاّ بعد إذن زيد له على

ص: 671


1- كنز العمّال 16 : 442 ، ح 45335.
2- قاله العلاّمة في تهذيب الوصول : 104.
3- في « ب » : « أمر الثاني » ، أي أمر الآمر الثاني.

المختار ، لكن للموكّل المالك عزله على الأصحّ ؛ لأنّه يسوغ له عزل الأصل فالفرع أولى.

ولو قال له : « وكّله » من دون تقييد ، فعلى ما ذكرناه يكون حكمه حكم الثاني.

وقيل : حكمه حكم الأوّل (1) ؛ لأنّ الظاهر هنا كون الوكيل مبلّغا.

ولا يخلو عن وجه.

وممّا يتفرّع عليه استلزام قوله تعالى : ( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ) (2) وجوب الإعطاء ؛ نظرا إلى كون النبيّ صلى اللّه عليه وآله مبلّغا ، ووجوب طاعته ، ولولاهما (3) لم يكن الإعطاء واجبا بمجرّد الأمر بالأخذ.

لا يقال : وجوب الأخذ يتوقّف على الإعطاء ، وما يتوقّف عليه الواجب واجب ، فيجب الإعطاء عليهم ، ولو قطع النظر عمّا ذكر.

لأنّا نقول : الأمر إن كان بالطلب لم يتوقّف على الإعطاء ، وإن كان بالأخذ فيتوقّف عليه ، إلاّ أنّه ليس واجبا على الناس ؛ لأنّ الأخذ لا يجب عليهم ، ومن يجب عليه الأخذ لا يقدر على فعل الغير ، ومقدّمة الواجب إنّما تكون واجبة إذا كانت مقدورة.

فصل [11]

الحقّ أنّ المطلوب من الأمر بفعل مطلق - نحو « اضرب » - الماهيّة من حيث هي ، لا الفعل الجزئي المعيّن (4) المطابق لها ، فلا يدلّ على خصوصيّة الضرب من كونه بسيف ، أو خشب ، أو غير ذلك ، بل مدلوله ليس إلاّ طلب طبيعة الضرب بأيّ نحو كان.

لنا : خروج الخصوصيّة عن حقيقة الفعل ، فلا يدلّ عليه بشيء من الدلالات ، وإجماع الادباء على أنّ المصادر التي ليست منويّة (5) - أي التي في ضمن المشتقّات - موضوعة للطبيعة من حيث هي ، وما اختلف فيه بأنّه للطبيعة أو الفرد المنتشر ، فإنّما هو اسم الجنس ،

ص: 672


1- حكاه الأسنوي في التمهيد : 275 ، والمطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 2 : 292.
2- التوبة (9) : 103.
3- أي كون النبيّ مبلّغا ووجوب طاعته.
4- في النسختين : « المعنى ».
5- كذا في النسختين. والظاهر : « منوّنة ».

وهذا يدفع كونه لجزئي غير معيّن أيضا وإن استلزم طلب الطبيعة طلب أحد الجزئيّات لا بعينه ؛ لأنّ الماهيّة لا توجد إلاّ في ضمن أحد أشخاصها ، إلاّ أنّ دلالته على طلبها وضعيّة ، وعلى طلبه عقليّة ، فلا يتحقّق بيننا وبين من قال بأنّه لفرد لا بعينه (1) نزاع يختلف به الأحكام ؛ لاختصاصه (2) بنحو الدلالة.

احتجّ الخصم بأنّ الماهيّة الكلّية يستحيل وجودها في الأعيان ؛ لأنّها لو وجدت لزم تعدّدها كلّية في ضمن الأشخاص ، فمن حيث إنّها موجودة ، تكون مشخّصة جزئيّة ، ومن حيث إنّها الماهيّة الكلّية تكون كلّية ، وهو محال (3).

والجواب : أنّ المطلوب الماهيّة لا بشرط شيء ، أي الكلّي الطبيعي ، والحقّ وجوده في الأعيان لا بنفسه ، بل في ضمن الجزئيّات ، وإلاّ انتفت الحقائق ، إلاّ أنّ شيئا من المقارنة والتجرّد لمّا لم يكن جزءا أو شرطا له ، فيصدق عليه الكلّية حال المقارنة ، ولا يخرج بها عنها ، ولا ينافي كلّيّته الوجود العيني ، ولا يدخل لأجله في الجزئيّة. ولزيادة التحقيق فيه فنّ آخر. هذا.

وبعض من قال : إنّ الأمر المطلق لا يفيد المرّة والتكرار ، بل هي الطبيعة من حيث هي ، قال هنا : إنّ المطلوب منه الفعل الجزئي الممكن المطابق للماهيّة ، لا الماهيّة (4). وأحد القولين بظاهره يناقض الآخر. ويمكن أن يحمل كلامه هنا على أنّ المطلوب الفرد المنتشر التزاما.

إذا عرفت ذلك ، فكيفيّة التفريع أنّ المأمور بفعل مطلق - عبادة كان أو معاملة - يجوز له إيقاع ما يصدق عليه هذا المطلق وإن كان أنقص أفراده ، إلاّ ما علم بقرينة أنّه غير مراد الآمر.

ثمّ الفعل إن كان معيّنا من جهة ، مطلقا من جهة اخرى ، فلا بدّ من الإتيان بالقدر المعيّن.

ص: 673


1- راجع فواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 1 : 392.
2- أي اختصاص النزوع.
3- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 99.
4- قاله البصري في المعتمد 1 : 98 ، والسرخسي في اصوله 1 : 20 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 204 و 205.
فصل [12]

الأمران المتعاقبان إن تضادّا أو تخالفا ولم يمكن الجمع بينهما (1) ، كان الثاني ناسخا للأوّل ، وإلاّ (2) وجبا معا. ووجهه ظاهر.

وإن تماثلا فإمّا أن لا يكون الثاني معطوفا على الأوّل ، أو يكون معطوفا عليه.

وعلى الأوّل يجب حمل الثاني على التأكيد إن امتنع التكرير عقلا ، نحو : « اقتل زيدا ، اقتل زيدا » ، أو شرعا مثل : « أعتق سالما ، أعتق سالما » ، أو عادة مثل : « اسقني ماء ، اسقني ماء » فإنّ العادة تمنع من تكرار السقي ؛ لرفع الحاجة بمرّة واحدة غالبا ، أو كان الثاني معرّفا بلام العهد ، مثل « صلّ ركعتين ، صلّ الركعتين » وإلاّ فإن فهم التغاير من قرينة ، فيعمل بهما ، وإلاّ فالأقرب عندي أنّ الثاني تأكيد ، فلا يجب إلاّ المرّة.

وقيل : يلزم العمل بهما ، فيجب التكرار (3).

وقيل بالوقف (4).

لنا : أصالة براءة الذمّة عن الزائد ، وأكثريّة التكرير في التأكيد منه بالتأسيس ، والمشكوك يلحق بالأعمّ الأغلب.

احتجّ القائل بوجوب العمل بهما بأنّ التأسيس في المحاورات أكثر ، فيجب حمله عليه ؛ إلحاقا للفرد بالأكثر الأغلب ، وبأنّ فائدته - وهو (5) إيجاب آخر - أولى وأظهر من فائدة التأكيد ، وهو (6) نفي وهم التجوّز ، والحمل على الأولى الأظهر أولى وأظهر. وبأنّ الأمر ظاهر في الوجوب أو الندب أو القدر المشترك ، ولو حمل على التأكيد لم يستعمل في شيء منها (7).

ص: 674


1- هذا قيد لصورة التخالف ، ولا يخفى ما في تعاند المخالفين.
2- أي كانا متخالفين يمكن الجمع بينهما.
3- قاله السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 125 ، والشيخ في العدّة في أصول الفقه 1 : 215 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 206 و 207.
4- قاله البصري في المعتمد 1 : 162.
5- التذكير باعتبار الخبر.
6- التذكير باعتبار الخبر.
7- تقدّم آنفا.

والجواب عن الأوّل : أنّ أكثريّة التأسيس في المحاورات إنّما هي في صورة عدم التكرير ، وأمّا عنده فالتأكيد أكثر ، كما اشير إليه (1).

وعن الثاني : أنّ أولويّة فائدة زائدة في صورة لم يلزم فيها زيادة تكليف ، ومع لزومها فهي منفيّة. ولو سلّمت فهي تعارض بأحد الوجهين اللذين ذكرناهما ، ويبقى الآخر سالما.

وعن الثالث : أنّ حمل اللفظ على التأكيد ، لا يخرجه عن معناه الأصلي ، فالأمر الثاني أيضا مستعمل في أحد الثلاثة ، إلاّ أنّ المأمور به هو الأوّل.

وعلى الثاني (2) يجب العمل بهما ؛ لأنّ العطف دليل التغاير ، ولم يعهد ورود التأكيد بواو العطف ، أو يقل (3) ، فإن اقترن بالثاني مع العطف أحد موانع التكرير ، وقع التعارض بين مقتضي التكرير ومانعة ، فيصار إلى الترجيح ، فيقدّم الأرجح ، ومع فقده يجب الوقف. فلو كان الثاني مع العطف معرّفا باللام ، فإن احتمل كونه لتعريف الطبيعة - كما يحتمل تعريف المعهود - فيكون التكرير أرجح ؛ لأنّ مقتضيه يقيني ، والمانع محتمل. وإن تعيّن كونه لتعريف المعهود وجب الوقف ؛ لتعادلهما. هذا.

ويظهر فائدة الخلاف في مواضع متكثّرة : منها : إذا كرّر الأمر بالطلاق وكان له زوجتان أو أكثر ، أو كرّر الأمر بالعتق وكان له عبيد.

وعلى ما اخترناه لا يخفى حقيقة الحال.

ثمّ لو كان أحدهما عامّا والآخر خاصّا ، مثل « صم كلّ يوم ، صم يوم الخميس » ، فإن لم يكن الثاني معطوفا على الأوّل ، كان تأكيدا ؛ لأنّ الثاني كان داخلا في الأوّل ، فلا معنى للتأسيس ، ولا ينافي عموم الأوّل حتّى يخصّص به.

وإن كان معطوفا عليه ، فقيل : لا يكون حينئذ داخلا تحت الأوّل ، وإلاّ لم يصحّ العطف ؛ لأنّه دليل التغاير (4).

ص: 675


1- اشير إليه بعيد هذا.
2- أي صورة كان المثل فيها معطوفا على مثله.
3- عطف على « يعهد » أي لم يعهد أو لم يقل.
4- قاله السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 130 ، والشيخ في العدّة في أصول الفقه 1 : 217 ، وحكاه البصري عن قاضي القضاة عبد الجبّار في المعتمد 1 : 164.

وقيل : يكون داخلا تحته ؛ لظاهر العموم (1).

وقيل بالوقف ؛ لتعارض ظاهر العموم والعطف (2).

وأنت تعلم أنّ [ مقتضى ] (3) قطعيّة العموم ، وجواز تأتّي التأكيد بالعطف - وإن كان نادرا - ترجيح الثاني.

ويتفرّع عليه مسائل كثيرة : منها : ما لو قال : « أوصيت لزيد وللفقراء بثلث مالي » سواء وصف زيدا بالفقر أو لا ، وسواء قدّمه على الفقراء أو لا. وفيه أقوال متعدّدة مذكورة في كتب الفروع (4).

وعلى ما اخترناه لا يخفى حقيقة الحال فيه ، وفي نظائره.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ ما ذكرناه في الأمرين المتعاقبين يجري في جميع ما يثبت أحد الأحكام من خبرين متعاقبين ، أو أمر وخبر.

فصل [13]

الأمر بالعلم بشيء لا يستلزم حصول هذا الشيء ، فإذا قال : « اعلم أنّ زيدا قائم » ، فلا يدلّ على حصول قيامه ؛ لأنّ الأمر لطلب ماهيّة في المستقبل ، فإذا كانت علما بشيء فربّما يكون هذا الشيء موجودا ؛ فيكون المراد الأمر بالعلم بوقوعه ، وربّما لم يوجد بعد فيكون الأمر بالعلم به إذا وقع ، فهو أعمّ منهما ، ولذا يصحّ تقسيمه إليهما ، والعامّ لا يدلّ على الخاصّ.

ويتفرّع عليه أن لا يكون قول الرجل لآخر : « اعلم أنّي طلّقت زوجتي » إقرارا.

ولكنّ الأقوى أنّه إقرار ؛ لدلالة العرف عليه.

فصل [14]

المخبر بأمر غيره بالشيء يدخل فيه إن تناوله ، سواء أخبر عنه بكلام نفسه ، كقوله « فلان

ص: 676


1- هو رأي أبي بكر الصيرفي أيضا كما في هامش العدّة في أصول الفقه 1 : 215 ، ولكنّ الشيخ نسبه إلى قوم ، والأنصاري في فواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 1 : 391.
2- قاله البصري في المعتمد 1 : 164.
3- اضيف بمقتضى السياق.
4- راجع تمهيد القواعد : 127 ، القاعدة 36.

يأمرنا بكذا » أو بكلام ذلك الغير ، كقول النبيّ صلى اللّه عليه وآله : « قال اللّه تعالى : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا ) (1) » ، وإلاّ فلا يدخل فيه على الشقّين ، كقوله : « فلان يأمركم بكذا » ، وقول النبيّ صلى اللّه عليه وآله : « قال اللّه : ( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) (2) » ، والوجه في الجميع ظاهر.

ويتفرّع عليه دخول المخبر عن الوصيّة لطائفة مخصوصة ، أو الوقف عليهم في الموصى لهم ، والموقوف عليهم إن كان منهم ، وعدم دخوله فيهما إن لم يكن منهم.

فصل [15]

الإجزاء قد يفسّر بحصول الامتثال ، وقد يفسّر بسقوط القضاء.

فعلى الأوّل لا ريب في أنّ الأمر يوجبه ، بمعنى أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه - أي كما أمر به الشارع - يوجب حصول الامتثال ، وهو متّفق عليه.

وعلى الثاني فقد اختلف فيه ، فقيل : يقتضيه (3). وقيل : لا (4).

واستدلّ للأوّل بأنّه لو لم يوجبه ، لم يعلم امتثال أبدا ؛ لجواز أن يأتي بالمأمور به ولا يسقط عنه ، بل وجب عليه فعله مرّة اخرى قضاء ، وكذلك الحكم في القضاء إذا فعله ؛ وبأنّ القضاء عبارة عن استدراك ما قد فات من مصلحة الأداء ، والفرض أنّه قد أتى بالمأمور به على وجهه ، ولم يفت شيء منه (5).

واستدلّ للثاني بأنّ القضاء يتوقّف على أمر جديد ، فلا يترتّب على الأداء ، ولو اقتضى الإتيان بالمأمور به سقوطه ، لثبت ترتّبه عليه (6).

وفيه : أنّ المراد من كون القضاء فرضا جديدا متوقّفا على أمر جديد ، أنّ عدم الإتيان بالمأمور به في وقته لا يستلزم وجوب فعله بعد ذلك ، لا أنّ الإتيان به لا يستلزم سقوطه.

ص: 677


1- البقرة (2) : 21.
2- النساء (4) : 59.
3- قاله الشيخ في العدّة في أصول الفقه 1 : 212 و 213 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 196.
4- قاله الفخر الرازي في المحصول 2 : 246 ، ونسبه الآمدي إلى القاضي عبد الجبّار ومتّبعيه في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 195.
5- قاله الشيخ في العدّة في أصول الفقه 1 : 213 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 196.
6- قاله الفخر الرازي في المحصول 2 : 246 و 247.

وبأنّه لا يسقط عن المصلّي بظنّ الطهارة إذا تبيّن كونه محدثا وفاقا ، مع ثبوت الإتيان بالمأمور به على وجهه.

وهو معارض بسقوطه عنه بظنّ طهارة ثوبه إذا تبيّن نجاسته.

وبأنّه لا يسقط عن متمّم الحجّ الفاسد وفاقا ، مع أنّ إتمامه إتيان بالمأمور به على وجهه.

وفيه : أنّ ما وجب في الحجّ إنّما هو قضاء ما فسد ، والإتمام فعل آخر وجب بأمر ، وهو لم يجب قضاؤه ، فما فعل سقط قضاؤه ، والذي يجب قضاؤه لم يفعل.

وإذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الحقّ أنّه إن اريد من قولنا : « على وجهه » ما وافق مراد الآمر في الواقع ، فلا ريب أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه يوجب سقوط القضاء ، والخروج عن العهدة ؛ لما ذكرناه أوّلا (1).

وإن اريد منه ما وفق مراده بظنّ المكلّف ، فهو قد يوجبه وقد لا يوجبه ؛ لورود الأمرين في الشريعة ، كما ذكرناه (2).

فصل [16]

لمّا عرفت (3) أنّ المطلوب بالنهي هو عدم الفعل ، فيعلم أنّ حدّه هو القول الدالّ بالوضع على طلب الترك استعلاء ، وهذا هو مقابل حدّ الأمر على ما ذكرناه ، فهو الصحيح من حدوده على ما اخترناه. وما قيل في حدّ الأمر من الحدود المزيّفة قيل مقابلها في حدّ النهي (4) أيضا.

وبعد الإحاطة بما تقدّم في حدّ الأمر تعلم صحّة هذا الحدّ ، وشرحه وفائدة قيوده ، وبطلان ما سواه. ومن قال : المطلوب بالنهي الكفّ عن الفعل عرّفه بأنّه القول الدالّ على اقتضاء كفّ عن فعل استعلاء ، كما عرّف الأمر بمقابله وهو القول الدالّ على اقتضاء فعل غير كفّ (5).

ص: 678


1- تقدّم في ص 677 ، ذيل « واستدلّ للأوّل ».
2- تقدّم في ص 677 ، ذيل قوله : « واستدلّ للثاني ».
3- في ص 666.
4- راجع : المحصول 2 : 16 - 18 ، والإحكام في أصول الأحكام 2 : 208 ، وقد تقدّمت الأقوال في حدّ الأمر ص 677.
5- راجع : المعتمد 1 : 168 ، ومعارج الاصول : 76 ، ونهاية السؤل 2 : 293 ، ومعالم الدين : 94.

فإن قيل : يرد على عكس حدّك « لا تترك » ؛ فإنّه نهي مع أنّه يدلّ على طلب ترك الترك لا الترك ، وعلى طرده « اترك » ؛ فإنّه أمر مع أنّه يدلّ على الترك ، كما يرد كلّ منهما على مقابله الذي اخترته في حدّ الأمر ، إلاّ أنّ الوارد هنا على الطرد ، يرد هناك على العكس ، وبالعكس.

قلت : المراد من الترك في حدّ النهي ترك مأخذ الاشتقاق ، فإنّ المراد من « لا تضرب » ترك الضرب ، وكذا المراد من الفعل في حدّ الأمر فعل مأخذ الاشتقاق ، فإنّ المراد من « اضرب » فعل الضرب ، و « اترك » لا يدلّ على فعل مأخذ الاشتقاق بل على فعله ، فيخرج عن النهي ويدخل في الأمر ، و « لا تترك » لا يدلّ على فعل مأخذ الاشتقاق بل على تركه ، فيخرج عن الأمر ويدخل في النهي.

ويمكن أن يجاب باعتبار اختلاف الحيثيّة ، بأن يقال : مثل « اترك الزنا » يدلّ على طلب الترك من حيث إنّ الترك ملحوظ لذاته ، ومطلوب في نفسه ، كالصوم والصلاة في « صم » و « صلّ » ، فهو بالاعتبار الأصلي المقصود لذاته مضاف إلى الترك ، فبهذا الاعتبار يكون أمرا ، وإن كان بالاعتبار التبعي وهو إضافته إلى الزنا نهيا. وأمّا مثل « لا تزن » فدلالته على الترك من حيث تعلّقه بالزنا ، لا من حيث إنّه ملحوظ بذاته ، ومقصود في نفسه ، فالغرض الأصلي منه عدم الزنا. فالترك في الأوّل مستقلّ بالمفهوميّة ، وفي الثاني غير مستقلّ بها.

ثمّ بمثل هذين الجوابين يمكن دفع ما اورد على حدّي الأمر والنهي للقائل بالكفّ ، وهو أنّهما ينتقضان عكسا وطردا ب- « كفّ ولا تكفّ » (1) فلا ينتقضان من هذه الجهة وإن لم يكونا صحيحين عندنا من حيث اعتبار الكفّ.

ثمّ تحديدهما بنفس اقتضاء الكفّ ، أو فعل غير كفّ دون القول الدالّ عليه - كما فعله ابن الحاجب (2) - فلا ريب في فساده عندنا ؛ لما اشير إليه في حدّ الأمر (3).

ص: 679


1- حكاه الأنصاري في فواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 2 : 100 ، والمطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤال 2 : 309 - 311.
2- قاله في منتهى الوصول : 89.
3- في ص 672 - 673.
فصل [17]

صيغة النهي - وهي « لا تفعل » وما بمعناه - ترد لتسعة معان :

التحريم : ( لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا ) (1).

الكراهة : ( وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ) (2).

التحقير : ( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) (3).

بيان العاقبة : ( وَلا تَحْسَبَنَّ اللّهَ غافِلاً ) (4).

الدعاء : ( لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا ) (5).

اليأس : ( لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ ) (6).

الإرشاد : ( لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) (7).

التسلية : ( وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) (8).

الشفقة : « لا تتّخذوا الدوابّ كرامتي ».

ولا خلاف في أنّها ترد لهذه المعاني ، ولا في أنّها ليست حقيقة في الجميع ، بل الخلاف فيما هي حقيقة فيه على نحو الخلاف في الأمر.

فقيل : إنّه للتحريم (9). وقيل : الكراهة (10). وقيل : القدر المشترك بينهما (11). وقيل : مشتركة بينهما (12). وقيل فيه أقوال أخر (13).

ص: 680


1- آل عمران (3) : 130.
2- القصص (28) : 77.
3- الحجر (15) : 88.
4- إبراهيم (14) : 42.
5- البقرة (2) : 286.
6- التحريم (66) : 7.
7- المائدة (5) : 101.
8- الحجر (15) : 88.
9- قاله الفخر الرازي في المحصول 2 : 281 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 121 ، والأسنوي في نهاية السؤل 2 : 293.
10- راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة 1 :10. 176 ، والعدّة في أصول الفقه 1 : 255 ، والمستصفى : 221 ، وفواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 1 : 396 ، والمحصول 2 : 282 ، والإحكام في أصول الأحكام 2 : 209 ، والوافية : 89. فما قيل في الأمر قيل في النهي.
11- راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة 1 :10. 176 ، والعدّة في أصول الفقه 1 : 255 ، والمستصفى : 221 ، وفواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 1 : 396 ، والمحصول 2 : 282 ، والإحكام في أصول الأحكام 2 : 209 ، والوافية : 89. فما قيل في الأمر قيل في النهي.
12- راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة 1 :10. 176 ، والعدّة في أصول الفقه 1 : 255 ، والمستصفى : 221 ، وفواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 1 : 396 ، والمحصول 2 : 282 ، والإحكام في أصول الأحكام 2 : 209 ، والوافية : 89. فما قيل في الأمر قيل في النهي.
13- راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة 1 :10. 176 ، والعدّة في أصول الفقه 1 : 255 ، والمستصفى : 221 ، وفواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 1 : 396 ، والمحصول 2 : 282 ، والإحكام في أصول الأحكام 2 : 209 ، والوافية : 89. فما قيل في الأمر قيل في النهي.

والحقّ - هنا أيضا نظير ما تقدّم (1) في الأمر من - أنّها للتحريم لغة ، وشرعا ، وعرفا.

لنا : تبادره عرفا عند الإطلاق ، ولذا يذمّ العبد بفعل ما نهاه المولى عنه ، والأصل عدم النقل. وسائر ما تقدّم في الأمر سوى الآيات وإن أمكن أن يقال بجريانها أيضا فيه ؛ لعدم الفرق بينهما إلاّ في متعلّق الطلب.

ولنا قوله تعالى : ( وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (2) ، أوجب الانتهاء عمّا نهى النبيّ صلى اللّه عليه وآله عنه ؛ لما ثبت من كون الأمر للوجوب ، وما يجب عنه الانتهاء فقد حرم فعله ، وتحريم ما نهى النبيّ صلى اللّه عليه وآله عنه يدلّ بالفحوى على تحريم ما نهى اللّه سبحانه عنه. فلا يرد أنّ موضع النزاع أعمّ ممّا يدلّ عليه الآية.

وقوله تعالى : ( فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ) (3) ، ووجه دلالته على المطلوب ظاهر.

وقوله تعالى : ( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ) (4).

وقوله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا ) (5). ووجه دلالتهما أنّهما وردا في معرض الإنكار والذمّ على الرجوع إلى المنهيّ عنه ، ولو لم يكن الرجوع إليه محرّما ، لما توجّه الذمّ ، والقول باحتمال توجّه الذمّ على ترك الأولى خلاف الظاهر.

ثمّ بعد دلالة الآيات على التحريم يثبت عموم المطلوب بأصالة عدم النقل.

لا يقال : المسلّم دلالة الآيات على حرمة ما نهى النبيّ صلى اللّه عليه وآله عنه ، لا على دلالة صيغة « لا تفعل » على التحريم ، فمن أين يعلم أنّ ما نهى به النبيّ صلى اللّه عليه وآله هو هذه الصيغة؟ فلعلّ ما يتحقّق به النهي التحريمي غير هذه الصيغة ، أو هي مع ضمّ القرائن الدالّة على التحريم ، وكان الصادر عنه صلى اللّه عليه وآله في مقام النهي أحدهما دون مجرّد الصيغة.

لأنّا نقول : إنّ حقيقة النهي - كما عرفت (6) - هو القول الدالّ على طلب الترك وضعا ، وهو

ص: 681


1- ص 602.
2- الحشر (59) : 7.
3- الأعراف (7) : 166.
4- الأنعام (6) : 28.
5- المجادلة (58) : 8.
6- في ص 678.

ليس إلاّ صيغة « لا تفعل » وما بمعناها ؛ لما تقدّم (1) ، فما ذا يمنعها من كونها نهيا بعد انحصار حقيقته بها؟ وأنت بعد الإحاطة بما تقدّم في الأمر (2) ، تتمكّن من دفع أمثال ما ذكر.

وإذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الفروع له كثيرة ، وكيفيّة التفريع ظاهرة.

وممّا يتفرّع عليه تحريم مباحات على العبد بعد ما قال المولى له : « لا تفعلها » ، وكذا تحريم كلّ تصرّف في مال الغير إذا أذنه فيه ثمّ نهاه عنه.

فصل [18]

الحقّ أنّ النهي المطلق للتكرار والدوام ، خلافا لشرذمة قليلة (3).

لنا : أنّه لمنع إدخال الحقيقة في الوجود ، فيعمّ جميع الأوقات ، وأنّ تخصيص وقت دون آخر به من غير مرجّح تحكّم ، واستدلال (4) السلف بمطلقه على عموم التحريم شائعا ذائعا من غير نكير ، وإذا أفاد التكرار أفاد الفور ؛ لتوقّفه عليه.

احتجّ الخصم بأنّه يصحّ تقييده بالدوام ونقيضه من غير تكرار ونقض.

وبأنّه ورد للتكرار كقوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى ) (5) ، ولخلافه كنهي الحائض عن الصلاة والصوم ، وقول الطبيب « لا تشرب اللبن ، ولا تأكل اللحم » والاشتراك والمجاز خلاف الأصل ، فيكون للقدر المشترك.

والجواب عن الأوّل : أنّ التقييد بالدوام للتأكيد ، وبخلافه للتجوّز.

وعن الثاني : أنّ المبحث ، النهي المطلق من دون قرينة ، ونهي الحائض مقيّد ، وقول الطبيب مقرون بالقرينة.

وكيفيّة التفريع واضحة.

ص: 682


1- في ص 680.
2- راجع حدّ الأمر في ص 596.
3- منهم : الشيخ في العدّة في أصول الفقه 1 : 256 ، والبصري في المعتمد 1 : 168 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 121 ، والأسنوي في نهاية السؤل 2 : 288 ، وقالوا : وزان النهي هو وزان الأمر.
4- عطف على قوله : « أنّه لمنع إدخال الحقيقة » أي لنا استدلال السلف بأخذهم بمطلق الصيغة.
5- الإسراء (17) : 32.
فصل [19]

من قال إنّ الأمر بعد الحظر للوجوب قال : النهي بعد الوجوب للحظر ؛ طردا لبابي الأمر والنهي. ومن قال بأنّه بعد الحظر للجواز ، اختلفوا في أنّ النهي بعد الوجوب للجواز أو الحظر ، فقال بعضهم بالأوّل (1) ؛ طردا لبابيهما. وقال بعضهم بالثاني (2) ؛ لأنّ النهي لدفع المفسدة والأمر لجلب المنفعة ، واعتناء الشارع بالأوّل أشدّ.

والحقّ أنّ اطّراد بابيهما لازم ؛ لعدم الفرق دلالة ، فعلى ما اخترناه هناك لا يخفى جليّة الحال هنا اختيارا ، وإيرادا ، وجوابا ، وتفريعا.

تتمّة (3) : قال بعضهم : الأمر بعد الاستئذان كالأمر بعد الحظر (4). وعلى هذا يكون النهي - أيضا - بعد الاستئذان كالنهي بعد الوجوب.

ويظهر الفائدة فيما لو أوصى في مرض الموت بأكثر من الثلث ؛ فإنّه قد نهى النبيّ صلى اللّه عليه وآله عنه في قضيّة سعد بن أبي وقّاص (5) ، مع أنّ التصرّف فيه قبل مرض الموت كان مأذونا فيه.

فصل [20]
اشارة

النهي عن الشيء إمّا أن يكون لعينه ، أو جزئه ، أو وصفه اللازم ، أو المفارق. وعلى التقادير إمّا أن يكون في العبادات ، أو المعاملات. والدلالة على الفساد إمّا تكون بحسب الشرع ، أو اللغة ، أو كليهما. فمن ملاحظة هذه الاحتمالات بعضها مع بعض يتصوّر أقسام كثيرة ، إلاّ أنّ كلّ واحد منها لم يجعل مذهبا ، بل ما جعل منها مذهبا خمس (6) :

ص: 683


1- راجع : اصول السرخسي 1 : 97 ، والإحكام في أصول الأحكام 2 : 198.
2- انظر منتهى الوصول لابن الحاجب : 98 ، والتمهيد : 271.
3- في « ب » : « فصل ».
4- قاله الفخر الرازي في المحصول 2 : 96. وراجع نهاية الوصول إلى علم الأصول 1 : 432.
5- سنن ابن ماجة 2 : 903 ، ح 2708 ، وسنن النسائي 6 : 243 ، ح 3625 ، وصحيح مسلم 3 : 1250 ، ح 5 / 1628.
6- كذا في النسختين. والصحيح : خمسة أي خمسة أقسام.

الأوّل : دلالته على الفساد مطلقا.

الثاني : عدم دلالته عليه مطلقا. نقله بعض العامّة عن أكثر الفقهاء (1).

الثالث : دلالته عليه مطلقا شرعا لا لغة. اختاره المرتضى منّا (2) ، والحاجبي منهم (3).

الرابع : دلالته عليه شرعا بشرط أن لا يرجع النهي إلى وصف غير لازم ، بل إلى عين المنهيّ عنه ، أو جزئه ، أو وصفه اللازم ؛ اختاره بعض أصحابنا (4) ، وأكثر الشافعيّة (5) ، وفخر الدين الرازي (6).

الخامس : دلالته عليه مطلقا في العبادات دون المعاملات. اختاره أكثر المتأخّرين من أصحابنا ، وجماعة من العامّة (7) ، وهو الحقّ.

وقبل الخوض في الاستدلال لا بدّ لنا من تمهيد مقدّمتين :

[ المقدّمة ] الاولى : النهي عن الشيء لعينه هو أن يتعلّق بنفسه لا بما ينسب إليه ، كأن يقال : « لا تفعل هذا الكلّ » سواء كان عبادة ، أو معاملة.

ومنه : ما إذا رجع النهي إلى نفس العقد ، كبيع الملامسة (8) والمنابذة. ومن المنابذة بيع الحصاة ، مثل أن يقول : « بعتك من هذه الأثواب ما يقع عليه هذه الحصاة إذا رميتها » ، فيجعل نفس الرمي بيعا ، وهو باطل ؛ لاختلال أصل العقد باختلال الصيغة.

ومنه : النكاح الواقع بلفظ التحليل ، والطلاق الواقع بالكنايات.

والنهي عنه لجزئه أن يتعلّق بأحد مقوّماته وذاتيّاته ، كالنهي عن قراءة العزائم في

ص: 684


1- الناقل هو الفخر الرازي في المحصول 2 : 291.
2- الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 180.
3- منتهى الوصول : 100.
4- انظر المعتبر 2 : 92.
5- حكاه عنهم الأسنوي في التمهيد : 293.
6- المحصول 2 : 291.
7- حكاه عنهم الأسنوي في التمهيد : 293.
8- والملامسة في البيع أن تقول : « إذا لمست ثوبك أو لمست ثوبي فقد وجب البيع بكذا ».

اليوميّة ، بناء على جزئيّة السورة. وعن بيع الملاقيح (1) ؛ نظرا إلى انتفاء صفة معتبرة في المبيع - الذي هو جزء للبيع - وهو (2) كونه مقدورا للتسليم.

ومنه : النهي عن بيع الميتة والخمر ، ونكاح المحرّمات.

والنهي عنه لوصفه اللازم أن يتعلّق بصفة من صفاته الداخلة فيه ، وهو إمّا لازم مساو ، أو أعمّ ، أو أخصّ ، كالنهي عن الجهر في الفرائض النهاريّة ، وعن عقد الربا ؛ فإنّ المنهيّ عنه هو الزيادة ، وهو أمر لازم للعقد.

ومنه : النهي عن نكاح الشغار (3).

والنهي عنه لوصفه الخارج أن يتعلّق بتشخّص عارض له ، أو لسائر مقارناته (4) من المكان والزمان ، كالنهي عن الصلاة في المكان المغصوب ، وعن البيع وقت نداء الجمعة.

وقد يتعلّق بأمر عارض له ليس من صفاته ولا من هيئاته التي تتوقّف عليه ، كالنهي عن « آمين » بعد الحمد.

وقد يخصّ النهي عن الشيء لوصفه اللازم باسم النهي لوصفه ، ويطلق (5) على النهي عنه لمقارنة النهي عن الشيء لغيره.

ثمّ فيما عدا الأوّل يحصل للنهي جهتان :

إحداهما : النهي عن الشيء لجزئه ، أو لازمه ، أو مقارنه.

والثانية : النهي عنه لعينه ؛ لأنّ كلاّ من الجزء واللازم والمقارن منهيّ عنه بعينه ، فالجهة الثانية تستتبع حكم الأوّل من كلّ جهة.

ص: 685


1- الملاقيح : ما في ظهور فحول الإبل والخيل من اللقاح ، وما في بطون الامّهات من الأجنّة. لسان العرب 2 : 1. « ل ق ح ».
2- أي الصفة المعتبرة. والتذكير باعتبار الخبر.
3- مصدر شاغره ، وهو أن يزوّج كل واحد صاحبه امرأة ممّن له عليها الولاية والسلطة بشرط أن يزوّجه اخرى كذلك ، فيجعل مهر كلّ واحد من الامرأتين تزويج الآخر. لسان العرب 4 : 3. « ش غ ر ».
4- في « ب » : « بسائر مقارناتها ».
5- المستتر في « يطلق » راجع إلى النهي عن الشيء لوصفه اللازم.

[ المقدّمة ] الثانية : الفساد مقابل الصحّة ، وهي في العبادات - ويقال لها : « الصحّة العباديّة » - إمّا موافقة الأمر ، كما قال به المتكلّمون (1). أو كون الفعل بحيث يسقط به القضاء ، كما قال به الفقهاء (2). فالفساد فيها إمّا عدم موافقة الأمر ، أو كون الفعل بحيث لا يسقط به القضاء ، ويقال له : « الفساد العبادتي » (3). وقد عرفت (4) أنّ الحقّ قول المتكلّمين.

وأمّا الصحّة في العقود والمعاملات - ويقال لها : « الصحّة السببيّة » - فهي ترتّب الأثر الشرعي وفاقا ، فالفساد فيها عدم ترتّبه ، ويقال له : « الفساد السببي ».

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ ما اخترناه يشتمل على دعويين :

إحداهما : أنّ النهي عن الشيء لعينه ، أو جزئه ، أو وصفه المطلق في العبادات يدلّ على الفساد لغة وشرعا.

واخراهما : أنّه لا يدلّ عليه في المعاملات مطلقا.

لنا على الاولى وجوه :

[ الوجه ] الأوّل : أنّ العبادة المنهيّ عنها لعينها ، أو جزئها ، أو شرطها لا توافق أمر الشارع ؛ إذ لو وافقته ، لكانت مأمورا بها أيضا وهو باطل ؛ لاستحالة اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد ؛ للإجماع (5) ، ولأنّ النهي يكشف عن كون المأتي به مفسدة (6) قبيحة ، والأمر يقتضي كونه مصلحة (7) حسنة وهما متضادّتان ، فلا تجتمعان في محلّ واحد.

وعدم الموافقة هو الفساد في العبادات ، كما عرفت (8). وقد تبيّن فيما تقدّم بيان استحالة

ص: 686


1- حكاه عنهم الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 209.
2- حكاه عنهم الفخر الرازي في المحصول 2 : 291.
3- كذا في النسختين. والصحيح : « الفساد العبادي ».
4- تقدّم آنفا.
5- لا يخفى ما في تعليل الاستحالة بالإجماع ، إلاّ أن يسقط من هنا العاطف فيكون وجها ثانيا لعدم الموافقة.
6- والمراد هو ذا مفسدة ومصلحة إمّا بتقدير « ذي » ، أو بحمل « المفسدة » و « المصلحة » على سبب الفساد والصلاح كما في اللغة. وقوله : « هما متضادّتان فلا تجتمعان في محلّ واحد » يؤيّد الأوّل.
7- والمراد هو ذا مفسدة ومصلحة إمّا بتقدير « ذي » ، أو بحمل « المفسدة » و « المصلحة » على سبب الفساد والصلاح كما في اللغة. وقوله : « هما متضادّتان فلا تجتمعان في محلّ واحد » يؤيّد الأوّل.
8- تقدّم آنفا.

كون شيء واحد مأمورا به ومنهيّا عنه من جهة ، أو جهتين مفصّلا (1) ، ويلزم منه ثبوت جميع ما نحن بصدده.

بيانه : أنّه إذا بيّن استحالة اجتماع الأمر والنهي ، أو بعض الأحكام مع بعضها الآخر من جهة واحدة ، يثبت منه فساد المنهيّ عنه لعينه وجزئه ؛ لأنّه لولاه لزم كون الكلّ أو (2) الجزء مأمورا به ومنهيّا عنه.

وإذا بيّن استحالة اجتماعهما من جهتين متلازمتين ، يثبت منه فساد المنهيّ عنه لوصفه اللازم المساوي.

وإذا بيّن استحالة اجتماعهما من جهتين ينفكّ إحداهما عن الاخرى حتّى يتحقّق بين متعلّق الأمر والنهي عموم وخصوص مطلقا يثبت منه فساد المنهيّ عنه لوصفه اللازم الأخصّ - الذي يلزمه شرعا أو عقلا [ ولا ينفكّ ] (3) عن بعض أفراده وإن انفكّ عن بعضها الآخر - والأعمّ الذي يلزمه وإن وجد في غيره أيضا ، ولوصفه المفارق الأخصّ - أي الذي يعرض لبعض أفراده وإن لم يعرض لبعض آخر - والأعمّ ، أي الذي يعرض لجميع أفراده وإن عرض لغيره أيضا ؛ لأنّ (4) تحقّق العموم والخصوص مطلقا إمّا بأن يكون المأمور به طبيعة كلّيّة والمنهيّ عنه فردها (5) ، أو جزءه (6) ، أو لازمه ، أو مفارقه. وهذا اللازم أو المفارق بالنسبة إلى طبيعة المأمور به وإن لم يكن عارضا أو لازما البتّة ؛ إذ عروضه (7) لبعض أفراده ، إلاّ أنّه بالنسبة إلى الفرد لازم أو عارض البتّة.

مثال الأوّل : النهي عن الجهر في قراءة الصلوات النهاريّة مع الأمر بمطلق القراءة ؛

ص: 687


1- تقدّم آنفا.
2- في « ب » : « و ».
3- اضيف للضرورة.
4- تعليل لأقسام فساد المنهيّ عنه الأربعة ، وهي فساده لوصفه اللازم الأخصّ والأعمّ ، ولوصفه المفارق الأخصّ والأعمّ.
5- إشارة إلى « طبيعة كلّيّة ».
6- إشارة إلى « المأمور به ».
7- متعلّق بمقدّر خبر لعروضه وليس متعلّقا بالعروض.

فإنّ الجهر لازم لبعض أفراد القراءة (1).

ومثال الثاني : النهي عن الصلاة في المكان المغصوب مع الأمر بمطلق الصلاة ، والنهي عن صوم يوم العيد مع الأمر بمطلق الصوم ؛ فإنّ المكان المغصوب ويوم العيد وإن لم يتعلّقا بمطلق الصلاة والصوم إلاّ أنّهما تعلّقا بالنسبة إلى بعض الأفراد وهو الصلاة الواقعة في المكان الغصبي والصوم الواقع في يوم العيد ، وليسا بالنسبة إلى هذا البعض لازمين كالجهر ؛ لعدم مدخليّتهما في هيئته.

وإذا (2) لم يجز اجتماع مثل هذا الأمر والنهي (3) ، فإذا تعلّق النهي بالجهر والصلاة في المكان المغصوب ، والصوم يوم العيد ، دلّ على فسادها.

وإمّا (4) بأن يكون المنهيّ عنه طبيعة كلّيّة ، والمأمور به فردها ، أو جزءه ، أو ملزومه ، أو معروضه. وهي (5) وإن كانت لازمة أو عارضة لهذا الملزوم أو المعروض ، إلاّ أنّها تكون لازمة أو عارضة لغيرهما أيضا.

مثال الأوّل : أن يقدّر ورود النهي عن مطلق الجماعة مع الأمر بصلاة الجمعة ؛ فإنّ الجمعة لا تنفكّ عن الجماعة شرعا ، والجماعة توجد في غيرها أيضا.

ومثال الثاني : النهي عن التصرّف في المكان المغصوب مع الأمر بالصلاة فيه.

فإذا لم يجز ذلك دلّ النهي على بطلان صلاة الجمعة والصلاة في المكان المغصوب.

وإذا بيّن (6) استحالة اجتماعهما من جهتين ينفكّ كلّ منهما عن الاخرى - حتّى يتحقّق بين المأمور به والمنهيّ عنه عموم وخصوص من وجه - يثبت فساد المنهيّ عنه لوصفه المفارق ؛ لأنّ تحقّق العموم من وجه يتوقّف على أن يكون كلّ من المأمور به والمنهيّ عنه

ص: 688


1- وهو القراءة التي ليست بإخفاتيّة ، فالجهر ليس لازما لمطلق القراءة حتّى الإخفاتيّة ، للزوم اجتماع الضدّين ، ولازم ووجه لزومه ، أنّ غير الإخفاتيّة لو انفكّ عنها الجهر أيضا ، للزم رفع الضدّين لا ثالث لهما ، للفرد وإلاّ يلزم ارتفاعهما.
2- في « ب » : « وإن ».
3- أي الأمر المتعلّق بالطبيعة ، والنهي المتعلّق بلازم الفرد أو عارضه.
4- عطف على قوله : « إمّا بأن يكون ... » في ص 687.
5- أي طبيعة المنهيّ عنه.
6- عطف على قوله : « إذا بيّن استحالة اجتماع الأمر والنهي » في ص 687.

طبيعة كلّيّة يجتمعان في شيء هو فرد لكلّ منهما. ولا شكّ أنّ طبيعة المنهيّ عنه حينئذ عرض مفارق بالنسبة إلى طبيعة المأمور به وإلى هذا الفرد.

مثاله ورد الأمر بمطلق الصلاة ، وتعلّق النهي بمطلق التصرّف في المكان المغصوب ، وهما قد اجتمعا في الصلاة في المكان المغصوب. والتصرّف في المكان عرض مفارق بالنسبة إلى مطلق الصلاة وإلى هذا الفرد.

وإذا لم يجز اجتماع مثل هذا الأمر والنهي ، دلّ النهي على فساد مثل هذه الصلاة. هذا.

وإذا تعلّق النهي بشيء لعينه ، أو جزئه ، أو وصفه اللازم ، أو المفارق من غير أن يكون مأمورا به ، أي لم يتعلّق به أمر يدلّ على الوجوب ، أو الندب ، أو الإباحة عموما ، أو خصوصا ، كالإمساك في يوم وليلة بقصد التقرّب فلا ريب في دلالته على فساده ، ولا يكون عبادة موافقة لأمر الشارع ، ولا معاملة يترتّب عليها الأثر الشرعي ، بل يكون بدعة وضلالة.

وإن كان مأمورا به بأحد الوجوه المذكورة ، فلا بدّ في الأوّل (1) من الجمع إن أمكن ، وإلاّ فالطرح. وكذا في الثاني. وفي الثالث لا بدّ من حمل العامّ على الخاصّ. وفي الرابع من تخصيص أحدهما بالمؤيّدات الخارجيّة ؛ لئلاّ يلزم الاجتماع بوجه ، كما تقدّم مفصّلا (2).

فإن قيل : إذا لزم من امتناع اجتماع الأمر والنهي دلالة النهي على الفساد ، فأيّ حاجة إلى عقد المسألتين؟

قلت : لا يلزم منه إلاّ دلالة النهي على الفساد في العبادات لا المعاملات ؛ لأنّه اقتضى استحالة اجتماع الوجوب والحرمة بل الإباحة والحرمة حرمة المنهيّ عنه ، وهو عين فساده إذا كان عبادة ، أو مستلزم له لزوما بيّنا ؛ لأنّ فساده عدم كونه مراد الشارع وهو عين الحرمة أو لازمها.

وأمّا المعاملة ، فحرمتها ليست عين فسادها ولا مستلزمة له ؛ لإمكان أن لا تكون مطلوبة للشرع ولكن يترتّب عليها آثارها ، فمطلوب القوم من هذه المسألة بيان دلالة النهي على الفساد السببي (3) ، أو عدم دلالته عليه.

ص: 689


1- أي النهي عن الشيء لعينه.
2- تقدّم في ص 687.
3- تقدّم في ص 686 معنى الفساد السببي.

وقد ظهر من ذلك أنّ الدليل المذكور (1) لا يجري في غير العبادات.

والقول بإجرائه فيه - إذ التجارة مثلا (2) قد تكون واجبة وقد تكون مستحبّة ، وعلى تقدير أن لا تكون إلاّ مباحة يلزم أيضا من النهي عنها مع القول بصحّتها اجتماع حكمين فيها وهو غير جائز ؛ لأنّ الأحكام كلّها متضادّة لا يمكن اجتماعها ؛ إذ قد اعتبر في كلّ منها نقيض ما اعتبر في الآخر (3) - ظاهر الفساد ؛ لأنّ التجارة من حيث إنّها واجبة أو مستحبّة من العبادة (4) ، فرفعهما بالنهي فساد عبادتي (5) ، ولا ريب في تحقّقه بالنهي وعدم اجتماع وجوبها أو استحبابها معه ، وليس الكلام فيه ؛ لأنّها من هذه الجهة داخلة في قولنا : « النهي عن العبادة يستلزم فسادها ». إنّما الكلام في الفساد السببي وهو غير لازم من النهي ؛ لأنّ مقابله - وهو الصحّة بمعنى استتباع الآثار - يجتمع مع مدلول النهي - أي الحرمة - ولا يلزم من اجتماعهما اجتماع الأحكام المتضادّة ؛ لأنّها هي الخمسة المعروفة ، والصحّة السببيّة ليست أحد الأربعة غير الحرمة لتضادّها (6).

وحاصله : أنّه ليس بين السببيّة التي هي من الأحكام الوضعيّة والحكم التكليفي تقابل حتّى يمتنع اجتماعهما.

فإن قيل : المسلّم عدم جواز تعلّق الأمر بنفس ما تعلّق به النهي ذاتا واعتبارا أو (7) من جهتين لا يمكن الانفكاك بينهما ، فثبت منه فساد المنهيّ عنه لعينه ، أو لجزئه ، أو للازمه المساوي. وأمّا عدم جوازه من جهتين يمكن الانفكاك بينهما ، فغير مسلّم ؛ للتغاير حينئذ بين المأمور به والمنهيّ عنه ؛ فإنّ النهي عن الصلاة في المغصوبة متعلّق بخصوص هذا الفرد الواقع فيها ، والواجب هو ماهيّة الصلاة لا هذا الكون المخصوص الذي يجوز أن لا يفعل ، فالنهي بالحقيقة يرجع إلى وصف الغصب.

ص: 690


1- أي الوجه الأوّل الذي مرّ في ص 686.
2- لم يرد في « أ » : « مثلا ».
3- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : 100.
4- لا يخفى ما في كون التجارة الواجبة أو المستحبّة عبادة اصطلاحيّة.
5- كذا في النسختين. والصحيح : « فساد عباديّ ».
6- أي لتتضادّ الصحّة الحرمة بحذف إحدى التاءين. ويمكن قراءة الكلمة بضمّ التاء من المفاعلة.
7- لم يرد في « ب » : « أو ».

قلت - مضافا إلى ما عرفت من عدم جواز اجتماعهما بوجه - : إنّ ما يجري فيه حديث الجهتين إن كان منهيّا عنه لوصفه اللازم ، فلا يمكن تعلّق النهي فيه بمجرّد مثل هذا الوصف لو كان الموصوف عبادة ؛ لأنّه لا يمكن الامتثال فيه ، فيلزم التكليف بالمحال.

وإن كان منهيّا عنه بوصفه المفارق وإن احتمل أن يرجع النهي إلى الوصف إلاّ أنّه يحتمل أن يرجع حقيقة إلى الذات أيضا ، ويكون رجوعه ظاهرا إلى الوصف لنصب القرينة على إرادة باقي الأفراد - غير الموصوفة بالوصف المذكور - من الكلّي ، وعدم إرادة الكلّي من حيث هو.

فعلى الثاني يرجع النهي إلى عين الكلّي في هذا الفرد ، فلا يكون عبادة صحيحة.

وعلى الأوّل وإن كان المطلوب هو الكلّيّ من حيث هو ولا يلزم فساد هذا الكلّي الذي هو نفس العبادة ، إلاّ أنّه يلزم عدم صلاحية الفرد المخصوص من حيث الخصوص للعبادة ؛ لأنّه من حيث الخصوص منهيّ عنه لعينه ، فيلزم فساده ويثبت منه المطلوب.

[ الوجه ] الثاني (1) : أنّها لو لم تفسد ، لزم من نفيها (2) حكمة يدلّ عليها النهي ، ومن ثبوتها (3) حكمة تدلّ (4) عليها الصحّة ، ويمتنع النهي مع تساوي الحكمتين ؛ لخلوّه عن الحكمة حينئذ ، أو مرجوحيّة حكمته ؛ لتفويته الزائد من مصلحة الصحّة ، ويمتنع الصحّة مع رجحان حكمة النهي ؛ لخلوّها عن المصلحة ، بل لفوات الزائد من مصلحة (5) النهي.

[ الوجه ] الثالث : أنّ السلف لم يزالوا يستدلّون على الفساد بالنهي في أبوابه (6) ، وبانضمام أصالة عدم النقل يثبت الدلالة اللغويّة.

وربما اورد عليه بأنّه لا حجّيّة في قول السلف ما لم يبلغ حدّ الإجماع ، وثبوته في محلّ طال فيه النزاع والتشاجر ممنوع.

والحقّ ، أنّ هذا الإيراد ساقط في النهي عن العبادات ؛ لثبوت الاحتجاج به على فسادها

ص: 691


1- مرّ الوجه الأوّل في ص 686.
2- في « ب » : « نفيهما ».
3- في « ب » : « نفيهما ».
4- في « أ » : « يدلّ ».
5- المراد بها هو الحكمة ، أي المفسدة.
6- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : 100.

من الصحابة والأتباع ومن تأخّر عنهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار ، وإنكاره مكابرة ، ولو سلّم وجود مخالف فيه فلم يبلغ حدّا يقدح مخالفته في الإجماع. نعم ، وروده على النهي في المعاملات لا يخلو عن وجه.

[ الوجه ] الرابع : أنّ الأمر يقتضي الصحّة ؛ لدلالته على الإجزاء بكلا تفسيريه ، كما عرفت (1) ، والنهي نقيضه فيدلّ على الفساد ؛ لتناقض مقتضيات المتناقضات.

وفيه أمّا أوّلا : فمنع وجوب تقابل أحكام المتقابلات ؛ لجواز اشتراكهما (2) في لازم واحد ، فضلا عن تناقض أحكامهما (3).

وأمّا ثانيا : أنّ نقيض قولنا : « يقتضي الصحّة » أنّه لا يقتضي الصحّة ، ولا يلزم منه أن يقتضي الفساد ، وحينئذ فالنهي لا يدلّ على صحّة المنهيّ عنه ولا على فساده ، ويتوقّف فهم أحدهما على دليل آخر.

وغير خفيّ أنّ هذه الأدلّة - على فرض تمامها - تدلّ على دلالة النهي عن الشيء لعينه ، أو جزئه ، أو وصفه اللازم ، أو المفارق ، ووجهه ظاهر. هذا.

وبقي الكلام فيما أشرنا إليه أخيرا (4) ، أي النهي عن الامور الخارجة التي ليست من صفات العبادات أصلا ولا من هيئاته ، ولا يتوقّف وجودها عليها بوجه ، كالنهي عن « آمين » بعد الحمد.

وقد اختلف في أنّها تفسد العبادة الواقعة هي فيها ، أم لا. فقيل بالثاني (5) ؛ نظرا إلى أنّها امور خارجة مغايرة للعبادة ولا يتوقّف تحقّق العبادة عليها ، فلا يلزم من تعلّق النهي بها فسادها ، مع كون الأمر دالاّ على الإجزاء وفاقا.

وقيل بالأوّل (6) ، نظرا إلى أنّ المفهوم من النهي كون وجود المنهيّ عنه مانعا لتحقّق العبادة ، وعدمه شرطا له.

ص: 692


1- تقدّم في ص 677.
2- كذا في النسختين. والظاهر اشتراكها وأحكامها ، أو كون المتقابلات المتقابلين.
3- كذا في النسختين. والظاهر اشتراكها وأحكامها ، أو كون المتقابلات المتقابلين.
4- تقدّم في ص 685.
5- مال إليه المحقّق الحلّي في المعتبر 2 : 186 ، وحكاه الشهيد عن الإسكافي في الدروس الشرعيّة 1 : 174.
6- قاله الشهيد في الدروس الشرعيّة 1 : 174.

والحقّ أنّ ماهيّة الصلاة بأجزائها وشرائطها وموانعها إن كانت معلومة من خارج ولم يكن عدم هذه الامور (1) شيئا من الأوّلين (2) ، ولا وجودها من الآخر ، فالنهي عنها لا يدلّ على فسادها ؛ لأنّ تعلّق النهي بشيء مغاير لآخر لا يقتضي تعلّقه بهذا الآخر ، وإلاّ (3) فالنهي عنها يدلّ على فسادها ؛ لأنّه إمّا يعلم حينئذ كون عدمها من الشرائط ووجودها من الموانع ، أو يشكّ فيه.

فعلى الأوّل لا إشكال. وعلى الثاني نقول : لا ريب في ورود النهي عنها ، وظاهره يفيد مانعيّة المنهيّ عنه ، كما أنّ ظاهر الأمر يفيد الجزئيّة أو الشرطيّة ؛ لأنّ الأمر بإيقاع فعل في عبادة مركّبة عند بيان حقيقته يدلّ على جزئيّته لها التزاما.

وبهذا يظهر ضعف ما قيل : إنّ الجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة إن كانت مشكوكا فيها كان حكمه (4) حكم الأوّل ؛ لأنّ الأصل عدمها ، ومجرّد الأمر أو النهي لا يدلّ عليها ؛ لعدم دلالتهما عليها لا مطابقة ولا تضمّنا ولا التزاما.

ثمّ الاختلاف إنّما فيما تعلّق به النهي لأجل العبادة لا لذاته ، وأمّا فيما علم أنّ النهي عنه في العبادة لأجل حرمته مطلقا ، كالنظر إلى الأجنبيّة في الصلاة ، فلا يقتضي فساد العبادة قولا واحدا.

فإن قيل : يلزم على ما ذكرت في الشقّ الأوّل (5) أن لا يدلّ النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة أيضا على فساد الصلاة ؛ لأنّ النهي فيه أيضا متعلّق بشيء خارج عن حقيقة الصلاة ، مغاير لها.

قلت : لمّا فرض أنّ ماهيّة الصلاة بتمامها معلومة ، والمنهيّ عنه ليس من شرائطها ولا أوصافها ولا موانعها ، والنهي تعلّق بمجرّد المنهيّ عنه من غير مدخليّة له بطبيعة العبادة أو الفرد الخاصّ ، والأمر تعلّق بأحدهما ، فيكون المنهيّ عنه والمأمور به متباينين ، ويكون

ص: 693


1- أي الامور الخارجة عن العبادة.
2- أي الأجزاء والشرائط. والمراد من الآخر هو الموانع.
3- أي وإن لم تكن الأجزاء والشرائط والموانع معلومة من خارج.
4- أي حكم القسم الثاني.
5- أي إذا علم كون عدمها من الشرائط ووجودها من الموانع.

الكلّي أو الفرد الخاصّ مطلوبا ، وإن قارنه المنهيّ عنه.

وأمّا في مثل : « الصلاة في المغصوبة » فالفرد الخاصّ بعينه ليس مرادا ، سواء كان جهة النهي نفسه ، أو وصفه المفارق ؛ لأنّ المنهيّ عنه في الأوّل ذات المعروض بنفسها ، وفي الثاني ذاته مع تحقّق الوصف حين تحقّقه ، والمأمور به الطبيعة المطلقة أو الفرد من حيث الذات إذا انفكّ عن الوصف الذي تعلّق به النهي لأجله. فالظاهر في مثله تقييد النهي للأمر ، وإفادته أنّ المأمور به هو الطبيعة بشرط عدم تحقّقها في ضمن هذا الفرد الخاصّ ، فإذا أتى المكلّف بهذا الفرد لم يأت بشرط المأمور به وأتى بنفسه في ضمنه. ولا فرق في ذلك بين أن يكون النهي خاصّا بالفرد الخاصّ ، بأن يقول : « لا تصلّ في الدار المغصوبة » ليتحقّق بين المأمور به والمنهيّ عنه عموم وخصوص مطلقا ، أو عامّا يشمله وغيره ، كأن يقول : « لا تتصرّف في المغصوبة » لأنّ المناط تعلّق النهي به ، سواء كان عامّا أو خاصّا.

ولنا على الثانية (1) : أنّ النهي لا يدلّ إلاّ على الحرمة ، وهي لا تستلزم الفساد السببي ، أي عدم ترتّب الآثار ؛ لأنّ ترتّبها وهو الصحّة لا ينافيها (2) ، ولذا يترتّب على الوطء في الحيض آثاره الشرعيّة وهي لزوم المهر كملا ، والعدّة ، وصحّة النسب مع كونه حراما. ويترتّب على ارتداد الزوج المسلم آثاره ، أي بينونة زوجته ، وقسمة أمواله بين ورّاثه مع كونه محرّما ، ويحصل التطهير إذا وقع إزالة النجاسة بالماء المغصوب ، وغير ذلك.

وأيضا لو دلّ عليه ، لكانت (3) إحدى الثلاث وكلّها منتفية. أمّا المطابقة والتضمّن ، فظاهر.

وأمّا الالتزام ، فلأنّ شرطه اللزوم العقلي أو العرفي ، وكلاهما مفقود ، ولذا يجوز النهي عن معاملة - والتصريح بترتّب آثارها عليها - لو وقعت من دون حصول تناف بين الكلامين.

ثمّ إنّ النهي في المعاملة كما لا يدلّ على الفساد فلا يدلّ على الصحّة أيضا ، فالحكم المنهيّ عنه لو لم يدلّ دليل على صحّته بعمومه أو خصوصه يحكم بفساده وإن قطع النظر عن النهي ؛ لأصالة بقاء الحكم السابق ؛ ولأنّ الصحّة السببيّة - وهي ترتّب الآثار - حكم شرعي

ص: 694


1- أي الدعوى الثانية وهي عدم دلالة النهي على الفساد في المعاملات مطلقا.
2- أي الحرمة.
3- أي لكانت الدلالة.

يفتقر ثبوته إلى دليل شرعي ، فالحكم بالصحّة يتوقّف على دلالة شرعيّة عامّة أو خاصّة ، وحينئذ لا يكون النهي مانعا عنها ؛ لعدم التنافي ، بخلاف العبادات ؛ لأنّ الحرمة فيها لمّا كانت منافية لصحّتها فلا يجوز اجتماع الأمر والنهي فيها ، فالنهي يدلّ على فسادها ، وإن دلّ عامّ أو خاصّ على صحّتها ، فيقع بينهما التعارض. هذا.

واحتجّ من قال بدلالته على الفساد في المعاملة أيضا بوجوه :

منها : أنّ العرف يفهم منه الفساد ، والأصل عدم النقل (1).

وجوابه : منع فهم العرف الفساد السببي ، بل لا يخطر ذلك ببالهم.

ومنها : الدليل الثاني (2).

والجواب عنه : أنّه إن اريد بالحكمة حالة ملائمة لكون الفعل مطلوبا للشارع ، فلا نسلّم دلالة الصحّة السببيّة على وجودها ؛ إذ من الجائز عقلا انتفاء الحالة الملاءمة في الطلاق وعقد البيع وقت النداء مع ترتّب البينونة وانتقال الملك عليهما.

نعم ، هذا في العبادات معقول ؛ لأنّ الصحّة فيها لمّا كانت عبارة عن حصول الامتثال وموافقة الأمر ، فالنهي فيها يدلّ على وجود الحالة الملاءمة.

وإن اريد بها حالة مطلقة أعمّ من أن تكون ملائمة ، أو مستتبعة للآثار ، فاقتضاء الصحّة لها مسلّم إلاّ أنّه لا معنى للترديد حينئذ ؛ لأنّ الحالة المستتبعة للآثار لا تعارض حكمة النهي حتّى يقال : إنّها مساوية لها ، أو راجحة عليها ، أو مرجوحة عنها ؛ لعدم التضادّ بينهما.

ومنها : الدليل الثالث (3).

وقد عرفت جوابه (4).

ومنها : أنّ ترتّب الآثار على المعاملات ليس أمرا عقليّا ، بل هو بمجرّد جعل الشارع ووضعه ، فهو من قبيل الأحكام الوضعيّة الناقلة عن الأصل ، فلا يحكم به إلاّ مع العلم أو الظنّ الشرعي ، ومع تعلّق النهي لا يحصل شيء منهما.

ص: 695


1- راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 180 ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : 100 و 101 ، والوافية : 101.
2- أي الوجه الثاني ، وقد تقدّم في ص 691.
3- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 100.
4- تقدّم في ص 691.

نعم ، إن علم جعل الشارع معاملة معرّفة لشيء من الأحكام ، أمكن الحكم بترتّب آثارها عليها وإن تعلّق النهي بعينها أو جزئها أو وصفها (1).

وأنت خبير بأنّ هذا اعتراف بعدم دلالة النهي على الفساد ، فهو حجّة لنا.

ومنها : ما ورد في بعض الأخبار (2) من استدلال الأئمّة على حرمة بعض العقود والإيقاعات بالمناهي المجرّدة عن القرائن ، مع كونها فاسدة في الواقع ، فيظهر منه أنّ مرادهم من الحرمة الفساد (3).

والجواب : أنّهم عليهم السلام لم يستدلّوا بها إلاّ على الحرمة. وكونها فاسدة للدلالة الخارجيّة لا يقتضي أن يكون المراد من الحرمة الفساد.

ومنها : قول الباقر عليه السلام : « من طلّق ثلاثا في مجلس على غير طهر لم يكن شيئا ، إنّما الطلاق الذي أمره اللّه عزّ وجلّ ، ومن خالف لم يكن له طلاق » (4) ، ووجه دلالته أنّه عليه السلام نفى حقيقة الطلاق إذا كان منهيّا عنه ، وأقرب المجازات إلى نفي الحقيقة الفساد.

وقوله في حسنة زرارة - بعد ما حكم بصحّة تزويج العبد إذا وقع بدون إذن سيّده ثمّ أجازه ، وقيل له : إنّ بعض أهل الخلاف يقول بفساد أصله فلا يحلّه الإجازة - : « إنّه لم يعص اللّه ، إنّما عصى سيّده ، فإذا أجازه فهو جائز له » (5).

وجه الدلالة أنّه يدلّ على فساد النكاح إذا كان معصية لله تعالى ، وفعل المنهيّ عنه معصية (6).

والجواب : أنّهما لا يدلاّن إلاّ على فساد ما لم يؤمر به بوجه وكان منهيّا عنه أو معصية ، ولذا حكم بصحّة تزويج العبد بعد الإجازة ؛ لأنّه كان مأمورا به أوّلا ؛ نظرا إلى جواز إيقاع الفضولي. وبطلان ما لم يؤمر به أصلا ممّا نقول به ، كما تقدّم (7).

ص: 696


1- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 100.
2- تهذيب الأحكام 7 : 297 ، ح 1243 و 1244.
3- قاله الفاضل التوني في الوافية : 106.
4- الكافي 6 : 58 ، باب من طلّق لغير الكتاب والسنّة ، ح 7 ، وتهذيب الأحكام 8 : 47 ، ح 146.
5- الفقيه 3 : 350 ، ح 1675 ، وتهذيب الأحكام 7 : 351 ، ح 1432.
6- قاله الفاضل التوني في الوافية : 106.
7- في ص 689.

واحتجّ القائل بالدلالة مطلقا بحسب الشرع لا اللغة أمّا على الجزء الإثباتي : فبما تقدّم من عمل السلف (1) ، وقد عرفت أنّه ثبت (2) به المطلوب (3) في العبادات دون المعاملات. وأمّا على الجزء السلبي : فبأنّ فساد الشيء عبارة عن سلب أحكامه ، وليس في لفظ النهي ما يدلّ عليه لغة (4).

والجواب عن الثاني : أنّه إن اريد بالأحكام الآثار التابعة للعقود والإيقاعات ، فعدم دلالة النهي عليه لغة مسلّم نحن نقول به ، إلاّ أنّه كذلك أيضا بحسب الشرع كما تقدّم (5).

وإن اريد بها ما يشمل عدم موافقة الأمر ، فعدم دلالته عليه ممنوع ، فإنّ النهي يدلّ عليه لغة كما يدلّ عليه شرعا ، ولا فرق في هذه الدلالة بين اللغة والشرع ؛ لأنّه ليس مدلولا مطابقيّا ولا تضمّنيا لشيء منهما ، ولازم عقلي لكلّ منهما ؛ لأنّه لازم للتحريم الذي يدلّ عليه النهي لغة وشرعا. هذا.

وممّا ذكرناه فيما تقدّم (6) قد ظهر حجّة القائل بالدلالة إذا تعلّق النهي بعين الشيء ، أو جزئه ، أو وصفه اللازم ؛ وعدمها إذا تعلّق بوصفه المفارق مع جوابها.

إذا عرفت ذلك ، فيتفرّع عليه بطلان الطهارة بالماء المغصوب ، والصلاة في المكان المغصوب ، والصوم سفرا عدا ما استثني ، والحجّ المندوب بدون إذن الزوج والمولى ، وبطلان الوضوء إذا ترك غسل الرجلين أو مسح الخفّين في موضع التقيّة ، وصحّة البيع وقت النداء ، وقس عليها أمثالها.

وممّا يتفرّع عليه ذبح الأضحية ، أو الهدي بآلة مغصوبة ، وإيقاع الصلاة مع كون المصلّي مستصحبا لشيء مغصوب.

وبعد الإحاطة بما ذكر لا يخفى حقيقة الحال فيهما.

ص: 697


1- تقدّم في ص 691.
2- في « ب » : « يثبت ».
3- في « ب » : « المطلب ».
4- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 100.
5- تقدّم في ص 691.
6- تقدّم في ص 689.
تذنيب

عدم دلالة النهي على الصحّة ممّا لا ينبغي الريب فيه بعد الإحاطة بما تقدّم. وبالغ أبو حنيفة والشيباني في دلالته عليها (1) ، وهو من المباحث المشهورة عند الحنفيّة ، واستدلّوا عليه بخيالات فاسدة لا ينبغي تدوينها في المصنّفات والتعرّض لها في المحاورات ؛ ولذا أعرض عنها الجماهير ، وأجمعوا على خلافهما (2).

فصل [21]

الأمر والنهي متعلّقهما إمّا مطلق ، أو معيّن متجزّئ ، أو معيّن غير متجزّئ.

فعلى الأوّل يحصل الامتثال في الأمر بإيقاع جزئي من جزئيّاته ، ولا يحصل في النهي إلاّ بترك جميع أفراده ؛ لأنّ المطلق في جانب النهي كالنكرة المنفيّة في العموم ، فلو حلف على أكل رمّان تبرأ ذمّته بأكل واحد ، ولو حلف على تركه لم تبرأ إلاّ بترك جميع أفراده.

وعلى الثاني يشترط في امتثال الأمر الاستيعاب ، ويحصل الامتثال في النهي بالانتهاء عن البعض ؛ لأنّ الماهيّة المركّبة تنفى بانتفاء جزء منها ، فلو حلف على الصدقة بعشرة ، فلا يكفي البعض ، ولو حلف أن لا يأكل رغيفا ، أو علّق الظهار به لم يحنث بأكل بعضه ، بل الحنث والظهار يتوقّفان على الاستيعاب.

وعلى الثالث فلا فرق فيه (3) بين الأمر والنهي ؛ لتوقّف امتثال الأمر على فعل هذا المعيّن ، والنهي على تركه ، كما لو حلف على فعل القتل أو تركه.

ص: 698


1- راجع المحصول 2 : 300.
2- راجع المحصول 2 : 300.
3- أي في الامتثال.

الباب الثاني : في العامّ والخاصّ

اشارة

اعلم أنّ العامّ قد حدّ بحدود ، أشهرها وأصوبها عندي أنّه : « اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بوضع واحد » ويخرج بقيد : « المستغرق لجميع ما يصلح له » جميع النكرات - مفردة كانت ، أو تثنية ، أو جمعا - وقيد الأخير ؛ لإدخال المشترك إذا استغرق جميع أفراد معنى واحد ، كلفظ « العين » إذا استغرق جميع أفراد الباصرة ، ولولاه للزم أن يشترط في عمومه استغراقه لجميع أفراد معانيه المتعدّدة ، وإدخال اللفظ الذي له معنى حقيقي ومجازي إذا استغرق جميع أفراد أحدهما ، ولولاه لزم أن يشترط في عمومه استغراقه لجميع أفراد مفهوميه معا.

وقيل : إنّه لإخراج المشترك والحقيقة والمجاز أيضا (1) ، إذا اريد من الأوّل جميع معانيه عند من يجوّزه ، ومن الثاني المعنى الحقيقي والمجازي عند من جوّز إرادتهما من اللفظ الواحد.

وفيه : أنّهما يخرجان بالقيد الأوّل ؛ لأنّ الأوّل يصلح لجميع أفراد جميع معانيه ، والثاني يصلح لجميع أفراد معنييه ، فإذا اريد من كلّ منهما بعض أفراد جميع معانيه لم يكن مستغرقا لجميع ما يصلح له.

واورد عليه بأنّه ينتقض عكسا بالجموع المعرّفة إن اريد من الموصول (2) الجزئيّات ؛ لأنّها من صيغ العموم مع أنّها لا تستغرق جزئيّاتها - أي كلّ جمع جمع - بل تستغرق

ص: 699


1- قاله الفخر الرازي في المحصول 2 : 310.
2- والمراد به الموصول في التعريف في قوله : « ما يصلح له ».

أجزاءها (1) ، أي كلّ واحد واحد كما هو الحقّ. وب « الرجل » و « لا رجل » إن اريد منه (2) الأجزاء ؛ لأنّهما يفيدان العموم مع أنّ ما يصلحان له من جزئيّاتهما لا من أجزائهما. وبالبسائط العامّة ، ك- « النقطة » و « الوحدة » باعتبار تناولها الجزئيّات إن اريد منه (3) كلاهما ؛ فتعيّن إرادة الأعمّ - أي أحدهما (4) لا بعينه - فينتقض طردا بالجمل والمثنّى والمجموع المنكّر (5) ، كزيدين وزيدين ، والعشرة والمائة ، وغيرهما من أسماء الأعداد ؛ لأنّ الجمل مستغرقة لما يصلح (6) لها من أجزائها من الفعل والفاعل والمفعول ، والبواقي أيضا مستغرقة لما يصلح لها من الأجزاء ، أي الاثنين والثلاثة والعشرة وغيرها (7).

وجوابه : أنّ المراد منه (8) الجزئيّات ، ولا يرد النقض بالجموع المعرّفة ، لا لمنع كون عمومها باعتبار كلّ فرد بل لكلّ جمع كما قيل ؛ لأنّ ذلك خلاف التحقيق ؛ للزوم التكرار ، وانتقال أهل اللسان منها ابتداء إلى كلّ فرد فرد من دون خطور الجمع ببالهم ، بل لأنّ اللام (9) يبطل الجمعيّة كما اشتهر بينهم ، فيكون جزئيّات مفهومها (10) كلّ فرد فرد لا كلّ جمع.

وقيل : هو اللفظ الموضوع للدلالة على استغراق أجزائه أو جزئيّاته (11).

وينتقض طردا بالمثنّى ، والمجموع المنكّر ، والعشرة كما تقدّم (12).

وقيل : هو اللفظ الواحد الدالّ من جهة واحدة على شيئين فصاعدا (13).

ص: 700


1- أي أجزاء الجزئيّات.
2- أي الموصول في التعريف.
3- أي الموصول في التعريف.
4- أي يراد من الموصول في التعريف أحد من الجزئيّات والأجزاء. وحاصل الإيراد أنّ المراد من الموصول إن كان هو الجزئيّات وحدها ، أو الأجزاء وحدها ، أو كليهما يخرج عن التعريف بعض مصاديق العامّ. وإن كان المراد هو الأعمّ منها ومن الأجزاء - بمعنى أحدهما لا بعينه - يدخل في التعريف ما ليس عامّا.
5- كذا في النسختين. والأولى : الجمع المنكّر أو الجموع المنكّرة ، والمراد به ما ليس مدخولا للاّم كزيدين.
6- أي ما يصلح أن يكون مقوّما للجملة.
7- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : 102.
8- أي الموصول في التعريف.
9- والمراد هو اللام في مثل الرجال.
10- أي مفهوم الجموع المعرّفة مثل الرجال.
11- قاله البهائي في زبدة الاصول : 123.
12- تقدّم آنفا.
13- المستصفى : 224 ، والإحكام في أصول الأحكام 2 : 217.

واعترض عليه بوجوه يمكن دفعها بتكلّفات ، وما لا يندفع عنه أنّه ينتقض عكسا بالمثنّى والجمع المنكّر (1).

وللمتكلّف أن يقول : المراد من « الشيئين فصاعدا » الجزئيّات ، فيسلم من النقض.

وقيل : هو ما دلّ على مسمّيات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقا ضربة (2).

ويخرج ب- « مسمّيات » مثل : زيد ، وب « اشتركت » نحو : عشرة ، وب « مطلق » المعهود ، فإنّه يدلّ على مسمّيات باعتبار ما اشتركت فيه مع قيد خصّصه بالمعهودين ، وب « ضربة » ما يدلّ على مسمّيات على البدل ، كرجل (3).

وينتقض طردا بالجموع المنكّرة ، وعكسا بالجموع المضافة ، كعلماء البلد ؛ فإنّها تدلّ على مسمّيات مع قيد التخصيص.

وقيل : هو اللفظ الواحد المتناول بالفعل لما هو صالح بالقوّة مع تعدّد موارده (4).

واورد عليه بأنّه ينتقض عكسا بمثل « علماء البلد » ، والموصولات ، ك- « الذي يأتي (5) » وأسماء الشرط ، ك- « مهما يضرب » ؛ لتناولها قوّة ما لا يتناوله فعلا (6).

فصل [1]

العامّ أخصّ مطلقا من المطلق ؛ لأنّ مدلوله الماهيّة المقيّدة بالكثرة الشاملة غير المحصورة ، ومدلول المطلق - كما هو الظاهر من عبارات القوم - الماهيّة من حيث هي.

وتوضيح ذلك : أنّ لكلّ شيء حقيقة هو بها هو ، وهي من حيث هي ليست واحدة ولا كثيرة ، ولا عامّة ولا خاصّة ، ولا مسلوبا عنها شيء من ذلك ؛ لأنّها قابلة للاتّصاف بكلّ منها على البدل ، فإن اخذت مع الوحدة تكون واحدة ، ومع الكثرة تكون كثيرة ، وهكذا بالقياس إلى باقي العوارض.

ص: 701


1- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : 102.
2- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 102. وقوله : « ضربة » أي دفعة.
3- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : 102.
4- قاله العلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الاصول 2 : 114.
5- لم يرد في « ب » : « يأتي ».
6- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : 102.

وإذا تقرّر ذلك ، فنقول : اللفظ الدالّ عليها من حيث هي « المطلق ». وعليها مع كلّ جزئيّاتها « العامّ ». ومع وحدات محصورة « العدد ». ومع واحدة معيّنة « المعرفة ». وغير معيّنة « النكرة ».

وأنت خبير بأنّ كون المطلق ما اريد به الحقيقة من حيث هي ينافي تعليق الأحكام بالأفراد دون الماهيّات ، ولذا قيل : « إنّه ما دلّ على شائع في جنسه » (1). أي على حصّة ممكنة الصدق على حصص كثيرة من الحصص المندرجة تحت مفهوم كلّي ، فيخرج ما ليس لحصّة محتملة ، كالمعارف بأسرها ؛ لأنّها إمّا أن تدلّ على فرد معيّن ، نحو : « زيد » و « هذا » ، أو على الحقيقة من حيث هي ، نحو : « الرجل » و « اسامة » ، أو على حصّة معيّنة ، مثل : ( فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ) (2) أو على استغراق الأفراد وعمومها ، نحو : « الرجال » و « كلّ رجل » و « لا رجل » ، فالمطلق لا تعيين فيه بوجه. والمعارف فيها التعيين إمّا شخصا ، أو حقيقة ، أو حصّة ، أو استغراقا. هذا.

ويمكن توجيه ما هو الظاهر من كلام القوم بأنّ الأحكام لا يلزم أن تجري أوّلا على الأفراد ، بل اللازم أعمّ من ذلك ، فيمكن أن تجري عليها أوّلا وعلى الكلّيات باعتبارها ، فأيّ مانع أن يكون مدلول المطلق الماهيّة من حيث هي باعتبار وجودها.

فصل [2]

لا خلاف في عروض العموم للألفاظ حقيقة ، وإنّما اختلفوا في عروضه للمعاني على أقوال : ثالثها : عروضه لها مجازا لا حقيقة (3).

والحقّ ، أنّه إن اريد بالعموم استغراق اللفظ لمسمّياته - كما هو اصطلاح الاصوليّين (4) - فهو من عوارض الألفاظ خاصّة ، وإن اريد به شمول مفهوم لأفراده - كما هو اصطلاح أهل النظر (5) - فهو من عوارض المعاني خاصّة ، وإن اريد به شمول أمر لمتعدّد ، فهو من عوارضهما معا لغة وعقلا.

ص: 702


1- قاله الشيخ حسن في معالم الدين : 150 ، والبهائي في زبدة الاصول : 143.
2- المزّمّل (73) : 16.
3- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : 102.
4- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : 102.
5- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : 102.

أمّا كونه عارضا للألفاظ بحسبهما ، فلا ريب فيه.

وأمّا كونه عارضا للمعاني لغة ، فظاهر من إطلاق الادباء واستعمال الفصحاء إطلاقا شائعا ، واستعمالا ذائعا ، كقولهم : « عمّ العطاء » و « عمّ البلاء » و « عمّ الخصب » و « عمّ الجدب » و « عمّ المطر » و « عمّ الخير » وغير ذلك (1).

وأمّا كونه عارضا لها عقلا ؛ فلأنّه كما يصحّ في الألفاظ أن يوجد لفظ واحد شامل لألفاظ كثيرة متعلّق بها تعلّق الصدق والحمل لا تعلّق الحلول ، فكذلك يصحّ أن يوجد معنى ذهني يشمل أفرادا كثيرة يحمل عليها بالحمل الإيجابي. وإنكار ذلك مكابرة. والظاهر أنّ من أنكره من الاصوليّين ممّن أنكر وجود المعاني الذهنيّة.

وظهر من ذلك أنّ الأمر العامّ إذا لم يكن من الألفاظ لا بدّ أن يكون من المعقولات الذهنيّة لا الأعيان الخارجيّة ؛ لأنّه لا يمكن أن يوجد في الخارج ما يتّصف بالعموم - أي يكون صادقا ومحمولا على كثيرين - إلاّ أن يثبت وجود الكلّي الطبيعي في الخارج.

فصل [3]

ما يفيد العموم إمّا يفيده عرفا ، كقوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) (2) ، فإنّه يوجب عرفا حرمة جميع الاستمتاعات.

أو عقلا ، وهو إمّا ترتّب الحكم على الوصف بإحدى الطرق المثبتة للعلّيّة ؛ لأنّه إذا ثبتت العلّيّة ، يحكم العقل بعمومها ، أي ثبوت الحكم أينما وجدت ، كقوله : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا ) (3) ، ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا ) (4).

أو دليل الخطاب عند من يقول به ، كقوله عليه السلام : « في سائمة الغنم زكاة » (5) فإنّه يفيد انتفاء الزكاة عن جميع ما عدا السائمة. أو اشتمال السؤال على ما يحكم العقل لأجله بعموم الحكم

ص: 703


1- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : 102.
2- النساء (4) : 23.
3- المائدة (5) : 38.
4- النور (24) : 2.
5- انظر تهذيب الأحكام 4 : 2 ، ح 2 ، والاستبصار 2 : 2 ، ح 2.

الذي يشتمل عليه الجواب ، كأن يسأل عن كلّ (1) من أفطر في نهار رمضان ، فيقال : عليه الكفّارة ، فيعلم شمول هذا الحكم لكلّ من أفطر.

أو لغة ، وهو الصيغ المخصوصة التي يثبت بعد ذلك إفادتها العموم ، ومنه يثبت أنّ للعموم في لغة العرب صيغا تخصّه ، كما ذهب إليه أهل التحقيق (2).

وقال جماعة : إنّ جميع الصيغ التي يدّعى وضعها للعموم حقيقة في الخصوص وإنّما تستعمل في العموم مجازا (3).

وذهب طائفة ، منهم المرتضى إلى أنّها مشتركة بين الخصوص والعموم لغة ، إلاّ أنّه جزم بأنّها نقلت في عرف الشرع إلى العموم (4).

وقيل بالوقف مطلقا (5).

وقيل به في الأخبار دون الأمر والنهي (6).

واحتجّ القائل بأنّها حقيقة في الخصوص بأنّ الخصوص متيقّن ؛ لأنّها إن كانت للخصوص فمراد ، وإن كانت للعموم فهو داخل في المراد ، والعموم مشكوك فيه ، فجعلها للمتيقّن أولى من جعلها للمشكوك فيه.

وبأنّه اشتهر في الألسن - حتّى صار مثلا - : « أنّه ما من عامّ إلاّ وقد خصّ منه » وهو ليس محمولا على ظاهره وإلاّ لزم من صدقه كذبه ؛ فهو أيضا مخصّص بمثل قوله تعالى : ( أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (7). والمراد منه المبالغة في تخصيص العمومات وإلحاق القليل - وهو العموم - بالمعدوم. والظاهر يقتضي كون ما يدّعى عمومه حقيقة (8) في الأغلب وهو

ص: 704


1- كذا في النسختين. والظاهر زيادة « كلّ ».
2- راجع : معارج الاصول : 81 ، وتمهيد القواعد : 147 ، ومعالم الدين : 102.
3- راجع : معارج الاصول : 82 ، ومعالم الدين : 102.
4- الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 198 - 201.
5- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 222.
6- حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 103 ، والأسنوي في التمهيد : 297 ، والفاضل التوني في الوافية : 112. ونقله الزركشي عن الشيخ أبي الحسن ومعظم المحقّقين في البحر المحيط 2 : 192.
7- البقرة (2) : 231.
8- منصوبان بالخبريّة للكون.

الخصوص ، مجازا (1) في الأقلّ وهو العموم ؛ تقليلا للمجاز (2).

والجواب عن الأوّل : أنّه بعد قيام الأدلّة القاطعة التي منها الإجماع على أنّها للعموم - كما يأتي (3) - لا معنى للتمسّك بمثل هذه الأولويّة لإثبات خلافه.

وعن الثاني : أمّا أوّلا ، فبأنّ التمسّك في أمثال المقام بمثل هذه الشهرة في غاية الركاكة.

وأمّا ثانيا ، فبأنّ ظهور كونها حقيقة في الأغلب إنّما يكون عند عدم الدليل على أنّها حقيقة في الأقلّ ، وهو قائم ، كما يأتي (4).

وأمّا ثالثا ، فبأنّ احتياج خروج البعض منها إلى التخصيص بمخصّص يدلّ على أنّها للعموم.

والقول بأنّه لا يدلّ على أنّ استعمالها للخصوص يحتاج إلى مخصّص خارج بل المسلّم دلالته على أنّها تستعمل في الأكثر للخصوص (5) ، ساقط ؛ لأنّ الجاري على الألسن ، والمفهوم صريحا من المثل ، والمتلقّى بالقبول عند الجميع أنّها مستعملة في عمومات مخصّصة بمخصّصات.

احتجّ القائل بالاشتراك بأنّها اطلقت على العموم والخصوص ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، فتكون حقيقة فيهما ، وهو معنى الاشتراك (6).

وقد مرّ جواب مثله مرارا (7).

وبأنّ ما يعلم به كونها للعموم ، إمّا العقل أو النقل ، والأوّل لا مدخليّة له في الوضع. والثاني متواتره لم يوجد وإلاّ لم يختلف فيه ، وآحاده لا تفيد (8).

وجوابه : أمّا أوّلا ، فبمنع عدم إفادة الآحاد في إثبات مدلولات الألفاظ.

وأمّا ثانيا ، فبمنع الحصر ؛ لأنّ التبادر دليل الوضع ، وليس شيئا منهما.

ص: 705


1- منصوبان بالخبريّة للكون.
2- تقدّم تخريجه في ص 704.
3- يأتي في ص 706.
4- يأتي بعيد هذا.
5- تقدّم تخريجها في ص 704.
6- تقدّم تخريجها في ص 704.
7- ومنها ما تقدّم في ص 610.
8- تقدّم تخريجها في ص 704.

وأمّا ثالثا ، فبتسليم وجود التواتر في بعضها. هذا.

وحجّة القائل بالوقف مع جوابها ظاهرة.

واحتجّ من قال بعمومها في الأمر والنهي وتوقّف في الأخبار بأنّ الإجماع منعقد على أنّ التكليف لعامّة المكلّفين ، والتكليف إنّما يتحقّق بالأمر والنهي ، فلو لا أنّ صيغتهما للعموم لما كان التكليف عامّا (1).

وجوابه : أنّ الإجماع منعقد أيضا على ورود الأخبار في حقّ عامّة المكلّفين (2).

فصل [4]

صيغ العموم على نوعين :

الأوّل : ما لا خلاف بين القائلين بأنّ للعموم صيغة تخصّه في إفادته للعموم.

والثاني : ما وقع بينهم الخلاف فيه في إفادته له.

و [ النوع ] الأوّل : « كلّ » و « جميع » وما يصرف منه ك- « أجمع » و « أجمعين » و « جمعاء » و « جمع » وغير ذلك ، وتوابعها المشهورة ك- « أكتع » وأخواته (3) و « معشر » و « معاشر » و « عامّة » و « كافّة » و « قاطبة » و « سائر » شاملة إمّا لجميع ما بقي ، أو للجميع على الإطلاق.

وأسماء الاستفهام ، نحو : « من » و « ما » و « أين » و « متى » و « أيّ ».

وأسماء الشرط ، مثل : « من » و « ما » و « أيّ » و « أيّما » و « مهما » و « أينما » و « متى » و « إذ » و « كيفما » و « أنّى » و « حيث » و « حيثما » ، وكذا « أيّان ».

والنكرة المنفيّة ، والأسماء الموصولة ، ك- « الذي » و « التي » وتثنيتهما وجمعهما.

وأسماء الإشارة المجموعة ، مثل : ( وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ ) (4) ، ( ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ ) (5).

ص: 706


1- تقدّم تخريجها في ص 704.
2- حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 105.
3- وهي : الأبصع والأبتع.
4- التوبة (9) : 20.
5- البقرة (2) : 85.

وإذا اكّد الكلام ب- « الأبد » أو « الدوام » أو « الاستمرار » أو « السرمد » أو « دهر الداهرين » أو « عوض » أو « قطّ » في النفي أفاد العموم في الزمان.

وممّا يفيد العموم أمر جمع بصيغة جمع (1) كأن يقول السيّد لعبيده : « قوموا » ، والجمع المعرّف باللام ، أو الإضافة ، وحكم اسم الجمع كالجمع ، مثل : « الناس » و « القوم » و « الرهط ».

والنوع الثاني : « كم » الاستفهاميّة و « من » و « ما » الموصولة و « ما » الزمانيّة - وإن كانت حرفا ، مثل : ( إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ) (2) - و « ما » المصدريّة إذا وصلت بفعل مستقبل ، مثل : « ما يعجبني ما يصنع ».

والنكرة في سياق الشرط ، كأن يقول : « إن ولدت ولدا فأنت عليّ كظهر امّي » ، فيحصل الظهار بتوليد واحد ، أو اثنين ، أو أكثر. ومنه : ( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ) (3) ، ( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ ) (4).

والنكرة في سياق الاستفهام الإنكاري ، نحو : ( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) (5) ، ( هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ ) (6). وفي سياق الإثبات إذا كانت للامتنان ، نحو : ( فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ) (7). وفي سياق الأمر ، نحو : « أعتق رقبة ».

وأسماء القبائل بالنسبة إلى القبيلة ، مثل : « ربيعة » و « مضر » و « أوس » و « خزرج ». والمفرد المحلّى بلام الجنس ، والمضاف ، والجمع المنكّر ، ونفي الاستواء (8).

فهذه جملة الصيغ. ونحن نشير إليها مفصّلا ، فنذكر ما يوجب دلالة مجموع النوع

ص: 707


1- والمراد به كما يأتي في الصفحة 711 الجمع بصيغة الأمر ، وهذا لإخراج نحو « امور ».
2- آل عمران (3) : 75.
3- النساء (4) : 176.
4- التوبة (9) : 6.
5- مريم (19) : 65.
6- مريم (19) : 98.
7- الرحمن (55) : 68.
8- نحو زيد وعمرو لا يستويان وهذا - بناء على كون نفي الاستواء للعموم - يدلّ على أنّهما ليسا مستويين في شيء.

الأوّل على العموم ، ثمّ ما يختصّ به بعض منه ثمّ تبيّن (1) حقيقة الحال في كلّ واحد من أقسام النوع الثاني.

فصل [5]
اشارة

ممّا يدلّ على كون جميع أقسام النوع الأوّل للعموم تبادره عنها عند الإطلاق وهو دليل الحقيقة ، وجواز الاستثناء منها وهو معيار العموم ، وتصريح أكثر أهل اللغة (2) وقولهم في المقام حجّة ، واستدلال السلف بها عليه شائعا ذائعا من غير نكير (3). وبأصالة عدم النقل يثبت العموم لغة.

وممّا يدلّ على أنّ لفظ « كلّ » و « جميع » وما يصرف منه ، وأخواته ومرادفاته للعموم - سواء كانت للتأكيد أو غيره - أنّ قولنا : « قام كلّ إنسان » يناقض « ما قام كلّ إنسان » بالاتّفاق ، ولو لم يكن الكلّ للعموم كانت القضيّة (4) الاولى مهملة ، وهي في قوّة الجزئيّة ، والثانية أيضا جزئيّة ، والجزئيّتان لا تتناقضان ؛ لأنّ النفي عن الكلّ لا يناقض الإثبات في البعض.

ولا يرد أنّه إذا كان (5) سور إيجاب جزئي ، يكون سلبه سور سلب كلّي ، كما في قولنا : « واحد من الناس كاتب » « ليس واحد من الناس كاتبا » ؛ لأنّ « ليس كلّ » لا يفيد العموم وفاقا ، ويرشد إليه قولهم : « ما كلّ بيضاء شحمة ، ولا كلّ سوداء تمرة ».

وأيضا الجزء نقيض الكلّ ، ولو لم يكن الكلّ مستغرقا ، لم يكن الجزء نقيضه.

وأيضا لو كان « كلّ » و « جميع » وما بمعناهما للعموم والخصوص على الاشتراك ، لكان قول القائل : « رأيت الناس كلّهم أجمعين » مؤكّدا للاشتباه ؛ لأنّ مدلول اللفظ يتأكّد بتكريره ، مع أنّا نعلم أنّ مقصود أهل اللغة إزالة الاشتباه بتكرار هذه الألفاظ.

ولقائل أن يقول : قصد إزالة الاشتباه قرينة على إرادة العموم منها ، فيخرج عن المبحث.

ص: 708


1- في « ب » : « تتبيّن ».
2- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب :2. 105.
3- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب :2. 105.
4- في « ب » : « الصيغة ».
5- أي كان قام كلّ.

وقس على « كلّ » غيره من أخواته ومرادفاته.

ثمّ لفظ « الكلّ » يدلّ غالبا على التفصيل ، وقد يراد منه الهيئة الاجتماعيّة ، ويلزم عند الإطلاق إرادة الغالب.

ويتفرّع عليه أنّه لو قال لجماعة : « كلّ من سبق منكم فله دينار » ، فسبق ثلاثة - مثلا - أن يستحقّ كلّ منهم دينارا ، بخلاف ما لو قال : « من سبق منكم ». ولو قال : « واللّه لا اجامع كلّ واحدة منكنّ » يثبت حكم الإيلاء من ضرب المدّة ، أو المطالبة لكلّ واحدة منهنّ على انفرادها حتّى لو طلّق بعضهنّ كان للباقيات المطالبة.

وممّا يدلّ على كون أسماء الاستفهام للعموم أنّ قول القائل : « من دخل داري؟ » - مثلا - لو كان للخصوص لما حسن الجواب بالعموم بأن يقال في جوابه : « كلّ القوم » ، ولو كان للاشتراك لما صحّ الجواب قبل الاستفهام عن كلّ محتمل مع أنّه صحيح.

فإن قيل : تناول « من » في القول المذكور لزيد وعمرو وبكر وغيرهم من الأفراد ليس دفعة وبحسب الدلالة ، بل على البدل والاحتمال ، فلا فرق بينه وبين النكرة في سياق الإثبات في قولنا : « ادخل سوقا ».

قلت : تناول « سوقا » لسوق الأمير أو الوزير أو غيرهما على البدل والاحتمال ، وتناول « من » لزيد وعمرو وغيرهما دفعة وبحسب الدلالة ، إلاّ أنّه بحسب التردّد دون الجزم لا على البدل والاحتمال ، وشتّان ما بينهما.

وقس على « من » غيره من أسماء الاستفهام.

وممّا يدلّ على كون أسماء الشرط للعموم أنّ لفظ « من » مثلا في قولنا : « من دخل داري اكرمه » لو كان للاشتراك لما صحّ الامتثال قبل السؤال ، ولو كان للخصوص لما صحّ الاستثناء ؛ لأنّه دليل التناول للنقل ، ولأنّه مشتقّ من الثني ، وهو المنع والصرف ، فيكون للإخراج ، فلو لم يتناول اللفظ الأوّل ذلك المخرج لما كان إخراجا. وأيضا انعقد الإجماع على أنّه إذا قال : « من دخل داري فهو حرّ » أو « طالق » يعمّ العبيد والنساء. وقس على « من » غيره من أسماء الشرط.

واعلم أنّه صرّح جماعة بأنّ لفظة « أيّ » ليست للتكرار ، بخلاف « كلّ »

ص: 709

ونحوه (1). وفرّعوا عليه بأنّه لو قال لوكيله : « أيّ رجل دخل المسجد فأعطه درهما » لزم عليه الاقتصار على إعطاء واحد ، بخلاف ما لو قال : « كلّ رجل » ، ويظهر من ذلك أنّ عمومها للبدل لا للشمول (2) ، فتأمّل.

وممّا يدلّ على أنّ النكرة المنفيّة للعموم أنّه لو قال المولى لعبده : « لا تضرب أحدا » فضرب واحدا ذمّه العقلاء ، ولو لا فهم العموم لما توجّه الذمّ. وبأصالة عدم النقل يثبت المطلوب (3).

وأيضا انعقد الإجماع على أنّ كلمة التوحيد تفيد نفي الالوهيّة عن جميع ما سوى اللّه ، وأنّ الحنث يحصل بضرب واحد لو قال : « لا أضرب أحدا » ، والتكذيب يتحقّق بموجبة جزئيّة لو قال : « ما ضربت أحدا ».

وأيضا أجمع العلماء (4) على التمسّك بتحريم « كلّ عمّة » و « كلّ خالة » بقوله عليه السلام : « لا تنكح المرأة على عمّتها ولا على خالتها » (5).

اعلم أنّ النكرة المنفيّة إمّا يباشرها حرف النفي ، نحو : « ما أحد قائما » ، أو يباشر عاملها نحو : « ما قام أحد ».

وحرف النفي إمّا « لا » أو « ليس » أو « ما » أو « إن » أو « لم » أو « لن ».

ولا خلاف في أنّ النكرة المنفيّة الواقعة بعد « لا » لنفي الجنس ، أو (6) « من » للاستغراق ، نحو : « ما جاء من رجل » ، والصادقة (7) على القليل والكثير ك- : « شيء » ومثله تفيد العموم.

وأمّا غيرها ، نحو : « ما في الدار رجل » و « لا رجل قائما » بنصب الخبر ، ففيه مذهبان : أشهرهما وأصحّهما ذلك. ويدلّ عليه جميع ما تقدّم.

ويستثنى ممّا ذكر سلب الحكم عن العموم ، كقولنا : « ما كلّ عدد زوجا » إبطالا لقول من

ص: 710


1- راجع تمهيد القواعد : 155 ، القاعدة 50.
2- في « ب » : « الشمول ».
3- في « ب » : « المطلب ».
4- راجع غاية المراد 3 : 162.
5- الكافي 5 : 445 ، باب نوادر في الرضاع ، ح 11 ، وتهذيب الأحكام 7 : 292 ، ح 1229.
6- كذا في النسختين. والصحيح : « و ».
7- عطف على المنفيّة.

قال : « كلّ عدد زوج » فإنّه ليس من باب عموم السلب ، أي ليس حكما بالسلب على كلّ فرد.

وإذا عرفت ذلك ، فكيفيّة التفريع أنّه لو قال المدّعي : « لا بيّنة لي » ، فحلف المدّعى عليه ثمّ جاء ببيّنة ، فإنّها لا تسمع. وقيل : تسمع (1) ؛ لأنّه قد لا يعرفها أو ساهاها.

ولو حلف أن « لا أتكلّم أحدهما أو أحدهم » ولم يقصد واحدا بعينه ، فإذا كلّم واحدا ، حنث وانحلّت اليمين ، فلا يحنث إذا كلّم الآخر. ولو كان له زوجات ، فقال : « واللّه لا أطأ واحدة منكنّ » فإن أراد الامتناع عن كلّ واحدة منهنّ ، أو واحدة معيّنة أو مبهمة ، تعيّنت ، ويقبل قوله في ذلك ، وإن أطلق يحمل على التعميم عملا بظاهر الصيغة.

وحجّة العموم في مثل : « الذي » و « التي » وأسماء الإشارة المجموعة هي الحجج المشتركة ، ولم نعثر على ما يختصّ به.

والحجّة على أنّ « الأبد » ومرادفاته يدلّ على العموم الزماني أنّ العموم مدلولها الوضعي ، كما يظهر من اللغة (2).

وممّا يدلّ على أنّ الجمع بصيغة الأمر يدلّ على العموم أنّه لو قال السيّد لعبيده : « قوموا » فتخلّف واحد ، استحقّ الذمّ.

وممّا يدلّ على أنّ الجمع المعرّف باللام - مشتقّا كان أو غيره - للعموم أنّه يؤكّد بما يقتضي العموم ، كقولهم : « قام القوم كلّهم » و « رأيت المشركين كلّهم » ، وهو دليل العموم.

وأيضا الجمع المنكّر يفيد معنى الجمعيّة ، فلو أفاد المعرّف أيضا مجرّد الجمعيّة من دون استغراق ، لعرت اللام عن الفائدة.

وأيضا احتجّ أبو بكر على الأنصار بعد ادّعائهم الإمامة لأنفسهم بقوله عليه السلام : « الأئمّة من قريش » (3).

واعلم أنّه وإن ذهب أبو هاشم إلى أنّ الجمع المعرّف باللام لا يفيد العموم (4) ، وعلى هذا

ص: 711


1- قاله الأسنوي في التمهيد : 320.
2- راجع لسان العرب 1 : 40 « أ ب د ».
3- لاحظ المحصول 2 : 357 ، وكنز العمّال 12 : 30 ، ح 33831.
4- حكاه الشيخ في العدّة في أصول الفقه 1 : 292 ، والفخر الرازي في المحصول 2 : 357 ، والمحقّق الحلّي في معارج الاصول : 84.

كان اللازم أن يعدّ من النوع الثاني ، إلاّ أنّه لمّا لم يشاركه أحد ، ولم يلتفتوا إلى قوله ، وعدّوه من الشواذّ ، جعلناه من النوع الأوّل.

وممّا يدلّ على أنّ الجمع المضاف للعموم احتجاج فاطمة عليها السلام على أبي بكر - حيث منعها من توريثها عن أبيها - بقوله تعالى : ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) (1) ولم ينكر عليها أحد من الصحابة ، بل عدل أبو بكر إلى رواية رواها عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله (2). وفهم الخليل إيّاه من قوله تعالى : ( إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ ) (3) ؛ حيث قال : إنّ فيها لوطا وقرّره الملائكة.

وممّا يدلّ عليه وعلى سابقه احتجاج عمر على أبي بكر في قضيّة قتال مانعي الزكاة بقوله عليه السلام : « امرت أن اقاتل الناس حتّى يقولوا : أن لا إله إلاّ اللّه ، فإذا قالوه فقد حقنوا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّه » (4) أي حقّ هذا القول وهو كلمة التوحيد ، فقرّره الصحابة ، وعدل أبو بكر إلى قوله : « إلاّ بحقّه » والزكاة من حقّه ، فدلّ على أنّهم فهموا منه عموم لفظ « الناس » في وجوب قتالهم قبل تلفّظهم بكلمة التوحيد ، وعموم ضميره في عدم جواز قتالهم بعده ، وعموم الجمع المضاف وهو « الدماء » و « الأموال » (5).

واعلم أنّ كلّ واحد من المعرّف باللام والإضافة إلى معرفة والموصول ، يجري فيه الاستغراق وتعريف الجنس والعهد الخارجي والعهد الذهني.

فعلى التقدير الأوّل يفيد العموم نصّا ، بخلاف التقادير الأخر ، فلا بدّ في فهم العموم منه إلى قرينة ، ولذا قيل : العموم إمّا يثبته اللفظ بنفسه من غير قرينة ، كأسماء الاستفهام والشرط ، أو مع قرينة في الإثبات (6) ، كالجمع المحلّى باللام ، والمضاف جمعا ، أو اسم جنس مفرد أو الموصول أو مع قرينة في النفي كالنكرة في سياقه ؛ لأنّها تدلّ على نفي الفرد المنتشر ، أو الطبيعة من حيث هي. ويلزم على الأخير نفي جميع الأفراد ، الذي هو العموم.

ص: 712


1- نساء (4) : 11. إشارة إلى « طبيعة كلّيّة ».
2- انظر الاحتجاج 1 : 268 ، ونهاية الوصول إلى علم الاصول 2 : 227 ، والإحكام في أصول الأحكام 2 : 445.
3- العنكبوت (29) : 31.
4- سنن ابن ماجة 2 : 1295 ، ح 3927 ، وصحيح البخاري 1 : 17 ، ح 25 ، وصحيح مسلم 1 : 53 ، ح 36 / 22.
5- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : 103.
6- انظر تمهيد القواعد : 156 ، القاعدة 51.

ثمّ لا كلام في أنّه إذا لم يوجد قرينة العهد وجب حمله على الاستغراق.

ويتفرّع عليه عدم وقوع الظهار ، لو قال : « إن كان اللّه يعذّب الموحّدين فأنت عليّ كظهر امّي » إلاّ أن يقصد تعذيب بعضهم ؛ لأنّ التعذيب يختصّ بالبعض.

ولو وجدت قرينة العهد ، قيل : يلزم حمله على العهد (1) ، وإن احتمل العموم أو الجنس ؛ لأصالة البراءة من الزائد ، فلو حلف أن لا يشرب المياه ، وجب حمله على المعهود حتّى يحنث بالبعض. ولو حمل على العموم ، لم يحنث.

ولو حلف أن لا يأكل الجوزات ، لحمل على غير الهندي ؛ لأنّه المتعارف ، إلاّ في بلد يكون متعارفا فيه بحيث يطلق عليه اللفظ من غير تقييد.

ولو أوصى للفقراء أو نحوهم ، صرف إلى فقراء البلد ، أو (2) أقلّ الجمع فصاعدا ؛ لقيام القرينة الحاليّة على أنّ العموم غير مراد.

ثمّ في هذا المقام تفصيل وتحقيق يأتي في المفرد المعرّف (3).

هذا بيان أقسام النوع الأوّل. ولبيان تحقيق الحال في أقسام النوع الثاني نقول :

الحقّ أنّ « كم » الاستفهاميّة تفيد العموم كسائر أسماء الاستفهام. والحجّة عليه ما تقدّم فيها (4).

وأمّا « من » و « ما » الموصولة (5) ، نحو : « مررت بمن قام » أو « ما قام » ، أي بالذي قام ، فالحقّ أنّهما كسائر الأسماء الموصولة في إفادة العموم. والدليل الدليل.

وممّا يدلّ على إفادة خصوص « ما » للعموم قصّة ابن الزبعرى وهي مشهورة (6).

وقد يكون كلّ من « من » و « ما » نكرة موصوفة ، نحو : « مررت بمن » أو « بما معجب لك » أي شخص معجب لك. وقد تكون « ما » نكرة غير موصوفة وهي « ما » التعجّبية ، وحينئذ لا تفيدان العموم وفاقا.

ص: 713


1- انظر تمهيد القواعد : 156 ، القاعدة 51.
2- في « ب » : « و ».
3- سيأتي في ص 716.
4- تقدّم في ص 709.
5- كذا في النسختين. والأولى : « الموصولتان ».
6- حكاها الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 223 ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : 104.

وإذا كانتا موصولتين ، فإفادتهما للعموم تتوقّف على أن لا تكونا للعهد ، فما يرد عليك من لفظة « من » أو « ما » فلا بدّ لك أن تتأمّل في أنّهما شرطيّتان ، أو استفهاميّتان ، أو موصولتان ، أو موصوفتان ، فتحكم على الأوّلين (1) بعمومهما مطلقا ، وعلى الثالث بعمومهما إذا لم يكن ثمّة عهد ، وعلى الرابع لا تحكم بعمومهما أصلا ، وكذا لو حصل الاشتباه ؛ لأصالة البراءة.

ويتفرّع على ما ذكر أنّه لو قال رجل بعنوان النذر : « من يدخل الدار من عبيدي فهو حرّ » وجب أن ينظر ، فإن أتى بالفعل مجزوما ، فيعمّ العتق جميع الداخلين ؛ لأنّ « من » حينئذ تكون شرطيّة ، وكذا إن أتى به مرفوعا على ما اخترناه من أنّ الموصولة للعموم لعدم (2) تقدّم عهد ، وعلى ما ذهب إليه جماعة من أنّ الموصولة للعموم لعدم تقدّم عهد (3). وعلى ما ذهب إليه جماعة - من أنّ الموصولة لا تفيد العموم (4) - يلزم عتق واحد ، وكذا لو أمكن أن تحمل على الموصوفة.

ولو أقام متصرّف عين بيّنة على أنّ فلانا وهبها ، وأقام ورثة الواهب بيّنة اخرى بأنّ الواهب رجع فيما وهبه ، فالحقّ أنّ العين لا تنزع من يده ؛ لاحتمال أن لا يكون هذا العين من المرجوع فيه ؛ لجواز أن تكون « ما » (5) نكرة موصوفة ، ولو تعيّن كونها موصولة ، لزم النزع ؛ لكونها عامّة على ما اخترناه. وقس عليه أمثاله.

وأمّا « ما » الزمانيّة والمصدريّة ، فالحقّ أنّها لا تفيد العموم ؛ لعدم المقتضي وشذوذ القائل بالعموم (6). وكيفيّة التفريع ظاهرة.

وأمّا النكرة في سياق الشرط ، فالحقّ أنّ حكمها كأسماء الاستفهام في إفادة العموم ، ويجري فيها من الأدلّة ما يجري فيها.

ص: 714


1- أي كونهما شرطيّتين أو استفهاميّتين.
2- اللام هنا وفيما يأتي للتوقيت دون التعليل ومعناه « عند ». واعلم أنّ إضافة كلمة « جماعة » إلى « اخترناه » تغني عمّا يأتي.
3- راجع : المحصول 2 : 325 ، ونهاية السؤل 2 : 324.
4- راجع : المصادر المذكورة ، ومنهم أيضا الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 154 ، القاعدة 49.
5- والمراد بها ما وقع في قوله : « فيما وهبه ».
6- حكاه الشهيد الثاني عن بعض في تمهيد القواعد : 148 ، القاعدة 46.

ولو قيل : إنّها لا تدلّ إلاّ على العموم البدلي دون الاستغراقي ؛ لأنّ قوله : « إن ولدت ولدا » لا يدلّ إلاّ على الطبيعة المرسلة ، سواء تحقّقت في ضمن ولد أو ولدين أو أكثر ، فيكون كالنكرة المطلقة.

قلت : دلالتها عليها ليست على البدل ، بل على الاستغراق إلاّ أنّها على سبيل التردّد دون الجزم ، كما تقدّم في أسماء الاستفهام (1) ، فلو أوصى بأنّها : « إن ولدت ذكرا فله (2) ألف ، وإن ولدت انثى فله (3) مائة » فولدت ذكرين أو انثيين أو أكثر ، فللجميع الألف أو المائة.

وأنت خبير بأنّ الحكم كذلك لو لم تكن (4) للعموم الاستغراقي ، بل البدلي فلا يختلف به التفريع.

وأمّا النكرة في سياق الاستفهام الإنكاري ، فالظاهر أنّ حكمها حكم النكرة في سياق النفي ، ووجهه ظاهر.

وأمّا النكرة في سياق الإثبات - إذا كانت للامتنان - ، فلا يبعد أن يدّعى حصول الظنّ بإفادتها للعموم ؛ نظرا إلى أنّ الامتنان مع العموم أكثر.

وقيل : إن كان الكلام إنشاء ، يفيد العموم ، وإن كان إخبارا ، فلا بدّ من المطابقة بين الواقع ومدلول اللفظ إن عامّا فعامّا ، وإن خاصّا فخاصّا (5).

وممّا فرّع على عمومها طهوريّة كلّ ماء ، سواء نزل من السماء أو نبع من الأرض ؛ لقوله تعالى : ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) (6).

وأمّا النكرة في سياق الأمر ، فالحقّ أنّها لا تقتضي عموم الشمول (7) ، لأنّ قول القائل : « أعتق رقبة » لا يدلّ إلاّ على إعتاق رقبة واحدة من أيّ صنف كانت على البدل ، ولا يفهم منها لغة وعرفا أكثر من ذلك ، وحينئذ فالفرق بينها وبين النكرة المثبتة في سياق الخبر

ص: 715


1- تقدّم في ص 709.
2- المقصود من « فله » الولد لا الذكر ولا الانثى.
3- المقصود من « فله » الولد لا الذكر ولا الانثى.
4- أي النكرة في سياق الشرط.
5- راجع المحصول 2 : 344.
6- الأنفال (8) : 11.
7- كذا في النسختين. ولعلّ الإضافة بيانيّة.

أنّ الواقعة في سياق الخبر واحدة في الواقع ، إلاّ أنّها التبست علينا ، بخلاف الواقعة في سياق الأمر.

وأمّا اسم القبيلة ، فالظاهر أنّه يفيد العموم بالنسبة إلى تلك القبيلة ؛ لأنّ « ربيعة » - مثلا - وضع (1) لكلّ هذه القبيلة ، فلو اطلقت على بعضها ، يكون (2) مجازا.

وأمّا المفرد المعرّف بلام الجنس ، فالحقّ أنّه لا يفيد العموم لغة ويفيده شرعا. وقبل الخوض في الاستدلال لا بدّ لنا من تمهيد مقدّمة ، وهي أنّ « اللام » إذا دخلت على اسم الجنس فإن اشير بها إلى حصّة معيّنة منه - فردا كانت ، أو أفرادا - سمّيت لام العهد الخارجي ، وإن اشير بها إلى الجنس نفسه من حيث هو - كما في الحدود - سمّيت لام الحقيقة والطبيعة ، وإن اشير بها إلى الجنس من حيث وجوده في ضمن جميع الأفراد سمّيت لام الاستغراق ، أو في ضمن بعضها سمّيت لام العهد الذهني.

وإذ (3) ثبت استعمالها في هذه المعاني فإمّا أن تكون مشتركة بين الجميع ، كما يظهر من بعض (4) ، أو بين اثنين منها أو ثلاثة مجازا في الباقي ، أو حقيقة في أحدها فقط مجازا في البواقي.

فعلى الأوّل إن وردت مع قرينة دالّة على إرادة أحدها تعيّن (5) إرادته ، كما هو شأن المشتركات ، وإن وردت مطلقة فإمّا يقال بإجمالها ووجوب التوقّف - كما هو الحال في بواقي المشتركات - أو يقال بإرادة الجنسيّة من حيث هي ؛ لأنّها يقينيّة والبواقي مشكوك فيها ؛ لأنّ الاستغراق والعهد يفتقران إلى إرادة الزائد المنفيّ بالأصل.

وعلى الثاني إن استعملت بقرينة في البعض الأوّل يكون (6) حقيقة فيه ، وإن استعملت بقرينة في البعض الثاني يكون (7) مجازا فيه. وإن وردت مطلقة ، يجب أن لا تحمل على

ص: 716


1- التذكير باعتبار اللفظ.
2- أي يكون الإطلاق.
3- في « ب » : « وإن ».
4- انظر تمهيد القواعد : 167 ، القاعدة 56.
5- يمكن قراءة الكلمة بضمّ النون بأنّها مضارع من التفعّل بحذف إحدى التاءين.
6- أي يكون الاستعمال. والمراد بالبعض الأوّل هو المعاني المشترك فيها والمعاني الحقيقيّة ، وبالبعض الثاني هو الباقي والمعاني المجازيّة.
7- أي يكون الاستعمال. والمراد بالبعض الأوّل هو المعاني المشترك فيها والمعاني الحقيقيّة ، وبالبعض الثاني هو الباقي والمعاني المجازيّة.

البعض الثاني بل الأوّل ، إلاّ أنّها تكون محتملة بالنسبة إلى أفراده.

ولو قيل : يتعيّن كون الحقيقة حينئذ من المعاني الحقيقيّة دون المجازيّة. وعدم القول بكونها حقيقة في غير الحقيقة مجازا فيها ، لتأتّى القول بإرادة الجنسيّة المطلقة حينئذ ، كما ذكرنا في الأوّل.

وعلى الثالث إن قامت قرينة على إرادة أحد المعاني المجازيّة ، فتستعمل فيه مجازا ، وإلاّ فيراد الحقيقي وتكون حقيقة فيه. وعلى القول المذكور ينحصر الحقيقي في الحقيقة دون غيرها.

والحقّ أنّ الحقيقة والطبيعة لا يمكن أن تكون من المعاني المجازيّة ؛ لأنّ وضع هذه « اللام » للجنسيّة ، وحينئذ إن لم تكن حقيقة في غيرها ، فلا خفاء في تعيّن إرادتها عند الإطلاق ، وكذا إن كانت حقيقة في غيرها أيضا من العهد أو الاستغراق ؛ لأصالة عدم الزائد.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه إذا قامت القرينة على أنّ اللام الداخلة على اسم الجنس للاستغراق ، فلا خلاف في إفادتها العموم ، وإن دلّت القرينة على أنّها للعهد الخارجي أو الذهني ، فلا خلاف في عدم إفادتها العموم ، وإن تعيّن كونها للطبيعة من حيث هي - إمّا لقيام قرينة على ذلك ، أو لوقوعها في مقام الإطلاق ؛ لأنّها عند الإطلاق ظاهرة في الحقيقة وحملها على غيرها يحتاج إلى دليل ، كما تقدّم (1) - فهي التي اختلف في أنّها تفيد العموم أم لا.

والحقّ - كما قدّمناه - أنّها لا تفيد العموم لغة وتفيده شرعا (2).

لنا على الأوّل أنّ الطبيعة من حيث هي لا تنافي الوحدة والكثرة ، وتتحقّق في ضمن كلّ منهما ، والدالّ على العامّ لا يدلّ على الخاصّ.

ولنا أيضا أنّه (3) لا يؤكّد ولا يوصف بما يؤكّد ويوصف به الجمع.

والإيراد عليه بأنّ ذلك لعدم التشاكل اللفظي ، مندفع بأنّ التأكيد والتوصيف (4) يتبعان المعنى لا اللفظ.

ص: 717


1- تقدّم في ص 716.
2- تقدّم في ص 716.
3- أي اسم الجنس المعرّف.
4- استعمال لا توافقه اللغة.

والاستدلال عليه بعدم تبادر العموم منه ، وعدم جواز الاستثناء منه مطّردا ضعيف ، كما لا يخفى.

واحتجّ الخصم بصحّة وصفه بالجمع ، كما حكي من قولهم : « أهلك الناس الدرهم البيض والدينار الصفر » ، وقوله تعالى : ( أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ ) (1) ، وجواز الاستثناء منه ، كما في قوله تعالى : ( إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا ) (2) و (3).

والجواب : أنّ « اللام » في أمثالهما (4) للاستغراق ؛ فإنّه لا مجال لإنكار إفادة المفرد المعرّف له في بعض الموارد حقيقة أو مجازا كما تقدّم (5) ، مع أنّ الطفل يطلق على الواحد والجمع ، صرّح به الجوهري (6).

ولنا على الثاني أنّه لو لم يفد العموم شرعا ، لكان المراد منه إمّا الماهيّة من حيث هي ، أو البعض المبهم ؛ لأنّ الفرض عدم العهد الخارجي ، وإرادة الماهيّة ممتنعة في الأحكام الشرعيّة ؛ لأنّها تجري على الكلّيّات باعتبار وجودها ، وإرادة البعض المبهم تنافي الحكمة وتوجب الإغراء بالجهل والتكلّف بما لا يعلم ، ولا يصدر مثله عن الحكيم ومقنّن القوانين ، فتعيّن أن يكون المراد منه العموم في الأحكام الشرعيّة.

إذا عرفت ذلك فيتفرّع على الأوّل عدم دخول غير السبت الأوّل لو قال لوكيله : « بع هذا يوم السبت لا غير » وتحقّق الاستحقاق بقراءة بعض القرآن لو قال : « إذا قرأت القرآن فلك كذا » وعدم توقّفه على قراءة جميعه.

وربما حمل على عرف الشرع ؛ لتقدّمه على اللغة ، وإن كان في كلام الناس.

وعلى الثاني جواز بيع كلّ ما ينتفع به ؛ لقوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (7) ، وعدم انفعال

ص: 718


1- النور (24) : 31.
2- العصر (103) : 2 - 3.
3- حكاه الشيخ حسن في معالم الدين : 109.
4- أي في مورد الاستثناء والوصف بالجمع.
5- تقدّم في ص 716.
6- الصحاح 5 : 1751 ، « ط ف ل ».
7- البقرة (2) : 275.

كلّ ماء بلغ كرّا بمجرّد ملاقاة النجاسة ؛ لقوله عليه السلام : « إذا بلغ الماء كرّا لم ينجّسه شيء » (1) ، وطهوريّة كلّ ماء ؛ لقوله عليه السلام : « خلق اللّه الماء طهورا » (2).

تذنيب

ما ذكرناه - من أنّ المفرد المعرّف لا يدلّ إلاّ على الماهيّة من حيث هي لغة ، ويدلّ على العموم شرعا - إنّما إذا لم تتقدّم قرينة العهد ، ومع وجودها فإن كانت قرينة معيّنة له ، فيحمل عليه وفاقا كما تقدّم (3). وإن كانت قرينة مصحّحة له - أي احتمل معها إرادة الجنس أيضا - فإن كان أحد المحتملين - أي العهد والجنس - أرجح ، يجب حمله عليه ، وإن تساويا ، فالحقّ وجوب التوقّف ؛ لأنّ الحمل على أحدهما حينئذ يوجب الترجيح بلا مرجّح.

وقيل : يقدّم العهد ؛ لأصالة البراءة من الزائد (4) ، ولأنّ تقدّم العهد قرينة مرشدة إليه.

وأنت خبير بأنّ الأصالة إنّما تفيد إذا دار اللفظ بين العهد والاستغراق لا بينه وبين الجنس ؛ لأنّ الجنس لا يلزم وجوده في ضمن جميع الأفراد ، بل يوجد في ضمن بعضها أيضا أيّ بعض كان ، وتقدّم العهد إذا كان قرينة مصحّحة لا معيّنة لا يرجّح إرادته ، مع كون اللفظ ظاهرا في الجنس ، وأصالة عدم التعيّن المعتبر (5) في العهد.

وقد علم ممّا ذكر حقيقة الحال إذا دار بين الاستغراق والجنس ، أو بين أحدهما أو كليهما والعهد.

ثمّ جميع ما ذكر جار في الجمع المعرّف إذا دار بين العهد والاستغراق. هذا.

وقرينة العهد إمّا حاليّة أو مقاليّة ، ومن الثانية أن يذكر الاسم مرّتين معرّفا فيهما ، كقوله تعالى : ( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ) ثمّ ( إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ) (6) ، أو منكّرا في الاولى ، معرّفا في

ص: 719


1- الكافي 3 : 2 ، باب الماء الذي لا ينجّسه شيء ، ح 1 و 2 ، والفقيه 1 : 9 ، ح 12 ، وتهذيب الأحكام 1 : 39 ، ح 107 و 109 ، والاستبصار 1 : 6 ، ح 1 و 3.
2- وسائل الشيعة 1 : 135 ، أبواب الماء المطلق ، الباب 1 ، ح 9.
3- تقدّم في ص 716.
4- نسبه الزركشي إلى ابن مالك في البحر المحيط 2 : 251.
5- صفة التعيّن.
6- الانشراح (94) : 5 - 6.

الثانية ، كقوله تعالى : ( كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً* فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ) (1) ، ولو كانا معا نكرتين ، أو كان الأوّل معرّفا والثاني منكّرا ، لم يكن أحدهما هو الآخر.

إذا عرفت ذلك ، فيظهر الفائدة في مواضع متكثّرة :

منها : لو قال لوكيله : « إن جاء فلان فبعه بمائة » ، ثمّ قال : « إن جاء الرجل فبعه بخمسين » ، أو قال : « هند طالق » ، ثمّ قال : « والزوجة طالق » وكان له عدّة زوجات. هذا.

وأمّا المفرد المضاف ، ك- : « ضرب زيد » و « أكل عمرو » فحكمه حكم المعرّف باللام بعينه من دون تفاوت.

فائدة

ما ذكرنا في المفرد المعرّف باللام - من أنّه لا يفيد العموم لغة ويفيده شرعا (2) - يجري في « إذا » ، فإنّها وإن لم تفد العموم لغة ؛ لكونها سورا للجزئيّة إلاّ أنّها تفيده شرعا بعين الدليل الذي ذكرناه فيه.

وأمّا الجمع المنكّر ، فالحقّ أنّه لا يفيد العموم ؛ وفاقا لجمهور الاصوليين والفقهاء والنحاة (3) ، ويحمل عند إطلاقه على أقلّ مراتبه - وهو الثلاثة - على الصحيح كما يأتي (4). ولا فرق في ذلك بين جمع القلّة والكثرة على طريقة أرباب الاصول والفقه ، بخلاف طريقة النحاة.

لنا أنّه إمّا حقيقة في كلّ مرتبة من مراتب الجموع بخصوصه ، أو في القدر المشترك بينها. وعلى التقديرين يكون أقلّ المراتب محقّق الدخول ، ويبقى البواقي على حكم الشكّ.

لا يقال : على الأوّل يجب التوقّف ؛ لما هو التحقيق من أنّ المشترك لا يحمل على شيء من معانيه إلاّ بالقرينة.

ص: 720


1- المزّمّل (73) : 15 - 16.
2- تقدّم في ص 716.
3- حكاه عنهم الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 159 ، القاعدة 52 ، والزركشي في البحر المحيط 2 : 290.
4- سيأتي في ص 721.

لأنّا نقول : هذا إذا لم يكن بعض أفراده داخلا في كلّ واحد من الأفراد الأخر ، وإلاّ فهو مراد قطعا ، وما نحن فيه من هذا القبيل.

واحتجّ الخصم بأنّه ثبت إطلاقه على كلّ مرتبة من مراتب الجموع ، فإذا حملناه على الجميع فقد حملناه على جميع حقائقه ، فكان أولى (1).

وجوابه : منع أولويّة حمل المشترك عند الإطلاق على جميع حقائقه ، بل يجب إمّا الحمل على ما هو محقّق الدخول إن كان ، أو التوقّف إن لم يكن.

واعلم أنّ الشيخ من أصحابنا ذهب إلى أنّه يفيد العموم شرعا (2) ، واستدلّ عليه بمثل ما استدللنا به على إفادة المفرد المعرّف للعموم شرعا (3).

وأنت خبير بأنّ هذا يصحّ في مقام لا يقتضي الإبهام ، ولا يكون الحكم على ماهيّة الجماعة من حيث هي ، ولا عليها من حيث وجودها في ضمن الثلاثة فما فوقها ، ولا على جماعة ما ؛ لأنّه ربما كان الحكم على المنكّر مفيدا.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه يتخرّج عليه فروع كثيرة في أبواب الأقارير والوصايا والنذور والعتق وغيرها.

وكيفيّة التفريع ظاهرة.

تتمّة

الحقّ أنّ أقلّ مراتب صيغ الجمع ثلاثة لا اثنان ، خلافا لجماعة (4). والنزاع في نحو : « المسلمين » و « رجال » و « ضربوا » و « اضربوا » ، وفي الإطلاق الحقيقي لا في لفظ « ج م ع » فإنّه يطلق على الاثنين حقيقة وفاقا ، ولا في الإطلاق المجازي ؛ فإنّه ممّا لا ينبغي النزاع فيه.

ص: 721


1- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 105.
2- انظر العدّة في أصول الفقه 1 : 290 - 293.
3- تقدّم في ص 716.
4- حكاه عنهم الغزالي في المستصفى : 243 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 242 ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : 105 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 159 - 160 ، القاعدة 52.

لنا : فرق أهل اللغة بين صيغتي الجمع والتثنية (1) ، وامتناع اتّصاف أحدهما بما يدلّ على الآخر ، واختلافهما في الضمائر والموصولات وأسماء الإشارات.

والاستدلال عليه بتبادر الزائد عن الاثنين عنها (2) ، ضعيف ؛ لأنّه للخصم منعه.

واحتجّ الخصم بآيات أطلقت صيغ الجمع فيها على الاثنين (3) ، وبقوله صلى اللّه عليه وآله : « الاثنان فما فوقهما جماعة » (4) و (5).

والجواب عن الأوّل : أنّ الإطلاق أعمّ من الحقيقة ، سيّما إذا ثبت الدلالة على عدمها ؛ مع أنّه يمكن ردّ الصيغ فيها إلى ما فوقهما.

وعن الثاني : أنّ المراد منه انعقاد الجماعة وحصول فضيلتها بالاثنين لا إطلاق الجماعة عليهما ؛ لأنّ دأبه بيان الشرعيّات لا تعليم اللغات ؛ على أنّه لو تمّ ليس من محلّ النزاع في شيء ؛ إذ الخلاف - كما تقدّم (6) - في صيغ الجموع لا في لفظة « ج م ع ».

وفائدة الخلاف في الأقارير والأيمان والنذور والوصايا والتعليقات غير خفيّة ، وحقيقة الحال عليك في الجميع على ما اخترناه جليّة. هذا.

وأمّا نفي المساواة ، كقوله تعالى : ( لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ ) (7) ، فقيل : يقتضي العموم (8) ، أي يدلّ على عدم جميع وجوه المساواة ، وكذلك غير المساواة من الأفعال ، ف- « لا أضرب » عامّ في وجوه الضرب ، و « لا آكل » عامّ في وجوه الأكل.

وقيل : لا يقتضيه (9).

والتحقيق : أنّ النفي يتفرّع على الإثبات ، فالمساواة الواقعة في الإثبات ، نحو : « يستوي

ص: 722


1- راجع : لسان العرب 14 : 116 ، « ث ن ي » : « الاثنان ضعف الواحد » ، و 355 ، « ج م ع » : « الجمع اسم لجماعة الناس ».
2- استدلّ به ابن الحاجب في منتهى الوصول : 106 ، والشيخ حسن في معالم الدين : 112.
3- وهو قوله تعالى : ( وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ ) ، الأنبياء (21) : 78.
4- كنز العمّال 7 : 555 ، ح 20224 ، وفيه : « اثنان فما ... ».
5- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : 105 و 106.
6- تقدّم آنفا.
7- الحشر (59) : 20.
8- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 266 ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : 110.
9- قاله الفخر الرازي في المحصول 2 : 377 ، ونسبه ابن الحاجب إلى أبي حنيفة في المصدر.

هذا وذاك » إن أفادت العموم حتّى لا يصدق على الشيئين إلاّ مع تساويهما من كلّ الوجوه ، ف- « لا يستوي » لا يفيده ؛ لأنّ نقيض الموجبة الكلّية سالبة جزئيّة. وإن لم تفده حتّى يصدق عليهما باعتبار تساويهما من بعض الوجوه ، كان النفي عامّا ؛ لأنّ نقيض الموجبة الجزئيّة سالبة كلّيّة.

والحقّ الثاني (1) ؛ لأنّ الجملتين نكرتان باتّفاق النحاة ، ولذا يوصف بهما النكرة دون المعرفة ، سواء كان اتّصافهما بالتنكير باعتبار نفس الجملة ، كما هو الظاهر من كلامهم ، أو باعتبار المفرد الذي يسأل منها ، على ما ذهب إليه أهل التحقيق من أنّ التعريف والتنكير من خواصّ الاسم ، وذلك المفرد هو المصدر الواقع فيهما أعني الاستواء ، إلاّ أنّه في « يستوي » وقع في سياق الإثبات ، فهو إثبات على نكرة فلا يقتضي العموم ، وفي « لا يستوي » وقع في سياق النفي ، فهو نفي على نكرة فيقتضي العموم ، كسائر النكرات المنفيّة.

فإن قيل : المساواة المفهومة من « يستوي » - وهي المساواة مطلقا أي في الجملة - أعمّ من المساواة من كلّ وجه ، والعامّ لا إشعار له بالخاصّ بوجه من الوجوه ، فلا يلزم من نفيه نفيه.

قلت : عدم دلالة العامّ على الخاصّ من طرف الإثبات مسلّم ، فوجود الاستواء في الجملة لا يستلزم وجوده من جميع الوجوه. وأمّا من طرف النفي فغير مسلّم ، بل خلافه ثابت ؛ فإنّ نفي الأعمّ يستلزم نفي الأخصّ ، فنفي الاستواء في الجملة يستلزم نفي الاستواء من كلّ وجه ، ولو لا ذلك ، لجاء مثله في كلّ نفي ، فلا يعمّ نفي أبدا. هذا.

واحتجّ الخصم (2) بوجوه لا يخفى اندفاعها بعد الإحاطة بما ذكرناه.

إذا عرفت ذلك ، فيتفرّع عليه عدم جواز قتل المسلم بالكافر ولو كان ذمّيّا ؛ لقوله تعالى : ( لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ ) (3) ، وعدم مساواة الزوجة الكافرة للمسلمة في القسم ؛ للآية (4).

ص: 723


1- والمراد به عدم إفادة الإثبات للعموم فنفي التساوي يفيده.
2- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : 110.
3- الحشر (59) : 20.
4- هو قوله تعالى : ( وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ) ، البقرة (2) : 221.

وفرّع عليه بعض العامّة عدم جواز تزويج الفاسق لغيره (1) ؛ لقوله تعالى : ( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ) (2) ، وعلى القاعدة - وإن كان التفريع صحيحا - [ إلاّ ] (3) أنّ الجواز عندنا منصوص (4).

فصل [6]

العامّ لا يخرج عن عمومه إذا تضمّن معنى المدح أو الذمّ ، كقوله تعالى : ( إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ) (5) ؛ لأنّه عامّ بصيغته ، ولا منافاة بين التعميم والمدح والذمّ ، فيثبت به الحكم في جميع متناولاته.

وذهب الشافعي إلى خروجه بهما عن العموم ؛ لأنّه سيق حينئذ لقصد المبالغة في الحثّ أو الزجر ، فلا يلزم التعميم (6) ، ولذا أحال بعض الشافعيّة التمسّك بقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ ... ) (7) ، في وجوب الزكاة في الحليّ (8) ؛ لأنّ ذكر العامّ هنا (9) للمبالغة والإغراق في إلحاق الذمّ لمن يكنز الذهب والفضّة لا للتعميم (10).

والجواب : أنّ التعميم لا ينافي المدح والذمّ بل هو أبلغ فيهما.

وكيفيّة التفريع : أنّه إذا قال لعبيده أو زوجاته : « واللّه من يعمل منكم كذا ضربته » أو (11) « إن فعلتم كذا ضربتكم » لم يبرأ ذمّته - لو فعل الجميع - إلاّ بضربهم.

ص: 724


1- راجع الشرح الكبير ( ضمن المغني ) 7 : 466.
2- السجدة (32) : 18.
3- أضفناه لاستقامة العبارة.
4- راجع تمهيد القواعد : 177 ، القاعدة 58.
5- الانفطار (82) : 13 - 14.
6- حكاه الآمدي عن الشافعي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 298.
7- التوبة (9) : 34.
8- حكاه الفخر الرازي في المحصول 3 : 135 ، والأسنوي في التمهيد 1 : 279.
9- في « ب » : « هاهنا ».
10- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : 118.
11- في « ب » : « و ».
فصل [7]

إذا حكى الصحابي حالا بلفظ ظاهره العموم - كقوله : « نهى عن بيع الغرر » (1) ، و « قضى بالشاهد واليمين » (2) و « قضى بالشفعة للجار » (3) - فالحقّ أنّه لا يفيد العموم على تقدير دلالة المفرد المعرّف عليه ، فلا يعمّ « الغرر » و « الجار » و « الشاهد » و « اليمين » ؛ لأنّ الحجّة في المحكيّ لا في الحكاية ، والعموم فيها لا فيه ، أو ربما كان المحكيّ خاصّا فيوهمه عامّا ، أو يظنّ العموم باجتهاده.

واحتجّ الخصم بأنّه عدل عارف باللغة وبالمعنى ، فلا ينقل العموم إلاّ بعد ظهوره (4).

وجوابه : أنّ تأتّي الاحتمالات المذكورة لا ينافي العدالة والمعرفة.

وكيفيّة التفريع : أنّه لا يمكن حينئذ الاحتجاج بعموم أخبار وردت بهذه الصيغ.

فصل [8]

الفعل المتعدّي إذا وقع في سياق النفي ولم يذكر مفعوله ، نحو : « لا آكل » وما في معناه ، كالنكرة في سياق الشرط ، مثل : « إن أكلت فأنت طالق » يفيد العموم ، أي يعمّ مفعولاته ، سواء كان مفعوله منسيّا وصار الفعل بمنزلة اللازم ، أو مقدّرا.

أمّا على الأوّل ، فلأنّه حينئذ لنفي الطبيعة ونفيها إنّما يتحقّق بنفي جميع الأفراد.

وأمّا على الثاني ، فلأنّ عدم ذكر المفعول مع كونه مرادا دليل على إرادة جميع ما يصلح للمفعوليّة.

والظاهر أنّه لا خلاف في ذلك - أي إفادته للعموم - ولذا يقع الحنث بأيّ فرد اتّفق ، اتّفاقا.

ص: 725


1- سنن ابن ماجة 2 : 739 ، ح 2194 ، وصحيح مسلم 3 : 1153 ، ح 4 / 1513 ، كتاب البيوع.
2- صحيح مسلم 3 : 1337 ، ح 3 / 1712 ، كتاب الأقضية.
3- في سنن أبي داود 3 : 286 ، ح 3517 بلفظ : « جار الدار أحقّ بدار الجار أو الأرض » ، والسنن الكبرى 6 : 106 ، وسنن النسائي 7 : 321.
4- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 112.

إنّما الخلاف في أنّه هل هو عامّ لفظي يقبل التخصيص - حتّى لو قال : « أردت مأكولا خاصّا » يقبل منه - أو عقلي لا يقبله؟ فذهب الأكثر إلى الأوّل ، والحنفيّة إلى الثاني (1).

وتحرير محلّ النزاع : أنّ مفعول « لا آكل » مثلا عند الحنفي محذوف غير ملحوظ عند الذكر أصلا ، بل هو منسيّ والفعل بمنزلة اللازم ، فيكون قضيّة طبيعيّة يكون المراد منها نفي الماهيّة من حيث هي ، لا نفي الأفراد وإن كان مستلزما ، فلا يقبل التخصيص ؛ لأنّه فرع التعميم في الأفراد ، وعند الأكثر مقدّر مراد ، وهو كلّ ما يقع مأكولا ، فيكون قضيّة محصورة يكون المراد منها نفي الأكل بالنسبة إلى كلّ مأكول ، فيقع التعميم في الأفراد ، فيقبل التخصيص. ولا كلام للحنفي والأكثر في ثبوت الاحتمالين في فصيح الكلام ، إنّما كلامهما في الظهور.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الحقّ أنّه يقبل التخصيص وإن كان ظاهرا في الإنشاء ؛ لأنّ الظهور لا يمنع التصريح بالخلاف ، فيكون التخصيص قرينة صارفة عمّا هو ظاهر فيه.

وأيضا لا يشترط في التخصيص التعميم في نفي الأفراد صريحا ، بل يكفي التعميم فيه وإن كان لازما لنفي الماهيّة.

احتجّ الحنفي بأنّه نفي فعل مطلق ، فلا يصحّ تفسيره بمخصّص ؛ لتنافيهما ؛ إذ لا شيء من المطلق بمشخّص ، وبالعكس ؛ لأنّ الإطلاق عدم القيد (2) ، والتشخّص وجوده.

وجوابه : أنّه إن أراد بالمطلق ما يكون قيد الإطلاق مأخوذا فيه ، يمنع أنّه نفي فعل مطلق بهذا المعنى ؛ لقرينة التخصيص ، ولاستحالة وجود هذا المطلق في الخارج ؛ لأنّ الكلّي المبهم لا يوجد إلاّ في الذهن. كيف؟ ولو كان للمطلق لم يحنث بالمقيّد. وإن أراد به المقيّد المطابق للمطلق ، فنمنع (3) المنافاة.

ص: 726


1- حكاه الغزالي في المستصفى : 237 ، والفخر الرازي عن الحنفيّة في المحصول 2 : 384 ، ونسبه ابن الحاجب إلى أبي حنيفة في منتهى الوصول : 111.
2- كذا في النسختين. والأولى « عدم التقييد ».
3- في « ب » : « فيمنع ».
فصل [9]

الفعل المثبت لا يكون عامّا في أقسامه وجهاته ، فإذا قال الراوي : « قد صلّى النبيّ داخل الكعبة » لا يعمّ الفرض والنفل ، فلا يعيّن إلاّ بدلالة.

وإذا قال : « صلّى بعد الشفق » فلا يعمّ الصلاة بعد الشفقين ؛ لأنّ المشترك لا يحمل عند إطلاقه على معانيه جميعا - كما عرفت (1) - فيتوقّف التعيّن (2) على دليل.

وإذا قال : « كان يجمع بين الصلاتين » فلا يعمّ جمعهما بالتقديم في وقت الاولى والتأخير في وقت الثانية ، ولا الأزمان ، ليفيد التكرار لغة ، إلاّ أنّ الإنصاف أنّه يفيده عرفا.

وقد ظهرت كيفيّة التفريع من الأمثلة المذكورة.

فصل [10]

الحقّ أنّ العطف على العامّ لا يقتضي عموم المعطوف ؛ لأنّه لا يدلّ إلاّ على الجمع الصادق في العامّ والخاصّ. فإن فهم استغراقه من صيغة ، أو العقل ، أو العرف يحكم بالعموم ، وإلاّ فلا. وقد مثّل ذلك بقوله تعالى : ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ ) (3) العامّ في كلّ مطلّقة ، مع قوله : ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ ) (4) الخاصّ بالرجعيّة.

وأنت خبير بأنّ هذا المثال غير مطابق ، أمّا أوّلا ، فلأنّ المعطوف هنا يفيد العموم بصيغته ، فعدمه إنّما علم من خارج.

وأمّا ثانيا ، فلأنّه يحتمل أن يكون من باب عطف جملة على اخرى ، لا مفرد على آخر. فمثاله المطابق قول القائل : « عليّ أن اكرم العلماء وفقراء » على القول بعدم إفادة الجمع المنكّر للعموم ، كما هو التحقيق.

ويظهر منه كيفيّة التفريع في أبواب الأيمان ، والنذور ، والوصايا ، وغيرها.

ص: 727


1- تقدّم في ص 716.
2- في « ب » : « التعيين ».
3- البقرة 3. : 228.
4- البقرة 3. : 228.

وقد ظهر ممّا ذكر أنّ عطف الخاصّ على العامّ لا يقتضي تخصيص العامّ أيضا ، وبالعكس لا يقتضي تخصّص العامّ ولا تعميم الخاصّ. وأمثلة الكلّ مع كيفيّة التفريع ظاهرة.

فصل [11]

الحكم على المعطوف (1) بحكم حكم به على المعطوف عليه العامّ لا يقتضي عدم دخول الأوّل في الثاني وخروجه عن عمومه بالنسبة إليه إذا كان فردا. وهذا مع ظهوره صرّح به أكثر الادباء (2). مثاله : قوله تعالى : ( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ) (3). وهكذا الحال إذا كان المعطوف عليه فردا والمعطوف عامّا ، كأن يوصي لزيد وللفقراء بثلث ماله.

ومنه يظهر كيفيّة التفريع. وفي مقدار استحقاق زيد أقوال (4) منضبطة في مصنّفات الفقه ، بعضها مبنيّ على القاعدة.

فصل [12]

المأمور به (5) إذا كان اسم جنس مجموعا مجرورا ب- : « من » فإن كان ممّا يفيد العموم بصيغته ، كالمعرّف باللام أو الإضافة ، كقوله تعالى : ( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ) (6) فمقتضاه الإيجاب من كلّ فرد إلاّ أن يثبت دلالته على أنّ الأفراد ليست مرادة ، وحينئذ فمقتضاه الإيجاب من كلّ نوع ، وهكذا.

وتنقيح ذلك أنّ الجمع لتضعيف المفرد ، والمفرد قد يراد به الفرد فيراد بالجمع حينئذ جميع الأفراد. وقد يراد به الجنس فيراد بالجمع حينئذ جميع الأنواع ، والتعويل في استنباط المراد على القرائن والأمارات.

ص: 728


1- أي المعطوف الخاصّ.
2- لاحظ العدّة في أصول الفقه 1 : 217 ، والإحكام في أصول الأحكام 2 : 277.
3- البقرة (2) : 238.
4- راجع تمهيد القواعد : 210 ، القاعدة 75.
5- والمراد به هو الموضوع ومتعلّق المأمور به لا نفس المأمور به.
6- التوبة (9) : 103.

وبالجملة ، قضيّة العموم تقتضي الإيجاب من كلّ فرد إلاّ أن يعارض العامّ معارض من إجماع ، أو عقل ، أو عرف في بعض متناولاته ، فيبقى حجّة فيما عدا ذلك ، وإلاّ فمقتضاه الإيجاب من أقلّ أنواع الجمع.

أمّا الثاني ، فظاهر.

وأمّا الأوّل ، فلأنّ المأمور به حينئذ يفيد الاستغراق ، و « من » يفيد البعضيّة ، فحاصل الآية : أنّه يجب الأخذ من كلّ فرد من أفراد كلّ نوع من أنواع الأموال ، إلاّ أنّه لمّا دلّ الإجماع والعرف على أنّه لا يجب الصدقة في كلّ فرد - ولذا لا يجب في كلّ دينار وكلّ درهم - خصّ الأموال بكلّ نوع منها ، فيفيد وجوب أخذ الصدقة من كلّ نوع من أنواعها. نعم ، خرج بعض أنواعها بدليل من خارج.

فإن قيل : معنى الجمع العامّ (1) هو المجموع من حيث هو ، أو كلّ واحد من المجموع (2) لا من الآحاد ، كما صرّح به جماعة (3) وبنوا عليه أنّ استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع.

قلت : هذا خلاف التحقيق ، وما أوقعهم فيه أنّه قد يوجد قرينة على أنّ المراد من الجمع العامّ المجموع من حيث هو ، لا كلّ الأفراد ، مثل : « هذه الدار لا تسع الرجال » أو نفس الحقيقة ، مثل : « يا هند ، لا تحدّثي الرجال » ، فظنّوا أنّه مدلوله ، وليس كذلك ، بل هذا الحمل خلاف ظاهره ، إلاّ أنّه يصار إليه للقرينة ، كما في غيره ، ولذا يفرّق بين « للرجال عندي درهم » و « لكلّ رجل عندي درهم » ، ولا يفرّق بين ( وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (4) و « يحبّ كلّ محسن » ، ولا بين ( وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) (5) و « لأحد من العباد » ؛ لأنّ البراءة الأصليّة في مقام الإقرار قرينة على حمل العموم على خلاف ظاهره ، بخلاف غير مقام الإقرار ؛ لعدم هذه القرينة فيه.

ص: 729


1- والمراد به هو الجمع المعرّف باللام أو الإضافة ، نحو الرجال ورجال قريش.
2- في « ب » : « الجموع ».
3- راجع : المحصول 2 : 356 ، والإحكام في أصول الأحكام 2 : 297 ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : 118.
4- آل عمران (3) : 134.
5- غافر (40) : 31.

وكيفيّة التفريع : أنّه يجوز الاستدلال بالآية على وجوب الزكاة فيما اختلف في وجوبها فيه ، كالحليّ ونحوه.

فصل [13]

« المقتضي » - وهو الكلام الذي لا يستقيم عقلا ، أو شرعا ، أو عرفا إلاّ بتقدير - إن احتمل تقديرات متعدّدة يستقيم الكلام بكلّ واحد منها ، فإن ثبت دلالة أو أمارة على تعيين مقتضاه ، فهو المقدّر لا غير ، كقوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) (1) و « حرّم عليكم لحم الخنزير » ممّا يضاف فيه التحريم إلى الأعيان ؛ فإنّه يتبادر الذهن في مثله إلى مقدّر معيّن ، كالأكل في المأكول ، والشرب في المشروب ، واللبس في الملبوس ، والوطء في الموطوء.

ومنه ما ينفى فيه الفعل ، كقوله عليه السلام : « لا صلاة إلاّ بطهور » (2) ، و « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (3) ، و « لا نكاح إلاّ بوليّ » (4) إذا ثبت كون الصلاة والنكاح وأمثالهما حقائق شرعيّة في الصحيحة ؛ فإنّ المتبادر منه حينئذ نفي الصحّة اللازم منه نفي المسمّى شرعا ؛ لأنّ الصحّة إمّا جزؤه أو شرطه. وكيف كان ، يلزم من نفيها نفيه. أو حقائق عرفيّة في المفيدة ؛ فإنّ المتبادر منه حينئذ نفي الفائدة والجدوى ، نحو : « لا علم إلاّ ما نفع » و « لا كلام إلاّ ما يفيد ».

ومن الأمارات الدالّة على تعيين المقدّر أن يدلّ المقتضي على نفي ذات شيء ولم يمكن حمله على الحقيقة ؛ لعدم ارتفاعه رأسا ، فتعيّن حمله على المجاز ، وكان مقدّر معيّن أقرب المجازات إلى الحقيقة ، فإنّه يتعيّن حينئذ تقديره ؛ للاتّفاق على أنّه إذا تعذّرت الحقيقة وتعدّد المجاز حمل على الأقرب إليها ، كأن يقال : تقدير الصحّة في الأخبار المذكورة متعيّن ؛ لأنّها تدلّ على نفي أصل الصلاة والنكاح ، وليس كذلك لو اطلقا على الفاسدة أيضا ،

ص: 730


1- النساء (4) : 23.
2- تهذيب الأحكام 1 : 49 ، ح 144 ، والاستبصار 1 : 55 ، ح 160 ، ووسائل الشيعة 1 : 365 ، أبواب الوضوء ، الباب 1 ، ح 1.
3- عوالي اللآلئ 2 : 218 ، ح 13.
4- سنن ابن ماجة 1 : 605 ، ح 1880 ، ودعائم الإسلام 2 : 218 ، ح 807.

فيجب أن يقدّر ما تدلّ لأجله على أقرب المجازات إلى الحقيقة ، وهو الصحّة ، فإنّ نفيها أقربها إلى نفي المسمّى بخلاف نفي الكمال ومثله.

وقد يكون أقرب المجازات لفظا عامّا فيجب تقديره ، ولا يلزمه عموم المقتضي - بالكسر - أي عموم التقدير وهو المبحث ، بل عموم المقتضى - بالفتح - أي عموم المقدّر ، مثاله : قوله صلى اللّه عليه وآله : « رفع عن امّتي الخطأ والنسيان » (1) ولا يستقيم بلا تقدير ، ويحتمل تقديرات متعدّدة : كالعقوبة والضمان والذمّ والملامة في الدنيا ، والحساب والعقاب والحسرة والندامة في العقبى ، ويمكن أن يقدّر ما يعمّها ، كالمؤاخذة والحكم ومثلهما ، كالأثر ، وهو أقربها إلى الحقيقة ، وهو نفي الخطأ والنسيان ، فتعيّن تقديره.

وإن لم (2) يثبت دلالة أو أمارة على التعيين ، فالحقّ أنّه مجمل محتمل للكلّ (3) ، وكلّ واحد وفاقا للأكثر.

وقيل : إنّه عامّ في جميع ما يصلح أن يقدّر فيه (4).

لنا : أنّ الإضمار خلاف الأصل ، ومع الضرورة يجب أن يقدّر بقدرها وهي تندفع بالبعض دون الآخر.

وأيضا أنّه كما يحتمل إضمار الكلّ (5) يحتمل إضمار البعض ، والمراد غير معلوم. والتعيين بالترجيح لو جاز يتوقّف على وجود مرجّح مقبول ، وهو مفقود.

احتجّ الخصم بأنّ أقرب مجاز إلى نفي الصلاة والنكاح ، وكذا إلى نفي الخطأ والنسيان نفي جميع أحكامها ؛ لأنّ نفي جميع الأحكام يجعلها كالعدم ، فكأنّ الذات قد ارتفعت ، بخلاف نفي البعض ، فيجب الحمل عليه ، وهو معنى إضمار الجميع (6).

والجواب : أنّ إضمار الجميع وإن كان راجحا ممّا ذكرتم إلاّ أنّه مرجوح من حيث إنّ

ص: 731


1- سنن ابن ماجة 1 : 659 ، والتوحيد للصدوق : 353 ، ح 24 ، والخصال 2 : 417 ، ح 9 ، ووسائل الشيعة 15 : 369 ، أبواب جهاد النفس ، الباب 56 ، ح 1.
2- مرّ قسيمه في ص 730 وهو : فإن ثبت دلالة.
3- والمراد به كما يأتي إضمار الجميع أي لفظ عامّ وشامل للكلّ.
4- راجع منتهى الوصول : 111.
5- مرّ المراد بإضمار الكلّ.
6- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 111.

الإضمار خلاف الأصل ، فكلّما كان (1) أقلّ كان مخالفة الأصل أقلّ ، فإضمار البعض أولى. وإذا تعارضت الحيثيّتان وتساقطتا ، يبقى ما ذكرنا من الدليل سالما.

وكيفيّة التفريع أنّه إذا تمضمض الصائم عابثا فابتلع شيئا من الماء من غير قصد ، فعلى القول بعموم المقتضى لا شيء عليه ؛ لقوله : « رفع عن امّتي الخطأ والنسيان » (2) ، وعلى القول بعدمه يمكن القول بوجوب القضاء عليه إلحاقا له بالمتبرّد ؛ لأنّه يمكن أن يكون الحكم المرفوع حينئذ هو العقوبة الدنيويّة ، أو غير ذلك من المذكورات.

فصل [14]
اشارة

قيل : ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال يفيد العموم (3) ، كقوله عليه السلام لابن غيلان - حين أسلم على عشرة نسوة - : « أمسك أربعا ، وفارق سائرهنّ » (4) من غير سؤال الجمع والترتيب ، فدلّ على عدم الفرق وثبوت الحكم على الاحتمالين.

وقيل : بل حكايات الأحوال إذا تطرّق عليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال ، وسقط بها الاستدلال (5).

والحقّ أن يقال : إنّ السؤال إمّا عن واقعة وقعت في الوجود وهي محتملة لأن تقع على وجوه مختلفة يختلف الحكم باختلافها ، أو عن واقعة لم تقع بعد ، بل يسأل عنها على تقدير وقوعها ، ولها وجوه كذلك.

فعلى الأوّل ، إن علم اطّلاع المسئول عليه السلام على الواقعة بالوجه الذي وقعت ، فالحقّ أنّه لا يفيد العموم ، سواء كان الوجوه المحتملة متساوية ، أو بعضها - وهو ما وقع عليه الواقعة - راجحا من الوجوه الأخر ، أو مرجوحا عنها ؛ لأنّ حكمه ينصرف حينئذ إلى الجهة الخاصّة للواقعة المخصوصة ولا يتناول غيرها.

ص: 732


1- أي كان المضمر.
2- تقدّم آنفا.
3- قاله العلاّمة في تهذيب الوصول : 133.
4- سنن ابن ماجة 1 : 628 ، ح 1953.
5- حكاه الأسنوي عن الشافعي في التمهيد : 337 - 338 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 170 ، القاعدة 57.

وإن علم عدم اطّلاعه عليها ، فإن كان بعض الوجوه المحتملة أرجح من حيث الوقوع ، فيحمل عليه ، وإلاّ فيقتضي العموم والاسترسال على جميع الأقسام التي ينقسم إليها ؛ إذ لو كان الحكم خاصّا لاستفصل ، كما اتّفق منه عليه السلام في مواضع (1).

والسرّ فيه أنّ إطلاق السؤال ، وإبهام الجواب ، وإرسال الحكم من غير تفصيل يقتضي استواء الأحوال في غرض المجيب عرفا ، فلو كان في قصده الاختصاص بالبعض ولم يبيّنه لزم الإغراء بالجهل ، وهو ينافي الحكمة. وكذا الحكم إن لم يعلم اطّلاعه وعدم اطّلاعه ؛ لأنّ الأصل عدم الاطّلاع ؛ لما تقدّم (2) من أصالة عدم الحادث إلى أن يعلم الوجود.

وعلى الثاني فإن كان بعض الوجوه أرجح من الباقي في عصر المجيب ، وكان شائعا فيه بحيث يقع الواقعة غالبا عليه ، يحمل عليه ؛ لظهور انصراف الجواب إلى الغالب الراجح ، وإلاّ فيفيد العموم ؛ لما تقدّم (3). اللّهمّ إلاّ في مقام يقتضي الإجمال والإبهام ، فيمكن فيه اختصاص الحكم ببعض ، وإنّما أخّر البيان لمصلحة.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ فروعه كثيرة. وممّا فرّع عليه تقديم التمييز على العادة ، كما ذهب إليه بعض (4) الأصحاب ؛ لقوله صلى اللّه عليه وآله لفاطمة بنت خنيس - وقد ذكرت أنّها تستحاض - :

« إنّ دم الحيض أسود يعرف ، فإذا كان ذلك ، فأمسكي عن الصلاة ، وإذا كان الآخر ، فاغتسلي وصلّي » (5) ولم يستفصل هل لها قبل ذلك عادة ، أم لا. وقس عليه أمثاله.

تذنيب

ترك الاستفصال لمّا كان إرسال الحكم من غير استفصال عن الكيفيّة بعد السؤال عن قضيّة يحتمل وقوعها عن وجوه متعدّدة ، ففيه لفظ وحكم من المسئول عليه السلام ، فيفيد العموم كما ذكر.

ص: 733


1- راجع تمهيد القواعد : 170 وما بعدها ، القاعدة 57.
2- في ص 732.
3- في ص 732.
4- ذكره الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 172 - 173 ، القاعدة 57.
5- الكافي 3 : 83 ، باب جامع في الحائض ، ح 1 ، وتهذيب الأحكام 1 : 381 ، ح 1183 ، ووسائل الشيعة 2 : 276 ، أبواب الحيض ، الباب 3 ، ح 4.

وأمّا قضايا الأعيان وحكايات الأحوال - وهي الوقائع الفعليّة التي حكاها الصحابي - فليس فيها سوى مجرّد فعله عليه السلام ، أو فعل الذي يترتّب الحكم عليه.

ويحتمل وقوعه على وجوه متعدّدة ، فلا يعمّ جميعها ؛ لعدم المقتضي ، فيكفي حمله على صورة منها.

ومن أمثلتها ترديد النبيّ صلى اللّه عليه وآله ما عزا أربع مرّات في أربع مجالس (1) ، فيحتمل أن يكون قد وقع ذلك اتّفاقا لا أنّه شرط ، فيكفي فيه حمله على أقلّ مراتبه.

وقوله عليه السلام لأبي بكر : « زادك اللّه حرصا » (2) لمّا ركع ومشى حتّى دخل في الصفّ ، فيحتمل أن يكون مشيه غير كثير ، فيحمل عليه ، فلا يبقى حجّة على جواز المشي في الصلاة مطلقا.

وصلاة النبيّ صلى اللّه عليه وآله على النجاشي (3) إن حملت على غير الدعاء ، فيحتمل أن يكون ذلك لأنّه لم يصلّ عليه ، أو لأجل خصوصيّة للنجاشي ، أو لرفع سريره حتّى شاهده النبيّ ، فلا يبقى حجّة على جواز الصلاة على الغائب مطلقا.

فصل [15]

ما وضع لخطاب المشافهة - نحو : « يا أَيُّهَا النَّاسُ » [ و ] « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » - وما فيه الأمر ، وكاف الخطاب وتاؤه ، يطلق على الموجودين الحاضرين في مجلس التخاطب حقيقة بالإجماع.

وأمّا إطلاقه على المعدومين فقط ، أو الموجودين الغائبين عن مجلس التخاطب فقط ، أو كليهما ، أو (4) الأوّل وأحد الثلاثة (5) ، ففيه أقوال ، ثالثها - وهو الحقّ - الجواز على سبيل المجاز دون الحقيقة.

ص: 734


1- سنن ابن ماجة 2 : 854 ، ح 2554 ، وصحيح البخاري 6 : 2502 ، ح 6438 ، وصحيح مسلم 3 : 1321 ، ح 22 / 1695.
2- صحيح البخاري 1 : 271 ، ح 750 ، وسنن النسائي 2 : 128 ، ح 867 ، وسنن أبي داود 1 : 182 ، ح 683 - 684.
3- سنن ابن ماجة 1 : 490 ، ح 1534 - 1538 ، وصحيح البخاري 3 : 1407 ، ح 3664 ، وصحيح مسلم 2 : 656 ، ح 62 / 951.
4- في « ب » بعد قوله : « كليهما » « أو على الجميع ».
5- فالأقسام صارت ستّة.

لنا على الأوّل (1) وجوه :

منها : أنّه لو تناول أحد الثلاثة الاول يكون من باب مجاز المشارفة وما يؤول إليه ، وهو آت في فصيح الكلام ومستعمل عند الخاصّ والعامّ. ولو عمّ الحاضرين والغائبين والمعدومين (2) أو أحدهما يكون تغليبا ، والتغليب مجاز شائع عند أهل اللسان وأرباب البيان ، ومنه قولهم : « أنت وزيد تفعلان كذا ».

والتوضيح ، أنّ الوجدان والاستعمال شاهدان على أنّه يجوز أن يلاحظ أفراد في عنوان ، فإن كان فيها موجود حاضر ، يجعل مخاطبا ومصحّحا لأن يخاطب بتوسّطه من يتّصف حين الوجود بالعنوان بالإمكان أو بالفعل ، على اختلاف الرأيين (3) وإن لم يكن وقت الخطاب موجودا ، كما إذا أردنا أن نخاطب أمّة النبيّ صلى اللّه عليه وآله بأنّ زادنا مباح لمن أكل ، ودارنا مباح لمن نزل ، نقول للحاضرين : أيّها المسلمون إنّ زادنا كذا ودارنا كذا ، فيجعل المسلم عنوانا لملاحظة جميع أفراده.

ومنه : أكثر خطابات الملوك والحكّام ، والوصيّة بالأوامر والنواهي إلى من انتسب إلى الموصي بعدّة بطون - وقد وقع ذلك في وصيّة عليّ عليه السلام (4) - أو إلى كلّ من وصل إليه الوصيّة ، كما وقع من الأولياء والحكماء.

وإن لم يكن فيها موجود حاضر ، يخاطب جميع من لوحظ في ضمن العنوان بواسطته ، كما يفعله المصنّفون من الأمر بالتأمّل والتدبّر وغير ذلك من الخطابات.

ومنها : بعض الآيات ، كقوله تعالى : ( كُنْ فَيَكُونُ ) (5) وقوله : ( لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) (6).

ومنها : الأخبار ، وهي كثيرة واردة في موارد مختلفة كلّها يدلّ على المطلوب ، كالدالّة

ص: 735


1- أي جواز الاستعمال وصحّته.
2- هذا هو القسم السادس وهو : أو الأوّل وكليهما. وقوله : أو أحدهما ، ناظر إلى القسم الرابع والخامس.
3- إشارة إلى الاختلاف الموجود بين الفارابي وأبي عليّ بن سينا في أنّ صدق عقد الوضع على الموضوع لا بدّ وأن يكون بالفعل أو بالإمكان.
4- نهج البلاغة : 581 ، الكتاب 47.
5- البقرة (2) : 117.
6- الأنعام (6) : 19.

على نزول بعض الخطابات القرآنيّة فيمن وجد بعد النبيّ (1) ، والدالّة على نداء بعض الأنبياء ، كإبراهيم وموسى من لم يوجد (2) ، والدالّة على قول « لبّيك » عند قراءة بعض الخطابات (3) ، وغير ذلك ممّا ورد في مطالب جزئيّة مختلفة ، وانتشر في مصنّفات الأخبار.

ومنها : احتجاج العلماء - حتّى الأئمّة عليهم السلام - على أهل الأعصار ممّن بعد الصحابة بتلك الخطابات من غير ذكر إجماع أو نصّ أو قياس (4).

ولنا على الثاني (5) : تصريح أرباب اللغة بوضع تلك الخطابات للموجودين الحاضرين. كيف؟ وحقيقة خطاب المشافهة ليست إلاّ توجيه اللفظ إلى الغير للإفهام ، فلا يتوجّه إلى الجماد الموجود فضلا عن المعدوم ، ومجرّد استعمال أهل اللغة أو الشرع لا يثبت الحقيقة اللغويّة أو الشرعيّة ؛ لأنّه أعمّ من الحقيقة.

احتجّ القائل بعدم الجواز مطلقا بأنّه لا يقال للمعدومين : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ ) ونحوه ، وإنكاره مكابرة (6).

والجواب : أنّ السبب في عدم القول إن كان عقليّا - وهو عدم صدق العنوان ، ك- : « الناس » و « الإنسان » و « المسلم » وأمثالها على المعدوم - فهو ممنوع ، ووجهه ظاهر.

وإن كان لغويّا أو عرفيّا - وهو تحاشي أرباب اللغة والعرف عن ذلك - فهو مسلّم في الإطلاق الحقيقي دون المجازي ، كما يشهد به محاوراتهم. ثمّ لو سلّم ذلك فهو في الخطاب التخييري (7) دون التعليقي.

فإن قيل : فإذن يكون الخطاب في الموجود الحاضر منجّزا ، وفي المعدوم معلّقا ، فإذا استعمل فيهما يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز.

ص: 736


1- كآية 110 من آل عمران (3).
2- راجع تهذيب الوصول : 184 و 185.
3- عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 196 ، الباب 44 ، ح 5.
4- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 117 و 118 ، والتوني في الوافية : 120.
5- أي كون الاستعمال مجازيّا.
6- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 117 و 118 ، والشيخ حسن في معالم الدين : 112.
7- كذا في النسختين. والظاهر : « التنجيزي » ، بقرينة ما يأتي وهو « فإذن يكون ... منجّزا ».

قلت : جميع الخطابات معلّقة على شرائط التكليف ، وهي مختلفة في الكيفيّة والكمّيّة بالنسبة إلى آحاد المكلّفين ، فمن حصلت له يدخل تحته ، وهذا أمر واحد لا تعدّد فيه ليلزم ما ذكر.

ثمّ إنّه لمّا اورد على هذا القائل اشتراك المعدومين للموجودين ، واللاحقين للماضين في الأحكام المستفادة من خطابات المشافهة ، أجاب بأنّ الاشتراك قد علم بالإجماع ، بل بالضرورة من الدين ، لا لتناول الخطاب بصيغته لهم (1).

ويدفعه ما ذكرنا من احتجاج السلف حتّى الأئمّة عليهم السلام بها من غير ذكر إجماع أو دليل آخر ؛ لأنّه لو كان تناولها لهم للإجماع ، لكان هو الدليل ، لا هي.

واحتجّ القائل بالجواز مطلقا بالدليل الرابع (2) ، وبأنّه لو لم يكن الرسول صلى اللّه عليه وآله مخاطبا لمن بعده لم يكن مرسلا إليه ؛ لأنّ المرسل هو المبلّغ ، ولا تبليغ إلاّ بهذه العمومات (3).

والجواب عنهما : أنّ الشمول المجازي يصحّح الاحتجاج والتبليغ ، ولا يتوقّفان على التناول حقيقة.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّه يظهر فائدة الخلاف في مسائل كثيرة ، فإنّه إذا تناول الخطاب للمعدومين والغائبين حقيقة أو مجازا ، لكان تكليفهم على ما يفهمونه من الخطاب ، لا على نحو ما كلّف به الحاضرون ؛ لأنّ تكليف الحكيم بما لا يفهمه المخاطب قبيح. ولو لم يتناولهم ويثبت الاشتراك بالإجماع أو دليل آخر لكان تكليفهم على نحو ما كلّف به المخاطبون ، فيلزم عليهم الفحص ليعلموا كيفيّة تكليفهم ، مثلا ، يصحّ الاحتجاج بالوجوب العيني بصلاة الجمعة في زمن الغيبة بالآية (4) على الأوّل ؛ لإطلاق الأمر بحضورها ، فيتناول زمان الغيبة ، ولا يصحّ على الثاني ؛ لأنّه للخصم أن يقول : هذا خطاب مشافهة ، والأمر لهم إنّما هو بحضور صلاة النبيّ صلى اللّه عليه وآله. والإجماع على اشتراك جميع المكلّفين للمخاطبين إنّما هو على

ص: 737


1- المجيب هو ابن الحاجب في منتهى الوصول : 118 ، والفاضل التوني في الوافية : 120.
2- وهو قوله : « ومنها احتجاج العلماء ... ».
3- ذكره ابن الحاجب في منتهى الوصول : 117.
4- الجمعة (62) : 9 : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ... ) .

نحو ما كلّف به المخاطبون ، فإذا كان صلاتهم مشروطة بإمامة النبيّ أو نائبه ، فكذا صلاتهم ، فلا يثبت منها وجوبها على نحو آخر ، وقس عليه أمثالها.

وعلى ما اخترناه قد ظهر جليّة الحال في الجميع. وبما ذكر يظهر ما في كلام بعض المتأخّرين حيث قال - بعد اعتراف القائل بعدم (1) التناول بالاشتراك (2) بالإجماع أو غيره - :

لا يبقى نزاع ولا يظهر فائدة لهذا الخلاف (3).

فصل [16]

لا نزاع في عدم دخول النساء في نحو : « الرجال » ممّا يختصّ بالمذكّر ، ولا في دخولهنّ في نحو : « الناس » و « من » و « ما » ممّا يشترك فيه المذكّر والمؤنّث ، ولا في عدم دخول الرجال في صيغة الاناث ك- : « المسلمات » ونحوه ، وقد وقع النزاع في دخولهنّ في نحو : « المسلمين » و « فعلوا » ممّا ميّز فيه بين صيغة المذكّر والمؤنّث بعلامة ، ويغلّب فيه المذكّر إذا اريد الجمع بينه وبين المؤنّث ، فيطلق صيغة المذكّر ويراد بها الطائفتان ، ولا يفرد المؤنّث بالمذكّر كما هو دأبهم في تغليب العقلاء على غيرهم ، والمتكلّم على الحاضر ، والحاضر على الغائب. وبالجملة ، الأشرف والأعرف على غيرهما.

فقيل : يدخلن فيه عند الإطلاق كما يدخلن عند التغليب (4).

وقال الأكثر : لا يدخلن فيه عند الإطلاق ، بل قد يدخلن فيه تبعا وتغليبا (5) ، فيكون تناوله لهنّ مجازا لا حقيقة وهو الحقّ.

لنا إجماع أهل اللغة على أنّ هذه الصيغ جمع المذكّر ، والجمع تكرير الواحد ، والواحد مذكّر.

وأصالة عدم الاشتراك.

ص: 738


1- متعلّق بالقائل.
2- متعلّق بالاعتراف.
3- قاله الفاضل التوني في الوافية : 124.
4- نسبه الآمدي إلى الحنابلة وابن داود وشذوذ من الناس في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 284 و 285.
5- نسبه الآمدي إلى الشافعيّة والأشاعرة وجمع كثير من الحنفيّة والمعتزلة في المصدر.

ولزوم صحّة استعماله في المؤنّث خاصّة لو كان موضوعا له وحده ، أو للقدر المشترك ، وهو باطل وفاقا.

وقوله تعالى : ( وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ ) (1) ، بعد قوله : ( لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ) (2).

وقوله : ( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ) (3) ، فإنّ مدلول : « المؤمنات » و « المسلمات » لو كان داخلا في « المؤمنين » و « المسلمين » لما حسن هذا العطف ، ولا مزيّة للخاصّ ، حتّى يقال : إنّه للاهتمام به كما في عطف « جبرئيل » على « الملائكة ».

والقول بأنّ فائدته كونه نصّا في النساء فلا يقبل التخصيص فهو مذكور للتأكيد (4) ، يدفعه أولويّة التأسيس على التأكيد ، على أنّه قد روي عن أمّ سلمة أنّها قالت : يا رسول اللّه ، إنّ النساء قلن : ما نرى اللّه ذكر إلاّ الرجال (5) ، فأنزل اللّه : ( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ) (6) ، ولو كنّ داخلات لما صحّ تقريره النفي.

احتجّ الخصم بنصّ أهل اللغة على تغليب المذكّر على المؤنّث لو اجتمعا. ومنه قوله تعالى : ( وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً ) (7) و ( اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) (8) ، وبأنّه لو لم يدخلن في هذه الصيغ ، لما شاركن في الأحكام ؛ لثبوت أكثرها بها ، كما في أحكام الصلاة والصوم والزكاة (9).

والجواب عن الأوّل : أنّ التغليب مجاز ، ولا كلام في الإطلاق المجازي ، إنّما الكلام في الإطلاق الحقيقي.

ص: 739


1- النور (24) : 31.
2- النور (24) : 30.
3- الأحزاب (33) : 35.
4- حكاه الآمدي بعنوان « إن قيل » في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 286.
5- ذكره أحمد بن حنبل في مسنده 6 : 301 و 305 ، وابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 339 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 285.
6- الإحكام في أصول الأحكام 2 : 285 ، منتهى الوصول لابن الحاجب : 115.
7- البقرة (2) : 58.
8- البقرة (2) : 36.
9- قاله ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 336 - 338 ، وحكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 285 و 286.

وعن الثاني : أنّ الاشتراك قد علم بدليل من خارج ، ولولاه لم يثبت الاشتراك بمجرّد هذه الصيغ ، كما في الجهاد والجمعة.

إذا عرفت ذلك ، فيظهر الفائدة في مواضع متكثّرة ، كما لو وقف على « بني زيد » مثلا ، أو خاطب ذكورا وإناثا ببيع أو وقف ، فقال : « بعتكم » أو « وقفتكم » ، أو خاطب رقيقه الكفّار فقال : « لله عليّ أن اعتق من آمن منكم » ، ولا ريب في دخول الإناث مع القصد ، ولذا لو وقف على بني هاشم دخلت الإناث ؛ لأنّ القصد حينئذ الجهة عرفا.

ويظهر الفائدة أيضا في الدعاء في خطبة الجمعة ؛ فإنّه واجب للمؤمنين والمؤمنات إذا (1) اقتصر على « المؤمنين » ، وفي دعاء الاستفتاح إذا صلّت المرأة ، فهل يجوز لها أن تقول : « وما أنا من المشركين وأنا من المسلمين »؟ والوجه هنا الجواز ، وقد روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله لقّن فاطمة بهذا النحو في ذبح الأضحية وقال لها : « قومي ، وقولي : إنّ صلاتي ... » (2).

فصل [17]

الحقّ أنّ العموم الوارد من الشرع نحو : « المسلمين » و « المؤمنين » ونحوهما يتناول العبيد مطلقا ، كما أنّ نحو : « المسلمات » يتناول الإماء ، و « الناس » يتناولهما.

وقيل : يتناولهم إن كان الخطاب بحقّ اللّه دون حقوق الناس (3).

لنا : أنّ العبد من « المسلمين » والأمة من « المسلمات » وكليهما من « الناس ».

احتجّ الخصم بثبوت صرف منافع العبد إلى سيّده عموما ، فلو كلّف بالخطاب ، لكان صرفا لمنافعه إلى غيره ، فيلزم التناقض (4).

والجواب : منع ثبوت الصرف عموما ؛ لعدمه وقت تضايق العبادات ، فلا تناقض.

وبخروجه عن خطاب الحجّ ، والجهاد ، والأقارير ، والتبرّعات ونحوها.

ص: 740


1- قيد لقوله : « ويظهر الفائدة ».
2- المستدرك على الصحيحين 5 : 313 ، ح 7599.
3- نسبه الآمدي إلى أبي بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 289 ، وكذا الأسنوي في التمهيد : 355.
4- حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 116.

والجواب : أنّه بدليل من خارج ، كخروج الحائض والمريض والمسافر من بعض العمومات.

ويتفرّع عليه وجوب الجمعة ، والإحرام بالحجّ أو العمرة عليه إذا أذن له السيّد ؛ لأنّ المانع كان من جهته وقد زال.

فصل [18]

المتكلّم يدخل في عموم متعلّق خطابه ، خبرا كان ، نحو : ( وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (1) ، أو أمرا ، مثل : « من أحسن إليك فأكرمه » ، أو نهيا ، مثل : « من أكرمك فلا تهنه » ؛ لتناوله له لغة ، وعدم صلاحية كونه (2) متكلّما للمانعيّة. وعدم التناول في مثل قوله تعالى : ( اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (3) بدليل خارجي (4) ، فهو مخصّص.

ويتفرّع عليه طلاق زوجته لو قال : « نساء المسلمين ، أو العالمين طوالق » ، ودخوله في الموقوف عليهم لو وقف على الفقراء وكان فقيرا.

ويظهر ممّا ذكر أنّ العمومات الواردة من لسان الرسول صلى اللّه عليه وآله ، مثل : « يا أَيُّهَا النَّاسُ » و « يا عِبادِيَ » تتناوله صلى اللّه عليه وآله ، وكلّ مخاطب - بالفتح - يدخل في العمومات التي القيت إليه.

ويتفرّع عليه استحباب حكاية الأذان للمؤذّن ، وجواز تطليق الزوجة نفسها إذا قال لها زوجها : « طلّقي من نسائي من شئت » ، وجواز بيع الوكيل من نفسه إذا قال الموكّل له : « بع هذا » ، وجواز إبراء الوكيل نفسه إذا وكّله في إبراء غرمائه وكان منهم ، وجواز تزويج الرجل المرأة التي وكّلته في تزويجها لمن شاء لنفسه.

وقد وقع الخلاف بين الأصحاب في بعض هذه الفروع بأدلّة خارجة عن القاعدة (5).

ص: 741


1- البقرة (2) : 29.
2- أي عدم صلاحية كون المخاطب متكلّما.
3- الرعد (13) : 16.
4- وهو استحالة كونه تعالى مخلوقا.
5- راجع تمهيد القواعد : 180 ، القاعدة 60.
فصل [19]

خطاب الشارع لواحد من الامّة لا يعمّ جميع الامّة ، والخطاب الخاصّ بالرسول صلى اللّه عليه وآله ، مثل : ( يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ) (1) ، ( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) (2) ، ليس بعامّ للامّة ، ووجهه ظاهر.

وقد وقع الخلاف في الموضعين من شرذمة قليلة (3) لا اعتداد بهم وبما احتجّوا به عليه ، ولذا أعرضنا عن إيراده ونقضه.

فصل [20]

الحقّ أنّ « الفرد النادر » يدخل في العموم ، خلافا لبعض (4).

لنا : تناول الصيغة له ، وعدم مدخليّة ندوره لخروجه إلاّ أن يبلغ الندور حدّا يخصّصه العرف بغير النادر ، كما يأتي (5).

ومن فروعه : دخول الاكتساب النادر - كالهبة ، واللقطة - في المهايأة (6).

فصل [21]

الذين قالوا بحجّيّة المفهوم اختلفوا في أنّه عامّ أم لا ، فالأكثر على الأوّل ، والغزالي على الثاني (7).

والحقّ أنّه بعد ثبوت حجّيّته لا تأمّل في عمومه ، بمعنى أنّ الحكم يثبت بمفهوم الموافقة في جميع ما عدا المنطوق من الصور ، وينتفي بمفهوم المخالفة عن جميع ما عداه ؛ للفهم العرفي ، ولزوم التحكّم لولاه.

ص: 742


1- المزّمّل (73) : 1.
2- المدّثّر (74) : 1.
3- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : 113 و 114.
4- حكاه الأسنوي عن الرافعي في التمهيد : 345 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 179 ، القاعدة 59.
5- يأتي في ص 748 وما بعد.
6- المهايأة : الأمر المتهايأ عليه. والمهايأة : أمر يتهايأ القوم فيتراضون به. لسان العرب 1 : 6. « ه. ي. أ ».
7- المستصفى : 239.

والظاهر أنّ الغزالي لا ينكر ذلك ، بل لا يطلق العموم على هذا المعنى ، إمّا لأنّ العموم عنده من عوارض الألفاظ والمفهوم ليس بلفظ ، فيكون النزاع لفظيّا. أو لأنّ العامّ ما يقبل التخصيص والمفهوم لا يقبله ؛ لأنّ القابل له يجب أن يكون ملفوظا حقيقة أو تقديرا ، والمفهوم ليس بملفوظ مطلقا ؛ لأنّه لازم عقلي يثبت تبعا لملزومه ، فلا يتجزأ في الإرادة ولا يحتمل إرادة البعض.

وللأكثر أن يقولوا : إنّ المفهوم ملفوظ تقديرا ، فيقبل التخصيص.

وكيفيّة التفريع ظاهرة.

فصل [22]

الحقّ أنّ تعليق الحكم على العلّة يفيد العموم ، بمعنى أنّه يوجد الحكم في جميع صور وجود العلّة ، ويكون العموم بالشرع قياسا لا باللغة صيغة.

وقيل : لا يفيد العموم (1).

وقيل : يفيده صيغة (2).

لنا : أنّ التعليق ظاهر في استقلال العلّة بالعلّيّة ، وتخلّف المعلول عن العلّة المستقلّة غير جائز ، فوجب أن يثبت الحكم حيث يثبت العلّة ، فيثبت العموم بالاستدلال ، ولا إشعار به في اللفظ بوجه ولذا لا يقتضي قول القائل : « أعتقت غانما لسواده » عتق جميع السودان ؛ لأنّه لو دلّ بصيغته على العموم ، لكان بمثابة : « أعتقت كلّ أسود » فليس عمومه بالصيغة لغة.

احتجّ القائل بعدم إفادته العموم بأنّ التعليق لا يفيد استقلال العلّة بالعلّيّة ؛ لجواز أن تكون جزء العلّة المستقلّة ، والجزء الآخر منها خصوصيّة المحلّ (3).

والجواب : أنّه خلاف الظاهر على أنّ المفروض عندنا العلّة التي علمت علّيّتها بإحدى الطرق المعتبرة من غير مدخليّة شيء آخر.

ص: 743


1- نسبه ابن الحاجب إلى القاضي أبي بكر في منتهى الوصول : 112 ، والأسنوي في التمهيد : 468 - 469.
2- نفس المصدر.
3- حكاه عنه ابن الحاجب في المصدر.

واحتجّ القائل بإفادته العموم صيغة بعدم الفرق بين « حرّمت الخمر لإسكاره » و « حرّمت كلّ مسكر » (1).

والجواب : منع عدم الفرق ، فإنّ الثاني عامّ لكلّ مسكر بصيغته ، بخلاف الأوّل ؛ فإنّ إثبات عمومه يتوقّف على الاستدلال.

فصل [23]

« التخصيص » قصر العامّ على بعض مسمّياته ، والقصر يعمّ القصر باعتبار الدلالة والحكم ، وباعتبار الحكم فقط ، فيتناول ما لم يرد به إلاّ بعض مسمّياته ابتداء كما في غير الاستثناء ، وما اريد به جميع مسمّياته ثمّ اخرج بعض ، كما في الاستثناء. وقيل : هو إخراج بعض ما يتناوله الخطاب عنه (2).

وقيل : هو تعريف أنّ العموم للخصوص (3).

وفيه دور ، إلاّ أن يخصّص « الخصوص » باللغوي.

وقد يطلق التخصيص على قصر غير العامّ على بعض مسمّياته (4) ، مثاله لفظ : « العشرة » ليس عامّا ، ومع ذلك إذا قصر على خمسة بالاستثناء عنه ، يقال : قد خصّص ، وكذلك : « المسلمون » للمعهودين (5).

واعلم أنّ الضابط في التخصيص أنّه كلّ ما يصحّ تأكيده ب- « كلّ » ويدلّ على الكثرة حقيقة (6) أو حكما (7) يصحّ تخصيصه ، وما لا ، فلا.

والإيراد عليه بنحو : « ما رأيت أحدا » ، فإنّه يخصّص ولا يؤكّد ، ونحو : « أكلت

ص: 744


1- أيضا حكاه عنه ابن الحاجب في المصدر.
2- قاله الفخر الرازي في المحصول 3 : 7 ، ونسبه ابن الحاجب إلى أبي الحسين في منتهى الوصول : 119 ، وهو قول العلاّمة في تهذيب الوصول : 135.
3- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 299 و 300 ، وحكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 119.
4- في هامش « أ » : « وفيه أنّ الخمسة في المثال المذكور ليس من مسمّيات العشرة بل من مسمّاه ، لاتّحاده ».
5- في هامش « أ » : « إذا قصر على بعضهم ».
6- في هامش « أ » : « في شمول الأفراد ».
7- في هامش « أ » : « في شمول الأجزاء ».

الرغيف » فإنّه يؤكّد ولا يخصّص (1) ، مندفع بأنّ المراد التلازم بين التأكيد والتخصيص بأحد الإطلاقين لا بكلّ منهما.

ثمّ الدالّ على الكثرة إمّا من جهة اللفظ ، كألفاظ العموم ، أو من جهة المعنى وهو العلّة الشرعيّة ، ومفهوم الموافقة ، ومفهوم المخالفة.

وقد عرفت جواز تخصيص العلّة المنصوصة في بحث النقض (2). ومنه جواز بيع العرايا (3) مع النهي عن بيع الرطب بالتمر ؛ لعلّة النقصان عند الجفاف مع وجود تلك العلّة بعينها في العرايا.

وأمّا مفهوم الموافقة - كدلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب وغيره من أنواع الأذى - فيجوز تخصيصه ؛ لكونه دليلا عامّا دالاّ على الكثرة المعنويّة.

ويتفرّع عليه جواز قتل الوالد إذا ارتدّ ، وضرب الامّ إذا زنت ، وجواز حبس الوالد لحقّ الولد.

وقس عليه مفهوم المخالفة ؛ فإنّه يدلّ على انتفاء الحكم في جميع صور المسكوت عنه ، فيقبل التخصيص ؛ لكونه دليلا عامّا ؛ فقوله عليه السلام : « إذا بلغ الماء كرّا لم يحمل خبثا » (4) يدلّ بمفهومه على أنّ ما دونه ينجس بمجرّد ملاقاة النجاسة ، فيجوز تخصيصه بما عدا ما لا يدركه الطرف من الدم ، كما ذهب إليه الشيخ (5) وجماعة (6) استنادا إلى رواية عليّ بن جعفر عن أخيه عليه السلام (7).

فائدة

الفرق بين التخصيص والنسخ من وجوه :

منها : أنّ النسخ يخصّص الحكم بزمان معيّن ، فهو أخصّ من التخصيص بهذا الاعتبار.

ص: 745


1- راجع المحصول 3 : 7 - 9.
2- تقدّم في ج 1 ، ص 506.
3- جمع العريّة وهي النخلة التي يعريها صاحبها غيره ليأكل ثمرها. والمراد هنا جواز بيع الثمر في رءوس النخل بالتمر. راجع لسان العرب 15 :3. 50 ، « ع ر ا ».
4- عوالي اللآلئ 1 : 76 ، ح 156 و 2 : 16 ، ح 30.
5- المبسوط 1 : 7 ، والاستبصار 1 : 23 ، ذيل الحديث 57.
6- كالصدوق في المقنع : 31 ، والمفيد في المقنعة : 64 ، وسلاّر في المراسم : 36 ، وابن حمزة في الوسيلة : 74.
7- الكافي 3 : 74 ، باب النوادر ، ح 16 ، وتهذيب الأحكام 1 : 412 ، ح 1299 ، والاستبصار 1 : 23 ، ح 57 ، ووسائل الشيعة 1 : 150 ، أبواب الماء المطلق ، الباب 8 ، ح 1.

ومنها : أنّ التخصيص لا يصحّ إلاّ في الألفاظ ، والنسخ قد يكون لما علم بدليل شرعي لفظا كان أو غيره ، فينعكس النسبة بهذا الاعتبار.

ومنها : أنّ التخصيص مقارن أو متقدّم ، والنسخ متراخ.

ومنها : أنّ المخصوص غير مراد عند الخطاب ، والمنسوخ مراد عنده.

فصل [24]

إذا خصّ العامّ فالحقّ أنّه حقيقة مطلقا في الباقي.

والأكثر على أنّه مجاز فيه كذلك.

وقيل : حقيقة إن كان الباقي غير منحصر - بمعنى أنّ له كثرة يعسر العلم بعددها - وإلاّ فمجاز (1).

وقيل : حقيقة فيه إن خصّص بما لا يستقلّ بنفسه - من شرط أو صفة أو استثناء أو غاية - وإن خصّص بما يستقلّ - من سمع أو عقل - فمجاز (2).

وقيل : حقيقة فيه إن خصّ بشرط أو استثناء ، ومجاز فيه إن خصّ بصفة وغيرها (3).

وقيل : حقيقة فيه إن خصّص بشرط أو صفة ، ومجاز فيه إن خصّص باستثناء وغيره (4).

وقيل : حقيقة إن خصّ بدليل لفظي متّصل أو منفصل ، ومجاز فيه إن خصّ بغيره (5).

وقيل : حقيقة في تناوله ، مجاز في الاقتصار عليه (6).

لنا أنّ اللفظ كان متناولا له حقيقة بالاتّفاق ، والتناول باق على ما كان لم يتغيّر ، وإنّما طرأ (7) عدم إرادة المخرج بالمخصّص.

ص: 746


1- نسبه ابن الحاجب إلى أبي بكر الرازي في منتهى الوصول : 106.
2- حكاه الأسنوي عن أبي الحسين في نهاية السؤل 2 : 397.
3- نسبه ابن الحاجب إلى القاضي في منتهى الوصول : 106.
4- نسبه ابن الحاجب إلى عبد الجبّار في المصدر.
5- حكاه الأسنوي عن الكرخي في نهاية السؤل 2 : 401.
6- نسبه ابن الحاجب إلى إمام الحرمين ( الجويني ) في منتهى الوصول : 106.
7- في « ب » : « ترى ».

والجواب عنه بأنّه كان متناولا له مع غيره ، والآن يتناوله (1) وحده ، وهما متغايران ، فقد استعمل في غير ما وضع له ، مندفع بمنع عدم تناوله للغير (2) في ذاته ، فإنّه يتناوله في نفسه وإن حكم بالخروج بسبب آخر. هذا.

وما قيل في دفعه : أنّ عدم تناوله للغير ، أو تناوله له لا يغيّر صفة تناوله لما يتناوله ، لا يخفى ضعفه ؛ لأنّه إذا لم يتناول الغير وتناول الباقي وحده ، لا معنى لكونه حقيقة فيه ؛ لأنّه إنّما يكون من حيث استعماله فيما يكون ذلك الباقي بعضا منه ، لا من حيث استعماله في الباقي وحده.

احتجّ الأكثر بأنّ « الباقي » و « الكلّ » مفهومان متغايران ، فلو كان حقيقة في الأوّل كما في الثاني لزم كونه مشتركا بينهما ، مع أنّ الفرض قد وقع في الألفاظ التي ثبت وضعها للعموم خاصّة.

والجواب عنه : أنّ إرادة الاستغراق منه باقية ، وإنّما يخرج ما يخرج بالمخصّص ، ثمّ يسند الحكم إلى الباقي ، وعلى هذا لا يراد الباقي وحده منه ، بل يراد في ضمن الكلّ.

ولا ريب أنّ ما وضع للكلّ حقيقة في البعض إذا لم يرد خاصّة ، بل اريد في ضمن الكلّ ؛ لأنّه لم يرد حينئذ بوضع واستعمال ثان ، بل الوضع والاستعمال الأوّل ، والمجاز بخلاف ذلك.

ولزيادة التوضيح نقول : إنّ العامّ يراد به العموم ، والخاصّ يراد به الخصوص ، والباقي وحده إنّما يراد من مجموع العامّ مع مخصّصه لا من العامّ فقط ليلزم الاشتراك ، وهذا لا ينافي كونه وحده مستعملا في العموم ؛ لأنّ وضع المطلق غير وضع المقيّد ؛ فقولنا : « أكرم بني تميم الطوال » بمنزلة « أكرم بني تميم من قد علمت من صفتهم أنّهم الطوال » ، ويرجع المعنى إلى أنّه : « أكرم من جميع بني تميم طوالهم » ولهذا يصحّ أن يقال : « وأمّا القصار منهم ، فلا تكرمهم » فيرجع الضمير إلى جميع بني تميم. وقس عليه المخصّص بشرط ، أو استثناء ، أو غاية.

ويعلم من ذلك أنّ الحقّ - كما يأتي (3) - أنّ العامّ المخصوص ، مثل : « له عشرة إلاّ ثلاثة »

ص: 747


1- في « ب » : « أو لأنّ تناوله ».
2- والمراد بالغير هنا هو المستثنى.
3- يأتي في ص 765.

مستعمل في معناه الحقيقي ، فيتناول السبعة والثلاثة معا ، ثمّ أخرج المخصّص منه ثلاثة ، وبقي سبعة واسند إليه بعد الإخراج لا أنّه مستعمل في الباقي ، أي السبعة كما ذهب إليه الأكثر ، ويأتي (1) أنّ قول القاضي - وهو أنّ المجموع المركّب بإزاء السبعة حتّى كان له اسمان : مفرد وهو سبعة ، ومركّب وهو عشرة إلاّ ثلاثة (2) - يرجع إلى المذهب الحقّ.

وممّا ذكر - من أنّ الحكم إنّما يسند إلى الباقي - يندفع ما قيل : إنّ المتكلّم حال إطلاق لفظ العامّ إن لم يرد البعض المدلول عليه بالمخصّص ، وأراد الموضوع الأصلي للعامّ ، لزم إرادة تعلّق الحكم بجميع الأفراد أوّلا ، ثمّ إخراج بعضها ثانيا ، وذلك نسخ لا تخصيص (3).

فإن قلت : إذا كان لفظ العامّ باقيا على عمومه ، فلا يراد منه الباقي ولا يكون عامّا مخصّصا مع أنّ البحث في العامّ المخصّص الذي اريد منه الباقي ، ولذا جعل الترجمة عن البحث بما ذكر. وعلى ما ذكرت - من بقائه على عمومه ، وإخراج المخصّص ما أخرج ، وإرادة الباقي من مجموعهما - لا يصحّ الترجمة عنه به.

قلت : لمّا اريد منه الكلّ ، وأخرج المخصّص منه ما أخرج ، وبقي الباقي على ما كان ، فمن حيث ورود المخصّص يصدق عليه أنّه عامّ مخصّص ، ومن حيث إرادة الباقي منه مع المخصّص يصدق أنّ العامّ المخصوص اريد منه الباقي ، ومن حيث إنّ إرادة الباقي منه لأجل أنّه في ضمن الكلّ وبالوضع الأوّل يصدق أنّه حقيقة فيه. هذا.

واحتجّ (4) كلّ من المفصّلين باعتبارات واهية لا يخفى ردّها بعد الإحاطة بما ذكرناه.

فصل [25]

الحقّ جواز تخصيص العامّ إلى أيّ مرتبة كانت حتّى إلى الواحد ؛ وفاقا لجمع من المحقّقين (5).

ص: 748


1- يأتي في ص 765.
2- حكاه عنه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 122.
3- راجع تمهيد القواعد : 194 ، القاعدة 64.
4- راجع : منتهى الوصول لابن الحاجب : 121 - 125 ، والتمهيد : 388 ، وتمهيد القواعد : 194 ، القاعدة 64.
5- كما في المحصول 3 : 13 ، ونهاية السؤل 2 : 390.

وقيل : يجوز إلى أقلّ المراتب ، فيجوز في الجمع إلى ثلاثة ، وفي غيره إلى الواحد (1).

وقيل : لا بدّ من بقاء اثنين (2).

وقيل : ثلاثة (3).

والأكثر على أنّه لا بدّ من بقاء جمع يقرب من مدلول العامّ إلاّ أن يستعمل في حقّ الواحد على سبيل التعظيم.

وقيل : التخصيص بالبدل والاستثناء يجوز إلى واحد ، نحو : « اشتريت العشرة أحدها » و « عشرة إلاّ تسعة » ، وبغيرهما إن كان متّصلا كالصفة والشرط يجوز إلى اثنين ، نحو : « أهن الناس الجهّال » أو « إن كانوا جهّالا ».

وإن كان منفصلا ففي المحصور القليل يجوز إلى اثنين ، مثل : « قتلت كلّ زنديق » وهم ثلاثة أو أربعة وقد قتل اثنين أو ثلاثة ، وفي غير المحصور الواقعي أو العادي لا بدّ من بقاء جمع يقرب من مدلول العامّ (4).

والظاهر - كما قيل - : إنّ الخلاف في غير ألفاظ المجازات والاستفهام (5) ؛ إذ فيهما يجوز الانتهاء إلى الواحد وفاقا.

لنا : ما تقدّم (6) من أنّ العامّ المخصّص مستعمل في معناه الحقيقي ، وأخرج المخصّص غير الباقي ، ثمّ وقع الإسناد.

ولا يتصوّر فرق بين الواحد وما فوقه ممّا يبقى بعد الإخراج إلاّ أن يقال : إنّه يستهجن إرادة جميع أفراد العامّ ثمّ إخراج مجموعها حتّى يكون المحكوم عليه واحدا ؛ إذ العدول عمّا يدلّ على الواحد مع إيجازه إلى كلام طويل مبهم قبيح.

وهو مدفوع بأنّ العدول إنّما يكون لنكتة ، ومثله قوله تعالى : ( أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً ) (7)

ص: 749


1- حكاه الأسنوي عن القفّال الشاشي في التمهيد : 377 ، ونهاية السؤل 2 : 389.
2- نسبه الأسنوي إلى القاضي في نهاية السؤل 2 : 385 و 391.
3- نسبه الأسنوي إلى الشافعي وأبي حنيفة في المصدر : 391.
4- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 119.
5- حكاه الفخر الرازي في المحصول 3 : 13 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 136.
6- تقدّم في ص 746 - 747.
7- العنكبوت (29) : 14.

مع كون « تسعمائة وخمسين » أخصر وأصرح.

ولنا : أنّ المفروض بعد ورود مخصّص جامع لشرائط جواز العمل مخصّصا (1) للعامّ إلى الواحد ، فهو حجّة للجواز. ولا يجوز طرح مثله ببعض الاعتبارات الواهية التي احتجّ بها الخصم.

وأيضا لو امتنع ذلك ، لكان (2) لتخصيصه وإخراج اللفظ عن موضوعه إلى غيره ، وهذا يوجب امتناع كلّ تخصيص.

والجواب بمنع كون الامتناع لمطلق التخصيص ، بل لتخصيص خاصّ وهو المنتهى إلى الواحد ؛ لقبحه لغة وعرفا مدفوع بعدم قبحه ، كما يأتي (3).

ولنا أيضا أنّ العامّ إذا استعمل في غير الاستغراق ، فليس بعض الأفراد أولى من بعض ، فيجوز استعماله في كلّ مرتبة من المراتب إلى أن ينتهي إلى الواحد.

والجواب بأنّ الأكثر أولى ؛ لقربه إلى الجمع يصحّح أرجحيّة إرادة الأكثر ، لا امتناع إرادة الأقلّ ، وهو المدّعى.

وقد اجيب عنه بأنّ استعمال العامّ في الخصوص مجاز كما هو الحقّ ، ولا بدّ في جواز مثله من وجود العلاقة المصحّحة للتجوّز ، ولا يتصوّر هنا علاقة سوى المشابهة - أعني الاشتراك في صفة - وهي هاهنا الكثرة ، فلا بدّ من تحقّق كثرة تقرب مدلول العامّ ليتحقّق المشابهة المعتبرة (4).

وعلى ما اخترناه من أنّ العامّ المخصّص حقيقة في الباقي يندفع هذا الجواب.

وقيل : إنّ العلاقة هنا هي الجزئيّة ؛ فإنّ بعض الأفراد بعض مدلول العامّ ، فهو جزؤه ، فإذا استعمل في الواحد ، يكون استعمالا للّفظ الموضوع للكلّ في الجزء (5).

والحقّ ، أنّ هذا الجواب فاسد ؛ لأنّ كلّ بعض من أفراد العامّ بعض مدلوله ، إلاّ أنّ الأفراد

ص: 750


1- حال من « مخصّص » ، ولا بأس بكون ذي الحال نكرة موصوفة كما هنا.
2- أي الامتناع.
3- في ص 752.
4- راجع الإحكام في أصول الأحكام 2 : 303 و 304.
5- قاله الفاضل التوني في الوافية : 126.

ليست أجزاء له ؛ لأنّ مدلوله كلّ فرد - وهو العامّ الاصولي - لا مجموع الأفراد ، وإنّما يتصوّر تحقّق الكلّ والجزء في مدلول هو المجموع لا كلّ فرد.

والحاصل أنّ العلاقة المتصوّرة هاهنا لا تخلو من أحد امور أربعة :

[ الأمر الأوّل ] : المشابهة ، وهي مفقودة وفاقا.

و [ الأمر الثاني ] : علاقة الجزء والكلّ ، وهي أيضا مفقودة هنا ؛ إذ ليس الخاصّ الاصولي جزء العامّ ؛ لأنّها تتصوّر في الكلّ المجموعي وليس هو عامّا اصوليّا ؛ فإنّ العامّ الاصولي هو كلّ واحد ، ولا ريب أنّ نسبة الواحد إلى كلّ واحد ليست نسبة الجزء إلى كلّه.

نعم ، ربما ظنّ أنّ نسبة الواحد إلى العشرة - وهو المنزّل منزلة العامّ - نسبة الجزئيّة ، إلاّ أنّ التصفّح يعطي أنّ إطلاق اسم الكلّ إنّما يكون على جزء يكون المقصود منه بالذات كونه جزءا مع عروض هيئة اجتماعيّة وحدانيّة ، كالأنامل والأصابع ، لا الجزء المنفصل المستقلّ في الوجود ، فلا يتحقّق العلاقة المصحّحة.

والقول بأنّ إطلاقه على الجزء المستقلّ في الوجود وإن لم يثبت صحّته لغة ، ولم يرد في فصيح الكلام إلاّ أنّه لمّا جاز عقلا فيمكن القول به ؛ لأنّ عدم الاطّلاع على نوع علاقة ليس مانعا عقليّا من القول به (1) ، ضعيف ؛ لأنّ ثبوت مثله من اللغة لا من العقل.

فإن قيل : ما قال الفقهاء من أنّ من قال : « له عشرة إلاّ تسعة » يلزمه واحد يدلّ على إرادة الواحد من العشرة ، وما ذلك إلاّ لتحقّق العلاقة.

قلت : يجوز أن يكون بناء ذلك على أنّ المراد من العشرة معناها الحقيقي ، والاستثناء أخرج التسعة ، والإسناد وقع بعد الإخراج كما اخترناه.

و [ الأمر الثالث ] : علاقة الكلّي والجزئي ، وهي التي تكون بين العامّ والخاصّ المنطقيّين ، وهي أيضا مفقودة هنا ؛ لأنّ الكلّي يحمل على الجزئي ، ولا يحمل على فرد واحد من الإنسان أنّه كلّ إنسان ، بل يحمل عليه ماهيّة الإنسان من حيث هي ، وهي كلّي منطقي (2).

ص: 751


1- راجع نهاية السؤل 2 : 390 وبعدها.
2- كذا في النسختين. والأولى : « وهي كلّيّة منطقيّة ». واعلم أنّ العامّ والخاصّ المنطقيّين هما المفهومان الكلّيّان بخلاف الاصوليّين منهما ، فإنّ الخاصّ لا يعتبر فيه الكلّيّة بل يكون زيد خاصّا بالنسبة إلى الإنسان كما يشير إليه المصنّف بقوله الآتي : « أي بعض الأفراد ... ».

و [ الأمر الرابع ] : علاقة العموم والخصوص ، وهي التي تتصوّر بين العامّ والخاصّ الاصوليّين - أي بعض الأفراد [ و ] (1) كلّ واحد منهما (2) - ولم يصرّح أحد بتجويز نوعها ، ولم تستعمل في كلام فصيح.

وما ورد في كلام بعض الفضلاء من إطلاق « العلماء » على زيد ؛ لادّعاء أنّه اشتمل على كلّ عالم ؛ لاتّصافه بجميع علومهم (3) - مع أنّه غير المبحث ؛ إذ لم يستعمل العامّ في الواحد ، بل جعل الواحد عامّا واطلق لفظه عليه - ليس حجّة.

وقد ظهر ممّا ذكر أنّه لا يمكن وجود العلاقة المصحّحة بين العامّ والواحد ، وهو من الشواهد على ما اخترناه من كونه حقيقة في الباقي ؛ إذ وقوع استعماله في الواحد في كلام القوم ممّا لا يمكن إنكاره. هذا.

واحتجّ القائل بجواز التخصيص إلى أقلّ المراتب بصحّة إطلاق كلّ لفظ على أقلّ مراتبه (4).

والجواب : أنّ الكلام في أقلّ مرتبة يخصّص إليها العامّ ، لا في أقلّ مرتبة يطلق عليه اللفظ ولا تلازم بينهما.

واحتجّ القائل بجوازه إلى اثنين أو ثلاثة بما قيل في الجمع ، وأنّ أقلّه اثنان أو ثلاثة (5).

وجوابه : ما عرفته ؛ فإنّ الجمع ليس بعامّ ، فلا يكون المثبت لأحدهما مثبتا للآخر ، مع أنّ ذلك لا يتأتّى في غير الجمع من العمومات.

واحتجّ الأكثر بأنّه يقبح قول القائل : « أكلت كلّ رمّانة في البستان » وفيه آلاف ، وقد أكل واحدة أو اثنتين أو ثلاثا ، وقوله : « أخذت كلّ ما في الصندوق » وفيه ألف ، وقد أخذ دينارا أو دينارين ، وقس عليهما أمثالهما من الأمثلة.

ص: 752


1- أضفناه للضرورة.
2- توضيحه أنّ هذا العالم الفاسق مثلا خاصّ بالنسبة إلى العلماء وبالنسبة إلى العالم الفاسق كليهما أي بعض الأفراد خاصّ بالنسبة إلى كلّ من العامّ والخاصّ.
3- أشار إليه الفخر الرازي في المحصول 3 : 14 ، والفاضل التوني في الوافية : 126.
4- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 301 و 303.
5- تقدّم في ص 721.

والجواب : منع القبح بعد نصب القرينة ، أمّا عقلا وشرعا ، فظاهر. وأمّا عرفا ولغة ، فلما يظهر على المتتبّع في موارد الاستعمال ؛ فإنّ العامّ - كما ذكرنا - لا يستعمل في الواحد المخصوص أوّلا ، بل يستعمل في معناه الحقيقي ، ثمّ بعد الإخراج يتعلّق الحكم به ، ولو لا ذلك لم يصحّ قول القائل : « أكلت كلّ رمّانة في البستان إلاّ الحامض » إذا كان الحلو واحدا ، سواء كان الحامض كثيرا أو قليلا ، مع أنّه صحيح. هذا.

وحجّة القائل الأخير على كلّ من دعاويه تظهر من حجج الأقوال المتقدّمة عليه ، وما نخالفه فيه قد ظهر جوابه ، وما نوافقه فيه لا يفتقر إلى جواب.

إذا عرفت ذلك ، فكيفيّة التفريع أنّه لو قال : « واللّه لا اكلّم أحدا » ونوى زيدا ، أو « لا آكل طعاما » ونوى معيّنا ، ففي قبوله وجهان. وعلى ما اخترناه يتأتّى القبول ، وكذا لو قال : « نسائي طوالق » وكان له أربع زوجات ، ثمّ قال : « نويت واحدة ».

تذنيب : تقييد المطلق كتخصيص العامّ خلافا ، واختيارا ، واحتجاجا ، وجوابا ، وتفريعا. فعلى ما اخترناه يجوز تقييده إلى واحد.

فصل [26]

العامّ المخصّص بمجمل ، نحو : « هذا العامّ مخصوص » أو « لم يرد به كلّ ما تناوله » ليس بحجّة ، ولا يمكن الاستدلال به وفاقا ؛ إذ ما من فرد إلاّ ويجوز أن يكون هو المخرج ، ومنه قوله تعالى : ( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) (1).

وأمّا المخصّص بمبيّن ، مثل أن يقول : « اقتلوا المشركين » ثمّ ظهر أنّ الذمّيّ غير مراد ، فقد اختلف في كونه حجّة في الباقي على أقوال :

ثالثها : أنّه حجّة في أقلّ الجمع من اثنين ، أو ثلاثة على الرأيين (2).

ورابعها : أنّه حجّة فيما بقي إن خصّ بمتّصل ، وليس بحجّة فيه إن خصّ بمنفصل (3).

ص: 753


1- المائدة (5) : 1.
2- راجع : الإحكام في أصول الأحكام 2 : 252 و 2. وتمهيد القواعد : 219 ، القاعدة 80 ، والوافية : 117.
3- راجع : الإحكام في أصول الأحكام 2 : 252 و 2. وتمهيد القواعد : 219 ، القاعدة 80 ، والوافية : 117.

وخامسها : أنّه إن لم يحتجّ (1) قبل التخصيص إلى بيان ، فحجّة فيه ، وإلاّ فلا (2).

وسادسها : أنّه إن كان منبئا عنه (3) قبل التخصيص فحجّة وإلاّ فلا (4) ، مثاله : « اقتلوا المشركين » ، فإنّه ينبئ عن الحربي وهو الباقي إنباؤه عن (5) الذمّي ؛ لأنّهما قسمان أوّليّان للفظ « المشركين » ينتقل الذهن منه إليهما. ويدلّ على كلّ منهما بالتضمّن ، بخلاف ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ) (6) فإنّه لا ينبئ عن كون المال مخرجا من حرز ، وفي نصاب السرقة - وهو الربع - ؛ لأنّ لفظ ( السَّارِقُ ) لا يدلّ عليهما بشيء من الدلالات ، ولا ينتقل الذهن منه إلى خصوصهما ، فإذا بطل العمل به في صورة انتفائهما ، لم يعمل به في صورة وجودهما.

والحقّ أنّه حجّة فيما بقي مطلقا ؛ وفاقا للأكثر.

لنا : تناوله للباقي أوّلا ، والأصل بقاء ما كان ، واحتجاج السلف به عليه شائعا ذائعا من غير نكير ، وذمّ العقلاء للعبد بإهمال الكلّ إذا أخرج المولى من المأمور به بعض الأفراد ، وكون أكثر العمومات أو جميعها كذلك ، فلو لم يكن حجّة ، لزم إبطالها جميعا ، وعدم توقّف حجّيّته في بعض الموارد على حجّيّته في البعض الآخر ، وإلاّ لزم الدور أو التحكّم.

واورد عليه بالتزام توقّف كلّ من الطرفين على الآخر ، إلاّ أنّه ليس توقّف تقدّم ليلزم الدور المحال ، بل توقّف معيّة ، فيلزم دور المعيّة وهو جائز (7).

ولا يرد أنّه لو كان توقّف معيّة - كما في المتضايفين - لما أمكن تعقّل أحدهما بدون الآخر مع أنّه ممكن ؛ لأنّ توقّف المعيّة في الوجود لا يستلزم توقّفها في التعقّل كما في العلّة المستقلّة ومعلولها ، وفي معلولي علّة واحدة لجهتين متلازمتين.

ص: 754


1- أي الباقي ومعناه أنّ الباقي إن كان قدرا متيقّنا من العامّ. والفرق بين هذا والسادس أنّ إرادة الباقي في هذا تعلم من الخارج وفي السادس تعلم من اللفظ.
2- راجع : الإحكام في أصول الأحكام 2 : 252 و 253 ، وتمهيد القواعد : 219 ، القاعدة 80 ، والوافية : 117.
3- أي إن كان العامّ منبئا عن الباقي أو إن كان الباقي منبئا عنه.
4- راجع : الإحكام في أصول الأحكام 2 : 252 و 253 ، وتمهيد القواعد : 219 ، القاعدة 80 ، والوافية : 117.
5- « عن » هنا بمعنى « بعد » أي الحربيّ هو الباقي إنباؤه بعد إخراج الذمّيّ.
6- المائدة (5) : 38.
7- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 253.

احتجّ من أنكر الحجّيّة مطلقا بأنّ حقيقة اللفظ العموم ، وسائر ما تحته من المراتب مجازاته ، والباقي أحدها ، فلمّا لم يرد الحقيقة وتعدّدت المجازات ، يكون اللفظ مجملا فيها ، فلا يحمل على شيء منها فيبقى متردّدا بينها ولا يكون حجّة في شيء منها (1).

والجواب : أنّ ذلك لو كانت المجازات متساوية ولا دلالة على تعيين أحدها ، وأمّا إذا كان بعضها أقرب إلى الحقيقة ، أو وجد الدليل على التعيين ، فلا إجمال ، وفيما نحن فيه وجد الأمران ؛ لأنّ الباقي أقرب إلى العموم ، وما قدّمناه من الأدلّة دلّت على حمله عليه. هذا.

وعلى ما اخترناه - من أنّ العامّ حقيقة في الباقي - لا يخفى كيفيّة الجواب.

واحتجّ القائل بأنّه حجّة في أقلّ الجمع بأنّه المتحقّق ، والباقي مشكوك فيه ، فلا يصار إليه (2).

والجواب : منع كونه مشكوكا فيه بعد ثبوت الدلالة على وجوب الحمل عليه. هذا.

واحتجّ كلّ من أصحاب المذاهب الأخر باعتبارات (3) ضعيفة لا ينبغي ضبطها في المصنّفات ؛ لظهور فسادها ، فلذا أعرضنا عن إيرادها وردّها.

وكيفيّة التفريع ظاهرة.

فصل [27]

الجواب إن لم يكن مستقلاّ ، يتبع السؤال في عمومه وخصوصه وفاقا ، مثل أن يسأل : « هل يتوضّأ بماء البحر؟ » فيقال : « نعم ».

وإن كان مستقلاّ فإن كان مساويا ، فأمره واضح. وإن كان أعمّ ، فالحقّ أنّ العبرة بعموم لفظه لا بخصوصيّة السبب ، فالسبب الخاصّ لا يخصّص العامّ المستقلّ سواء كان السبب سؤالا - كسؤالهم عنه عليه السلام عن بئر بضاعة وجوابه عليه السلام بقوله : « خلق اللّه الماء طهورا لا ينجّسه شيء إلاّ ما غيّر طعمه أو لونه أو ريحه » (4) ، وسؤالهم عنه عليه السلام عمّن اشترى عبدا فاستعمله ، ثمّ

ص: 755


1- نسبه الآمدي إلى عيسى بن أبان وأبي ثور في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 252.
2- ذكره الآمدي في المصدر : 253 ، والفاضل التوني في الوافية : 117.
3- راجع الإحكام في أصول الأحكام : 252 - 254.
4- وسائل الشيعة 1 : 135 ، أبواب الماء المطلق ، الباب 1 ، ح 9.

وجد به عيبا فردّه هل يعزم اجرته؟ وجوابه بأنّ الخراج بالضمان (1) - أو لا ، كما روي أنّه مرّ بشاة ميمونة فقال : « أيّما إهاب دبغ فقد طهر » (2) فيحكم بطهارة كلّ ما لم يتغيّر أحد أوصافه ، وكلّ إهاب مدبوغ.

لنا : أنّ المقتضي - وهو عموم اللفظ - موجود ، والمانع مفقود ؛ لأنّه ليس ثمّة غير خصوص السبب وهو لا يعارضه ؛ لعدم المنافاة ، وأنّ الصحابة عمّمت العمومات المبيّنة على أسباب خاصّة كآية السرقة (3) ، وآية الظهار (4) ، وآية اللعان (5).

ويؤيّده ما روى عمر بن يزيد عن الصادق عليه السلام قال : قلت له : ( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) (6)؟ قال : « نزلت في رحم آل محمّد [ صلى اللّه عليه وآله ] ، وقد تكون في قرابتك » ، ثمّ قال : « فلا تكوننّ ممّن يقول للشيء : إنّه في شيء واحد » (7).

احتجّ الخصم بأنّ الجواب لو عمّ لم يكن مطابقا للسؤال ، ولم يكن لذكر السبب فائدة ، وما كان ينبغي أن يبالغوا في بيانه وضبطه وتدوينه ، وجاز تخصّص السبب عنه بالاجتهاد وبطلانه قطعي ، وكان حكما بأحد المجازات من غير مرجّح ؛ لفوات الظهور بالنصوصيّة في صورة السبب حيث تناولها بخصوصها بعد أن لم يكن ، فصار مصروفا عمّا وضع له إلى غيره ، فالسبب خاصّة مع سائر الخصوصيّات ، ومع بعضها ودونها مجازات له ، فالحمل على السبب خاصّة مع سائر الخصوصيّات على التعيين تحكّم.

وبأنّه لو قال : « تغدّ عندي » فقال : « واللّه لا تغدّيت » ، لم يعمّ قوله هذا كلّ تغدّ بل حمل على التغدّي عنده حتّى لو تغدّى عند غيره لم يحنث (8).

ص: 756


1- سنن ابن ماجة 2 : 754 ، ح 2243 ، وسنن الترمذي 3 : 582 ، ح 1285 ، وسنن أبي داود 3 : 284 ، ح 3508.
2- سنن النسائي 7 : 182 - 183 ، ح 4247.
3- المائدة (5) : 38 : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا ... ) .
4- المجادلة (58) : 3 : ( وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ ... ) .
5- النور (24) : 6 - 9 : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ ... ) .
6- الرعد (13) : 21.
7- الكافي 2 : 156 ، باب صلة الرحم ، ح 28.
8- راجع الإحكام في أصول الأحكام 2 : 257 و 258.

والجواب عن الأوّل : منع الملازمة ؛ إذ طابق وزاد ، والزيادة غير مخرجة عن المطابقة.

وعن الثاني : أنّ معرفة الأسباب من الفوائد.

وعن الثالث : منع الملازمة ؛ للقطع بدخول السبب ، ولا استبعاد في اختصاص شيء خاصّ من بين ما يتناوله العموم بالمنع من إخراجه بدلالة ، فيصير كالنصّ فيه والظاهر في غيره ، فيمكن إخراج غيره دونه.

وعن الرابع : منع فوات الظهور بالنصوصيّة ، بل هو باق على ظاهره ، والنصّ قد علم بقرينة خارجيّة ، وهي وروده فيه.

وعن الخامس : أنّه خرج من عموم الدليل لعرف خاصّ ، والتخلّف لمانع غير قادح.

وقد ظهر كيفيّة التفريع من الأمثلة.

وممّا فرّع عليه أنّه هل يختصّ العرايا بالفقراء ؛ لأنّ اللفظ الوارد في جوازه عامّ ، وإن (1) ورد في سبب خاصّ وهو الحاجة إلى شرائه وليس عندهم ما يشترون به إلاّ التمر (2)؟ وعلى ما اخترناه لا تختصّ. على أنّ السبب هنا مشكوك فيه.

وقد ظهر ممّا ذكر أنّ السبب لو كان عامّا والجواب خاصّا ، كان العبرة بخصوص لفظ الجواب لا بعموم السبب.

وكيفيّة التفريع : أنّه إذا حلف أن لا يشرب ماءه من عطش ؛ فإنّه لا يحنث بالأكل والشرب من غير عطش وإن كان السبب - وهو المخاصمة بينهما - يقتضي العموم.

والحقّ أنّه يحنث ؛ لما تقدّم من أنّه من المجازات الراجحة (3) و (4) إن اقتضت هذه القاعدة الحنث.

ص: 757


1- الظاهر زيادة قوله : « وإن » وإلاّ ليس بين العلّة والمعلّل تناسب. والمراد أنّ عموم الجواب محكوم بخصوصيّة السبب ، فالمراد من العرايا في الرواية ما هو المختصّ بالفقراء ، فجواز بيع الثمر في رءوس النخل بالتمر يختصّ بالفقراء ولا يجوز للأغنياء ، لأنّه يستلزم الربا. والمراد بالتمر الثمن التمر في المستقبل.
2- في « ب » : « التحسّر ».
3- تقدّم في ص 756.
4- الظاهر زيادة « الواو ». وفي « أ » كأنّه مشطوب.
فصل [28]

اختلفوا في جواز العمل بالعموم قبل البحث عن طلب (1) المخصّص ، فقيل : يجوز (2).

وقيل : لا يجوز (3).

ويشترط حصول الظنّ بعدمه بالفحص عنه ، لا بأصالة عدمه.

وقيل : بل يشترط حصول القطع بعدمه (4). وخير الأقوال أوسطها.

لنا على اشتراط الظنّ أنّ الاجتهاد بذل الجهد واستفراغ الوسع ، فيجب على المجتهد البحث عن الأدلّة وكيفيّة دلالتها ؛ والنظر في وجوه التراجيح والتخصّص كيفيّة في الدلالة.

وأيضا شيوع المثل المشهور (5) لو لم يوجب الظنّ بوجوده ، فلا ريب في إيجابه الشكّ في وجوده ، فلو عمل به قبل الفحص ، لزم العمل بالشكّ ، مع أنّ توقّف حصول امتثال أمر الشارع على القطع أو الظنّ بمراده في غاية الظهور.

وعلى هذا لا يحصل الظنّ بشيء من أفراد العامّ قبل الفحص أنّه المراد ، أو داخل فيه بطريق التعيين ؛ لأنّه مع احتمال المخصّص يمكن في كلّ فرد أن يكون هو المخرج من غير ترجيح لفرد على الآخر ، فحصل الإجمال ، وينسدّ طريق الاستدلال به.

فإن قيل : يلزم على ما ذكرت أن يكون نسبة صيغ العموم إلى العموم والخصوص متساوية ، فلا معنى لتبادر العموم منها.

قلت : التبادر إنّما هو بالنسبة إلى نفس الصيغة مع قطع النظر عن الامور الخارجة كالمثل (6) ، كما هو الشأن في حقائق المجازات الراجحة.

فإن قيل : إذا كانت الصيغة حقيقة في العموم ، والتخصيص (7) خلاف الأصل ، فيجب العمل

ص: 758


1- هذه الكلمة مستغنى عنها.
2- قاله العلاّمة في تهذيب الوصول : 138 ، وحكاه الأسنوي عن الصيرفي في نهاية السؤل 2 : 403.
3- قاله الغزالي في المستصفى : 256.
4- حكاه الغزالي عن القاضي الباقلاني في المستصفى : 256 ، والأسنوي في نهاية السؤل 2 : 404.
5- والمراد به قولهم : « ما من عامّ إلاّ وقد خصّ ».
6- تقدّم آنفا.
7- في « أ » : « التخصّص ».

بالعموم من غير توقّف على شيء آخر ، كما هو الشأن في سائر الحقائق.

قلت : هذا أيضا بالنظر إلى نفس الصيغة مع قطع النظر عمّا يدلّ على وجوب البحث عن المخصّص والمعارض.

كيف؟ ولو لم يلزم استقصاء البحث عن الأدلّة وكيفيّة دلالتها ، والفحص عن المعارض والمخصّص ، بل جاز العمل بما يظفر به من دليل عامّ أو خاصّ من غير توقّف على سعي آخر ، لزم بطلان الاجتهاد ، أو كون كلّ واحد مجتهدا.

وبهذا يظهر عدم كفاية الظنّ الحاصل من أصالة عدم المخصّص.

ولنا على عدم اشتراط القطع : أنّه ممّا لا سبيل إليه غالبا ؛ إذ غاية الأمر عدم الوجدان ، وهو لا يدلّ على عدم الوجود في الواقع ، فلو اشترط ، لزم إبطال العمل بجلّ العمومات.

احتجّ القائل بعدم اشتراط الفحص مطلقا بوجوه (1) :

منها : احتجاج السلف بالعمومات شائعا ذائعا من دون ضمّ نفي المخصّص ، وقبول الخصم منه من دون أن يقول : لا علم لي ببحثك عن المخصّص.

ويؤكّده عمل أصحاب الأئمّة ومن قاربهم بأخبار بعض الاصول الأربعمائة ؛ لعدم تمكّن أحد منهم بجمع الكلّ ، والأئمّة عليهم السلام كانوا عالمين بذلك وقرّروهم عليه ، فلو كان الفحص لازما ، لأمروهم بتحصيل جميعها ، ونهوهم عن العمل ببعضها ؛ إذ جلّ أحكامها من العمومات والمطلقات.

والجواب : منع الاحتجاج المذكور ، بل وقوع تسليم كلّ احتجاج العامّ على فرد من أفراده إنّما كان بعد حصول ظنّ الخصم بعدم المخصّص ، كيف؟ ولو ثبت الاحتجاج المذكور ، لثبت الإجماع على عدم لزوم الفحص عن المخصّص ، مع أنّ لزوم فحصه ممّا ذهب إليه المعظم ونقل عليه الإجماع (2).

وعمل أصحاب الأئمّة بأخبار بعض الاصول إنّما كان بعد علمهم ، أو ظنّهم بتعيّن العمل به ، فإنّهم كانوا متمكّنين من استنباط ذلك ، أو بعد فحصهم عمّا تمكّنوا من فحصه ، فإنّ

ص: 759


1- أي العلاّمة في تهذيب الوصول : 138.
2- ادّعاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 144.

القائل بالفحص لا يشترط أزيد من فحص ممكن بسهولة ، ولم يكن أحد من أصحاب الأئمّة متمكّنا من جمع جميع الاصول.

ومنها : أنّه لو وجب في التمسّك بالعامّ طلب المخصّص ، لوجب في التمسّك بالحقيقة طلب المجاز ؛ لأنّ إيجاب الطلب للتحرّز عن الخطأ ، وهو مشترك بينهما ، واللازم منتف وفاقا.

والجواب : الفرق بين العامّ والحقيقة بأنّ أكثر العمومات مخصوصة ، فيصير إرادة العموم مرجوحة ، أو مشكوكة ، فيجب الفحص ، بخلاف المجاز.

وما قيل من أنّ أكثر اللغة مجازات (1) يكذبه التتبّع. على أنّا نقول في الحقائق المحتملة لإرادة المعاني المجازيّة منها بالاحتمال الراجح ، أو المساوي : إذا وردت في الأحكام الشرعيّة ، يجب البحث عن المعاني المجازيّة لتحقّق البحث عن كيفيّة دلالة الأدلّة.

ومنها : آية التثبّت (2) ؛ حيث نفت بالمفهوم التثبّت عن مجيء العدل ، والبحث عن المخصّص تثبّت وأيّ تثبّت.

والجواب : أنّ اللازم من منطوق الآية - كما يدلّ سوقها - وجوب التثبّت في خبر الفاسق ؛ لاحتمال كذبه ، فاللازم من مفهومها عدم وجوبه في خبر العدل من هذه الجهة ، ولولاه لزم عدم لزوم التثبّت في الخبر المجمل إذا جاء به العدل ، وهو باطل وفاقا.

اعلم أنّ هذه الدلائل لو تمّ دلالتها على عدم وجوب الفحص عن المخصّص ، لدلّت على عدم لزوم الفحص عن المعارض أيضا ، ويخرج (3) منه أصل فاسد وهو جواز العمل بكلّ ما وصل إلينا من دون الافتقار إلى جمع الأدلّة ونضدها (4) والنظر في وجوه التراجيح والعمل بالأرجح ، بل يلزم منها جواز العمل بأيّ خبر رأيناه في باب من أبواب أحد الكتب المعتبرة من دون احتياج إلى الأبواب الأخر والكتب الأخر وملاحظة أقوال العلماء ، فيبطل

ص: 760


1- قاله الشيخ حسن في معالم الدين : 124.
2- هو آية ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ... ) ، الحجرات 2. : 49.
3- في « ب » : « ويتخرّج ».
4- في « أ » : « بضدّها ». وفي « ب » : « يفيدها ». والصحيح ما أثبتناه.

الاجتهاد ، ويختلّ أمر الفقاهة. وليت شعري من قال بصحّة الاجتهاد كيف يقول بهذا؟! وأنّى يجمع بين ذاك وذا هذا.

وحجّة من اشترط القطع واهية ركيكة جدّا ، فلا فائدة في إيرادها ودفعها.

واعلم أنّه على ما اخترناه - من اشتراط الظنّ دون القطع في فحص المخصّص والمعارض - لا بدّ لمن أراد أن يستنبط مسألة أن ينظر فيما يتعلّق بها من الآيات والأدلّة الاصوليّة المدوّنة في بعض الكتب الاصوليّة للإماميّة ، ولا افتقار إلى ملاحظة جميعها وتلاحظ الأخبار المتعلّقة بها ، المضبوطة في الكتب الأربعة ؛ ولا يشترط ملاحظة غيرها ك- العيون والعلل والخصال والأمالي وأمثالها ؛ لعدم تفرّدها غالبا بما يصلح أن يكون مؤسّسا لحكم ، بل لا يبعد أن يقال بكفاية ملاحظة الكافي والتهذيب ، بل ملاحظة التهذيب فقط ؛ لندرة مخصّص أو معارض وجد في الكافي دون التهذيب ، فيحصل الظنّ من ملاحظته فقط أيضا. ويلزم في فحص مخصّص ، أو معارض متعلّق بمسألة الطهارة - مثلا - ملاحظة كلّ واحد من أبوابها وأبواب الكتب المناسبة لها ، ككتاب الصلاة والصوم والحجّ وغيرها من كتب العبادات ، وقس على الطهارة غيرها.

فصل [29]

« المخصّص » إمّا متّصل ، أو منفصل.

والأوّل خمسة : الاستثناء المتّصل ، والشرط ، والصفة ، والغاية ، وبدل البعض.

ثمّ منها : ما يخرج المذكور ، كالاستثناء والغاية.

ومنها : ما يخرج غير المذكور ، كالشرط والصفة والبدل. هذا.

وغير خفيّ أنّه يحصل التخصيص بالحال أيضا ؛ لأنّه وصف من جهة المعنى ، بل يحصل بأشياء أخر من المقيّدات ، كالتمييز وظرفي الزمان (1) ، كما يأتي (2).

والثاني سبعة : العقل ، والحسّ ، والعرف الاستعمالي ، والعرف الشرعي ، والنيّة ،

ص: 761


1- كذا في النسختين. ولعلّ المراد بهما الظرف المتصرّف وغير المتصرّف ، أو سقوط كلمة « المكان ».
2- في ص 855.

وفعله صلى اللّه عليه وآله ، وتقريره ، والإجماع ، والدليل السمعي من الآيات والأخبار.

وها هي نذكرها بأقسامها ، وشروطها ، وأحكامها ، وما يتعلّق بها في فصول.

فصل [30]

المستثنى إن كان من جنس المستثنى منه فالاستثناء متّصل ، وإلاّ فمنقطع. والثاني لا مدخل له في التخصيص وفاقا ؛ لأنّ قوله (1) : « جاءني القوم إلاّ حمارا » لا يخرج بعض المسمّى.

ولا بدّ في صحّة المنقطع من مخالفة المستثنى للمستثنى منه ، والمخالفة إمّا في نفس الحكم ، كالمثال المذكور ، أو في أنّ المستثنى نفسه حكم آخر مخالف للمستثنى منه بوجه ، مثل : « ما زاد إلاّ ما نقص » ، و « ما نفع إلاّ ما ضرّ » ، فإنّ « النقصان » و « الضرّ » حكمان مخالفان للزيادة والنفع.

وبالجملة ، فإنّه يقدّر ب- « لكن » ، فكما يجب فيه مخالفة - إمّا تحقيقا ، مثل : « ما جاءني زيد لكن جاءني عمرو » أو تقديرا ، مثل : « ما جاءني لكن أهانني » - فكذا هاهنا ، ولذا لا يصحّ أن يقال : « ما جاءني زيد إلاّ أنّ حدوث العالم حقّ ».

فصل [31]

الحقّ أنّ لفظ « الاستثناء » حقيقة في المتّصل ، مجاز في المنقطع ، وليس مشتركا لفظيّا ولا معنويّا بينهما ؛ لأنّ المجاز خير من الاشتراك ؛ ولأنّ المتّصل أظهر وأعرف وهو المتبادر من الاستثناء عند إطلاقه.

وكذا الحقّ أنّ صيغته أيضا حقيقة في المتّصل ، مجاز في المنفصل ؛ لتبادر الأوّل منها دون الثاني ، ولذا لم يحملها العلماء على المنقطع إلاّ عند تعذّر المتّصل ، حتّى قالوا في قول القائل : « له عندي مائة درهم إلاّ ثوبا » و « له عليّ إبل إلاّ شاة » : معناه إلاّ قيمة ثوب ، أو قيمة شاة ، فعدلوا للحمل على المتّصل عن الظاهر ، وارتكبوا الإضمار المخالف له (2).

ص: 762


1- في « ب » : « قولك ».
2- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : 121.

احتجّ الخصم بورود الاستثناء من غير الجنس في القرآن ، كقوله : ( إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (1) ، و ( إِلاَّ إِبْلِيسَ ) (2) ، و ( إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِ ) (3) ، و ( إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً ) (4) ، و ( إِلاَّ خَطَأً ) (5) ، وغير ذلك ، والأصل في الاستعمال الحقيقة (6).

والجواب - كما عرفت مرارا - : أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، وورود المجاز في القرآن غير عزيز.

فصل [32]

الاستثناء إن كان متواطئا في المتّصل والمنفصل - أي كان مشتركا معنويّا بينهما - أمكن أن يحدّ المتّصل والمنفصل بحدّ واحد باعتبار المعنى المشترك بينهما ، وهو مجرّد المخالفة الأعمّ من الإخراج وعدمه ، فيقال : هو ما دلّ على مخالفة بحرف وضعت له غير الصفة.

وإن كان مشتركا بينهما ، أو حقيقة في المتّصل ، مجازا في المنقطع ، فلا يمكن تحديدهما بحدّ واحد ؛ لتغاير حقيقتهما حينئذ ، بل يحدّ المنقطع حينئذ بأنّه : ما دلّ على مخالفة بحرف وضعت له من غير إخراج.

وحاصله ما لم يدخل المستثنى فيه في المستثنى منه. وتفسيره بكونه من غير جنس المستثنى منه ، فاسد ، كما نبّه عليه جماعة من النحاة ؛ لأنّ قول القائل : « جاء بنوك إلاّ بني زيد » منقطع مع أنّه من جنس الأوّل (7). فكلّ ما كان من غير جنس المستثنى منه منقطع ، ولا عكس كلّيا.

ويحدّ المتّصل بأنّه الإخراج بحرف وضعت له غير الصفة. ويخرج بقولنا : « حرف

ص: 763


1- النساء (4) : 29.
2- البقرة (2) : 34.
3- النساء (4) : 157.
4- الواقعة (56) : 26.
5- النساء (4) : 92.
6- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : 121.
7- نقله عنهم الأسنوي في التمهيد : 392 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 197 ، القاعدة 67 ، واعلم أنّ عدّ بني زيد من جنس بنوك نشأ من سوء تفسير الجنس. والحقّ أنّ عدم دخول بني زيد في « بنوك » كعدم دخول الحمار في القوم.

وضعت له » ما عدا الألفاظ المشهورة ممّا يدلّ على الإخراج ، مثل : الغاية و « لا » (1) في نحو : « جاء القوم لا زيد » ؛ لأنّ وضعه ليس للإخراج وإن فهم الإخراج منه في بعض التراكيب.

وما قيل - من أنّه (2) الإخراج ب- « إلاّ » وأخواتها ، أو ب- « ما كان » نحو : « إلاّ » (3) - يرد عليهما مثل الغاية ، و « جاء القوم لا زيد » إن اريد بأخواتها ونحوها ما يدلّ على الإخراج ، وإن اريد بهما ما وضع للإخراج ، أو الألفاظ المشهورة ، فيؤول إلى ما ذكرناه.

فعلى الحدّ الذي ذكرناه إذا قال : « هذه الدار لزيد ، وهذا البيت منها لي » أو « هذا الخاتم له ، وفصّه لي » أو « له عليّ ألف أحطّ منها مائة » لم يقبل ؛ لأنّه ليس استثناء وإن كان إخراجا لبعض ما يتناوله اللفظ.

ويمكن أن يقال بالقبول وإن لم يقل بكونه استثناء ؛ لأنّه كلام واحد يتمّ أوّله بآخره ، وليس فيه إنكار لما أقرّ به ؛ لأنّ المقرّ [ به ] هو ما عدا البيت.

وعلى الحدّين الآخرين يقبل ؛ لأنّه استثناء ، نظرا إلى أنّه الإخراج بما يدلّ عليه ، إلاّ أن يراد بأخواتها ونحوها : الألفاظ المشهورة ، فلا يكون استثناء.

ويخرج بقولنا : « غير الصفة » ما يكون فيه الحرف الموضوع للإخراج للصفة ، مثل قوله : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا ) (4) ، وضابطه أن يكون تابعا لجمع منكور غير محصور ، وبعضهم لا يشترط ذلك فيه (5).

ويظهر الفائدة في قول القائل : « له عليّ ألف إلاّ مائة » يرفع المائة ، فعلى الأوّل يكون إقرارا بتسعمائة ، وعلى الثاني يكون إقرارا بالألف. هذا.

وقد حدّ الاستثناء المتّصل بحدود أخر (6) كلّها مزيّفة منقوضة ، ولم نر جدوى في إيرادها ودفعها.

ص: 764


1- عطف على فاعل « يخرج ».
2- أي أنّ الاستثناء المتّصل.
3- قاله الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 192 ، القاعدة 63.
4- الأنبياء (21) : 22.
5- وهو سيبويه كما في مغني اللبيب 1 : 70 - 71.
6- راجع المصدر.
فصل [33]

الحقّ - كما اشير إليه (1) - أنّ المراد (2) بالعشرة في : « له عشرة إلاّ ثلاثة » معناها ، ثمّ اخرجت منها ثلاثة ، واسند الحكم إلى الباقي بعد الإخراج ، فالاستثناء على هذا يحتمل أن يقال : إنّه تخصيص ؛ نظرا إلى الحكم ؛ لأنّه للعامّ في الظاهر ، والمراد الخصوص. وحينئذ (3) يمكن أن يقال : إنّه إخراج بعد الحكم ؛ نظرا إلى الحكم المسند في الظاهر إلى العامّ. ويمكن أن يقال : إنّه إخراج قبل الحكم ؛ نظرا إلى الحكم المسند إلى الباقي.

ويحتمل أن يقال : إنّه ليس بتخصيص ؛ نظرا إلى لفظ العشرة ؛ إذ لم يرد به إلاّ العموم كما كان عند الانفراد.

وقال الأكثر : المراد من العشرة السبعة و « إلاّ » قرينة التجوّز.

وقال القاضي : المجموع - وهو عشرة إلاّ ثلاثة - بإزاء سبعة (4) ، كأنّه وضع لها اسمان : مفرد ومركّب ، و [ الاستثناء ] (5) على هذا تخصيص ؛ لأنّه قصر للعامّ على بعض مسمّياته ، وإخراج بعد الحكم.

والحقّ أنّ قوله راجع إلى المذهب المختار ، ومن لم يحصّل مراده جعل الاختلاف هنا على ثلاثة أقوال ، مع أنّه لا يزيد على قولين.

بيان ذلك : أنّ لفظ « العشرة » حقيقة في العشرة من الأفراد - سواء كان مطلقا أو مقيّدا ب- « إلاّ ثلاثة » - لا في سبعة أفراد ؛ إذ لا شيء من السبعة عشرة ؛ لأنّ الأعداد أنواع متباينة لا يصدق بعضها على بعض سواء وردت مطلقة أو مقيّدة ؛ لعدم تغاير مفهوماتها

ص: 765


1- تقدّم في ص 747.
2- والمراد به هو المراد الاستعمالي أي ما استعمل فيه لفظ العشرة معناه اللغوي وأمّا الأكثر فهم يقولون باستعمال لفظ العشرة في السبعة مجازا.
3- أي حين كون « إلاّ » للتخصيص.
4- حكاه عنه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 122 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 194 ، القاعدة 64 ، والأسنوي في التمهيد : 388.
5- أضفناه للضرورة.

في الحالتين ، فيثبت الثلاثة (1) في ضمن العشرة.

ثمّ لا ريب أنّ السبعة مرادة (2) في هذا التركيب ، فينفى الثلاثة فيه (3) ، ففيه إثبات الثلاثة في ضمن العشرة ، ونفي لها صريحا ، وهو التناقض (4). ولدفعه ذهب الأكثر إلى أنّ المعنى الحقيقيّ لهذا التركيب هو العشرة الموصوفة بإخراج الثلاثة منها ، فيكون مجازا في السبعة من باب التخصيص.

وقال القاضي : إنّه (5) الباقي من العشرة بعد إخراج الثلاثة ، فيكون حقيقة في السبعة (6) ، لا على أنّ هذا التركيب وضع لها وضعا واحدا - بمعنى أن يكون كلمة موضوعة بإزائها - بل بمعنى أنّ مفرداتها مستعملة في معانيها الحقيقيّة ، ومحصّل المجموع معنى مركّب لازم للسبعة ، فيصدق عليها ولا يتبادر منه إلى الفهم غيرها ؛ لأنّ الشيء قد يعبّر عنه باسمه الخاصّ ، وقد يعبّر عنه بمركّب يدلّ على بعض لوازمه ، كما يعبّر عن الخفّاش بالطائر الولود ، وعن عدد خاصّ بنقصان بعض الأعداد عن بعض ، أو ضمّ بعضها إلى بعض (7) ، كما يقال : بنت سبع وأربع وثلاث ، والمراد بنت أربع عشرة.

وإذا حمل مذهب القاضي على ذلك ، كان عين المذهب المختار ؛ لأنّ المراد منه - كما اشير إليه (8) - أنّ « العشرة » في التركيب حقيقة في كمال معناها ، ووقع الإسناد إلى السبعة بعد الإخراج.

وحاصله أنّ كلّ واحد من مفرداته مستعمل في معناه ، والمركّب حقيقة في المعنى الذي وقع فيه الإسناد إليه ، أي السبعة. ومذهب القاضي - على ما قرّرناه - ليس إلاّ هذا ؛

ص: 766


1- والمراد به الثلاثة المخرجة.
2- أي بالإرادة الجدّيّة.
3- أي في هذا التركيب.
4- والحقّ هو عدم التناقض ، لأنّ الثلاثة داخلة من حيث الإرادة الاستعماليّة وخارجة من حيث الإرادة الجدّيّة ، وبتعدّد الحيثيّة يرتفع التناقض ، فلا احتجاج لدفعه إلى ما قاله الأكثر.
5- أي المعنى الحقيقي لهذا التركيب.
6- تقدّم آنفا.
7- مثل التعبير عن العشرة تارة بإخراج الخمسة من الخمسة عشر ( 15 - 5 = 10 ) واخرى بإضافة خمسة إلى خمسة ( 5+ 5 = 10 ).
8- آنفا في أوّل الفصل.

فإنّ المطلوب من كلّ منهما أنّ المركّب حقيقة في السبعة ، ومفرداته مستعملة في معانيها الحقيقيّة.

وأمّا مذهب الأكثر ، فلا يرجع إلى المذهب المختار كما توهّم ؛ لأنّه على المشهور استعمل العشرة المقيّدة بإخراج الثلاثة - على أن يكون القيد خارجا - في السبعة ، فالعشرة مستعملة في السبعة وليست مستعملة في معناها. وعلى المختار يكون العشرة مستعملة حقيقة في معناها.

وإذا رجع قول القاضي إلى ما اخترناه وصارت المسألة ذات قولين ، فمن إبطال قول الأكثر يثبت ما اخترناه ؛ لعدم محمل صحيح آخر ، ولذا لو لم يحمل قول القاضي عليه (1) لم يكن له معنى محصّل.

ويدلّ على بطلان قول الأكثر وجوه :

منها : أنّه لا يمكن تصوّر العشرة المقيّدة بإخراج الثلاثة منها ، على أن يكون القيد خارجا عنها ؛ لأنّ تقييدها بإخراج الثلاثة منها كتقييد الأربعة بكونها ليست بزوج ، وتصوّر ذات الشيء مع عدم ما يلزم ذاته لذاته يقتضي قلب حقيقته وكونه غير ذاته ، وإذا لم يبيّن كونها حقيقة العشرة (2) ، فلا يمكن أن تكون مجازا في السبعة ؛ لأنّ تحقّق المعنى الحقيقي وتصوّره لازم في تحقّق التجوّز وإن لم يلزم استعمال اللفظ فيه.

ولو جعل العشرة مع القيد دالّة على السبعة ، لرجع إلى المذهب المختار ، ولا معنى حينئذ لكونها مجازا في السبعة ، بل تكون حقيقة فيها.

ومنها : أنّه لو اريد من الجارية في قولنا : « اشتريت الجارية إلاّ نصفها » نصفها ، لزم الاستغراق إن كان ضمير « إلاّ نصفها » للجارية بكمالها ، وهو ظاهر. والتسلسل (3) إن كان للجارية المراد بها النصف ؛ لأنّ المراد بالنصف المستثنى منه هو الربع ؛ لأنّه الباقي من الباقي من النصف بعد إخراج نصفه عنه ، ثمّ يلزم أن يكون المراد به الثمن ؛ لأنّه الباقي

ص: 767


1- أي على المختار.
2- أي في العشرة. والمراد أنّ كلمة العشرة إذا لم تستعمل في هذه المرتبة حقيقة.
3- عطف على الاستغراق.

من الربع بعد إخراج نصفه عنه ، وهلمّ جرّا.

ومنها : أنّا نقطع بالتبادر أنّ الضمير عائد إلى الجارية بكمالها ؛ إذ المراد نصف كمالها قطعا.

ومنها : أنّ أهل العربيّة أجمعت على أنّ الاستثناء المتّصل إخراج بعض من كلّ (1) ، ولو اريد من الجارية نصفها لم يكن ثمّة كلّ وبعض وإخراج.

ومنها : أنّه يبطل النصوص كلّها ؛ إذ ما من لفظ له أجزاء أو جزئيّات إلاّ ويمكن الاستثناء لبعض مدلوله ، فيكون المراد هو الباقي ، فلا يبقى نصّا في الكلّ ، مع أنّا نقطع بأنّ بعض الألفاظ نصّ في مدلوله. هذا.

وقد أجاب الأكثر عن هذه الوجوه بأنّ المراد بالمستثنى منه هو المجموع من حيث الظاهر وبالنظر إلى إفراد اللفظ ، والباقي من حيث الحكم وبالنظر إلى التركيب ، فلا يلزم شيء منها.

وغير خفيّ أنّ هذا رجوع إلى المذهب المختار.

وقد اعترض بعض (2) من وافقنا على مذهب القاضي بوجوه ؛ لعدم تحصيل مرامه ، وبعد حمله على المذهب المختار لا مدخليّة لشيء منها في إبطاله ، بل ربما أيّدت صحّته. هذا.

واحتجّ الأكثر - لإبطال ما اخترناه ليثبت ما اختاروه - بأنّ « العشرة » في هذا التركيب ليست مهملة ، فلا بدّ أن يراد منها كمالها أو سبعة. والأوّل باطل ؛ لأنّا نقطع أنّه لم يقع الإقرار إلاّ بسبعة ، فتعيّن الثاني ، وهو المطلوب.

وبأنّه لو اريد منها كمالها ، لزم كذب ما هو صدق قطعا ، كقوله تعالى : ( فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً ) (3) ؛ لما يلزم من إثبات لبث الخمسين ونفيه ، وهو تناقض.

وجوابهما - كما عرفت (4) - : أنّ الحكم بالإقرار واللبث إنّما هو بعد الإخراج ، ولذا نحكم بهما على الباقي لا لأنّه المراد من العشرة والألف.

ص: 768


1- حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 122.
2- المعترض هو ابن الحاجب في منتهى الوصول : 123.
3- العنكبوت (29) : 14.
4- في ص 749.

إذا عرفت ذلك ، ففائدة الخلاف تظهر في التعارض ؛ لأنّا إذا قلنا : إنّ الاستثناء قبل الحكم ، فلا يقع بين المستثنى منه والاستثناء تعارض ؛ لأنّ الثاني يدلّ على إخراج المستثنى من المستثنى منه ، والأوّل لا يدلّ على إدخاله فيه.

وإن قلنا : إنّه بعده ، يقع بينهما التعارض ؛ لأنّ الأوّل حينئذ يدلّ على إدخاله فيه ، فإذا عارض الاستثناء أو المستثنى منه دليل آخر قدّمناهما ؛ لأنّ كثرة الأدلّة من المرجّحات.

فصل [34]

اشتراط الاتّصال العادي في الاستثناء ممّا لا ينبغي الريب فيه ، وإلاّ لم يستقرّ شيء من الإيقاعات والأقارير ، ولم يتحقّق الحنث في الأيمان والنذور ، ولم يعلم صدق ولا كذب ؛ لجواز أن يرد عليها استثناء بعد مدّة فيغيّر حكمها.

وما روي عن ابن عبّاس - أنّه يصحّ الاستثناء وإن طال الزمان شهرا (1) - لم يثبت عندنا ، ولو ثبت وكان قوله حجّة يحمل على أنّه أراد إظهار ما نوى أوّلا في الأيمان.

وما روي من قضيّة سؤال اليهود عن مدّة لبث أصحاب الكهف (2) لو سلّم فيها ثبوت الجزء الذي احتجّ به الخصم ، فلا دلالة له على مطلوبه.

وما روي أنّه عليه السلام قال : « واللّه لأغزونّ قريشا » ، ثمّ سكت ، ثمّ قال : « إن شاء اللّه » (3) لو ثبت ، فيحمل على السكوت الذي لا يخرج عن الاتّصال عادة من تنفّس أو سعال ، جمعا بين الأدلّة.

ويعلم ممّا ذكر فساد ما قيل : إنّه لا يشترط الاتّصال لفظا ، بل يجوز الاتّصال بالنيّة مطلقا (4) ، وإن لم يتلفّظ به أصلا ، وما قيل : إنّه يجوز الانفصال في القرآن خاصّة (5) ؛ لما روي أنّه نزل قوله تعالى : ( غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ) بعد قوله تعالى : ( لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ ... ) (6) ، بزمان (7).

ص: 769


1- فتح الباري 11 : 603.
2- فتح الباري 11 : 603.
3- فتح الباري 11 : 603.
4- نسبه ابن حجر إلى مالك في المصدر : 602.
5- نسبه الآمدي إلى بعض الفقهاء في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 310.
6- النساء (4) : 95.
7- مجمع البيان 3 : 166.

والسرّ فيه أنّ القرآن نزل منجّما بحسب المصالح ، فيجوز أن يكون الاستثناء غير مصلحة في زمان مصلحة في زمان آخر ، فيقع فيه التأخير إليه ؛ لأنّ (1) الأدلّة المذكورة تدفعهما ، والرواية لم تثبت ، وتغيّر المصلحة بحسب الزمان مشترك بين القرآن وغيره.

ويتفرّع عليه فروع كثيرة :

ومنها : ما لو قال : « له عليّ ألف - أستغفر اللّه أو يا فلان - إلاّ مائة ». ولا يخفى عليك جليّة الحال على ما ذكرناه.

وفي حكمه لو وقع مثل هذا الفصل بين الشرط والمشروط ، كقوله : « أنت عليّ كظهر امّي - أستغفر اللّه - إن دخلت الدار ».

فصل [35]

الاستثناء المستغرق - سواء كان مثل المستثنى منه أو أكثر - لغو وفاقا.

والحقّ جواز الأكثر من الباقي حتّى يبقى أقلّ من النصف ، فضلا عن مساويه حتّى يبقى النصف ، وفاقا للأكثر.

وقيل : بمنعهما مطلقا (2).

وقيل : بمنعهما في العدد خاصّة (3) ، فلا يجوز : « عشرة إلاّ ستّة أو خمسة » ويجوز : « أكرم القوم إلاّ الجهّال » وهم ألف والعالم فيهم واحد.

لنا : قوله تعالى : ( إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) (4) ، استثنى الغاوين وهم أكثر من غيرهم ؛ لقوله : ( وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (5) ، وكلّ من ليس بمؤمن غاو ، على أنّ بعض المؤمنين بل أكثرهم غاوون ؛ لأنّ الغاوي من يتّبع إبليس ولو في بعض الأفعال ، فيصير الغاوون أكثر بكثير من غيرهم ، وإذا ثبت جواز الأكثر ، يثبت جواز المساوي بطريق أولى.

ص: 770


1- تعليل لقوله : « يعلم ممّا ذكر فساد ما قيل ».
2- حكاه الفخر الرازي في المحصول 3 : 37 ، والآمدي عن القاضي أبي بكر والحنابلة في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 318.
3- نسبه ابن الحاجب إلى ابن درستويه والقاضي في أحد قوليه في منتهى الوصول : 125.
4- الحجر (15) : 42.
5- يوسف (12) : 103.

والحديث (1) القدسي : « كلّكم جائع إلاّ من أطعمته » (2) ، استثنى المطعمين ، وهم أكثر من غيرهم ، وإجماع فقهاء الأمصار على ثبوت الواحد إذا قال : « له عليّ عشرة إلاّ تسعة » (3).

فإن قيل : لا يلزم من عدم صحّة تلك العبارة لغة عدم كونه ظاهر الدلالة على استثناء التسعة ، كما لا يلزم من عدم صحّة قولنا : « جاءني أحمد » (4) عدم دلالته على مجيء أحمد.

قلت : ظهور الدلالة مع عدم الصحّة لغة وعرفا ، لا يصير سببا لثبوت المدلول والأخذ به ، بل السبب له هو الموافقة للّغة أو العرف ، ولذا لو قال : « له عليّ عشرة إلاّ عشرة » يلزم عليه العشرة ويلغو الاستثناء ، وما هو إلاّ لعدم الصحّة لغة لثبوت ظهور الدلالة ، ولو لم يكن ذلك الاستثناء أيضا صحيحا لصار قليل - لا أقلّ - إلى لزوم العشرة.

احتجّ الخصم بأنّ مطلق الاستثناء على خلاف الأصل ؛ لأنّه إنكار بعد إقرار ، فيقتصر فيه على الأقلّ ؛ لأنّه قد ينسى. وبأنّه يستقبح أن يقال : « له عليّ عشرة إلاّ تسعة وثلثين وربعا » وما هو إلاّ لأنّه استثناء الأكثر (5).

والجواب عن الأوّل : أنّ الكلام جملة واحدة ، فلا إنكار بعد إقرار.

وعن الثاني : أنّ استقباحه لا يوجب عدم صحّته ، كاستقباح : « له عليّ واحد وواحد » إلى عشرة أو : « له عليّ عشرة إلاّ دانقا ودانقا » إلى عشرين دانقا والمجموع ثلث العشرة ؛ فإنّهما يستقبحان ؛ للتطويل ، مع صحّتهما وفاقا.

وفروع هذه القاعدة كثيرة في أبواب الأقارير والوصايا.

وممّا يتفرّع عليها من غيرهما (6) أنّه لو قال : « كلّ امرأة لي طالق إلاّ هندا - أو - إلاّ أنت » ولم يكن له امرأة غيرها ، يقع عليها الطلاق بمقتضاها (7).

ص: 771


1- هذا وما يأتي عطف على المبتدأ وهو قوله : « قوله تعالى ».
2- السنن الكبرى 6 : 93 ، وصحيح مسلم 4 : 1994 ، ح 55 / 2577.
3- تقدّم في ص 749 ، وحكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 125.
4- وجه عدم الصحّة هو صرف غير المنصرف ، أو المراد هو فرض عدم الصحّة.
5- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 125.
6- أي غير الأقارير والوصايا.
7- أي بمقتضى القاعدة. وفي « أ » : « بمقتضاهما ».
فصل [36]

كلّ واحد من أدوات الاستثناء كما يصلح له يصلح لأن يقع صفة ، فالامتياز يتوقّف على الإعراب ، ومع الإبهام وعدم ظهور الإعراب ، أو صدورها عن غير العارف يحمل على الاستثناء ؛ لأنّه المتبادر منها ، اللّهمّ إلاّ في بعضها مثل : « غير » فإنّ أصله الصفة كما يأتي (1).

ويتفرّع على هذه الضابطة مسائل كثيرة ، مثلا لو قال : « له عشرة سوى درهم » أو « حاشا » أو « ليس » أو « خلا » أو « ما خلا » أو « عدا » أو « ما عدا » أو « لا يكون » ، أو « غير درهم » بالنصب ، لزمه تسعة. ولو رفعه وكان عارفا لزمه عشرة ؛ لأنّه وصف حينئذ ، ولو لم يكن عارفا ، لزمه تسعة ، إلاّ أن يقال : المتبادر من « غير » كونه صفة.

ولو قال : « كلّ امرأة لي غيرك طالق » أو « طالق غيرك » بنصب الغير ، ولم يكن له امرأة غيرها ، وقع الطلاق. ولو رفعه لم يقع. ولو كان القائل غير عارف ، فحكمه ما ذكر.

ولو قال : « له عشرة إلاّ درهما » ، لزمه تسعة. ولو رفع الدرهم لزمه العشرة ؛ نظرا إلى ما ذكره ابن هشام من أنّه : لا يشترط في كون « إلاّ » صفة وقوعها بعد جمع (2). ولو اشترط ذلك - كما ذكره جماعة (3) - لزمه تسعة ، لكونها للاستثناء حينئذ.

تذنيبات

الأوّل : أدوات الاستثناء منحصرة على التحقيق بما ذكر إلاّ أنّه يقال في « حاشا » حاش وحشا ، وزاد بعض النحاة « ما » النافية (4) ؛ محتجّا بقول بعض العرب : « كلّ شيء مهه ما النساء وذكرهنّ » (5). يعني إلاّ النساء.

ص: 772


1- سيأتي في ص 773.
2- مغني اللبيب 1 : 71.
3- تقدّم في ص 764.
4- كالفرّاء وعليّ بن المبارك والسهيلي ، انظر مجمل اللغة 4 : 290 ، وتمهيد القواعد : 492 ، القاعدة 174.
5- راجع القاموس المحيط 4 : 414 ، « ما ».

والحقّ - كما ذهب إليه الأكثر - أنّها ليست للاستثناء.

وما ورد منصوب بإضمار « عدا ».

فعلى ما ذهب إليه بعض النحاة لو قال : « له عليّ عشرة ما ثلاثة » يقبل قوله (1) ، وعلى المشهور يحتمل القبول ؛ نظرا إلى إضمار « عدا ». ويحتمل عدمه ؛ لأنّ الإضمار خلاف الأصل. ولا ريب في قبوله ممّن يعرف الخلاف ويدّعي إرادة الاستثناء ، دون غيره.

الثاني : اتّفق النحاة على أنّ أصل « غير » هو الصفة ، والاستثناء بها عارض. و « إلاّ » عكسه (2).

ويشترط في « غير » أن يطلق (3) ما قبلها على ما بعدها مثل : « مررت برجل غير طويل » أو « بطويل غير عاقل ». ولا يجوز : « مررت برجل غير امرأة » أو « بطويل غير قصير » و « لا » النافية عكسها. هذا إذا لم يكونا (4) علمين ، ولو كانا علمين ، جاز العطف ب- « لا » و « غير ».

وكيفيّة التفريع أنّه لو قال : « عليّ ألف غنم غير ثوب » لزمه الألف ، ولم يقبل قوله : « غير ثوب » لعدم حصول شرطه ، فهو لحن. ولو حصل شرطه ، فينظر إلى الإعراب ، فيحمل على ما يقتضيه ، ومع الإبهام يحمل على الصفة. ومثاله قد ظهر ممّا تقدّم.

الثالث : الاستثناء ب- « إلاّ » إمّا في كلام موجب أو منفيّ. والأوّل يقتضي نصب المستثنى مطلقا (5) بلا خلاف.

والثاني إمّا تامّ ، وهو الذي يذكر فيه (6) المستثنى منه. أو غير تامّ ، وهو خلافه.

والثاني لا عمل فيه ل- « إلاّ » بل الحكم عند وجودها مثله عند فقدها ، مثل : « ما رأيت إلاّ زيدا » و « ما جاءني إلاّ عمرو ».

ص: 773


1- راجع تمهيد القواعد : 492 ، القاعدة 174.
2- المصدر : 495 ، القاعدة 176.
3- كذا في النسختين ، ولكنّ الصحيح : « ينطبق » كما في المصدر.
4- أي ما قبلها وما بعدها.
5- أي سواء كان الكلام تامّا أو ناقصا. ومثال الثاني : جاء إلاّ عليّا.
6- في « ب » : « معه ».

والأوّل إمّا متّصل نحو : ( ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ) (1) و ( وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ ) (2) ، أو منقطع.

والأوّل يجوز فيه النصب واتباع المستثنى للمستثنى منه ، كما في الآيتين وهو الأرجح.

والتابعيّة إمّا البدليّة كما ذهب إليه البصريّون ؛ فإنّهم قالوا : إنّه بدل « بعض » حينئذ (3). أو العطفيّة كما ذهب إليه الكوفيون ؛ فإنّهم قالوا : إنّه عطف النسق حينئذ (4).

والثاني إن أمكن فيه تسلّط العامل على المستثنى ، مثل : ( ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِ ) (5) ، و: ( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللّهُ ) (6) ، فأهل الحجاز على نصب المستثنى ، وبنو تميم على اتباعه (7).

وإن لم يمكن تسلّطه عليه ، فالنصب وفاقا ، نحو : « ما زاد هذا المال إلاّ ما نقص » إذ لا يقال « زاد النقص ».

وكيفيّة التفريع أنّه لو قال : « عليّ عشرة إلاّ درهما » بالنصب يلزمه تسعة ؛ لكون « إلاّ » للاستثناء حينئذ ، ولو قال « إلاّ درهم » - بالرفع - يلزمه عشرة ؛ لكونها للصفة حينئذ.

ولو قال : « ما له عليّ إلاّ عشرة » لزمه ما بعد « إلاّ » خاصّة ؛ لأنّه مستثنى من النفي الناقص ، ولو نصب المستثنى كان لحنا. وفي كونه إقرارا بالمستثنى حينئذ وجهان ؛ نظرا إلى ظهوره في الاستثناء من المنفيّ وإن كان لحنا ، وعدم موافقته لمحاورات أرباب اللسان ، ومعاضدته بأصالة البراءة.

ولو قال : « ما له عليّ عشرة إلاّ درهم » - بالرفع - فهو إقرار بدرهم. ولو قال : « إلاّ درهما » - بالنصب - يحتمل كونه إقرارا بالدرهم ؛ لجواز نصبه على الاستثناء ، وإن كان مرجوحا. وعدمه ؛ لمخالفته لما هو الأرجح مع معاضدته بأصالة البراءة. وهذا هو المشهور.

ص: 774


1- النساء (4) : 66.
2- الحجر (15) : 56.
3- حكاهما عنهم ابن هشام في مغني اللبيب 1 : 70.
4- حكاهما عنهم ابن هشام في مغني اللبيب 1 : 70.
5- النساء (4) : 157.
6- النمل (27) : 65.
7- راجع تفسير الكشّاف 3 : 378 ، ذيل الآية 56 من النمل (27).

ولو قال : « ما له خمسة أثواب إلاّ درهم » بالرفع ، فهو إقرار بالدرهم على رأي أهل الحجاز (1) دون بني تميم (2). وينعكس إذا قال : « إلاّ درهما » بالنصب.

فصل [37]

الجهل في الاستثناء إمّا لجهل المستثنى منه والمستثنى معا ، كقوله : « له صبرة إلاّ جزءا منها ». أو لجهل أحدهما ، كقوله : « له صبرة إلاّ منّين منها » و: « له عشرة دراهم إلاّ شيئا منها ».

ولا ريب أنّ الاستثناء المجهول بأقسامه باطل في العقود ، ويبطل العقود المشتملة عليه بشرط تعلّق العقد - من البيع أو الإجارة - بالمستثنى منه ، كقوله : « بعتك صبرة إلاّ جزءا منها » و « آجرتك بيتا » أو « هذا البيت إلاّ بعضا منه ».

ولو تعلّق بالمستثنى ، فإن كان مجهولا بطل العقد ، سواء كان المستثنى منه مجهولا أو معيّنا ، مثل : « ما بعتك إلاّ بيتا » أو « هذا البيت (3) إلاّ جزءا منها ». وإن كان معيّنا فالعقد صحيح ، وإن كان المستثنى منه مجهولا ، مثل : « ما بعتك من هذه الصبرة إلاّ منّان منها » أو « ما آجرتك من هذه الدار إلاّ هذا البيت منها ».

ويتفرّع عليه جواز بيع قدر معيّن من أثمار بستان وأوراقه.

وأمّا في الأقارير فيكلّف بالتفسير ، ويقبل قوله إن فسّر بغير المستوعب ، وإلاّ فقيل : يبطل تفسيره ويصحّ الاستثناء (4) ؛ لسبق الحكم بصحّته ، وعدم اقتضاء بطلان التفسير لبطلانه ، فيكلّف بالتفسير ثانيا وثالثا إلى أن يفسّر بغير المستوعب ، ويقبل قوله حينئذ.

وقيل : يبطل الاستثناء أيضا (5) ، وهو الصحيح ؛ لانحصار مراده بالاستثناء فيما بيّنه. فلو قال : « له ألف إلاّ شيئا » أو « إلاّ درهما » كلّف بتفسيرهما على الأوّل ، وتفسير الثاني على الثاني. فإن فسّر بغير المستوعب قبل قوله. ولو فسّر بالمستوعب ، فعلى ما اخترناه يلزمه الألف المفسّر ويبطل الاستثناء ؛ لأنّه بيّن ما أراد من اللفظ ، فجرى مجرى ما لو تلفّظ به أوّلا.

ص: 775


1- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : 121.
2- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : 121.
3- أي ما بعتك هذا البيت.
4- راجع : قواعد الأحكام 2 : 3. وتمهيد القواعد : 234 ، القاعدة 86.
5- راجع : قواعد الأحكام 2 : 3. وتمهيد القواعد : 234 ، القاعدة 86.

هذا على ما هو الصحيح من جواز الاستثناء المنقطع ، وإلاّ فيتعيّن حمل « الألف » على الثاني على الدراهم ، فيلزمه من الدراهم ما يبقى بعد إخراج درهم واحد من ألف درهم.

فصل [38]

قد عرفت أنّ الاستثناء المنقطع صحيح (1) ، إلاّ أنّ إطلاق الاستثناء عليه مجاز ، فمع قيام الصارف عن الحقيقة يحمل على المنقطع ويكون صحيحا ، مثل : « له عليّ ألف غنم إلاّ ثوبا » أو « عبدا » ، فإنّه يصحّ ويحمل على المجاز. ثمّ عليه أن يبيّن ثوبا لا يستغرق قيمته الألف.

ومع احتمال الاتّصال والانفصال فيحمل على الحقيقة ؛ لعدم جواز الحمل على المجاز مع إمكان الحمل على الحقيقة ، لكنّ هذه الضابطة قد خولفت في باب الإقرار ، كما إذا قال : « عليّ ألف إلاّ أربعة دراهم » فله أن يفسّر « الألف » بما أراد وفاقا ، ولا يكون تفسير المستثنى تفسيرا للمستثنى منه ، والسرّ فيه قيام الاحتمال فيما خالف الأصل ؛ إذ الأصل براءة الذمّة (2) ، فيقبل تفسير المعاضد بالأصل وإن كان مع قطع النظر عنه مرجوحا.

فصل [39]

لا يجوز تقديم المستثنى في أوّل الكلام ، مثل : « إلاّ زيدا جاء القوم » ، كما لا يجوز تقديم حرف العطف ؛ لأنّ معنى « إلاّ زيدا » : لا زيد.

ولو تقدّمه ناف ، فإن كان النافي حرفا ، فالمنع بحاله ، مثل : « ما إلاّ زيد جاءني أحد ». وإن كان فعلا فيجوز ، نحو : « ليس » أو « لم يكن إلاّ زيد في الدار أحد ». فلو قال : « إلاّ درهما عليّ عشرة » لم يكن الاستثناء صحيحا ولزمه العشرة. ولو قال : « ما إلاّ درهم عليّ دراهم » لم يصحّ الاستثناء أيضا. ولو قال : « ليس إلاّ » (3) ، صحّ ولزمه درهم.

ص: 776


1- تقدّم في ص 773.
2- قاله الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 197 ، القاعدة 68.
3- أي « ليس إلاّ درهم عليّ عشرة ».

ويجوز توسّط المستثنى بين المستثنى منه والمحكوم به ، وما في معناه ، نحو : « جاء إلاّ زيدا القوم » و: « القوم إلاّ زيدا جاءوا » (1) و: « في البلد إلاّ زيدا أصدقاؤك » و: « ضربت إلاّ زيدا أعداءك ».

وقيل : إن وقع التوسّط بحيث تقدّم المستثنى على المستثنى منه والعامل ، فلا يجوز مطلقا (2).

وقيل : يجوز إن كان العامل متصرّفا ، نحو : « القوم إلاّ زيدا جاءوا » ، وإن كان غير متصرّف (3) لم يجز ، نحو : « القوم إلاّ عمرا في الدار » (4).

وكيفيّة التفريع أنّه لو قال : « له عليّ إلاّ عشرة دراهم مائة درهم » صحّ الاستثناء ولزمه تسعون. وقس عليه أمثاله من الفروع.

فصل [40]

الاستثناء من الإثبات نفي وفاقا ، وبالعكس على الحقّ المشهور (5) ، خلافا للحنفيّة ؛ حيث قالوا : المستثنى مسكوت عن إثباته و (6) نفيه (7).

ص: 777


1- يجوز فيه وفيما يأتي الفعل واسم الفاعل ، أي جاءوا وجاءون. وفي « ب » : « جاء ».
2- راجع : التمهيد : 391 ، وتمهيد القواعد : 196 ، القاعدة 66. ومعنى الإطلاق أي سواء كان العامل متصرّفا أم لا. واعلم أنّ هذا ينافي مفهوم التوسط والإجماع المذكور آنفاً. وفي «ب»: «تقدم المستثنی منه علی المستثنی والعامل» وهو الصحيح. وفي تعهيد القواعد: «نعم إذا تقدم علی المستثنی منه وعلی العامل ففيه مذاهب». ويرد عليه أيضاً ما أوردناه علی نسخة «أ» من عدم تحقق مفهوم التوسط، فأنّ قوله «نعم ...» استثناء عن صورة التوسط. وبعبارة أخری، لا يمكن الجمع بين توسط المستثنی بين المستثنی منه والمحكوم به. وبين تقدمه عليه وعلی العامل.
3- وجه عدم التصرّف أنّ المقدّر في المثال من أفعال العموم وهي ليست متصرّفة ، كأفعال الخصوص مثل : ضرب وجاء. والمقدّر مثل : كانوا في الدار - أو - ليسوا فيها.
4- لاحظ التمهيد : 391 ، وتمهيد القواعد : 196 ، القاعدة 66.
5- راجع : نهاية السؤل 2 : 421 ، وتمهيد القواعد : 198 ، القاعدة 69.
6- في « ب » : « أو ».
7- حكاه عنهم الفخر الرازي في المحصول 3 : 39 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 330 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 198 ، القاعدة 69.

لنا النقل من أهل اللغة ، وكلمة التوحيد (1). وما قالوا إنّ إفادتها له شرعيّة لا لغويّة ، مكابرة.

احتجّ الخصم بمثل : « لا صلاة إلاّ بطهور » ؛ حيث دلّ على أنّ المستثنى منه مشروط بالمستثنى لا يتحقّق بدونه ، وأمّا أنّه يتحقّق معه فلا. ولو كان الاستثناء من النفي إثباتا ، لزم ثبوته معه البتّة ، فيثبت الصلاة بمجرّد الطهور ، وأنّه (2) باطل (3).

والجواب : أنّ قولنا : « إلاّ بطهور » ليس إخراج الطهور من الصلاة ليثبت (4) بثبوته ، فإنّه إنّما يكون إذا قلنا : « لا صلاة إلاّ الطهور » ، فقولنا : « بطهور » ليس بالمستثنى هنا حقيقة ، فلا بدّ من تقدير متعلّق هو المستثنى بالحقيقة ، وهو إمّا « صلاة بطهور » أو « باقترانها بطهور » وذلك المتعلّق هو المستثنى بالحقيقة.

فعلى الأوّل (5) يكون الاستثناء تامّا ؛ لأنّ المستثنى منه هو النكرة المنفيّة المذكورة ، أي « لا صلاة » ويكون المتعلّق المستثنى (6) مستثنى منها ، ويكون قولنا : « بطهور » ظرفا مستقرّا صفة للمستثنى ، والتقدير « لا صلاة إلاّ صلاة بطهور ».

وعلى الثاني يكون الاستثناء مفرّغا ؛ لأنّ المستثنى منه حينئذ قولنا : « بوجه من الوجوه » المقدّر ، ويكون المتعلّق المستثنى مستثنى منه ، ويكون قولنا : « بطهور » ظرفا لغوا صلة للمستثنى ، والتقدير « لا صلاة بوجه من الوجوه إلاّ باقترانها بالطهور ».

ثمّ لمّا كان المراد من نفي الصلاة نفي صحّتها ، فيرجع الحاصل - على التقدير الأوّل - [ إلى ] (7) أنّه « لا صلاة صحيحة إلاّ صلاة بطهور » ، وعلى الثاني إلى أنّه « لا صلاة صحيحة بوجه من الوجوه إلاّ بالاقتران بالطهور ». ويلزم على التقديرين أن لا يصحّ كلّ صلاة لا يكون (8)

ص: 778


1- أي كلمة : « لا إله إلاّ اللّه ».
2- في « ب » : « فإنّه ».
3- حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 127.
4- أي ليثبت المستثنى منه.
5- والمراد به قوله : « وهو إمّا صلاة بطهور » ويعلم منه المراد من قوله : « وعلى الثاني ».
6- أي قوله : « صلاة ».
7- أضفناه للضرورة.
8- التذكير باعتبار الكلّ.

مع الطهور ، وهو كذلك ؛ لكون الطهور شرطا لصحّتها ، وأن يكون كلّ صلاة مع الطهور صلاة صحيحة.

وربما يستشكل ذلك بأنّه قد توجد صلاة مع الطهور من دون سائر شرائطها ، فلا تكون صحيحة.

ويدفع بأنّ المراد كلّ صلاة مع الطهور صلاة صحيحة في الجملة ، فلا إشكال.

وما قيل : إذا قيل بصحّة الصلاة المتّصفة بالطهور لزم عموم الحكم في كلّ صلاة كذلك ؛ لعموم النكرة الموصوفة بصفة عامّة ، مثل : « لا اجالس إلاّ رجلا عالما » ؛ ولدلالة الكلام على أنّ علّة الصحّة هي الوصف المذكور ، ضعيف ؛ لأنّ الأوّل ممنوع ، والثاني مسلّم إذا كان الوصف علّة مستقلّة ولم يعارضه (1) قاطع.

هذا هو التحقيق اللائق بالمقام. وللقوم فيه كلمات مشوّشة مختلّة النظام لا ترجع إلى طائل.

وإذا عرفت ذلك ، فكيفيّة التفريع لا تخفى عليك. وممّا فرّع عليه قول القائل : « واللّه لا اجامعك في السنة إلاّ مرّة » ، فمضت السنة ولم يجامعها (2) أصلا ، فعلى القاعدة يلزم الحنث ؛ لأنّها تقتضي إثبات المرّة ، فيجب الجماع مرّة ، وقيل : لا يحنث (3) ؛ لأنّ المطلوب بالذات من اليمين أن لا يزيد على المرّة وليس في قصده إثباتها.

وكذا في قوله : « لا ألبس ثوبا إلاّ الكتّان » فقعد عاريا ؛ فإنّ مقصوده بالذات عدم لبس غير الكتّان لا أن لا يكون عاريا أيضا ، ويفهم ذلك عرفا. وعلى هذا يكون « إلاّ » للصفة بمعنى « غير » ، فتأمّل.

فصل [41]

صرّح جمع من الادباء (4) بأنّه إذا قصد بالمنفيّ المشتمل على الاستثناء ردّ الكلام على من

ص: 779


1- في « أ » : « ولا يعارضه ».
2- في « ب » : « ولم يتجامعها ».
3- قاله القرافي في الفروق 2 : 93.
4- حكاه عنهم ابن مالك في التسهيل : 101 و 102 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 496 ، القاعدة 177.

أوجب ، لم يكن إثباتا للمستثنى ؛ لأنّ المقصود النفي المحض ، لا النفي والإثبات.

وفرّعوا عليه بقاء النصب على حاله وإن كان بعد نفي ، فلو قال المدّعي : « لي عليه مائة إلاّ عشرة » ، فقال المدّعى عليه : « ما له عليّ مائة إلاّ عشرة » لم يكن إقرارا بالعشرة. وقس على ذلك ما شئت.

فصل [42]
اشارة

قد يتّحد كلّ واحد من المستثنى منه والاستثناء ، وقد يتعدّد أحدهما خاصّة ، وقد يتعدّد كلّ منهما. والأوّل مثاله مع حكمه ظاهر. والآخر يظهر حكمه بعد ظهور حكم الباقيين (1).

الأوّل (2) : أن يتعدّد الاستثناء خاصّة ، وهو لا يخلو من أن يكون معطوفا على سابقه ، أو لا.

فإن كان الأوّل ، كان الجميع راجعا إلى المستثنى منه ؛ لأنّ المعطوف والمعطوف عليه كالجملة الواحدة ، سواء تكرّر حرف الاستثناء ، مثل : « مائة إلاّ عشرة وإلاّ خمسة وإلاّ أربعة » ، أو لا ، مثل : « مائة إلاّ عشرة وخمسة وثلاثة ».

هذا إذا كان الراجع إلى المستثنى منه ما لا يستغرقه ، فيبطل ما يحصل به الاستغراق خاصّة ، فلو قال : « عليّ عشرة إلاّ خمسة وإلاّ ستّة » بطل استثناء الستّة ويكون إقرارا بخمسة.

وإن كان الثاني ، فإمّا لا يمكن عود كلّ لاحق إلى سابقه - إمّا لكونه مساويا له ، مثل : « عشرة إلاّ ثلاثة إلاّ ثلاثة » ، أو لزيادته عليه ، مثل : « عشرة إلاّ ثلاثة إلاّ أربعة » - أو يمكن عوده إليه ، مثل « عشرة إلاّ أربعة إلاّ ثلاثة إلاّ اثنين ».

وعلى الأوّل إن أمكن عود الجميع إلى المستثنى منه كالمثالين ، يجب عوده إليه ؛ صونا للكلام عن اللغو. وإن لم يمكن عوده (3) إليه ، مثل : « عشرة إلاّ اثنين إلاّ ثلاثة إلاّ أربعة إلاّ

ص: 780


1- وهما قسمان للثاني وهو قوله : « وقد يتعدّد أحدهما خاصّة ».
2- أي الأوّل من القسم الثاني وهو أن يتعدّد أحدهما خاصّة.
3- أي عود الجميع.

خمسة » بطل ما يحصل به الاستغراق وهو استثناء « الخمسة » ، فيلزمه واحد ، ووجهه ظاهر.

وعلى الثاني يجب عود كلّ تال إلى متلوّه ، لا إلى المستثنى منه ، وإلاّ لزم ترجيح العود إلى الأبعد على ترجيحه إلى الأقرب الصالح للعود إليه.

ولا إليه وإلى المستثنى السابق ، وإلاّ لزم التناقض ؛ لأنّ أحدهما إثبات والآخر نفي.

فلو رجع إليهما ، لكان مثبتا من حيث العود إلى أحدهما ، ومنفيّا من حيث العود إلى الآخر.

ويلزم منه (1) وممّا سبق - من قاعدة النفي والإثبات (2) - أنّه إذا قال : « عليّ عشرة إلاّ تسعة إلاّ ثمانية إلاّ سبعة » إلى الواحد ، أن (3) يكون إقرارا بخمسة ، ولو أنّه لمّا وصل إلى الواحد ، رجع وقال : « إلاّ اثنين إلاّ ثلاثة » إلى التسعة ، يكون إقرارا بواحد ؛ لأنّه مقتضى كون الاستثناء من الإثبات نفيا وبالعكس ، وعود كلّ تال إلى متلوّه.

وضابطه أن يجمع الأعداد المثبتة - وهي الأزواج - على حدّ ، والمنفيّة - وهي الأفراد - على حدّ ، ويسقط المنفيّة من المثبتة ، فالباقي هو المقرّ به ، والمثبتة في الأوّل ثلاثون ، والمنفيّة خمسة وعشرون ، والمثبتة في الثاني خمسون ، والمنفيّة تسعة وأربعون.

وقس عليه سائر ما يرد عليك في هذا الباب ، كما لو لم يصل إلى الواحد ، أو بدأ بالمنفيّ.

الثاني (4) : أن يتعدّد المستثنى منه خاصّة ، بأن يتعقّب الاستثناء جملا متعاطفة ، أو مفردات كذلك (5) ، وصحّ عوده إلى كلّ واحد. وقد اختلفوا فيه.

ولا نزاع في إمكان رجوعه إلى الجميع وإلى الأخيرة خاصّة ، ولا في كون الأخيرة مخصوصة به على كلّ حال ، ولا عند وجود القرينة.

إنّما الخلاف في الظهور ، وفي كون الباقي مخصوصا أيضا وعند فقد القرينة. فالشيخ (6)

ص: 781


1- أي عود كلّ تال إلى متلوّه.
2- تقدّمت في ص 777.
3- الظاهر زيادة « أن » وقوله : « يكون » جواب « إذا ».
4- أي الثاني من القسم الثاني وهو أن يتعدّد أحدهما خاصّة.
5- أي متعاطفة.
6- العدّة في الاصول 1 : 320 - 321.

من أصحابنا ، والشافعي من العامّة على أنّه ظاهر في العود إلى الجميع (1) ، أي كلّ واحد.

والحنفيّة على أنّه ظاهر في العود إلى الأخيرة خاصّة (2).

وقال المرتضى : إنّه مشترك لفظا بين الأمرين ، والتعيين يتوقّف على ظهور القرينة (3).

وقيل بالوقف ، يعني لا يعلم أنّه حقيقة في أيّهما (4).

وذهب بعض متأخّري أصحابنا إلى أنّ اللفظ محتمل لكلّ من الأمرين لا يتعيّن إلاّ بالقرينة (5) ، وليس ذلك لعدم العلم بما هو حقيقة فيه كمذهب الوقف ، ولا لكونه مشتركا بينهما مطلقا ، بل لأنّ أدوات الاستثناء موضوعة بالوضع العامّ لخصوصيّات الإخراج ، فأيّ الأمرين اريد من الاستثناء كان استعماله فيه حقيقة واحتيج في فهم المراد منه إلى القرينة ؛ لأنّ إفادة المعنى المراد من الموضوع بالوضع العامّ إنّما هي بالقرينة. وليس ذلك من الاشتراك في شيء ؛ لاتّحاد الوضع فيه وتعدّده في الاشتراك وإن كان في حكمه باعتبار الافتقار إلى القرينة ، ولاحتياج المشترك إلى القرينة لتعيين المراد ؛ لكونه موضوعا لمسمّيات متناهية ، فحيث يطلق يدلّ على تلك المسمّيات إذا كان العلم بالوضع حاصلا ، ويحتاج في تعيين المراد منها إلى القرينة بخلاف الموضوع بالوضع العامّ ، فإنّ مسمّياته غير متناهية ولا يمكن حصول جميعها في الذهن ، ولا البعض دون البعض ؛ لاستواء نسبة الوضع إليها ، فلا افتقار فيه إلى القرينة لتعيين المراد ، بل الافتقار إليها لأصل الإفادة.

وقيل : إن تبيّن الإضراب عن الاولى فللأخيرة ، وإلاّ للجميع (6).

وهو يرجع إلى الاعتماد على القرينة في الأمرين ، فيخرج عن محلّ النزاع ؛ لما ذكرناه في تحريره (7).

ص: 782


1- حكاه عنه الفخر الرازي في المحصول 3 : 1. والأسنوي في التمهيد : 398.
2- حكاه عنه الفخر الرازي في المحصول 3 : 1. والأسنوي في التمهيد : 398.
3- الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 249.
4- قاله الغزالي في المستصفى : 260.
5- قاله الشيخ حسن في معالم الدين : 122.
6- قاله البصري في المعتمد 1 : 246 ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : 126.
7- وهو كون الخلاف في الظهور بلا قرينة. راجع ص 781.

وقيل : إن كان العطف بالواو ولم يتخلّل بين الجملتين كلام طويل عاد إلى الجميع ، وإلاّ عاد إلى الأخيرة خاصّة (1).

وهذا أيضا يرجع حاصله إلى اعتماد القرينة ، إلاّ أنّ كون الشرط الأوّل من القرائن غير مسلّم.

ثمّ على القول الأوّل يكون استعمال الاستثناء في الإخراج من الجميع حقيقة ، وفي الإخراج عن الأخير خاصّة مجازا.

وعلى القول الثاني بعكس ذلك. وعلى الثالث والرابع حقيقة فيهما. وعلى الخامس حقيقة في أحدهما لا على التعيين ، مجاز في الآخر. وحكم الآخرين على ما ذكرناه حكم الأوّل.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الحقّ عندي أنّ اللفظ محتمل لكلّ من الأمرين بالاشتراك ؛ لأنّ أدوات الاستثناء موضوعة بالوضع العامّ لخصوصيّات الإخراج - كما ذهب إليه بعض المتأخّرين (2) - إلاّ أنّ تعيين كلّ منهما لا يتوقّف على القرينة ، وعند الإطلاق لا يوقف كما ذهب إليه المرتضى (3) ، بل الأظهر منه عوده إلى الجميع وعند الإطلاق يحمل عليه ، ولا منع في أن يكون لفظ موضوعا لمعنيين إذا استعمل في كلّ منهما كان حقيقة فيه إلاّ أنّه كان أحدهما ظاهرا متبادرا منه عند الإطلاق ؛ فإنّه إذا أمكن أن يصير المجاز راجحا والحقيقة مرجوحة بحيث يتبادر المعنى المجازي من اللفظ عند الإطلاق ، فيمكن بطريق أولى أن يصير أحد المعاني الحقيقيّة راجحا والآخر مرجوحا.

ولا ريب في أنّ اللازم حينئذ عند الإطلاق حمله على الحقيقي الراجح دون المرجوح.

ثمّ تنقيح ما ذهبنا إليه يتوقّف على إثبات ثلاث دعاو :

[ الدعوى ] الاولى : كون اللفظ حقيقة في كلّ منهما.

ويدلّ عليه تصريح القوم بأنّ أدوات الاستثناء موضوعة لمطلق الإخراج (4) ، فيشمل

ص: 783


1- حكاه الشهيد الثاني عن الجويني في تمهيد القواعد : 205 ، القاعدة 74.
2- تقدّم في ص 782 وهو الشيخ حسن.
3- تقدّم في ص 782.
4- راجع : المستصفى : 257 ، والإحكام في أصول الأحكام 2 : 308 ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : 122.

الإخراج من متعدّد وواحد ، فالتخصيص تحكّم. وبذلك يظهر فساد القولين الأوّلين ؛ لأنّه إذا كان الوضع في الأصل للأعمّ من دون ثبوت خلافه لا معنى لكونه حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر (1).

[ الدعوى ] الثانية : عدم كون ذلك بالوضع العامّ ليظهر صحّة الاشتراك.

ويدلّ عليه أنّ العموم الذي هو مقتضى عموم الوضع هو عدم الاختصاص بمادّة دون مادّة من أفراد الكلّي الذي لوحظ في حال الوضع لا بالنسبة إلى كلّ شيء وكلّ حال.

فلو قيل : إنّ الاستثناء حقيقة في رجوعه إلى الجملة الأخيرة ، لا يكون (2) عموم وضع أدواته إلاّ بالنسبة إلى أفراد هذا المعنى ، سواء قلنا بوضعها لنفس هذا الكلّي أو أفراده ، ولا ينفع في عمومها بالنسبة إلى رجوعه إلى الجملة السابقة ، ولا يقتضي كونه حقيقة فيه. وقس عليه عكسه.

وأمّا على القول بالاشتراك ، فعمومه بالنسبة إلى الأمرين ليس بعموم الوضع ، بل بالوضعين المعتبرين في الاشتراك.

نعم ، عمومه بالنسبة إلى أفراد كلّ منهما على البدل يمكن أن يتحقّق بعموم الوضع وهو خارج عن محلّ النزاع. وادّعاء أنّ عموم وضعه - باعتبار ملاحظة معنى أعمّ من الأمرين يكون حقيقة فيهما (3) - عين المتنازع فيه.

وبذلك يظهر بطلان قول بعض المتأخّرين (4) ، ويثبت منه بضمّ الدعوى الاولى صحّة القول بالاشتراك.

ثمّ إنّ هذا البعض قد أطال الكلام في إثبات مرامه بما لا يرجع إلى طائل ، فلا بدّ من ذكره والإشارة إلى ما يرد عليه ليظهر جليّة الحال ، فنقول : قد مهّد أوّلا مقدّمة وهي أنّ كلاّ من

ص: 784


1- ليس في القولين الأوّلين من الحقيقة والمجاز أثر بل الموجود هو الظهور ، فراجع.
2- في « ب » : « لا يمكن ».
3- أشار إليه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 122.
4- هو الشيخ حسن كما تقدّم ذكره في ص 782.

الوضع والموضوع له إمّا خاصّ أو عامّ ، أو الوضع عامّ والموضوع له خاصّ :

لأنّ الواضع لا بدّ له من تصوّر معنى (1) في الوضع ، فإن تصوّر معنى جزئيّا ، وعيّن بإزائه لفظا مخصوصا ، أو ألفاظا مخصوصة ، متصوّرة إجمالا أو تفصيلا ، كان الوضع خاصّا ؛ لخصوص التصوّر المعتبر فيه أعني تصوّر المعنى ، والموضوع له أيضا خاصّا ومثاله ظاهر.

وإن تصوّر معنى عامّا في تحته جزئيّات إضافيّة أو حقيقيّة.

فإن عيّن له لفظا معلوما أو ألفاظا معلومة بالتفصيل أو الإجمال ، كان الوضع عامّا ؛ لعموم التصوّر المعتبر فيه ، والموضوع له عامّا أيضا كالمشتقّات ؛ فإنّ الواضع وضع صيغة « فاعل » مثلا من كلّ مصدر لمن قام به مدلوله ، وصيغة « مفعول » منه لمن وقع عليه. ومنه أسماء النكرات والأجناس ؛ فإنّ الواضع وضع لفظ « رجل » مثلا لكلّ من قام به معنى الرجوليّة. وكذا الكلام في البواقي.

وإن عيّن اللفظ أو الألفاظ بإزاء خصوصيّات الجزئيّات المندرجة تحت العامّ ؛ لكونها معلومة إجمالا إذا توجّه العقل بذلك العامّ نحوها والعلم الإجمالي كاف في الوضع ، كان الوضع عامّا ؛ لعموم التصوّر المعتبر فيه ، والموضوع له خاصّا ؛ لخصوصه ، كالمبهمات مثل : أسماء الإشارات ؛ فإنّ الواضع وضع لفظ « هذا » مثلا لخصوص كلّ فرد ممّا يشار به إليه ، لكن باعتبار تصوّره للمفهوم العامّ وهو كلّ مشار إليه مفرد مذكّر ، ولم يضع اللفظ بإزاء هذا المعنى العامّ ، بل لخصوصيّات تلك الجزئيّات المندرجة تحته ؛ فإنّ لفظ « هذا » مثلا لا يطلق إلاّ عليها ، فلا يقال :

« هذا » ويراد به واحد ممّا يشار إليه ، بل لا بدّ في إطلاقه من القصد إلى خصوصيّة معيّنة. وقس عليه البواقي.

ومن هذا القبيل وضع الحروف ، فإنّها موضوعة باعتبار معنى عامّ - وهو نوع من النسبة - لكلّ واحدة من خصوصيّاته ؛ فإنّ الواضع وضع لفظة « من » مثلا لخصوص كلّ ابتداء باعتبار تصوّره لمطلق الابتداء. وقس عليها البواقي.

ص: 785


1- في المصدر : « المعنى ».

ومثلها الأفعال الناقصة ، فإنّها موضوعة باعتبار نوع من النسبة لكلّ واحد من خصوصيّاتها.

وأمّا التامّة ، فلها جهتان : وضعها من إحداهما عامّ ، ومن الاخرى خاصّ ، فالعامّ بالقياس إلى ما اعتبر فيها من النسب الجزئيّة ؛ فإنّها في حكم المعاني الحرفيّة ، فكما أنّ لفظة « من » موضوعة باعتبار المعنى العامّ - وهو مطلق الابتداء - لخصوص كلّ ابتداء ، كذلك لفظة « ضرب » موضوعة باعتبار المعنى العامّ - وهو نوع النسبة ، أي نسبة الحدث الذي دلّت (1) عليه إلى (2) فاعل - لخصوصيّاتها.

وأمّا الخاصّ ، فبالنسبة إلى الحدث [ وهو واضح ] (3).

وبعد تمهيد هذه المقدّمة قال :

إنّ أدوات الاستثناء كلّها موضوعة بالوضع العامّ لخصوصيّات الإخراج.

أمّا الحرف منها ، فظاهر. وأمّا الفعل فلأنّ الإخراج به إنّما هو باعتبار النسبة ، وقد ظهر أنّ الوضع بالإضافة إليها عامّ. وأمّا الاسم ، فلأنّه من قبيل المشتقّ (4).

وقد علمت أنّ الوضع بالنسبة إليه عامّ ، ولا ريب أنّ كلاّ من العود إلى الجميع وإلى الأخيرة خاصّة إخراج خاصّ فأيّهما اريد من الاستثناء كان حقيقة فيه ، وليس ذلك من الاشتراك في شيء. وبيّنه بنحو ما ذكرناه في تحرير مذهبه.

ثمّ قال :

واتّضح منه بطلان القول بالاشتراك ؛ لأنّه لا تعدّد في وضع المفردات ، ولا دليل على كون الهيئة التركيبيّة موضوعة وضعا متعدّدا لكلّ من الأمرين (5).

وأنت تعلم أنّ ما به مناط تحقّق مطلبه عموم الوضع ، ولا خلاف في ثبوته في أدوات

ص: 786


1- أي لفظة « ضرب ».
2- متعلّق إلى نسبة الحدث.
3- أضفناه من المصدر.
4- معالم الدين : 123 - 124.
5- المصدر : 125.

الاستثناء ، فكفى له أن يقول : إنّها موضوعة بالوضع العامّ لخصوصيّات الإخراج من دون حاجة إلى التمهيد الذي مهّده ، والتطويل الذي ارتكبه. ويرد عليه ما تقدّم (1).

ولو قال : إنّ عموم الوضع محتمل ، فمن ادّعى أحد الأمرين أو الاشتراك فعليه البيان ، ليرجع إلى القول بالتوقّف مع توسّع دائرة الاحتمال. هذا.

وما ذكره من أنّ « وضع الأفعال التامّة بالنسبة إلى الحدث خاصّ » (2) ظاهر الفساد ؛ إذ الحدث - كالضرب مثلا - أمر كلّي يندرج تحته جزئيّات ، فكلّ من الوضع والموضوع له فيه عامّ.

[ الدعوى ] الثالثة : كون العود إلى الجميع أظهر وأرجح عند الإطلاق.

ويدلّ عليه وجوه :

منها : أنّ الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في المتعلّقات ؛ إذ العطف يصيّر المتعدّد كالواحد ، فلا فرق بين قولنا : « رأيت زيد بن عمرو ، ورأيت زيد بن بكر » وبين قولنا : « رأيت الزيدين ». فإذا كان الاستثناء أو غيره من المتعلّقات عقيب الجملة الواحدة راجعا إليها ، فكذلك ما في حكمها (3). وليس هذا قياسا في اللغة ، بل استدلال من قواعد أهل اللغة وموارد استعمالهم.

ومنها : أنّه قد علم بالاستقراء أنّ الاشتراك بينهما في المتعلّقات كلّها - كالحال والشرط وغيرهما سوى الاستثناء - ثابت ، فيلزم أن يكون الأمر فيه أيضا كذلك ؛ إلحاقا للفرد بالأعمّ الأغلب.

ومنها : أنّ التعلّق بالمشيّة (4) إذا تعقّب جملا يعود إلى جميعها بإجماع الامّة (5). وهو إمّا استثناء ، أو شرط وهو في معناه ؛ لأنّ قوله تعالى في آية القذف : ( إِلاَّ مَنْ تابَ ) (6) جار

ص: 787


1- راجع ص 783.
2- تقدّم في ص 786.
3- أي في حكم الجملة الواحدة كالجمل المتعاطفة.
4- والمراد به قول : « إن شاء اللّه ».
5- راجع : الإحكام في أصول الأحكام 2 : 323 ، وتمهيد القواعد : 205 ، القاعدة 74.
6- مريم (19) : 60.

مجرى قوله : « إن لم يتوبوا » على أنّه لا يمكن كونه شرطا على الحقيقة ، وإلاّ لما صحّ دخوله على الماضي ، مع أنّه قد يذكر فيه ، كما يقال : « حججت وزرت إن شاء اللّه » فتعيّن كونه استثناء خاصّا ، فإذا عاد إلى الجميع البتّة ، فكذلك غيره ؛ لعدم فرق سوى أنّه استثناء بالمشيّة ، والآخر استثناء بغيره ، وهو لا يصلح لأن يكون سببا لاختلاف الأحكام.

والقول بأنّه ليس شرطا ولا استثناء وإنّما يذكر ليقف الكلام عن النفوذ والمضيّ لا لغير ذلك (1) ، كلام خال عن التحصيل.

ثمّ إنّه لو فرض أنّ كلّ واحد من هذه الأدلّة لا يفيد الظنّ بالمطلوب ، فلا ريب في إفادة المجموع له ، فجميعها يصلح لأن ينتهض حجّة لكون الاستثناء ظاهرا في العود إلى الجميع ، وإن كان حقيقة في العود إلى الأخيرة أيضا ، وقد ذكرنا أوّلا أنّه لا منافاة بين أن يكون لفظ حقيقة في معنيين ويكون ظاهرا في أحدهما ، فتذكّر (2).

وإذ ثبت ذلك فقد اتّضح منه بطلان قول المرتضى ، وهو الاشتراك مع توقّف التعيين على القرينة (3) ، بل قول بعض المتأخّرين (4) أيضا ؛ لأنّه أيضا قال بتوقّفه على القرينة ، فثبت من إثبات الدعاوي الثلاث بطلان المذاهب الأربعة الاول ، وكذا القول بالتوقّف. والقولان الآخران قد عرفت (5) أنّهما خارجان عن محلّ النزاع.

احتجّ القائل الأوّل - وهو من ذهب إلى أنّه حقيقة (6) في العود إلى الجميع ، مجاز في العود إلى الأخيرة (7) - ببعض ما ذكرناه في الدعوى الثالثة (8). وهو لا يفيد إلاّ ظهوره في الجميع ونحن نقول به ، ولا ينفي كونه حقيقة في الأخيرة ليثبت مطلوبه.

ص: 788


1- قاله الشيخ حسن في معالم الدين : 135.
2- تقدّم في ص 782.
3- تقدّم في ص 782.
4- تقدّم في ص 783.
5- ص 784.
6- والقائل الأوّل هو الشيخ والشافعي وهما يقولان بالظهور لا الحقيقة. راجع ص6. 782.
7- تقدّم تخريجه في ص 784.
8- تقدّم في ص 787.

واحتجّ المخصّص بالأخيرة بوجوه :

منها : أنّ الاستثناء خلاف الأصل ؛ لأنّه موجب للتجوّز في لفظ العامّ والأصل الحقيقة ، ولأنّ الظاهر من المتكلّم بلفظ العامّ إرادة العموم ، والاستثناء مخالف لهذه القاعدة ، ولاستصحاب (1) هذه الإرادة ، خولف (2) في الأخيرة للضرورة ، فبقي الباقي على أصله (3).

والجواب عنه : أنّ الاستثناء لا يوجب التجوّز في لفظ العامّ - كما هو الحقّ المختار على ما عرفته (4) - ولا يخالف القاعدة والاستصحاب ؛ للاتّفاق على أنّ للمتكلّم ما دام متشاغلا بالكلام أن يلحق به ما شاء من اللواحق ، وهذا يقتضي وجوب توقّف المخاطب عن الحكم بإرادة المتكلّم عن ظاهر لفظه حتّى يتحقّق الفراغ ، ولو كان مجرّد صدور اللفظ موجبا للحمل على الحقيقة ، لكان التصريح بخلافه قبل فوات وقته منافيا له ، ولزم ردّه ؛ على أنّ الدليل منقوض بالشرط والصفة.

وقيل : على القول بأنّ المراد بالمستثنى منه ما بقي بعد الاستثناء مجازا والاستثناء قرينة التجوّز ، لا يلزم التجوّز في العامّ أيضا ؛ لأنّ الحكم حينئذ لم يتعلّق بالأصالة إلاّ بالباقي ، فلا مخالفة بحسب الحقيقة (5).

وهو كما ترى.

ومنها : قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ* إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ) (6) الآية ؛ حيث وقع الاستثناء فيه بعد ثلاث جمل ، ولو رجع إلى الجميع لوجب أن يسقط الجلد بالتوبة ، ولا يسقط به اتّفاقا.

والجواب : أنّ الظهور في العود إلى الجميع لا ينافي الصرف عنه لدليل ، وهنا كذلك.

ص: 789


1- في « ب » : « والاستصحاب ».
2- أي العموم.
3- تقدّم في ص 783.
4- تقدّم في ص 783 - 784.
5- قاله الشيخ حسن في معالم الدين : 132.
6- النور (24) : 4 - 5.

ومنها : أنّ الظاهر من حال المتكلّم أنّه لا ينتقل (1) إلى الجملة الثانية إلاّ بعد استيفاء غرضه من الاولى ، فكان الثانية حائلة بينها وبين الاستثناء ، فكانت كالسكوت المانع من تعلّق الاستثناء بها.

والجواب : أنّه مصادرة ، وكيف يسلّم كون الثانية حائلة مع أنّ المجموع بمنزلة جملة واحدة.

ومنها : أنّ المقتضي لرجوع الاستثناء إلى ما قبله الضرورة ، وهو عدم استقلاله ، وما يقتضيه الضرورة يقدّر بقدرها ، فيكتفى بالعود إلى ما يعود إليه قطعا وهو الجملة الأخيرة.

والجواب عنه : أنّ حصول الاستقلال بالأخيرة لا ينافي العود إلى غيرها سيّما إذا ثبت الدلالة عليه.

ومنها : أنّه لو عاد إلى الجميع فإن اضمر مع كلّ جملة استثناء لزم مخالفة الأصل (2) ، وإن لم يضمر كان العامل فيما بعد الاستثناء أكثر من واحد ، ولا يجوز تعدّد العامل على معمول واحد في إعراب واحد ؛ لنصّ سيبويه عليه (3) ، ولئلاّ يلزم اجتماع المؤثّرين على أثر واحد (4).

والجواب : اختيار الشقّ الثاني ، ومنع لزوم تعدّد العامل فيما بعد الاستثناء ؛ لأنّ ذلك (5) لو كان العامل في المستثنى هو العامل في المستثنى منه ، وهو ممنوع ، بل العامل فيه « إلاّ » لقيام معنى الاستثناء بها كما ذهب إليه جماعة من النحاة (6).

ولو سلّم فلا نسلّم عدم جواز اجتماع العاملين على معمول واحد ؛ لعدم حجّة يعتدّ بها عليه.

ونصّ سيبويه لا حجّة فيه ؛ على أنّه معارض بنصّ الكسائي على الجواز مطلقا (7) ، وقول الفرّاء ؛ حيث ذهب إلى التشريك بينهما إن كان مقتضاهما واحدا (8).

ص: 790


1- في « ب » : « ينقل ».
2- أي أصالة عدم التقدير.
3- حكاه عنه الفخر الرازي في المحصول 3 : 54.
4- حكاهم الشيخ حسن في معالم الدين : 135 و 136.
5- أي لأنّ ذلك يلزم لو كان.
6- حكاهم الشيخ حسن في معالم الدين : 135 و 136.
7- حكاهم الشيخ حسن في معالم الدين : 135 و 136.
8- حكاهم الشيخ حسن في معالم الدين : 135 و 136.

وحكاية عدم اجتماع العلل الإعرابيّة على معمول واحد ، واهية.

ويدلّ على الجواز قولهم : « قام زيد وذهب عمرو الظريفان » ؛ لأنّ العامل في الصفة هو العامل في الموصوف. وقد جوّزه سيبويه (1) ، وهو مخالف للحكم المنقول عنه.

ويدلّ عليه أيضا إخبارهم عن الشيء الواحد بأمرين متضادّين ، نحو : « هذا حلو حامض » ؛ إذ لا يجوز خلوّهما عن الضمير إجماعا ، فهو إمّا في كلّ منهما بخصوصه وهو باطل ؛ إذ يلزم منه كون كلّ منهما محكوما به على المبتدأ ، وهو جمع بين الضدّين ، أو في أحدهما بعينه دون الآخر ، فيلزم استقلال ما فيه الضمير بالخبريّة ، وانتفاؤها عن الخالي منه وهو خلاف المفروض ، أو فيهما ضمير واحد بالاشتراك ، فيلزم منه المطلوب.

ومنها : أنّه في الاستثناء من الاستثناء - كما لو قال : « عليّ عشرة إلاّ ستّة إلاّ ثلاثة » - يرجع الأخير إلى ما يليه دون ما تقدّمه ، فكذا في غيره ، دفعا للاشتراك (2).

والجواب : أنّ الكلام في المتعدّد المعطوف بعضه على بعض ، وأين العطف هنا؟

واحتجّ المرتضى بصحّة الإطلاق (3) ، والأصل فيه الحقيقة.

وهو لا ينافي ما اخترناه ، بل يؤكّده إلاّ أنّ كون الأصل في الاستعمال حقيقة ممنوع ، كما عرفت مرارا.

وبحسن (4) الاستفهام (5). وهو أيضا لا ينافيه ؛ لأنّ اللفظ لمّا كان حقيقة في الأمرين ، فيصحّ الاستفهام وإن كان ظاهرا في أحدهما ؛ لأنّ مجرّد الاحتمال يكفي لحسن الاستفهام.

ثمّ اعلم أنّ جميع ما ذكرناه من الخلاف ، والاختيار ، والأسئلة ، والأجوبة آت في كلّ استثناء متعقّب للمتعدّد إذا صحّ عوده إليه ، سواء كان المتعدّد جملا أو مفردات ، وسواء كان العامل فيها واحدا ، مثل : « اهجر بني فلان وبني فلان إلاّ الصالح منهم » أو كان مختلفا

ص: 791


1- حكاه عنه الفخر الرازي في المحصول 3 : 54.
2- حكاه الشيخ حسن في المصدر.
3- الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 250.
4- عطف على قوله : « بصحّة الإطلاق ».
5- الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 250.

مع اختلاف المعمول أيضا ، مثل : « اكس الفقراء وأطعم المساكين إلاّ الفسقة » وبدونه ، مثل « اضربوهم واشتموهم إلاّ فلانا ». وقد صرّح بعض النحاة بالعود إلى الأخير في الأخيرين (1).

هذا إذا صحّ العود إلى الجميع.

وأمّا إذا تأخّر عن مفردين أو أكثر يحتمل عوده إلى كلّ واحد ولا يمكن عوده إلى الجميع ، فعوده إلى الثاني (2) أولى ، فاعلا كان أو مفعولا ؛ لأنّ الأصل فيه الاتّصال ، مثل « قتلت مائة مؤمن مائة كافر إلاّ اثنين ».

وإن تقدّم عليهما فالعود إلى الأوّل أولى ؛ لما ذكر ، نحو « استبدلت إلاّ زيدا أصحابنا بأصحابكم » و « ضرب إلاّ زيدا أصحابنا أصحابكم ».

وإذ عرفت ذلك ، فلا يخفى عليك تنزيل الفروع عليه في باب الأقارير ، كما إذا قال : « عليّ ألف درهم ومائة دينار إلاّ خمسين » و « عليّ عشرة وسبعة وخمسة إلاّ السبعة » ، وفي هذا المثال يرجع الأخير (3) إلى الجميع دون ما قبله قطعا ؛ لاستغراقه له دونه.

تذنيب

قد عرفت (4) أنّ محلّ النزاع ما لم يوجد فيه قرينة على إرادة العود إلى أحد الأمرين (5) ، فلو وجدت ، يجب العمل بها بلا خلاف ، وهي كثيرة ، كبعض الضمائر ، والموصولات ، والإشارات في الاستثناء ؛ فإنّه قد يعلم منها اختصاصه بالأخيرة ، أو شموله للجميع.

ومن القرائن الدالّة على الرجوع إلى الأخيرة أن يتخلّل بينها وبين سابقها كلام طويل ، كما لو قال في صيغة الوقف : « وقفت على أولادي على أنّ من مات منهم وعقّب فنصيبه بين

ص: 792


1- راجع المحصول 3 : 62.
2- أي فيما إذا كان المستثنى منه أمرين ، فالمراد به هو الأخير.
3- ليس لمفهوم « الأخير » هنا معنى محصّل ، لوحدة الاستثناء.
4- في ص 782.
5- والمراد به الجميع والأخير.

أولاده للذكر مثل حظّ الانثيين ، وإن لم يعقّب ، فنصيبه للذين في درجته. فإذا انقرضوا فهو مصروف إلى إخوتي إلاّ أن يفسق أحدهم » ، فالاستثناء يختصّ ب- « إخوتي ».

ومنها : ظهور الإضراب عن الاولى. والظاهر أنّه إنّما يتحقّق بأحد الأدوات الدالّة عليه ، أو بأن تختلفا نوعا بشرط عدم ضمير اسم الاولى في الثانية ، وعدم اشتراكهما في الغرض ، سواء اتّحدت القضيّة (1) ، مثل « أكرموهم ، وهؤلاء علماء إلاّ زيدا » فإنّ الاولى أمر والثانية خبر ، ومنه الجملة الأخيرة في آية القذف (2) مع سابقها. أو لا ، مثل : « أكرم ربيعة ، والفقهاء هم الحجازيّون إلاّ زيدا ».

أو يختلفا اسما وحكما ، أو في أحدهما بالشرطين المذكورين وإن اتّحدتا نوعا ، مثل « أكرم ربيعة وأطعم مضر إلاّ الطوال » و « أكرم ربيعة وأكرم مضر إلاّ زيدا » و « أكرم ربيعة وأطعم ربيعة إلاّ زيدا ».

ثمّ اشتراط الاختلافات الثلاثة على سبيل منع الخلوّ لا منع الجمع ؛ فقد يجتمع الثلاثة وكلّ اثنين منها معا ، وتفصيل الأمثلة غير خفيّ.

وعلى ما ذكر يتحقّق عدم ظهور الإضراب إمّا بانتفاء الاختلافات الثلاثة ، سواء وجد الشرطان أو أحدهما ، أو لم يوجد شيء منهما ؛ لعدم تأثير الشرط بدون المشروط. وذلك بأن يتّحد الاسم الذي يصلح أن يكون مستثنى منه فيهما ، وكذا الحكم بمعنى المحكوم به ، ويختلف الاسم المحكوم عليه ؛ فإنّه يتعدّد الجملتان حينئذ مع عدم الاختلافات الثلاثة ، مثل « ضرب زيد ربيعة » و « ضرب عمرو ربيعة ».

أو بانتفاء الشرط الأوّل ، سواء اتّحدتا نوعا وحكما ، أو اختلفتا فيهما ، أو في أحدهما ، وسواء وجد الشرط الآخر أم لا ؛ لأنّ المشروط لا يؤثّر بدون شرطه ، نحو « أكرم ربيعة واستأجرهم ، وأكرم ربيعة وهم طوال ».

أو بانتفاء الشرط الثاني كذلك ، مثل « أكرم ربيعة ، واخلع عليهم » أو « وهم مقرّبون » فإنّ الغرض - وهو التعظيم - فيها متّحد.

ص: 793


1- ومعيار اتّحاد القضيّة وتعدّدها هو اتّحاد الموضوع والمسند إليه وتعدّده.
2- النور (24) : 4 : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا ... ) .
فصل [43]

قد عرفت أنّ من المخصّصات المتّصلة الشرط ، وقد علم حدّه والفرق بينه وبين السبب فيما سبق (1).

وقد قسّموه إلى عقلي كالحياة للعلم ، وشرعي كالطهارة للصلاة ، ولغوي ، مثل « إن دخلت الدار فأنت طالق » فإنّ أهل اللغة وضعوا هذا التركيب وغيره ممّا يدخل فيه أحد أدوات الشرط المتقدّمة ؛ ليدلّ على أنّ ما دخلت عليه الأداة هو الشرط ، والآخر المعلّق به هو الجزاء (2).

وأنت خبير بأنّ الشرط اللغوي - أي الشرط باصطلاح النحاة - لا يدخل في الشرط المعرّف في الاصول - وهو ما يلزم من عدمه عدم المشروط ، ولا يلزم من وجوده وجوده - بل يدخل في السبب المعرّف في الاصول - وهو ما يلزم من وجوده الوجود - لأنّ المراد من التركيب المذكور أنّ الدخول سبب (3) للطلاق يستلزم وجوده وجوده ، لا مجرّد كون عدمه مستلزما لعدمه من غير سببيّة ، فتقسيم الشرط المعرّف في الاصول إلى الأقسام الثلاثة خلط بين الاصطلاحين ، اللّهمّ إلاّ أن يجعل المقسم ما يسمّى شرطا في الجملة.

فصل [44]
اشارة

الشرط اللغوي والجزاء إمّا يتّحدان أو يتعدّدان ، أو يتّحد أحدهما ويتعدّد الآخر. والمتعدّد إمّا على الجمع ، بأن يتوقّف المشروط (4) على حصول الشرطين جميعا ، ويلزم من الشرط حصول المشروطين (5) معا. أو على البدل ، بأن يحصل المشروط بحصول أيّ الشرطين كان ، ويلزم من الشرط حصول أحد المشروطين مبهما. فالأقسام تسعة (6). وأمثلة الكلّ واضحة.

ص: 794


1- سبق في ص 761.
2- راجع منتهى الوصول : 128.
3- في « أ ، ب » : « مسبّب ». والصحيح ما أثبتناه.
4- هذا في صورة تعدّد الشرط.
5- هذا في صورة تعدّد المشروط والجزاء.
6- في هامش « أ » : « حاصلة من ضرب الثلاثة من أحدهما - أعني المتّحد والمتعدّد على الجمع والمتعدّد على البدل - في الثلاثة من الآخر ».

تفريع : إذا قال : « إن دخلتما الدار ، فأنتما طالقان » فدخلت إحداهما ، فقيل : تطلّق هي ؛ إذ العرف يحكم بأنّ كلاّ من الشرط والجزاء أحدهما (1).

وقيل : بل لا يطلّق شيء منهما ؛ إذ الشرط دخولهما معا (2).

وقيل : بل تطلّقان معا ؛ لأنّ الشرط دخولهما بدلا (3).

وممّا يتفرّع عليه أنّه لو قال : « إن كان زانيا ومحصنا فارجم » افتقر الرجم إليهما. وكذا لو قال : « إن شفيت ، فسالم وغانم حرّ » - وشفي - عتقا. ولو قال : « إن كان سارقا ، أو نبّاشا فاقطع » يكفي في القطع أحدهما. وكذا لو قال : « إن شفيت ، فسالم ، أو غانم [ حرّ ] (4) » فشفي يعتق أحدهما فيعيّن (5) أيّهما شاء.

تذنيب

الشرط إن وجد دفعة ، مثل « إن دخلت الدار ، فأنت طالق » فيتمّ المشروط عنده (6) ، وإن وجد تدريجا ، مثل « إن قرأت هذه القصيدة ، فأنت طالق » فيوجد المشروط عند تكامل أجزائه (7) ، وعند ارتفاع جزء إن شرط عدمه (8).

فائدة

قيل : حكم الشرط حكم الاستثناء فيما ذكر من وجوب الاتّصال ، ورجوعه إلى الجميع ، أو الأخير (9).

ص: 795


1- راجع نهاية السؤل 2 : 441.
2- راجع شرح منتهى الوصول : 268.
3- راجع شرح منتهى الوصول : 268.
4- أضفناه لاستقامة العبارة.
5- في « ب » : « فتعيّن ».
6- أي عند الدخول.
7- أي أجزاء الشرط ، وهو في المثال بتكامل أجزاء القصيدة.
8- أي عدم الشرط ، أي شرط عدم القراءة. والمراد أنّه إذا قال : إن لم تقرئي القصيدة فأنت طالق ، فإذا قرأ القصيدة إلاّ جزءا منها ، تصير طالقا ، لأنّ عدم قراءة القصيدة - الذي هو الشرط - تحقّق حينئذ.
9- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 335.

والظاهر من كلام بعض دعوى الإجماع على عوده إلى الجميع (1).

وصرّح أبو حنيفة بالفرق بينهما ؛ حيث جعل الشرط للجميع ، والاستثناء للأخير (2). وهو تحكّم.

وكيفيّة التفريع واضحة.

فصل [45]

ومن المخصّصات المتّصلة - كما عرفت (3) - الصفة ، وقصرها العامّ على بعض أفراده ظاهر من اللغة (4) والعرف ، سواء كانت أخصّ منه مطلقا ، مثل : « أكرم قريشا الهاشميين » أو من وجه ، مثل : « أكرم بني تميم الطوال » ، وهي كالشرط في العود على متعدّد خلافا ، واختيارا.

ومن فروعه ما لو قال : « وقفت على أولادي وأولاد أولادي المحتاجين ». وجليّة الحال واضحة على ما اخترناه. وكذا لو تقدّمت الصفة عليهما ، كأن يقول : « وقفت على المحتاجين من كذا وكذا ».

فصل [46]

ومنها - كما عرفت (5) - : « الغاية » وألفاظها : « حتّى » و « إلى » مثل : ( وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ) (6). فالغاية ، وهي ( حَتَّى يَطْهُرْنَ ) قصرت العامّ ، وهو ( النِّساءَ ) على بعض أفراده ، وهو غير الطاهرات.

و « حتّى » كما تكون مخصّصة للعموم فقد تكون مؤكّدة له ، مثل : « أعتق عبيدي حتّى الأصاغر ».

ص: 796


1- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : 128.
2- حكاه عنه الفخر الرازي في المحصول 3 : 42 و 43 ، وابن الحاجب في المصدر.
3- تقدّم في ص 761. وراجع نهاية الوصول إلى علم الأصول 2 : 235 و 3. والمحصول 3 : 27 و 28 و 69.
4- راجع البهجة المرضية 2 : 51 ، باب النعت.
5- تقدّم في ص 761.
6- البقرة (2) : 222.

وكلّ واحد من الغاية وما قيّد بها قد يكون متّحدا ومتعدّدا على الجمع أو البدل ، فتأتى الأقسام التسعة كما في الشرط.

ومنع جماعة من تعدّد الغاية (1) ؛ لأنّ الشيء الواحد لا يعقل له نهايتان ، فالأشياء المتعدّدة التي يتوهّم كون كلّ منها غاية إن ترتّبت في الوقوع ، كان الأخير غاية ، وإن اتّفقت فيه ، فالمجموع هو الغاية. ثمّ الغاية كالصفة في العود على المتعدّد.

ومنها - كما عرفت (2) - : « بدل البعض » مثل : « أكرم الناس ، العلماء منهم » ، ووجه كونه مخصّصا ظاهر. وحكمه في الرجوع على المتعدّد حكم سابقه.

فصل [47]
اشارة

قد أشرنا - فيما سبق (3) - أنّ ممّا يصلح لأن يخصّص به « الحال » ؛ لأنّه وصف من جهة المعنى ، والتقييد به لو لم يفد لكان لغوا ، ولم يأت في فصيح الكلام ، فيفهم من قول القائل :

« أكرم زيدا صالحا » توقّف الإكرام على صلاحه ، ولو قال : « أنت طالق مريضة » لم تطلّق إلاّ في حال المرض.

وعلى هذا في قول القائل : « أكرم ربيعة صالحين » قصر الحال - وهو « صالحين » - العامّ - وهو « ربيعة » - على بعض أفراده وهو « الصلحاء ». وحكمه في الرجوع إلى متعدّد حكم سابقه.

تذنيب

التمييز وظرفا الزمان والمكان كما يمكن أن يحصل بها تقييد المطلقات - مثل : « أكرم زيدا تكلّما » أو « في هذا اليوم » أو « في هذا المكان » فإنّها قيّدت الإكرام بالإكرام اللساني ، وفي هذا الوقت الخاصّ والمكان الخاصّ - يمكن أن يحصل بها تخصيص العمومات أيضا ،

ص: 797


1- منهم : الفخر الرازي في المحصول 3 : 67 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 337 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 144.
2- عرفت في ص 761.
3- سبق في ص 761.

مثل : « ضرب زيد قوّة » أو « في هذا اليوم » أو « المكان خير من ضرب عمرو » فإنّها خصّصت (1) العامّ وهو « ضرب زيد » ببعض أفراده. وحكمها في الرجوع على المتعدّد حكم الحال.

فصل [48]

قد أشرنا فيما تقدّم (2) أنّ المخصّصات المنفصلة تسعة :

الأوّل : العقل

والحقّ جواز التخصيص به خلافا لطائفة (3).

لنا : قوله تعالى : ( اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (4) ، وقوله : ( وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (5) ؛ فإنّ العقل يحكم بامتناع خلقه لذاته ، وعدم قدرته على إيجاد مثله من كلّ جهة.

ولنا أيضا : قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (6) لحكم العقل بخروج من لا يفهم الخطاب ، كالصبيّ والمجنون.

واحتجّوا بأنّ المخصّص متأخّر ؛ لأنّ التخصيص بيان ، والبيان متأخّر عن المبيّن ، والعقل مقدّم على الخطاب ؛ وبالقياس على النسخ بجامع كونهما بيانا ؛ وبأنّ مثله لو كان تخصيصا لصحّت إرادة العموم لغة ؛ إذ التخصيص فرع كون المخصّص والباقي مسمّيات اللفظ ، وإطلاق اللفظ على مسمّياته صحيح قطعا مع أنّه لو اريد من العمومات المذكورة ما أخرجتم يخطأ لغة (7).

والجواب عن الأوّل : أنّه إن اريد بتأخّر المخصّص تأخّر ذاته ، منعنا الصغرى ، وإن اريد به تأخّر وصفه - أعني كونه مبيّنا - منعنا الكبرى.

ص: 798


1- في « ب » : « مخصّصة ».
2- تقدّم في ص 761.
3- حكاه الآمدي عن طائفة شاذّة من المتكلّمين في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 339.
4- الرعد (13) : 16.
5- المائدة (5) : 120.
6- آل عمران (3) : 97.
7- حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 129.

وعن الثاني بالفرق أوّلا ؛ لأنّ النسخ إمّا بيان انتهاء مدّة الحكم أو رفع الحكم ، وكلاهما ما لا يطّلع عليه عقول البشر بخلاف التخصيص ؛ فإنّ خروج البعض عن الخطاب قد يدركه العقل.

وثانيا : بمنع علّيّة الجامع.

وثالثا : بإبطال أصل القياس بمقطوع اليد ، فإنّ غسلها كان واجبا ، وارتفع الوجوب بقطعها عقلا ، فهو نسخ مستفاد من العقل.

وعن الثالث : بصحّة إرادة الجميع لغة من غير لزوم تخطئة لغة ، وإنّما يلزم الكذب في المعنى ، والحاكم بأنّه كذب يجب الاحتراز عنه بالتخصيص هو العقل دون اللغة ، والخطأ لغة غير الكذب عقلا.

الثاني : الحسّ

مثل : ( وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) (1) ، فإنّه عامّ يتناول السماء والشمس والقمر والعرش والكرسي. والحسّ يخصّصه ؛ إذ يعلم حسّا أنّه لم تؤت من هذه المذكورات شيئا.

وبعضهم لم يعدّه مخصّصا برأسه (2) ؛ لأنّ الحاكم في الحقيقة هو العقل ، وهو آلة له.

الثالث : العادة والعرف الاستعمالي ، وهو على قسمين :

أحدهما : أن يغلب استعمال اسم العامّ في بعض أفراده حتّى صار حقيقة عرفيّة. ولا خلاف في تخصيص العموم به ؛ لأنّ بناء المحاورات على الفهم العرفي ، والمفروض تخصيص الاسم بذلك المسمّى عرفا ، كتخصيص « الدابّة » بذوات الأربع بعد كونها في اللغة لكلّ ما يدبّ (3) ، و « الشواء » باللحم المشويّ بعد كونه في اللغة لكلّ ما يشوى من البيض وغيره (4) ، و « الدار » و « السقف » و « الشمس » و « السراج » و « الوتد » بالمعاني المتعارفة ،

ص: 799


1- النمل (27) : 23.
2- قاله المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل 2 : 452.
3- القاموس المحيط 1 : 67 ، « د ب ب ».
4- لسان العرب 14 : 446 ، « ش. و. ي ».

دون سائر ما يسمّى بها أيضا ، كالشعريّ والآدمي والسماء والجبل (1).

وكيفيّة التفريع غير خفيّة في أبواب الأيمان والنذور.

وثانيهما : أن يطلق اسم العامّ عليه ، إلاّ أنّ الغالب أن لا يذكر معه إلاّ بقرينة ، أو قيد ، وكان المعتاد عند المخاطبين غيره ، ولا يكادون يفهمون عند الإطلاق دخوله فيه.

والحقّ أنّ هذا - أيضا - يخصّ به العامّ ، كتخصيص « أكل الرءوس » بغير رءوس العصافير ونحوها ، و « الأكل من الشجرة » بثمرها ؛ لأنّهما تنصرفان عادة إلى ما ذكر ، ولا يفهم العرف عند إطلاقهما إلاّ ذلك.

ويدلّ على ما اخترناه أنّه لو قال : « اشتر خبزا أو لحما » والمعتاد في البلد تناول خبز البرّ ولحم الضأن لم يفهم سواهما. فغلبة العادة تستلزم غلبة الاسم ، وهي تقتضي تخصّص الحكم بالغالب واعتبار خصوص العادة ، دون عموم العبارة.

ثمّ في اعتبار البلد أو المتكلّم وجهان.

وكيفية التفريع ظاهرة.

واحتجّ الخصم - وهو الأكثر - بأنّ اللفظ عامّ لغة ؛ لأنّه المفروض ، فيجب العمل به حتّى يثبت تخصّصه بدليل ، ولا دليل بالأصل ؛ لأنّه لم يوجد سوى العادة وليست بدليل (2).

والجواب : منع عدم كونها دليلا فيما نحن فيه ، لما عرفت مرارا أنّ بناء التخاطب غالبا على ما يفهمه (3) الناس في عرفهم.

الرابع : العرف الشرعي ، وتخصيص العامّ به ظاهر ، كتخصيص الصلاة بالأفعال المخصوصة بعد كونها لغة لمطلق الدعاء (4).

ص: 800


1- الشعريّ راجع إلى استعمال الدار فيه ، والآدمي إلى استعمال الدابّة فيه ، والسماء إلى استعمال السقف فيه ، والجبل إلى استعمال الوتد فيه. وجعل الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 1. القاعدة 76 ، الشمس ممّا قد يستعمل فيه السراج.
2- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 133.
3- في « ب » : « يفهم ».
4- الصحاح 4 : 2402 ، « ص ل و ».

الخامس : النيّة ، والحقّ جواز تخصيص العامّ وتعميم الخاصّ به (1) ما لم يقم دلالة على خلافه ؛ لأنّ النيّة مؤثّرة في الأفعال ؛ لاعتبارها في العبادات ومعظمها أفعال.

مثال الأوّل : أن يقول : « نسائي طوالق » ويستثني بقلبه واحدة ، أو يقول : « إن لبست الثوب الفلانيّ فأنت عليّ كظهر امّي » ونوى به وقتا مخصوصا ؛ فإنّه يختصّ به ، ويقبل قوله في نيّة ذلك ، أو يحلف أن لا يسلّم على زيد ، فسلّم على جماعة هو فيهم واستثناه بقلبه ، بخلاف ما لو حلف على أن لا يدخل عليه فدخل على قوم هو فيهم واستثناه بقلبه ؛ لأنّ الدخول فعل واحد في نفسه فلا يقبل التخصيص.

ومثال الثاني : أن يحلف أن لا يضربه ، ونوى أن لا يؤلمه ، حنث بكلّ ما يؤلمه من خنق وعضّ وغيرهما ، أو يحلف أن لا يدخل هذا البيت ، وأراد به هجران قوم ساكنين فيه ، فدخل عليهم في بيت آخر ، حنث على ما قيل (2) ، أو حلفت المرأة أن لا تخرج في تهنئة وتعزية ونوت أن لا تخرج أصلا ، حنثت بخروجها لغيرهما.

السادس : فعله صلى اللّه عليه وآله ، كأن يقول : « الوصال في الصوم » أو « استقبال القبلة عند قضاء الحاجة حرام » ، ثمّ يفعل ذلك. وقد صرّح أكثر المسلمين كالإماميّة والحنفيّة والشافعيّة والحنابلة على أنّ العموم يخصّص به ، إلاّ أنّ فيه إجمالا (3).

والتفصيل أن يقال : إنّ حكم الخطاب إمّا يخصّه ، أو يخصّ الامّة ، أو يتناولهما. وعلى التقادير إمّا يقال بوجوب التأسّي مطلقا ، أو في تلك الواقعة ، أو لا.

فإن اختصّ به كأن يقول : « الوصال حرام عليّ دائما » ثمّ واصل كان ذلك تخصيصا في حقّه ، سواء قيل بوجوب التأسّي أم لا ، وهو في الحقيقة نسخ لتحريمه ؛ لارتفاع حكم العامّ (4) بالكلّيّة.

ص: 801


1- أي بالخامس ، وهو النيّة.
2- راجع المغني لابن قدامة 11 : 283.
3- راجع : العدّة في أصول الفقه 1 : 365 - 366 ، والإحكام في أصول الأحكام 2 : 354.
4- أي حكم القول العامّ كما يأتي في ص 803.

وإن اختصّ بالامّة ، أو تناولهما كأن يقول : « استقبال القبلة للحاجة حرام عليكم » أو « على كلّ مكلّف » ثمّ استقبل ، فعلى القول بعدم وجوب التأسّي لا يكون تخصيصا ولا نسخا على الأوّل (1) لا بالنسبة إليه ولا إلينا ، ووجهه ظاهر ، ويكون نسخا في حقّه دون الامّة على الثاني ، وسرّه واضح.

وعلى القول بوجوبه لا يكون تخصيصا ولا نسخا في حقّه صلى اللّه عليه وآله على الأوّل ؛ لعدم اندراجه تحت الخطاب. إنّما الكلام في كونه تخصيصا ، أو نسخا في حقّ الامّة فقط على الأوّل ، وفي حقّه وحقّ الامّة على الثاني ، فذهب جماعة إلى أنّه تخصيص للحكم في حقّ الامّة على الأوّل وفي حقّ الجميع على الثاني (2) ، ويجب عليهم العمل بالفعل سواء ثبت التأسّي في ذلك الفعل بدليل خاصّ ، أو في جميع أفعاله بدليل عامّ.

واحتجّوا عليه بأنّ الفعل خاصّ والحكم عامّ ، والعمل بالخاصّ متعيّن (3).

وأنت خبير بأنّ لزوم العمل بالفعل للجميع نسخ للحكم لا تخصيص له ؛ إذ لا يبقى التحريم حينئذ لا في حقّه ولا في حقّ الغير ، ويرتفع الحكم العامّ بالكلّيّة ، ولا يبقى معمولا به في مادّة ، فلا يكون تخصيصا ، بل نسخا ، فالقائل بوجوب الاتّباع ولزوم العمل بالفعل على الجميع يلزمه القول بكون الفعل ناسخا لا مخصّصا.

ومن قال : إنّه مخصّص فقد غفل ، أو أراد من التخصيص النسخ. وحينئذ يلزم من قول هذه الجماعة إلغاء القول الدالّ على الحكم بالكلّيّة.

وذهب طائفة إلى أنّه إن ثبت الاتّباع في ذلك الفعل بدليل خاصّ فهو نسخ لتحريمه ، وإن ثبت بدليل عامّ في جميع أفعاله ، صار هذا الدليل العامّ مخصّصا بالحكم العامّ (4) ؛ لأنّ الأوّل أعمّ من الثاني ؛ لدلالته على وجوب متابعته في جميع الأفعال ، واختصاص الثاني ببعضها ، فيخرج هو عن الحكم العامّ دون امّته ، فيجب عليهم مقتضى دليل الاتّباع ، ولا يلزم عليهم

ص: 802


1- وهو صورة الاختصاص بالامّة.
2- راجع : المحصول 3 : 82 ، والإحكام في أصول الأحكام 2 : 354 - 355.
3- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : 132.
4- راجع : المستصفى : 276 ، والإحكام في أصول الأحكام 2 : 355.

التأسّي في ذلك الفعل ، فلو قال : « كشف الفخذ حرام على كلّ مكلّف » ثمّ كشف ، وثبت وجوب اتّباعه بمثل قوله تعالى : ( فَاتَّبِعُوهُ ) (1) لصارت الآية مخصّصة بقوله صلى اللّه عليه وآله : حتّى يحرم على الامّة كشف الفخذ ، ولا يلزم عليهم اتّباعه في فعله المخالف له. وهذا هو الحقّ ؛ لأنّ فيه عملا بالعمومين ، أعني قوله الدالّ على الحكم العامّ ؛ حيث ثبت منه حرمة الكشف علينا ، والدليل العامّ على الاتّباع ؛ حيث خصّص بغير ذلك الفعل ، فيثبت منه وجوب التأسّي في غيره ، بخلاف ما لو ابقي الثاني على عمومه وجوّز الكشف للامّة أيضا ؛ فإنّه يلزم إلغاء الأوّل بالكلّيّة.

ولا ريب أنّ الجمع مهما أمكن أولى من إلغاء أحدهما رأسا. وحاصله أنّ ما اخترناه قول بالتخصيص ، وما ذهب إليه من خالفنا (2) قول بالنسخ ، والتخصيص راجح على النسخ.

وعلى ما قرّرناه يظهر أنّ جواب المخالف بأنّ المخصّص مجموع دليل الاتّباع والفعل وهو أخصّ من الحكم العامّ فلا يلزم ما ذكر (3) ، فاسد ؛ لأنّ المجموع يرفع حكم القول العامّ بالكلّيّة فلا يبقى معمولا به في مادّة ليكون مخصّصا بالمجموع ويكون المجموع أخصّ منه ، بل يكون منسوخا ، فيلزم ما ذكر من إلغائه رأسا.

وكيفيّة التفريع أنّ الزاني المحصن يرجم مع أنّ مقتضى عموم قوله تعالى : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا ) (4) أن يجلد ؛ لتخصيصه برجمه الماعز (5).

السابع : تقريره صلى اللّه عليه وآله ، فلو فعل أحد بحضرته ما ينافي العامّ ولم ينكره ، كان مخصّصا للفاعل ؛ لأنّ سكوته دليل جواز الفعل ؛ إذ علم من عادته صلى اللّه عليه وآله أنّه لو لم يكن جائزا لما سكت ، وإذا كان تقريره دليل جواز الفعل لزم التخصيص به ؛ جمعا بين الدليلين.

ثمّ لو تبيّن معنى هو العلّة لتقريره ، حمل على الفاعل من توافقه فيه ، وإلاّ اختصّ به.

والتفريع عليه ظاهر.

ص: 803


1- الأنعام (6) : 153.
2- تقدّما في ص 802.
3- تقدّما في ص 802.
4- النور (24) : 2.
5- تقدّم في ص 449 و 467.

الثامن : الإجماع ، والحجّة على كونه مخصّصا للعموم - مضافا إلى الإجماع - : أنّه دليل معتبر قطعي يجب العمل بمقتضاه ، فيجب التخصيص به جمعا بين الدليلين ، وقد وقع التخصيص به ، كتخصيص آية القذف (1) ؛ فإنّها تدلّ على وجوب ثمانين جلدة للحرّ والعبد ، وأوجبوا على العبد نصف الثمانين ، فخصّوها بالحرّ (2) ، والمخصّص ليس إلاّ الإجماع ؛ لأنّ قوله تعالى : ( فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ ) (3) إنّما ورد في حقّ الإماء ، وقياس العبيد عليها باطل ، ولو سلّم صحّته لم يصلح ناسخا. غاية الأمر أن يكون سندا للإجماع. هذا.

وقد صرّح جماعة بأنّ التخصيص بالإجماع عند التحقيق يكون لتضمّنه نصّا مخصّصا (4) ، فعمل المجمعين على خلاف العامّ مبنيّ على تضمّنه النصّ المخصّص ، حتّى لو أجمعوا على العمل بخلاف ما هو نصّ من غير عموم ، كان إجماعهم متضمّنا لنصّ ناسخ لذلك النصّ ؛ لامتناع عملهم على خلاف النصّ من غير عثورهم على ناسخ له ، ولذا قالوا : إنّ الإجماع لا يكون ناسخا ، وإنّما الناسخ ما يتضمّنه من النصّ. فما قالوا من أنّ الإجماع يكون مخصّصا ولا يكون ناسخا (5) ، مجرّد اصطلاح ، مبنيّ على أنّ النسخ لا يكون إلاّ بخطاب الشرع ، والتخصيص قد يكون بغيره من العقل والعرف وغيرهما. وعند التحقيق لا فرق ؛ إذ كلّ من النسخ والتخصيص في الظاهر بالإجماع ، وفي الواقع بما يتضمّنه من النصّ. وعلى هذا ينبغي أن لا يعدّ الإجماع مخصّصا برأسه.

التاسع : الدليل السمعي من الآيات والأخبار. وفي تخصيص كلّ منهما به أو بالآخر يتصوّر أقسام :

[ القسم ] الأوّل : تخصيص الكتاب بالكتاب. والحقّ جوازه مطلقا.

ص: 804


1- النور (24) : 4 : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا ... ) .
2- حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 132.
3- النساء (4) : 25.
4- راجع : منتهى الوصول لابن الحاجب : 4. ونهاية السؤل 2 : 459.
5- راجع : منتهى الوصول لابن الحاجب : 4. ونهاية السؤل 2 : 459.

ومنعه بعض مطلقا (1).

وفصّل جماعة من العامّة بأنّه إن علم التاريخ فإن كان الخاصّ متأخّرا خصّص العامّ ، وإن كان متقدّما فلا ، بل كان العامّ ناسخا له. وإن جهل التاريخ ، تساقطا ويتوقّف في مورد الخاصّ ويطلب فيه دليل (2). وإن علم المقارنة ، فبعضهم على أنّ الحكم فيه كالحكم عند العلم بتأخّر الخاصّ (3). وبعضهم على أنّ الحكم فيه كالحكم عند جهل التاريخ (4).

لنا : أنّ العامّ والخاصّ دليلان متعارضان ويمتنع العمل بكلّ منهما مطلقا ؛ للزوم التناقض ، وإهمالهما (5) ؛ لما فيه من إلغاء الدليل الخالي عن المعارض ، والعمل بالعامّ في جميع الصور ؛ للزوم إلغاء الخاصّ بالكلّيّة وهو إبطال للقاطع بالمحتمل ؛ لأنّ دلالة الخاصّ على مدلوله قطعيّة ، ودلالة العامّ على العموم محتملة. فتعيّن العمل بالعامّ في غير مورد الخاصّ ، وبه في مورده.

ولنا أيضا : أنّه لو لم يجز لم يقع وقد وقع كثيرا ، كتخصيص قوله تعالى : ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (6) ، وقوله : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ ) إلى ( أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) بقوله : ( وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ ) (7) وتخصيص قوله : ( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ ) (8) بقوله : ( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) (9).

وأنت خبير بأنّ الآيات إنّما تنتهض حجّة على المفصّل لو ثبت تأخّر العامّة منها عن الخاصّتين.

احتجّ المانع مطلقا بأنّ التخصيص بيان ، والبيان لا يحصل إلاّ بقول النبيّ صلى اللّه عليه وآله ،

ص: 805


1- حكاه الفخر الرازي عن بعض أهل الظاهر في المحصول 3 : 77 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 342 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 146.
2- نسبه ابن الحاجب إلى أبي حنيفة والقاضي وإمام الحرمين في منتهى الوصول : 129.
3- نسبه ابن الحاجب إلى بعض الحنفيّة في المصدر.
4- نسبه ابن الحاجب إلى بعض آخر من الحنفيّة في المصدر.
5- هذا وكذا ما يأتي عطف على فاعل « يمتنع ».
6- البقرة (2) : 228.
7- الطلاق (65) : 4.
8- البقرة (2) : 221.
9- المائدة (5) : 5.

لقوله تعالى : ( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (1) و (2).

والجواب ، أمّا أوّلا : فبالمعارضة بقوله تعالى في صفة القرآن : ( تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) (3).

وأمّا ثانيا : فبأنّه يختصّ بالمشتبه.

وأمّا ثالثا : فبأنّ تلاوته بيان ؛ فإنّ كلّ واحد من الكتاب والسنّة ورد على لسانه ، فكان هو المبيّن تارة به وتارة بها (4).

واحتجّ المفصّل بأنّه إذا قال : « اقتل زيدا المشرك » ثمّ قال : « لا تقتلوا المشركين » فكأنّه قال : « لا تقتلوا زيدا ولا عمرا » إلى أن يأتي على جميع الأفراد. ولا ريب أنّه لو قال : « لا تقتل زيدا » لكان ناسخا لقوله : « اقتل زيدا » فكذا ما هو بمنزلته (5).

والجواب : أنّ خصوصيّة « زيد » إذا كان مركوزا بنصوصيّة ، لا يمكن التخصيص ، فيصار إلى النسخ ، بخلاف ما لو كان مركوزا في العموم ؛ فإنّ تخصيصه ممكن فيصار إليه دون النسخ ؛ لرجحانه عليه بغلبته ، وكونه دفعا وكون النسخ رفعا ، والدفع أهون من الرفع.

وفي الثاني (6) نظر يأتي (7).

[ القسم ] الثاني : تخصيص الخبر المتواتر بمثله ، كتخصيص قوله عليه السلام : « فيما سقت السماء العشر » (8) بقوله عليه السلام : « ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة » (9).

[ القسم ] الثالث : تخصيص الخبر الواحد بمثله ، ومثاله ظاهر.

وهذان القسمان كالقسم الأوّل اختيارا ، واستدلالا ، وإيرادا ، وجوابا.

[ القسم ] الرابع : تخصيص الخبر بقسميه بالكتاب ؛ وجوازه ممّا لا ينبغي الريب فيه ؛

ص: 806


1- النحل (16) : 44.
2- حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 130.
3- النحل (16) : 89.
4- أي تارة بالقول وتارة بالتلاوة.
5- حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 131.
6- أي كون الدفع أهون من الرفع.
7- في ص 808 و 816.
8- جامع الاصول 4 :8. 588 ، ح 2668 بألفاظ متفاوتة.
9- جامع الاصول 4 :8. 588 ، ح 2668 بألفاظ متفاوتة.

لبعض ما تقدّم (1) ، ولقوله تعالى : ( تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) (2).

واحتجّ الخصم : بما احتجّ به المانع مطلقا في القسم الأوّل. والجواب الجواب (3).

[ القسم ] الخامس : تخصيص الخبر الواحد بالمتواتر ؛ وجوازه ضروري.

[ القسم ] السادس : تخصيص الكتاب بالخبر المتواتر. ويدلّ على جوازه - مضافا إلى الإجماع - بعض ما تقدّم (4) ، ووقوعه ، كتخصيص قوله تعالى : ( يُوصِيكُمُ اللّهُ ) (5) الآية ، بقوله : « القاتل لا يرث » (6) ولو لم يجز ، لم يقع.

[ القسم ] السابع : تخصيص الكتاب بالخبر الواحد.

والحقّ جوازه مطلقا وفاقا لأكثر المحقّقين.

وأنكره جماعة مطلقا ، منهم المرتضى (7) والشيخ (8) من أصحابنا.

وفصّل ثالث بالجواز إن كان العامّ قد خصّ من قبل بقاطع متّصلا كان أو منفصلا ، وعدمه إن لم يخصّ من قبل مطلقا ، أو خصّ بدليل ظنّي (9).

ورابع بالجواز إن كان قد خصّ من قبل بدليل منفصل ، قطعيّا كان أو ظنّيّا ، وعدمه إن لم يخصّ به ، خصّ بغيره أم لا (10).

وتوقّف جماعة (11).

لنا : ما تقدّم (12) من أنّهما دليلان تعارضا ، وإعمالهما ولو من وجه أولى من طرح الواحد

ص: 807


1- ص 805.
2- النحل (16) : 89.
3- تقدّم في ص 806.
4- ص 804.
5- النساء (4) : 11.
6- سنن ابن ماجة 2 : 305 - 306 ، وسنن الدارقطني : 465 ، والسنن الكبرى 6 : 219 - 221.
7- الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 280 - 281.
8- العدّة في أصول الفقه 1 : 344.
9- حكاه الشيخ عن عيسى بن أبان في العدّة في أصول الفقه 1 : 344 ، والفخر الرازي في المحصول 3 : 85.
10- نسبه الفخر الرازي إلى الكرخي في المحصول 3 : 85.
11- منهم القاضي أبو بكر على ما حكاه عنه السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 28 ، والفخر الرازي في المحصول 3 : 85 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 149.
12- تقدّم في ص 805.

رأسا ، وشيوعه من الصحابة والتابعين من غير نكير (1).

ومنه : تخصيص قوله : ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) (2) بقوله عليه السلام : « لا تنكح المرأة على عمّتها ولا على خالتها » (3) وليس المخصّص في مثله هو الإجماع ؛ لأنّهم أجمعوا على التخصيص بخبر الواحد ، فالتخصيص بالخبر (4) ، والإجماع دليله (5).

احتجّ المانع بأنّ الكتاب قطعي والخبر ظنّي ، والظنّي لا يعارض القطعي ؛ وبأنّه لو خصّص لنسخ ؛ إذ النسخ تخصيص في الأزمان ؛ وبقوله عليه السلام : « إذا روي عنّي حديث فأعرضوه على كتاب اللّه ، فإن وافقه فاقبلوه ، وإن خالفه فردّوه » (6) ؛ فإنّه يدلّ على أنّ كلّ خبر مخالف للكتاب مردود ، وخبر الواحد الخاصّ مخالف لعموم الكتاب ؛ فيكون مردودا (7).

والجواب عن الأوّل : أنّ الكتاب وإن كان مقطوع المتن إلاّ أنّه مظنون الدلالة ، والخاصّ عكسه ، فتساويا وتعارضا ، فجمع بينهما.

وعن الثاني : أنّ عدم النسخ للإجماع على أنّ التخصيص أهون من النسخ ، ولا يلزم من تأثير الشيء في الضعيف تأثيره في القويّ.

وعن الثالث : النقض بالمتواتر. والحلّ بأنّ المراد من الخبر المخالف المردود ما لا يحصل الظنّ الغالب بصدقه ؛ لعدم الوثوق براويه ، ولذا لا يمكن أن يقاوم الكتاب.

احتجّ المفصّلان بأنّ الخاصّ لظنّيته لا يعارض العامّ لقطعيّته إلاّ أن يضعف (8) ، وذلك (9) عند كلّ منهما بما ذكرناه (10).

ص: 808


1- ذكره ابن الحاجب في منتهى الوصول : 131.
2- النساء (4) : 24.
3- الكافي 5 : 445 ، باب نوادر في الرضاع ، ح 11 ، وتهذيب الأحكام 7 : 292 ، ح 1229.
4- متعلّق بالمقدّر خبر للتخصيص ولا يكون متعلّقا به.
5- ذكره ابن الحاجب في منتهى الوصول : 131.
6- تهذيب الأحكام 7 : 274 ، ح 1169 ، والاستبصار 3 : 157 ، ح 573.
7- راجع المحصول 3 : 85.
8- ذكره ابن الحاجب في منتهى الوصول : 131.
9- أي ضعف القاطع بما ذكره. والمراد بما ذكره هو تخصيص العامّ القاطع أوّلا بالقاطع أو بالمنفصل.
10- في « أ » : « ذكره ».

والجواب : منع لزوم الضعف بالتخصيص ، وقطعيّة العامّ من كلّ وجه كما تقدّم (1).

احتجّ المتوقّف بأنّ لكلّ منهما قوّة من وجه ، فتكافئا ، فيلزم التوقّف (2).

والجواب : أنّ الترجيح للخاصّ ؛ إذ في اعتباره جمع بين الدليلين ، وهو أولى من إبطال أحدهما أو كليهما.

وإذ عرفت ذلك ، فلا يخفى عليك كيفيّة التفريع.

[ القسم ] الثامن : تخصيص الخبر المتواتر بخبر الواحد ، وهو كسابقه خلافا ، واختيارا ، واحتجاجا ، وإيرادا ودفعا.

فصل [49]

الأكثر على جواز تخصيص المنطوق بالمفهوم ، سواء فيه مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة ، كتخصيص قوله عليه السلام : « في الغنم زكاة » (3) بمفهوم قوله : « في الغنم السائمة زكاة » (4). والحجّة عليه أنّه دليل شرعي عارض مثله ، وفي اعتباره جمع بين الدليلين وهو أولى من إهمال أحدهما أو كليهما بالكلّيّة.

احتجّ الخصم بأنّ المفهوم أضعف من المنطوق ، فلا يعارضه (5).

والجواب : منع كون دلالة المفهوم أضعف من دلالة العامّ بالنسبة إلى خصوصيّة الخاصّ ، بل أكثر صور المفهوم - التي هي حجّة (6) - لا يقصر في القوّة عن دلالة العامّ على خصوصيّات الأفراد ؛ لشيوع تخصيص العمومات. ولو سلّم فنقول : إنّ ضعفه بالنسبة إليه لم يبلغ حدّا ينمحي معه ، فلا يعارضه فطرح وترك الجمع الأولى.

ويتفرّع عليه وجوب تخصيص قوله عليه السلام : « خلق اللّه الماء طهورا لا ينجّسه شيء إلاّ ما

ص: 809


1- في ص 805.
2- ذكره ابن الحاجب في منتهى الوصول : 131.
3- جامع الاصول 4 : 593 ، ح 2671.
4- تهذيب الأحكام 4 : 2 ، ح 2 ، والاستبصار 2 : 2 ، ح 2.
5- حكاه ابن الحاجب بعنوان « إن قيل » في منتهى الوصول : 132.
6- كذا في النسختين. وحقّ العبارة أن تكون هكذا : « التي هو حجّة فيها ».

غيّر طعمه أو لونه أو ريحه » (1) بمفهوم « إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل خبثا » (2).

فصل [50]

الحقّ أنّ مذهب الراوي لعامّ على (3) خلاف العموم ليس مخصّصا له ، سواء كان الراوي صحابيّا أو غيره ؛ لأنّ العموم دليل ، ومذهبه ليس بدليل.

واحتجاج الخصم بأنّ مخالفته تستدعي دليلا وإلاّ انقدحت روايته (4) ، مندفع بأنّه ربما ظنّه دليلا ولم يكن.

ومثاله : رواية أبي هريرة وعمله في الولوغ ، فإنّه روى : « غسل الإناء منه سبعا » (5) ، وعمله أنّه يجب الغسل ثلاثا من ولوغ الكلب (6). ورواية ابن عبّاس عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله : « من بدّل دينه فاقتلوه » (7) مع أنّ مذهبه أنّ المرتدّة لا تقتل ، بل تحبس (8) ، وهو قول الأصحاب (9) ؛ لأخبار وردت عن الأئمّة عليهم السلام (10) فهي المخصّصة عندنا.

فصل [51]

قد اختلف العامّة في جواز التخصيص بالقياس على أقوال متكثّرة لا فائدة في إيرادها ، وما يقتضيه النظر أنّ ما ثبت حجّيّته يجوز أن يكون مخصّصا ؛ لما تقدّم (11) من أنّ إعمال الدليلين ولو من وجه أولى من طرح واحد أو كليهما ، دون غيره (12) ، ووجهه ظاهر ، فعندنا لا يمكن أن

ص: 810


1- وسائل الشيعة 1 : 135 ، أبواب الماء المطلق ، الباب 1 ، ح 9.
2- سنن الترمذي 1 : 97 ، ح 67 ، وسنن الدارمي 1 : 186 - 187 ، وسنن أبي داود 1 : 17 ، ح 63 و 65.
3- « على » متعلّق بقوله : « مذهب » و « لعامّ » متعلّق بقوله : « الراوي ».
4- حكاه ابن الحاجب عن الحنفيّة والحنابلة في منتهى الوصول : 133.
5- حكاه الشيخ في العدّة في أصول الفقه 1 : 363.
6- حكاه عنه الشيخ في المصدر.
7- سنن ابن ماجة 2 : 848 ، ح 2535 ، وصحيح البخاري 3 : 1098 ، ح 2854.
8- راجع الامّ 5 : 167.
9- راجع : المبسوط 8 : 282 ، والسرائر 2 : 707.
10- تهذيب الأحكام 10 : 143 ، ح 565 ، ووسائل الشيعة 28 : 330 ، أبواب حدّ المرتدّ ، الباب 4 ، ح 1.
11- تقدّم في ص 803.
12- أي دون غير ما ثبت حجّيّته.

يكون المستنبطة مخصّصة ، كأن يخصّ من قوله تعالى : ( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ) (1) المتناول للمديون وغيره ، المديون قياسا على الفقير.

والمنصوص على علّته يجوز أن يكون مخصّصا ، كتخصيص : ( وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (2) بما عدا بيع الزبيب بالعنب بقياسه على [ بيع ] (3) التمر بالرطب ، المعلّل منعه بالنقصان عند الجفاف.

فصل [52]

إفراد بعض ما تناوله العامّ لا يخصّص ؛ لأنّ التخصيص مشروط بالتنافي ولا تنافي هنا ، مثاله قوله صلى اللّه عليه وآله : « أيّما إهاب دبغ فقد طهر » (4) مع قوله في شاة ميمونة : « دباغها طهورها » (5).

فإن قيل : المفهوم مناف.

قلنا : المفهوم المنافي هنا هو مفهوم اللقب ، وهو مردود. نعم ، إن كان أحد المفاهيم التي ثبتت حجّيّته فلا ريب في كونه مخصّصا ، كما تقدّم (6).

وكيفيّة التفريع : أنّ الإذن لواحد معيّن في البيع أو التزويج أو غيرهما بعد الإذن فيها لجماعة هو منهم لا يكون منعا لغيره من هذه الجماعة. هذا.

وفي حكم ما ذكر بعين الدليل إفراد بعض بحكم أخصّ ممّا حكم به على العامّ ، سواء افرد بالذكر بعد العامّ أو قبله ، فلو أوصى لزيد بخمسة ، وللفقراء بثلاثة وكان زيد فقيرا ، لم يمنع الوصيّة الاولى من دخوله في الثانية (7). وقس عليه أمثاله في أبواب الوصايا والأوقاف.

ص: 811


1- التوبة (9) : 103.
2- البقرة (2) : 275.
3- أضفناه لاستقامة العبارة.
4- جامع الاصول 7 : 106 ، ح 5080 ، وسنن النسائي 7 : 182 - 183 ، ح 4247.
5- سنن النسائي 7 : 183 ، ح 4250.
6- تقدّم في ص 809.
7- فيعطى زيد في المثال ثمانية.
فصل [53]

العامّ إذا تعقّبه ضمير يعود إلى بعض ما يتناوله ، فالحقّ أنّه لا يخصّصه ، وفاقا للشيخ (1) وأكثر المحقّقين.

وقيل : يخصّصه (2).

وقيل بالوقف (3). وإليه ذهب المرتضى (4).

مثاله قوله تعالى : ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (5) مع قوله : ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ ) فإنّ الضمير في « بردّهنّ » للرجعيات.

فعلى ما اخترناه يعمّ الحكم بالتربّص للرجعيّات والبائنات ، وعلى الثاني يختصّ بالرجعيّات ، وعلى الثالث يتوقّف.

لنا : أنّهما لفظان ، وخروج أحدهما عن ظاهره وصيرورته مجازا - إذ تخصيص الضمير مع بقاء المرجع على عمومه يجعله مجازا ؛ لأنّ وضعه على المطابقة للمرجع (6) - لا يستلزم (7) خروج الآخر عن الظاهر.

احتجّ القائل بالتخصيص بأنّ تخصيص الضمير مع بقاء العامّ على عمومه يستلزم مخالفة الضمير للمرجع ، وأنّه باطل (8).

والجواب : منع البطلان ؛ فإنّ الاستخدام شائع ، وباب المجاز واسع ؛ على أنّ الإضمار لا يزيد على إعادة المظهر ، وهو لا يوجب التخصيص.

ص: 812


1- العدّة في أصول الفقه 1 : 385.
2- نسبه ابن الحاجب إلى إمام الحرمين وأبي الحسين في منتهى الوصول : 133 ، ونسبه الأسنوي إلى الشافعي في نهاية السؤل 2 : 489.
3- قاله المحقّق الحلّي في معارج الاصول : 100.
4- الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 303 - 304.
5- البقرة (2) : 228.
6- خبر لقوله : « لأنّ ».
7- خبر لقوله : « وخروج ».
8- حكاه الشيخ حسن في معالم الدين : 137 و 138.

احتجّ المتوقّف بأنّ تخصيص العامّ بما يصحّ عود الضمير إليه يستلزم التجوّز ؛ لأنّ العامّ حقيقة في العموم فاستعماله في الخصوص مجاز ، وإبقاؤه على العموم يقتضي التجوّز في الكناية ؛ لما تقدّم من أنّ وضع الضمير على المطابقة للمرجع (1) ، فإذا خالفه ، كان من باب الاستخدام وهو مجاز ، وإذا تعارض المجازان وجب الوقف (2).

والجواب : أنّ تخصيص العامّ كما يستلزم التجوّز فيه ، يستلزم التجوّز في الضمير أيضا ؛ لإيجاب تخصيص العامّ تخصيصه ؛ لأنّه حقيقة في المرجع الظاهر فيه وهو العامّ لا فيما يراد به ، فإذا رجع إليه لزم التجوّز فيه أيضا ، بخلاف التخصيص في الضمير ؛ فإنّه لا يقتضي مجازيّة العامّ. ولا ريب أنّ التجوّز مهما كان أقلّ كان أرجح.

والقول بأنّ وضعه لما يراد بالمرجع فإذا اريد بالعامّ الخصوص لم يكن الضمير عامّا ليلزم تخصيصه والتجوّز فيه (3) ، خلاف المتبادر ، سيّما لو علم تخصيص العامّ بدليل منفصل. هذا.

مع أنّ التجوّز في الضمير أولى ؛ لأنّ دلالته أضعف من دلالة المظهر.

وأيضا دلالته تابعة ودلالة العامّ أصليّة متبوعة ، ومخالفة الأضعف التابع أولى من مخالفة الأقوى المتبوع.

فإن قيل : لو خصّص العامّ لا يلزم سوى التخصيص ، ولو لم يخصّص يلزم الإضمار ؛ إذ التقدير في الآية حينئذ : « وبعولة بعضهنّ أحقّ » ، وقد تقرّر أنّ التخصيص خير من الإضمار (4).

قلت : لا حاجة في الثاني إلى الإضمار ، بل يتجوّز في الضمير بالتخصيص ، فيلزم فيه تخصيص واحد ، وفي الأوّل تخصيصان.

وإذ عرفت ذلك ، فاعلم أنّه لا فرق في تعقيب العامّ بالضمير المقيّد أن يكون تقييده بحكم عائد إلى البعض ، كما تقدّم (5) مثاله.

ص: 813


1- تقدّما في ص 812.
2- تقدّما في ص 812.
3- أشار إليه الشيخ حسن في معالم الدين : 138 ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : 133.
4- ذكره الشيخ حسن في معالم الدين : 138.
5- تقدّم في ص 812 وهو ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ... ) .

أو بالاستثناء ، كقوله تعالى : ( لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ) (1) إلى قوله : ( وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ ) ، فإنّ المراد بالمستثنى - وهو « من يعفو منهنّ » - الكاملات المالكات لامورهنّ ، وقد تعقّب العامّ وهو النساء مطلقا.

أو بصفة ، مثل : ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ) (2) إلى قوله : ( لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ) يعني الرغبة في الرجعة ، وذلك إنّما يتأتّى في الرجعيّات دون البائنات ، وقد تعقّب العامّ ، أي مطلق النساء.

فصل [54]
اشارة

إذا ورد عامّ وخاصّ ، فإن لم يتنافيا فالحكم فيهما ظاهر. وإن تنافيا فالعموم والخصوص بينهما إمّا أن يكون (3) من وجه ، فيجب اعتبار المرجّحات الخارجة منهما ، فيختلف الحكم باعتبار الموارد.

أو يكون (4) مطلقا ، وحينئذ إمّا أن يكونا من الكتاب ، أو الخبر ، أو أحدهما من الكتاب والآخر من الخبر. والخبر إمّا من النبيّ ، أو العترة عليهم السلام.

وعلى التقادير إمّا يتحقّق التنافي بين منطوقيهما ، أو مفهوميهما ، أو منطوق أحدهما ومفهوم الآخر.

وما كان من الخبر يحتمل أن يكون قطعيّا ، أو ظنّيّا في النقل والدلالة ، أو قطعيّا في أحدهما ظنّيّا في الآخر.

وما كان من الكتاب يحتمل أن يكون قطعيّا أو ظنّيّا في الدلالة ؛ لأنّه قطعيّ النقل البتّة.

وإذا لوحظت هذه الأقسام مع التقديرات الاول يتخرّج احتمالات كثيرة. وعلى كلّ منها إمّا يعلم تاريخهما ، أو لا. وعلى الأوّل إمّا أن يكونا مقترنين ، أو أحدهما مقدّما

ص: 814


1- البقرة (2) : 236.
2- الطلاق (65) : 1.
3- (3 و 4) أي كلّ واحد من العموم والخصوص. والأولى : « أن يكونا ».

والآخر مؤخّرا. وفي صورة تأخّر الخاصّ إمّا أن يكون وروده بعد حضور وقت العمل بالعامّ ، أو قبله.

وإذ عرفت ذلك ، فاعلم أنّ بعض هذه التقديرات غير متحقّق الوقوع في الخارج ، وهو كلّ قطعيّين يتنافى (1) صورة عدم (2) تأخّر الخاصّ عن وقت العمل ؛ فإنّهما لا يتصوّران ؛ إذ حينئذ يكون الخاصّ بيانا - كما يأتي (3) - فيلزم من فرض قطعيّتهما في هذه الصورة التناقض ؛ إذ مقتضى العامّ القطعي هو الحكم على جميع الأفراد في الواقع ، ومنها الخاصّ ، ومقتضى الخاصّ القطعي الذي فرض بيانا خروجه عن الحكم في الواقع ، فيخرج هذا البعض. ولبيان حقيقة الحال في البواقي نقول :

إن كانا مقترنين - بأن يكونا في كلام يعدّ واحدا عرفا ، سواء كان الخاصّ متّصلا أو منفصلا - يلزم بناء العامّ على الخاصّ ، أي كون الخاصّ بيانا له في أيّ تقدير كان من التقديرات المتقدّمة ، ووجهه ظاهر. والظاهر عدم خلاف يعتدّ به فيه.

ولا يتأتّى إمكان القول بالنسخ هنا وإن جوّزناه قبل حضور وقت العمل ؛ لأنّ المصلحة في النسخ بعد حضور وقت العمل تحقّق العمل بالمنسوخ في الزمان ، وقبله - لو جوّز - مجرّد اعتقاد استمرار التكليف ليثاب عليه ظاهرا ، ولا يوجد شيء من المصلحتين في بيان حكم العامّ ثمّ رفعه دفعة من دون فاصلة.

أمّا الاولى ، فلفرض الاقتران ، وأمّا الثانية ، فلفرض كونهما كلاما واحدا عرفا والمخاطب لا يعتقد شيئا إلاّ بعد تمام الكلام.

وإن تقدّم العامّ ، فإن كان ورود الخاصّ بعد حضور [ وقت ] (4) العمل بالعامّ كان نسخا له في أيّ تقدير كان ؛ لقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة.

نعم ، لو علم المتكلّم أنّ المكلّف لا يعمل بالعامّ عند وقت العمل مطلقا أو في مورد الخاصّ ؛ لتعذّره بالنسبة إليه بسبب خارجي ، وعلم المكلّف أنّ المتكلّم أخّر البيان لعلمه

ص: 815


1- كذا في النسختين. ولعلّ في العبارة سقطا ، أو يقرأ الموجود : « متنا في ».
2- في « ب » : « عدمه ».
3- في ص 816.
4- أضفناه للضرورة.

بتعذّر حكم العامّ في مورد الخاصّ ، فالظاهر حينئذ كون الخاصّ بيانا ، إلاّ أنّ الظاهر عدم وجود عامّ وخاصّ بهذه الخصوصيّات. ولو لم يعلم المكلّف ذلك فالراجح كونه بيانا وإن احتمل في الواقع أن يكون التأخير بسبب علم المتكلّم بالتعذير ؛ لأنّ الأصل عدم هذا الاحتمال النادر.

وإن كان قبله (1) ، فالحقّ أنّه مخصّص ومبيّن له ؛ لأولويّة التخصيص على النسخ ، ولا يتصوّر مانع إلاّ تأخير بيان العامّ والحقّ جوازه.

ومن لم يجوّزه بين قائل بكونه ناسخا وهو من لا يشترط في جواز النسخ حضور وقت العمل.

وبين قائل بعدم كونه ناسخا ومبيّنا ، وجاعلهما كالخاصّين المتعارضين في افتقارهما إلى الجمع ، أو الترجيح بمرجّح من خارج ، وهو من يشترط في جواز النسخ حضور وقت العمل.

وإن تقدّم الخاصّ (2).

فالحقّ أنّه مبيّن أيضا وفاقا للأكثر.

وقال المرتضى والشيخ وجماعة : إنّه ناسخ (3).

لنا : أنّ عدم بناء العامّ على الخاصّ يوجب إلغاء الخاصّ إن كان وروده قبل حضور [ وقت ] (4) العمل ، ونسخه إن كان بعده. وبناءه عليه لا يوجب إلاّ التجوّز عند من جعل العامّ المخصّص مجازا فيما عدا المخرج ، وخلاف الظاهر عندنا ، وهو أهون من كلّ من الإلغاء - وهو ظاهر - ومن النسخ ؛ لأنّه شاذّ نادر والتخصيص غالب شائع ، وإلحاق الشيء بالأعمّ الأغلب ذائع ؛ ولأنّ النسخ رفع ، والتخصيص دفع ، والدفع أهون من الرفع ؛ لأنّ الرفع إبطال استدامة الشيء وبقائه ، والبقاء قويّ ؛ لاستغنائه عن العلّة ، فإبطاله مشكل ، والدفع منع

ص: 816


1- أي قبل حضور وقت العمل بالعامّ.
2- منهم : المحقّق الحلّي في معارج الاصول : 98 ، والشيخ حسن في معالم الدين : 143.
3- الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 316 - 317 ، والعدّة في أصول الفقه 1 : 393 ، وغنية النزوع 2 : 325 ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : 141 ، وتهذيب الوصول : 150.
4- أضفناه للضرورة.

إحداث الشيء ، والحدوث ضعيف ؛ لاحتياجه إلى العلّة ، فمنعه هيّن.

وفيه : أنّ الرفع الحقيقيّ غير متصوّر بالنسبة إلى الشارع ، بأن يكلّف على الاستدامة ثمّ ظهر عليه مصلحة لم يكن يعلمها فرفع الاستدامة ؛ إذ ليس لعلمه تجدّد وتغيّر ، فالنسخ إظهار انتهاء التكليف وهو ليس رفعا حقيقة ، بل رفع بحسب الظاهر عندنا.

وأيضا الحقّ افتقار الباقي إلى المؤثّر وخلافه فاسد ، فلا فرق بين البقاء والحدوث في القوّة والضعف ، فالمناط في كون التخصيص أهون ما ذكر أوّلا (1).

احتجّ الخصم بأنّه إذا (2) قال : « اقتل زيدا [ المشرك ] » ثمّ قال : « لا تقتلوا المشركين ... » (3) كما ذكر في بحث تخصيص الكتاب بالكتاب (4).

وجوابه : ما تقدّم هناك (5).

وبأنّ المخصّص بيان للعامّ ، فلا يجوز تقدّمه عليه (6).

والجواب : أنّ المتقدّم ذاته ، وأمّا وصف كونه بيانا ، فمتأخّر.

وبقول ابن عبّاس : « كنّا نأخذ بالأحدث فالأحدث » (7).

والجواب : أنّه - على فرض ثبوته وحجّيّته - محمول على الخاصّ المتأخّر ؛ جمعا بين الدليلين ؛ على أنّ الأخذ بالعامّ على تقدير كونه أحدث أعمّ من العمل في جميع موارده أو بعضها ، فيجب حمله على الثاني جمعا.

ثمّ الفرق بين الخاصّ المتأخّر والعامّ المتأخّر في صورة ورودهما بعد حضور [ وقت ] (8) العمل ؛ حيث حكم في الأوّل بكونه ناسخا دون الثاني ؛ لأنّه لو كان مخصّصا في الأوّل يلزم

ص: 817


1- تقدّم آنفا ، وهو كون التخصيص غالبا شائعا.
2- في العبارة سقط ، لأنّه لم يأت جواب « إذا ». ولكن في ص 806 هكذا : « لا تقتلوا المشركين » فكأنّه قال : « لا تقتلوا زيدا ولا عمرا » إلى أن يأتي على جميع الأفراد.
3- تقدّم في ص 806.
4- تقدّم في ص 804 - 805.
5- تقدّم في ص 805.
6- تقدّم في ص 805.
7- حكاه عنه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 2 : 345.
8- أضفناه لاستقامة العبارة.

تأخير البيان ولا يلزم ذلك في الثاني. وأيضا الحكم بالنسخ في الثاني يستلزم إلغاء الخاصّ بالكلّيّة ، والحكم به في الأوّل لا يستلزم إلغاء العامّ بالكلّيّة.

وإن جهل (1) التاريخ ، فالحقّ أنّه يكون مخصّصا أيضا ؛ لأنّ العلماء لم يزالوا يخصّصون العامّ بالخاصّ مع عدم علمهم بالتاريخ (2) ؛ ولأنّه لا يخرج في الواقع عن أحد الأقسام المتقدّمة وقد حكم بالتخصيص في الجميع ، إلاّ إذا تأخّر الخاصّ وكان وروده بعد حضور وقت العمل بالعامّ ، وفي صورة الجهل ينفى هذا الاحتمال بالأصل. ولو قطع النظر عنه ؛ لأصالة تأخّر الحادث ، نقول : لا ريب في وقوع التردّد بين التخصيص والنسخ ، وقد بيّنّا رجحان الأوّل على الثاني عند احتمالهما (3) ؛ على أنّ في صورة الجهل احتمالات ، واحد منها يحتمل النسخ والبواقي لا تحتمل إلاّ التخصيص ، ويلحق الشيء بالأكثر الغالب ، فذلك أيضا يرجّح التخصيص. هذا.

وقيل : أثر هذا الإشكال - على تقدير ثبوته - عند الإماميّة سهل ؛ لأنّ جهل التاريخ لا يكون إلاّ في الأخبار ، ولا يكاد أن يوجد في القرآن ؛ لأنّ تاريخ [ نزول آيات القرآن ] (4) مضبوط ، واحتمال النسخ لا يتصوّر في أخبار العترة ؛ لعدم تصوّره بعد انقطاع الوحي ، فينحصر في خبر النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو قليل (5).

ويشكل ذلك بوجود الخاصّ كثيرا في كلام العترة ، والعامّ في الكتاب أو خبر النبيّ صلى اللّه عليه وآله.

ولا ريب أنّ الخاصّ وروده حينئذ بعد حضور وقت العمل بالعامّ ، فلقائل أن يقول : إنّ ابتداء النسخ لا يتصوّر منهم ، لا إبداؤه وإظهاره ؛ لأنّهم عليهم السلام كانوا حملة جميع الأحكام ، وخزنة مسائل الحلال والحرام ، وقد أودعهم النبيّ صلى اللّه عليه وآله جميعها ، فيمكن أن يكون انتهاء بعض الأحكام ونسخه بعد زمان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وقد أسرّ صلى اللّه عليه وآله ذلك إليهم ولم يظهر لجميع الامّة ؛ لمصلحة رآها ، فإذا حضر هذا الزمان بيّن وصيّه فيه حكم النسخ.

ص: 818


1- هذا عدل قوله في ص 814 : « وعلى الأوّل » فهو بمنزلة قوله : « وعلى الثاني ».
2- راجع باب العامّ والخاصّ.
3- تقدّم في ص 816.
4- أضفناه من المصدر.
5- قاله الشيخ حسن في معالم الدين : 146.

وعلى هذا نقول : إذا ورد العامّ والخاصّ من المعصومين عليهم السلام لا ريب في إمكان العلم بتقدّم أحدهما من جهة تقدّم الراوي أو المرويّ عنه ، فإن علم تقدّم الخاصّ ، يحكم بالتخصيص مطلقا ؛ لما تقدّم (1).

وإن علم تأخّره فإن كان بينهما زمان قصير أمكن أن لا يحتاج أحد في مثله إلى العمل بالعامّ - سيّما إذا كان الحكم ممّا لا يعمّ به البلوى - لجاز في مثله ورود الخاصّ قبل حضور وقت العمل بالعامّ ، فيحكم حينئذ بكونه مخصّصا أيضا ، مثاله : أن يكونا معا صادرين من معصوم واحد ، أو العامّ من الصادق عليه السلام مثلا والخاصّ من الكاظم عليه السلام.

وإن كان بينهما زمان طويل يبعد أن لا يحتاج فيه أحد إلى العمل بالعامّ كأن يرد العامّ من النبيّ صلى اللّه عليه وآله أو عليّ عليه السلام ، والخاصّ من الصادق أو الكاظم عليهما السلام ، لاستحال عادة في مثله ورود الخاصّ قبل حضور [ وقت ] (2) العمل بالعامّ ، سيّما إذا كان الحكم ممّا يعمّ به البلوى ، فيحكم حينئذ بكونه ناسخا.

تذنيب

ما ذكرناه من العمل بالخاصّ عند التعارض إنّما هو من حيث النظر إلى خصوصيّة العموم والخصوص من غير نظر إلى قوّة كلّ منهما بنفسه وبمرجّحات خارجيّة ، وإلاّ فيختلف حكم الترجيح بالنظر إلى القوّة وانضمام المرجّحات الخارجة إلى أحد الطرفين ، ويكثر الاحتمالات في كلّ من الأقسام.

فلو كان العامّ والخاصّ متكافئين من حيث القوّة في نفسه ، والتأييد بمرجّحات خارجيّة وجودا وعدما ، فلا ريب في وجوب العمل بالخاصّ - كما ذكرناه (3) - وأولى منه لو كان الخاصّ أقوى في نفسه بأن يكون قطعيّا والعامّ ظنّيّا. أو من حيث تأييده بمرجّحات خارجيّة ، بأن يكون مخالفا لمذهب العامّة مثلا ، أو موافقا للقرآن.

ص: 819


1- تقدّم في ص 816 وهو كون التخصيص غالبا شائعا.
2- أضفناه لاستقامة العبارة.
3- في ص 815.

ولو كان العامّ أقوى في نفسه بأن يكون قطعيّا من كلّ وجه - وإن كان بعيد التصوّر ؛ نظرا إلى أنّه لا يمكن أن يكون قطعيّ الدلالة على جميع موارده لتناول (1) مورد الخاصّ ؛ لشيوع تخصيص العمومات ؛ على أنّ القطع بإفادة صيغ العموم له مشكل ؛ لكثرة الاختلاف الواقع فيها حتّى ذهب بعضهم إلى أنّه لم يوضع للعموم صيغة أصلا (2) - ويكون الخاصّ ظنّيّا ، فإن لم يبلغ قوّة العامّ وضعف الخاصّ حدّا يضمحلّ في جنبه بحيث لا يمكنه التقاوم ، فيمكن العمل بالخاصّ أيضا ، ومجرّد قطعيّة العامّ وظنّيّة الخاصّ لا يوجب طرح الخاصّ ؛ لأنّ الظنّي المعتبر شرعا يجب العمل به ، ويجوز أن يتعارض القطعيّ إذا كان الدالّ على حجّيّته قطعا.

وإن بلغا حدّا اضمحلّ الخاصّ وفقد التقاوم ، فاللازم العمل بالعامّ وطرح الخاصّ ، ووجهه ظاهر.

وكذا الحكم إذا كان العامّ أقوى من حيث تأييده بمرجّحات خارجة ، فما ورد في بعض الأخبار من وجوب الأخذ عند التعارض بموافق القرآن (3) ، أو مخالف العامّة (4) ، أو غير ذلك لا يخالف ما ذهب إليه القوم من بناء العامّ على الخاصّ (5) ؛ نظرا إلى إمكان كون العامّ موافق القرآن أو مخالف العامّة ؛ لأنّهم قالوا به عند فقد مرجّحات أخر.

ويمكن أن يدفع التخالف بحمل التعارض في الروايات على ما لا يمكن الجمع بينهما بوجه ويجب طرح أحدهما ، فيطرح المخالف للقرآن أو الموافق للعامّة ، وفيما نحن فيه يمكن الجمع بحمل العامّ على الخاصّ إلاّ أنّ ذلك لو لم يترجّح العامّ بحيث يفقد التقاوم بينه وبين الخاصّ.

وإذ عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الفروع له أكثر من أن تحصى ، كتخصيص قوله عليه السلام : « في الرقّة (6)

ص: 820


1- أي لتتناول بحذف إحدى التاءين.
2- ذكره الشيخ في العدّة في أصول الفقه 1 : 396 ، ونسبه ابن الحاجب إلى قوم في منتهى الوصول : 102.
3- وسائل الشيعة 27 : 3. أبواب صفات القاضي ، الباب 9 ، ح 29.
4- وسائل الشيعة 27 : 4. أبواب صفات القاضي ، الباب 9 ، ح 29.
5- تقدّم في ص 815.
6- « الرّقّة » : كلّ أرض إلى جنب واد ينبسط عليها الماء أيّام المدّ ، ثمّ ينحسر عنها وينضب ، فتكون مكرمة للنبات. الصحاح 1438:3، والمعجم الوسيط: 366، «ر ق ق».

ربع العشر » (1) بقوله : « ليس فيما دون خمسة أواق من الورق صدقة » (2). وتخصيص قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ... ) (3) الآية ، بأشياء كثيرة دلّت على تحريمها السنّة ، كالجرّي ، والمارماهي ، والخمر (4) ، وغيره من الأنبذة وما أشبهها ، وتخصيص ما دلّ عليه الكتاب - من إباحة نكاح الأربع (5) ، وكون العدّة للمتوفّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا (6) ، وقسمة جميع تركة الميّت بين جميع الورثة (7) ، وتسويغ النكاح من سوى المعدودات بالحرّ ، والحرّة ، وغير ما يحبى به الولد الأكبر وغير القاتل والكافر والرقّ ، وما عدا المنكوحة في العدّة ، والمطلّقة تسعا للعدّة.

ص: 821


1- مسند أحمد 1 : 22 ، ح 73.
2- صحيح البخاري 2 : 524 ، ح 1378.
3- الأنعام (6) : 145.
4- وسائل الشيعة 24 : 130 - 137 ، الباب 9 من أبواب الأطعمة والأشربة ، ح 1 - 23.
5- النساء (4) : 3.
6- البقرة (2) : 234.
7- النساء (4) : 41.

الباب الثالث : في المطلق والمقيّد

اشارة

قد عرفت أنّ المطلق ما دلّ على الماهيّة من حيث هي (1) لا بقيد وحدة ولا تعدّد ، أو على شائع في جنسه ، فالمقيّد خلافه ، وهو ما يدلّ لا على الماهيّة ، أو لا على شائع في جنسه ، فيدخل فيه العمومات والمعارف كلّها.

وقد يطلق المقيّد على معنى آخر هو المراد هاهنا ، المناسب لتعريف الخاصّ ، وهو ما اخرج عن شائع بوجه من الوجوه ، نحو : « رقبة مؤمنة » فإنّ الرقبة كانت شائعة بين المؤمنة وغير المؤمنة ، فازيل هذا الشياع بتقييدها بالمؤمنة (2).

فصل
اشارة

إذا ورد مطلق ومقيّد ، فإن اختلف حكمهما (3) ، فلا يحمل أحدهما على الآخر بوجه من الوجوه وفاقا ؛ لعدم المنافاة سواء كان الخطابان المتضمّنان لهما أمرين ، مثل : « أكرم رجلا » [ و ] (4) « أطعم رجلا عالما » أو نهيين ، مثل : « لا تضرب الرجل » [ و ] (5) « لا تشتم الرجل الصالح » - حيث لا يقصد الاستغراق ، وإلاّ كان من تخصيص

ص: 822


1- تقدّم في ص 701.
2- فمصداق « المقيّد » في المثال هو نفس الرقبة ، كما أنّ الرقبة في « أعتق رقبة » هي مصداق المطلق.
3- اختلاف الحكم - مع أنّه في الأمثلة كلّها هو الوجوب أو الحرمة - باختلاف المتعلّق ، فوجوب المتعلّق بالإكرام غير الوجوب المتعلّق بالإطعام ، فليس المراد من اختلاف الحكمين اختلافهما في النوع كالوجوب والحرمة والاستحباب بل المراد من الحكم هو المتعلّق كما يصرّح به في ص 823 بقوله : « مع كون الإعتاق والملك حكمين مختلفين ».
4- (4 و 5) أضفناه للضرورة.
5- (4 و 5) أضفناه للضرورة.

العامّ لا تقييد المطلق - أو مختلفين ، نحو : « لا تضرب الهاشمي » و « أكرم الهاشمي العارف ».

وسواء اتّحد سببهما ، كأن يقول : « إن أدّبت رجلا فاضربه » و « إن أدّبت رجلا مؤمنا ، فلا تشتمه ». ومنه : قوله تعالى : ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ) (1) مع قوله في آية الوضوء : ( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) (2) ، فإنّ السبب - وهو التطهير - فيهما واحد ، والحكم مختلف فيهما بالمسح والغسل ، أو اختلف كأن يبدّل الثاني بقوله : « إن لاقيت رجلا مؤمنا فلا تشتمه » ومنه : قوله تعالى : ( فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ) (3) ، مع قوله ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (4) ، فلا يقتضي تقييد المساكين بالعدالة.

إلاّ (5) في مثل أن يقول : « إن ظاهرت فأعتق رقبة » و « لا يملك رقبة كافرة » فإنّه يقيّد المطلق بنفي الكفر مع كون الإعتاق والملك حكمين مختلفين ؛ لتوقّف الإعتاق على الملك ، وهو ظاهر.

وإن اتّحد حكمهما ، فإمّا أن يتّحد سببهما ، أو يختلف ، وعلى التقديرين إمّا أن يكونا مثبتين ، أو منفيّين ، أو مختلفين ، فهذه ستّة أقسام :

[ القسم ] الأوّل : أن يتّحد سببهما ويكونا مثبتين ، مثل « إن ظاهرت فأعتق رقبة » [ و ] (6) « إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة » ، وقوله تعالى : ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ) (7) ، مع قوله : ( وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ ) (8) ، وقوله : ( وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ) (9) ، مع قوله : ( مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ ) (10) ، وقوله صلى اللّه عليه وآله : « الحمّى من فيح جهنّم ، فابردوها

ص: 823


1- النساء (4) : 43.
2- المائدة (5) : 6.
3- المجادلة (58) : 4.
4- الطلاق (65) : 2.
5- هذا استثناء من صورة اختلاف الحكم لا اختلاف السبب وهو قوله : « فإن اختلف حكمهما فلا يحمل أحدهما على الآخر ».
6- أضفناه للضرورة.
7- المائدة (5) : 5.
8- البقرة (2) : 217.
9- البقرة 9. : 282.
10- البقرة 10. : 282.

بالماء » (1) مع قوله في خبر آخر : « فابردوها من ماء زمزم » (2) ، وقوله صلى اللّه عليه وآله : « خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم » (3) ومنها : الغراب ، وتقييد الغراب في خبر آخر بالأبقع (4). ويجب فيه حمل المطلق على المقيّد إجماعا تقارنا أو تقدّم أحدهما ؛ لأنّ فيه إعمال الدليلين ؛ لأنّ العمل بالمقيّد يلزم منه العمل بالمطلق بخلاف العكس ؛ لحصوله في ضمن غير ذلك المقيّد.

ولا ريب أنّ الجمع أولى من طرح واحد رأسا ؛ ولأنّه يقتضي تيقّن البراءة والخروج عن العهدة بخلاف العكس ؛ لإمكان أن يكون مكلّفا بالمقيّد وعمل بالمطلق في ضمن غير المقيّد ، فلا يبرأ.

واورد عليهما بأنّ طرح أحد الدليلين ، وعدم الخروج عن عهدة التكليف في صورة العمل بالمطلق فرع انتفاء احتمال التجوّز في لفظ المقيّد (5) ، واليقين باشتغال الذمّة بالتكليف ، وهنا يحتمل أن يراد من المقيّد التأكيد ، أو الاستحباب - بمعنى كونه أفضل الأفراد - أو الوجوب التخييري ، أو غير ذلك ممّا يناسب كلّ موضع ، فلا يلزم حينئذ من العمل بالمطلق طرح أحد الدليلين ، ولا عدم الخروج عن عهدة التكليف ؛ لأنّ التكليف اليقيني يحتاج إلى تحصيل اليقين بالخروج عن العهدة (6).

نعم ، إذا انتفى هذه الاحتمالات تعيّن العمل بالمقيّد ؛ لما ذكر.

والجواب عنه : أنّه يلزم منه التجوّز وهو خلاف الأصل.

فإن قيل : إرادة المقيّد من المطلق تجوّز أيضا ، فيحصل التعارض المقتضي للتساقط أو التوقّف ، ويبقى المطلق سالما عن المعارض.

ص: 824


1- سنن ابن ماجة 2 : 1149 ، ح 3471 ، وصحيح البخاري 3 : 1191 ، ح 3091.
2- صحيح البخاري 3 : 1190 ، ح 3088.
3- عوالي اللآلئ 1 : 36 ، ح 22.
4- الفقيه 2 : 363 ، ح 2720.
5- في العبارة مسامحة واضحة ، فإنّ التجوّز ليس في رقبة مؤمنة بل في هيئة « أعتق » بحمله على الاستحباب مثلا ، إلاّ أن يراد من المقيّد الدليل المقيّد الشامل لأعتق.
6- راجع نهاية الوصول إلى علم الأصول 2 : 382 ، باب المطلق والمقيّد.

قلنا : لا نسلّم أنّ إرادة المقيّد من المطلق تجوّز ؛ لأنّ شمول الماهيّة أو الحصّة منها لكلّ من أفرادها على سبيل الحقيقة وإن اريد هذا الفرد خاصّة منها ؛ لما تقدّم في العامّ المخصوص (1).

ولو سلّم فنقول : لا ريب في أنّ المجاز اللازم من إرادة المقيّد من المطلق راجح بالنسبة إلى المجاز اللازم من إرادة التأكيد ، أو الاستحباب ، أو الوجوب التخييري من المقيّد ؛ لبعد هذه الاحتمالات وندورها ، وهو ظاهر. هذا.

والحقّ ، أنّ المقيّد المعمول به بيان للمطلق لا نسخ له ، سواء تقدّم عليه أو تأخّر عنه.

وقيل : نسخ له إن تأخّر عن المطلق (2).

لنا : أنّ الإطلاق نوع من العموم ؛ لأنّ المراد من « الرقبة » مثلا أيّ فرد كان من أفراد الرقبة ، فيصير عامّا إلاّ أنّه على البدل ، فالتقييد نوع من التخصيص ، فيكون المقيّد المتأخّر عن المطلق - بعين الدليل الدالّ على أنّ الخاصّ المتأخّر مبيّن لا ناسخ - مبيّنا لا ناسخا.

احتجّ الخصم بأنّ المقيّد لو كان بيانا للمطلق ، لكان المراد من المطلق هو المقيّد ، فيكون مجازا فيه ، وهو فرع دلالته عليه وهي منتفية ؛ إذ لا دلالة للمطلق على مقيّد خاصّ (3).

وهو مندفع بما ذكرنا من أنّ التقييد نوع من التخصيص (4) ؛ على أنّ ذلك لازم على الخصم إذا تقدّم المقيّد ، وفي (5) تقييده ببعض الصفات اللازمة كتقييد الرقبة بالسليمة مثلا.

[ القسم ] الثاني : أن يتّحد سببهما ويكونا منفيّين ، مثل أن يقول في كفّارة الظهار : « لا يعتق المكاتب » [ و ] (6) « لا يعتق المكاتب الكافر » - حيث لا يقصد الاستغراق - ولا خلاف في وجوب العمل بكلّ منهما وعدم جواز حمل المطلق على المقيّد ؛ لعدم

ص: 825


1- تقدّم في ص 815.
2- قاله السرخسي في اصوله 1 : 159.
3- استدلّ به الشيخ حسن في معالم الدين : 155.
4- تقدّم آنفا.
5- كذا في النسختين. والظاهر أنّه عطف على « إذا ».
6- أضفناه للضرورة.

المنافاة بينهما ، فلا يجزي إعتاق المكاتب أصلا ؛ لأنّ نفي الماهيّة إنّما يتحقّق بنفي كلّ فرد منها.

[ القسم ] الثالث : أن يتّحد سببهما ويكونا مختلفين ، كأن يقول في كفّارة الظهار : « أعتق المكاتب » و « لا يعتق المكاتب الكافر » ، ويجب فيه حمل المطلق على المقيّد ؛ لما ذكرنا (1) من أولويّة الجمع على طرح واحد رأسا.

[ القسم ] الرابع : أن يختلف سببهما ويكونا مثبتين ، كأن يقول : « إن ظاهرت أعتق رقبة » و « إن قتلت أعتق رقبة مؤمنة ».

[ القسم ] الخامس : أن يختلف سببهما وكانا منفيّين ، كأن يقول : « إن ظاهرت لا تعتق المكاتب » و « إن قتلت لا تعتق المكاتب الكافر ».

[ القسم ] السادس : أن يختلف سببهما وكانا مختلفين ، كأن يقول : « إن ظاهرت أعتق رقبة » و « إن قتلت لا تعتق رقبة كافرة ».

وفي هذه الأقسام الثلاثة لا يحمل المطلق على المقيّد ، بل يعمل بهما ؛ لعدم المقتضي للحمل ، وعدم المنافاة للعمل بهما.

وذهب جماعة من العامّة إلى تقييد المطلق فيها إن اقتضى القياس تقييده (2).

وبطلانه ظاهر عندنا.

وكيفيّة التفريع أنّه ورد في بعض الأخبار في كيفيّة الاستنجاء بالأحجار بأنّه بثلاث مسحات مطلقة (3) ، وفي بعضها : بأنّه بثلاث أحجار ومثلها (4) ، فعلى ما ذكرنا يجب حمل المطلق - وهو المسحات - على المقيّد - وهو الأحجار - فيحكم بتعدّد الأحجار ، ولا يكفي ذو الجهات الثلاث.

وأيضا ورد في بعض الأخبار النهي عن إجارة الأرض للزراعة بالحنطة والشعير مطلقا (5) ،

ص: 826


1- تقدّم في ص 824.
2- راجع : المحصول 3 : 145 ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : 135 و 136.
3- عوالي اللآلئ 2 : 185 ، ح 59.
4- راجع وسائل الشيعة 1 : 315 و 348 ، أبواب الخلوة ، الباب 9 و 30.
5- المصدر 19 : 138 ، كتاب الإجارة ، الباب 26.

وورد في بعضها النهي عنها مقيّدا بما يخرج منها (1) ، وحمل الأكثر المطلق منها على المقيّد. وهو غير جيّد ؛ لأنّهما ناهيتان ، فلا افتقار إلى الجمع ؛ لعدم المنافاة ، كما عرفت (2).

ومثله قوله صلى اللّه عليه وآله : « لا تبيعوا الذهب بالذهب إلاّ مثلا بمثل » (3) مع قوله في خبر آخر : « إلاّ يدا بيد » (4). وليس تقييد قوله عليه السلام : « في كلّ أربعين شاة شاة » (5) بقوله : « في الغنم السائمة زكاة » (6)من حمل المطلق على المقيّد ، بل من تخصيص العامّ بالمفهوم.

تذنيب

إذا ورد حكم مطلقا ومقيّدا بقيدين متضادّين تساقطا وبقي المطلق على إطلاقه ، وإلاّ لزم التناقض أو التحكّم.

نعم ، إن ثبت الدلالة على اعتبار أحد المقيّدين دون الآخر ، أو رجحانه ، تعيّن العمل به.

مثاله : قد ورد الأمر ببعض الصيام مطلقا ، كالأمر بقضاء رمضان في قوله تعالى : ( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) (7) ، وببعضها مقيّدا بالتفريق ، كالأمر بقضاء صوم المتمتّع في قوله تعالى : ( فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ ) (8) ، وببعضها مقيّدا بالتتابع ، كالأمر بصوم كفّارة الظهار في قوله : ( فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ ) (9) ، فعلى ما ذكر يتساقط القيدان ويبقى المطلق سليما ، فكلّ صوم لم يثبت فيه التفريق أو التتابع بدلالة من خارج لا يحكم باشتراط أحدهما فيه.

وأيضا ورد : « أنّه إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا : إحداهنّ بالتراب » (10) ،

ص: 827


1- المصدر : 56 ، أبواب المزارعة والمساقاة ، الباب 16 ، ح 11.
2- في ص 825.
3- عوالي اللآلئ 1 : 391 ، ح 32.
4- الكافي 5 : 251 ، باب الصروف ، ح 31 ، وتهذيب الأحكام 7 : 99 ، ح 426 ، والاستبصار 3 : 93 ، ح 318.
5- سنن ابن ماجة 1 : 577 ، ح 1805 ، وسنن الترمذي 3 : 17 ، ح 621.
6- تقدّم في ص 809.
7- البقرة (2) : 184.
8- البقرة (2) : 196.
9- النساء (4) : 92.
10- سنن ابن ماجة 1 : 130 ، ح 363 ، وصحيح مسلم 1 : 234 ، ح 92 / 279.

وروي : « اخراهنّ بالتراب » (1) ، وروي « أولاهنّ بالتراب » (2). فعلى القاعدة ينبغي إسقاط قيدي الأوّلية والآخريّة ، وجعل المرّة الترابيّة إحدى السبع في أيّ مرتبة كانت ، لكنّ رواية « اولاهنّ » عندنا أشهر ، فترجّحت بهذا الاعتبار.

تنبيه

اعلم أنّ جميع ما ذكر في تخصيص العامّ - من المتّفق عليه ، والمختلف فيه ، والمختار ، والمزيّف - يجري في تقييد المطلق ، فتذكّر.

ص: 828


1- سنن الدارقطني 1 : 65.
2- صحيح مسلم 1 : 234 ، ح 91 / 279.

الباب الرابع : في المجمل والمبيّن

اشارة

المجمل لغة : المجموع (1) ، وجملة الشيء مجموعه ، ومنه : أجملت الحساب ، أي جمعته. واصطلاحا : ما دلّ على أحد محتملاته دلالة مساوية ، أو ما لا يستقلّ بنفسه في معرفة المراد به ، أو ما لم يتّضح دلالته. وقد حدّ بحدود أخر كلّها مزيّفة ، لم نر جدوى في إيرادها.

فصل [1]

المجمل إمّا فعل ، أو لفظ مفرد ، أو مركّب.

والفعل المجمل ما لا يقترن به ما ينبئ عن وجه وقوعه.

والمفرد المجمل ما يكون متردّدا بين معانيه بالأصالة أو بالإعلال ؛ والثاني ك- « المختار » المتردّد بين الفاعل والمفعول ؛ إذ لو لا الإعلال ، انتفى الإجمال ؛ والأوّل إمّا أن يكون متردّدا بين حقائقه وهو المشترك ك- « العين » أو أفراد حقيقة واحدة ، مثل : ( أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) (2) و ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) (3) أو مجازاته إذا انتفت الحقيقة وتساوت المجازات ، فإن ترجّح واحد لكونه أقرب إلى الحقيقة ، أو أعظم مقصودا ، كتحريم الأكل من ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) (4) ، حمل عليه.

ص: 829


1- لسان العرب 11 : 127 ، « ج م ل » ، والقاموس المحيط 3 : 362.
2- البقرة (2) : 67.
3- الأنعام (6) : 141.
4- المائدة (5) : 3.

والمركّب المجمل إمّا أن يكون مجملا بجملته إمّا لهيئته ، مثل : ( أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ) (1) ؛ لتردّده بين الزوج والوليّ ، أو لتخصيصه بمخصّص مجهول ، مثل : ( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) (2) ، و ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ ) (3) ؛ فإنّ تقييد الحلّ بالإحصان مع الجهل به أوجب الإجمال فيما احلّ ، أو يكون مجملا باعتبار مرجع الضمير حيث يتقدّمه أمران يصلح لكلّ واحد منهما ، نحو : « ضرب زيد عمرا فضربته » أو مرجع الصفة ، مثل : « زيد طبيب ماهر » لتردّده بين المهارة مطلقا ، أو المهارة في الطبّ (4).

فصل [2]

التحريم والتحليل المضافان إلى الأعيان - نحو : « حرّم عليكم لحم الخنزير أو الخمر ، أو الخنزير ، أو امّهاتكم » و « احلّ لكم بهيمة الأنعام أو القطن والكتّان ، أو ما ينزل من السماء من الماء ، أو غير المحارم من النساء » - ينصرفان إلى المنفعة المطلوبة من تلك العين عرفا ، فلا إجمال فيهما خلافا للبصري (5).

لنا : أنّ تصفّح كلام العرب يعطي أنّ مرادهم ممّا أطلقوه منهما تحريم الفعل المقصود من تلك العين ، أو تحليله ، كالأكل من المأكول ، والشرب من المشروب ، واللبس من الملبوس ، والوطء من الموطوء. والذهن أيضا يسبق إلى ذلك حين الإطلاق وهو دليل الحقيقة ، فلا إجمال.

احتجّ المخالف بأنّ تحريم العين أو تحليله (6) غير متصوّر ، فلا بدّ من إضمار فعل يصحّ متعلّقا لهما ، والأفعال كثيرة ولا يمكن إضمار جميعها ؛ لأنّ ما يقدّر للضرورة إنّما يقدّر

ص: 830


1- البقرة (2) : 237.
2- الحجّ (22) : 30.
3- النساء (4) : 24.
4- وجه التردّد هو أنّ « ماهرا » هل هو صفة للخبر وهو طبيب أو خبر بعد خبر. وبعبارة اخرى هل الخبر في هذا الكلام مقيّد أو مركّب ، فعلى المقيّد يصير المهارة مختصّة بالطبّ ، وعلى التركيب تصير أوسع منه.
5- حكاه البصري عن أبي عبد اللّه البصري في المعتمد 1 : 307 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 15.
6- الظاهر أنّ العين بمعنى الذات ممّا يذكّر ويؤنّث.

بقدرها ، فتعيّن إضمار البعض وهو مبهم ؛ لعدم دليل على التعيين ، فلا يتّضح دلالته على البعض المراد ، وهو المراد من الإجمال (1).

والجواب : أنّ هذا البعض المراد قد اتّضح وتعيّن بالأولويّة البادئة بقضيّة العرف والتبادر.

وكيفيّة التفريع ظاهرة.

فصل [3]

ذهب المرتضى رحمه اللّه من أصحابنا (2) ، وبعض العامّة إلى أنّ آية السرقة (3) مجملة ؛ لأنّ اليد تحتمل جملة العضو إلى المنكب ، وبعضه ، والقطع يحتمل الإبانة والجرح ، يقال لمن جرح يده بالسكّين : قطع يده ، فجاء الإجمال (4).

والحقّ أنّ اليد حقيقة في الكلّ ؛ لظهورها فيه ، وسبق الذهن منها إليه ، وتطلق على البعض مجازا. والقطع حقيقة في إبانة الشيء عمّا كان متّصلا به ؛ لما ذكر ، والجرح إبانة ، ولو منع ذلك ، كان إطلاقه عليه مجازا ، فلا إجمال.

فصل [4]

ما ينفى فيه الفعل ظاهرا - والمراد نفي صفته لا حقيقته ، مثل : « لا صلاة إلاّ بطهور » (5) و « لا صيام لمن لا يبيّت الصيام من الليل » (6) و « لا نكاح إلاّ بوليّ » (7) - لا إجمال فيه مطلقا ، وفاقا للأكثر.

وقيل بإجماله مطلقا (8).

ص: 831


1- حكاه الشيخ حسن في معالم الدين : 160 و 161.
2- الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 332 - 334.
3- المائدة (5) : 38 : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ... ) .
4- نسبه السيّد المرتضى إلى عيسى بن أبان في الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 332.
5- تهذيب الأحكام 1 : 49 - 50 ، ح 144 ، و: 209 ، ح 605 ، والاستبصار 1 : 55 ، ح 160.
6- سنن الدارقطني 2 : 172 ، ح 2 ، وعوالي اللآلئ 3 : 132 ، ح 5 ، مع تفاوت.
7- سنن ابن ماجة 1 : 605 ، ح 1880 ، ودعائم الإسلام 2 : 218 ، ح 807.
8- نسبه الفخر الرازي إلى أبي عبد اللّه البصري في المحصول 3 : 166 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 161.

وقيل بالإجمال إن كان الفعل المنفيّ لغويّا له أكثر من حكم واحد (1) ، وعدمه إن كان شرعيّا ، كما في الأمثلة المذكورة ، أو لغويّا ذا حكم واحد.

لنا : أنّ النفي قد ورد على ذوات هذه الأفعال ، فإن ثبت كونها حقائق شرعيّة في الصحيحة منها - حتّى كان المعنى : « لا صلاة صحيحة » و « لا صيام صحيحا » - كان نفي المسمّى حينئذ ممكنا باعتبار فوات الجزء أو الشرط ، فيحمل عليه ؛ لأنّه إذا أمكن الحمل على الحقيقة لا يحمل على غيرها ، وحينئذ لا إجمال.

وإن لم يثبت ذلك ، فإن ثبت حقيقة عرفيّة في الفعل المنفيّ - وهو أنّ مثله يقصد منه نفي الفائدة والجدوى ، نحو : « لا علم إلاّ ما نفع » و « لا كلام إلاّ ما أفاد » - كان متعيّن الحمل عليه ولا إجمال أيضا.

وإن لم يثبت ذلك ، يجب حمله على المجاز ، والمجازات كثيرة ، مثل نفي الصحّة ، ونفي الكمال وغيرهما ، إلاّ أنّ الحمل على نفي الصحّة أولى ؛ لأنّه أقرب إلى نفي الذات - التي هي الحقيقة (2) - من البواقي ، وقد تقدّم (3) أنّه إذا انتفت الحقيقة وتعدّدت المجازات وترجّح واحد - لكونه أقرب إلى الحقيقة - تعيّن الحمل عليه.

احتجّ القائل بإجماله مطلقا بأنّ مثله يمكن أن يراد منه نفي الصحّة ونفي الكمال ونفي الفائدة على السواء ، من دون ترجيح لأحدها ، فلزم الإجمال.

والجواب : منع التساوي ؛ لأنّ نفي الصحّة راجح ؛ لما ذكر.

واحتجّ المفصّل بأنّ الفعل إن كان شرعيّا يمكن انتفاؤه بانتفاء شرطه أو جزئه ، فيجري النفي فيه على ظاهره ، ولا يكون هناك إجمال ، وإن كان لغويّا ذا حكم واحد ، انصرف النفي إليه وانتفى الإجمال.

وأمّا إذا كان لغويّا له حكمان أو أكثر ، كالإجزاء ، والفضيلة وغيرهما ، فليس أحدهما أرجح من الآخر ، فيحصل الإجمال.

وجوابه : قد ظهر ممّا تقدّم.

ص: 832


1- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 138.
2- حقّ العبارة أن تكون هكذا : « الذي هو الحقيقة » ، لأنّ مفاد « لا » لنفي الجنس حقيقة هو نفي الذات لا الذات نفسه.
3- تقدّم في ص 829.
فصل [5]

ذهب الحنفيّة إلى أنّ نحو ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) (1) مجمل (2) ؛ لأنّه يحتمل مسح الكلّ والبعض ، وهو معنى الإجمال ، ومسح النبيّ صلى اللّه عليه وآله ناصيته بيان له (3).

والأكثر على أنّه لا إجمال فيه ، وهم بين قائلين بأنّ « الباء » للتبعيض ؛ لأنّه إذا دخل على اللازم كان للتعدية ، وإذا دخل على المتعدّي كان للتبعيض ، وإلاّ لم يكن لدخوله فائدة ، وهنا دخل على المتعدّي. وهم أكثر الإماميّة. وقد ورد به النصّ عن الصادق عليه السلام (4) ، وإذا أفاد التبعيض انتفى الإجمال.

وذاهبين إلى أنّ « الباء » للإلصاق ، كما يقول : « امسح يدك بالمنديل » ، فإنّه يفيد إلصاق يده بالمنديل. وهم بين قائل بأنّه يقتضي حينئذ مسح الكلّ ؛ لأنّه أفاد مسح الرأس ، والرأس حقيقة في المجموع. وهو مالك ومن تبعه (5).

وقائل بأنّه يقتضي مسح البعض ؛ لأنّ العرف يفهم من مثله البعض ، كما في مثال المسح بالمنديل ، فإنّه يتبادر البعض إلى الفهم عند إطلاقه (6).

وربما اجيب عنه بأنّ « الباء » فيه للاستعانة ، والمنديل آلة ، والعرف في الآلة يقتضي التبعيض بخلاف غيره (7).

وقائل بأنّه حقيقة فيما ينطلق عليه اسم المسح - أي في القدر المشترك بين الكلّ والبعض - دفعا للاشتراك والمجاز (8).

وأنت خبير بأنّ حمله على التبعيض هنا ، والحكم بمسح البعض متعيّن عندنا ، سواء

ص: 833


1- المائدة (5) : 6.
2- حكاه عنهم الفخر الرازي في المحصول 3 : 164 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 161.
3- الفقيه 1 : 56 ، ح 212 ، والحديث عن أبي جعفر عليه السلام.
4- راجع : تهذيب الأحكام 1 : 61 ، ح 168 ، والاستبصار 1 : 62 ، ح 186.
5- حكاه عنهم الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 17.
6- نسبه ابن الحاجب إلى الشافعيّة وعبد الجبّار وأبي الحسين في منتهى الوصول : 137.
7- أجاب به ابن الحاجب في المصدر.
8- حكاه ابن الحاجب في المصدر.

ثبت مجيء الباء للتبعيض في اللغة أم لا ؛ لنصّ الصادق عليه السلام وحكمه بأنّه للتبعيض هنا (1). وأمّا عند غيرنا ، فإن ثبت مجيئه له في اللغة ، فالحكم كذلك ، وإلاّ فالظاهر حمله على القدر المشترك ، ووجهه ظاهر. وعلى التقادير لا إجمال.

فصل [6]

إذا رفع صفة والمراد نفي لازم من لوازمه ، نحو « رفع عن امّتي الخطأ والنسيان » (2).

فالحقّ أنّه لا إجمال فيه ؛ لأنّ المتبادر من مثله رفع المؤاخذة والعقاب. ولذا لو قال المولى لعبده : « رفعت عنك الخطأ » كان المفهوم منه عرفا أنّي لا أؤاخذك به ، ولا اعاقبك عليه.

لا يقال : يلزم منه سقوط الضمان إذا أتلف مال الغير خطأ ؛ لأنّ (3) إلزامه بالضمان من المؤاخذات والعقوبات وقد رفعت.

والجواب : أنّه مخصّص بدليل من خارج.

ويمكن أن يقال : إنّ المؤاخذة ما يقصد به الزجر والإيذاء ، وهما لا يقصدان بالضمان ، بل يقصد به جبر إتلاف مال الغير.

احتجّ المخالف بأنّ الخطأ نفسه لم يرفع ، فلا بدّ من إضمار لمتعلّق الرفع وهو متعدّد ، ولا يمكن إضمار الكلّ ؛ لأنّ ما يقدّر للضرورة يقدّر بقدرها ، فلا بدّ من إضمار البعض ولا دليل على تعيينه ، فتأتى الإجمال (4).

والجواب : أنّه معيّن من التبادر العرفي.

فصل [7]

كلّ لفظ يطلق على معنى واحد تارة وعلى معنيين اخرى ، كالدابّة تطلق على الفرس تارة واخرى عليه وعلى الحمار معا.

ص: 834


1- تقدّم في ص 833.
2- التوحيد للصدوق : 353 ، ح 24 ، والخصال 2 : 417 ، ح 9 ، ووسائل الشيعة 15 : 369 ، أبواب جهاد النفس ، الباب 56 ، ح 1.
3- تعليل للمنفيّ أو « يلزم » دون النفي.
4- حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 138.

فالحقّ أنّه مجمل إن لم يكن ظاهرا في أحدهما خلافا للأكثر ؛ حيث قالوا : يجب حمله على المعنيين.

لنا : أنّه متردّد بينهما من غير ترجيح ، ولا نعني من المجمل إلاّ ذاك.

احتجّ الأكثر بأنّ وضع الكلام للإفادة ، وما يفيد معنيين أكثر فائدة ، فيتعيّن حمله عليه ؛ لتكثّر الفائدة.

وجوابه : أنّه إثبات اللغة بالترجيح ، مع أنّه معارض بأنّ أكثر الألفاظ موضوعة لمعنى واحد ، والمظنون إلحاق الشيء بالأعمّ الأغلب.

فصل [8]

إذا ورد لفظ من الشرع له محمل لغوي ، ومحمل في حكم شرعي ، فالحقّ أنّه ليس مجملا ، بل ظاهر في المجمل الشرعي ؛ لأنّ دأب الشارع تعريف الأحكام الشرعيّة دون الموضوعات اللغويّة.

مثاله قوله : « الطواف بالبيت صلاة » (1) فإنّه يحتمل أن يكون المراد به أنّ الطواف يسمّى صلاة في اللغة ، وأنّه كالصلاة في بعض الشرائط والأحكام ، وقوله عليه السلام : « الاثنان فما فوقهما جماعة » (2) فإنّه يحتمل أن يكون المراد به أنّ « الاثنان » (3) يسمّى جماعة لغة ، وأنّه يحصل به فضيلة الجماعة.

احتجّ المخالف ، باحتمال اللفظ للمحملين.

وجوابه ظاهر ممّا تقدّم.

ويظهر منه أنّ كلّ لفظ له مسمّى لغوي ومسمّى شرعي ، كالمنقولات الشرعيّة - من الصلاة ، والصوم ، والزكاة ، وغيرها - إذا ورد مطلقا في كلام الشارع ، يحمل على الشرعي ولا يكون مجملا ، سواء وقع في الإثبات أو النهي (4).

ص: 835


1- عوالي اللآلئ 1 : 214 ، ح 70.
2- كنز العمّال 7 : 555 ، ح 20224.
3- كذا في النسختين ، وهو على الحكاية.
4- المقابل للإثبات هو النفي دون النهي.

وخلاف جماعة بأنّه مجمل مطلقا (1) ، وآخرين بأنّه مجمل في النهي دون الإثبات (2) ؛ إذ فيه يحمل على الشرعي ، وآخرين بعدم إجماله مطلقا (3) إلاّ أنّه في الإثبات للشرعي ، وفي النهي للّغوي ، لا اعتداد به ، وحججهم واهية.

فصل [9]

الحقّ جواز التكليف بالمجمل ؛ فإنّه واقع ؛ لما ظهر من الآيات المتقدّمة (4) ، والأخبار المشهورة (5) ، ولما ثبت من وقوع المشترك في خطابات الشرع ، والوقوع دليل الجواز.

واحتجّ من لم يجوّزه بأنّه إن لم يقصد به الإفهام كان عبثا غير لائق بالحكيم ، وإن قصد به ، فإن قرنه بالبيان كان تطويلا بلا فائدة ؛ إذ التنصيص عليه أسهل وأبلغ ، وإن لم يقرنه كان تكليفا بالمحال (6).

والجواب : أنّه قصد به الإفهام أمّا في صورة الاقتران بالبيان ، فمن كلّ وجه. ونمنع عدم الفائدة فيه ؛ إذ يجوز اشتماله على مصلحة لم نطّلع عليها ؛ لأنّ درك جميع حكم الشرع ليس في مقدرة البشر.

وأمّا في صورة عدم اقترانه به فمن بعض الوجوه ، وهو إفهامه بأنّه قد كلّف بشيء فيستعدّ للامتثال ، فيثاب عليه ، أو لعدمه فيعاقب به.

وتوضيح ذلك : أنّ الغرض (7) الأصلي من التكليف الابتلاء وحصول ملكة الانقياد أو الطغيان ليتفرّع عليه الثواب والعقاب ، ويحدث في النفس النوريّة والصفاء ، أو الكدرة والظلمة ، وهو كما يحصل بالعمل يحصل بالاستعداد وتوطين النفس عليه.

ص: 836


1- حكاه عنهم الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 26 ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : 139.
2- الإحكام في أصول الأحكام 3 : 27.
3- المصدر.
4- في ص 829.
5- تقدّمت في ص 831.
6- حكاه العلاّمة في تهذيب الوصول : 159 ، والظاهر أنّ القول بعدم جوازه لداود الظاهري كما في هامش المصدر ، وإرشاد الفحول 2 : 14.
7- أي ما يترتّب على الفعل سواء كان غرضا للفاعل أم لا.
فصل [10]

« البيان » من « بان » إذا ظهر وهو يطلق على فعل المبيّن - وهو التبيين - كالكلام للتكليم ، والسلام للتسليم ، وبهذا الاعتبار قيل : إنّه الدلالة أو الإخراج من حيّز الإشكال إلى حيّز التجلّي والظهور (1).

وعلى ما يحصل به التبيين ، وبهذا الإطلاق قيل : إنّه الدليل (2).

وعلى متعلّق التبيين ومحلّه - وهو المدلول - وبالنظر إليه قيل : إنّه العلم الحاصل عن الدليل (3).

والمبيّن نقيض المجمل فهو المتّضح الدلالة ، سواء كان بنفسه - نحو ( وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (4) ؛ إذ إفادته شمول علمه لجميع الأشياء ليس إلاّ بنفس اللغة أو بغيره ، نحو ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) (5) ؛ فإنّ دلالته على المراد تتوقّف على قرينة العقل ، وذلك الغير يسمّى مبيّنا. هذا.

وفي معنى المبيّن ، المفسّر. والظاهر عدم الفرق بين المبيّن بنفسه والنصّ. لأنّ النصّ - كما تقدّم (6) - ما لا يحتمل غير ما يفهم منه لغة.

فصل [11]

البيان يقع بأشياء :

« القول » كقوله تعالى : ( صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها ) (7) ؛ فإنّه بيان لقوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) (8) ، وقوله عليه السلام : « فيما سقت السماء العشر » (9) ؛ فإنّه بيان لمقدار الزكاة.

ص: 837


1- نسبه الآمدي إلى الصيرفي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 29.
2- نسبه الآمدي إلى القاضي أبي بكر والأكثر في المصدر.
3- نسبه الآمدي إلى أبي عبد اللّه البصري في المصدر.
4- البقرة (2) : 282.
5- يوسف (12) : 82.
6- تقدّم في ج 1 ، ص 197.
7- البقرة (2) : 69.
8- البقرة (2) : 67.
9- عوالي اللآلئ 2 : 231 ، ح 16.

و « الكتابة » كما بيّن اللّه سبحانه لملائكته بما كتبه في اللوح ، والنبيّ صلى اللّه عليه وآله بما كتبه لعمّاله والأئمّة من بعده.

و « الإشارة » كما قال عليه السلام : « الشهر هكذا وهكذا وهكذا » (1) بأصابعه العشر (2) ، ثمّ أعاد وحبس إصبعه في الثالثة. وهو لا يصحّ في حقّ اللّه ؛ لافتقاره إلى الأعضاء.

و « فعل النبيّ » صلى اللّه عليه وآله كما بيّن صلى اللّه عليه وآله الصلاة والوضوء والحجّ بفعله ، ويعلم كون الفعل بيانا بالضرورة من قصده أو بنصّه ، كقوله عليه السلام : « صلّوا كما رأيتموني » (3) و « خذوا عنّي مناسككم » (4) أو بالفعل ، كما لو ذكره مجملا وفعل وقت الحاجة إلى العمل فعلا يصلح بيانا له ولم يصدر عنه غيره.

ثمّ من الناس من قال : إنّ الفعل لا يصلح لأن يكون بيانا (5) ، وهو ضعيف غير ملتفت إليه.

فصل [12]

إذا ورد بعد مجمل قول وفعل كلّ منهما يصلح لأن يكون بيانا له ، فإن اتّفقا وعلم تقدّم أحدهما - كأن يطوف بعد نزول آية الحجّ طوافا واحدا ويأمر بطواف واحد - فالمتقدّم هو « البيان » والثاني تأكيد ، وإن جهل فالبيان أحدهما من غير تعيين.

وقيل : القول ؛ لأنّه يدلّ بنفسه بخلاف الفعل (6).

وإن اختلفا كأن يطوف بطوافين ويأمر بطواف واحد ، فالحقّ أنّ البيان هو « القول » ، سواء كان متقدّما أو متأخّرا ، والفعل محمول على الندب ، أو الوجوب عليه ، أو الرخصة له ؛ لأنّ القول يدلّ بنفسه ، ولأنّ جعله بيانا جمع بين الدليلين ، وهو أولى من طرح واحد.

ص: 838


1- تهذيب الأحكام 4 : 162 ، ح 458.
2- في « ب » : « العشرة ».
3- صحيح البخاري 1 : 226 ، ح 605 ، وسنن الدارمي 1 : 286.
4- سنن البيهقي 5 : 125.
5- حكاه الفخر الرازي في المحصول 3 : 31 ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : 140 ، والأسنوي في نهاية السؤل 2 : 527.
6- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 141.
فصل [13]

قد عرفت (1) أنّ العامّ أو المطلق إذا كان أقوى من الخاصّ أو المقيّد لا يجوز التخصيص والتقييد به ؛ للزوم إبطال الراجح بالمرجوح ، وإلغاء الأقوى بالأدنى ، وهو ترجيح المرجوح ، وإذا تساويا فالحقّ جوازهما ؛ لأولويّة الجمع على الطرح.

والقول بعدم جوازهما حينئذ أيضا للزوم التحكّم (2) ، تحكّم ؛ ووجهه ظاهر.

وأمّا المجمل فيكفي في بيانه المساوي والمرجوح ؛ إذ لا تعارض ليلزم ترجيح المرجوح ، أو التحكّم.

فصل [14]

تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز ، وفاقا للعدليّة وسائر الامّة - سوى بعض الأشاعرة (3) - لأنّه تكليف بما لا يطاق.

وفروعه كثيرة. وممّا يتفرّع عليه وجوب التفسير فورا على من أقرّ بمبهم ابتداء أو عقيب دعوى بعد المطالبة ، فلو امتنع من البيان فورا يحبس حتّى يجيب ، وكذا لو طلّق (4) مبهمة.

وأمّا عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة ، فالمختار جوازه مطلقا وفاقا للأكثر.

ومنعه قوم مطلقا (5).

وقيل : يجوز فيما ليس له ظاهر كالمجمل ، ويمتنع فيما له ظاهر واريد به غير ظاهره ، كالعامّ والمطلق والمنسوخ (6).

وقيل : يجوز في الأوّل ، ويمتنع في الثاني ؛ لكنّه في البيان الإجمالي (7). وأمّا التفصيلي

ص: 839


1- تقدّم في ص 822.
2- القول لابن الحاجب في منتهى الوصول : 141.
3- حكاه عنهم العلاّمة في تهذيب الوصول : 165 ، والفخر الرازي في المحصول 3 : 188.
4- أي طلّق امرأة مبهمة. وفي « ب » : « أطلق ».
5- نسبه ابن الحاجب إلى الكرخي في المصدر.
6- حكاه الفخر الرازي عن أبي الحسين البصري في المحصول 3 : 188 والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 36 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 164.
7- حكاه الفخر الرازي عن أبي الحسين البصري في المحصول 3 : 188 والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 36 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 164.

فيجوز تأخيره ، فيجب أن يقول : هذا العامّ مخصوص وهذا المطلق مقيّد ، وهذا الحكم سينسخ ، ولا يجب تفصيل ما خصّ عنه ، وذكر الصفة التي قيّد بها ، وتعيين وقت النسخ.

وقيل بمثل ذلك في غير النسخ (1) ، وأمّا فيه ، فحكمه حكم المجمل ، فلا يلزم بيانه تفصيلا ولا إجمالا.

لنا : عدم مانع من التأخير وإمكان مصلحة فيه يحسن (2) لأجلها ، كالعزم وتوطين النفس على الفعل إلى وقت الحاجة ؛ لما عرفت من ترتّب الثواب عليه (3). ويؤكّده أنّ البيان إنّما يراد ليتمكّن المكلّف من الإتيان بما كلّف به ، فلا حاجة إليه قبل الوقت.

وأيضا لا خلاف في عدم اشتراط قدرة المكلّف على الفعل حال الخطاب ، وإذا جاز تأخير إقداره على الفعل ، فتأخير علمه بتفاصيل بعض صفات الفعل أولى بالجواز.

ولنا أيضا : أنّه لو لم يجز تأخيره زمانا طويلا ، لم يجوز زمانا قصيرا مع أنّه جائز ؛ للإجماع على جواز تأخير القرينة عن وقت التلفّظ بالمجاز بحيث لا يخرج الكلام عن كونه واحدا عرفا. وأنت خبير بإمكان إبداء الفرق بينهما (4).

ولنا : قوله تعالى : ( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) (5).

وجه الاستدلال به أنّ « ثمّ » للتراخي ، فيدلّ على جواز تأخير البيان عن المبيّن.

ولنا : أنّه وقع ، والوقوع دليل الجواز.

أمّا الثاني ، فظاهر.

وأمّا الأوّل ، فلأنّه تعالى قال أوّلا في المغنم : ( فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ) (6) ، ثمّ بيّن أنّ السلب للقاتل. و « ذي القربى » بنو هاشم دون بني اميّة وبني نوفل ، وهذا عامّ تأخّر عنه بيانه ؛ إذ لم يكن معه بيان تفصيلي - وهو ظاهر - ولا إجمالي ؛ لأنّ الأصل عدمه ، ولأنّه لو اقترن به لنقل ؛ لتوفّر الدواعي عليه.

ص: 840


1- نسبه ابن الحاجب إلى الجبائي في منتهى الوصول : 141.
2- في « أ » : « يحسّن ».
3- في ص 836.
4- أي الزمانين. وهذا الأمر - من ردّ المستدلّ نفسه ما استدلّ به - غير معتاد.
5- القيامة (75) : 19.
6- الأنفال (8) : 41.

وقال : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ) (1) ثمّ بيّن تفاصيلهما من الركعات ، والأركان ، والأجناس ، والنصاب ، والأوقات ، والشرائط ، والأحكام بالتدريج.

وقال : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ) (2) ثمّ بيّن اشتراط الحرز والنصاب بتدريج.

وقال : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا ) (3) ثمّ بيّن أنّ المحصن يرجم. ونهى النبيّ عن بيع المزابنة (4) ، ثمّ رخّص في العرايا (5).

وقال اللّه : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) (6) وهي كانت معيّنة في الواقع ؛ لما سألوا عن التعيين ، ولو لم تكن معيّنة ، لما سألوا عنه بقولهم : ( ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ ) (7) ، و ( ما لَوْنُها ) (8) ، ثمّ بيّنها بقوله : ( إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ ) (9) إلى قوله : ( فاقِعٌ لَوْنُها ) (10).

واورد عليه بمنع كونها معيّنة بدليل قوله : ( أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) وهو ظاهر في غير معيّنة ، وقوله : ( وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ) (11) ، لدلالته على قدرتهم على الفعل ، ووقوع السؤال عن التعيين كان تعنّتا.

وبدليل قول ابن عبّاس : لو ذبحوا أيّة بقرة لأجزأتهم ، ولكنّهم شدّدوا على أنفسهم فشدّد اللّه عليهم (12).

وفساده ظاهر ؛ لأنّها لو كانت غير معيّنة ، لما أطال اللّه الكلام بحصر أوصافها. وذمّهم وتعنيفهم بقوله : ( وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ) ليس لعدم التعيين ، بل لتوانيهم بعد البيان.

وقول ابن عبّاس لم يثبت ، ولو ثبت لم يكن حجّة ؛ لمعارضته بالكتاب وقول سائر المفسّرين.

وقال : ( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) (13) ، فنقض ابن الزبعري بالمسيح

ص: 841


1- البقرة (2) : 43.
2- المائدة (5) : 38.
3- النور (24) : 2.
4- تهذيب الأحكام 7 : 143. ح 633 و 634 ، والاستبصار 3 : 91 ، ح 309 و 311.
5- تهذيب الأحكام 7 : 143. ح 633 و 634 ، والاستبصار 3 : 91 ، ح 309 و 311.
6- البقرة (2) : 67 - 69.
7- البقرة (2) : 67 - 69.
8- البقرة (2) : 67 - 69.
9- البقرة (2) : 67 - 69.
10- البقرة (2) : 67 - 69.
11- البقرة (2) : 71. في هامش « أ » : « الوارد في ذمّهم ».
12- الجامع لأحكام القرآن 1 : 448 ، ذيل الآية 68 من البقرة (2).
13- الأنبياء (21) : 98.

والملائكة (1) ، فنزل ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ ... ) (2) ، فتأخّر البيان.

فإن قيل : « ما » لما لا يعقل ، فلا يتناولهم. وإن سلّم فنقول : خصّوا بالعقل (3) ، وقوله : ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ ) ليس بيانا ؛ لظهور خروجهم ، بل زيادة توضيح احتيج إليه ؛ لجهل الناقض.

قلنا : « ما » يعمّ ما يعقل وغيره ؛ لقوله تعالى : ( وَالسَّماءِ وَما بَناها ) (4).

وما روي أنّ النبيّ قال له : « ما أجهلك بلغة قومك ، ألم تعلم أنّ « ما » لما لا يعقل » (5) ، لم يثبت عندنا.

فإن قيل : النزاع في الأحكام لا في الأخبار.

قلنا : الفرق غير معقول.

احتجّ المانع مطلقا بأنّ التكليف بما ليس له ظاهر ، أو له ظاهر غير مراد من غير بيان في الحال ، خطاب بما لا يفهم ، وهو قبيح ، ولو جاز ذلك ، لجاز خطاب الزنجي بالعربيّة من غير بيان المراد في الحال ؛ لعدم الفرق بينهما (6).

والجواب : منع كونه خطابا بما لا يفهم من كلّ وجه ، فإنّه يعلم أنّ المراد بعض المدلولات المعروفة عنده ، ويبيّن له وقت الحاجة إلى العمل ، فيثاب ويعاقب بالعزم على الفعل أو الترك وليس فيه قبح أصلا ، ولو قبح مثله ، لقبح أن يولّي الملك رجلا على بلد ويقول له : اخرج إليه في غد ، وسأكتب لك كتابا فيه تفصيل ما يلزم عليك أن تعمل به ، وانفذه إليك عند استقرارك في عملك مع أنّه لا يقبح بالضرورة.

احتجّ المفصّل الأوّل : أمّا على جواز تأخير بيان المجمل ، فبنحو ما ذكرناه ، ولا نزاع لنا معه فيه.

وأمّا على منع تأخير بيان العامّ المخصوص والمطلق المقيّد ولفظ المنسوخ ، فبأنّها

ص: 842


1- حكاه عنه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 42 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 165.
2- الأنبياء (21) : 101.
3- في « ب » : « بالعقلي ».
4- الشمس (91) : 5.
5- رواه الطبرسي في مجمع البيان 7 : 116 ، ذيل الآية 101 من الأنبياء (21).
6- حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 143 ، والشيخ حسن في معالم الدين : 163.

ألفاظ موضوعة لحقائق مفهومة منها عند إطلاقها وهي الاستغراق ، والشياع ، والدوام يحملها عليها كلّ مخاطب ، ولا يعدل عنها إلاّ بقرينة التجوّز ، فيقبح من الحكيم أن يراد (1) بها في حال الخطاب غيرها من غير دلالة ، بخلاف المجمل ؛ فإنّه ليس له معنى حقيقي مفهوم عند إطلاقه حتّى يلزم من تأخير بيانه العدول عمّا وضع.

وبأنّ الخطاب وضع للإفادة ومن سمع عامّا أو مطلقا أو حكما ، وجوّز أن يكون مخصوصا أو مقيّدا أو منسوخا ، ويبيّن له في المستقبل ، لم يستفد في هذه الحال شيئا ، ويكون وجوده كعدمه ، وهو ينافي وضع الخطاب.

وبأنّه لو جاز التأخير ، فإمّا إلى مدّة معيّنة - وهو تحكّم ، ولم يقل به أحد - أو إلى الأبد ، فيلزم التكليف بما لا يفهم (2).

والجواب عن الأوّل : أنّه لا ريب في افتقار استعمال اللفظ في غير الموضوع له إلى القرينة عند الحاجة ؛ لئلاّ يلزم الإغواء ، وأمّا افتقاره إليها عند وقت التكلّم من دون بلوغ وقت الحاجة ، فلا دليل عليه ولا يلزم منه الإغواء ؛ لأنّه فيما انتفى احتمال التجوّز ، وانتفاؤه فيما قبل وقت الحاجة يتوقّف على ثبوت منع التأخير مطلقا ، وقد فرضنا عدمه.

وقولهم : « الأصل في الكلام الحقيقة » معناه أنّ اللفظ مع فوات وقت القرينة يحمل على الحقيقة لا مطلقا.

وممّا يؤكّده اتّفاقهم على جواز إسماع العامّ المخصوص بالعقل وإن لم يعلم المخاطب تخصيصه به ، واتّفاق أجلّة المحقّقين على إسماع العامّ المخصوص بالدليل السمعي من دون إسماع المخصّص ؛ لأنّه لو ثبت لزوم الإغواء هنا ، ثبت لزومه هناك أيضا ، لأنّ السامع للعامّ مجرّدا عن القرينة يحمله على الحقيقة.

فإن قالوا : لا يجوز الحمل عليها إلاّ بعد الفحص عن المخصّص.

قلنا : فيما نحن فيه لا يجوز الحمل على شيء حتّى يحضر وقت الحاجة ، ويوجد القرينة ويطّلع عليها ، فيعمل بمقتضاها.

ص: 843


1- كذا في النسختين. والأولى : « يريد ».
2- حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 143 ، والشيخ حسن في معالم الدين : 164.

وبما ذكر ظهر الجواب عن الثاني من غير افتقار إلى بيان.

والجواب عن الثالث : أنّ التأخير إلى (1) مدّة معيّنة عند اللّه وهو الوقت الذي يعلم أنّه مكلّف فيه ، فلا تحكّم. هذا.

ومن العجب اللازم لهذا القول وجوب اقتران بيان المنسوخ به (2) ، مع أنّ جماعة نقلوا الإجماع على حسن تأخير الناسخ (3) ، بل المعروف بين القوم اشتراطه حتّى أنّهم عدّوه شرطا للنسخ. وممّن عدّه شرطا بعض القائلين بهذا القول (4) ، وهو غريب.

واحتجّ المفصّل الثاني على جواز تأخير بيان المجمل مطلقا بنحو ما ذكرناه (5). ولا مخالفة لنا معه فيه. وعلى امتناع تأخير بيان غيره - ممّا له ظاهر - في البيان الإجمالي دون التفصيلي بأنّه لو ارتفعا معا ، يلزم الإغراء بالجهل وهو باطل ؛ لأنّ المكلّف يحمل حينئذ على ظاهره ويعمل به.

وأمّا لو وجد البيان الإجمالي وإن لم يوجد التفصيلي ، فيعلم المكلّف أنّ ظاهره غير مراد ، فيثبت إلى أن

يحضر الوقت ، ويطّلع على البيان التفصيلي.

وجوابه : قد ظهر ممّا تقدّم ، فلا نطيل الكلام بإعادته.

واحتجّ المفصّل الثالث أمّا على جواز تأخير بيان المجمل بنحو ما ذكرناه (6).

وأمّا على امتناع تأخير بيان ما له ظاهر سوى النسخ بأنّ تأخير بيان العامّ ، أو المطلق يوجب الشكّ في كلّ واحد واحد من أفرادهما ، هل هو مراد للمتكلّم أم لا؟ فلا يعلم تكليف واحد بعينه ، ويلزم منه انتفاء أصل التكليف الذي هو غرض الخطاب بخلاف النسخ ؛ فإنّ الكلّ داخلون إلى أن ينسخ (7).

والجواب : أنّ الشكّ مشترك ، إلاّ أنّه في العامّ والمطلق في أفرادهما ، وفي النسخ في أفراد الزمان ، بل هو أولى بالشكّ ؛ لأنّ الشكّ في كلّ واحد من أفرادهما على البدل ، وفيه

ص: 844


1- متعلّق بمقدّر خبر « أنّ » وليس متعلّقا بالتأخير.
2- أي بالمنسوخ.
3- راجع : الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 3 : 49 ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : 144 و 145 ، ومعالم الدين : 167 و 169.
4- راجع الإحكام في أصول الأحكام 3 : 49.
5- تقدّم في ص 839.
6- تقدّم في ص 839.
7- تقدّم في ص 839.

يلزم الشكّ في الجميع ؛ إذ يجوز في كلّ زمان النسخ من الجميع ، وارتفاع التكليف. هذا.

وقد ظهر كيفيّة التفريع من الأمثلة.

فصل [15]

الحقّ جواز تأخير تبليغ الرسول الحكم إلى وقت الحاجة ؛ لأنّه ليس فيه محال لذاته ، ولذا لا يمتنع التصريح به ، ولا لغيره (1) ؛ لأصالة العدم ؛ ولأنّ التبليغ تابع للمصلحة وهي تختلف بالنسبة إلى الأزمنة ، فربما وجدت في التأخير.

احتجّ المخالف بقوله تعالى : ( بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) (2) والأمر للوجوب والفور (3).

والجواب : أنّ الأمر لا يوجب الفور كما تقدّم (4). ولو سلّم نقول : إنّ المنزل هو القرآن ؛ لانصراف إطلاق التنزيل إليه ؛ على أنّ نزوله عندنا في قضيّة خاصّة.

فصل [16]

اختلفوا في جواز إسماع العامّ من لا يعرف المخصّص الموجود إذا كان شرعيّا ، بعد اتّفاقهم على جوازه إن كان المخصّص عقليّا ، والأكثر على جوازه ، وهو المختار.

لنا : أنّه إذا جاز مع كون المخصّص عقليّا ، فيجوز إذا كان شرعيّا ؛ لعدم الفرق.

ولنا : أنّه لو لم يجز لم يقع وقد وقع ؛ فإنّ الصحابة سمعوا قوله تعالى : ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) (5) ، وهو عامّ ، ولم يسمعوا إخراج أهل الذمّة والعبد والمرأة إلاّ بعد حين. وكذا الحكم في آية السرقة (6) ، والميراث (7) ، وغيرهما.

احتجّ الخصم بأنّ جوازه يوجب الإغراء بالجهل والخطاب بما لا يفهم ، وبأنّه يقتضي

ص: 845


1- أي ولا محال لغيره والمراد به هو المانع.
2- المائدة (5) : 67.
3- راجع معالم الدين : 167 - 170.
4- تقدّم في ص 631.
5- التوبة (9) : 5.
6- المائدة (5) : 38 : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا ... ) .
7- النساء (4) : 11 : ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ... ) .

عدم جواز العمل بالعمومات إلاّ بعد العلم بانتفاء المخصّص ، ويلزم منه سدّ باب العمل بها (1).

والجواب عن الأوّل : أنّ السامع - لتجويزه التخصيص - يسعى في طلب المخصّص ، فلا يلزم الإغراء بالجهل والخطاب بما لا يعلم.

وعن الثاني : أنّ غلبة الظنّ بانتفاء المخصّص كافية في جواز العمل بالعامّ.

ويظهر ممّا ذكر جواز ذكر بعض المخصّصات دون بعض وقد وقع ، فإنّه بيّن إخراج أهل الذمّة من آية قتل المشركين (2) أوّلا ، ثمّ إخراج العبد ، ثمّ المرأة بتدريج ، وبيّن في آية السرقة (3) إخراج ما لم يبلغ حدّ النصاب ، ثمّ ما وقع فيه شبهة وهكذا ، وكذا الحكم في آية الحجّ (4) ، والميراث (5) ، وغيرهما.

ص: 846


1- حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 144.
2- تقدّم آنفا.
3- تقدّم آنفا.
4- آل عمران (3) : 97 : ( فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ ... وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ... ) .
5- تقدّمت في ص 845 ، الهامش 7.

الباب الخامس : في الظاهر والمؤوّل

اشارة

اعلم أنّ « الظاهر » في اللغة : الواضح (1).

وفي الاصطلاح : قيل : ما دلّ على معنى دلالة ظنّيّة (2).

وقيل : دلالة واضحة (3).

وعلى الأوّل يكون النصّ - وهو ما دلّ دلالة قطعيّة - قسيما منه ، وعلى الثاني يكون قسما منه.

وظهور الدلالة إمّا بالوضع ، كدلالة « الأسد » على الحيوان المفترس ؛ فإنّ كونها ظاهرة فيه (4) مستفاد من وضع الواضع ، فدلالته على الرجل الشجاع خلاف الظاهر من الوضع. ومنه : دلالة اللفظ على مدلوله من غير تقدير وإضمار ؛ فالإضمار خلاف الظاهر من الوضع ، ودلالة العامّ على الاستغراق ، والمطلق على الشياع ؛ فالتخصيص والتقييد خلاف الظاهر. وقس عليها أمثالها.

أو بعرف (5) الاستعمال ، كدلالة « الغائط » على الخارج المتقذّر ، فإنّه غلب فيه بعد أن كان لغة للمطمئنّ من الأرض (6) ؛ فدلالته عليه (7) خلاف الظاهر من العرف.

ص: 847


1- الصحاح 2 : 731 ، ولسان العرب 4 : 523 ، « ظ. ه. ر ».
2- قاله الغزالي في المستصفى : 196 ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : 145.
3- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 58.
4- كذا في النسختين. والصحيح كونه « ظاهرا فيه » كما في شرح التجريد.
5- عطف على قوله : « بالوضع ».
6- الصحاح 2 : 1147 ، « غ وط ».
7- أي دلالة لفظ الغائط على المطمئنّ من الأرض.

و « التأويل » في اللغة : الإرجاع ، من آل يؤول : إذا رجع (1).

وفي الاصطلاح : حمل الظاهر على المحتمل المرجوح ، وهذا يتناول التأويل الصحيح والفاسد ، وإن اريد تعريف الصحيح منه ، يجب أن يزاد عليه : « بدليل يصيّره راجحا » وإن اريد تعريف الفاسد منه ، يزاد عليه : « بلا دليل » أو « بدليل مساو » أو « مرجوح ».

فصل

« التأويل » على ثلاثة أقسام :

الأوّل : القريب ؛ فرجّح لقربه بأدنى مرجّح.

الثاني : البعيد ؛ فيحتاج لبعده إلى مرجّح أقوى.

والثالث : المتعذّر ، أي ما لا يحتمله اللفظ ؛ فلا يكون مقبولا ، بل يجب ردّه وإن كان عليه دليل.

وبالجملة ، يشترط في قبول التأويل أن يكون الدالّ عليه بحيث يترجّح لأجله الاحتمال المرجوح على الراجح الظاهر ، ولا ضابط له ، بل يختلف باختلاف مشارب أهل العلم ، فربّ تأويل كان مقبولا عند بعض ، مردودا عند آخر ، إلاّ أنّه لا خلاف في قبوله في الجملة.

ثمّ الدالّ عليه إمّا عقل ، أو نقل ، أو إجماع ، أو قياس منصوص العلّة على سبيل منع الخلوّ دون الجمع ، مثلا قوله عليه السلام : « إنّما الربا في النسيئة » (2) لا يجوز حمله على ظاهره ، وهو حصر الربا في النسيئة ؛ لثبوت الربا في بيع الربوي بمثله نقدا بالإجماع (3) والنصّ ، وهو قوله عليه السلام : « لا تبيعوا البرّ بالبرّ سواء بسواء » (4) ؛ فيجب أن يحمل (5) على مختلف الجنس. وهذا وإن كان من التأويلات البعيدة إلاّ أنّه يتعيّن ؛ لوجود المرجّح القويّ.

ص: 848


1- الصحاح 3 : 1628 ، « أ و ل ».
2- سنن الدارمي 2 : 259 ، وسنن ابن ماجة 2 : 758 - 759 ، ح 2257.
3- راجع غاية المراد 2 : 118 - 120.
4- سنن ابن ماجة 2 : 757 ، ح 2254 ، وسنن البيهقي 5 : 276.
5- أي قوله : « إنّما الربا في النسيئة ».

ومن التأويلات البعيدة الفاسدة تأويل الحنفيّة قوله عليه السلام لغيلان - وقد أسلم على عشر نسوة - : « أمسك أربعا وفارق سائرهنّ » (1) إمّا بأنّ المراد من الإمساك ابتداء النكاح ، والمراد من المفارقة عدم النكاح. فالمعنى : انكح أربعا منهنّ ، ولا تنكح سائرهنّ. وإمّا بأنّ المراد من إمساك الأربع إمساك الأربع الأوائل منهنّ ، فقوله : « أمسك أربعا » أي الأوائل منهنّ ، وفارق سائرهنّ ، أي الأواخر منهنّ.

ولذا يرى الحنفيّة (2) وجوب تجديد النكاح إن تزوّجهنّ معا ، وإمساك الأربع الأوائل إن تزوّجهنّ مرتّبا.

أمّا بعده ، فلأنّ المتبادر من الإمساك الدوام والتخيّر (3) دون الابتداء والترتيب ، مع أنّ المخاطب كان متجدّد الإسلام لا يعرف شيئا من الأحكام حتّى يخاطب بغير ظاهر ؛ فيبعد خطاب مثله بمثله ، مع أنّه لم ينقل تجديد ولا تعيين الأوائل مطلقا لا منه ولا من غيره ممّن أسلم من الكفّار المتزوّجين مع كثرتهم.

وأمّا فساده ، فلأنّه لا دليل عليه يترجّح لأجله على ما هو الظاهر من أنّ الكافر إذا أسلم على أزيد من أربع ، يمسك أيّ أربع شاء ، سواء ترتّب عقدهنّ أو لا ، كما قال به أصحابنا (4) والشافعيّة (5).

ومن التأويلات القريبة : تأويل قوله عليه السلام : « أيّما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليّها فنكاحها باطل ، باطل ، باطل » (6) بأنّ المراد ب- « أيّما امرأة » : الصغيرة ، والأمة ، و (7) المكاتبة ، وب « البطلان » : رجوعه إليه (8) غالبا ؛ لاعتراض الوليّ عليهما (9).

ص: 849


1- سنن ابن ماجة 1 : 628 ، ح 1953 ، وجامع الاصول 11 : 506 ، ح 9074.
2- راجع : السنن الكبرى 7 : 185 ، والمغني لابن قدامة 7 : 540.
3- في « ب » : « التخيير ».
4- راجع : غاية المراد 3 : 170 ، والروضة البهيّة 5 : 232 - 233.
5- راجع المغني لابن قدامة 7 : 540.
6- سنن الدارمي 2 : 137 ، وسنن الترمذي 3 : 407 - 408 ، ح 1102 ، وسنن أبي داود 2 : 229 ، ح 2083.
7- كذا في النسختين. والصحيح : « أو » بدل « و » كما في الكتب.
8- أي رجوع النكاح إلى البطلان.
9- أي الصغيرة والأمة.

ووجه قربه شيوع التخصيص ومجاز المشاورة في المحاورات ، مع دلالة الإجماع والنصّ على استقلال الثيّب البالغة في النكاح (1). هذا.

وللحنفيّة تأويلات فاسدة في بعض الآيات والأخبار ، مذكورة في بعض كتب الاصول (2) لم نر جدوى في إيرادها.

ص: 850


1- تهذيب الأحكام 7 : 378 ، ح 1530 و: 380 ، ح 1538 ، والاستبصار 3 : 234 ، ح 842.
2- راجع : المستصفى : 196 - 201 ، والإحكام 3 : 61 - 68 ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : 145 - 147.

الباب السادس : في المنطوق والمفهوم

اشارة

« المنطوق » : ما دلّ عليه اللفظ في محلّ النطق ، أي يكون حكما شرعيّا للمذكور ، أو حالا من أحواله ، سواء كان نفسه مذكورا أو لا. والتعميم لدخول المنطوق غير الصريح ؛ لأنّه ليس مذكورا بنفسه ، والمراد بالنطق معناه اللغوي ، فلا دور.

و « المفهوم » : ما يدلّ عليه اللفظ لا في محلّ النطق ، أي يكون حكما أو حالا للمسكوت عنه.

ثمّ المنطوق إمّا صريح ، وهو ما وضع اللفظ له ؛ فيدلّ عليه إمّا بالمطابقة أو بالتضمّن (1). أو غير صريح ، وهو بخلافه ، أي ما لم يوضع اللفظ له ، بل لزم ممّا وضع له ؛ فيدلّ عليه بالالتزام ، وهو على ثلاثة أقسام :

الأوّل : دلالة « الاقتضاء » وهو (2) ما كان مقصودا للمتكلّم ، وتوقّف الصدق أو الصحّة العقليّة الشرعيّة عليه ، نحو « رفع عن امّتي الخطأ والنسيان » (3) و ( سْئَلِ الْقَرْيَةَ ) (4) ، و « أعتق عبدك عنّي على مائة » ؛ فإنّه لو لم يقدّر « المؤاخذة » أو نحوها في الأوّل ، كان كاذبا ، ولو لم يقدّر « أهل » في الثاني ، لم يصحّ عقلا ، ولو لم يقدّر « الملك » في الثالثة - أي مملّكا لي على مائة - لم يصحّ شرعا ؛ لتوقّف العتق على الملك شرعا.

ص: 851


1- في هامش « أ » : « فيه ما فيه ، لعدم وضع اللفظ للجزء ، وكون استعماله مجازا فيه ».
2- أي الاقتضاء ، أو التذكير باعتبار الموصول.
3- الكافي 2 : 463 ، باب ما رفع عن الامّة ، ح 2 ، والتوحيد للصدوق : 353 ، ح 24 ، ووسائل الشيعة 23 : 237 ، كتاب الأيمان ، الباب 16 ، ح 5.
4- يوسف (12) : 82.

الثاني : دلالة « الإيماء والتنبيه » وقد تقدّم في باب القياس (1) بحدّه وأقسامه.

الثالث : دلالة « الإشارة » وهو (2) ما لا يكون مقصودا للمتكلّم ، كدلالة قوله تعالى :

( وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) (3) ، مع قوله : ( وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ ) (4) على أنّ أقلّ مدّة الحمل ستّة أشهر ؛ فإنّه ليس مقصودا للمتكلّم إلاّ أنّه لزم منه. ودلالة قوله تعالى : ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ ) (5) الآية ، وقوله : ( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ ) (6) إلى قوله : ( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) (7) على جواز الإصباح جنبا ؛ فإنّه وإن لم يقصد من الآيات ، لكنّه لزم من جواز استغراق الليل بالرفث.

وقد تقدّم مثال آخر له فيما تقدّم (8). هذا هو التقسيم المشهور بين القوم.

والظاهر - كما قيل - أنّ المنطوق والمفهوم في تقسيمهم من أقسام المدلول ، وأرادوا من الدلالة في قولهم : « دلالة الاقتضاء » ونحوه المدلول مسامحة (9).

وقال بعضهم : إنّهما من أقسام الدلالة (10) ، وتعسّف (11) لتطبيق تحديدهما عليها.

ثمّ أنت خبير بأنّه لا بدّ من لزوم ما بين المنطوق والمفهوم ؛ إذ لولاه لم يدلّ عليه ، وانسدّ طريق الفهم ، فالمفهوم أيضا (12) مدلول التزامي.

فالظاهر أنّ غرض القوم أنّ اللزوم بين المعنى الموضوع [ له ] (13) والمنطوق غير الصريح لزوم بيّن بالمعنى الأخصّ ، وهو ما يلزم فيه تصوّر المدلول الالتزامي من تصوّر الملزوم ، أي الموضوع له لزوما عقليّا ، أو عرفيّا ، أو الأعمّ ، وهو ما يحكم فيه العقل باللزوم بعد تصوّرهما.

ص: 852


1- تقدّم في ج 1 ، ص 449.
2- التذكير باعتبار الخبر.
3- الأحقاف (46) : 15.
4- لقمان (31) : 14.
5- البقرة 5. : 187.
6- البقرة 5. : 187.
7- البقرة 5. : 187.
8- تقدّم في ص 838.
9- قاله القمّي في قوانين الاصول 1 : 167.
10- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 73.
11- في هامش « أ » : « بحمل « ما » في الحدّ مصدريّة » أي على المصدريّة.
12- في هامش « أ » : « كالمنطوق غير الصريح ».
13- أضفناها للضرورة.

وبين المنطوق والمفهوم لزوم غير بيّن.

وغير خفيّ أنّ المدلول الالتزامي الذي جعلوه مقسما للمنطوق غير الصريح لا ينحصر في اللازم الأخصّ والأعمّ ، بل هو أعمّ من ذلك ؛ فإنّ التتبّع يشهد بأنّ المراد به ما يكون للمعنى الموضوع [ له ] (1) مدخل ما في فهمه بأيّ نحو كان ؛ فربما يفهمه بعض العلماء بمعونة مقدّمات عقليّة قطعيّة أو ظنّيّة جليّة أو خفيّة ، ولا يفهمه أهل اللغة والعرف من حيث إنّهم كذلك ، وقد لا يجتمع إرادته مع إرادة الموضوع له ، مثلا رفع المؤاخذة عن الخطأ والنسيان الموجودين في الخارج ليس لازما لرفعهما في الخارج لا بالمعنى الأخصّ ولا الأعمّ ، ولذا ليس يفهمه اللغوي من حيث [ إنّه ] (2) لغوي ، ولا أهل العرف ، وإنّما يفهمه من كان عارفا بأنّ المتكلّم الصادق يصدق كلامه في الواقع. ولا يصدق هنا المعنى المطابقي ، وإلاّ لزم كذبه ، فكيف يجعل مثل هذا المعنى مدلولا التزاميّا ، ومنطوقا غير صريح ، ويخرج مفهوم الموافقة والمخالفة من المنطوق غير الصريح ، ويجعل مقابلا له مع أنّ مطلق المفهوم ممّا يفهم من المعنى المطابقي ، وله مدخليّة في فهمه ، ولذا يفهمه أهل العرف واللغة؟!

على أنّ بعضهم ادّعى اللزوم البيّن بين المنطوق والمفهوم (3) ، وحينئذ يصير حكاية التقابل أشنع.

ثمّ لا ريب في حجّيّة دلالة الالتزام - وإن لم تكن من قبيل المفاهيم - إذا علم توقّف دلالة اللفظ على اللازم في دلالة الاقتضاء ، وعلم العلّيّة وعدم مدخليّة خصوص الواقعة في دلالة التنبيه والإيماء ، وقطع بكون المدلول الالتزامي لازما في الواقع في دلالة الإشارة ، كأقلّ مدّة الحمل اللازم للآيتين (4) ، وكذا إذا حصل الظنّ المعتبر بالتوقّف والعلّيّة واللزوم بحيث صار المدلول الالتزامي متبادرا إلى أذهان أهل اللغة والعرف ، وأمّا إذا لم يحصل مثل هذا الظنّ فالحكم بالحجّيّة مشكل. وقد تقدّم تفصيل القول في دلالة الإيماء في القياس (5).

ويتفرّع على ذلك أنّه إذا قال : « أبرأتك في الدنيا دون الاخرى » ثبتت براءته فيهما ؛ لأنّ

ص: 853


1- أضفناها للضرورة.
2- أضفناها للضرورة.
3- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : 152 و 153.
4- تقدّمتا في ص 852 ، الهامش 3 و 4.
5- تقدّم في ج 1 ، ص 449.

البراءة في الدنيا ملزومة للبراءة في الاخرى ، وإذا باع السقف لا يدخل الحائط وإن دلّ عليه بالالتزام ؛ لأنّ التوقّف القطعي أو الظنّي المعتبر غير ثابت. وفي دخول ما يتناوله المبيع بالالتزام فيه وعدمه يتخرّج فروع كثيرة لا يخفى جليّة الحال فيها بعد الإحاطة بما ذكرناه. هذا.

وبعضهم خصّ المنطوق بالصريح وعرّفه بأنّه : ما دلّ عليه اللفظ بصريحه دلالة أوّليّة (1) ، وقسّم غير المنطوق إلى الثلاثة المذكورة (2) والمفهوم.

ويلزم على هذا أن لا يكون الأقسام الثلاثة من المنطوق ولا من المفهوم ، وهو كما ترى.

والأولى أن يقسّم المدلول أوّلا إلى المنطوق والمفهوم ، ويجعل المنطوق منحصرا في الصريح ، ويقسّم المفهوم إلى الأقسام الثلاثة ومفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة ؛ ليكون الثلاثة من أقسام المفهوم.

ثمّ المفهوم على قسمين :

[ القسم ] الأوّل : « مفهوم الموافقة » وهو أن يكون حكم غير المذكور فيه موافقا لحكم المذكور إثباتا ونفيا ، ويسمّى فحوى الخطاب ولحن الخطاب ، وأصله التنبيه بالأدنى على الأعلى. وقد تقدّم في باب القياس (3) أنّه لا خلاف في حجّيّته وثبوت التعدية به ، وأنّ الخلاف في وجه التعدية ، وقد أشرنا (4) إلى أنّ الحقّ أنّه (5) دلالة مفهومه وفحواه ، لا كونه قياسا جليّا ، أو منقولا عن موضوعه اللغوي - وهو الأدنى - إلى الأعلى كما قال به جماعة (6).

وقد تقدّم أيضا أنّه إمّا قطعي ، إذا كان التعليل بالمعنى وكونه أشدّ مناسبة للفرع قطعيّين. أو ظنّي إذا كان أحدهما ظنّيّا (7).

ص: 854


1- قاله القمّي في قوانين الاصول 1 : 168.
2- أي دلالة الاقتضاء ، والإيماء والتنبيه ، والإشارة.
3- تقدّم في ج 1 ، ص 456.
4- تقدّم في ج 1 ، ص 457.
5- أي وجه التعدية.
6- تقدّم في ج 1 ، ص 456.
7- تقدّم في ج 1 ، ص 456.

وبعضهم اشترط فيه أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المذكور (1).

وبعضهم اكتفى بالمساواة ، مثل قوله تعالى : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً ... ) (2) ؛ حيث دلّ بالمفهوم على تحريم الأخذ ، وهو مساو للأكل في الإتلاف (3).

[ القسم ] الثاني : « مفهوم المخالفة » وهو أن يكون المسكوت عنه مخالفا للمذكور في الحكم إثباتا ونفيا ، ويسمّى دليل الخطاب ، وله أقسام :

مفهوم الشرط ، نحو : « إن دخل فأكرمه » يفهم منه عدم إكرامه إن لم يدخل.

ومفهوم الصفة ، مثل : « في الغنم السائمة زكاة » يفهم منه أن ليس في المعلوفة زكاة.

ومفهوم العدد الخاصّ ، مثل : ( فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ) (4) ، مفهومه أنّ الزائد على الثمانين غير واجب.

ومفهوم الغاية ، مثل : ( فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) (5) ، يفهم منه أنّها إذا نكحت زوجا غيره تحلّ ، ومثله : ( وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ) (6).

ومفهوم الاستثناء ، مثل : « لا إله إلاّ اللّه » ، يفهم منه نفي الالوهيّة عن غير اللّه.

ومفهوم إنّما ، نحو : « إنّما الأعمال بالنيّات » (7). يفهم منه عدم صحّة الأعمال بدون النيّة.

ومفهوم الحصر ، نحو : « العالم زيد » ، مفهومه نفي العلم عن غيره.

ومفهوم الزمان والمكان ، مثل : « افعله في هذا اليوم » أو « في هذا المكان » مفهومه نفي الفعل في غير ذلك الزمان والمكان.

ومفهوم اللقب ، وهو نفي الحكم عمّا لم يتناوله الاسم ، وهو أضعف المفاهيم ، ولذا لم يقل

ص: 855


1- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 148.
2- النساء (4) : 10.
3- قاله الغزالي في المستصفى : 265 ، والشوكاني في إرشاد الفحول 2 : 37.
4- النور (24) : 4.
5- البقرة (2) : 230.
6- البقرة (2) : 222.
7- سنن ابن ماجة 2 : 1413 ، ح 4227 ، وصحيح البخاري 1 : 3 ، ح 1 ، وسنن الترمذي 4 : 179 - 180 ، ح 1647 ، أمالي الطوسي 2 : 231 ، وصحيح مسلم 3 : 1515 ، ح 155 / 1907 ، وتهذيب الأحكام 1 : 83 ، ح 218 ، و 4 : 186 ، ح 519.

بحجّيّته محقّق. مثاله : « في الغنم زكاة » ، مفهومه على القول بحجّيّته نفي الزكاة عن غير الغنم.

ومنه مفهوم الاسم المشتقّ الدالّ على الجنس ، كقوله : « لا تبيعوا الطعام بالطعام » (1).

هذه أقسام المفاهيم ، وها هي نذكرها بشروطها وتفصيلها في فصول.

فصل [1]

يشترط في مفهوم المخالفة بأقسامه امور :

الأوّل : أن لا يظهر أولويّة غير المذكور بالحكم ، أو مساواته فيه ، وإلاّ استلزم (2) ثبوت الحكم في غير المذكور وكان مفهوم موافقة ، كأن يقول السيّد لعبده في مقام الإغراء على إكرام الداخلين في بيته : « إن جاء أرذل الناس فأكرمه ».

الثاني : أن لا يكون قد خرج مخرج الأغلب ، نحو : ( وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ ) (3) ؛ فإنّ الغالب كون الربائب في الحجور ، فالتقييد لذلك ، فلا يدلّ على نفي الحكم عن اللاتي لسن في الحجور.

الثالث : أن لا يكون سؤال سائله عن المذكور ، فيجاب على طبقه ، بأن لا يحتاج السامع إلى بيانه ، مثل أن يسأل : في الغنم السائمة زكاة؟ فيجاب بأنّ : « في الغنم السائمة زكاة » ولا لشدّة الاهتمام ببيان حكمه ، بأنّ المطلوب بيان ذلك لمن له السائمة دون المعلوفة.

الرابع : أن لا يكون لدفع توهّم عدم تناول الحكم له ، كما في قوله تعالى : ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ) (4) ، فلو لا التصريح بالخشية لأمكن توهّم جواز القتل معها ، فدلّ بذكرها على ثبوت الحرمة عندها أيضا.

الخامس : أن لا يكون لاقتضاء الحكمة لإعلام حكم المذكور بالنصّ ، وما عداه بالفحص.

السادس : أن لا يظهر للتقييد فائدة اخرى سوى انتفاء الحكم في غير المسكوت عنه ؛ لأنّ وجه دلالته على انتفاء الحكم فيه أنّ للتقييد فائدة وغير التخصيص بالحكم منتف ،

ص: 856


1- لم نعثر عليه في المنابع الحديثيّة ولكن ذكره الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 79.
2- أي استلزم الظهور.
3- النساء (4) : 23.
4- الإسراء (17) : 31.

فيدلّ عليه ، فإذا ظهرت فائدة اخرى بطل وجه الدلالة.

ثمّ ظهور فائدة اخرى يقتضي (1) تخصيصه بالذكر إمّا يكون لأجل خوف يمنع عن ذكر حال غير المذكور ، أو لتقدّم بيان حكم الغير بنحو هذا من قبل ، أو لجهالة بحاله فلا يعلم ما حاله ، فيترك التعرّض له. وغير ذلك ممّا يقتضي التخصيص.

وبعضهم عبّر عن جميع الشروط المذكورة بالسادس (2) وأدرج كلّها فيه. ولا بأس به ؛ لأنّه يصدق على كلّ منها أنّه فائدة.

وإذ عرفت ذلك فيتفرّع عليه فروع كثيرة :

منها : جواز إعتاق رقبة مؤمنة أو سليمة إذا قال : « عليّ أن اعتق رقبة كافرة أو معيبة » ، وجواز التصدّق بحنطة جيّدة إذا نذر « أن يتصدّق حنطة رديّة » لظهور أولويّة غير المذكور. هذا إذا كان المنذور مطلقا ، ولو كان معيّنا فلا يجزئ غيره وفاقا.

ومنها : جواز أن يفتدي الزوجة بعوض الطلاق عند الأمن من إقامة الحدود ، مع أنّ اللّه تعالى قال : ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) (3) ؛ لأنّ الغالب أنّ الخلع لا يقع إلاّ عند الخوف ، فلا يدلّ على المنع عند انتفائه.

وقس عليه التفريع في باقي الشروط.

فصل [2]

مفهوم الشرط حجّة ، بمعنى (4) أنّ تعليق مطلق الحكم - أمرا كان أو غيره - على شرط يدلّ على انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط ما لم يظهر للتقييد به فائدة اخرى ، وفاقا للأكثر.

وقال جماعة منهم المرتضى رحمه اللّه : إنّه ليس بحجّة (5).

ص: 857


1- الجملة الفعليّة مرفوعة محلاّ على أنّها صفة ل- « ظهور » لا خبر له وخبره قوله : « إمّا يكون ».
2- لم نعثر على قائله فلمزيد الاطّلاع راجع : الإحكام في أصول الأحكام 3 : 79 ، وإرشاد الفحول 2 : 40.
3- البقرة (2) : 229.
4- هذا إشارة إلى أنّ الكلام والاختلاف في وجود المفهوم وعدمه لا في حجّيّته وعدمها ، فإنّه حجّة بلا كلام إن تحقّق. وبعبارة اخرى : إنّ الكلام يقع في الصغرى دون الكبرى.
5- الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 392 - 393 و 406 ، وحكاه عن الآخرين الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 96.

لنا : أنّ الشرط لغة ما ينتفي المشروط بانتفائه (1) ، فإذا ثبت كونه شرطا يلزمه ذلك.

وأيضا قولنا : « إن دخل فأكرمه » بمثابة قولنا : « الشرط في إكرامه الدخول » عرفا. ولا ريب أنّ المتبادر منه انتفاء « الإكرام » عند انتفاء « الدخول » فكذا ما هو بمثابته ، وإذا كان كذلك عرفا يكون كذلك لغة ؛ لأصالة عدم النقل ، فيندفع القول بأنّ تسمية « إن » حرف شرط اصطلاح طار ، كالرفع والنصب.

والقول بأنّ الغالب في أداة الشرط في الأحكام استعمالها في السببيّة فلا يلزمه ما ذكر (2) ، مندفع بأنّ ترتّبه على السبب أجدر ؛ لأنّ المسبّب ينتفي بانتفاء السبب. وإمكان تعدّد السبب مدفوع بأصالة العدم. ولو علم التعدّد - كما [ إذا ] (3) علم إثبات الحقّ المالي بشاهد وامرأتين ، وشاهد ويمين ، وشاهدين - فالتعليق على أحدها - كما في قوله تعالى : ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ) (4) - لا يمنع من ثبوت الحكم بغيره ؛ لأنّ السبب حينئذ (5) « أحدها » فانتفاء المسبّب يتوقّف على انتفاء جميعها ؛ لأنّ مفهوم « أحدها » لا يعدم إلاّ بعدم الجميع.

ولنا أيضا : أنّه لو لم يدلّ على مخالفة المسكوت عنه المذكور ، لم يكن لتخصيص الشرط بالذكر فائدة وكان بمثابة قولنا : « الإنسان إذا كان أبيض لا يعلم الغيب » و « إذا كان أسود لا يبصر إذا نام » مع أنّ ظاهر التخصيص يستدعي فائدة. وغير فائدة تخصيص الحكم بالشرط منتف بالفرض أو الأصل (6) ، فيلزم الحكم بدلالته عليه ؛ صونا لكلام البلغاء عن اللغو.

وهذا الدليل يجري في سائر المفاهيم المتقدّمة سوى مفهوم اللقب ؛ لأنّ اللقب لو اسقط اختلّ الكلام ولم يكن مفيدا أصلا ، فذكر لذلك. وأمّا غيره ، فلو اسقط انتظم الكلام وأفاد ،

ص: 858


1- المعجم الوسيط : 479 ، « ش ر ط ».
2- أشار إليه ابن الحاجب في منتهى المطلب : 152.
3- أضفناه لاستقامة العبارة.
4- البقرة (2) : 282. فإنّ الشاهدين من الرجال أحد الأسباب الثلاثة المذكورة.
5- أي حين العلم بأنّ أسباب إثبات الحقّ المالي ثلاثة.
6- والمراد به أصالة العدم ، وهو استصحاب عدم تحقّق الفائدة عند الشكّ في تحقّقها.

فلا بدّ في ذكره من فائدة ، والفرض عدم فائدة سوى مخالفة المسكوت [ عنه ] (1) للمذكور.

واعترض عليه : بأنّه إثبات للوضع بما فيه من الفائدة ، وأنّه باطل ؛ لأنّ طريق ثبوته النقل (2).

والجواب : منع أنّه إثبات الوضع بالفائدة ، بل إثبات له بالاستقراء عنهم أنّه إذا لم يكن للّفظ فائدة سوى واحدة تعيّنت.

ويؤكّده أنّه ثبت دلالة التنبيه والإيماء ، وهو الاقتران بحكم لو لم يرد به التعليل ، لكان بعيدا ، فيحكم بالعلّيّة ؛ دفعا للبعد.

ولا ريب أنّ البعد أقلّ محذورا من عدم الإفادة ، فإذا أثبتنا العلّيّة حذرا عن البعد ، فإثبات المفهوم حذرا عن لزوم كون الكلام غير مفيد أولى. ولا يرد عليه مفهوم اللقب ؛ لما تقدّم (3).

ثمّ بعض من أنكر حجّيّة المفهوم ادّعى أنّه لا يوجد صورة لا تحتمل فائدة من الفوائد المتقدّمة (4) ، وذلك كاف لصون الكلام عن اللغو (5). وأنت خبير بأنّ هذا مجرّد دعوى يكذبه (6) التتبّع والتصفّح.

وقد اعترض عليه (7) أيضا بوجوه واهية لا فائدة في إيرادها والتعرّض لدفعها ؛ لظهور اندفاعها.

ولنا أيضا : ما روي أنّ بعض الصحابة قال للنبيّ : ما بالنا نقصر من الصلاة وقد أمنّا ، وقد قال اللّه تعالى : ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ ) (8)؟ فقال صلى اللّه عليه وآله : « صدقة تصدّق اللّه بها عليكم ، فاقبلوا صدقته » (9).

ص: 859


1- أضفناه لاستقامة العبارة.
2- ذكره ابن الحاجب في منتهى الوصول : 149.
3- تقدّم في ص 858 ، وهو أنّ اللقب إذا اسقط اختلّ الكلام.
4- في ص 858.
5- ذكره الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 97 ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : 149 و 150.
6- أي يبيّن كذبه. والأولى : « يكذبها ».
7- أي على التأكيد وهو ثبوت دلالة التنبيه والإيماء. راجع منتهى الوصول لابن الحاجب :7. 152.
8- النساء (4) : 101.
9- جامع الاصول 2 : 188 ، ح 583.

وجه الاستدلال به أنّه فهم من تقييد قصر الصلاة بحال الخوف عدم قصرها عند عدم الخوف ، وأقرّه النبيّ صلى اللّه عليه وآله عليه ، ولو لم يدلّ عليه لما فهمه منه ، ولما أقرّه النبيّ عليه.

والقول بأنّ الفهم والتقرير مستندان إلى استصحاب وجوب الإتمام لا إلى دلالة المفهوم (1) ، خلاف المتبادر ؛ على أنّ الأصل هو القصر دون الإتمام ؛ لما روي أنّ الصلاة كانت ركعتين سفرا وحضرا ، فاقرّت صلاة السفر وزيدت في الحضر (2).

احتجّ المخالف بقوله تعالى : ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ) (3) ، فإنّ مفهوم الشرط - لو كان حجّة - دلّ على عدم تحريم الإكراه حيث لم يردن التحصّن مع أنّه حرام مطلقا.

والجواب عنه أوّلا : أنّه يدلّ على عدم حرمة الإكراه عند عدم إرادة التحصّن ، ولا يلزم منه الإباحة ؛ لأنّ انتفاء الحرمة قد يكون بطريان الحلّ ، وقد يكون لامتناع وجود متعلّقها عقلا ؛ لأنّ السالبة تصدق بانتفاء كلّ من الموضوع والمحمول ، وهنا قد انتفى الموضوع ؛ لأنّه مع عدم إرادة التحصّن يتحقّق إرادة البغاء ، ومعه يمتنع الإكراه ، لأنّه إلزام الغير على فعل يكرهه ، وإذا ارتفع الكراهة ارتفع الإكراه ، فلا يتعلّق به الحرمة.

وثانيا : أنّه ممّا خرج مخرج الأغلب ؛ إذ الغالب أنّ الإكراه يكون عند إرادة التحصّن ؛ ويؤيّده أنّ الآية نزلت فيمن يردن التحصّن ويكرههنّ المولى على الزنى.

وثالثا : أنّ حجّيّة المفهوم - كما عرفت (4) - إذا لم يظهر للتخصيص فائدة سوى تخصيص الحكم ، وهنا يجوز أن يكون الفائدة المبالغة في النهي عن الإكراه ، يعني : أنّهنّ إذا أردن التحصّن ، فالمولى أحقّ به.

ورابعا : أنّ المفهوم وإن اقتضى ذلك إلاّ أنّه انتفى ؛ لتعارض ما هو أقوى منه وهو الإجماع.

ص: 860


1- ذكره الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 97 ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : 149 و 150.
2- وسائل الشيعة 4 : 88 و 89 ، أبواب أعداد الفرائض ، الباب 24 ، ح 6 و 7 و 10.
3- النور (24) : 33.
4- في ص 857.

ثمّ الجواب الثاني هو الجواب عن الاحتجاج بمثل قوله تعالى : ( وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (1) [ و ] ( وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) (2).

وكيفيّة التفريع أنّه يلزم الحكم بدلالة قوله صلى اللّه عليه وآله : « إذا بلغ الماء قدر قلّتين لم يحمل خبثا » (3) ، وقول الصادق عليه السلام : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » (4) على تنجيس ما دون الكرّ بمجرّد الملاقاة ، وعدم (5) دخول الأغنياء من أولاد الواقف في الموقوف عليهم لو قال : « وقفت على أولادي إن كانوا فقراء ».

وقس عليه الحكم في الأيمان ، والنذور ، والوصايا.

فصل [3]

الحقّ أنّ مفهوم الصفة حجّة ، فيقتضي التعليق بها انتفاء الحكم عند انتفائها ، وفاقا للشيخ (6) من أصحابنا ، والشافعي (7) من العامّة ، وكثير من علماء الفريقين.

ونفاه (8) المرتضى والحنفيّة والمعتزلة مطلقا.

وقيل : حجّة في ثلاث صور (9) دون غيرها :

الاولى : أن يرد بيانا ، كقوله « في الغنم السائمة زكاة » (10) ، فإنّ ذكره كان بيانا لقوله عليه السلام « خذ من غنمهم صدقة » (11).

ص: 861


1- البقرة (2) : 283.
2- النحل (16) : 114.
3- تقدّم تخريجه في ص 810.
4- الكافي 3 : 2 ، باب الماء الذي لا ينجّسه شيء ، ح 1 و 2 ، وتهذيب الأحكام 1 : 40 ، ح 109 ، والاستبصار 1 : 6 ، ح 1 و 3 ، وسائل الشيعة 1 : 117 ، أبواب الماء المطلق ، الباب 9 ، ح 1 و 2 و 6.
5- عطف إمّا على « دلالة » أو « الحكم ».
6- حكاه عنه الفاضل التوني في الوافية : 232 ، والشيخ - بعد نقله كلاما مبسوطا للسيّد المرتضى في الاستدلال على عدم حجّيّة مفهوم الوصف - قال : وفي هذه المسألة نظر. راجع العدّة في الأصول 2 :6. 481.
7- حكاه عنه الأسنوي في التمهيد : 245.
8- أي نفى وجود المفهوم وهو مساوق لنفي حجّيّته. راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة 1 :8. 393. والإحكام في أصول الأحكام 3 : 80.
9- نسبه الآمدي إلى أبي عبد اللّه البصري في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 80 ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : 149.
10- اقتباس من نصوص الزكاة. راجع : دعائم الإسلام 1 : 10. وجامع الاصول 4 : 41 ، ح 2671 ، ووسائل الشيعة 9 : 118 ، أبواب زكاة الأنعام ، الباب 7.
11- اقتباس من نصوص الزكاة. راجع : دعائم الإسلام 1 : 10. وجامع الاصول 4 : 41 ، ح 2671 ، ووسائل الشيعة 9 : 118 ، أبواب زكاة الأنعام ، الباب 7.

الثانية : أن يرد للتعليم وتمهيد القاعدة ، كقوله عليه السلام : « إن تخالف المتبايعان في القدر أو الصفة ، فليتحالفا وليترادّا » (1).

الثالثة : أن يكون ما عدا الصفة داخلا تحتها ، كالحكم بالشاهدين ، فإنّه يدلّ على نفيه عن الشاهد الواحد ؛ لدخوله في الشاهدين (2).

لنا : أنّه المتبادر من نحو قوله : « الميّت اليهودي لا يبصر » ولذا يذمّ قائله عرفا بأنّ الميّت المسلم أيضا لا يبصر.

ولنا أيضا بعض ما تقدّم من الأدلّة في مفهوم الشرط (3) ، وما تقدّم في باب القياس (4) من أنّ الترتّب (5) على الوصف يشعر بالعلّيّة ، والأصل نفي علّة اخرى ، فينتفي الحكم بانتفائه.

وما نقل أنّ أبا عبيدة لمّا سمع قوله عليه السلام : « ليّ الواجد يحلّ عقوبته وعرضه » (6) و « مطل الغنيّ ظلم » (7) ، قال : هذا يدلّ على أنّ ليّ غير الواجد لا يحلّ عقوبته وعرضه ، ومطل غير الغنيّ ليس بظلم (8) ، وقول مثله حجّة في أمثال المقام ؛ لأنّ أكثر اللغة إنّما يثبت بقول أمثاله من الادباء (9).

وما نقل من إنكار أخفش (10) لم يثبت.

احتجّ النافي مطلقا بوجوه :

منها : أنّه لو دلّ على انتفاء الحكم عن غير محلّ الوصف لكانت (11) إحدى الثلاث ، وهي بأسرها منتفية.

ص: 862


1- راجع بدائع الصنائع 6 : 263 ، لم نعثر عليه في كتب الحديث بألفاظه.
2- تقدّم آنفا.
3- تقدّم في ص 857.
4- تقدّم في ج 1 ، ص 454.
5- في « ب » : « الترتيب ».
6- سنن ابن ماجة 2 : 811 ، ح 2427 ، وسنن أبي داود 3 : 313 ، ح 3628 ، وأمالي الطوسي : 520 ، ح 1146 ، وعوالي اللآلئ 4 : 72 ، ح 44.
7- عوالي اللآلئ 4 : 72 ، ح 45.
8- حكاه عنه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 81 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 102.
9- كالشافعي كما في منتهى الوصول لابن الحاجب : 149.
10- حكاه عنه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 81 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 102.
11- أي لكانت تلك الدلالة.

أمّا المطابقة والتضمّن ، فظاهر ؛ إذ نفي الحكم عن غير محلّ الوصف ليس عين إثباته فيه ولا جزأه ، على أنّه لو كان كذلك ، لكانت الدلالة بالمنطوق لا بالمفهوم ولم يقل به أحد.

وأمّا الالتزام ، فلانتفاء اللزوم الذهني والعرفي بين ثبوت الحكم عند صفته وانتفائه عند اخرى (1).

وجوابه : أنّ إنكار ثبوت اللزوم العرفي في مثله مكابرة.

ومنها : أنّه لو دلّ عليه لدلّ عليه في الخبر ، واللازم باطل ؛ لأنّ قولنا : « في بلدنا رجال علماء » لا يدلّ على عدم الجهّال فيها ، وهو ظاهر من اللغة والعرف.

والجواب : منع بطلان اللازم ؛ فإنّا نلتزم أنّ الخبر فيه مثل الأمر لغة وعرفا ، وإنّما يختلف في بعض الأمثلة كالمثال المذكور ومثله بقرائن خارجيّة.

ومنها : أنّه لو صحّ لما صحّ أداء الزكاة السائمة والمعلوفة ، كما لا يصحّ « لا تقل له افّ واضربه » ؛ للزوم التناقض.

والجواب : أنّ صرف الظواهر عن معانيها لدليل لا يوجب التناقض ، وإنّما يوجبه الصرف في القطعيّات ، ولذا لا يجوز في مفهوم الموافقة.

ومنها : أنّه لو ثبت المفهوم لزم التعارض عند المخالفة ، كما في قوله تعالى : ( لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً ) (2) ؛ إذ مفهومه عدم النهي عن القليل منه ، والنهي ثابت في الكثير والقليل ، والتعارض خلاف الأصل ، وإذا لم يثبت (3) لم يلزم ذلك ، وما يوجب خلاف الأصل مرجوح.

والجواب : أنّ خلاف الأصل يجب المصير إليه إذا ثبت عليه الدلالة.

وممّا ذكرنا يظهر فساد القول بالتفصيل.

وكيفيّة التفريع أنّ المفلّس لو زرع في الأرض التي اشتراها ولم يدفع ثمنها وأراد بائعها أخذها ، لا يقلع زرعه مجّانا ولا بأرش ، بل عليه إبقاؤه إلى إبّان (4) جذاذ الزرع ؛ لقوله عليه السلام :

ص: 863


1- راجع : الإحكام في أصول الأحكام 3 : 81 - 83 ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : 151.
2- آل عمران (3) : 130.
3- الضمير المستتر راجع إلى المفهوم.
4- إبّان الشيء : أوّله.

« ليس لعرق ظالم حقّ » (1) ، فإنّه يدلّ بالمفهوم على أنّ عرق غير الظالم ، له حقّ ، والمفلّس ليس بظالم. وكذا لو أخذ الشفيع الأرض بالشفعة بعد زرع المشتري أو انقطعت مدّة المزارعة والزرع باق ولم يؤخّره عن المدّة المشروطة وقت العقد.

فصل [4]

قيل : مفهوم العدد حجّة مطلقا (2).

وقيل : لا حجّيّة فيه مطلقا (3).

حجّة الأوّل : بعض الأدلّة المذكورة في مفهوم الصفة (4) ، وقوله صلى اللّه عليه وآله : « لأزيدنّ على السبعين » (5) بعد نزول قوله تعالى : ( إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ) (6) ؛ فإنّه يدلّ على أنّه صلى اللّه عليه وآله فهم منه أنّ حكم ما زاد على السبعين خلاف حكمه ، وهو مفهوم العدد.

وفيه : أنّ سوق الآية يدلّ على أنّ ذكر السبعين للتأكيد والمبالغة ، فما زاد على السبعين مثله في الحكم ، ولعلّه صلى اللّه عليه وآله علم أنّه غير مراد بخصوصه ، أو أبقاه على أصله من الجواز ؛ إذ لم يتعرّض له بنفي وإثبات ، والأصل جواز الاستغفار للرسول وكونه مظنّة للإجابة ، ففهم من حيث إنّه الأصل لا من التخصيص بالذكر.

وبأنّه (7) لو لم يدلّ تعليق حكم على عدد [ على ] (8) مخالفة غيره له في الحكم لزم أن لا يحصل الحكم به ؛ لاستلزامه تحصيل الحاصل ، ففي نحو قوله صلى اللّه عليه وآله : « طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعا إحداهنّ بالتراب » (9) يلزم أن لا يكون السبع مطهّرة ؛ لأنّ

ص: 864


1- سنن الترمذي 3 : 662 ، ح 1378 ، وسنن أبي داود 3 : 178 ، ح 3073 ، وتهذيب الأحكام 6 : 294 ، ح 819 ، و 7 : 206 ، ح 909 ، ووسائل الشيعة 25 : 388 ، أبواب الغصب ، الباب 3 ، ح 1.
2- حكاه الأسنوي عن الشافعي في التمهيد : 252.
3- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 103 - 104.
4- تقدّمت في ص 863.
5- الكشّاف 2 : 294 ، ذيل الآية 80 من سورة التوبة (9) ، والدرّ المنثور 4 : 254.
6- التوبة (9) : 80.
7- متعلّق بالمقدّر ، أي احتجّ الأوّل بأنّه.
8- ما بين المعقوفين أضفناه بمقتضى العبارة.
9- سنن ابن ماجة 1 : 130 ، ح 363 ، وصحيح مسلم 1 : 236 ، ح 91 / 279.

الطهارة حينئذ (1) تحصل بدون السبع ومعه لا تحصل بالسبع ؛ لأنّه تحصيل الحاصل ، وهو محال. وكذا في قوله : « خمس رضعات يحرّمن » (2) يلزم أن لا يكون الخمس محرّمة ؛ لما ذكر (3). وهو يدلّ على مخالفة الناقص له دون الزائد (4).

وحجّة الثاني عدم ما يدلّ على المخالفة.

والحقّ أن يقال : إنّ تعليق شيء على عدد خاصّ إمّا يكون لكونه علّة لوجوده ، أو عدمه ، أو بدون ذلك.

فإن كان علّة لوجوده ، كقوله : « طهور إناء » (5) دلّ على انتفائه في الناقص ؛ لانتفاء ما هو العلّة ، وثبوته في الزائد ؛ لوجود العلّة فيه.

وإن كان علّة لعدمه دلّ على وجوده في الأقلّ ؛ لانتفاء ما هو العلّة ، وعدمه في الأكثر ؛ لوجود العلّة فيه ، كحديث القلّتين (6) ؛ حيث يفهم منه أنّ الأقلّ يحمل الخبث دون الأكثر.

وإن لم يكن علّة ، فالشيء المعلّق عليه إمّا يكون ثبوتيّا أو عدميّا ، فإن كان ثبوتيّا فإمّا يكون حكما شرعيّا أو لا ، فإن كان حكما شرعيّا فإمّا يكون تحريما أو غيره.

فإن كان تحريما دلّ على ثبوته في الزائد دون الناقص من حيث اعتباره فقط ؛ فإنّ تحريم ضرب المائة يدلّ على تحريم ضرب المائتين ، لوجود المحرّم فيه ، ولا يدلّ في الناقص فقط على نفي ولا على إثبات.

نعم ، يدلّ على تحريمه من حيث إنّه في ضمن المحرّم ، وربما دلّ على تحريمه وإن اعتبر فقط ، كتحريم استعمال نصف الكرّ مع وقوع النجاسة فيه ؛ فإنّه يستلزم تحريم الأقلّ إذا وقع فيه النجاسة.

وإن كان غير تحريم من إيجاب أو ندب أو إباحة ، دلّ على ثبوته في الناقص

ص: 865


1- أي عدم المفهوم.
2- راجع صحيح مسلم 2 : 1075 ، باب التحريم بخمس رضعات ، ح 24 و 25.
3- وهو لزوم تحصيل الحاصل.
4- خلاصة الجواب أنّ هذا الدليل أخصّ من المدّعى ، فإنّ مقتضى الدليل هو إثبات المفهوم ونفي الحكم بالنسبة إلى الناقص دون الزائد والمدّعى نفي الحكم عن الزائد والناقص كليهما.
5- تقدّم آنفا.
6- تقدّم في ص 861.

من حيث إنّه في ضمنه ، ولا دلالة فيه عليه من حيث اعتباره فقط وعلى الزائد بشيء ، وسرّه ظاهر.

وإن لم يكن حكما شرعيّا ، بل كان غيره كالبيع والإجارة وأمثالهما ، مثل قوله لوكيله : « بع هذا أو اشتره ، أو آجره أو استأجره بمائة » لم يدلّ على شيء من النفي والإثبات في الناقص والزائد ؛ لانتفاء الدلالة اللغويّة والعرفيّة والعقليّة.

ولذلك لو باع أو اشترى بأقلّ أو أكثر ، وأجاز الموكّل ، صحّ ؛ ولزوم تحصيل الحاصل في الناقص إنّما يكون فيما هو علّة ؛ وفهم الانتفاء أو الثبوت في الناقص أو الزائد في بعضها إنّما هو بقرائن خارجيّة ، ولذا يفهم في بعض آخر خلافه.

وإن كان عدميّا نحو : « لا تبع أو لا تشتر هذا بمائة » فحكمه حكم السابق ، من عدم دلالته على شيء من النفي والإثبات ، والناقص والزائد (1).

فصل [5]

مفهوم الغاية أقوى من مفهوم الشرط ، فالتقييد بها يدلّ على مخالفة ما بعدها لما قبلها ؛ وفاقا لكلّ من قال بحجّيّة مفهوم الشرط (2) ، وبعض من لم يقل بها (3).

وخالف في ذلك المرتضى (4) من أصحابنا ، وبعض العامّة (5).

لنا : أنّ التعليق على الغاية يجب أن يكون لفائدة ، والفائدة هي مخالفة ما بعدها لما قبلها في الحكم ؛ لأنّ الأصل (6) أو الفرض عدم غيرها من الفوائد. وقد أشرنا (7) إلى أنّ مثل ذلك يجري في جميع التراكيب التعليقيّة.

والقول بأنّ جميع الفوائد متساوية في الافتقار إلى القرينة ، وليس للمخالفة المذكورة

ص: 866


1- كذا في النسختين. والظاهر الصحيح : « في الناقص والزائد ».
2- كالشافعي والأشعري وإمام الحرمين كما في منتهى الوصول لابن الحاجب : 149 و 152.
3- كالقاضي وعبد الجبّار والغزالي والبصري كما في المصدر.
4- الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 407.
5- نسبه ابن الحاجب إلى بعض الفقهاء في المصدر.
6- والمراد به أصالة العدم وهو استصحاب عدم تحقّق الفائدة عند الشكّ في وجودها.
7- تقدّم في ص 858.

أولويّة على غيرها من الفوائد المتقدّمة ليحمل (1) عليها عند عدم القرينة (2) ، ضعيف ؛ لأنّها هي المتبادرة عند عدم القرينة.

والظاهر أنّ المنكر للتبادر ، والقائل بأنّ نسبة هذه التراكيب إلى هذه الفائدة وغيرها من الفوائد كنسبة المشترك إلى معانيه ، مكابر.

وقد تقدّم - أيضا - في مفهوم الشرط بعض أدلّة أخر (3) يدلّ عليه.

وأيضا « صم إلى الليل » معناه : أنّ آخر وجوب الصوم مجيء الليل ، فلو فرض ثبوت الوجوب بعد مجيئه ، لم يكن الليل آخر وقت الوجوب ، وهو خلاف المنطوق.

والإيراد عليه : بأنّ المستفاد منه أنّ الصوم الواجب بهذا الخطاب انتهاؤه أوّل الليل وهو لا يستلزم عدم وجوبه بعده ، بل يجوز أن يكون مطلوبا موسّعا بعده أيضا لكن سكت عنه لمصلحة (4) ، خلاف التبادر ، سيّما إذا كان الآمر هو الشارع.

لا يقال : لو كان فرض ثبوت الوجوب بعد مجيء الليل خلاف المنطوق ، كان هذا المفهوم من جملة المنطوق ؛ لأنّه لو اريد بآخر وجوب الصوم ما ينتهي إليه وينقطع عنده ، فقد صار المفهوم منطوقا ، مع أنّه يلزم كون الكلام حينئذ مجازيا مع التصريح بعدم المفهوم ، ولم يقل به أحد ، وإن اريد به ما ينتهي إليه سواء انقطع أم لا ، فلا يلزم خلاف المنطوق.

لأنّا نقول : المراد به ، المنتهى لا بشرط شيء ، من دون ملاحظة أنّ نفسه أو ما بعده حكمه خلاف حكم ما قبله ، ومن دون ملاحظة أنّه أو ما بعده أعمّ من أن يكون موافقا أو مخالفا ، بل لوحظ من غير تخصيص وتعميم. ويدّعى أنّ كون الشيء منتهى يستلزم أن يكون نفسه أو ما بعده مخالفا لما قبله في الحكم ، ولذا لو ارتفع هذا اللازم ارتفع الملزوم الذي هو المنطوق ، فلا يلزم صيرورة المفهوم منطوقا ، ولا كون الكلام مجازيا مع التصريح بعدم المفهوم.

ثمّ إنّ كون حكم نفس الغاية مثل حكم ما بعدها أو ما قبلها قد ظهر ممّا تقدّم ، فلا نعيده.

وكيفيّة التفريع ظاهرة.

ص: 867


1- في « ب » : « ليحصل ».
2- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 102.
3- تقدّم في ص 857.
4- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 102.
فصل [6]

لا ريب في أنّ « إلاّ » و « إنّما » يفيدان الحصر ، إلاّ أنّ « إلاّ » يفيده بالمنطوق ، و « إنّما » يفيده بالمفهوم.

ويدلّ على الأوّل استعمال الفصحاء ، والنقل عن أئمّة النحو والتفسير (1).

وعلى الثاني عدم جواز : « ما زيد إلاّ قائم لا قاعد » وجواز « إنّما زيد قائم لا قاعد » ، واستعمال صريح النفي والاستثناء عند إصرار المخاطب على الإنكار وعدم استعمال « إنّما » عنده.

ومن الناس من قال : إنّ « إنّما » لا يفيد الحصر ؛ لعدم الفرق بين « إنّ زيدا قائم » و « إنّما زيد قائم » ، فإنّ « ما » هاهنا زائدة لمجرّد التأكيد (2).

ومنهم من قال : إنّه يفيده بالمنطوق دون المفهوم ؛ لعدم الفرق بين « إنّما إلهكم اللّه » وبين « لا إله لكم إلاّ اللّه » (3).

وكلاهما مصادرة على المدّعى ، يدفعه ما ذكرناه.

ويتخرّج عليه فروع كثيرة من الأخبار والأقارير والوصايا وغيرها.

فصل [7]

صرّح علماء المعاني بأنّ تقديم ما حقّه التأخير يفيد الحصر (4). وهو إمّا يحصل من تقديم المبتدأ على الخبر ، نحو : « تميميّ أنا » ، أو من تقديم متعلّقات الفعل عليه ، كالحال والمفعول والتمييز ، أو من تقديم الفاعل المعنوي ، نحو : « أنا عرفت » و « رجل عرف ».

ولم يلتفت إلى هذه الأقسام في كتب الاصول ؛ لمجيئها في مواضع كثيرة لغير الحصر ، بل الملتفت إليه فيها قسمان آخران :

ص: 868


1- راجع تمهيد القواعد : 478 ، القاعدة 169.
2- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 106.
3- حكاه الأسنوي في التمهيد : 218.
4- راجع المطوّل : 214.

أحدهما : أن يعرّف المبتدأ - سواء كان صفة أو اسم جنس - ويجعل الخبر ما هو أخصّ منه مفهوما ، سواء كان علما أو غير علم ، مثل : « العالم زيد » و « صديقي عمرو » و « الرجل خالد » و « الكرم في العرب » و « الأئمّة من قريش ».

وثانيهما : عكسه ، مثل : « زيد العالم ».

والحقّ ، أنّهما يفيدان الحصر بالمفهوم دون المنطوق ؛ وفاقا لأئمّة المعاني ، ومحقّقي الاصوليّين (1).

أمّا الأوّل ، فلأنّ المعرّف لمّا كان ظاهرا في العموم والجنسيّة - على ما هو قانون الخطابيّات - أفاد اتّحاد الجنس مع الموصوف بحسب الوجود ، وهو المعنيّ من الحصر. كيف؟ ولو لم يفده ، لزم الإخبار بالأخصّ عن الأعمّ - لظهوره في العموم ؛ نظرا إلى عدم كونه للعهد والجنس ؛ لعدم القرينة الصارفة إلى العهد ، وعدم جواز الإخبار عن الحقيقة الكلّيّة بأنّها زيد الجزئي - وهو (2) غير جائز ، كما لا يجوز : « الحيوان إنسان » و « اللون سواد » ؛ لأنّ الثابت للعامّ ثابت لجزئيّاته ، فيلزم ثبوت زيد لعمرو (3) ، وثبوت الإنسانيّة للفرس.

وأمّا إن لم يجعل ظاهرا في العموم - على ما هو قانون الاستدلال - فلا يفيد الحصر ، بل يؤخذ الأقلّ المتيقّن ، ولذا يجعله أهل المنطق في قوّة الجزئيّة ، أي بعض العالم زيد.

وأمّا الثاني ، فلأنّه لا تعلّق له بالنفي أصلا ، فلا معنى لدلالته عليه. هذا.

ومن الناس من قال : إنّهما لا يفيدان الحصر (4).

ومنهم من قال : يفيده (5) بالمنطوق دون المفهوم (6). وتمسّكوا بشبهة واهية أعرضنا عن التعرّض لإيرادها ودفعها ؛ لظهور فسادها.

والتفريع غير خفيّ.

ص: 869


1- حكاه عنهم الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 107.
2- أي الإخبار بالأخصّ عن الأعمّ.
3- توضيحه : أنّ الزيديّة في قوله : « الإنسان زيد » ثابتة لأفراد الإنسان ومنهم عمرو فثبت الزيديّة لعمرو. وقس عليه الحيوان إنسان. وعلى المصنّف أن يتعرّض للازم قوله : « اللون سواد » وهو اجتماع الضدّين ، فإنّ السواديّة ثابتة لأفراد اللون ومنها البياض ، فيلزم اجتماع البياض والسواد.
4- حكاه الآمدي عن الحنفيّة والقاضي أبي بكر وجماعة من المتكلّمين في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 107.
5- كذا في النسختين. والصحيح : « يفيدانه ».
6- حكاه الشوكاني في إرشاد الفحول 2 : 47.
فصل [8]
اشارة

مقتضى بعض الأدلّة السابقة حجّيّة مفهوم الزمان والمكان ، فتقييد الحكم بزمان أو مكان يدلّ على مخالفة غير ذلك الزمان والمكان لهما فيه ، فلو قال لوكيله : « افعله » ، ثمّ قال له :

« افعله في هذا اليوم » أو « هذا المكان » كان منعا له فيما عدا ذلك ، فلو خالف الوكيل وفعل فيما عدا ذلك ، لم يصحّ ، فلو كان فعله واحدا من العقود أو الإيقاعات بطل.

ولو قال المدّعى عليه : « لا يلزمني تسليم هذا المال اليوم » ، فقيل : لا يكون إقرارا (1) ؛ لأنّ الإقرار لا يثبت بالمفهوم ، ومقتضى المفهوم لزومه في غير ذلك اليوم ، فيكون إقرارا بالمؤجّل ، أو بثبوته قبل ذلك ، فيلزمه إثبات الردّ ، فلو لم يثبته لزمه الأداء.

تنبيه

لا يخفى عليك أنّ فائدة الخلاف في حجّيّة المفهوم وعدمها إنّما تظهر إذا كان المفهوم مخالفا للأصل ، نحو « ليس في الغنم المعلوفة زكاة » أو « ليس في الغنم إذا كانت معلوفة زكاة » أو « ليس في الغنم زكاة إلى أن تسوم » و « إنّما ليس في الغنم زكاة ». أو « لا تبع في هذا الزمان » أو « المكان ».

وأمّا إذا كان موافقا للأصل ، نحو « في الغنم السائمة زكاة » ومثله ، فلا يظهر للخلاف فيه ثمرة ؛ لثبوت المفهوم بالبراءة الأصليّة وإن لم يقل بحجّيّته.

فصل [9]
اشارة

مفهوم اللقب ليس حجّة ؛ خلافا لمن لا يعتدّ به (2) ، فتعليق الحكم بالاسم - طلبا كان أم خبرا - لا يدلّ على نفي الحكم عمّا لم يتناوله الاسم ؛ لأنّه قد تقدّم (3) أنّ المقتضي لاعتبار المفهوم اشتمال الكلام على اللغو لولاه ، واللقب قد انتفى فيه هذا المقتضي ؛ إذ لو طرح اختلّ الكلام.

ص: 870


1- نقله الأسنوي عن الرافعي في التمهيد : 259 - 260.
2- نسبه ابن الحاجب إلى الدقّاق وبعض الحنابلة في منتهى الوصول : 152.
3- تقدّم في ص 858.

وأيضا لو كان حجّة لزم الكفر من قولنا : « زيد موجود (1) ، أو « عالم » ، أو « قادر » و « عيسى رسول اللّه ».

احتجّ الخصم بأنّ التخصيص لا بدّ له من فائدة.

وقد ظهر جوابه.

وبأنّ قول القائل لمن يخاصمه : « ليست امّي بزانية » يتبادر منه نسبة الزنى إلى أمّ الخصم ، ولو لا ثبوت مفهوم اللقب لم يتبادر ذلك (2).

وجوابه : أنّ ذلك مفهوم من القرائن الحاليّة - وهي الخصومة وإرادة الإيذاء - لا من اللقب.

وكيفيّة التفريع أنّ تخصيص واحد من الجماعة الذين وكّلهم في بيع ونحوه بالإذن ليس رجوعا عن غيره. وقس عليه أمثاله.

تذنيب

الحكم المعلّق على اسم يكفي فيه الاقتصار على ما يتحقّق معه في أقلّ مراتبه. ووجهه ظاهر.

والقول بأنّه لا بدّ من آخره احتياطا ، لا وجه له ؛ فلو لزم على رجل بعقد السلم أو غيره تسليم شيء إلى غيره في البلد الفلاني ، يكفيه تسليمه في أوّل جزء من البلد. وقس عليه أمثاله.

ص: 871


1- لدلالته على نفي الوجود عن غير زيد حتّى عن اللّه تبارك وتعالى.
2- احتجّ به ابن الحاجب في منتهى الوصول : 152.

الباب السابع : في النسخ

اشارة

اعلم أنّ « النسخ » لغة : الإزالة (1) ، يقال : « نسخت الشمس الظلّ » و « نسخت الريح آثار القدم » أي أزالته. وقد يطلق على النقل ، يقال : « نسخت الكتاب » أي نقلت ما فيه إلى آخر ، ومنه التناسخ في الأرواح ، والمناسخات في المواريث.

والحقّ أنّه حقيقة في الأوّل ، مجاز في الثاني ؛ لأولويّة المجاز على الاشتراك ، وتبادر الأوّل منه دون الثاني عند الإطلاق ، ولأنّ الأوّل - وهو الإعدام مطلقا - أعمّ من الثاني وهو إعدام صفة وإحداث اخرى ، ووضع اللفظ للأعمّ أولى.

وأمّا في الاصطلاح ، فلمّا اختلفوا في أنّه هل هو رفع الحكم ، أو بيان انتهاء مدّة الحكم؟ فعرّفه الذاهب إلى الأوّل ب- « أنّه رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخّر » (2).

وعرّفه القائل بالثاني ب- « أنّه بيان انتهاء حكم شرعي بطريق شرعي متأخّر » (3).

واحتجّ الأوّل : بأنّ الخطاب تعلّق بالفعل ، فلا يعدم لذاته وإلاّ لما وجد ، فعدمه يتوقّف على مقدّم (4) وهو الناسخ.

واحتجّ الثاني : بأنّه تعالى إن علم الدوام فلا نسخ ، وإلاّ انتهى الحكم لذاته ، وبأنّ الباقي ضدّ الحادث ، فليس رفع الباقي بطريان الحادث أولى من دفع الحادث ببقاء الباقي.

والحقّ أنّه إذا وقع تكليف بفعل ثمّ نسخ بعد ذلك ، فلا ريب في أنّ ثبوته بالنسبة إلى اللّه

ص: 872


1- الصحاح 1 : 433 ، « ن س خ ».
2- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 154.
3- نسبه ابن الحاجب إلى الفقهاء في المصدر.
4- كذا في النسختين. والصحيح : « معدم ».

تعالى وفي الواقع إنّما كان إلى ذلك الوقت ؛ لعلمه تعالى بأنّه يبقى إلى هذا الوقت وينقطع بعده ، فلو قدّر عدم ورود الناسخ لكان منقطعا عنده تعالى ، فهو بالنسبة إليه وفي الواقع بيان انتهاء الحكم ، والناسخ مبيّن له.

والقول بأنّه يجوز تعلّق علمه برفع الناسخ إيّاه (1) ، يدفعه أنّ الأحكام تتبع المصالح ، فتغيّر (2) بتغيّرها ، وتغيّرها إنّما هو بحسب الأوقات والأشخاص والأعراض المختلفة.

فالنسخ هو ثبوت حكم في زمان دون آخر ، أو الأشخاص دون آخرين ، أو عند وجود صفة دون اخرى ، فهو ينقطع بانقطاعها وانتهائها ، فبعدها لا يكون ثابتا حتّى يكون الناسخ رافعا له ، بل هو مبيّن لعدمه فيه.

نعم ، هو بالنسبة إلينا دفع ؛ لعدم علمنا بأنّ ثبوته إلى وقت خاصّ ، بل المعلوم عندنا أنّه باق في كلّ وقت ولذا لو لم يطرأ الناسخ لبقي في حقّنا.

ويظهر من ذلك أنّ لكلّ من التعريفين وجها إلاّ أنّ الثاني أولى ؛ لأنّ طريان الناسخ يكشف لنا عدم ثبوته بعد ذلك ، فيعلم أنّه مبيّن لا رافع.

ثمّ إنّ تقييد الحكم بالشرعي ؛ لإخراج المباح بحكم الأصل إذا رفع بدليل شرعي ، فإنّه ليس نسخا. ويندرج في الحكم الشرعي ما استفيد من خطاب الشرع منطوقه ومفهومه ، وصريحه وفحواه ، أو من فعل النبيّ صلى اللّه عليه وآله.

وتقييد الدليل بالشرعي ؛ ليخرج رفعه بالعجز والموت والنوم والغفلة والجنون ، فإنّ رفعه بها وإن اقتضاه دليل إلاّ أنّ الدالّ هو العقل ، بمعنى أنّه يحكم برفعه بها ، ومجرّد ذلك يخرجه عن النسخ وإن انضمّ إليه دلالة شرعيّة أيضا ، فلا يرد أنّ دلالة العقل عليه لا تمنع من دلالة الشرع عليه أيضا (3).

ثمّ هذا مبنيّ على عدم جواز النسخ بالعقل ، فمن جوّز النسخ بالعقل لا يحتاج إلى هذا التقييد.

ص: 873


1- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 156.
2- أي فتتغيّر بحذف إحدى التاءين.
3- نسبه ابن الحاجب إلى أبي مسلم الأصفهاني في منتهى الوصول : 154.

وتقييده بالمتأخّر ؛ لإخراج الحكم المرتفع بالامور المتّصلة به ، من الاستثناء والشرط والصفة والغاية. والمراد بالمتأخّر ما يعدّ متأخّرا عرفا ، فيرادف المتراخي ، وقد قيّد به بعضهم (1) ، وهو الأظهر.

لا يقال : إنّ الحكم في الكلام المشتمل على أحد هذه التقييدات لم يثبت قبل مجيئه ؛ لأنّ الكلام بالتمام ، فلا يحصل به رفع.

لأنّا نقول : رفع التوهّم ، والتصريح ممّا يقصد في الحدود. هذا.

وللنسخ حدود مزيّفة مذكورة في بعض مصنّفات الاصول (2) لم نر جدوى في إيرادها.

فصل [1]

لا ريب في جواز النسخ ووقوعه ، وقد أجمع عليهما أرباب الأديان إلاّ اليهود فيهما (3) ، والأصفهاني في الثاني ، سيّما في القرآن (4).

لنا على اليهود : أنّ الأحكام إن كانت تابعة للمصالح فتتغيّر بتغيّرها بحسب الأوقات والأشخاص ، وإلاّ فله أن يحكم ما يشاء.

وأنّ آدم زوّج بناته من بنيه - كما في التوراة (5) - والآن محرّم وفاقا.

وأنّ نوحا احلّ له كلّ دابّة ، ثمّ حرّم كثير من الحيوان على لسان موسى.

وأنّ بني إسرائيل امروا بتقريب خروفين كلّ يوم بكرة وعشيّا - كما جاء في السفر الثاني من التوراة (6) - ثمّ نسخ عنهم.

وأنّ نبوّة نبيّنا صلى اللّه عليه وآله ثبتت بالقاطع وجواز النسخ من ضروريّات دينه.

وممّا يكذبهم - وإن لم يقل به أهل ملّة - ما هو مذكور في توراتهم الموجودة الآن

ص: 874


1- نسبه المحقّق الحلّي إلى المفيد في معارج الاصول : 166.
2- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : 154 - 155.
3- حكاه الفخر الرازي عن اليهود في المحصول 3 : 294 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 127.
4- حكاه عنه الفخر الرازي في المحصول 3 : 307 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 127.
5- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 129.
6- الكتاب المقدّس : 261 ، عدد 28. وحكاه أيضا الفخر الرازي في المحصول 3 : 306.

أنّ لوطا شرب الخمر ووطئ بناته (1).

واحتجّوا بأنّ الفعل الواحد لا يحسّن ولا يقبح (2).

والجواب : أنّه مبنيّ على كون الحسن والقبح من ذاتيّات الفعل وقد تقدّم فساده (3) وبأنّه لو جاز النسخ - وهو ارتفاع الحكم - فإمّا قبل وجوده ، أو بعده ، أو معه. والكلّ باطل.

أمّا الأوّل ، فلأنّ ما لم يوجد لا معنى لارتفاعه.

وأمّا الأخيران ، فلأنّ ما وجد قد حصل به الامتثال ، فلا معنى لنسخه.

والجواب : أنّ هذا يدلّ على أنّ الفعل لا يرتفع ، ولا نزاع فيه ، إنّما النزاع في ارتفاع التكليف الذي كان متعلّقا به ، بمعنى زوال تعلّقه واستمراره وهو ممكن ، كما يزول بالموت ؛ فإنّه لم يبق بعد الموت مكلّفا بعد أن كان مكلّفا ، وهو معنى الارتفاع في النسخ لا أنّ الفعل نفسه يرتفع.

فإن قيل : نردّد (4) في التكليف.

قلنا : معنى ارتفاعه انقطاع تعلّقه ، لا انعدامه بعينه.

فإن قيل : نردّد في التعلّق.

قلنا : معنى ارتفاعه : أنّه وجد في وقت دون وقت آخر ، فانقطع الاستمرار الذي كان يتحقّق لو لا الناسخ.

وبأنّ موسى قال لقومه : هذه شريعة مؤبّدة عليكم ما دامت السماوات والأرض (5).

والجواب : أنّه فرية ، ولو كان صحيحا لقضت العادة باحتجاجهم به على النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم.

وقد قيل : إنّما اختلقه ابن الراوندي (6) ، أو المراد من الأبد الزمان الطويل كما وقع في

ص: 875


1- الكتاب المقدّس : 29 ، تكوين 19.
2- أي معا.
3- تقدّم في بحث الحسن والقبح.
4- أي نردّد السؤال في ناحية التكليف دون الفعل. وفي « ب » : « يردّد ».
5- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 132.
6- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 136 ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : 156.

التوراة في عتق العبد : بأنّه يستخدم ستّ سنين ، ويعتق في السابعة ، فإن أباه ، فليثقب اذنه ويستخدم أبدا (1).

ولهم شبه آخر ظاهرة الدفع ولذا لم نتعرّض لإيرادها.

ولنا على الأصفهاني : آية القبلة (2) والعدّة (3) ، والثبات (4) ، والصدقة (5) ، ووجوب الوصيّة للأقربين (6) ، وإجماع المسلمين على أنّ شريعتنا ناسخة لما يخالفها من الأحكام.

واحتجّ (7) بقوله تعالى : ( لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) (8).

وجوابه ظاهر.

فصل [2]

لا خلاف في جواز النسخ بعد حضور وقت الفعل وإن لم يفعله ؛ لجواز كون الفعل مصلحة في وقت فيؤمر به ، ومفسدة في آخر فينهى عنه ، والعاصي والكافر مخاطبان بالناسخ والمنسوخ.

إنّما الخلاف في جوازه قبل حضور وقت الفعل ، كأن يقول : « حجّوا هذه السنة » ثمّ يقول - قبل دخول عرفة ، أو بعد دخولها قبل مضيّ زمان يسع المناسك - : « لا تحجّوا » ، أو يأمر بصلاة الظهر ، وينسخها قبل دخول الظهر ، أو بعد دخوله قبل مضيّ زمان يسع فيه أربع ركعات ؛ فالمرتضى (9) والشيخ (10) وأكثر المحقّقين من أصحابنا وجمهور المعتزلة على عدم الجواز. والمفيد (11) وأكثر العامّة على الجواز.

ص: 876


1- الكتاب المقدّس ( التوراة ) : 120 ، الإصحاح 21 ، الخروج.
2- البقرة (2) : 144 : ( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ... ) .
3- البقرة (2) : 234 : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ... ) .
4- الأنفال (8) : 66 : ( الْآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنْكُمْ ... فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا ... ) .
5- المجادلة (58) : 12 : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ ... ) .
6- البقرة (2) : 180 : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ... ) .
7- أي الأصفهاني تقدّم في ص 874.
8- فصّلت (41) : 42.
9- الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 430 - 431.
10- العدّة في أصول الفقه 2 : 519.
11- حكاه عنه الشيخ في العدّة في أصول الفقه 2 : 518 - 519.

والحقّ الأوّل ؛ لأنّ الفعل في الوقت الذي عدم فيه الوجوب إن لم يكن واجبا ، فلا يكون نفي الوجوب فيه نسخا ، وإن كان واجبا لزم توارد الأمر والنهي على محلّ واحد وهو محال ؛ لأنّ الأمر يقتضي حسنه. والنهي يقتضي قبحه ، وهما لا يجتمعان فيه ، ولأنّه إن كان حسنا يقبح النهي عنه ، وإن كان قبيحا يقبح الأمر به (1).

واجيب عنه باختيار عدم وجوبه في هذا الوقت - أي الوقت الذي قبل التمكّن - ومنع عدم النسخ حينئذ ؛ لأنّ هذا الوقت ذو أجزاء ، فالإثبات في بعضها والنفي في بعض آخر ، فأمر بالفعل في وقت ، ثمّ نهى عنه في وقت آخر هو وقت النسخ ، وكلا الوقتين من قبل وقت التمكّن ، فالتكليف وعدمه قبل وقت التمكّن في زمانين ، فلا تناقض إلاّ أنّ متعلّقهما هو الفعل في وقت واحد هو وقت التمكّن ، فالأمر (2) بفعل بعد الزوال مثلا يكون مأمورا به عند الطلوع ومنهيّا عنه في الضحى ، إلاّ أنّ متعلّق الأمر والنهي هو الفعل بعد الزوال ، وذلك جائز ، وهو محلّ النزاع.

وأنت تعلم أنّ حاصله أنّ الأمر والنهي تعلّقا في زمانين بشيء غير مراد ، فالأمر به في هذا الزمان حسن من حيث هو ، والنهي عنه في ذلك الزمان قبيح من حيث هو (3).

وفيه : أنّ الأمر والنهي يتبعان متعلّقهما في الحسن والقبح ، إن حسنا فحسنان ، وإن قبيحا فقبيحان ، فمتعلّقهما - وهو الفعل في وقت التمكّن - إن كان غير مراد لم يكن مأمورا به ، فلا معنى لحسن الأمر به في وقت ، فينتفي النسخ ، وإن كان مرادا فلا معنى للنهي عنه.

وبذلك يندفع ما قيل : أنّ الأمر كما يحسن لمصلحة تنشأ من المأمور به ، كذلك يحسن لمصلحة تنشأ من نفس الأمر ، من توطين نفسه على الامتثال فيصير مطيعا ، أو عزمه على الترك فيصير عاصيا (4) ، على أنّ ذلك لو صحّ فإنّما يصحّ ممّن لا يعلم العواقب دون من يعلمها ؛ لاقتضائه السخريّة والإغراء بالجهل.

فإن قيل : هذا الدليل ينفي النسخ مطلقا ، فلا يصحّ أن يتمسّك به القائل به.

ص: 877


1- هذا إذا كان نسخ الوجوب بتحريم الفعل لا برفع الوجوب.
2- كذا في النسختين. والظاهر : « فبالأمر » ، وإلاّ يلزم خلوّ الجملة عن العائد إلى المبتدأ.
3- راجع إرشاد الفحول 2 : 51.
4- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 127.

قلنا : إذا فعل بعض أفراد المأمور به لم يلزم التوارد ؛ لتعلّق الأمر بما فعل والنهي بما نسخ.

فإن قيل : نردّد (1) في الفرد الذي لم يفعل وقد نسخ.

قلنا : نختار عدم وجوبه ونقول : لا نسخ فيه ، إنّما النسخ في التكليف الذي تعلّق بماهيّة الفعل ووجد منها بعض الأفراد.

فإن قيل : فكذلك إذا لم يوجد.

قلت : إذا وجد فرد يحصل للأمر متعلّق حسن ، فيحسن لأجله ، وإذا لم يوجد لم يوجد له متعلّق حسن ، فلا معنى لحسنه كما ذكرناه (2). هذا.

ويدلّ على ما اخترناه أنّه لو جاز خلافه لزم البداء ، وهو ظهور حال الشيء بعد خفائه على اللّه ؛ إذ شروطه

التي هي اتّحاد الفعل ووقته ووجهه والمكلّف ، حاصلة.

والإيراد عليه : بأنّ من شروطه اتّحاد المصلحة وهو منتف فيما نحن فيه (3) ، مندفع بعدم تصوّر اختلاف المصلحة بعد اتّحاد الامور المذكورة.

احتجّ المخالف بوجوه (4) :

منها : أنّه يجوز ثبوت التكليف قبل وقت الفعل ؛ لصحّة التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه ، فوجب جواز رفعه بالنسخ ، كما يرتفع بالموت ؛ لأنّهما سواء في انقطاع التكليف بهما.

والجواب : منع صحّة التكليف مع علم الآمر بانتفاء شرطه ، كما تقدّم (5) ، فلا يثبت التكليف على من يعلم اللّه أنّه يموت قبل التمكّن.

ومنها : أنّ كلّ نسخ قبل وقت الفعل ؛ لأنّ الفعل بعد وقته وفي وقته يمتنع نسخه (6) ؛ لأنّه إن

ص: 878


1- أي نردّد السؤال في الفرد.
2- تقدّم آنفا.
3- راجع إرشاد الفحول 2 : 52.
4- راجع : الإحكام في أصول الأحكام 3 : 127 وما بعدها ، وتهذيب الوصول : 188.
5- تقدّم في ص 872 - 873.
6- المراد من نسخ الفعل نسخ حكمه.

فعل في الأوّل (1) أطاع ، وإن ترك عصى ؛ فلا نسخ ، وفعل وأطاع في الثاني ، ولا معنى لإخراجه عن الطاعة بعد تحقّقها.

والجواب : أنّ النزاع في الوقت المقدّر شرعا ، والذي ذكر في الدليل وقت مباشرة الفعل ، فأين أحدهما عن الآخر؟

ومنها : أنّ إبراهيم امر بذبح ولده ؛ لقوله تعالى : ( افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ) (2) و ( إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ* وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) (3) ، ثمّ نسخ قبله.

والجواب : أنّه لم يكن مأمورا بالذبح ، بل بمقدّماته من الإضجاع ، وأخذ المدية ، كما يدلّ عليه قوله تعالى : ( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا ) (4) ؛ إذ لو كان ما فعله بعض المأمور به ، لكان مصدّقا لبعض الرؤيا.

ولو سلّم نقول : إنّه امتثل وذبح لكنّه كلّما قطع عضوا أوصله اللّه ، كما ورد في الآثار (5) ، ولا ينافيه الفداء ؛ لأنّه ليس عن (6) نفس الذبح ، بل عن إزهاق الروح المترتّب عليه.

ومنها : قوله تعالى : ( يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ) (7) فإنّه يتناول بعمومه موضع النزاع.

والجواب : منع تناوله له ؛ لأنّ المحو والإثبات متعلّقان على المشيّة ، ولا نسلّم أنّه يشاء مثل ذلك ممّا يمتنع عقلا.

ومنها : ما روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله امر ليلة المعراج بخمسين صلاة ، ثمّ راجع إلى أن عادت إلى خمس (8) ، وذلك نسخ قبل حضور وقت الفعل.

والجواب عنه أوّلا : بمنع صحّته ؛ لأنّ فيها طعنا على الأنبياء بالإقدام على المراجعة في الأوامر المطلقة.

ص: 879


1- أي الفعل بعد وقته. والمراد بالثاني في وقته.
2- الصّافّات (37) : 102.
3- الصّافّات (37) : 106 - 107.
4- الصّافّات (37) : 105.
5- راجع التبيان 8 : 519 ، ذيل الآية 106 من الصّافّات (37).
6- أي بدلا عن نفس الذبح. ووجه المنافاة أنّه لو كان الفداء بدلا عن نفس الذبح ، يلزم الجمع بين البدل والمبدل ؛ لتحقّق الذبح وأمّا إزهاق الروح ، فلم يتحقّق فيصدق الفداء.
7- الرعد (13) : 39.
8- الفقيه 1 : 198 ، ح 603 ، ووسائل الشيعة 4 : 16 ، أبواب أعداد الفرائض ، الباب 2 ، ح 10.

وثانيا : بأنّه خبر واحد لا يثبت به أصل.

فصل [3]

الحكم المقيّد بالتأييد ، مثل : « صوموا أبدا » يجوز نسخه ؛ لأنّه كالعامّ القابل للتخصيص ، ولأنّ النسخ مشروط بالدوام ولا تعاند بين الشيء وشرطه ، ويتخرّج من ذلك جواب عمّا احتجّوا (1) به اليهود على عدم جواز النسخ بما نقلوه عن موسى من الأوامر المقيّدة بالتأييد (2).

ثمّ هذا إذا كان التأييد قيدا للفعل. وأمّا إذا كان قيدا للوجوب وبيانا لمدّة بقائه واستمراره وكان نصّا في ذلك ؛ مثل : « الصوم واجب مستمرّ أبدا » فلم يقبل النسخ ؛ لأنّه يصير حينئذ دلالته على جزئيّات الزمان ، مثل دلالة « صم غدا » على صوم غد ، وقد بيّنّا أنّه لا يتأتّى فيه النسخ ، فكذا ما هو مثله.

وحاصله كما أنّ الدالّ على أفراد الأحكام بالنصوصيّة لا يقبل التخصيص ، فكذا الدالّ على أفراد الأزمان بالنصوصيّة لا يقبل النسخ.

فصل [4]

الحقّ جواز النسخ بلا بدل أو ببدل أثقل ؛ لأنّ المصلحة قد تكون في ذلك ، ولأنّه لو لم يجز ، لم يقع وقد وقع ، كنسخ وجوب تقديم الصدقة عند النجوى (3) ، ووجوب الإمساك بعد الفطر (4) ، وتحريم ادّخار لحوم الأضاحيّ (5) ، ونسخ التخيير بين الصوم والفدية بتعيّن الصوم ، وصوم عاشوراء برمضان (6) ، والحبس في البيوت لعقوبة الزاني بالجلد والرجم (7).

احتجّ المخالف بقوله تعالى : ( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ) (8) ،

ص: 880


1- هذا إمّا على لغة « أكلوني البراغيث » وإمّا على كون « اليهود » بدلا عن الضمير المتّصل.
2- تقدّم في ص 874.
3- المجادلة (58) : 12 وهي : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ... فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ) .
4- راجع الإحكام في أصول الأحكام 3 : 149 و 150.
5- الفردوس بمأثور الخطاب 4 : 280 ، ح 6828.
6- راجع الإحكام في أصول الأحكام 3 : 149 و 150.
7- راجع الإحكام في أصول الأحكام 3 : 149 و 150.
8- البقرة (2) : 106.

ولا يتصوّر كون العدم أو الأثقل خيرا أو مثلا (1).

وجوابه : أنّه يجوز أن يكون كلّ منهما (2) خيرا أو مثلا لمصلحة علمت ؛ إذ المراد الخيريّة والمثليّة في صلاح حال المكلّف.

فصل [5]

النسخ إمّا للحكم دون التلاوة ، كنسخ الاعتداد بالحول في الوفاة (3) ، أو بالعكس ، كما روي أنّه كان فيما نزل : « الشيخ والشيخة إذا زنتا (4) فارجموهما نكالا من اللّه » (5) فنسخ تلاوته ، وحكمه ثابت. أو لهما ، كما روى العامّة أنّه كان فيما انزل : « عشر رضعات محرّمات » (6) فنسخ تلاوته وحكمه.

والحقّ أنّ الثلاثة جائزة. وخالف بعض المعتزلة (7) في الأوّلين.

ويدلّ على جوازهما - مضافا إلى الوقوع - أنّ الحكم والتلاوة عبادتان لا تلازم بينهما ، ويمكن أن يختلف المصلحة باختلاف الأوقات بالنسبة إلى عبادة معيّنة ، فيكون مصلحة في وقت ، مفسدة في آخر ، فجاز أن يكون هاتان العبادتان مصلحتين في وقت ، مفسدتين في آخر ، أو يكون إحداهما مصلحة في كلّ وقت ، والاخرى في بعض الأوقات ، أو يكون إحداهما مصلحة في وقت ، والاخرى في آخر ، فيتأتّى نسخهما معا ، أو نسخ إحداهما.

احتجّ المخالف : بأنّ التلاوة وحكمها مثل العلم والعالميّة ، والمنطوق والمفهوم ، فلا ينفكّان ؛ ولأنّ بقاء التلاوة دون الحكم يوجب خلوّ القرآن عن الفائدة ، وتوهّم بقاء الحكم وأنّه إيقاع في الجهل وهو قبيح من الحكيم. وبقاء (8) الحكم دون التلاوة

ص: 881


1- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 149 و 150.
2- أي العدم أو الأثقل.
3- البقرة (2) : 234 و 240 : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ... ) .
4- هذا من تغليب المؤنّث على المذكّر وهو غير معتاد.
5- دعائم الإسلام 2 : 449 ، ح 1572.
6- صحيح مسلم 2 : 1075 ، باب التحريم بخمس رضعات ، ح 24.
7- حكاه عنهم الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 154.
8- عطف على اسم أنّ.

يشعر بزوال الحكم ، وهو أيضا إيقاع في الجهل (1).

والجواب عن الأوّل : منع التماثل ؛ لأنّ التلاوة لو سلّم كونها أمارة الحكم فإنّما هي أمارته ابتداء لا دواما ، أي يدلّ ثبوتها على ثبوته ، ولا يدلّ دوامها على دوامه ، فإذا نسخ أحدهما خاصّة فهو نسخ لدوامه لا لأصله حتّى يلزم نسخ الدليل دون مدلوله أو بالعكس ، ويحصل الانفكاك بين الدليل والمدلول ، بخلاف العلم مع العالميّة ، والمنطوق مع المفهوم ؛ فإنّ تلازمهما ثابت ابتداء ودواما.

وعن الأخيرين : منع كونهما إيقاعا في الجهل ؛ لأنّه إنّما يكون كذلك لو لم ينصب عليه دليل أو قرينة ، ولا يلزم عند بقاء التلاوة فقط خلوّ القرآن عن الفائدة ؛ لما عرفت من كونها عبادة مستقلّة (2) يمكن أن يترتّب عليها حكمة خفيّة أو ثواب.

ثمّ إنّ ما نسخ حكمه دون تلاوته قرآن إجماعا ، وعكسه ليس قرآنا إجماعا ، فلا يجوز للمحدث والجنب مسّ الأوّل ، ويجوز لهما مسّ الثاني.

فصل [6]

النسخ في الخبر يتصوّر على وجهين :

أحدهما : النسخ في إيقاع الخبر بأن يكلّف الشارع أحدا بأن يخبر بشيء عقلي أو عادي أو شرعي ، ك- « حدوث العالم » و « إحراق النار » و « إيمان زيد » ، ثمّ ينسخه بأن يزيل عنه التكليف بالإخبار ، وهذا جائز ، وإن كان الخبر ممّا لا يتغيّر مدلوله ، كالخبر عن التوحيد ؛ لأنّه لا استبعاد في رفع وجوب الإخبار عن مثله لمصلحة ، وصدق الخبر لا يمنع من زوال التعبّد به (3) إذا اشتمل على مفسدة.

وأمّا نسخه بنقيضه بأن يكلّفه بالإخبار بنقيضه ، فقيل : يجوز مطلقا ؛ لجواز تجدّد مصلحة فيه (4).

ص: 882


1- حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 159.
2- تقدّم آنفا.
3- في « ب » : « التعبّديّة ».
4- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 157 ، ونسبه ابن الحاجب إلى الجمهور في منتهى الوصول : 159.

وقيل : لا يجوز مطلقا ؛ لأنّ أحدهما كذب ، فالتكليف به قبيح (1).

وقيل : يجوز فيما يتغيّر ؛ لإمكان اختلافه في المصلحة والمفسدة باختلاف الزمان ، ولا يجوز فيما لا يتغيّر ؛ لكونه مصلحة لا تتغيّر (2).

والحقّ الثاني ؛ لأنّه لا ينفكّ عن البداء أو الكذب ؛ لاتّحاد وقت مدلول الخبرين ؛ إذ لولاه لم يتصوّر نسخ وإن اختلف وقت الإخبار ، والكذب قبيح على اللّه مطلقا ، وجوازه إذا اشتمل على مصلحة إنّما هو للعباد. ثمّ كون ذلك نسخا لأجل (3) أنّ الإخبار الأوّل كان واجبا أو ندبا ، فرفعه بأحد الوجهين رفع حكم شرعي.

وثانيهما : النسخ في مدلول الخبر ، كأن يقول : « عمّرت نوحا ألف سنة » ثمّ ظهر أنّه عمّر ألف سنة إلاّ خمسين عاما ، فإن كان مدلوله ممّا لا يتغيّر ، كوجود الصانع ، فلا يجوز نسخه وفاقا.

وإن كان ممّا يتغيّر ، فإن كان الخبر خبرا عن الأمر ، كما إذا قال : « هم مأمورون بصوم رمضان » (4) ، ثمّ قال : « لا تصوموا رمضان » فيجوز نسخه ، إلاّ أنّه ليس في الحقيقة نسخ الخبر ، بل نسخ الأمر.

وإن كان خبرا محضا (5) ، فإن احتمل كون ما يرد ثانيا بيانا لإرادة المجاز ، كان تخصيصا لا نسخا ، سواء كان المدلول حكما شرعيّا كأن يقول : « لاعاقبنّ الزاني أبدا » ، ثمّ يقول : « أردت سنة » أو لا ، كما إذا قال : « اعمّر زيدا أبدا » ، ثمّ قال : « أردت ألف سنة » ، ولا فرق بين أن يعلم البيان بقول المخبر ، أو العقل ، أو الحسّ.

وإن لم يحتمل أن يكون بيانا ، بل تعيّن كونه نسخا - كأن يقول : « لاعطينّك كذا » أو يقول : « لأجعلنّك خليفة على الأرض » ، ثمّ قال : « لا أفعل ذلك » - لم يجز ؛ لاستلزامه الكذب ، وهو قبيح.

ص: 883


1- حكاه الآمدي عن المعتزلة في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 157.
2- حكاه الآمدي عن البصري وغيره في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 158 ، ونسبه ابن الحاجب إلى القاضي وأبي هاشم وكثير في منتهى الوصول : 160.
3- هذا متعلّق بالمقدّر خبر للمبتدا وهو « كون ذلك ».
4- فإنّ هذا الكلام إخبار عن تعلّق الأمر بصوم رمضان فالمخبر به إنشاء.
5- أي لا يكون المخبر به أيضا إنشاء.
فصل [7]

يجوز نسخ كلّ من الكتاب والسنّة المتواترة والآحاد بمثله ، كنسخ « الاعتداد بالحول » بأربعة أشهر وعشرا (1) ، ونسخ « النهي عن ادّخار لحوم الأضاحيّ » (2) بجوازه.

وكذا يجوز نسخ الثالث بكلّ من الأوّلين ، ونسخ الأوّل بالثاني ، كنسخ « الجلد » في حقّ المحصن برجمه ماعزا (3) ، وبالعكس ، كنسخ « القبلة » (4) ونسخ « المباشرة » بقوله تعالى : ( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ ) (5). ولا ريب في جميع ذلك ، ووجهه ظاهر.

وهل يجوز نسخ الكتاب والسنّة المتواترة بالآحاد؟ الأكثر على عدم جوازه ، والأقلّ على جوازه (6).

احتجّ الأكثر بأنّ القاطع لا يدفع بالظنّ ، وبأنّ الصحابة أجمعوا على ترك خبر الواحد إذا رفع حكم الكتاب أو السنّة المتواترة ، قال عليّ عليه السلام : « لا ندع كتاب ربّنا ولا سنّة نبيّنا بقول أعرابيّ بوّال على عقبيه » (7) ، وقال عمر : « لا ندع كتاب ربّنا ولا سنّة نبيّنا بقول امرأة لا ندري صدقت أم كذبت » (8).

احتجّ الأقلّ بأنّ النسخ تخصيص ، وقد جاز تخصيصهما به فليجز نسخهما به ، وبأنّ خبر الواحد دليل متأخّر عارض غيره ، فوجب تقديمه ، وبأنّه واقع فيكون جائزا ؛ فإنّ قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ ... ) (9) نسخ بما روي أنّه عليه السلام « نهى عن أكل كلّ ذي ناب » (10) ، وهو

ص: 884


1- تقدّم في ص 881.
2- الفردوس بمأثور الخطاب 4 : 28 ، ح 6828.
3- تقدّم في ج 1 ، ص 449.
4- البقرة (2) : 144 و 149 و 150.
5- البقرة (2) : 187.
6- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 158 ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : 160.
7- لم نعثر عليه في المجاميع الحديثيّة ، ولكن رواه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 160.
8- مسند أحمد 7 : 565 ، ح 26793.
9- الأنعام (6) : 145.
10- مسند أحمد 5 : 216 ، ح 1724 - 1726.

خبر واحد ؛ وإنّ قوله تعالى : ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) (1) نسخ بقوله عليه السلام : « لا تنكح المرأة على عمّتها ، ولا على خالتها » (2) ؛ وإنّ التوجّه إلى بيت المقدس كان متواترا ونسخ بخبر الواحد ؛ لأنّ أهل مسجد قبا سمعوا مناديه صلى اللّه عليه وآله يقول : « ألا إنّ القبلة قد حوّلت » (3) فاستداروا وتوجّهوا إلى الكعبة ، ولم ينكر عليهم ؛ وإنّ النبيّ كان يبعث الآحاد لتبليغ الأحكام إلى أهل القبائل ، وكان المبعوث إليهم متعبّدين بقبولها منهم ، وربما كان في تلك الأحكام ما ينسخ متواترا ؛ لأنّه لم ينقل الفرق بين الأحكام المبتدأة والناسخة للواحد والمتواتر (4).

وأجاب الأكثر عن الأوّل : بأنّ التخصيص بيان وجمع للدليلين ، والنسخ إبطال ورفع.

وربما أجاب بعضهم : بأنّ إجماع الصحابة فرّق بينهما (5).

وعن الثاني : بأنّ الظنّ لا يساوي القطع ، فلا يعارضه.

وعن الثالث : بالمنع من النسخ المدّعى فيما ذكرتم ؛ لأنّ الآية الاولى لحكاية الحال ، فالمعنى : لا أجد الآن ، والتحريم في المستقبل لا ينافيه حتّى يلزم نسخه.

وأيضا لا يلزم من عدم وجدان التحريم الإباحة الشرعيّة ، بل جاز أن يكون مباحا عقليّا ؛ فالخبر قد حرّم حلال الأصل ولم يرفع حكما شرعيّا حتّى يلزم النسخ.

والآية الثانية ليست منسوخة بالخبر ، بل مخصّصة به ؛ على أنّ التخصيص لم يقع بمجرّد الخبر ، بل لأنّ الامّة تلقّته بالقبول.

وأهل قبا إنّما قبلوا نسخ القبلة بخبر الواحد ؛ لانضمامه بالقرائن المفيدة للقطع ؛ لأنّ منادي الرسول بحضرته على رءوس الأشهاد ، واستماعهم الصياح وارتفاع الأصوات من مسجده - لأنّهم كانوا في قربه - قرينة صدق عادة. وربما انضمّ إلى ذلك سماعهم من النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم قبل ذلك ما يدلّ على تحويل القبلة.

ص: 885


1- النساء (4) : 24.
2- سنن البيهقي 7 : 165 ، وسنن النسائي 6 : 97 ، ح 3294.
3- مسند أحمد 4 : 201 ، ح 13620.
4- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 160.
5- راجع الإحكام في أصول الأحكام 3 : 161.

وقبول القبائل أخبار الآحاد إنّما كان فيما عدا ما ينسخ المتواتر. ولو سلّم فربما كان لحصول العلم بها بالقرائن الحاليّة.

وأنت إذا تأمّلت في أدلّة الفريقين ، تعلم أنّ المعترض على كلّ منهما مستظهر. ولقلّة الفائدة في تلك المسألة نحن لا نبالي بترك الاشتغال عن تحقيقه.

فصل [8]

الجمهور وأكثر أصحابنا على أنّ الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به غيره.

واحتجّوا على الأوّل بوجوه (1) :

منها : الإجماع ، نقله المرتضى (2) من أصحابنا ، وبعض العامّة (3).

وهو في حيّز المنع ؛ فإنّ بعض محقّقي أصحابنا على خلافه (4).

ومنها : أنّ الإجماع لا يستقرّ إلاّ بعد انقطاع الوحي ، فالكتاب والسنّة متقدّمان عليه ؛ فلا ينسخ بهما ؛ لوجوب تأخّر الناسخ.

وهو أيضا ممنوع ؛ لإمكان استقراره قبله عند الفريقين.

أمّا عندهم ، فلأنّه اتّفاق المجتهدين من هذه الامّة في عصر على أمر ، ويمكن أن يثبت مثل هذا الاتّفاق في عصر النبيّ قبل انقطاع الوحي ، ثمّ ينسخ بآية أو خبر.

وأمّا عندنا ، فلأنّه انضمام أقوال إلى قول لو انفرد لكانت الحجّة فيه ، ولا ريب في حصول مثله في زمان النبيّ صلى اللّه عليه وآله ثمّ نسخه بدلالة شرعيّة متراخية.

ومنها : أنّه لو نسخ فإمّا بنصّ قاطع ، أو بإجماع قاطع ، أو بغيرهما ، والكلّ باطل.

أمّا الأوّل ، فلأنّه يلزم أن يكون الإجماع على الخطأ ؛ لأنّه على خلاف القاطع ، وهو محال.

ص: 886


1- راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 456 ، والإحكام في أصول الأحكام 3 : 173 ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : 162 ، وتهذيب الوصول : 195 - 196 ، ومعالم الدين : 120.
2- الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 456 - 457.
3- راجع الإحكام في أصول الأحكام 3 : 173.
4- قاله المحقّق الحلّي في معارج الاصول : 174.

وأمّا الثاني ، فلأنّه يلزم أن يكون كلّ من الإجماعين على الخطأ ؛ لمخالفته للقاطع.

وأمّا الثالث ، فلأنّه يلزم تقديم غير القاطع على القاطع ، وهو باطل ؛ للعلم بوجوب تقديم الأقوى على الأضعف.

وفيه : أنّه يجري في سائر القطعيّات من آية قطعيّة ، أو سنّة متواترة.

والحلّ أنّه لا فساد في تعارض قطعيّين في حكم مع اختصاص كلّ منهما بزمان ، فالإجماع ما دام ثابتا ليس على الخطأ ؛ لعدم ورود القاطع حتّى يكون مخالفا له ، وبعد وروده يزول ثبوته ، فلا معنى لمخالفته له حينئذ ؛ على أنّ كلّ إجماع ليس قاطعا بل قد يكون ظنّيّا ، وأنّ تقديم القاطع على غيره مطلقا محلّ النزاع ، كما تقدّم (1).

و [ احتجّوا ] على الثاني أيضا بوجوه (2) :

منها : الإجماع. وحاله كما عرفت هناك (3).

ومنها : أنّ الإجماع دليل عقلي ، والنسخ لا يكون إلاّ بدليل شرعي.

وفيه : أنّ الإجماع دلالة شرعيّة. أمّا عندهم ، فلأنّ كونه دليلا وحجّة إنّما ثبت من الشرع. وأمّا عندنا ، فلأنّ كونه دليلا باعتبار دخول قول المعصوم فيه.

ومنها : أنّ المنسوخ بالإجماع إن كان قاطعا ، لزم أن يكون على الخطأ ؛ لمخالفته للإجماع ، وإن كان مظنونا ، لزم جواز تقاوم الظنّي وتعارضه للقاطع ، وهو باطل ؛ لأنّ الظنّ بحكم لا يبقى مع القطع على خلافه دليلا يمكنه التعارض والتقاوم معه ، بل انتفى واضمحلّ فلا يثبت به حكم حتّى يتصوّر فيه دفع ونسخ.

وهذا قد ظهر جوابه ممّا تقدّم (4).

وإذ عرفت ذلك ، تعلم أنّه لا استبعاد في ثبوت إجماع في عصر النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، ثمّ نسخه بآية أو نصّ منه عليه السلام ، ولا في ثبوت حكم من القرآن أو السنّة ، ثمّ نسخه بالإجماع.

ص: 887


1- أي عدم جواز النسخ بالإجماع.
2- تقدّم في ص 886.
3- تقدّم في ص 886.
4- تقدّم في ص 886.

ويؤيّده ما روي من طريق العامّة أنّ ابن عبّاس قال لبعض (1) الصحابة : كيف تحجب الامّ بالأخوين وقد قال تعالى : ( فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ) (2) والأخوان ليسا إخوة؟! فقال : حجبها قومك يا غلام (3). وهو دالّ على رفع حكم الكتاب بالإجماع.

فصل [9]
اشارة

القياس إن كان منصوص العلّة ، أو كان الحكم فيه في الفرع أقوى منه في الأصل ، جاز أن يكون ناسخا ؛ لكونه دليلا شرعيّا ، ومنسوخا في حياة النبيّ صلى اللّه عليه وآله بنصّ منه ، وأمّا بعده فلا ينسخ ؛ إذ لا ولاية للامّة للنسخ. نعم ، ربما ظهر بعده أنّه كان منسوخا.

وإن كان مستنبط العلّة لم يمكن أن يكون ناسخا. ووجهه ظاهر. وربما أمكن أن يكون منسوخا عند القائلين به. وأمّا عندنا ، فأصله ساقط.

تذنيب

نسخ القياس إمّا بالنصّ على نسخ حكم الفرع - كما إذا ثبت حرمة النبيذ قياسا على حرمة الخمر بجامع الإسكار ، فنصّ الشارع على زوال حرمة النبيذ - أو بالنصّ على نسخ حكم الأصل ، فيقاس عليه. وفي تسمية ذلك نسخا لحكم الفرع نزاع لفظي.

مثاله : أن ينصّ الشارع على زوال حرمة الخمر ، فيحكم على زوال حرمة النبيذ أيضا ؛ لأنّ نسخ الأصل يستلزم خروج علّيّته عن الاعتبار شرعا ؛ إذ علم عدم ترتّب الحكم عليها في الأصل ، والحكم في الفرع إنّما يثبت بالعلّة ، فإذا انتفت انتفى ، وإلاّ لزم ثبوت الحكم بلا دليل.

وقيل : نسخ حكم الأصل لا يوجب نسخ حكم الفرع ؛ لأنّ الفرع تابع للدلالة لا للحكم ، فلا يلزم من انتفاء الحكم انتفاء الدلالة ، فالدلالة الثابتة على حكم الفرع باقية وإن

ص: 888


1- وهو عثمان كما في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 175.
2- النساء (4) : 11.
3- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 175.

انتفى حكم الأصل ، فيبقى حكم الفرع (1).

وجوابه : أنّه لمّا زالت العلّيّة المعتبرة بزوال حكم الأصل زال الحكم مطلقا ؛ لزوال حكمته.

فصل [10]

المفهوم - سواء كان مفهوم موافقة ، أو مفهوم مخالفة - يمكن أن يكون ناسخا ومنسوخا ؛ لأنّه دليل شرعي يثبت به الأحكام ، فلا ريب في جواز نسخه ونسخ الأصل (2) معا.

وقد اختلفوا في جواز نسخ أحدهما دون الآخر على أقوال ، ثالثها : جواز نسخ الأصل دون المفهوم ، وامتناع العكس.

والحقّ أنّ نسخ كلّ منهما يستلزم نفي الآخر ، ولا يمكن نسخ واحد منهما بدون نسخ الآخر ؛ لأنّ المفهوم لازم للأصل وتابع له ، ونفي اللازم يستلزم نفي الملزوم ، فلا يمكن نسخ المفهوم بدون نسخ الأصل ، ونفي الأصل يستلزم نفي التابع وإلاّ خرج عن كونه تابعا.

والإيراد على الأخير بأنّ دلالة اللفظ على المفهوم تابعة لدلالته على الأصل وليس حكمه تابعا لحكمه ، ولم يحدث شيء إلاّ انتفاء حكم الأصل ، والدلالة الثابتة باقية فيبقى حكم المفهوم ؛ لأنّ متبوعه باق (3) مندفع بأنّ حكم المفهوم إنّما ثبت من الدلالة على حكم الأصل ، وهي قد انتفت بانتفاء حكم الأصل ، فينتفي الحكم مطلقا.

احتجّ القائل بجواز نسخ كلّ منهما بدون الآخر بأنّ إفادة اللفظ لهما دلالتان متغايرتان ، فجاز رفع كلّ منهما بدون الاخرى (4).

وجوابه : أنّ التغاير إنّما يدلّ على جواز رفع كلّ من المتغايرين بدون الآخر إذا لم يكن أحدهما مستلزما للآخر ومتبوعا له.

ص: 889


1- راجع : الإحكام في أصول الأحكام 3 : 181 ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : 163.
2- والمراد بالأصل هنا هو المنطوق.
3- حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 163.
4- حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 163.

احتجّ المفصّل بأنّ رفع اللازم يستلزم رفع الملزوم بخلاف العكس ؛ إذ قد يرتفع الملزوم واللازم باق (1).

وجوابه كما (2) عرفت من أنّ اللازم هنا تابع في الثبوت للمتبوع ، فينتفي بانتفائه.

فصل [11]

زيادة العبادة المستقلّة على العبادات ليست نسخا للمزيد عليه (3) - صلاة كانت تلك العبادة أو غيرها - لأنّ النسخ كما عرفته (4) زوال الحكم الشرعي بدليل شرعي ، وهنا لم يرتفع حكم شرعي ؛ وهو قول علماء الفريقين.

ويعزى إلى بعض العراقيين القول بأنّ زيادة صلاة سادسة نسخ (5) ؛ لأنّها تخرج الوسطى عن كونها وسطى ، فيبطل وجوب المحافظة عليها ، وأنّه حكم شرعي وهو النسخ.

ويرد عليه النقض بزيادة كلّ عبادة مستقلّة ؛ لأنّها تخرج الأخيرة عن كونها أخيرة.

والحلّ أنّه لم يبطل وجوب [ المحافظة على ] (6) ما صدق عليه أنّها وسطى ، وإنّما يبطل كونها وسطى ، وهو ليس حكما شرعيّا ، فلا نسخ.

وأمّا العبادة غير المستقلّة ، فقد اختلف في أنّ زيادتها هل هي نسخ أم لا؟ فالحنفيّة على أنّها نسخ مطلقا (7).

والشافعيّة والحنابلة على أنّها ليست بنسخ مطلقا (8).

وذهب المرتضى (9) والشيخ (10) من أصحابنا ، وبعض العامّة إلى أنّ الزيادة إن غيّرت حكم

ص: 890


1- ذكره ابن الحاجب في المصدر.
2- قوله : « كما عرفت » خبر لجوابه.
3- كذا في النسختين. والأولى : « للمزيد عليها ».
4- في ص 872.
5- حكاه عنهم الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 184 - 185 ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : 163.
6- أضفناه لاستقامة العبارة.
7- حكاه عنهم الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 7. وابن الحاجب في منتهى الوصول : 163.
8- حكاه عنهم الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 7. وابن الحاجب في منتهى الوصول : 163.
9- الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 443 - 444.
10- العدّة في أصول الفقه 2 : 528 - 529.

الأصل تغييرا شرعيّا - حتّى لو وقع بدونها لم يعتدّ به وصار وجوده كالعدم ووجب استئنافه - كانت نسخا (1) ، وإلاّ فلا ، وذكروا أمثلة :

منها : زيادة ركعة أو ركعتين على ركعتي الفجر ؛ لأنّهما لا تجزيان بعد الزيادة لو فعلهما على ما كان يفعلهما عليه أوّلا ؛ لتغيّر التشهّد والتسليم.

ومنها : زيادة التغريب على الجلد ؛ فإنّه لا يحصل الحدّ بالجلد دونه.

ومنها : زيادة عشرين جلدة على حدّ القذف ؛ فإنّه لا يحصل الحدّ بدون العشرين.

ومنها : تخيير المكلّف في امور ثلاثة بعد تخييره في اثنين منها ؛ فإنّ ترك الأوّلين - مع فعل الثالث قبل التخيير فيه - كان محرّما وبعده غير محرّم ، فهو - أي ترك الأوّلين - كالعدم في انتفاء الحرمة عنهما ، فالزيادة نسخ لتحريم تركهما.

وأنت تعلم أنّ المثال الأوّل ينطبق على هذا المذهب ، ولا ينطبق عليه البواقي ؛ إذ لا يجب فيها الاستئناف ، بل يجب ضمّ التغريب إلى الجلد في الثاني ، وضمّ العشرين إلى الثمانين في الثالث ، وفعل واحد من الاثنين في الرابع ؛ لحصول الامتثال به.

وذهب بعضهم إلى أنّ الزيادة إن اتّصلت بالأصل زيادة اتّحاد فهو نسخ (2) ، وإلاّ فلا ، فزيادة ركعة على صلاة الفجر نسخ ؛ لأنّها لو عدمت لو يكن للركعتين أثر أصلا ، وكانت الثلاث واجبة ، وزيادة العشرين على حدّ القذف ليست بنسخ ؛ لأنّها لو عدمت كان للباقي أثر ولا يجب إلاّ العشرون.

وقال قوم : إنّ الزيادة إن رفعت مفهوم المخالفة للاولى ، مثل إيجاب الزكاة في المعلوفة بعد قوله : « في الغنم السائمة زكاة » كانت نسخا.

وإن كانت شرطا في صحّتها وكان الشرط والمشروط جزءين لعبادة - بحيث يحصل من مجموعهما عبادة واحدة تكون الزيادة بالنسبة إليها جزءا ، وبالنسبة إلى المزيد عليه شرطا بحيث لم يعتدّ به إذا افرد ولم يضمّ إليه الزيادة ، كزيادة ركعة في الفجر - أو كانت شرطا في صحّتها ولم يكونا جزءين لعبادة - بحيث يحصل من مجموعهما عبادة

ص: 891


1- حكاه الآمدي عن قاضي عبد الجبّار في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 186.
2- المستصفى : 94.

واحدة كالطهارة ، في الطواف - لم تكن نسخا (1).

والحقّ - كما ذهب إليه أهل التحقيق - أنّها إن رفعت حكما شرعيّا مستفادا من دليل شرعي ، كانت نسخا ، وإلاّ فلا ؛ لأنّ حقيقة النسخ ذلك.

وعلى هذا فزيادة ركعة على ركعتين نسخ ؛ لأنّها إن زيدت عليهما قبل التشهّد بحيث لم يكن تشهّد بعد الثانية ، كان ذلك نسخا لوجوب التشهّد في الثانية وتحريم الزيادة عليهما ، وكلاهما حكم شرعي. وإن زيدت عليهما بعد التشهّد قبل التحلّل بالتسليم بأن يكون بعد الثانية تشهّد ، كان ذلك نسخا لوجوب التسليم في الثانية وتحريم الزيادة عليهما ، وكلاهما حكم شرعي. وعلى التقديرين لا يلزم نسخ الركعتين ؛ لأنّ وجوبهما باق ، إلاّ أنّ وجوبهما كان منفردا فصار منضمّا والشيء لا ينسخ بمجرّد انضياف غيره إليه ، كما لا ينسخ وجوب فريضة إذا وجبت بعدها اخرى.

وزيادة التغريب على الجلد ، والعشرين على حدّ القذف يمكن أن تكون نسخا من حيث إنّها تنفي ما ثبت شرعا من تحريم الزيادة وإن لم تكن نسخا من حيث رفعها لنفي التغريب والزائد على الثمانين ؛ إذ هو (2) حكم الأصل ورفعه (3) ليس نسخا.

وإيجاب الزكاة في المعلوفة بعد قوله : « في الغنم السائمة زكاة » نسخ للمفهوم ، بعد ثبوته وكونه مرادا.

وإيجاب فعل معيّن ثمّ التخيير بينه وبين فعل آخر ليس نسخا ؛ لأنّ التخيير رافع لحكم عقلي وهو أصالة عدم إيجاب فعل آخر.

ولقائل أن يقول : إيجاب فعل يستلزم المنع من تركه ، وإقامة غيره مقامه يرفع ذلك ، وهو حكم شرعي ، فلو أوجب غسل الرجلين معيّنا ، ثمّ خيّر بينه وبين المسح ، فهو نسخ ؛ لأنّه رفع الوجوب عينا بوجوب أحد الأمرين مخيّرا ، وهو غيره ، وقد ثبتا (4) بدليل شرعي. هذا.

ص: 892


1- راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 443 - 445 ، والعدّة في أصول الفقه 2 : 530 - 531 ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : 164.
2- أي نفي التغريب.
3- أي رفع نفي التغريب.
4- أي الوجوب العيني والوجوب التخييري.

ولو نصّ على عدم قيام غيره مقامه ، ثمّ أثبت التخيير ، كان نسخا بلا ريب.

وزيادة التخيير (1) - كالحكم بجواز الحكم بشاهد ويمين بعد ثبوت التخيير بين الحكم بشاهدين وشاهد وامرأتين ، الثابت من قوله تعالى : ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ ) (2) - ليست نسخا ؛ لأنّ ما رفع به - وهو عدم جواز الحكم بشاهد ويمين - حكم عقلي لا دلالة للآية عليه.

فإن قيل : مفهوم الآية يمنع الحكم بالشاهد واليمين ؛ لأنّهما غير شهيدين من الرجال وغير رجل وامرأتين ، فالنصّ قد نفى الغير بالمفهوم.

قلنا : إنّه دلّ على طلب الاستشهاد لرجلين ، أو رجل وامرأتين ، فإن سلّم مفهومهما فهو أنّ غيرهما غير مطلوب. وأمّا أنّه لا يحكم بغيرهما إذا حصل ، فلا يدلّ عليه بمنطوق ولا مفهوم.

وتقييد الرقبة بالإيمان إن تأخّر كان نسخا لعموم الكتاب الدالّ على جواز عتق الكافر ، وإن قارن كان تخصيصا.

وإباحة قطع رجل السارق إذا سرق مرّة ثانية ليست نسخا ؛ لأنّها ترفع حظره الثابت بالعقل.

وزيادة غسل عضو في الطهارة ليست بنسخ ؛ لأنّها رفعت نفي وجوب هذا العضو وهو مباح الأصل.

ولقائل أن يقول : إنّها نسخ ؛ لأنّ الطهارة المزيد عليها كانت رافعة ومبيحة للدخول في الصلاة وصارت غير رافعة وغير مبيحة.

وزيادة ركن في الصلاة نسخ إن كان (3) محرّما قبل ؛ لكونها رفعا لحرمته ، وليست بنسخ إن لم يكن (4) محرّما قبل ؛ لكونها رفعا لحكم الأصل.

وإيجاب الصوم بعد الليل نسخ لكون الليل طرفا وغاية ؛ لرفعه له وهو حكم شرعي.

ص: 893


1- والمراد به زيادة أطراف التخيير.
2- البقرة (2) : 282.
3- أي الركن.
4- أي الركن.

أمّا لو قال : « صوموا النهار » ثمّ أوجب بعض الليل لم يكن نسخا ؛ لأنّه رفع مباح الأصل.

وإثبات بدل الشرط - كأن يقول : « صلّوا إن كنتم متطهّرين » - ثمّ أمر بالصلاة عند حصول أمر آخر ، لم يكن نسخا ؛ لأنّه رفع نفي كون البدل شرطا وهو حكم عقلي.

وإنّما أطلنا الكلام في ذكر الأمثلة ؛ ليحصل المهارة في استعلام أنّ أيّ صورة تقتضي رفع حكم شرعي ، وأيّها لا تقتضيه حتّى يكون الموافق لنا في هذه المسألة على بصيرة.

ثمّ أثر الاختلاف فيها إنّما يظهر في إثبات الزيادة بخبر الواحد بناء على أنّه لا ينسخ به الدليل القطعي ، فكلّ ما كان ناسخا لحكم ثبت (1) بالقاطع لا يجوز إثباته به ، وما لم يكن ناسخا أو كان ناسخا لحكم غير مقطوع به يجوز إثباته به ، وجليّة الحال على ما اخترناه غير خفيّة.

فصل [12]

نقص جزء أو شرط من عبادة - كنقص ركعتين من الظهر ، أو إبطال اشتراط الطهارة فيه - نسخ للمنقوص وفاقا. وهل هو نسخ لتلك العبادة؟ المختار أنّه ليس بنسخ.

وقيل : نسخ (2).

وقيل : إن كان المنقوص جزءا ، فنسخ وإن كان شرطا ، فلا (3).

وقال المرتضى :

إن كانت العبادة المنقوص منها بعد النقصان ممّا لو فعل بتمامه لم يعتدّ به شرعا ولم يجر مجرى فعله قبل النقصان - كنقص الركعتين من الأربع ؛ فإنّ الصلاة لو فعلت بعد النقص على الحدّ الذي كانت تفعل قبله ، لم تكن مجزئة وكان وجودها كالعدم - كان (4) نسخا ، وإلاّ فلا ، كنقص عشرين من الحدّ ؛ فإنّ الحدّ لو اجري بعد النقص على الحدّ الذي يجري قبله ، كان مجزئا واعتدّ به شرعا إلاّ أنّه وقع فيه زيادة محرّمة (5).

ص: 894


1- في « ب » : « يثبت ».
2- نسبه الآمدي إلى بعض المتكلّمين في الإحكام في أصول الأحكام 3 : 192.
3- حكاه الفخر الرازي عن القاضي عبد الجبّار في المحصول 3 : 374.
4- أي كان ذلك النقص.
5- الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 452.

وعلى هذا ، فنسخ الوضوء ليس نسخا للصلاة ؛ لأنّ حكمها باق على ما كان ، ونسخ القبلة بالتوجّه إلى غيرها نسخ للصلاة ؛ لأنّها لو وقعت بعد النسخ إلى القبلة الاولى لم تكن مجزئة ، وبالتخيير (1) بين جميع الجهات ليس نسخا لها ؛ لأنّه لو صلّى إلى ما كان أوّلا أجزأه.

لنا : أنّ نقص جزء أو شرط وإن كان نسخا لوجوب الكلّ من حيث هو كلّ ؛ نظرا إلى انتفاء جزئه ولكنّه ليس نسخا لأصل العبادة بمعنى ارتفاع جميع أجزائها ؛ لأنّ النزاع فيه ؛ لأنّه لو كان نسخا لها ، لكان نسخا للباقي ، فيفتقر الباقي في وجوبه إلى أمر جديد وهو باطل بالإجماع. وأيضا دليل الكلّ متناول للجزءين فخروج أحدهما لا يوجب خروج الآخر ، كسائر التخصيصات.

احتجّ القائل بكونه نسخا بأنّه ثبت تحريم العبادة بدون المنقوص ، ثمّ ثبت جوازها ، أو وجوبها بدونه ، فارتفع حكم شرعي بحكم آخر ، ولا معنى للنسخ سوى هذا.

والجواب : أنّه لا معنى لتحريم العبادة بدون المنقوص سوى وجوبه ، وارتفاعه نسخ نحن نقول به ، إنّما الكلام في ارتفاع الباقي ولم يثبت دلالة عليه.

احتجّ المرتضى بأنّ نقص جزء عبادة - يوجب (2) عدم إجزاء العبادة بتمامها لو فعلت بعد النقصان - يستلزم عدم كون الباقي جزءا من كلّ العبادة ، بل عبادة اخرى ، وإلاّ كان من صلّى الصبح ثلاثا آتيا لواجب وزيادة ، ولا يخفى فساده وهو يقتضي نسخ أصل العبادة.

والجواب : منع الاستلزام ، وإلاّ افتقر الباقي في وجوبه إلى دليل غير الأوّل ، وإنّه باطل إجماعا.

ثمّ فائدة الاختلاف هنا أيضا إنّما تظهر في إثبات النقصان بخبر الواحد ، كما عرفت في سابقه (3).

ص: 895


1- عطف على « بالتوجّه » أي نسخ القبلة بالتخيير.
2- هذه الجملة الفعليّة في محلّ النصب صفة للنقص وقوله : « يستلزم » خبر أنّ.
3- تقدّم في ص 894.
فصل [13]

لا ريب في جواز نسخ جميع التكاليف بإعدام العقل ، وبدونه موضع خلاف ، فقيل بالجواز ؛ لأنّها أحكام فجاز نسخها كغيرها من الأحكام (1).

وقيل بعدم الجواز ؛ لأنّه يتوقّف على معرفة النسخ والناسخ (2) ، وهذا تكليف ، فيلزم خلاف الفرض.

وقد اختلف العامّة في جواز نسخ وجوب المعرفة وتحريم الكفر والظلم والكذب وأمثالها (3).

وأنت تعلم أنّ نسخ ما حسنه أو قبحه ذاتي غير جائز وفاقا ؛ لما هو الحقّ من ثبوت الحسن والقبح العقليّين.

فصل [14]

يعرف النسخ بالتضادّ مع العلم بالمتأخّر بضبط التاريخ ، وبالإجماع ، وبالتنصيص عليه أو بذكر ما في معناه ، نحو « كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، ألا فزوروها » (4) ، وأمثاله.

ولو قال الراوي : « هذا ناسخ » أو « منسوخ » لم يقبل ؛ لجواز أن يقول عن اجتهاد ولا نراه ، ولو قال : « هذا سابق » قبل ؛ ووجهه ظاهر.

وإذا تعارض قطعيّان وصرّح الراوي بأنّ أحدهما ناسخ للآخر ففي قبوله نظر ، من حيث إنّه نسخ للمتواتر بالآحاد أو بالمتواتر والآحاد. ثمّ إذا لم يعرف النسخ بإحدى الطرق المذكورة ، فالواجب التوقّف لا التخيير ؛ ووجهه ظاهر.

ص: 896


1- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 165.
2- قاله الغزالي في المستصفى : 93.
3- راجع : الإحكام في أصول الأحكام 3 : 194 ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : 165 ، وشرح مختصر المنتهى 1 : 350 ، ونهاية السؤل 2 : 616.
4- سنن ابن ماجة 1 : 501 ، ح 1571.

المبحث الرابع : في الاجتهاد والتقليد

اشارة

وفيه بابان :

ص: 897

ص: 898

الباب الأوّل : في الاجتهاد

اشارة

الاجتهاد في اللغة : تحمّل الجهد (1) ، وهو المشقّة.

وفي الاصطلاح قيل : « استفراغ الوسع في طلب الظنّ بشيء من الأحكام الشرعيّة بحيث ينتفي عنه اللوم بالتقصير » (2).

ويقاربه ما قيل : « إنّه استفراغ الجهد في درك الأحكام الشرعيّة » (3).

والمراد باستفراغ الوسع بذل تمام المجهود بحيث يحسّ من نفسه العجز عن المزيد عليه.

وينتقضان طردا باستفراغ العاجز عن الاستنباط ، وبالاستفراغ في الشرعيّات الأصليّة.

وقيل : « هو استفراغ الفقيه الوسع في تحصيل الظنّ بحكم شرعي » (4).

والمراد ب- « الفقيه » من مارس الفنّ ، وقد عرّف فيما تقدّم ، فيخرج استفراغ غير الفقيه وسعه.

واحترز « بتحصيل الظنّ » عن القطعيّات ؛ إذ لا اجتهاد فيها.

و « بحكم شرعي » عن الحسّيّات والعقليّات.

وأنت تعلم أنّه يخرج منه القطعيّات النظريّة مع تأتّي الاجتهاد فيها ، ويدخل فيه الشرعيّات الأصليّة مع عدم تأتّيه فيها.

ص: 899


1- الصحاح 1 : 460 - 461 ، والقاموس المحيط 1 : 296 ، « ج. ه. د ».
2- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 169.
3- قاله البيضاوي في منهاج الأصول المطبوع مع نهاية السؤل 4 : 524.
4- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 209.

وقيل : « هو صرف العالم بالمدارك وأحكامها نظره في ترجيح الأحكام الشرعيّة الفرعيّة » (1).

والمراد من « المدارك » ظاهر ، ومن « أحكامها » أحوال التعادل والترجيح ، ويدخل في عموم الأحكام القطعيّات النظريّة ولا يدخل فيه الضروريّة ؛ لعدم صرف نظر فيها فتخرج به. ويخرج ب- « الفرعيّة » الشرعيّة الأصليّة.

وقيل : « ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الأصل ، فعلا أو قوّة قريبة » (2) ، وهو لا ينتقض طردا باستحصال القطعيّات البديهيّة ؛ إذ لا يصدق (3) عليه الاستنباط عرفا. ولو سلّم فليس استنباطا من الأصل.

وهذا التعريف أصحّ التعريفات وإن سلم سابقه وما في معناه عن النقوض الظاهرة ؛ لأنّ حقيقة الاجتهاد وذاته صفة ثابتة لنفس المجتهد ، ودرك الأحكام وتحصيلها باستفراغ الوسع اجتهاد فعلي يترتّب عليها ، لازم لها ، وهي مبدؤه ومصدره.

فتعريفه ب- « الملكة » تعريف لماهيّة الاجتهاد وذاته ، وتعريفه بغيرها تعريف لما هو لازم لها ومتفرّع عليها ، أعني الاجتهاد الفعلي. والأوّل أولى.

فصل [1]

اعلم أنّ ما وصل إلينا من أدلّة الأحكام من صاحب الشرع منحصر ببعض الآيات وطرف من الأخبار ، وكثير من الأحكام المحتاج إليها (4) غير مستنبطة منهما ، ويمكن استنباطها من إجماع منقول ، أو استنباطي ، أو بالردّ إلى قواعد عقليّة من استصحاب ، أو أصل براءة ، أو تلازم ، أو بعض أقسام القياس وإن أمكن أن يقال بأدنى عناية : إنّ استنباطها منها يرجع حقيقة إلى الاستنباط من الأخبار.

ص: 900


1- قاله الفاضل التوني في الوافية : 243.
2- قاله البهائي في زبدة الاصول : 159.
3- في « ب » : « لا يقصد ».
4- أي المبتلى بها.

وما يستنبط منهما (1) يتوقّف استنباطه على العلم بمقدّمات لغويّة ومنطقيّة واصوليّة ورجاليّة.

ووجه توقّفه على الاولى أنّ الكتاب والسنّة وردا بلسان العرب ، فلا بدّ من فهم معاني مفردات ألفاظهم ، المتوقّف على اللغة ، وامتياز معاني صيغهم المختلفة ، المتوقّف على الصرف ، ودرك معاني مركّبات ألفاظهم ، المتوقّف على النحو.

ووجه توقّفه على الثانية أنّ استنباط المسائل الخلافيّة ، وتصحيحها منهما (2) يحتاج إلى الاستدلال ، وهو لا يتمّ بدون المنطق.

والإيراد بأنّ الفكر والاستدلال غريزيّان للإنسان لا يحتاج فيهما إلى البيان ، والمذكور في المنطق إمّا بديهيّ كالشكل الأوّل ، والقياس الاستثنائي ، وأكثر التصديقات ، أو لا فائدة فيه كغيرها (3) ضعيف يكذبه التأمّل والتتبّع وموازنة استدلال العارف بالمنطق لاستدلال غيره.

وما قيل : إنّ المنطق لو كان مميّزا لما صدر الخطأ عن أهله (4) ، مندفع بأنّه ناش عن عدم الرعاية.

والقول بأنّه لو كان عاصما فإنّما يعصم عن الخطأ الواقع من جهة الصورة لا المادّة (5) ، لو سلّم فلا يضرّنا ؛ لأنّه يثبت الاحتياج إليه في الجملة ، وهو كاف للمطلوب.

ووجه توقّفه على الثالثة أنّ فيهما حقيقة ومجازا ، أو أمرا ونهيا ، وعامّا وخاصّا ، ومطلقا ومقيّدا ، ومجملا ومبيّنا ، ومنطوقا ومفهوما ، وفي السنّة قولا وفعلا وتقريرا ، وفي « القول » أخبار آحاد وأخبار متواترة.

وقد أشرنا (6) إلى أنّ كثيرا من المسائل لا يمكن استنباطها إلاّ من الإجماع أو القواعد العقليّة. والأكثر يقع بين الآيات والأخبار ، أو بينهما ، أو بين واحد منهما والإجماع ، أو سائر الأدلّة تعارض محتاج إلى الترجيح ، فلا بدّ للمستنبط من معرفة هذه الامور بأقسامها

ص: 901


1- أي من الآيات والأخبار.
2- أي من الآيات والأخبار.
3- ذكره القمّي في قوانين الاصول 2 : 218.
4- قاله الشهيد الثاني في الاقتصاد والإرشاد ( ضمن رسائل الشهيد الثاني ) 2 : 762.
5- المصدر.
6- في أوّل الفصل ص 900.

وأحوالها وتفاصيلها ممّا يختلف باختلافه الفروع ، كأقسام الحقيقة والمجاز ، وثبوت الحقيقة الشرعيّة أو عدمه ، وكون الأمر للوجوب أو غيره ، وللوحدة أو التكرار ، وللفور أو التراخي ، واقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه أو عدمه ، ووجوب مقدّمة المأمور به أو عدمه ، وكون النهي للحرمة أو غيره ، وعدم جواز اجتماع الأمر والنهي في الشيء الواحد أو جوازه ، وألفاظ العموم وحجّيّة العامّ المخصوص أو عدم حجّيّته ، وجواز العمل بالعامّ قبل الفحص أو عدم جوازه ، وأقسام العامّ والمخصّص ، وسائر ما يتعلّق بهما وما يتعلّق بالإطلاق والتقييد والإجمال والبيان ، وحجّيّة بعض المفهومات وعدم حجّيّة بعض آخر منها ، وما يتعلّق بالقول والفعل والتقرير ، وكون خبر الواحد حجّة أو لا ، وكون الإجماع أو غيره من الأدلّة العقليّة حجّة أم لا ، وكيفيّة الترجيح والخلاص عند التعارض ؛ لتوقّف الاستنباط على معرفة هذه التفاصيل واختلاف الأحكام باختلافها ، والضابط لها هو علم الاصول.

والقول بعدم توقّف استنباطها عليها (1) ، واه ؛ لأنّ المستنبط ما لم يثبت عنده أنّ الأمر يفيد الوجوب أو غيره كيف يستنبط الحكم منه؟! وما لم يرجّح بوجه في مقام التعارض كيف يحصل له مخلص ويستنبط حكما عنده؟! وقس عليهما غيرهما.

وهل يقال ببطلان الاصول ؛ لأنّ حقيقة (2) الحال في مسائله غير ما ذكر فيه؟ فما ذا يقال لمن حصر المسائل المذكورة بين النفي والإثبات بأن يقول : هل الأمر يفيد الوجوب أم لا؟ وهل مقدّمة الواجب واجبة أم لا؟ فإن اختير في الجواب أحد الشقّين واثبت ، ثبت حقّيّة مسائل الاصول ، وإن سكت أو قيل له : لست مستحقّا للجواب ، لزم السفسطة والخروج عن ربقة العقل؟

وأمّا وجه توقّفه على الرابعة ، فظاهر ؛ لأنّ في الأخبار مقبولا ومردودا ، ومعرفة كلّ منهما تتوقّف على معرفة رواته وناقليه. وليس غرضنا الآن بيان تفاصيل علوم ينبغي للمجتهد على الوجوب أو الأولويّة معرفتها ؛ فإنّه يأتي بعد ذلك (3) ، بل غرضنا الآن

ص: 902


1- ذكره الفاضل التوني بعنوان « إن قلت » في الوافية : 252.
2- كذا في النسختين. ولعلّ الصحيح : « حقّيّة ».
3- في ص 928 - 933.

تمهيد مقدّمة لما نحن بصدده من بيان حقيقة الاجتهاد وحقّيّته ، وتزييف أقوال خرجت مخالفة له.

فنقول : إذ ثبت ذلك وثبت فيما تقدّم أيضا (1) أنّه لا طريق إلى تحصيل القطع بالحكم من الأدلّة الشرعيّة ، بل الغالب حصول الظنّ به منها ، فالمستنبط إذا أراد استنباط حكم ، فلا بدّ له أن ينظر إلى أنّه من أيّ دليل يستخرج : من كتاب أو سنّة أو منهما أو من إجماع أو دلالة عقليّة؟ فإن استخرج من كتاب أو سنّة أو منهما ، فلا بدّ أن يلاحظ أنّ استنباطه منهما يتوقّف على أيّ مقدّمات ، فيفعل على ما أدّى نظره فيها إليه؟ وإن لم يكن فيهما ما يمكن استنباطه منه ويتوقّف (2) على ردّه إلى إجماع أو دلالة عقليّة ، فلا بدّ أن يردّه إليها ويفعل على مقتضى ما يوجبه رأيه فيهما ، وإن تعارضت فيه الأدلّة ، فينظر في وجوه التراجيح ويفعل ما يقتضيه نظره فيه.

هذا هو حقيقة الاجتهاد ، ومن حصل له هذه المرتبة فهو المجتهد ، ووظيفته استنباط الأحكام عن أدلّتها التفصيليّة ، وغيره المقلّد ووظيفته الرجوع إليه. وهذا معنى قول المتشرّعة : الناس صنفان : مجتهد ، ومقلّد.

ثمّ إثبات حقّيّة الاجتهاد وتوقّف الاستنباط عليه يتوقّف على بيان امور :

[ الأمر ] الأوّل : لا ريب في ثبوت التكليف وبقائه.

[ الأمر ] الثاني : لا شبهة في وجوب إطاعة اللّه وإطاعة حججه ، وهي لا تتحقّق إلاّ بالإتيان بمرادهم ؛ لأنّ الأصل كون كلّ أحد مكلّفا بفهم مرادهم والعمل به.

ويدلّ عليه ورود النهي عن التقليد (3) ، ولمّا كان فيه (4) حرج عظيم وتعطيل امور المعاش ، سقط وجوبه العيني بالكفائي ، فيجب على طائفة تحصيل ما يصلون به إليه.

ويدلّ عليه ورود الأمر بالتفقّه ، كقوله تعالى : ( فَلَوْ لا نَفَرَ ) (5) الآية ، وقوله تعالى :

ص: 903


1- تقدّم في ص 900.
2- في « ب » : « توقّف ».
3- الزخرف (43) : 23 : ( إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) .
4- أي في الاجتهاد.
5- التوبة (9) : 122.

( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1) ؛ حيث دلّ على إيجاب السؤال عن أهل الذكر وهو لا يتمّ بدون وجود أهل الذكر ، وإيجاب الجواب عليهم ، ولا يمكنهم الجواب بدون الفقاهة ، فيلزم وجوب تحصيله على طائفة ، وقول الصادق عليه السلام : « تفقّهوا في الدين ، فإنّه من لم يتفقّه منكم في الدين فهو أعرابي » (2).

ويدلّ عليه أيضا : ورود الأمر عموما أو خصوصا بالإفتاء وإظهار الأحكام للناس ، ورجوع العوامّ إلى العلماء ، كقول الصادق عليه السلام لأبان : « اجلس في مسجد المدينة وأفت ، فإنّي احبّ أن أرى من شيعتي مثلك » (3) ، وغير ذلك.

[ الأمر ] الثالث : قد ثبت بالعقل والنقل (4) والإجماع أنّ شغل الذمّة اليقينيّ محتاج إلى البراءة اليقينيّة.

[ الأمر ] الرابع : قد ورد النهي عن القول والفتوى بغير علم ، والحكم بغير ما أنزل اللّه حتّى عدّ اللّه الحاكم به كافرا وفاسقا وظالما ، وقال : ( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) (5) ، و ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (6) ، وحسبك في ذلك قوله تعالى في شأن نبيّه : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ) (7).

وقد ورد عن الصادق عليه السلام : « حقّ اللّه على العباد أن يقولوا ما يعلمون ، ويكفّوا عمّا لا يعلمون » (8).

وعنه : « لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلاّ الكفّ والتثبّت » (9).

وعنه : « من خاف ، تثبّت على التوغّل فيما لا يعلم ، ومن هجم على أمر بغير علم ، جدع أنف نفسه » (10).

ص: 904


1- النحل (16) : 43.
2- الكافي 1 : 31 ، باب فضل العلم ، ح 6.
3- رجال النجاشي : 10 ، الرقم 7. وفيه رواه عن أبي جعفر عليه السلام.
4- تهذيب الأحكام 7 : 226 ، ح 989.
5- البقرة (2) : 169.
6- الإسراء (17) : 36.
7- الحاقّة (69) : 44 - 45.
8- الكافي 1 : 43 ، باب النهي عن القول بغير علم ، ح 7.
9- المصدر : 50 ، باب النوادر ، ح 10.
10- المصدر : 26 - 27 ، باب كتاب العقل والجهل ، ح 29.

وقال الباقر عليه السلام لزيد بن عليّ : « إنّ اللّه أحلّ حلالا وحرّم حراما وفرض فرائض وضرب أمثالا - إلى أن قال - : فإن كنت على بيّنة من ربّك وتبيّن (1) من أمرك وتبيان من شأنك ، فشأنك ، وإلاّ فلا ترد من أمر أنت منه في شكّ وشبهة » (2).

وعن الصادق عليه السلام : « إيّاك وخصلتين هلك بهما من هلك : أن تفتي الناس برأيك ، أو تدين بما لا تعلم » (3).

وعن الباقر عليه السلام : « من أفتى الناس برأيه ، فقد دان اللّه بما لا يعلم ، ومن دان اللّه بما لا يعلم [ فقد ضادّ اللّه ] (4) حيث أحلّ وحرّم فيما لا يعلم » (5).

وعن عليّ عليه السلام : « أيّها الناس ، اتّقوا اللّه ولا تفتوا الناس بما لا تعلمون » (6).

[ الأمر ] الخامس : قد تظافرت الأخبار بأنّ الفتوى أمر خطير ، والمفتي على شفير السعير ، وقد صحّ عنهم أنّ : « أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على اللّه » (7).

وعن الصادق عليه السلام : « إنّ القضاة أربعة ، ثلاثة في النار وواحد في الجنّة ... » (8).

وعنه : « من حكم بدرهمين بغير ما أنزل اللّه ، فقد كفر باللّه » (9).

وعن عليّ عليه السلام : « تبكي منه المواريث ، وتصرخ منه الدماء ، وتولول منه الفتيا ، ويستحلّ بقضائه الفرج الحرام ، ويحرّم بقضائه الفرج الحلال ، ويأخذ المال من أهله فيدفعه إلى غير أهله » (10).

ص: 905


1- في الكافي : « يقين ».
2- المصدر : 356 ، باب ما يفصل به بين دعوى المحقّ ... ، ح 16.
3- المصدر : 42 ، باب النهي عن القول بغير علم ، ح 2.
4- أضفناه من المصدر.
5- المصدر : 57 ، باب البدع والرأي والمقاييس ، ح 17.
6- تهذيب الأحكام 6 : 295 ، ح 823.
7- سنن الدارمي 1 : 57 ، وكنز العمّال 10 : 184 ، ح 28961. وفي المصدرين : « أجرؤكم على النار ».
8- الكافي 7 : 407 ، باب أصناف القضاة ، ح 1 ، وتهذيب الأحكام 6 : 218 ، ح 513.
9- تفسير العيّاشي 1 : 352 ، ح 121 ، والكافي 7 : 408 ، باب من حكم بغير ما أنزل اللّه ، ح 2 ، وتهذيب الأحكام 6 : 221 ، ح 523 ، وفيها : « فهو كافر باللّه العظيم ».
10- نهج البلاغة : 43 - 45 ، الخطبة 17 ، والكافي 1 : 54 - 56 ، باب البدع والرأي والمقاييس ، ح 6 ، والاحتجاج 1 : 623 ، ووسائل الشيعة 27 : 40 ، أبواب صفات القاضي ، الباب 6 ، ح 5. مع تفاوت.

[ الأمر ] السادس : استنباط الأحكام وفهمها من كلام اللّه وكلام حججه في أمثال زماننا ليس شريعة لكلّ وارد ، ولا يطّلع عليه إلاّ واحد بعد واحد ؛ لتوقّفه على جميع ما ذكر وامور أخر ، مع أنّ حجّيّة أكثر الطرق الموصلة مختلف فيها بحيث صارت معركة لآراء الامّة ، والاستنباط من الأخبار في غاية الصعوبة ؛ لأنّها متدافعة ، والتأويلات من الجانبين متعارضة ، وأقوال الطائفة مختلفة ، ووجوه الدلالات متفاوتة ، وأمواج الشبهات متلاطمة ، وأفواج الظلمات متراكمة.

كيف؟ وقد اختلط الصحيح بالسقيم ، وامتزج الاصطلاحات الجديدة بالقديمة بحيث يصعب الامتياز ، ويتوقّف دلالة أكثر الأخبار على المراد على الاستعانة بغيرها بحيث لولاه فهم منها خلاف المراد.

ومن ذلك الأوامر الواردة بعد الحظر الثابت بأدلّة أخر ، والنواهي الواردة بعد الوجوب الثابت بأدلّة أخر ؛ فإنّ دلالتها على الرخصة تتوقّف على العلم بأدلّة الحظر والوجوب ؛ إذ لولاه فهم منهما معانيهما الحقيقيّة ، ويتوقّف دلالة أكثرها على التمسّك بقول أهل اللغة وأصالة العدم أو البقاء وغير ذلك.

ويتوقّف فهم كثير من الاصطلاحات ومعاني الألفاظ على الممارسة التامّة في الأخبار والألسن بها (1) ، ولا تعرف بمجرّد ملاحظتها.

وأيضا جلّ الأحكام الشرعيّة والكيفيّات الدينيّة ذوات آداب وحدود وشعب وفروع يتوقّف بعضها على بعض ، ولا يهتدي إلى واحد إلاّ بعد الإحاطة بالكلّ ، وهو يتوقّف على العلم بمجموع الأدلّة المتلاحقة ، ولا يقدر على مثله غير المحقّق المتبحّر ، ومع ذلك احتمال التقيّة في كثير من الأخبار قائم ، فلا بدّ من التثبّت عند كلّ خبر ليعلم أنّه هل خرج مخرج التقيّة أم لا؟

وقد كان أصحاب الأئمّة عليهم السلام يثبتون عند سماع الأحاديث لذلك حتّى أنّهم لو كانوا يشمّون من خبر رائحة التقيّة ، يقولون لناقله : أعطاك من جراب (2) النورة ، وكثيرا ما كان نقلة

ص: 906


1- أي فيها. والمراد بالألسن التعابير المختصّة بالروايات الواردة فيها. تأمّل.
2- « الجراب » : وعاء يحفظ فيه الزاد ونحوه. المعجم الوسيط : 114، « ج ر ب ».

الأخبار يروونها بالمعنى ، فربما نقلوها بعبارات قاصرة عن إفادة المرام أو مفيدة لخلافه. وهذا ظاهر من المحاورات العرفيّة ، وربما صدر خلافه منهم غفلة ، كما إذا أرادوا أن يقولوا : « إن خرج الدم من الأيسر فهو حيض ، وإن خرج من الأيمن فهو قرحة » (1) ، فيقولوا عكسه غفلة ، ويمكن أن يكون الاختلاف في هذه الرواية لذلك ، ومن تأمّل في الأخبار يجد أنّ ما يصعب لأجله الاستنباط فيها كثير.

وناهيك في ذلك قول عليّ عليه السلام في الحديث المشهور الوارد في سبب الاختلاف : « إنّ في أيدي الناس حقّا وباطلا ، وصدقا وكذبا ، وناسخا ومنسوخا ، وعامّا وخاصّا ، ومحكما ومتشابها ، وحفظا ووهما ، وقد كذب على رسول اللّه ... » (2).

وقول الصادق عليه السلام : « إنّ في حديثنا محكما كمحكم القرآن ، ومتشابها كمتشابه القرآن ، فردّوا متشابهها دون محكمها ، ولا تأخذوا بمتشابهها ؛ فتضلّوا » (3).

وقوله عليه السلام : « خبر تدريه خير من عشرين خبرا ترويه - إلى أن قال - : واللّه لا نعدّ الرجل من شيعتنا فقيها حتّى يلحن له ، فيعرب اللحن » (4).

وإذا كان الأمر كذلك ، فالجمع والتوفيق ودرك الحقّ يحتاج إلى قوّة ربّانيّة ، وملكة قدسيّة ، وذوق سليم ، وطبع مستقيم ، كما دلّت عليه أخبارهم.

[ الأمر ] السابع : أكثر الطرق الموصلة إلى الأحكام لا يفيد العلم ؛ لما ذكرنا هنا (5) ، ولما تقدّم في أوائل الكتاب (6). نعم ، يحصل العلم عن قليل منها.

وإذا عرفت هذه الامور ، فنقول : يستفاد منها لزوم بذل الجهد وصرف الهمّة في تحصيل العلم أو الظنّ بالأحكام الشرعيّة من أدلّة متعارضة يصعب الاستنباط منها ، ويتوقّف على مقدّمات عقليّة ونقليّة ولغويّة ، ولا يمكن بدون ذلك ، وهذا هو الاجتهاد ، فثبت منها حقّيّته.

ص: 907


1- وسائل الشيعة 2 : 307 ، أبواب الحيض ، الباب 16 ، ح 1 و 2.
2- الكافي 1 : 62 ، باب اختلاف الحديث ، ح 1.
3- عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 : 261 ، ح 39 ، ووسائل الشيعة 27 : 115 ، أبواب صفات القاضي ، الباب 9 ، ح 22.
4- الغيبة للنعماني : 141 ، ح 2 بتفاوت.
5- تقدّم في ص 900.
6- تقدّم في ج 1 ، ص 33 - 34.

ويؤكّده ما ثبت عندنا - كما يأتي (1) - أنّ لله في كلّ واقعة حكما واحدا واقعيّا ؛ إذ يلزم السعي حينئذ لتحصيله مهما أمكن ، وهو لا يتمّ بدون التمسّك بطريقة أهل الاجتهاد ، وأنّى يمكن بدونه مع ظهور التوقّف وعدم إمكان درك حكم بدون تفريع الفروع وردّها إلى ما أسّسه المجتهدون من (2) الاصول؟

وكيف لا يكون طريق الاجتهاد حقّا ، مع أنّه ليس إلاّ استنباط الحكم ممّا يثبت حجّيّته من الشريعة من الآيات والأخبار ، أو الإجماع الذي علم دخول قول المعصوم فيه ، أو الدلالة العقليّة التي ثبت حجّيّتها بالشرع ، أو العقل الذي هو حجّة من عند اللّه - كما دلّت عليه الآثار ، ونطقت به الشواهد الواردة من الحجج الأخيار (3) - أو القياس المنصوص العلّة مع العلم بعدم مدخليّة خصوص محلّ الأصل ، وهل التمسّك به (4) بعد ذلك ليس تمسّكا بقول المعصوم عليه السلام؟

ثمّ التمسّك في مقام الاستدلال ببعض المسائل الاصوليّة ، والمقدّمات اللغويّة ، والشواهد العرفيّة لأجل توقّفه عليها وعدم إمكان استخراج المسائل بدونها. وقل لي ما لم يثبت أنّ الأمر حقيقة في الوجوب كيف يحكم بأنّ ما يفهم منه يلزم علينا ولا يمكن تركه؟! وما لم يثبت أنّ الجمع المعرّف باللام موضوع للعموم كيف يحكم بأنّه يفيد الاستغراق والشمول؟! وقس عليهما غيرهما ، ففعل المجتهد ليس إلاّ السعي في درك الأحكام من قول اللّه وقول حججه وإن كان ذلك بمعونة مقدّمات يتوقّف دركه عليها.

فالفرق بين المجتهد من الخاصّة والمجتهد من العامّة أنّ الأوّل يفتي بما فهم من قول المعصوم وإن احتاج فهمه إلى الفكر والنظر ، والثاني يفتي بما يستنبطه من أصل قرّره هو بنفسه.

والتأمّل يعطي أنّها (5) ليست قاعدة اصوليّة عند الشيعة إلاّ وهي في الحقيقة ملقاة إليهم من

ص: 908


1- يأتي في ص 951 - 952.
2- بيان للموصول.
3- راجع وسائل الشيعة 15 : 206 - 207 ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، ح 6.
4- أي بما ثبتت حجّيّته.
5- الضمير للحكاية.

الأئمّة عليهم السلام وليس فعل مجتهديهم إلاّ التفريع ، فانطبقت طريقتهم على قولهم عليهم السلام : « علينا أن نلقي إليكم الاصول ، وعليكم أن تفرّعوا » (1).

وأيضا لمّا ثبت أنّه لا طريق إلى العلم بالأحكام غالبا ، فتعيّن الاكتفاء بالظنّ بقضاء الضرورة ، وعدم لزوم التكليف بالمحال ، وانعقد الإجماع على أنّ المعتبر ظنّ المجتهدين الحاصل من الطريقة المتعارفة بينهم دون ظنّ غيرهم ، فثبت بالإجماع حقّيّة طريقتهم ، وفساد طريقة غيرهم.

لا يقال : قضاء الضرورة وسدّ باب العلم يقتضي حجّيّة ظنّ غيرهم أيضا.

لأنّا نقول : بعد رفع الضرورة بحجّيّة ظنّ المجتهد وانعقاد الإجماع على عدم اعتبار ظنّ غيره ، يندفع هذا الكلام.

كيف؟ ولو جاز العمل بكلّ ظنّ ، لكان مثل ظنّ الأطفال والنساء والجهّال حجّة ؛ لعدم الفرق بين الظنون بعد التعدّي عن ظنّ المجتهد.

وأيضا لمّا كان التكليف اليقيني محتاجا إلى البراءة اليقينيّة ، فإذا بذلنا جهدنا واستفرغنا وسعنا - على ما هو طريقة المجتهدين - وحصّلنا ما هو أقرب إلى الحقّ ، وأحرى بالصواب عند ظنّنا ، كان هو حكم اللّه في حقّنا ، وقطعنا بالبراءة من العمل به ؛ لأنّ الشارع لا يريد منّا أزيد من ذلك ؛ لأنّه فوق وسعنا.

وأمّا إذا كان دون ذلك فلا يحصل من العمل به اليقين بالبراءة ؛ لاحتمال أن يريد الشارع منّا أزيد من ذلك ؛ لتمكّننا منه.

ثمّ المخالفة مع المجتهدين في طريقهم هذه في موضعين :

الأوّل : في جواز العمل بالظنّ ؛ فإنّ جلّ الأخباريّين ذهبوا إلى عدم جواز العمل به في أحكام اللّه ، وقالوا : لا بدّ من العلم بها ، وصرّحوا بأنّ الأخبار المدوّنة في الكتب الأربعة تفيد العلم (2) ، وقد تقدّم تفصيل مذهبهم في ذلك مع إبطاله في أوائل الكتاب (3).

ص: 909


1- وسائل الشيعة 27 : 61 ، أبواب صفات القاضي ، الباب 6 ، ح 51.
2- راجع الفوائد المدنيّة : 90 - 127.
3- تقدّم في ج 1 ، ص 31 وما بعدها.

الثاني : في توقّف الاستنباط على الملكة - كاملة كانت أو متجزّئة - وعلى ما ذكر من المقدّمات الاصوليّة والرجاليّة وغيرهما ؛ فإنّ أكثر الأخباريّين ذهبوا إلى أنّه لا يتوقّف على شيء من ذلك ، بل قالوا : إنّ الثابت وجوب إطاعة اللّه وإطاعة اولي الأمر ، فمن سمع آية أو حديثا وفهم مرادهم منهما كما يفهم مراد غيرهم من كلامه ، يجب عليه العمل بمقتضى فهمه ، ولا يتوقّف هذا الفهم على ما ذكره المجتهدون من المقدّمات العقليّة والنقليّة واللغويّة ، ولا يلزم عليه العلم بسائر الآيات والأخبار ، والتفحّص في أنّه هل له معارض أو مخصّص أم لا؟ بل لو انحصر اقتداره على فهم آية واحدة أو حديث واحد ، لجاز له العمل ، بل لو أنّ أعجميّا علم معنى خبر معلوم النسبة إلى المعصوم بترجمة الثقة المأمون ، جاز له العمل به وإن لم يقدر على فهمه لو لم يترجمه ، فلا يجب على من ليس ماهرا في علم الحديث ، محيطا بعامّه وخاصّه ، مطلقة ومقيّده ، ما له معارض وما ليس له معارض ، ما صدر تقيّة وما لم يصدر تقيّة ، ما هو مطابق للواقع وما ليس كذلك ، ولا عارفا بوجوه التراجيح الاجتهاديّة والمنقولة ، ولا مقتدرا على الترجيح عند التعارض أن يرجع إلى من هو كذلك ، بل كلّ ما يفهمه يعمل به من غير لزوم تقليد لغيره ، وما لا يفهمه يسأله عن غيره (1).

واحتجّوا على ذلك بوجوه :

منها : الطريقة المستمرّة بين أصحاب النبيّ والأئمّة عليهم السلام ، فإنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله كان يحدّث أصحابه ، فيفهمون من قوله حكم اللّه ويعملون به من غير توقّف لاحتمال المعارض أو المخصّص أو غيرهما.

وربما يرسل بعضهم بالأخبار ، إلى أهل البلاد والقفار ، وبمجرّد النقل والسماع يعملون بما يفهمونه ، فيعملون بالعامّ إلى مجيء المخصّص ، وبالمطلق إلى مجيء المقيّد ، وبالذي سينسخ إلى ورود الناسخ ، ولم يكونوا يتوقّفون لاحتمال ورود المعارض أو المخصّص أو الناسخ أو توقّف الفهم على مقدّمات لم يكونوا يعلمونها.

وهكذا كان الأمر إلى زمان الصادق عليه السلام فجمع بعض أصحابه بعض الأخبار المتعلّقة ببعض الأحكام ، وكان هو ومن عنده هذا الأصل يعملون به ، مع أنّه لم يستقص فيه مخصّص

ص: 910


1- راجع الفوائد المدنيّة : 55 - 56 و 150 - 153.

كلّ عامّ فيه ، ومقيّد كلّ مطلق فيه ، ومعارض كلّ خبر فيه ، ولم يكونوا يتوقّفون فيما يفهمون منه حتّى يتأمّلوا في أنّ استنباطهم يتوقّف على أيّ مقدّمات وأيّ علوم ، ولا في العمل حتّى ينظروا في أصل آخر هل فيه مخصّص ، أو معارض ، أم لا؟ مع أنّهم لو نظروا إلى الاصول الأربعمائة ، لأمكن أن لا يظفروا بشيء من ذلك ؛ إذ قد يكون العامّ في كلام الصادق عليه السلام والمخصّص في كلام القائم عليه السلام ، وكذا الحال في المعارض ؛ على أنّه لم تكن الأخبار الدالّة في وجوه التراجيح في أكثر الاصول ، وربما كان في أصل خبر ومعارضه ، ومع ذلك يعملون بأحدهما من غير سعي للترجيح ، وكان الأئمّة عليهم السلام عالمين بأنّهم هكذا يفعلون ولم ينقل من واحد منهم منعهم عن ذلك.

وهكذا كان الأمر إلى زمان تأليف الكافي ، فكان من عنده (1) يكتفي به إلى زمان تأليف الفقيه فكان من عنده أحدهما يكتفي به ، وقد صرّح الشيخان بجواز العمل بما في كتابيهما (2).

وإذا كان الأمر كذلك ، فنقول : التكليف المستمرّ لم يتغيّر ، فمن كان عنده أحد الكتب الأربعة ، يجوز له الاكتفاء بما يفهمه من أخباره من المناطيق والمفاهيم ، ولا يجب عليه جمع جميعها ، والإحاطة بجميع ما فيها ، ثمّ إن ظهر له مخصّص أو مقيّد ، يعمل بمقتضاهما ، وإن ظهر له معارض ، فإن بلغه وجه واحد من وجوه التراجيح يجري فيه ، وإن بلغه أكثر من واحد يعمل بمقتضاه ، ومع تعارض وجوه التراجيح لا بدّ له من ترجيح واحد أو التخيير ، وإن لم يبلغه شيء من وجوه التراجيح ، فليسأل من الأعلم حتّى يظفر به.

وهكذا حال من اجتمع عنده جميع الكتب الأربعة أو أزيد ، ولا يصحّ له منع من عنده بعضها عن العمل به ، وإيجاب الإحاطة بما لديه ، أو التزامه قبول ما فهمه.

ومنها : الطريقة المستمرّة في المحاورات العرفيّة ، وخطاب الشارع إنّما هو على نحو الخطابات العرفيّة ، ولا ريب أنّه إذا خوطب العارف بلغة بخطاب يراه (3) يعمل بمقتضى ما

ص: 911


1- أي استقرّ الكافي عنده. والمراد : « فمن كان - أي الكافي - عنده ».
2- الكافي 1 : 6 ، والفقيه 1 : 2 - 3 : « مقدّمة الكتاب ».
3- كذا في النسختين ، والصحيح : نراه يعمل ، أو جملة يراه صفة لخطاب.

فهمه وإن كان مستلزما لمتاعب كثيرة ومشاقّ شديدة ، ولا ينتظر أن يحصل له القطع بمراد المتكلّم ، بل يعمل به وإن كان من المحتمل عنده أن يكون غرض المتكلّم خلاف ما فهمه ، ولذا لو أمر السلطان بأحد خدّامه بحمل كلّ دينار عنده ، واستصحاب عبد يشتريه ، والمسافرة إلى بلد في وقت معيّن - يفهم (1) من خطابه ثبات رأيه ، وعموم الدينار ، وإطلاق العبد بحيث يشمل المؤمن والكافر - فاشترى كافرا ، وحمل جميع ما عنده من الدنانير ، وسافر معهما (2) عند الوقت المذكور ، لم يذمّ ولم ينسب إلى تقصير باحتمال ندامة الآمر عن أمره ونسخه ولم يبلغه الناسخ ، وإخراج بعض الدنانير ، وتقييد العبد بالمؤمن ولم يصل إليه المخصّص والمقيّد ، وكذا الحال في خطابات الشارع.

ومنها : ما دلّ على أنّ اللّه تعالى لم يدع شيئا ممّا يحتاج إليه الناس إلاّ أنزله في كتابه ، أو بيّنه نبيّه صلى اللّه عليه وآله في سنّته ، فلم يبق شيء من العلوم الاعتقاديّة والعمليّة إلاّ ورد في كتاب أو سنّة حتّى أرش الخدش ، والجلدة ونصف الجلدة ، كقوله تعالى : ( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) (3).

وقوله : ( وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) (4).

وقول عليّ عليه السلام : « أم أنزل اللّه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه ، أم كانوا شركاء له ولهم أن يقولوا وعليه أن يرضى ، أم أنزل اللّه سبحانه دينا تامّا فقصّر الرسول صلى اللّه عليه وآله عن تبليغه وأدائه ، واللّه سبحانه يقول : ( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) (5)؟ ».

وقول الباقر عليه السلام : « إنّ اللّه لم يدع شيئا يحتاج إليه الامّة إلاّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله ، وجعل لكلّ شيء حدّا ، وجعل عليه دليلا يدلّ عليه ، وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّا » (6).

وقول الصادق عليه السلام : « ما من شيء إلاّ وفيه كتاب أو سنّة » (7).

ص: 912


1- جملة « يفهم » حال عن أحد خدّامه وقوله : « لم يذمّ » جواب « لو ».
2- أي مع الاشتراء والحمل.
3- الأنعام (6) : 38.
4- الأنعام (6) : 59.
5- الاحتجاج 1 : 620 ، ح 142.
6- الكافي 1 : 59 ، باب الردّ إلى الكتاب و ... ، ح 2.
7- المصدر ، ح 4.

وقوله : « ما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب اللّه » (1).

وقول الكاظم عليه السلام : « كلّ شيء في كتاب اللّه وسنّة نبيّه » (2).

وقوله - بعد السؤال عنه : هل أتى رسول اللّه بما يكتفون به؟ - : « نعم ، وما يحتاجون إليه إلى يوم القيامة » (3).

وقوله - بعد السؤال عنه : هل ضاع من ذلك شيء؟ - : « لا ، هو عند أهله » (4).

وقول الرضا عليه السلام : « إنّ اللّه لم يقبض نبيّه صلى اللّه عليه وآله حتّى أكمل الدين ، وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كلّ شيء وبيّن فيه الحلال والحرام ، والحدود والأحكام ، وجميع ما يحتاج إليه الناس كملا ، فقال عزّ وجلّ : ( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) (5) وأنزل في حجّة الوداع - وهي آخر عمره - صلى اللّه عليه وآله : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) (6) وأمر الإمامة من تمام الدين ولم يمض حتّى بيّن لامّته معالم دينهم ، وأوضح لهم سبيله ، وتركهم على قصد الحقّ ، وأقام لهم عليّا علما وإماما ، وما ترك شيئا يحتاج إليه الامّة إلاّ بيّنه ... » (7). الحديث.

وغير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المعنى ، وهي كثيرة تكاد تبلغ حدّ التواتر.

ولا ريب أنّ القول بالرأي والاجتهاد ينافي ذلك ، ولذا بسط الكلام في إثبات هذا المرام فضل بن شاذان في كتابه المسمّى ب- : الإيضاح ردّا على العامّة (8) في قولهم بالاجتهاد والرأي ، وهو من قدماء الطائفة وأجلّتهم ، وقد ترحّم عليه أبو محمّد عليه السلام مرّات (9) ، وصنّف مائة وثمانين كتابا (10).

ص: 913


1- الكافي 1 : 60 ، باب الردّ إلى الكتاب و ... ، ح 6.
2- المصدر : 62 ، باب الردّ إلى الكتاب و ... ، ح 10.
3- المصدر : 57 ، باب فضل العلم ، ح 13.
4- المصدر.
5- الأنعام (6) : 38.
6- المائدة (5) : 3.
7- الكافي 1 : 198 - 199 ، باب نادر جامع في فضل الإمام ، ح 1.
8- في « ب » : « للعامّة ».
9- اختيار معرفة الرجال : 538 - 539 ، ح 1023 - 1025.
10- راجع الفوائد المدنيّة : 92 وما بعدها.

ومنها : الأخبار الدالّة على المنع عن أخذ الأحكام ومعالم الدين عن غير الأئمّة وحجج اللّه ، كقول الصادق عليه السلام : « إيّاك أن تنصب رجلا دون الحجّة ، فتصدّقه في كلّ ما قال » (1).

وقوله عليه السلام - بعد سؤاله عن قول اللّه تعالى : ( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (2) - : « أما واللّه ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ، ولو دعوهم ما أجابوهم ، ولكن أحلّوا لهم حراما ، وحرّموا عليهم حلالا ، فعبدوهم من حيث لا يشعرون » (3).

وقوله عليه السلام : « من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإن كان الناطق عن اللّه ، فقد عبد اللّه ، وإن كان عن الشيطان ، فقد عبد الشيطان » (4).

وقوله : « ما جعل اللّه لأحد خيرا في خلاف أمرنا » (5).

وقوله عليه السلام : « من دان اللّه بغير سماع عن صادق ، ألزمه اللّه البتّة إلى الفناء (6) ، ومن ادّعى سماعا عن غير الباب الذي فتحه اللّه لخلقه ، فهو مشرك ، والباب المأمون على وحي اللّه محمّد صلى اللّه عليه وآله وآله » (7).

وقوله : « كذب من زعم أنّه يعرفنا وهو متمسّك بعروة غيرنا » (8) ، إلى غير ذلك.

ولا ريب أنّ أخذ الحكم بالاجتهاد والرأي أخذ من غير الأئمّة ومن قوله حجّة.

ومنها : الأخبار الدالّة على وجوب العمل بأحاديث الحجج ، والرجوع إلى رواة الأحاديث من غير اشتراط شيء آخر ، كقول الصادق عليه السلام : « فمن أخذ بشيء منها ، فقد أخذ حظّا وافرا » (9) ؛ إذ ليس المراد بالأخذ الأخذ للقراءة أو للنقل إلى المجتهد ، بل الأخذ للعمل به.

ص: 914


1- الكافي 2 : 298 ، باب طلب الرئاسة ، ح 5.
2- التوبة (9) : 31.
3- الكافي 1 : 53 ، باب التقليد ، ح 1.
4- المصدر 6 : 434 ، باب الغناء ، ح 24 باختلاف يسير.
5- المصدر 1 : 265 ، باب التفويض إلى رسول اللّه ... ، ح 1.
6- في المصدر : « العناء ».
7- المصدر : 377 ، باب من مات وليس له إمام و ... ، ح 4.
8- معاني الأخبار : 399 ، ح 57 ، ووسائل الشيعة 27 : 129 ، أبواب صفات القاضي ، الباب 10 ، ح 16.
9- الكافي 1 : 32 ، باب صفة العلم و ... ، ح 2.

وقوله عليه السلام : « إن أخذتم بها رشدتم ونجوتم ، وإن تركتموها ضللتم وهلكتم ، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم » (1).

وما روي من الحثّ على حفظ الأربعين حديثا ممّا ينتفع به الناس في أمر دينهم (2). ولا ريب أنّ الأربعين لا يشتمل على ما يحصل به المهارة والإحاطة.

وقول الصادق عليه السلام : « اعرفوا منازل الرجال على قدر روايتهم عنّا » (3).

وما ورد من التوقيع بخطّ القائم عليه السلام : « أمّا الحوادث الواقعة ، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ؛ فإنّهم حجّتي عليكم » (4).

وقول العسكري عليه السلام : « خذوا بما رووا » (5).

وقولهم : « لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا » (6).

وقول الهادي عليه السلام لرجلين سألاه عمّن يأخذان معالم دينهما : « اعمدا في دينكما إلى كلّ مسنّ في حبّنا و [ كلّ ] (7) كثير القدم في أمرنا » (8).

وما روي من الحثّ على رواية الحديث ، وكتابته ، والتحديث بما في الكتب (9).

ولا ريب أنّ الحثّ على الرواية والكتابة ، والمدح عليهما ليسا على مجرّدهما ، بل على ما يؤدّيان إليه من العمل.

وبالجملة ، ليس في هذا الباب من الأخبار إلاّ ما يدلّ على الرجوع إلى الرواة بسماع

ص: 915


1- الكافي 2 : 186 ، باب تذاكر الإخوان ، ح 2.
2- أمالي الصدوق : 252 ، المجلس 50 ، ح 13 ، ووسائل الشيعة 27 : 79 ، أبواب صفات القاضي ، الباب 8 ، ح 5 و 6.
3- وسائل الشيعة 27 : 149 ، أبواب صفات القاضي ، الباب 11 ، ح 37.
4- كمال الدين : 484 ، ح 4 ، والغيبة للشيخ الطوسي : 176 ، ووسائل الشيعة 27 : 140 ، أبواب صفات القاضي ، الباب 11 ، ح 9.
5- الغيبة للشيخ الطوسي : 239 ، ووسائل الشيعة 27 : 142 ، أبواب صفات القاضي ، الباب 11 ، ح 13.
6- اختيار معرفة الرجال : 535 ، ح 1020 ، ووسائل الشيعة 27 : 149 ، أبواب صفات القاضي ، الباب 11 ، ح 40.
7- أضفناه من المصدر.
8- اختيار معرفة الرجال : 4 - 5 ، ح 7 ، وسائل الشيعة 27 : 151 ، أبواب صفات القاضي ، الباب 11 ، ح 45. وفيه : « فاصمدا ».
9- الكافي 1 : 51 ، باب رواية الكتب والحديث ، ح 1 - 15.

الرواية والعمل بمقتضاها ، وليس فيها ما يدلّ على لزوم الرجوع إلى فتاوى الفقهاء ، ولزوم الملكة للمستنبط العاقل.

وكذا ليس في باب وجوب الجمع بين الأحاديث إلاّ ما يدلّ على لزوم الترجيح إذا اتّفق العثور على خبر ومعارضه ، ومع العجز عنه حكمه التخيير. ولا يحتاج الجمع والترجيح الواردان في الأخبار إلى كثير قوّة ، بل ربما فهم (1) من اختلاف الأخبار الواردة لبيان وجوه التراجيح أنّ العاجز عن الترجيح حين سماع المتعارضين حكمه التخيير ابتداء ، وليس فيها ما يدلّ على لزوم الفحص عن المعارض ، ولا على لزوم التربّص للعاجز وتحصيل ما يتوقّف عليه الترجيح ، ثمّ إن رجّح فذاك ، وإلاّ فله التخيير.

ثمّ قالوا : إنّ التفريع الذي يلزم علينا وامرنا به في قولهم عليهم السلام : « علينا أن نلقي إليكم الاصول ، وعليكم أن تفرّعوا » (2) ليس إلاّ ضمّ الصغريات في مثل قولهم : « كلّ ماء طاهر حتّى يعلم أنّه قذر » (3) ، و « كلّ ذي عمل مؤتمن في عمله » (4) ، و « اليقين لا ينتقض بالشكّ » (5) ، و « لا حرج في الدين » (6) ، وغير ذلك ، وهو لا يتوقّف على تحصيل (7) الملكة ، وليس مرادهم من الاصول المسائل المدوّنة في كتب اصول الفقه.

كيف؟ وإنّهم وعدوا الإلقاء ولم يسمع أنّ أحدا منهم ألقى إلى واحد من أصحابه أنّ مقدّمة الواجب واجبة ، أو أنّ الأمر والنهي لا يجتمعان في شيء واحد ، أو أنّ الأمر يفيد الفور أو التراخي ، أو أنّ العامّ المخصوص حجّة في الباقي ، أو أنّ بعض المفهومات حجّة وبعضها ليس بحجّة ، وغير ذلك.

ص: 916


1- في « ب » : « يفهم ».
2- وسائل الشيعة 27 : 61 ، أبواب صفات القاضي ، الباب 6 ، ح 51.
3- الكافي 3 : 1 ، باب طهور الماء ، ح 2 و 3 ، وتهذيب الأحكام 1 : 215 ، ح 619 ، ووسائل الشيعة 1 : 134 ، أبواب الماء المطلق ، الباب 1 ، ح 5.
4- هذه قاعدة شرعيّة مستنبطة من الروايات ، راجع الحدائق الناضرة 1 : 146.
5- الكافي 3 : 351 - 352 ، باب السهو في الثلاث والأربع ، ح 3 ، وتهذيب الأحكام 2 : 186 ، ح 740 ، والاستبصار 1 : 373 ، ح 1416 ، ووسائل الشيعة 8 : 216 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 10 ، ح 3.
6- اقتباس من الآية 78 من الحجّ (22).
7- في « ب » : « تحصيله ».

فإن قيل : إنّ أصحاب الأئمّة عليهم السلام كانوا يعرفون هذه المسائل بسليقتهم والأئمّة عليهم السلام يعرفون حالهم ، ولذا انسدّ بينهما باب الإفادة والاستفادة فيها.

قلنا : إنّ علم الاصول قد ظهر في أواخر عصر الباقر عليه السلام ، ثمّ طال التشاجر والتنازع في مسائله بين أهله إلى زماننا هذا ، فما الذي غيّر سليقة غير أصحابنا ولم يغيّر سليقتهم إلى زمان الغيبة الكبرى ، ثمّ غيّر سليقتهم؟ فلو توقّف الأحكام على هذه المسائل ، لوقع الكلام فيها بين أصحاب الأئمّة وبيّنوا به لهم ما هو الحقّ فيها.

فإن قيل : أكثر فروع تلك المسائل ليست بديهيّة وليس لها مدارك من الكتاب والسنّة ، فلا بدّ من العمل بها ، وردّ الفروع إليها واستنباطها منها ؛ لئلاّ يلزم سدّ باب الأحكام.

قلنا : لا يوجد فروع لم يمكن استنباطها إلاّ من هذه الاصول المخترعة ولم يكن لها شواهد من الكتاب والسنّة ، ولذا هاهنا قوم لا يعملون بها وليسوا متحيّرين فيما فرّعوا عليها من الفروع.

هذا غاية كلامهم في المقام ، لم آل في تحريره وتوضيحه جهدا ، ولم ادّخر فيه نصحا ، وخرجنا فيه عن طور الكلام ؛ ليطّلع الناظرون على جميع احتجاجاتهم وكلماتهم ، ثمّ يعلموا ممّا تقدّم (1) وممّا يأتي (2) ما فيها من الوهن والضعف.

فنقول : إنّك وإن أمكنك أن تعلم فساد هذه الشبهات واندفاعها ممّا سبق منّا (3) ، إلاّ أنّا نقول هنا لزيادة الإيضاح :

إنّ ما تمسّكوا به من الطريقة المستمرّة في خطابات النبيّ والأئمّة عليهم السلام لأصحابهم ، وفي المحاورات العرفيّة - إن سلّم - فإنّما ذلك لأجل أنّ خطاباتهم شفاهيّة حضوريّة يظهر المراد منها بأدنى توجّه لكلّ عارف بها ، ولو وقع فيه خفاء ، يمكن أن يسأل عنه.

ولا يمكن أن يقع فيها قطع أو إضمار أو إرسال أو تقطيع أو تصحيف أو تشكيك بأنّها هل هي حجّة أم لا؟ وعلى فرض الحجّيّة هل هي صحيحة أو ضعيفة؟

ص: 917


1- راجع ص 910 - 915.
2- في ص 917 - 920.
3- في ص 903 - 910.

ولا يوجد لها أسانيد يقع التشكيك في بعض رواتها بأنّه ثقة أم لا بتعارض الجارح والمعدّل.

ولا يوجد لها معارض بالفعل يقع الاحتياج لأجله إلى الجمع والترجيح وبتعارض وجوه التراجيح لزم الافتقار إلى إمعان الفكر وجولان النظر للظفر بما يقع لأجله الخلاص.

ولا يوجد لها بالفعل مخصّص أو مقيّد يقع الاحتياج إلى التخصيص والتقييد ، ولم يشتبه فيها اصطلاح المتكلّم ليحتاج إلى الفحص عنه. وغير ذلك من وجوه الاختلالات ، وأسباب الاشتباهات التي يحتاج لأجلها إلى بذل المجهود ، لتحصيل المقصود ، بخلاف خطابات الشارع بالنسبة إلينا ، فإنّه لمّا كان جميعها بعلاوة الافتقار إلى غيرها - من المقدّمات اللغويّة والاصوليّة والرجاليّة والعقليّة - موجودا فيها ، لم يجز قياسها على الخطابات العرفيّة ، وخطابات النبيّ والأئمّة بالنسبة إلى أصحابهم ؛ لأنّ فهم المراد منها - والحال هذه - بدون الظنون الاجتهاديّة ممتنع ، والمنكر مكابر.

ولذا لو أرسل السيّد إلى عبده كتابا فيه أوامر ، وعلم أو ظنّ أنّ بعضها ليس على ظاهره ، بل المراد منه التهديد - مثلا - ولم يعرفه بخصوصه ، وكان متمكّنا من معرفته بالمراجعة إلى عبد آخر له ، أو كتاب آخر عنده ، لزم عليه المراجعة ، ولو لم يرجع وعمل بالظاهر ، ثمّ عاتبه السيّد لمسامحته في تحقيق مراده ، لكان العتاب بمكانه ولم يذمّه العقلاء وذمّوا العبد.

وكيف يقول عاقل بصحّة العمل بخبر بمجرّد ملاحظته ، مع أنّا نعلم إجمالا أنّه لا يكاد يوجد خبر لم يكن مدلوله مختلفا فيه ، ولم يوجد له معارض من آية أو خبر آخر أو غيرهما من الأدلّة المعتبرة؟ وهل إذا علمنا به من دون فحص ، ثمّ عثرنا بأدنى توجّه على معارض أقوى منه لم يتوجّه ملامة مع أنّ توجّهه حينئذ لا يمكن أن ينكر؟

ثمّ على ما ذهبوا إليه - من جواز العمل بكلّ خبر وعدم جواز العمل بدليل آخر - لا أدري ما يقولون في خبر لم يقل بمدلوله أحد ، وخلافه متّفق عليه بين الطائفة ، وفي حكم إجماعي لا يدلّ عليه خبر أصلا ؛ فإنّ وجودهما ممّا لا يمكن أن ينكر.

وأمّا الأخبار الدالّة على أنّ كلّ حكم في كتاب اللّه ، أو سنّة نبيّه صلى اللّه عليه وآله (1) فهي حجّة لنا ، لا

ص: 918


1- تقدّم في ص 912 - 913.

لهم ؛ لأنّه لا ريب في أنّ جميع الأحكام المحتاج إليها - التي ما زبر في كتاب (1) الفروع تذر منها - ليست ظاهرة من ظواهر القرآن والسنّة ، والمنكر لذلك مكابر.

فالمراد من الأخبار أنّ الجميع ممّا يمكن أن يستنبطه الماهرون منهما بمعونة المقدّمات العقليّة والنقليّة ، وبوجوه الدلالات من الصريحة والفحوائيّة ، والمطابقيّة والتضمّنيّة والالتزاميّة ، والإيماء والإشارة ، والمنطوق والمفهوم ، أو بالنصّ على العلّة ، أو اتّحاد طريق المسألتين ، أو تنقيح المناط ، أو بالإجماع الذي علم دخول قول المعصوم فيه ؛ لأنّ الحكم المعلوم منه علم في الحقيقة من قول المعصوم ، إلى غير ذلك.

ولا ريب أنّ الاستنباط على هذا النحو هو عين الاجتهاد ، ولو كان استنباط الحكم منحصرا بما ذكره الأخباريّون ، لزم طرح هذه الأخبار رأسا ؛ على أنّ وجود كلّ حكم في السنّة لا يقتضي وصوله إلينا ؛ لأنّ أئمّتنا لم يتمكّنوا من إظهار الجميع.

وطعن قدماء أصحابنا - كالفضل وغيره (2) - على العامّة لقولهم بالرأي والاجتهاد ، واحتجاجهم بها عليهم إنّما هو على ما ذهبوا إليه من العمل بالأقيسة الفاسدة ، والاستحسانات العقليّة ، والمصالح المرسلة. ومرادهم من الرأي والاجتهاد اللذين نسبوهما إليهم ذلك ، لا ما عداه ممّا يتوقّف فهم الأدلّة الشرعيّة عليه ، وذهب الفرقة المحقّة إلى حجّيّته ، ودوّنه رؤساء الشيعة وعظماؤهم كالمفيد والمرتضى والشيخ في مصنّفاتهم (3).

وأمّا الأخبار الدالّة على المنع من أخذ الأحكام من غير حجج اللّه ، والدالّة على وجوب العمل بأحاديثهم ، والرجوع إلى رواة أخبارهم (4) ، فلا ريب فيها ونحن لا ننكرها ، بل نقول : أخذ الأحكام من كلامهم يتوقّف على العلم بمقدّمات ، وبذل الجهد واستفراغ الوسع ؛ لأنّ أحاديث آل محمّد صلى اللّه عليه وآله صعبة مستصعبة لا يحملها كلّ أحد ، وفيها عامّ وخاصّ ، ومطلق ومقيّد ، ومحكم ومتشابه ، وناسخ ومنسوخ كما مرّ مفصّلا (5) ، فلا بدّ من بذل المجهود ،

ص: 919


1- في « ب » : « كتب ».
2- تقدّم ذكره في ص 913. راجع كتابه الإيضاح وهو ليس بمتناولنا.
3- كرسائل اصوليّة للمفيد ، والذريعة والعدّة في أصول الفقه.
4- تقدّم ذكرها في ص 914 - 915.
5- تقدّم في ص 901.

ليستنبط منها المقصود ، وهل يقول المجتهدون بصحّة أخذ الأحكام من غير حجج اللّه؟ وهل يدلّ هذه الأحاديث على أنّ استنباط الأحكام من أقوالهم لا يتوقّف على شيء ممّا ذكره أهل الاجتهاد ، وأنّ كلّ أحد يفهم حديثهم؟ فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا؟

وما قالوا أخيرا من أنّ هذه المسائل الاصوليّة لو كانت محتاجا إليها ، لبيّنها الأئمّة لأصحابهم (1) ، وكان من لم يعمل بها من أصحابنا وطرحها خلف قاف متحيّرا.

ففيه أنّ أصحاب الأئمّة ؛ لتمكّنهم من أخذ كلّ حكم مشافهة منهم ، لم يكونوا محتاجين إلى هذه المسائل ليبيّنها لهم الأئمّة عليهم السلام ، والاحتياج إليها إنّما نشأ في زمان الحيرة وعدم التمكّن من أخذ كلّ حكم من صريح أقوالهم ، وعدم عمل من لا يعمل بها من أصحابنا الأخباريّين فإنّما هو باللسان ، وأمّا عند العمل فهو عامل بها ، كما يرشدك إلى ذلك كتبهم.

ولهم بعض شبهات في الاحتياج إلى علم الاصول ، والرجال ، وغيرهما - ممّا يتوقّف عليه الاجتهاد - يأتي في موضعه (2).

فصل [2]
اشارة

اختلفوا في تجزّي الاجتهاد بمعنى جريانه في بعض المسائل دون بعض. وتصويره أنّه هل يمكن أن يحصل للعالم ما هو مناط الاجتهاد من الأدلّة في بعض المسائل فقط أو لا؟ وإذا حصل ، فهل له أن يجتهد فيها ، ولا يتوقّف (3) على أن يكون مجتهدا مطلقا عنده ما هو مناط الاجتهاد من الأدلّة في جميع المسائل أو لا ، بل يتوقّف على كونه مجتهدا مطلقا؟

وبعبارة اخرى هل يمكن تجزّي الملكة - بمعنى حصولها بالنسبة إلى بعض الأحكام دون بعض لا بمعنى تجزّي نفس الملكة ؛ لأنّه غير معقول - أو لا؟ ومع إمكانه هل يجوز له أن يجتهد في هذا البعض أم لا؟

ص: 920


1- تقدّم في ص 917.
2- يأتي في ص 942.
3- أي جواز الاجتهاد.
فهنا مقامان :

[ المقام ] الأوّل : في إمكان حصول الملكة بالنسبة إلى بعض المسائل دون بعض ، بمعنى اقتداره على استنباطه على وجه يساوي استنباط المجتهد المطلق.

والحقّ ، أنّ ذلك ممكن ، بل واقع ، فإنّه قد يحصل الاقتدار على نوع خاصّ أو صنف خاصّ من الأحكام ؛ للانس بمداركه والاطّلاع على مآخذه دون نوع أو صنف آخر.

ويرشدك إلى ذلك تجزّي الاقتدار والاستعداد في العلوم الآليّة والعربيّة والطبيعيّة والإلهيّة والشعر والإنشاء والترسّل وغيرها من الصناعات ، والفرق تحكّم. ولعلّ المنكر أخذ التجزّي بمعنى تجزّي نفس القوّة ، لا بمعنى حصولها بالنسبة إلى بعض الأحكام ، ولا بمعنى تجزّي الاجتهاد الفعلي. وسقوطه يعلم ممّا حرّرناه.

فإن قيل : كلّ ما يقدّر جهله - من معاضد ، أو معارض ، أو مخصّص ، أو مقيّد - يجوز تعلّقه بالحكم المفروض ، فلا يحصل له ظنّ عدم المانع ممّا يعلمه من الدليل.

قلت : المفروض حصول جميع ما يتعلّق بهذا الحكم - من الأدلّة بحسب ظنّه نفيا وإثباتا بالأخذ عن مجتهد ، أو تحرير أهل الاجتهاد - وضمّ كلّ إلى جنسه ، فيحصل له الظنّ بعدم المانع.

فإن قلت : هذا الفرض في المتجزّي محال ؛ لأنّه لا ينفكّ عن العلم بجميع المدارك ؛ لأنّه قد يكون معارض ما في كتاب الطهارة أو الصلاة مثلا ، أو مخصّصه في كتاب الديات وأمثاله ، فينبغي للمتجزّي أن ينظر إلى جميع الأخبار ، ويمكن أن يكون ما ينافيه من الأدلّة الاصوليّة في كلّ واحد من أبواب كتب الاصول ، فلا بدّ له أن يلاحظ جميع الأبواب ، وعلى هذا يكون محيطا بمدارك كلّ الأحكام.

قلت : الظاهر حصول العلم العادي أو الظنّ بعدم المعارض والمخصّص للمتجزّي بمجرّد الإحاطة بما في الكتب الاستدلاليّة من أدلّة هذا الحكم ؛ إذ أصحابها أهل الاجتهاد على الإطلاق ، ولا يشترط في المتجزّي أزيد من مساواته للمطلق ، ويبعد أن يعثروا على معارض قويّ يمكن أن يختلف لأجله الحكم ولم يذكروه في كتبهم حين الاستدلال. هذا.

ص: 921

ولا يذهب عليك أنّ من يتمكّن من الإحاطة بأدلّة حكم واحد بالأخذ من كتب الاستدلال أو بالسماع من المجتهد ، يتمكّن من أخذ كثير من المسائل والأحكام بأحد هذين الطريقين ؛ إذ ما من حكم سهل المأخذ إلاّ وله نظائر كثيرة.

نعم ، ربما لم يتمكّن من أخذ أحكام صعبة المأخذ ، أي التي تعارضت فيها الأدلّة الكثيرة التي احتاج دركها وترجيح بعضها إلى قوّة قويّة ، أو كانت ذات شعب وفروع متشابكة ، ولها أدلّة متعانقة (1) يتوقّف الامتياز ورفع الالتباس إلى كثير قوّة.

وعلى هذا ، فلا يمكن حصول التجزّي بالنسبة إلى حكم أو حكمين مثلا دون غيرها ، بل الممكن حصوله بالنسبة إلى طائفة كثيرة من المسائل - لها نوع ارتباط في السهولة أو غيرها - دون غيرها.

المقام الثاني : في جواز الاجتهاد في بعض المسائل فقط على تقدير حصول العلم بما هو مناط الاجتهاد فيه.

والحقّ جوازه ؛ وفاقا للأكثر.

وذهب جماعة إلى المنع (2).

لنا : أنّه إذا اطّلع على أمارات حكم بالاستقصاء - كما هو الفرض - فقد ساوى المجتهد المطلق فيه ، وعدم علمه بأمارات غيره لا مدخل فيه ، فكما يجوز للمطلق الاجتهاد فيه ، فكذا له.

واورد عليه بأنّ الاعتماد عليه بمساواته للمطلق قياس لا نقول به ؛ لعدم النصّ على علّة في الأصل تكون موجودة في الفرع ، وما جعلوه علّة - من الاطّلاع على أمارات الحكم بالاستقصاء - فلعلّه لم يكن علّة في الأصل ؛ لفقد النصّ عليها.

ومن الجائز أن يكون العلّة فيه هي اقتداره على استنباط الأحكام كلّها ، بل هذا أقرب

ص: 922


1- في « ب » : « معانقة ».
2- منهم : الشيخ حسن في معالم الدين : 233 ، والشوكاني في إرشاد الفحول 2 : 217 ، والوحيد البهبهاني في الرسائل الاصوليّة : 66 - 80.

إلى الاعتبار ؛ إذ عموم القدرة إنّما هو لكمال القوّة ، والقوّة الكاملة أبعد من الخطأ من الناقصة. ولذا ترى ذا الملكة في العلوم العقليّة إذا حصلت له الملكة الفقهيّة ، يكون اجتهاده أبعد من الخطأ من اجتهاد من لم يحصل له إلاّ الملكة الفقهيّة فقط ، وإذا اختلف الاجتهاد في الصواب والخطأ لوجود القوّة العقليّة وعدمها ، فاختلافه فيهما بالقوّة الفقهيّة الكاملة وغير الكاملة أولى (1).

واجيب عنه ، بأنّ العلّة في اعتماد المجتهد لمطلق على ظنّه إنّما هو قضاء الضرورة ، وأنّه مشترك بينه وبين المتجزّئ ، ولا مدخليّة لكمال القوّة - بمعنى عمومها - في العلّيّة ؛ إذ العلّة يجب أن تكون مناسبة ، ولا ريب أنّ الظنّ بمسألة من الطهارة - مثلا - لا دخل له في الاعتماد على الظنّ بمسألة من النكاح ، أو الميراث (2).

وردّ بأنّ التعويل على الظنّ لمّا كان خلاف الأصل ، وقضاء الضرورة اقتضى التعويل عليه ، فأجمعوا على التعويل على ظنّ يقضى به الوطر (3) ، وله مزيّة على سائر الظنون بكونه أبعد عن الخطأ ، وهو ظنّ المجتهد المطلق ، فيبقى الباقي على أصله. وإنكار عدم مناسبة القوّة الكاملة للبعد عن الخطأ سفه ؛ لما ذكرناه (4).

أقول : الظاهر كون العلّة هي الاطّلاع على أمارات الحكم دون استنباط الأحكام كلّها ؛ لأنّ جعل الثاني علّة يقتضي العمل بالتقليد والظنّ كليهما ، وكلاهما مخالف للأصل ، وجعل الأوّل علّة لا يوجب إلاّ العمل بالظنّ ، وارتكاب خلاف الأصل مهما كان أقلّ كان أولى.

ويؤكّده ثبوت الشهرة بصحّة التجزّي ؛ فإنّه يشعر بأنّ الإجماع المنعقد على حجّيّة ظنّ المجتهد يتناول ظنّ المتجزّئ أيضا.

ولنا أيضا : أنّ المتجزّئ لو لم يعوّل على ظنّه في المسألة التي اجتهد فيها ، بل قلّد غيره فيها ، مع تحصيله الظنّ ، يلزم أن يعمل بالمرجوح ويترك الراجح مع أنّ العمل بالراجح واجب ضرورة.

ص: 923


1- حكاه الشيخ حسن في معالم الدين : 233.
2- أجاب به الشيخ حسن في معالم الدين : 233.
3- « الوطر » : الحاجة ... والجمع الأوطار. الصحاح 2 : 3. « وط ر ».
4- ذكره الفاضل التوني في الوافية : 245 و 249.

واجيب عنه بالنقض بظنّ العامّيّ الصرف ، والحلّ بأنّ العمومات دلّت على المنع من العمل بالظنّ ، خرج ظنّ المجتهد ؛ للضرورة ، وبقي الباقي ؛ على أنّه ربما كان اعتماد المتجزّئ على ظنّ المجتهد المطلق أكثر منه على ظنّه (1).

ودفعه يعلم ممّا ذكرناه (2).

ولنا أيضا : أنّ التقليد خلاف الأصل ؛ لأنّ الأصل عدم وجوب اتّباع غير الحجّة ، خرج العامّيّ الصرف بالدليل ، بقي الباقي ؛ لعدم المخرج.

وليس للخصم أن يقلبه ويقول : اتّباع الظنّ مذموم وخلاف الأصل ، خرج عنه ظنّ المجتهد المطلق بالدليل ، فبقي ظنّ المتجزّئ على أصله ؛ لعدم المخرج ؛ لأنّ (3) المخرج فيه متحقّق ، لأنّه لا بدّ له من اتّباع الظنّ ، إمّا الظنّ الحاصل من الاجتهاد ، أو الحاصل من التقليد ، فلا يكون منهيّا عنه على الإطلاق ، بخلاف التقليد.

ويمكن أن يقرّر الدليل بوجهين آخرين :

أحدهما : أنّ جواز التقليد مشروط بعدم جواز العمل بالدليل - أي الاجتهاد - فما لم يحصل القطع أو الظنّ المعتبر بعدم جواز الاجتهاد ، لم يحصل القطع أو الظنّ بجواز التقليد ، ولم يثبت دلالة على عدم جواز الاجتهاد للمتجزّئ ليحصل القطع أو الظنّ بالشرط ، فينتفي المشروط وهو جواز تقليده.

وإذا كان هناك أمران : أحدهما : الأصل ، والآخر الفرع ، وترتّب الفرع على عدم الأصل ، فلا يعدل من الأصل إلى الفرع إلاّ بالقطع أو الظنّ.

وثانيهما : الأمر بوجوب العمل بأوامر اللّه ، وأوامر اولي الأمر عامّ خرج عنه العامّيّ الصرف بالإجماع ، بقي المطلق والمتجزّئ.

والقلب فيهما وجوابه كما عرفته (4).

ص: 924


1- راجع معالم الدين : 232 و 233.
2- في ص 923.
3- هذا تعليل لقوله : « ليس للخصم أن يقلبه ». وضمير « فيه » راجع إلى المتجزّئ.
4- آنفا.

واستدلّ على المختار بوجوه أخر (1) :

منها : نصّ الصادق عليه السلام في مشهورة أبي خديجة بقوله : « انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا ... » (2).

وفيه : أنّ المنكر للتجزّي لا يدّعي وجوب العلم بكلّ الأحكام ، وإنّما يدّعي وجوب الإحاطة بكلّ المدارك والمآخذ ليحصل له الظنّ القويّ بعدم المعارض ، فزعمه أنّ العلم بشيء من الأحكام لا ينفكّ عن الإحاطة بكلّ الأدلّة ، فالعالم بشيء من القضايا مجتهد مطلق عنده.

ومنها : أنّه لو لم يتجزّأ الاجتهاد لزم علم المجتهد بجميع المدارك ، ويلزمه العلم بجميع الأحكام ، واللازم منتف ؛ لشيوع « لا أدري » من المجتهدين ، وتوقّف كثير منهم في كثير من الأحكام في مصنّفاتهم.

وفيه : أنّ العلم بجميع المدارك لا يستلزم العلم بجميع الأحكام ؛ لجواز عدم العلم ببعضها ؛ لتعارض الأدلّة الكثيرة وتراكمها بحيث لم يقدر على الترجيح ، أو للعجز في الحال عن الجهد التامّ ؛ لمانع يشوّش الفكر ، أو لاستدعائه زمانا طويلا ، أو لتوقّفه على كتاب غير حاضر.

ومنها : أنّ حصول ملكة العلم بكلّ الأحكام الواقعيّة ممتنع عندنا ؛ لأنّ جميعها كانت مودعة عند أئمّتنا عليهم السلام ولم يتمكّنوا إلاّ من إظهار بعضها ؛ لتقيّة أو غيرها.

وفيه : أنّ النزاع ليس في حصول العلم بالأحكام الواقعيّة ، بل بالأحكام الظاهريّة ، وحصول ملكة العلم بالنسبة إلى جميعها ممكن.

احتجّ المانعون (3) بأنّه لو صحّ التجزّي لزم الدور. وقد قرّر لزوم الدور بوجوه :

[ الوجه ] الأوّل : أنّ صحّة اجتهاد المتجزّئ في مسألة فقهيّة - كوجوب السورة مثلا - موقوفة على صحّة اجتهاده في مسألة تجزّي الاجتهاد ؛ إذ ما لم يترجّح صحّة التجزّي ، لم يصحّ له الاجتهاد في الفروع ، وصحّة اجتهاده في هذه المسألة موقوفة على صحّة هذه

ص: 925


1- راجع الوافية : 246 - 250.
2- الفقيه 3 : 2 - 3 ، ح 3219 ، وتهذيب الأحكام 6 : 219 ، ح 516.
3- راجع : المحصول 6 : 25 ، ومعالم الدين : 239 ، والوافية : 246 - 250.

المسألة نفسها ؛ لأنّه ما لم يصحّ مطلق التجزّي ، لم يصحّ اجتهاد المتجزّئ في مسألة اصوليّة هي مسألة التجزّي ، مع أنّ صحّة مطلق التجزّي تتوقّف على اجتهاده في هذه المسألة ، فاعتماد المتجزّئ على صحّة مسألة التجزّي - أي مساواته للمجتهد المطلق - تجزّ في مسألة التجزّي.

ويرد عليه : أنّ صحّة اجتهاد المتجزّئ في الفروع تتوقّف على مسألة اصوليّة هي صحّة اجتهاده في مسألة تجزّي الاجتهاد وهي تثبت بدليل ظنّي ، فلا معنى لتوقّفها على صحّتها في نفسها ؛ لأنّ صحّتها في نفسها ليست إلاّ كونها مطابقة للواقع ، ومطابقة الشيء للواقع إنّما تعلم بالدلالة ، والدلالة الظنّيّة هنا موجودة.

فإن قيل : ترجيح هذه المسألة الاصوليّة وإثباتها للمتجزّئ بالأدلّة الظنّيّة فرع ثبوت التجزّي ؛ إذ لو لم يجز لم يصحّ له أن يثبتها.

قلت : التجزّي المتنازع فيه هو التجزّي في الفروع. وأمّا التجزّي في الاصول ، فجائز إجماعا ؛ فإنّهم أجمعوا على أنّه يجوز لمن حصل له الظنّ بمسألة أن يعمل بمقتضاه ، وبهذا يندفع ما قيل : إنّ صحّة التجزّي توجب التعلّق بالظنّ في العمل بالظنّ (1) ، وجعل هذا مرجع الدور.

بيانه أنّ جواز عمل المتجزّئ بظنّه الحاصل من اجتهاده في الفروع يتوقّف على جواز عمله بظنّه الحاصل من اجتهاده في الاصول ، فيتوقّف الظنّ على الظنّ وهو الدور.

ووجه الاندفاع أنّ جواز العمل بالظنّ في الاصول يثبت بالإجماع القطعي ، فأحد الظنّين يتوقّف على الآخر ، والآخر لا يتوقّف عليه.

والحاصل أنّ جواز عمل المتجزّئ باجتهاده في مسألة فرعيّة خاصّة يتوقّف على جواز عمله باجتهاده ، وهذه مسألة اصوليّة ، فإن اكتفي في مسائل الاصول بالظنّ ثبت المطلوب ، وإلاّ نقول : دلّ القطع على الاكتفاء بالظنّ في هذه المسألة ؛ لأنّ المتجزّئ لا بدّ له إمّا من الاجتهاد أو التقليد ، وإلاّ لزم التكليف بالمحال ، فإن اشترط القطع لم يجز شيء منهما ؛ لعدم القاطع أصلا ، فيعود الإشكال.

ص: 926


1- راجع : معالم الدين : 239 ، والوافية : 246.

فإن قيل : القاطع دلّ على اعتماد المجتهد المطلق على ظنّه ، وتقليد غيره له ، فالمتجزّئ يقلّده مطلقا أو في هذه المسألة ، ثمّ يجتهد في غيرها.

قلت : لا قاطع على جواز تقليد المتجزّئ له ، بل القاطع دلّ على جواز تقليد العامّيّ الصرف له ، فالمتجزّئ يندرج تحت ما دلّ على ذمّ التقليد في الاصول ، مع أنّه يلزم على الشقّ الأخير ثبوت الواسطة بين أخذ الحكم بالاستنباط والرجوع فيه إلى التقليد.

وبعبارة اخرى تركّب (1) الاجتهاد والتقليد ، وهو أمر مستبعد غير معروف ، على أنّه يلزم عليه جواز العمل في الفروع بظنّه بعد أن يقلّد غيره في جواز اعتماده فيها عليه ، فيثبت صحّة التجزّي.

فإن قيل : على ما ذكر من انحصار دلالة الإجماع على حجّيّة ظنّ المجتهد لمطلق ، وتقليد العامّيّ الصرف له ، يلزم تردّد المتجزّئ بين كونه مجتهدا ومقلّدا ، فما وجه الترجيح لإلحاقه بالمجتهد مع أنّ الظاهر حينئذ ثبوت التخيير؟

قلت : وجهه لزوم التقليد والعمل بالظنّ في صورة إلحاقه بالمقلّد وفي الأوّل لا يلزم إلاّ العمل بالظنّ ، مع أنّ مجرّد التقليد مرجوح بالنسبة إلى العمل بالظنّ إذا تعارضا ، على أنّ هذا على فرض التنزّل ؛ لأنّ الحقّ المشهور جواز العمل بالظنّ في الاصول.

[ الوجه ] الثاني : حصول علم المتجزّئ بأنّ ظنونه في الفروع متّبعة يتوقّف على حصول علمه بأنّ ظنّه في مسألة التجزّي متّبع وبالعكس ، فيلزم الدور.

وفيه : أنّ تعليل الثاني بالأوّل غير صحيح ، فلا يتوقّف عليه ، بل على حجّة تثبته وهي موجودة ، أعني الإجماع على جواز العمل بالظنّ في الاصول ، فإذا علّل الثاني بالإجماع ، اندفع الدور.

[ الوجه ] الثالث : أنّ جواز الاجتهاد في الفروع مسألة اصوليّة وليست ضروريّة ، فلا بدّ لها من دليل ، وليس عليها قاطع - كما هو الفرض - بل دليل ظنّي ، وجواز الاعتماد على مثل هذا الظنّ أيضا يحتاج إلى دليل ، وهو أيضا ظنّي ؛ لعدم القاطع بالفرض ، فحجّيّته أيضا تحتاج إلى دليل آخر وهكذا. وعلى هذا التقرير يلزم التسلسل لا الدور.

ص: 927


1- أي يلزم تركّبهما.

وجوابه : ما عرفت (1) من أنّ القطع دلّ على جواز الاعتماد على الظنّ في الاصول ، فينقطع التوقّف.

فصل [3]
اشارة

شرط الاجتهاد أن يعرف جميع ما يتوقّف عليه إقامة الأدلّة على المسائل الشرعيّة الفرعيّة ، ويتمّ ذلك بامور :

[ الأمر ] الأوّل : معرفة اللغة ، ومعاني الألفاظ الشرعيّة والعرفيّة قدر ما يتوقّف عليه الاستدلال ولو بالرجوع إلى أصل مصحّح عنده من الكتب المعتمدة ، ويدخل في ذلك معرفة الصرف والنحو.

وقد تقدّم وجه الاحتياج إليه (2) ، والظاهر عدم خلاف في ذلك.

وقال بعضهم : العربي القحّ (3) إذا تتبّع الأخبار واطّلع على عرف القرآن والأحاديث ، كان مستغنيا عن اللغة والصرف والنحو ، وكذا غيره إذا عاشر العرب وتعلّم لغتهم (4).

ولا يخفى أنّ المطلوب توقّف الاستنباط على العلوم الثلاثة بأيّ طريق حصلت ، ولم يدّع اشتراط تحصيلها من الكتب.

نعم ، نقول : حصول ما توقّف عليه استدلال المجتهد من مجرّد كون الرجل من العرب ، أو المعاشرة معهم وتتبّع الأحاديث ، غير ممكن ، ويرشدك إلى ذلك صيرورة الرجل عالما بالعربيّة ، عارفا بعرف القرآن والأخبار ، ومع ذلك كثيرا ما يضطرّ عند الاستدلال إلى الرجوع إلى الكتب العربيّة.

[ الأمر ] الثاني : معرفة الكتاب قدر ما يتعلّق بالأحكام ، وهو خمسمائة آية ،

ص: 928


1- في ص 927.
2- في ص 901.
3- « يقال ... عربيّ قحّ أي محض خالص » الصحاح 1 : 3. « ق ح ح ».
4- راجع الرسائل الاصوليّة : 89.

ولا يشترط حفظها ، بل يكفي العلم بمواقعها بحيث يتمكّن من الرجوع إليها عند الحاجة ولو في كتب الاستدلال.

ووجه الاحتياج إليها أنّ استنباط الأحكام منها يتوقّف على العلم بها ، وهو ظاهر.

فإن قيل : ما ذهب إليه أكثر الأخباريّين - من أنّه لا يجوز تفسير القرآن بالرأي ، ولا يعلمه إلاّ من خوطب به - يقتضي عدم جواز التمسّك به في الأحكام الشرعيّة ما لم يكن هناك نصّ ، ومعه يحصل العناية ، فلا يتوقّف الاجتهاد على العلم بالقرآن.

قلت : الاقتضاء مسلّم ، ولكنّك عرفت فساد مذهبهم في ذلك سابقا (1).

[ الأمر ] الثالث : معرفة اصول الفقه قدر ما يتوقّف عليه الاستنباط. والتحقيق أنّ جلّ مطالبه ممّا يتوقّف عليه الاجتهاد المطلق ، ولا بدّ للمجتهد من معرفتها ، فهو أهمّ العلوم للمجتهد ، كما صرّح بعض المحقّقين (2).

ولا بدّ أن يكون ذلك بطريق الاستدلال على كلّ أصل منها ؛ لما فيها من الاختلاف ، ولا يكفي أخذها بطريق التقليد عن مجتهد ، أو حسن اعتقاد عن أحد الكتب المعتبرة عنده.

وقد عرفت وجه الاحتياج إليه فيما سبق (3).

والقول بأنّه لا حاجة إليه ؛ لأنّ تدوينه بعد عصر الأئمّة عليهم السلام ولم يكن متعارفا بين رواة أحاديثهم وقدماء الأصحاب ، مع كونهم عاملين بالأخبار ومستنبطين للأحكام منها وكان ذلك مستمرّا إلى زمان القديمين (4) ؛ ولأنّ من كان عالما بالعربيّة يتمكّن من فهم الأوامر والنواهي ، فالحكم عليه بالتقليد - مع كونه مكلّفا بفهم الأحكام منها والعمل بها - خلاف الأصل ، فلو عمل بالتقليد مع ذلك ، كان مثله كمثل من عهد إليه السلطان بأنّه متى أخبره ثقة بأنّ السلطان أمرك بكذا ، أو نهاك عن كذا ، فعليك بالطاعة ، وبيّن له المخلص عند تعارض الأخبار ، فترك العمل بأخبار الثقات معلّلا بجهله بمسائل الاصول أو المنطق ، ولا ريب في

ص: 929


1- عرفت في ص 917 - 918.
2- قاله الفخر الرازي في المحصول 6 : 25.
3- عرفت في ص 901 - 902.
4- والمراد بهما ابن الجنيد وابن أبي عقيل.

استحقاقه الذمّ حينئذ (1) ، لا يخفى (2) ضعفه. وقد عرفت فساده ، ونزيدك هنا بيانا ونقول :

إنّ كثيرا من القواعد الاصوليّة مستنبطة من الكتاب والسنّة ، كالاستصحاب المستنبط من قاعدة عدم نقض اليقين بالشكّ ، وأصل البراءة ، وعدم جواز التكليف فوق الوسع ، وغير ذلك. وكثير منها يثبت مدلولها ببراهين قاطعة تلقّتها العقول بالقبول ولا يمكن إنكارها ، كالقياس بالطريق الأولى وأمثاله. وما ليس بهذه المثابة إمّا تعلّق بتحقيق معاني الألفاظ ، مثل ثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمه ، وكون الأمر للوجوب أو غيره ، وللمرّة أو التكرار ، وللفور أو التراخي ، وغير ذلك.

أو لا يتعلّق به ، مثل الأمر بالشيء هل يقتضي وجوب مقدّمة المأمور به ، والنهي عن ضدّه أو لا ، وغير ذلك.

فما كان من القسم الأوّل لم يكن محتاجا إليه عند الرواة والقدماء ؛ لأنّ معاني الألفاظ وحقائقها كانت معلومة عندهم ؛ لعدم تغيّر العرف في زمانهم.

وما كان من القسم الثاني فبعضه أيضا كان لهم غنى عن تحقيقه ؛ لظهوره لهم بالقرائن والأمارات والتواتر وأمثال ذلك ، كحجّيّة خبر الواحد وما يتعلّق به.

وبعضه ممّا صدر حكمه من الأئمّة وعلموه من كلامهم ، كما يظهر من الأخبار ، كحكم ما لا نصّ فيه ، وتعارض الأدلّة ، والاستصحاب ، والناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، والعامّ والخاصّ ، والإفتاء والتقليد ، والقياس والاستحسان ، والشبهة في نفس الحكم الشرعي أو موضوعه ، وجواز الرواية بالمعنى ، وأصالة الحقيقة وغير ذلك ؛ فإنّ جميع ذلك قد كان في عصرهم وكان الرواة والأصحاب عاملين بحكمه إلاّ أنّهم لقطعهم به لم يكونوا محتاجين إلى زيادة بحث وتنازع. وبعضه لم يخطر ببالهم حتّى يسألوا عنه.

وأمّا في أمثال زماننا فالاحتياج إلى القسمين ظاهر ؛ لتغيّر (3) العرف ، وفقد القرائن والأمارات ، وعدم إمكان الاستنباط بدون التمسّك بهما ؛ فإنّا ما لم نتحقّق (4) أنّ تعلّق الأمر

ص: 930


1- ذكره الفاضل التوني بعنوان « إن قلت » في الوافية : 253.
2- خبر لقوله : « والقول بأنّه لا حاجة إليه ».
3- في « ب » : « لتغيير ».
4- في « ب » : « لم نحقّق ».

والنهي بشيء واحد جائز أم لا ، لم يمكننا العلم بأنّ الصلاة في المغصوبة ، أو في أوّل الوقت - مع شغل الذمّة بحقّ مضيّق - جائزة أم لا ؛ لعدم نصّ على أكثر الفروع المتفرّعة عليه وعلى غيره من المطالب الاصوليّة.

فإن قيل : نحن مكلّفون بما نفهم (1) من الكتاب والسنّة ، فإذا (2) لم نقطع بتغيّر عرفنا من عرف الشارع فلا بأس علينا بالعمل بما نفهمه ؛ إذ الحجّة علينا أحاديثهم وما كلّفنا بأزيد ممّا نفهمه ؛ على أنّه لو قطعنا بتغيّر عرفه فمن أيّ طريق نثبته؟ أمن الكتاب ، أو السنّة ، أو الإجماع ، أو من تلك الاصول المبتدعة؟

قلت : لمّا كان المناط عرف زمان المعصوم عليه السلام ، فيجب السعي مهما أمكن ليحصل عرفه ، ولا يكفي مجرّد عدم العلم بالتغيير ، ثمّ بعد السعي وبذل الجهد إن عرف عرفه قطعا أو ظنّا فذاك ، وإلاّ فاللازم التوقّف ، ثمّ يحصل عرفه عليه السلام - إذا علم تغييره (3) عندنا - بأصالة البقاء ، أو أصالة العدم ، أو التتبّع والممارسة في الأخبار ، أو كلام الفقهاء الماهرين وغير ذلك.

فإن قيل : الفروع التي تستنبط منها إمّا يمكن استنباطها من عموم أو إطلاق ، أو لا ، فعلى الأوّل لا حاجة إلى التمسّك بالاصول المخترعة. وعلى الثاني يمكن المناص عنها من طريق الاحتياط والتوقّف عند الشبهات ، أو رفع الحرج ، أو استحالة التكليف بالمحال ، أو إطلاق كلّ شيء حتّى يرد فيه نهي ، فنحتاط في الصلاة في المغصوبة من حيث العمل فلا نصلّي فيها ، بل نخرج إلى غيرها مع التمكّن. ونتوقّف في الإفتاء ، فنقول للمستفتي : لا ندري حقيقة الحكم ؛ لعدم النصّ فيه ، فلا تصلّ فيه واعمل بالاحتياط.

وإذا كان [ حكم ] (4) فعل دائرا بين الوجوب والحرمة ولم يوجد نصّ على أحدهما فإمّا نتركه ؛ لما ورد من الأمر بالوقوف في الشبهات (5) ، أو نفعله ؛ لقوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » (6). وقس عليهما أمثالهما.

ص: 931


1- في « ب » : « يفهم ».
2- في « ب » : « فإن ».
3- في « ب » : « تغيّره ».
4- أضفناه لاستقامة العبارة.
5- وسائل الشيعة 27 : 119 ، أبواب صفات القاضي ، الباب 9 ، ح 35.
6- الفقيه 1 : 317 ، ح 937.

وعند التعارض نعمل (1) بالمرجّحات المنصوصة ، وعلى هذا لا يقع الاحتياج في مسألة إلى التمسّك بهذه الاصول العاميّة.

قلت : أكثر الفروع التي يقع الاحتياج إليها ويقع الخلاص منها بها ممّا لا يقع المناص عنها بما ذكرت ، فإنّ كثيرا من القضايا ممّا لا يتأتّى فيه الاحتياط سيّما في التنازع في الحقوق الماليّة ، وإلزام الصلح ممّا لم يأمر به الشارع ، على أنّ الاحتياط في هذه المواضع إن كان على سبيل الوجوب ، فهو خلاف التحقيق ، ونطالب المدّعي بالدليل. وإن كان على سبيل الندب ، فيلزم جواز غيره ، فلا بدّ حينئذ من التمسّك بالمسائل الاصوليّة. والخلاص من التعارض بمجرّد المرجّحات المنصوصة غير ممكن ؛ لعدم إمكان التمسّك بها في بعض المواضع ؛ ولما تقدّم من وقوع التعارض بينها (2).

[ الأمر ] الرابع : علم الميزان ؛ ليعرف شرائط البرهان.

وقد تقدّم وجه الاحتياج إليه (3).

[ الأمر ] الخامس : معرفة الكلام قدر ما يتوقّف عليه العلم بالشارع ، وصفاته الثبوتيّة والسلبيّة ، وبأنّه باعث الأنبياء ومصدّقهم بالمعجزات ، وأنّه لا يخاطب بما لا يفهم معناه ، ولا بما يريد به خلاف ظاهره من غير بيان ، وهو إنّما يتمّ إذا عرف أنّه حكيم مستغن عن القبيح.

ولا يخفى أنّ هذه المعرفة لا تختصّ بالمجتهد ، بل تجب على كلّ أحد ؛ إذ هي شرط الإيمان ، إلاّ أنّه لا ينافي توقّف الاجتهاد عليه.

[ الأمر ] السادس : معرفة مواقع الإجماع ؛ ليتحرّز عن مخالفته.

ص: 932


1- في « ب » : « يعمل ».
2- أي بين المرجّحات. تقدّم في ص 901.
3- تقدّم في ص 901.

[ الأمر ] السابع : معرفة الأحاديث المتعلّقة بالأحكام ،

ولا يشترط حفظها ، بل يكفي أن يكون عنده من الاصول المصحّحة ما يجمعها ، ويعرف موقع كلّ باب بحيث يتمكّن من الرجوع إليها.

[ الأمر ] الثامن : معرفة أحوال الرواة في الجرح والتعديل ولو بالمراجعة إلى كتب الرجال.

ووجه الاحتياج إليه أنّ الاجتهاد بدون التمسّك بالأخبار غير متصوّر ، ولا يمكن العمل بكلّ خبر ؛ إذ الأخبار المعتلّة التي لا يجوز العمل بها كثيرة ؛ لما كثرت عليهم الكذّابة (1) ، فلا بدّ من تمييز الصحاح التي يجوز العمل بها عنها ، وهو يتوقّف على معرفة أحوال الرواة.

وذهب أكثر الأخباريّين إلى أنّ العلم بأحوال الرواة غير محتاج إليه. واحتجّوا عليه بوجوه :

[ الوجه ] الأوّل : أنّ أحاديثنا كلّها قطعيّة الصدور عن المعصوم ؛ لأنّها محفوفة بقرائن مفيدة للقطع بصدورها عنه.

فمن القرائن أنّه كثيرا ما نقطع بالأمارات أنّ الراوي ثقة في الرواية وإن كان فاسد المذهب ، فاسقا بجوارحه.

ومنها : تعاضد بعضها ببعض.

ومنها : نقل الثقة العالم الورع في كتابه الذي ألّفه لهداية الناس أصل رجل أو روايته ، مع تمكّنه من استعلام حال ذلك الأصل ، وتلك الرواية ، وأخذ الأحكام بطريق القطع عنهم صلى اللّه عليه وآله.

ومنها : تمسّكه بذلك الأصل ، أو (2) تلك الرواية مع تمكّنه من التمسّك بروايات أخر صحيحة.

ومنها : أن يكون راويه أحدا من الجماعة التي أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم.

ومنها : أن يكون راويه ممّن ورد في شأنه من الأئمّة مدح يفيد الوثاقة.

ص: 933


1- أي الجماعة الكذّابة. قال في تاج العروس ذيل قول الماتن : « وهو كاذب ، وكذّاب » : « ككتّان والانثى بالهاء ». تاج العروس 2 : 1. « ك ذ ب ».
2- في « ب » : « و ».

ومنها : وجوده في أحد الكتب الأربعة ؛ لشهادة مؤلّفيها بصحّة أحاديثها. ولا يكاد يوجد خبر لم يوجد فيه إحدى تلك القرائن ، فلا حاجة إلى علم الرجال وملاحظة السند.

اعلم أنّا قد أشرنا فيما سبق (1) إلى أنّ الأخباريّين لمّا منعوا عن العمل بالظنّ في الأحكام الشرعيّة اضطرّوا إلى القول بأنّ الأخبار المرويّة عن الأئمّة عليهم السلام تفيد القطع ، واحتجّوا عليه بهذه القرائن.

وليت شعري أنّها كيف تدلّ على القطع بالصدور وليس في واحدة منها دلالة عليه بوجه؟!

أمّا الاولى ؛ فلأنّ وجود أمارات تفيد لنا القطع بأنّ الراوي يتحرّز عن رواية غير المقطوع به عنده في حيّز المنع ، ولا بدّ للمدّعي من إثباته. غاية الأمر وجود أمارات تفيد لنا الظنّ بأنّ الراوي لا يروي إلاّ ما يحصل الظنّ القويّ بصدقه. ولو سلّم نقول : ربما قطع بقرائن لم تفد القطع لنا ، على أنّه لا يكاد يوجد خبر يكون جميع رجال سنده ممّن يحصل العلم بعدم افترائهم وكذبهم وسهوهم وغلطهم.

نعم ، إن كان المراد بالراوي صاحب الأصل ، لم يقع احتياج إلى العلم بحال باقي السند ، فيندفع الأخير ، إلاّ أنّه يتوجّه عليه ما تقدّم ، مع احتمال وقوع الخطأ على الناقل عن الأصل.

وأمّا الثانية ؛ فلأنّ تعاضد البعض بالبعض لا يوجب حصول القطع بالصدور ؛ لاحتمال اعتماد كلّ من رواة الأحاديث المتعاضدة على الظنّ إلاّ أن يبلغ عددهم في جميع الطبقات حدّ التواتر ، وهو غير محلّ النزاع.

وأمّا الثالثة ؛ فلأنّ نقل الثقة وتأليفه لهداية الناس لا يقتضي القطع بالرواية ؛ فإنّ مؤلّفي كتب الفقه ثقات متورّعون مع أنّهم يعملون بالظنّ.

والتمكّن من استعلام (2) حال الأصل أو الرواية - لو سلّم - لا يدلّ على أنّ نقله حينئذ بدون الاستعلام يفيد القطع ؛ لأنّ الخبر إذا كان حجّة وجاز العمل به ، يجوز نقله بدون الاستعلام وإن لم يفد إلاّ الظنّ ، ولو لم يجز حينئذ ، لم يجز إذا أفاد القطع أيضا.

وقوله : « مع تمكّنه أخذ الأحكام عنهم بطريق القطع » ممنوع ؛ فإنّ أكثر مصنّفي كتب

ص: 934


1- في ص 909.
2- في « ب » : « الاستعلام ».

الأخبار - كالمحمّدين الثلاثة (1) وغيرهم - لم يكونوا متمكّنين من أخذها بطريق القطع. ولو سلّم تمكّنهم من أخذ بعضها بطريق القطع ، فهو لا يوجب اقتصارهم على إيراد القطعيّات وترك غيرها مع كونه حجّة ، على أنّه لو سلّم أنّ ما ألّفه مقطوع به عنده ، فهو لا يوجب كونه مقطوعا عندنا أو في الواقع.

وأمّا الرابعة ؛ فلأنّ تمكّنه من التمسّك بروايات صحيحة أخر ممنوع ، ولو سلّم فأيّ حاجة إليه بعد فرض كون الأصل والرواية صحيحتين ، أو محفوفتين (2) بقرائن تفيد الظنّ بجواز العمل به.

وأمّا الخامسة ؛ فلأنّ الإجماع المدّعى لا يفيد القطع بصحّة أحاديثهم ؛ لأنّه منقول بطريق الآحاد ، بل لا يفيده ولو كان متواترا أيضا ؛ لأنّه فرع عدم جواز العمل بالظنّي ؛ على أنّه لا يوجد خبر يكون جميع سنده ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ منهم.

وقس عليها السادسة.

وأمّا السابعة ؛ فلأنّ شهادة المشايخ الثلاثة بصحّة أخبار كتبهم لا تستلزم قطعيّتها عندهم ، فضلا عن قطعيّتها عندنا ؛ لأنّ صحّة الخبر عندهم إمّا ما هو المتعارف عند المتأخّرين ، أو ما هو المصطلح عند القدماء من اقترانه بامور توجب الاعتماد عليه والركون إليه ، كما ذكره بعض أصحابنا (3).

وقد سبقت الإشارة إلى هذه الامور في بحث الأخبار (4) والاتّصاف بالصحّة على كلا الاصطلاحين لا يوجب القطعيّة.

أمّا على الأوّل ، فظاهر ، ولذا لم يدّع أحد من المتأخّرين الذاهبين إليه قطعيّة حديث متّصف به.

وأمّا على الثاني ، فلأنّ شيئا من الامور المذكورة لا يصلح لأن يفيد القطع ، كما لا يخفى على الناظر فيها ، ولو كانت أخبار كتبهم قطعيّة عندهم ، لم يتعرّضوا لذكر المشيخة ؛ لكونه

ص: 935


1- هم : محمّد بن يعقوب الكليني ، ومحمّد بن عليّ بن بابويه ، ومحمّد بن الحسن الطوسي.
2- هذا من تغليب المؤنّث على المذكّر وهو غير معتاد.
3- قاله الفاضل التوني في الوافية : 268.
4- تقدّم في ج 1 ، ص 266.

عبثا. وكيف يمكن الحكم مع وقوع التعارض فيها ولا بدّ فيه من الطرح أو الجمع ، ولا يناسب شيء منهما للقطعيّة؟!

وأيضا كثيرا ما يطرح الصدوق روايات الكافي ويقول : « لست افتي بها » (1) ، والمفيد والشيخ والمرتضى وغيرهم من القدماء روايات الكافي والفقيه ، كما طرحوا الأخبار الدالّة على أنّ شهر رمضان لا ينقص أبدا (2) ، وأخبار سهو النبيّ (3). وربما يقدح الصدوق بعض الأخبار بالقطع أو الإرسال ، أو يذكر فيه ما يدلّ على عدم قطعيّته ثمّ يفتي به (4). وكثير من الأخبار يخالف القواعد العقليّة بحيث لا يرضى العقل بانتسابها إلى مهابط الوحي.

وعلى هذا لا يمكن الحكم بصحّة جميعها بأحد المعنيين فضلا عن قطعيّتها ، فالظاهر أنّ إخبارهم بصحّتها ليس من حيث علمهم بصحّة كلّ خبر منها ، بل من حيث أخذها من الاصول المعتمد عليها عند الفرقة.

وكيف يحكم عاقل بقطعيّة أخبار في سلسلة أسانيد بعضها رجال نسبهم أهل المهارة والفحص إلى الكذب ، أو الضعف ، أو الاضطراب والتشويش وأمثالها أو قالوا فيهم : لا يعمل بما يتفرّدون به ، أو أحاديثهم تعرف وتنكر ، أو ليست نقيّة ، أو ورد فيهم من الأئمّة لعن وذمّ شديد؟!

وبعضها مأخوذ (5) من اصول جماعة ، أو كتب طائفة صرّح أهل العدل والورع بأنّهم كذّابون ، أو وضّاعون ، كعليّ بن أبي حمزة (6) ، والسكوني (7) ، ووهب بن وهب القريشي (8) ،

ص: 936


1- منها ما في الفقيه 4 : 203 ، ذيل الحديث 5475.
2- الردّ على أهل العدد والرؤية ( ضمن مصنّفات المفيد / ج 9 ) : 19 - 20 ، وتهذيب الأحكام 4 : 169 ، ذيل الحديث 482 ، والحديث في الكافي 4 : 79 ، باب نادر ، ح 3.
3- رسالة عدم سهو النبيّ ( ضمن مصنّفات المفيد / ج 10 ) : 20 - 24 ، ورسالة الاجتهاد والأخبار ( ضمن الرسائل الأصوليّة ) : 183 - 184. والخبر في الكافي 3 : 335. باب من تكلّم في صلاته ... ، ح 3. وتهذيب الأحكام 2 : 345 ، ح 1433.
4- كروايتي الفقيه 1 : 411 ، ذيل الحديث 1220 ، و 2 : 383 ، ذيل الحديث 2768 و 2769.
5- هذه الجملة الاسميّة عطف على صفة « أخبار » وهي قوله : « في سلسلة أسانيد بعضها رجال ».
6- اختيار معرفة الرجال : 403 ، ح 755.
7- الفقيه 4 : 344 ، ذيل الحديث 5748.
8- اختيار معرفة الرجال : 309 ، ح 559.

ومحمّد بن موسى الهمداني (1) ، وعبد اللّه بن محمّد البلوي (2) ، ويونس بن ظبيان (3) ، ومحمّد بن عليّ الصيرفي (4) ، ومحمّد بن سنان (5) وغيرهم.

وبعضها مأخوذ من اصول جماعة صرّح المشايخ بترك ما يختصّون بروايته ، كحسن بن صالح بن حيّ (6) وأمثاله. على أنّه قد كثرت على أئمّتنا الكذّابة ، ووضعوا أحاديث كثيرة ، وأدرجوها في أحاديثهم.

قال هشام بن الحكم : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : « لا تقبلوا علينا حديثا إلاّ ما وافق القرآن والسنّة ، أو تجدوا معه شاهدا من أحاديثنا المتقدّمة ؛ فإنّ المغيرة بن سعيد دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها ».

قال : وأتيت العراق فوجدت فيها قطعة من أصحاب أبي جعفر عليه السلام ووجدت أصحاب أبي عبد اللّه متوافرين ، فسمعت منهم أحاديث فعرضت على الرضا عليه السلام ، فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبد اللّه عليه السلام ، وقال لي : « إنّ أبا الخطّاب قد كذب على أبي عبد اللّه عليه السلام » (7).

ومع هذا الاحتمال كيف يحصل القطع بأنّ جميع أخبار الشيعة قطعيّة الصدور؟!

ويدلّ على عدم قطعيّتها جميع ما ذكرناه فيما تقدّم ؛ لعدم إفادة أخبار الآحاد ما عدا الظنّ.

ثمّ لو سلّم قطعيّة الصدور عند أصحاب الاصول والكتب ، فلا نسلّم القطعيّة عندنا وفي الواقع.

ولو سلّم ذلك أيضا ، نقول : الاحتياج إلى علم الرجال باق بحاله ؛ لوجود التعارض

ص: 937


1- الفقيه 2 : 90 - 91 ، ذيل الحديث 1819.
2- خلاصة الأقوال : 370 - 371 ، الرقم 1467.
3- اختيار معرفة الرجال : 546 ، ح 1033.
4- المصدر : 545 - 546 ، ح 1032 و 1033.
5- المصدر 546 ، ح 1033.
6- المصدر : 232 - 233 ، ح 422.
7- المصدر : 224 ، ح 401.

المحوج إليه على كلّ حال ، فإنّ الأمر بالأخذ بقول الأعدل عند التعارض يتناول التعارض في الظنّيّات والقطعيّات.

والحاصل أنّ إثبات مطلوبهم موقوف على ثلاث مقدّمات (1) كلّها غير مسلّمة.

فإن قلت : ما ذكرت - من حديث التعارض ، وطرح المشايخ بعض الأخبار ، وتضعيفها - إنّما ينافي العمل بجميعها ، ولا ينافي قطعيّة صدورها ، بمعنى العلم باتّصالها بالمعصوم ؛ لأنّه يجوز صدور الجميع عن المعصوم ، إلاّ أنّ بعضها خرج للتقيّة أو لمصالح أخر ، فإذا وقع التعارض ، يرجّح أحد المتعارضين بمخالفته لمذهب العامّة ، أو بتكرّره في الاصول واتّصال سنده ، أو لكون رواته أعدل ، أو أكثر ، معتقدين أنّ المعارض المطروح لا يجوز العمل به ، لا لأنّه لم يصدر عن المعصوم عليه السلام ، بل لأنّه صدر لمصلحة تنافي العمل.

قلت : ما يطرح كما يجوز خروجه مخرج التقيّة يجوز خروجه مخرج الكذب ؛ فإنّ احتمال الكذب في بعض الأخبار ممّا لا يمكن دفعه.

ويدلّ عليه أمرهم عليهم السلام عند التعارض بالأخذ بالأصحّ سندا (2) ، أو ما راويه أعدل (3) ، ومع ذلك لا يحصل القطع بالصدور.

فإن قلت : قد ذكر الشيخ في أوّل الاستبصار ما حاصله أنّ الخبر إمّا متواتر ، أو غير متواتر ؛ وغير المتواتر إمّا محفوف بالقرائن المفيدة للقطع ، أو غير محفوف بها ؛ وغير المحفوف إمّا لا يعارضه خبر آخر ، أو يعارضه ؛ وعلى الثاني إمّا لا يتحقّق إجماع على صحّة الخبرين ، أو إبطالهما ، أو صحّة أحدهما ، أو إبطاله ، أو يتحقّق على واحد منها ، وجعل الأقسام كلّها قطعيّة إلاّ ما ثبت الإجماع على إبطاله.

أمّا الأوّل والثاني (4) ، فالوجه فيهما ظاهر.

وأمّا الثالث - وهو ما لا يعارضه خبر آخر - فلأنّه قال فيه : « إنّه من الباب الذي عليه

ص: 938


1- في هامش « أ » : « أشار إليها في مقام نفي دلالة حججهم على الاستغناء عن العلم بأحوال الرجال في قوله : وأمّا الاولى ... ».
2- راجع : الكافي 1 : 2. باب اختلاف الحديث ، ح 10 ، وتهذيب الأحكام 6 : 301 ، ح 845.
3- راجع : الكافي 1 : 2. باب اختلاف الحديث ، ح 10 ، وتهذيب الأحكام 6 : 301 ، ح 845.
4- وهما المتواتر والمحفوف بالقرينة المفيدة للقطع.

الإجماع في النقل ، إلاّ أن تعرف فتاواهم بخلافه » (1) ويفهم منه أنّ نقل هذا القسم من المعصوم عليه السلام مجمع عليه.

وأمّا الرابع - وهو ما عارضه خبر آخر مع السكوت عن الصحّة والإبطال - فلأنّه قال : « إذا ورد الخبران المتعارضان وليس بين الطائفة إجماع على صحّة أحدهما ، ولا على إبطال الآخر ، فكأنّه إجماع على صحّتهما. وإذا كان الإجماع على صحّتهما ، كان العمل بهما جائزا سائغا » (2).

فعلم أنّ كلّ خبر لا يعلم الإجماع على خلافه ، فهو عنده صحيح ، ويعلم منه بالطريق الأولى صحّة الخبرين إذا انعقد الإجماع على صحّتهما ، فيبقى غير الصحيح عنده ما انعقد الإجماع على بطلانه.

وهذا الكلام من الشيخ - كما ترى - شهادة منه بالدليل على صحّة جلّ الأخبار ، بل كلّها ؛ إذ القسم الأخير في غاية الندرة.

قلت : غاية ما يستفاد من كلام الشيخ شهادته على صحّة ما عدا القسم الأخير من الأخبار ، كما يستفاد من كلام الكليني والصدوق ، وقد ذكرنا أنّ الصحّة لا تستلزم قطعيّة الصدور (3) ؛ على أنّ في كلامه مواضع للأنظار ؛ لأنّ الخبر إذا لم يكن له معارض كيف يكون من الباب الذي عليه الإجماع في النقل مع احتمال الكذب فيه؟! وكيف يسمع ذلك منه بمجرّد الدعوى؟!

وأيضا إذا كان له معارض ولم ينعقد إجماع على صحّة أحدهما أو بطلانه ، كيف يكون ذلك إجماعا على صحّتهما وجواز العمل بهما؟! ولا أدري ما السبب فيه مع احتمال الكذب في كليهما ، فضلا عن احتماله في أحدهما؟

وأيضا تحقّق الإجماع على صحّة خبرين متعارضين - بمعنى جواز العمل بهما - نادر ، وبمعنى قطعيّة صدورهما في غاية البعد. هذا.

ص: 939


1- الاستبصار 1 : 4.
2- المصدر : 3 - 5.
3- تقدّم في ص 935 - 936.

مع أنّ الاحتياج في صورة التعارض إلى علم الرجال ثابت على أيّ تقدير ، والشيخ لم ينكره.

ثمّ بعض الأخباريّين لمّا تفطّن بما يرد على ما ذهبوا إليه ، قال :

مرادنا بالعلم - حيث نقول : إنّ أخبارنا معلومة الصدور ، وأنّ مدلولاتها معلومة لنا - هو ما يطمئنّ إليه النفس ويقضي العادة بصدقه - وهو الذي اعتبره الشارع في ثبوت الأحكام ، كما يرشد إليه موضوع الشريعة السمحة. ويحصل بخبر الثقة الضابط ، وبالقرائن الحاليّة والمقاليّة - لا الاعتقاد الثابت الجازم المطابق للواقع ، فإنّ حصوله غير ممكن (1).

والظاهر أنّ مراده ب- « ما يطمئنّ إليه النفس » هو الظنّ الغالب ، فإن كان مراده أنّ مثل هذا الظنّ يحصل في بعض الأخبار ، فهو مسلّم ورجوع إلى مذهب المجتهدين ، وإن كان مراده أنّه حاصل في جميعها فهو باطل ؛ لعدم إمكانه في المتعارضين وأخبار الضعفاء وأهل الكذب. والظاهر أنّ مراده الأوّل.

وإذ ظهر أنّ الأحاديث ليست قطعيّة الصدور ، والقرائن المذكورة لا تدلّ عليها ، بل هي ظنّيّة الصدور ، فثبت جواز العمل بالظنّ ؛ إذ لولاه لزم سدّ أبواب الأحكام ، فبطل مذهب الأخباريّين.

ثمّ نقول : كلّ ظنّ لا يجوز التعويل عليه ؛ لعموم النهي عن اتّباع الظنّ (2) ، وآية التثبّت (3) ، فيجب الفحص عن أسانيدها ؛ ليتميّز ما يفيد الظنّ المعمول به عن غيره.

فإن قيل : يكفي في ذلك ملاحظة القرائن ، بل يتعيّن ذلك ؛ لأنّ الظنّ الحاصل منها أرجح من الظنّ الحاصل من ملاحظة السند في علم الرجال ، والعمل بالراجح متعيّن.

قلت : التمييز بالقرائن المعمولة عند القدماء غير ممكن في أمثال زماننا ؛ لعدم تمكّننا عن تحصيلها ، والتمكّن عن قليل منها غير مغن ؛ على أنّا امرنا بالأخذ بقول الأعدل عند التعارض (4) ، ومعرفة الأعدل والأصدق تتوقّف على علم الرجال. هذا.

ص: 940


1- انظر الفوائد المدنيّة : 90 - 127.
2- الحجرات (49) : 12 : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ... ) .
3- الحجرات (49) : 6 : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ... ) .
4- الكافي 1 : 67 ، باب اختلاف الحديث ، ح 10 ، والفقيه 3 : 8 - 11 ، ح 3236 ، وتهذيب الأحكام 6 : 301 ، ح 845.

مع أنّ تحصيل أكثر القرائن يتوقّف على علم الرجال ، وكيف يمكن أن يحصل القرينة الاولى والخامسة والسادسة من دون النظر في أحوال الرجال؟!

[ الوجه ] الثاني (1) : قد ثبت لنا من طريقة العلماء في الأعصار أنّهم يعتبرون مطلق الظنّ ، ويعملون بكلّ ما يفيد الظنّ ، سواء كان خبرا صحيحا أو ضعيفا أو غير ذلك ، وعلى هذا ، لا حاجة إلى علم الرجال ؛ لأنّ المناط حينئذ حصول الظنّ ، فما يفيده يصحّ العمل به وإن كان خبرا ضعيفا ، وما لا يفيده لا يصحّ العمل به وإن كان خبرا صحيحا.

والجواب : منع عمل العلماء بكلّ ظنّ ؛ لأنّهم صرّحوا بعدم جواز العمل بالظنّ إلاّ ما ثبت حجّيّته شرعا ، كالظنّ الحاصل من الكتاب ، أو الأخبار الصحيحة.

[ الوجه ] الثالث : لا بدّ في اعتبار الظنّ الحاصل من علم الرجال من دلالة ، ولم تثبت ؛ مع أنّ فيه شبهات واختلالات ، ويرد على الضوابط المقرّرة فيه إشكالات لا يمكن أن يحصل معها ظنّ ، ولو حصل في بعض المواضع ، فهو ظنّ ضعيف لا يمكن اعتباره قطعا.

منها : أنّه قد وقع الاختلاف فيما يعلم به العدالة ، وفيما يزيلها - أعني الكبائر - وليس مذهب المعدّلين والجارحين من علماء الرجال في ذلك معلوما لنا ، ولا يعلم اتّفاقهم على مذهب واحد ، فربما كان مذهب بعضهم في ذلك مخالفا لمذهب بعض آخر ، ومع ذلك يقبل كلّ متأخّر قول المتقدّم عليه في التعديل والجرح ، ويبني جرحه وتعديله على قوله ، ونحن نقبل من الجميع ، مع أنّه لا بدّ لمن يريد العمل من العلم بموافقة مذهبه في ذلك لمذهب المعدّل والجارح. وأيضا العدالة - أعني الملكة المخصوصة - صفة نفسيّة خفيّة لا يطّلع عليها إلاّ صاحبها ، ولا يجوز إثباتها بالشهادة وبالخبر الواحد ؛ لأنّهما لا يجريان إلاّ في المحسوسات.

ومنها : أنّه قد ثبت في محلّه أنّ شهادة فرع الفرع لا تسمع ، مع أنّ شهادة علماء الرجال على أكثر الرواة بالجرح والتعديل من هذا القبيل.

ومنها : أنّ أكثر الأسماء مشتركة بين الثقات وغيرهم ، والتمييز في كثير منها غير ممكن ،

ص: 941


1- هذا احتجاج ثان من الأخباريّين. والدليل الأوّل منهم تقدّم في ص 933.

ومهما يمكن إنّما يحصل من ملاحظة الطبقات ، والتمييز الحاصل من مثله إنّما هو من ظنّ ضعيف لا يمكن اعتباره.

ومنها : أنّ بعض الرواة كان على خلاف الحقّ ، ثمّ رجع إليه ، وبعضهم كان عليه ، فرجع إلى خلافه ، وما وصل إلينا من رواياتهم لا يعلم أنّها صدرت عنهم في أيّ الحالين حتّى نقبلها أو نردّها.

ومنها : أنّ قبول خبر جميع رجال سنده الثقات يتوقّف على العلم بعدم سقوط واسطة من البين ، وهو غير ممكن في بعض الأخبار.

ومنها : أنّه كثيرا ما يذكر جماعة من الرواة بعطف بعضها على بعض ، وبعد التتبّع يعلم أنّ العطف سهو ، والصواب نقل البعض عن بعض ، وكذا الحال في عكس ذلك.

ومنها : أنّه يحكم بالجرح والتعديل بشهادة الميّت ، وهو غلط.

وأنت خبير بإمكان دفع كلّ واحدة من هذه الشبهات بطريق على حدة.

وربما ظهر لك الجواب عن بعضها فيما سبق ، ونجيب هنا بما يندفع به جميعها ، وهو أنّها تشكيكات في مقابلة الضرورة ؛ لأنّا نعلم في كثير من الأخبار أنّها لم يروها إلاّ جماعة حصل لنا العلم أو الظنّ المعتبر شرعا بالتتبّع وأقوال أرباب الرجال باتّصافهم بصفة العدالة أو الصدق الذي هو المناط في قبول الخبر ، ونعلم في كثير منها أنّ من رواتها من حصل لنا العلم أو الظنّ بالطريق المذكور باتّصافه بالفسق والكذب. هذا.

واعتبار الظنّ الحاصل من علم الرجال يعلم ممّا تقدّم ، من ثبوت حجّيّة الخبر الصحيح والموثّق ، وقبول خبر الواحد في الجرح والتعديل وغير ذلك.

[ الأمر ] التاسع (1) : ممّا يتوقّف عليه الاجتهاد أن يكون له ملكة قويّة وقريحة مستقيمة يقتدر بها على ردّ الجزئيّات إلى الكلّيّات ، واقتناص الفروع من الاصول ، والترجيح في مقام التعارض.

ولا يخفى عليك أنّ جعل هذه الملكة من شرائط الاجتهاد إنّما يتأتّى إذا جعل الاجتهاد

ص: 942


1- تقدّم الأمر الثامن في ص 933.

المعرّف هو الاجتهاد الفعليّ ، وعرّف بأنّه : « استفراغ الوسع ... » فإنّه يتوقّف عليها ؛ لكونها مبدأه ومصدره.

وأمّا إذا جعل المعرّف هو حقيقة الاجتهاد وذاته ، فهو نفس تلك الملكة ، كما تبيّن لك (1) ، وهي لا تنفكّ عن المقدّمات والشرائط المذكورة ، ولا يمكن وجودها بدون وجودها ، بل حصولها مسبوق على حصولها.

وأمّا المقدّمات ، فلا تستلزمها كلّيا ؛ لأنّ نسبتها إليها ليست نسبة إيجابيّة بمعنى وجوب حصولها عند تحصيلها ، بل نسبة إعداديّة ، فإن كان للنفس استعداد ذاتي وصفاء غريزي يفاض عليها تلك الملكة بعد تحصيل تلك المقدّمات من المبادئ الفيّاضة ، وإلاّ فلا ، فمن حصلت له هذه الملكة ، فقد حصل له جميع ما يتوقّف عليه استنباط الأحكام ، فهو مجتهد على الإطلاق ، ومن لم تحصل له فليس مجتهدا مطلقا وإن بلغ في تحصيل المقدّمات ما بلغ.

ثمّ لا بدّ لنا هنا من بيان أمرين :

أحدهما : الوجه في توقّف استنباط الأحكام عليها.

وثانيهما : طريق معرفتها.

وبيان الأوّل : أنّ الأدلّة التي لها معارضات لا بدّ فيها من الترجيح ، والتي لها لوازم غير بيّنة لا بدّ فيها من العلم بها ، والحكم بها على ما يقتضيه ذو المقدّمة ، كما إذا كان واجبا يحكم بوجوب ما يتوقّف عليه وحرمة ضدّه ، وإن كان حراما يحكم بحرمة ما يتوقّف عليه ووجوب ضدّه ، وكذا يحكم بما يقتضيه مفهومه ، وغير ذلك. والتي لها أفراد غير بيّنة الفرديّة لا بدّ فيها من الحكم بفرديّتها للكلّيّات المذكورة فيها.

وربما كان لمعارضاتها أو مقدّماتها أو أضدادها أفراد غير بيّنة الفرديّة ، فلا بدّ من الحكم بفرديّتها أيضا. وربما وجدت أشياء ظنّ فرديّتها لها ولم تكن أفرادا ، فلا بدّ من الحكم بإخراجها ، مثلا في قوله صلى اللّه عليه وآله : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » (2) ، لا بدّ من العلم بأنّ

ص: 943


1- في ص 900.
2- الكافي 3 : 2 ، باب الماء الذي لا ينجّسه شيء ، ح 1 ، وتهذيب الأحكام 1 : 40 ، ح 109 ، والاستبصار 1 : 6 ، ح 1 و 3. وفي المصادر : « إذا كان الماء ... ».

الكرّ الملفّق من نصفين نجسين مع عدم التغيير هل هو فرد له ويندرج تحته حتّى يحكم بطهارته ، أو لا يندرج فيه حتّى يحكم ببقائه على النجاسة؟ وكذا الحكم في اندراج الماء الممزوج بالورد في قوله : « كلّ ماء طاهر حتّى يعلم أنّه قذر » (1) ، واندراج الخارج من بيته قبل بلوغه حدّ الترخّص في الحاضر أو المسافر. وقس عليها أمثالها ، وهي في الكثرة بحيث لا تحصى.

ولا ريب أنّ الترجيح والعلم بالملازمة والحكم بالفرديّة أو عدمها بدون حصول هذه الملكة ممتنع ، والتجربة شاهدة عليه ، ولذا ترى كثيرا ممّن صرف عمره في الفقه وبلغ منه الغاية لا يقدر عند التعارض من الترجيح والخلاص ، ولا يتعلّق ظنّه بما يحصل له الاطمئنان ، ولا يتنبّه على اللوازم والأفراد الخفيّة ، وربما تنبّه بعضهم ببعضها بعد نصب ولغوب ، وصاحب الملكة تنبّه بسهولة.

وربما ردّ بعضهم الجزئي إلى غير قاعدته ، ويقتنص الفرع من غير أصله ، ويحكم بلزوم ما ليس بلازم وخروج ما هو لازم ، وبفرديّة ما ليس بفرد ، وبعدم فرديّة ما هو فرد ، ومثله تشبّه ذا الملكة كتشبّه السوفسطائي بالحكيم.

وترى جماعة ممّن انقضى عمره في تحصيل المنطق وعلم قواعده وبلغ منه الغاية و (2) لا يقدر على ترتيب الأقيسة من عند نفسه ، وترى طائفة ممّن وجّه همّته في تحصيل النجوم وعلم قواعده وضوابطه و (3) لا يتمكّن من استخراج حكم من النظرات والعلامات التي أحكامها متناقضة ، ولا يقدر على التخريج.

وترى جمّا غفيرا ممّن بيّض لمّة لحيته في الطبّ يعجز عند العمل ، وإذا تعارض علامات الأمراض ، لا يقدر على معرفة المرض ، ولا يقدر في بعض الأمراض الخفيّة عن معرفة أسبابها.

ففي جميع هذه العلوم يتوقّف الخلاص عن مضيق التعارض وأخذ النفس ما يحصل لها

ص: 944


1- الكافي 3 : 1 ، باب طهور الماء ، ح 2 و 3 ، وتهذيب الأحكام 1 : 215 ، ح 619.
2- كذا في النسختين. والظاهر زيادة الواوين ، لأنّ ما بعدهما مفعول ثان لترى إلاّ أن يكون « ممّن » مفعولا ثانيا لا بيانا.
3- كذا في النسختين. والظاهر زيادة الواوين ، لأنّ ما بعدهما مفعول ثان لترى إلاّ أن يكون « ممّن » مفعولا ثانيا لا بيانا.

الاطمئنان على الملكة القدسيّة ، وقد صرّح بذلك عظماء سائر العلوم حتّى قال بطليموس (1) في الثمرة : « إنّ استنباط الأحكام من علم النجوم لا يتيسّر إلاّ لمن حصلت له الملكة القدسيّة » (2).

ولا ينبغي أن يلتفت إلى قول من قال : إنّه لا حاجة إليها ويمكن الاستنباط بدونها (3) ؛ فإنّ (4) غاية الأمر أن يمكن الاستنباط بدونها من دليل كان ظاهرا ، أو نصّا في معناه ولم يكن له معارض ، ولا لازم غير بيّن ، ولا فرد خفيّ ، كاستنباط عدم نجاسة الكرّ بملاقاة النجاسة من قوله صلى اللّه عليه وآله : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » (5) ، وهذا قليل في المباحث الفقهيّة ، كما لا يخفى على المتتبّع.

وأمّا بيان الثاني ، فهو أن يعرض استدلالات من يراد اختباره ، وترجيحاته المخترعة ، على استدلالات ذوي الملكات وترجيحاتهم ، فإن شابهتها فقد حصلت له الملكة ، وإلاّ فلا ، ومن لا يتمكّن من العرض والفهم من عند نفسه ، فطريق معرفته إمّا التواتر ، أو إخبار جماعة من العلماء باستقامة طبيعته ، وصفاء قريحته بحيث يحصل القطع بقلّة كبوته ، وندور سقطته ، وعدم اعوجاجه في الغالب.

والقول بأنّ الظاهر أنّ المراد بتلك الملكة ملكة استنباط جميع الأحكام بحيث لا يشذّ عنها شيء ، ولا ريب في أنّ حصول مثلها يتوقّف على غاية استعداد للنفس ، وتأييد من عند اللّه ؛ فلا يفوز بها إلاّ أوحديّ من الأذكياء ، وعلى هذا لا يعلم ذو ملكة حتّى يعرض فتاوى من يراد اختباره على فتاويه (6) ، شبهة مصادفة للضرورة ؛ فإنّا نعلم بديهة أنّ المعارف من الفقهاء كانوا ذوي ملكات قويّة.

وما قيل : إنّه يلزم على ما ذكر أن يكون تلك الملكة أمرا وجدانيا مقتضاه الإصابة في كلّ

ص: 945


1- في النسختين : « بطلميوس ».
2- لم نعثر على الكتاب.
3- وهو قول بعض الأخباريّين وقد تقدّم في ص 909.
4- تعليل للنفي دون المنفيّ.
5- تقدّم تخريجه في ص 943.
6- راجع : الإحكام في أصول الأحكام 4 : 170 ، ومبادئ الوصول : 240 ، وإرشاد الفحول 2 : 206.

المسائل والصواب من طرفي النقيض لا يكون إلاّ واحدا ؛ مع أنّا نرى اختلافها وعدم انضباطها ، ولذا لا يكاد أن يتّفق اثنان في الاستنباط ؛ فلا يوجد هنا مرتبة معيّنة حتّى يقال : من وصل إليها فهو مجتهد ، ومن لم يصل إليها ليس مجتهدا (1).

يرد عليه : أنّ الملكة أمر واحد وهو حالة يتمكّن بها من ردّ الفروع إلى الاصول. نعم ، لها مراتب مختلفة ؛ لأنّها تزيد وتنقص ، وتشتدّ وتضعف ، ويختلف لذلك سرعة الاستنباط وبطؤه ، وإصابة الحقّ وعدمها ، ولا يوجب ذلك عدم انضباط أصل الملكة ، وعدم العلم بها.

تذنيب

اعلم أنّ هاهنا علوما أخر لها مدخليّة في الاجتهاد من حيث التكميل دون الشرطيّة. وربما عدّ بعضهم بعضا من الشرائط :

الأوّل والثاني : علم المعاني ، والبيان. والأكثر على أنّهما من مكمّلات الاجتهاد ؛ لأنّ أحوال الإسناد الخبري إنّما تعلم في الأوّل ، وهو من مكمّلات العلوم العربيّة ، وأحوال الحقيقة والمجاز وتفاصيلهما تعرف من الثاني ، وهو من مكمّلات المبادئ اللغويّة.

وذهب المرتضى (2) وجماعة إلى أنّهما من الشرائط (3) ؛ نظرا إلى ظهور الاحتياج في معرفة الأحكام إلى بعض مباحث القصر والإنشاء الثابت في المعاني ، وإلى أحكام الحقيقة والمجاز الثابتة في البيان.

وهو لا يخلو عن قوّة. وذكر القدر المحتاج إليه منهما في كتب الاصول - لو سلّم - لا يدفع صدق الاحتياج إليهما.

الثالث : علم البديع. والأكثر على أنّ الاجتهاد لا يتوقّف عليه ؛ لأنّه علم يعرف به وجوه محسّنات الكلام ، والفقه لا يتوقّف على ذلك. نعم ، له مدخليّة في التكميل ؛ لكونه من

ص: 946


1- راجع : الإحكام في أصول الأحكام 4 : 170 ، ومبادئ الوصول : 240 ، وإرشاد الفحول 2 : 206.
2- الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 800.
3- راجع : منية المريد : 377 ، وكفاية الطالبين ( المخطوط ) ، والوافية : 280.

مكمّلات العربيّة.

وبعض المتأخّرين عدّ العلوم الثلاثة من الشرائط (1) ؛ لأنّ الفصاحة والأفصحيّة ممّا تعلم في هذه الأزمان منها وقد ثبت في باب التراجيح تقديم الأفصح على الفصيح ، وهو على غيره.

وكذا معرفة التأكيد والمبالغة في الكلام تتوقّف عليها ، والكلام المشتمل عليهما يقدّم على غيره.

وهو أيضا لا يخلو عن قوّة ؛ لأنّ الحقّ - كما يأتي (2) - أنّ الفصيح يقدّم على غيره ، ومعرفته في أمثال زماننا لا تمكن بدون العلوم الثلاثة.

الرابع : بعض مباحث علم الحساب ، كالضرب والقسمة والأربعة المتناسبة ، والخطأين والجبر والمقابلة.

الخامس : بعض مباحث الهيئة ، مثل ما يتعلّق بالقبلة ، وما يتعلّق برؤية الأهلّة وأحوالها لمعرفة الشهور والخسوفات ، وما يتعلّق بكرويّة الأرض لمعرفة تقارب مطالع بعض البلاد مع بعض ، وتباعد مطالع بعضها عن بعض.

السادس : بعض مسائل الهندسة ، كما لو باع بشكل معيّن من أشكالها ، كشكل العروس مثلا (3).

السابع : بعض مسائل الطبّ ، مثل ما يتعلّق بمعرفة الجنون ، وتمييز الدوريّ منه عن المطبق ، وما يتوقّف (4) بمعرفة العفل (5) والقرن وغير ذلك.

ولا ريب في أنّ هذه العلوم الأربعة ممّا له مدخليّة في الاجتهاد من حيث التكميل ، ووجهه ظاهر.

ص: 947


1- قاله أحمد البحراني في كفاية الطالبين ( المخطوط ) ، والشهيد الثاني في منية المريد : 377 و 378.
2- في ص 981.
3- شكل العروس ، عند قدماء من علماء الهندسة عبارة عن : كلّ مثلّث قائمة الزاوية ، فإنّ مربّع وتر زاويته القائمة يساوي مربّعي ضلعيها ، وإنّما سمّي به لحسنه وجماله. موسوعة كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم 1 : 1041.
4- كذا في النسختين. والصحيح : « يتعلّق ».
5- العفل والعفلة - محرّكتين - : « شيء يخرج من قبل النساء » القاموس المحيط 4 : 18 ، « ع ف ل ».

والحقّ أنّها ليست من الشرائط ؛ لأنّ شأن الفقيه بيان نفس الأحكام الشرعيّة ، والحكم باتّصال الشرطيّات ، وليس عليه بيان موضوعاتها وتحقيق أطراف الشرطيّة ؛ فليس عليه في قول القائل : « لزيد عليّ ستّة إلاّ نصف ما لعمرو » و « لعمرو عليّ ستّة إلاّ نصف ما لزيد » إلاّ الحكم بأنّه إقرار ، وأمّا بيان كميّة المقرّ به ، فليس من وظيفته.

وكذا ليس عليه إلاّ الحكم بأنّ البلاد المتقاربة في المطالع حكمها في رؤية الهلال واحد ، وأنّ البيع بشكل العروس جائز ، وأنّ الجنون والقرن ممّا يجوز أن ينفسخ به النكاح ، وأمّا بيان أنّ أيّ البلاد متقاربة ، وشكل العروس ما ذا ، والجنون أو القرن ما ذا ، فليس وظيفته.

الثامن : فروع الفقه ، ولا ريب في أنّ ممارستها ممّا يعين على الاستنباط ، ولكنّه لا يتوقّف عليها. ووجهه ظاهر.

فصل [4]

أجمع الإماميّة على أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله لم يكن متعبّدا بالاجتهاد ، وأحكامه كانت قطعيّة صادرة عن الوحي لا عن الاجتهاد ، وهذا يعمّ عندهم سائر المعصومين عليهم السلام.

وذهب أكثر العامّة إلى أنّه كان متعبّدا بالاجتهاد فيما لا نصّ فيه.

لنا : قوله تعالى في حقّه : ( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى ) (1) ، وهو يدلّ على العموم وكون كلّ ما نطق به وحيا ، وتخصيصه بالقرآن لا دليل عليه.

والقول بأنّ الاجتهاد بالوحي قول بالوحي لا نطق عن الهوى (2) ، مدفوع بأنّ الوحي بالاجتهاد لا يحصل ما ينطق به وحيا ، كما لا يصير اجتهادنا لأمره تعالى به في قوله : ( فَاعْتَبِرُوا ) (3) وحيا.

ولنا : أيضا قوله تعالى : ( قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى ) (4) ،

ص: 948


1- النجم (53) : 3 - 4.
2- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 210.
3- الحشر (59) : 2.
4- يونس (10) : 15.

وهو أيضا ظاهر في العموم.

وأيضا مخالفة المجتهد جائزة بالاتّفاق ، ومخالفته كفر بلا خلاف.

والقول بأنّ جواز مخالفة المجتهد إذا (1) لم يقترن بحكمه قاطع ، واجتهاده صلى اللّه عليه وآله قد اقترن به قوله وهو قاطع (2) ، ضعيف ؛ لأنّ قوله لو كان عن مجرّد الاجتهاد ولم يكن وحيا ، فمن أيّ سبب يكون قاطعا ، والوحي إليه بأن يجتهد لا يجعل قوله قاطعا ، كما لا يجعل أمره تعالى لنا بالاجتهاد قولنا قاطعا.

وأيضا كان صلى اللّه عليه وآله يتوقّف في الأحكام ، وهو ينافي تعبّده بالاجتهاد.

وما قيل : إنّه (3) لاستفراغ الوسع ، أو جواز الوحي الذي عدمه شرط في الاجتهاد ؛ لأنّه إنّما تعبّد به فيما لا نصّ فيه ، فلا بدّ من تحقّق عدم النصّ بعدم الوحي حتّى يجوز له الاجتهاد (4) ، لا يخفى وهنه.

احتجّ المخالف بقوله تعالى : ( عَفَا اللّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ) (5) ، عاتبه على حكمه ، ومثل ذلك لا يكون فيما علم بالوحي.

وبقوله صلى اللّه عليه وآله : « لو استقبلت من أمري ما استدبرت ، لما سقت الهدي » (6) ، أي لو علمت أوّلا ما علمت آخرا لما سقت الهدي ، وسوق الهدي حكم شرعي ، ومثل ذلك لا يستقيم إلاّ فيما علم بالاجتهاد والرأي (7).

والجواب عن الأوّل : منع كون الإذن حكما شرعيّا.

وعن الثاني : إمكان ثبوت التخيير في سوق الهدي أوّلا ، ثمّ إيحاء فضل التمتّع.

اعلم أنّ القائلين بكونه مجتهدا اختلفوا في أنّه هل يجوز عليه الخطأ في اجتهاده ، أم لا؟

ونحن لمّا ذهبنا إلى عدم جواز مطلق الخطأ عليه ، وعدم تعبّده بالاجتهاد ، فلنا مندوحة عن هذا البحث.

ص: 949


1- هذا خبر أنّ.
2- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 209.
3- أي توقّفه صلى اللّه عليه وآله في الأحكام.
4- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 209.
5- التوبة (9) : 43.
6- مسند أحمد 3 : 615 ، ح 12093.
7- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 209.
فصل [5]

للعامّة في جواز الاجتهاد ، ووقوعه بحضرة النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، وفي عصره صلى اللّه عليه وآله أقوال كثيرة.

والحقّ عدم جوازه في عصر النبيّ والأئمّة عليهم السلام إلاّ لمن غاب عنهم بحيث لم يتمكّن من السؤال عنهم.

لنا على الأوّل (1) : أنّ العمل بالظنّ خلاف الأصل ، خرج العمل به عند فقد اليقين ؛ لقضاء الضرورة ، فالقادر على اليقين لا يجوز له العمل به مطلقا ، وأنّ أصحابهم يرجعون إليهم في القضايا والأحكام ، ولم ينقل عن أحد منهم - سيّما من أصحاب الأئمّة - أن يجتهد.

وعلى الثاني : ما دلّ على جوازه في زماننا.

احتجّ المجوّزون باجتهاد بعض الصحابة في عصره صلى اللّه عليه وآله ، وتقريره صلى اللّه عليه وآله له (2). وهو لم يثبت عندنا.

ويتفرّع على هذا الخلاف جواز الاجتهاد في الأحكام بالظنّ مع القدرة على اليقين ، كالاجتهاد في الوقت مع القدرة على تحصيل اليقين بالصبر أو غيره ، وفي الثوبين مع وجود ثوب ظاهر يقينا ، وغير ذلك. والأصل عدم الجواز إلاّ ما ثبت بدليل من خارج.

فصل [6]
اشارة

أجمع المسلمون - إلاّ من شذّ (3) - على أنّ المصيب من المجتهدين المختلفين في العقليّات واحد ، وهو من طابق اعتقاده الواقع ، وغيره مخطئ آثم ؛ لأنّ اللّه كلّف فيها بالعلم ، ونصب عليه دليلا ، فالمخطئ مقصّر فيبقى في عهدة التكليف ؛ ولأنّ المسلمين أجمعوا على قتال الكفّار من غير فرق بين معاند ومجتهد ، مع أنّ جلّ الكفّار بل كلّهم يقطعون بأنّهم لا يعاندون الحقّ بعد ظهوره لهم ، بل يعتقدون دينهم الباطل عن اجتهاد.

ص: 950


1- والمراد بالأوّل هو المستثنى منه كما أنّ المراد بالثاني هو المستثنى.
2- راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : 210.
3- حكاه الفخر الرازي عن الجاحظ وعبيد اللّه بن الحسن العنبري في المحصول 6 : 29 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 184.

ويدلّ عليه أيضا بعض الظواهر ، نحو قوله تعالى : ( ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ... ) (1) ، وغيره ، وتخصيصه بغير المجتهد منهم تحكّم.

احتجّ المخالف - وهو القائل بأنّ كلّ مجتهد فيها مصيب لا على معنى مطابقة ما أدّى اجتهاده للواقع ؛ فإنّه غير معقول ، ولم يقل به أحد ، بل بمعنى زوال الإثم - بأنّ التكليف بخلاف ما أدّى إليه النظر والاجتهاد تكليف بالمحال ؛ لأنّ حصوله (2) بعدهما ضروري ، واعتقاد خلافه ممتنع (3).

والجواب : أنّ علم الحجّة واضح لمريدها ، فمن لم يصلها فقد قصّر في النظر.

وأمّا الشرعيّات (4) ، فإن بلغت حدّ القطع ، فالمصيب فيها أيضا واحد - وهو من أخذ بالمقطوع به - وغيره آثم.

وإن لم تبلغ حدّ القطع ، بل افتقرت إلى نظر واجتهاد ، وجب على المجتهد بذل المجهود فيها ، وبعد بذل جهده ما تعلّق ظنّه به يجب عليه العمل به ، ولا إثم عليه حينئذ وإن أخطأ ؛ لما ثبت بالتواتر من اختلاف الصحابة في المسائل من دون التأثيم من بعضهم لبعض معيّن أو مبهم ، مع أنّا نقطع بأنّه لو كان إثم ، لقضت العادة بذكره (5).

والظاهر عدم الخلاف في ذلك ، إنّما الخلاف في التخطئة والتصويب ، بمعنى أنّ المسألة التي لا قاطع فيها هل فيها حكم معيّن لله تعالى - من أصابه فهو مصيب وغيره مخطئ معذور - أم ليس فيها حكم معيّن لله ، بل حكم اللّه فيها تابع لظنّ المجتهد ، فما ظنّه كلّ مجتهد فيها فهو حكم اللّه تعالى فيها؟ فذهب أصحابنا إلى الأوّل (6) ، وأكثر العامّة إلى الثاني.

لنا : شيوع تخطئة السلف بعضهم بعضا من غير نكير (7).

ص: 951


1- ص (38) : 27.
2- أي حصول الاعتقاد.
3- حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 211.
4- عطف على « في العقليّات ».
5- حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 211.
6- راجع مبادئ الوصول : 244.
7- حكى ابن الحاجب تخطئة جماعة لآخرين كأبي بكر وعمر وابن مسعود وعليّ بن أبي طالب وزيد وابن عبّاس وغيرهم في منتهى الوصول : 213.

وما روي : « أنّ للمصيب أجرين ، وللمخطئ واحد » (1).

ولزوم بطلان التصويب من صحّته ؛ لأنّا اجتهدنا أنّه باطل ، وعلى القول به لمّا كان حكم اللّه تعالى تابعا لظنّ المجتهد ، يلزم كون ما اجتهدناه - وهو بطلانه - حكم اللّه تعالى ، فيثبت المطلوب.

ولزوم اجتماع النقيضين لو صحّ التصويب ؛ لأنّ كلّ مجتهد لو كان مصيبا فإذا ظنّ حكما ، حصل له القطع بأنّه الحكم في حقّه ، وبقاء هذا القطع مشروط ببقاء ظنّه ؛ إذ لو ظنّ غيره لزمه الرجوع إلى ذلك الغير إجماعا ، وإذا كان الظنّ باقيا ، يلزم تعلّق الظنّ والقطع بشيء واحد في زمان واحد ؛ لأنّه لا حكم على التصويب في الواقع إلاّ ما استنبطه وقد ظنّ أنّه الحكم ، مع أنّه قاطع بأنّه حكم اللّه ، وتعلّق القطع والظنّ بشيء واحد في زمان واحد اجتماع النقيضين وهو محال.

ولا يرد ذلك على القول بالتخطئة ؛ لأنّ متعلّق القطع والظنّ على هذا القول ليس شيئا واحدا ؛ لأنّ الظنّ تعلّق بأنّه حكم اللّه الواقعي ، والقطع بأنّه يجب العمل به ولا يجوز مخالفته ، أي أنّه حكم اللّه الظاهري ؛ فاختلف المتعلّقان ؛ فلا يلزم اجتماع النقيضين.

ولنا أيضا : قوله تعالى : ( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) (2) ، و ( وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) (3) ، و « فيه تبيان كلّ شىء » (4) ، و ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ ... ) (5) ، وتواتر الأخبار بأنّه ما من واقعة إلاّ ولها حكم أنزله اللّه في كتابه ، أو بيّنه نبيّه في سنّته (6).

وما ورد من أنّ حكم اللّه كذا (7) ، أو من لم يحكم بحكم اللّه أو بما أنزل اللّه فهو كذا (8) ، وقول

ص: 952


1- الامّ للشافعي 6 : 203.
2- الأنعام (6) : 38.
3- الأنعام (6) : 59.
4- اقتباس من الآية 89 في سورة النحل (16).
5- المائدة (5) : 44.
6- راجع : الكافي 1 : 56 ، باب البدع والرأي والمقاييس ، ح 10 ، و: 59 ، باب الردّ إلى الكتاب و ... ، ح 3 و 4. والكافي 2 : 624 ، باب فضل القرآن ، ح 21.
7- راجع الكافي 1 : 60 ، باب الردّ إلى الكتاب و ... ، ح 6 و 7.
8- الكافي 7 : 407 و 408 ، باب من حكم بغير ما أنزل اللّه ، ح 1 و 2 و 3.

عليّ عليه السلام في نهج البلاغة في ذمّ اختلاف الفتيا : « ترد على أحدهم القضيّة في حكم من الأحكام ، فيحكم فيها برأيه ، ثمّ ترد تلك القضيّة بعينها على غيره ، فيحكم فيها بخلاف قوله ، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند إمامهم الذي استقضاهم ، فيصوّب آراءهم جميعا وإلههم واحد ، وكتابهم واحد ، ونبيّهم واحد » (1).

احتجّت المصوّبة بقوله صلى اللّه عليه وآله : « أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم » (2) ، ولو كان بعضهم مخطئا في اجتهاده ، لم يكن في متابعته هدى ؛ لأنّ العمل بغير حكم اللّه ضلالة.

وبأنّه لو كان المصيب واحدا ، والمخطئ يجب عليه العمل بمقتضى ظنّه ، فلا يخلو إمّا أن يجب (3) عليه مع القول ببقاء حكم اللّه الواقعي في حقّه أو مع زواله ، والأوّل يوجب ثبوت الحكمين في حقّه وهما نقيضان ، والثاني يوجب وجوب العمل بالخطإ وحرمة العمل بالصواب وهو ممتنع (4).

والجواب عن الأوّل : أنّه لو سلّم الخبر فلا نسلّم أنّ متابعة المخطئ في الاجتهاد ضلالة ، بل هو هدى ؛ لأنّ كلاّ من التابع والمتبوع قد فعل ما يجب عليه.

وعن الثاني : أنّا نختار الثاني. وأداؤه إلى وجوب العمل بالخطإ في الواقع لا بأس به إذا لم يعلم أنّه خطأ ، بدليل أنّه لو كان في مسألة نصّ أو إجماع ولم يطّلع عليه بعد الاجتهاد وجب مخالفته ، فما نحن فيه مع الاختلاف أجدر بالمخالفة.

إذا عرفت ذلك ، فيتفرّع عليه عدم جواز إنفاذ المجتهد حكم مجتهد آخر يخالفه ، وعلى التصويب يجوز.

وعدم جواز اقتداء من يرى وجوب السورة أو التسليم أو غير ذلك بمن لا يراه ولم يفعله ، وعلى التصويب يجوز.

ووجوب القضاء على المجتهد في القبلة إذا ظهر خطأه ، وعلى التصويب لا يجب.

ص: 953


1- نهج البلاغة : 46 ، الخطبة 18.
2- جامع الاصول 9 : 409 و 410 ، ح 6359.
3- أي يجب العمل بمقتضى ظنّه على المخطئ.
4- حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 214 و 215.

وفي المسألة تفصيل ورد به النصّ (1) وعمل به الأكثر من أصحابنا ، وفيه قول آخر عمل به بعضهم (2).

تذنيب

لمّا بطل التصويب ، فيترتّب عليه بطلان التفويض ، وهو أن يفوّض الحكم إلى المجتهد ، فيقال له : احكم بما شئت.

وقد اختلف العامّة في جوازه ، ومن قال بالجواز احتجّ بقوله تعالى : ( كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ ) (3) ، ولا يتصوّر تحريمه على نفسه إلاّ بتفويض التحريم إليه ، وإلاّ كان المحرّم هو اللّه.

وقوله صلى اللّه عليه وآله : « لو لا أن أشقّ على امّتي ، لأمرتهم بالسواك » (4) ، وهو صريح في أنّ الأمر وعدمه إليه.

وقوله : « في [ قصّة ] مكّة لا يختلى (5) خلاها ولا يعضد (6) شجرها » (7) ، فقال العبّاس : إلاّ الإذخر ، فقال صلى اللّه عليه وآله : « إلاّ الإذخر » (8) ، وهو يدلّ على تفويض الحكم إليه حتّى أطلق أوّلا ، ثمّ استثنى بالتماس العبّاس (9).

والجواب عن الأوّل : أنّ تحريم إسرائيل ما حرّم على نفسه إنّما كان بأمر اللّه ، وإسناد التحريم إلى إسرائيل لأجل ميله إلى ذلك وطلبه له.

وعن الثاني : أنّه يجوز أن يكون النبيّ صلى اللّه عليه وآله قد خيّر في الأمر وعدمه.

وعن الثالث : أنّ الإذخر ليس من الخلى ، فيكون الاستثناء منقطعا ، أو التخصيص كان

ص: 954


1- راجع وسائل الشيعة 4 : 314 - 318 ، أبواب القبلة ، الباب 10 و 11.
2- القول للشيخ في النهاية : 64.
3- آل عمران (3) : 93.
4- الفقيه 1 : 34 ، ح 123.
5- الاختلاء : الجزّ. والخلى : العشب. أي لا يجزّ عشبها.
6- عضد الشجر قطعه بالمعضد وهو حديدة كالمنجل لقطع الشجر.
7- السنن الكبرى ، للبيهقي 6 :327 - 328 ، كتاب اللقطة ، ح 12117 - 12118.
8- السنن الكبرى ، للبيهقي 6 :327 - 328 ، كتاب اللقطة ، ح 12117 - 12118.
9- نسبه الآمدي إلى موسى بن عمران وهو مختاره أيضا في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 215 و 216.

مرادا له صلى اللّه عليه وآله وقد فهمه السائل ، فقرّره صلى اللّه عليه وآله ؛ على أنّه يلزم من ثبوت التفويض في هذه الأمثلة كون الأنبياء مجتهدين ، وقد مرّ بطلانه (1).

فصل [7]

إذا وقعت على المجتهد واقعة فاجتهد فيها وأفتى وعمل ، ثمّ تكرّرت ، ففي وجوب تكرير النظر أقوال ، ثالثها : الوجوب إن لم يكن ذاكرا لما مضى من طرق الاجتهاد ، وعدمه إن كان ذاكرا له (2).

ورابعها : الوجوب إن مضى زمان زادت فيه القوّة بكثرة الممارسة والاطّلاع (3).

والحقّ أنّه لا يلزمه تكرار النظر مطلقا ؛ لأنّه اجتهد مرّة وطلب ما يحتاج إليه في المسألة ، والأصل عدم وجود شيء آخر لم يطّلع عليه.

احتجّ القائل بلزوم التكرار (4) بأنّه يحتمل أن يتغيّر اجتهاده كما نراه كثيرا ، ومع هذا الاحتمال لا يبقى ظنّه (5).

والجواب : أنّ احتمال تغيّر اجتهاده لو اقتضى تكرير النظر ، لوجب التكرير أبدا.

ويتفرّع عليه أنّه إذا اجتهد للقبلة وصلّى ثمّ حضر وقت صلاة اخرى ، فلا يجب الطلب ثانيا ، وإذا طلب الماء ولم يجده فتيمّم وصلّى ثمّ دخل وقت صلاة اخرى ، لم يجب الطلب ثانيا.

فصل [8]

لا يجوز للمجتهد تقليد غيره بعد اجتهاده وفاقا ، وكذا قبله على الأصحّ. وفيه مذاهب آخر (6).

لنا أنّ التقليد خلاف الأصل ، خرج ما أخرجه الإجماع ، فيبقى الباقي على أصله.

ص: 955


1- في ص 948.
2- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 238 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 289.
3- راجع : المحصول 6 : 69 ، والإحكام في أصول الأحكام 4 : 239.
4- في « أ » : « التكرّر ».
5- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 238.
6- راجع تمهيد القواعد : 318 ، القاعدة 100.

وأيضا التقليد حكم شرعي لا بدّ له من دليل والأصل عدمه.

وأيضا التقليد بدل الاجتهاد ، ولا يجوز الأخذ بالبدل مع التمكّن من المبدل.

احتجّ القائل بالجواز بقوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1).

وبقوله صلى اللّه عليه وآله : « أصحابي كالنجوم ... (2) » (3).

وهما لا يدلاّن على مطلوبه ، كما لا يخفى.

ويتفرّع عليه عدم جواز تقليد العارف بأدلّة القبلة لغيره ، بل يجب عليه اعتبارها.

وعدم جواز تقليد المؤذّن الثقة للعارف بالوقت مع عدم عذره ، وعدم جواز تقليد الأعمى إذا أمكنه معرفة الكعبة بلمسها.

فصل [9]

الحكم الصادر من مجتهد إن كان مخالفا للقاطع ، يجوز له ولمجتهد آخر نقضه ، وإن لم يكن مخالفا له ، بل كان من الاجتهاديّات ، فلا يجوز لكلّ واحد منهما نقضه ؛ إذ لو جاز ذلك ، جاز نقض النقض ، وهكذا ، فيلزم التسلسل فيفوت مصلحة نصب الحاكم ، وهو رفع الخصومات. وعلى هذا ، لو تزوّج مجتهد امرأة بغير إذن وليّها عند ظنّه صحّته ثمّ تغيّر اجتهاده ورآه غير جائز ، حرم نقضه مطلقا ، ووجب إبقاء التزويج كما كان.

ص: 956


1- النحل (16) : 43.
2- جامع الاصول 9 : 410 ، ح 6359.
3- حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : 216.

الباب الثاني : في التقليد

اشارة

والبحث فيه عنه وعن المفتي والمستفتي وما يستفتى فيه.

والتقليد في الأصل (1) : هو العمل بقول الغير من غير حجّة ، كأخذ العامّيّ والمجتهد بقول مثله ، وعلى هذا لا يكون الرجوع إلى النبيّ والأئمّة عليهم السلام تقليدا.

وكذا رجوع العامّيّ إلى المفتي ، والقاضي إلى العدول في شهادتهم ؛ لقيام الحجّة فيها.

وفي العرف يطلق على أخذ العامّيّ بقول المفتي أيضا ، وهو الغالب في أمثال زماننا.

والمفتي هو الفقيه.

والمستفتي خلافه.

والمستفتى فيه ، المسائل الاجتهاديّة.

فصل [1]

لا ريب في لزوم التقليد على من لم يبلغ درجة الاجتهاد - سواء كان عامّيّا أو عالما بطرف من العلوم - لورود الأمر في الآيات (2) والأخبار بسؤال الجهّال عن أهل العلم (3) ، وقد وقع التصريح به في مشهورة أبي خديجة (4) ، وشيوع استفتاء

ص: 957


1- والمراد بالأصل هو اللغة. راجع لسان العرب 11 : 1. « ق ل د ».
2- النحل (16) : 43 ، والأنبياء (21) : 7 ، والتوبة (9) : 122 ، ويونس (10) : 94 ، والزخرف (43) : 45.
3- الكافي 1 : 40 ، باب سؤال العالم وتذاكره ، ح 1 - 9.
4- الكافي 7 : 412 ، باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور ، ح 4 ، والفقيه 3 : 2 ، ح 3219 ، وتهذيب الأحكام 6 : 219 ، ح 516.

العوامّ من العلماء في الأعصار والأمصار من غير نكير.

وقد نقل غير واحد من الأصحاب إجماع العلماء على الإذن للعوامّ في الاستفتاء من غير تناكر (1).

ولأنّ العوامّ مكلّفون بالعمل بالأحكام ، وهو يتوقّف على المعرفة بها ، وهي لا تتحقّق إلاّ بالاستدلال أو التقليد. والأوّل باطل ؛ لأدائه إلى استيعاب أوقاتهم بالفكر والنظر ، فيختلّ أمر معاشهم المضطرّ إليه.

وبذلك يندفع ما ذهب إليه الحلّيون (2) من أصحابنا من وجوب الاستدلال على العوامّ (3).

وذهب بعض البغداديّين (4) إلى أنّ العالم بطرف صالح من العلم إذا لم يبلغ درجة الاجتهاد وإن لزمه التقليد ، إلاّ أنّه مشروط بأن يتبيّن له صحّة اجتهاد المجتهد بدليله.

ويدفعه شيوع استفتاء أمثاله من أهل الاجتهاد واتّباعهم لهم من غير إبداء المستند من غير أن ينكر عليهم.

وقوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (5) ، وهو عامّ في جميع من لا يعلم ، فيقول (6) : هذا العالم لا يعلم هذه المسألة ، فيجب عليه فيها السؤال.

فصل [2]

الحقّ وجوب النظر في العقليّات من اصول العقائد ؛ لورود الذمّ على التقليد واتّباع الظنّ في الكتاب (7) والسنّة (8) ، خرجت الفروع بالإجماع ؛ فبقيت الاصول.

ص: 958


1- راجع : ذكرى الشيعة 1 : 41 ، ومعالم الدين : 243.
2- كذا في النسختين ، ولكنّ الصحيح أن يكون « الحلبيّون » كما في معالم الدين وغيره.
3- ذكره ابن زهرة في غنية النزوع 2 : 414 و 415 ، والشهيد في ذكرى الشيعة 1 : 41 ، والشيخ حسن في معالم الدين : 243 ، والفاضل التوني في الوافية : 304.
4- حكاه عنهم الفخر الرازي في المحصول 6 : 73 ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : 290.
5- النحل (16) : 43.
6- كذا في النسختين. أي فيقول المدّعي. والأولى : « فيقال ».
7- النجم (53) : 28 ، والجاثية (45) : 24 ، ويونس (10) : 36.
8- الكافي 1 : 57 - 58 ، باب البدع والرأي والمقاييس ، ح 17.

ولوجوب تحصيل العلم بالاصول بالإجماع ، وقوله تعالى : ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ ) (1). والتقليد لا يحصّله ، وقوله : قل انظروا أو لم يتفكّروا في خلق السماوات (2).

وما ورد من الأخبار من أنّه يسأل في القبر عن الدليل على اصول العقائد (3).

احتجّ المخالف (4) - وهو بين قائل بكفاية الوصول في الاصول إلى المطلوب سواء كان بنظر صحيح أو فاسد أو بالتقليد ، وقائل بحرمة النظر ووجوب التقليد فيها (5) - بوجوه :

منها : أنّ الاستدلال صعب ، ومعرفة الاصول بالنظر والدلالة العقليّة لا يتمكّن منها كلّ أحد ؛ لتعذّرها في حقّ أكثر الناس ، كأغباء الترك ، وأجلاف العرب ، وأكثر النساء والأطفال في أوائل البلوغ ، وأكثر من يتمكّن منها يتوقّف حصولها له على صرف برهة من عمره في تحصيلها ، وربما أدّى في كثير منهم إلى استيعاب أوقاتهم ؛ لتوقّفه على مقدّمات كثيرة ، فيختلّ أمر المعاش.

ومنها : أنّ النبيّ والصحابة يكتفون في إسلام الكفّار من عوامّ العرب على كلمتي الشهادة من دون تكليف استدلال ، بل يحكمون بمجرّدهما على إسلام الأمة الخرساء ، والبدوي الذي لم يعرف الهرّ من البرّ (6) من دون عرض الأدلّة عليهما.

ومنها : اتّفاق علماء الأمصار على قبول شهادة العوامّ مع أنّا نقطع بأنّهم لا يعلمون تحرير العقائد بالأدلّة.

والجواب عن هذه الوجوه الثلاثة : أنّ تحرير الأدلّة بالعبارات المصطلح عليها ، ودفع الشبهة الواردة عليها ليس بلازم ، بل اللازم معرفة دليل إجمالي يوجب الطمأنينة وإن كان اتّفاق العقلاء ، أو قول من يوثق به من النبيّ ، أو الإمام ، وهذا يحصل بأيسر نظر ويتمكّن منه كلّ أحد ، وقد كان النبيّ صلى اللّه عليه وآله والصحابة يعلمون من عوامّ العرب علمهم بهذا القدر ، كما إذا

ص: 959


1- محمّد (47) : 19.
2- اقتباس من الآية 8 في سورة الروم (30).
3- الكافي 3 : 238 ، باب المسألة في القبر و ... ، ح 11.
4- حكاه الفخر الرازي في المحصول 6 : 92 ، والآمدي في الإحكام 4 : 231 ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : 219.
5- هم الحشويّة والتعليميّة والعنبري.
6- هذا مثل يقال لمن لا يميّز فعل من يهرّ في وجهه من فعل من يبرّ به.

قال الأعرابي : « البعرة تدلّ على البعير ».

ومنها : أنّه صلى اللّه عليه وآله نهى الصحابة عن الكلام في مسألة القدر.

والجواب : أنّ نهيه إنّما كان عن الجدال ، مع أنّ مسألة القدر غير ما نحن بصدده.

ومنها : أنّه لو كان النظر واجبا ، لوجب على الصحابة بطريق أولى ، ولو وجب عليهم ، لنقل عنهم مع أنّه لم ينقل عن أحد منهم الاستدلال ، ولا أمر أحدهم أحدا به.

وجوابه : أنّ عدم النقل والإلزام لوضوح الأمر عندهم وقلّة الشبه ؛ فإنّ من شاهد الوحي وصاحب صاحبه أيّ حاجة له إلى الاستدلال في معرفة اللّه وصفاته؟ بل هو محتاج إليه في زمان انقطاع الوحي ؛ لارتفاع صفاء الأذهان ، ومعارضة الوهم للعقل وإحداثه الشبهات بين الأنام.

ومنها : أنّ النظر مظنّة الوقوع في الضلالة ؛ لإثارته الشكوك والشبهات بخلاف التقليد ؛ فإنّه طريق سالم.

وجوابه : أنّ ذلك يجري فيمن يقلّد ، فيحرم النظر عليه أيضا ، فيتسلسل ، أو ينتهي إلى ناظر ، فيلزم المحذور مع زيادة احتمال كذبه.

ومنها : أنّه إن وجب النظر لزم الدور ؛ لتوقّفه على العلم بصدق الرسول المتوقّف على النظر في معجزته المتوقّف على وجوب النظر في معرفة اللّه.

وجوابه : أنّ وجوب النظر في المعارف الواجبة عقلي عندنا.

ومنها : أنّ قول من يوثق به أوقع في النفس ممّا يفيده هذه الدلائل الكلاميّة.

والجواب : منع الأوقعيّة ، إلاّ إذا كان قول المعصوم عليه السلام والرجوع إليه ليس تقليدا.

ومنها : أنّ قوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ... ) (1) مطلق غير مقيّد بالفروع.

والجواب : أنّه قد علم تقييده بما تقدّم من الأدلّة (2).

ومنها : قوله صلى اللّه عليه وآله : « عليكم بدين العجائز » (3).

ص: 960


1- النحل (16) : 43.
2- في ص 958.
3- راجع : الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 4 : 230 ، وبحار الأنوار 66 : 136 وهو ليس بحديث.

والجواب : أنّه من كلام الثوري ، مع أنّ دين العجائز ليس هو التقليد ، بل الرجوع إلى ما يفيد الاطمئنان من الآيات الظاهرة ، ونحن نقول بكفايته.

فإن قلت : يلزم على ما ذكرت الحكم بكفر أكثر عوامّ أهل الإسلام ؛ لأنّ معرفتهم ناشئة عن التقليد.

قلت : لا يلزم ذلك ؛ لأنّ الحقّ أنّ المقلّد للحقّ إذا كان جازما ولم يعلم وجوب النظر ، أو علمه ولم يصرّ على تركه ، بل رجع إليه ، فهو مؤمن غير فاسق ، إلاّ أن يقال : الجاهل ليس معذورا هنا ، فغير العالم بوجوب النظر مؤمن فاسق ، وإن علمه وأصرّ على تركه فهو مؤمن فاسق ؛ لأنّ مناط الإيمان ثبوت الاعتقاد الثابت الجازم وليس صدوره عن النظر شطرا أو شرطا له وإن كان واجبا ، وكان تركه فسقا محرّما إذا علم وجوبه إلاّ أنّ حصول القطع من التقليد في غاية الندرة.

وإن كان ظانّا فهو مؤمن على الظاهر ومرجى في الآخرة. وكونه فاسقا أو غير فاسق يعلم ممّا ذكر ، وأكثر عوامّ المسلمين في أمثال زماننا من هذا القبيل ، فبقي المقلّد المحكوم بكفره من قلّد الباطل ، أو الحقّ من غير جزم ولا ظنّ ، والأوّل ليس من فرق المسلمين ، والثاني قليل.

فصل [3]

يعتبر في المفتي - الذي يرجع إليه المقلّد - مع الاجتهاد الإيمان والعدالة ، ولا يجوز له التعرّض للفتوى حتّى يعلم اتّصافه بالشرائط من العلم والعدالة.

ولا يجوز للمستفتي الرجوع إليه حتّى يعلم منه ذلك بالمخالطة المطلقة (1) ، أو التواتر ، أو القرائن الكثيرة المتظاهرة (2) ، أو بشهادة العدلين العارفين ، ولا يكتفى بمجرّد رؤيته له منتصبا للفتوى بمشهد من الخلق ، متصدّرا ، داعيا إلى نفسه ، والعامّة مقبلون عليه ، متّفقون على سؤاله وتعظيمه ؛ إذ قد يكون غالطا أو مغالطا. وإقبال العامّة لا حجّيّة فيه ؛ لأنّهم يميلون إلى

ص: 961


1- كذا في النسختين ، والصحيح « المطلعة » و « المتعاضدة » كما في معالم الدين : 239.
2- كذا في النسختين ، والصحيح « المطلعة » و « المتعاضدة » كما في معالم الدين : 239.

كلّ ناعق ، فاكتفاء بعض أصحابنا (1) به تبعا للعامّة غير صواب.

والاحتجاج عليه بقوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (2) ، نظرا إلى شمول أهل الذكر لمثله ، ضعيف ؛ لأنّه لا بدّ من تخصيص أهل الذكر بمن جمع شرائط الفتوى ؛ للإجماع على عدم جواز السؤال من غيره ، وحينئذ لا بدّ من العلم بحصول الشرائط ، أو ما يقوم مقامه.

فصل [4]

المتّصف بشرائط الفتوى إن كان واحدا تعيّن للفتوى. وإن كان أكثر ، فإن تساووا في العلم والعدالة تخيّر المستفتي في تقليد أيّهم شاء. وإن تفاضلوا ، فإن اختلفوا في الفتوى تعيّن تقليد الأفضل ؛ لأنّ الظنّ بقوله أقوى ، ويجب اتّباع أقوى الظنّين عند التعارض ، وإلاّ لزم ترجيح المرجوح ، والظاهر عدم الخلاف بين الأصحاب في ذلك.

وذهب بعض العامّة إلى تخيير المستفتي هنا أيضا ، وجواز تقليده للمفضول (3).

واحتجّوا عليه بشيوع الفتوى من المفضولين من الصحابة من غير نكير. وهو ممنوع.

ولو سلّم صدور بعض المسائل عن بعض المفضولين ، فإنّما كان ذلك بعنوان النقل عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله لا الاستفتاء ؛ على أنّه لو سلّم ذلك ، فلا ينتهض حجّة لنا.

وبأنّ العامّيّ لا يمكنه معرفة مراتب المجتهدين ، فتكليفه بالترجيح تكليف بالمحال.

وفيه : أنّه يتمكّن من معرفة الأفضل بالتسامع وبمشاهدة رجوع العلماء إليه ، وعدم رجوعه إليهم ، وتقديمهم له واعترافهم بفضله.

وفي كلام المحقّقين إيماء إلى أنّ لزوم الرجوع إلى الأفضل مخصوص بما إذا كان المجتهدون جميعا في بلد المستفتي ، أو قريبا منه بحيث يمكنه الرجوع إليهم.

وأمّا إذا كانوا منتشرين في البلاد ، فلا يجب عليه أن يخرج إليهم ويتفحّص عن أحوالهم

ص: 962


1- قاله العلاّمة في تهذيب الوصول : 292.
2- النحل (16) : 43.
3- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 221.

حتّى يقلّد الأفضل مع وجود المجتهد في بلده ؛ للزوم الحرج.

وإن اتّفقوا (1) في الفتوى يحتمل التخيير ؛ لعدم الفرق حينئذ بين الأخذ من الأرجح والأخذ من المرجوح ، وتعيّن الأفضل ؛ لأنّ الثقة بقوله أقرب وأوكد وإن علم الاتّفاق ؛ لأنّه لا ينفي الخطأ ، واحتماله بالنسبة إلى المفضول أقرب. وهذا لا يخلو عن قوّة.

وإن ترجّح بعضهم بالعلم وبعضهم بالعدالة ، فالحقّ تقديم الأعلم ؛ لأنّ الفتوى إنّما يستفاد من العلم ، والقدر الذي عنده من العدالة يمنعه عن الكذب في الفتوى بما لا يعلم.

فصل [5]

لا خلاف عند الفريقين في عدم اشتراط مشافهة المفتي في العمل بقوله ، بل يجوز بالكتابة مع أمن التزوير ؛ للإجماع على العمل بكتب النبيّ والأئمّة عليهم السلام في أزمنتهم ، وبالحكاية عنه ما دام حيّا ؛ للزوم الحرج بإلزام السماع عنه ، وللإجماع على جواز رجوع الحائض إلى الزوج العامّيّ إذا روى عن المفتي.

ولا خلاف عندنا في عدم جواز إفتاء غير المجتهد بمذهب مجتهد ، بأن يفتي من عند نفسه بمذهبه من غير أن يحكيه عنه ؛ لأنّه قول بما لا يعلم ، فيكون حراما ، وقد اختلف العامّة فيه على أقوال :

ثالثها : الجواز عند عدم المجتهد ، وعدمه عند وجوده (2).

ورابعها : الجواز لمن كان مطّلعا على المآخذ والنصوص أهلا للنظر ، وعدمه لغيره (3). وهذا هو المشهور بينهم ، ولذا ترى يفتي واحد منهم بمذهب أبي حنيفة ، والآخر بمذهب الشافعي ، وهكذا.

واحتجّوا على ذلك بوقوعه في الأعصار من غير نكير. ولا يخفى سقوطه عندنا.

ص: 963


1- هذا قسيم لقوله : « فإن اختلفوا في الفتوى ».
2- قاله الأسنوي في نهاية السؤل 4 : 618 - 619.
3- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 241.
فصل [6]

إذا عمل العامّيّ بقول مجتهد في مسألة من غير أن يلتزم مذهبه ، فلا يجوز له الرجوع عنه فيها إلى قول غيره وفاقا ، إلاّ أن يظهر له ما ينافي اجتهاده.

وأمّا في حكم مسألة اخرى فقد اختلف في جواز رجوعه فيه إلى غيره ، والظاهر الجواز ؛ للأصل وعدم ما يصلح أن يكون مانعا.

واستدلّ عليه أيضا بوقوعه في زمن الصحابة وغيره ؛ فإنّ الناس في كلّ عصر كانوا يستفتون من له أهليّة الفتوى كيف اتّفق ، ولا يلتزمون السؤال عن مفت بعينه (1).

ولو التزم أحد مذهب مفت بعينه وصار مقلّده في جميع المسائل - وإن لم يكن لازما عليه - ففي جواز رجوعه إلى غيره أقوال : ثالثها : أنّه كالأوّل وهو من يلتزم ، ففي المسألة التي عمل فيها بقوله لا يجوز له الرجوع إلى غيره ، وفي غيرها يجوز له أن يقلّد فيه من شاء (2).

فصل [7]
اشارة

المشهور بين العامّة جواز تقليد المجتهد الميّت (3) ، ولذا يقلّد واحد منهم أبا حنيفة ، والآخر الشافعيّ.

وأكثر أصحابنا على المنع منه.

ومال بعض المتأخّرين إلى جوازه (4).

والحقّ الأوّل (5) ؛ لوجهين :

أحدهما : أنّ التقليد خلاف الأصل ، خرج تقليد الحيّ بالإجماع ، ولزوم الحرج بتكليف جميع الناس بالاجتهاد ، فيبقى الباقي على أصله.

ص: 964


1- راجع الإحكام في أصول الأحكام 4 : 242.
2- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 222.
3- راجع المحصول 6 : 71 - 72.
4- ذكره الشهيد ولم يصرّح باسم قائله في ذكرى الشيعة 1 : 44 ، ونسبه الفاضل التوني إلى العلاّمة في الوافية : 300.
5- والمراد به هو المنع ، وهو قول أكثر أصحابنا.

وليس لأحد أن يقول : إنّهما يخرجان تقليد الميّت أيضا ؛ لأنّ صورة حكاية الإجماع صريحة في الاختصاص بتقليد الأحياء ، والحرج يندفع بتسويغ تقليد الحيّ.

والقول بأنّ انعقاد الإجماع غير مسلّم ، كيف؟ وكلام الكليني في أوّل الكافي (1) ظاهر في المنع عن مطلق التقليد ، وصرّح ابن زهرة به وبوجوب الاجتهاد عينا (2) ، وقد عزاهما بعض أصحابنا إلى قدماء الأصحاب وفقهاء حلب (3). والحرج كما يندفع بتقليد الحيّ يندفع بتقليد الميّت أيضا ، فالحكم بتعيّن الأوّل تحكّم (4).

ضعيف ؛ لأنّه لو قطع النظر عن الإجماع ، فلا ريب في أنّ لزوم الحرج ينتهض حجّة قطعيّة لصحّة التقليد ، ولمّا كان التقليد مذموما ومخالفا للأصل ، فيجب أن يجوّز بقدر ما يندفع [ به ] (5) الحرج ؛ لأنّ ما يقدّر للضرورة فإنّما يقدّر بقدرها ، ولا شكّ في أنّه يندفع بتقليد كلّ من الحيّ والميّت ، فيجب تقليد أحدهما فقط. وتقليد الحيّ ممّا قال به كلّ من قال بصحّة التقليد ، فلا يمكن منهم منعه ، فيتعيّن منع تقليد الميّت.

وممّا يؤكّد ذلك أنّ الآيات والأخبار التي يمكن أن يستدلّ بها على صحّة التقليد إنّما تدلّ على صحّة تقليد الحيّ دون الميّت ؛ لأنّها محصورة بين ما ورد فيه الأمر بالسؤال ، كقوله تعالى : ( فَسْئَلُوا ) (6).

وما ورد فيه الأمر بالنظر إلى عارف الأحكام واستنباطها منه ، كمشهورة أبي خديجة (7).

وما ورد فيه الأمر بالاستفتاء أو السماع أو غير ذلك ، ممّا يختصّ بالأحياء.

وثانيهما : أنّ دلائل الفقه لمّا كانت ظنّيّة ، لا يكون بينها وبين نتائجها لزوم عقلي ، كما تقرّر في محلّه ، فلا تكون حجّة من حيث هي ، بل من حيث إفادتها الظنّ للمجتهد ، فالحجّة هو ظنّه وهو يزول بموته ، فيبقى حكمه خاليا عن الدليل ، فكيف يمكن اتّباعه؟! ولا يمكن

ص: 965


1- الكافي 1 : 8 - 9.
2- غنية النزوع 2 : 414 - 415.
3- ذكره الشهيد في ذكرى الشيعة 1 : 41.
4- قاله الفاضل التوني في الوافية : 304.
5- أضفناه لاستقامة العبارة.
6- النحل (16) : 43.
7- تقدّم في ص 957.

القول حينئذ بلزوم اتّباع ظنّه للاستصحاب ؛ لأنّ شرط الاستصحاب بقاء الموضوع. ودعوى كفاية ظنّه السابق وعدم لزوم بقائه إلى حين عمل المقلّد ، شطط من القول ؛ لأنّ اتّباع قول أحد بدون دليل على حجّيّته في غاية الفساد. هذا.

واستدلّ عليه بوجوه أخر كلّها غير نقيّة :

منها : أنّ هذه المسألة اجتهاديّة ، فالواجب فيها الرجوع إلى فتوى المجتهد ، وحينئذ فإن رجع فيها إلى فتوى الميّت يلزم الدور ؛ وإن رجع فيها إلى فتوى الحيّ ، وفي غيرها إلى فتاوى الموتى يلزم مخالفة الاعتبار وما ظهر من اتّفاق الأصحاب على المنع من الرجوع إلى فتوى الميّت مع وجود الحيّ ؛ لأنّ جماعة نقلوا الإجماع عليه صريحا (1).

ويرد عليه : أنّا نختار الشقّ الثاني ، وهو صواب غير مخالف للاعتبار ، وليس فيه فساد ، ولا بدّ لنفيه من دليل.

والإجماع - لو سلّم - فهو دليل مستقلّ ، ولا يحتاج إلى هذا التطويل.

وأيضا هذا الدليل مبنيّ على عدم صحّة تجزّي الاجتهاد ، وقد عرفت صحّته (2) ، وحينئذ فيجوز أن يجتهد أحد في هذه المسألة ورجع في غيرها من الأحكام إلى فتاوى الأموات.

ومنها : أنّه إذا تعدّد المجتهدون وتفاضلوا ، يجب الرجوع إلى الأعلم الأورع منهم ، كما تقدّم (3) ، والوقوف لأمثالنا على الأعلم الأورع في الأعصار السابقة ممتنع.

ويرد عليه : أنّ الاطّلاع على الأعلم الأورع ممكن بالشهرة والأخبار وملاحظة المصنّفات ؛ فإنّ اللازم ليس إلاّ تحصيل الظنّ وهو في غاية السهولة.

فإن قلت : تحصيل الظنّ بالأعلم ممكن ، وأمّا بالأورع فلا.

قلت : إذا حصل الاطّلاع على الأعلم ، فإن كان واحدا ، يتعيّن العمل بقوله وإن كان الآخر أورع منه ؛ لما تقدّم من لزوم تقديم الأعلم (4) ، فلا حاجة حينئذ إلى معرفة الأورع ، وإن كان متعدّدا متساويين في العلم ، يجب حينئذ الرجوع إلى الأورع منهم ، فيقع الاحتياج إلى

ص: 966


1- راجع معالم الدين : 248.
2- تقدّم في ص 920.
3- تقدّم في ص 962.
4- تقدّم في 963.

معرفته ، لكن لا بدّ للخصم عن إثبات وقوع تعدّد الأعلم كذلك حتّى يثبت الاحتياج إلى معرفة الأورع ، وأنّى له إثباته؟

ولو سلّم إمكان إثباته ، نقول : معرفته ممكنة بالآثار والأخبار ؛ على أنّ وجوب تقليد الأعلم الأورع إنّما هو عند إمكانه ، ومع التعذّر فالمقلّد مخيّر في تقليد من شاء ، كما إذا تعدّد المجتهدون الأحياء وتساووا ، أو لم يتيسّر للمقلّد تمييز الأعلم الأورع.

ومنها : أنّه إذا كان للمجتهد في مسألة قولان ، يجب على مقلّده الرجوع إلى قوله الأخير ، وكثير من المسائل ممّا يختلف قول المجتهد الواحد فيه ، ولا يمكن في الميّت تمييز قوله الأوّل عن الأخير (1).

وفيه : أنّ التمييز من مصنّفاته في غاية السهولة ؛ فإنّ تواريخ تصنيف أكثر كتب الأعيان المجتهدين مضبوطة ؛ على أنّه لو لم يمكن التمييز ، فالظاهر تخيير المقلّد في العمل بأيّ القولين شاء ، كما في الأحياء. هذا.

مع أنّه لا يتمّ إلاّ في ميّت كان له قولان في مسألة واحدة دون غيره ، وفي المسائل التي له قولان فيها دون غيرها.

احتجّ الخصم بأنّ فتاوى المجتهدين ليست إلاّ بيانات لأقوال الحجج عليهم السلام ، فالعامل بفتاواهم عامل حقيقة بأقوالهم ، فيجوز له العمل بها في كلّ وقت ، ولا مدخليّة لحياة المبيّن وموته في ذلك (2).

وفيه : أنّ المجتهد يحتاج إلى تحصيل الظنّ من الجمع بين الأدلّة المتعارضة ، ومن استنباط أحد محتملات الألفاظ المتشابهة ، واللوازم والأفراد غير البيّنة ، وما لم يحصل له ظنّ لا يحكم بشيء ، فالمتّبع هو ظنّه ، وكيف يكون ذلك مجرّد بيان قول المعصوم عليه السلام وظنّه - كما عرفت (3) - ينعدم بموته؟

ثمّ جلّ الفتاوى من الظنون الحاصلة من الترجيحات والاستنباطات الاجتهاديّة ، وما هو

ص: 967


1- قاله الكركي في حاشية شرائع الإسلام ( ضمن حياة المحقّق الكركي وآثاره ) 11 : 114.
2- راجع الوافية : 306.
3- تقدّم في ص 965.

من منطوقات النصوص ومدلولاتها الصريحة من دون معارض في غاية القلّة ، حتّى أنّ الفقيه الذي لا يتعدّى عن متون الأخبار - كالصدوق وأمثاله - لا يكون هذا القبيل من فتاويه إلاّ في غاية الندرة ، ومع ذلك لا يوجد أكثر المسائل المحتاج إليها في فتاويه.

وبهذا ظهر ضعف ما ذهب إليه بعض المتأخّرين من :

أنّ من علم من حاله أنّه لا يفتي إلاّ بمحكمات الكتاب والسنّة ، ومنطوقات الأدلّة ، ومدلولاتها الصريحة - كابني بابويه وغيرهما من القدماء - يجوز تقليده حيّا كان أو ميّتا. ومن لم يعلم من حاله ذلك - كمن يعمل باللوازم والأفراد الخفيّة ، والمتشابهات والاصول التي دوّنوها وفرّعوا عليها بالرأي والتظنّي (1) - يشكل تقليده حيّا كان أو ميّتا (2).

تذنيب

إذا ثبت عدم جواز تقليد الميّت ، يتفرّع عليه عدم جواز خلوّ الزمان عن مجتهد حيّ يرجع إليه ؛ لبقاء التكليف ووجوب تحصيل شرائطه التي يتوقّف حصوله عليها ، ومن جملتها العلم به عن الأدلّة ، فلو جاز خلوّ الزمان عنه ؛ لزم إمّا ارتفاع التكليف ، أو التكليف بالمحال ، ولزم أيضا فسق جميع الامّة ؛ لإخلالهم بالواجب الكفائي ، وذلك يوجب رفع الشرائع والأحكام ، وعدم الوثوق بأحد من الأنام ، مع أنّه قد ثبت من الآثار أنّ اللّه قد أقام الحجّة على أهل كلّ عصر ، وقطع أعذارهم ، وبيّن لهم جميع ما يحتاجون إليه ، وغير المجتهد - وإن علم طرفا من العلوم - لا يتمكّن من بيان جميع الأحكام.

وأيضا قد صحّ عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله : « أنّ الامّة لا تجتمع على الخطأ » (3) و « لا تزال طائفة منهم على الحقّ حتّى يأتي أمر اللّه » (4) أو « حتّى يأتي الدجّال » (5) وهو ينافي فسق جميعهم.

فإن قلت : على ما ذهب إليه الإماميّة من أنّ كلّ زمان لا يخلو عن معصوم عليه السلام يلزم عدم

ص: 968


1- التظنّي أصله التظنّن فقلبت النون الثانية ياء وكسرت الاولى لمناسبة الياء فصار التظنّي.
2- ذهب إليه الفاضل التوني في الوافية : 307.
3- كنز العمّال 1 : 180 ، ح 909 باختلاف.
4- فتح الباري 13 : 363 ، ح 7311.
5- عوالي اللآلئ 4 : 62 ، الجملة الثانية في الأحاديث ... ، ح 13.

الاحتياج إلى المجتهد ؛ لترتّب ما يترتّب على وجود المجتهد مع الزيادة على (1) وجود المعصوم ، فلا يلزم شيء من المفاسد المترتّبة على عدم المجتهد.

قلت : إتمام الحجّة وقطع عذر الامّة يتوقّف على وجود عارف بالأحكام يرجع إليه الناس ، ويسألونه عمّا يحتاجون إليه ، وهو يتوقّف على أن يكون ظاهرا مشهورا ، فلا يكفي مجرّد وجود المعصوم من دون ظهوره لعدم (2) الاحتياج إلى المجتهد.

نعم ، إن كان ظاهرا فلا كلام في عدم الاحتياج إليه.

فإن قلت : يلزم على ما ذكرت تمكّن كلّ أحد من أخذ الأحكام من المجتهد ، ولا يخلو كلّ بلد وقرية عنه ، وهو خلاف الوجدان والعيان.

قلت : بعد وجود المجتهد - وإن كان واحدا - يتمكّن أكثر الناس من أخذ الأحكام عنه ولو بالكتابة والتصنيف والواسطة ، ولو لم يتمكّن بعض الناس عنه للبعد المفرط ، أو اشتغاله بأمر المعاش المضطرّ إليه ، فلا بأس به ؛ لأنّ المناط في التبليغ هو التبليغ إلى الغالب ، كما في تبليغ الأنبياء ، وليس على مثله حينئذ حرج ، واللازم عليه الأخذ بالاحتياط ؛ لأنّه وظيفة من لم يكن مجتهدا ولم يتمكّن من أخذ الأحكام عنه ، ولا حرج عليه حينئذ على التحقيق ؛ لأنّه لا تكليف فوق الوسع.

فصل [8]

قد صحّ ممّا ذكرناه انحصار طريق أخذ الأحكام بالاجتهاد ، أو بالتقليد من المجتهد الحيّ ، فالفاقد للطريقين لا يخلو عن سبعة :

الأوّل : أن يكون جاهلا بالأحكام كلّها أو بعضها ، غير مؤدّ للواجبات ، مرتكب (3) للمحرّمات.

ولا ريب في كونه معاقبا ؛ لما بيّنّا فيما تقدّم من عدم معذوريّة الجاهل (4).

ص: 969


1- متعلّق بقوله : « لترتّب ».
2- متعلّق بقوله : « لا يكفي ».
3- كذا في النسختين. وهو خبر مبتدأ محذوف.
4- تقدّم في ص 957.

الثاني : أن يعرفها بالسماع من العوامّ ، أو تقليد الآباء - سواء كان معتقدا بصحّة الأخذ كذلك ، أو لا - ولم تكن مطابقة للواقع وموافقة (1) لأمر الشرع. ولا ريب في بطلانها وكونه معاقبا ، ووجهه ظاهر.

الثالث : أن يعرفها بتقليد أحد الأموات من المجتهدين ، أو بملاحظة كتب العلماء من غير تقليد لواحد معيّن ، وعلم أو ظنّ بالاستدلال أو تقليد من كان معتقدا له من الفقهاء صحّة ذلك. والظاهر عدم كونه معاقبا ، وصحّة عباداته وإن لم تكن مطابقة للواقع ؛ لأنّه بعد بذل (2) جهده اعتقد صحّة هذا الطريق ، فتكليفه غير ذلك تكليف بما فوق الطاقة.

الرابع : أن يعرفها بالنحو المذكور من غير علم أو ظنّ بصحّته ، بل إمّا مع اعتقاد فساده أو لا ، ولم تكن مطابقة للواقع.

ولا ريب في كونه معاقبا ، وبطلان عباداته ؛ لأنّه أوقع غير المأمور به على وجه غير مأمور به.

الخامس : أن يعرفها بالنحو المذكور من غير اعتقاد صحّته وكانت مطابقة للواقع.

السادس : أن يعرفها بالأخذ من العوامّ وتقليد الآباء والأسلاف وكانت مطابقة للواقع.

السابع : أن يحتاط فيها مع تمكّنه من أخذها من المجتهد الحيّ. وقد اختلف في صحّة عبادات هؤلاء الثلاثة وبطلانها ، وكونهم معاقبين ، أم لا (3).

والحقّ أنّ عباداتهم صحيحة ، وليسوا بتاركين لها وإن عوقبوا بترك الواجب.

أمّا الثاني ، فلما ثبت من أنّ الناس مكلّفون بأخذ الأحكام ، وطريقه منحصر في الاجتهاد أو التقليد ، والفرض تمكّنهم من ذلك ، فتركه محرّم.

وقيل (4) : الأصل عدم وجوب أخذها على هذا النحو ؛ لصعوبته ، سيّما بالنسبة إلى النساء والأطفال في أوائل البلوغ ؛ لأنّهم لا يعرفون المجتهد وعدالته وعدالة الوسائط ، بل لا يعرفون حقيقة العدالة ، وأخذهم عنهم فرع العلم بعدالتهم ، ومعرفة العدالة لا تحصل غالبا

ص: 970


1- أي ولا موافقة.
2- في « ب » : « بذله ».
3- ذكره الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان 2 : 182 و 183.
4- المصدر.

إلاّ بمعرفة المحرّمات والواجبات ، وهم الآن ما حصّلوا شيئا ، ولا يمكن لهم أن يعلموا بالشياع أنّ الفلان عدل - مع عدم معرفتهم حقيقة العدالة - ولا بالمعاشرة ، ولا بالعدلين ؛ لما ذكر ، بل أكثر جهّال الناس وعوامّهم من أهل القرى والصحاري تعلّموا شيئا من العبادات والطاعات من آبائهم أو من هو أعلم منهم ، وظنّوا بل تحقّقوا أنّ هذا هو الواجب عليهم لا غير ، ولم يسمعوا وجوب أخذ الأحكام من المجتهد ، فكيف يكونون آثمين بترك الطلب وكثير منهم بلغوا في العبادة حدّا لو كلّفوا بأخذ الأحكام من المجتهد الحيّ ، لزم التكليف بما لا يطاق؟!

والجواب : أنّ الكلام فيمن علم مجملا وجوب أحكام عليه ، وعلم أنّها (1) ممّن يسأل ، ويمكن من أخذها عنه ولو بوسائط كثيرة ، ولا ريب في كونه مأمورا حينئذ بالسعي والطلب ، فلو تركهما كان معاقبا.

وأمّا من لا يعلم وجوب شيء عليه أصلا ، ولم يسمع مجيء مبلّغ عن اللّه بالأوامر والنواهي ، فهو من المستضعفين وخارج عمّا نحن بصدده.

وإن علم وجوبها ولكن لم يكن في قوّته وقدرته فهمها ، بل كان بحيث لو كلّف بالأخذ عن المجتهد لزم التكليف بما لا يطاق ، فهو أيضا خارج ويجب عليه السعي مهما أمكن ، وإن أمكنه الفهم والتعليم إلاّ أنّه لم يتمكّن من الوصول إلى المجتهد ، فليس عليه أيضا حرج بعد الأخذ بالاحتياط.

وأمّا الأوّل (2) ، فلأنّ العبادة على التقديرات الثلاثة مطابقة للواقع وموافقة للمأمور به.

أمّا على الأوّلين فبالفرض.

وأمّا على الثالث ؛ فلأنّ من صام بنيّة القربة ، وكفّ عن جميع ما يحتمل أن يكون مبطلا ، وأتى في الصلاة بجميع ما يحتمل أن يكون تركه مبطلا ، وترك جميع ما يحتمل أن يكون فعله مبطلا ، يحصل له القطع بموافقة صومه وصلاته للمأمور به على كلّ تقدير. وإذا ثبت مطابقتها للواقع وموافقتها للمأمور به تكون صحيحة ؛ لأنّه لا معنى لصحّة العبادة إلاّ إيقاعها

ص: 971


1- كذا في النسختين. والأولى : « أنّه ».
2- والمراد به صحّة العبادة.

على الوجه المأمور به مع نيّة القربة ، وليس النهي متعلّقا بنفس الصلاة أو شيء من أجزائها ولا صفاتها اللازمة ، بل بتقليده لمن قلّده (1) ، وأخذه على ما أخذه ، وهو أمر خارج عن حقيقة الصلاة وشرائطها وصفاتها.

على أنّ أكثر المحقّقين ذهبوا إلى أنّ نيّة القربة كافية في صحّة العبادات ، ولا حاجة إلى التعرّض للوجه من الوجوب والندب ، وإذا لم يعتبر نيّة الوجه في أصل العبادات وجملتها ، فلا تكون معتبرة في أفعالها وتفاصيل أجزائها بطريق أولى ، وإذا لم يعتبر الوجه في أجزاء الصلاة وأفعالها ، ثمّ أتى بها بأفعالها وهيئاتها على الوجه المعروف لم يتصوّر القول بالبطلان بوجه.

وأيضا من أوقع العبادة على ما هي عليه في الواقع حصل للنفس كمالها بحسب القوّة العمليّة ، سيّما وفي بعض التقديرات اعتقد أنّ الشارع وضعها كذلك ؛ فلا يقدح في حصول الكمال كون المخبر ممّن لا يجوز تقليده.

وأيضا جلّ أهل الإسلام من هؤلاء ، فلو كانت عبادتهم باطلة لم يكن فرق بينهم وبين تاركي الصلاة ؛ لعدم الفرق بين ترك الصلاة والصلاة الباطلة شرعا ، فجاءت الطامّة الكبرى ، والداهية العظمى في كفر المسلمين.

وأيضا كما يجب على العوامّ تعلّم الأحكام ، يجب على العلماء تعليمها ، فلو بطلت عبادة العوامّ بترك تعلّمها ، بطلت عبادة العلماء بترك تعليمها إذا أوقعوها في الوقت الموسّع ؛ لأنّ الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضدّه.

ص: 972


1- هذا راجع إلى التقديرين الأوّلين.

المبحث الخامس : في التعادل والترجيح

اشارة

تعادل الأدلّة : تساوي مدلولاتها في نظر المجتهد.

والترجيح لغة : جعل الشيء راجحا (1). ويقال مجازا لاعتقاد الرجحان. وعرفا : تقديم أقوى الأمارتين على الاخرى في العمل بمؤدّاه.

وقيل : تقوية إحدى الأمارتين على الاخرى ليعمل بها (2).

وقيل : اقتران الأمارة بما يقوى به على معارضها (3).

والأوّلان أظهران ؛ لأنّ حقيقة الترجيح هو فعل المجتهد فهو إمّا التقديم أو التقوية ، والاقتران سبب لهما ، فالتعريف به تعريف الشيء بسببه.

فصل [1]

اشارة

لا تعارض في قطعيّين ؛ لاجتماع النقيضين ، ولا في قطعي وظنّي ؛ لانتفاء الظنّ بالقطع ، فالتعارض إنّما يقع في الظنّيين.

وحينئذ إمّا يمكن الجمع بينهما والعمل بهما ولو من وجه أو لا.

فعلى الأوّل يجب العمل بهما ؛ لأنّه أولى من إسقاط أحدهما بالكلّيّة ؛ لأنّ الأصل في كلّ واحد منهما هو الإعمال ، فيجمع بينهما مهما أمكن ، فقوله عليه السلام : « ألا اخبركم بخير الشهود؟ »

ص: 973


1- لسان العرب 2 : 445 ، « ر ج ح ».
2- قاله الفخر الرازي في المحصول 5 : 397.
3- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : 222.

فقيل : نعم ، فقال : « أن يشهد الرجل قبل أن يستشهد » (1). يحمل على حقّ اللّه ، وقوله عليه السلام : « ثمّ يفشو الكذب حتّى يشهد الرجل قبل أن يستشهد » (2) على حقّ الناس.

وممّا فرّع عليه الحكم بقسمة دار تعارضت فيها بيّنتان ولم تكن في يد واحد من المتداعيين ، أو كانت في يدهما.

وعلى الثاني إمّا يعلم تاريخهما أو يجهل.

فعلى الأوّل يحكم بكون المتأخّر (3) ناسخا للمتقدّم.

وعلى الثاني إمّا يقترن أحدهما بما يتقوّى به فيمكن الترجيح ، أو يتعادلان فلا يمكن.

فعلى الأوّل يجب الترجيح وتقديم أقوى الأمارتين ؛ لشيوع ذلك من الصحابة ومن بعدهم من السلف ، وتكرّره في القضايا المختلفة من غير نكير (4) ، ونقل الإجماع صريحا على وجوب العمل بالراجح من الدليلين (5) ، ولزوم ترجيح المرجوح لو لم يعمل به ، فالقول بالتخيير حينئذ أو التساقط والرجوع إلى الأصل (6) ساقط وفساده ظاهر.

وعلى الثاني يتخيّر المجتهد في العمل بأحدهما وفاقا للمعظم من الفريقين.

وذهب بعض الأخباريين [ إلى ] (7) أنّه يجب التوقّف حينئذ في الفتوى ، والاحتياط في العمل (8).

وقيل : يتساقطان ويرجع إلى البراءة الأصليّة (9).

لنا : استفاضة الأخبار بثبوت التخيير بعد عدم شيء من المرجّحات المنصوصة ، وفي بعضها (10) حكم به بعد كون كلّ من الراويين ثقة من دون الأمر بالرجوع إلى مرجّحات أخر.

ص: 974


1- سنن أبي داود 3 : 304 ، ح 3596.
2- مستدرك الوسائل 17 : 448 ، أبواب الشهادات ، الباب 46 ، ح 8 باختلاف.
3- والمراد به هو البيّنة المتأخّرة. والتذكير هنا وفيما يأتي يحتاج إلى التوجيه.
4- حكاه الشيخ حسن في معالم الدين : 250 و 251.
5- حكاه الشيخ حسن في معالم الدين : 250 و 251.
6- قاله الأنصاري في فواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى 2 : 189 ، والأسنوي في نهاية السؤل 4 : 437.
7- أضفناه لاستقامة العبارة.
8- راجع الرسائل الاصوليّة : 382.
9- راجع : التمهيد 2 : 505 ، ونهاية السؤل 4 : 437.
10- وسائل الشيعة 27 : 121 - 122 ، أبواب صفات القاضي ، الباب 9 ، ح 40 و 41.

احتجّ المتوقّف بالأخبار (1) الدالّة على الوقوف عند الشبهات ، والإرجاء حتّى يلقى الإمام عليه السلام (2).

والجواب : أنّها محمولة على الاستحباب ، أو على ما إذا أمكن الوصول إلى الإمام والرجوع إليه ؛ جمعا بين الأخبار ، كيف؟ ولو حملت على ظاهرها لزم طرح أخبار التخيير ؛ لعدم إمكان الجمع حينئذ مع أنّها أكثر وأشهر وبمضمونها أفتى المعظم ، بل لم نعثر على مخالف معتدّ به من الأصحاب ؛ فإنّ قدماءهم ، كالكليني والصدوق وأمثالهما ومتأخّريهم ، كالمحقّق والعلاّمة وغيرهما تطابقوا على التصريح به.

حجّة القائل بالتساقط أنّ تعادل الأمارتين يوجب ارتفاع كلّ منهما بالاخرى ، فوجودهما كعدمهما ، فنرجع إلى ما يقتضيه الأصل (3).

وجوابه : أنّ ذلك لو (4) لم يقم دلالة على ثبوت التخيير ، وقد عرفت دلالة الأخبار عليه (5).

تذنيب

الجمع يجري في العامّ والخاصّ بالتخصيص ، وفي المطلق والمقيّد بالتقييد ، وفي عامّين أو مطلقين متناقضين بالتوزيع - أي تخصيص أحدهما ببعض الأفراد ، والآخر ببضع آخر كما في خبري الشهود (6) - وفي أمر ونهي بينهما تناقض بحمل الأوّل على الندب والثاني على الكراهة ، وغير ذلك.

والنسخ يجري في نصّين متنافيين متساويين في القوّة والعموم ، مع العلم بالمتأخّر.

والترجيح يجري في متباينين لم يكونا بعامّين أو مطلقين ، أو كانا بهما ولم يمكن التوزيع ؛ لعدم القائل به.

ص: 975


1- الكافي 1 : 68 ، باب اختلاف الحديث ، ح 10.
2- راجع الرسائل الاصوليّة : 382.
3- راجع الفوائد المدنيّة : 93 وما بعدها.
4- هذا خبر أنّ.
5- في ص 975.
6- تقدّما في ص 973 - 974.

وفي العامّ والخاصّ من وجه ، كقوله : « من نام عن صلاة أو نسيها فليصلّها إذا ذكرها » (1) مع نهيه عن الصلاة في الأوقات المكروهة (2) ؛ فإنّ الأوّل عامّ في الأوقات خاصّ ببعض الصلوات وهي المقضيّة ، والثاني عامّ في الصلاة خاصّ ببعض الأوقات.

وقوله لبني عبد مناف : « من ولي منكم أمر هذا البيت فلا يمنعنّ أحدا طاف أو صلّى أيّة ساعة شاء من ليل أو نهار » (3) مع نهيه عن الصلاة في الأوقات المكروهة.

وقوله : « أفضل صلاة المرء في بيته إلاّ المكتوبة » (4) مع قوله : « صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة فيما عداه إلاّ المسجد الحرام » (5) ؛ فإنّ الأوّل عامّ في المواضع خاصّ بالنافلة ، والثاني عامّ في الصلاة خاصّ بغير المسجد الحرام ، ففي أفضليّة النافلة في البيت أو في المسجد الحرام يحتاج إلى مرجّح.

والتخيير يجري فيما عدا ما يجري فيه النسخ من الأقسام المذكورة إذا فقد الترجيح وحصل التعادل.

فصل [2]

اشارة

لمّا ثبت أنّه لا تعارض في القطعيّات ، ولا في قطعي وظنّي ، فلا يكاد أن يقع التعارض بين الإجماع أو السنّة المتواترة ، ومثله أو غيره : فينحصر وقوع التعارض في كلّ من الكتاب أو الخبر الواحد أو الإجماع الظنّي ، أو واحد من الأدلّة العقليّة كالاستصحاب ، أو القياس المعتبر ، أو غيرهما مع مثله ، أو واحد من الثلاثة أو أكثر ، ويتخرّج أقسام.

والمناط في ترجيح أحد الطرفين في كلّ منها أن يحصل به الظنّ الأقوى ، وهو يتوقّف على كونه أقوى في نفسه أو بالمرجّحات المنصوصة والاجتهاديّة ، والأوّل لا يتأتّى إلاّ فيما

ص: 976


1- صحيح البخاري 1 : 215 ، ح 572 ، وصحيح مسلم 1 : 471 ، ح 309 / 680.
2- صحيح البخاري 1 : 211 ، ح 556 ، وسنن أبي داود 2 : 55 ، ح 1274 - 1276 ، وصحيح مسلم 1 : 57 ، ح 833 و 834.
3- سنن ابن ماجة 1 : 398 ، ح 1254.
4- صحيح البخاري 1 : 256 ، ح 698 ، وصحيح مسلم 1 : 539 ، ح 213 / 781.
5- الكافي 4 : 555 ، باب المنبر والروضة و ... ، ح 8 و 10، وتهذيب الأحكام 6 : 15 ، ح 30 و 33.

لم يكن الطرف الآخر فيه مثله ، والثاني يتأتّى فيما كان مثله أو غيره من الأدلّة.

فالأوّل كالكتاب بالنسبة إلى الاستصحاب والقياس ، فإنّه أقوى في نفسه منهما ؛ للقطع بحجّيّته ، ووقوع الخلاف في حجّيّتهما. وكذا حكم خبر الواحد بالنسبة إليهما.

وربما كان بعض أقسام الاستصحاب أقوى من خبر الواحد ؛ لقطعيّة دليله ، كما لا يخفى على المطّلع بما تقدّم في بحثه (1).

والإجماعات الظنّيّة لمّا كانت مختلفة في مراتب الظنّ شدّة وضعفا ، فربما كان بعضها أقوى من كلّ واحد من الأربعة ، وبعضها أضعف منها ، وبعضها أقوى من بعضها أضعف من بعض آخر ، ومعرفة تفصيل ذلك موكولة إلى نظر المجتهد.

والثاني كأن يترجّح أحد الخمسة إذا عارض مثله بوجه من وجوه التراجيح وهي كثيرة.

ولمّا كان المذكور في أكثر كتب الاصول وجوه التراجيح بين الخبرين المتعارضين ، فنحن نذكرها أوّلا ، ثمّ نشير إلى ما يعلم به حال البواقي.

فنقول : ترجيح أحد الخبرين على خمسة أصناف :

[ الصنف ] الأوّل : ما يقع بحسب السند - أي طريق ثبوته - وهو على ثلاثة أقسام :

[ القسم ] الأوّل : ما يكون بحسب الراوي نفسه وهو يحصل من وجوه :

الأوّل : أن يكون رواته أكثر عددا من رواة الآخر ، فيرجّح لقوّة الظنّ ؛ إذ العدد الأكثر أبعد عن الخطأ من الأقلّ ، ولأنّ كلّ واحد يفيد ظنّا ، فإذا انضمّ إلى غيره قوي حتّى ينتهي إلى التواتر المفيد للقطع.

الثاني : أن يكون راويه راجحا على راوي الآخر في صفة يغلب معها ظنّ الصدق ، كالثقة والعدالة والفطنة والورع والعلم والضبط وحسن الاعتقاد. وقد صرّح الشيخ بأنّه يرجّح أحد الخبرين بالضابط والأضبط ، والعالم والأعلم ؛ محتجّا بأنّ الطائفة قدّمت ما رواه محمّد بن مسلم ، ويزيد بن معاوية ، والفضيل بن يسار وأمثالهم على من ليس له حالهم (2). والوجه في

ص: 977


1- تقدّم في ج 1 ، ص 399.
2- العدّة في أصول الفقه 1 : 152 - 153.

الجميع أنّ ظنّ الصدق بقول من كان راجحا في وصف يفيد ظنّ الصدق أغلب منه بقول من كان مرجوحا فيه.

الثالث : أن يكون راويه راجحا على راوي الآخر في وصف يكون قوله معه أبعد من الخطأ ، وأنسب بنقل الحديث على وجهه ، كالحفظ والجزم بالرواية ، والعلم بالعربيّة ، ومصاحبة المحدّثين ، والشهرة والمعروفيّة ؛ إذ الغالب أنّهما لا يكونان إلاّ عن مزيّة يكون قول صاحبهما (1) أبعد عن الخطأ من غيره.

الرابع : أن يكون متّصفا بإحدى صفات يكون الاعتماد على قوله معها أقرب ولم يتّصف بها الآخر ، وهي كثيرة :

منها : أن يكون دائم العقل ، والآخر مختلطا في وقت ما ، ولم يعلم أنّه روى في حال عقله أو اختلاطه.

ومنها : أن يعتمد للرواية على حفظه للحديث وعلى تذكّره سماعه من الشيخ ، والآخر على نسخته وخطّه. ولا ريب أنّ احتمال الاشتباه في النسخة والخطّ أقرب منه في الحفظ والذكر.

ومنها : أن يكون مباشرا لما رواه دون الآخر ، كرواية أبي رافع : « أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله نكح ميمونة وهو حلال » (2) فإنّه يرجّح على رواية ابن عبّاس : « أنّه نكح ميمونة وهو حرام » (3) ؛ لأنّ أبا رافع كان هو السفير بينهما.

ومنها : أن يكون صاحب الواقعة دون الآخر ، كرواية ميمونة : « تزوّجني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ونحن حلالان » (4) ، فإنّها ترجّح على رواية ابن عبّاس (5) ، ورواية عائشة في : « وجوب الغسل بالتقاء الختانين » (6) ، فإنّها ترجّح على رواية من روى : « إنّما الماء من الماء » (7).

ص: 978


1- كذا في النسختين. والأولى : « صاحبها » ، أي صاحب المزيّة.
2- السنن الكبرى 5 : 106 ، ح 9161.
3- (3 و 5) المصدر : 3. ح 9158.
4- المصدر : 106 ، ح 9160.
5- (3 و 5) المصدر : 5. ح 9158.
6- مسند أحمد بن حنبل 2 : 595 ، ح 6682 ، وكنز العمّال 9 : 376 ، ح 26544.
7- جامع الاصول 8 : 162 ، ح 5300.

ومنها : أن يكون مشافها ، والآخر سامعا من وراء حجاب أو آخذا بالمكاتبة ؛ فإنّ السماع من وراء الحجاب والمكاتبة يحتملان من الخلل ما لا يحتمله المشافهة.

ومنها : أن يكون عند سماعه أقرب إلى المعصوم عليه السلام.

ومنها : أن يعمل بروايته ، والآخر لم يعمل بروايته ، أو لم يعلم أنّه عمل بها أم لا.

ومنها : أن يرسل وعلم من حاله أنّه لا يرسل إلاّ عن ثقة ، بخلاف الآخر ، فمراسيل ابن أبي عمير ونظرائه - ممّن شهد بعض المشايخ (1) بأنّهم لا يرسلون إلاّ عن الثقات - ترجّح على مراسيل غيرهم.

ومنها : أن يتحمّل الرواية بالغا والآخر صبيّا.

ومنها : أن يكون من أكابر الصحابة ، والآخر من أصاغرهم.

ومنها : أن لا يلتبس اسمه بضعيف أو مجهول ، بخلاف الآخر.

ومنها : أن يكون طريقه أقوى في الإدراك ، كأن يروي أنّه رأى زيدا بالعراق في يوم كذا ، والآخر يروي أنّه رآه بالحجاز في ليلة.

ومنها : أن لا يكون مدلّسا ، أي مخفيا للعيب ، بخلاف الآخر.

ومنها : أن يكون معروف النسب والآخر مجهول النسب ؛ لأنّ احتراز الأوّل عن الكذب أكثر حفظا للمرتبة ؛ وللقدرة على معرفة عدالته بالفحص ، بخلاف الثاني.

ومنها : أن يكون عالي المنصب ؛ فإنّ اهتمامه بالتصوّن والتحرّز وحفظ الجاه أكثر ، ولذا روي أنّ عليّا عليه السلام يحلّف الرواة من الأصحاب سوى أبي بكر (2).

القسم الثاني : ما يكون بحسب تزكية الراوي ، وهو من وجهين :

أحدهما : ما يعود إلى المزكّي بأن يكون مزكّي راويه أكثر ، أو أوثق ، أو أعدل ، أو أكثر بحثا من مزكّي راوي الآخر. وكذا الحكم في زيادته في إحدى الصفات المتقدّمة.

وثانيهما : ما يعود إلى كيفيّة التزكية ، فيرجّح التزكية بصريح المقال على التزكية بالحكم بشهادته ، وهي على التزكية بالعمل بروايته ؛ لأنّ الاحتياط في الشهادة أكثر.

ص: 979


1- راجع رجال النجاشي : 326 ، الرقم 887.
2- راجع المحصول 5 : 398.

القسم الثالث : ما يكون باعتبار كيفيّة الرواية ، فيرجّح المسند على المرسل ، ومرسل عظماء الأصحاب على مرسل غيرهم ، والمسند المعنعن على مسند إلى كتاب معروف ، وهو على مشهور ، غير مسند إلى كتاب ، والمسند إلى كتاب مشهور عرف بالصحّة - كإحدى الكتب الأربعة - على المسند إلى كتاب لم يعرف بالصحّة ، والمسند باتّفاق على ما اختلف في كونه مسندا أو مرسلا ، والمسموع من الشيخ على المقروء عليه ، وهما على المأخوذ بالإجازة إلاّ أن يكون أحاله على أصل مسموع أو مصنّف مشهور ؛ فإنّه مساو لهما حينئذ عند بعض (1) ، والمتّفق على رفعه إلى المعصوم عليه السلام على المختلف في رفعه إليه وفي كونه موقوفا على الراوي ، وعالي السند - وهو ما يكون رواته أقلّ عددا - على غيره ؛ لأنّ احتمال الكذب والغلط وغيرهما من وجوه الخلل فيه أقلّ.

الصنف الثاني : ما يقع بحسب وقت وروده وهو ينحصر بتقديم المتأخّر على المتقدّم ؛ لإمكان نسخه.

ويتفرّع عليه ترجيح المدنيّات على المكّيّات ، وما ورد بعد قوّة الإسلام وعلوّ شأن النبيّ صلى اللّه عليه وآله على غيره ؛ لأنّهما كانا في أواخر عصره ، وما فيه التشديد على غيره ؛ لأنّ التشديدات متأخّرة ، وإنّما جازت حين غلبة شوكة الإسلام ، والمؤرّخ بتأريخ مضيّق - نحو آخر الشهر الآخر من سنة كذا - على المؤرّخ بتأريخ موسّع آخره آخر الأوّل ، نحو سنة كذا ؛ لاحتمال وروده قبل الأوّل.

الصنف الثالث : ما يقع بحسب المتن - أي اللفظ - من حيث هو ، أو باعتبار مرتبة دلالته ، وهو من وجوه :

أ. أن يكون حقيقة والآخر مجازا غير راجح ، فتقدّم الحقيقة على المجاز ، والشرعيّة على العرفيّة ، وهي على اللغويّة.

ص: 980


1- حكاه الفخر الرازي عن القاضي عبد الجبّار في المحصول 5 : 422.

ب. أن يكون مجازا يكون مصحّح تجوّزه - أعني العلاقة - فيه أشهر أو أقوى منه في الآخر ، فيقدّم عليه ، وكذا إن كان دليل تجوّزه - من الامور المتقدّمة في معرفة المجاز ، كنصّ الواضع ، وصحّة السلب ، وعدم الاطّراد ، وعدم صحّة الاشتقاق ، وشهرة الاستعمال - راجحا على دليل تجوّز الآخر.

ج. أن يكون أقلّ احتمالا والآخر أكثر احتمالا ، فيقدّم غير المشترك على المشترك بين معنيين ، وهو على المشترك بين ثلاثة معان.

د. تقدّم المجاز على المشترك ؛ لما تقدّم (1).

ه. تقدّم الأشهر مطلقا - أي في الشرع ، أو في العرف ، أو في اللغة - على غيره.

و. ترجيح اللغوي المستعمل شرعا في معناه اللغوي على المنفرد الشرعي ، أي المنقول شرعا من معناه اللغوي إلى غيره ؛ لعدم التغيير والخلاف.

ز. ترجيح المرويّ بلفظ المعصوم عليه السلام على المرويّ بمعناه ؛ لأنّه أبعد من الزلل.

ح. ما فيه تعرّض للعلّة يرجّح على ما اقتصر فيه على مجرّد الحكم ؛ لأنّ شدّة الاهتمام بمعرفة الحكم في الأوّل أكثر.

ط. ترجيح الفصيح على غيره ، لا الأفصح عليه. أمّا الأوّل ، فلأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله والأئمّة عليهم السلام فصحاء العرب ، فالفصيح أشبه بكلامهم. وأمّا الثاني ، فلأنّ المتكلّم الفصيح لا يجب أن يكون كلّ كلامه أفصح.

ي. ما يؤكّد دلالته بأن يتعدّد جهات دلالته ، أو يكون أقوى يرجّح على ما يتّحد جهات دلالته ، أو يكون أضعف ، ومن أمثلة متأكّد الدلالة قوله عليه السلام : « فنكاحها باطل باطل باطل » (2) ، وما ورد في بعض أخبار التقصير للمسافر من قوله عليه السلام : « قصّر وإن لم تفعل فقد - واللّه - خالفت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم » (3).

يا. ما يدلّ بالمطابقة يرجّح على ما يدلّ بالالتزام ، ووجهه ظاهر.

ص: 981


1- تقدّم في ج 1 ، ص 73.
2- الفردوس بمأثور الخطاب 1 : 351 ، ح 1410.
3- تهذيب الأحكام 2 : 13 ، ح 29 و 3 : 163 ، ح 353 ، والاستبصار 1 : 240 ، ح 856.

يب. ما كان دلالته على المراد منه غير محتاجة إلى توسّط أمر آخر يرجّح على ما دلالته موقوفة عليه.

يج. يرجّح المستغني عن الإضمار على المفتقر إليه.

يد. يقدّم المنطوق على المفهوم ، والموافقة على المخالفة ، والاقتضاء على الإشارة ، والإيماء ، والنصّ الدالّ بالاقتضاء لضرورة الصدق يرجّح على الدالّ بالاقتضاء لضرورة وقوعه شرعا ؛ لأنّ الصدق أهمّ من وقوعه شرعا ، والإيماء لانتفاء العبث أو الحشو يقدّم على الإيماء لترتيب الحكم على الوصف ؛ لأنّ الأوّل أظهر دلالة من الثاني.

يه. يقدّم الخاصّ على العامّ ؛ لأنّه أقوى دلالة. وكذا الخاصّ من وجه ، أو العامّ من وجه على العامّ من كلّ وجه. وكذا الحكم في المطلق والمقيّد.

يو. يقدّم العامّ الذي لم يخصّص ، والمطلق الذي لم يقيّد على المخصّص والمقيّد ؛ لتطرّق الضعف إليهما بالخلاف في حجّيّتهما.

يز. تقدّم تخصيص العامّ على تأويل الخاصّ ؛ لكثرة الأوّل وندور الثاني.

يح. إذا تعارضت صيغ العموم يقدّم أقوى دلالة على غيره ، فالعامّ الشرطي يقدّم على النكرة الواقعة في سياق النفي ، والجمع المحلّى باللام ، واسم الموصول ؛ لأنّ دلالته أقوى من حيث إفادته التعليل ، ويقدّم الثلاثة على اسم الجنس المعرّف باللام ؛ لشيوع استعماله في المعهود ، فيصير دلالته على العموم أضعف.

الصنف الرابع : ما (1) يقع بحسب الحكم المدلول من الحرمة والوجوب وغيرهما.

قيل : بهذا الاعتبار يقدّم التحريم على الندب ؛ لأنّ التحريم لدفع المفسدة ، والندب لجلب المنفعة (2) ، والأوّل أهمّ من الثاني في نظر العقلاء. وعلى الإباحة الشرعيّة ؛ للاحتياط ، ولقوله عليه السلام : « ما اجتمع الحلال والحرام إلاّ وغلب الحرام على الحلال » (3).

ص: 982


1- والمراد بالموصول هو الترجيح.
2- قاله الفخر الرازي في المحصول 5 : 439 ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 269.
3- عوالي اللآلئ 2 : 132 ، ح 358.

وقيل بالعكس (1) ؛ لموافقته للأصل وعلى الكراهة ؛ للاحتياط. وعلى الوجوب ؛ للأخبار (2).

ويقدّم الوجوب على الندب ؛ للاحتياط.

والإثبات على النفي ؛ لأنّ غفلة الإنسان عن الفعل كثيرة ، والمتضمّن لدرء الحدّ على الموجب له ؛ لقوله عليه السلام : « ادرءوا الحدود بالشبهات » (3).

ومثبت الطلاق والعتاق على الموجب لعدمهما ؛ لأنّ الأصل عدم القيد.

والحكم التكليفي على الوضعي ؛ لأنّه محصّل للثواب.

وقيل بالعكس (4) ؛ لأنّ الوضعي لا يتوقّف على فهم.

والأخفّ على الأثقل ؛ لنفي الحرج واليسر.

وقيل بالعكس (5) ؛ إذ الثواب في الأثقل أكثر.

وأنت تعلم أنّ الترجيح بموافقة الأصل ومثله ليس ترجيحا باعتبار المدلول من حيث هو ، بل بالأمر الخارج ، فهو خارج عن المبحث.

ويمكن أن يقال : إنّ موافقة الأصل أو الاحتياط أو نفي الحرج أو الخبر دلّت على أنّ هذا الحكم مقدّم على ذاك ، والحكم من المدلول ، فيصدق أنّ التقدّم بحسب المدلول وإن صدق باعتبار آخر أنّه بحسب الخارج.

الصنف الخامس : ما يقع بحسب الامور الخارجيّة ، وهي تسعة :

الأوّل : اعتضاده بدليل آخر من كتاب ، أو سنّة ، أو غيرهما ؛ فإنّه يقدّم على غير المعتضد به. ووجهه ظاهر.

الثاني : اعتضاده بالشهرة وعمل الأكثر به ؛ فإنّه يقدّم على غيره ؛ لأنّ الكثرة أمارة

ص: 983


1- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 269.
2- راجع كنز العمّال 3 : 429 ، ح 7294 - 7297.
3- دعائم الإسلام 2 : 465 ، ح 1649 ، والفقيه 4 : 74 ، ح 5149.
4- قاله الشوكاني في إرشاد الفحول 2 : 271.
5- حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 273 ، والشوكاني في إرشاد الفحول 2 : 271.

الرجحان ، والعمل بالراجح واجب ؛ وللأمر بأخذ المشهور عند الأصحاب في عدّة روايات (1).

الثالث : كونه مخالفا لمذهب العامّة ؛ فإنّه يقدّم على الموافق له ؛ لاحتمال التقيّة فيه ، بخلاف المخالف ، فإنّه لا يحتمل إلاّ الفتوى ؛ وللأمر بأخذه في عدّة روايات (2).

ومنع عدم احتمال المخالف إلاّ الفتوى ؛ لاحتماله الفتوى بما يحتمل التأويل لمصلحة رآها الإمام وإن لم نعلمها ، ضعيف ؛ لأنّه لو سلّم تأتّي هذا الاحتمال ، فلا ريب أنّ احتمال التقيّة أظهر وأقرب منه ، كما هو المعلوم من أحوال الأئمّة ، وهو كاف في الترجيح.

الرابع : أن يكون مقرّرا ، أي موافقا للأصل ؛ فإنّه يقدّم على الناقل أي المخالف له ، خلافا لبعض أصحابنا (3) وأكثر العامّة.

لنا : أنّ الأصل دليل ، فإذا انضمّ إلى الخبر يكون الظنّ الحاصل منهما أقوى من الظنّ الحاصل من الخبر خاصّة ، سيّما مع معارضته للأصل.

واحتجّ المخالف بأنّ الناقل يستفاد منه ما لا يعلم إلاّ منه ، والمقرّر حكمه معلوم بالعقل ، فكان اعتبار الأوّل أولى ؛ لأنّ فائدة التأسيس أقوى من فائدة التأكيد ، وحمل كلام الشارع على الأكثر فائدة أولى (4).

وجوابه ظاهر.

الخامس : أن يكون دليل تأويل أحد المؤوّلين المتعارضين راجحا على دليل تأويل الآخر ، فيقدّم الأوّل على الثاني ، ووجهه ظاهر.

السادس : أن يكون أحد العامّين المتعارضين واردا على سبب خاصّ ، والآخر ليس كذلك ، ففي ذلك السبب يقدّم العامّ الوارد عليه ؛ لقوّة دلالته فيه ، وفي غير ذلك السبب يقدّم العامّ الآخر ؛ للاختلاف في شمول الوارد على سبب لغيره.

السابع : أن يكون أحد العامّين المتعارضين خطاب مشافهة لبعض من يتناوله ، والعامّ الآخر ليس كذلك ، فيقدّم عامّ المشافهة فيمن شوفهوا به ، وفي غيرهم يقدّم الآخر.

ص: 984


1- راجع : الكافي 1 : 1. باب اختلاف الحديث ، وتهذيب الأحكام 6 : 301 و 302.
2- راجع : الكافي 1 : 1. باب اختلاف الحديث ، وتهذيب الأحكام 6 : 301 و 302.
3- منهم العلاّمة في تهذيب الوصول : 279.
4- حكاه الفخر الرازي في المحصول 5 : 434.

الثامن : أن يكون أحد العامّين ممّا لم يعمل به في صورة من الصور ، والآخر عمل به ولو في صورة.

فقيل : يقدّم الأوّل على الثاني ليعمل به ، فيقع العمل بهما ، ولو قدّم على ما عمل به لزم إلغاء الأوّل بالكلّيّة ، والجمع ولو بوجه أولى (1).

وقيل بالعكس ؛ لأنّ العمل من شواهد الاعتبار (2).

التاسع : أن يكون أحد العامّين أمسّ بالمقصود وأقرب إليه ، والآخر ليس كذلك ، فيقدّم الأوّل على الثاني ، فقوله : ( وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ) (3) يقدّم في مسألة الجمع بينهما في وطء النكاح على قوله : ( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) (4) ؛ لأنّه أمسّ بمسألة الجمع.

تذنيب

بعض الترجيحات المتقدّمة منصوصة في بعض أخبارنا ، كترجيح رواية الأوثق والأصدق والأفقه والأورع (5) على رواية غيرهم ، وترجيح المشهور (6) على غيره ، والموافق للقرآن أو السنّة على غير الموافق لهما (7) ، والمخالف لمذهب العامّة على الموافق له (8) ، والأحدث على غيره (9) ، والموافق للاحتياط على المخالف له (10).

وقد وقع فيها مخالفة الترتيب ، ففي البعض قدّمت الموافقة للكتاب ، وفي الآخر قدّم الشهرة ، وفي الآخر المخالفة لمذهب العامّة ، وفي الآخر أصحّيّة السند (11).

وعلى هذا يلزم الإشكال إذا كان أحدهما موافقا للقرآن ، والآخر مخالفا لمذهب العامّة ،

ص: 985


1- قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 276.
2- قاله العلاّمة في تهذيب الوصول : 279.
3- النساء (4) : 23.
4- النساء (4) : 3.
5- الفقيه 3 : 9 ، ح 3236 ، وتهذيب الأحكام 6 : 301 ، ح 844 و 845.
6- الكافي 1 : 68. باب اختلاف الحديث ، ح 10 ، تهذيب الأحكام 6 : 301 - 302 ، ح 845.
7- الكافي 1 : 68. باب اختلاف الحديث ، ح 10 ، تهذيب الأحكام 6 : 301 - 302 ، ح 845.
8- الكافي 1 : 68. باب اختلاف الحديث ، ح 10 ، تهذيب الأحكام 6 : 301 - 302 ، ح 845.
9- الكافي 1 : 67 ، باب اختلاف الحديث ، ح 8 و 9.
10- عوالي اللآلئ 4 : 133 ، ح 229.
11- راجع : الكافي 1 : 67 و 68 ، باب اختلاف الحديث ، ح 8 - 10 ، والفقيه 3 : 9 ، ح 3236 ، وتهذيب الأحكام 6 : 301 و 302 ، ح 844 و 845.

أو أصحّ سندا ؛ فالرجوع إلى هذه الروايات في الترجيح من غير التمسّك ينافي وجوه التراجيح ، واعتبار الظنون الاجتهاديّة غير كاف لاستنباط الأحكام.

نعم ، الظاهر من الأخبار والموافق للاعتبار أنّ العرض على كتاب اللّه مقدّم ، فإذا وافق أحدهما الكتاب ، وخالف الآخر مذهب العامّة ، أو كان أصحّ سندا ، يؤخذ بموافق القرآن. والأخبار الدالّة على أخذ الأوفق بالقرآن لا تحصى كثرة ، وكذا المستفاد منهما تقدّم الموافقة للسنّة على غير الموافقة للقرآن من وجوه التراجيح.

ثمّ اعلم أنّ طرح الخبر الموافق لمذهب العامّة ، وحمله على التقيّة إنّما يصحّ إذا كان موافقا لمذهب جميعهم أو أكثرهم ، أو علم أنّ مدلوله كان معمولا به عندهم في زمان الإمام الذي اسند إليه الخبر ، أو علم بقرائن خارجيّة أنّه خرج مخرج التقيّة ، فليس لأحد أن يحمل الخبر على التقيّة بمجرّد موافقته لمذهب بعضهم ؛ فإنّ مذاهب العامّة في الأحكام لم تكن منحصرة في عصر الصادقين بالمذاهب الأربعة ، ولم يكن أهل الاجتهاد والفتوى فيهم منحصرا بأئمّتهم الأربعة ، بل كان مذاهبهم غير محصورة ، وأرباب الاجتهاد والآراء فيهم كثيرين. وقد نقل في تواريخهم أنّ أهل الكوفة يعملون في عصر الصادق عليه السلام بفتاوى أبي حنيفة وسفيان الثوريّ ورجل آخر ، وأهل البصرة بفتاوى عثمان وسوار وسعيد والربيع ، وأهل الشام بفتاوى الأوزاعي والوليد ، وأهل مصر بفتاوى الخليل بن سعد ، وأهل خراسان بفتاوى عبد اللّه بن مبارك ، وكان فيهم من أهل الفتاوى غير هؤلاء كثيرين (1) ، كسعيد بن المسيّب ، والزهري ، وربيعة الراوي ، وسفيان بن عيينة وغيرهم (2). وكلّ واحد من هؤلاء كان إمام قوم برأسه. وكان الرؤساء الأربعة كغيرهم من أهل الآراء ، ومذاهبهم الأربعة كغيرها من المذاهب إلى أن مال الرشيد إلى الحنفيّة ، وغيره إلى غيرها ، ولكن لم تترك المذاهب الأخر إلى أن أجمعوا على حصرها في الأربعة في سنة خمس وستّين وستّمائة ، فصارت أشهر من غيرها (3).

ومن هنا يعلم أنّ مخالفة العامّة أقلّ وجودا من سائر وجوه التراجيح المنصوصة.

ص: 986


1- منصوبان على الحال.
2- منصوبان على الحال.
3- راجع في الفوائد الحائرية : 220 - 221 ، وروضات الجنّات 1 : 191 و 4 : 306 - 308 : « في سنة خمس وستّين وثلاث مائة » وراجع أيضا أساس الأحكام في نهاية الأصل الرابع.

فصل [3]

اشارة

لمّا عرفت (1) وجوه التراجيح في الخبرين المتعارضين ، فاعلم أنّ الترجيح بين الآيتين المتعارضتين إنّما يكون ببعض تلك الوجوه ، كالموافقة للأصل ، أو الإجماع ، أو الشهرة ، أو الآية الاخرى ، أو السنّة ، أو غير ذلك. ومع عدم الظفر بواحد منها ، وعدم إمكان جعل إحداهما ناسخة للاخرى ؛ لجهل التأريخ يتخيّر المجتهد في العمل بأيّتهما شاء.

وأمّا الإجماعان الظنّيان المتعارضان ، فإن كانا منقولين بأخبار الآحاد ، بأن يدّعي بعض الإجماع على حكم ، والآخر على خلافه ، فحكمهما في الترجيح حكم الخبرين المتعارضين. وإن كانا استنباطيّين ، بأن يعلم بالفحص اتّفاق جماعة من أهل الحلّ والعقد على حكم ، واتّفاق آخرين على خلافه - وهذا في الحقيقة تعارض شهرتين - فيرجّح المتقدّمة منهما على المتأخّرة ، كالصحابة على التابعين ، والتابعين على تبعهم ، وعلى هذا الترتيب ؛ لأنّهم أعلى رتبة وأقرب إلى المعصوم. ويمكن أيضا ترجيح إحداهما ببعض الوجوه المتقدّمة.

وأمّا الأصلان المتعارضان ، فيمكن ترجيح أحدهما ببعض الوجوه المتقدّمة ، من الموافقة للكتاب ، أو السنّة ، أو أصل آخر ، أو إجماع ، أو شهرة ، وقد يغلب بالاحتياط ، أو ببعض وجوه واعتبارات أخر ، ومع فقد الترجيح فالحكم التخيير ، أو التوقّف والاحتياط.

فلو تيقّن الطهارة والحدث وشكّ في اللاحق منهما ، فاستصحاب حكم كلّ واحد منهما يوجب تعارض الاستصحابين إلاّ أنّ الأقوى البناء على الحدث ؛ للشهرة والاحتياط ، ولو صلّي جمعتان فصاعدا في فرسخ فما دون ، واشتبه السبق والاقتران ، تعارض أصلا عدم تقدّم كلّ منهما ولا يمكن الترجيح ، فيجب على الجميع إعادة الجمعة.

وقد تقدّم بعض أمثلة تعارض الأصلين فيما تقدّم (2) ، وتقدّم أيضا كيفيّة الترجيح والخلاص في تعارض الأصل والظاهر (3).

ص: 987


1- في ص 974 وما بعدها.
2- في ص 982.
3- تقدّم آنفا.

وأمّا القياسان المتعارضان ، فلمّا اشترطنا في حجّيّة القياس التنصيص على العلّة أو التنبيه عليها ، وحكم الأصل لا بدّ له من دليل ، فما دليل العلّة فيه قطعي أولى من غيره ، وكذا ما حكم أصله قطعي أرجح من غيره ، ولو ارتفع القطع وصار القياسان ظنّيين فالتعارض فيهما قريب من التعارض في الخبرين ؛ لرجوع النزاع إلى النصّ في العلّة والدليل المثبت لحكم الأصل ، فيرجّح أحدهما ببعض الوجوه المتقدّمة.

وقد ذكر العامّة أنّ أحد القياسين المتعارضين يرجّح على الآخر بوجوه (1) :

الأوّل : بحسب أصله ؛ فيقدّم ما هو أصله قطعي على ما هو ظنّي ، وفي الظنّي يقدّم ما هو دليله أقوى ، وما لم ينسخ باتّفاق على ما اختلف في كونه منسوخا ، وما قام دليل خاصّ على تعليله وجواز القياس عليه على غيره ، وما على سنن القياس باتّفاق على ما اختلف في كونه على سننه.

الثاني : بحسب علّته ؛ فيقدّم العلّة القطعيّة على الظنّيّة ، والباعثة على الأمارة ، والوصف الحقيقي على الاعتباري ، والثبوتيّ على العدمي ، والعلّة المنضبطة على المضطربة ، والظاهرة على الخفيّة ، والمتّحدة على المتعدّدة ، والمتعدّية في فروع أكثر على المتعدّية في الأقلّ ؛ لكثرة الفائدة ، والمطّردة على المنقوصة ، والمنعكسة على غير المنعكسة ، والمطّردة غير المنعكسة على المنعكسة غير المطّردة ، والجامعة المانعة للحكمة على ما ليس كذلك ، والمنقوصة التي كان موجب التخلّف فيها قويّا على التي كان موجب التخلّف فيها ضعيفا ، والعلّة التي لا مزاحم لها في الأصل - أي لا يكون معارضة - على التي تكون معارضة ، والمعارضة الراجحة على المزاحم على المعارضة المرجوحة عنه ، والعلّة المقتضية للنفي على المقتضية للثبوت ؛ لتأييدها بالنفي الأصلي - وقيل بالعكس (2) ؛ لأنّ المثبتة تفيد حكما شرعيّا - والعامّة لجميع المكلّفين على الخاصّة ببعضهم ؛ لكثرة الفائدة.

الثالث : بحسب دليل العلّة ؛ فيقدّم ما دليل علّيّتها قطعي على ما دليل علّيّتها ظنّي ، وما

ص: 988


1- راجع الإحكام في أصول الأحكام 4 : 284 - 291.
2- قاله الشوكاني ونقل عن إمام الحرمين ( الجويني ) نسبته إلى جمهور الفقهاء في إرشاد الفحول 2 : 271.

دليل علّيّتها يفيد ظنّا أقوى على ما دليل علّيّتها يفيد ظنّا أضعف ، والنصّ والإجماع على غيرهما من مسالك العلّيّة ، والتعليل باللام على التعليل بالباء ، و « إنّ » وهو على التعليل بغيرهما من الحروف التي قد يستفاد منها التعليل ، والتنبيه على المناسبة ، والمناسبة التي من الخمسة الضروريّة على غيرها من الحاجيّة والتحسينيّة ، والضرورة الدينيّة على الدنيويّة ؛ لأنّها المقصود الأعظم - وقيل بالعكس ؛ لتقدّم حقّ الآدمي على حقّ اللّه (1) - والحاجيّة على التحسينيّة ، والتكميليّة من الخمسة الضروريّة على أصل الحاجة ، ومطلق المناسبة على الدوران ، والدوران في محلّ على الدوران في محلّين ، وهو على السبر ، وهو على الشبه ، وهو الطرد ، وإذا كان طريق ثبوت العلّيّة في القياسين هو نفي الفارق ، يقدّم ما طريق نفي الفارق فيه أقوى.

الرابع : بحسب الفرع ؛ فيقدّم ما وجود العلّة في فرعه مقطوع به على ما وجودها فيه مظنون ، وما ظنّ وجود العلّة فيه أغلب على غيره ، وما المشاركة فيه في عين الحكم وعين العلّة على ما المشاركة فيه في جنس الحكم وعين العلّة ، أو عين الحكم وجنس العلّة أو جنسها ، والأوّل من الثلاثة على الثاني منها ، والثاني على الثالث ؛ لأنّ العمدة هي العلّة ، فكلّما كان التشابه فيهما أكثر كان أقوى.

وغير خفيّ أنّ بعض هذه الترجيحات يتأتّى على ما ذهبنا إليه ، كما عرفت ، والبواقي متروكة عندنا.

تتميم

قد يتعارض الترجيحات في الدلائل ومقدّماتها ، وتحصل من ملاحظة وحدة دليل كلّ من الطرفين وتعدّده ، ووحدة ترجيح كلّ من الأدلّة وتعدّده صور غير متناهية ، ولا بدّ للمجتهد عند تعارض الترجيحات من نظر آخر للترجيح بينها.

وبعد الإحاطة بما ذكرناه لا يخفى جليّة الحال فيه.

ص: 989


1- ذكره الآمدي بعنوان « إن قيل » في الإحكام في أصول الأحكام 4 : 287.

قد تمّ كتاب أنيس المجتهدين ، والحمد لله على إتمامه.

وقد فرغت عنه في يوم الثامن من العشر الأول من الشهر الخامس من السنة السادسة من العشر التاسع من المائة الثانية من الألف الثاني من الهجرة النبويّة ، على هاجرها (1) ألف صلاة وتحيّة. [ 8 جمادى الأولى سنة 1186 ]

أسأل اللّه أن يقيل به بعض عثراتي ، ويكتبه في صحائف حسناتي ، ويجعله ممّا ينتفع به الأذكياء ، ويوصل إليّ آخره في دار الجزاء.

ص: 990


1- كما في الأصل ، والصحيح : « مهاجرها ».

الفهارس العامّة

اشارة

1. فهرس الآيات الكريمة

2. فهرس الأحاديث الشريفة

3. فهرس أسماء المعصومين عليهم السلام

4. فهرس الأعلام

5. فهرس الاصطلاحات

6. فهرس الكتب الواردة في المتن

7. فهرس مصادر التحقيق

8. فهرس الموضوعات ( الجزء الثاني )

ص: 991

ص: 992

1. فهرس الآيات الكريمة

الفاتحة (1)

( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) (7)... 191

البقرة (2)

( يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ) (21)... 167

( يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا ) (21)... 677

( فَأْتُوا بِسُورَةٍ ) (23)... 601

( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) (29)... 387

( وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (29)... 741

( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا ... ) (34)... 605

( إِلاَّ إِبْلِيسَ ) (34)... 763

( اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) (36)... 739

( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ ) (37)... 85

( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ) (43)... 841

( وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً ) (58)... 739

( كُلُوا وَاشْرَبُوا ) (60)... 600

( كُونُوا قِرَدَةً ) (65)... 601

ص: 993

( أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) (67)... 829

( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) (67)... 837

( أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) (67)... 841

( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) (67)... 841

( ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ ) (68)... 841

( إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ ) (68)... 841

( ما لَوْنُها ) (69)... 841

( فاقِعٌ لَوْنُها ) (69)... 841

( صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها ) (69)... 837

( وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ) (71)... 841

( ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ ) (85)... 706

( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ) (106)... 880

( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) (110)341

( كُنْ فَيَكُونُ ) (117)... 601 ، 735

( رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ) (128)... 160

( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ) (130)... 331

( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) (143)... 341

( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) (148)... 636

( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى ) (159)... 236

( يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً ) (168)... 388

( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) (169)... 904

( إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ ) (173)... 388

( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) (184)... 827

( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ) (185)... 427

ص: 994

( أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (187)... 93

( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ ) (187)... 852

( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ ) (187)... 852

( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) (187)... 852

( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ ) (187)... 884

( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) (196)... 363

( فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ ) (196)... 827

( وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) (196)... 616

( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ ) (197)... 210

( وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ ) (217)... 823

( وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ) (217)... 823

( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ ) (221)... 805

( يَطْهُرْنَ ) (222)... 192

( فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ ) (222)... 616

( وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ) (222)... 449 ، 796 ، 855

( ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (228)... 44

( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ ) (228)... 614 ، 727

( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ) (228)... 727 ، 812

( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (228)... 805 ، 812

( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) (229)... 857

( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) (230)... 65

( فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) (230)... 855

( أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (231)... 704

( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ ) (233)... 614

ص: 995

( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ ) (234)... 805

( أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) (234)... 805

( لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ) (236)... 814

( فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ ) (237)... 450

( أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ) (237)... 830

( وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ ) (237)      814

( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ) (238)... 728

( لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ) (264)... 160

( وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (275)... 450 ، 718 ، 811

( وَحَرَّمَ الرِّبا ) (275)... 76

( مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ ) (282)... 823

( وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (282)... 837

( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ) (282)... 858

( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ ) (282) 893

( وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (283)... 861

( لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا ) (286)... 680

آل عمران (3)

( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ... ) (7)... 198

( فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) (31)... 308

( سَيِّداً وَحَصُوراً ) (39)... 332

( إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ) (75)... 707

( كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ ) (93)... 954

( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) (97)... 167

( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (97)... 798

ص: 996

( اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) (102)... 427

( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ) (110)... 193

( لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا ) (130)... 680

( لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً ) (130)... 863

( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) (133)... 636

( وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (134)... 729

النساء (4)

( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى ) (2)... 193

( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) (3)... 985

( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً ... ) (10)... 855

( فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ) (11)... 888

( يُوصِيكُمُ اللّهُ ) (11)... 807

( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) (11)... 712

( مَنْ يَعْصِ اللّهَ ) (14)... 608

( فَاسْتَشْهِدُوا ) (15)... 600

( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ) (22)... 65 ، 73 ، 76

( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) (23)... 703 ، 730

( وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ) (23)... 985

( وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ ) (23)... 856

( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) (24)... 808 ، 885

( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ ) (24)... 830

( فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ ) (25)... 804

( يُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُخَفِّفَ ) (28)... 427

( إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (29)... 763

ص: 997

( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ) (43)... 823

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) (43) 171

( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) (59)... 310

( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (59)... 609

( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ ) (59)... 341

( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ ) (59)... 197 ، 363

( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) (59)... 677

( ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ) (66)... 774

( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ) (80) 609

( لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ ) (83)... 198

( فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها ) (86)... 640

( إِلاَّ خَطَأً ) (92)... 763

( فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ ) (92)... 827

( غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ) (95)... 769

( لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ ... ) (95)... 769

( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ ) (101)... 859

( وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ ) (115)... 340

( إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ ) (157)... 763

( ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ ) (157)... 774

( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ ) (163)... 331

( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ ) (163)... 331

( وَلا تَقُولُوا عَلَى اللّهِ ) (171)... 390

( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ) (176)... 707

ص: 998

المائدة (5)

( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) (1)... 753

( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) (2)... 616 ، 617

( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) (3)... 829

( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) (3) 913

( أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) (4)... 388

( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) (5)... 805

( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ) (5)... 823

( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ) (6)... 629 ، 447

( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) (6)... 313

( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) (6)... 88 ، 833

( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) (6)... 309 ، 626

( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) (6)... 823

( نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ ) (15)... 198

( إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) (27)... 160 ، 659

( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ) (38)... 80 ، 504

( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا ) (38)... 447 ، 626 ، 703

( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ) (38)... 313 ، 754 ، 841

( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ) (44)... 331

( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ ... ) (44)... 952

( هُدىً وَنُورٌ ) (44)... 198

( وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ ) (45)... 210

( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) (45)... 332

( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (47)... 243

ص: 999

( ما آتاكُمْ ) (48)... 311

( بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) (67)... 845

( فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ) (89)... 192

( لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) (89) 450

( لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) (101)... 680

( وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (120)... 798

الأنعام (6)

( لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) (19)... 735

( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ) (28)... 681

( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) (38)... 912 ، 913 ، 952

( وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) (59)... 912 ، 952

( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (72)... 600

( فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) (90)... 330

( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ ) (121)... 556

( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) (141)... 829

( كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ ) (142)... 601

( لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ) (145)... 388

( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ... ) (145)... 821

( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ ... ) (145)... 884

( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ ) (151)... 388

( فَاتَّبِعُوهُ ) (153)... 308 ، 803

الأعراف (7)

( أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ ) (4)... 86

( ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ) (12)... 605 ، 636

ص: 1000

( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) (32)... 388

( إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ) (33)... 388

( ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) (59)... 92

( فَما ذا تَأْمُرُونَ ) (110)... 597

( وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها ) (145)... 431

( فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ) (166)... 681

الأنفال (8)

( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) (11)... 715

( اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ ) (24)... 609

( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ) (41)... 327

( فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ) (41)... 840

( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ) (42)... 389

التوبة (9)

( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) (5)... 616

( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) (5)... 80 ، 845

( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ ) (6)... 707

( وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ ) (20)... 706

( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ) (28)... 460

( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (31)... 914

( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ ... ) (34)... 724

( وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ) (36)... 73

( عَفَا اللّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ) (43)... 949

( إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ) (80)... 864

( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (91)... 123

ص: 1001

( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ) (103)... 672 ، 728 ، 811

( وَما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ) (115)... 389

( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا ... ) (122)  232

( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ) (122)... 234

( فَلَوْ لا نَفَرَ ) (122)... 903

يونس (10)

( قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى ) (15)... 948

( أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ ) (80)... 601

هود (11)

( حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ ) (40)... 594

( أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ) (73)... 594

( وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) (97)... 594 - 595

يوسف (12)

( فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ) (32)... 89

( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) (72)... 333

( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) (82)... 75 ، 837 ، 851

( وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (103)... 770

الرعد (13)

( اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (16)... 741 ، 798

( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) (21)... 756

( يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ) (39)... 879

إبراهيم (14)

( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ ) (4)... 38 ، 43 ، 62

ص: 1002

( تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) (10)... 398

( قُلْ تَمَتَّعُوا ) (30)... 600

( لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ) (32)... 595

( وَلا تَحْسَبَنَّ اللّهَ غافِلاً ) (42)... 680

الحجر (15)

( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) (9)... 194

( فَإِذا سَوَّيْتُهُ ) (29)... 636

( إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) (42)... 770

( ادْخُلُوها بِسَلامٍ ) (46)... 601

( وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ ) (56)... 774

( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) (88)... 680

( وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) (88)... 680

النحل (16)

( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (43) 904 ، 956 ، 958 ، 960 ، 962

( فَسْئَلُوا ) (43)... 965

( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (44)... 806

( وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) (89)... 363

( تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) (89)... 806 ، 807

( وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) (114)... 861

( ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ) (123)... 330

الإسراء (17)

( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ ) (15)... 103

( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (15)... 101 ، 388

( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ) (23)... 455

ص: 1003

( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ) (31)... 856

( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى ) (32)... 682

( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ ) (36)... 390

( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (36)... 226 ، 237 ، 904

( كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً ) (50)... 601

( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (78)... 130

الكهف (18)

( يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ ) (31)... 92

مريم (19)

( إِلاَّ مَنْ تابَ ) (60)... 787

( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) (65)... 707

( هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ ) (98)... 707

طه (20)

( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) (14)... 332

( أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ) (93)... 608

الأنبياء (21)

( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا ) (22)... 764

( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) (98)... 841

( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ ... ) (101)... 842

( وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ) (107)... 485

الحجّ (22)

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ) (18)    50

( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) (30)... 830

ص: 1004

( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (78)... 427

( جاهِدُوا فِي اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ ) (78)... 427

المؤمنون (23)

( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) (60)... 427

النور (24)

( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ) (2)... 80

( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا ) (2)... 629 ، 703 ، 803 ، 841

( فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ) (4)... 855

( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ... ) (4) 789

( إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ) (5)... 789

( لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ) (30)... 739

( أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ ) (31)... 718

( وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ ) (31)... 739

( فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ) (33)... 50 ، 618

( فَكاتِبُوهُمْ ) (33)... 600

( وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ ) (33)... 502

( وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ) (33)... 860

( وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ ) (61)... 88

( الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ ) (63)... 607

( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) (63)... 310 ، 596

( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (63) 606

( عَنْ أَمْرِهِ ) (63)... 607

( أَنْ تُصِيبَهُمْ ... ) (63)... 607

ص: 1005

النمل (27)

( وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) (23)... 799

( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللّهُ ) (65)... 774

القصص (28)

( وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ) (77)... 680

( فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ) (79)... 89

العنكبوت (29)

( أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً ) (14)... 749

( فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً ) (14)... 768

( إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ ) (31)... 712

الروم (30)

( وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ ) (22)... 39

لقمان (31)

( وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ ) (14)... 141 ، 852

السجدة (32)

( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ) (18)... 724

الأحزاب (33)

( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ) (21) 307

( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ) (35)... 739

( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ) (35)... 739

( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (36)    608

( فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ ... ) (37)    310

( إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ ) (56)... 50

ص: 1006

سبأ (34)

( أَفْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ) (8)... 214

يس (36)

( وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) (61)... 167

الصّافّات (37)

( افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ) (102)... 879

( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا ) (105)... 879

( إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ* وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) ( 106 - 107)... 879

ص (38)

( ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ... ) (27)... 951

( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ) (44)... 333

الزمر (39)

( فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (18)... 430

( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) (55)... 431

غافر (40)

( وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) (31)... 729

فصّلت (41)

( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ* الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ ) ( 6 - 7 )... 168

( لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) (42)... 876

الشورى (42)

( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ) (13)... 331

الزخرف (43)

( إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) (23)... 221

ص: 1007

الدخان (44)

( ذُقْ ) (49)... 601

الأحقاف (46)

( وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) (15)... 141 ، 852

( يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) (31)... 92

محمّد (47)

( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ ) (19)... 959

الحجرات (49)

( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ) (6)... 155

( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ ) (6)... 234

الطور (52)

( فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا ) (16)... 600

النجم (53)

( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ) (3)... 329

( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى ) ( 3 - 4 )... 948

( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ) (23)... 226

( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (28)... 237

القمر (54)

( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) (17)... 187

( وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ ) (50)... 594

الرحمن (55)

( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) (13)... 187

( فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ) (68)... 707

ص: 1008

الواقعة (56)

( إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً ) (26)... 763

( لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) (79)... 615

المجادلة (58)

( فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ) (4)... 823

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا ) (8)... 681

الحشر (59)

( يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ) (2)... 507

( فَاعْتَبِرُوا ) (2)... 948

( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللّهَ وَرَسُولَهُ ... ) (4)... 507

( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) (7)... 310

( وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (7)... 681

( وَما نَهاكُمْ ) (7)... 311

( لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ ) (20)... 722 ، 723

الجمعة (62)

( فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ) (9)... 450

( فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا ) (10)... 616

المنافقون (63)

( نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّهِ ) (1)... 214

( وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ ) (1)... 214

التغابن (64)

( فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) (16)... 427

الطلاق (65)

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ) (1)... 814

ص: 1009

( لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ) (1)... 814

( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (2)... 823

( وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) (4)... 805

( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) (7)... 389

التحريم (66)

( لا يَعْصُونَ اللّهَ ما أَمَرَهُمْ ) (6)... 608

( لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ ) (7)... 680

الحاقّة (69)

( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ) ( 44 - 45)... 904

الجنّ (72)

( وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ) (23)... 608

المزّمّل (73)

( يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ) (1)... 742

( كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً* فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ) ( 15 - 16)... 720

( فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ) (16)... 702

المدّثّر (74)

( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) (1)... 742

( ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) ( 42 - 43)... 168

القيامة (75)

( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) (19)... 840

الإنسان - الدهر (76)

( وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ) (24)... 87

ص: 1010

المرسلات (77)

( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) (15)... 187

( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ) (48)... 607

( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) (49)... 607

التكوير (81)

( عَسْعَسَ ) (17)... 44

الانفطار (82)

( إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ) ( 13 - 14)... 724

الشمس (91)

( وَالسَّماءِ وَما بَناها ) (5)... 842

الشرح - الانشراح (94)

( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ) (5)... 719

( إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ) (6)... 719

العاديات (100)

( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) (8)... 90

العصر (103)

( إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا ) ( 2 - 3)... 718

ص: 1011

2. فهرس الأحاديث الشريفة

الأئمّة من قريش... 711

الاثنان فما فوقهما جماعة... 722 ، 835

اجتمع رأيي ورأي أبي بكر وعمر في أمّ الولد أن لاتباع ، وقد رأيت الآن بيعهنّ... 463

أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على اللّه... 905

اجلس في مسجد المدينة وأفت ، فإنّي احبّ أن أرى من شيعتي مثلك... 904

اخراهنّ بالتراب... 828

ادرءوا الحدود بالشبهات... 550

أدنى ما للإمام أن يفتي على سبعة وجوه... 189

إذا اختلف المتبايعان فليتحالفا وليبرآ... 546

إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء... 719 ، 861 ، 943 ، 945

إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل خبثا... 810 ، 861

إذا بلغ الماء كرّا لم يحمل خبثا... 745

إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل... 309

إذا حدّثتم بحديث فأسندوه إلى الذي حدّثكم... 273

إذا روي عنّي حديث فأعرضوه على كتاب اللّه ، فإن وافقه فاقبلوه ، وإن خالفه فردّوه 808

إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، فاجلدوه حدّ المفتري... 550

إذا قصّرت أفطرت ، وإذا أفطرت قصّرت... 419 ، 423

 

ص: 1012

أ رأيت لو اشترك نفر في سرقة البيت تقطعهم؟... 462

أرأيت لو تمضمضت بماء ، ثمّ مججته أكنت شاربه؟... 465

أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته ، كان ينفعه ذلك؟... 448

أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم... 953

أعتق رقبة ( واقعت أهلي في نهار رمضان )... 440

أعربوا كلامنا ؛ فنحن قوم فصحاء... 254

اعرفوا منازل الرجال على قدر روايتهم عنّا... 915

اعمدا في دينكما إلى كلّ مسنّ في حبّنا و [ كلّ ] كثير القدم في أمرنا... 915

إلاّ اخبركم بخير الشهود؟... 974

إلاّ إنّ القبلة قد حوّلت... 885

إلاّ يدا بيد... 827

أمّا الحوادث الواقعة ، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ؛ فإنّهم حجّتي عليكم... 915

أم أنزل اللّه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه ، أم كانوا شركاء له... 912

أما واللّه ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ، ولو دعوهم ما أجابوهم ، ولكن أحلّوا لهم حراما 914

امرت أن اقاتل الناس حتّى يقولوا : أن لا إله إلاّ اللّه ، فإذا قالوه فقد حقنوا منّي دماءهم 712

أمسك أربعا ، وفارق سائرهنّ... 732 ، 849

إنّ أبا الخطّاب قد كذب على أبي عبد اللّه عليه السلام... 937

إن أخذتم بها رشدتم ونجوتم ، وإن تركتموها ضللتم وهلكتم ، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم   915

أنّ اللّه أجلّ من أن يخاطب مع قوم ، ويريد منهم خلاف ما هو بلسانهم وما يفهمونه... 62

إنّ اللّه أحلّ حلالا وحرّم حراما وفرض فرائض وضرب... 905

إنّ اللّه لم يدع شيئا يحتاج إليه الأمّة إلاّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله ،... 912

إنّ اللّه لم يقبض نبيّه صلى اللّه عليه وآله حتّى أكمل الدين ، وأنزل عليه القرآن فيه... 913

أنّ الأمّة لا تجتمع على الخطأ... 968

إن تخالف المتبايعان في القدر أو الصفة ، فليتحالفا وليترادّا... 862

 

ص: 1013

إن خرج الدم من الأيسر فهو حيض ، وإن خرج من الأيمن فهو قرحة... 907

إنّ دم الحيض أسود يعرف ، فإذا كان ذلك ، فأمسكي عن الصلاة ،............. و 733

انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا... 925

إنّ في حديثنا محكما كمحكم القرآن ، ومتشابها كمتشابه القرآن... 907

إنّ في أيدي الناس حقّا و ... ومحكما ومتشابها ، وحفظا ووهما ، وقد كذب على رسول اللّه   907

أنّ القدر الذي يمتاز به الواجب هو سبعون درجة... 158

أنّ القرآن ذلول ذو وجوه ، فاحملوه على أحسن الوجوه... 197

إنّ القضاة أربعة ، ثلاثة في النار وواحد في الجنّة... 905

أنّ للقرآن ظهرا وبطنا... 197

إنّما الأعمال بالنيّات... 275 ، 855

إنّما الربا في النسيئة... 848

أنّه إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا : إحداهنّ بالتراب... 827

أنّها لمن شهد له بالنتاج... 459

إنّها ليست بنجسة ، إنّها من الطوّافين عليكم... 449

إنّه لم يعص اللّه ، إنّما عصى سيّده ، فإذا أجازه فهو جائز له... 696

إنّي أرجو أن أكون أخشاكم... 310

إنّي تارك فيكم الثقلين... 197

أن يحدّثك الرجل بالحديث فتتركه وترويه عن الذي حدّثك... 273

أن يشهد الرجل قبل أن يستشهد... 974

أنّ اليقين بالطهارة لا ينقض بالشكّ في الحدث ، و... 411

أولاهنّ بالتراب... 828

إيّاك أن تنصب رجلا دون الحجّة ، فتصدّقه في كلّ ما قال... 914

إيّاكم والكذب المفترع... 273

إيّاك وخصلتين هلك بهما من هلك : أن تفتي الناس برأيك ، أو تدين بما لا..... تعلم 905

 

ص: 1014

أيّما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليّها فنكاحها باطل ، باطل ، باطل... 849

أيّما إهاب دبغ فقد طهر... 811

أيّها الناس ، اتّقوا اللّه ولا تفتوا الناس بما لا تعلمون... 905

بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ... 364

تبكي منه المواريث ، وتصرخ منه الدماء ، وتولول منه الفتيا ، ويستحلّ غير أهله... 905

ترد على أحدهم القضيّة في حكم من... 953

تستدخل القطنة ثمّ تخرجها ، فإن كان مطوّقا في القطنة فهو من العذرة ، وإن كان مستنقعا 459

تعلّموا الفرائض وعلّموها ، فإنّها أوّل ما تنسى... 364

تعمل هذه برهة بالكتاب ، وبرهة بالسنّة ، وبرهة بالقياس ، وإذا فعلوا ذلك فقد ضلّوا وأضلّوا  462

تفقّهوا في الدين ، فإنّه من لم يتفقّه منكم في الدين فهو أعرابي... 904

حتّى يأتي الدجّال... 968

حرّمت الخمر... 436

الحمّى من فيح جهنّم ، فابردوها بالماء... 823

الخال وارث من لا وارث له... 532

خبر تدريه خير من عشرين خبرا ترويه ... واللّه لا نعدّ الرجل من شيعتنا فقيها... 907

خذ المجمع عليه بين أصحابك... 381

خذوا بما رووا... 915

خذوا عنّي مناسككم... 309 ، 313 ، 838

خذي لك ولولدك ما يكفيك بالمعروف... 327

خلق اللّه الماء طهورا... 719

خلق اللّه الماء طهورا لا ينجّسه شيء إلاّ ما غيّر طعمه أو لونه أو ريحه 755 ، 809 - 810

خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم... 824

خير القرون القرن الذي أنا فيه ، ثمّ الذي يليه... 364

دباغها طهورها... 811

 

ص: 1015

دين اللّه أحقّ بالقضاء... 465

رفع عن امّتي الخطأ والنسيان... 731 ، 732 ، 834 ، 851

رفع عن امّتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه... 176

زمّلوهم بكلومهم ودمائهم ، فإنّهم يحشرون وأوداجهم تشخب دما... 447

ستفترق امّتي على بضع وسبعين فرقة أعظمهم فتنة قوم يقيسون الأمور برأيهم... 461

الشهر هكذا وهكذا وهكذا... 838

الشيخ والشيخة إذا زنتا فارجموهما نكالا من اللّه... 881

صدقة تصدّق اللّه بها عليكم ، فاقبلوا صدقته... 859

صلّوا كما رأيتموني... 309 ، 313 ، 838

الطواف بالبيت صلاة... 66

طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعا إحداهنّ بالتراب... 864

عليكم بدين العجائز... 960

علينا أن نلقي إليكم الأصول ، وعليكم أن تفرّعوا... 909 ، 916

فابردوها من ماء زمزم... 824

فدين اللّه أحقّ بأن يقضى... 448

فلا تكوننّ ممّن يقول للشيء : إنّه في شيء واحد... 756

فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا... 411

فمن أخذ بشيء منها ، فقد أخذ حظّا وافرا... 914

في أربعين شاة شاة... 502

في خمس من الإبل شاة... 76

في خمسة أوسق زكاة ، وفي خمس من الإبل شاة ، وفي أربعين شاة شاة... 89

في الرقّة ربع العشر... 820 - 821

في سائمة الغنم زكاة... 703

في الغنم زكاة... 809

 

ص: 1016

في الغنم السائمة زكاة... 809 ، 827

في كلّ أربعين شاة شاة... 827

فيما سقت السماء العشر... 806 ، 837

في النفس المؤمنة مائة من الإبل... 89

في [ قصّة ] مكّة لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها... 954

القرآن واحد ، نزل من عند واحد على نبيّ واحد ، وإنّما الاختلاف من جهة الرواة... 194

قضى بالشاهد واليمين... 725

قضى بالشفعة للجار... 725

كذّب من زعم أنّه يعرفنا وهو متمسّك بعروة غيرنا... 914

كلّ ذي عمل مؤتمن في عمله... 916

كلّ شيء في كتاب اللّه وسنّة نبيّه... 913

كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي... 103 ، 931

كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر... 412

كلّكم جائع إلاّ من أطعمته... 771

كلّ ماء طاهر حتّى يعلم أنّه قذر... 916 ، 944

لا تبادروني بالركوع والسجود ... إنّي قد بدّنت... 314

لا تبيعوا البرّ بالبرّ سواء بسواء... 848

لا تبيعوا الذهب بالذهب إلاّ مثلا بمثل... 827

لا تبيعوا الطعام بالطعام... 503 ، 504 ، 565

لا تبيعوا الطعام بالطعام إلاّ يدا بيد سواء بسواء... 543

لا تجتمع امّتي... 344

لا تجتمع امّتي على الخطأ... 342

لا ترجعوا بعدي كفّارا... 363

لا تزال طائفة... 344

 

ص: 1017

لا تزال طائفة من امّتي متظاهرين على الحقّ... 343

لا تزال طائفة منهم على الحقّ حتّى يأتي أمر اللّه... 968

لا تقبلوا علينا حديثا إلاّ ما وافق... 937

لا تنكح المرأة على عمّتها ، ولا على خالتها... 710 ، 808 ، 885

لا حرج في الدين... 916

لأزيدنّ على السبعين... 864

لا صلاة إلاّ بطهور... 66 ، 279 ، 730

لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب... 66 ، 730

لا صيام لمن لم يبيّت الصيام... 66

لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل... 77

لا ضرر ولا ضرار... 411

لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا... 915

لا قول إلاّ بعمل ، ولا عمل إلاّ بنيّة ، ولا نيّة إلاّ بإصابة السنّة... 66

لا ندع كتاب ربّنا ولا سنّة نبيّنا بقول أعرابيّ بوّال على عقبيه... 884

لا ندع كتاب ربّنا ولا سنّة نبيّنا بقول امرأة لا ندري... 884

لا نكاح إلاّ بوليّ... 66 ، 730

لا ، هو عند أهله... 913

لا يبولنّ أحدكم في الماء الراكد... 440

لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلاّ الكفّ والتثبّت... 904

لا يقضي القاضي وهو غضبان... 450 ، 452

لا يمين لولد مع والده... 66

لو استقبلت من أمري ما استدبرت ، لما سقت الهدي... 949

لو لا أن أشقّ على امّتي ، لأمرتهم بالسواك... 118 ، 954

اللّهمّ إنّ هذا المقام لخلفائك... 91

 

ص: 1018

ليس فيما دون خمسة أواق من الورق صدقة... 821

ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة... 806

ليس لعرق ظالم حقّ... 864

ليّ الواجد يحلّ عقوبته وعرضه... 862

ما ادّعى أحد من الناس أنّه جمع القرآن كلّه كما أنزل إلاّ كذّاب... 200

ما جعل اللّه لأحد خيرا في خلاف أمرنا... 914

ما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللّه حسن... 343 ، 431

ما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب اللّه... 913

ما من شيء إلاّ وفيه كتاب أو سنّة... 912

ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ، ظاهره وباطنه غير الأوصياء... 200

مطل الغنيّ ظلم... 862

ملكت نفسك فاختاري... 447

هذا مأوّل بذبح عبدة الأوثان ؛ لقوله صلى اللّه عليه وآله : اسم اللّه... 556

من أحيا أرضا ميتة فهي له... 328 ، 447

من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإن كان الناطق عن اللّه ، فقد عبد اللّه... 914

من أفتى الناس برأيه ، فقد دان اللّه بما لا يعلم ، ومن دان اللّه... 905

من بدّل دينه فاقتلوه... 86 ، 565 ، 810

من بلغه عن اللّه فضيلة فأخذها وعمل بما فيها إيمانا باللّه ورجاء ثوابه ،... 261 - 262

من حكم بدرهمين بغير ما أنزل اللّه ، فقد كفر باللّه... 905

من خاف ، تثبّت على التوغّل فيما لا يعلم ، ومن هجم على أمر بغير علم ، جدع أنف نفسه  904

من دان اللّه بغير سماع عن صادق ، ألزمه اللّه البتّة إلى الفناء ، ومن ادّعى... 914

من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه ، كان له أجره وإن لم يكن على ما بلغه... 262

من طلّق ثلاثا في مجلس على غير طهر لم يكن شيئا ، إنّما الطلاق الذي أمره اللّه عزّ وجلّ 696

من فارق الجماعة قدر شبر فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه... 343

 

ص: 1019

من قاء أو رعف أو أمذى فليتوضّأ... 504

من قتل قتيلا فله سلبه... 327

من كذب [ عليّ ] متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار... 254

من نام عن صلاة أو نسيها ، فليصلّها إذا ذكرها... 332

نحن نحكم بالظاهر... 249 ، 366

نزلت في رحم آل محمّد صلى اللّه عليه وآله ، وقد تكون في قرابتك... 756

نضّر اللّه امرأ سمع مقالتي فوعاها ، فأدّاها كما سمعها ، فربّ حامل فقه ليس بفقيه 254 ، 293

نعم ، وما يحتاجون إليه إلى يوم القيامة... 913

نهى عن أكل كلّ ذي ناب... 884

نهى عن بيع الغرر... 725

واترك الشاذّ النادر... 381

والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البيّنة... 411

واللّه لأغزونّ قريشا... 769

ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ ، ولكن ينقضه يقين آخر... 411

ولا ينقض اليقين بالشكّ ولا يدخل الشكّ في اليقين ، ولا يختلط أحدهما بالآخر... 411

وما تقرّب إليّ المتقرّبون بمثل أداء ما افترضت عليهم... 158

ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد اللّه عليها النار... 246

هو رسول اللّه ، من رآه فقد رآه... 335

اليقين لا يدخل فيه الشكّ... 411

اليقين لا ينتقض بالشكّ... 916

ص: 1020

3. فهرس أسماء المعصومين عليهم السلام

آدم عليه السلام 38 ، 39 ، 86 ، 101 ، 874

337، 363 ، 364 ، 375 ، 429 ، 448،

إبراهيم عليه السلام 736 ، 879

464، 609 ، 630 ، 672 ، 677 ، 681،

أبو جعفر عليه السلام 937

683، 712 ، 727 ، 734 - 742 ، 805 ،

أبو عبد اللّه عليه السلام 937

810، 814 ، 818 ، 819 ، 833 ، 838،

أبو محمّد عليه السلام 253 ، 913

841، 842 ، 860 ، 873 ، 875 ، 879،

الباقر عليه السلام 256 ، 268 ، 696 ، 905 ، 912 ، 917

885 - 888 ، 910 ، 912 - 914 ، 917 ،

الجواد عليه السلام 305

918، 936 ، 948 ، 950 ، 952 ، 954،

رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله - الرسول - محمّد - النبيّ 56 ،

957، 959 ، 962 ، 963 ، 968 ، 978،

57 ، 100 ، 101 ، 128 ، 129 ،

980 ، 981

159 ، 173 - 175 ، 179 ، 180 ،

الرضا عليه السلام 192 ، 335 ، 913 ، 937

186 ، 189 ، 191 - 195 ، 197 ،

الصادق عليه السلام 88 ، 189 ، 200 ، 242 ،

198 ، 200 ، 202 ، 209 ، 214 ،

246، 262 ، 264 ، 266 ، 268 ، 273،

215 ، 222 ، 223 ، 226 ، 230 ،

286 ،299 ، 303 ، 360 ، 412 ، 756،

231 ، 233 - 237 ، 239 ، 254 ،

819، 833 ، 834 ، 861 ، 904 ، 905،

261 ، 266 - 268 ، 272 ، 273 ،

907 ، 910 - 912 ، 914 ، 915 ، 925 ،

275 ، 277 ، 278 ، 292 ، 298 ،

986

304 ، 306 ، 307 ، 309 - 311 ،

الصادقين عليهما السلام 57 ، 62

315 ، 323 ، 330 ، 335 ،

العسكريّ عليه السلام 264 ، 915

ص: 1021

عليّ عليه السلام - عليّ بن أبي طالب 188 ،

القائم عليه السلام 911 ، 915

191 ، 193 ، 200 ، 222 ، 223 ،

الكاظم عليه السلام 286 ، 913

228 ، 375 ، 459 ، 461 - 464 ، 549 ، 735 ، 819 ، 884 ، 905 ،

موسى عليه السلام 217 ، 330 ، 332 ، 736 ، 874 ، 875 ، 880

907 ، 912 ، 953 ، 979

نوح عليه السلام 331 ، 874 ، 883

عيسى عليه السلام - المسيح 217 ، 841

الهادي عليه السلام 915

فاطمة عليها السلام 712

ص: 1022

4. فهرس الأعلام

أبان 904

ابن الزبعري 841

أبان بن عثمان 244 ، 256 ، 257

ابن زهرة 965

إبراهيم 160

ابن سيرين 368

إبراهيم بن هاشم 257

ابن سينا 79

إبليس 770

ابن صدقة 411

ابن أبي العزاقر 244

ابن طاوس 190 ، 265

ابن أبي عقيل 351 ، 369

ابن عبّاس 188 ، 197 ، 242 ، 272 ،

ابن أبي عمير 64 ، 256 ، 259 ، 270 ، 979

379 ، 461 ، 463 ، 769 ، 810 ، 817 ، 841 ، 888 ، 978

ابن أبي يعفور 246

ابن عمر 461

ابن بكير 244

ابن الغضائري 260 ، 265 ، 284

ابن جنيّ 85

ابن غيلان 732

ابن الجنيد 351

ابن فورك 376

ابن الحاجب - الحاجبي 79 ، 120 ، 135 ، 142 ، 337 ، 338 ، 370 ، 372 ، 679 ، 684

ابن قبة 229

ابن حذيفة 353

ابن قولويه 296

ابن حنظلة 428

ابن مسعود 461

ابن الراوندي 875

ابني بابويه 968

ص: 1023

ابني سعيد وعليّ بن مهزيار 264

198 ، 201 ، 226 ، 230 ، 261 ، 392 ، 395 ، 426 ، 909 ، 910 ، 919 ، 920 ، 929 ، 933 ، 934 ، 940 ، 974

أبو الأسود الدؤلي 191

الأخفش 92 ، 862

أبو بكر 192 ، 463 ، 711 ، 712 ، 734 ، 979

الادباء 84 ، 191 ، 632 ، 672 ، 703 ،

أبو جعفر الطوسي 230

728 ، 779 ، 862

أبو حنيفة 461 ، 698 ، 796 ، 963 ، 964 ، 986

إسحاق بن جرير 286

أبو خديجة 925 ، 957 ، 965

إسرائيل 954

أبو الخطّاب 33 ، 244 ، 937

إسماعيل 160

أبو رافع 978

إسماعيل بن عبد الخالق 258

أبو سفيان 327

إسماعيل بن مرّار 260

أبو عبيدة 862

الأشاعرة 79 ، 100 ، 101 ، 126 ، 127 ،

أبو عليّ الفارسي 84

147، 166 ، 172 ، 174 ، 177 ، 479،

أبو موسى 463

487 ، 598 ، 600 ، 839

أبو هاشم 711

الأشعري 151،152 ، 154 ، 173 ، 532،

أبو هريرة 810

542 ، 599

أحمد بن حنبل 376

أصحاب الكهف 769

أحمد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري 256

أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم 198 ، 230 ، 233

أحمد بن عمر الحلاّل 303

الأصفهاني 874 ، 876

أحمد بن محمّد 269

الاصوليّون 29 ، 31 ، 230 ، 339 ، 392 -

أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي 259 ، 270

394، 434 ، 436 ، 437 ، 448 ، 702،

أحمد بن محمّد بن الحسن بن الوليد 296

703 ، 720 ، 869

أحمد بن محمّد بن عيسى 259 ، 276

الآمدي 79

أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار 295

الإماميّة 230، 238 ، 264 ، 336 ، 337 ،

الأخباريّون 31 ، 32 ، 33 ، 62 ، 193 ، 195 -

339 ، 349 ، 352 ، 373 ، 377 ، 384 ، 454 ، 490 ،

ص: 1024

549 ، 603 ، 639 ، 761 ، 801 ، 818 ، 833 ، 948 ، 968

بني آدم 217 ، 243

امرأة أبي سفيان 327

بني إسرائيل 874

أمّ سلمة 309 ، 739

بني اميّة 840

أمّة محمّد صلى اللّه عليه وآله 337

بني تميم 747 ، 775 ، 796

أنس بن مالك 188

بني عبد مناف 976

الأنصار 463 ، 711

بني عنزة 277

الأوزاعي 986

بني المطلق 235

اويس القرني 296

بني نوفل 840

أهل الحجاز 775

التابعين 230 ، 272 ، 329 ، 376 ، 379 ، 563 ، 602 ، 639 ، 808 ، 987

أهل الخلاف 190 ، 229

ثعلبة بن ميمون 296

أهل الذمّة 73 ، 845 ، 846

الثوري 961

أهل اللغة 89 ، 119

الجاحظ 213 ، 214 ، 215

أهل الهيئة 34

جبرئيل 129 ، 193 ، 217 ، 739

البخاري 276 ، 976

جعفر بن بشير 259

بخت نصّر 218

جعفر بن سماعة 353

البراهمة 216

جعفر بن محمّد بن إبراهيم بن عبد اللّه الموسوي 296

البصري 402 ، 593 ، 595 ، 830

الجمهور 329 ، 330

البصريّون 92 ، 774

جميل بن درّاج 353

بطليموس 945

حاتم 223

البغداديّون 958

حبيب بن المعلّى 253

البغوي 375

حبيب بن معلّى الخثعمي 253

بنو فضّال 244

الحجازيّون 793

بنو هاشم 740 ، 840

ص: 1025

حريز 264

ربيعة الراوي 986

الحسن بن سماعة 353

الرشيد 986

حسن بن صالح بن حيّ 937

زرارة 256 ، 264 ، 268 ، 278 ، 411 ، 696

الحسين بن الحسن بن أبان 296

الزهري 986

الحسين بن سماعة 353

زيد 463

الحسين بن يسار 287

زيد بن عليّ 905

حفص بن غياث القاضي 264

السجستاني 253

حمّاد 189

سعد بن أبي وقّاص 683

الحنابلة 430 ، 538 ، 631 ، 801 ،

سعيد بن المسيّب 271 ، 986

890

سفيان بن عيينة 986

الحنفي 522 ، 530 ، 541 ، 544 ،

سفيان الثوري 986

545 ، 569 ، 726

السكوني 242 ، 936

الحنفيّة 96 ، 109 ، 130 ، 271 ،

سماعة 244 ، 353 ، 428

349 ، 402 ، 430 ، 432 ، 490 ،

سوار 986

495 ، 537 ، 549 ، 550 ، 698 ،

السوفسطائيّة 218

726 ، 777 ، 782 ، 801 ، 833 ،

سهل بن زياد 244

849 ، 850 ، 861 ، 890 ، 986

سيبويه 84 ، 88 ، 92 ، 790 ، 791

خالد بن نجيح 256

السيّد المرتضى - السيّد - المرتضى 67 ، 131 ،

الخثعميّة 465

134، 137 ، 138 ، 147 ، 159 ، 160،

الخلفاء الأربعة 385 ، 461

162، 193 ، 209 ، 219 ، 221 ، 230،

الخليل 712

231 ، 238 - 240 ، 278 ، 299،

الخليل بن سعد 986

301 ، 329 ، 357 ، 402 ، 448 ،

الخوارج 243

593، 595 ، 602 ، 603 ، 613 ، 631،

دحية الكلبي 217

639 ، 684 ، 704 ، 782 ، 783 ،

الربيع 986

788 ، 791 ، 807 ، 812 ، 816 ، 831

ربيعة 793

، 857 ، 861 ،

ص: 1026

866 ، 876 ، 886 ، 890 ، 894 ،

242 ، 357 ، 368 ، 908 ، 919 ، 937

895 ، 919 ، 936 ، 946

شينولة 305

الشافعي 271 ، 293 ، 334 ، 430 ،

صاحب البشرى 271

461 ، 481 ، 508 ، 531 ، 533 ،

صاحب الكشّاف 190

541 ، 544 ، 545 ، 550 ، 556 ،

صالح بن السندي 260

569 ، 724 ، 782 ، 861 ، 963 ، 964

الصحابة 83، 194 ، 242 ، 254 ، 272 ،

الشافعيّة 124 ، 130 ، 349 ، 432 ،

275، 278، 309 ، 329 ، 375 ، 376 ،

467 ، 537 ، 549 ، 550 ، 551 ،

379، 380، 429 ، 461 ، 462 ، 464 ،

571 ، 574 ، 684 ، 724 ، 801 ،

549، 563، 602 ، 639 ، 692 ، 712 ،

849 ، 890

736، 756، 808 ، 845 ، 859 ، 884 ،

الشهيد 147 ، 161 ، 313 ، 611

885، 888، 950 ، 951 ، 959 ، 960 ،

الشهيد الثاني 30

962 ، 964 ، 974 ، 979 ، 987

الشيباني 698

الصحابي 209 ، 266 ، 273 ، 278 ،

الشيخ 34 ، 106 ، 107 ، 113 ،

725 ، 734

131 ، 231 ، 238 ، 239 ، 240 ،

الصدوق 193، 243 ، 253 ، 269 ، 296،

241 ، 244 ، 249 ، 256 ، 259 ،

630 ، 936 ، 939 ، 968 ، 975

261 ، 264 ، 265 ، 268 ، 269 ،

صفوان بن يحيى 259 ، 264 ، 270

270 ، 271 ، 278 ، 284 ، 298 ،

الطاطريّون 244

299 ، 300 ، 302 ، 303 ، 304 ،

الطبرسي 193

306 ، 361 ، 373 ، 380 ، 381 ،

عائذ الأحمسي 256

561 ، 721 ، 745 ، 781 ، 807 ،

عائشة 309 ، 978

812 ، 816 ، 876 ، 881 ، 890 ،

عاصم 192

919 ، 936 ، 938 ، 939 ، 940 ،

العامّة 33 ، 40 ، 108 ، 129 ، 168 ،

977 ، 978 ، 980

187، 188، 190 ، 192 ، 200 ، 209 ،

الشيخ الرئيس 34

242، 249، 261 ، 263 ، 278 ، 280 ،

الشيخ الطبرسي 200

290، 292، 301 ، 314 ، 336 ، 343 ،

الشيخين 385 ، 461 ، 911

344 ، 347 ، 363 ، 368 ، 370

الشيطان 188 ، 335 ، 914

الشيعة 32 ، 101 ، 160 ، 201 ، 228 ، 241 ،

ص: 1027

374 - 377، 383 - 385 ، 461 ، 483 ،

عليّ بن الحسن بن فضّال 259

492 ، 502 ، 505 ، 546 ، 548 ،

عليّ بن الحسين 353

550 ، 630 ، 680 ، 724 ، 782 ،

عليّ بن الحسين [ الحسن ] الطاطري 287

805 ، 810 ، 819 ، 826 ، 831 ،

عليّ بن فضّال 257

861 ، 866 ، 876 ، 881 ، 886 ،

عليّ بن محمّد بن قتيبة 260

888 ، 890 ، 896 ، 908 ، 913 ،

عليّ بن مهزيار 264 ، 278

919 ، 938 ، 948 ، 950 ، 951 ،

عمّار 412

954 ، 961 - 964 ، 984 - 986 ، 988

عمّار الساباطي 264

عبّاد بن سليمان الصيمري 37

عمر 194 ، 309 ، 329 ، 375 ، 379 ،

العبّاس 278 ، 954

462 ، 463 ، 465 ، 712

عبد اللّه بن سنان 299 ، 303

عمر بن حنظلة 274

عبد اللّه بن مبارك 986

عمر بن يزيد 756

عبد اللّه بن محمّد البلوي 937

عنزة 277

عبد اللّه بن يحيى الكاهلي 296

عيسى 217 ، 228 ، 871

عبيد اللّه بن علي الحلبي 264

الغزالي 219 ، 337 ، 338 ، 742 ، 743

العبيدي 260

غيلان 849

عثمان 194 ، 463 ، 986

فاطمة بنت خنيس 733

عثمان بن عيسى 244

فخر الدين الرازي 59 ، 89 ، 684

العراقيّون 890

الفرّاء 84 ، 86 ، 790

العروض 338

فرعون 595 ، 597 ، 702 ، 720

العلاّمة 230 ، 244 ، 260 ، 265 ، 271 ، 329 ، 461 ، 975

الفضل بن شاذان 147 ، 264 ، 278 ، 353 ، 913 ، 919

عليّ بن إبراهيم بن هاشم 353

الفضيل بن يسار 278 ، 977

عليّ بن أبي حمزة 286 ، 936

الفطحيّة 286

عليّ بن أسباط 287 ، 353

عليّ بن جعفر 745

ص: 1028

الفقهاء 30 ، 85 ، 97 ، 99 ، 108 ،

684 ، 738 ، 783 ، 784 ، 788 ، 935 ،

145 ، 148 ، 251 ، 263 ، 286 ،

947 ، 964 ، 968

288 ، 357 ، 360 ، 362 ، 370 ،

المتقدّمين 191 ، 270 ، 295 ، 352 ، 354 ، 381

400 ، 434 ، 436 ، 437 ، 482 ،

المتكلّمين 147 ، 436 ، 494 ، 542 ، 651 ، 686

505 ، 506 ، 618 ، 684 ، 686 ،

المجتهدون 31 ، 32 ، 193 ، 328 ، 329 ،

720 ، 751 ، 793 ، 916 ، 931 ، 945 ، 970

336 ، 337 ، 338 ، 339 ، 343 ، 345 ،

الفلاسفة 344 ، 345 ، 651

347 ، 349 ، 375 ، 379 ، 380 ، 426 ،

القاساني 411

427 ، 430 ، 886 ، 908 ، 909 ، 910 ،

القاضي 147 ، 152 ، 748 ، 765 ،

920 ، 925 ، 940 ، 950 ، 955 ، 962 ،

766 ، 767 ، 768

966 ، 967 ، 970

القدماء 34، 136 ، 229 ، 259 ، 261 ،

المجسّمة 243

264 ، 265 ، 352 ، 354 ، 381 ،

المحقّق 240 ، 271 ، 307 - 309 ، 389 ، 975

930 ، 935 ، 936 ، 940 ، 968

محمّد بن أبي عمير 270

الكرخي 130

محمّد بن أحمد بن يحيى 259

الكسائي 790

محمّد بن إسماعيل بن ميمون 259

الكشّي 260 ، 265 ، 284

محمّد بن خالد البرقي 271

الكعبي 121 ، 140 ، 659 ، 665 ، 666 ، 670

محمّد بن سنان 937

الكليني 147 ، 274 ، 296 ، 939 ، 965 ، 975

محمّد بن عبد اللّه أبي المفضّل 286

الكوفيّون 774

محمّد بن عليّ بن رباح 286

لوط 712 ، 875

محمّد بن عليّ الشلمغاني 286

ماعز 734 ، 803 ، 884

محمّد بن عليّ الصيرفي 937

المالكيّة 271

محمّد بن عيسى 276

المتأخّرون 32 ، 34 ، 62 ، 136 ، 221 ،

محمّد بن عيسى اليقطيني 243

229 ، 240 ، 243 ، 244 ، 265 ،

محمّد بن قيس 276

295 ، 298 ، 352 ، 354 ، 381 ، 391 ، 396 ، 402 ، 404 ، 573 ،

محمّد بن مسلم 242 ، 256 ، 276 ، 278 ، 977

ص: 1029

محمّد بن موسى الهمداني 937

نجم الأئمّة 190

محمّد بن يعقوب 268 ، 269

النحاة 41 ، 86 ، 88 ، 720 ، 723 ، 763 ،

معاذ 330 ، 363 ، 465

772 ، 773 ، 790 ، 792 ، 794

معاوية 191

النصارى 217 ، 218 ، 228 ، 344 ، 345

معاوية بن حكيم 353

نصرانيّ 565

معاوية بن ميسرة 256

النظّام 213 ، 214 ، 215 ، 338 ، 437 ،

المعتزلة 37 ، 79 ، 100 ، 120 ، 126 ،

498 ، 779

127 ، 175 ، 176 ، 177 ، 271 ،

نوح بن درّاج 256

479 ، 597 ، 600 ، 861 ، 876 ، 881

الواقفة 286

المعتزلي 532

وليد بن عقبة بن أبي معيط 234 ، 235

معلّى بن خنيس 296

وهب بن وهب القريشي 936

المغيرة بن سعيد 33 ، 937

الهاشميّون 796

المفيد 31 ، 225 ، 239 ، 240 ، 241 ،

هشام بن الحكم 937

265 ، 278 ، 290 ، 298 ، 347 ،

يزيد بن معاوية 977

352 ، 355 ، 367 ، 369 ، 730 ،

يونس بن ظبيان 937

876 ، 885 ، 936 ، 938 ، 977

يونس بن عبد الرحمن 243 ، 260 ، 264 ، 353

الملائكة 30 ، 185 ، 217 ، 712 ، 739 ، 842

اليهود 217 ، 218 ، 344 ، 345 ، 769 ،

مهديّ بن أبي ذرّ النراقي 25

862 ، 874 ، 880

ميمونة 756 ، 811 ، 978

يهوديّ 565

النجاشي 258 ، 265 ، 284 ، 734

ص: 1030

5. فهرس الاصطلاحات

آية الاسوة 308 ، 309

283 ، 286 ، 294 ، 325 ، 376 ، 385 ،

آية التثبّت 243 ، 244 ، 249 ، 250 ، 263 ، 281 ، 760 ، 940

464 ، 465 ، 516 ، 756 ، 758 ، 759 ،

آية الكرسيّ 186

761 ، 897 ، 899 ، 900 ، 903 ، 907 ،

آية المباهلة 186

908 ، 910 ، 913 ، 914 ، 919 - 929 ،

الإباحة 87 ، 97 ، 119 ، 120 ، 153 ،

932 ، 933 ، 942 ، 943 ، 946 - 951 ،

154، 163 - 166 ، 179 ، 251 ، 307،

953 ، 955 - 958 ، 961 ، 964 - 967 ، 969 ، 970 ، 976 ، 986

310، 386 - 388 ، 390 - 394 ، 396 ،

الاجتهاد الفعلي 900 ، 921 ، 943

600، 602 ، 604 ، 605 ، 616 - 618،

الإجزاء 29 ، 106 ، 113 ، 158- 162 ، 507

655 ، 689 ، 860 ، 885 ، 982

، 536 ، 633 ، 677 ، 692 ، 700 ،832

الإباحة العقليّة الأصليّة 163 ، 164 ، 165

الإجماع 32 ، 34 ، 35 ، 43 ، 69 ، 124 ،

الإتمام 128 ، 157 ، 369 ، 375 ، 678 ، 860

126 ، 142 ، 177 ، 181 ، 187 ، 224 ، 225 ، 237 - 240 ، 243 ، 245 ، 261 ،

الإجارة 90 ، 94 ، 107 ، 468 ، 775 ، 866

272 ، 277 ، 292 ، 296 ، 336 - 352 ،354 - 368 ، 370 ، 373 - 379 ، 382 -

الإجازة 258 ، 274 ، 296 ، 300 - 302 ، 304 ، 305 ، 696

384 ، 385 ، 389 ، 391 ، 403 ، 404 ، 408 ، 409 ، 412 ، 418 ، 426 ، 440 ،

اجتماع النقيضين 224

443 ، 446 ، 453 ، 465 ، 472 - 475 ،

الاجتهاد 25 ، 32 ، 35 ، 224 ، 226 ، 233 ،

477 ، 478 ، 481 ، 484 ، 485 ، 487 ، 492 ، 496 ،

ص: 1031

530 ، 540 ، 546 ، 550 ، 556 ،

الأحكام الشرعيّة 32 ، 34 ، 35 ، 55 ، 62 ،

557 ، 561 ، 570 ، 620 ، 686 ،

75 ، 103 ، 120 ، 138 ، 280 ، 333 ،

691 ، 692 ، 705 ، 706 ، 709 ،

338 ، 339 ، 383 ، 389 ، 397 ، 407 ،

710 ، 729 ، 734 ، 737 ، 738 ،

413 ، 423 ، 456 ، 460 ، 477 ، 484 ،

759 ، 762 ، 796 ، 804 ، 807 ،

521 ، 553 ، 718 ، 760 ، 835 ، 899 ،

808 ، 840 ، 844 ، 848 ، 850 ،

900 ، 906 ، 929 ، 934 ، 948

860، 886 - 888 ، 895 ، 896 ، 901،

الأحكام الشرعيّة الفرعيّة 30

902 ، 904 ، 908 ، 909 ، 919 ،

الأحكام الظاهريّة 925

923 ، 924 ، 926 ، 927 ، 931 ،

الأحكام الفرعيّة 25

932 ، 935 ، 938 ، 939 ، 955 ،

الأحكام الواقعيّة 925

958 ، 959 ، 962 - 966 ، 974 ، 976 ، 987 ، 989

الأحكام الوضعيّة 110 ، 171 ، 402 ، 413 ، 690 ، 695

إجماع بسيط 373

أخبار الآحاد31 ، 32 ، 33 ، 35 ، 40 ، 46 ،

الإجماع السكوتيّ 378 ، 464

47 ، 48 ، 59 ، 60 ، 96 ، 188 ، 192 ،

إجماع العترة 461

201 ، 216 ، 230 ، 231 ، 232 ، 237 ،

الإجماع المركّب 367 ، 369 ، 373

238 ، 240 ، 258 ، 265 ، 276 ، 278 ،

الإجماع المنقول 35 ، 351 ، 365 ، 367 ، 639 ، 900

292 ، 343 ، 345 ، 349 ، 350 ، 352 ،

الإجماعات المنقولة 31 ، 241

446 ، 482 ، 561 ، 613 ، 705 ، 729 ،

الإجمال 76، 471 ، 555 ، 561 ، 732 ، 733 ، 755 ، 758 ، 785 ، 829 - 834 ، 902

737 ، 884 ، 885 ، 886 ، 896 ، 901 ، 906 ، 914 ، 916 ، 920 ، 928 ، 933 ، 934 ، 935 ، 937 ، 940 ، 987

الاحتياط62 ،158 ، 238 ، 243 ، 263 ،

الأخبار الصحيحة 941

280 ، 313 ، 314 ، 315 ، 373 ،

الأخبار الضعيفة 263

387 ، 391 ، 395 ، 426 ، 427 ،

الأخبار المتظافرة 187

428 ، 469 ، 640 ، 931 ، 932 ، 974 ، 979 ، 983 ، 987

الأخبار المتواترة 220

الأحكام الخمسة 36 ، 110 ، 119 ، 145 ، 156 ، 163 ، 391 ، 668

الأخبار المستفيضة 292

ص: 1032

الأدلّة الاصوليّة 31 ، 32 ، 761 ، 921

الاستثناء المنقطع 776 ، 954

الأدلّة التفصيليّة 30

الاستحاضة الكثيرة 112

الأدلّة السمعيّة 340 ، 382

الاستحباب 97 ، 153 - 155 ، 157 ، 166 ،

أدلّة السنن 261 ، 263

263 ، 311 ، 313 ، 315 ، 386 ، 391 ،

الأدلّة الشرعيّة 34 ، 74 ، 181 ، 337 ، 903 ، 919

395 ، 428 ، 452 ، 618 ، 624 ، 625 ، 630 ، 643 ، 668 ، 824 ، 825 ، 975

الأدلّة الضعيفة 262

الاستحسان 100 ، 190 ، 429 - 431 ، 509 ، 930

الأدلّة الظنّيّة 225

الاستحسانات العقليّة 919

الأدلّة العقليّة 32 ، 181 ، 241 ، 345 ، 386 ، 410 ، 411 ، 434 ، 902 ، 976

الاستصحاب 32 ، 312 ، 397 ، 398 ، 400 - 405 ، 407 - 410 ، 412 - 416 ، 427 ، 789 ، 930 ، 966 ، 977

الأدلّة العقليّة الاصوليّة 32

استصحاب الحال 58

أدلّة الفقه 32 ، 33

الاستظهار 148

الأدلّة المتعارضة 967

الاستغراق 40 ، 341 ، 712 ، 713 ، 715 ،

الأدلّة المعتبرة 918

716 ، 717 ، 719 ، 729 ، 747 ، 750 ،

الارتداد 87 ، 567

767 ، 780 ، 781 ، 822 ، 825 ، 843 ،

الإرضاع 516

847 ، 908

الأسباب 109 ، 111 ، 112 ، 171 ، 211 ، 284 ، 551 ، 552 ، 757

الاستفهام الإنكاري 707 ، 715

الأسباب الفعليّة 114

الاستقراء 148 ، 167 ، 243 ، 270 ، 407 ، 423 ، 425 ، 435 ، 486 ، 487 ، 629 ، 632

الاستثناء 40 ، 85 ، 141 ، 450 ، 511 ، 607 ، 708 ، 709 ، 718 ، 744 ، 749 ، 751 ، 762 ، 763 ، 765 ، 768 - 784 ، 786 - 789 ، 790 ، 791 -

الاستنجاء 117 ، 826

793 ، 795 ، 796 ، 814 ، 868 ، 874

أسماء الاستفهام 706 ، 709 ، 712 ، 713 ، 714 ، 715

الاستثناء المتّصل 761 ، 764 ، 768

أسماء الإشارة 706

الاستثناء المستغرق 770

ص: 1033

أسماء الشرط 701 ، 706 ، 709 ، 712

الإضمار 72 ، 75 ، 76 ، 77 ، 278 ، 607 ،

الأسماء الموصولة 706 ، 713 ، 982

731 ، 732 ، 762 ، 773 ، 813 ، 982

اسم جنس 712 ، 716 ، 728 ، 869

الاطّراد 55 ، 185 ، 225 ، 482 ، 483 ،

اسم العلم 47 ، 48

488 ، 489 ، 526 ، 537 ، 594 ، 981

الإسناد61 ، 255 ، 256 ، 266 ، 269 ،

الإطلاق الحقيقي 739

270 ، 274 ، 277 ، 305 ، 749 ،

الإطلاق المجازي 721 ، 739

751 ، 766 ، 946

الإعادة 104 ، 105 ، 632

الاشتراك52 ، 64 ، 68 ، 72 ، 73 ، 75 ،

الاعتكاف 414 ، 439 ، 530 ، 551

76 ، 89 ، 311 ، 378 ، 435 ، 438 ،

الأعراض الذاتيّة 34 ، 205

477 ، 510 ، 515 ، 548 ، 593 ،

الأعلام الشخصيّة 185

595 ، 596 ، 604 ، 605 ، 610 ،

الأعيان الخارجيّة 703

612 ، 620 ، 622 ، 628 ، 656 ،

الإفتاء 379 ، 396 ، 930 ، 931

682 ، 705 ، 708 ، 709 ، 737 ،

الأفعال الاختياريّة 387

740 ، 747 ، 750 ، 762 ، 782 ، 784 ، 786 - 788 ، 791 ، 833 ، 872

أفعال الاضطراريّة 387

الأصاغر 278

الإفك 330

أصالة البقاء 906 ، 931

الأقارير60 ،88 ، 721 ، 722 ، 740 ، 769 ،

أصالة الحقيقة 930

771 ، 775 ، 792 ، 868

أصالة الحلّيّة 144

إقامة الحدود 363 ، 640 ، 857

أصالة العدم 488 ، 606 ، 906 ، 931

الأكابر 278

أصالة عدم الاشتراك 738

الإنشاء 58 ، 203 ، 209 - 212 ، 307 ،

أصالة عدم التعدّد 53

630 ، 631 ، 726 ، 921 ، 946

أصالة عدم المخصّص 759

الأوامر 130 ، 131 ، 138 ، 167 ، 173 ،

أصل البراءة 313 ، 386 ، 396 - 401 ، 416 ، 417 ، 900 ، 930

174 ، 179 ، 263 ، 617 ، 628 - 631 ، 639 ، 735 ، 879 ، 880 ، 929 ، 971

أصل العدم 32 ، 295 ، 398

اصول الحديث 266

ص: 1034

الأوامر الإلهيّة 173

البطلان 105 ، 107 ، 108 ، 225 ، 235 ،

الأوامر الشرعيّة 101

407 ، 418 ، 572 ، 659 ، 663 ، 812 ، 849

الأوامر العامّة 167

التابعيّة 774

الأوامر الواردة 906

التبادر51 - 54 ، 56 ، 57 ، 73 ، 611 ، 617

الأوقاف 30 ، 71 ، 79 ، 252 ، 811

، 619 ، 705 ، 758 ، 768 ، 831 ، 867

الإيجاب 119 ، 144 ، 371 ، 413 ،

التبادر العرفي 834

597 ، 598 ، 610 ، 646 ، 653 ،

التبيين 92 ، 837

662 ، 668 ، 669 ، 728 ، 729

التجارة 328 ، 493 ، 533 ، 690

الإيجاب الكلّي 371

التحريف 193

الإيجاب والسلب الجزئيّين 371

التحكّم 517 ، 518 ، 521 ، 537 ، 563 ، 566 ، 742 ، 754 ، 827 ، 839

الإيقاعات 44 ، 85 ، 109 ، 110 ، 162

التخصيص 72 - 77 ، 148 ، 149 ، 198 ،

، 696 ، 697 ، 769 ، 870

236 ، 317 ، 366 ، 394 ، 503 ، 507 ،

الإيلاء 516 ، 709

511 - 513 ، 523 ، 542 ، 638 ، 646 ،

الأيمان 30 ، 62 ، 63 ، 71 ، 72 ، 79 ،

701 ، 705 ، 726 ، 739 ، 743 ، 744 -

81 ، 84 ، 114 ، 120 ، 132 ، 133 ،

746 ، 749 ، 750 ، 752 ، 754 ، 758 ،

162، 167 ، 185 ، 215 ، 244 ، 245

761 ، 762 ، 766 ، 784 ، 798 ، 799 ،

، 247 ، 252 ، 286 ، 302 ، 307 ،

801 - 806 ، 808 - 813 ، 816 - 819 ،

340، 450 ، 565 ، 596 ، 722 ، 727

825 ، 839 ، 846 ، 850 ، 856 - 858 ،

، 769 ، 800 ، 861 ، 932 ، 961

864 ، 871 ، 880 ، 885 ، 918 ، 954 ، 975

الإيماء 141 ، 440 ، 443 ، 447 ، 451 ، 452 ، 459 ، 460 ، 472 ، 477 ، 546 ، 570 ، 853 ، 919 ، 982

التخيير 46 ، 87 ، 95 ، 121 ، 126 ، 127 ، 128 ، 129 ، 130 ، 131 ، 132 ، 166 ،

البراءة الأصليّة 426 ، 427 ، 729 ، 870 ، 974

192 ، 373 ، 608 ، 623 ، 661 ، 664 ، 667 ، 880 ، 891 ، 892 ، 893 ، 896 ،

البراءة اليقينيّة 180 ، 391 ، 400 ، 405 ، 904 ، 909

911 ، 916 ، 927 ، 949 ، 963 ، 974 ، 975 ، 976 ، 987

ص: 1035

التراجيح 35 ، 255 ، 366 ، 758 ، 760 ، 903 ، 910 ، 911 ، 916 ، 918 ، 947 ، 977 ، 986 ، 987

التضمّن 223 ، 646 ، 649 ، 663 ، 694 ، 863

التراخي85 ، 632 ، 639 ، 840 ، 902 ،

التضمّنيّة 919

916 ، 930

التعادل والترجيح 367 ، 900 ، 973

الترجيح 31 ، 33 ، 46 ، 64 ، 67 ، 77 ،

التعارض 33 ، 149 ، 155 ، 188 ، 196 ،

120، 144 ، 145 ، 148 ، 190 ، 241

257 ، 281 ، 317 ، 318 ، 319 ، 320 ،

، 243 ، 257 ، 270 ، 285 ، 348 ،

323 ، 324 ، 405 ، 407 ، 418 ، 431 ،

350، 351 ، 356 ، 361 ، 366 ، 367

486 ، 506 ، 519 ، 664 ، 675 ، 695 ،

،373، 381 ، 390 ، 394 ، 416 - 418

769 ، 819 ، 820 ، 824 ، 863 ، 887 ،

، 426 ، 432 ، 479 ، 482 ، 486 ،

902 ، 910 ، 932 ، 936 ، 937 ، 938 ، 940 ، 942 ، 944 ، 962 ، 976 ، 988

503، 517 ، 518 ، 543 ، 556 ، 557

التعزير 112 ، 640

، 565 ، 570 ، 605 ، 636 ، 638 ،

التعليقات 30 ، 42 ، 60 ، 62 ، 71 ، 72 ،

675 ، 676 ، 719 ، 758 ، 781 ،

79 ، 84 ، 85 ، 88 ، 114 ، 120 ، 185 ،

809 ، 816 ، 819 ، 832 ، 835 ،

211 ، 215 ، 252 ، 596 ، 629 ، 722

839 ، 900 ، 901 ، 902 ، 910 ، 911 ، 916 ، 918 ، 922 ، 925 - 927 ، 942 - 944 ، 962 ، 973 - 977 ، 980 ، 981 ، 983 - 987 ، 989

التعليقي 736

الترجيحات 967 ، 985 ، 989

التقليد 221 ، 233 ، 283 ، 897 ، 903 ،

الترجيح بلا مرجّح 190

923 ، 924 ، 926 ، 927 ، 929 ، 930 ،

التسامح 261

955 ، 956 ، 957 ، 958 ، 959 ، 960 ،

التسلسل 58 ، 275 ، 422 ، 484 ، 500

961 ، 964 ، 965 ، 969 ، 970

، 767 ، 956

التقيّة33 ، 117، 190 ، 226 ، 228 ، 278 ،

تشبّه السوفسطائي 944

378، 418، 697، 906، 938، 984 ، 986

تصديقيّة 36

التقييد 63 ، 136 ، 138 ، 151 ، 255 ،

تصوّريّة 36

266 ، 268 ، 336 ، 403 ، 611 ، 619 ،

التصويب 378 ، 398 ، 951 ، 952 ، 953 ، 954

641 ، 645 ، 682 ، 797 ، 825 ، 839 ، 847 ، 873 ، 874 ، 902 ، 918 ، 975

ص: 1036

التكاليف الشرعيّة 173 ، 253

التناقض 48 ، 141 ، 240 ، 281 ، 517 ، 740 ، 766 ، 781 ، 805 ، 815 ، 827 ، 863

التكرار 38 ، 318 - 321 ، 323 ، 388 ،

التنبيه والإيماء 440 ، 447 ، 853

406، 413 ، 557 ، 558 ، 618 ، 621

تنقيح المناط 443 ، 444 ، 446 ، 460 ، 485 ، 487 ، 919

- 623، 626- 631 ، 638 ، 673 ، 674،

التواتر 190 ، 217 ، 218 ، 220 ، 221 ،

682، 700 ، 727 ، 902 ، 930 ، 955

223 ، 224 ، 226 - 228 ، 232 ، 238 ،

التكليف 33 ، 46 ، 69 ، 97 ، 103 ،

247 ، 347 ، 349 ، 350 ، 355 ، 365 ،

110، 117 ، 127 ، 130 ، 132 ، 136

382 ، 706 ، 913 ، 930 ، 934 ، 945 ،

،151 ، 161 ، 166 - 168 ، 171 - 179

961 ، 977

، 238 ، 251 ، 302 ، 387 ، 389 ،

التواتر السكوتي 227

390، 392 ، 395 ، 397 ، 398 ، 400

التواتر المعنوي 342

، 403 ، 493 ، 512 ، 605 ، 633 ،

التوقّف 38 ، 45 ، 46 ، 50 ، 54 ، 73 ،

643، 644 ، 654 - 656 ، 659 ، 671،

133 ، 205 ، 220 ، 294 ، 312 ، 314 ،

706 ، 737 ، 815 ، 817 ، 824 ،

321 ، 323 ، 391 ، 392 ، 396 ، 426 ،

836، 842 - 845 ، 875 ، 878 ، 882،

428 ، 455 ، 465 ، 501 ، 603 ، 657 ،

903، 911 ، 930 ، 950 ، 951 ، 968

716 ، 719 - 721 ، 809 ، 824 ، 854 ،

التكليف بالمحال 146 ، 166 ، 238 ، 392 ، 400 ، 633 ، 634 ، 661 ، 691 ، 909 ، 926 ، 931 ، 968

896 ، 908 ، 928 ، 931 ، 974 ، 987

التكليف بما لايطاق129، 139، 140، 177

الجزاء 236 ، 455 ، 794 ، 795

، 179 ، 196 ، 620 ، 650 ، 971

الجزء 49 ، 64 ، 65 ، 70 ، 73 ، 131 ،

تكليف الجاهل 179

133 ، 134 ، 142 ، 164 ، 189 ، 219 ،

التكليف اليقيني 824 ، 909

293 ، 494 ، 495 ، 527 ، 574 ، 613 ،

التكميلي 468

626 ، 627 ، 638 ، 639 ، 661 ، 685 ،

التلازم 99 ، 246 ، 419 ، 420 ، 421 ،

687 ، 697 ، 708 ، 743 ، 750 ، 751 ،

422 ، 423 ، 424 ، 574 ، 745

769 ، 832

التمييز 185 ، 345 ، 437 ، 733 ، 797

الجعالة 86 ، 332 ، 333

، 868 ، 940 ، 941 ، 942 ، 967

الجمع المحلّى باللام 982

ص: 1037

الجمع المنكّر 701 ، 707 ، 711 ، 720

حسنة 122 ، 307 ، 316 ، 686 ، 696

الجمع المنكّر للعموم 727

الحقائق الخارجيّة 41

الجنس 47 ، 76 ، 113 ، 163 ، 164 ،

الحقائق الشرعيّة 59

341، 438 ، 439 ، 442 ، 443 ، 450

الحقائق الكلّيّة 185

، 472 ، 474 ، 476- 478 ، 480، 548

حقوق الناس 386 ، 396 ، 740

، 554، 555 ، 558 ، 560، 569، 571

الحقيقة الشرعيّة 56 ، 57 ، 63 ، 64 ، 603 ،

، 572 ، 620 ، 642 ، 672 ، 707 ،

610 ، 902 ، 930

710 ، 712 ، 713 ، 716 ، 717 ،719

الحقيقة اللغويّة 53 ، 55 ، 603 ، 604 ، 605

،728 ،763 ،848 ، 856 ، 869 ، 982

، 736

الحديث القدسي 202 ، 771

الحقيقة المتشرّعة 55 ، 57

الحرام الشرعي 102

حكم الأصل 435 ، 438 ، 439 ، 442 ،478

الحرام العقلي 103

، 492 ، 501 ، 538 - 548 ، 554 ، 558

الحرمة 96 ، 101 ، 103 ، 110 ، 129 ،

، 562 ، 568 ، 571 ، 572 ، 573 ، 888 ،

138، 146- 149 ، 152 ، 154 ، 176 ،

889 ، 890 ، 892 ، 988

311، 386 ، 387 ، 389 ، 391 ، 393

الحكم التكليفي 690 ، 983

،394، 424، 428 ، 445 ، 472 ، 475

الحكم الشرعي95 ، 96 ، 110 ، 118 ، 165 ،

،533 ،562 ،615 ، 657 ، 658 ، 689

180 ، 257 ، 377 ، 378 ، 386 ، 392 ،

، 690 ، 694 - 696 ، 856 ، 860 ،

393 ، 396 ، 397 ، 400 ، 401 ، 402 ،

891 ، 931 ، 982

404 ، 405 ، 407 ، 408 ، 414 ، 483 ،

الحسن 123 ، 256 ، 257 ، 260 ، 430

537 ، 873 ، 890 ، 900 ، 930

الحسن 257 ، 296

الحكم العقلي 165

الحسن والقبح 99 ، 102 ، 123 ، 138 ، 875 ، 877

حكم الفرع 442 ، 504 ، 540 ، 541 ، 543 ، 547 ، 571 ، 888 ، 889

الحسن والقبح الشرعيّين 101 ، 102

الحكم المقيّد 880

الحسن والقبح العقليّين 100 ، 101 ، 102 ، 896

ص: 1038

الحكم الوضعي 95 ، 105 ، 110 ، 116 ، 142 ، 171 ، 408

الخبريّة 211

الحكمة 338

الخصوص 35 ، 146 ، 155 ، 324 ، 421 ،

الخاصّ المطلق 148

687 ، 691 ، 704 ، 705 ، 708 ، 744 ،

الخاصّ من وجه 420 ، 982

747 ، 750 ، 752 ، 758 ، 765 ، 813 ، 814 ، 819

الخاصّة 51 ، 62 ، 205 ، 261 ، 267 ،

الخطابات العرفيّة 911 ، 918

280 ، 340 ، 343 ، 363 ، 388 ،430

الخطاب التخييري 736

،437 ، 558، 648 ، 653 ،655 ، 657

الخطاب التعليقي 736

، 662 ، 667 ، 668 ، 669 ، 732 ،

الدعاوي 380 ، 788

908 ، 988

دعاء الاستفتاح 740

الخبر الخاصّ 203

الدلائل الكلاميّة 960

الخبر الصحيح 257 ، 942

دلالة الإشارة 852

الخبر الضعيف 261 ، 269 ، 271

دلالة الاقتضاء 141 ، 851 ، 852

الخبر العقلي 203

دلالة الإيماء والتنبيه 852

الخبر المتواتر 197 ، 216 ، 217 ، 220 ، 221 ، 806 ، 809

دلالة التنبيه والإيماء 859

الخبر المجمل 760

دلالة العرفيّة 866

الخبر المركّب 207

الدلالة العقليّة 866 ، 903

الخبر المشهور 259

الدلالة اللغويّة 866

الخبر الواحد - خبر الواحد 124 ، 223 ،224

الدليل المثبت 988

، 225 ، 226 ، 228 ، 229 ، 230 ،

الدور90 ،204 ، 231 ، 339 ، 346 ، 483 ،

232 ، 233 ، 234 ، 237 ، 238 ،239

487 ، 492 ، 495 ، 505 ، 538 ، 754 ،

، 240 ، 241 ، 281 ، 358 ، 366 ،

925 ، 926 ، 927 ، 947 ، 960 ، 966

367 ، 377 ، 550 ، 808 ، 809 ،880

الدوران 41 ، 57 ، 424 ، 445 ، 482 ، 483

، 884 ، 885 ، 894 ، 895 ،902 ،

، 485 ، 487 ، 488 ، 489 ، 989

930 ، 941 ، 942 ، 977

الرجعيّات 812 ، 814

ص: 1039

الرخصة 116 ، 117 ، 418 ، 426 ، 838 ، 906

الشاذّ والنادر 275

رؤية الهلال 288 ، 948

الشرط 54 ، 105 ، 106 ، 107 ، 115 ،

سالبة جزئيّة 723

135 ، 137 ، 138 ، 142 ، 143 ، 144 ،

سالبة كلّيّة 723

162 ، 167 ، 177 ، 178 ، 221 ، 227 ،

السبب 35 ، 64 ، 65 ، 105 ، 106 ،

236 ، 250 ، 269 ، 280 ، 413 ، 422 ،

107 ، 109 ، 111 ، 112 ، 114 ،115

488 ، 497 ، 500 ، 501 ، 502 ، 503 ،

، 116 ، 118 ، 121 ، 122 ، 134 ،

504 ، 508 ، 511 ، 513 ، 523 ، 535 ،

135 ، 137 ، 138 ، 142 ، 188 ،207

543 ، 544 ، 547 ، 548 ، 626 ، 627 ،

، 228 ، 235 ، 257 ، 260 ، 261 ،

629 ، 707 ، 714 ، 725 ، 749 ، 761 ،

277 ، 282 ، 283 ، 284 ، 285 ،290

770 ، 783 ، 787 ، 793 ، 794 ، 795 ،

، 393 ، 394 ، 413 ، 414 ، 488 ،

796 ، 797 ، 832 ، 857 ، 858 ، 874 ،

551 ، 552 ، 559 ، 598 ، 630 ،665

891 ، 894

، 736 ، 755 ، 756 ، 757 ، 771 ،

الشرط الشرعي 135 ، 142 ، 143 ، 144 ،

794 ، 823 ، 858 ، 907 ، 939 ،949

166 ، 167 ، 627

، 973 ، 984

الشرط العقلي 135 ، 142 ، 144

السبب الشرعي 135

الشرط اللغوي 794

السبب العقلي 135

الشرطيّة الشرعيّة 144

السلب الكلّي 371

الشرطيّة العقليّة 144

السلب والإيجاب الجزئيّين 371

الشرعيّات 306 ، 331 ، 345 ، 346 ، 348 ،

السمنيّة 216

425 ، 432 ، 616 ، 617 ، 660 ، 722 ،

السنّة 34 ، 66 ، 97 ، 163 ، 181 ،198

899 ، 951

، 201 ، 202 ، 264 ، 267 ، 298 ،

الشواهد العرفيّة 908

305، 342 ، 363 ، 367 ، 410، 418،

الشهرة 190 ، 351 ، 380 ، 381 ، 705 ،

429، 465 ، 561 ، 639 ، 806 ، 821

923 ، 978 ، 985 ، 987

، 876 ، 886 ، 887 ، 901 ، 917 ،

الصحّة السببيّة 686 ، 690 ، 694 ، 695

919، 930 ، 931 ، 937 ، 958 ، 968

الصحّة العباديّة 686

، 985 ، 986 ، 987

الصحيح 30 ، 33 ، 82 ، 88 ، 96 ، 103 ،

السنّة المتواترة 96 ، 884 ، 976

107 ،

ص: 1040

125 ، 131 ، 136 ، 142 ، 150 ،153

الضروري 219 ، 468

، 200 ، 202 ، 205 ، 233 ، 248 ،

الضعفاء 259 ، 271 ، 940

255 ،256 ، 257، 261 ، 262، 265 ،

الضمائر 722 ، 792

274، 296 ، 306 ، 509 ، 546 ، 598

الضمان 106 ، 110 ، 123 ، 176 ، 333 ،

550، 557 ،559 ،566 ، 568 ، ، 599

380 ، 438 ، 468 ، 731 ، 834

، 600 ، 603 ، 613 ، 621 ، 634 ،

الضمير 39 ، 94 ، 183 ، 232 ، 234 ، 534

634 ، 709 ، 720 ، 753 ، 767 ،775

، 747 ، 768 ، 791 ، 812 ، 813 ، 830

، 776 ، 798 ، 848 ، 906 ، 927 ،

الطبيعة المرسلة 715

939 ، 959 ، 976 ،

الطلاق الرجعي 114

صحيحة103 ، 108 ، 124 ، 185 ،248

الطلب 141 ، 206 ، 207 ، 232 ، 596 ،

، 256 ، 291 ، 297 ، 299 ، 303 ،

597 ، 598 ، 599 ، 600 ، 602 ، 603 ،

362 ، 411 ، 452 ، 664 ، 691 ،730

605 ، 611 ، 612 ، 613 ، 616 ، 619 ،

، 778 ، 779 ، 832 ، 917 ، 933 ،

621 ، 622 ، 623 ، 633 ، 644 ، 653 ،

935 ، 970 ، 971

666 ، 681 ، 760 ، 955 ، 971

صلاة الاحتياط 158

الظرفيّة المجازيّة 89 ، 90

صلاة الجمعة 91 ، 128 ، 688

الظنّ الشرعي 124 ، 695

صلاة العيدين 91

الظنون الاجتهاديّة 33 ، 428 ، 918 ، 986

الصلاة اليوميّة 113 ، 664

الظواهر 133 ، 153 ، 160 ، 195 ، 196 ،

الصلوات الخمس 144

198 ، 199 ، 863 ، 951

الصلوات النهاريّة 687

العاديّة 121 ، 202 ، 354 ، 631

الصوم المستحبّ 158

عالي السند 274 ، 980

صوم يوم الشكّ 158

عالي المنصب 979

الضدّ 80 ، 83 ، 97 ، 169 ، 645 ،

العامّ الاصولي 751 ، 752

647 ، 648 ، 651 ، 652 ، 653 ،

العامّ المخصّص 748 ، 749 ، 750 ، 753 ،

654 ، 655 ، 656 ، 657 ، 658 ،

816

659 ، 660 ، 662 ، 663 ، 664 ،

العامّ المخصوص 507 ، 747 ، 748 ، 825 ،

666 ، 667 ، 668 ، 669 ، 670

842 ، 843 ، 902 ، 916

الضدّين 37 ، 621 ، 646 ، 647 ، 659 ، 791

ص: 1041

العامّ المطلق 148

العرف الشرعي 761 ، 800

العامّ من وجه 148 ، 420 ، 982

العرف العامّ 30 ، 62 ، 63

العبادة 112 ، 148 ،154، 159 ، 160 ،

العرفيّة 29 ، 51 ، 56 ، 59 ، 61 ، 62 ، 64

161 ، 162 ، 165 ، 168 ، 217 ،

، 67 ، 81 ، 537 ، 603 ، 617 ، 630 ،

291 ، 313 ، 315 ، 325 ، 332 ،

631 ، 907 ، 911 ، 917 ، 928 ، 980

397 ، 539 ، 540 ، 547 ، 686 ،

العرفيّة الخاصّة 51

690 ، 691 ، 692 ، 693 ، 890 ،

العرفيّة العامّة 51 ، 62

894 ، 895 ، 971 ، 972

العزيمة 116 ، 117

العدالة 124 ، 245 ، 246 ، 247 ،

العقلي 61 ، 102 ، 103 ، 106 ، 141 ،

248 ، 249 ، 250 ، 251 ، 252 ،

142 ، 173 ، 337 ، 345 ، 541 ، 616 ،

260 ، 261 ، 272 ، 279 ، 281 ،

617 ، 642 ، 647 ، 662 ، 694

282 ، 283 ، 284 ، 285 ، 286 ،

العقليّات 221 ، 542 ، 557 ، 899 ، 950 ،

296 ، 341 ، 417 ، 469 ، 725 ،

958

941 ، 942 ، 961 ، 962 ، 963 ،

العقليّة 32 ، 101 ، 103 ، 111 ، 121 ،

970 ، 971 ، 977

163 ، 181 ، 206 ، 212 ، 241 ، 340 ،

عدّة النساء 353

345 ، 383 ، 386 ، 410 ، 411 ، 419 ،

العرايا 841

434 ، 456 ، 484 ، 486 ، 512 ، 515 ،

العرض الذاتي 34 ، 205

536 ، 542 ، 543 ، 851 ، 901 ، 902 ،

العرف42 ، 51، 62 ، 63 ، 66 ، 81 ،

908 ، 910 ، 923 ، 936 ، 959 ، 976

86، 93 ،130 ، 139 ، 148 ، 169 ، 208 ، 233 ، 244 ، 245 ، 248 ،266 ، 308 ، 312 ، 392 ، 415 ،

العقود 40 ، 44 ، 58 ، 85 ، 109 ، 110 ، 162 ، 210 ، 211 ، 212 ، 380 ، 468 ،493 ، 686 ، 696 ، 775

417 ، 441 ، 455 ، 501 ، 515 ،

العقود الجائزة 86

603 ، 604 ، 617 ، 624 ، 627 ،

العقود المؤجّلة 93

628 ، 631 ، 663 ، 676 ، 695 ،

العلاقة 49 ، 55 ، 59 ، 70 ، 72 ، 74 ،750

727 ، 729 ، 736 ، 742 ، 771 ،

، 751 ، 752 ، 981

795 ، 796 ، 800 ، 804 ، 831 ،

833 ، 847 ، 853 ، 863 ، 930 ،

957 ، 981

العرف الاستعمالي 761 ، 799

العرف الخاصّ 62 ، 63

ص: 1042

علاقة الجزء والكلّ 49

العهد الخارجي 712 ، 716 ، 717 ، 718

العلل الإيمائيّة 464

العهد الذهني 712 ، 716 ، 717

العلل الشرعيّة 111 ، 447 ، 456 ، 515 ، 518

الغريب 275 ، 474 ، 475 ، 478 ، 479

العلل العقليّة 111 ، 456 ، 484 ، 512 ، 515

الفاء الجزائيّة 86

العلم الإجمالي 785

الفاء العاطفة 85

علم الاصول 25 ، 29 ، 34 ، 36 ، 902 ، 917 ، 920

الفساد السببي 686 ، 689 ، 690 ، 694 ، 695

علم البديع 946

الفعل المجمل 829

علم الحساب 947

الفور 631 ، 632 ، 633 ، 636 ، 637 ، 638 ، 639 ، 640 ، 643 ، 644 ، 645 ، 682 ، 845 ، 902 ، 916 ، 930

العلم الحصولي 204

قاعدة عدم نقض اليقين بالشكّ 930

العلم الحضوري 203

قاعدة النفي والإثبات 781

علم الصرف 338

القرائن الحاليّة 58 ، 114 ، 871

علم المعاني 946

القرائن الخارجيّة 84 ، 93 ، 241 ، 245 ، 612

العلّة التامّة 135 ، 356 ، 406 ، 665

القرائن المقاليّة 114

العلّة الشرعيّة 745

القراءات السبع 189 ، 190 ، 192

العلّة المنصوصة 456 ، 500 ، 522 ، 745

القضايا الفعليّة 82

العموم الاستغراقي 715

القواعد العربيّة 192

العموم البدلي 715

القياس 32 ، 35 ، 40 ، 100 ، 154 ، 181 ،

العموم الزماني 711

238 ، 280 ، 351 ، 371 ، 375 ، 419 ،

العموم والخصوص مطلقا 155 ، 324 ، 687

425 ، 430 ، 431 ، 434 - 438 ، 440 -

العموم والخصوص من وجه 155 ، 324

445 ، 448 ، 453 - 456 ، 458 - 465 ،

العوارض الذاتيّة 34 ، 35

478 ، 480 ، 481 ، 483 ، 485 ، 488 ،

العهد 161 ، 162 ، 240 ، 251 ، 607 ، 674 ، 678 ، 713 ، 716 ، 717 ، 719 ، 824 ، 869

490 ، 491 ، 496 ، 503 - 505 ، 537 - 544 ، 546 - 558 ، 560 ، 561 ، 566 ،

ص: 1043

569، 572 ، 573 ، 626 ، 701 ، 786

المباحث الفقهيّة 31 ، 945

،798 ، 799، 810 ، 826 ، 852 - 854

مباحث الهيئة 947

، 862 ، 888 ، 900 ، 908 ، 930 ، 977 ، 988

المبادئ 29 ، 36 ، 943

القياس الاستثنائي 901

المبادئ الأحكاميّة 36 ، 95 ، 99 ، 166

قياس اقتراني 435

المبادئ التصديقيّة 36

القياس الفقهي 435

المبادئ التصوّريّة 36

القياس المعتبر 976

المبادئ اللغويّة 36 ، 37 ، 946

القياس المنطقي 435

مباين 195 ، 268 ، 269

الكتابة 300 ، 304 ، 618 ، 838 ، 915

المبهمات 785

الكراهة 97 ، 114 ، 152 ، 153 ، 154 ، 163 ، 311 ، 386 ، 615 ،616،

المبيّن 35 ، 186 ، 312 ، 753 ، 798 ، 806 ، 829 ، 837 ، 840 ، 879 ، 967

648 ، 655 ، 657 ، 667 ، 668 ، 669 ، 680 ، 860 ، 975 ، 983

متباينين 693 ، 975

الكفائي 96 ، 123 ، 125

المتجزّئ 921 ، 923 ، 924 ، 925 ، 926 ، 927

الكفّارات544 ،549 ،550 ، 557 ، 640

المترادف 43

الكفّارة 94 ، 112 ، 125 ، 128 ، 178 ، 407 ، 442 ، 549 ، 704

المتشابه 195 ، 197 ، 198 ، 200 ، 201 ، 292 ، 919 ، 930

كفّارة الظهار 826 ، 827

المتشابهات 195 ، 196 ، 215 ، 968

كفّارة اليمين 192

المتّصل 266 ، 267 ، 268 ، 269 ، 762 ، 763

المأوّل 195

المتضايفين 488 ، 489 ، 496 ، 754

المباح 119 ، 120 ، 121 ، 122 ، 123 ،

المتعارضان 218 ، 816 ، 916 ، 938 ، 939 ، 940 ، 984 ، 987 ، 988

129 ، 153 ، 233 ، 246 ، 308 ،

المتقابلات 692

316، 424 ، 655 ، 658 ، 659 ، 665

متلازمتين 146 ، 687 ، 754

، 666 ، 667 ، 669 ، 670 ، 873

متماثلتين 521

المباحث الشرعيّة 25

المتناقضات 692

ص: 1044

المتناقضين 224

المجمل الشرعي 835

المتواتر 96 ، 188 ، 189 ، 197 ، 215 ،

المحرّمات العقليّة 103

216 ، 217 ، 218 ، 220 ، 221 ،223 ، 305 ، 350 ، 806 ، 807 ، 808 ،

المحكم 35 ، 195 ، 198 ، 201 ، 292 ، 930

885 ، 886 ، 896 ، 938

المحكمات 195

المجاز 39 ، 42 ، 51 ، 52 ، 53 ، 54 ،

المخصّص 74 ، 76 ، 77 ، 176 ، 235 - 237

55 ، 56 ، 57 ، 58 ، 59 ، 60 ، 61 ،

، 245 ، 318 ، 324 ، 403 ، 497 ، 507 ،

64 ، 65 ، 66 ، 67 ، 68 ، 69 ، 70 ،

556 ، 704 ، 705 ، 741 ، 747 - 750 ،

71 ، 72 ، 73 ، 74 ، 75 ، 76 ، 79 ،

753 ، 758 - 760 ، 761 ، 789 ، 798 ،

82 ، 84 ، 90 ، 91 ، 94 ، 172 ، 207

802 - 804 ، 808 ، 816 ، 817 ، 834 ،

،300 ،301 ، 378 ، 594 ، 595 ،604

843 ، 845 ، 846 ، 902 ، 910 - 912 ، 918 ، 921 ، 982

، 610 ، 612 ، 620 ، 622 ، 628 ،

المخصّصات المتّصلة 794 ، 796

682، 699 ، 717 ، 730 ، 734 ، 736

المخصّصات المنفصلة 798

، 747 ، 760 ، 762 ، 763 ، 776 ،

المداينة 186

783 ، 812 ، 813 ، 825 ، 832 ،833

المدبّج 278

،872 ،883 ،902 ، 946 ، 980 ، 981

المدرج 276

المجاز الراجح 51 ، 52 ، 57 ، 71

مدلّسا 269 ، 283 ، 979

المجاز العقلي 61

المراسيل 259 ، 270 - 272 ، 979

مجاز المشارفة 735

المرتدّ 87 ، 167 ، 176 ، 353 ، 498 ، 499 ، 529 ، 565 ، 567

المجازي 39 ، 53 ، 55 ، 60 ، 67 ، 69 ، 70 ، 71 ، 72 ، 638 ، 699 ، 736 ، 737

المرتدّ الملّي 87

المجتهد المطلق 921 ، 922 ، 923 ، 924 ، 926 ، 927

المرتدّة 176 ، 353 ، 567 ، 810

المجمل 35 ، 45 ، 46 ، 65 ، 85 ، 195 ، 200 ، 201 ، 255 ، 293 ، 312 ،

المرسل 187 ، 269 ، 270 ، 272 ، 273 ، 475 ، 476 ، 477 ، 479 ، 737 ، 980

343 ، 366 ، 731 ، 755 ، 829 ، 830 ، 833 ، 835 - 840 ، 842 ، 843 ، 844 ، 901 ، 971

المرفوع 266 ، 267 ، 268 ، 269 ، 732

ص: 1045

المركّب 29 ،35 ، 40 ، 70 ، 141 ، 164

المستنبط العلّة 440 ، 461 ، 888

، 369 ، 370 ، 445 ، 488 ، 490 ،

المسلسل 274 ، 275

598 ، 642 ، 748 ، 766 ، 767

المسند 266 ، 267 ، 269 ، 765 ، 980

المركّبات الناقصة 208

المسند المعنعن 980

المركّب الإضافي 208

المشابهة 64 ، 481 ، 614 ، 750 ، 751

المركّب المجمل 830

المشترك44 ،45 ، 46 ، 47 ، 48 ، 49 ، 52 ،

المرّة 618 ، 624 ، 930

53 ، 102 ، 111 ، 112 ، 126 ، 223 ،

المزابنة 841

231 ، 311 ، 343 ، 378 ، 454 ، 548 ،

المسائل الاجتهاديّة 291 ، 325 ، 957

593 ، 595 ، 602 ، 605 ، 611 ، 612 ،

المسائل الاصوليّة 908 ، 920 ، 932

613 ، 617 ، 619 ، 620 ، 622 ، 638 ،

المسائل الخلافيّة 362 ، 363 ، 901

674 ، 680 ، 682 ، 699 ، 720 ، 721 ، 727 ، 739 ، 763 ، 782 ، 829 ، 833 ، 834 ، 836 ، 867 ، 981

مسائل الطبّ 947

المشتقّ 77 ، 78 ، 79 ، 80 ، 205 ، 786 ، 856

مسائل علم الاصول 35

المصالح المرسلة431 ،471 ، 477 ، 478 ، 919

المسائل الفرعيّة 25

المصحّف184 ،193 ،263 ،277 ،522، 615

المسائل الفقهيّة 25

المصوّبة 512 ، 953

مسائل الهندسة 947

المضطرب 276

المسبّب 64 ، 65 ، 109 ، 112 ، 118 ، 142 ، 858

المضمر 278

المسبّبات 112

المطابقة 204 ، 205 ، 212 ، 214 ، 474 ،

المستحبّ 77 ، 99 ، 102 ، 103 ، 123

598 ، 694 ، 715 ، 812 ، 813 ، 863

، 145 ، 157 ، 158 ، 159 ، 202 ،

المطلق35 ، 82 ، 108 ، 136 ، 138 ، 148 ،

261 ، 262 ، 308

151 ، 178 ، 497 ، 535 ، 618 ، 627 ،

المستحبّات 125 ، 155 ، 652

633 ، 642 ، 643 ، 644 ، 645 ، 646 ،

المستفتي 326 ، 957 ، 962

652 ، 673 ،

المستفتي فيه 957

المستنبط العلّة 440 ، 461 ، 888

ص: 1046

686، 698 ، 701 ، 702 ، 726 ، 747

المعتبر 70 ، 78 ، 81 ، 257 ، 259 ، 261 ،

، 753 ، 822 ، 823 ، 824 ، 825 ،

282 ، 336 ، 339 ، 363 ، 382 ، 405 ،

826 ، 827 ، 828 ، 839 ، 840 ،842

432 ، 451 ، 476 ، 477 ، 478 ، 479 ،

، 844 ، 847 ، 910 ، 921 ، 922 ،

524 ، 546 ، 567 ، 641 ، 719 ، 784 ،

924 ، 929 ، 975 ، 982

785، 820، 853، 854، 909، 924 ، 942

المطلقة 45 ، 46 ، 82 ، 90 ، 130 ، 138 ، 301 ، 406 ، 416 ، 424 ، 620 ، 624 ، 694 ، 717 ، 821 ، 879 ، 961

المعتبرة 49 ، 59 ، 60 ، 64 ، 70 ، 136 ، 219 ، 225 ، 241 ، 286 ، 429 ، 430 ، 431 ، 433 ، 438 ، 465 ، 478 ، 743 ، 750 ، 760 ، 889 ، 929

المطلقة الموجبة 82

المعقولات الذهنيّة 703

المعارض231 ، 285 ، 350 ، 370 ، 501

المعلّل 277 ، 460 ، 502 ، 524 ، 525 ،

، 510 ، 525 ، 554 ، 564 ،565 ،

529، 530، 531،561، 565 ، 757 ، 811

759 ، 760 ، 761 ، 805 ، 824 ،910

المعنعن 274

، 911 ، 916 ، 921 ، 925 ، 938

معنوي 85 ، 223 ، 277 ، 431 ، 662

المعارف الواجبة 960

المعنى الحقيقيّ 52 ، 54 ، 67 ، 68 ، 69 ، 70

معاضد 155 ، 269 ، 351 ، 361 ، 391 ، 428 ، 774 ، 921

، 299 ، 603 ، 699 ، 766 ، 767

المعاني الحقيقيّة 54 ، 71 ، 717 ، 783

المعنى المجازي 65 ، 70 ، 299 ، 597 ، 783

المعاني الذهنيّة 41 ، 703

المفتي 30 ، 231 ، 291 ، 326 ، 379 ، 396

المعاني الشرعيّة 56 ، 57

المفرد45 ، 46 ، 47 ، 48 ، 49 ، 275 ، 424

المعاني اللغويّة 56

، 707 ، 713 ، 716 ، 718 ، 719 ، 720

المعاني المجازيّة 54 ، 717 ، 760

، 721 ، 723 ، 725 ، 728 ، 729

معانيها الشرعيّة 56 ، 57

المفردات 61 ، 786

معانيه العرفيّة 63

المفردات المتعاطفة 46

معانيه اللغويّة 63

المفرد المجمل 829

المعاوضات 468

ص: 1047

المفرد المعرّف باللام 720

المقدّمات الشرعيّة 121 ، 541

مفهوم الاستثناء 855

المقدّمات العقليّة 918

مفهوم الحصر 855

المقدّمات العقليّة والنقليّة 919

مفهوم الزمان والمكان 855 ، 870

المقدّمات اللغويّة 908 ، 918

مفهوم الشرط 234 ، 236 ، 455 ، 855 ،

مقدّمات الواجب 137 ، 143 ، 144

857 ، 860 ، 862 ، 866 ، 867

مقدّمة الحرام145 ، 658 ، 659 ، 665 ، 666

مفهوم الصفة 236 ، 855 ، 861 ، 864

المقدّمة الشرعيّة 121

مفهوم العدد 864

مقدّمة الواجب 134 ، 135 ، 139 ، 140 ، 143 ، 144 ، 145 ، 654 ، 657 ، 658 ، 666 ، 672 ، 902 ، 916

مفهوم العدد الخاصّ 855

المقلّد 30 ، 328 ، 903 ، 961 ، 966 ، 967

مفهوم الغاية 855 ، 866

المقلوب 276

مفهوم اللقب 811 ، 855 ، 858 ، 870 ، 871

المقيّد 35 ، 136 ، 138 ، 151 ، 215 ، 268 ، 430 ، 497 ، 535 ، 620 ، 624 ، 625 ، 642 ، 644 ، 645 ، 701 ، 726 ، 747 ، 761 ، 767 ، 813 ، 822 ، 824 ، 825 ،

مفهوم المخالفة 742 ، 745 ، 809 ، 854 ، 855 ، 856 ، 889 ، 891

826 ، 827 ، 839 ، 842 ، 880 ، 910 ، 912 ، 975 ، 982

مفهوم الموافقة 742 ، 745 ، 809 ، 853 ،

المكلّف 96 ، 97 ، 126 ، 127 ، 128 ، 130 ، 131 ، 132 ، 133 ، 149 ، 150 ،

854 ، 856 ، 863 ، 889

151 ، 161 ، 166 ، 168 ، 169 ، 170 ،

المقبول 274 ، 276

171 ، 175 ، 177 ، 178 ، 448 ، 605 ،

المقتضي 102 ، 117 ، 164 ، 165 ، 242 ، 403 ، 415 ، 416 ، 495 ، 497 ، 498 ، 501 ، 504 ، 507 ، 533 ، 535 ، 544 ، 606 ، 615 ، 714 ، 730 ، 731 ، 732 ، 734 ، 756 ، 790 ، 824 ، 870

634 ، 635 ، 636 ، 637 ، 644 ، 654 ،

المقدّمات الاصوليّة 918

655 ، 657 ، 658 ، 660 ، 661 ، 664 ،

المقدّمات الاصوليّة والرجاليّة 910

678 ، 694 ، 815 ، 816 ، 840 ، 844 ،

المقدّمات الرجاليّة 918

878 ، 881 ، 891

ص: 1048

الملك 91 ، 106 ، 107 ، 135 ، 137 ،

الموثّق 255 ، 942

407 ، 424 ، 493 ، 505 ، 506 ،511

موثّقة 411 ، 412 ، 428

، 514 ، 671 ، 695 ، 823 ، 851

الموجبة الجزئيّة 723

الملك 476 ، 526 ، 567 ، 842

الموجبة الكلّية 723

الملك الضمني 118

الموسّع 125 ، 129 ، 131 ، 133 ، 636 ، 646 ، 648 ، 652 ، 654 ، 660

المناولة 300 ، 302 ، 303 ، 304

الموصولات 701 ، 722 ، 792

المندوب 118 ، 119 ، 132 ، 143 ،308

الموضوع 35، 46، 48، 49 ، 51 ، 60 ، 61 ،

، 598 ، 604 ، 606 ، 608 ، 609 ،

70 ، 94 ، 162 ، 394 ، 406 ، 415 ،

638 ، 664 ، 667 ، 668 ، 669 ،

427 ، 632 ، 638 ، 639 ، 658 ، 700 ،

670 ، 697

748 ، 750 ، 764 ، 782 ، 785 ، 787 ، 843 ، 852 ، 853 ، 860 ، 966

المنسوخ 277 ، 538 ، 746 ، 815 ، 839 ، 842 ، 844 ، 876 ، 887 ، 930

الموضوعات اللغويّة 835

منصوص العلّة 439 ، 440 ، 443 ، 455 ، 460 ، 464 ، 478 ، 848 ، 888 ، 908

الموضوع والمختلق 277

المنطوق281 ، 742 ، 809 ، 851 ، 852 ، 853 ، 854 ، 863 ، 867 ، 868 ، 869 ، 881 ، 882 ، 919 ، 982

الموقوف 266 ، 267 ، 268 ، 269 ، 496 ، 511 ، 677 ، 741 ، 861

المنفصل 751 ، 762 ، 763

الميراث 330 ، 353

المنقطع 266 ، 268 ، 269 ، 762 ، 763 ، 776

الناسخ 35 ، 320 ، 403 ، 804 ، 844 ، 872 ، 873 ، 875 ، 876 ، 886 ، 896 ، 910 ، 912

المنقولات الشرعيّة 835

الناسخ والمنسوخ 277 ، 930

المنقول الشرعي 51

النافلة 98 ، 158 ، 663 ، 976

المنقول العرفي 51

النحو 338

المنقول اللغوي 51

الندب 96 ، 97 ، 118 ، 119 ، 124 ، 128

المواطن الأربعة 128 ، 154 ، 155

، 149 ، 158 ، 233 ، 307 ، 308 ، 310 ،

الموالاة 315

312 ، 313 ،

ص: 1049

314 ، 316 ، 597 ، 598 ، 600 ،602

النفاس 112 ، 553

، 603، 604 ، 605 ، 606 ، 609،610

النفل 97 ، 541 ، 727

، 611 ، 612 ، 614 ، 616 ، 617 ،

النقل 40 ، 56 ، 58 ، 59 ، 72 ، 75 ، 76 ،

620 ، 646 ، 648 ، 667 ، 668 ،669

89 ، 101 ، 144 ، 184 ، 187 ، 188 ،

، 674 ، 689 ، 838 ، 932 ، 972 ،

196 ، 199 ، 210 ، 217 ، 228 ، 229 ،

975 ، 982 ، 983

240 ، 287 ، 293 ، 303 ، 352 ، 353 ،

النسخ 77 ، 102 ، 162 ، 317 ، 319 ،

355 ، 356 ، 359 ، 365 ، 366 ، 367 ،

320 ، 324 ، 330 ، 538 ، 547 ،621

402 ، 464 ، 603 ، 604 ، 611 ، 627 ،

، 622 ، 745 ، 746 ، 798 ، 799 ،

632 ، 638 ، 681 ، 691 ، 695 ، 705 ،

802، 803 ، 804 ، 806 ، 808 ، 815

708 ، 710 ، 778 ، 814 ، 858 ، 859 ،

، 816 ، 817 ، 818 ، 840 ، 844 ،

868، 872، 904، 910، 939، 960 ، 962

845، 872 ، 873 ، 874 ، 875 ، 876

النقل المحض 40

، 877 ، 878 ، 880 ، 881 ، 882 ، 883، 884 ، 885 ، 887 ، 890 ، 892

النقيضين 37 ، 102 ، 215 ، 424 ، 521 ، 650 ، 952 ، 973

، 895 ، 896 ، 975 ، 976

النكرة المطلقة 715

النصّ 33 ، 88 ، 171 ، 195 ، 200 ،

النكرة المنفيّة 698 ، 706 ، 710 ، 778

201 ، 255 ، 258 ، 277 ، 346 ،358

النواهي 735 ، 929 ، 971

،359 ،368 ،397 ، 403 ، 404 ، 408

النهي92 ،129 ،146 ، 147 ، 148 ، 149 ،

،412 ،423 ،440 ، 446 ، 447 ، 457

150 ، 151 ، 152 ، 154 ، 155 ، 156 ،

،458 ،459 ، 460 ، 464 ،472 ، 474

162 ، 168 ، 169 ، 170 ، 174 ، 177 ،

، 478 ، 481 ، 482 ، 492 ، 493 ،

237 ، 297 ، 324 ، 364 ، 413 ، 419 ،

504 ، 505 ، 536 ، 537 ، 538 ،540

450 ، 455 ، 456 ، 460 ، 593 ، 594 ،

، 543 ، 546 ، 548 ، 551 ، 556 ،

596 ، 615 ، 616 ، 617 ، 618 ، 621 ،

557 ، 565 ، 566 ، 757 ، 804، 833

625 ، 632 ، 645 ، 646 ، 647 ، 648 ،

، 837 ، 847 ، 848 ، 850 ، 922 ،

649 ، 650 ، 651 ، 652 ، 653 ، 654 ،

931، 949 ، 954 ، 982 ، 988 ، 989

655، 656، 659، 660، 661، 662، 663،

النصوص 190 ، 192 ، 195 ، 222 ،

228 ، 234 ، 311 ، 358 ، 495 ، 556 ، 768 ، 963 ، 968

ص: 1050

665 ، 666 ، 667 ، 668 ، 670 ،678

الواجب التخييري 122 ، 125 ، 130 ، 157

،679 ،680 ،681 ، 683 ، 684 ، 685

الواجب الشرعي 102

، 686 ، 687 ، 688 ، 689 ، 690 ،

الواجب العقلي 102 ، 103

691 ، 692 ، 693 ، 694 ، 695 ،696

الواجب العيني 123

، 697 ، 698 ، 704 ، 706 ، 745 ،

الواجب الكفائي 968

826، 827 ، 835 ، 836 ، 860 ، 863

الواجب المخيّر 125 ، 127 ، 132 ، 133 ، 153 ، 155

، 877 ، 878 ، 884 ، 902 ، 903 ،

الواجب المضيّق 129 ، 133 ، 659 ، 660

904، 916 ، 930 ، 931 ، 940 ، 972

الواجب المطلق 136 ، 137 ، 138 ، 139 ، 167 ، 178

النهي التحريمي 154 ، 618 ، 648 ، 669 ، 681

الواجب المعيّن 125

نهي تنزيهي 154

الواجب المقيّد 136 ، 137 ، 178

النهي عن المنكر 362 ، 640

الواجب الموسّع 133 ، 634 ، 638 ، 655 ،

النهي المطلق 682

657 ، 658 ، 659

الواجب 77 ، 99 ، 103 ، 113 ، 120 ،

الوجادة 305

121 ، 123 ، 126 ، 127 ، 128 ،130

الوجوب35 ، 45 ، 96 ، 101 ، 103 ، 104 ،

، 131 ، 132 ، 133 ، 134 ، 135 ،

110 ، 113 ، 114 ، 118 ، 122 ، 124 ،

136 ، 137 ، 138 ، 140 ، 141 ،143

125 ، 126 ، 128 ، 130 ، 131 ، 132 ،

، 156 ، 157 ، 158 ، 159 ، 163 ،

134 ، 136 ، 137 ، 138 ، 139 ، 140 ،

170 ، 178 ، 233 ، 262 ، 307 ،309

141 ، 143 ، 146 ، 147 ، 148 ، 149 ،

، 315 ، 316 ، 394 ، 428 ، 450 ،

152 ، 153 ، 154 ، 155 ، 158 ، 162 ،

541، 542 ، 598 ، 604 ، 605 ، 606

163 ، 164 ، 165 ، 166 ، 168 ، 177 ،

، 624 ، 633 ، 634 ، 635 ، 647 ،

233 ، 262 ، 307 ، 309 ، 310 ، 311 ،

654 ، 657 ، 658 ، 664 ، 665 ،666

312 ، 313 ، 315 ، 316 ، 319 ، 386 ،

،669 ،672 ،690 ، 867 ، 970 ، 971

389 ، 391 ، 395 ، 427 ، 439 ، 502 ،

الواجبات 130 ، 133 ، 134 ، 155 ، 159 ، 171 ، 312 ، 652 ، 657 ، 971

530 ، 533 ،

الواجبات الموسّعة 133 ، 134

الواجب الأصلي 143

ص: 1051

598 ، 601 ، 602 ، 603 ، 604 ،605

الوحدة 183 ، 902

، 606 ، 607 ، 608 ، 610 ، 611 ،

الوضع38 ، 49 ، 51 ، 60 ، 61 ، 72 ، 75 ،

612، 613 ، 614 ، 615 ، 616 ، 617

90 ، 95 ، 107 ، 108 ، 117 ، 144 ،207

، 618 ، 620 ، 623 ، 624 ، 630 ،

، 208 ، 261 ، 277 ، 557 ، 558 ،566 ،

636 ، 639 ، 641 ، 643 ، 644 ،645

567 ، 573 ، 603 ، 611 ، 619 ، 638 ،

، 648 ، 653 ، 655 ، 656 ، 657 ،

639 ، 645 ، 705 ، 747 ، 782 ، 784 ،

658 ، 661 ، 669 ، 674 ، 683 ،689

785 ، 786 ، 787 ، 847 ، 859

، 799 ، 825 ، 838 ، 867 ، 877 ،

الوضع العامّ 783 ، 784 ، 786 ، 787

892 ، 902 ، 906 ، 908 ، 931 ،

الوضعي 61 ، 95 ، 96 ، 323 ، 405 ، 407 ، 983

932 ، 955 ، 972 ، 982 ، 983

الوقت الخاصّ 797

الوجوب التخييري 129 ، 131 ، 502 ، 623 ، 824 ، 825

الوقت الموسّع 972

الوجوب الشرعي 137 ، 138 ، 143

الوقوع الإمكاني 348

الوجوب العقلي 136 ، 137 ، 138 ، 139 ، 143

الوقوع العقلي 348

الوجوب العيني 121 ، 737

الوكيل 84 ، 90 ، 123 ، 469 ، 672 ، 741 ، 870

الوجوب الكفائي 125

ص: 1052

6. فهرس الكتب الواردة في المتن

الاحتجاج 33

العدّة - العدّة في أصول الفقه 239 ، 261 ، 264 ، 270

إحياء العلوم 100

العلل 761

الاستبصار 239 ، 240 ، 938

العيون 761

الأمالي 761

الفقيه 253 ، 256 ، 353 ، 911 ، 936

أنيس المجتهدين 26 ، 990

القرآن33 ، 44 ، 183 ، 184 ، 185 ، 186 ،

الإيضاح 913

187 ، 188 ، 189 ، 190 ، 192 ، 193 ،

البشرى 271

194 ، 195 ، 196 ، 197 ، 198 ، 199 ،

التمهيد - تمهيد الاصول - تمهيد القواعد 42 ، 99

200 ، 201 ، 202 ، 229 ، 236 ، 263 ، 292 ، 718 ، 763 ، 769 ، 770 ، 806 ،

التوراة 329 ، 330 ، 331 ، 874 ، 876

818 ، 820 ، 845 ، 874 ، 881 ، 882 ، 887 ، 907 ، 913 ، 919 ، 928 ، 929 ، 937 ، 948 ، 985 ، 986

التهذيب - تهذيب الأحكام 240 ، 244 ، 276 ، 353 ، 761

الكافي 147 ، 262 ، 353 ، 761 ، 911 ، 936 ، 965

الثمرة 945

كتاب سيبويه 84 ، 88

جامعة الاصول 412

الكشّاف 190

الخصال 761

المحاسن 262

الخلاصة - خلاصة الأقوال 244

النهاية - نهاية الوصول إلى علم الأصول 329

الذريعة - الذريعة إلى أصول الشريعة 147 ، 299 ، 301 ، 595 ، 639

نهج البلاغة 953

الصحيفة - الصحيفة السجّاديّة 91

ص: 1053

7. فهرس مصادر التحقيق

1. الإبهاج في شرح المنهاج. للشيخ عليّ بن عبد الكافي السّبكي ( م 756 ). وولده تاج الدين عبد الوهّاب بن عليّ السّبكي ( م 771 ). تحقيق شعبان محمّد إسماعيل. الطبعة الأولى ، 3 أجزاء على مجلّد واحد ، القاهرة ، مكتبة الكلّيّات الأزهريّة ، 1401 ه / 1981 م.

2. الإتقان في علوم القرآن. لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ( 849 - 911 ). جزءان في مجلّد واحد ، بيروت ، المكتبة الثقافيّة ، 1973 م.

3. الاحتجاج على أهل اللجاج. لأبي منصور أحمد بن عليّ بن أبي طالب الطبرسي ( ق 6 ). تحقيق إبراهيم البهادري ومحمّد هادي به. الطبعة الأولى ، مجلّدان ، قم ، الأسوة ، 1413 ه.

4. إحكام الفصول في أحكام الأصول. لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي ( م 474 ). تحقيق عبد اللّه محمّد الجبوري. الطبعة الأولى ، بيروت ، مؤسّسة الرسالة ، 1409 ه / 1989 م.

5. الإحكام في أصول الأحكام. لأبي محمّد عليّ بن حزم الأندلسي الظاهري ( 383 / 384 - 456 ). تحقيق لجنة من العلماء. الطبعة الثانية ، 8 أجزاء في مجلّدين ، بيروت ، دار الجيل ، 1407 ه.

6. الإحكام في أصول الأحكام. لسيف الدين عليّ بن أبي عليّ بن محمّد الآمدي ( 551 - 631 ). تحقيق سيّد الجميلي. الطبعة الثانية ، 4 أجزاء في مجلّدين ، بيروت ، دار الكتاب العربي ، 1406 ه / 1986 م.

7. إحياء علوم الدين. لأبي حامد محمّد بن محمّد بن محمّد الغزّالي ( 450 - 505 ). الطبعة الثانية ، 4 مجلّدات+ الملحق ، بيروت ، دار الفكر ، 1409 ه / 1989 م.

ص: 1054

8. اختيار معرفة الرجال. لشيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي ( 385 - 460 ). إعداد حسن المصطفوي. [ الطبعة الأولى ] ، مشهد ، جامعة مشهد ، 1348 ش.

9. الأربعون حديثا. للشيخ بهاء الدين محمّد بن الحسين العاملي ( 953 - 1030 ). تصحيح عبد الرحيم العقيقي البخشايشي. قم ، نويد إسلام.

10. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري. لأبي العبّاس أحمد بن محمّد الشافعي القسطلاني ( م 923 ). بهامشه شرح النووي على صحيح مسلم. 10 مجلّدات ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي.

11. إرشاد الفحول إلى تحقيق الحقّ من علم الأصول. لأبي عبد اللّه محمّد بن عليّ الشوكاني ( 1173 - 1250 ). تحقيق أحمد عزّو عناية. الطبعة الثانية ، جزءان في مجلّد واحد ، بيروت ، دار الكتاب العربي ، 1421 ه.

12. أسباب النزول. لأبي الحسن عليّ بن أحمد الواحدي النيسابوري ( م 468 ). تحقيق طارق الطنطاوي. القاهرة ، مكتبة القرآن.

13. الاستبصار فيما اختلف من الأخبار. لشيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي ( 385 - 460 ). إعداد السيّد حسن الموسوي الخرسان. الطبعة الثالثة ، 4 مجلّدات ، طهران ، دار الكتب الإسلاميّة ، 1390 ه.

14. الإصابة في تمييز الصحابة. لأحمد بن عليّ بن حجر العسقلاني ( 773 - 852 ). تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود وعليّ محمّد معوّض. الطبعة الأولى ، 8 مجلّدات ، بيروت ، دار الكتب العلميّة ، 1415 ه / 1995 م.

15. أصول السرخسي. لأبي بكر محمّد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي ( م 490 ). تحقيق أبي الوفاء الأفغاني. بيروت ، دار المعرفة ولجنة إحياء المعارف النعمانية.

16. الإفصاح عن المعاني الصحاح. ليحيى بن محمّد بن هبيرة ( م 560 ). تحقيق محمّد حسن إسماعيل الشافعي. الطبعة الأولى ، مجلّدان ، بيروت ، دار الكتب العلميّة ، 1417 ه / 1996 م.

17. الأقطاب الفقهيّة على مذهب الإماميّة. لمحمّد بن عليّ بن إبراهيم الأحسائي ( م 878 ). تحقيق محمّد الحسّون. قم ، مكتبة المرعشي النجفي ، 1368 ش.

ص: 1055

18. الألفيّة في علم الحديث. لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ( 849 - 911 ). تحقيق أحمد محمّد شاكر. بيروت ، دار المعرفة.

19. أمالي الصدوق. للشيخ الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه القمّي ( م 381 ). تقديم الشيخ حسين الأعلمي. الطبعة الخامسة ، بيروت ، مؤسّسة الأعلمي ، 1410 ه / 1990 م.

20. الأمّ ( ومعه مختصر المزني ). لأبي عبد اللّه محمّد بن إدريس الشافعي ( 150 - 204 ). 9 مجلّدات+ الفهرس ، بيروت ، دار المعرفة.

21. الانتصار. للشريف المرتضى عليّ بن الحسين الموسوي ( 355 - 436 ). تحقيق ونشر : مؤسّسة النشر الإسلامي. الطبعة الأولى ، قم ، 1415 ه.

22. أنيس الموحّدين. للمولى محمّد مهدي بن أبي ذرّ النراقي الكاشاني ( م 1209 ). تصحيح آية اللّه الشهيد القاضي الطباطبائي مع مقدّمة العلاّمة حسن حسن زادة الآملي. طهران ، الزهراء ، 1403 ه / 1363 ش.

23. إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد. لفخر المحقّقين محمّد بن الحسن بن يوسف الحلّي ( 682 - 771 ). إعداد عدّة من العلماء. الطبعة الثانية ، 4 مجلّدات ، طهران وقم ، بنياد فرهنگ إسلامى كوشان پور ( مؤسّسة الثقافة الإسلاميّة لكوشان پور ) وإسماعيليان ، 1363 ش. [ بالأوفست عن طبعته الأولى ، 1387 - 1389 ه ].

24. الباب الحادي عشر. للعلاّمة الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي ( 648 - 726 ). المطبوع ضمن شرحه للفاضل المقداد. إعداد مهدي محقّق. الطبعة الأولى ، طهران ، مؤسّسة مطالعات إسلامي دانشگاه مك گيل ( مؤسّسة الأبحاث الإسلاميّة لجامع مك گيل ) وجامعة طهران ، 1365 ش.

25. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار عليهم السلام. للعلاّمة محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي ( 1037 - 1110 ). إعداد عدّة من العلماء. الطبعة الثالثة ، 110 مجلّد ( إلاّ 6 مجلّدات ، من المجلّد 29 - 34 ) + المدخل ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، 1403 ه / 1983 م. [ بالأوفست عن طبعة إيران ].

26. البحر المحيط في أصول الفقه. لبدر الدين محمّد بن بهادر بن عبد اللّه الزركشي ( م 794 ). تحقيق محمّد محمّد تامر. الطبعة الأولى ، 4 مجلّدات ، بيروت ، دار الكتب العلميّة ، 1421 ه / 2000 م.

ص: 1056

27. بدائع الصنائع ( كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ). لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني ، الملقّب بملك العلماء ( م 587 ). الطبعة الثانية ، 7 مجلّدات ، بيروت ، دار الكتاب العربي ، 1394 ه / 1974 م.

_ البداية في علم الدراية - شرح البداية

28. بداية المجتهد ونهاية المقتصد. لمحمّد بن أحمد بن رشد القرطبي ( 520 - 595 ). الطبعة السادسة ،

مجلّدان ، بيروت ، دار المعرفة ، 1402 ه / 1982 م.

29. البرهان في تفسير القرآن. للسيّد هاشم الحسيني البحراني ( م 1107 ) تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة - مؤسّسة البعثة. الطبعة الأولى ، 5 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة البعثة ، 1415 ه.

30. البهجة المرضية على ألفية ابن مالك. لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ( 849 - 911 ). مع تعليق الشيخ مصطفى الدشتي. جزءان في مجلّد واحد ، الطبعة الخامسة ، قم ، مؤسّسة إسماعيليان ، 1410 ه / 1369 ش.

31. البيان. للشهيد الأوّل شمس الدين محمّد بن مكّي العاملي ( م 786 ). إعداد محمّد الحسّون. الطبعة الأولى ، قم ، 1412 ه.

32. تاج العروس من جواهر القاموس. للسيّد محمّد بن محمّد مرتضى الحسيني الزبيدي ( 1145 - 1205 ). تحقيق عليّ شيري. 20 مجلّدا ، بيروت ، دار الفكر ، 1414 ه / 1994 م.

33. تاريخ بغداد أو مدينة السلام. لأبي بكر أحمد بن عليّ الخطيب البغدادي ( م 463 ). 19 مجلّدا+ الفهرس ، بيروت ، دار الكتب العلميّة.

34. تاريخ كاشان. عبد الرحيم كلانتر ضرابي ( سهيل كاشاني ). الطبعة الثالثة ، طهران ، 1356 ش.

35. تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام. لأبي محمّد السيّد حسن صدر الموسوي العاملي الكاظمي ( 1272 - 1354 ). طهران ، الأعلمي. [ بالأوفست عن طبعته السابقة ].

36. التبيان في تفسير القرآن. لشيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي ( 385 - 460 ). إعداد أحمد حبيب قصير العاملي. 10 مجلّدات ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي. [ بالأوفست عن طبعة النجف الأشرف ].

37. تجريد الأصول. للمولى محمّد مهدي بن أبي ذرّ النراقي الكاشاني ( م 1209 ). طهران ، الطبعة الحجرية ، 1317 ه.

ص: 1057

38. تحرير الأحكام الشرعيّة على مذهب الإماميّة. للعلاّمة الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي ( 648 - 726 ). تحقيق إبراهيم البهادري. الطبعة الأولى ، 5 مجلّدات+ الفهارس ، قم ، مؤسّسة الإمام الصادق عليه السلام ، 1420 - 1424 ه.

39. تحف العقول عن آل الرسول عليهم السلام. لأبي محمّد الحسن بن عليّ بن الحسين بن شعبة الحرّاني ( ق 4 ). تقديم الشيخ حسين الأعلمي. الطبعة السادسة ، بيروت ، مؤسّسة الأعلمي ، 1417 ه / 1996 م.

40. تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي. لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ( 849 - 911 ). تحقيق عبد الوهّاب عبد اللطيف. الطبعة الثالثة ، مجلّدان ، بيروت ، دار الكتب العلميّة ، 1409 ه / 1989 م.

_ التذكرة بأصول الفقه - مصنّفات الشيخ المفيد / ج 9

41. تذكرة الفقهاء. للعلاّمة الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي ( 648 - 726 ). تحقيق ونشر :

مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث. الطبعة الأولى ، صدر منه حتّى الآن 16 مجلّدا ، قم ، 1414 - 1427 ه.

42. تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد. لأبي عبد اللّه جمال الدين محمّد بن مالك الطائي النحوي ( 600 - 672 ). تحقيق محمّد كامل بركات. مصر ، دار الكاتب العربي ، 1387 ه / 1967 م.

_ تصحيح الاعتقاد ( شرح اعتقادات الصدوق ) - مصنّفات الشيخ المفيد / ج 5

43. التعريفات. لعليّ بن محمّد بن عليّ الجرجاني ( 740 - 816 ). تحقيق إبراهيم الأبياري. الطبعة الثالثة ، بيروت ، دار الكتاب العربي ، 1417 ه / 1996 م.

_ تفسير ابن كثير - تفسير القرآن العظيم

44. تفسير البغوي ( المسمّى بمعالم التنزيل ). لأبي محمّد الحسين بن مسعود الفرّاء البغوي ( م 516 ). إعداد خالد عبد الرحمن العك ومروان سوار. الطبعة الثانية ، 4 مجلّدات ، بيروت ، دار المعرفة ، 1407 ه / 1987 م.

_ تفسير الصافي - الصافي

45. تفسير الطبري. لأبي جعفر محمّد بن جرير الطبري ( 226 - 310 ). 30 جزءا في 12 مجلّدا ، بيروت ، دار المعرفة ، 1409 ه / 1989 م.

ص: 1058

_ تفسير عليّ بن إبراهيم - تفسير القمّي

46. تفسير العيّاشي. لأبي النضر محمّد بن مسعود بن عيّاش السلمي ( أواخر ق 3 ). تحقيق السيّد هاشم الرسولي المحلاّتي. الطبعة الأولى ، مجلّدان ، مؤسّسة الأعلمي ، 1411 ه / 1991 م.

47. تفسير القرآن العظيم. لأبي الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي ( 701 - 774 ). تحقيق يوسف عبد الرحمن المرعشلي. الطبعة الثانية ، 5 مجلّدات ، بيروت ، دار المعرفة ، 1407 ه / 1987 م.

_ تفسير القرطبي - الجامع لأحكام القرآن

48. تفسير القمّي. لأبي الحسن عليّ بن إبراهيم القمّي ( م 307 ). تصحيح السيّد طيّب الموسوي الجزائري. الطبعة الثانية ، مجلّدان ، قم ، دار الكتاب ، 1404 ه.

49. التفسير الكبير. لمحمّد بن عمر الخطيب فخر الدين الرازي ( 544 - 606 ). الطبعة الثالثة ، 32 جزءا في 16 مجلّدا+ الفهارس ، بيروت ، دار الفكر.

50. التقريب والتيسير. لأبي زكريّا يحيى بن شرف النووي ( م 776 ). المطبوع مع « تدريب الراوي ». الطبعة الثالثة ، مجلّدان ، بيروت ، دار الكتب العلميّة ، 1409 ه.

51. التمهيد في تخريج الفروع على الأصول. لأبي محمّد عبد الرحيم بن الحسن الأسنوي ( 704 - 772 ). تحقيق محمّد حسن هيتو. الطبعة الرابعة ، بيروت ، مؤسّسة الرسالة ، 1407 ه / 1987 م.

52. تمهيد القواعد الأصوليّة والعربيّة لتفريع قواعد الأحكام الشرعيّة. للشهيد الثاني زين الدين بن عليّ العاملي ( 911 - 965 ). تحقيق ونشر : مكتب الإعلام الإسلامي - فرع خراسان. الطبعة الأولى ، قم ، 1416 ه / 1374 ش.

53. التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد. لأبي عمر يوسف بن عبد اللّه بن عبد البرّ النمري الأندلسي ( م 463 ). تحقيق مصطفى بن أحمد العلوي ومحمّد عبد الكبير البكري. الطبعة الأولى ، 25 مجلّدا ، المغرب العربي ، 1387 ه.

54. التوحيد. للشيخ الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه القمّي ( م 381 ). تحقيق السيّد هاشم الحسيني الطهراني. قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1398 ه / 1357 ش.

55. توضيح المقال في علم الرجال. للملاّ عليّ الكني ( 1220 - 1306 ). تحقيق محمّد حسين المولوي. الطبعة الأولى ، قم ، دار الحديث ، 1379 ش.

ص: 1059

56. تهذيب الأحكام. لشيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي ( 385 - 460 ). إعداد السيّد حسن الموسوي الخراسان. الطبعة الثالثة ، 10 مجلّدات ، طهران ، دار الكتب الإسلاميّة ، 1364 ش.

57. تهذيب الوصول إلى علم الأصول. للعلاّمة الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي ( 648 - 726 ). تحقيق السيّد محمّد حسين الرضوي الكشميري. الطبعة الأولى ، لندن ، مؤسّسة الإمام عليّ عليه السلام ، 1421 ه / 2001 م.

58. ثواب الأعمال وعقاب الأعمال. للشيخ الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه القمّي ( م 381 ). تصحيح الشيخ حسين الأعلمي. الطبعة الثالثة ، قم ، طليعة النور ، 1427 ه.

59. جامع الأصول في أحاديث الرسول صلى اللّه عليه وآله. لأبي السعادات المبارك بن محمّد بن الأثير الجزري ( 544 - 606 ). تحقيق عبد القادر الأرناءوط. الطبعة الثانية ، 13 مجلّدا+ مجلّدان في معجم جامع الأصول ، بيروت ، دار الفكر ، 1403 ه / 1983 م.

_ جامع البيان في تفسير القرآن - تفسير الطبري

60. جامع الرواة وإزاحة الاشتباهات عن الطرق والأسناد. لمحمّد بن عليّ الأردبيلي ( م 1101 ). مجلّدان ، قم ، المصطفوي.

_ الجامع الصحيح - سنن الترمذي

61. الجامع لأحكام القرآن. لأبي عبد اللّه محمّد بن أحمد الأنصاري القرطبي ( 580 - 671 ). 20 جزءا في 10 مجلّدات ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي. [ بالاوفست عن طبعة القاهرة ، 1386 ه / 1967 م ].

62. جامع المقاصد في شرح القواعد. للمحقّق الثاني عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي ( 868 - 940 ). تحقيق ونشر : مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث. الطبعة الأولى ، 13 مجلّدا ، قم ، 1408 - 1411 ه.

_ جوابات المسائل التبّانيات - رسائل الشريف المرتضى / ج 1

_ جوابات المسائل الطرابلسيّات - رسائل الشريف المرتضى / ج 1

63. حاشية ردّ المختار. لمحمّد أمين بن عمر بن عبد العزيز بن عابدين الدمشقي ( 1198 - 1252 ). 8 مجلّدات ، استانبول ، دار قهرمان للنشر ، 1984 م.

ص: 1060

64. حاشية على جمع الجوامع في الأصول. لحسن بن محمّد العطّار ( 1180 / 1190 - 1250 ). بيروت ، دار الكتب العلميّة.

65. حاشية القوانين. للسيّد عليّ بن إسماعيل الموسوي القزويني ( م 1298 ). المطبوع ضمن كتاب قوانين الأصول ، الطبعة الحجريّة ، مجلّدان ، طهران.

66. حاشية المعالم. للمولى محمّد صالح بن محمّد السروي المازندراني ( 1081 أو 1086 ). المطبوع في حاشية معالم الأصول. الطبعة الحجرية ، طهران ، المعارف الإسلاميّة.

67. الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة. للشيخ يوسف البحراني ( 1107 - 1186 ). الطبعة الأولى ، 25 مجلّدا ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1409 ه.

68. حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء. لسيف الدين أبي بكر محمّد بن أحمد الشاشي القفّال ( 429 - 507 ). الطبعة الأولى ، 8 مجلّدات ، عمّان ، مكتبة الرسالة الحديثة ، 1988 م.

69. حياة المحقّق الكركي وآثاره. تأليف والتحقيق الشيخ محمّد الحسّون. الطبعة الأولى ، 12 مجلّدا ، طهران ، احتجاج ، 1423 ه.

70. الخصال. للشيخ الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه القمّي ( م 381 ه ). تحقيق علي أكبر الغفاري. الطبعة الخامسة ، جزءان في مجلّد واحد ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1416 ه.

71. خلاصة الأقوال في معرفة الرجال. للعلاّمة الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي ( 648 - 726 ). تحقيق الشيخ جواد القيّومي. الطبعة الأولى ، قم ، مؤسّسة نشر الفقاهة ، 1417 ه.

72. الخلاف. لشيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي ( 385 - 460 ). تحقيق عدّة من الفضلاء. الطبعة الأولى ، 6 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1407 - 1417 ه.

73. الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة. لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ( 849 - 911 ). تحقيق محمّد عبد الرحيم. بيروت ، دار الفكر ، 1415 ه / 1995 م.

74. الدرّ المنثور في التفسير المأثور. لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ( 849 - 911 ). 10 مجلّدات ، بيروت ، دار الفكر ، 1414 ه / 1993 م.

75. الدروس الشرعيّة في فقه الإماميّة. للشهيد الأوّل شمس الدين محمّد بن مكّي العاملي ( م 786 ). إعداد ونشر : مؤسّسة النشر الإسلامي. الطبعة الأولى ، 3 مجلّدات ، قم ، 1413 - 1414 ه.

ص: 1061

76. دعائم الإسلام وذكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام عن أهل بيت رسول اللّه ( عليه وعليهم أفضل السلام ). لأبي حنيفة النعمان بن محمّد بن منصور التميمي المغربي ( م 363 ). تحقيق آصف عليّ أصغر فيضي. الطبعة الأولى ، مجلّدان ، القاهرة ، دار المعارف ، 1383 ه / 1963 م.

77. ديوان امرئ القيس بن حجر الحارث الكندي ( 80 - 130 ه ). بيروت ، دار بيروت للطباعة والنشر ، 1406 ه / 1986 م.

78. ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد. للمولى محمّد باقر بن محمّد مؤمن السبزواري ( 1017 - 1090 ). قم ، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الحجريّة.

79. الذريعة إلى أصول الشريعة. للشريف المرتضى عليّ بن الحسين الموسوي ( 355 - 436 ). تحقيق أبو القاسم گرجي. الطبعة الثانية ، مجلّدان ، طهران ، جامعة طهران ، 1363 ش.

80. الذريعة إلى تصانيف الشيعة. للشيخ محمّد محسن آقا بزرگ الطهراني ( 1293 - 1389 ). الطبعة الثانية ، 26 جزءا في 29 مجلّدا ( الجزء 9 في 4 مجلّدات ). بيروت ، دار الأضواء ، 14406 ه / 1986 م. [ بالأوفست عن طبعة النجف الأشرف وطهران ].

81. ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة. للشهيد الأوّل شمس الدين محمّد بن مكّي العاملي ( م 786 ). تحقيق ونشر : مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث. الطبعة الأولى ، 4 مجلّدات ، قم ، 1419 ه.

82. رجال الخاقاني. للشيخ عليّ الخاقاني ( م 1334 ). - المطبوع معه فوائد الوحيد البهبهاني - تحقيق السيّد محمّد صادق بحر العلوم. الطبعة الثانية ، قم ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1404 ه.

83. رجال الطوسي. لشيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي ( 385 - 460 ). الطبعة الأولى ، النجف الأشرف ، المطبعة الحيدرية ، 1380 ه / 1961 م. رجال الكشي - اختيار معرفة الرجال

84. رجال النجاشي ( فهرست أسماء مصنّفي الشيعة ). لأبي العبّاس أحمد بن عليّ بن أحمد النجاشي ( 372 - 450 ). تحقيق السيّد موسى الشبيري الزنجاني. الطبعة الرابعة ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1413 ه.

_ الردّ على أهل العدد والرؤية - مصنّفات الشيخ المفيد / ج 9

ص: 1062

85. الرسائل الأصوليّة. للمولى محمّد باقر بن محمّد أكمل ، الوحيد البهبهاني ( 1117 - 1205 ). تحقيق ونشر : مؤسّسة العلاّمة المجدّد الوحيد البهبهاني. الطبعة الأولى ، قم ، 1416 ه.

86. الرسائل الرجاليّة. لأبي المعالي محمّد بن محمّد إبراهيم الكلباسي ( 1247 - 1315 ). تحقيق محمّد حسين الدرايتي. الطبعة الأولى ، مجلّدان ، قم ، دار الحديث ، 1380 ش / 1422 ه.

87. رسائل الشريف المرتضى. للشريف المرتضى عليّ بن الحسين الموسوي ( 355 - 436 ). إعداد السيّد مهدي الرجائي. الطبعة الأولى ، 4 مجلّدات ، قم ، دار القرآن الكريم ، 1405 ه.

88. رسائل الشهيد الثاني. للشهيد الثاني زين الدين بن عليّ العاملي ( 911 - 965 ). تحقيق مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة. الطبعة الأولى ، مجلّدان ، قم ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1421 - 1422 ه.

رسالة الاجتهاد والأخبار - الرسائل الأصوليّة

رسالة عدم سهو النبيّ صلى اللّه عليه وآله - مصنّفات الشيخ المفيد / ج 10

89. الرسالة للشافعي. لمحمّد بن إدريس الشافعي ( 150 - 204 ). تحقيق أحمد محمّد شاكر. بيروت ، دار الفكر.

90. الرواشح السماويّة في شرح الأحاديث الإماميّة. للميرداماد السيّد محمّد باقر الحسيني الأسترآبادي ( م 1041 ). تحقيق غلام حسين قيصريه ها ونعمة اللّه الجليلي ، الطبعة الأولى ، قم ، دار الحديث ، 1422 ه / 1380 ش.

91. روضات الجنّات في أحوال العلماء والسادات. للسيّد محمّد باقر الخوانساري الأصفهاني ( 1226 - 1313 ). إعداد أسد اللّه إسماعيليان. 8 مجلّدات ، قم ، إسماعيليان ، 1391 ه.

92. روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان. للشهيد الثاني زين الدين بن عليّ العاملي ( 911 - 965 ). تحقيق مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة. الطبعة الأولى ، مجلّدان ، قم ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1422 ه / 1380 ش.

93. روض الجنان وروح الجنان في تفسير القرآن. لحسين بن عليّ بن محمّد الخزاعي المشهور بأبي الفتوح الرازي ( م حوالي 554 ). تحقيق محمّد جعفر الياحقي ومحمّد مهدي الناصح. الطبعة الأولى ، 20 مجلّدا ، مشهد ، مجمع البحوث الإسلاميّة ، 1365 - 1376 ش.

ص: 1063

94. الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة. للشهيد الثاني زين الدين بن عليّ العامليّ ( 911 - 965 ). تصحيح السيّد محمّد كلانتر. الطبعة الثانية ، 10 مجلّدات ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، 1403 ه.

95. رياض المسائل في بيان أحكام الشرع بالدلائل. للسيّد عليّ بن محمّد عليّ الطباطبائي ( 1161 - 1231 ). تحقيق ونشر : مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث. الطبعة الأولى ، 16 مجلّدا ، قم ، 1418 - 1423 ه.

96. ريحانة الأدب في تراجم المعروفين بالكنية أو اللقب. للميرزا محمّد عليّ المدرّس التبريزي ( 1296 - 1373 ). الطبعة الثالثة ، 8 مجلّدات ، تبريز ، مكتبة خيّام.

97. زبدة الأصول. للشيخ بهاء الدين محمّد بن الحسين العاملي ( 953 - 1031 ). تحقيق فارس حسّون كريم. الطبعة الأولى ، قم ، مرصاد ، 1381 ش / 1423 ه.

98. السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي. لمحمّد بن منصور بن أحمد بن إدريس العجلي الحلّي ( 543 - 598 ). إعداد ونشر : مؤسّسة النشر الإسلامي. الطبعة الأولى ، 3 مجلّدات ، قم ، 1410 - 1411 ه.

99. سعد السعود للنفوس. لرضي الدين السيّد عليّ بن موسى بن طاوس الحسني الحلّي ( 589 - 664 ). تحقيق مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة. الطبعة الأولى ، قم ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1422 ه / 1380 ش. سلّم الوصول لشرح نهاية السّول ( المطبوع في هامش نهاية السّول ) - نهاية السّول في شرح منهاج الأصول

100. سنن ابن ماجة. لأبي عبد اللّه محمّد بن يزيد بن ماجة القزويني ( 207 / 209 - 273 / 275 ). تحقيق محمّد فؤاد عبد الباقي. مجلّدان ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، 1395 ه / 1975 م.

101. سنن أبي داود. لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني ( 202 - 275 ). تحقيق محمّد محيي الدين عبد الحميد. 4 أجزاء في مجلّدين ، دار الفكر.

102. سنن الترمذي. لمحمّد بن عيسى بن سورة الترمذي ( 209 - 279 ). تحقيق أحمد محمّد شاكر. 5 مجلّدات ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي.

ص: 1064

103. سنن الدارقطني. لعليّ بن عمر الدارقطني ( 306 - 385 ). تحقيق السيّد عبد اللّه هاشم يماني المدني. 4 أجزاء في مجلّدين ، بيروت ، دار المعرفة.

104. سنن الدارمي. لأبي محمّد عبد اللّه بن بهرام الدارمي ( 181 - 255 ). مجلّدان ، [ بيروت ] ، دار الفكر ، 1978 م.

105. السنن الكبرى ( سنن البيهقي ). لأبي بكر أحمد بن الحسين بن عليّ البيهقي ( 384 - 458 ). تحقيق محمّد عبد القادر عطا. الطبعة الأولى ، 10 مجلّدات ، بيروت ، دار الكتب العلميّة ، 14414 ه / 1994 م.

106. سنن النسائي. لأبي عبد الرحمن بن أحمد بن عليّ بن شعيب النسائي ( 215 - 303 ). تحقيق صدقي جميل العطار. 8 أجزاء في 4 مجلّدات ، بيروت ، دار الفكر ، 1415 ه / 1995 م.

107. السيرة النبويّة. لأبي محمّد عبد الملك بن هشام ( م 213 أو 218 ). تحقيق عمر عبد السلام تدمري. الطبعة السابعة ، 4 مجلّدات ، بيروت ، دار الكتاب العربي ، 1420 ه / 1999 م.

108. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام. للمحقّق الحلّي نجم الدين جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي ( 602 - 676 ). إعداد عبد الحسين محمّد عليّ البقّال. الطبعة الثالثة ، 4 أجزاء في مجلّدين ، قم ، إسماعيليان ، 1409 ه.

109. شرح أحوال وآثار ملاّ مهدي نراقي وملاّ أحمد نراقي وخاندان ايشان. لشيخ رضا أستادي. الطبعة الأولى ، قم ، المؤتمر العالمي لتكريم الفاضلين النراقيين ، 1382 ش.

110. شرح البداية ( المطبوع باسم الرعاية لحال البداية في علم الدراية ). للشهيد الثاني زين الدين بن عليّ العاملي ( 911 - 965 ). تحقيق قسم إحياء التراث الإسلامي - مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة. الطبعة الأولى ، قم ، بوستان كتاب ، 1421 ه / 1381 ش.

111. شرح تجريد الأصول. للمولى أحمد بن محمّد مهدي النراقي ( 1185 - 1245 ). مخطوط.

112. شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه. لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني ( م 792 ). تحقيق خيري سعيد. مجلّدان ، القاهرة ، المكتبة التوفيقيّة.

113. شرح الرضيّ على الكافية البديعيّة. تصحيح يوسف حسن عمر ، طهران ، مؤسّسة الصادق عليه السلام ، 4 مجلّدات ، 1398 ه. [ بالأوفست عن طبعة جامعة قاريونس ].

ص: 1065

114. الشرح الكبير. لأبي الفرج عبد الرحمن بن محمّد بن أحمد بن قدامة المقدسي ( 597 - 682 ). ( المطبوع مع المغني. لعبد اللّه بن أحمد بن قدامة ) ، الطبعة الأولى ، 14 مجلّدا ، بيروت ، دار الفكر ، 1404 ه / 1984 م.

115. شرح مختصر الأصول. أصله لابن الحاجب ( 571 - 646 ). وشرحه لعضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي ( 708 - 756 ). اسلامبول ، مطبعة العالم ، 1307 ه. شرح مختصر المنتهى - شرح مختصر الأصول

116. شرح المنظومة. للحكيم السبزواري الحاج ملاّ هادي السبزواري ( 1212 - 1289 ). تحقيق مسعود الطالبي. الطبعة الأولى ، مجلّدان ، نشر ناب ، 1413 ه / 1992 م.

117. شرح المواقف. للسيّد الشريف عليّ بن محمّد الجرجاني ( م 816 ). إعداد السيّد محمّد بدر الدين النعساني. الطبعة الثانية ، قم ، 8 أجزاء في 4 مجلّدات ، الرضي ، 1415 ه. [ بالأوفست عن طبعة مصر ، 1325 ه / 1907 م ].

118. الشفاء. للشيخ الرئيس أبي عليّ حسين بن عبد اللّه بن سينا ( 370 - 428 ). إعداد عدّة من الأساتذة. 10 مجلّدات ، قم ، مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي ، 1404 - 1406 ه.

119. الصافي. للمولى محمّد محسن الفيض الكاشاني ( 1007 - 1091 ). إعداد الشيخ حسين الأعلمي. الطبعة الثانية ، 5 مجلّدات ، بيروت ، مؤسّسة الأعلمي ، 1402 ه / 1982 م.

120. الصحاح ( تاج اللغة وصحاح العربية ). لإسماعيل بن حمّاد الجوهري ( م 393 ). تحقيق أحمد عبد الغفور عطّار. الطبعة الثانية ، 6 مجلّدات+ المقدّمة ، بيروت ، دار العلم للملايين ، 1399 ه / 1979 م [ بالأوفست عن طبعته الأولى بالقاهرة ].

121. صحيح البخاري. لأبي عبد اللّه محمّد بن إسماعيل البخاري ( 194 - 256 ). تحقيق مصطفى ديب البغا. الطبعة الخامسة ، 6 مجلّدات+ الفهرس ، دمشق وبيروت ، دار ابن كثير واليمامة ، 1414 ه / 1993 م.

122. صحيح مسلم. لأبي الحسين مسلم بن الحجّاج القشيري النيسابوري ( 206 - 261 ). تحقيق محمّد فؤاد عبد الباقي. الطبعة الثانية ، 5 مجلّدات ، بيروت ، دار الفكر ، 1398 ه [ بالأوفست عن طبعته السابقة ].

ص: 1066

123. الصحيفة السجّاديّة. للإمام زين العابدين عليه السلام. تحقيق محمّد جواد الحسيني الجلالي. الطبعة الأولى ، قم ، منشورات دليل ما ، 1422 ه / 1380 ش.

124. العدّة في أصول الفقه. لشيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي ( 385 - 460 ). إعداد محمّد رضا الأنصاري القمّي. الطبعة الأولى ، مجلّدان ، قم ، 1417 ه / 1376 ش.

125. عدّة الداعي ونجاح الساعي. لأبي العبّاس أحمد بن محمّد بن فهد الحلّي الأسدي ( 757 - 841 ). تحقيق ونشر : مؤسّسة المعارف الإسلاميّة. الطبعة الأولى ، قم ، 1420 ه.

126. عدّة الرجال. للسيّد محسن بن الحسن الحسيني الأعرجي الكاظمي ( م 1227 ه ). تحقيق مؤسّسة الهداية لإحياء التراث. الطبعة الأولى ، مجلّدان ، قم ، إسماعيليان ، 1415 ه.

127. عوائد الأيّام. للمولى أحمد بن محمّد مهدي النراقي ( 1185 - 1245 ). تحقيق مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة. الطبعة الأولى ، قم ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1417 ه / 1375 ش.

128. عون المعبود ( شرح سنن أبي داود ). لأبي الطيب محمّد شمس الحقّ العظيم آبادي. تحقيق محمّد عثمان. الطبعة الثالثة ، 13 مجلّدا ، بيروت ، دار الفكر ، 1399 ه / 1979 م.

129. عوالي اللآلي العزيزيّة في الأحاديث الدينيّة. للشيخ محمّد بن عليّ بن إبراهيم الأحسائي المعروف بابن أبي جمهور ( م أوائل القرن العاشر ). تحقيق مجتبى العراقي. الطبعة الأولى ، 4 مجلّدات ، قم ، مطبعة سيّد الشهداء عليه السلام ، 1403 - 1405 ه.

130. عيون أخبار الرضا عليه السلام. للشيخ الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه القمّي ( م 381 ). تصحيح الشيخ حسين الأعلمي. الطبعة الأولى ، مجلّدان ، بيروت ، مؤسّسة الأعلمي ، 1404 ه / 1984 م.

131. غاية المراد في شرح نكت الإرشاد. للشهيد الأوّل شمس الدين محمّد بن مكّي العاملي ( م 786 ). تحقيق مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة. الطبعة الأولى ، 4 مجلّدات ، قم ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1414 - 1421 ه.

132. غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع. لأبي المكارم السيّد حمزة بن عليّ بن زهرة الحسيني المعروف بابن زهرة ( 511 - 585 ). تحقيق إبراهيم البهادري. الطبعة الأولى ، مجلّدان ، قم ، مؤسّسة الإمام الصادق عليه السلام ، 1417 - 1418 ه.

ص: 1067

133. الغيبة. لشيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي ( 385 - 460 ). الطبعة الثانية ، قم ، مكتبة بصيرتي ، 1408 ه.

134. الغيبة. للشيخ ابن أبي زينب محمّد بن إبراهيم النعماني ( ق 4 ). تحقيق عليّ أكبر الغفاري. طهران ، مكتبة الصدوق ، 1397 ه.

135. فائق المقال في الحديث والرجال. لأحمد بن عبد الرضا البصري ( 1020 - 1085 ). تحقيق غلام حسين قيصريّه ها. الطبعة الأولى ، قم ، دار الحديث ، 1380 ش / 1422 ه.

136. فتح الباري شرح صحيح البخاري. لأحمد بن عليّ بن حجر العسقلاني ( 773 - 852 ). الطبعة الأولى ، 13 مجلّدا+ فهرس في مجلّدين مقدّمة ، بيروت ، دار الكتب العلميّة ، 1410 ه / 1989 م.

137. فتح العزيز في شرح الوجيز. لأبي القاسم عبد الكريم بن محمّد بن عبد الكريم الرافعي القزويني ( 557 - 623 ). المطبوع مع « المجموع شرح المهذّب ». 20 مجلّدا ، بيروت ، دار الفكر.

138. الفردوس بمأثور الخطاب. لأبي شجاع شيرويه بن شهردار بن شيرويه الديلمي الهمداني ( 445 - 509 ). تصحيح سعيد بن بسيوني زغلول. الطبعة الأولى ، 5 مجلّدات ، بيروت ، دار الكتب العلميّة ، 1406 ه / 1986 م.

139. الفروق ، لشهاب الدين أبي العبّاس الصنهاجي المشهور بالقرافي ( م 684 ). 4 أجزاء في 3 مجلّدات ، بيروت ، دار المعرفة.

140. الفصول في الأصول. لأبي بكر أحمد بن عليّ الجصّاص الرازي ( 305 - 370 ). الطبعة الأولى ، مجلّدان ، بيروت ، دار الكتب العلميّة ، 1420 ه.

141. فقه الرضا ( الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه السلام ). لعليّ بن بابويه القمّي ( م 329 ). تحقيق مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الأولى ، مشهد المقدّسة ، المؤتمر العالمي للإمام الرضا عليه السلام ، 1406 ه.

142. الفقيه ( كتاب من لا يحضره الفقيه ). للشيخ الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه القمّي ( م 381 ). تصحيح عليّ أكبر الغفاري. الطبعة الثالثة ، 4 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1414 ه.

143. الفوائد الحائريّة. للشيخ محمّد باقر بن محمّد أكمل الوحيد البهبهاني ( 1117 - 1205 ). تحقيق ونشر : مجمع الفكر الإسلامي. الطبعة الأولى ، قم ، 1415 ه.

ص: 1068

144. الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة. لأبي عبد اللّه محمّد بن عليّ الشوكاني ( 1173 - 1250 ). تحقيق محمّد عبد الرحمن عوض. بيروت ، دار الكتاب العربي ، 1406 ه.

145. الفوائد المدنيّة. لمحمّد أمين بن محمّد شريف الأسترآبادي ( م 1033 ). تحقيق رحمة اللّه الرحمتي الأراكي. الطبعة الأولى ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1424 ه.

_ فوائد الوحيد البهبهاني - رجال الخاقاني

146. فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت. لعبد العليّ محمّد بن نظام الدين الأنصاري - المطبوع على هامش المستصفى ، لأبي حامد محمّد بن محمّد الغزّالي ( 450 - 505 ) - الطبعة الأولى ، مصر ، المطبعة الأميريّة ببولاق ، 1322 ه.

147. الفهرست. لشيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي ( 385 - 460 ). إعداد السيّد محمّد صادق بحر العلوم. قم ، الرضي. [ بالأوفست عن طبعة النجف الأشرف ، المكتبة المرتضويّة ].

148. فهرست نسخه هاى خطى كتابخانه إمام صادق عليه السلام قزوين. ( فهرس مخطوطات مكتبة الإمام الصادق عليه السلام بقزوين ). تحقيق محمود طيّار المراغي. الطبعة الأولى ، مجلّدان ، قزوين ، قسم الدراسات والأبحاث في الحوزة العلميّة بقزوين ، 1378 ش.

149. فهرست نسخه هاى خطى كتابخانه عمومى آية اللّه العظمى مرعشى نجفى ( فهرس مخطوطات مكتبة آية اللّه العظمى المرعشي النجفي العامّة ). للسيّد أحمد الحسيني والسيّد محمود المرعشي النجفي ، الطبعة الأولى ، صدر منه 30 مجلّدا حتّى الآن+ الفهارس ، قم ، مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي ، 1395 - 1422 ه / 1354 - 1380 ش.

150. فهرست نسخه هاى خطى كتابخانه غرب - مدرسه آخوند همدان. لجواد مقصود همداني. همدان ، 1356 ش.

151. فهرست نسخه هاى خطى كتابخانه مسجد أعظم قم ( فهرس مخطوطات مكتبة المسجد الأعظم بقم ). للشيخ. رضا الأستادي. الطبعة الأولى ، قم ، مكتبة المسجد الأعظم ، 1365 ش.

152. فيض القدير شرح الجامع الصغير. لمحمّد عبد الرءوف المناوي ( 952 - 1029 / 1031 ). الطبعة الثانية ، 6 مجلّدات ، [ بيروت ] ، دار الفكر ، 1391 ه / 1972 م.

153. القاموس المحيط. لمجد الدين محمّد بن يعقوب الفيروزآبادي ( 729 - 817 ). تحقيق لجنة

ص: 1069

التحقيق في دار إحياء التراث. الطبعة الأولى ، 4 مجلّدات ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، 1412 ه / 1991 م.

154. قرب الإسناد. لأبي العبّاس عبد اللّه بن جعفر الحميري القمّي ( م بعد 304 ). تحقيق ونشر : مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث. الطبعة الأولى ، قم ، 1413 ه / 1993 م.

155. قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام. للعلاّمة الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي ( 648 - 726 ). تحقيق ونشر : مؤسّسة النشر الإسلامي. الطبعة الأولى ، 3 مجلّدات ، قم ، 1413 - 1419 ه.

156. القواعد الجليّة في شرح الرسالة الشمسيّة. للعلاّمة الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي ( 648 - 726 ). تحقيق فارس حسّون تبريزيان. الطبعة الأولى ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، قم ، 1412 ه.

157. القواعد والفوائد. للشهيد الأوّل شمس الدين محمّد بن مكّي العاملي ( م 786 ). تحقيق عبد الهادي الحكيم. الطبعة الثانية ، مجلّدان ، قم ، مكتبة المفيد. [ بالأوفست عن طبعة النجف الأشرف ، مطبعة الآداب ، 1980 م ].

158. قوانين الاصول. للميرزا أبي القاسم بن الحسن الجيلاني ، المحقّق القمّي ( 1151 - 1231 ). الطبعة الحجرية ، مجلّدان ، طهران ، المكتبة العلميّة الإسلاميّة.

159. الكاشف عن المحصول في علم الأصول. لأبي عبد اللّه محمّد بن محمود بن عبّاد العجلي الأصفهاني ( م 653 ). تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ عليّ محمّد معوّض. الطبعة الأولى ، 6 مجلّدات ، بيروت ، دار الكتب العلميّة ، 1419 ه / 1998 م.

160. الكافي. لأبي جعفر ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني الرازي ( م 329 ). تحقيق عليّ أكبر الغفاري. الطبعة الرابعة ، 8 مجلّدات ، بيروت ، دار صعب ودار التعارف ، 1401 ه. [ بالأوفست عن طبعة دار الكتب الإسلاميّة بطهران ].

161. الكافي في الفقه. لأبي الصلاح الحلبي تقيّ الدين بن نجم ( 374 - 447 ). تحقيق الشيخ رضا الأستادي. [ الطبعة الأولى ] ، أصفهان ، مكتبة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، 1403 ه.

162. كتاب سيبويه. لأبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر الملقّب بسيبويه ( 148 - 180 ). مجلّدان ، قم ، أدب الحوزة ، 1404 ه. [ بالأوفست عن طبعة بيروت 1387 ه / 1967 م ].

ص: 1070

163. كتاب المقدّس ( أي كتب العهد القديم والعهد الجديد ). الطبعة الرابعة ، بيروت ، 1875 م.

164. الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل. لأبي القاسم جار اللّه محمود بن عمر الزمخشري ( 467 - 538 ). تصحيح مصطفى حسين أحمد. 4 مجلّدات ، بيروت ، دار الكتاب العربي.

165. كشف الخفاء ومزيل الإلباس عمّا اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس. لأبي الفداء إسماعيل بن محمّد الجرّاحي العجلوني الدمشقي ( 1087 - 1162 ). تحقيق أحمد القلاّش. الطبعة الخامسة ، مجلّدان ، بيروت ، مؤسّسة الرسالة ، 1408 ه.

166. كشف الغطاء. للشيخ جعفر بن خضر كاشف الغطاء ( 1154 - 1228 ). تحقيق ونشر : مكتب الإعلام الإسلامي. الطبعة الأولى ، 4 مجلّدات ، قم ، 1422 ه / 1380 ش.

167. كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد. للعلاّمة الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي ( 648 - 726 ). تحقيق حسن حسن زاده الآملي. الطبعة الأولى ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1407 ه.

168. كفاية الأحكام ( كفاية الفقه ). للمولى محمّد باقر السبزواري ( م 1090 ). تحقيق مرتضى الواعظي الأراكي. الطبعة الأولى ، مجلّدان ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1423 ه.

169. كفاية الطالبيين. للشيخ أحمد بن المتوّج البحراني ( م 820 ). مخطوط.

170. كمال الدين وتمام النعمة. للشيخ الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه القمّي ( م 381 ). تحقيق عليّ أكبر الغفاري. قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1405 ه.

171. كنز العرفان في فقه القرآن. لجمال الدين المقداد بن عبد اللّه السيوري المعروف بالفاضل المقداد ( م 826 ). إعداد محمّد باقر البهبودي. الطبعة الثالثة ، جزءان في مجلّد واحد ، طهرا ، المكتبة المرتضويّة ، 1343 ش / 1384 ه.

172. كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال. لعلاء الدين عليّ المتّقي بن حسان الدين الهندي ( 888 - 975 ). إعداد بكري حياني وصفوة السقا. الطبعة الخامسة ، 18 مجلّدا ، بيروت ، مؤسّسة الرسالة ، 1405 ه / 1985 م.

173. لباب الألقاب في ألقاب الأطياب. للمولى حبيب اللّه الشريف الكاشاني ( م 1340 ). الطبعة الثانية ، قم ، المطبعة العلميّة ، 1372 ش / 1414 ه.

ص: 1071

174. لسان العرب. لجمال الدين محمّد بن مكرم بن منظور المصري ( 630 - 711 ). 18 مجلّدا ، قم ، أدب الحوزة ، 1405 ه. [ بالأوفست عن طبعة بيروت ، 1376 ه ].

175. مبادئ الوصول إلى علم الأصول. للعلاّمة الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي ( 648 - 726 ). إعداد عبد الحسين محمّد عليّ البقّال. الطبعة الثانية ، بيروت ، دار الأضواء ، 14406 ه / 1986 م.

176. المبسوط. لشيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي ( 385 - 460 ). إعداد السيّد محمّد تقي الكشفي ومحمّد باقر البهبودي. الطبعة الثانية ، 8 أجزاء في 4 مجلّدات ، طهران ، المكتبة المرتضويّة ، 1387 - 1393 ه.

177. مبسوط السرخسي. لشمس الدين السرخسي الحنفي محمّد بن أحمد بن أبي سهل ( م 483 ). 30 جزءا في 15 مجلّدا+ الفهرس ، بيروت ، دار المعرفة ، 1406 ه / 1986 م [ بالأوفست عن طبعته السابقة ، 1331 ه ].

178. مجمع البحرين ومطلع النيّرين. للشيخ فخر الدين بن محمّد الطريحي ( 979 - 1087 ). إعداد السيّد أحمد الحسيني. 6 مجلّدات ، طهران ، المكتبة المرتضوية ، 1365 ش.

179. مجمع البيان في تفسير القرآن. لأبي عليّ الفضل بن الحسن الطبرسي ( حوالي 470 - 548 ). تحقيق لجنة من العلماء. الطبعة الأولى ، 10 مجلّدات ، بيروت ، مؤسّسة الأعلمي ، 14415 ه / 1995 م.

180. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. للحافظ نور الدين عليّ بن أبي بكر الهيثمي ( م 807 ). بتحرير العراقي وابن حجر. الطبعة الثالثة ، 10 مجلّدات+ الفهرس في مجلّدين ، بيروت ، دار الكتاب العربي ، 1402 ه / 1982 م.

181. المجموع شرح المهذّب. لأبي زكريّا محي الدين بن شرف النووي الشافعي ( 631 - 676 ). 20 مجلّدا ، بيروت ، دار الفكر.

182. مجموعة فتاوى ابن تيميّة ( الفتاوى الكبرى ). لابن تيميّة تقي الدين أحمد بن عبد الحكيم ( 661 - 728 ). 5 مجلّدات ، بغداد ، مطبعة المثنى. [ بالأوفست عن طبعة القاهرة ].

183. المحاسن. لأبي جعفر أحمد بن محمّد بن خالد البرقي ( م 274 / 280 ). تحقيق السيّد مهدي الرجائي. الطبعة الثانية ، مجلّدان ، قم ، المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام ، 1416 ه.

ص: 1072

184. المحصول في علم الأصول. لأبي عبد اللّه محمّد بن عمر بن الحسين فخر الدين الرازي ( 544 - 606 ). تحقيق طه جابر فيّاض العلواني. الطبعة الثانية ، 6 مجلّدات ، بيروت ، مؤسّسة الرسالة ، 1412 ه / 1992 م.

_ مختصر المنتهى - شرح مختصر الأصول

185. مختلف الشيعة في أحكام الشريعة. للعلاّمة الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي ( 648 - 726 ). تحقيق مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة. الطبعة الأولى ، 9 مجلّدات+ الفهرس ، قم ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1412 - 1420 ه.

186. مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام. للسيّد محمّد بن عليّ الموسوي العاملي ( 956 - 1009 ). تحقيق ونشر : مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث. الطبعة الأولى ، 8 مجلّدات ، قم ، 1410 ه.

187. مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول. للعلاّمة محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي ( 1037 - 1110 ). إعداد هاشم الرسولي ومحسن الحسيني الأميني. الطبعة الأولى ، 26 مجلّدا ، طهران ، دار الكتب الإسلاميّة ، 1404 - 1411 ه / 1363 - 1369 ش.

188. المراسم النبويّة والأحكام العلويّة. لحمزة بن عبد العزيز الديلمي الملقّب بسلاّر ( م 448 / 463 ). إعداد محمود البستاني. قم ، منشورات حرمين ، 1406 ه. [ بالأوفست عن طبعته السابقة ، 1400 ه / 1980 م ].

189. مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام. للشهيد الثاني زين الدين بن عليّ العاملي ( 911 - 965 ). تحقيق ونشر : مؤسّسة المعارف الإسلاميّة. الطبعة الأولى ، 15 مجلّدا ، قم ، 1413 - 1419 ه.

190. المستدرك على الصحيحين. لأبي عبد اللّه محمّد بن عبد اللّه المعروف بالحاكم النيسابوري ( 321 - 403 / 405 ). تحقيق أبو عبد اللّه عبد السلام بن محمّد بن عمر علّوش. الطبعة الأولى ، 5 مجلّدات+ الفهارس ، بيروت ، دار المعرفة ، 1418 ه / 1998 م.

_ المستدرك للحاكم - المستدرك على الصحيحين

191. مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل. للحاج الميرزا حسين المحدّث النوري ( 1254 - 1320 ). إعداد ونشر : مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث. الطبعة الأولى ، 18 مجلّدا ، قم ، 1407 ه.

ص: 1073

192. المستصفى في علم الأصول. لأبي حامد محمّد بن محمّد الغزّالي ( 450 - 505 ). إعداد محمّد عبد السّلام عبد الشافي. الطبعة الأولى ، بيروت ، دار الكتب العلميّة ، 1413 ه / 1993 م.

193. مشرق الشمس وإكسير السعادتين. للشيخ بهاء الدين محمّد بن الحسين العاملي ( 953 - 1030 ). تحقيق السيّد مهدي الرجائي. الطبعة الأولى ، مشهد ، مجمع البحوث الإسلاميّة ، 1414 ه.

194. المصباح المنير ( في غريب الشرح الكبير للرافعي ). لأحمد بن محمّد المقري الفيّومي ( م حوالي 770 ). جزءان في مجلّد واحد ، قم ، دار الهجرة ، 1405 ه. [ بالأوفست عن طبعة بيروت ].

195. مصنّفات الشيخ المفيد. للشيخ المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي ( 336 - 413 ). الطبعة الأولى ، 14 مجلّدا ، قم ، المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد ، 1413 ه.

196. المطوّل في شرح تلخيص المفتاح. لسعد الدين مسعود بن عمر بن عبد اللّه التفتازاني ( 712 - 791 ). قم ، مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي ، 1407 ه.

197. معارج الأصول. للمحقّق الحلّي نجم الدين جعفر بن حسن بن يحيى بن سعيد الهذلي ( 602 - 676 ). إعداد السيّد محمّد حسين الرضوي. الطبعة الأولى ، قم ، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، 1403 ه.

_ معالم التنزيل - تفسير البغوي

198. معالم الدين وملاذ المجتهدين. للشيخ الحسن بن زين الدين العاملي ( 959 - 1011 ). الطبعة الثانية عشرة ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1417 ه. وتصحيح الميرزا محسن. دار الطباعة حاجي إبراهيم ، بخطّ عبد الرحيم.

199. معاني الأخبار. للشيخ الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه القمّي ( م 381 ). تحقيق عليّ أكبر الغفاري. قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1361 ش.

200. معاني القرآن. لأبي زكريّا يحيى بن زياد الفرّاء ( م 207 ). تحقيق أحمد يوسف نجاتي ومحمّد عليّ النجّار. الطبعة الأولى ، 3 مجلّدات ، طهران ، انتشارات ناصر خسرو.

ص: 1074

201. المعتبر في شرح المختصر. للمحقّق الحلّي نجم الدين جعفر بن حسن بن يحيى بن سعيد الهذلي ( 602 - 676 ). إعداد عدّة من الطلاّب. الطبعة الأولى ، مجلّدان ، قم ، مؤسّسة سيّد الشهداء عليه السلام ، 1364 ش.

202. المعتمد في أصول الفقه. لأبي الحسين محمّد بن عليّ بن الطيّب البصري ( م 436 ). تقديم الشيخ خليل الميس. الطبعة الأولى ، مجلّدان ، بيروت ، دار الكتب العلميّة ، 1403 ه / 1983 م.

203. معجم اللغة العربيّة. لعدّة من الأساتذة. الطبعة الأولى ، 10 مجلّدات ، بيروت ، دار المحيط ، 1995 م.

_ معجم مقاييس اللغة - مقاييس اللغة

204. المعجم الوسيط. لعدّة من الأفاضل. الطبعة الخامسة ، طهران ، مكتب نشر الثقافة الإسلاميّة ، 14416 ه / 1374 ش. [ بالأوفست عن طبعة مصر ].

205. معراج أهل الكمال. للشيخ سليمان بن عبد اللّه الماحوزي المعروف بالمحقّق البحراني ( م 1121 ). تحقيق السيّد مهدي الرجائي. الطبعة الأولى ، قم ، مطبعة سيّد الشهداء عليه السلام ، 1412 ه.

206. المغني. لأبي محمّد عبد اللّه بن أحمد بن محمّد بن قدامة المقدسي الحنبلي ( 541 - 620 ). الطبعة الأولى ، 14 مجلّدا ، بيروت ، دار الفكر ، 1404 ه / 1984 م.

207. مغني اللبيب عن كتب الأعاريب. لأبي محمّد عبد اللّه بن يوسف بن هشام الأنصاري المصري ( 708 - 761 ). تحقيق محمّد محيي الدين عبد الحميد. جزءان في مجلّد واحد ، بيروت ، دار الكتاب العربي.

208. مفاتيح الاصول. للسيّد محمّد بن آقا مير سيّد بن السيّد محمّد الطباطبائي ( 1180 - 1242 ). قم ، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث. [ بالأوفست عن طبعته الحجرية ].

209. مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلاّمة. للسيّد محمّد جواد الحسيني العاملي ( م حوالي 1227 ). تحقيق محمّد باقر الخالصي. الطبعة الأولى ، صدر حتّى الآن 9 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1419 - 1422 ه. و 10 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث [ بالأوفست عن طبعته السابقة ].

ص: 1075

210. المفردات في غريب القرآن. لأبي القاسم الحسين بن محمّد بن المفضّل المعروف بالراغب الأصفهاني ( م 502 ). تحقيق محمّد سيّد كيلاني ، بيروت ، دار المعرفة.

211. مقاييس اللغة. لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريّا ( م 395 ). تحقيق عبد السلام محمّد هارون. 6 مجلّدات ، قم ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1404 ه. [ بالأوفست عن طبعته السابقة ].

212. مقباس الهداية في علم الدراية. للعلاّمة الشيخ عبد اللّه المامقاني ( 1290 - 1351 ). تحقيق الشيخ محمّد رضا المامقاني. الطبعة الأولى ، 3 مجلّدات ، بيروت ، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، 1411 ه.

213. المقتضب. لأبي العبّاس محمّد بن يزيد المبرّد ( 210 - 285 ). تحقيق محمّد عبد الخالق عضيمة. 4 مجلّدات ، بيروت ، عالم الكتب.

214. مقدّمة ابن الصّلاح في علوم الحديث. لأبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري المعروف بابن الصلاح ( 577 - 643 ). تحقيق أبو عبد الرحمن صلاح بن محمّد بن عويضة. الطبعة الأولى ، بيروت ، دار الكتب العلميّة ، 1416 ه / 1995 م.

215. المقنع. للشيخ الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه القمّي ( م 381 ). تحقيق ونشر : مؤسّسة الإمام الهادي عليه السلام. الطبعة الأولى ، قم ، 1415 ه.

216. المقنعة. للشيخ المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي ( 336 - 413 ). إعداد مؤسّسة النشر الإسلامي. الطبعة الثانية ، قم ، المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد ، 1413 ه.

217. ملخّص إبطال القياس. لأبي محمّد عليّ بن أحمد المعروف بابن حزم الأندلسي ( 384 - 456 ). تحقيق سعيد الأفغاني. الطبعة الثانية ، بيروت ، دار الفكر ، 1389 ه / 1969 م.

218. مناهج اليقين. للعلاّمة الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي ( 648 - 726 ). تحقيق محمّد رضا الأنصاري القمّي. الطبعة الأولى ، قم ، مطبعة ياران ، 1416 ه / 1374 ش.

219. مناهل العرفان في علوم القرآن. لمحمّد عبد العظيم الزرقاني ( م 1367 ). مجلّدان ، القاهرة ، دار إحياء الكتب العربيّة ، 1362 ه / 1943 م.

220. المنتظم في تاريخ الأمم والملوك. لعبد الرحمن بن عليّ بن محمّد بن الجوزي ( م 597 ).

ص: 1076

تحقيق محمّد عبد القادر عطا ومصطفى عبد القادر عطا. الطبعة الأولى ، 18 مجلّدا+ الفهارس ، بيروت ، دار الكتب العلميّة ، 1412 - 1413 ه.

221. منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان. لجمال الدين حسن بن زين الدين العاملي ( 959 - 1011 ). تحقيق عليّ أكبر الغفاري. الطبعة الأولى ، 3 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1404 - 1407 ه.

222. المنتقى من أخبار المصطفى صلى اللّه عليه وآله. لمجد الدين أبي البركات عبد السّلام بن تيميّة ( 590 - 653 ). الطبعة الثانية ، مجلّدان ، بيروت ، دار الفكر ، 14393 ه / 1974 م.

223. منتهى المطلب في تحقيق المذهب. للعلاّمة الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي ( 648 - 726 ). تحقيق ونشر : مجمع البحوث الإسلاميّة. الطبعة الأولى ، صدر منه حتّى الآن 8 مجلّدات ، مشهد ، 1412 - 1423 ه.

224. منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل. لجمال الدين أبي عمر عثمان بن عمرو بن أبي بكر المقري المعروف بابن الحاجب ( 571 - 646 ). بيروت ، دار الكتب العلميّة.

225. المنخول من تعليقات الأصول. لأبي حامد محمّد بن محمّد الغزّالي ( 450 - 505 ). تحقيق محمّد حسن هيتو. الطبعة الثانية ، دمشق ، 1400 ه / 1980 م.

226. منهاج الأصول. للقاضي ناصر الدين عبد اللّه بن عمر البيضاوي ( م 685 ). المطبوع ضمن « نهاية السئول في شرح منهاج الأصول ». 4 مجلّدات ، القاهرة ، عالم الكتب ، 1413 ه.

227. منية اللبيب في شرح التهذيب. للسيّد ضياء الدين عبد اللّه بن الأعرج الحسيني الحلّي ( ق 8 ). الطبعة الحجرية ، لكنهو ، 1316 ه.

228. منية المريد في أدب المفيد والمستفيد. للشهيد الثاني زين الدين بن عليّ العاملي ( 911 - 965 ). تحقيق رضا المختاري. الطبعة الأولى ، قم ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1409 ه / 1368 ش.

229. المهذّب البارع في شرح المختصر النافع. لأبي العبّاس أحمد بن محمّد بن فهد الحلّي الأسدي ( 757 - 841 ). تحقيق مجتبى العراقي. الطبعة الأولى ، 5 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1407 - 1413 ه.

230. المهذّب في فقه الشافعي. لأبي إسحاق إبراهيم بن عليّ بن يوسف الفيروزآبادي الشيرازي

ص: 1077

( م 476 ). الطبعة الأولى ، مجلّدان ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، 1414 ه / 1994 م.

231. موسوعة العلاّمة البلاغي. الإعداد مركز إحياء التراث الإسلامي في مركز العلوم والثقافة الإسلاميّة. الطبعة الأولى ، 9 مجلّدات ، قم ، مركز العلوم والثقافة الإسلاميّة ، 1428 ه.

232. موسوعة كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم. لمحمّد عليّ بن شيخ عليّ بن قاضي محمّد حامد بن محمّد صابر التهانوي ( م بعد 1158 ). تحقيق عليّ دحروج. الطبعة الأولى ، مجلّدان ، بيروت ، مكتبة لبنان ناشرون ، 1996 م.

233. الموطّأ. لأبي عبد اللّه مالك بن أنس ( 93 - 179 ). تحقيق محمّد فؤاد عبد الباقي. الطبعة الأولى ، مجلّدان ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، 1406 ه / 1985 م.

234. النحو الوافي. لعبّاس حسن. 4 مجلّدات ، طهران ، ناصر خسرو ، 1409 ه. [ بالأوفست عن طبعة القاهرة ، دار المعارف بمصر ].

235. النشر في القراءات العشر. لابن الجزري محمّد بن محمّد الدمشقي ( 751 - 833 ). إعداد عليّ محمّد الضباع ، مجلّدان ، طهران ، مكتبة الجعفري التبريزي. [ بالأوفست عن طبعة مصر ].

236. نضد القواعد الفقهيّة على مذهب الإماميّة. لجمال الدين المقداد بن عبد اللّه السيوري الحلّي المعروف بالفاضل المقداد ( م 826 ). إعداد عبد اللطيف الكوهكمري. [ الطبعة الأولى ] ، قم ، مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي ، 1403 ه.

237. النهاية. لشيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي ( 385 - 460 ). قم ، قدس. [ بالأوفست عن طبعة بيروت ].

238. نهاية الإحكام في معرفة الأحكام. للعلاّمة الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي ( 648 - 726 ). إعداد السيّد مهدي الرجائي. الطبعة الثانية ، مجلّدان ، قم ، إسماعيليان ، 1410 ه.

239. نهاية الدراية ( في شرح الرسالة الموسومة بالوجيزة للبهائي ). للسيّد حسن الصدر العاملي الكاظمي ( 1272 - 1354 ). تحقيق الشيخ ماجد الغرباوي. الطبعة الأولى ، قم ، المشعر ، 1413 ه.

240. نهاية السؤل في شرح منهاج الأصول. لأبي محمّد عبد الرحيم بن الحسن الأسنوي ( 704 - 772 ). 4 مجلّدات ، القاهرة ، عالم الكتب ، 1343 ه.

ص: 1078

241. النهاية في غريب الحديث والأثر. لأبي السعادات مجد الدين المبارك بن محمّد بن محمّد المعروف بابن الأثير الجزري ( 544 - 606 ). تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمّد الطناحي. الطبعة الرابعة ، 5 مجلّدات ، قم ، إسماعيليان ، 1363 ش [ بالأوفست عن طبعة بيروت ].

242. نهاية الوصول إلى علم الأصول. للعلاّمة الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي ( 648 - 726 ). تحقيق الشيخ إبراهيم البهادري. الطبعة الأولى ، 5 مجلّدات ، مؤسّسة الإمام الصادق عليه السلام ، 1425 - 1429 ه.

243. نهج البلاغة ( ما اختاره المؤلّف من كلام أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين ). لأبي الحسن الشريف الرضيّ محمّد بن الحسين بن موسى الموسوي ( 359 - 406 ). تحقيق صبحي الصالح. الطبعة الأولى ، طهران ، دار الأسوة ، 1415 ه.

244. النوادر لابن عيسى. لأبي جعفر أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري القمّي ( ق 3 ). تحقيق ونشر : مؤسّسة الإمام المهديّ عليه السلام. الطبعة الأولى ، قم ، 1408 ه.

245. الوافية في أصول الفقه. للفاضل التوني المولى عبد اللّه بن محمّد البشروي الخراساني ( م 1071 ). تحقيق السيّد محمّد حسين الرضوي الكشميري. الطبعة الثانية ، قم ، مجمع الفكر الإسلامي ، 1415 ه.

246. وسائل الشيعة ( تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ). للشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي ( 1033 - 1104 ). تحقيق ونشر : مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث. الطبعة الأولى ، 30 مجلّدا ، قم ، 1409 - 1412 ه.

247. الوسيلة إلى نيل الفضيلة. لعماد الدين أبي جعفر محمّد بن عليّ بن حمزة الطوسي ( ق 6 ). إعداد محمّد الحسّون. الطبعة الأولى ، قم ، مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي ، 1408 ه.

248. وصول الأخيار إلى أصول الأخبار. للشيخ حسين بن عبد الصمد الحارثي العاملي ( 918 - 984 ). تحقيق السيّد عبد اللطيف الكوهكمري. الطبعة الأولى ، قم ، مجمع الذخائر الإسلاميّة ، 1401 ه.

ص: 1079

8. فهرس الموضوعات

دليل الجزء الثاني... 589

المبحث الثالث : في مشتركات الكتاب والسنّة

الباب الأوّل : في الأمر والنهي

في معنى مادّة الأمر وصيغته... 593

ف 1 - في حقيقة الأمر... 596

ف 2 - في معاني صيغة الأمر وموارد استعماله... 600

ف 3 - في تشابه الأمر والخبر والنهي والنفي... 614

ف 4 - في معنى الأمر بعد الحظر أو الكراهة... 615

ف 5 - في أنّ الأمر المطلق لطلب الماهيّة لا للمرّة والتكرار... 618

ف 6 - في أنّ الأمر المعلّق على شرط أو صفة هل يتكرّر بتكرّرهما أم لا؟... 626

فائدة : في أنّ تعليق الإنشاء والخبر لا يفيد التكرار... 630

ف 7 - في عدم دلالة الأمر على الفور أو التراخي... 631

ف 8 - في أنّ الأمر بالموقّت لا يقتضي فعله في ما بعد ذلك الوقت... 640

تذنيب : في عدم سقوط التكليف إذا لم يأت بالمأمور به المطلق أوّل أوقات الإمكان 643

ف 9 - في أنّ الأمر بالشيء المعيّن هل هو نهي عن ضدّه أم لا؟... 645

تتمّة : في عدول بعضهم إلى القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي عدم الأمر بالضدّ... 670

 

ص: 1080

ف 10 - في أنّ الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرا بذلك الشيء... 671

ف 11 - في أنّ المراد من الأمر الماهيّة من حيث هي لا الفعل الجزئيّ... 672

ف 12 - في الأمران المتعاقبان المتماثلان... 674

ف 13 - في أنّ الأمر بالعلم بشيء لا يستلزم حصول هذا الشيء... 676

ف 14 - في أنّ المخبر بأمر غيره بالشيء يدخل فيه إن تناوله... 676

ف 15 - في الإجزاء... 677

ف 16 - في أنّ حدّ النهي هو القول الدالّ بالوضع على طلب الترك استعلاء... 678

ف 17 - في معاني صيغة النهي... 680

ف 18 - في أنّ النهي المطلق للتكرار والدوام... 682

ف 19 - في أنّ النهي بعد الوجوب هل هو للجواز أو للحظر... 683

تتمّة : في أنّ النهي بعد الاستئذان كالنهي بعد الوجوب... 683

ف 20 - في أنّ النهي عن الشيء إمّا أن يكون لعينه أو جزئه أو وصفه... 683

ف 21 - في أنّ حصول الامتثال في الأمر والنهي يتغيّر بتغيّر متعلّقهما... 698

الباب الثاني : في العامّ والخاصّ

في حدّ العام... 699

ف 1 - في الفرق بين العامّ والمطلق... 701

ف 2 - في عروض العموم للمعاني... 702

ف 3 - في ما يفيد العموم... 703

ف 4 - في صيغ العموم... 706

ف 5 - في الأدلّة الدالّة على أنّ للعموم صيغة تخصّه في إفادته للعموم... 708

تذنيب : في دلالة المفرد المعرّف إذا تقدّمت قرينة العهد... 719

فائدة : في أنّ « إذا » تفيد الماهيّة لغة والعموم شرعا... 720

تتمّة : في أنّ أقلّ مراتب الجمع ثلاثة لا اثنان... 721

ف 6 - في عدم خروج العامّ عن عمومه إذا تضمّن معنى المدح أو الذمّ... 724

ص: 1081

ف 7 - في أنّ حكاية الصحابي حالا بلفظ ظاهره العموم ، لا يفيد العموم... 725

ف 8 - الفعل المتعدّي إذا وقع في سياق النفي ولم يذكر مفعوله أفاد العموم... 725

ف 9 - الفعل المثبت لا يفيد العموم في أقسامه وجهاته... 727

ف 10 - في أنّ العطف على العامّ لا يقتضي عموم المعطوف... 727

ف 11 - الحكم على المعطوف بحكم المعطوف عليه العامّ لا يقتضي عدم دخول الأوّل في الثاني         728

ف 12 - المأمور به إذا كان اسم جنس مجرورا ب- « من » فمقتضاه الإيجاب... 728

ف 13 - في المقتضي وتقديراته... 730

ف 14 - ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال يفيد العموم... 732

تذنيب : في أنّ قضايا الأعيان وحكايات الأحوال لا يفيد العموم... 733

ف 15 - إطلاق ما وضع لخطاب المشافهة على المعدومين جائز مجازا... 734

ف 16 - في عدم دخول النساء في ما ميّز فيه بين المذكّر والمؤنّث بعلامة... 738

ف 17 - في أنّ العموم الوارد من الشرع يتناول العبيد مطلقا... 740

ف 18 - دخول المتكلّم في عموم تعلّق خطابه... 741

ف 19 - خطاب الشارع لواحد من الامّة لا يعمّ جميع الامّة... 742

ف 20 - الفرد النادر يدخل في العموم... 742

ف 21 - في حجّيّة المفهوم وعمومه... 742

ف 22 - تعليق الحكم على العلّة يفيد العموم... 743

ف 23 - في التخصيص... 744

فائدة : بيان الفرق بين التخصيص والنسخ... 745

ف 24 - العامّ بعد التخصيص حقيقة مطلقا في الباقي... 746

ف 25 - جواز تخصيص العامّ إلى أيّ مرتبة كانت... 748

تذنيب : في جواز تقييد المطلق إلى واحد... 753

ف 26 - في أنّ العامّ المخصّص بمبيّن هل هو حجّة أم لا؟... 753

ف 27 - في تبعيّة الجواب للسؤال في عمومه وخصوصه... 755

 

ص: 1082

ف 28 - الخلاف في جواز العمل بالعموم قبل البحث عن طلب المخصّص... 758

ف 29 - في أقسام المخصّص... 761

ف 30 - عدم مدخليّة الاستثناء المنقطع في التخصيص... 762

ف 31 - لفظ « الاستثناء » حقيقة في المتّصل ، مجاز في المنقطع... 762

ف 32 - إذا كان الاستثناء مشتركا بين المتّصل والمنفصل ، لم يحدّا بحدّ واحد... 763

ف 33 - في المراد من « العشرة » في « له عشرة إلاّ ثلاثة »... 765

ف 34 - اشتراط الاتّصال العادي في الاستثناء... 769

ف 35 - في الاستثناء المستغرق... 770

ف 36 - صلاحيّة كلّ واحد من أدوات الاستثناء لأن يقع صفة... 772

تذنيبات

الأوّل : أدوات الاستثناء... 772

الثاني : اتّفاق النحاة على أنّ أصل « غير » هو الصفة... 773

الثالث : الاستثناء ب- « إلاّ » إمّا في كلام موجب أو منفي... 773

ف 37 - في أنّ الاستثناء المجهول بأقسامه باطل في العقود... 775

ف 38 - في أنّ إطلاق الاستثناء على الاستثناء المنقطع مجازف... 776

ف 39 - في عدم جواز تقديم المستثنى في أوّل الكلام... 776

ف 40 - في أنّ الاستثناء من الإثبات نفي... 777

ف 41 - في أنّ النفي المشتمل على الاستثناء هو نفي محض... 779

ف 42 - في تعدّد المستثنى منه أو الاستثناء خاصّة... 780

تذنيب : قرائن اتّحاد أو تعدّد كل واحد من المستثنى منه والاستثناء... 792

ف 43 - في أقسام الشرط... 794

ف 44 - في أنّ الشرط اللغوي والجزاء إمّا يتّحدان أو يتعدّدان... 794

تذنيب : في أنّ الشرط إن وجد دفعة يتمّ المشروط عنده... 795

فائدة : حكم الشرط كحكم الاستثناء في وجوب الاتّصال... 795

 

ص: 1083

ف 45 - من المخصّصات المتّصلة : الصفة... 796

ف 46 - من المخصّصات المتّصلة : الغاية... 796

ف 47 - من مخصّصات العموم : الحال... 797

تذنيب : في إمكان تخصيص العمومات بالتمييز وظرفا الزمان والمكان... 797

ف 48 - في المخصّصات المنفصلة... 798

ف 49 - في جواز تخصيص المنطوق بالمفهوم... 809

ف 50 - في أنّ مذهب الراوي لعامّ على خلاف العموم ليس مخصّصا له... 810

ف 51 - في جواز تخصيص العموم بمنصوص العلّة... 810

ف 52 - في عدم جواز تخصيص العموم بإفراد بعض ما تناوله العامّ... 811

ف 53 - في عدم تخصيص العامّ إذا تعقّبه ضمير يعود إلى بعض ما يتناوله... 812

ف 54 - في تقديرات العامّ والخاصّ إن تنافيا... 814

تذنيب : في تقديرات تكافؤ العامّ والخاصّ من حيث القوّة... 819

الباب الثالث : في المطلق والمقيّد

في تعريف المطلق والمقيّد... 822

فصل - في اختلاف حكم المطلق والمقيّد وعدم حمل أحدهما على الآخر... 822

تذنيب : في بقاء الحكم المطلق المقيّد بقيدين متضادّين على إطلاقه... 827

تنبيه : ما ذكر في تخصيص العامّ يجري في تقييد المطلق... 828

الباب الرابع : في المجمل والمبيّن

معنى المجمل لغة واصطلاحا... 829

ف 1 - في أنّ المجمل إمّا فعل أو لفظ مفرد أو مركّب... 829

ف 2 - في أنّ التحريم والتحليل المضافان إلى الأعيان لا إجمال فيهما... 830

ف 3 - في أنّ « اليد » في نحو آية السرقة حقيقة في الكلّ... 831

ف 4 - في أنّه لا إجمال في ما ينفى فيه الفعل ظاهرا... 831

ف 5 - في أنّه لا إجمال في آية ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) ... 833

 

ص: 1084

ف 6 - في أنّه لا إجمال في ما إذا رفع صفة والمراد نفي لازم من لوازمه... 834

ف 7 - في إجمال كلّ لفظ يطلق مرّة على معنى واحد واخرى على معنيين... 834

ف 8 - في عدم إجمال اللفظ إذا كان له محملين لغوي وشرعي... 835

ف 9 - في جواز التكليف بالمجمل... 836

ف 10 - في معنى المبيّن... 837

ف 11 - في موارد وقوع البيان 83... 7

ف 12 - إذا ورد قول وفعل بعد مجمل وكلّ منهما يصلح لأن يكون بيانا له... 838

ف 13 - في جواز التخصيص بالعامّ والتقييد بالمطلق إذا تساويا مع الخاصّ أو المقيّد... 839

ف 14 - في عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة... 839

ف 15 - في جواز تأخير تبليغ الرسول الحكم إلى وقت الحاجة... 845

ف 16 - في جواز إسماع العامّ من لا يعرف المخصّص الشرعي... 845

الباب الخامس : في الظاهر والمؤوّل

في معنى الظاهر لغة واصطلاحا... 847

فصل : في أقسام التأويل... 848

الباب السادس : في المنطوق والمفهوم

في معنى المنطوق والمفهوم... 851

ف 1 - شروط مفهوم المخالفة... 856

ف 2 - في أنّ مفهوم الشرط حجّة... 857

ف 3 - في أنّ مفهوم الصفة حجّة... 861

ف 4 - الخلاف في حجّيّة مفهوم العدد... 864

ف 5 - في أنّ مفهوم الغاية أقوى من مفهوم الشرط... 866

ف 6 - في الفرق بين « إلاّ » و « إنّما » في إفادتهما للحصر... 868

ف 7 - في أنّ تقديم ما حقّه التأخير يفيد الحصر... 868

ف 8 - في حجّيّة مفهوم الزمان والمكان... 870

 

ص: 1085

تنبيه : ظهور فائدة الخلاف في حجّيّة المفهوم عند مخالفة المفهوم للأصل... 870

ف 9 - في عدم حجّيّة مفهوم اللقب... 870

تذنيب : كفاية اقتصار تحقّق أقلّ مراتب الحكم المعلّق على اسم... 871

الباب السابع : في النسخ

معنى النسخ لغة واصطلاحا... 872

ف 1 - جواز النسخ ووقوعه... 874

ف 2 - الخلاف في جواز النسخ قبل حضور وقت الفعل... 876

ف 3 - جواز نسخ الحكم المقيّد بالتأييد... 880

ف 4 - جواز النسخ بلا بدل أو ببدل أثقل... 880

ف 5 - النسخ إمّا للحكم دون التلاوة أو بالعكس أو لهما... 881

ف 6 - النسخ في إيقاع الخبر والنسخ في مدلوله... 882

ف 7 - وجوه نسخ كلّ من الكتاب والسنّة المتواترة والآحاد بمثلها أو بغيرها... 884

ف 8 - في جواز نسخ الإجماع بآية أو نصّ... 886

ف 9 - جواز النسخ بالقياس إن كان منصوص العلّة... 888

تذنيب : نسخ القياس يتمّ بالنصّ على نسخ حكم الفرع أو حكم الأصل... 888

ف 10 - الخلاف في جواز نسخ المفهوم أو الأصل بدون نسخ الآخر... 889

ف 11 - في ناسخيّة زيادة العبادة المستقلّة أو غير المستقلّة على العبادات... 890

ف 12 - في نسخ المنقوص عند نقص جزء أو شرط من عبادة... 894

ف 13 - الخلاف في جواز نسخ جميع التكاليف بدون إعدام العقل... 896

ف 14 - معرفة النسخ بالتضادّ مع العلم بالمتأخّر... 896

المبحث الرابع : في الاجتهاد والتقليد

الباب الأوّل : في الاجتهاد

معنى الاجتهاد في اللغة والاصطلاح... 899

ف 1 - في معرفة طرق استنباط الأحكام... 900

 

ص: 1086

ف 2 - في أنّه هل يمكن تجزّي ملكة الاجتهاد؟... 920

ف 3 - في شروط الاجتهاد... 928

تذنيب : في علوم اخرى لها مدخليّة في الاجتهاد... 946

ف 4 - إجماع الإماميّة على أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله لم يكن متعبّدا بالاجتهاد وكذا سائر المعصومين عليهم السلام        948

ف 5 - في عدم جواز الاجتهاد في عصر النبيّ صلى اللّه عليه وآله والأئمّة عليهم السلام... 950

ف 6 - في بطلان القول بالتصويب... 950

تذنيب : في بطلان التفوض... 954

ف 7 - في عدم وجوب تكرير النظر للمجتهد إذا تكرّرت الواقعة عليه... 955

ف 8 - في عدم جواز تقليد المجتهد غيره بعد اجتهاده... 955

ف 9 - في جواز نقض الحكم الاجتهادي للقاطع ولمجتهد آخر... 956

الباب الثاني : في التقليد

في معنى التقليد... 957

ف 1 - في لزوم التقليد على من لم يبلغ درجة الاجتهاد... 957

ف 2 - في عدم جواز التقليد في اصول العقائد... 958

ف 3 - في اعتبار الإيمان والعدالة في المفتي... 961

ف 4 - في الترجيح بين المتّصفين بشرائط الفتوى... 962

ف 5 - في عدم اشتراط مشافهة المفتي في العمل بقوله... 963

ف 6 - عدم جواز رجوع العامّي إذا عمل بقول مجتهد دون الالتزام بمذهبه... 964

ف 7 - في تقليد المجتهد الميّت... 964

تذنيب : في عدم جواز خلوّ الزمان عن مجتهد حيّ يرجع إليه... 968

ف 8 - في بيان وظيفة الفاقد لأخذ الأحكام بالاجتهاد أو بالتقليد... 969

المبحث الخامس : في التعادل والترجيح

معنى التعادل والترجيح... 973

ف 1 - في وقوع التعارض بين الأدلّة الظنّيّة فقط... 973

 

ص: 1087

تذنيب : في موارد جريان الجمع والنسخ والترجيح والتخيير... 975

ف 2 - في انحصار وقوع التعارض في كلّ من الكتاب أو الخبر الواحد أو... 976

تذنيب : في ترتيب الترجيحات في أخبارنا والاختلاف فيه... 985

ف 3 - في تخيير المجتهد في العمل بأحد المتعارضين عند عدم وجود المرجّح... 987

تتميم : في تعارض الترجيحات في الدلائل ومقدّماتها... 989

الفهارس العامّة... 991

1. فهرس الآيات الكريمة... 993

2. فهرس الأحاديث الشريفة... 1012

3. فهرس أسماء المعصومين عليهم السلام... 1021

4. فهرس الأعلام... 1023

5. فهرس الاصطلاحات... 1031

6. فهرس الكتب الواردة في المتن... 1053

7. فهرس مصادر التحقيق... 1054

8. فهرس الموضوعات... 1080

ص: 1088

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.